معالم الايمان في تفسير القرآن – سورة البقرة – ج 12

سورة البقرة الآيات (62-68)

المقدمة
الحمد لله الذي جعل القرآن مدرسة جامعة تهّب منها على النفوس نسمات الفيض الملكوتي فتجعلها تنجذب إلى الحضرة الإلهية، وتتوجه طوعاً وقهراً إلى منازل العبادة وتنفر من صيغ الكفر والجحود التي ذكرت في التنزيل لتكون عبرة وموعظة، ولتترشح عنها حصانة ذاتية وملكة نفسانية تكون واقية من الخطأ وتمنع من طرو الكدورات إلى القلوب لتبقى بالقرآن أكثر إشراقاً وأتم صفاءً، ويقبل المسلمون بشوق إلى مناسك العبادة لبناء وحفظ صرح التوحيد، وتعاهد شعائر الله في الأرض، وتلافي التفريط الذي صدر من بعض الأمم السابقة.
وليكون من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، إمكان مقارنة المسلمين لحالهم وصلاحهم مع الأمم السابقة، ورجحان كفتهم بتنزههم كأمة عن الظلم للذات والغير.
ومن إعجاز هذه الآيات في نظمها وسياقها أنها ذكرت نعم الله على بني إسرائيل على نحو الإجمال والتفصيل, الإجمال في الماهية والجنس، والتفصيل في النوع والفصل بما يدفع الجهالة والغرر.
ولم تأت بها بلغة اللف والنشر، ليرجع التالي لهذه الآيات والمستمع إلى إرجاع بعضها إلى بعض، وإيجاد الصلة بينها، إنما جاءت بالبيان وإنتفاء اللبس والترديد , وفيه وجوه منها :
الأول: إنه حجة إضافية على الناس.
الثاني: فيه دعوة دعوة لدخول الإسلام.
الثالث: تنمية ملكة الإحتجاج عند المسلمين.
الرابع: الترغيب بالثناء على الله عز وجل من منازل العبودية والخضوع له سبحانه، ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية أن كل مسلم ومسلمة يردد في كل يوم وعلى نحو الوجوب[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ).
الخامس: إرتقاء المسلمين في سلم المعارف الإلهية في تلاوة آيات القرآن والتدبر في معانيها.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار البشارة ودار الإنذار من غير تعارض بينهما، وكل فرد منهما يؤدي في مفهومه وظائف الآخر، قال تعالى[فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
وتفضل الله عز وجل وجعل القرآن مدرسة جامعة للبشارة والإنذار إلى يوم القيامة ليكون من أسرار سلامته من التحريف حاجة الناس له في النشأتين.
وهذا هو الجزء الثاني عشر من التفسير , وهو ثورة علمية في مسالك الايمان وأنوار الهداية، وفيه بيان وتفسير لآيات معدودات من سورة البقرة وكل واحدة منها خزينة متكاملة للعلوم والمعرفة، ودعوة لأرباب الحقيقة للصحبة في طريق المحبة الإلهية والصعود المبارك المتصل بالاقتباس من نور القرآن ومشكاة النبوة.
ويتضمن هذا الجزء تفسير الآيات (62-68) من سورة البقرة، ويبدأ بقوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا] ليتضمن معاني المدح والإكرام على المسلمين، ودعوة الناس لمحاكاتهم والإقتداء بهم، وإمضاء لعبادة المسلمين والموحدين من الملل السابقة، وتأكيد موضوعية العمل الصالح في الفوز بالأمن والسلامة يوم الفزع الأكبر.
عن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأعْرِفُوهُ رَجُلًا مَرْبُوعًا إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَصَّرَانِ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ وَتَقَعُ الْأَمَنَةُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الْأُسُودُ مَعَ الْإِبِلِ وَالنِّمَارُ مَعَ الْبَقَرِ وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ لَا تَضُرُّهُمْ فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ)( ).
ويتضمن هذا الجزء شطراً من قصة البقرة التي أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل بذبحها بأمر من الله عز وجل وكثرة ترددهم وسؤالهم في أوصافها، وفيه حجة ومدرسة تأريخية، وإرشاد للمسلمين في ميادين الحياة وكيفية تلقي الأحكام بالقبول والإمتثال الأحسن وهذا التأديب والإتعاظ من قصص الأمم السابقة من خصائص المسلمين, ومادة لإرتقائهم المتجدد في كل زمان وإنتفاعهم الأمثل من التنزيل في العبادات والمعاملات والسنن وهو من الإعجاز الغيري للقرآن، ومعاني إمامته للناس بأن يضيء لهم سبل الهداية والرشاد، ويأخذ بأيديهم في سلم المعارف والصلاح , ويبعث في نفوسهم الحرص على تعاهد التقوى، قال تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ]( ).

قوله تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ] الآية 62.

القراءة واللغة
القراءة المعروفة [ الصَّابِئِينَ ] بالهمزة، وقرأ نافع والزهري بترك الهمزة، الصابون بباء مضمومة والصابين بياء ساكنة من غير همز.
قال الثعلبي : قرأ أهل المدينة(الصابون) بترك الهمزة من الصّابئين والصّابئون الصّابين والصّابون في جميع القرآن) ( ).
و[ هَادُوا ] بضم الدال وهي القراءة المشهورة، وقرأ الضحّاك ومجاهد بفتح الدال وإسكان الواو.
إن: حرف مشبه بالفعل، الذين : اسم موصول إسمها، آمنوا: فعل ماض، والواو فاعل، والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب، والذين: عطف على الذين الأولى، والنصارى والصابئين : عطف على اسم إن.
من آمن : من : اسم موصول بدل من اسم ان، آمن : فعل ماض، والجملة الفعلية صلة الموصول، بالله : جار ومجرور.
وعمل : فعل ماض عطف على آمن، صالحاً : مفعول به لعمل.
فلهم : الفاء رابطة لجواب الشرط لأنها واقعة في شبه جواب لشبه شرط.
لهم : جار ومجرور، متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
أجرهم: مبتدأ مؤخر.
عند: ظرف مكان متعلق بمحذوف حال أي مستقر، وهو مضاف، رب: مضاف إليه وهو مضاف، والضمير هم مضاف إليه.
ولا خوف : الواو عاطفة، لا: نافية،
خوف : مبتدأ، عليهم : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر خوف، ويجوز أن تعمل عمل ليس، فيكون خوف إسمها، والجار والمجرور(عليهم) خبرها.
ولا : عطف على (لا) المتقدمة، هم : مبتدأ، أو اسم (لا) العاملة عمل ليس، يحزنون : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، الواو : فاعل، والجملة الفعلية في محل رفع.
في سياق الآيات
بعد بيان النعم العظيمة على بني إسرائيل وتذكيرهم بها جاءت هذه الآية عنواناً للجزاء والثواب , في حال نبذ الجحود والعناد، والظاهر أنها مطلقة ولكن الإيمان يتمثل في أيام البعثة النبوية بإعلان الإسلام والبراءة من الكفر , قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
ومن الآيات أن تأتي هذه الآية وسط الآيات التي توجه اللوم لبني إسرائيل بلغة الخطاب فأفتتحت الآية السابقة بقوله تعالى [وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى] ويرد بعد الآية التالية قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ] ولابد لهذا النظم من دلالات منها :
الأولى : جاءت الآية جواباً وردا ًعلى من يقول منهم ما حال آبائنا الصالحين من أصحاب موسى والتابعين لهم، فجاءت الآية لتخبر بأن لهم الأجر العظيم.
الثانية : الآية إحتجاج وبرهان بأن الثواب لا ينحصر بملة او أمة مخصوصة.
الثالثة : تدل الآية بالدلالة التضمنية على وجود أمة من بني إسرائيل على الهدى ولم تعص او تشرك بالله او تسبب في قتل الأنبياء، قال تعالى[وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ]( ).
الرابعة : الآية دعوة للإنتقال إلى منازل الإيمان.
وكأن هذ ه الآية من الإلتفات بمعناه الإصطلاحي في علم البديع( )، وأصل الإلتفات بين الجمل المتجاورة، بالإنتقال من لغة الخطاب إلى الغائب وبالعكس كما في قوله تعالى[مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ* إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، ويمكن تأسيس علم جديد في الإلتفات الموضوعي بين الآيات وإيجاد اسم خاص مثل (إلتفات السياق ) .
فبعد مجيء إثنتين وعشرين آية متتالية في بيان النعم الإلهية على بني إسرائيل ودعوتهم لتذكرها وإستحضارها في الوجود الذهني وعلى الألسنة وفي العمل جاءت هذه الآية في بيان قانون كلي يتغشى الناس في الحياة الدنيا، ثم يرجع نظم الآيات إلى التذكير بنعم الله عز وجل على بني إسرائيل مع بعثهم على التقوى وتحذيرهم من ترك ذكرها.
لتبين الآيات حاجة الناس إلى أخذ العلوم والأحكام من القرآن فليس من أمة عندها علم فعلي أي لا يؤخذ من غيرها أو علم حضوري وهو العلم بالشيء من دون تحقق صورته وهيئته في الذهن، فجاء القرآن بأخبار الأمم السابقة لتكون حاضرة في أذهان الناس ويتخذوها وسيلة ومناسبة للإعتبار.
وفي صلة هذه الآية بالآيات المجاورة وجوه:
الأول: بيان حقيقة وهي أن ذكر النعم على بني إسرائيل مقدمة ودعوة للإيمان.
الثاني: ذكر الموضوع الأهم وهو الإيمان.
الثالث: تأكيد عالمية القرآن وأنه لم ينزل لدعوة وإنصاف أمة دون أخرى, قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الرابع: لم يجتمع بنو إسرائيل على الجحود بالنعم، وسؤال الأدنى وظلم النفس، إذ تضمنت آية البحث الثناء على الذين هادوا الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر وعملوا الصالحات ، قال تعالى[وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ]( ).
الخامس: ترغيب بني إسرائيل والناس جميعاً بالتوبة والصلاح , وفيه شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله بأن يكون التوبيخ والتبكيت للخاص مناسبة ووسيلة لتوبته وتوبة غيره من الناس، وإصلاح المجتمعات وتهذيب النفوس.
السادس: تدل آية البحث بالدلالة التضمنية وبلحاظ سباق الآيات، أن عناية القرآن بالأمم وأهل الملل لا تختص بأمة دون أخرى أو أهل ملة دون غيرهم.
السابع: مجيء هذه الآية بين آيات تذكير بني إسرائيل بالنعم الإلهية عليهم تنبيه بلزوم الإيمان وإتخاذ التذكير بالنعم موعظة وسبيل هداية.
وأخبر القرآن عن تفضيل بني إسرائيل على الأمم الأخرى بقوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، الذي ورد مرتين في سورة البقرة( )، الذي وردت آيات أخرى بذات المعنى، فورد حكاية عن موسى[قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
ولم ينحصر التفضيل في القرآن ببني إسرائيل، إذ ورد التفضيل بين المسلمين بلحاظ الجهاد والبذل في سبيل الله، قال تعالى[فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً]( ).
ولا يتعارض هذا التفضيل الذاتي مع الإطلاق في تفضليهم على الأمم الأخرى بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وجاء ذكر الذين هادوا في آية البحث بعد الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه وجوه محتملة:
الأول : إنه من مصاديق تفضيل بني إسرائيل على غيرهم من أهل الملل والنحل.
الثاني: لا دليل على كون التقديم من ضروب التفضيل.
الثالث: جاء التقديم بلحاظ سياق الآيات السابقة واللاحقة وأنها تتناول بني إسرائيل.
الرابع: القدر المتيقن من مضامين الآية هو تقوم التفضيل بالإيمان بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات.
الخامس : جاءت هذه الآيات لتذكير بني إسرائيل بالنعم، وجعله وسيلة للهداية والإيمان، فجاء ترتيبهم بعد الذين آمنوا لبعثهم على الإلتفات إلى وظائفهم العبادية.
السادس: جاء تقديم الذين هادوا على النصارى للسبق الزماني لنبوة موسى عليه السلام على نبوة عيسى عليه السلام.
السابع: موضوعية موضوع الآية السابقة والتالية بمجيء كل منهما بلغة الخطاب لبني إسرائيل.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وإن ظهر التباين بين الوجه الأول والثاني، لأنه تباين جهتي، ومعاني الآية ومضامينها القدسية متعددة.
وتبين الآية الواقية من الكفر والجحود وقتل الأنبياء بغير الحق الذي ذكرته الآية السابقة، وتكشف بالدلالة التضمنية معاني أخذ الكتاب بقوة الوارد في الآية التالية[خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ]( ).
وتشع أنوار الهداية في هذه الآية لتُرى من بين ثنايا الآيات المجاورة وضياءها، فتكون بارقة أمل في الحياة الدنيا بالتقيد بسنن الإيمان، فمن إعجاز القرآن أن نسق الآيات لم يستمر في تذكير بني إسرائيل بنعم الله عز وجل من بين أهل الأرض، بل جاءت هذه الآية بما هو أعظم من تلك النعم وعلة تدليها وصيرورتها قريبة من المؤمنين، ميّسرة للقطف والإنتفاع الأمثل، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، ومن أسماء الله الواسع الجواد والغني الذي يسع كرمه وإحسانه كل شئ.
وتبين هذه الآية غاية كريمة من الغايات السامية للآيات المجاورة المتقدمة واللاحقة التي تتضمن التبكيت على الجحود بالنعم , وتؤكد بأن الإيمان سبب لدوام هذه النعم، وسبيل لنيل ما هو أعظم وأدوم منها وهو الخلود في النعيم، وفيه نكتة وهي أن اللوم الموجه في الآيات المجاورة للذين جحدوا بأنعم الله جاء لنفعهم والناس جميعاً .
وهو من الدلائل على إعجاز القرآن الذاتي والغيري بأن يكون الإمام في الصلاح والإصلاح، وقد أمر الله عز وجل المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاء القرآن قائداً ومدرسة سماوية في هذا الباب، ومنه آية البحث بموضوعها وصلتها بالآيات المجاورة، ومن الإعجاز في موضع هذه الآية أمور:
الأول: بعث النفرة في نفوس المليين من الجحود بالنعم.
الثاني: بيان المائز والفيصل المفصل بين أهل الإيمان والكفار , ويتجلى في مسائل :
الأولى: الإيمان بالله.
الثانية: التصديق بيوم القيامة وأنه حق وحتم.
الثالثة: إتيان الصالحات بقصد القربة إلى الله تعالى.
ولم تذكر الآية الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والجواب من جهات:
الأولى: الإيمان بنبوته فرع الإيمان بالله عز وجل لأنه سبحانه هو الذي بعثه بالمعجزات والشريعة الناسخة , قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ]( ).
الثانية : ورد قبل آيات الخطاب لبني إسرائيل بالتصديق بنزول القرآن، ونسبته إلى الله تعالى وأنه سبحانه هو الذي أنزله مما يدل أنه من فروع الإيمان بالله، قال تعالى[وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]( ).
الثالثة : تثبيت المسلمين في منازل الإيمان، وبعث اليقين في نفوسهم بسلامة النهج وحسن العاقبة والفوز بمرضاة الله، وما يترشح عنها من النعم في الدنيا والآخرة.
الرابعة: منع دبيب السأم إلى النفوس من إتصال وتعاقب الآيات بخصوص أمة معينة.
الخامسة: نزل القرآن خطاباً لأهل الأرض جميعاً، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( )، لتؤكد هذه الآية مضامين الإعتبار والإتعاظ والمقاصد السامية في تذكير بني إسرائيل بالنعم وتعدادها وبيانها على نحو جلي ومدرك من الناس على إختلاف مداركهم ومشاربهم.
السادسة: بعث المسلمين على الدعاء والمسألة للفوز بالنعم التي تفضل الله عز وجل بها على بني إسرائيل مع تعاهدها بالشكر لله، ومن خصائص النعمة الإلهية أنها لا تغادر الأرض لأن الله عز وجل جواد كريم لا يرفع ما يعطي.
إعجاز الآية
إظهار التداخل والملازمة بين الإيمان بالنبوة والإسلام والإقرار بالمعاد والإلتزام بأحكام الحلال والحرام، وإن الأجر متعلق بها مجتمعة لإنتفاء المشروط بانتفاء
شرطه.
ويمكن القول أن في الآية لغة اللف والنشر المعنوي وليس اللفظي وان كان هذا الإصطلاح مستحدثاً منا أي أن الذين آمنوا في أيام موسى عليه السلام يكفي إيمانهم برسالته والتصديق بالأنبياء السابقين، وفي أيام عيسى يكفي الإيمان برسالته ومن قبله مع الإقرار باليوم الآخر وعمل الصالحات أما بعد البعثة النبوية الشريفة فلابد من الإسلام، وتدخل البشارة بنبوته ضمن الإيمان بالنبوات السابقة.
والآية وعد كريم وبشارة للذين صدقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله تعالى، وفيها دعوة لكل الناس لدخول الإسلام والفوز بتلقي البشارة.
وتبين الآية موضوعية الإيمان بالله والإقرار بالمعاد لأن الإقرار بالآخرة وعالم الحساب سبب لتهذيب الأخلاق وبالحث على إتيان الصالحات وإجتناب السيئات.
وتبين الآية ضرورة العمل الصالح في نيل الثواب، ويتقوم العمل الصالح بإتيان الفرائض والعبادات، وتجمع الآية بين العقيدة الحقة وإتيان الفرائض وفعل الصالحات، وتدل في مفهومها على النهي عن الشرك والضلالة وإرتكاب المعاصي، وتدعو الآية المسلمين إلى إكرام الموحدين من الملل السابقة.
ويمكن تسمية الآية بآية (من آمن بالله واليوم الآخر)
الآية سلاح
تحمل الآية مضامين الإيمان وهو الأصل، ولكنه يتصف بكل زمان بخصائص وضوابط قد تختلف عن غيره إلى أن إستقر بالإسلام جامعاً لقواعده وسننه لغة وشرعاً وإصطلاحاً.
لقد أنعم الله عز وجل بالقرآن ليكون دعوة للناس إلى الإسلام وعبادة الله، من وجوه :
الأول : كل آية قرآنية دعوة إلى الله.
الثاني : إجتماع آيتين من القرآن دعوة إلى الله.
الثالث : القرآن ذاته بعث على الإيمان والهداية[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
فليس من حصر لمنافع مضامين الآية القرآنية وما تتضمنه من أسباب الصلاح والرشاد.
وجاءت هذه الآية بالثناء على المسلمين من وجوه :
الأول : إبتداء الآية بهم مع أنهم متأخرون زماناً عن المسلمين من الأمم الأخرى.
الثاني : المراد من الإيمان في الآية النطق بالشهادتين(عن قتادة في قوله[لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ……]( ) قال : ذكر لنا أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن البر، فأنزل الله هذه الآية، فدعا الرجل فتلاها عليه، وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ثم مات على ذلك يرجى له في خير) ( ).
لقد جاءت آية البحث مدرسة في أصول الفقه، وأصول الدين، وبيان حال الأمم السابقة وهي شاهد على العدل الذي يتضمنه القرآن، وإكرامه الموحدين، وهذا الإكرام من شكر الله العاجل لهم في الحياة الدنيا، وتضمنت الآية ذكر فريقين :
الأول : المسلمون والذين وصفتهم الآية بــ(الذين آمنوا) وقد جاءت آيات القرآن بمخاطبتهم بهذا الإسم(يا أيها الذين آمنوا) في تسع وثمانين موضعاً من القرآن، وتضمن هذا الخطاب التكليف والأمر والنهي وبناء صرح الشريعة السمحاء.
الثاني : أهل الكتاب من آمن بالله واليوم الآخر.
ويحتمل اسم الشرط (من آمن) وجوهاً:
الأول : إرادة الكل وشمول المسلمين أيضاً (قال الطبرسي: وقال آخرون من آمن منهم الضمير راجع إلى الكل)( )، ولكن المائز الذي يتصف به المسلمون هو أن الآية شهادة لهم بالإيمان، وجاءت للإحتجاج على الآخرين، وترغيبهم بالإسلام.
الثاني : المقصود الذين ذكرتهم الآية عدا المسلمين.
الثالث : إرادة خصوص الصائبين.
الرابع : إرادة المسلمين من الأمم السالفة وتوكيد إيمان المسلمين, والصحيح هو الثاني والرابع ، لبيان قانون ثابت في مصداق الإيمان وترتب الثواب وأحكام الجزاء في الآخرة عليه.
ومن إعجاز الآية أن خاتمتها باعث على الإيمان ، وجذب لمنازل الهداية والصلاح إذ يرغب الإنسان بالأمن ويسعى إليه، وإذا إفتقده يدرك الحاجة إليه، وعظيم نفعه على الذات والعرض والمال، فجاءت الآية للتذكير بأهوال الآخرة، ولزوم التسليم بالبعث وأن الناس يرجعون إلى الله عز وجل للحساب، قال تعالى[وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ).
ولم تجعل الآية الناس في حيرة، لأن هذه الحيرة تتعارض مع خاتمتها بلحاظ أن الأمن الذي وعدت به الآية حرز من الحيرة وهو ضد لها، فأخبرت عن السلامة يوم القيامة من الفزع وعذاب النار بالإيمان بالله واليوم الآخر.

مفهوم الآية
الآية تأديب للمسلمين وبيان للمفاهيم العقائدية التي يجب ان يكونوا عليها وهي ملاك وقاعدة كلية للتعامل مع الآخرين من الملل الأخرى, وبشارة الأمن من العقاب يوم الفزع الأكبر، والآية وان جاءت على نحو الجملة الخبرية إلا أنها أمر لأصحاب الديانات السماوية والذين ينتمون لها باعلان التوحيد والحب في الله تعالى وجعله الجامع المشترك بين المليين ليكون الطريق المبارك والعون لدخول الإسلام.
وما في الآية من التوكيد على فعل الصالحات وبيان موضوعيته وإعتباره في منازل الآخرة دليل على دعوة القرآن لتهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات.
وجاء ذكر اليهود والنصارى والصابئة على نحو الخصوص والتعيين، وفيه منع من شمول أحكام الآية للمشركين والوثنيين، ومن الإعجاز في الآية أنها لم تكتف بالاسم وترتب الأثر والحكم الشرعي عليه بل قيدته بالإيمان والعمل الصالح، وإلا لما إستطاع أحد من المسلمين ان يوجه لوماً إلى غير المسلم بسبب عدم إنقياده وإتباعه لأحكام النبوة ولقيل له ان اليهودي والنصراني والصابئي له أجره عند ربه، ويجب أن لا يفزع أو يخاف، فبقيد الإيمان ينصرف حكم الآية إلى الأمم السابقة، وقيد العمل الصالح حجة عليهم ودعوة لإظهار الصالحات والتباري فيها ومنها أداء العبادات بثصد القربة الذي لا يصح إلا مع النطق بالشهادتين .
ومن الآيات ان أفتتحت الآية بالذين آمنوا أي المسلمين الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته، وجاء تقديم اليهود على النصارى في الآية واذا كان على أساس تقدم بعثة موسى عليه السلام على بعثة عيسى فان الصابئين أقدم زماناً، والظاهر ان تخلف الصابئين في الذكر لقلتهم وندرتهم وفنائهم في الأديان السماوية الأخرى، ولا تزال طائفة قليلة من الناس تقول انها على دين الصابئة، وهي موجودة في بعض البلدان الإسلامية كالعراق وايران ولولا ذكر الصابئين في القرآن لما كان لهذا الاسم من مصداق عملي بين الناس، مما يدل على إعجاز القرآن وانه نازل من السماء، وان الدعوة إلى الإسلام بالترغيب والتخويف والمعجزات وليس الجبر والإكراه.
ان شيوع الصالحات في المجتمعات ونبذ الظلم والتعدي سبيل لإنقداح البصيرة وتوجه الناس نحو الحق والهدى.
وفي الآية مسائل :
الأولى : المدح والثناء لأهل الإيمان واليهود والنصارى والصابئين الذين آمنوا بالله واليوم الآخر، وعملوا الصالحات.
الثانية : الأجر والثواب لأهل الإيمان والصلاح.
الثالثة : البشارة بان أجرهم عند الله عز وجل.
الرابعة : بيان الوعد الكريم وأنهم لاخوف عليهم ولا هم يحزنون يوم القيامة.
ومن مفاهيم الآية، دعوة المسلمين إلى إكرام أهل الملل السابقة من الذين آمنوا بالرسالات السماوية قبل البعثة النبوية المباركة.
الآية لطف
من القوانين التكوينية التي تحكم حياة الناس في الدنيا ، ومنها لغة الوعد والوعيد النازلة من عند الله في الكتب السماوية وعلى لسان الأنبياء بالوحي، وقد أنعم الله عزوجل على الناس بالقرآن الكريم كتاباً نازلاً من السماء، وفيه تبيان كل شئ، وما فيه الوعد للمسلمين وإتباع الأنبياء من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.
ومن إعجاز القرآن إكرام أهل الإيمان من الأمم السابقة وذكرهم باسم الملة وبلغة التعدد، فمع أن المسلمين يواجهون الأذى من أهل الكتاب، ومع تكذيب فريق منهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان القرآن جاء بمدح أهل الإيمان منهم وإنصافهم، وفيه دعوة لأهل الكتاب للتصديق بالقرآن، ودعوة للمسلمين لإكرام المؤمنين من أهل الكتاب، وعدم ذمهم بسبب قيام فريق منهم بإيذاء ومحاربة المسلمين.
ومن الآيات إبتداء الآية بذكر الذين آمنوا والمراد المسلمون فمع تأخرهم الزماني فانهم مقدمون رتبة على غيرهم من المسلمين الأوائل ويترشح التقدم بالإيمان برسالة سيد المرسلين.
وتبين الآية سعة رحمة الله وعظيم فضله وكثرة نعمه وإحسانه وتغشيه لأتباع الأنبياء من الأولين والآخرين جميعاً، وفيه دعوة للناس للإيمان والإنتفاع من نعمة عظيمة وهي العصمة من الخوف والحزن يوم القيامة، تلك العصمة التي لا يقدر على منحها إلا الله عز وجل، وقد تفضل بالإخبار عن الذين يستحقونها من الناس جميعاً.
ومن الآيات عدم إنغلاق أبواب هذه النعمة عن الناس، فكل إنسان مدعو لها ومن غير حاجة إلى سعي وجهد بل يكفيه النطق بالشهادتين واتيان ما أمر الله به وإجتناب ما نهى عنه ليفوز بنعمة الأمن والسلامة يوم القيامة.
وقد سمّى الله عز وجل وقائع النشور ويوم القيامة بالفزع الأكبر, قال تعالى[لاَ يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ]( )،وفي الفزع الأكبر ذكرت أقوال :
الأول : النفخة الأخيرة في الصور لقوله تعالى[وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ]( ).
الثاني : الإنصراف إلى النار، قاله الحسن البصري.
الثالث : حين يطبق على النار.
الرابع : حين يذبح الموت على صورة كبش أملح( ).
ولا تعارض بين الوجوه، وكلها من مصاديق وأفراد الفزع الأكبر، لذا فمن إعجاز الآية تسمية الفزع بأنه أكبر لإرادة شدة الهول وتغشي الفزع لعموم الكفار.
ومع هذا تفضل الله وأخبر في هذه الآية عن أمم من الناس أنهم [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]، وليس من تعارض بين لغة الإنذار وذكر الفزع، وبين البشارة بالأمن للتباين في الموضوع والجهة إذ أن البشارة بالأمن وإنتفاء الخوف موجهة للمؤمنين.
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث ان الناس جميعاً يوم القيامة في فزع شديد إلا الذين ذكرتهم هذه الآية، ويحتمل الإستثناء هنا وجوهاً:
الأول : عدم تلقي أهل هذه الآية الضرر وعدم إصابتهم بالحزن على ما فاتهم , والخوف مما يأتي من الأحوال.
الثاني : نزول الفزع بهم من شدة الحساب وأهوال مواطن يوم القيامة ولكنه بمرتبة أدنى من غيرهم.
الثالث : نزول أسباب أخرى من الأذى بهم مثل الكآبة والحسرة.
والصحيح هو الأول فأهل الإيمان الذين يعملون الصالحات في أمن وسلامة من الخوف والحزن يوم القيامة.

إفاضات الآية
يملأ ضياء الإيمان آفاق الحياة الدنيا، ويشع في كل زمان من أفواه المؤمنين وأفعالهم العبادية التي تكون أوتاداً للأرض ودعائم لحفظ السماوات، ويأتي الجيل اللاحق ليأخذ الراية وهكذا إلى أن سلمت بيد محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
لقد جاءت القضية حملية واضحة بثبوت شيء لشيء ونفيه عن غيره بتحقق الأجر والثواب للمؤمن ونفي الحزن والخوف عنه في النشأتين، اما في الدنيا فلسلامة الفطرة، وتمام الإستقامة، واما في الآخرة فللوعد الإلهي بالمغفرة والجنة.
الصلة بين أول وآخر الآية
تتجلى في هذه الآية الكريمة أمور مباركة عديدة منها :
الأول : البشارة لأهل الإيمان والذين تلقوا بعثة الأنبياء بالتصديق، ودعوتهم بالإتباع والنصرة.
الثاني : السعة في البشارة وكثرة أهل الملل الذين تشملهم البشارة والوعد الكريم، وتعدد أفراد الزمان الطولية التي عاشوا ويعيشون فيها، وتشمل الآية كلاً من :
الأول : المؤمنون منذ خلق آدم وإلى يوم القيامة.
الثاني : يدخل في الذين آمنوا الأنبياء وهم أئمة المؤمنين، وقادة المسلمين في مسالك الهداية والصلاح.
الثالث : اليهود.
الرابع : النصارى.
الخامس : الصائبون.
الثالث : تقييد البشارة والوعد بقيد كريم، على وجوه ثلاثة :
الأول : الإيمان بالله تعالى.
الثاني : التصديق بالآخرة، وعالم الحساب والجزاء.
الثالث : العمل الصالح، فلا يكفي الإيمان وحده فلابد من العمل الصالح، وأفراد هذا التقييد من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
وتبين الآية الحاجة إلى الإيمان والعمل الصالح، فلا يكفي الإيمان بلا عمل صالح، ولا عمل صالح بلا إيمان، لذا يشترط قصد القربة في الواجبات سواء البدنية كالصلاة أو المالية كالزكاة، أو المالية البدنية كالحج، لذا ليس من تعارض بين هذه الآية وما فيها من البشارة للمؤمنين ولبني إسرائيل، والآيات السابقة التي جاءت في ذم بني إسرائيل.
ويفيد الجمع بينهما شمول الذم للذين عصوا وإعتدوا منهم، وإنحصار البشارة بالذين تعاهدوا الإيمان وصدقوا بالأنبياء ولم يجحدوا بالنعم الإلهية، ومنها نعمة البعثة النبوية المباركة.
ومن إعجاز نظم الآيات مجئ هذه الآية بعد الآيات العديدة في لوم وإنذار وتوبيخ بني إسرائيل لتكون هذه الآية رحلة في عالم الملكوت، وبشارة تملأ الصدور بالغبطة والسعادة، ومواساة للقلوب المنكسرة، لتعود الآيات التالية إلى صيغة الذم لبني إسرائيل وتذكيرهم بسوء ما فعلوا، وفيه دعوة لهم للعمل بأحكام هذه الآية، والتطلع إلى نيل الوعد الكريم المذكور فيها، والإقلاع عن المعصية، وترك أسباب الجحود والعناد.
لذا فإن سياق هذه الآية نعمة أخرى على بني إسرائيل، ولطف يجذبهم إلى الإيمان بالتوبيخ والإنذار والوعد الكريم ثم اللوم والتوبيخ بوقائع وأمور صدرت منهم، وقامت بها الحجة عليهم، ولم يستطيعوا إنكارها ولا تحريفها، لأنها نزلت في القرآن الكتاب المعصوم من التحريف في ألفاظه وأحكامه ومضامينه القدسية، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
ومن مصاديق سلامته من التحريف، عجز أعداء الإسلام عن الوصول إليه والتصرف في آياته، وهو الأمر الذي يبعث الغيض والحسد في قلوبهم وقلوب الذين كفروا مطلقاً.
فجاءت هذه الآية لبيان لغة العدل والإنصاف في القرآن، ولتكون شاهداً على نزول القرآن من عند الله، وأن ما فيه من الوعد والوعيد مدخل كريم للإيمان، ودعوة للتدارك والتوبة والإنابة، وإنذار وبرهان وبرزخ دون جدل وإحتجاج أهل المعاصي يوم القيامة، إذ يدل الوعد الكريم بالأجر يوم القيامة للذين آمنوا وصدقوا به، على الخسارة والعقوبة لمن لم يؤمن به.
ولم تذكر الآية الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنها تدل عليه من وجوه :
الأول : يترشح عن الإيمان بالله الإيمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : يصدق لفظ [الَّذِينَ آمَنُوا] بإطلاقه على المسلمين، ولو جاء على نحو التقييد والحصر فهو ينصرف إليهم، وجاءت خطابات القرآن للمسلمين بلفظ (ياأيها الذين آمنوا) قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
الثالث : من الإيمان بالله تعالى طاعته، وقد أمر تعالى بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإتباعه ونصرته.
الرابع : مجئ آيات أخرى تفيد وجوب الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاًً إلى الناس جميعاً، قال تعالى [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ]( ).
وجاءت الآية بشارة ووعداً كريماً، وشاهداً سماوياً حاضراً في الأرض إلى يوم القيامة على عظيم قدرة الله تعالى، ووجوب عالم الآخرة وحصول الجزاء يوم القيامة، وهي عون للمؤمنين في أداء التكاليف، والثبات على الإيمان، وسلاح للصبر بيدهم في تلقي الأذى في مرضاة الله، وتحمل صنوف الإبتلاء في الحياة الدنيا، ولم يذكر الأنبياء في الآية، وفيه وجوه :
الأول : يدخل الأنبياء مع الذين آمنوا، لذا إبتدأت الآية بذكر الذين آمنوا لأن الأنبياء أئمة الناس في الإيمان.
الثاني : جاءت الآية باسم الشرط (من) والأنبياء هم سنام الإيمان، وقادة الناس في عمل الصالحات، وكانوا يفعلون ما يوحي لهم الله تعالى.
الثالث : الإيمان بالأنبياء والتصديق بالنبوة من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا] فالأنبياء في هذه الآية ممن يجب الإيمان بهم، قال تعالى [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ]( ).
الرابع : بالنبوة والتنزيل بلغ هذا الوعد المسلمين والناس جميعاً، فالأنبياء رسل الوعد الإلهي، وهو من بركات النبوة والأنبياء عامة، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة.
الخامس : تبين هذه الآية جهاد الأنبياء في إيجاد أمم من المؤمنين في مراحل التأريخ وأفراد الزمان الطولية.
وهذه الوجوه، من مصاديق الآية الكريمة ودعوة المسلمين للإيمان بالأنبياء لا تتعارض مع كون الأنبياء أئمة المؤمنين في الدنيا والآخرة، وأنهم يستبشرون بالبشارة، ويتلقون الوعد الإلهي الكريم باللبث الدائم في الجنة بالشكر والإجتهاد والدعوة إلى الله.
وفي الآية تأديب للمسلمين، وتفقه في الدين، وإحاطة بعلوم التأريخ والشرائع السابقة، ورسالة لأهل الملل والنحل، إذ تخبر الآية عن وجود الإيمان قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإستحقاق المؤمنين من الأمم السابقة المراتب العالية في الجنة.
ويتجلى هذا الإخبار في آيات عبادية وجهادية منها قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
وفي ذكر أهل الكتاب بصيغة الوعد الكريم مسائل :
الأولى : ليس لأحد ان يحكم على اليهود والنصارى مطلقاً بأنهم محرومون من الثواب والجزاء الحسن.
الثانية : جاءت الآية صريحة بالثناء على المؤمنين الذين يعملون الصالحات من اليهود والنصارى والصابئين.
الثالثة : في الآية دعوة لأهل الكتاب للإيمان بالله والأنبياء واليوم الآخر وفعل الصالحات، ومن الصالحات إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأداء الفرائض الأخرى برداء الإسلام وقصد القربة إلى الله تعالى.
الرابعة : بيان فضل الله تعالى على أهل الكتاب بنزول القرآن، وما فيه من المدح للمؤمنين، والترغيب في فعل الصالحات.
الخامسة : توكيد صدق نزول القرآن، لما فيه من الوعد بالجزاء الحسن لغير المسلمين، وعدم إنحصار مضامين المدح والثناء فيه على المسلمين.
السادسة : الآية من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، إذ تتضمن الإخبار عن الثواب العظيم للمؤمنين من الأمم السابقة.
السابعة : جعل أهل الكتاب والناس جميعاً يحرصون على الإنصات لآيات القرآن، وما فيها من الوعد والوعيد، والأحكام والسنن، ليدركوا الإعجاز الذاتي والغيري لآيات القرآن , ويحتمل متعلق اسم الشرط (من) وجوها :
الأول : الإطلاق وشمول الشرط لجميع من ذكرتهم الآية، فلابد من العمل الصالح مع الإيمان شرطاً في نيل الثواب الأخروي.
الثاني : المراد اليهود والنصارى والصابئون.
الثالث : خصوص الصابئين وإعتبار الواو في (والصابئين) إستئنافية.
والصحيح هو الأول، والواو المتكررة في الآية حرف عطف، إذ جاءت الآية على نحو القانون وبيان الحكم في الإرادة التكوينية وتغشي الوعد الكريم في الآية للذين آمنوا في الأجيال المتعاقبة من بني آدم ، وفيه مسائل :
الأولى : إكرام القرآن للمؤمنين من الأمم السابقة.
الثانية : ترغيب أهل الكتاب بالعمل بسنة المؤمنين من أسلافهم، والتصديق بالبشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وورد حكاية عن عيسى في التنزيل[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ).
الثالثة : من مصاديق الإيمان، الإيمان بالأنبياء جميعاً على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي.
الرابعة : عدم نفرة المسلمين من دين اليهودية والنصرانية إذ جاء القرآن بالإخبار عن إجتماع المسلمين مع المؤمنين منهم في الجنة.
لقد ذكرت الآية المؤمنين من آيام آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة، فيشمل اسم الذين آمنوا كل المؤمنين من الأولين السابقين والمسلمين إلى يوم القيامة مع ذكر أهل الكتاب، فيكون أتباع نوح وإبراهيم عليهما السلام من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا] في أول الآية، وكذا المسلمون في كل جيل إلى يوم القيامة , قال تعالى في الثناء على المسلمين ووحدة سنخية الإيمان مع الأنبياء والموحدين من الأمم السابقة[مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ]( ).
فمن إعجاز القرآن أن يأتي اللفظ المتحد ليشمل المصاديق المتعددة، وفي الآية دليل على وحدة الإيمان، وأن الله عز وجل يدعو الناس في كل جيل وزمان إلى الإيمان به وعمل الصالحات للفوز بالإقامة الدائمة في الجنة، ولم تذكر الآية الجنة بالاسم بل ذكرت الجزاءالعظيم عند الله، ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة الخلود في جنة النعيم.
الثاني : الجزاء في الدنيا.
الثالث : المعنى الأعم وهو الجزاء في الدنيا والآخرة .
والصحيح هو الثالث، لأصالة الإطلاق، ولان الله تعالى واسع كريم بيده مقاليد الأمور.
وجاءت الآيات بالجزاء في الآخرة لأنها دار الخلود فليس من خروج من الجنة، قال تعالى [أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
ومن الجزاء في الدنيا اللطف الإلهي الذي يتغشى المؤمنين وإعانتهم في الثبات على منازل الطاعة، قال تعالى [أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ]( )، وكما مدحت الآية المؤمنين وذكرتهم بأربعة أسماء، فإنها ذكرت أربعة صفات تجمعهم، ويكون المدار عليها في نيل الأجر والثواب العظيم وهي:
الأولى : الإيمان بالله تعالى، وهو الخالق المبدئ المعيد، وهو سبحانه الذي نفخ الروح في آدم ليعبده هو وذريته.
الثانية : التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدل عليه قوله تعالى[الَّذِينَ آَمَنُوا].
وجاءت هذه الآية لتوكيد وجوب عبادة الله بصيغة الترغيب والوعد الكريم مع أن الإيمان بالله واجب على كل مكلف ومكلفة.
الثالثة : التصديق باليوم الآخر، والنشور بعد الموت والوقوف بين يدي الله تعالى للحساب، ويترشح عن هذا التصديق الإستعداد له بالإيمان وأداء الوظائف العبادية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابعة : فعل الصالحات وإتيان الطاعات وما أمر الله تعالى به، والتحلي بالأخلاق الحميدة، والذي يدل في مفهومه على إجتناب فعل السيئات، بالإضافة إلى إعتبار إجتنابها من العمل الصالح بتقريب وهو أن ترك المعاصي والسيئات أمر وجودي وليس عدمياً.
لقد أراد الله تعالى من الناس الإيمان والتصديق بالقلب والجوانح، وإقترانه بالعمل الصالح وتفضل سبحانه وأخبر عن الجزاء العظيم للمؤمنين وأختتمت الآية بقانون ثابت، وهو قوله تعالى [وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] وفيه وعد كريم، وواقية من أهوال يوم القيامة، ونجاة من حر النار.
لقد خاف المؤمنون في الدنيا من الوعيد، وإحترزوا من المعاصي، فرزقهم الله تعالى السعادة الأبدية، وجاءت آيات القرآن بالوعد والوعيد ليعملا متلازمين على تهذيب النفوس وجذب الناس إلى الإسلام وسبل الطاعة، قال تعالى [فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ]( ).
التفسير الذاتي
جاءت هذه الآية بقانون يتضمن حسن الثواب لمن آمن بالله وأنبيائه، ومن إعجاز الآية أنها جاءت بين الآيات التي تخاطب بني إسرائيل، وتذكر نعمه عليهم، لبيان حقيقة وهي أن الله عز وجل يجزي أهل الإيمان خير جزاء، وأنه ليس بظلام للعبيد.
وهذه الآية من مصاديق تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة، وإمضاء السنن السابقة، وأن الثواب يأتي على الإيمان بالله والإقرار باليوم الآخر، والعمل الصالح، ومن وجوه الإيمان التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الآيات ان الأنبياء السابقين بشروا به، ودعوا أتباعهم لنصرته، فجاءت الآية بالثناء على الذين توارثوا هذه البشارة، وتعاهدوا الإيمان في الأرض وفعل الصالحات إلى حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل في الآية تذكير بنعم الله على بني إسرائيل , الجواب نعم من وجوه:
الأول: جاءت الآيات بالخطاب “يا بني إسرائيل”وذكرت هذه الآية “الذين هادوا” في إشارة إلى أتباع النبي موسى عليه السلام الذين عملوا بالتوراة.
الثاني: بيان حسن الجزاء لأهل الإيمان منهم.
الثالث: التصديق بنزول القرآن من عند الله من أفراد الإيمان.
ومن مفاهيم الآية تفقه المسلمين في الدين، وسنن الملل الأخرى، والفصل والتمييز بين أهل الكتاب والمشركين، والذي تجلى في أخذ الجزية من أهل الكتاب وعدم إكراههم على ترك دينهم، قال تعالى [حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] ( ).
وجاءت خاتمة الآية وعداً كريماً للمسلمين والمؤمنين من الأمم السابقة، وفيه شاهد بأن المسلمين لم يقولوا أن الجنة خاصة بهم، كما ورد في التنزيل عن اليهود والنصارى [وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى]( )، بل جعلها الله عز وجل جزاء للذين آمنوا بالله وصدّقوا بالتنزيل وعملوا الصالحات.
والآية من الإلتفات في لغة الخطاب وإرادة العموم بعد مخاطبة خصوص بني إسرائيل إذ جاءت بحكم عام وبيان لفضل الله عز وجل على أهل الإيمان من الملل السماوية.
وتؤكد الآية موضوعية التصديق بيوم القيامة، وما فيه من بعث الناس من القبور والوقوف بين يدي الله للحساب، وعالم الجزاء بالثواب والخلود في النعيم، أو العقاب والإقامة في النار، وفيه وجوه:
الأول: هذا الإيمان تصديق بالأخبار التي جاء بها الأنبياء.
الثاني: بعث الناس للإقرار بعظيم قدرة الله.
الثالث: الترغيب في فعل الصالحات، وحمل الزاد للآخرة والإستعداد لمواطن الحساب فيها، وهو من أسرار خاتمة الآية [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ].
الرابع: تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا، وبيان لزوم الملازمة بين الإيمان والعمل الصالح.
فقد خافوا الله في الغيب وإجتهدوا للنجاة من أهوال يوم القيامة، فوجدوا ما وعدهم ربهم بصرف الخوف والحزن عنهم، وهو من الجزاء العظيم الذي يتفضل به الله عز وجل على الناس في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فان السكينة تملأ قلوبهم [ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
وأما في الآخرة فان الملائكة تتلقاهم بالبشرى وقد ينتظر الإنسان وعداً من ملك أو سلطان، ولكنه يخشى رجوعه عنه، أو ان الوعد لا يأتي إلا بعد مشقة وعناء، وخوف من نسيانه أو محوه أو نقصانه أو تفضيل للغير، أما الوعد من عند الله عز وجل فهو حق وصدق وأمر نافذ، قال تعالى [إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ]( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : الإخبار عن حال أهل الإيمان يوم القيامة.
الثانية : ذكر الذين يرزقون نعمة الأمن من الخوف والحزن يوم القيامة بصفاتهم الحميدة.
الثالثة : بيان صفة أهل هذه الآية على نحو التعيين، وبما يمنع من اللبس والترديد فيه، وهي على وجوه:
الأول: الإيمان بالله عز وجل والتسليم له بالربوبية المطلقة.
الثاني : الإقرار باليوم الآخر، والمعاد يوم القيامة.
الثالث : عمل الصالحات، والذي يدل في مفهومه على إجتناب السيئات، فمن خصائص أهل الإيمان أنهم لا يخلطون من بين العمل الصالح والسيء.
الرابعة : تحبيب الإيمان للنفوس، قال تعالى[حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
الخامسة : بعث الشوق في النفوس لدخول الإسلام وأداء التكاليف والنفرة من الكفر , قال تعالى[وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ].
السادسة : في الآية بشارة ووعد إلهي مركب من وجوه :
الأول : الأجر والثواب من عند الله عز وجل.
الثاني : يأتي الأجر لأهل الإيمان من عند الله من غير واسطة نبي أو ملك مقرب، وكونه من عند الله يدل على كثرته وتعدده وسعته، وعدم وقوع نقص فيه، ويدل على زيادته ومضاعفته لأن الله تعالى هو الكريم الذي يعطي بغير حساب , قال تعالى[مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ]( ).
الثالث : حث المسلمين على التقيد بأحكام الإسلام، والإجتهاد في طاعة الله.
الرابع : دعوة الناس للهداية والإيمان، والسعي للفوز بنعمة إنعدام الخوف من العذاب، والحزن على فات في الدنيا.
الخامس : بيان المائز والفارق بين المسلمين والكفار يوم القيامة بالأمن والسكينة للمسلمين، والفزع والخوف لغير أهل الإيمان، وفيه حجة على الناس في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فالآية ترغيب بالإيمان وما فيه من نعمة البشارة والوعد الكريم والغبطة والسعادة والبشارة للمسلمين بعدم حصول الفزع والخوف في الآخرة.
وفي الآخرة لا يلوم الكفار إلا أنفسهم بإعراضهم عن الإنذارات الواردة في القرآن , قال تعالى[َيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً]( ).
أسباب نزول
وفي الخبر أن سلمان كان يحدث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عن أصحابه الذين كان معهم وأخبره فقال : كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ، ويشهدون أنك ستبعث نبياً ، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان هم من أهل النار فاشتد ذلك على سلمان وقد كان قال له سلمان : لو أدركوك صدقوك واتبعوك . فأنزل الله هذه الآية { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر })( ).
التفسير
قوله تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ]
لقد بدأت الآية بالذين آمنوا وإرادة المسلمين لأنهم سنام الإيمان والقادة إلى الهدى، ولكي لا يقول الآخرون أن الآية ذكرتهم ولم تذكر المسلمين فمع أنها جاءت بخصوص الأمم السابقة والحكم في عبادتها ومناسكها فانها أفتتحت بذكر المسلمين لأنهم ورثة الملل السابقة وفيه دعوة للناس جميعاً لإختيار الإسلام واللفظ عام ويشمل المؤمنين من الأمم السالفة ممن لم يذكر في الآية على نحو الخصوص.
وأختلف في الذين آمنوا الواردة في الآية ومن هم على أقوال :
الأول : مؤمنوا الأمم الماضية( ).
الثاني : الذين آمنوا بعيسى ثم لم يتهودوا ولم يتنصروا ولم يصبأوا وإنتظروا خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم( ).
الثالث : هم طلاب الدين منهم حبيب النجار وقسّ بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل والبراء الشنيّ وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي وبحير الراهب , ووفد النجاشي الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه فمنهم من أدركه وتابعه ومنهم من لم يدركه، ولكل منهم قصة مذكورة في كتب السير والتراجم.
الرابع : هم المؤمنون من هذه الأمة.
الخامس : هم سلمان الفارسي وأصحابه النصارى الذين كان قد تنصر على أيديهم قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا قد أخبروه بأنه سيبعث وانهم يؤمنون به إن أدركوه. قاله السُدي( ).
والحق ان مفهوم الآية أي المعنى المدلول الذي يفهم منها أعم ويشمل التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبشارات التي جاءت بها ويشمل كل الوجوه المذكورة أعلاه من غير تعارض أو تزاحم بينها، بل ان منطوق الآية أي المدلول التطابقي أو التضمني لها وما دلت عليه في محل النطق يحمل هذا المعنى من غير ان تصل النوبة إلى ما يقابله من المفهوم بالإصطلاح الأصولي الذي يختلف مع المنطوق في الكيف ويتحد معه في الموضوع والمحمول.
وتشمل الآية الذين آمنوا بالرسالات والشرائع السماوية المنزلة، ممن تلقوا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين إتبعوا الأنبياء ونصروهم ومنهم أتباع نوح وهود وصالح وغيرهم من الأنبياء، كما ورد في التنزيل [لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا]( ).
وكذلك الأمم التي سبقت ظهور اليهودية والنصرانية والبعثة النبوية الشريفة كما يدل عليه مفهوم قوله تعالى [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( )، فالآية تشمل الموحدين على ملة ابراهيم عليه السلام.
وتؤخذ لغة القرآن في المسائل الثبوتية بالمعنى الأعم والإطلاق إذ أن ذكر الجنس يقتضي إستيعابه لجميع أفراده لما يدل عليه الكلام من العموم بدليل نفي التقييد إذ ينحل الحكم في مرحلة التطبيق إلى جميع الأفراد الذين آمنوا، خاصة وأن اللفظ ورد بأداة تدل على العموم والجمع (الذين) مما يجعل الحكم يسري إلى مجموع أفراد مدخول الأداة مع عدم لحاظ وصف معين أو خصوصية زائدة عن الطبيعة ولا يخرج منها فرد إلا بالدليل.
فتدل الآية على وجود التوحيد في الأرض قبل الأديان الثلاثة وبقائه حياً نابضاً في صدور الذين آمنوا منذ أن سكن آدم عليه السلام الأرض، يتوارثه الصالحون جيلاً بعد جيل.
والمسلمون هم أهل هذه الآية لذا جاء تقديم صنف الذين آمنوا في الآية ليدل على الإكرام الخاص لهذا المصداق، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وفي الآية بشارة وجواب للسؤال عن حال الذين آمنوا بالرسل قبل الإسلام.
وجاء تقييد موضوع الإيمان بوصف معين وهو الإيمان بالله واليوم الآخر وقُيد متعلق الحكم بالعمل الصالح، لتبين الآية ان مجرد الإيمان بالرسل والأنبياء وحده أمر غير كاف لنيل الثواب العظيم , فيجب ان يكون سبيلاً إلى الإعتقاد الراسخ بالتوحيد وأركان الدين وأصوله ومنها يوم البعث وما فيه من الحساب والثواب والعقاب. وان يكون هناك مبرز خارجي للإيمان ألا وهو العمل الصالح كي يكون عمل الجوارح مشابهاً للإعتقاد.
قوله تعالى[وَالَّذِينَ هَادُوا]
الذين هادوا هم اليهود , وفي تسميتهم هذه واشتقاقها وجوه :
الأول : إنه من الهود أي التوبة.
الثاني : مأخوذ من الإهتداء والدلالة بالإختيار على الإيمان.
الثالث : سموا بذلك لتوبتهم من عبادة العجل، وبه قال ابن جريج(1).
الرابع : لأنهم نسبوا إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب فعُربت الذال دالاً.
الخامس : لأنهم هادوا أي مالوا عن الاسلام وعن دين موسى.
السادس : كانوا يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة ويقولون إن السموات والأرض تحركت حين آتى الله عز وجل موسى عليه السلام التوراة.
ولا مانع من إشتراك عدة وجوه في علة التسمية كالوجه الأول والثاني، وليس من حصر لها في عبادة العجل كما في الوجه الثالث، وبخصوص القول الرابع فإن المسمى أعم من سبب التسمية وان نسب اليهود لم ينحصر بواحد من أبناء يعقوب لذا وردت الآيات بالخطاب(يابني إسرائيل)، والوجه الخامس بعيد لأن التسمية لم ترد لذمهم.
ولعل التسمية موجودة من أيام موسى عليه السلام وهو الذي أطلقها لما ورد في القرآن [ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا ] ( ) فلما أخذتهم الرجفة وأفاقوا تابوا إلى الله وفي التنزيل : وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا .
أما الوجه السادس فيمكن ان يكون عرضاً وليس علة للتسمية.
وفي الآية دلالة إلتزامية تشير إلى أن قبول التوبة يكون بالإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه.
ووردت [الَّذِينَ هَادُوا] في القرآن عشر مرات، و[الْيَهُودُ] ثمان مرات، ويمكن إعتبارهما من المترادفات اللفظية، وان الأول يتعلق بالإبتداء والثاني بالبقاء، أي ان الأول يدل على مرحلة الإثبات العقائدي إذ تولدت الإرادة والولاء بعد رؤية ما يشتمل عليه التوحيد من المصلحة لتصاغ الإرادة بمبرز خارجي إعتباري، ثم تبدأ بعد ذلك مرحلة الثبوت التي تدل على الإستقرار في العقيدة بدافع من الملاك والإرادة، وهما عنصران لازمان في مرحلة الثبوت ويطلق عليهما اسم (مبادئ الحكم) .
فيطلق لفظ [الَّذِينَ هَادُوا] على بدايات بعثة موسى عليه السلام وما يتعلق بالعنوان العقائدي وتدل عليه الآية المتقدمة من سورة الأعراف، ويطلق اسم اليهود على أهل الديانة المتوارثة ومنهم الذين عاشوا أيام نزول القرآن والبعثة النبوية المباركة , ومن قبل في أيام عيسى عليه السلام كما في قوله تعالى [وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ]( ).
وفيما يتعلق بالخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن جاءت تسميتهم باليهود كما في قوله تعالى [وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ]( ). وقوله تعالى في خطاب للمؤمنين [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ]( ).
وهذا التوجيه وان لم يكن قاعدة كلية إلا انه يصلح ان يكون كبرى تساعد علماء التفسير والمؤمنين في بيان وحل كثير من المسائل المتعلقة بالموضوع وان الآيات التي جاءت بالبشارة للذين هادوا وعملوا صالحاً إنما تتعلق بزمان ما قبل نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجيء الإسلام ,وحتى قبل بعثة عيسى باعتبارها أيضاً ناسخة لشريعة التوراة، ومن أهم مصاديق الإيمان والعمل الصالح الإيمان بالنبوة والإقرار بالشهادتين.
ولا يمنع هذا من ورود ذم لنفر من الذين هادوا كما في قوله تعالى [مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ]( )، بل يؤيده ما ورد في الآية المتقدمة من سورة الأعراف [أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا].
قوله تعالى [وَالنَّصَارَى]
النصارى هم أتباع عيسى عليه السلام ويسمون أيضاً المسيحيين نسبة إلى السيد المسيح، وقد ورد ذكرهم في القرآن باسم النصارى أربع عشرة مرة، ولم يرد باسم المسيحيين، ومفرد النصارى نصراني , ومنهم من قال المفرد نصران والياء للمبالغة.
وفي تسميتهم نصارى وجوه :
الأول : نسبة إلى قرية في فلسطين تسمى الناصرة، وقيل تسمى بصورية , ويدل عليه ما ما ورد عن ابن عباس والإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: “سموا نصارى لإنهم من قرية من بلاد الشام نزلتها مريم وعيسى عليهما السلام بعد رجوعهما من مصر)
والشام أعم من فلسطين.
الثاني : لقول عيسى [ مَنْ أَنصَارِي إلى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ..]( )، وهو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام.
الثالث : لنصرة بعضهم البعض.
الرابع : لإنهم نصروا المسيح واتبعوه.
ولا تعارض بين هذه الأقوال لجواز صدور التسمية المتحدة عن العلة المركبة بل والبسيطة.
وفي الآية مدح للنصارى وقبول لأعمالهم وتأكيد سماوي لصحة نهجهم باتباعهم لعيسى وفيه دعوة لهم للإنقياد للأوامر الإلهية الواردة في القرآن.
قوله تعالى [وَالصَّابِئِينَ]
الصابئون جمع صابئ وهو الذي خرج من دينه إلى غيره , وفي تسميتهم أقوال :
الأول : طائفة من الكفار يعبدون الكواكب في الباطن( ).
الثاني : أصل دينهم دين نوح عليه السلام فمالوا عنه.
الثالث : يدعون انهم على صابئي بن شيث بن آدم عليه السلام.
الرابع : انهم جنس من أهل الكتاب، وعن السُدي انهم يقرأون الزبور.
الخامس : يزعمون انهم على دين نوح عليه السلام وقبلتهم من مهب الشمال عند منتصف النهار.
السادس : هم قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة( ).
السابع : الأديان ستة، خمسة للشيطان وواحد للرحمن، الصابئون يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرؤون الزبور، والمجوس يعبدون الشمس والقمر…. الخبر.
الثامن : انهم سعوا إلى تعطيل الأنبياء والرسل والشرايع، وقالوا كلما جاءوا به باطل فجحدوا توحيد الله ونبوة الأنبياء ورسالة المرسلين ووصية الأوصياء، فهم بلا شريعة ولا كتاب ولا رسول.
التاسع : عن مجاهد قال : الصابئون قوم بين اليهود والمجوس والنصارى ليس لهم دين( ).
العاشر : دينهم شبيه بدين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب حيال منتصف النهار , قاله الخليل( ).
الحادي عشر : أهل دين من الأديان كانوا بالجزيرة جزيرة الموصل يقولون لا إله إلا الله ولم يؤمنوا برسول الله , فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأصحابه (هؤلاء الصابئون) يشبهونهم بهم.
الثاني عشر : الدين الذي فارقوه هو التوحيد، وصبوا وإنتقلوا إلى عبادة النجوم، أو تغطيتها( ).
الثالث عشر : قال قتادة و هم قوم معروفون ولهم مذهب يتفردون به و من دينهم عبادة النجوم و هم يقرون بالصانع و بالمعاد و ببعض الأنبياء( ).
الرابع عشر : كل من ترك دينه كاليهودي حين يصبح نصرانياً، والذي ينتقل إلى الإسلام يسمى صابئ، إن ورود ذكرهم بصيغة العطف التي تفيد التعدد والتغاير تدل على أنهم أصحاب دين، ومن الموحدين.
لقد جاءت الآية المتقدمة في بيان النعم والمنن التي تفضل الله عز وجل بها على بني إسرائيل ومقابلتها منهم بالجحود والعناد فهل هذه الآية من ضمن سياق الآيات السابقة أم انها تتحدث عن موضوع آخر. الجواب انها من ضمن سياق الآيات السابقة وإن كانت خالية من الذم والوعيد .
ويدل تعدد وكثرة هذه الوجوه على إحتمال تعدد الفرق التي تسمى صابئة، والتباين بينها بحسب الزمان والمكان، وأن بعضها يخفي سنخية دينهم.
لقد جاءت هذه الآية في مفهومها توكيداً لوجود الإيمان والصلاح عند شطر من بني إسرائيل، وان الجحود لم يأت منهم جميعاً , فالذين ماتوا منهم على الإيمان والتسليم لا يضيع الله أعمالهم، وان رجاء دخولهم في الإسلام لا زال قائماً، والوقائع والأيام أثبتت صدق ما في هذه الآية من أخبار وأمل.
وورد لفظ (الذين آمنوا) في القرآن بلغة الخطاب ونزلت أفراده جميعاً في السور المدنية، أي في مدة بناء الأركان العقائدية والإجتماعية والتشريعية للإسلام وتثبيت الملة.
(وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند أبي حنيفة)( ).
(وأما المجوس فقد سنّ بهم سنّة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم)( ).
ويقال صبا الرجل وصبأ أي خرج من دينه إلى دين آخر قيل ظهرت الصابئة في أول سنة من ملك طهمورشا)( ).
وينتسب الصابئة إلى سام بن نوح، ويزعمون أن يحيى بن زكريا هو نبيهم وأنهم على ملة نوح عليه السلام , وقبلتهم مهب الشمال عند منتصف النهار، وقيل كانوا يقيمون في القدس، وطردوا بعد ميلاد عيسى إلى فلسطين ثم هاجروا إل حران، فقتبسوا ممن حولهم وتأثروا بعبادة الكواكب والنجوم، ويظنون أنها مسكن الملائكة، فيقدسونها وهم المسمون بالصابئة الحرانيين، وللصابئة كتب مكتوبة بلغة سامية قريبة من السريانية منها:
الأول: الكنزاربّا: أي الكتاب العظيم، ويتضمن نظام تكوين العالم، وبدأ الخليقة وقصص وأدعية ويقولون أنه صحف آدم.
الثاني: دراشة أدبهيا: أي تعاليم يحيى، وفه نبذة عن حياة يحيى ووصاياه.
الثالث: الفلستا: أي كتاب النكاح، ويتضمن قواعد الخطبة والنكاح الشرعي.
وقيل ينقسم الصابئة إلى قسمين:
الأول: أحناف.
الثاني: مشركون.
ويقر الصابئة بأن للعالم صانعاً وخالقاً، ويتقربون إليه بالوسائط وهم الروحانيون المطهرون، إذ أنهم يعترفون بالحاجة إلى معرفة الله وطاعته، والحاجة إلى متوسط روحاني وليس جسمانياً لنقاء وطهارة الروحانيات، وهم كالمجوس إذ أقروا ببعض الأنبياء، وقيل يعتقد الصابئة بأن الكواكب فاعلة ومختارة، وأنها تدير العالم السفلي، ولعله لزعمهم بأن الملائكة تسكنها.
وقد ثبت في علم الكلام أن الاسم غير المسمى , أي أن اسم الصابئة الذي ورد في القرآن ثلاث مرات لا ينطبق بالضرورة على من يدعيه , والفيصل هو مضامين آية البحث وهي حجة وموعظة , وبرزخ دون التحريف , إذ جاءت الآية بتقييد من وجوه :
الأول: الإيمان بالله عز وجل إلهاً واحداً لا شريك له.
الثاني: الإقرار بيوم القيامة، والتسليم بالبعث والنشور.
الثالث: فعل الصالحات، وإتيان الخيرات، وهل يدخل أداء الفرائض في الصالحات، الجواب نعم ، ومع إبتداء الآية بصيغة الجمع فإنها إنتقلت إلى لغة الإفراد (من آمن) مع الحفاظ على لغة الجمع في المعنى (فلهم أجرهم) لبيان حقيقة إعجازية من وجوه:
الأول: دعوة كل مكلف منهم إلى العمل بمضامين الآية.
الثاني: تأكيد وجود أفراد كثيرين يعملون بأحكام الآية.
الثالث: تفقه المسلمين في الدين ببيان ضابطة كلية إلى يوم القيامة في معرفة أهل التوحيد من الأمم السابقة.
قوله تعالى[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا]
جمعت الآية بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر , وفيه وجوه:
الأول: بعث الناس للسعي للآخرة.
الثاني: الآخرة من أجزاء العلة الغائية لخلق الإنسان.
الثالث: دعوة الناس لأداء الفرائض والواجبات.
الرابع: تصديق الناس بالنبوة، والعمل بما جاء به القرآن الكريم.
الخامس: السلامة من قتال المسلمين إذ أنهم مأمورون بقتال من يشرك بالله ويمتنع عن التسليم بيوم القيامة، قال تعالى[قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ]( ).
قوله تعالى [فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ]
بشارة ووعد كريم بنيل الثواب والجزاء الحسن في الآخرة إذ يقف الناس حتماً للحساب، ولا يختص الثواب ببعض منهم لصفة خاصة تتعلق بالزمان أو المكان أو نوع الشريعة.
وصحيح أن “عند” ظرف للمكان والزمان ولكنه يستعمل ايضاً في المعاني التي ليس لها جهات، وفي التنزيل [ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ]( ) أي من فضلك.
لذا فإن “عند” هنا لا تعني المكانية لأن الله تعالى ليس من الماديات كالجسم والعرض والجوهر التي تفتقر إلى المكان الذي تستقل به لأنها من الممكنات الحادثة لوجوب تجرد الصانع سبحانه عن المادة ولواحقها وهو من صفاته السلبية أي الصفات التي تسلب عنه.
فالآية تعني الوعد والأجر الثابت المهيء والمعد لهم في يوم الجزاء، وفي الآية إشارة إلى الجزاء في دار الدنيا وتعلقه بأشخاص المؤمنين، و ذرياتهم في زمان الإسلام بالإضافة إلى الثواب الأخروي والله واسع كريم، وإن كان المتبادر هو الأخروي.
ترى لماذا هذا التقييد بالوصف وتعليق الجزاء على الإيمان بالله واليوم الآخر مع انه في أول الآية قال تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ] وهل هو ذكر خاص بعد عام؟ أم تفصيل بعد إجمال؟.
إن له معنى مستقلاً ولكنه قريب من كلا الوجهين أعلاه. إذ أن المقصود – والعلم عند الله – ووفقاً لقاعدة إحترازية القيود أي أخذ القيد الظاهر في الكلام او في مدلوله التصوري قيداً في المراد الجدي والمدلول التصديقي ليكون دخيلاً في الموضوع.
وثبوت شخص الحكم وحسن العاقبة لا يشمل من إنتفى عنه هذا القيد، بل يشمل الموحدين الذين آمنوا بالرسالات من غير شرك، وفي الحديث القدسي (يقول الله عز وجل: انا خير شريك من عمل لي ولغيري فهو لمن عُمِل له غيري)( ).
وفي قوله تعالى [ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ]( )، تفسير وبيان لهذه الآية. وان التصديق بالأنبياء والإقرار بأنهم مبعوثون من عند الله أمر غير كاف لنيل الثواب والدرجات العلى في الآخرة، فلابد من نبذ الشرك مضموناً ومفهوماً، إعتقاداً وعملاً، وشخص الحكم هذا شامل لكل المذكورين في الآية من المليين وأهل الديانات.
قوله تعالى [وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]
ورد هذا الشطر من الآية في القرآن إحدى عشرة مرة كلها تشير بلغة الإخبار أو الإنشاء أو البشارة لأولياء الله والصالحين بحسن العاقبة والأمن في الآخرة والجزاء بالجنة كما في قوله تعالى [ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ]( ).
فالأجر هو الثواب المحسوس من الرزق الكريم والخلود في النعيم، وتدل الآية أعلاه على زوال الخوف والوجل عنهم مما كان يلازمهم في الدنيا سواء بالحزن على ما يتعلق بشؤون الدنيا لأن الحزن على ما فات، او الخوف من المتوقع وما سيأتي في الآخرة من الحساب وشديد العقاب، وجاء نفيهما بصيغة الجنس الذي تقع تحته أفراد متعددة.
وتلاحظ في الآية صيغ الترغيب والحث ببيان الوعد الكريم فهي دعوة للإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحذير من الجحود برسالته، اذ ان مفهوم الآية الكريمة هو الوعيد للمشركين والذين يعملون السيئات.
وقيل ان الجميع يوم القيامة يكلفون بالمرور على طريق واحد على جهنم ويكون أدق من الشعر وأَحَدَ من السيف، فيمر عليه اهل الجنة من غير خوف ولا حزن، وفي رواية انه الصراط، ويمر عليه الكفارعقوبة لهم وزيادة في خوفهم وغمهم فإذا بلغ كل واحد إلى مستقره من النار سقط منه.
وفي الآية بشارة للمسلمين لإختيارهم سبل الهداية وتسلية لهم مما يلاقونه من الكفار والجاحدين والمنافقين للعاقبة التي تنتظرهم، وفيها إعانة على الثبات على الإيمان.
بحث فقهي
لا يقبل من الكفار من غير أهل الكتاب إلا الإسلام وعليه الكتاب والسنة والإجماع، فمن القرآن آيات كثيرة منها قوله تعالى [ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ]( )، ومن السنة نصوص كثيرة منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم”( ).
وأما أهل الكتاب كاليهود والنصارى فيصح بقاؤهم على دينهم اذا تقيدوا بأحكام الذمة، ومنها قبول الجزية أي ان قبول الجزية فرع عقد الذمة ومنها ان لا يقولوا او يفعلوا ما ينافي الأمان مثل إعانة المشركين وقصد حرب المسلمين، وأن لا يؤذوا المسلمين وأن لا يتجاهروا بمحرمات الإسلام فلهم أن يفعلوا ما هو جائز بشرعهم وليس بجائز بشرعنا من غير تجاهر به، وإن تجاهروا به يجزون وفق أحكام الإسلام.
وإذا إنهدمت معابدهم التي كانت لهم قبل العقد جاز لهم إعادتها، وعليه الإجماع.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه كان يوصي أمراء السرايا بالدعوة إلى الإسلام قبل القتال فإن أبوا فإلى الجزية .
وتؤخذ الجزية على الرؤوس ويجوز ان توضع على الأرض او عليهما معاً، ولا تؤخذ من الصبيان والنساء والمجانين لحديث رفع القلم ولإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب، ففي دار الإسلام وفي موضوع الجزية يكون العفو من باب أولى.
ولو شرطت الجزية على الصبيان والنساء بطل الشرط، ولكن إذا بلغ الصبي من أهل الكتاب يؤمر بالإسلام او دفع الجزية ، لإن الجزية تسقط بإسلام الذمي، وليس من مقدار محدد للجزية الشخصية ولكنه موكول إلى ولي الأمر، وعقد الذمة لازم لا يجوز فسخه.
والجزية كالزكاة تتكرر في كل سنة من غير تداخل مع التباين في تعدد وتجدد متعلق الزكاة من الغلات والأنعام والنقدين أو إتحاد موضوع الجزية من الأفراد، فإذا إجتمعت جزية سنتين أو ثلاثة أو أكثر تستوفى جميعها، ولا شفاعة في الجزية لإنها لا توضع عن أحد ما، اما مدة الهدنة فيحددها ولي الأمر، والمشهور أنها لا تزيد على سنة، والإجماع على عدم جواز إطلاقه من غير تقييده بزمن محدد.
وكل من شك في أنه من أهل الكتاب لا يلحق بهم، وهل الصابئون منهم الذين يسمون أنفسهم في هذا الزمان بالصابئين هم نفس الملة في عهد نزول القرآن.
لقد اختلفت الكلمات فهناك من قال بأن الصابئين من اهل الكتاب ونفى جماعة ذلك والملاك على الدليل واقرارهم واقعاً بالتوحيد.
وظاهر الآية الكريمة يدل على ان شطراً من الصابئة أيام التنزيل من اهل التوحيد وانهم ممن شملهم عموم البشارة الا على القول بأن المقصود بالإيمان في الآية الكريمة هو الدخول في ملة الإسلام (واليه ذهب الزمخشري).
ولكن الآية أعم زماناً فهذا التأويل صحيح بالنسبة لمن صاحب أيام الإسلام بينما تشمل الآية أيضاً من لم يدرك الإسلام ومات قبل البعثة النبوية كما يدل عليه ظاهر اسباب النزول، (فقد ورد عن سلمان الفارسي انه قال: “سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكر من صلاتهم وعبادتهم فنزلت [ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا]الآية( ).
والآية في موضوعها أعم من مورد السؤال ولكن فيه دلالة على أن الآية تتعلق بالملل التي كانت سائدة قبل الإسلام.
بحث كلامي
اليوم الآخر هو يوم القيامة إذ يبعث الناس من جديد للحساب ونيل الثواب أو العقاب بحسب أفعالهم في الدنيا التي هي دار تكليف مؤقتة، ولكن الآخرة هي دار القرار والبقاء، وآخرة الإنسان تبدأ من موته وان كان يتخلل بينهما في الواقع عالم البرزخ الذي يمتد حتى يوم النشور.
لقد وعد الله تعالى من آمن وعمل صالحاً بالثواب وحسن المآب، وتوعد أهل المعاصي والذنوب بالعقاب والعذاب، والله عز وجل صادق الوعد يفعل ما يقول، ويفي بوعده ووعيده.
ثم ان التكليف عمل شاق بذاته وبما فيه من الإمتناع عن المعصية وترك الذنوب باعتباره فعلاً وجودياً أيضاً يستحق الثواب وليس بعدمي، وهذا كله يستحق العوض الذي يتمثل بالثواب ، خلافاً لمن خالف المشهور بين المتكلمين كأبي القاسم البلخي وهو من رؤساء المعتزلة الذي قال بأن التكاليف واجبة باعتبار انها شكر لنعمة الخلق والإيجاد، فلا يستحق المكلف على أدائها ثواباً، ولكن خلافه صغروي لإنه أقر أيضاً بالثواب وقال انه تفضل من عند الله تعالى.
ويشترط في إستحقاق الثواب إتيان الواجب لوجوبه، فالفعل العبادي لا يتقوم إلا بالنية، فلو جاء المكلف به بقصد الرياء او اللذة ونحوها فلا مدح ولا ثواب، اذ ان الثواب هو النفع المستحق بالطاعة المقارن للتعظيم والإكرام وهو لا يأتي إبتداءً من دون التكليف كإرادة تكوينية.
والعقاب على فعل القبيح والإخلال بالواجب لأمرين أحدهما عقلي بإعتبار أن العقاب لطف لما في الوعيد به من ردع للمكلف عن الذنوب والإلتفات إلى إتيان الصالحات، والآخر الأدلة السمعية الكثيرة من القرآن والسنة.
وإختلفوا في إتصاف الثواب والعقاب بالدوام هل هو عقلي أو سمعي؟ والحق أنه سمعي وعقلي، أما السمعي فالآيات القرآنية التي تدل على الخلود في الجنة للمؤمنين، والبقاء الدائم للعاصين في النار إلا من يشاء الله مما ورد الدليل به كإنقطاع عذاب أصحاب الكبائر من المسلمين، وأخبار الشفاعة، فضلاً عن الأحاديث النبوية المتواترة في هذا الباب.
وأما العقلي فان قطع الثواب وعدم ديمومته يبعث على الألم لقابله وهو خلاف الوعد والكرم الإلهي، ويسبب إنقطاع العقاب سروراً للعاصي وهو نقيض العقاب، ولأن المدح والذم متصلان بإعتبار أن الآخرة دار حساب وجزاء من غير عمل بعكس الحياة الدنيا التي هي دار عمل من غير حساب، ولأن الثواب والوفاء به لطف وفضل من الله.
ولقد أجمع المليون على وجوب المعاد الجسماني ولا إعتبار لمن نفاه من غيرهم ليس لعدم حجية قوله فحسب، بل لأنه يفتقر إلى الدليل والأدلة العقلية بالإضافة إلى السمعية تثبت وجوبه وإمكانه. إذ ان المعقولات تنقسم في وجودها الخارجي والذهني إلى واجب الوجود لذاته أي من غير نظر إلى غيره، و ممكن الوجود الذي له حصول مستقل في الأعيان يستحيل وجوده إلا بعد ان يوجبه الفاعل. و ممتنع الوجود لذاته كشريك الباري.
اما الأول فهو الله تعالى لا غير، وقيد يكون الوجوب لذاته للإحتراز من الواجب لغيره كالمعلول عند تحقق علته لمطابقة المعلول لعلته في الوجود والعدم وعدم تخلفه عنها. ولأن الواجب لغيره يرتفع بارتفاع غيره، والواجب بالذات دائم لا يتأثر بغيره وليس جزءً من غيره ولا يصدق إلا على واحد.
وأما الثاني فهو ممكن الوجود وهو قابل لصنفي الوجود والعدم وهما متساويان إليه، فهو مفتقر إلى سبب الوجود وتأثير المؤثر وعدمه بسبب فقدان ذلك المؤثر، والممكن هو كل موجود عدا واجب الوجود.
ومن الممكن اليوم الآخر موضوعاً ومحمولاً، وما فيه من إعادة الأجسام بعد تفرق أجزائها وهو أمر جائز بالضرورة وتؤكده الأدلة السمعية الكثيرة، وبه يحصل وفاؤه تعالى بالثواب والعقاب وإيصال العوض إلى المكلفين.
بحث تأريخي
ورد ذكر الصابئين وبصيغة الجمع في ثلاثة مواضع من القرآن( )، جاء ذكرهم مع أهل الكتاب في موضعين منهما، وفي الموضع الثالث ورد ذكر المشركين أيضاً، وفيها جميعاً بيان وتفصيل وتمييز في الجزاء مقيد بالإيمان والعمل الصالح.
فلا غرابة أن يستنتج من الأخبار أنهم على مذاهب متفاوتة عقائدياً بعد الإقرار بأن للعالم صانعاً وخالقاً ولكنهم غالوا في مسألة التقرب إليه بالروحانيات وتوسطها باعتبار عدم مناجاة فاطر السموات والأرض مباشرة، وقيل ان شطراً منهم عبدوا الكواكب والملائكة وتعصبوا لها وإبتعدوا عن الفطرة.
ويقولون إن الله رب الأرباب وإله الآلهة وأن من أنبيائهم عاذيمون وهرمس، وذكر أن عاذيمون هو شيث، وهرمس هو النبي إدريس، والذي يسمى في التوراة إخنوخ، وكان له ابن يسمى صاب، إليه ترجع الصابئة.
ولكنهم لا يقولون بطاعة الأنبياء وبحجة أنهم بشر، أي يقولون انهم بشر مثلنا مادة وأكلاً فلا ميزة تفرض متابعتهم انما التقرب بالروحانيين المقدسين وانهم منزهون من الدنس ويقومون بتوجيه المخلوقات بالإفاضة من الذات الإلهية المقدسة، ويؤثرون في الموجودات السفلية، منها مدبرات الكواكب السبع السيارة في أفلاكها. وقد رد عليهم في مناظرات مدونة على أفضلية النبوة البشرية على الملك الذي هو روحاني محض ، ولا تصل النوبة إلى الأفضلية.
وللصابئة هياكل بنوها على أسماء الجواهر الفعلية الروحانية والكواكب منها هيكل العلة الأولى ودونها هيكل العقل وهيكل السياسة مدورات الشكل، أما هيكل زحل فمسدس، وهيكل المشتري مثلث، وهيكل المريخ مستطيل، وهيكل الشمس مربع.
وللصابئين ثلاث صلوات في اليوم، الأولى عند طلوع الشمس، والثانية عند الظهر وزوال الشمس، والثالثة بعد منتصف الليل، كما أنهم يتطهرون من الجنابة ومس الميت بالغسل، ويحرمون أكل الكلب والخنزير والحمام وما له مخلب من الطير، ولا يختتنون، ونهوا عن شرب الخمر، ولا يتزوج أحدهم أكثر من إمرأة.
والصابئة على فرق كثيرة لذا قيل إن بعضهم أخذ من اليهودية وشريعة موسى عليه السلام، ومنهم من أخذ من النصرانية، ومنهم من أخذ من الإسلام والشرائع الأخرى.
ومن فرق الصابئة :
الأول : الحزبانية : أقروا بالوحدانية وأن الخالق أبدع الأفلاك والأجرام وجعلها ناطقة، ولكنهم قالوا بانه تكثر بهم في رأي العين وانه يظهر بها من غير ان يبطل هذا التعدد وحدته. ومدبرات هذا العالم وهم الآباء والعناصر آلهات والمركبات مواليد، وقالوا ان الشرور والسيئات والأقذار والخنافس والعقارب لم يخلقها الله وانما وقعت ضرورة إتصالات الكواكب نحوسة وإتفاقاً، واما ما كان من سعد وخير فينسب إلى الخالق سبحانه.
الثاني : المندائية : فرقة أخذت أحكامها من اليهودية والمجوسية، وأخذت من النصرانية شجرة التعميد، ومن الإسلام بعض الأحكام.
الثالثة : الحرانية: نسبة إلى صابئة حران ما بين الفرات ودجلة ونعتت بانها فرقة وثنية أخذت من أهل الكتاب بعض أحكامهم ليشملهم ما يعامل المسلمون به أهل الكتاب، وقيل هم الذين ذكروا في القرآن لإنهم عاشوا في دولة الإسلام.
لقد خرج من الصابئة علماء وفلاسفة ومنجمون وأطباء، وإختار جماعات وأفراد منهم الإسلام عند ما رأوا تكامل عقيدته، وفي كتب التأريخ والتراجم أسماء وشواهد كثيرة عليه.


قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ] الآية 63.

الإعراب واللغة
واذ: الواو: إستئنافية إذ: ظرف لما مضى من الزمان في محل نصب مفعول به لفعل محذوف تقديره إذكر، وقيل غير ذلك في إعرابها.
أخذنا: فعل ماض وفاعل، والجملة في محل جر باضافة الظرف إليها، ميثاقكم: مفعول به منصوب، والضمير الكاف: مضاف إليه.
رفعنا: عطف على أخذنا، فوقكم: ظرف مكان منصوب وهو مضاف والضمير الكاف: مضاف إليه.
الطور: مفعول به منصوب، خذوا: فعل أمر مبني على حذف النون.
الواو: فاعل، ما: اسم موصول، مفعول خذوا.
جملة آتيناكم: لا محل لها من الإعراب لأنها صلة ما.
بقوة: جار ومجرور، في محل نصب حال.
واذكروا: عطف على خذوا، ما: اسم موصول مفعول إذكروا،
فيه: جار ومجرور، لعلكم: حرف مشبه بالفعل وإسمها.
تتقون: فعل مضارع، والواو: فاعل، والجملة خبر لعل.
أصل الميثاق: حبل أو قيد يُشد به الأسير وتُربط به الدابة. وفي الإصطلاح هو العهد واليمين والإلتزام والقبول المؤكد.
والطور: الجبل، وقيل هو اسم الجبل الذي كلّم الله عز وجل عليه موسى عليه السلام في الأرض المقدسة، ويمكن الإستدلال عليه بأن الألف واللام فيه للعهد.
والقوة: القدرة والطاقة، والأخذ: القبض والإستلام، ونيل المقصود وهو ضد الإعطاء.
والطور له معان:
الأول: الجبل، فكل جبل يسمى طوراً، قال تعالى [وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ]( )، قال ابن منظور: طور سينا: جبل بالشام وهو بالسريانية طورى، والنسبة إليه طوري، وطوراني، قال ذي الرمة : أعاريب طوريون، عن كل قرية حذار المنايا أو حذار المقادر( ).
وطوريون أي جبليون ينفرون من السكن في القرى خشية الوباء والفتن والتلف.
الثاني: هو جبل مخصوص، وهو الذي بمدين، ومنه كلم الله تعالى موسى عليه السلام، قال تعالى[وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ]( ).
الثالث: قال ابن عباس: أمر تعالى جبلاً من جبال فلسطين فإنقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظلة، وكان المعسكر فرسخاً في فرسخ فأوحى الله إليهم أن إقبلوا التوراة وإلا رميت الجبل عليكم فلما رأوا أن لا مهرب قبلوا التوراة بما فيها وسجدوا للفزع سجوداً يلاحظون الجبل فلذلك سجدت اليهود على أنصاف وجوههم( ).
الرابع: ورد عن ابن عباس ان الطور اسم جبل بعينه ناجى الله عليه موسى عليه( ).
الخامس: الطور: الجبل: قال ابن منظور: الطُّورُ في كلام العرب الجَبلُ)( ).
قال العجاج: داني جناحيه من الطور فمر
تقضي البازي إذا البازي كسر( )
السادس: الطور الجبل الذي أنزلت عليه التوراة ، وكان بنو إسرائيل أسفل منه، أخرجه ابن جرير عن ابن عباس) ( ).
السابع: الطور: ما أنبتت من الجبال، وما لم ينبت فليس بطور.
الثامن: الطور: الجبل بالسريانية وقالوا: ليس في الدنيا لغة إلا وهي في القرآن) ( )،ولا دليل عليه، وقد جاء في التنزيل في وصف القرآن[بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ] وعلى فرض وجود بعض الكلمات الأعجمية فيه فهي تكون معربة من وجوه:
الأول: إستعمال العرب لها.
الثاني: نزولها في القرآن.
الثالث: التوافق بين اللغات.
الرابع: الأصل في تلك الكلمات أنها عربية وأخذتها بعض الألسنة والأمم.
وقيل هذا الجبل بمدين , وفي التنزيل[وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ]( ).
التاسع: النبط يسمون الجبل الطور، عن الضحاك( ).
إذ لا تعارض بين إطلاق لفظ الطور على كل جبل، ووردوه بخصوص جبل معين ذكر في القرآن ليخلد حدثاً عظيماً.
فقد يطلق اسم الجنس على فرد معين منه لاسيما إذا كان هذا الفرد وحده في موضعه وبلده بحيث يكون إطلاق الاسم عليه للعهد والتعيين، فكان الجبل الذي صعد عليه موسى لتلقي التوراة معلوماً عند بني إسرائيل ليس هناك جبال قريبة منه.
ولابد من ملازمة بين كلام الله تعالى لموسى على ذات الجبل وبين نتقه من الأرض ورفعه على بني إسرائيل فجعله الله تعالى آلة لتثبيت العمل بالتوراة، وحجة على بني إسرائيل إلى يوم القيامة.
في سياق الآيات
لقد رجعت هذه الآية إلى صيغة المخاطَب وهم بنو إسرائيل , فبعد الإخبار عن خصال أصحاب الأمن والسلامة يوم القيامة من أهل التوحيد، عادت هــذه الآية إلى تذكير بني إسرائيل بالنعم العظيمة التي خصهم الله عز وجل بها، وكل نعمة معجزة قائمة بذاتها، وصرح في التحدي مبين في القرآن.
ليكون المن الإلهي اللطف بالتذكير بالنعم الخاصة بما ينفع الناس جميعاً وفي التنزيل[وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ]( )، ويتجلى المن الإلهي في هذه الآيات من وجوه:
الأول: التوثيق السماوي لنعم الله عز وجل على بني إسرائيل.
الثاني: زجر الناس عن حسد المسلمين، وإثارة أسباب الشك والريب، قال تعالى[أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
الثالث: بيان مسألة كلامية وهي أن الـمنّ الإلهي رحمة بالناس ومن أسمائه تعالى(المنان).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان محتاجاً، وتفضل وجعل الـمنّ منه تعالى بما ينفع الإنسان في حاجاته لأمور الدين والدنيا، أما المنّ من العبد فهو قبيح، ومخالف للصلاح المحض الذي ذكرته هذه الآية وقيدته بالإيمان بقوله تعالى[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا]( ).
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: “لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلا عَاقٌّ، وَلا مَنَّانٌ , قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ، لأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُصِيبُونَ ذُنُوبًا حَتَّى وَجَدْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي الْمَنَّانِ ” لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى( ).
ومضامين الآية تذكير بنعمة إخرى على بني إسرائيل، ومن علماء التفسير من جعله الإنعام العاشر لأن أخذ الميثاق نعمة ولطف وحث على الطاعات، والنعم الواردة في الآيات أكثر من أن تحصى لأنها من الأمور التوليدية التي تتفرع عنها نِعم كثيرة سواء في منطوق الآية أو مفهومها.
وإذ جاءت الآيات السابقة بالأمر بالوفاء بعهد الله [َوأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ] جاءت هذه الآية لبيان وتثبيت العهد والميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل والإخبار عنه، والتذكير به ولزوم تعاهده والتقيد بأحكامه.
وإذ ذكرت الآية السابقة أهل التوحيد الذين ينالون الأجر والثواب في الآخرة، ويفوزون بالنعيم الدائم.
جاءت هذه الآية لتخص منهم بني لإسرائيل , وتذكرهم بالميثاق والعهد ولزوم إستحضاره في القول والفعل بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله.
وذكرت الآية الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل مع لغة الوعيد والتخويف برفع الطور وأخبرت الآية التالية عن تولي وإعراض بني إسرائيل لولا أن تتغشاهم رحمة الله، وهو من فضل الله تعالى على بني إسرائيل ومصاديق تفضيلهم على الناس، ليكونوا الأمة التي تحافظ على التوحيد في زمانهم، والتي تنتظر بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإتباعه ونصرته.
إعجاز الآية
تبين الآية فضل الله تعالى في قهر بني إسرائيل على الإيمان، والظاهر أنها حقبة من الزمان إحتاج فيها حفظ راية التوحيد إلى صيغ القهر على العمل بسنن الإيمان في أمة من الموحدين كمقدمة تأريخية وزمانية طولية للإسلام وظهور دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتدل على عدم الأهلية عند الآخرين لحفظ مبادئ التوحيد والشرائع السماوية في الأرض لأن المطلوب هو إختيار الإيمان والتسليم للربوبية وأحكام النبوة طواعية.
لقد جاءت الآية في بيان وذكر النعم التي خص الله بها بني إسرائيل وهي على وجوه:
الأول: تفضل الله تعالى بأخذ الميثاق على بني إسرائيل، وفيه رحمة وعون لهم من وجوه:
الأول: التفقه في الدين.
الثاني: معرفة أحكام الحلال والحرام. والأوامر والنواهي.
الثالث: إكرام بني إسرائيل بأن خصهم الله تعالى بالميثاق.
الرابع: إن الله تعالى هو الذي أخذ الميثاق من بني إسرائيل , وفيه مسائل:
الأولى: إن الله أخذ الميثاق بواسطة موسى عليه السلام.
الثانية: أخذ الله تعالى الميثاق من بني إسرائيل بنزول التوراة وما فيها من الأحكام.
الثالثة: أخذ الله الميثاق من بني إسرائيل مباشرة من غير واسطة نبي .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية إذ ان النبي يتكلم بالوحي، والتوراة كتاب نازل من عند الله، وجاءت بعض النصوص بأن الله رفع الطور عليهم ليأخذوا بالميثاق فأخذوه.
الثاني: نعمة رفع الطور، وفيها رحمة وعون لبني إسرائيل من وجوه:
الأول: بيان عظيم قدرة الله.
الثاني: رؤية بني إسرائيل لآية حسية تدل على صدق نزول التوراة من عند الله تعالى.
الثالث: تحقيق الغاية التي من أجلها رفع الله عز وجل الطور، وهي عمل وتقيد بني إسرائيل بالتوراة وأحكامها , قال تعالى [خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ]( ).
الرابع : إن الله تعالى منزه عن العبث، ويدل رفع الجبل من مكانه على شأن وموضوعية الميثاق ولزوم عمل بني إسرائيل بأحكامه.
الخامس: بيان أهلية المسلمين للتفضيل على الأمم الأخرى، لأنه لم يرفع الله عليهم الطور ولم ينذرهم بآية حسية حاضرة، ومع هذا فإنهم يتقيدون بأحكام القرآن , وما فيها من مسائل الحلال والحرام من غير إنذار بآية حسية كرفع الطور.
السادس : جاءت الآية للتذكير بآية حسية رزقها الله تعالى موسى عليه السلام وبني إسرائيل، فمع أن رفع الطور جاء للإنذار والدلالة على قرب العذاب من أهل الجحود والمعصية، فانها آية حسية حاضرة تجذب بني إسرائيل قهراً لعبادة الله والتقيد بأحكام الشريعة.
السابع: إن مضامين التخويف والوعيد في رفع الطور مستمرة في بني إسرائيل ولا تنحصر بأوانها، ويدل على إستمرارها صيغة الخطاب في الآية، وإرادة الموجود من بني إسرائيل أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن، ولكن آية رفع الطور ذاتها لم تتكرر، بل يتكرر أثرها وتلك آية إعجازية في الإرادة التكوينية .
فهذه الآية إنذار متصل لبني إسرائيل في كل زمان بان يتقيدوا بالميثاق ويعملوا بأحكامه ومنها التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء موسى عليه السلام والتوراة بالبشارة به، ومن يتخلف منهم عن نصرته يلقى ذات الأثر الذي يسببه رفع الطور، فلا غرابة ان يعرض نفر من كبراء اليهود الذين حاربوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على السيف، لأنهم لم يؤمنوا به، ولم يرضوا بدفع الجزية، بل أصروا على محاربته وتحريض الكفار عليه، مع رؤية الآيات تترى على يديه , قال تعالى [أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ]( ).
الثامن: دعوة بني إسرائيل للإيمان بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات، وهو الذي جاءت به الآية السابقة إلا أن بني إسرائيل خصوا بنعمة عظيمة وهي رفع الطور عليهم ورؤيتهم آية كونية خلاف نواميس الطبيعة، لتكون حثاً لهم على تعاهد الإيمان إلى يوم الدين.
التاسع: شمول عموم بني إسرائيل بنعمة رفع الطور بدلالة صيغة الجمع [وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ] وهذا العموم يطرد الشك والوهم والتردد، لأن الجميع رأوا الآية العظيمة.
العاشر: لم تأتِ الآية برفع شطر أو جزء من الطور، بل أخبرت عن رفعه كاملاً، وفيه تمام الحجة وشدة الإنذار.
الثالث: توجه الأمر الإلهي لبني إسرائيل بأخذ ما آتاهم الله، وهي نعمة مستقلة، وفيها مسائل:
الأولى: توكيد سماوي لنزول التوراة على موسى عليه السلام.
الثانية: التذكير بنعمة التوراة وما فيها من أحكام الحلال والحرام، قال تعالى[وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ]( ).
الثالثة: الإخبار بأن ما جاء به موسى عليه السلام هو من عند الله تعالى.
الرابعة: إكرام بني إسرائيل ببيان منزلتهم وموضوعيتهم في عالم التنزيل، فلم تقل الآية “خذوا ما آتينا موسى” بل ورد قوله تعالى[خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
وهل ينحصر موضوع الآية بالتوراة أم هو أعم، الجواب هو الثاني، ومنه الميثاق والأمر بالتقوى والنهي عن الفساد، والتدبر في الآيات، وتعاهد السجود والخشوع لله عز وجل.
الخامسة: تفضل الله تعالى على بني إسرائيل بأخذ الكتاب نعمة منه تعالى، لصيغة الخطاب المباشر ومن غير واسطة ولأن الأمر بأخذ ما آتاهم الله توكيد للتنزيل ورحمة وإعانة لبني إسرائيل، ولطف إلهي بتقريبهم إلى الطاعة وجذبهم إلى منازلها.
الرابع: تقييد أخذ الكتاب بقوة، وفيه وجوه:

الأول: موضوعية ما آتى الله بني إسرائيل ونفعه لهم في دنياهم وآخرتهم.
الثاني: ضرورة عدم التفريط بأحكام التنزيل.
الثالث: بيان الوظائف العقائدية لبني إسرائيل في تعاهد التوراة وأحكام الحلال والحرام.
الرابع: أخذ الأحكام والمواثيق بقوة من مصاديق التفضيل.
وقد فاز به المسلمون إذ تعاهدوا التنزيل بالحرص على سلامته من التحريف، وبالعمل بأحكامه إلى يوم القيامة.
الخامس: حث بني إسرائيل على المواظبة على طاعة الله، وإجتناب الجحود والمعصية.
السادس: من معاني الأخذ بقوة إشتراك بني إسرائيل في العمل بالتنزيل وعدم الفرقة والإختلاف فيه، لأن الإختلاف ضعف ووهن , قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ]( ).
السابع: أخذ الكتاب بقوة خطاب إلهي موجه إلى بني إسرائيل على نحو العموم الإستغراقي، لا يستثنى منه أحد، فهو عام لهم مع تباين مداركهم.
الثامن: في الآية دعوة لبني إسرائيل إلى إستحضار البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت بها التوراة وعدم طمسها أو تحريفها.
التاسع: تعيين ما آتاهم الله بلحاظ ضمير التذكير “الهاء” في قوله تعالى [وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ] أي إذكروا الذي آتيناكم، فيكون المطلوب من بني إسرائيل في الآية على وجوه:
الأول: الإخبار عن أخذ الله الميثاق من بني إسرائيل، ويتضمن هذا الإخبار الإنشاء بالأمر لعموم بني إسرائيل بالتقيد بأحكام وسنن الميثاق.
الثاني: رفع الطور فوق بني إسرائيل تخويفاً وإنذاراً لكي يفعلوا ما آمرهم الله تعالى على نحو الدوام وعدم التفريط بالعبادات.
الثالث: الأمر الإلهي لبني إسرائيل بأخذ ما آتاهم الله.
الرابع: ان يكون الأخذ بقوة وعزيمة وثبات وإدراك بعيداً عن الغفلة والجهالة والتسويف والتفريط.
الخامس: ذكر الأحكام التي آتاهم الله تعالى.
السادس: السعي للتقوى، وإرتداء لباسها، والتحلي بأخلاق الصالحين والإقتداء بالأنبياء والمرسلين.
وتبين هذه الآية تعدد أفراد الفضل الإلهي على بني إسرائيل، والنعم التوليدية التي تضمنتها هذه الآية الكريمة.
السابع: النعمة الإلهية بأخذ الكتاب بقوة، وفيه مسائل:
الأولى: الآية حجة على بني إسرائيل في قدرتهم على تلقي الآيات بقبول ورضا.
الثانية: بيان أهلية بني إسرائيل لأخذ الكتاب بقوة، وتحمل مسؤوليات حمل الكتاب والعمل بأحكامه.
الثالثة: الإخبار السماوي عن تبليغ الرسالة لبني إسرائيل بما يكفي لهدايتهم وإقامتهم أحكام الشريعة في الأرض، وتعاهد البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة: حث بني إسرائيل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن مصاديقه دعوة بعضهم بعضاً إلى أخذ الكتاب بقوة.
الخامسة: يفيد التقييد بأخذ بني إسرائيل ما آتاهم الله بقوة التوكيد والإرشاد والتأديب.
السادسة: جاءت الآية بصيغة الإطلاق بالاسم الموصول “ما” أي الذي آتيناكم، وفيه نكتة تتعلق بتعدد مصاديقه ليشمل كلاً من:
الأول: التوراة وما فيها من الأحكام والبشارات.
الثاني: سنة موسى عليه السلام وعبادته ونسكه.
الثالث: الأمر الإلهي لبني إسرائيل بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: الآيات والمعجزات الحسية التي تتضمن الإنذار والوعد والوعيد.
السابعة: يدل هذا القيد على تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم، وقد ورد في الخطاب إلى نبي الله يحيى بأخذ الكتاب بقوة قال تعالى [يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ] ( ).
فإشتراك بني إسرائيل عامة مع خصوص النهي في أخذ ما آتاهم الله بقوة نعمة على بني إسرائيل وبيان علو منزلتهم، ورفعة شأنهم، وتملي عليهم وظائف عقائدية إضافية، تتجلى بالإيمان والعمل الصالح وتلقي نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمبادرة إلى التسليم بها وبما صاحبها من الآيات والمعجزات الباهرات.
الثامنة: من مصاديق أخذ ما آتاهم الله تعالى بقوة التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بغض النظر عن كونه من غير اليهود وعدم جعل قيد لإيمانهم برسالته مثل شرط إلا يكون الملك الذي ينزل عليه بالوحي هو جبرئيل، أو النفرة من نبوته لأنه ليس من بني إسرائيل قال تعالى[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ]( ).
التاسعة: نعمة العلة والغائية في فضل الله تعالى على بني إسرائيل بأخذ الميثاق عليهم ورفع الطور فوقهم، والأمر بأخذهم الكتاب بقوة بأن يتقوا الله، ويتحلوا بالصلاح وفيه مسائل:
الأولى: بيان غنى الله تعالى المطلق وعدم حاجته لأحد.
الثانية: توكيد قانون ثابت وهو أن النعم الإلهية على بني إسرائيل خير محض، وجاءت لنفعهم وصلاحهم.
الثالثة: حاجة بني إسرائيل للنعم الإلهية وعدم إمكان إستغنائهم عنها.
الرابعة: التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق التقوى في أفراد الزمان الطولية على وجوه:
الأول: تلقي الكتاب وما في التوراة من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق المحض.
الثاني: تصديق موسى عليه السلام بما جاء به من الأخبار والبشارات عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: إجتناب تحريف البشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: التسليم والتصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان جاءت بعثته من خارج بني إسرائيل.
ويمكن تسمية الآية بآية (ورفعنا فوقكم الطور) ولم يرد هذا اللفظ إلا مرتين في القرآن وفي سورة البقرة( ).
الآية سلاح
الآية حجة على بني إسرائيل وغيرهم فهم مطالبون بالميثاق والإلتزام بالتوراة التي تتضمن البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيها دعوة للمسلمين لتعاهد أحكام الشريعة والإلتزام بمواثيق الشهادتين وما جاء به القرآن فكل آية من آيات القرآن ميثاق سماوي تعهد المسلمون بالعمل بها والتقيد بأحكامه لتنفتح لهم أبواب الجنان وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
جاءت الآية خطاباً لبني إسرائيل، وتذكيراً بما فعل آباؤهم لتتضمن لغة الإنذار بواقعة الطور التي حدثت في أيام موسى عليه السلام عند ماجاء لهم (بالألواح فيها التوارة قال لهم : خذوها والتزموها فقالوا : لا ! إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك فصعقوا ثم أحيوا , فقال لهم : خذوها فقالوا لا فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله وكذلك كان عسكرهم فجعل عليهم مثل الظلة وأتوا ببحر من خلفهم ونار من قبل وجوهم , وقيل لهم : خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها وإلا سقط عليكم الجبل فسجدوا توبة لله وأخذوا التوارة بالميثاق) ( ).
وجاء التذكير بآية الطور في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن عليه لبعث بني إسرائيل بالتصديق بالمعجزات التي جاء بها من عند الله عز وجل، فان قلت ليس في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية رفع جبل الطور , والجواب من وجوه:
الأول: لقد جاء موسى لبني إسرائيل بالتوراة وأمرهم بالعمل بأحكامها (فأبوا أن يقبلوها ويعملوا بما فيها للأضرار والأثقال التي فيها، وكانت شريعته ثقيلة فأمر الله تعالى جبرئيل أن يضع جبلاً على قدر عسكره وكان فرسخاً في فرسخ ورفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة الرّجل) ( ).
أما أمة محمد فانها عملت بأحكام القرآن، فحالما تنزل الآية يبادر المسلمون للعمل بأحكامها ومضامينها القدسية.
الثاني: لم يأت رفع الطور إلا بعد التخلف عن العمل بمضامينها تقصيرا ليكون رفع الطور رحمة بهم، وحثاً على العمل بأحكام الإسلام.
الثالث: بيان شرف ومنزلة جبل الطور وما فيه من الآيات، وعن الإمام علي عليه السلام: قال سمعت رسول الله يقول يا علي سيد البشر آدم و سيد العرب محمد و لا فخر و سيد الفرس سلمان و سيد الروم صهيب و سيد الحبشة بلال و سيد الجبال الطور و سيد الشجر السدر و سيد الشهور الأشهر الحرم و سيد الأيام يوم الجمعة و سيد الكلام القرآن و سيد القرآن البقرة و سيد البقرة آية الكرسي يا علي إن فيها لخمسين كلمة في كل كلمة خمسون بركة ( ).
الرابع:في رفع الطور مقدمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى :مافي التوراة من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : فيه آية حسية لنبوة موسى عليه السلام ودعوته لإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(لو كان موسى حياً ما وسعه إلاّ اتباعي)( ).
الثالثة : مجئ هذه الآية بالتذكير برفع الميثاق لتأكيد الصلة بين نبوة موسى ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة :جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات العقلية والحسية، إلى جانب النصر العظيم له وللمؤمنين في معركة بدر بمرأى ومسمع من يهود المدينة قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
والله عز وجل واسع كريم فهو الذي إقتلع جبل الطور من موضعه وأنزل الملائكة لنصرة النبي وإعانة المسلمين مع التباين في ماهية الآية، فالجبل صار كالظلة المطلة على بني إسرائيل تهديداً وإنذاراً وكان طوله فرسخ في فرسخ .
أما الملائكة فنزلوا مدداً للمؤمنين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أظهروا الإخلاص في الإيمان وصدق السريرة وحسن التوكل على الله، وإستعدوا لملاقاة جيوش قريش بخيلها وخيلائها والمائز الكبير في العدة والعدد، فمثلاً عند قريش مائتا فرس، وليس عند المسلمين إلا فرسين.
وجاءت آية الطور لتكون سلاحاً للمسلمين، فصحيح أن الخطاب فيها موجه لبني إسرائيل إلا أن مضامينها ودلالات الخطاب أعم، وكما أن الآية تنزل في واقعة وحادثة إلا أن موضوعها أعم وحكمها باق إلى يوم القيامة لأن المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول، فكذا بالنسبة لخطابات القرآن إذ تبين في هذا الجزء حقيقة علمية وهي:
يرد الخطاب القرآني إلى جهة أو أهل ملة ولكن المقاصد منه تشمل الناس جميعاً، كل أمة وجماعة تنتفع منه بماهية مخصوصة، مع تجدد وجوه النفع منه، بما فيها الخطابات القرآنية الموجهة إلى المسلمين مثل قوله تعالى[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( )، ففيه بلحاظ المقام مسائل:
الأولى: إنه بيان للأمم بأن المسلمين إمتثلوا للتكاليف ولم ينزل لهم تخويف وإنذار عام للعمل بأحكام الآية.
الثانية: إكرام المسلمين بخطاب التشريف يا أيها الذي آمنوا ترغيب الناس بالإسلام.
الثالثة: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من المسلمين لأنهم منصورون بمدد وعون من الله عز وجل.
الرابعة: إقامة الحجة على الأمم السابقة بأن الصيام كان مفروضاً عليهم لأن معنى كتب فرض، قال ابن منظور: وكَتَبْنا عليهم فيها أَي فَرَضْنا( ).
الخامسة: آية الطور إنذار في أيام موسى عليه السلام وإنذار في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم تمر الأيام والليالي إذ عرض الذين كادوا للإسلام وحاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من يهود المدينة للسيف، ليكون رفع الطور على بني إسرائيل تحذيراً متقدماً ونزول آية البحث تحذيراً حالاً من واقعة بني قريظة بعد أن نزلوا مكرهين على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحكم فيهم سعد بن معاذ الذي قال: فَإِنّي أَحُكْمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ الرّجَالُ وَتُقَسّمُ الْأَمْوَالُ وَتُسْبَى الذّرَارِيّ وَالنّسَاءُ( ).
وذكر كتاب السيرة أن عدد الذين قتلوا سبعمائة أو أكثر، ولكنهم ذكروا أن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم حبسهم في المدينة في دار بنت الحارث( )، وتتصف دور المدينة آنذاك بقلة المساحة وصغرها لأنها مبنية على الحاجة مع قلة المتاع والأثاث آنذاك فكيف تستوعب تلك الدار سبعمائة أو تسعمائة , كما عفا النبي عن جماعة منهم ووهب أفرادا منهم وعوائلهم وأموالهم لمن سأله من المسلمين .
قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار ابنة الحارث امرأة من بني النَّجار، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة، التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالا وفيهم عدوّ الله حُيَيّ بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستّ مئة أو سبعمائة، والمكثر منهم يقول: كانوا من الثمانمائة إلى التسعمائة( ).
مفهوم الآية
من مفاهيم الآية أنها إنذار ووعيد وتخويف وتذكير بلزوم أخذ الحيطة والحذر بالرجوع إلى الإيمان وعدم التفريط بميراث النبوة وودائع الرسالة، وتشير الآية إلى منافع الإعتبار والتذكير بالوقائع التأريخية وانه وسيلة وعون على بلوغ مراتب التقوى.
وفي الآية مسائل:
الأولى: إن الله عز وجل هو الذي أخذ الميثاق عليهم، وفيه توكيد على موضوعية الميثاق ولزوم تعاهده وأنه شرف عظيم، ومادة تفضيل بين الناس، أي من خصائص التفضيل التكليف والميثاق ولكنهم لم يعملوا به، فالتفضيل حجة لله على العباد، وليس حجة للناس بعضهم على بعض إلا بتعاهد مضامينه.
الثانية: نسبة الميثاق إلى المخاطب تعني ثبوته والإقرار به من قبل بني إسرائيل.
الثالثة: تفضل الله تعالى بآية تهديد وتخويف حسية ظاهرة للعيان مقرونة بالأمر الإلهي بلزوم التقيد التام بما جاء به موسى عليه السلام، والإخلاص في عبادته تعالى وشكره والإنقياد إلى الأنبياء.
الرابعة: الإمتثال لأحكام الشريعة سبيل التقوى والصلاح.
الخامسة: تذكير بني إسرائيل بنعمة الميثاق.
السادسة: دلالة الآية على العهد الذي أعطاه بنو إسرائيل لله تعالى.
السابعة: جاءت الآية للإحتجاج على بني إسرائيل في لزوم حفظ العهود والمواثيق.
الثامنة: إقتران العهد بالتخويف والوعيد لتوكيد الأخذ بالميثاق والتقيد بأحكامه.
التاسعة: الأخذ بالميثاق، والتقيد بأحكام العهود وسيلة وسبب للتقوى والصلاح، والتذكير به من عمومات قوله تعالى في أول سورة البقرة[الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الآية لطف
تبين الآية العناية الإلهية ببني إسرائيل التي تتجلى بأخذ الميثاق عليهم ليكون عوناً لهم للثبات على الإيمان والخشية من الله وإجتناب الذنوب والمعاصي التي نهى عنها.
لقد أراد الله عزوجل لبني إسرائيل ان يكونوا أمة تتعاهد الإيمان، وتصلح ذاتها وتدعو إلى الصلاح، وإتباع الأنبياء ونصرتهم والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن الذي أنزل عليه، ولكنهم بدّلوا وحرفوا البشارات والعلامات التي تدل على نبوته فجاءت هذه الآية لتذكيرهم بالميثاق، ودعوتهم بلطف ورأفة للإسلام والإقرار بالآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله وإجتناب الإصرار على التحريف والكفر.
وتبين الآية فضل الله عزوجل على بني إسرائيل برفع الجبل وتخويفهم به من أجل التقيد بسنن النبوة، وفيها دلالة على تفضيل المسلمين لأنهم صدقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتبعوه من غير أن يرفع الله عليهم الطور تخويفاً.
ومن المسلمين من كان يهودياً وهو من بني إسرائيل فهل يشمله الخطاب والذم في هذه الآية , الجواب لا، لأنه عمل بالميثاق، وصدّق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونبوته , وفي الآية لطف وثناء عليه، وهو حجة على غيره من بني إسرائيل ممن تخلف عن الأخذ بالميثاق ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد أنعم الله عزوجل على الناس بالمواثيق والعهود وأسباب التخويف والتحذير من تركها او الإعراض عنها، لتصبح مادة ووسيلة للصلاح والتقوى مع عدم حاجة الله تعالى للناس وعباداتهم، ولكنهم الذين يحتاجون العبادة والتقوى , قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ]( ).
إفاضات الآية
تبعث الآية في النفوس العزم على تعاهد الأحكام الشرعية ومراجعة العهود التي قطعها الإنسان للباري عز وجل، وهذه العهود تارة تكون شخصية وأخرى نوعية، والنوعية تنقسم بحسب اللحاظ ومضمون الميثاق في الآية نوعي وخاص ببني إسرائيل إلا أن المراد منه الناس جميعاً لوحدة الموضوع في تنقيح المناط وإشتراك بني آدم رجالاً ونساء بمواثيق العبادة، وتتجلى في الآية بركات الإيمان وأنه مصداق التقيد بالميثاق وأحكامه وتعاهده في الأرض بحفظ كلمة التوحيد.
لقد نفخ الله عز وجل من روحه في آدم عليه السلام ليكون صلة متصلة بين الله وعباده تتجلى بطاعتهم لهم وأدائهم لوظائف العبادة، ويكون الميثاق مصداقاً وشاهداً على موضوعية هذا النفخ المبارك المتجددة في ذرية آدم ويتضح بما يدل على أن النفخ مادة حياة آدم وأن روح الإنسان رشحة من رشحات النفخ.
لقد أخذ الله الميثاق على الناس وهم في عالم الذر قبل الأجساد، قال تعالى[وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى]( )، ليكون الميثاق على قسمين:
الأول: علم الناس جميعاً بالميثاق.
الثاني: إنه خاص بحسب الدليل، ومنه الميثاق على بني إسرائيل مع بيان موضوعه في آيات أخرى، وهل يدل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: كنت نبياً بين الماء والطين) ( ) وبشارة موسى به على كون نبوته جزء من الميثاق الجواب نعم وبنعبوته يتقوم ويستديم العمل بالميثاق.
وتضمنت هذه الآية توثيق الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل، وهل فيه تعطيلهم الأعمال يوم السبت وعدم الإعتداء فيه، أم أنه أمر مستقل عن الميثاق، الأرجح هو الأول ، ومن الميثاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما فيه من لغة الإنذار والوعيد وهو من مصاديق التقوى والخشية من الله التي تدل عليها خاتمة الآية (لعلكم تتقون).
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت الآية الكريمة بذكر نعمة عظيمة تفضل بها الله عز وجل على بني إسرائيل، ومع إتحاد موضوع هذه النعمة فإنها مركبة ومتعددة من وجوه:
الأول: توجه الأمر الإلهي إلى بني إسرائيل، فمن التشريف والإكرام أن يتوجه الأمر الإلهي إلى أمة مخصوصة، مما يوجب عليها تلقيه بالقبول والإمتثال.
مجئ الآية بصيغة الجمع، وتحتمل وجوهاً:
الأول: أخذ الميثاق على أنبياء بني إسرائيل دون العامة منهم.
الثاني: إنحصار الميثاق بالأنبياء والصالحين من بني إسرائيل.
الثالث: المراد من جهة الخطاب الذين إستحقوا اللوم والذم من بني إسرائيل ممن لم يتقيد باحكام الميثاق.
الرابع: إرادة عموم بني إسرائيل.
والصحيح هو الأخير لأصالة العموم، وظاهر صيغة الخطاب في الآية الكريمة، وأنها إنحلالية، تشمل كل فرد من بني إسرائيل ويكون تقدير صيغة المفرد منها: وإذ أخذنا ميثاقك ورفعنا فوقك الطور.
فلا ينحصر موضوع الآية بفريق منهم دون فريق آخر، بل جاء الميثاق عاماً شاملاًَ وكذا رفع الطور فوقهم، وفي العموم نكتة عقائدية وهي تجلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بينهم في أبهى معانيه، وتعدد الآيات المصاحبة للميثاق ودنو الخطر والعذاب منهم جميعاً برفع الطور فوقهم.
ولم تذكر الآية بني إسرائيل بالاسم والتعيين مع أنها جاءت بصيغة الخطاب التي تصرف مع الإطلاق إلى المسلمين بمعنى أنه إذا وردت لغة الخطاب في القرآن من غير قرينة صارفة فإن المخاطبين فيها هم المسلمون، ولكن القرينة الصارفة موجودة في الآية من وجوه:
الأول: سياق الآيات ومجيؤها في خطاب بني إسرائيل، وبيان النعم العظيمة التي تفضل الله عز وجل بها عليهم.
الثاني: التفسير الذاتي للقرآن، وورود آيات قرآنية أخرى تدل على المراد وأن المقصود هم بنو إسرائيل.
الثالث: ذكر قصة الطور ورفعه، وهو آية خاصة ببني إسرائيل، وقد ذكر الطور في القرآن في بني إسرائيل وأخذ الميثاق عليهم.
وجاء في الآية أمران وأمران: أما الأمران الأولان بمعنى الخبر والجمع أمور فهما:
الأول: إخبار الآية عن أخذ الله تعالى الميثاق على بني إسرائيل، والذي إبتدأت به الآية.
الثاني: بيان غاية ما في الآية وهي هداية بني إسرائيل وإختيارهم سبل التقوى والخشية من الله.
وأما الأمران والجمع أوامر بمعنى الطلب وبعث المخاطب على الفعل فهما:
الأول: الأمر لبني إسرائيل بأخذ ما آتاهم الله بقوة، وعدم التفريط بما في التوراة من الأحكام.
الثاني: وجوب التقيد بأحكام الحلال والحرام الواردة في التوراة، وتعاهد ما فيها من البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
وفي الأوامر الواردة في الآية تفضيل لبني إسرائيل من وجوه:
الأول: تلقي الأوامر من عند الله تعالى.
الثاني: مجئ هذه الأوامر في كتاب نازل من السماء.
الثالث: تبليغ الأوامر بواسطة رسول نبي وهو موسى عليه السلام.
وقد فاز المسلمون بهذا التفضيل أيضاً مع رحمة ونعمة إضافية من عند الله تعالى من وجوه:
الأول: جاءت أحكام الشريعة متكاملة في القرآن.
الثاني: نزل القرآن على خاتم النبيين وسيد المرسلين.
الثالث: تفضل الله تعالى بحفظ القرآن من التحريف والتغيير.
الرابع: جعل الله تعالى المسلمين أفضل وأحسن الأمم , قال تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ومن خصائص المسلمين تعاهد الأمر بالمعروف.
وهل الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل قولي أم فعلي، الجواب هو الأول فهو عهد ووعد أعلنه بنو إسرائيل عامة من غير حصر بالكبراء منهم.
وتدل الآية على وقوع الميثاق وإعطاء بني إسرائيل العهد لله تعالى ولم تذكر الآية موضوع الميثاق مما يدل على علم بني إسرائيل به، وجاءت الآية خطاباً للموجود من بني إسرائيل أيام البعثة النبوية المباركة , وفيه إشارة لإرادة الأجيال المتعاقبة من بني إسرائيل , وفيه أمور:
الأول: تنجز وإتمام الميثاق.
الثاني: رضا وقبول بني إسرائيل بالميثاق.
الثالث: الميثاق تشريف وإكرام لبني إسرائيل، وجاءت هذه الآية لبيان حقيقة، وهي تشريف الأجيال المتعاقبة لبني إسرائيل بالميثاق، ولزوم تقيدهم بأحكامه.
الرابع: الآية دعوة لليهود لإستحضار الميثاق ومضامينه، والإجتهاد في الإمتثال لأحكامه وسننه.
الخامس: في الآية حجة وشاهد صدق عل نزول القرآن من الله عز وجل، ولا ينحصر موضوع الحجة في الآية ببني إسرائيل من وجوه:
الأول: إنه حجة للمسلمين، وشاهد على قيامهم بالتبليغ.
الثاني: حث المسلمين على حفظ المواثيق والعهود الإلهية، فإن فرطت بها الأمم السابقة، فإن المسلمين لا يفرطون بها.
الثالث: تذكير بني إسرائيل بالبشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة، وهي من مصاديق الميثاق.
الرابع: دعوة الناس للتفقه في أحكام العبودية لله تعالى، فمن مصاديق الميثاق ما هو عام وشامل للناس جميعاً، كما في الميثاق الذي أخذه الله على الناس في عالم الذر.
الخامس: بين الناس وبني إسرائيل في موضوع الميثاق عموم وخصوص مطلق، إذ يشتركون مع الناس في المواثيق العامة، كما في ميثاق عالم الذر، وينفردون بالميثاق الخاص بهم، والتكليف بلزوم تعاهده والتقيد بأحكامه، ومجئ الآية بتفاصيل أخذ الميثاق عليهم ورفع الطور والذي يدل على إختصاصهم بهذا الميثاق وترددهم في الأخذ والعمل به.
السادس : دعوة المسلمين لتأسيس علم مستقل إسمه “علم الميثاق” تبين فيه وجوه وأفراد الميثاق، وذكر الذين عاهدوا الله تعالى في المواثيق، وأحكام كل ميثاق وعهد، ومراتب الناس في الوفاء بالمواثيق والعهود الإلهية ليتجلى للناس جميعاً ما ناله المسلمون من مراتب السمو والرفعة في التقيد بأحكام المواثيق والعهود الإلهية، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وأخذ الله تعالى الميثاق على بني إسرائيل نعمة عظيمة.
ومن الشواهد عليه مجئ هذه الآية وما فيها من تذكير بني إسرائيل بالميثاق، وأمرهم ان يتذكروه في سياق تعداد النعم الإلهية العظيمة على بني إسرائيل بأجيالهم المتعاقبة، وتغشي النعم لأجيال بني إسرائيل نعمة أخرى تتجلى بصيغة الخطاب في هذه الآيات.
ومن أسرارها ذكر الآية لرفع الطور على بني إسرائيل بصيغة الخطاب [وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ] لبيان منافعها على الأجيال اللاحقة من بني إسرائيل، وقد يقول قائل منهم أنهم لاقوا الأذى والتخويف برفع الطور، وان الأمم الأخرى لم يلاقوا ويعانوا مثل الذي عانوه رجالاً ونساءاً من الفزع والخوف برفع الطور.
فجاءت هذه الآية لتؤكد ان رفع الطور نعمة عظيمة على بني إسرائيل لاتزال منافعها ظاهرة بينهم، وهي سبب في منع إفراطهم في الظلم والتعدي.
لذا جاءت الآية ببيان مضامين النعمة الإلهية على بني إسرائيل برفع الطور عليهم، وتخويفهم وإنذارهم به، ولزوم الشكر لله تعالى على هذه النعمة.
وجاء بيان النعمة في الآية من وجوه:
الأول: إختصاص بني إسرائيل بآيات التخويف والإنذار.
الثاني: رفع الطور عليهم تخويفاً شاهد على التردد منهم في قبول الميثاق، فجاء رفع الطور ليقبلوا التوراة، ويحرصوا على العمل بأحكامها.
الثالث: جعل بني إسرائيل يقرون بآيات الله، وبديع صنعه، فحينما سألوا موسى عليه السلام ان يروا الله جهرة أخذتهم الصاعقة، وجاءت هذه الآية كالصاعقة التي تطل عليهم جميعاً.
الرابع: منع وقوع التفريط من بني إسرائيل، وزجرهم عن الإقامة على المعاصي.
الخامس: تطرد الآية الغفلة والجهالة لمن يتدبر في معانيها، وتجعل الفزع والخوف من التفريط والمعاصي مصاحباً لبني إسرائيل في أفعالهم ومنتدياتهم.
السادس: رفع الطور مقدمة لتصديق بني إسرائيل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإتباعه ونصرته بإعتباره فرداً من أفراد الميثاق والعهد مع الله تعالى بالتصديق بأنبيائه مطلقاً، ولورود البشارات الخاصة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت الآية بذكر لفظ الميثاق بصيغة المفرد وإضافته إلى بني إسرائيل عامة [مِيثَاقَكُمْ] وفيه وجوه:
الأول: توكيد وحدة مضامين الميثاق.
الثاني: منع التحريف في مضامينه ونهي عن القول بتعدده، وإختصاص كل جيل من بني إسرائيل بميثاق معين، فالميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل واحد، منبسط على أجيالهم المتعاقبة.
الثالث: في إتحاد الميثاق دليل على الأمر بطاعة الله وطاعة أنبيائه, قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الرابع: الآية شاهد على مصاحبة البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأجيال بني إسرائيل المتعاقبة.
الخامس: عدم طرو النسخ و التبديل على الميثاق ومضامينه القدسية.
السادس: التخفيف عن بني إسرائيل ببيان ووضوح المواثيق عليهم.
السابع: دعوة الآباء من بني إسرائيل لجعل الميثاق تركة وميراثاً لأبنائهم.
وقد وردت مادة (أخذ) في الآية مرتين وجاء بينهما رفع الطور، ( فلم تقل الآية ورفعنا فوقكم الطور وأخذنا ميثاقكم بل إبتدأت بأخذ الله ميثاق بني إسرائيل، ثم أخبرت عن تفضل الله برفع الطور فوقهم ثم أمرهم بأخذ ما آتاهم الله بقوة مما يدل على إرادة العمل بالميثاق من أخذه بقوة، فبعد أن أخذ الله تعالى الميثاق على بني إسرائيل أمرهم أن يتقيدوا به ويعملوا بأحكامه وسننه .
ومع قلة كلمات الآية فإنها تتضمن نعماً متعددة هي:
الأولى: تفضل الله تعالى بأخذ الميثاق من بني إسرائيل، و جاءت الآيات بأخذ الله الميثاق على الأنبياء لما تفضل به عليهم من النعم العظيمة، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ]( )، وجاء أخذ الميثاق على بني إسرائيل لما أنعم الله تعالى به عليهم من النعم العظيمة والتي جاءت الآيات السابقة بذكرها، وتلك النعم شاهد على تفضيل بني إسرائيل، وكذا نعمة الميثاق، وهما مجتمعان حجة عليهم، وقد ذكرت آيات القرآن بعض وأهم مضامين الميثاق , قال تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ).
وفي الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة دليل على تضمن الميثاق للبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووجوب إتباعه لإنحصار أحكام الصلاة والزكاة بعد بعثته بدخول الإسلام.
الثانية: نعمة رفع الطور، وهذه النعمة مركبة من وجوه:
الأول: رؤية الجبل العظيم يرتفع مستقرا آنا ما في الهواء.
الثاني: مشاهدة جميع بني إسرائيل لآية حسية عظيمة في وقت واحد، وآية بينة لا تقبل الشك واللبس.
الثالث: عجز بني إسرائيل عن التساؤل والتردد على موسى عليه السلام، فالآية من عند الله تعالى لذا قال سبحانه [وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ].
الرابع: بيان موضوع رفع الطور، وانه مقدمة وتخويف من أجل مصلحة ومنفعة بني إسرائيل ودرأ المفاسد عنهم، وهذا من إعجاز الآيات الحسية والعقلية التي يتفضل الله تعالى بها على الناس،بان تكون بذاتها آية لها منافع عظيمة، وتكون لها غايات حميدة ومقاصد سامية لتكون عوناً للناس للعمل بأحكام الشرائع.
الخامس: هل رفع الطور على بني إسرائيل من مصاديق الإحتجاج الإلهي على الملائكة بقول الله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، حينما ردوا مستفهمين على جعل آدم خليفة في الأرض، الجواب نعم، فمن علمه تعالى أخذ الناس بالتخويف والوعيد على فعل الصالحات وترك السيئات، فكان الميثاق ورفع الطور فوق بني إسرائيل وسيلة سماوية لصلاح شطر منهم في أجيالهم المتعاقبة، وعهداً كريماً وضياء لهم أيام البعثة النبوية المباركة، وعوناً لهم في دخول الإسلام وإقامة الصلاة وأداء الزكاة وإجتناب الجحود والصدود وعن آيات النبوة.
وليس من حصر لآيات التخويف والإنذار , فلماذا جاءت في المقام برفع الجبل العظيم على بني إسرائيل فيه وجوه:
الأول: بيان عظيم قدرة الله.
الثاني: إعانة بني إسرائيل على الإيمان برؤية آية حسية لا يقدر عليها إلا الله تعالى.
الثالث: فيه شاهد على إنقطاع الحياة الدنيا، قال تعالى[وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا] ( )، أي تزال الجبال عن أماكنها ومواضعها في الأرض لتسير فيظن أنها جبال وليست إياها.
الثالثة: بيان نزول العذاب الأليم ببني إسرائيل في حال إمتناعهم عن دخول الإسلام، وإصرارهم على محاربته والمسلمين، للملازمة بين العمل بالميثاق والأمن والسلامة ، فلا تنحصر الغايات من رفع الطور وما فيه من التخويف بساعة أخذ الميثاق من بني إسرائيل، بل يشمل الأزمنة والأوقات إذ يصاحبهم الميثاق في الحياة الدنيا، ويتجدد التخويف بالعذاب والعقاب في كل يوم.
وجاء رفع الطور آية حسية عظيمة للإخبار عن نزول العذاب بأجيال بني إسرائيل عند مخالفة أحكام الميثاق، ويتجلى هذا العموم بصيغة الخطاب في هذه الآية الكريمة وتوجهها إلى الموجود منهم أيام البعثة النبوية المباركة.
فالآية الكريمة تذكير بآية إنذار وتخويف لا تزال قائمة، وإن كانت بمصاديق مختلفة فمن يمتنع عن العمل بالميثاق منهم يبتلى بصنوف الأذى والإنذار، ويلاقي البلاء، ومن وجوه البلاء أمور:
الأول: القتل لمن يحارب المسلمين ويعتدي عليهم.
الثاني: الجلاء من الأرض عقوبة للمكر، والإعانة على الإسلام والمسلمين.
الثالث: دفع الجزية مقرون بالصغار لمن يتخلف عما ورد في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ) كفردين من أفراد الميثاق.
الرابع: بعث الخوف والفزع في نفوسهم من المسلمين وغير المسلمين.
الخامس: الإقامة في العذاب يوم القيامة، لأن التخويف بآية رفع الطور عام يشمل أفراد الزمان المتعاقبة، والعوالم الطولية , وجاء قوله تعالى [خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ]وفيه مسائل:
الأولى: وجوب تعاهد بني إسرائيل العمل بأحكام التوراة.
الثانية: إستدامة العمل بالتوراة وتوارث أجيالهم لها.
الثالثة: توكيد قدرة بني إسرائيل على قبول الميثاق وأنه سهل يسير مع الإستعداد لتحمل الأذى والمشقة في سبيل الله.
الرابعة: قد أنعم الله تعالى على بني إسرائيل بالنجاة من فرعون وقومه، قال تعالى [وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ]( )، وهي حجة عليهم في لزوم الشكر لله تعالى، ويتجلى الشكر بالعمل بالتوراة.
الخامسة: الميثاق سلامة ونجاة من شر الأعداء، فهو عصمة وأمن.
السادسة: تلقي الميثاق بالقبول والعمل تعاهد لمنازل التفضيل التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل.
السابعة: يدل الأمر الإلهي لبني إسرائيل بأخذ التوراة بقوة على إنتفاء الموانع التي تحول دون علمهم بها، وهو عون إضافي وبشارة من عند الله تعالى لبني إسرائيل.
الثامنة:الميثاق نعمة وخير محض وهو من عمومات قوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
وكأن الآية تقول لهم: إن الله تعالى أنعم عليكم بتهيئة أسباب ومقدمات العمل المتصل بالتوراة، فحافظوا على هذه النعمة، وهو لا يتعارض مع الثبات على الإسلام، وتوطين النفس على تحمل المشاق، وتلقي التنزيل بالرضا والقبول والعمل في سبيل لله، وجاء قيد بقوة في أخذ اليهود لما آتاهم الله، وفيه وجوه:
الأول: منع التفريط والتهاون.
الثاني: الزجر عن تحريف الآيات وكتمان البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يحول الأخذ بجد ويقين وحرص دون تسرب الملل والشك إلى النفوس الغضبية.
الثالث: الآية حث لبني إسرائيل لنيل الثواب العظيم، والسعادة الأبدية بالعمل بالتوراة والتقيد بسننها.
الرابع: بيان موضوعية التكاليف في الشرائع السماوية، ولزوم أدائها من غير نقصان، وبذل الوسع لمنع حصول التبديل والتغيير في اللفظ والمضمون والتأويل.
الخامس: توكيد المسؤولية النوعية العامة في التقيد بأحكام التوراة وحفظها، فهي ليست مسوؤلية كبراء بني إسرائيل وحدهم، أو العلماء منهم خاصة، بل مسؤولية كل فرد منهم.
ومن وجوه تفضيل المسلمين وكونهم (خير أمة) ( )، أنهم تعاهدوا متحدين ومتفرقين آيات القرآن والسنة النبوية والعبادات، ولم يتركوا الأمر للخلفاء والعلماء خاصة، وتجد أبناء المسلمين وإلى يومنا هذا يتبارون ويتسابقون في حفظ آيات القرآن.
السادس: يدل قيد (بقوة) بالدلالة الإلتزامية على حث بني إسرائيل على تحمل أعباء ومسؤوليات حفظ أمانة التنزيل وعدم تركها عند مداهمة الخوف وتلقي الأذى من القوم الظالمين .
وقد فاز المسلمون بنعمة أخذ آيات القرآن بقوة، وتحمل أشد الأذى من الكفار من دون التفريط بالعبادات.
لقد بعث الله تعالى الملائكة فنتقوا الجبل من موضعه ليصير متدلياً فوق رؤوس بني إسرائيل، (فقال لهم موسى عليه السلام: ان قبلتم ما آتيتكم وإلا أرسلوا الجبل عليكم، فأخذوا التوراة) ( )، وجاء التخويف بالجبل كآية حسية حاضرة لا تقبل التعدد في التأويل، والتفسير بالظواهر الكونية او قوانين العلة والمعلول المادية، فهو آية لا يقدر عليها إلا الله تعالى، جاءت بخصوص تخويف ووعيد بني إسرائيل بإقتلاع الجبل من مكانه.
ومن الناس من أنكر رفع الجبل ووقوفه معلقاً في الهواء بلاعماد، والجواب عليه من وجوه:
الأول: لقد ذكر الله تعالى رفع الطور كآية من عنده تعالى.
الثاني: ان الله تعالى قادر على كل الممكنات، ورفع الجبل أمر ممكن.
الثالث: جميع الأشياء مستجيبة لأمر الله تعالى، ولا تتخلف عنه, قال تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الرابع: جاءت الآية قضية في واقعة وحصلت مرة واحدة للوعيد والتخويف.
الخامس: ليس من حصر للأجرام والأفلاك التي تقف في الهواء مع أنها ثقيلة، ومنها الأرض، وإدعاؤهم بأن الأرض وقفت لأنها بطبعها طالبة للمركز فوقفت عليه ليس كاف.
وكان في بني إسرائيل موسى عليه السلام والصالحون الذين يأخذون ما آتاهم الله ويعملون بأحكام التوراة من غير تردد فلو وقع الطور عليهم، ففيه وجهان:
الأول: إهلاك بني إسرائيل جميعاً لعمومات قوله تعالى [اتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً] ( ).
الثاني: يهوي الطور على الذين يمتنعون عن أخذه كما في مجئ الصاعقة لخصوص الذين قالوا لموسى [أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً] ( ).
الجواب هو الثاني، فكما حفظ الله تعالى موسى عليه السلام من الصاعقة فكذا يحفظه والصالحين من الموت تحت الطور، وكما حفظ الله بني إسرائيل من الغرق، ولم يجر ماء البحر إلا بعد أن عبر بنو إسرائيل ليهلك آل فرعون فيه، وليس الأمر فتنة عامة بل عقوبة نازلة بمن يتخلف عن أخذ التوراة والعمل بأحكامها.
وتدل الآية على الوعيد بقوله تعالى [وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ] فرفع الجبل عليهم إنذار بسقوطه عليهم فيكون فيه هلاكهم بعذاب لم تعذب به أمة أو قرية أخرى، إذ يموتون ويبقون إلى يوم القيامة تحت الجبل، فكما جاء ماء البحر على فرعون وقومه فاغرقهم , قال تعالى[وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]( )، فإن الجبل يسقط على بني إسرائيل فلا ينجو منهم إلا المتقين الذين يأخذون بالتوراة ويعملون بها ويتعاهدون الميثاق، ومما فضل الله تعالى به المسلمين انهم تلقوا القرآن بالتصديق وعملوا بأحكامه من غير تخويف ووعيد بوقوع الجبل عليهم، وقاموا ويقومون بتبليغ الآيات للناس حباً لله تعالى، وطاعة له سبحانه، وشوقاً للقائه وهو راض عنهم.
وتكون آيات القرآن وما فيها من البشارة والإنذار، وجاء الوعيد برفع الطور في أمور:
الأول: وجوب قبول بني إسرائيل ما آتاهم الله.
الثاني: أخذ التوراة هو العمل بأحكامها.
الثالث: الجد وبذل الوسع في العمل بأحكام التوراة، ووجوب عدم التفريط بما فيها من الأحكام والسنن.
الرابع: تعاهد التوراة وحفظ ما فيها من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: إستحضار تلك البشارات عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجيئه بالمعجزات التي تدل على نبوته.
ويحتمل متعلق خاتمة الآية وما فيها من الخطاب لبني إسرائيل [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] وجوهاً:
الأول: أخذ الله تعالى الميثاق على بني إسرائيل , وتقديره: وإذ أخذنا ميثاقكم لعلكم تتقون.
الثاني: رفع الطور فوق رؤوس بني إسرائيل تخويفاً وإنذاراً وتحذيراً، والتقدير: ورفعنا فوقكم الطور لعلكم تتقون.
الثالث: خذوا ما آتيناكم لعلكم تتقون.
الرابع: خذوا ما آتيناكم بقوة.
الخامس: لزوم ذكر بني إسرائيل مافي الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليكم.
الأولى: ذكر بني إسرائيل لآية رفع الطور عليهم.
الثانية: أحكام الحلال والحرام في التوراة.
الثالثة: إستحضار الآيات في الطور، وهو على أقسام:
الأول: مواعدة الله تعالى لموسى عليه السلام على الجبل أربعين ليلة.
الثاني: الطور هو الجبل الذي تلقى آدم عليه التوراة في ألواح من عند الله عز وجل.
الثالث: هو الجبل الذي سأل عليه بنو إسرائيل الذين إختارهم موسى عليه السلام ان يروا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة( )، فكان عذاب الصاعقة ثم رفع الطور على عامة بني إسرائيل إن لم يأخذوا بالتوراة.
الرابع: آية نتق الجبل من مكانه، ورفعه كأنه غمامة وسحابة فوق رؤوسهم لبيان عظيم قدرة الله تعالى، وان رفع الجبل أمر سهل يسير عليه سبحانه , وليس بينهم وبين سقوطه عليهم إلا أن يخلي الله تعالى بينهم وبينه.
الخامس: العمل بما في التوراة من الأحكام والسنن، وعدم تركها أو التفريط بها.
السادس: المعنى الأعم والجامع للوجوه أعلاه، وتعلق قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] بكل أفراد الآية الكريمة.
والصحيح هو الوجه السادس، من غير أن يتعارض مع الوجوه الأخرى التي هي من مصاديقه، وفي تعددها بيان لفضل الله تعالى على بني إسرائيل، ولطفه سبحانه بالناس وأهل الكتاب خاصة وإعانتهم على تلقي القرآن بالقبول والتصديق، وحثهم على عدم ظلم أنفسهم بالجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنعم محاربتهم للمسلمين، وبيان أن عذاب الله تعالى شديد في الدنيا والآخرة، ويدل عليه أيضاً اسم الإشارة (ذلك) الوارد في الآية التالية، والذي يفيد التعدد وذكر هذه الوجوه على نحو الإجمال وإعراض بني إسرائيل عنها.

التفسير الذاتي
جاءت الآية خطاباً لبني إسرائيل وفي ذات المضمون الذي جاءت به الآيات السابقة من ذكر نعم الله عز وجل عليهم، وما خصهم به من معاني التفضيل والتشريف، وتارة تأتي الآيات بذكر موسى عليه السلام كما في الآيتين قبل الآية السابقة، وتارة من غير ذكر موسى عليه السلام، مع دلالة الآية على أنها في زمانه وبواسطته، ومع قلة كلمات هذه الآيات إلا أنها تتضمن نعماً كثيرة، وجاءت هذه الآية بخمس من النعم وهي:
الأول: أخذ الله ميثاق بني إسرائيل.
الثانية: رفع الله جبل الطور فوق بني إٍسرائيل.
الثالثة: أمر الله عز وجل لبني إسرائيل بأن يأخذوا التوراة وما أمرهم الله عز وجل به.
الرابعة: أخذ التوراة والأحكام بقوة والعمل بأحكامها بجد ومن غير تفريط أو تكاسل.
الخامسة: إستحضار آيات التوراة وما فيها من الأحكام والبشارات وتعاهدها وحفظها، ومنها البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن توارثها وعدم تحريفها سبيل للنجاة في الدنيا والآخرة، وبرزخ دون الجحود والصدود عن نبوته وإغواء الناس وإضلالهم حينما يسألون عن صدق نبوته.
ومن فضل الله على الناس ان جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبينات الباهرات التي تدل على صدق نبوته، وتفضح التحريف الذي جرى على البشارات بنبوته وورد لفظ “ميثاقكم” في القرآن أربع مرات ثلاثة منها كلها بخصوص بني إسرائيل( )، والرابعة في الناس عامة ودعوتهم للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن أنه يفسر بعضه بعضاً، فقد جاءت أفراد ومضامين ميثاق بني إسرائيل في آيات أخرى , وهي:
الأول: عبادة الله وعدم الشرك به، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ]( ).
الثاني: ألا يكذبوا على الله، ولا يحرفوا الكتب ومنها التوراة، قال تعالى [ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ]( ).
الثالث: البر بالوالدين.
وهل تعاهد البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم تحريف التوراة من البر بالوالدين، الجواب نعم.
الرابع: الإحسان الى ذوي القربى واليتامى والمساكين.
الخامس: حسن العشرة مع الناس لقوله تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا].
السادس: إقامة الصلاة، وهي من الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل وأداؤها بالكيفية التي جاء بها نبي الزمان ليكون الإمتثال لهذا الأمر بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأدائها وفق ما جاء به وقوله تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] بالإضافة الى عمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم “صلوا كما رأيتموني أصلي” ( ).
السابع: إيتاء الزكاة، ودفعها لمستحقيها( ).
الثامن: لزوم إجتناب بني إسرائيل الإقتتال بينهم لقوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ]( )، والنهي عن قتل بعضهم بعضاً، ليكون من مصاديق تفضيلهم إكرامهم بعدم إفشاء القتل بينهم.
التاسع: عدم طرد بعضهم بعضهم الآخر من ديارهم، وإجلائهم عنها، وذكر في معناه لا تفعلوا ما يؤدي الى إخراجكم من دياركم، كما في بني النضير، ولكن اللوم الوارد في الآية التي بعدها بقوله تعالى [وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ]. يدل على إرادة المعنى الأول وشمول مقدماته معه لحرمة المقدمة لحرمة ذيها.
العاشر: بيان دلالات وعلامات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس، وعدم إخفائها أو تحريفها، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ]( ).
الحادي عشر: الإيمان برسل الله على نحو العموم المجموعي، وتصديقهم وإتباعهم ونصرتهم.
الثاني عشر: نشر البر والإحسان، والصدقات، قال تعالى بخصوص ميثاق بني إسرائيل [لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ]( )، مما يدل على أن ميثاق بني إسرائيل من فضل الله عز وجل عليهم، وهو باب لإثابتهم وجزائهم الجزاء الأوفى إذا تعاهدوه.
الثالث عشر: النهي عن العمل والتعدي يوم السبت، قال تعالى [وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا]( ).
الرابع عشر: ذكر نعمة الله وما أخذه عليهم من الميثاق، قال تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ]( ).
الخامس عشر: المواثيق التي أخذها الله عز وجل على الناس كافة، سواء في عالم الذر أو عن طريق الأنبياء والرسل إبتداء من أبينا آدم عليه السلام ولزوم عدم نقضها.
السادس عشر: الإمتناع عن التعدي والظلم، والعمل يوم السبت، قال تعالى [وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا]( ).
السابع عشر: ما جاء في القرآن من المواثيق والعهود لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول للناس جميعاً، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار، فصدود شطر من الناس عن رسالته وإمتناعهم عن التصديق به لا يعني عدم أخذهم بالمواثيق التي جاء بها خصوصاً القول بأن الكفار مكلفون بالفروع كتكليفهم بالأصول وهو المختار والمشهور شهرة عظيمة بين علماء الإسلام.
وخاتمة الآية توكيد لفضل الله عز وجل على بني إسرائيل وجذبهم لأسباب الهداية وفعل الصالحات والخشية منه تعالى، فالميثاق خير محض، وجاء لنفع بني إسرائيل في الدنيا والآخرة، ويحتمل تعلق قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] وجهين:
الأول: دلالة خاتمة الآية , وتقدير الآية “واذكروا ما فيه لعلكم تتقون”.
الثاني: إرادة الإنحلال والتعدد، وتقدير الآية على شعب:
الأولى: وإذ أخذنا ميثاقكم لعلكم تتقون.
الثانية: ورفعنا فوقكم الطور، لعلكم تتقون.
الثالثة: خذوا ما آتيناكم لعلكم تتقون.
الرابعة: خذوا ما آتيناكم بقوة لعلكم تتقون.
الخامسة: إذكروا ما فيه لعلكم تتقون.
والصحيح هو الوجه الثاني بشعبه الخمسة متحدة ومتفرقة، وهو من فضل الله على بني إسرائيل، وعمومات قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: جاءت الآية في سياق الإحتجاج على بني إسرائيل، وتذكيرهم بنعم الله عليهم.
الثانية: توكيد حقيقة وهي لزوم شكر الله عز وجل على النعم بالصلاح والتقوى.
الثالثة: بيان الجحود والإستكبار الذي عليه الكفار، فتأتي النعم الإلهية لهدايتهم وصلاحهم وبما ينفعهم في الدنيا والآخرة، ولكنهم يقابلونها بالجحود والصدود، ومع أن رفع الطور إنذار وتخويف إلا أنه عون لبني إسرائيل للأخذ بالنعم، وتعاهدها والتقيد بالأحكام الشرعية، وحفظ التوراة من التحريف، وتوارث البشارات السماوية بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الآيات في علم غايات الآية إختتام هذه الآية بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] وفيه مسائل :
الأولى: توكيد علة توالي النعم على بني إسرائيل .
الثانية: تعاقب النعم طريق مباركة لهداية وصلاح بني إسرائيل.
الثالثة: فيه تنمية ملكة التقوى والخشية من الله في نفوس بني إسرائيل.
الرابعة: بيان قانون وهو التقوى موضوع لفوز الأجيال السابقة منهم، ومقدمة لهداية وإسلام الأجيال اللاحقة منهم .
الخامسة: جعل التقوى سجية وسنخية عند المسلمين , قال تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
السادسة: من التقوى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو سور الموجبة الكلية الجامع للأولين والمتأخرين منهم، أما من كانت أيامه قبل البعثة النبوية الشريفة فيجزيه العمل بأحكام التوراة والإنجيل والتصديق بما فيهما من البشارة والتطلع إلى بعثته صلى الله عليه وآله وسلم لإتباعه ونصرته، وأما الذي صاحب البعثة النبوية فعليه التصديق بها، قال تعالى [ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ]( ).
ومن خصائص أخذ الميثاق بقوة إستدامة الأخذ وطول مدته، ومن الآيات إقتران الأمر بتذكر المواثيق والآيات مع الأخذ لإفادة العمل بمضامينها وعدم التفريط بأحكامها، والتذكر عنوان إستحضار الأحكام، وهذا الإستحضار مقدمة للحرص على الإمتثال لها.
التفسير
قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ]
في الآية بيان لما تفضل الله عز وجل به على بني إسرائيل إذ خصهم بالميثاق والعهد مع توجه الأمر الإلهي إليهم بالإلتزام الفعلي بمضمونه.
ولم تذكر الآية بني إسرائيل على نحو الخصوص ولكنه ظاهر بلحاظ القرائن والدلالات ومنها:
الأول: جاءت الآية قبل السابقة بمخاطبتهم بصيغة الذم واللوم [وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى] مما يعني أن الآية السابقة جاءت وسط الآيات التي تخص بني إسرائيل لتثبيت حقيقة من الإرادة التكوينية في الجزاء الحسن للذين آمنوا.
الثاني: لقد ورد أخذ الميثاق ورفع الطور في آيات أخرى بخصوص بني إسرائيل , قال تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسرائيل] ( ).
الثالث: لم يرد قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ] إلا في ثلاث آيات من القرآن وكلها في سورة البقرة في ذكر ما فعله بنو إسرائيل بصيغة الذم واللوم.
وفي الميثاق وجوه:
الأول: إن الله عز وجل أخذ على الناس ميثاقهم وهم في عالم الذر كما سيأتي الكلام عنه في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.
الثاني: إنه الرسول الدائم عند الإنسان وهو العقل حيث جعله الله يدرك بالدلائل العقلية والسمعية وجود الصانع ووجوب طاعته.
الثالث: إقامة الدليل بالمعجزات التي جاء بها موسى عليه السلام على صدق الأنبياء ولزوم متابعتهم.
الرابع: العهود التي أخذت عليهم ومنها ما في هذه الآية.
الخامس: تلقي البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاء بها أنبياء بني إسرائيل بالقبول ونصرته وإتباعه في الأحكام والسنن التي جاء بها، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
السادس: أن موسى عليه السلام لما رجع من عند ربه بالألواح قال لهم: إن فيها كتاب الله فقالوا : لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة فيقول: هذا كتابي فخذوه فأخذتهم الصاعقة فماتوا ثم أحياهم ثم قال لهم بعد ذلك : خذوا كتاب الله فأبوا فرفع فوقهم الطور وقيل لهم : خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم ، فأخذوه فرفع الطور هو الميثاق ، روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم( ) .
وقيل: انه حين رجع موسى من الطور فأتى بالألواح فقال لقومه جئتكم بالألواح وفيها التوراة والحلال والحرام فاعملوا بها قالوا ومن يقبل قولك. فأرسل الله عز وجل الملائكة حتى نتقوا الجبل فوق رؤوسهم فقال موسى عليه السلام ان قبلتم ما آتيتكم به وإلا أرسلوا الجبل عليكم فأخذوا التوراة وسجدوا لله تعالى ملاحظين إلى الجبل فمن ثم يسجد اليهود على أحد شقي وجوههم( ).
وقريب منه ما روي عن ابن عباس قال: أمر تعالى جبلاً من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظلة وكان المعسكر فرسخاً في فرسخ فأوحى الله اليهم أن إقبلوا التوراة وإلا رميت الجبل عليكم، فلما رأوا ان لا مهرب قبلوا التوراة بما فيها وسجدوا للفزع سجوداً يلاحظون الجبل فلذلك سجدت اليهود على أنصاف وجوههم( ).
السابع: ما فطر الله عز وجل الناس عليه من التوحيد وعدم الشرك، وظهور ذلك بالآيات والحجج القاطعة والبراهين الساطعة.
الثامن: إنه الميثاق الذي أخذه الله على الرسل في قوله تعالى [ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ… ] ( ).
ولا تعارض بين الوجوه المتقدمة وان كانت لم يرفع ، وليس من مانع من إجتماعها ولإمكان تعدد السبب ووحدة المسبَب ولله الحجة البالغة.
والآية تذكير لبني إسرائيل بالعهود التي قدموها بإتباع الأنبياء وتعاهد الشريعة وأحكامها وتوكيد لحقيقة تلك العهود والإلتزامات، وهل الميثاق نعمة كما يدل عليه سياق الآيات التي هي بصدد بيان النعم والإخبار عنها، أم انه مقدمة لذكر النعمة كذكر ما فيه أو رجاء التقوى، الجواب ان الميثاق بذاته نعمة ويدل على المنزلة الخاصة التي يحتلها بنو إسرائيل في معاشر الموحدين ايضاً، ففي أيام النزول ربما سأل بعض المشركين اليهود عن الإسلام والنبوة باعتبارهم أهل كتاب.
نعم يمكن القول بأنه إلى جانب كونه نعمة فهو حجة وتنبيه، وحث لهم على أداء وظيفتهم في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً وهادياً.
بحث بلاغي
قيل أن الآية تجري مجرى القسم وهي خالية من الجواب لأنها من الأخبار، والأقوى أنها ليست بقسم بل للتذكرة والموعظة وبيان الحال.
فجاءت الآية ضمن سياق تعداد النعم الإلهية على بني إسرائيل، وتفيد القطع والجزم بوقوع ما فيها من الإخبار فليس لبني إسرائيل ان ينكروا أخذ الله الميثاق منهم أو رفع الطور عليهم .
وجاء القرآن بذكر آية الميثاق وآية الطور لتكون ميثاقاً سماوياً خالداً مصاحباً للناس جميعاً وبني إسرائيل خاصة وحجة دائمة تبين فضل الله تعالى على بني إسرائيل.
وجاءت الآية بفعلين بصيغة الفعل الماضي : أخذنا، رفعنا، وكلاهما من فضل الله تعالى على بني إسرائيل، وفعلين بصيغة فعل الأمر : خذوا، أذكروا، وكلاهما خطاب إلى بني إسرائيل ليكون عبرة وموعظة للمسلمين والناس جميعاً.
قوله تعالى [وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ]
وهذه نعمة أخرى حملت طابع الإنذار والتخويف وعلى صيغة تفسير القرآن بالقرآن يمكن القول ان هذه الآية يفسرها قوله تعالى [ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ]( ).
وهل قلع الجبل كان بواسطة أسباب طبيعية كالزلزلة ونحوها أو أنه بإعجاز مستقل، الظاهر انه باعجاز مستقل إتماماً للحجة مع إستقراء دلالة الواقعة بلحاظ غاياتها وما فيها من التخويف، وقدرة الله تعالى متساوية في الأشياء جميعاً لٌطلاقها وتجردها عن الزمان والمكان والجهة ونحوها , قال تعالى[أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ورفع الطور لم يكن باب إكراه لهم على الإيمان لبطلان القول بالجبرية، وفيه نوع إنتقام عاجل ونذير هلاك وتخويف بالفناء لذات الأشخاص وهو أمر لا ينافي التكليف، بينما يتعلق الإكراه بالأفعال والمعتقدات والأعراض مع بقاء الذات، نعم هو سبب مباشر وقوي للهداية والإيمان، سواء بموضوعه الإعجازي المجرد او بما فيه من التخويف والتهديد والإنتقام العاجل، وما في ذيل الآية من الرجاء يؤكد ما للإختيار من إعتبار وموضوعية .
وذكر في الآية ان موسى عليه السلام لما رجع إلى بني إسرائيل ومعه التوراة لم يقبلوا منه فرفع الله جبل طور سيناء عليهم , وقال لهم موسى “لئن لم تقبلوا ليقعن الجبل عليكم وليقتلنكم فنكسوا رؤوسكم”.
لقد بعث الله عز وجل الأنبياء لجذب قومهم والناس جميعاً إلى منازل الإيمان بصيغتين بينهما تضاد مع إتحادهما في الغاية وهما البشارة والإنذار، قال تعالى[النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
ولما كانت معجزات موسى كآية العصا ونعمة المن والسلوى جاء رفع الطور إنذاراً حسياً يتغشى بني إسرائيل عامة.
قوله تعالى [ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ]
أي خذوا ما آتيناكم من الكتاب والحكمة والآيات بصدق وجد وعزيمة وثبات، والأخذ هنا بمعنى الإيمان والإعتقاد، والخطاب موجه لبني إسرائيل عامة سواء الذين عاشوا أيام موسى عليه السلام او ذرياتهم بما في ذلك الذين كانوا موجودين أيام نزول القرآن وان إختلفت وظيفتهم العقائدية وانحصرت بأخذ البشارات برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يتعلق بتصديقه واتباعه.
وفي تفسير العياشي عن اسحاق بن عمار قال: سألت ابا عبدالله عليه السلام عن قوله تعالى [ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ] أقوة في الأبدان أم في القلوب؟ قال عليه السلام: فيهما جميعاً( ).
أي ان القوة أعم من القوة الجسمية لأن الأمر يتعلق بالإعتقاد وإبرازه إلى الخارج، و الأخذ هنا إكتساب فكري وروحي، ومن أفراده العمل بما فيه لطبيعته ونوعه، او لأن الأخذ المقصود لا يتم الا بالعمل بمضمونه، او لأن العمل جزء منه كما في موضوع العبادات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتؤكد الآية ما تغشى بني إسرائيل من الرحمة الإلهية، فمع نزول الآيات وتواليها عليهم فإن الله عز وجل يوصيهم ويشدد عليهم بتلقي تلك الآيات بالقبول والعمل، وتلك نعمة متفرعة عنها، وتتجلى في آيات أخرى ليعرف من خلالها أن المنزلة التي إحتلها بنو إسرائيل جاءت بكثرة النعم الإلهية عليهم وتواليها، لتصبح حجة عليهم ودعوة للمسلمين لتعاهد خلافة الله في الأرض وحفظ لواء التوحيد .
والبراهين الواقعية والعملية أمست ظاهرة ومعروفة لدى الناس جميعاً، ولكن المسلمين الأوائل كان لهم السبق في إدراك تلك الحقائق وإستثمارها، لاسيما وان آيات القرآن كانت خطاباً لأولي الألباب وطلاب الحكمة وسبل الرشاد[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
بحث بلاغي
من الحذف في القرآن حذف القول مثل (قال)، (قلنا)، (يقولون)، وهو كثير ونوع بلاغة ولأن الإضمار يشير اليه، وكأن القول ظاهر مع إضماره، وأن القرائن والأمارات تدل عليه.
والشواهد كثيرة منها هذه الآية فالأصل: (وقلنا خذوا).
فيدل على صدور الكلام من عند الله نسبة الكلام لله تعالى “خذوا ما آتيناكم” فان قوله تعالى [آتيناكم]يدل على أن الله تعالى هو الذي أمر بني إسرائيل بالعمل بأحكام التوراة وليس موسى عليه السلام، وفيه توكيد على الميثاق، ودعوة سماوية لبني إسرائيل للتقيد بأحكامه وسننه.
ثم قالت الآية [وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ] أي وقلنا إذكروا ما فيه، لأن صدور الأمر من الله بالذكرى وإستحضار الميثاق والتدبر في الآيات يكون أكثر أثراً وأعظم وقعاً في النفس، وفيه دعوة لبني إسرائيل لحث بعضهم بعضاً على التقيد بأحكام التوراة وما فيها من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى [ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ]
دأب المفسرون على القول بأن المقصود هنا الكتاب، وبعضهم قال : التوراة، أي أن الضمير في “فيه” يعود للتوراة، والآية أعم من ذلك وتتعلق بالآيات التي جاءت لبني إسرائيل ومنها التوراة والميثاق وأسبابه وبالنعم التي رزقهم الله عز وجل، إذ انها وثيقة ودليل على وجود الصانع ولزوم وجوب شكره تعالى عليها، بالإضافة إلى الآيات الكونية التي تتعلق بخلق الإنسان وهي عامة لكل الناس ومنهم بنو إسرائيل، إذ أن النعم الخاصة لا تبطل ما يترتب على النعم العامة من الحجة ووجوه الشكر والتدبر.
وفي الآية عن الإمام الصادق عليه السلام: [وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ ] وإذكروا ما فيه من العقوبة.
والآيات على شعب:
الأولى: ما هي دائمة حاضرة وملازمة للإنسان في حياته كما في الظواهر الكونية.
الثانية: ما يتعلق بالكتب السماوية والميثاق.
الثالثة: ما يتعلق بالآيات كرفع الطور والنعم الظاهرة.
فبالنسبة للأولى يكون تذكرها بالتدبر فيها وجعلها باباً للإتعاظ والرشاد، وفيها برهان على عظمة الخالق ووجوب عبادته , وهذا وجه من وجوه تسخيرها للإنسان، وبالنسبة للثانية يكون تذكرها وحفظها بالعلم والعمل والتقيد بأحكام الحلال والحرام، وبالنسبة للثالثة يكون تذكرها بالإقرار بما فيها من الإعجاز والإنذار والتخويف وإجتناب الإنحراف والتحريف.
وفي الآية أمران أحدهما مترتب على الآخر وأعم منه زماناً وأثراً وموضوعاً:
الأول: ذكر ما في التوراة والتدبر في مضامينها ولزوم العمل بأحكامها.
الثاني: الخشية من الله، ومن أهم مصاديقها التصديق بالنبوة والكتب النازلة من السماء.
إن الإقرار بما في التوراة والتدبر في الآيات مطلقاً وعدم الغفلة عنها مع تقدم الأيام وتعاقب الأجيال باب كريم للتقوى والإيمان وإجتناب المعصية ومدخل عقلي وعقائدي للتسليم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار انها أعلى مراتب التقوى وبها يحافظ المرء على إرادة سبل الهدى .
وينحصر موضوع التقوى في أيام الإسلام بدخوله، وفيه إمتحان لإختيار طريق الإيمان او الجحود من غير واسطة بينهما على خلاف الزمان الذي سبقه، فربما كان المتيسر فيه ولوج بعض مراتب الهداية كما في أيام الفترة من الرسل، قال تعالى[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ]( ).
وفي الآية توكيد على أن النعم كانت لمنفعة بني إسرائيل ورحمة بهم، وان الله عز وجل هو الغني الذي ينفرد بعدم الحاجة إلى شئ لإن الإحتياج ملازم لماهية الممكن، ومن المحال ان ينقلب الممكن إلى واجب.
وتبين الآية قانوناً في الإرادة التكوينية وهو جذب الناس إلى منازل الهداية والصلاح بالشدة والتخويف، وهل فيه إكراه أو مصداق لمذهب الجبرية .
الجواب لا، بدليل الآية التالية التي تخبر عن توليهم وإعراضهم عن الأوامر الإلهية ولو شاء الله ما أعرضوا وتولوا بقوله تعالى[ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ]( ).
ومن اللطف الإلهي بيان البلغة والغاية في الآية الكريمة لبني إسرائيل، فلم يأت الإخبار عن بعثهم إلى منازل التقوى بعد إنقضاء أيامهم، بل جاءت الآية بصيغة الخطاب (لعلكم تتقون) مما يدل على تجلي الغاية وقصد التقوى عند بني إسرائيل أيام توالي الآيات عليهم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ومن مفاهيم الآية ندب المسلمين للسعي إلى التقوى وإجتناب التولي ومقدماته، وتتجلت عصمة المسلمين من التولي والإعراض عن الآيات بالثناء عليهم من الله بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ومن مصاديق خروجهم للناس أمور:
الأول: التحلي بلباس التقوى.
الثاني: تعاهد الأحكام الشرعية وأداء الوظائف العبادية.
الثالث: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: تعاهد التوثيق السماوي لقصص الأمم السابقة، ومنها هذه الآية وما فيها من بيان للنعم العظيمة على بني إسرائيل.


قوله تعالى[ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ ] الآية 64.

الإعراب واللغة
ثم: حرف عطف يفيد التراخي والترتيب، توليتم: فعل ماض وفاعل،
من بعد: جار ومجرور متعلقان بتوليتم، ذلك: مضاف اليه.
فلولا: الفاء حرف عطف، لولا: حرف شرط غير جازم.
فضل: مبتدأ مرفوع، وهو مضاف، اسم الجلالة : مضاف إليه والخبر محذوف تقديره موجود أو حاضر.
عليكم جار ومجرور متعلقان بفضل، ورحمته: عطف على فضل.
لكنتم: لام الصيرورة وتسمى لام العاقبة.
كنتم: كان وإسمها، من الخاسرين: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كنتم، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم.
في سياق الآيات
بعد مجيء الآية السابقة بأخذ الميثاق على بني إسرائيل مقروناً بالتخويف والإنذار وختمها بصيغة الترغيب والحث جاءت هذه الآية وفيها إخبار سماوي عن جحود بني إسرائيل إذ أن الميثاق والمواثقة مع الباري عز وجل نعمة عظيمة فمقابلتها بالإعراض والصدود تستلزم العقاب .
ومن الإعجاز في نظم الآيات مجئ هذه الآية باسم الإشارة (ذلك) الذي يفيد البعد والتعدد، فهو لا ينحصر بمضامين الآية السابقة وما فيها من النعم المتعددة، وهي :
الأولى: نعمة الميثاق.
الثانية: نعمة رفع الطور وما فيها من الإنذار والتخويف.
الثالثة: الأمر الإلهي بأخذ ما رزقهم الله، والذي يدل في دلالته التضمنية على نعمة وهي تفضل الله تعالى بإتيان بني إسرائيل ما فيه خير الدنيا والآخرة.
الرابعة: وجوب ذكر آيات التنزيل وما خص الله به بني إسرائيل من نعمة بعثة موسى عليه السلام ونعمة التوراة.
الخامسة: تجلي اللطف الإلهي بتقريب بني إسرائيل إلى منازل التقوى والهداية.
ويحتمل التولي الذي تذ كره هذه الآية وجوهاً بلحاظ الآية السابقة سعة وتضييقاً:
الأول: التولي بعد أخذ الميثاق.
الثاني: الإعراض بعد رفع الطور فوقهم.
الثالث: الأمر الإلهي بأخذ ما آتاهم الله بقوة.
الرابع: الأمر بذكر ما في الميثاق.
الخامس: عدم بلوغهم مراتب التقوى والخشية من الله، والغاية من مضامين الآية السابقة بقوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] .
والصحيح هو الإطلاق وإرادة الوجوه أعلاه جميعاً، خصوصاً وإن مضامين الآية السابقة متداخلة موضوعاً وحكماً، وهو من إعجاز القرآن , وفيه مادة للتفقه في الدين.
وجاءت الآية التالية بالحجة على بني إسرائيل بعلم أجيالهم المتعاقبة بواقعة الإعتداء يوم السبت ومالحق الذين إعتدوا من المسخ والعذاب.

إعجاز الآية
تبين الآية حال الإعراض وعدم الوفاء الغالب عليهم وتعقبها بالرحمة والعفو , ولعل من أسباب العفو الإمهال لحين نزول القرآن لذا جاء ذكر وتعداد النعم بالقرآن فهو دعوة للإنخراط في صفوف المسلمين.
وفي الآية دلالة على صدق نزول القرآن من عند الله تعالى لما فيها من الإخبار عن وقائع تأريخية، وحال بني إسرائيل في الأزمنة السابقة، وصحيح أن الآية الكريمة تتضمن الذم إلا أنها دعوة للتدارك والإصلاح، وندب للتصديق بالقرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الإعجاز عدم وقوف الآية عند الإخبار عن تولي وإعراض بني إسرائيل عن النعم التي أنعم الله تعالى عليهم بها، ولزوم إمتثالهم التام لأحكام الحلال والحرام بالإخبار عن فضل الله تعالى على بني إسرائيل ونجاتهم من الخسران، مما يدل على أن القرآن لم يأتِ لتوبيخ وذم بني إسرائيل على نحو الإهانة والسب والشتم، بل جاء البيان للهداية والإصلاح والجذب للإيمان، لذا أختتمت الآية التالية بقوله تعالى[وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
ويمكن تسمية الآية بآية (ثم توليتم)
الآية سلاح
الآية مدرسة للإعتبار وحث للمسلمين على عدم الإعراض عن القرآن وحفظه لأنه ميثاق الله في الأرض.
وجاءت الآية للنهي عن التولي والإعراض عن الأحكام التي تنزل من السماء، وفيها درس وموعظة للمسلمين من وجوه:
الأول: معرفة أحوال الأمم السابقة، وهو من عمومات قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، بلحاظ ما في قصص القرآن من المواعظ والعبر.
الثاني: التفقه في الدين.
الثالث: الإخبار عن فضل الله تعالى على بني إسرائيل وتغشيهم برحمته مع توليهم وإعراضهم عن سبل الإيمان.
الرابع: زجر الناس عن الإعراض عن الآيات والبراهين التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد أنعم الله تعالى على بني إسرائيل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من رحمته تعالى بهم، والإيمان هو السبيل للوقاية من الخسران، وهذه الآية عون وسلاح للمسلمين في دعوة الناس إلى الإسلام.
مفهوم الآية
الإلتفات إلى توالي النعم من مصاديق المعرفة الإلهية , ومناسبة كريمة للإتعاظ والتوجه بصدق نحو تحمل المسؤوليات العقائدية التي تتحملها الأمة أو الأفراد سواء على نحو القضية الشخصية بأداء التكاليف وفعل الصالحات أو بنشر أحكام الدين وإفشاء الصالحات وإعلان البقاء على التوحيد.
وتفتح الآية أبواب الأمل للمسلمين لأنها تخبر عن فضل الله تعالى بتدارك العثرة والغفلة بنعم مستحدثة أخرى، وهو أمر ينفرد به سبحانه وتبين تفضله بتعاهد أحوال بني إسرائيل بالمن والإحسان الذي يحول دون ضلالتهم وخسارتهم للدارين، قال تعالى[وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]( ).
ومن أهم وجوه الإحسان بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته للعمل بماء جاء به الأنبياء السابقون من عند الله تعالى.
وفي الآية مسائل:
الأولى: حصول التولي من بني إسرائيل رغم شدة العهود وتعلقها بالميثاق ولزوم عدم التفريط الجزئي والكلي.
الثانية: مجيء التولي بعد أخذ الميثاق.
الثالثة: قبح التولي والإنهزام والإعراض عن التكاليف والأوامر الإلهية.
الرابعة: في الآية لوم يدل بالدلالة التضمنية على قدرة أهل الملل على الإلتزام بالميثاق.
الخامسة: جاء التولي على نحو العموم المجموعي أو الأعم الأغلب ولم يصدر من أفراد قليلين، فلذا إستحقوا اللوم، وهذا لا يتعارض مع وجود أمة منهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويلتزمون بأحكام الميثاق.
السادسة: تفضل الله تعالى بنعم إضافية واللطف بهم بتقريبهم إلى مسالك العبادة، وعدم مؤاخذتهم على التولي مع ما فيه من الظلم والتعدي.
الأولى: إبتدأت الآية بحرف العطف (ثم) الذي يفيد التراخي، مما يدل على أن إعراضهم عن الآيات وتركهم للمواثيق لم يكن فورياً بل جاء بعد حين، وهل حصل التولي دفعة أم على نحو التدريج، الأصح هو الثاني، لأن الأمر لايخص فرداً أو جماعة بل يشمل بني إسرائيل كافة مع أن التوراة بين أيديهم.
ومن نعم الله عليهم توالي بعث الأنبياء لهم مبشرين ومنذرين وتذكيرهم بالنعم الإلهية ووجوب التقيد بالمواثيق، كما في الآية السابقة ورفع الطور فوقهم.
الثانية: إعراض وتولي بني إسرائيل عن المواثيق والأحكام.
الثالثة: إخبار الآية بان الإعراض جاء من بني إسرائيل على نحو العموم الإستغراقي، وهو الظاهر من صيغة الجمع في الآية (توليتم) ولكن هذا لا يمنع من بقاء أمة منهم على الهدى وأحكام التوراة، وإختيار فريق منهم التوبة والإنابة ليتطلعوا إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتصديق به وإتباعه ونصرته، خصوصاً وان لغة الخطاب جاءت بصيغة اللوم للذين تخلفوا منهم عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ممن عاصر أيام النبوة والتنزيل.
الرابعة: تقييد التولي بان جاء بعد الآيات والمواثيق والإنذارات الحسية، وهو الذي يتجلى بقوله تعالى [بَعْدِ ذَلِكَ] وفيه ذم إضافي وبيان لحاجتهم إلى التخويف وأخذهم بالوعيد الحال والآجل للتقيد بأحكام وسنن الشرائع، وهو شاهد على ضرورة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ووجود أمة لحفظ الإيمان تكون أوسع وأكبر وأعظم، فجاء الإسلام عالمي الدعوة.
الخامسة: إمهال الله عز وجل لبني إسرائيل، وتغشيهم بآيات فضله وإحسانه، ونزول رحمته عليهم بتوالي بعث الأنبياء والإمهال والعفو وعدم المؤاخذة على الذنوب والمعاصي.
الآية لطف
جاءت هذه الآية بالتذكير بأمرين:
الأول: تعدد وكثرة النعم الإلهية على بني إسرائيل.
الثاني: اللوم والذم لهم لتخلفهم عن منازل الشكر والإمتثال.
ومع التضاد بين الأمرين فالتذكير بكل منهما لطف إلهي محض، ودعوة للهداية والرشاد والإصلاح، ومن الآيات ان لغة وموضوع التذكير خاص ببني إسرائيل إلا أن الإنتفاع من التذكير عام وشامل للناس جميعاً، وهو مدرسة أخلاقية وعرفانية.
والنفع العام للناس جميعاً في المقام على وجوه منها:
الأول: الإتعاظ من بني إسرائيل.
الثاني: إقامة الحجة عليهم في جحودهم بالنعم.
الثالث: التقيد بآداب الشكر لله تعالى على النعم، فلله عزوجل على كل انسان وفرقة وأمة نعم كثيرة لا يقدر على إحصائها الا الله سبحانه.
الرابع: بعث الخذلان والوهن في صفوف أعداء الإسلام الذين يسعون للإضرار بالمسلمين وجعلهم يتدبرون في الآيات والمعجزات.
الخامس: منع دبيب اليأس في نفوس بني إسرائيل، وغيرهم من الناس، والإخبار بان فضل الله قريب، وباب التوبة مفتوح، فيأتي الذم دعوة للتوبة والإنابة، قال تعالى[لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
وفي الآية مصداق كريم من اللطف الإلهي، فحينما تولى فريق من بني إسرائيل عن الميثاق ومضامينه مع التشديد عليهم بلزوم أخذه والعمل بأحكامه فإن الله عز وجل لم يؤاخذهم بظلمهم بل أنزل عليه شآبيب الرحمة.
إفاضات الآية
تدعو الآية المسلمين إلى الحرص على المواثيق وأخذ الحائطة للدين، واليقظة والفطنة، واجتناب الفرار يوم الزحف، وتبين الآية عظيم رحمته تعالى بالإمهال، وعدم التعجل بالمؤاخذة مع إستحقاق الذين يتولون.
وتبين الآية قوانين الرحمة الإلهية، وأنها تختلف عن قوانين عالم الممكنات من الفعل ورد الفعل المشابه له بالقوة والمغاير له بالإتجاه، بل العكس منه، فلما كان التولي والإعراض من بني إسرائيل كان التقرب إليهم من عند الله،وهذا التقرب أعظم وأعم وأسرع من توليهم، ليتغشاهم الفضل الإلهي على نحو العموم والشمول وبصيغة القطع واليقين.
والآية شاهد على إكرام وتفضيل بني إسرائيل بأن يدركهم الفضل الإلهي حتى في حال الإعراض، ليكون لهم واقية وضياء ينير دروب الهداية، وتجلت معانيه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من إستئصال أسباب الإعراض والصدود، وهذا الإستئصال من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بالإخبار عن تخلف بني إسرائيل عما أمرهم الله تعالى به، وما أراد به صلاحهم وخشيتهم منه تعالى في السر والعلانية، ويحتمل متعلق التولي والإعراض أموراً:
الأول: أخذ الله تعالى للميثاق عليهم، فلم يلتفتوا في حياتهم اليومية إلى ما أخذه الله تعالى عليهم من العهود، ولزوم الوفاء بها.
الثاني: عدم الإلتفات إلى آية رفع الطور فوقهم وما فيها من الدروس والعبر، والتوكيد على وجوب العمل بالميثاق، لقد إقتلع الملائكة الجبل وجعلوه كالظلة فوق رؤوس بني إسرائيل ليعملوا بالتوراة مما يدل على ضرورة العمل بها وترددهم فيه.
الثالث: اللطف الإلهي ببني إسرائيل في أمره تعالى لهم بأخذ ما في التوراة من أحكام الحلال والحرام.
الرابع: تقييد أخذهم التوراة بأن يكون (بقوة) أي بجد ويقين وإحتراز من الشك والترديد والتردد.
الخامس: تدارس التوراة وتدوينها وتوارثها وما فيها من الأحكام والبشارات وإشراقات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ تفضل الله تعالى وجعل الكتب السماوية السابقة مقدمة وتوطئة لها.
وتفضل الله تعالى وجعل بني إسرائيل حملة لأمانة البشارة، وخصهم الله تعالى بهذه الأمانة لأنهم أبناء أنبياء وأكثر الأمم التي بعث الله منها أنبياء، فتفضل الله تعالى وبيّن لهم بصيغة التأكيد في وجوب ذكر مضامين التوراة وحفظ بشاراتها.
وإبتدأت الآية بقوله تعالى [ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ] ويدل في مفهومه على تقيد بني إسرائيل بالعمل بأحكام وسنن التوراة فترة من الزمان لأن الآية تخبر عن حصول التولي بعد مدة لأن (ثم) تفيد الترتيب والتراخي، وفيه نكتة وهي أن التخويف بالطور ووقوعه عليهم لا يعني إنحصاره في ساعة واحدة، فهو آية من عند الله، وإنذار متصل ويأتي التأديب والعقوبة بوجوه وصيغ أخرى أقل حدة من وقوع الطور عليهم.
ومن معاني ودلالات رفع الطور الإخبار عن الملازمة بين العمل بالتوراة والتخويف من تركها والتفريط بأحكامها، فهذا التخويف مستمر ومتصل لذا فإن قوله تعالى [ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ] أي عرضتم أنفسكم للعقوبة ونزول البلاء بكم، فليس في التخلف عن العمل بالتوراة إلا نزول العقوبة الشديدة بكم، ولكن الله تعالى تفضل عليهم بصرف العقوبة المهلكة لهم جميعاً برحمته.
لذا أختتمت الآية بقوله تعالى [فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ] وجاءت الآيات التالية لتبين العقوبات المصاحبة للفعل القبيح الذي يرتكبه بنو إسرائيل،كما في الآية التالية وكيف أن الذين إعتدوا في السبت صاروا قردة خاسئين.
لقد جاءت الدعوة في الآية السابقة لذكر آيات التخويف والعمل بأحكام التوراة [وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ] لحث بني إسرائيل في الأجيال اللاحقة على إستحضار آية الطور، ومنعهم من التفريط بها او نسيانها، وعدم نسيانها برزخ دون توليهم وتفريطهم بالأحكام.
وتبين الآية حاجة بني إسرائيل إلى ذكر آيات التخويف والوعيد الإلهية، وقد جاهد أنبياء بني إسرائيل في تقريبهم إلى الطاعة، وجعلهم يستحضرون آيات التخويف والوعيد فناصبوهم العداء وقتلوا جماعة منهم، فالخوف من العقوبة ونزولها رحمة ببني إسرائيل , وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ].
لقد جاءت الآية بمواضيع هي:
الأول: تولي وإعراض بني إسرائيل عن الآيات والأحكام.
الثاني: فضل ورحمة الله تعالى على بني إسرائيل.
الثالث: تغشي بني إسرائيل برحمة الله، وهو من عمومات قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( ).
الرابع: خسارة وهلاك بني إسرائيل لولا رحمة وفضل الله تعالى عليهم.
لقد إبتدأت الآية بإقامة الحجة على بني إسرائيل وبيان موضوع الإحتجاج وأنهم تخلفوا عن وظائفهم العبادية، وصدوهم عما في التوراة من الأحكام والعبادات والسنن.
وجاءت الآية بالإخبار عن تولي بني إسرائيل، وتوكيد هذا التولي، بصيغة اللوم والذم، إذ جاء الميثاق لنفع بني إسرائيل وما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة.
ومن الآيات في تفضيل بني إسرائيل أن الله عز وجل لم يعاقبهم على التولي بنتق الجبل من جديد وطرحه عليهم، بل تفضل عليهم بأمور منها:
الأول: بعث الله الأنبياء فيهم مبشرين ومنذرين.
الثاني: إمهال بني إسرائيل بعدم مؤاخذتهم العاجلة على التولي.
الثالث: فتح باب التوبة لبني إسرائيل، وهو من فضل الله تعالى على بني إسرائيل والناس جميعاً، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا]( ).
الرابع: من فضل الله تعالى على بني إسرائيل في المقام رفع الطور فوق رؤوسهم، لأنه حال دون مقابلتهم التوراة ونزولها بالإعراض والجفاء، فلم يأت التولي منهم إلا بعد حين، مع بقاء أمة منهم قائمة بالتقوى والصلاح، قال تعالى [وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ]( )، ومنهم من جعل المراد بفضل الله تعالى في الآية هو رفع الطور عليهم.
وقال الإمام الرازي: فلولا فضل الله عليكم ورحمته، رجوعاً بالكلام إلى أوله، أي لولا لطف الله بكم برفع الجبل فوقكم لدمتم على ردكم الكتاب ولكنه تفضل عليكم ورحمكم فلطف بكم بذلك حتى تبتم( ).
وهو ليس من تقدم جزاء لولا عليها الذي لا يقول به النحويون، ومعناها أعم من هذا التقييد , وذا التقديم بيان لحقيقة وهي أن رفع الطور فضل من عند الله، وتظهر الآية تعدد وجوه فضل الله تعالى على بني إسرائيل.
ومن مصاديق التعدد في فضل الله في المقام أن الآية جاءت بذكر فضل الله ورحمته للدلالة على تعدد وكثرة مصاديقه على بني إسرائيل بعد التولي، وللإخبار عن اللطف الإلهي ببني إسرائيل.
فالنعم الإلهية تترى عليهم في حال التولي عن الآيات أيضاً، مما يدل على أنهم لو لم يتولوا عن الآيات لكانت النعم الإلهية عليهم أعظم وأكثر، وفيه دلالة على أن رفع الطور، كان لمنفعة بني إسرائيل ووسيلة مباركة لبقائهم في منازل التفضيل والإكرام لحين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخولهم الإسلام الذي يبلغون فيه أسمى معاني التفضيل ليكونوا من [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وإذ إبتدأت الآية بالإخبار عن تولي بني إسرائيل فإن خاتمتها أخبرت عن تعرضهم للخسارة لولا فضل الله تعالى، وهذه الخسارة مطلقة وشاملة للدنيا والآخرة.
لقد أراد الله عز وجل في الآية بيان فضله على بني إسرائيل بإمهالهم، إلى ان بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت هذه الآية ومافيها من التذكير ولغة اللوم دعوة للتدارك، فمن الخسارة التي أنجى الله تعالى منها بني إسرائيل الهلاك والموت على التولي والإعراض عن الآيات وقبل أن يأتي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات الإنذار والبشارة.
وبيّن القرآن فضل الله تعالى على بني إسرائيل، وما في هذا البيان من الحجة عليهم، والدعوة لهم للتوبة والإنابة، لذا فمن وجوه الإمهال الإلهي لبني إسرائيل بقاؤهم بفضل الله إلى حين إطلالة شمس الإسلام على البرية، وإمتلاء الأرض بضياء القرآن .
ويتعارض هذا الإمهال مع تعاقب آيات التأديب والعقوبات العاجلة مثل الخسف ببعضهم، وتفشي الطاعون بين قوم منهم، وصيرورة الذين إعتدوا منهم في السبت قردة كما جاءت به الآية التالية.
تتضمن هذه الآية الإخبار عن خروجهم وسلامتهم من الخسارة إلى حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه دعوة لهم للتدارك وإجتناب الخسارة بدخول الإسلام لأنه من فضل الله ورحمته الذي ذكرته هذه الآية الكريمة.
التفسير الذاتي
جاءت الآية خطاباً لبني إسرائيل، ويتضمن الذم على التولي والإعراض عن الميثاق.
وهل الآية من فضل الله عز وجل على بني إسرائيل، الجواب نعم، فهي نعمة عليهم جاءت في القرآن النازل على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فالآية في مفهومها دعوة لبني إسرائيل للعودة إلى الميثاق ومضامين الإيمان والتدارك.
وإبتدأت الآية بحرف العطف “ثم” الذي يفيد التراخي، أي ان التولي لم يحدث إلا بعد زمان وتعاقب السنين، وفيه شاهد على حاجة الناس للقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ,وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) لأن المسلمين يتعاهدون الفرائض وأحكام الشريعة.
وتبين الآية وجهاً من وجوه تفضيل بني إسرائيل، فلم ينزل بهم العذاب عند توليهم وإعراضهم عن الميثاق وأحكامه، بل تغشتهم رحمة الله عز وجل، وتفضل الله بمنعهم من الخسارة في النشأتين التي تأتي بسبب هذا التولي.
“وقال ابو العالية: فضل الله الإيمان ورحمته القرآن”( ).
والآية أعم إذ فتح الله عز وجل لهم باب التوبة، وبعث الأنبياء من بينهم مبشرين ومنذرين، وقد يكون في زمان واحد أكثر من نبي من بني إسرائيل، ليقوموا بوظائف البشارة والإنذار، ورفع الله عز وجل فوقهم الطور للعمل بأحكام التوراة، وبشرهم الأنبياء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وما فيها من الصلاح والإصلاح.
ثم ذكرت الآية موضوعية فضل الله بسلامة ونجاة بني إسرائيل من الخسارة والعذاب، وهذا النعمة من وجوه تفضيلهم.
وفضل الله على أقسام:
الأول: ما يكون للخلائق كلها.
الثاني: الذي يشمل الناس جميعاً، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
الثالث: الفضل الذي يخص الله عز وجل به أهل الإيمان والتقوى، قال تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابع: فضل الله على أهل ملة وطائفة، كما في هذه الآية.
الخامس: الفضل الخاص الذي يأتي نعمة إضافية من عند الله، قال تعالى [وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
ومن إعجاز الآية وجوه:
الأول: عطف رحمة الله على فضله، مما يدل على التعدد والمغايرة، وهذا التعدد فضل إضافي ولطف من عند الله عز وجل على بني إسرائيل والناس جميعاً.
الثاني: تقييد فضل الله عز وجل بأنه على بني إسرائيل بقوله تعالى [فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ]،ودلالته على اللطف والعناية بهم من بين أهل زمانهم.
الثالث: مجيء قوله تعالى “رحمته” على نحو الإطلاق، ويحتمل وجهين:
الأول: حذف المتعلق لدلالة ما قبله عليه، وتقدير الآية (ورحمته بكم).
الثاني: إرادة الإطلاق، وان بني إسرائيل لم تحل بهم الخسارة عند التولي، لرحمة الله عز وجل بالناس جميعاً ومنهم بنو إسرائيل.
ولا تعارض بين الوجهين، وهما من فضل الله، ومصاديق سعة رحمته.
الرابع: إجتماع فضل الله ورحمته في سلامة بني إسرائيل من الخسارة، لأن التولي عن الميثاق ومضامين الإيمان وسنن الأحكام إثم وذنب يستحق العقاب العاجل ويعرض أصحابه للخسارة إلا إذا إجتمع فضل الله ورحمته، فرزقهما الله عز وجل مجتمعين لبني إسرائيل.
وجاءت هذه الآية من فضل الله ورحمته بهم لتذكيرهم بما أنعم الله عز وجل عليهم، وهي دعوة سماوية لتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه، والتنعم بفضل الله، وتأتي الخسارة من ذات التولي والإعراض عن الميثاق والآيات، ومما يترشح عنه من التمادي في الغي، قال تعالى [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]( ).
فجاءت الحيلولة دون خسارة بني إسرائيل لوقايتهم من الإفساد في الأرض، بإصلاحهم للتوبة، وظهور دولة الإسلام، وإحقاق الحق ومنع الباطل، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) حينما رد الله سبحانه على الملائكة الذين قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
فينعم الله عز وجل على أهل التوحيد بفضله ورحمته ويمنعهم من إشاعة الفساد في الأرض، ويفتح لهم باب التوبة، ويحبب إليهم الصلاح، ويقربهم من أسباب الهداية والتقوى، لذا جاءت خاتمة الآية السابقة بقوله تعالى [لعلكم تتقون].
وجاءت خاتمة هذه الآية بالإخبار عن نجاتهم من الخسارة والضلالة.
وتبين هذه الآية مدرسة “الأمل” في القرآن، وتمنع من اليأس والإحباط، وتبعث على التوبة، وتدعو الى العمل الصالح، ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن نعم الله عز وجل في هذه الآية أمور:
الأول: تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم.
الثاني: تعدد كيفية مجيء فضل الله لبني إسرائيل ومنها:
الأولى : ما يأتي إبتداء.
الثانية : ما يكون زيادة في الخير والفضل.
الثالثة : ما يصلح مادة للتدارك والإصلاح.
الثالث: بيان قبح التولي عن الميثاق .
الرابع: دعوة الناس لتعاهد المواثيق الإلهية .
الخامس: حث بني إسرائيل والناس على حفظ العهود والمواثيق .
وكان الميثاق رحمة ونعمة من عند الله، وعندما تولوا عنه جاءهم فضله سبحانه بمنعهم من الخسارة، ليكون هذا المنع مناسبة مباركة للتدارك والتوبة، ويحتمل فضل الله ورحمته في المقام وجوهاً:
الأول: إنه جاء على نحو المرة الواحدة.
الثاني: جاء مكرراً لمرات معدودة.
الثالث: ليس من حصر زماني أو موضوعي لفضل الله ورحمته، والصحيح هو الثالث فان فضل الله عز وجل على بني إسرائيل متصل، سواء الذين دخلوا الإسلام، وصدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم ، وفازوا بحسن العاقبة والأمن في النشأتين، أو الذين أصروا على الإعراض عن نبوته.
ومنه هذه الآية المباركة وتجدد تلاوتها من قبل المسلمين وما فيها من معاني الإنذار والتذكير بنعم الله عز وجل عليهم، فان هم تولوا فان الله عز وجل لم يتركهم وشأنهم، بل أنزل القرآن كتاباً معصوماً من التحريف يذكرهم بوظائفهم , ويدعوهم للتوبة والإنابة، ويبين لهم تقدم فضله عليهم على توليهم، وتعقبه لهذا التولي.
وأيهما أكثر فضل الله عز وجل على بني إسرائيل قبل التولي أم بعده.
الجواب كلاهما كبير , وليس من وجه للمقارنة بينهما لعدم إمكان حصر وتعيين مصاديق كل واحد منهما، نعم فضل الله عز وجل عليهم وعلى الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن يدل على إفادة الثاني، وإنحصرت النجاة من الخسارة بعد بعثته بإتباعه وتصديقه، وهذا الإتباع ترك للتولي والإعراض عن الميثاق، ودليل على التوبة والإنابة والصلاح.
وهل من صلة بين توليهم المذكور في هذه الآية وبين توليهم عند اللقاء في المعركة وعدم ثباتهم أمام المؤمنين الوارد في قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ]( ).
الجواب نعم، لأن التولي عن العهود والمواثيق وإنكار البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبعث الضعف والوهن في نفوس أصحابه , والإرباك عند القتال.
وستأتي الآية التالية لتبين ان عدم الخسارة ليس مطلقاً ولكنه دفع للعذاب عند إستحقاقه، ولم يمنع من نزول البلاء عند تجدد الذنب والمعصية.
من غايات الآية
وفي الآية مسائل:
الأولى: تذكير بني إسرائيل بالنعم التي حباهم الله عز وجل بها.
الثانية: توثيق إعراض وصدود بني إسرائيل عن الآيات، ووظائف العبادة والشكر لله تعالى.
ومن الآيات ان يأتي هذا التوثيق بصيغة الذم، لأن الإعراض عن النعم والمواثيق والعهود قبيح ذاتاً وعرضاً.
الثالثة: إقامة الحجة على بني إسرائيل بأن إعراضهم لم يأت إلا بعد الإقرار وحصول اليقين بالآيات والنعم الإلهية.
الرابعة: بيان عظيم فضل الله عز وجل على بني إسرائيل، والإخبار بأن النعم الإلهية التي جاءتهم لم تنحصر بما يأتي إبتداء، بل تشمل الإستدامة، وإقالة العثرة، ومقابلة السيئات منهم بالفضل والإحسان النازل من عند الله.
الخامسة: بيان قانون من قوانين الحياة الدنيا وهو أن فضل الله أمن وسلامة من الخسارة والضلالة والغواية، ومن مصاديق فضل الله بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين.
ويبين سياق الآية علة نزول العقوبة الشديدة بالذين إعتدوا في السبت، وصيرورتهم قردة، لأنهم خالفوا الميثاق الذي أخذ عليهم، وأعرضوا عما آتاهم الله، وإمتنعوا عن تذكر ما فيه من الأوامر والنواهي، وفيه منع للجهالة والغرر، وزجر عن الجدال بالباطل، وإثارة أسباب الشك والريب وهو من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ومن معاني الأخذ بقوة في الآية السابقة[خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ]( )، تعاهد بني إسرائيل للميثاق، وتوارثه تركة عقائدية مباركة , والجد والسعي في منازل الهداية، وتعاهد السنن التي وردت في التوراة، والإحتراز عن التولي عن الميثاق .
وقد فاز المسلمون بأخذ ما آتاهم الله بقوة بتعاهدهم الصلاة اليومية وهي بذاتها زاجر عن التولي والإعراض عن الميثاق والأحكام، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
التفسير
قوله تعالى [ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ]
تبين الآية الكريمة جحود بني إسرائيل بالنعم وعدم الشكر عليها، وفيها أقوال:
الأول: إن الله تفضل عليكم بالتوبة بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه.
الثاني: لولا فضل الله عليكم بإمهاله إياكم بعد توليتكم عن طاعته، وتوبته عليكم برجوع بعضكم لخسرتم النشأتين.
الثالث : لولا فضل الله عليكم في رفع الجبل فوقكم للتوفيق واللطف الذي تبتم عنده حتى زال العذاب عنكم( ).
وبالنسبة للقول الثالث فالآية أعم منه، إذ أنها تتحدث عن زمان ما بعد نعمة رفع الطور، أما القول الثاني فهو فرع القول الأول , وفيه إشارة للإمهال وعدم التعجيل بالعقوبة.
لقد أعرض بنو إسرائيل عن الآيات وما فيها من الدروس والمواعظ، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعطلوا أحكام التوراة وقتلوا الأنبياء، فمع المعاصي كانت تأتيهم رسلهم ولم يُتركوا في تيه عقائدي, وكان بقاؤهم في التيه آية وعبرة وتذكرة وطريقاً إلى التخلص من التيه العقائدي، وفي الآية توبيخ وتحذير من تلك الأعمال.
وكما تخبر الآية عن جحود الأجيال الماضية من بني إسرائيل فإن فيها تحذيراً لمن عاش أيام الدعوة الإسلامية من الصدود والإعراض عن الإسلام وأحكامه، وان التوبة تتمثل بإتباع خاتم النبيين.
وفي الآية درس للمسلمين بإطلاعهم على سنن الأمم السابقة , وهي حرز ومانع من إصابتهم باليأس والقنوط أو الريبة من إحتمال مواجهتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإنكار والشك والإستهزاء.
قوله تعالى [ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ]
نعمة أخرى على بني إسرائيل وهي نجاتهم من الهلاك والخسران لا بعمل منهم يستحقون به ذلك، بل بإحسان الله تعالى ولطفه وإستحداث نعمة أخرى جديدة من أظهر وجوهها الإمهال والتأخير , وعدم تعطيل النعم إلى جانب توالي بعث الأنبياء في كل جيل منهم.
وكان عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً كما وردت به الرواية عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم( )، حظى بنو إسرائيل بشطر كبير منهم فضلاً منه تعالى وحجة عليهم.
وتدل الآية في مفهومها على أن الإسلام رحمة لبني إسرائيل ونجاة لهم من الهلاك والخسران. قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ]( ) . ففي الآية إعجاز وهو ثبوت إستمرار الرحمة على بني إسرائيل حتى نزول القرآن ليدعوهم إلى التوبة والإسلام بعد أن عاشوا بفضل منه تعالى ونجوا من الإستئصال والعقاب بلطف وحلم وإمهال من الله عز وجل.
وترى الجماعات والأشخاص الذين أسلموا من بني إسرائيل , ومنهم نفر من العلماء عاشوا بالإسلام مكرمين وبدأوا لأنفسهم وذرياتهم إنعطافاً تأريخياً حاسماً، وتوجهاً عقلائياً نحو السعادة الأبدية، ولا تمر الأيام حتى ينصهروا في المجتمع الإسلامي من غير تمييز , لإبتنائه على العدل والمساواة.
لقد أتاح لهم الإسلام التفاخر بأمجادهم حتى بالنسبة للأبناء الصلبيين من الكفار الذين أسلموا كما في تلقين النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب بالتفاخر بأجدادها، وان كان ذات زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها في اليوم الذي قتل فيه أبوها وأخوها مدرسة إسلامية مستقلة من جهات :
الأولى: عدم الإساءة لنساء الذين يحاربون الإسلام.
الثانية: دعوة المسلمين للعناية بنساء أهل الملل الأخرى وإيوائهن.
الثالثة: التفكيك بين قتال الرجال، ومعاملة النساء بإحسان.
الرابعة: حث المسلمين على إجتناب إيذاء الذين بقوا من اليهود، إذ أنهم صاروا أظهار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة: مع عداوة حيي بن أخطب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن إبنته فازت بأسمى المراتب بزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها، وصيرورتها أماً للمؤمنين إلى يوم القيامة، قال تعالى[وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
السادسة: ترغيب بني إسرائيل والناس جميعاً بدخول الإسلام، وهل هذا الزواج من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، أم أن القدر المتيقن من الآية هو ما يتعلق بالتنزيل والرسالة، الجزاب هو الأول، فالحياة الخاصة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق الآية أعلاه لأنها رشحة من رشحات الوحي.
و”لولا” حرف إمتناع لإمتناع يدل في المقام على نجاة بني إسرائيل من الخسران، وفيه وجوه:
الأول: أمن وسلامة بني إسرائيل بسعيهم وصدق إيمانهم.
الثاني: نجاة بني إسرائيل برحمة وفضل الله تعالى.
الثالث: العنوان الجامع , وهو إجتماع فضل الله مع سعي بني إسرائيل في الخير ، وعملهم في مرضاة الله.
والصحيح هو الثاني، وبه جاءت هذه الآية الكريمة، ومن الإعجاز تضمن الآية نعمة الله تعالى على بني إسرائيل،ويدل توالي فضل الله تعالى على إستحداث وتجدد النعم على بني إسرائيل آية لهم وللعالمين، ومجئ الفضل والرحمة الإلهية على وجوه:
الأول: مجيء فضل الله ثم مجيء رحمة الله.
الثاني: نزول رحمة الله ثم فضله سبحانه.
الثالث: إقتران فضل الله ورحمته.
والصحيح هو الثالث، وتفيد الواو في “ورحمته” الجمع، لأن الله تعالى إذا أعطى يعطي بالأتم والأوفى وهو الواسع الكريم، ومن وجوه إكرام بني إسرائيل ان توليهم وإعراضهم عن الآيات وتخلفهم عن الميثاق والعهد الإلهي لم يمنع من تغشيهم برحمة الله وتوالي النعم الإلهية عليهم.
ترى ما المراد من فضل الله تعالى في المقام فيه وجوه:
الأول: يأتي الفضل بمعنى الزيادة، والمراد الزيادة والنافلة من النعم على بني إسرائيل.
الثاني: العفو الإلهي، والتجاوز عن ذنوب بني إسرائيل.
الثالث: إمهال بني إسرائيل وعدم التعجيل بعقوبتهم.
الرابع: تعاقب الأنبياء على بني إسرائيل , وبذل كل نبي وسعه في جذب بني إسرائيل لمنازل الإيمان، فمع قيامهم بقتل الأنبياء فان الله تعالى لم يقطع النبوة وبعثة الأنبياء من بين ظهرانيهم.
الخامس: فضل الله أعم من ان ينحصر بباب أو نعمة مخصوصة فهو نهر جارِ من النعم المتعددة في موضوعها.
السادس: تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم.
السابع: وجود الصالحين وأمة من المؤمنين بينهم تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، قال تعالى [وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ]( ) .
الثامن: الآيات والمعجزات التي يأتي بها الأنبياء التي تدعوهم إلى الهداية والإيمان متفرقة ومجتمعة، فكل آية تدعوهم إلى الإيمان والتصديق ببعثة الأنبياء.
التاسع: وجود التوراة عندهم.
العاشر: مقابلة فريق من بني إسرائيل بالمعصية الأوامر الإلهية التي تدعوهم إلى التوبة والصلاح وإجتناب السيئات فمن فضل الله تعالى على بني إسرائيل أنه سبحانه لم يخلِ بينهم وبين المعاصي، بل تأتيهم الإنذارات والبشارات للكف عن المعصية.
تدل الآية في مفهومها على أن بني إسرائيل لم يتردوا إلى منازل الخسارة والهلاك، وإن سبب نجاتهم منها هو فضل الله، وكذا في نجاتهم من آل فرعون وعبورهم البحر بمعجزة وآية من الله .
وأيهما أعظم : آية نجاتهم من آل فرعون أم نجاتهم من الخسارة كما تؤكد هذه الآية؟ الجواب هو الثاني لسلامتهم من الخسارة التي تشمل الحياة الدنيا وعالم الآخرة، وتعني الخسارة فيه الهلاك والعذاب.
بينما نعمة العبور نجاة في الحياة الدنيا وثواب وأجر الآخرة، وهل يمكن القول بأن سلامة بني إسرائيل من الخسارة فرع نجاتهم من آل فرعون بآية من عند الله، وأنه سبحانه ما نجّاهم من العذاب ليكونوا من الخاسرين.
الجواب لا ملازمة بين الأمرين، ونجاتهم من الخسارة بفضل ولطف متجدد من عند الله , ونعمة أخرى مستحدثة على بني إسرائيل غير نعمة العبور.
ومن الإعجاز في الآية وبيان عظيم نعمة الله في المقام تحقق إجتناب الخسارة بأمرين:
الأول: فضل الله.
الثاني: رحمة الله.
وفيه دعوة للمسلمين مجتمعين ومتفرقين للإستعانة بالله واللجوء إليه للأمن والسلامة من الخسارة.

قوله تعالى [ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ] الآية 65.

الإعراب واللغة
ولقد: الواو إستئنافية، والمتعارف بين النحويين انها للقسم لفظاً ومعنى وشرعاً، ولم يثبت وقد تكون زائدة للتوكيد، او للتبليغ ونحوه.
علمتم: فعل ماض وفاعل.
الذين: اسم موصول مفعول به.
إعتدوا: فعل وفاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول.
منكم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
في السبت: جار ومجرور، متعلقان باعتدوا.
فقلنا: الفاء: عاطفة، قلنا: فعل ماض وفاعل، لهم: جار ومجرور متعلقان بقلنا.
كونوا: فعل أمر ناقص مبني على حذف النون، الواو: إسمها.
قردة: خبر كان مرفوع، خاسئين: صفة، وقيل خبر ثان.
[ عَلِمْتُمْ ] أي عرفتم، والعلم عند الإنسان مسبوق بالجهل لأنه كسب، و[ الَّذِينَ اعْتَدَوْا ] في محل نصب مفعول به لأن العلم اذا كان بمعنى المعرفة تعدى إلى مفعول واحد، واذا كان بمعنى اليقين تعدى إلى مفعولين.
وقول آخر ان العلم بذات المسمى يتعدى إلى مفعول واحد لإنه معرفة وما يتعلق بالأعراض يتعدى إلى مفعولين.
و[ السَّبْتِ ] من أيام الإسبوع معروف، وفي الخبر انه سمي به لأن الله تعالى خلق العالم في ستة أيام آخرها يوم الجمعة فسمي اليوم السابع يوم السبت لإنقطاع العمل والأيام عنده، وقيل ان السبت يأتي بمعنى الدهر، وثلاثين سنة، ومنه قول أبي طالب لفاطمة بنت أسد أم الإمام علي عليه السلام إصبري سبتاً أبشرك بمثله.
وقال الزمخشري (والسبت مصدر سبتت اليهود إذ أعظمت يوم السبت)( ).
والأرجح أن التسمية أعم وتحمل مضامين لغوية ودلالات لفظية إلا أنها في المقام تعني يوم السبت من أيام الاسبوع، إن سيادة وشيوع تنظيم موحد لأيام الاسبوع في جميع أنحاء الأرض ومن قبل حدوث بدايات الإتصالات السريعة الحالية إعجاز كوني , ومدخل سماوي لتنظيم حياة أهل الأرض.
والقردة جمع قرد وهو الحيوان المعروف وقد يجمع على قرود، والأنثى قردة والجمع قِرد مثل قربة وقِرب.
والخاسئ: المطرود والذي يُبعد مع كراهة له وإزدراء.
في سياق الآيات
بعد بيان النعم العظيمة على بني إسرائيل ولطف وإمهال الله لهم، جاءت هذه الآية لتبين نوعاً من أنواع العذاب التي تعرض لها شطر من بني إسرائيل بسبب ظلمهم وعنادهم.
وإذ أختتمت الآية قبل السابقة بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] جاءت الآية السابقة بالإخبار عن تخلف بني إسرائيل عن منازل التقوى والخشية من الله، فجاءت الآية السابقة بذم بني إسرائيل لتوليهم وإعراضهم عن الميثاق، وكان فضل الله تعالى ورحمته عليهم هما السبب في سلامتهم من الخسران المبين في الحياة الدنيا والآخرة، أما هذه الآية فجاءت بذكر المعصية وما تعقبها من العقاب والعذاب الأليم وتلك آية إعجازية في قوانين الإنذار والتخويف الإلهي وتدل الآية على تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم بتنعمهم بفضل ورحمة الله .
وإذ جاءت الآية السابقة بذكر إعراض بني إسرائيل عن الآيات وتركهم العمل بالميثاق، وتغشيهم بفضل الله ودفع الأذى والبلاء عنهم، جاءت هذه الآية بنزول العقوبة بفريق منهم، وإختصاص العقوبة بفريق من اليهود دون الجميع هو نعمة أخرى على بني إسرائيل لبقائهم كأمة وأهل ملة يتحملون مسؤولية العمل بأحكام التوراة ويبشرون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد جاءت الآيات السابقة بعقوبات لبني إسرائيل هي:
الأولى: حلول الصاعقة بكبراء بني إسرائيل وهم ينظرون.
الثانية: نزول العذاب والرجز بالذين ظلموا منهم.
الثالثة: ضرب الذلة والمسكنة على بني إسرائيل لأنهم كفروا بآيات الله وقتلوا عدداً من الأنبياء، وإذ أنعم الله تعالى على كبراء بني إسرائيل وبعثهم من جديد بعد حلول الصاعقة بهم، فان هذه الآية جاءت بالإخبارعن مسخ الذين إعتدوا في السبت وصيرورتهم قردة وخنازير.
وجاءت الآيات السابقة بالعفو عن بني إسرائيل والتجاوز عن خطاياهم، فمع إتخاذهم العجل جاء العفو الإلهي بقوله تعالى [ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ] ومع أنهم تولوا عن الآيات فان الله عز وجل وقاهم العذاب بفضله ورحمته ولطفه.
وليس في الإعتداء في السبت من عفو، وفيه وجوه:
الأول: أخذهم بذنوبهم السابقة التي عفا الله تعالى عنها.
الثاني: العقوبة خاصة بالإعتداء في السبت.
الثالث: موضوعية الذنوب السابقة وظلمهم لأنفسهم في نزول العقوبة والمسخ بهم.
والصحيح هو الثاني لأن العفو الإلهي يأتي على الذنوب السابقة فيمحوها، والله تعالى إذا أعطى فانه سبحانه يعطي بالأوفى والأتم، ومنه محو العقوبة.
إعجاز الآية
الآية في منطوقها تذكرة وموعظة وعبرة وفيها إخبار تفصيلي عن شدة العقاب الذي يتناسب مع الإعراض عن عظيم الآيات.
ومن الإعجاز في نظم الآيات مجيء الآيات السابقة بصيغة الخطاب الشامل لبني إسرائيل على نحو العموم الإستغراقي، ومجيء هذه الآية بصيغتين من الخطاب هما:
الأولى: إفتتاح الآية بذات الصيغة التي جاءت بها الآيات السابقة وهي العموم ” وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ “.
الثانية: صيغة الخطاب للغائب وعلى نحو التعيين والحصر بالذين إعتدوا في السبت لأنها تتضمن العقوبة بالمسخ، مع إلتفات الآية إلى نسبة الذي إعتدوا بأنهم من بني إسرائيل وبما يفيد العودة إلى الصيغة الأولى من الخطاب وهي لغة العموم بالضمير الكاف في “إعتدوا منكم”.
ويمكن تسمية الآية بآية (ولقد علمتم)

الآية سلاح
الآية تذكير لبني إسرائيل والناس جميعا بإمكان وقوع العقاب العاجل.
ويدل في مفهومه على أمور :
الأول : التحذير من الكفر بنعمة الإسلام .
الثاني : قبح مواصلة العناد .
الثالث : بيان فضل المسلمين باتخاذهم يوم الجمعة مناسبة للعبادة.
الرابع : تدعو الآية إلى توظيف العلم والمعرفة لإصلاح الذات والإحتراز من الوقوع في المهالك والإضرار بالنفس أو الغير.
لقد جعل الله الحياة الدنيا دار عبرة وموعظة، وجاءت هذه الآية دعوة للإعتبار من الذين تجاوزوا الحد وإعتدوا يوم السبت ولا ينحصر الإعتبار من هذه الآية بالمخاطبين , فهي مدرسة في الموعظة والتدبر للناس جميعاً.
أما بالنسبة للمسلمين فمن وجوه:
الأول: الآية دعوة لهم لإجتناب التعدي مطلقاً، وبيان مبغوضيته وضرره.
الثاني: بيان تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى، بعدم حرمة العمل يوم الجمعة مطلقاً، بل يختص الأمر بأوان النداء لصلاة الجمعة ولزوم حضورها لبيان قوة الإسلام ووحدة المسلمين، وتمسكهم بأداء الصلاة وليكون الإجتماع الأسبوعي العام في صلاة الجمعة مدداً وأصلاً لأداء الصلاة طيلة أيام الأسبوع وفي الفرائض اليومية الخمسة.
الثالث: الآية حجة على اليهود، ودعوة لهم للهداية والإيمان , وحث على إجتناب التعدي، ومن مصاديق التعدي في المقام أمور:
الأول: إنكار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي جاءت بها التوراة.
الثاني: تحريف التنزيل وأخبار النبوة.
الثالث: الصدود عن المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: محاولات الإضرار بالمسلمين.
الخامس: تحريض وإعانة الكفار والمشركين في قتالهم المسلمين، وحربهم على الإسلام.
الوجه الرابع: التفقه في الدين، والعلم بقصص الأمم السالفة.
فمضامين هذه الآية من علم الغيب إختص الله تعالى بها المسلمين لتتضمن الإخبار عن الإعتداء في السبت الذي تستقرأ منه مسألة شرعية وهي حرمة العمل على اليهود يوم السبت، وإعتبار هذه الحرمة نعمة عليهم ,ولكن فريقا منهم لم يتقيدوا بأحكامها، وجاءهم الخطاب الإلهي بدخول الإسلام , وفيه تخفيف ونجاة لهم من حرمة العمل في أي يوم من أيام الأسبوع.
لقد أراد الله عز وجل لهم وللناس جميعاً التنعم بإباحة العمل في كل يوم، والإخبار عن تفضيل المسلمين بالتخفيف عنهم وكما قال سبحانه [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا] ( )، فانه سبحانه أباح للمسلمين العمل في أفراد الزمان الطولية لمنع الحرج والعسر عنهم ليكونوا ورثة الأرض وأئمة هدى يدعون الناس للإقتداء بسنن الأنبياء والصالحين.
أما بالنسبة لأهل الكتاب، فانهم يعتبرون من الآية من وجوه:
الأول: العلم بالذين إعتدوا في السبت، فلولا هذه الآية لما إستطاع
أهل الكتاب معرفة قصة الذين إعتدوا في السبت، ولطالتها يد التحريف والتعتيم والإخفاء.
الثاني: معرفة حقيقة القيود الموجودة في التوراة وشريعة موسى، وإدراك تفضيل شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم السمحاء.
الثالث: الإحاطة علماً بسوء عاقبة المعتدين من أهل الكتاب.
الرابع: الإنتماء إلى الكتاب السماوي لا يمنع من نزول البلاء والعقاب.
الخامس: دعوة أهل الكتاب لدخول الإسلام، وترك العناد والإصرار على الجحود الذي هو نوع تعدِ على النفس، وحرمان لها من التنعم بخير الدنيا والآخرة.
وأما بالنسبة للكفار والمشركين فإن الإعتبار في الآية على وجوه:
الأول: تضمن القرآن لقصص الأمم السابقة.
الثاني: دعوة الناس للرجوع إلى القرآن في معرفة الحقائق التأريخية.
الثالث: فضح الذين لم يتقيدوا بأحكام المنع يوم السبت , وإسقاط ما في أيديهم.
الرابع: حث الناس على عدم التصديق بالذين يكيدون بالإسلام.
الخامس: بيان اللطف الإلهي في أحكام الشريعة الإسلامية.
السادس: إدراك حقيقة وهي تضمن القرآن لعلوم الغيب، وبما يتضمن التحدي للذين هادوا، إذ تخبر الآية عن علمهم بموضوع الإعتداء يوم السبت والعقوبة الأليمة التي أصابت المعتدين.
السابع: الإتعاظ من الأمم السابقة، وإجتناب التعدي على المسلمين أو نصرة الذين يعتدون على الإسلام ويجهزون الجيوش للإجهاز على ثغور المسلمين.
الثامن: إدراك حاجة الناس جميعاً للإسلام ونزول القرآن.
وفي الآية تأديب للمسلمين بلزوم إجتناب التعدي العام ، والإشتراك في تجاوز الحد وظلم النفس والغير، وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: نودي الذين اعتدوا في السبت ثلاثة أصوات نودوا يا أهل القرية فانتبهت طائفة ثم نودوا يا أهل القرية فانتبهت طائفة أكثر من الأولى ثم نودوا يا أهل القرية فانتبه الرجال والنساء والصبيان فقال الله لهم كونوا قردة خاسئين البقرة آية فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون: يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برؤوسهم: أي بلى)( ).
أي لم ينزل بهم العذاب والمسخ غفلة وهم نيام، ولم يرفع عطاء الخبر , وعلى فرض صحته موضوعاً فهل فيه مناسبة للإنابة والإستغفار, الجواب نعم , وهو من الغايات الكريمة للآية.
مفهوم الآية
ما في الآية من الإخبار عن حصول علم بني إسرائيل بالظالمين منهم وسوء عاقبتهم درس وموعظة، وصحيح ان الخطاب موجه لهم إلا أنه في مفهومه موجه للمسلمين والناس جميعاً لما في القرآن من التوثيق السماوي للوقائع والأحداث، وكان بعض المنافقين يخشى ان ينزل فيه قرآن يتضمن ذماً له يكون باقياً إلى يوم القيامة.
ولو أن بني إسرائيل إستقبلوا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من الآيات بالتصديق والإتباع فهل ينزل فيهم قرآن يتضمن قبيح ما فعلوا، ويوبخهم على عدم الإلتزام بوظائفهم العقائدية والأخلاقية أزاء مواثيق النبوة، الجواب: لا، لتغير الموضوع وانتفاء السبب ولأن الإيمان ودخول الإسلام يجّب ما قبله، فهذه الآيات وما فيها من الذكرى رحمة إضافية أخرى لبني إسرائيل .
والعقوبة العاجلة والإبتلاء في الدنيا عبرة وموعظة للأجيال المتعاقبة منهم وللناس جميعاً، وفي الآية تحذير وتنبيه وتخويف من التعدي والظلم.
وفي الآية مسائل:
الأولى: الإعجاز في الإخبار عن علم بني إسرائيل بما أصاب آباءهم من العقاب العاجل.
الثانية: جاء موضوع العلم على نحو العموم الشامل لبني إسرائيل، ووقع العقاب لشطر من بني إسرائيل في العصور السالفة والمتقدمة في زمانها على نزول القرآن، مما يعني أنهم يتناقلون تلك الواقعة، ولم ينسوها، وعدم النسيان هذا آية إعجازية لأن الله سبحانه تفضل بجعلها حاضرة عندهم إلى أن نزل القرآن فوثقها إلى يوم القيامة بإخبار سماوي، مع ذكر الأسباب.
الثالثة: قدمت الآية التعدي وذكره.
الرابعة: في الآية بيان للأضرار العاجلة والآجلة التي تنتج عن التعدي.
الخامسة: جاء ذكر التعدي على نحو السالبة الجزئية لدلالة حرف الجر (من) على التبعيض.
السادسة: التقييد الزماني للتعدي والظلم , وأنه حصل يوم السبت على نحو الحصر، مما يدل على خصوصية فيها زيادة في الإثم , قال تعالى[وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا]( ).
السابعة: جاءت العقوبة من الله تعالى من غير واسطة نبي.

الآية لطف
تجعل آيات القرآن النفس الإنسانية تشتاق لفعل الصالحات، وتنفر من السيئات وتبعث في المجتمعات روح الحرص على إجتناب الذنوب، وجاءت هذه الآية لتجعل المسلمين يتفقهون في الدين، ويدركون حقيقة وهي حلول العقاب في الحياة الدنيا بالذين يصرون على ركوب المعاصي، ويتعدون حرمات الله مع قيام الحجة عليهم.
وجاءت الآية بأمور من علم الغيب وهي:
الأول: قيام فريق من بني إسرائيل بالتعدي يوم السبت.
الثاني: مجيء الإعتداء بعد نزول الآيات، ورؤيتهم للمعجزات الباهرات.
الثالث: علم بني إسرائيل بتعدي فريق منهم يوم السبت.
الرابع: لم تذكر الآية ما يدل على ذم ذراري بني إسرائيل للذين إعتدوا يوم السبت , وهذا لم يمنع من وجود أمة من بينهم تذم ذات التعدي , وتنهى عنه , ويدل عليه قوله تعالى[وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( )، والآية أعلاه دعوة متجددة لذم فعل الذي إعتدوا في السبت، والحرص على إجتناب التعدي مطلقاً , وتأكيد وتفسير لمضامين آية البحث.
الخامس: جاءت الآية بلفظ “التعدي” وهو قبيح شرعاً وعقلاً، وفيها إعانة للناس جميعاً للنفرة من التعدي في الشرعيات والمعاملات , وتوكيد حقيقة وهي نهي بني إسرائيل عن الصيد يوم السبت.
السادس: الإخبار عن التعدي وما حلّ بأصحابه والإشارة إلى أنهم من بني إسرائيل إنذار وتحذير لبني إسرائيل من التعدي على المسلمين.
السابع: نزول العقوبة من الله تعالى على الذين إعتدوا مباشرة من غير واسطة النبي، فكما ان العبادة صلة وحبل بين العبد وبين الله، فكذا العقوبة تنزل من الله تعالى على المعتدين، ويكون الرسول حجة عليهم في التبليغ والإتيان بالبشارات والإنذارات.
الثامن: لم تكتفِ الآية بجعل المعتدين قردة , فهم مطرودون من رحمة الله، في توكيد على عدم العفو عنهم، إذ جاءت الآيات السابقة بالعفو كما في قوله تعالى [ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وجاءت هذه الآية بالعقوبة المقرونة بالطرد من رحمة الله ومن سنخية البشر، مما يدل على أن هؤلاء لم يشكروا الله ولم يتعظوا وينتفعوا من العفو الإلهي بل تمادوا في المعاصي وإرتكاب السيئات.
التاسع: بنزول هذه الآية أصبحت أجيال المسلمين وإلى يوم القيامة تعلم بقصة أصحاب السبت وتعديهم وظلمهم , وقد يقال لماذا هذه العقوبة الشديدة على التعدي في السبت مع عظيم فضل الله تعالى على بني إسرائيل , والجواب على وجوه:
الأول: التعدي في السبت مخالفة للميثاق الغليظ الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل، وتبين الآية شدة العقوبة على مخالفته.
الثاني: تأديب عموم بني إسرائيل وحثهم على تعاهد العمل بالتوراة والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: رؤية بني إسرائيل للآيات التي تتضمن العقوبة العاجلة، لتكون مقدمة ومرآة لعذاب الآخرة للذين يستحقونه، ومن الآيات مجيء هذه العقوبة بعد الإنذار برفع الطور فوق بني إسرائيل وأمرهم بأخذ الأحكام بقوة، والتقيد بالمواثيق.
إفاضات الآية
في الآية تنزيه للذين آمنوا بنجاتهم من العذاب والعقاب العاجل الذي يدل على عدم تعديهم، ولابد ان الذنب الذي يؤدي إلى عقوبة عاجلة كبير , وله آثار على الملة والأجيال اللاحقة، لقد إستطاع المسلمون الإتعاظ والإعتبار من هذه الآية والتقيد بأحكام الإسلام وإجتناب الضلالة والغواية , وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ترى ما هي علة تعديهم في السبت ودوافعه، الجواب إنه من شره وطمع النفوس وإختيار العمل في اليوم الذي إمتحنهم الله فيه بتعطيل الأعمال ، وجاءت العقوبة الشديدة لأن بني إسرائيل رأوا المعجزات الحسية الباهرات , ومن ينزل عليهم المن والسلوى ستة أيام في الأسبوع في التيه يجب أن تثبت عنده ملكة القناعة والرضا بفضل الله، ولا يطمع بالحرام ويتخذه وسيلة للكسب، وهو من مصاديق خاتمة الآية[وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ]، وليرضى المسلمون بما يزرقهم الله من الإيمان والمال والرزق الكريم، ولا يتخذوا الحرام مقدمة للكسب المالي، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ). الصلة بين أول وآخر الآية إبتدأت الآية بالإخبار عن علم بني إسرائيل بحال قوم منهم عصوا الحكم التكليفي يوم السبت، وإذ تبين الآية موضوع العلم فإن المخاطبين الذين يعلمون به على وجوه: الأول: المقصود بنو إسرائيل أيام البعثة النبوية المباركة، وأنهم هم الذين يعلمون بالمعتدين. الثاني: إرادة عموم بني إسرائيل أيام نزول عقوبة المسخ إلى قردة في المعتدين من قومهم، لأن الآيات جاءت بصيغة الخطاب مع إرادة الأولين من بني إسرائيل والذين كانوا مع موسى عليه السلام من بني إسرائيل، من جهات: الأولى: ما لاقوه من عذاب فرعون وقومه في مصر ، كما في قوله تعالى [يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ] ( ) . الثانية: نجاتهم من آل فرعون وعبورهم البحر بآية إنفلاقه وإنكشاف اليابسة لهم من تحت الماء بقوله تعالى [وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فإنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ]( ). الثالثة : نزول المن والسلوى على بني إسرائيل وهو في التيه، ولو شاء الله لأحيى لهم الأرض , وسقيت بالغيث أو عصا موسى أو بهما معا, ولكنه جل وعلا أراد إكرامهم بمائدة سماوية . الرابعة : جريان وإنفجار الماء من الحجر بضرب موسى عليه السلام له بعصاه . وجاءت الخطابات بصيغة الخطاب في لوم بني إسرائيل على فضل آبائهم مثل قوله تعالى [ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ]( ). ولا تعارض بين الوجهين أعلاه في المقام فقوله تعالى [وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ] يشمل الذين كانوا حاضرين القرية ورأوا إخوانهم المعتدين كيف يمسخون قردة، ويشمل العلم بالواقعة اليهود أيام البعثة النبوية المباركة ونزول القرآن. وذكرت الآية موضوع التعدي والظلم الصادر من قوم منهم، بدلالة حرف الجر في (منكم) والذي يفيد التبعيض , وجاء الضمير الكاف لإفادة الحصر بإن الذين ظلموا هم من بني إسرائيل، وليس من غيرهم، وفيه لوم خاص للذين إعتدوا من بني إسرائيل دون الجميع، وقد نهى قوم من بني إسرائيل المعتدين عن الصيد يوم السبت والإحتيال بحجز الحيتان يوم السبت، بإعتبار أنهم زُجروا عن العمل يوم السبت، وحجز يوم السبت عمل، ومقدمة لصيدها يوم الأحد، ولولا هذا العمل لفاتهم صيدها يوم الأحد. وقيدت الآية موضوع التعدي بزمان مخصوص وهو يوم السبت، ويحتمل وجهين: الأول: إرادة يوم سبت مخصوص، وأن التعدي حصل لمرة واحدة. الثاني: تكرر المعصية في الأسابيع المتعاقبة، وأنهم كانوا يزاولون العمل والصيد يوم السبت من كل اسبوع. والصحيح هو الثاني من وجوه: الأول: قوله تعالى [وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ] والذي يفيد حصول العلم، وهذا العلم لا يأتي غالبا بالمرة الواحدة، بل بالكثرة والتعدد. الثاني: نزول العقوبة الشديدة بالذين إعتدوا، مما يدل على إقامة الحجة على الذين إعتدوا. الثالث: ورود الأخبار التي تدل على تعدد وتعاقب التعدي , وعن ابن عباس أن الحيتان تجتمع كل سبت خاصة عندهم، وأن الذين كرهوا الصيد يوم السبت نهوهم فلم ينتهوا، وقالوا نحن في هذا العمل منذ زمان فما زادنا الله به إلا خيراً( ). لقد أنعم الله تعالى على بني إسرائيل بالتفضيل وأكرمهم بنعم ظاهرة وباطنة، وجاء الإبتلاء بكثرة الحيتان يوم السبت، فاستطاع قوم منهم أن يصبروا، وينجحوا في هذا الإبتلاء، وعجز قوم منهم عن بلوغ مراتب الصبر والتقيد بأحكام وسنن التوراة، فنزل بهم العذاب، والآية من مصاديق وإستدامة موضوع رفع الطور فوق بني إسرائيل للأخذ بالتوراة. لقد قبِل بنو إسرائيل بالعمل بالتوراة حينما رفع الله تعالى الطور فوقهم، وهذا القبول لا يكون في ساعة وحال رفع الطور وحده , لأن الإنذار بالعقوبة العاجلة دائم ومستديم، ومصاحب لهم إلى يوم القيامة، فرفع الطور شاهد على حضور العقوبة والعذاب حال تعديهم وإمتناعهم عن العمل بالتوراة . فإن قلت لماذا لم تحصل آية رفع الطور وطرحه عليهم عند إعتدائهم في السبت، الجواب من وجوه: الأول: بيان عظيم قدرة الله تعالى، وأنه سبحانه يعاقب بما يشاء. الثاني: التباين بين لغة الإنذار برفع الطور، وبين حلول أوان العقوبة بالمسخ. الثالث: جاء الإنذار برفع الطور لعامة بني إسرائيل، أما العقوبة بالمسخ فمحصورة بالذين إعتدوا منهم يوم السبت. الرابع: حينما دخل بنو إسرائيل القرية صارت عندهم منازل وبيوت، وأصبح بعضهم يجاور بعضاً. الخامس: نعت فعلهم وصيدهم في السبت بأنه تعد شاهد على سبق الإنذار. فجاءت العقوبة على الذين إعتدوا منهم في السبت على نحو الخصوص والتعيين، وإن وردت بعض الأخبار بأنهم جعلوا حاجزاً بينهم، لتفيد عقوبة المسخ الإحصاء والحصر لهم، وتشمل الخارج عن جماعته أو منشغلاً بالصيد، أو جالساًَ في بيته، دون غيرهم وأن جمعه معهم المكان والموضوع، دون الفعل المنهي عنه. السادس : أراد الله تعالى الإعتبار والإتعاظ، وبقاء أمة من بني إسرائيل على العمل بالتوراة عند طرو إبتلاء مستحدث بتعاقب الأيام والسنين. السابع : تعدد صيغ العقوبة الإلهية دعوة للناس للحيطة والحذر والإحتراز من فعل السيئات. وإبتدأت الآية بقوله تعالى [وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ] وأختتمت بنزول العذاب بالظالمين، وجعلهم قردة لا عقل لهم، ولا يعلمون ولا يفقهون علماً، لتكون الآية إنقطاعاً في ذرية ونسل قوم منهم، وإنحصارا للخطاب والنسل والذرية بقوم من بني إسرائيل إجتنبوا الإعتداء في السبت، وهو من بركات رفع الطور عليهم، وتنمية ملكة الحرص على العمل بالتوراة بينهم. فكان الذين لم يعتدوا ولم يصيدوا يوم السبت يعلمون ما سيحل بالمعتدين من العذاب , لحضور الميثاق وعهدهم بأخذه بقوة , ويحتمل الإعتداء وجوهاً: الأول: حصول الصيد يوم السبت عن جهل وغفلة. الثاني: إرادة صيد السمك والحيتان طمعاً، مع العلم بالمعصية والذنب في الفعل ولزوم الكف والإمتناع عنه. الثالث: مصاحبة الإستغفار للتعدي، فهم يعلمون بقبح ما يفعلون وإصرارهم عليه، فيبادرون في كل مرة إلى التوبة والإنابة. الرابع: إرتكاب معصية الصيد مع إستحلاله وعدم الإلتفات إلى حرمته، وإلى ما في التوراة من النهي عن العمل يوم السبت. والصحيح هو الرابع، لذا إتصفت العقوبة بالشدة , وشملت الذين إعتدوا جميعاً. وجاءت الآية بذكر الذين إعتدوا وموضوعه ذي الصبغة الزمانية، بقوله تعالى[الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ] ويفيد حرف الجر (من) في ( منكم ) التبعيض وأن حكم حرمة الصيد يوم السبت خاص ببني إسرائيل، وهو من الشواهد على تفضيلهم بالنعم، ليتعاهدوا العبادة وذكر الله تعالى يوم السبت، ويكون هذا اليوم مناسبة كريمة للمواظبة على العمل بالتوراة، وإستحضار البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرة الأنبياء. أما موضوع التعدي فقد جاءت الأخبار المتواترة ببيانه وأنه يخص الصيد يوم السبت، أما متعلق التعدي فهو على وجوه: الأول: ظلم النفس بإرتكاب المعصية , قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ]( ). الثاني: التعدي على عموم بني إسرائيل بإيذائهم بالصيد والعمل يوم السبت مع أنه يوم عبادة وذكر لله تعالى. الثالث: التعدي على الذرية والأبناء بترك معصية تركة لهم وهو الصيد يوم السبت. الرابع: التعدي على الميثاق والعهد وأحكام التوراة. الخامس: تعد كل فرد من الطائفة المعتدية على صاحبه بإغرائه بالصيد، وعدم المبادرة إلى نهيه وزجره، وبيان سوء الفعل والمعصية. السادس: التعدي يوم السبت مدخل وباب لتعديات أخرى يتجرأون فيها سواء ذات الجماعة والطائفة، أو غيرهم من بني إسرائيل، وهو سبب لشيوع المعصية والفساد في الأرض. وجاءت هذه الآية بالتوثيق السماوي الخالد لأمور: الأول: علم بني إسرائيل بتعدي فريق منهم. الثاني: موضوع التعدي وهو العمل المنهي عنه في السبت، وفي الآية شاهد بأن التعدي لا ينحصر بظلم الغير، بل يشمل التعدي والظلم للنفس، لذا ورد قبل آيات قوله تعالى [وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ). الثالث : تعيين موضوع التعدي، وعدم تركه مجملاً أو مبهماً، فجاء بخصوص العمل يوم السبت، وقد يقول قائل، هل هذه العقوبة كلها والمسخ إلى قردة بسبب العمل يوم السبت، والجواب على وجوه: الأول: يتعلق الأمر بالعمل بالتوراة، ولزوم عدم ترك ما فيها من الأوامر والنواهي. الثاني: إن الله عز وجل فضّل بني إسرائيل , وأسبغ عليهم النعم الكثيرة ظاهرة وباطنة، ولابد من الشكر لله تعالى بالطاعة وعدم المعصية. الثالث: جاء الإنذار الإلهي برفع الطور فوق بني إسرائيل، فقدموا العهود والمواثيق على العمل بالتوراة. الرابع: لقد جاءت التوراة لهداية بني إسرائيل لقوله تعالى [وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( )، ويدل في مفهومه على نزول البلاء بمن يتمادى في المعصية منهم، ويحاول إفشاء السيئات والمعاصي في بني إسرائيل. الخامس: ليست هذه العقوبة أول عقوبة يتعرض لها بنو إسرائيل فقد أمرهم الله بقتل أنفسهم بعد عبادتهم العجل ونزلت الصاعقة بهم لسؤالهم موسى عليه السلام رؤية الله. السادس: إن الله عز وجل [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ). السابع: لقد جاء مسخ الذين إعتدوا في السبت وقاية وسلامة للذين نهوا عن التعدي،لأن فيه تجديداً للإيمان، وزجراً لمن بقي من بني إسرائيل من التعدي والإصرار على مخالفة الميثاق . وفي مسخ الذين إعتدوا جواب على كلام الملائكة مع الله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ومصداق لقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] فمن علمه تعالى حلول العقوبة الشديدة بالذين يعتدون من الأمة التي فضلها الله تعالى على غيرها من الأمم، وأكرمها بالتوراة، وأنذرها بطرح الطور عليها، لتتجلى الحاجة إلى أمة تتقيد بأحكام الشريعة، وتتعاهد التنزيل وتصونه من التحريف وهم المسلمون. وجاء في الآيات السابقة لفظ [قُلْنَا] خطاباً من عند الله لبني إسرائيل بما فيه نفعهم وفتح أبواب الخير عليهم، كما في قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا]( ). وتضمن لفظ (قلنا) هنا عقوبة وبلاء شديداً بصيرورتهم قردة مطرودين من رحمة الله تعالى، ويحتمل الأمر بقوله تعالى [كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ] وجوهاً: الأول: مجئ الأمر من الله تعالى بواسطة ملك من الملائكة. الثاني: كل فرد من الذين طالتهم العقوبة نزلت العقوبة عليه بواسطة ملك معين، ليكون عدد الملائكة النازلين بالعقوبة بعدد الذين شملتهم العقوبة. الثالث: جاء الأمر من الله تعالى من غير واسطة ملك. الرابع: جاء الأمر بواسطة أنبياء بني إسرائيل. والظاهر هو الثالث، وقد أنعم الله تعالى على الناس، بأن يأتي الملائكة بالوحي للأنبياء، وبنصرة المسلمين، وهذا القول من عمومات قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ). وتدل الآية على الإستجابة والتنجز , والأمر بالمسخ لا يقدر عليه إلا الله تعالى، ويأتي من غير واسطة أحد من الملائكة أو الأنبياء , فالله تعالى هو الخالق البارئ المصور، وهو المبدئ والمعيد أنزل العقوبة بالذين إعتدوا من بني إسرائيل موعظة وعبرة ومصداقاً لآية رفع الطور , ودعوة للذين بقوا منهم للإستمرار بأخذ التوراة والحرص على العمل بحلالها وإجتناب ما نهت عنه , ولم يكن موسى عليه السلام موجوداً في زمان مسخ فريق من بني إسرائيل , وفيه مسائل: الأولى: يحرص موسى عليه السلام على نهي بني إسرائيل عن التعدي والحرام مطلقاً، وكان يتلقى الأذى والمشقة منهم من أجل تقويم أفعالهم وإصلاح أحوالهم . ( روي عن ابن عباس : أن هؤلاء القوم كانوا في زمان داود عليه السلام بأيلة على ساحل البحر بين المدينة والشام , وهو مكان من البحر) ( ). الثاني: إنقطاع موسى عليه السلام للعبادة والدعاء والتوسل إلى الله تعالى بدفع العقوبة والبلاء عن بني إسرائيل. الثالث: مبادرة الأنبياء مطلقاً إلى الإستغفار لقومهم. الرابع: وجود موسى بين ظهرانيهم موضوع لإجتماعهم حوله، وتجلي شأن وفعل للصالحين منهم، وكان بنو إسرائيل قبل نزول العقوبة على ثلاثة أقسام: الأول: قوم زاولوا الصيد يوم السبت مع علمهم بحرمته. الثاني: فريق نهوا قومهم عن هذا الفعل القبيح، وأنذروهم من الإستمرار فيه. الثالث: فريق سكت عن الأمر، ولم يوجه اللوم إلى المعتدين، ولعل فيه تثبيط عزائم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يتجلى بالقول[لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ] ( ). ومن الآيات في نيل المسلمين مرتبة (خير أمة) إشتراكهم جميعاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ولو على نحو الكفاية , وليس فيهم أمة مقيمة على المعصية والتعدي، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ). ومن خصائص (خير أمة) عدم وقوع المسخ فيهم إلى يوم القيامة لإجتنابهم أسبابه ومقدماته كما خفف الله عز وجل عنهم، وجعل لهم يوم الجمعة عيداً، ولم يحرم فيه العمل والبيع والشراء. لقد أصر فريق من بني إسرائيل على إرتكاب المعصية فكانوا[كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً]( )، فجاء المسخ لإعدام صورة وهيئة الإنسان عندهم، وما فيها من الإكرام والنعم، ليكونوا كما إختاروا من الجهالة والضلالة والعمى. أما الآية محل البحث فقد أخبرت عن صيرورتهم قردة مطرودين من رحمة الله، يرون ما آلت إليه حالهم، وليس من سبيل إلى التوبة والإنابة والعودة إلى هيئة الإنسانية، وهؤلاء القردة لم يعمروا كثيراً، ولم يتناسلوا أو يتكاثروا كي يقال أن في القردة في هذا الزمان فصيلة كان أصلها من الإنس، وقد ورد في الأخبار بأنهم لم يمكثوا على هذه الحال إلا ثلاثة أيام, وتتجلى ماهية العقوبة من جهات : الأولى: المسخ إلى صورة وهيئة القردة، وصيرورتهم من ذات الأربع. الثانية: فقد القدرة على النطق وهو الفصل الذي يميز الإنسان. الثالثة : الموت والهلاك بعد ثلاثة أيام. الرابعة : إنقطاع النسل والذرية التي يراها الإنسان ذكراً أو أنثى إمتداداً لبقائه في الدنيا، ويختص المؤمن بالإنتفاع من الولد في زيادة الحسنات، ومجيء الثواب له وهو في قبره، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”)( ). ولو كان لأحد الذين صاروا قردة ولد صالح من الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فهل ينفع دعاؤه أباه في الآخرة، الجواب نعم، والله عز وجل أكرم من أن يعاقب مرتين وقد نال الذين إصطادوا في السبت عمداً وتعدياً عقوبة شديدة في الدنيا. فكان عذابهم على وجوه : الأول: المسخ إلى قردة المقرون بالذلة والهوان , ليدل قوله تعالى (خاسئين) على عدم فقدهم لحواسهم على نحو السالبة الكلية , وأنهم كانوا يدركون ما حولهم , وهذا الإحساس جزء من العقوبة. الثاني: تمني الموت على البقاء على هيئة القردة. الثالث: الصغار والخزي بحضرة إخوانهم الذين سلموا من العقاب الأليم. الرابع: اليأس من الرجوع إلى حال الإنسانية. الخامس: نزول الموت بهم في اليوم الثالث. السادس: أصبحوا ومن ساعة المسخ عبرة وموعظة وزاجراً لإخوانهم من بني إسرائيل، وسبباًُ وتأديباً وبعثاً لتقيدهم بأحكام التوراة . السابع: المسخ آية حسية ودعوة للتطلع إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والفوز بالأمن والسلامة من المسخ والقتل على الكفر والعناد. الثامن: حث الناس على إجتناب اللهث وراء الدنيا، والإمتناع عن الكسب الجماعي للمال الحرام. التاسع: في مسخهم تأديب لإخوانهم للتقيد بأحكام التوراة. وجاءت الآية بأمور: الأول : الخطاب لبني إسرائيل[وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ] ويشمل الموجود والمعدوم منهم، أما الموجود أوان نزول أوان نزول القرآن , فتدل عليه لغة الخطاب في الآية وزمان نزولها، وأما أسلافهم فإنهم شاهدوا آية المسخ ونقلوا خبرها إلى ذراريهم وأعقابهم. الثاني: مسخ الذين إعتدوا من بني إسرائيل، والذي جاء بصيغة الخبر والتوثيق الإلهي. الثالث: دعوة المسلمين للتدبر في قصص الأمم السابقة، وإقتباس الدروس والمواعظ منها، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ]( ). ويحتمل نزول العذاب في ماهيته وجهين: الأول: بيان قانون في الإرادة التكوينية ,وهو إذا كان فريق من الذين فضلهم الله بقوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، نزل العذاب على طائفة منهم ، فمن باب الأولوية أن ينزل العذاب بغيرهم من الناس. الثاني: إنما جاءت العقوبة الشديدة لأن بني إسرائيل رأو الآيات الباهرات، وتواليت عليهم النعم فقابلوها بالجحود، وأخذ الله عز وجل عليهم بالمواثيق وأمرهم بتعاهدها والتقيد بمضامينها، وقد ورد قبل آيتين[خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ]( ). والصحيح هو الثاني، وليس من حصر لنعم الله عز وجل على الناس مجتمعين ومتفرقين، فذكر هذه الآيات لنعم الله عز وجل المتعددة والكثيرة على بني إسرائيل لا يتعارض مع كثرة النعم على غيرهم من عموم الناس، ويدل عليه قوله تعالى[فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا] وإن كان الزجر عن المعصية أعم من العقوبة. التفسير الذاتي جاءت الآية السابقة بنجاة بني إسرائيل من الخسارة، مع إستحقاقهم العقاب لتوليهم عن الميثاق، ولكن نجاتهم جاءت بفضل ورحمة من عند الله، وفيه شاهد على تفضيل بني إسرائيل والنعم العظيمة التي أنعم الله عز وجل بها عليهم، وجاءت هذه الآية لبيان موضوع آخر حلت فيه العقوبة بأهل المعصية منهم. ومن إعجاز الآية أنها تتكلم عن موضوع يعلم به بنو إسرائيل الذين كانوا معاصرين لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فلا يعني العلم المذكور في هذه الآية “ولقد علمتم” بأنهم لا يعلمون بمضامين الآيات السابقة، ومنها التولي عن الميثاق ورفع الطور ونجاتهم من فرعون فهم يعرفونها, وذكرها القرآن بلحاظ أنها نعم عظيمة تفضل الله عز وجل بها عليهم وهو من عمومات قوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( ). وجاءت هذه الآية لبيان البطش الإلهي والعقوبة العاجلة التي لحقت الذين قاموا بنقض الميثاق يوم السبت بحجز الحيتان الكبيرة يوم السبت وصيدها يوم الأحد. وأصل السبت مصدر يقال سبت يسبت سبتاً إذا قطع , وتقدير الآية “إعتدوا منكم في يوم السبت” وقيل سمي سبتاً لأن اليهود يسبتون فيه أي يقطعون فيه الأعمال، ولفظ “السبت”عربي. ترى كيف وافق معناه تعطيل اليهود أعمالهم فيه، إنه أمارة على قدم اللغة العربية على السريانية والعبرية، وجاءت النصوص بخصوص يوم السبت والفراغ من الخلق فيه، مما يرجح ان تكون لغة آدم عليه السلام هي العربية، وجاء قيد “منكم” لمنع إنكارهم , ونفي كون الذين مسخوا من غيرهم، فجاءت الآية لتوكيد أمور: الأول: الذين إعتدوا هم من بني إسرائيل. الثاني: بيان موضوع الإعتداء وهو الصيد والعمل يوم السبت، وهو محرم عليهم. الثالث: نعت بأنه تعدِ وظلم وتجاوز للحد، إذ قاموا بالصيد يوم السبت مستحلين له. الرابع: نزول العقوبة العاجلة بهم بمسخهم قردة مطرودين عن رحمة الله سبحانه. وفي هذه الآية مدرسة في الموعظة والإعتبار للمسلمين، وواقية من آثار الجدال والشك الذي يثيره أهل الخصومة والعناد، وتوثيق سماوي لآية المسخ، ومنع من تحريفها وتبديلها، والزجر عن حدوث مقدماتها وأسبابها في غيرهم من أهل الملل والنحل. وليس من فترة وإمهال بين التعدي في السبت وبين المسخ بدليل العطف بالحرف الفاء “فقلنا لهم كونوا قردة” ولم يستطيعوا التخلف عن أمر الله عز وجل , وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، ويحتمل الأمر بالمسخ وجوهاً: الأول : تحمل الآية على ظاهرها , وأن القول من الله صدر لهم من غير واسطة. الثاني: جاء الأمر بواسطة ملك الموت لأنه مسخ وخروج وطرد من جنس الإنسانية، وهو ملحق بالموت، وذكر أن المسوخ لا تبقى أكثر من ثلاثة أيام. الثالث: تم المسخ بواسطة نبي زمانهم. الرابع: حصل المسخ بواسطة بعض الملائكة , فقد ينزل الملائكة للرحمة أو للعذاب بأمر من الله، وقد نزل آلاف منهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يوم بدر وأحد وغيرهما , قال تعالى [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ) . والصحيح هو الأول , وفيه مسائل: الأولى: بيان حقيقة وهي أن المسخ غير الموت الذي يتولى فيه ملك الموت قبض الأرواح، قال تعالى[قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ]( ). الثانية: المسخ عقوبة عظيمة لا يتولاها إلا الله عز وجل الذي نفخ من روحه في آدم. الثالثة: بيان عظيم قدر الله وسعة سلطانه، وهل في الآية إنذار وتحذير من توظيف إرتقاء العلم والطب ونوعية الأسلحة الجرثومية لتغيير في جنس وما هية الإنسان بالمعالجة والجراحة ونحوها، الجواب نعم، لتكون الآية دعوة للمؤمنين للتوقي وأخذ الحائطة من هذه الحرب والأسلحة وبما ينفع بتعاهد كلمة التوحيد في الأرض , وإجتناب المعاصي في فعل السيئات. وفي الآية أعلاه إنذار وتحذير لبني إسرائيل من التعدي على المسلمين ونقض العهود معهم، ومنعهم من تأليب وإعانة المشركين على ثغور الإسلام من باب الأولوية، لأن التعدي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أكبر من التعدي في يوم السبت. ولما زحفت قريش وغطفان على المدينة في معركة الخندق نقضت بنو قريظة عهدها مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما أصاب بعض المسلمين بالفزع والخوف، وقال معتب بن قشير وهو من الصحابة ولم يكن من المنافقين (كان محمد يعدنا أنا نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط)( ). ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أظهر أسمى معاني الصبر والتوكل على الله عز وجل وهو من عمومات الوحي لتقتدي به أجيال المسلمين إلى يوم القيامة، ويتخذوا من سنته وسيرته المباركة المواعظ والعبر والدروس , وهو تأسيس للمصداق الخارجي للآية الكريمة أعلاه والذي يتقوم بالوجود المادي الملموس ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا]( )، وعندما سمع النبي بنقض بني قريظة للعهد قال (الله أكبر أبشروا يامعشر المسلمين)( ). وما أن إنسحبت قريش من معركة الخندق، ورجعت تجر أذيال الخزي والحسرة في عجز وقهر حتى نزل جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمره أن يسير نحو بني قريظة ليحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، وقذف الله في قلوبهم الرعب إلى أن فتح الله عز وجل للمسلمين. ولقد أخذ الله عز وجل موثقاً على بني إسرائيل بخصوص يوم السبت وعدم التعدي فيه، قال تعالى [وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا]( ). وجاء في القرآن ما يدل على أن الذين إعتدوا يوم السبت هم طائفة من أهل قرية من قرى بني إسرائيل ، قال تعالى [وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ]( )، وكان شطر منهم ينهون هؤلاء ويمنعوهم من التعدي، وفيه حجة عليهم، وأن العذاب لم يأتهم بغتة، فمن فضل الله عز وجل على بني إسرائيل وجود من يأمر وينهى عن المنكر من بينهم، قال تعالى [وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ] ( )، وقال مجاهد: لم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله , كما قال [ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا]( ). وحكي عنه أيضاً أنه مسخت قلوبهم , فجعلت كقلوب القردة لا تقبل وعظاً( ). وهذا القول مردود من وجوه: الأول : يحمل الكلام العربي على ظاهره والمتبادر منه إلا مع القرينة الصارفة إلى المجاز، وهي معدومة في المقام. الثاني: أصالة الحقيقة في الكلام. الثالث: جاءت الآية لبيان شدة العقوبة، لذا قال الله سبحانه في الآية التالية [فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا]( ) أي من القرى والأمم، وقد لا يكون في مسخ القلوب عبرة ظاهرة للناس الحاضر منهم والأجيال اللاحقة. الرابع: تتضمن الآية تحدي اليهود بقوله تعالى “ولقد علمتم” ولو كانوا لا يعلمون بحصول المسخ في أسلافهم، لأنكروا مضامين هذه الآية، ولإحتج يهود المدينة، وقالوا لم يحصل مسخ. الخامس: ذكرت الآية وصف حالهم بعد المسخ، وتحولهم إلى جنس آخر من ذوات الأربع. وعن ابن عباس فمسخهم الله تعالى عقوبة لهم , وكانوا يتعاوون وبقوا ثلاثة أيام لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتناسلوا , ثم أهلكهم الله تعالى وجاءت ريح فهبت بهم وألقتهم في الماء , وما مسخ الله أمة إلا أهلكها( ). التفسير قوله تعالى [ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ] الآية خطاب لبني إسرائيل بقوله تعالى [ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ ]، أي أن موضوع الإعتداء في السبت معلوم عند بني إسرائيل ومنهم الذين خصوا بالخطاب، أما أنه مذكور في التوراة او ان علماءهم وشيوخهم ينقلونه للأبناء جيلاً بعد جيل باعتبار انه تجاوز للحد ومعصية وخلاف لما أمروا به , وجاء القرآن لتوكيده ووقف التحريف في الكتب السابقة , قال تعالى[وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]( ). فلقد أٌمر بنو إسرائيل بترك الصيد يوم السبت بإعتباره يوم إنقطاع للعبادة، ولا ينحصر المنع بالصيد وحده إلا أنه أظهر موارده أو ان الإبتلاء جرى لهم في مسألة الصيد دون غيرها وكان فيها الإفتتان والإختبار، إذ كانت الحيتان تأتي يوم السبت وتبدو قريبة المنال سهلة الصيد فتنة لهم , تتجلى ظاهرا بما في ذلك اليوم من أمن الأنهار من الصيادين وآلاتهم وحركتهم. وعن ابن عباس: أن هؤلاء كانوا في زمان داود عليه السلام بأيلة على ساحل البحر بين المدينة والشام، وهو مكان من البحر يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السنة حتى لا يُرى الماء لكثرتها وفي غير ذلك الشهر في كل سبت خاصة. فقام نفر منهم بحبس الحيتان والأسماك الكبيرة بواسطة حفر حياض خاصة وإجراء الجداول لها وما يسمى اليوم ببحيرات الأسماك ولكنها متصلة مع النهر بممر لدخول الأسماك دون خروجها ، أو تربط الحيتان يوم السبت ثم يأخذونها يوم الأحد , ولا مانع من تعدد طرق الصيد والحيلة فيه , مع النهي المطلق في الأصل وزجر بعض صلحائهم عن هذا الفعل ليس لأنه صيد بالواسطة فحسب، لإرادة الصيد من الحبس، بل لإن النهي عن الصيد يوم السبت لا ينحصر بذات الفعل بل يشمل أسبابه ومقدماته. فيتعلق النهي بالصيد وبمقدماته الموصلة عقلية أو شرعية , وظاهر الآية أن الإعتداء في السبت كان معصية وليس تابعاً محضاً للصيد في يوم الأحد، أو أن إيجاب الشئ يقتضي حرمة ضده العام، سواء على القول بأنه علة ومقدمة للصيد وان مقدمة الحرام حرام، أو على القول بأنهم تمادوا في حبس الحيتان يوم السبت حتى قاموا بصيدها يوم الأحد. وروي عن الحسن البصري (إنهم إصطادوا يوم السبت مستحلين بعد ما نهوا عنه)( ). وتفيد (من) في قوله تعالى [ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ ] التبعيض، أي ان الذين إعتدوا وعصوا يوم السبت كانوا جماعة من بني إسرائيل وليس كلهم، ويحتمل متعلقه وجوهاً: الأول: أهل زمان واقعة المسخ من اليهود. الثاني : سكان تلك القرية. الثالث : شطر من أهل تلك القرية. الرابع : نفر من سكان القرية ومن قرى متعددة. الخامس : جماعة من أهل زمان الواقعة أو أزمان متعاقبة. أما بالنسبة للوجه الأول فينفي إطلاقه بعثُ الأنبياء فيهم ووجود الصلحاء منهم , كما في قوله تعالى [ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ]( ). ويقيد الوجه الثاني ويمنع إطلاقه قوله تعالى بخصوص موضوع الصيد يوم السبت [ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( ).
وأما بالنسبة للوجه الرابع فان سرعة العقوبة وشدتها وما تمثله من الموعظة والتذكرة للأجيال اللاحقة تجعله بعيداً بلحاظ جهة التكرار والأفراد الطولية , وكذا بالنسبة للوجه الخامس من باب الأولوية.
والصحيح هوالوجه الثالث أعلاه خاصة وأن القرى ليست كلها على البحر، ولم يكن بنو إسرائيل منتشرين آنذاك بقرى متعددة كثيرة فجعلهم الله آية وموعظة.
لقد جاءت الآية الكريمة بنعت فعلهم بالإعتداء لأنه جاء بعد النهي عن الصيد كما في قوله تعالى [ وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثاقًا غَلِيظًا ]( ).
وفي الآية (ورد عن الأشاعرة أن إرادة الإضلال جائزة من الله تعالى، وأما المعتزلة فقالوا بأن التشديد في التكاليف حسن لغرض إزدياد الثواب)( ).
ولكن موضوع الآية خال من الإضلال أو التشديد في التكاليف إنما هو عقاب وأثر مترتب على الإفتتان في دار الدنيا , ولا يحمل أية خصوصية إعتبارية زائدة، وأنه إمتحان يسير ورزق لو صبروا قليلاً لجاءهم بالحلال ومن غير عقاب، أي لم يكن الله قد أضلهم وإن كان يعلم سوء عاقبتهم، لأنه تعالى فاعل مختار عالم ، وهو سبحانه منزّه عن القبيح.
ولقد جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان، وفيها نوع ملازمة بين التكليف والإبتلاء، ويتناسب الإبتلاء طردياً مع درجة الإيمان والتقوى، ويبدو منع بني إسرائيل عن الصيد يوم السبت أمراً سهلاً ويسيراً بلحاظ النعم العظيمة المتتالية التي تفضل الله عز وجل بها عليهم.
وتدل الآية في مفهومها على التخفيف في الشريعة الإسلامية , فليس من تعطيل للأعمال يوم عيد المسلمين يوم الجمعة من الأسبوع، نعم ورد النهي التكليفي عن البيع عند النداء إلى صلاة الجمعة لأنها ساعة عبادة مخصوصة، وإن وقع البيع فيها فهو صحيح رحمة من الله تعالى ولعمومات أدلة إباحة التجارة.
وفي التوراة في باب الوصايا العشر جاء: “أذكر يوم السبت وكرسه لي”، وإنه اليوم الذي فرغ الله عز وجل فيه من خلق السماوات والأرض في ستة أيام .
وفي باب آخر: “حافظوا على السبت لأنه مكرس لي ومن دنسه يقتل قتلاً”( ).
إن الإنقطاع إلى الله عز وجل يوم السبت حجة عليهم ومناسبة لتدبر آيات القرآن وما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل والعمل بأحكام الشريعة السماوية السمحاء.
والنهي عن التعدي في السبت من الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل , قال سبحانه [وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا] ( ) ويحتمل العلم في المقام وجوهاً:
الأول: إنحصار العلم بحصول التعدي يوم السبت.
الثاني: معرفة الأشخاص الذي إعتدوا في السبت وموضع حصول المعصية.
الثالث: العلم بالتعدي وعقوبته ومسخ القوم قردة وخنازير.
والصحيح هو الثالث فان العلم يشمل مسخ الذين إعتدوا , وفيه حجة مركبة، وزجر عن المعصية لأن العلم بالعقوبة جزء علة لإجتناب الفعل الذي تترتب عليه العقوبة.
وجاءت الآيات القرآنية بالإخبار عن حلول اللعنة الإلهية بالذين إعتدوا في السبت، ووصفهم القرآن بإنهم أصحاب السبت، قال تعالى [أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ]( ).
علم المناسبة
ورد لفظ (السبت) خمس مرات في القرآن، وفي موضوع واحد، ومرة سادسة في ذم الذين إعتدوا فيه من بني إسرائيل بقوله تعالى [إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ]( )، بنسبة السبت إلى اليهود لأنهم يعظمونه وينقطعون فيه للعبادة، ولكن فريقاً منهم تجاوزوا الحد وإعتدوا يوم السبت وقاموا بالإصطياد فيه، وكانت الأسماك تأتيهم (شرعاً) أي ظاهرة على وجه الماء.
وجاء لفظ الحيتان والمراد منه السمك، قال الزمخشري: وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمك( ).
والمراد منه أعم من السمك الكبير كنوع إبتلاء لهم، وفيه بيان للبركات وقوله تعالى [كُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا] بلحاظ صيد السمك في أيام الأسبوع الأخرى، وعن الحسن: تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض.
والسبت مصدر فيقال سبتت اليهود.
وإذ جاءت الآية محل البحث بذكر إعتداء بني إسرائيل في السبت، فقد ورد في القرآن الإخبار عن نهيهم عنه , وأخذ الميثاق عليهم بألا يعتدوا في السبت ، قال تعالى [وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا] ( ).
وتضمنت الآية اللعنة والطرد من رحمة الله للذين إعتدوا في السبت, قال سبحانه [أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ]( )، لتؤكد الآية ذمهم، وجعلهم عبرة للظالمين.
وقال تعالى [إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ]( )، لأن فريقاً منهم إمتثل للأمر الإلهي بعدم الصيد فيه، وفريقاً خالف وأصر على التعدي والمعصية والصيد يوم السبت لينزل بهم عذاب المسخ، وقيل أن موسى عليه السلام أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوماً للعبادة.
وأن يكون يوم الجمعة فأبوا عليه، وقالوا: نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة، أي أن إختلافهم في تعيين اليوم الذي ينقطعون فيه للعبادة ولايزاولون الصيد والكسب فاذن الله عز وجل لهم بالسبت وإبتلاهم بتحريم الصيد فيه( ).
قال ابن جريج : بلغني أن بني إسرائيل ، لما قتلوا أنبياءهم ، وكفروا وكانوا اثنتي عشرة سبطا، تبرأ سبط منهم مما صنعوا ، واعتذروا ، وسألوا الله أن يفرق بينهم وبينهم ، ففتح الله لهم نفقاً من الأرض ، فساروا فيه سنة ونصف سنة ، حتى خرجوا من وراء الصين ، فهم هناك حنفاء مسلمون ، يستقبلون قبلتنا ، وقيل : إن جبرائيل إنطلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج إليهم ، فقرأ عليهم من القرآن عشر سور نزلت بمكة، فآمنوا به ، وصدقوه، وأمرهم أن يقيموا مكانهم ، ويتركوا السبت، وأمرهم بالصلاة والزكاة، ولم يكن نزلت فريضة غيرهما ففعلوا.
قال ابن عباس: وذلك قوله: ( وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ) يعني عيسى بن مريم يخرجون معه( ).
قوله تعالى [ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ]
إخبار عن العقوبة العاجلة وبيان قدرة الله تعالى على المعصية المتعقبة للنعمة الإلهية الخاصة، وتأكيد بأن الله تعالى فاعل مختار إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل , وهو ليس بالموجب الذي لا ينفك فعله عنه كحدوث النهار بطلوع الشمس .
والإنسان لما كان محدثاً فهو ممكن، تارة يتصف بالعدم وتارة يتصف بالوجود، مع إحتياجه إلى المؤثر.
والله سبحانه هو الصانع وواجب الوجود الذي تتساوى قدرته تعالى بالنسبة إلى الأشياء كلها , والممكنات جميعاً مستجيبة لمشيئته, ولا يلزم من تعلقها بالجميع حصول الوقوع بل يتم الوقوع بالمشيئة والإرادة، كما وُجد الإنسان من العدم وهو قابل للفناء بالموت فانه ممكن التبدل والتغير بفعل الصانع ، لذا فليس من الممتنع أن يتحول الإنسان بأمر الله تعالى إلى أية صورة شاء، قال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ]( ).
وعن مجاهد أن الله سبحانه وتعالى مسخ قلوبهم بمعنى الطبع والختم لا أنه مسخ صورهم، وهو مثل قوله تعالى [ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ] ( ) (ونظيره ان يقول الأستاذ للمتعلم البليد الذي لا ينجح فيه تعليمه كن حماراً)( ).
ولكن الإستشهاد بالآية الكريمة من سورة الجمعة قياس مع الفارق لوجود كاف التشبيه فيها، لأن التشبيه أبلغ وأوجع في مورد الذم وفيه من التفصيل الذي يحتاج إلى إنعام فكر وتدبر ولما فيه من الأثر الزائد في النفوس وتقريب المعنى إلى الأذهان بوضوح بلاغي، ووجه الشبه الهيئة الحاصلة من التعب في حمل ما فيه نفع وخير من دون فائدة أو توظيف، وتعلقها بالصفة والعرض وعجزهم عن حمل التوراة، ولا تصل التوبة للإنتقال إلى المجاز والتأويل خلاف الظاهر.
وبالنسبة للمثل الثاني فانه منصرف إلى المجاز لوجود القرينة على الكفاية ولعله غير مناسب للمقام.
وظاهر مسخهم إلى قردة محمول على الحقيقة للتبادر أي إنسباق المعنى إلى الذهن ولغياب القرينة الصارفة إلى المجاز، بالإضافة إلى وجود المقتضي وفقد المانع وليس من دليل على حصر إنتقام الله تعالى في الآخرة، بل الأدلة بخلافه بما فيها النصوص الواردة في المقام.
(وعن ابن عباس: فمسخهم الله عز وجل عقوبة لهم وكانوا يتعاوون وبقوا ثلاثة أيام لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتناسلوا ثم أهلكهم الله تعالى وجاءت ريح فهبت بهم وألقتهم في الماء، وما مسخ الله أمة إلا أهلكها، وهذه القردة والخنازير ليست من نسل أولئك)( ).
وفي الآية مسائل :
الأولى : إنذار الناس أيام نزول القرآن.
الثانية : التحذير من التكذيب بآيات الله وما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم إتباعهم له وتجاوزهم وتعديهم حدود الله،.
الثالثة : توبيخ الذين أصروا على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتذكير بما فعل آباؤهم وما لاقوه من الجزاء والعقاب العاجل.
الرابعة : النهي والتخويف من الإرجاء والتسويف في التوبة وتأجيلها المقرون بالتمادي في البغي لإخبار الآية عن حضور العقوبة وعدم الإمهال، وليس فيها ما يدل على التناسخ لبقاء الماهية وإنما جرى المسخ والتغيير في الشكل والهيئة عقوبة وإعجازاً وإذلالاً.
والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وقد ورد في القرآن ما يدل على ماهية هذا التعدي، قال تعالى [فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ] ( )، فلقد أصروا على فعل المعصية وإتيان المحرم مع التنبيه والتحذير والوعظ فإستحقوا العقاب العاجل.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي في سننه عن عكرمة قال: جئت إبن عباس يوما وهو يبكى وإذا المصحف في حجره فقلت ما يبكيك يا ابن عباس , فقال هؤلاء الورقات وإذا في سورة الأعراف قال تعرف إيلة قلت نعم , قال فانه كان بها حي من يهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا عليها بعد كد ومؤونة شديدة.
وكانت تأتيهم يوم السبت شرعا بيضاً سماناً كأنها الماخض فكانوا كذلك برهة من الدهر ثم ان الشيطان أوحى إليهم فقال إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت فخذوها فيه وكلوها في غيره من الايام.
فقالت ذلك طائفة منهم وقالت طائفة بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها في يوم السبت فعدت طائفة بانفسها وأبنائها ونسائها واعتزلت طائفة ذات اليمين وتنحت واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت.
وقال الأيمنون ويلكم لا تتعرضوا لعقوبة الله.
وقال الأيسرون لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا.
قال الأيمنون معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ان ينتهوا فهو أحب الينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا وان لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم فمضوا على الخطيئة، وقال الايمنون قد فعلتم يا أعداء الله والله لنبايننكم الليلة في مدينتكم والله ما أراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب.
فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا فلم يجابوا فوضعوا سلما وعلوا سور المدينة رجلا فالتفت إليهم فقال أي عباد الله قردة والله تعاوى لها أذناب ففتحوا فدخلوا عليهم فعرفت القردة أنسابها من الإنس ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة.
فجعلت القرود تأتى نسيبها من الانس فتشم ثيابه وتبكى فيقول ألم ننهكم فتقول برأسها أي نعم.
قرأ إبن عباس: فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بيئس قال اليم وجيع , قال فارى الذين نهوا قد نجوا ولا أرى الآخرين ذكروا ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها( ).


قوله تعالى [ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ] الآية 66.

الإعراب واللغة
فجعلناها: الفاء: حرف عطف، جعلناها: فعل وفاعل ومفعول به، نكالاً: مفعول به ثان.
لما: اللام حرف جر، ما: إسم موصول في محل جر باللام، والجار والمجرور صفة نكالاً.
بين: ظرف مكان، يديها: مضاف إليه، وهو مضاف، والضمير (الهاء) مضاف إليه.
وما: عطف على ما، خلفها: ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة ما، وهو مضاف، والضمير (الهاء) مضاف إليه، وموعظة: عطف على نكالاً.
للمتقين: جار ومجرور صفة لموعظة.
نكل عن الأمر ينكل اذا إمتنع، والنكال: العقوبة لما فيها من المنع والردع عن المعصية( ويقال: نكلت بفلان إذا عاقبته في جرم أجرمه عقوبة تنكل غيره عن إرتكاب مثله)( ).
والموعظة: النصح والرشد والدرس ذو الإعتبار. وفي الدعاء: أعوذ بك ان تجعلني عظة لغيري).

في سياق الآيات
تبين الآية عاقبة الظلمة المعتدين والجاحدين من بني إسرائيل , وهي وان إختلفت في مضمونها عما سبق من الآيات إلا أنها تشترك معها في التحذير والتوبيخ .
وجاءت هذه الآيات في بيان نعم الله تعالى على بني إسرائيل وتعدد مصاديق الفضل الإلهي عليهم، وذكر سوء فعلهم، وهو بلحاظ العقوبة على وجوه:
الأول : ما عفا الله عنه ولم تترتب عليه أي عقوبة ولكن الآية أخبرت عن ظلمهم لأنفسهم كما في قوله تعالى [كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
الثاني : ما جاءت العقوبة متعقبة له، ثم عفا الله تعالى عنهم، كما في قوله تعالى [فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ *ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ]( ).
الثالث : ما نزلت عقوبته، وحل معه العذاب من غير عفو، كما في سرعة وشدة عقوبة الذين أصروا على الصيد يوم السبت .
وتتضمن هذه الآية توكيد عقوبة المسخ ، وصيرورتها عبرة وموعظة، ولا تنحصر الموعظة والزجر بالتعدي يوم السبت فهو شامل لكل أفراد التعدي والظلم.
وإنتقلت الآية التالية إلى قصة أخرى مباينة في موضوعها مع إتحادها مع هذه الآية في الماهية وإرادة بني إسرائيل ، ففي آية البحث إعدام ومسخ لأفراد متعددين يجمعهم التعدي يوم السبت، بينما تتضمن الآية التالية عزم وإرادة بني إسرائيل معرفة الجاني الذي قتل أحدهم، وإدراكهم لعلم الله عز وجل به ، وتبليغ موسى عليه السلام كليم الله بإسمه , فلم يخيب الله عز وجل ظنهم , ولكنه أمرهم أن يذبحوا بقرة وحيث أنهم لم يعتادوا الإستجابة بالواسطة[قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا].
لقد إعتاد بنو إسرائيل على مجيء فضل الله لهم دفعة ومن غير واسطة، وعصا موسى شاهد حسي حاضر كل يوم، قال تعالى[اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ]( )، فأرادوا أن يدعو موسى الله عز وجل لكشف القاتل وهم في المجلس، فجاءهم الأمر بذبح بقرة، ولم يقل لهم موسى أني آمركم أن تذبحوا بقرة، بل نقل لهم أمر الله عز وجل وفيه شاهد على أمانته، وهذه الأمانة فرع النبوة ولم يقل لهم موسى(إن ربي يأمركم) بل جاء باسم الجلالة وهو من أمهات الأسماء الحسنى[بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) وفي تكرار ذكر الله في الآية وعلى لسان موسى جذب لبني إسرائيل إلى منازل التقوى، وبعثهم على الإمتثال للأمر الإلهي بذبح بقرة.
لقدجاءت الآيات التالية في بيان صفات البقرة التي يجب أن يذبحها بنو إسرائيل، وهذه الصفات عرضية ترشحت من تكرار سؤالهم وإلحاحهم في المسألة، والأصل هو آية البحث التي جاءت بصيغة التنكير التي تدل على الإجزاء بذبح أي بقرة( ).
إعجاز الآية
مع توالي النعم والفضل الإلهي والرحمة , ومقابلة الإساءة والتقصير بالعفو، تأتي هذه الآية لتخبر عن وجود حد لمراتب العفو، وبعدها يكون البطش الشديد عقوبة ومناسبة للإعتبار والتذكرة مع عدم غلق باب العفو، وفيه تحذير من الجحود برسالة الإسلام، وما حدث في خيبر وبني قريظة مصاديق من العقاب والبطش الإلهي وان كان بالواسطة وعلى أيدي المسلمين.
ولم تبدأ الآية بحرف العطف الواو بل إبتدأت بحرف العطف الفاء (فجعلناها) وفيه مسائل:
الأولى: إرادة الملازمة بين آية عقوبة المعتدين والإتعاظ منها.
الثانية: تأكيد حقيقة وهي ثبات الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في منازل التقوى.
الثالثة: تعاهد أمة من بني إسرائيل الميثاق إنما هو بفضل من الله وتجلي الآيات بالنعم المتتالية والعقوبة للذين يتمادون في الغي والتعدي.
الرابعة: الإشارة إلى شيوع نبأ صيرورة المعتدين في السبت قردة خاسئين حال نزول العقوبة وحدوث الواقعة , وفيه آية بأن الإعلام وإنتشار خبر المعجزة من الإرادة التكوينية , وهي من وجوه سيادة الإسلام ومعرفة الشعوب والأمم بأحكامه، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر)( ).
الخامسة: من معاني الفاء في الآية الكريمة (فجعلناها) زجر للمعاصرين من بني إسرائيل وغيرهم , والتحذير مما يلازم العقوبة على التعدي من الشماتة .
ومن الإعجاز في المقام أن نهيهم عن الصيد يوم السبت لم يمنع من توجه التأديب والزجر لهم ، وصيرورته حجة إضافية ومن فضل الله, وتقدمه على العقوبة
السادسة: إستدامة لغة الإتعاظ والإعتبار بقوله تعالى (وما خلفها) ونزل القرآن من السماء لتوثيق الواقعة وإحاطة أهل آخر زمان بها.
ويمكن تسمية الآية بآية (وجعلناها نكالاً) ولم يرد هذا اللفظ، ولفظ (بين يديها) ولفظ(خلفها) في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
في الآية درس وعبرة للمسلمين بالإخبار عن شدة العقاب للمعتدين ولزوم الإتعاظ منه.
ومن إعجاز القرآن عدم الوقوف عند ذكر العقوبة العاجلة للظالمين، فجاء ببيان أثرها على غيرهم ممن رأوا العذاب النازل بالظالمين والمعتدين، أو سمعوا به سواء من أبناء جيلهم أو من الأجيال اللاحقة، ليكون موعظة وعبرة للناس جميعاً، ودرساً وزجراً عن التعدي والظلم، وفيه دعوة للناس جميعاً لإجتناب أسباب ومقدمات نزول العقاب العاجل.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا(دار الموعظة) يعتبر فيها المؤمنون والناس جميعاً من الوقائع والأحداث، وآية البحث مصداق جلي للإعتبار العام، فوردت الآية بصيغة العموم والإطلاق الزماني في الذين يتخذون هذه العقوبة حرزاً وواقية من التعدي وإرتكاب السيئات مطلقاً.
وهل في الآية مقدمة ودعوة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب نعم، بلحاظ أن إنكار البشارات بنبوته من التعدي الذي تحذر منه الآية الكريمة، أما التصديق بتلك البشارات فهو من عمومات خاتمة الآية (وموعظة للمتقين).

مفهوم الآية
إن ذكر المتقين على نحو الخصوص , وكون العقوبة العاجلة موعظة لهم لا يدل على إنحصار الموعظة بهم لإطلاق الأدلة ومفاهيم الآيات , ولأن الحياة كلها عبرة ومدرسة وموعظة , فالعقاب موعظة لبني إسرائيل وللناس جميعاً، والمتقون هم الذين ينتفعون من الآيات أكثر من غيرهم ويوظفونها في حياتهم اليومية والعقائدية بإجتناب المعصية والإمتناع عن السيئات ,
ولابد أن يترشح عن هذا الإنتفاع إتعاظ نوعي عند الناس بمختلف مشاربهم ومذاهبهم.
وفي الآية مسائل:
الأولى: يتعلق موضوع الآية بما حل بالمعتدين في يوم السبت.
الثانية: نزول العقاب الأليم بالمعتدين، ومسخهم إلى قردة أمر عظيم، وشاهد على قدرة وسلطان الله، وأنه سبحانه لن يمهل الظالمين إلى يوم القيامة بل يأخذهم بصنوف العذاب في الحياة الدنيا إن شاء، وهو أعلم بالمصالح والمفاسد , قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ]( ).
الثالثة: لقد جاءت الآيات السابقة بتوالي النعم مع الحث على الشكر لله تعالى، فبدل الشكر تمادى فريق بالمعاصي والظلم فجاءتهم العقوبة العاجلة، ليرى الناس بطش الله تعالى بالمعتدين.
الرابعة: هذه الآية من مصاديق تفضيل بني إسرائيل وعمومات قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، لما فيها من تنقيح الأعمال، وثبات الذين آمنوا في منازل التقوى وفعل الصالحات وعدم إتساع دائرة التعدي والضلالة.
الخامسة : الذين ينزل بهم العقاب العاجل أعم من الطواغيت وأعوانهم بالباطل , فيأتي للذين يظلمون أنفسهم بنقض الميثاق .
السادسة : الآية مدرسة تدعو العلماء والباحثين إلى التدبر في منافع هذه العقوبة على الناس جميعاً، وعلى بني إسرائيل خاصة من أهل زمان هذه الواقعة وذراريهم وأجيالهم المتعاقبة.
وفي نزول العقاب بالمعتدين على الحرمات أمور:
الأول: العقاب العاجل موعظة ودرس للجميع.
الثاني : فيه دعوة للتنزه عن الظلم والتعدي.
الثالث : إنه توكيد عملي لما يقوم به الصالحون منهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الآية لطف
تتغشى رحمة الله تعالى المؤمنين في الأجيال المتعاقبة، ومن مصاديقها في هذه الآية قوله تعالى[مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ]ليتعاهد المؤمنون سبل التقوى، ويتخذوا هذه المعجزة وسيلة لجذب الناس للإيمان، ومنعهم من الركون إلى الظالمين ومحاكاتهم في فعلهم وعملهم، لأنها إنذار وتخويف، ودعوة لفعل الصالحات ، وأن يكون الإنسان أسوة حسنة لغيره، ومن يتعدى على الحرمات يأتيه العذاب الشديد ليكون عبرة.
ومن معاني اللطف في الآية الإخبار عن تجلي آثار الآية من الزجر والتخويف لعموم بني إسرائيل وغيرهم، ويدل نزول العقوبة على أن الإنتماء إلى الأنبياء ليس برزخاً دون نزول العذاب بالمعتدين، وأما غيرهم فإن الآية تخويف لهم من باب الأولوية لأن نزول العذاب بالذين يتعدون من الأمة التي فضلها الله تعالى على أهل زمانها وأسبغ عليها نعمه ظاهرة وباطنة يعني شمول غيرهم بهذا العذاب عند التعدي، إلا أن يقال أن العذاب الشديد يأتي مع قيام الحجة على المعتدين ورؤيتهم النعم التي تترى عليهم على نحو الآيات الحسية الظاهرة كنزول المن والسلوى من السماء، وتدفق الماء من الحجر الصلد بضرب موسى عليه السلام العصا، وعبورهم النهر وغرق فرعون وهم ينظرون، وحتى على هذا القول فإن نزول العقوبة بالمعتدين درس للناس جميعاً بلزوم عبادة الله تعالى والإقرار بالعبودية له سبحانه، والخشية منه تعالى، والإقتداء بالصالحين والمتقين.
وتبين الآية ضرورة تعاهد النعم بالشكر القولي والفعلي، ومن مصاديق الشكر الفعلي إلتزام سبل التقوى والصلاح، وإجتناب التعدي والجحود بالنعم.
وبينما نجا بنو إسرائيل بآية إعجازية من عذاب آل فرعون، جاءت هذه الآيات لتخبر عن حلول العذاب بفريق من بني إسرائيل، وتلك آية في الثواب والعقاب، وقوانين النعم الإلهية ونزول النقم، فإن نزول النعمة والتفضيل يستلزم تعاهدها بالشكر والثناء وعدم التعدي، قال تعالى[ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وفي الآية مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخبار عن حاجة الناس إلى أمة تتعاهد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتجنب التعدي على المحرمات.

إفاضات الآية
لقد جاء القرآن بأحسن القصص، ويتعلق هذا الحسن والتفضيل بذات القصص ومواضيعها ودلالاتها وصدقها وجهة صدورها، فهي نازلة من عند الله تعالى، وتتضمن الموعظة والعبرة، فكل قصة في القرآن يحتاجها الناس جميعاً , وينتفع منها الفرد والجماعة والأمة وهي من أفراد علم الغيب، ومتصلة ببعثة الأنبياء والتنزيل، وما يترشح عنهما على الناس والمجتمعات.
وجاءت هذه الآية لتبين حقيقة وهي أن التفضيل لأمة معينة لا ينجيها من العذاب والعقوبة العاجلة، وهو سبب في تعجيل وشدة العقوبة على الذين يجحدون بالتفضيل والنعم المتوالية التي تترى عليهم، فتكون العقوبة على وجوه:
الأول: إنها عبرة وموعظة للمتقين.
الثاني: صيرورة العقوبة سبباً لرجوع الناس إليهم وإلى أحكام الشريعة.
الثالث: يبعث رجحان نزول العقوبة العاجلة في نفوسهم الحرص على تعاهد البشارات التي جاء بها الأنبياء السابقون , ومنها البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولزوم نصرته.
وقد بدأت الآية ببيان شدة العقوبة وكونها زجراً للظالمين ومنعاً لهم من التمادي في المعاصي، وأختتمت بذكر المتقين بصيغة المدح والثناء لتكون هذه الواقعة مدرسة في الإعتبار , وسبباً لتثبيت الإيمان في نفوسهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
فلا يدخل الخوف إلى نفوس المتقين بأن العقاب الأليم ينتظرهم أو أن ذات البلاء والعقوبة تحل بهم، لإنتفاء السبب والموضوع عندهم، فهم دائبون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذا جاءت الآية بالبشارة والسكينة للمؤمنين، وبعثهم على الصلاح بقوله تعالى[وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بحرف العطف الفاء في دلالة على عطف هذه الآية على مضامين الآية السابقة خصوصاً وأنها جاءت بذكر الضمير الهاء في(فجعلناها) الذي يدل على تعلقه بما قبله، وفي عائدية الضمير وجوه:
الأول: إرادة مسخ الذين إعتدوا في السبت وصيرورتهم قردة خاسئين، بتقريب أن المراد ذات الحادثة، والقضية في الواقعة التي تأتي بصيغة التأنيث(المسخة).
الثاني: المقصود القردة والحال التي صار إليها الظالمون بأنفسهم والذين أصروا على مواصلة الصيد يوم السبت مع منعهم وتحذيرهم وإنذارهم.
الثالث: الطائفة والفرقة التي إعتدت يوم السبت.
الرابع: القرية التي كان فريق من أهلها يعتدون في السبت، قال تعالى[وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ] ( )، بذكر المحل وإرادة الحال، كما ورد في التنزيل حكاية عن أبناء يعقوب[وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا] ( ).
وقد جاءت آيات عديدة تبين حلول العذاب والسخط الإلهي بالقرى التي كان أهلها يقيمون ويصرون على فعل المعاصي، قال تعالى[وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً]( ).
الخامس: العقوبة العاجلة، لتكون إنذاراً وعبرة وموعظة للناس جميعاً.
السادس: البطش الإلهي الغليظ بأن صار المعتدون قردة، ليكون فيه زجر لغيرهم ممن حولهم، ومن الأجيال اللاحقة من الناس جميعاً، فإن قلت إن الآية حسية يراها من حولهم من الناس دون الأجيال اللاحقة، الجواب لقد جعلت هذه الآية القرآنية عقوبة المسخ آية عقلية متجددة في كل الأزمنة وعند الأجيال المتعاقبة، فيكون المقصود من قوله تعالى [فَجَعَلْنَاهَا] وجوهاً:
الأول: جعلناها بذات المسخ وساعة نزول العقوبة وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا].
الثاني: توارث بني إسرائيل لذكر ورواية القصة والعقوبة والإتعاظ منها.
الثالث: جعلناها موعظة ودرساً بنزول القصة في القرآن.
الرابع: صيرورة الواقعة والعقوبة وثيقة سماوية ثابتة في الأرض، ومن الآيات أنها جاءت في سورة البقرة التي تبين النعم العظيمة التي تفضل الله تعالى بها على بني إسرائيل وتفضيلهم ونجاتهم من آل فرعون، ونزول التوراة على موسى لتكون سبيل هدى ورشاد لهم.
الخامس: تلاوة المسلمين لها في الصلاة وخارج الصلاة، وما في تلاوتها من الموعظة والعبرة.
السادس: إحتجاج المسلمين بها على بني إسرائيل وغيرهم، في لزوم إجتناب التعدي والإصرار على المعصية، ويدل على تعدد معاني الآية وموضوعية ذكرها في القرآن وفي إعتبار الناس منها إختتام الآية بقوله تعالى [وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ].
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وان كان معنى الضمير يتجلى بالبيان والتفصيل الوارد في الآية بقوله تعالى [بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا] الذي يشير إلى الطائفة التي حلّ بها العذاب والعقوبة العاجلة، ولكنه لا يتنافى مع الوجوه الأخرى والإعتبار منها، وفيها بيان لبديع صنع الله وعظيم لطفه بالناس.
وجاءت العقوبة لجماعة وفرقة مخصوصة، ولكن النفع منها عام ومتصل إلى يوم القيامة، لعصمته من يد التحريف والتغيير والتبديل، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، وفيه مسائل :
الأولى: بيان عظيم قدرة الله وغناه تعالى، وهو الذي لا تستعصي عليه مسألة.
الثانية: الآية شاهد بأن القرآن تبيان لكل شئ.
الثالثة: تخلف الأمم السابقة عن إيجاد الأثر المستديم والمتجدد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعجز وضعف وقلة تأثير الآمرين بالمعروف، وفيه دليل على حاجة الناس للمسلمين في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحجة في إتخاذ السيف آلة لمنع أهل المعصية من الإصرار على التعدي والظلم، وإقامة الحد على الظالمين كل بحسب عقوبته في الشريعة ليكون فيه إصلاح للعامة، وزجر عن التعدي وركوب المعاصي والتمادي في السيئات، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الرابعة: توكيد حقيقة وقانون ثابت وهو قرب العقوبة من القوم الظالمين، نعم قد لا تأتي هذه العقوبة بالمسخ، ولكنها تتجلى بالهلاك والدمار وزوال السلطان والنعم، ونزول الآفة الأرضية أو السماوية أو هما معاً.
وتبين الآية الأضرار الفادحة والعقوبة العاجلة التي تنتظر الذين يصرون على المعاصي، وأنها ليست بعيدة عنهم في زمانها وحلولها، ولايحجب التفضيل والنعم السابقة نزول النقمة والعذاب بمن جحد بها، وهو من مصاديق ما ورد قبل آيتين من الوعيد برفع الجبل فوق بني إسرائيل للأخذ والعمل بالتوراة لأنها سبيل إلى التقوى والخشية من الله، وفيه شاهد على ما في رفع الطور من المواعظ والدروس، قال تعالى[وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
والإعتداء في السبت من التولي والإعراض الذي ذكرته الآية قبل السابقة [ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ] مع مجئ قوله تعالى [ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ] عاماً لبني إسرائيل، بينما ورد ذكر المعتدين في السبت بإرادة طائفة وأمة معينة منهم أقامت على معصية مخصوصة وهي التعدي والصيد يوم السبت، وأختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ] وإبتدأت هذه الآية بلغة التأنيث، وإرادة المفرد المؤنث، وفيه إعجاز قرآني، أي أن الذين صاروا قردة خاسئين لم يتوجه لهم بعدها الخطاب التكليفي، ولا الوعد والوعيد، ولاصيغ اللوم والذم، فقد أصبحوا قردة عاجزين عن إدراك الخطاب التكليفي ولغة الإنذار والإنتفاع منها.
إن إبتداء هذه الآية بصيغة التأنيث توكيد لحصول الآية والمسخ على نحو الحقيقة وإبطال للقول بأن المسخ كان مجازاً , ويأتي الألم والأذى للذين مسخوا من وجوه:
الأول : تبدل الصورة والهيئة والجنس.
الثاني : فقد منازل التشريف والإكرام التي تصاحب الإنسان خلقاً وإرادة ونطقاً وفعلاً.
الثالث: الإنكسار والحياء من إخوانهم الذين كانوا ينهونهم عن التعدي في السبت، لأن صيرورتهم قردة لم تمنع من معرفتهم للذين نهوهم بأشخاصهم، ولكنهم عاجزون عن النطق وإظهار الندم.
الرابع: قد يقال إن القرود حال سلامتها غير متألمة، وليس عندها عقل وفهم يجعلها تتألم بسبب خلقها، ولكنه قياس مع الفارق، فإن هؤلاء يشعرون بالألم من الحال التي هم فيها، ومن ذات المسخ والتبدل الذي يصاحبه الألم والأذى، وهذا الألم من أفراد ومصاديق العذاب.
ومن وجوه الحجة في المقام بيان المنافع العظيمة من هذا المسخ في إصلاح الناس، ومنع التعدي، وزجر بني إسرائيل عن مخالفة أحكام التوراة بقوله تعالى [فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا] , فالآية والعقوبة لم تكن محصورة بأشخاصها أو مكانها أو زمانها، لقد كانت آية المسخ رادعاً وإنذاراً للناس جميعاً.
ومن إعجاز الآية أنها أختتمت بقوله تعالى [وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ] لبيان إكرام المؤمنين وأنهم لايخشون عقوبة المسخ، لأنهم لا يرتكبون المعاصي والسيئات على نحو جمعي وإصرار، بل هم مواظبون على عبادة الله، فجاءت هذه الآية لإكرامهم وتشريفهم وتشريفهم من وجوه:
الأول: نعتهم بالمتقين، والإخبار عن خشيتهم من الله تعالى في السر والعلانية.
الثاني: عدم شمولهم بالنكال والزجر بالعقوبة الغليظة.
الثالث: تمييزهم والإشارة إلى أن عقوبة الظالمين إنما هي موعظة للمتقين، وموضوع لإقامتهم على الطاعة، وسلاح في أيديهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وخاتمة الآية من مصاديق قوله تعالى[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( )، فتحصل عقوبة المسخ ويعلم بها المتقون فلا يخافون على أنفسهم منها لأنهم يدركون أنها عقوبة غليظة لا تحل إلا بالقوم الظالمين، مما يزيدهم إيماناً وتفقهاً في أمور الحياة الدنيا، وضرورة التقيد بأحكام الحلال والحرام.
فلم يكن تعدي الطائفة التي مسخت قردة على غيرهم من الناس سواء من أهل ملتهم أو من ملة أخرى، بل كان تعديهم على الأحكام الشرعية وما جاء في التوراة من الأوامر والنواهي، فهم تمادوا في الغي بالصيد يوم السبت مع أنهم نهوا عنه.
وتلك آية إعجازية تدل على لزوم عدم ظلم النفس بالتعدي والتهاون في الأحكام الشرعية، لأن هذا التعدي يؤدي إلى تعطيلها ونسخها، وأراد الله تعالى لها أن تبقى، فأنزل فيهم عقوبة صارت مانعاً من إتساع دائرة تعطيل الشريعة وإغراء الآخرين والتعدي على الأحكام بخصوص الصيد يوم السبت أو في غيرها من أمور الحلال والحرام، والأوامر والنواهي.
وتتضمن آية المسخ مسائل:
الأولى: إنها رحمة ببني إسرائيل.
الثانية: هي وسيلة سماوية زاجرة لإستدامة العمل بالتوراة.
الثالثة: فيها درس للذين يخشون الله بالغيب في كل زمان، ليتخذوها موعظة فيما بينهم للثبات على الإيمان.
الرابعة: تحول آية المسخ دون إستحواذ النفس الشهوية على الفرد والجماعة.
الخامسة: إنها برزخ دون المناجاة بالتعدي والباطل إذ أن قوله تعالى [مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ]إنحلالي , ويكون على وجوه:
الأول: كل مؤمن يتعظ من هذه العقوبة وما فيها من الغلظة والشدة.
الثاني: إعتراف المؤمنين في كل زمان بعظيم قدرة الله وأنه تعالى لن يترك الناس سدى بل يحل عذابه وعقوبته بالكافرين إن شاء، وأنى أراد , ولم يخطر على بال أحد أن الإنسان يتحول إلى قرد وعلى نحو متعدد في الأفراد في ساعة واحدة.
فجاءت هذه الآية لتخبر عن وقوع هذه الآية عقوبة بالمعتدين من الذين فضلهم الله تعالى لقاعدة كلية وهي لزوم الشكر لله تعالى على نعمة التفضيل بالتقيد بالأوامر والنواهي الإلهية.
الثالث: جاءت الآية بصيغة (المتقين) لبيان عموم النفع من الآية في كل زمان، وعدم إنحصارها بالمسلمين فتشمل كل من يخش الله من الأمم السابقة أيضاً، ممن حضر تلك الآية أو سمع بها أو قرأ عنها.
الرابع: يعظ المتقون بعضهم بعضاً بهذه الآية، ويقومون بالتذاكر والإعتبار منها، ويتخذونها درساً وحكمة وبرهاناً وحجة ودعوة للهداية والصلاح، ومادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإرتقاء في مراتبه وعدم الوقوف عند النهي باللسان مع الإمكان.
وتبين آية المسخ أن الإمتناع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي يومئذ إلى الضرر العام، إذ قالت طائفة منهم[لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا] ( )، والتعدي يتعدى، بمعنى أن إستمرار جماعة بالصيد يوم السبت يغري غيرهم بمحاكاتهم طمعاً وتهاوناً بأحكام الشريعة، ليأتي جيل من الناس يرثون التعدي ولا يرون فيه بأساً ، فجاءت العقوبة إصلاحاً للحاضر، وزجراً للموجود والجيل اللاحق وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلْفَهَا]، وإن كان المعنى أعم فإنه يشمل الأمم السابقة في زمانها على آية وعقوبة المسخ من وجوه:
الأول: ذكر مسخ هؤلاء في الكتب السابقة.
الثاني: إخبار الأنبياء السابقين عنه وتحذيرهم منه ومن التعدي.
الثالث: توارث بني إسرائيل لأخبار العقوبة ووقوعها في حال حصول التعدي والصيد يوم السبت.
الرابع: إستحضار بني إسرائيل للميثاق ولزوم العمل به، والخشية من نزول العقاب عند التخلف عنه.
الخامس: نزول العقوبة ببني إسرائيل عند المعصية الجماعية، كما في عبادتهم العجل , وأمر الله بقتل بعضهم بعضاً، أو في سؤالهم رؤية الله جهرة وأخذ الصاعقة لهم.
السادس: آية رفع الطور وأمر الله تعالى لهم بلزوم أخذ ما أتاهم الله بقوة وعدم التفريط به في لاحق الأيام، فتقادم الأيام لا ينقص الميثاق، ولايكون سبباً للتقصير في العمل بأحكامه، أو التعدي فيما أمر الله تعالى به.
وتدل الآية الكريمة في مفهومها على إكرام المسلمين ونجاتهم من عقوبة المسخ بتنزههم عن التعدي الجماعي والإصرار على المعصية، وسلامتهم من النكال والعقوبة الغليظة والعذاب العاجل لجهادهم في سبيل الله، وهذه السلامة فضل من الله لتعاهدهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم منعهم الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من القيام بوظيفته، فليس في المسلمين أمة تقول[لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ].
بل يشترك المسلمون جميعاً في أسباب الصلاح، ويتعاونون بينهم بروح الأخوة الإيمانية لتعاهد منازل التقوى والخشية من الله، وهو من الشواهد على حسن سمت المسلمين , وتوجه الخطاب النكليفي للمسلمين جمعيعا بنفر أمة منهم للأمر بالصلاح بقوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
وفي عقوبة المسخ آية في الخلق، وتجلي قوانين النعم الإلهية ولزوم تعاهدها بالشكر لله تعالى، فالذين مسخوا قردة طائفة من الأمة التي فضلها الله تعالى بالنعم والآيات الحسية العظيمة المتعاقبة، وهم بنو إسرائيل الذين آتاهم الله ما لم يؤت أمة غيرهم وبعث لهم الأنبياء متعاقبين.
فيجب أن يكون بنو إسرائيل أكثر الأمم تقوى وصلاحاً، ولكن فريقا منهم خالفوا الأوامر الإلهية وقاموا بالتعدي في الصيد يوم السبت فجاءت العقوبة غليظة وعاجلة، وفيه إنذار للناس جميعاً بوجوب تعاهد وحفظ النعم بالخشية من الله تعالى، وإجتناب نزول العذاب الذي يتعقب وقوع أمرين:
الأول : الجحود بالنعم.
الثاني: إرتكاب المعصية.
فبعد نزول المن والسلوى على بني إسرائيل من السماء، والشرب من عيون يتدفق الماء فيها من الحجر الأصم بآية عصا موسى عليه السلام، فضلاً من عند الله سبحانه ، يأتي التعدي بالصيد يوم السبت وما فيه من المشقة والتعب والعناء، ومع هذا تصاحبه العقوبة الشديدة والمسخ، للتمادي في إرتكاب السيئات والإصرار على المعاصي، والتفريط بالأحكام الشرعية.
ليكون المسخ لجماعة وفرقة إستحقت مجتمعة ومتفرقة العقوبة موعظة للأجيال المتعاقبة بلزوم تعاهد النعم , والشكر لله تعالى عليها والخشية منه تعالى من زوالها، وحلول أسباب البلاء والإمتحان وعدم التوفيق فيها , وما يترتب عليه من نزول العقوبة العاجلة في الدنيا، أو الآجلة في الآخرة وهي أشد وأكثر عذاباً.
لقد ذكرت الآية غايتين في الأثر بين الناس لعقوبة المسخ وهما:
الأولى : الزجر للمعاصرين للعقوبة ومن بعدهم من الطبقات والأجيال.
الثانية : الموعظة والعبرة للمتقين، ليقتبسوا الدروس، ومنها المواظبة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإدراك سلامتهم وقولهم في إستدامته.
وهل الواو في(وموعظة للمتقين) للعطف أم للإستئناف، الصحيح هو الأول، إذ يتوجه الإنزجار إلى الناس جميعاً , ومنهم المتقون مع إنفرادهم بالإتعاظ من آية صيرورة المعتدين قردة، ليفوز المتقون بالمتعدد من منافع وغايات الآية.
وهل النسبة بين المتقين وغيرهم في الآية هي التباين , الجواب لا، لأن غيرالمتقين قد يدخلون في زمرتهم بالإنزجار من الآية، لذا فمن إعجاز سياق الآية مجي الموعظة للمتقين بعد النكال , فيحذر ويجتنب الناس التعدي خشية العقوبة، ويختص المتقون بالإتعاظ منها ومن سلامة ونجاة الذين نهوا إخوانهم عن الصيد يوم السبت.
ولم تقل الآية (فجعلناهم) بل جاءت بصيغة التأنيث (فجعلناها) وفيه مسائل:
الأولى: المفصود هو الأعم من الأفراد الذين صاروا قردة.
الثانية: ذات القرية صارت موعظة وعبرة.
الثالثة: الإشارة إلى موضوعات قصة الصيد وكيفية الإفتتان بالحيتان من السمك يوم السبت.
الرابعة: إرادة واقعة المسخ لتحقق الفزع والخوف والموعظة عند حدوث الواقعة وبما هو أعم وأعظم من الذي يترتب على الإنذار والزجر.
التفسير الذاتي
سميت العقوبة نكالاً لما فيها من المنع والزجر عن فعل المعصية من جديد، ويحتمل هذا المنع وجوهاً:
الأول: منع بني إسرائيل من التعدي يوم السبت على نحو الخصوص.
الثاني: زجر بني إسرائيل عن التعدي والظلم مطلقاً.
الثالث: إرادة الإنذار والتخويف للناس جميعاً.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وفي عموم الإعتبار والإتعاظ من العقوبة الإلهية العاجلة نعمة على الناس، وسبيل للصلاح وتعاهد السنن والأحكام الشرعية، إلى حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ] ( ).
وتأتي العقوبة في الغالب لزجر الذي تنزل به وليعتبر منه غيره، أما العقوبة في هذه الآية فتضمنت مسخ الذين حلت بهم , وإنحصر الزجر بغيرهم.
ولم تقل الآية “وجعلناها” بالعطف بالواو بإعتبار أن النكال أمر إضافي للعقوبة وجاء العطف بالفاء مما يدل على قطع نية التمادي في المعصية والإعتداء في الحال فنزلت العقوبة تأديباً وحاجة للآخرين في زجرهم عن التعدي في السبت وغيره من الظلم والمعصية.
ومن الإعجاز في الآية إكرام المتقين، وصيرورة عقوبة الظالمين موعظة لهم، ومناسبة للإعتبار، وورد لفظ “نكالاً” في حكم السارق والسارقة في قوله تعالى [فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاًمِنْ اللَّهِ]( )، أي عقوبة لهما، وقيل في معنى النكال أنه إشتهار وفضيحة، لما في المسخ وقطع اليد من كشف علة وشدة العقوبة.
وفي الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث بيان لتفضيل المسلمين إذ نجّاهم الله من المسخ وأسبابه إلى يوم القيامة، وفتح عليهم باب التوبة والإستغفار والإنابة.
وإذ جاءت الآية بصيغة الإنذار والتخويف للناس، فانها بينت إكرام المتقين بقوله تعالى “وموعظة للمتقين” وهو من عمومات قوله تعالى [وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، فهم في مأمن من النكال والعقوبة والخزي في الدنيا والآخرة.
ترى ما المراد من المتقين وهل هو خاص بالمسلمين الذين صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتبعوه.
الجواب إنه شامل للمتقين في الأزمنة السابقة لبعثته واللاحقة لها، ومنهم المؤمنون الذين قاموا بإنذار ونهي المعتدين الذي قاموا بالصيد يوم السبت إذ ذكر القرآن نجاتهم يوم المسخ في قوله تعالى [فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ]( )، وفيه دعوة للمسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان النفع العاجل للنهي عن المنكر وهو الأمن من العقاب الدنيوي الذي يحل بالظالمين.
من غايات الآية
جاءت الآية ببيان نوع وشدة العقاب الذي لحق بالمعتدين، وفيه زجر للظالمين والكفار، ومن الإعجاز إخبار الآية عن الوظائف العامة لهذه العقوبة في إصلاح الناس، وتؤكد بأن آثارها لم تنحصر بالذين نزلت بهم ومسخهم قردة وهلاكهم بعده بأيام فهي دعوة للناس جميعاً لتعاهد سنن الصلاح، واللجوء إلى الشكر على النعم، ونبذ الجحود والتعدي.
وتبين الآية حقيقة وهي أن الدنيا ليست خالية من العقاب , وليس من حصر لضروب العقاب وشدته وسرعة حلوله , وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، لذا جمعت الآية بين قول الله عز وجل وكينونتهم قردة بقوله تعالى[فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا].
وكانت النعم الإلهية التي إختص بها بني إسرائيل ظاهرة جلية وخارقة لقوانين العلة والمعلول والأسباب الكونية، فكذا جاءت العقوبة للفريق الذي تمادى في الغي منهم.
ومن غايات الآية الكريمة ما تضمنته الآية التالية وصيرورة واقعة المسخ إنذاراً وتخويفاً للناس إلى يوم القيامة ورادعاً عن الإصرار على المعصية وفعل القبائح، ودعوة للمسلمين لتعاهد سنن الهداية والإيمان والخصال الحميدة التي تكون مرآة للتقوى والخشية من الله.
التفسير
قوله تعالى [فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً]
تتعلق هذه الآية بموضوع الآية السابقة، وتعدي بني إسرائيل بالصيد ومقدماته يوم السبت بعد ان نُهوا عنه، فكانت عقوبتهم العاجلة عبرة لكل الناس وآية في الموعظة ومناسبة للتدبر في الأحكام التكليفية والوضعية إعجازاً ونكالاً، وسلاحا وحرزاً حاضراً وملموساً للنجاة من صنوف العذاب في الآخرة وما فيها من البطش والشدة.
وأختلف في الضمير في (فجعلناها) على أقوال:
الأول: إنه يعود إلى المسخة التي مسخوها. قاله الفراء.
الثاني: جعلنا القردة نكالاً. قاله الأخفش.
الثالث: جعلنا قرية أصحاب السبت نكالاً( ).
الرابع: جعلنا تلك العقوبة، عن ابن عباس.
(ومال الرازي إلى القولين الأولين وقال إذا أمكن رد الكناية إلى مذكور متقدم فلا وجه لردها إلى غيره، فليس في الآية المتقدمة إلا ذكرهم وذكر عقوبتهم)( ).
الخامس: الأمة التي مسخت، أي أهل قرية أيلة على شاطئ البحر وهو المروي عن الإمام الباقر عليه السلام.
ولا تعارض بين الوجوه الخمسة المتقدمة وتتعلق مجتمعة ومتفرقة بموضوع واحد بلحاظ صفات خارجية، وترجع كلها إلى الأمة التي مُسخت فكانت تأديباً وعقوبة رادعة للأمم الأخرى والأجيال المتعاقبة حتى خلّدها الله عز وجل في القرآن لتُحفظ، ويعيها ويعتبر منها أولوا الألباب، وفيها منافع للناس بإجتناب المعاصي والعتو والغي الخاص والعام .
وتظهر الآية صنوف العقاب في أحكام الشريعة والمواثيق وعدم الإمهال لمن غلق عن نفسه باب التوبة وأفرط في التعدي , وتدل عليه لغة وسياق الآيات والعقل .
قال الجوهري: نكل به تنكيلاً إذا جعله نكالاً وعبرة لغيره، ويقال: نكلت بفلان إذا عاقبته في جرم أجرمه عقوبة تنكل غيره عن إرتكاب مثله( ).
لقد أراد الله عز وجل لواقعة المسخ أن تكون درساً وعبرة متجددة في كل زمان، وهي حسية جلية , وقد لا تحفظها الأخبار والرواة وقد تطرأ عليها الزيادة والنقصان والتحريف، فجاء القرآن بتوثيقها من السماء مما يدل على حاجة الأمم له ولحفظه , ومنهم بنو إسرائيل لتوثيقه المواعظ الإلهية السابقة له حسية كانت أو عقلية، والمسلمون لهم النصيب الأوفى من الإنتفاع منه والإتعاظ بآياته.
ترى لماذا عجّل الله عز وجل العقوبة لتلك القرية وقد يفعل غيرهم مثلهم او ما هو أشد من فعلهم [وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ]( )، إنه سبحانه لا يُسئل عما يفعل وهو أعلم بالمصلحة. والظاهر ان التمادي في التعدي بلغ حداً إستحقوا معه العقوبة، وأن هذه العقوبة كانت لمصلحة العباد لما فيها من الزجر عن المعصية والإسراف في إرتكاب الذنوب، وهي باب للهداية، ومقدمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إنها رحمة بأولئك الذين نالهم العقاب أيضاً، لما يدل عليه حدوثه من عدم إحتمال رجوعهم إلى الرشد، فالعقوبة وضعت حداً للتمادي في المعصية التي إعتادوا عليها، كما وردت النصوص بأن الله عز وجل أكرم من أن يعاقب مرتين في الدنيا والآخرة.
وهذا لا يفيد الحصر والكبرى الكلية لأن رحمة الله تعالى أعم من أن تُقيد أو تُخص بخصوصية وهو الواسع الكريم. بالإضافة إلى موضوعية الآيات الخاصة التي أنعم الله بها عليهم كحجة وميثاق وباب للعلم الشهودي.
علم المناسبة
لم يرد لفظ (نكالاً) في القرآن إلا في آيتين إحداهما هذه الآية والأخرى ما جاء في آية السرقة [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا]( )، والنكال الزجر والعبرة ، وفي الإعتداء يوم السبت بالصيد درس لبني إسرائيل بأن يتعاهدوا حرمة يوم السبت ويتجنبوا الإعتداء مطلقاً.
وقيل بتعلق النكال بذات المعتدين لتكون العقوبة منكلة لما بين يديها لأجل ما تقدمها من ذنوبهم وما تأخر منها( ).
وإرادة الأمم والأجيال الأخرى هو الأصح لعموم معنى العبرة والمنع لأن المقصود بها الغير بسبب كون عقوبة المسخ مهلكة .
قوله تعالى [لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفهَا]
تحمل الآية صيغة الشمول والعموم الزماني او المكاني او كليهما مما يدل على انهم لم يكونوا مقصودين بالذات فقط، بل المقصود المعنى الأعم مع التباين في الأثر والتأثير، فقد نزل عليهم العقاب، ويقصد به أيضاً إعتبار الناس وإتعاظهم وردعهم عن التردي في المهالك، وسبل الضلالة.
وتعتبر الآية حجة في باب أوان العقاب، فقد جاء القرآن بالوعيد بنار جهنم في الآخرة عقاباً للكافرين، ولكن هذه الآية من بين الآيات التي تظهر حصول العقاب النوعي في الحياة الدنيا كما حدث لقوم صالح مثلاً [تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ]( ).
وتدل الآية على أن الله تعالى يتعاهد كلمة التوحيد في الأرض ويحفظ خلافة الإنسان فيها، ومن وجوه الحفظ البطش بالكافرين والإسراع في العقوبة عندما يكون الإسراع بها وفق النواميس الإلهية والله أعلم بالمصلحة والمفسدة.
وفي الآية مواساة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما يلقاه من من فريق من أهل الكتاب، وعون للمسلمين، وسلاح عقائدي لهم يكون واقية من الإستماع إلى أعداء الإسلام مطلقاً.
فالظاهر والعلم عند الله أن أهل السبت ورد ذكرهم من باب المثال والفرد الحاضر لا الحصر والإنفراد، لذا يمكن إعتبارها من مصاديق القاعدة القرآنية العامة وهي أن الآية تنزل لأسباب ووقائع خاصة ولكن حكمها باق إلى يوم القيامة .
وستبقى آية البحث آلة للصبر في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبشارة لقرب العقاب والإنتقام من الذين يصرون على المعاصي تكبراً وغروراً.
وهي باب هداية للذين يخشون ربهم ويتخذون مما يصيب غيرهم عبرة وموعظة، فتلك الواقعة والآية حالت دون تفشي المعصية وإنتشار الجحود، ويمكن إعتبارها سبيلاً للهداية إلى الإسلام سواء ببقاء مفاهيم الإيمان في النفوس حتى البعثة النبوية أو من خلال التذكير بها وإستحضارها موعظة وعبرة لتتجلى منافع القرآن ووظائفه الإعجازية في جذب الناس إلى الإسلام.
وتبين الآية اللطف الإلهي العام المصاحب للعقوبة، إذ يتفضل الله سبحانه ويجعل الناس جميعاً ينتفعون منها بما في ذلك أهل الكفر والجحود لما فيها من التحذير والردع لهم , ويتجلى التحدي في لغة العموم الإنساني والإطلاق الزماني في الأثر المترتب على الآية وإلى يوم القيامة بقوله تعالى[فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا].
فان قلت: لماذا لم يشمل اللطف الذين نزلت بهم العقوبة بتأجيل العقاب عنهم وإمهالهم وإنذارهم؟
أقول: إن الإنذار والوعيد سبق من عند الله تعالى للناس جميعاً، ولم ينزل العقاب بالمعتدين إلا بعد الآيات والنعم وأسباب الهداية العقلية والحسية التي تكون حجة بالغة على كل منهم، وإن تركهم يتمادون في المعاصي وهم أهل النعم يؤدي إلى الإضرار بهم ومضاعفة العذاب عليهم في الآخرة، فجاءت العقوبة للبعث إلى سبل التوبة والإنابة.
وفي الآية وجوه:
الأول: المراد من قوله تعالى[لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا] أهل تلك القرية والقرى القريبة التي يسكنها بنو إسرائيل، وقوله تعالى [وَمَا خَلْفَهَا] أعم فلا ينحصر بأهل القرية ولا بني إسرائيل وحدهم، بل الناس جميعاً، وفيه دعوة للإسلام، وإنذار من التعدي على المسلمين فإذا كانت عقوبة الذي يعتدي ويعمل في السبت من بني إسرائيل المسخ , فكيف بمن يقاتل المسلمين ويحارب النبوة والتنزيل.
الثاني: جعلناها نكالاً لما بين يديها للأمم التي تراها، وما خلفها، ما يكون بعدها وهو المروي عن ابن عباس.
الثالث: جعلناها عقوبة للذنوب التي تقدمت على الإصطياد، والذنوب التي تأخرت عنه، روي عن ابن عباس، أي أن الضمير في (يديها) يعود لواقعة الإصطياد.
الرابع: المراد هي القرى، عن عكرمة عن ابن عباس، أي القرى المحيطة بها واللاحقة لها في الأزمان التالية.
ولفظ القرى أعم من المعنى المتعارف لها في هذا الزمان، فيشمل المدن صغيرها وكبيرها، فقد سميت مكة وبيت المقدس في القرآن قرى , قال تعالى[ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ]( )، والقريتان مكة والطائف.
والآية محل البحث أيضاً تتعلق ب[ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضرَةَ الْبَحْرِ ] أي قريبة منه.
الخامس: ما تقدم من ذنوبهم وخطاياهم قبل الإصطياد وما تأخر عنها.
السادس: وعن زرارة عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام في الآية: لما معها) ينظر إليها من أهل القرى، ولما خلفها: نحن، ولنا فيها موعظة.
وقوله : نحن، المقصود منه معاشر المسلمين لدلالة ظاهر الكلام وموضوعه الإطلاق.
قوله تعالى[وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ]
جاءت آية المسخ عبرة للناس جميعاً، وخصت خاتمة الآية الذين يخشون الله عز وجل بالذكر والإخبار بأن آية المسخ حكمة بالغة ودرس لهم، لقد جعل الله عز وجل الدنيا وما فيها دار موعظة للناس جميعاً، ولكن الآية ذكرت المتقين لكي يجتهدوا في مرضاة الله , ويبذلوا الوسع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقد إستحق المعتدون العقوبة بسوء فعلهم.
ولكن أثر العقوبة آية حسية ينتفع منها الناس جميعاً، ويتخذها المتقون حجة وسلاحاً في الدعوة إلى الله.
والمراد من المتقين على وجوه:
الأول: المؤمنون من بني إسرائيل الذين قاموا بنهي المعتدين عن التعدي يوم السبت، وحذروهم من بطش الجبار، ودعوهم إلى التقوى والصلاح، وحينما قيل لهم لم تعظون هؤلاء الذين سينزل لهم العذاب , ورد في التنزيل حكاية عنهم[مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] ( )، وفيه بيان أن المؤمنين يدعون الناس إلى التقوى.
الثاني : عموم المؤمنين من بني إسرائيل , وعدم إنحصار الأمر بالذين نجوا من المسخ في ذات القرية.
الثالث: إرادة المسلمين من الأجيال المتعاقبة من حين وقوع الآية إلى يوم القيامة.
والصحيح هو الأخير، إذ أن الآية مدرسة يومية متجددة في الإعتبار، وحجة في جذب الناس إلى منازل الإيمان ونيل الثواب في تلاوة هذه الآيات والتدبر بما فيها من المعاني والدلالات , قال تعالى[وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ] ( )، فمن حب الله تعالى لأهل التقوى مجئ هذه القصة في القرآن.


قوله تعالى[ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ ] الآية 67.

الإعراب واللغة
وإذ: الواو:حرف عطف :إذ:ظرف لما مضى من الزمن، قال:فعل ماض، موسى: فاعل، لا ينصرف للعلمية والعجمة، وهو مركب من(مو) وهو الماء بالعبرية، ومن (شا) ويراد منه الشجر بالعبرية، وقيل(هو بالعبرانية موسى، ومعناه الجذب لأنه جذب من الماء) ( ).
إن الله: إن وإسمها، يأمركم: فعل مضارع وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية خبر إن.
إن: حرف مصدري ونصب، وهي وما بعدها مؤولة بالمصدر،أي بذبح بقرة.
بقرة: مفعول به منصوب بالفتحة.
أتتخذنا: الهمزة للإستفهام الإستنكاري، تتخذنا: فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول. هزواً: مفعول به ثان. و[ هُزُواً ]، قرأها نافع هزءاً بالتخفيف والهمز , وقرأها حفص عن عاصم بضم الزاي. والهزء: اللعب والسخرية.
قال: فعل ماض، وفاعله هو، أعوذ: فعل مضارع والفاعل ضمير تقديره (أنا).
بالله: جار ومجرور، والجملة مقول القول.
أن أكون: أن وما في حيزها مصدر منصوب بنزع الخافض أي من كوني، وإسم أكون ضمير مستتر تقديره أنا.
من الجاهلين: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كنتم
البقر معروف، وأختلف هل أنه اسم للمؤنث من هذا الجنس وان المذكر إسمه الثور، أو أنه اسم جنس يقع على المؤنث والمذكر , ودخلت الهاء في البقرة للوحدة.
الصحيح هو الثاني، واسم البقر مشتق من بقر أي شق لأنها تشق الأرض بالحراثة. وظاهر الآيات أن البقرة التي ورد ذكرها مؤنثة.
و[ أَعُوذُ بِاللَّهِ ] أي ألجأ إلى الله مستجيراً ومستعصماً. والجهل: إنعدام العلم.
والجاهلون: جمع جاهل، والجهل نقيض العلم، جهل جهلاً وجهالة، ومنه قوله تعالى[فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ]( )، (ورجلٌ عَمِي القلب، أي جاهلٌ)( ) وروي عن ابن عباس: أنه قال: من استجهل مؤمناً فعليه إثمه، قال شمر: قال ابن المبارَك: يريدُ بقوله: من استَجهل مؤمناً، أي حَمَله على شيء ليس من خُلُقه فيُغضِبه)( )، وقال وهب بن منبه: وإني وجدت في بعض ما أنزل الله على أنبيائه أن الشيطان لم يكابد شيئا أشد عليه من مؤمن عاقل وأنه يكابد مائة ألف جاهل فيسخر بهم حتى يركب رقابهم فينقادون له حيث شاء ويكابد المؤمن العاقل فيصعب عليه حتى لا ينال منه شيئا)( ).
في سياق الآيات
بعد نزول العقاب بطائفة من بني إسرائيل وكيف انهم أصبحوا عبرة وموعظة، جاءت هذه الآية لتحكي قصة تفصيلية تتعلق بمقابلة النعم بالجحود، ويبدو شأنها من نعت السورة بإسمها، الأمر الذي يستلزم الدراسة والإتعاظ والإستنباط.
لقد جاءت الآيتان السابقتان بذكر التعدي في يوم السبت، أما هذه الآية فجاء موضوعها بالمعنى الأعم، وقد ذكرت الآيات السابقة موسى عليه السلام من وجوه:
الأول: مواعدة الله تعالى لموسى عليه السلام.
الثاني: مخاطبة موسى لقومه بأنهم ظلموا أنفسهم.
الثالث: سؤال الملأ من بني إسرائيل بأن يروا الله عز وجل جهرة، وجعلهم هذه الرؤية شرطاً لتصديقهم بنبوة موسى عليه السلام.
الرابع : إستسقاء موسى لبني إسرائيل، وتضرعه إلى الله تعالى .
الخامس : التوجه إليه بالسؤال بنزول الغيث وسقاية بني إسرائيل ونجاتهم من العطش.
الخامس: مخاطبة بني إسرائيل لموسى بعدم صبرهم على طعام المن والسلوى النازل من السماء بقولهم [لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ] ( ).
وجاءت هذه الآية والآيات التالية بالإخبار عما دار بين موسى عليه السلام وبني إسرائيل في آية إعجازية تبين عظيم فضل الله تعالى على بني إسرائيل.
لقد أسبغ الله تعالى عليهم نعمه وإحسانه، وحطّ عنهم الوزر والحرج، ودعاهم إلى الشكر له سبحانه , والتدبر في الآيات.
ووردت مادة (قال) ثلاث مرات في كل من هذه الآية والآيتين التاليتين , وإبتدأت هذه الآية بقول موسى لقومه وردهم عليه بلفظ[قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا] وجوابه عليهم.
أما الآية التالية فتضمنت قول بني إسرائيل لموسى , وإخبار موسى لهم بقول الله عز وجل , وما فيه من البيان ( قال إنه يقول ) وكذا بالنسبة للآية بعد التالية .
لقد تضمنت آية البحث الأمر الإلهي بذبح بقرة لتكون مادة ووسيلة لكشف القاتل , وجاءت الآيات التالية بذات الموضوع، لتكون هذه الآيات مجتمعة ومتفرقة مدرسة في المعرفة الإلهية يقتبس منها المسلمون سنن التقوى، وهي مدد لهم في باب إجتناب كثرة السؤال والتشديد على النفس.
لقد تقدم قبل سبع آيات إستسقاء موسى عليه السلام لبني إسرائيل بضرب الحجر بعصاه فتفجرت من ذات الحجر إثنتا عشرة عيناً في معجزة لم ولن يشهد لها التأريخ مثيلاً ولكن عندما سألوه الكشف عن الجاني أمرهم بذبح بقرة، ورد جواب بني إسرائيل(أتتخذنا هزواً) وردودهم الأخرى لا تدل على ظنهم بإنقطاع معجزة العصا عنه، فكانوا مسلمين بأنه كليم الله وأن الله يرزق المعجزة بقوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ) .
وتقدم قوله[قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ] ( )،ترى ما هي المنافع والآثار المترتبة على علم كل قوم بمشربهم، فيه وجوه:
الأول : تنظيم الحياة اليومية لبني إسرائيل.
الثاني : منع الخلافات والخصومة بين بني إسرائيل.
الثالث : الإكرام العام لبني إسرائيل والخاص لكل سبط منهم، وهل تعيين مشربهم من عمومات قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
الرابع : علم بني إسرائيل.
الخامس : تدل الآية بالدلالة التضمنية على عدم تزاحم وإختلاف بني إسرائيل على عين مخصوصة، فقد جرت العيون بوقت واحد وهو المستقرأ من ورود الفاء في قوله تعالى[فَانفَجَرَتْ] أي ليس ثمة فترة بين ضرب موسى الحجر بعصاه وإنفجار الماء.
السادس : لو تردد الأمر في قوله تعالى[فَانفَجَرَتْ] بين إفاضة الماء دفعة واحدة من العيون الإثنتي عشرة أم تفجرت بالتوالي والتعاقب الجواب هو الأول، وتلك آية في إكرام بني إسرائيل وإفاضات النعم عليهم.
السابع : لم تقل الآية (قد علم كل سبط مشربهم) بل ذكرتهم بلفظ أناس وفيه مسائل:
الأولى : بين أناس والسبط عموم وخصوص مطلق، فالأناس أعم وإن كان جمع قلة للإنسان.
الثانية : بيان قانون كلي في الإرادة التكوينية وهو أن الله يرزق الناس الماء والسقي بما هم أناس وعبيد الله ، قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( ).
الثالثة: لقد أراد الله لبني إسرائيل البقاء أحياء ليعبدوه ويحفظوا تراث النبوة، وبشارات الأنبياء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ووردت علة الخلق للعبادة بصفة الأنس، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الرابعة: لعل في الآية إشارة إلى التداخل بين الأسباط ووفرة الماء.
الخامسة: دلالة الآية على الأسباط، والقرآن يفسر بعضه بعضاً فمرة ذكروا بلفظ (الأسباط) وأخرى(أناس) ودلّ التعيين في المشرب على إرادة الأسباط.
الثامن: من منافع معرفة كل سبط مشربهم وقاية بني إسرائيل من القتل والإقتتال بين بني إسرائيل، ومع هذا حصل القتل عندهم ولكن على نحو القضية الشخصية، فجاءوا إلى موسى عليه السلام فأمرهم بذبح بقرة لمعرفة وتحديد شخص الجاني.
ولو إمتنع موسى عليه السلام عن إجابتهم، وبقيت هوية القاتل مجهولة، فهل يتكرر القتل بينهم , الجواب نعم، وفيه فتنة وفرقة ، وفي عدم تعيين القاتل إغراء للتعدي والظلم والقتل.
لذا فان الأمر الإلهي بذبح بقرة رحمة ونعمة عظيمة على بني إسرائيل إنتفعت منها ذراريهم وأجيالهم حتى نزل جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( )، ليبعث الفزع في نفوس الناس من التعدي والقتل خشية القصاص والجزاء بالمثل.
التاسع: حث بني إسرائيل للتوجه لعبادة الله والتفقه في الدين ومعرفة أحكام الحلال والحرام.
العاشر: بعث السكينة في نفوس بني إسرائيل بوفرة الماء وقربه منهم، ومعرفة مواطن الفضل الإلهي فيه.
الحادي عشر: إن الله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، ومن التمام في المقام علم كل جماعة وسبط بالموضع الذي يشربون منه، وكل موضع يبدأ وينبع ماؤه من الحجر، ولم تتعرض الآية لمنتهى ومصب الماء وهو مشرب كل سبط منهم أي الموضع الذي يشربون منه، فلا يتعدون إلى غيره.
الثاني عشر: تنمية ملكة العدل والتقوى عند بني إسرائيل بالشرب من المكان المخصص لهم.
الثالث عشر: من خصائص النعم الإلهية على بني إسرائيل أنها تبعث السكينة في نفوسهم، وتمنع من أسباب الكدورة ومفاهيم الغضاضة بينهم.
الرابع عشر: تبين الآية الغاية الكريمة من علم كل سبط بمشربهم وهو الأكل والشرب بهناءة ورغد عيش، وأن لا يعتدوا ويتجاوزوا الحد في الأرض لأنهم فازوا وإختصوا بفضل الله، ترى كيف علم كل أناس من بني إسرائيل مشربهم، فيه وجوه محتملة:
الأول: إن الله عز وجل هو الذي بيّن لهم مشرب كل فريق منهم.
الثاني: قام موسى عليه السلام بإخبار بني إسرائيل عن مواطن مشربهم بوحي من الله عز وجل.
الثالث: علم بنو إسرائيل مشاربهم بالكسب والفصل بينهم على نحو متكرر ومتعاقب حتى إستقرت معرفة كل سبط منهم بالموضع الذي يشرب منه.
الرابع: كل جماعة من بني إسرائيل تنحاز إلى سبطها إلى أن صار لكل سبط موضع شرب ومنهل معلوم.
الخامس: كل مشرب فيه خصائص وعلامات تناسب وتلائم سبط معين من أسباط بني أسرائيل.
السادس: كل سبط إندفع إلى مشرب معين فصار خاصاً بهم.
السابع: جاء التعيين بالتشاور بين الأسباط.
الثامن: إعتماد بني إسرائيل القرعة لتعيين مشاربهم بلحاظ أنها لكل أمر مشكل.
التاسع: كل عين من الماء لها مذاق وطعم خاص، والجامع بينها أنها عذب فرات.
والأقوى هو الثاني، وهو من فضل الله على بني إسرائيل،ووجود موسى عليه السلام بين ظهرانيهم، وبيان منافع الوحي وتكليم الله عز وجل لموسى في عبادات ومعاملات بني إسرائيل، وفي مشربهم ومأكلهم وليس من أمة جاءها الوحي والمدد حتى في الشرب والأكل مثل بني إسرائيل، وهو من عمومات قوله تعالى في خطاب لبني إسرائيل[اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( ).
وتتضمن الآية معاني الشكر لله عز وجل , وعلى قسمين متضادين في الكيفية :
الأول: الأمر بالأكل والشرب من رزق الله ونعمة جاءت بالمعجزة.
الثاني: النهي والزجر عن إشاعة الفساد في الأرض، وهو من فلسفة النعم الإلهية بأن تلازمها الأوامر وتصاحبها النواهي لا لحاجة من الله عز وجل لها، بل لكي تدوم النعم على أهلها.
وهل قولهم لموسى في الآية التالية[لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ]( )، من الفساد في الأرض باعتبار أن الطعام الواحد نازل من السماء، وأن سؤال الأدنى منه جحود بهذه النعمة، الجواب لا، لأن القدر المتيقن من الفساد في الأرض الظلم والتعدي والطغيان.
والإفساد في الأرض برزخ دون إستمرار النعم، قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( )، فمن ظلم النفس الذي يحجب النعم والرزق الكريم الإفساد في الأرض، لأن الله عز وجل يريد للناس أن يشكروه.
إعجاز الآية
تتجلى الأسرار والمسائل المستنبطة من قصة البقرة فانها تبدأ بأمر من الله على لسان النبي موسى عليه السلام جاء متعقباً للآيات التي وردت على يديه عليه السلام , وفي الآية مسائل :
الأولى: الآية ضميمة وحجة في لزوم الإستجابة لأمر الله.
الثانية: مصاديق ورشحات التفضيل توجه الأمر الإلهي للأمة التي فضلها الله، ووجوب مبادرتها للإمتثال وقد فاز المسلمون بهذه المرتبة السامية، فأكرمهم الله بالشهادة لهم بعلو الرتبة، ورفعة المنزلة بين أهل الملل والنحل بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالثة: لابد من كلام وحوار سابق جرى بين موسى عليه السلام وبني إسرائيل ويتعلق بموضوع مخصوص، وهو الذي تبينه الآيات التالية.
الرابعة: تبين صيغ محاورة بني إسرائيل مع أكبر أنبيائهم، فموسى من الرسل الخمسة أولي العزم، وتثبت الآية نبوته وتدل على حصول المعجزة على يديه بأمر الله في الوقائع والأحداث والتحدي بها إبتداء.
لقد جاءت هذه الآية بالأمر الإلهي إلى بني إسرائيل، وكان جواب موسى عليه السلام واسطة نبوية لنقله ، فلم يقل لهم موسى “إذبحوا بقرة” بل قال [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً] ومع هذا فان بني إسرائيل أكثروا الرد والرجوع إلى موسى عليه السلام ليسأل الله تعالى عن ماهية البقرة.
وفي حين جاءت الآيات بالخطاب (يا بني إسرائيل) يأتي الخبر بوصفهم قوم موسى [قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ]( ) وفيه مسائل:
الأولى: دخول موسى وهارون في بني إسرائيل، كما يدخل فيهم الصالحون منهم، وقد يأتي لفظ القوم لإرادة فريق منهم، كما في ذبح البقرة وكثرة الترديد منهم إذ أن الصالحين لا يقومون بكثرة الرد على الأنبياء , قال تعالى في خطاب للمسلمين[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الثانية: بين بني إسرائيل وقوم موسى عموم وخصوص مطلق، فقوم موسى من بني إسرائيل وليس العكس.
الثالثة: النعم التي جاءت لبني إسرائيل متقدمة زماناً لأيام موسى ومصاحبة لها ومتأخرة عنها، فلذا يذكّر الله تعالى أجيالهم بالنعم التي تفضل بها على آبائهم لأنها تتغشى ذراريهم اللاحقة بالتبعية والأثر المستديم المترشح عليهم , وهو من أسرار وفلسفة مخاطبتهم بما جاء لآبائهم وما فعلوه .
الرابعة : يبين لفظ “القوم” جهاد الأنبياء في صلاح وهداية قومهم , وفي التنزيل حكاية عن موسى عليه السلام [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ]( )، ليخرج بالتخصص المؤمنون من قومه لأنهم لا يؤذون موسى.
ويمكن تسمية الآية بآية (تذبحوا بقرة) ولم يرد لفظ تذبحوا في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
في الآية الكريمة أمران أحدهما المنطوق , ومنه الإحتجاج على بني إسرائيل، والآخر دلالة المفهوم للإعتبار في لغة المحاورة مع الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وترى صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يتصرفوا معه إلا وفق صيغ الإكرام والإجلال والتعظيم لمقام النبوة.
والآية حجة على بني إسرائيل لما فيها من النعم المتعددة عليهم، وهي على وجوه:
الأول: وجود موسى النبي الرسول بين ظهرانيهم.
الثاني: إخبار موسى عليه السلام لبني إسرائيل عن الله تعالى.
الثالث: جاء الطعام لبني إسرائيل من السماء، إذ كان ينزل عليهم المن والسلوى كل يوم , وكذا فك الخصومة وكشف الجاني يأتي من عند الله تعالى، وهو نعمة عظيمة يمنّ بها الله تعالى على بني إسرائيل، وفيها شاهد على أفضلية المسلمين على غيرهم من الأمم إذ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يخبرهم بالحكم، وفك الخصومة بما رزقه الله من الوحي فيتلقون قوله بالقبول والرضا.
الرابع: لم يقل موسى “إن الله يأمرنا” بل جاءت الآية بتوجه الأمر إلى بني إسرائيل , وفيه وجهان:
الأول: دخول موسى عليه السلام في الخطاب.
الثاني: خروج موسى بالتخصص من الخطاب.
والصحيح هو الثاني، فلو كان موسى عليه السلام ضمن المخاطبين والمأمورين بذبح البقرة لقام بذبحها ولكن الآية جاءت للإبتلاء والحجة، وكان موسى عليه السلام هو الرسول الذي يبلغ بني إسرائيل بالأمر الذي يأتي من الله بالوحي ، ومن نعم الله تعالى على بني إسرائيل أن يتوجه لهم الأمر الإلهي بذبح بقرة ليكون هذا الذبح مقدمة لكشف الجاني الذي قام بالقتل.
الخامس: عدم مؤاخذة بني إسرائيل على ردهم على موسى [أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا] مع ان موسى عليه السلام كان يأتي بالآيات والمعجزات.
السادس: تنزه موسى عليه السلام عن الإستهزاء بهم، ولجوئه إلى الله تعالى مستجيراً مستعيذاً من الجهالة والغرر، وفيه إخبار وقطع بأنه لم يتخذهم هزواً في أي يوم من أيام حياته، مما ينفي إحتمال الإستصحاب، ويؤكد بأنه لم يستهزء بهم أبداً، بل كان حريصاً على نقل الوحي والتنزيل.
مفهوم الآية
تتجلى في الآية وظائف الوساطة الملكوتية للنبي بين الخالق سبحانه وبين عباده وتتضمن في مفاهيمها رأفته ورحمته تعالى ببني إسرائيل بأن تأتي الأوامر الإلهية في تفاصيل الأحكام وأسبابها الإعجازية، وتحث الآية على طاعة الأنبياء والإنقياد لما يأتون به من عند الله، وتؤكد المرتبة العالية في العلم للأنبياء وإجتنابهم الإستخفاف بالآخرين أو الإضافة على الوحي والتنزيل، فلا يخبرون عن الله عز وجل إلا بما يأمرهم به.
وتدعو الآية إلى إجتناب الهزل في الأحكام والعقود , وتأكد حاجة كل إنسان للإستعاذة والإلتجاء إليه تعالى في إجتناب الزلل والخطأ، وتبين أضرار الجهل وآثاره السلبية على المجتمعات والصلة بين الإمام والمأموم، وتنفي عن موسى عليه السلام الغضب في مثل هذا المقام , فجاء رده تأديباً لهم وإظهاراً لحسن التوكل على الله وإشارة إلى دفع الفتنة .
لقد أكد موسى عليه السلام إلتزامه الجد والصدق وعدم التفريط بالوحي أو التجاوز عليه.
وتبين الآية فضلاً آخر على بني إسرائيل بتلقيهم الأمر الخاص من عند الله تعالى بواسطة نبي الله موسى عليه السلام، وتوثيق القرآن لهذا الأمر وصيغة الذم والتوبيخ للذين فرطوا بهذه النعمة خصوصاً وأن تفريطهم جاء مركباً، من وجهين:
الأول : عاجل إبتدائي بالرد على النبي عليه السلام.
الثاني : الآجل الأكبر بالجحود برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن مفاهيم الآية الإخبار عن سجية ثابتة عندهم مفادها الجحود والصدود وكثرة السؤال الذي يتضمن معنى الرد، وإستنكار الحقائق الثابتة فقد كان إخبار موسى عليه السلام من البديهيات , ومن مفاهيم إستعاذة موسى عليه السلام إظهار مضامين العبودية لله وتوكيد اللجوء إليه، وحث بني إسرائيل على الإستغفار ونبذ الجهل وإشعارهم بان ظنهم هذا وترجله إلى الخارج بالرد على النبي من الجهل الذي يستلزم الإستغفار.
وأظهر موسى عليه السلام ثقته بالوحي وأن الكلام ليس من عنده وفيه تحد لهم وليس من واسطة بين العالم والجاهل لذا فان الآية تظهر ما عليه هؤلاء القوم من الجهل، وفيه تأديب لهم للزوم تنزيه النبوة عن منازل الجهل والإستهزاء والسخرية، فليس في الإخبار عن الوحي إلا الحق والصدق وتلك مسألة عقائدية في النبوة وهي إلتزام الأنبياء بالصدق في مسائل الوحي والتنزيل.
إن الأمر بذبح بقرة لإحياء ميت وبعث الحياة فيه خلاف قانون السببية ولكنها مناسبة لآية أخرى من فضل الله تعالى على بني إسرائيل وهي حضور المعجزة في الوقائع والأحداث الخاصة وهذه المعجزة وإن كانت حسية إلا أنها تتضمن دلالات عقلية للأمم قاطبة وإنتفع منها المسلمون في حياتهم اليومية وفي جهادهم وكيفية تعاملهم مع الآخرين والوقاية والإحتراس من أهل اللجاج والعناد.
وفي الآية مسائل وأحكام:
الأولى: إن موسى عليه السلام يأمر قومه ويبلغهم عن الله عزوجل فهو واسطة مباركة بين الله وبينهم، وبنو إسرائيل يعلمون هذا لذا وردت آيات يسألون فيها موسى أن يدعو الله لهم [فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ]( ).
الثانية: إن بني إسرائيل هم قوم موسى، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء للناس جميعاً وليس لقومه من قريش أو أهل مكة، وكان قومه أشد الناس عليه.
الثالثة: تفضل الله تعالى بأمرهم بذبح بقرة، ولابد لهذا الذبح من دلالات ومقاصد.
الرابعة: ردهم وجحودهم وإستغرابهم للأمر بما يتضمن الرد على نبي الله موسى عليه السلام.
الخامسة: التجاء موسى عليه السلام إلى الإستعاذة بالله تعالى، ونعت الإستهزاء بالجهل سواء لذات الإستهزاء أو لأنه في مقام التبليغ عن الله وهو مقام منزه عن الإستهزاء والكذب.
ومن أمثلة القرآن، ما تسمى بالأمثلة الكافئة التي يصرح بها بلفظ التمثيل، ولكن يدرك المعنى المراد بالواسطة والتقريب , ومنه قوله تعالى [لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ] ( ).
وفي الآية مسائل:
الأولى: قيام موسى عليه السلام بإخبار قومه عما يريد منهم الله تعالى.
الثانية: المراد من قوم موسى عليه السلام هم بنو إسرائيل، وفيه تشريف وتفضيل لبني إسرائيل إذ ورد ذكرهم بأنهم قوم موسى عليه السلام، وهو نبي رسول من الخمسة أولي العزم.
الثالثة: توجه الأمر الإلهي إلى بني إسرائيل مباشرة بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ] وإختصت وظيفة موسى عليه السلام بنقل هذا الأمر، وفيه إشارة إلى إنحصار الوحي بالأنبياء وأن الأمر الإلهي لا يأتي إلا للنبي وإن كان المقصود غيره، متحداً كان أو متعدداً، والتعدد من الكلي المشكك، فقد يكون أمة أو طائفة أو جماعة أو أهل بلد أو قرية، والمراد في المقام أمة بني إسرائيل.
الرابعة: في الآية تأديب للمسلمين وإرشاد لهم بأن الله عزوجل يأمرهم في أمور آخرتهم ودنياهم بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( )، وتدل الآية في مفهومها على تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى من وجوه:
الأول : تلقي المسلمين الأوامر الإلهية بالقبول والإمتثال الحسن.
الثاني: إجتناب المسلمين الرد وكثرة السؤال، والتشديد على النفس.
الثالث: تتصف الأوامر الإلهية للمسلمين بانها تتعلق بالعبادات ووجوه الطاعة لله تعالى.
الرابع: تقيد المسلمين بالأوامر الإلهية.
الخامس: توارث المسلمين للإمتثال للأوامر الإلهية بشوق ورغبة.
السادس: تنزه المسلمين عن تحريف الأوامر الإلهية , وهذه الصفات الحميدة مجتمعة ومتفرقة من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
السابع: جاءت أسئلة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الأحكام الشرعية، وأمور الحلال والحرام.
كما في الآيات التي ورد فيها لفظ يسألونك، ومنها قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ] ( ).
الخامسة: الآية مصداق من مصاديق المعجزات الحسية التي جاء بها موسى عليه السلام, وفيه تفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الآيات التي جاء بها عقلية تتجلى بالقرآن وإحاطته باللامحدود من الوقائع والأحداث، وتضمنه للأحكام الشرعية وفصل الخطاب.
السادسة: توجه خطاب موسى عليها السلام إلى قومه لقوله تعالى [إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ] وتأتي خطابات القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موجهة للمسلمين جميعاً، ومنها ما يكون للناس كافة، وحتى في أيام التنزيل فان الصحابة أعم في إنتمائهم إلى القبائل، ففيهم القرشي والعربي مطلقاً، وفيهم من أهل مكة والمدينة وغيرهم، وفيهم الفارسي والرومي والحبشي في آية إعجازية تتجلى بوضوح بلحاظ الزمان آنذاك وصعوبة التنقل والإنتقال، وتعذر الأمن والسلامة لولا فضل الله تعالى على الناس بالبعثة النبوية المباركة، وما ترشح عنها من نعمة الأخوة بين المسلمين , ليكون الصحابة مصداقاً ومقدمة لعموم قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
السابعة: تفضل الله تعالى بأمر بني إسرائيل بذبح بقرة آية حسية ومقدمة لمعرفة القاتل والمعتدي , وفيه شاهد بأن لمعجزات الأنبياء منافع عامة وتكون آنية عاجلة , ليأتي القرآن فيوثقها ويجعل منافعها من اللامتناهي .
الثامنة: قيام بني إسرائيل بالرد على موسى عليه السلام بصيغة الإنكار [قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا] ويدل ها الرد على وهم وتخلف عن المعارف الإلهية، فالنبي لا يقول على الله إلا الحق والصدق.
التاسعة: جاء جواب موسى على إنكارهم آية إعجازية إذ فزع إلى الله ملتجاً مستجيراً [أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ] وفيه اعلان تنزه موسى عليه السلام عن القبيح من وجوه:
الأول: النبي يخبر عن الله بما يوحي اليه، وفيه حجة على الذين لم يتبعوا الأنبياء والذين قاموا بقتلهم , قال تعالى [قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني: إستجارة موسى عليه السلام بالله عز وجل من القول بغير علم.
الثالث: في الآية قاعدة كلية وهي عدم إتخاذ النبي الناس هزواً وأن النبوة مبنية على إكرام الناس وعدم السخرية منهم.
الرابع: تبرأ موسى عليه السلام من الجهالة، وإفتخاره باللجوء إلى الله تعالى.
الخامس: التباين والتضاد بين النبوة والجهالة، وفيه إشارة إلى تنزه أتباع الأنبياء عن الجهل.
العاشرة: كان موسى عليه السلام في مقام الحكم والفتوى.
الحادية عشرة: في الآية ذم وتقبيح للذين ردوا على موسى عليه السلام، لأنه أراد بيان آية من آيات الله كانت حاجة في فك الخصومة ودراً الفتنة، وتبقى خالدة بين الناس إلى يوم القيامة بالقرآن.
الثانية عشرة: قبح إتخاذ الآخرين هزواً والإستخفاف بهم، ويحتمل الأمر وجوهاً:
الأول: إنحصار قبح السخرية من الناس في مقام الفتوى والحكم.
الثاني: شموله لحالات الشدة والحرج ومقدمات الفتنة والإبتلاء.
الثالث: قبح السخرية من الآخرين مطلقاًَ، سواء في حال الإخبار عن الله عز وجل أو حال الفتوى والحكم وفي الأحوال المختلفة.
والصحيح هو الأخير لأصالة الإطلاق ولزوم إكرام الذات والغير، وعدم وجود مسوغ شرعي أو عقلي للسخرية، مع التباين بين الدعابة والسخرية، وحتى الدعابة لا تأتي في مقام الحكم، قال تعالى[لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ]( ).
الآية لطف
يتجلى اللطف الإلهي في الآية الكريمة بأمور:
الأول: عدم ترك مسألة وحاجة بني إسرائيل.
الثاني: توكيد حقيقة وهي أن الله يسمع ما يقوله بنو إسرائيل لموسى عليه السلام.
الثالث: تفضل الله عز وجل بالجواب والإستجابة لبني إسرائيل، ومجيء الإستجابة بصيغة الأمر بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً] ( ).
الرابع: في الآية إكرام لبني إسرائيل من وجوه:
الأول: إجابة مسألتهم.
الثاني: مجئ الإجابة بواسطة الرسول موسى عليه السلام.
الثالث: إكرام موسى عليه السلام بتلقي الإجابة الإلهية بالوحي وإبلاغها لبني إسرائيل.
الرابع: عدم وجود فترة ظاهراً بين المسألة والإجابة الإلهية.
الخامس: تفويض الذبح إلى بني إسرائيل، وعدم إشتراط إشراف موسى عليه السلام عليه لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً].
السادس: تعدد المنافع من ذبح البقرة من وجوه:
الأول: درء الفتنة بين بني إسرائيل.
الثاني: إحقاق الحق وكشف الجاني الذي قام بالقتل.
الثالث: الزجر والتأديب والحيلولة دون تكرار حدوث القتل بين بني إسرائيل، فاذا علم القاتل بان جنايته تكشف، وفعله المذموم يصير مفضوحاً فانه يتجنب الإقدام على القتل.
وإذ كانت هذه الآية في بني إسرائيل خاصة أيام نبوة موسى عليه السلام فان آية القصاص حكم دائم عند المسلمين إلى يوم القيامة لقوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
وآية البحث مدرسة في مقام كشف الجناية، وشاهد على ثبوتها موضوعاً، مما يجعل الذي يهم بالجناية يخشى إكتشاف أمره وفضحه والإقتصاص منه , فيجتنب القتل، فيكون الحكم بالقصاص سلامة له ولمن يهم بقتله.
الخامس: في الآية حجة على بني إسرائيل، وحث لهم على التقيد بأحكام الشريعة، وإجتناب الظلم، وفيها زجر عن التعدي على المسلمين وحرماتهم عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس: بيان نفع النبوة ووجود الأنبياء عند بني إسرائيل.
إفاضات الآية
في الآية دعوة للتسليم بالأمر الإلهي والإمتثال له من غير تردد، والإنجذاب للوحي والتنزيل لما فيهما من السعادة الدائمة، ومن العبر والمواعظ التي في الآية إصلاح المسلمين، والزجر عن الرد على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء بخصوص القرآن او ما يتعلق بمضامين السنة القولية والفعلية، ومن الآيات أن المسلمين إلتزموا بأجيالهم المتعاقبة بكل ما جاء به النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم تذكر الآية مجيء بني إسرائيل إلى موسى عليه السلام وسؤاله إظهار وكشف القاتل، بل ذكرت أمر موسى لهم بذبح بقرة , ويدل بالدلالة التضمنية على سؤالهم له، وحاجتهم للنبوة ومن الدلائل على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين آية القصاص أعلاه وعمل المسلمين بها.
وفيه تأديب للناس، وزجر لهم عن القتل ، وترغيب بالإسلام لأن حكم القصاص من مصاديق العدل ويبعث الطمأنبنة في النفوس , ومن إعجاز القرآن مجيء الآية في قوم وأهل ملة وإنتفاع المسلمين منها وإقتباسهم المواعظ والعبر منها، كما في قصة البقرة.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت هذه الآية والآيات الستة التي بعدها بقصة البقرة التي أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يأمر قومه بذبحها.
وفي هذه الآيات إعجاز من وجوه:
الأول: لم يرد لفظ[ بَقَرَة] بصيغة المفرد إلا في هذه الآيات، إذ جاء في أربع آيات منها، في كل آية مرة واحدة( ).
الثاني : ورد اللفظ بصيغة الجمع بقوله تعالى[قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا] ( ).
الثالث : تسمية هذه السورة وهي أكبر سور القرآن باسم (سورة البقرة) لما فيها من قصة البقرة وإتخاذها وذبحها سبباً لإحياء الميت وكشف الحقيقة، وإظهار القاتل، وهو من عمومات قوله تعالى في خطاب لهم[اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، من وجوه:
الأول: وجود كليم الله النبي موسى عليه السلام بين ظهرانيهم.
الثاني : ندرة حدوث القتل عند بني إسرائيل، إذ كان القتل أمراً عظيماً عندهم.
الثالث : لجوء بني إسرائيل إلى موسى عليه السلام لمعرفة وتعيين الجاني.
الرابع : صيرورة ذبح بقرة مادة ووسيلة لإكتشاف الجاني.
الخامس : الأمر بذبحها مناسبة وموضوع لإستنباط المسائل والدروس التي ينتفع منها بنو إسرائيل والمسلمون جميعاً.
السادس : فوز بني إسرائيل بفضل من الله وهو كشف الجاني بآية حسية.
السابع : لقد جاء بنو إسرائيل إلى موسى عليه السلام لعرض مسألة قتل أحدهم فرجعوا بمعرفة قاتله وفضحه , ومنع الفتنة بينهم.
الثامن: تعطيل القتل غيلة والجناية مطلقاً بين بني إسرائيل لأن الله عز وجل يفضح ويخزي الجاني، وفيه رحمة وتخفيف عن بني إسرائيل، ومادة لزيادة إيمانهم.
الرابع: جاء ذكر البقرة في الآيات الأربعة بصيغة التنكير[بَقَرَةً] مع لحوقها بأوصاف خاصة بعد أن سأل بنو إسرائيل عن صفاتها.
الخامس : بيان فضل الله تعالى على بني إسرائيل بذكر أوصاف البقرة التي يجب أن يذبحوها، وهذا الفضل مستقل وفرد آخر غير الفضل بأمرالله تعالى على بني إسرائيل بذبح أي بقرة من غير قيد بوصف أو أوصاف مخصوصة، إذ جاءت الآية محل البحث بما يفيد الإجزاء بأي بقرة [إن اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً] ( ).
ليكون الواجب فيها تخييرياً، وليس تعيينياً، وفيه سعة ومندوحة قبل أن يشدد بنو إسرائيل على أنفسهم.
وتبين الآية تسخير الحيوانات لمنفعة الإنسان، ليس للأكل وحاجته من الطعام فقط، بل لأغراض الحجة والبرهان في سر مكنون للصلة بين الأمر بذبح البقرة وكشف القاتل، وفيه وجوه:
الأول: البقرة قربان يتقرب به إلى الله.
الثاني: في ذبح البقرة بذل للمال طاعة لله، وسعي لإظهار الحق.
الثالث : الإمتثال بذبح البقرة شاهد على تصديق بني إسرائيل بنبوة موسى عليه السلام وبما يخبر به عن الله تعالى، خصوصاً وأن المسألة ليست من أحكام العبادات والأوامر والنواهي التي جاءت بها التوراة، بل هي قضية في واقعة.
الرابع : إظهار بني إسرائيل البذل والعطاء وشراء البقرة المعنية بأغلى الأثمان.
وفي الآية مدح للمسلمين لجهادهم في سبيل الله بأنفسهم ومبادرتهم إلى بذل أموالهم .
الخامس: توبيخ الذين إتخذوا العجل إلهاً، وتذكير بني إسرائيل بحقيقة وهي أن هذه الحيوانات مسخرة لهم، وفيه دعوة لهم للإنقطاع إلى عبادة الله تعالى، والعمل بأحكام التوراة.
ومع أن الآيات السابقة جاءت بصيغة الخطاب من عند الله إلى بني إسرئيل[وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ] ( ) [ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ] ( ) [ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ] ( )، فإن هذه الآية جاءت بصيغة الجملة الخبرية فلم تقل الآية (وإذ قلنا لموسى أن يقول لقومه إن ربكم يأمركم أن تذبحوا بقرة) فتضمنت الإعجاز البلاغي والإخبار عما قال موسى لقومه مع أن قوله مرآة وحكاية عن أمر الله تعالى، وفيه مسائل:
الأولى : بيان أن الأمر إلى بني إسرائيل يأتي من عند الله تعالى، وفيه حجة عليهم، ودعوة لهم للإمتثتال للأوامر الإلهية.
الثانية : لا يأمر موسى عليه السلام إلا بما يأمر الله تعالى به موضوعا وجهة ، ولم يأت كلام موسى عليه السلام لبني إسرائيل بصيغة الأمر بل جاء بصيغة القول والإخبار , وفيه وجوه:
الأول : إنه من مصاديق تكليم موسى لله تعالى.
الثاني : حسن سمت موسى عليه السلام مع قومه وكذا جميع الأنبياء، وقد كان كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه وأهل بيته والناس جميعا آية في التواضع ومكارم الأخلاق (وهو القائل : أدبني ربي فاحسن تأديبي)( ).
الثالث: بيان بعض وظائف النبوة وأن النبي واسطة بين الله وبين العباد ينقل لهم ما يأمر به الله تعالى.
الثالثة: في الآية دعوة لبني اسرائيل للإمتثال للأوامر والنواهي التي تأتي من عند الله تعالى على لسان موسى عليه السلام.
وذكرت الآية بني إسرائيل بصفة قوم موسى، وورد لفظ (قومه) ثلاث مرات في سورة البقرة ومرة في سورة المائدة , وكلها في موسى عليه السلام وقومه , ولم يرد لفظ (قومه ) في سورة آل عمران والنساء، وعدده في القرآن ست وخمسون مرة , وهو مدرسة جامعة لقصص الأنبياء مع قومهم، وما كانوا يلاقونه من الأذى والعناء , وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)( ).
لقد نقل موسى عليه السلام أمر الله إلى بني إسرائيل، ويتكون هذا الأمر من كلمتين [تَذْبَحُوا بَقَرَةً] ليكون وثيقة سماوية خالدة تحكي قصة ومعجزة من وجوه:
الأول : قصة نبي مع قومه.
الثاني : بيان حضور نعمة الله تعالى عند بني إسرائيل.
الثالث: الآية شاهد على تفضيل بني إسرائيل.
الرابع: حاجة الناس للقرآن لتضمنه قصص الأمم السالفة.
الخامس : تمنع الآية من التحريف والتبديل في قصة البقرة وموضوعها.
السادس : بيان وجه من وجوه إعجاز القرآن، وأنه جاء بجوامع الكلم، فكلمتان فيه تفتحان آفاقاً من العلوم، وتقتبس منهما الأحكام والدروس والعبر،
الخامس: موضوع القتل مسألة إبتلائية نادرة في بني إسرائيل، فأمرهم الله تعالى بذبح البقرة لفضح القاتل ووقف القتل بينهم.
وفي الآية إكرام لبني إسرائيل من وجوه:
الأول: توجه الأمر الإلهي لهم على نحو العموم الإستغراقي.
الثاني: كشف القاتل من بينهم بآية من عند الله.
الثالث: مجئ الأمر الإلهي إلى بني إسرائيل بواسطة نبي رسول وهو موسى عليه السلام.
الرابع: جعل ذبح البقرة آية ومقدمة لآية من عند الله.
الخامس: توثيق قصة البقرة في القرآن، وهو الكتاب السماوي الخالد.
لقد قام موسى عليه السلام بنقل أمر الله عز وجل إلى بني إسرائيل، وهو لطف ورحمة بهم متصلة وبالقرآن متجددة .
ويدل هذا النقل على أمانة موسى عليه السلام.
ويظهر فيه المائز والفارق بين القرآن والتوراة، فموسى ينقل الوحي الذي أوحى له الله، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنه ينقل الأوامر الإلهية بالقرآن والتنزيل، ويأتي الأمر الإلهي في آية من القرآن فيبادر المسلمون إلى تلاوتها وحفظها , ولا يردّون على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما رد بنو إسرائيل على موسى عليه السلام، وتفضيل المسلمين في المقام من وجوه:
الأول: الآية القرآنية حق وصدق، ولا تقبل الترديد.
الثاني: تصديق المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً تاماً لا يطرأ عليه الشك أو اللبس.
الثالث : بلوغ المسلمين درجة من الإيمان والفقاهة، فلا يردّون كلام الله عز وجل ولا كلام رسوله الكريم.
الرابع: موضوع الآية الرحمة والرأفة ببني إسرائيل، والأصل أن يتلقى الفرد والجماعة الرحمة بالقبول والشكر خصوصاً وأنها من عند الله عز وجل، وجاءت على لسان نبي رسول وهو موسى عليه السلام.
ترى لماذا قال بنو إسرائيل أتتخذنا هزواً، فيه وجوه :
الأول: حصول حالة سابقة من إستهزاء موسى بهم.
الثاني: شك بني إسرائيل في قول موسى عليه السلام.
الثالث: إستغراب بني إسرائيل من الأمر بذبح بقرة لأنهم سألوا إحياء الميت، أما الأول فإن موسى عليه السلام منزه عن الإستهزاء ببني إسرائيل أو غيرهم إبتداء وإستدامة بدليل ما ورد على لسانه في خاتمة هذه الآية [قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ].
وأما الثاني فإن بني إسرائيل لايشّكون بقول موسى عليه السلام لأنه نقل لهم الأوامر والنواهي من عند الله، وجرت على يديه الآيات الباهرات، ولم يأت قول آخر من بني إسرائيل يتضمن التصديق بقول موسى والإحتجاج , والرد على الذين قالوا[أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا] وفيه وجوه:
الأول : عدم وجود من يرد على هؤلاء الذين قالوا[أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا].
الثاني : الذين قالوا أتتخذنا هزواً الكثرة والأغلبية.
الثالث : وجود أمة من بني إسرائيل تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وفيه جهات محتملة :
الأولى: قاموا بالرد وسعوا في تأديب إخوانهم , ولكنهم أصروا على التعدي لم يصغوا لهم.
الثانية: تآزروا وتعاضدوا في العصمة من التعدي في السبت , ولم يفتتنوا بصيد الحيتان الكبيرة التي تأتي في السبت .
وسيتوصل علماء الحيوان إلى حقيقة وهي أن الأسماك الكبيرة تشعر بالأوان والمكان الخالي من الصيد فتألفه وتأوى إليه , وأنها تفر من مواضع الصيد , ولعلها تبعث إلى أفراد جنسها إشارات طمأنينة في الأول , وتحذيرية في الثاني .
الثالثة : أنكر الصالحون من بني إسرائيل الرد على موسى ، ولم تذكره الآية القرآنية ، لوجوه:
الأول: لم تحصل إستجابة في ذبح البقرة عندما قال لهم موسى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
الثاني: غلبة أهل الشك والريب.
الثالث: بقاء الإنكار محدوداً ولم يصل إلى جميع بني إسرائيل.
الرابع : المحاورة على نحو سريع لم تتسع لبلوغ المؤمنين منهم وقيامهم بالزجر عن مثل هذا القول.
والصحيح هو الثالث فلابد من وجود أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر من أصحاب موسى عليه السلام , ورد ذكرهم في آيات أخرى قال تعالى[وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ]( )، إذ تضمنت آية البحث بيان الحال، وما لاقاه موسى عليه السلام من بني إسرائيل خصوصاً وأن الأمر الإلهي جاء لهم مجتمعين ومتفرقين بدليل قوله تعالى[وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ].
لقد إبتدأت الآية بكلام لموسى عليه السلام وأختتمت بكلامه أيضاً، وبينهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء ذكر موسى لله عز وجل في الكلامين.
أما مادة الإفتراق فإن كلامه في أول الآية تبليغ لأمر الله عز وجل لبني إسرائيل بذبح بقرة , وأمّا كلامه في خاتمة الآية فإستعاذة بالله مما رموه به من الإستهزاء به والذي جعله موسى من أفراد الجهل.
ومن الإعجاز في الآية تجلي آداب وسنن النبوة وأن موسى عليه السلام لم يستعذ من موضوع الهزل على نحو التعيين , إذ إستعاذ مما هو أعم وهو الجهل وجماعة الجاهلين ، لأن الأمر لا ينحصر بالصلة والكلام بين موسى وقومه، بل بالإخبار عن الله عز وجل، وفيه شاهد على عصمة الأنبياء في تبليغ التنزيل والوحي، سواء الوحي العام في الأحكام، أو الوحي الخاص كما في أمر الله عز وجل لهم بذبح بقرة , ليكون هذا الوحي من آيات القرآن، ووثيقة باق ية إلى يوم القيامة.
بحث أصولي
وذكرت هذه الآية في باب جواز النسخ قبل وقوع الفعل أحكام بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ ؛ ذَلِكَ أَنَّ زِيَادَةَ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي الْبَقَرَةِ كُلٌّ مِنْهَا قَدْ نَسَخَ مَا قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } اقْتَضَى ذَبْحَ بَقَرَةٍ أَيُّهَا كَانَتْ وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءُوا ، وَقَدْ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ ذَلِكَ .
فَلَمَّا قَالُوا : { اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ } فَقَالَ: { إنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ } نَسَخَ التَّخْيِيرَ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ فِي ذَبْحِ الْبَقَرَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةُ وَذَبْحِ غَيْرِهَا ، وَقَصَرُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَقِيلَ لَهُمْ { فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ } فَأَبَانَ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَذْبَحُوا مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَيُّ لَوْنٍ كَانَتْ وَعَلَى أَيِّ حَالِ كَانَتْ مِنْ ذَلُولٍ أَوْ غَيْرِهَا ، فَلَمَّا قَالُوا : { اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا } نَسَخَ التَّخْيِيرَ الَّذِي كَانَ فِي ذَبْحِ أَيِّ لَوْنٍ شَاءُوا مِنْهَا وَبَقِيَ التَّخْيِيرُ فِي الصِّفَةِ الْأُخْرَى مِنْ أَمْرِهَا ، فَلَمَّا رَاجَعُوا نُسِخَ ذَلِكَ أَيْضًا وَأُمِرُوا بِذَبْحِهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَ وَاسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَيْهَا بَعْدَ تَغْلِيظِ الْمِحْنَةِ وَتَشْدِيدِ التَّكْلِيفِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَمْرِ النَّسْخِ دَلَّ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ يُوجِبُ نَسْخَهُ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَوَامِر الْوَارِدَةِ بَعْدَ مُرَاجَعَةِ الْقَوْمِ إنَّمَا كَانَ زِيَادَةً فِي نَصٍّ كَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ فَأَوْجَبَ نَسْخَهُ)( ).
ولكن هذا الموضوع لا يصدق عليه النسخ بالمعنى الإصطلاحي إلا على نحو جهتي، لذا يمكن تقسيم النسخ إلى قسمين:
الأول: النسخ التام، وهو رفع وتبديل الحكم بعد ثبوته والنقل والتحويل إلى غيره مع إتحاد المحل والموضوع.
الثاني: النسخ الجزئي، وهو البديل والتغيير في جهة وجزء من الموضوع والحكم متفرقين أو مجتمعين.
لقد تضمنت هذه الآيات التعيين والتحديد في صفات البقرة التي يلزم بنو إسرائيل إعتبارها في إختيار البقرة المراد ذبحها.
ويحتمل الأمر في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ] وجوهاً:
الأول: الوجوب ولزوم إمتثال بني إسرائيل للأمر التعيني الذي لا يقبل الترديد.
الثاني: الإستحباب والندب، ولهم أن يذبحوا البقرة وأن يتركوا ذبحها.
الثالث: المعنى الأعم من الوجوب والندب.
والصحيح هو الأول، وهو الظاهر من صيغة الإطلاق، ومضامين الآيات التالية، وفضل الله تعالى في بيان صفات البقرة التي يجب ذبحها إلى أن قالوا [الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ].
وصيغة الوجوب في المقام نعمة إضافية على بني إسرائيل لكشف الجناية ودرء الخصومة والفتنة بينهم، وجذبهم إلى منازل الإيمان برؤية الآيات الحسية.
وجاء قوله تعالى[يَأْمُرُكُمْ] بصيغة الجمع، وتحتمل وجوهاً:
الأول: جاء الخطاب للأكابر والملأ من بني إسرائيل.
الثاني: المقصود أهل الميت الذين جاءوا إلى موسى عليه السلام يشكون أمرهم، ويسألون كشف القاتل.
الثالث: المراد عموم بني إسرائيل من غير حصر أو تعيين.
الرابع: خاطب موسى أهل الصلاح والتقوى من قومه، قال تعالى [وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ] ( ).
والصحيح هو الثالث فالمراد عموم بني إسرائيل لوجوه:
الأول: إرادة الإطلاق.
الثاني: إنه المتبادر من لفظ قومه في قوله تعالى[وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ].
الثالث: عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: جاءت الآية بصيغة الأمر[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ] ويفيد الأمر في الآية الوجوب، وفيه وجوه:
الأول: الوجوب العيني بأن يقوم كل مكلف من بني إسرائيل بذبح البقرة.
الثاني: الوجوب الكفائي بأن يقوم بالذبح أحدهم، وإن لم يقوموا بالذبح يؤثم الجميع , ويتعطل كشف القاتل أو يستلزم أمرا آخر.
الثالث: منزلة بين الوجوب العيني والكفائي.
والصحيح هو الثالث، خصوصاً وأن المسألة قضية شخصية، وفرد واحد وهو ذبح بقرة , ولكن الخطابات جاءت لبني إسرائيل ليشتركوا في شرائها ودفع ثمنها الباهظ، ويتولوا الذبح ومقدماته.
التفسير الذاتي
لقد تكرر قوله تعالى [قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ] في القرآن بضع مرات( )، وفيه حث لهم على الصبر والإستعانة بالله، وذكر نعمه سبحانه، وجاءت هذه الآية للإخبار عن نعمة عظيمة من عند الله تتجلى بكشف حادثة قتل ومعرفة القاتل بمعجزة من عند الله.
وتتصل الآيات القليلة التالية في موضوعها بهذه الآية، لما فيها من لغة الحوار والرد بين موسى عليه السلام وبني إسرائيل في ذات الموضوع.
وجاء الأمر بذبح البقرة خطاباً لبني إسرائيل، على نحو العموم المجموعي، وأدركوا لغة الوجوب في ذبح البقرة من خلال ترددهم على موسى وسؤال أوصاف البقرة وقوله [الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ]( )، وصحيح ان موضوع البقرة وعلة ذبحها لكشف القاتل إلا أنه مناسبة لدرس عقائدي في سنن النبوة من وجوه:
الأول: تنزه الأنبياء من إتخاذ الناس هزواً وسخرياً، والسخرية باب للإعراض والإستهزاء من الطرف الآخر .
الثاني: لجوء النبي إلى الله عز وجل عند ظن الغير بالنبي غير الحق.
الثالث: تنزه مقام النبوة عن مفاهيم الجهالة.
الرابع : لا يبلغ الأنبياء إلا ما يأمرهم الله عز وجل به .
لقد عجز بنو إسرائيل عن إدراك الصلة بين كشف القاتل وذبح البقرة، فظنوا أنه إستهزاء بهم، ولم يغضب موسى عليه السلام بل أظهر العلم والحكمة باللجوء إلى الله عز وجل والإستعاذة به من الجهل.
وفي الإستعاذة دعوة إضافية لبني إسرائيل لذبح البقرة وعدم التردد فيه، وتوكيد للأمر ولزوم أخذها أخذ الجد والمبادرة للإمتثال فيه.
وإذا كان الأمر من الوجوب الشامل لبني إسرائيل لماذا لم يبادر النبي هارون والصالحون من بني إسرائيل إلى ذبح البقرة والإستجابة للأمر في الحال ، الجواب من وجوه:
الأول : إن هارون والصالحين من بني إسرائيل خارجون بالتخصيص من هذا الخطاب.
الثاني : بادر فريق من بني إسرائيل للسؤال والترديد، فمنعوا غيرهم من ذبح البقرة.
الثالث: صبر هارون عليه السلام والصالحون من بني إسرائيل لرؤية العاقبة، وإقامة الحجة.
الرابع : أراد الصالحون منهم بيان مسائل , وإقتباس دروس من الأمر بذبح البقرة.
الخامس: جاء الأمر خاصاً لأولياء المقتول فهو وان ورد بلفظ “قال موسى لقومه” إلا أن العموم مخصص بذات الموضوع وهو مجيء أهل وسبط القتيل لموسى عليه السلام.
ومن المستبعد أن يجمع موسى عليه السلام إثني عشر سبطاً ثم يقول لهم إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، فيردون عليه بقول واحد “أتتخذنا هزوا”.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، فقد أراد الله عز وجل لقصة ذبح البقرة أن تكون آية في العالمين، ومناسبة لتأديب بني إسرائيل , وموعظة للناس
وإذ أختتمت الآية السابقة ببيان أن مسخ الذين إعتدوا في السبت “موعظة للمتقين” فان هذه الآية تؤكد هي الأخرى أن موضوع ذبح البقرة موعظة للمسلمين، وتحذير من كثرة التردد في سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت الآية في نظم الآيات التي تذكر وتعدد نعم الله عز وجل على بني إسرائيل، وفيها بيان لنعم عظيمة تفضل الله عز وجل بها عليهم من وجوه:
الأول : وجود موسى النبي عليه السلام بين ظهرانيهم.
الثاني : قيام موسى عليه السلام بنقل الوحي والأوامر والنواهي من عند الله إلى بني إسرائيل.
الثالث : مجيء الآية بتوجه الأمر مباشرة إلى بني إسرائيل [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ].
الرابع : موضوع الآية وهو كشف جناية قتل بمعجزة من عند الله عز وجل.
الخامس: تلقي موسى عليه السلام رد بني إسرائيل ونعتهم له بأنه يستهزأ بهم بالإستعاذة بالله عز وجل، وفيه شاهد على أن موسى عليه السلام لم يغضب لنفسه، وإنما كان يغضب لله عز وجل كما تجلى عند إتخاذهم العجل بغيابه [فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا]( ).
لقد غضب عليهم لأنهم يعرضون أنفسهم لسخط الله عز وجل فينزل بهم البلاء، كما في قوله تعالى حكاية عن لسانه في تتمة الآية أعلاه [قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي] ( )، ليكون غضب موسى عليهم حرزا وواقية من الفسوق والأسباب التي تجلب غضب الله , والذي حلّ فيما بعد بالذين إعتدوا وإصطادوا يوم السبت فمسخهم الله قردة.
السادس: تبرئة موسى عليه السلام من الإستهزاء والسخرية في أخبار الوحي , ولا تنحصر معاني وآثار هذه التبرئة بقصة البقرة ، ولا في زمان موسى عليه السلام بل هي باقية مع بني إسرائيل تمنع أهل الشك والريب من الإفتراء عليه إلى أن نزل القرآن ، فأكد وإلى يوم القيامة براءته وعصمته من الإستهزاء.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: بيان نعمة من نعم الله عز وجل على بني إسرائيل في كشف الجناية، ودفع الظنة والشك وأسباب الفرقة والخلاف بينهم.
الثانية: الزجر عن شيوع القتل بين بني إسرائيل , ومنع حصول الثأر بينهم وما يسببه من الضعف والتشتت.
الثالثة : تأديب المسلمين بلزوم القبول من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم الرد عليه.
الرابعة : إعانة المسلمين في مسائل الإحتجاج على بني إسرائيل سواء في تعدد النعم عليهم، أو في قيامهم بالرد على النبي.
الخامسة : تنزيه موسى عليه السلام من السخرية بالآخرين أو إتخاذهم هزواً.
السادسة : بيان الملازمة بين السخرية بالناس وبين الجهالة ، وبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل سخرية بالناس هي جهالة وليس العكس.
السابعة : حاجة الأنبياء للمدد من الله تعالى ، ومبادرتهم باللجوء إليه سبحانه والإستعاذة به من الأخلاق المذمومة.
الثامنة : تعليم المسلمين آداب الإستعاذة والمبادرة إليها عند التهمة وسوء الظنة ، فمن الآيات ان موسى عليه السلام لم يوبخهم على قولهم صراحة، [أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا] بل لجأ إلى الله تعالى، مع إقتران الإلتجاء بالإشارة إلى سوء ردهم، وظنهم الخاطئ.
التاسعة : دعوة بني إسرائيل إلى فعل ما يؤمرون به , وعدم الإنشغال بالرد والجدال، وما فيهما من معاني التردد والتلكأ في الإستجابة.
العاشرة: ذم أهل الجهالة والذين يقولون على الله ما لايعملون، وفيه تحذير لبني إسرائيل من عدم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الحادية عشرة: جاء بنو إسرائيل إلى موسى عليه السلام للإخبار عن وقوع حالة قتل، ووجود مقتول من بني إسرائيل، فتفضل الله سبحانه بنعمة وآية حسية بأمرهم بذبح بقرة وضرب المقتول بجزء منها.
التفسير
قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً]
تبين هذه الآية والآيات الستة التي بعدها نعمة أخرى على بني إسرائيل وقصة البقرة التي سُميت السورة بها، وتدل تسمية أفضل وأكبر وأكثر سور القرآن آيات بالبقرة على شأن هذه القصة وموضوعها في البناء العقائدي لأهل التوحيد، والإتعاظ باجتناب السخرية من الأنبياء لأن كلامهم هدى وصلاح وإرشاد لذا أمر الله الناس بالإنقياد لهم، ولابد من وجود صلة بين موضوع البقرة وعكوفهم على العجل ففيها توبيخ ودعوة لهم للتسليم بالتوحيد ونبذ الشرك.
ولعل في تسمية السورة بالبقرة دلالات عامة وحجة على ما تفعله بعض الملل من تقديس البقرة وتحريم ذبحها لظنهم بأن الأرواح الطاهرة تحل فيها، لاسيما على القاعدة الكلية التي بينّاها أعلاه.
عن الإمام الرضا عليه السلام قال : إن رجلاً من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل، ثم جاء يطلب بدمه، فقالوا لموسى عليه السلام: إن سبط آل فلان قتلوا فلاناً فأخبرنا من قتله؟
قال: إيتوني ببقرة، [ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ ]. ولو انهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم [ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ ] يعني أنها لا صغيرة ولا كبيرةً [ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ].
[ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَ شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ] فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل، فقال: لا أبيع الا بملء مسك ذهباً.
فجاؤا إلى موسى عليه السلام وقالوا له ذلك، فقال: اشتروها، وجاؤا بها فأمر بذبحها، ثم أمر أن يضربوا الميت بذَنَبها، فلما فعلوا ذلك حيي المقتول ، وقال: يا رسول الله إن إبن عمي قتلني دون من يدعى عليه قتلي، فعلموا بذلك قاتله.
فقال لرسول الله موسى عليه السلام بعض أصحابه: إن هذه البقرة لها نبأ ، فقال عليه السلام: ما هو؟
قالوا: ان فتى من بني إسرائيل كان باراً بأبيه, وإنه إشترى بيعاً فجاؤا إلى أبيه والأقاليد (المقاليد) تحت رأسه، فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع فاستيقظ أبوه فأخبره، فقال له: أحسنت، هذه البقرة فهي لك عوضاً لما فاتك، قال: فقال له رسول الله موسى عليه السلام: “انظر إلى البر ما بلغ لأهله”. وقريب منه عن ابن عباس( ).
والأمر بذبح البقرة جاء بصيغة الإنكار، مما يفيد العموم الإبتدائي والإجزاء والخروج عن العهدة بذبح أي بقرة كانت، وهناك من قال بأن الأمر كان بقصد ذبح بقرة معينة، ولكن الأوصاف اللاحقة للبقرة لم تأت بصيغة تأخير البيان عن وقت الخطاب، انما جاءت وفق المفاهيم الإصطلاحية للتكليف لمّا شددوا على أنفسهم وسألواعن التفصيل والبيان بعد أن جاء قوله تعالى [ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تذْبَحُوا بَقَرَةً ] جملة تامة يصح السكوت عليها , وفيها قصد الإخبار وثبوت المحمول للموضوع من غير إعتبار لصفات معينة فيها.
ومنهم من إستدل بهذه الآيات على وقوع النسخ في شرع موسى عليه السلام , وأن الأسهل قد ينسخ بالأشق، ولكن الآيات اللاحقة لم تتضمن تغييراً وتبدلاً في المطلوب إنما كانت تخصيصاً وتقييداً علينا أن نتدبر في وجوه الحكمة فيها ومنها المبادرة إلى الإمتثال وإجتناب كثرة السؤال.
وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : “إن الله كره لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال”( ).
(عن عكرمة : كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر باباً ، لكل سبط منهم باب يدخلون منه ويخرجون، فوجد قتيل على باب سبط من الأسباط قتل على باب سبط وجر إلى باب سبط آخر، فاختصم فيه أهل السبطين)( ).
وقال ابن سيرين : قتله القاتل ثمّ إحتمله فوضعه على باب رجل منهم ثمّ أصبح يطلب بثأره ودمه ويدّعيه عليه. قال : فجاء أولياء القتيل إلى موسى وأتوه بناس وادّعوا عليهم القتل , وسألوا القصاص فسألهم موسى عن ذلك فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى ووقع بينهم خلاف( ).
وقال الكلبي : وذلك قبل نزول القسامة في التوراة فسألوا موسى أن يدعو الله ليبيّن لهم ذلك فسأل موسى ربّه فأمرهم بذبح بقرة. فقال لهم موسى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) ( ).
وذكر انه كان في بني إسرائيل شيخ موسر فقتل إبنه بنو أخيه ليرثوه وطرحوه على باب مدينة ثم جاءوا يطلبون بديته( ). أي ان القتل لم يحصل للرجل الغني بل لإبنه كي تعود تركته الى أبناء أخيه.
قوله تعالى [قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ]
لم يكن ردهم للبيان وطلب الإيضاح , فقد تضمن إستفهاماً إنكارياً أي أننا نأتيك سائلين الكشف عن القاتل فتأمرنا دعابة وإستهزاءً بذبح بقرة وظنوا إنعدام الملازمة ولم يستحضروا إعتبار الآيات سبباً ومسبباً ونتيجة، وواسطة الآية الحسية لإحياء الميت، وبحياته يعرف القاتل.
لقد أخطأوا في المبنى ولو إعتادوا الإنقياد إلى الأنبياء، كما أمر الله عز وجل لما ردوا كلامه وأساءوا الظن، ففي الآية إشارة إلى رياضة النفس على التسليم والتصديق والإنقياد للأنبياء، ولعل في الآية حذفاً يتعلق ببيان علة ذبح البقرة وموضوعيتها في إحياء الميت بضربه بها، وسياق الآيات يدل عليه وعلى أنهم فهموه.
وإنما تعجبوا من إحياء الميت بهذه الطريقة، ونعت بعضهم قولهم هذا بالكفر والشك في قدرة الله تعالى على إحياء الميت، ولكنه بعيد لإحتمال إرادة الإستفهام والبيان مع الإقرار بأن الكلام جزء من الوحي وأحكام النبوة , ويدل عليه ما في الآيات التالية [قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ]( )، وإذا ورد الإحتمال بطل الإستدلال.
وقوله تعالى [ قَالُوا ] بلغة الجمع ، ورجوعهم وطلبهم البيان والتفصيل يدل على عدم صدور هذا القول من نفر قليل منهم أو أنه خاص بالقاتل لخوفه الفضيحة.
ترى لماذا أنكر بنو إسرائيل الأمر الإلهي بذبح بقرة , الجواب من وجوه:
الأول: لقد إعتاد بنو إسرائيل إستجابة الله لهم في الأمور العظام ورزقهم الآيات الباهرات التي ينتفعون منها على نحو العموم المجموعي والإستغراقي.
الثاني: لقد شاهد بنو إسرائيل هلاك فرعون وجنوده دفعة واحدة حيث تغشاهم ماء البحر، قال تعالى[وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]( )، بينما سألوا الله عز وجل هنا قضية شخصية وهي تعيين القاتل، فظنوا بالأولوية القطعية أن الله عز وجل سيخبرهم ويكشف الجاني.
الثالث: لقد فضّل الله عز وجل بني إسرائيل على أهل زمانهم، وتوالت عليهم النعم، قال تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( )، فحسبوا أن الله عز وجل ينتقم لهم وللذي قتل منهم بكشف وفضح القاتل، وليكون هذا الكشف زاجراً ومانعاً من شيوع القتل بينهم.
بحث كلامي
النبي من شرّفه الله عز وجل باختياره للنبوة والوحي والرسالة، والإخبار عنه من غير واسطة إنسان آخر سواء كانت له شريعة أو لا، ولذا قيل سمي نبياً لأنه أنبأ أي أخبر عن الله تعالى، وبذلك فضلهم على سائر خلقه , ومن وجوه تفضيل بني إسرائيل كثرة عدد الأنبياء منهم.
إن دراسة علمية موضوعية للحياة الإنسانية على الأرض تظهر منافع النبوة وما فيها من حسن وفوائد عمت عمّار الأرض , وساهمت بدفع المضار والشرور المهلكة، وساعدت بصورة فاعلة في حفظ النوع الإنساني والإرتقاء به أخلاقياً وإجتماعياً ومعاشياً دون أن يكون فيها أدنى مفسدة آنية أو لاحقة، وجعلت الناس يسعون في الدنيا إلى هدف أسمى وأكبر ألا وهو الخلود في النعيم الذي وعد الله عز وجل.
وقال شطر من المسلمين بأن النبوة واجب في الحكمة، وإكتفى جماعة بما لها من الحسن العقلي.
لقد خلق الله عز وجل الإنسان وإستوطنه الأرض وسخّّر له كنوزها لعلة غائية عليه أن يجتهد بالسعي إليها وهي طاعته تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، ولا يوفق إليها عقيدة وعملاً إلا بالأنبياء. إذاً فبعثهم لطف، واللطف فضل منه تعالى وتنزيه لمقام الربوبية لا اقول بوجوبه على الله كما قال المعتزلة وكرر قولهم غيرهم .
لقد أجمع المسلمون والمليون وأغلب الفلاسفة على حسن النبوة وفضلها.
وخالفت البراهمة وانكرت النبوة واحتجوا بانها لو كانت موافقة لحكم العقل فهي تحصيل حاصل، وان كانت مخالفة له فيجب عدم الأخذ بها ، وان الله حكيم لا يبعث رسولاً لمن لا يصدقه فان هذا عبث وتعنت وهو منفي عنه تعالى ، وقالوا إذا كانت الغاية من بعث الرسل هداية الناس , فقد كان أولى في حكمته وأوثق أن يحمل ويضطر العقول إلى الهداية والإيمان.
وغاب عنهم أنها رحمة من عند الله عز وجل لتوكيد ما يدل عليه العقل، ولتوجيه العقل وضبطه وفق الموازين التي تساعد المكلف على التوفيق والفلاح والصلاح العام وترسيخ النظام وزيادة البركات، فقد لا يستطيع العقل ان يهتدي إلى الصواب، وأحكام الشريعة مبادئ متكاملة تحتاج من الإنسان أن يوظف جميع أركانه وجوارحه ونفسه لتعاهدها، وقد لا تلتفت العقول إلى الأخطاء العرفية الشائعة وتراها أمراً طبيعياً ومناسباً لأنه سائد ومرضي للغالبية , وفي التنزيل[ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا]( )، ولم يلتفتوا إلى الأضرار المترتبة على الربا في أبواب متعددة.
وقد تختلف توجهات العقول وتتعارض وتتأثر بالطبائع والميول المختلفة، فتحتاج إلى أحكام شرعية ورائد مؤيَد بحجج وبراهين يثبت أنها من عند الله عز وجل , وفيها تمام مصلحتهم وإجتناب ما يضرهم كالمعاصي، والنبي هو الذي يثبت في أذهانهم وتراثهم ومجتمعاتهم وجوب ذكر الخالق وإتيان العبادات وإدراك أن الآخرة هي دار القرار، ويساعد الأجيال بفضل وآية من الله لنيل السعادة فيها بصورة من الحفظ والتثبت تمنع غلبة النسيان عليهم ، فالناس يفتقرون ويحتاجون إلى رحمة الله بالنبي والنبوة كطريق للإخبار عن الله تعالى.
لقد رزق الله عز وجل الأنبياء مطلق الكمالات الإنسانية والرفعة في المعرفة الإلهية وكانوا على درجة عالية من الذكاء والحلم بما يتناسب مع هذا المنصب الملكوتي رحمة لأهل الأرض وليساهموا في التأثير الفعال في المجتمع وبغية أداء وظائف النبوة على الوجه الأكمل.
روي عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام انه قال: (ما بعث الله نبياً إلا صاحب مرة سوداء صافية) ( )، أي ذو قوة في العقل والرأي وثبات في الدين، وأُشير إلى معناها في الطب القديم أنها غاية في الحذق والفطانة والحفظ، ووصفت في الحديث بأنها (صافية) أي خالية من مخالطة الخيالات الفاسدة والأخلاق الرديئة.
ولم تكن تلك الصفات ذاتية كسبية وقد يتفق أن يتصف إنسانٍ بتلكٍ الصفات مؤقتاً أو دائماً بالكسب وتنمية الملكة ، ولكنها كانت عند الأنبياء هبة وإعجازاً ومدداً من عند الله تعالى. وقد جمع الله عز وجل لهم أيضاً العصمة متداخلة مع تلك الصفات ومتفرعة منها أو مستقلة عنها رحمة منه سبحانه ووجود المقتضي وفقد المانع.
بحث بلاغي
أستشهد في باب حذف الحرف بهذه الآية , وأن التقدير: فقال أعوذ بالله، بحذف حرف العطف الفاء، ولكن الآية أعم من الحذف إذ أن النظر إليها على الظاهر له دلالات، فالفاء تفيد التعقيب وعدم تقييد الجملة الفعلية بحرف العطف يدل على التجدد والإستمرار.
وإستعاذة موسى عليه السلام كبرى كلية منبسطة على كل أفعاله وأيام حياته، إنه زجر وتأديب لقومه، ومنع من تكرار مثل هذا القول، وفيه إشارة لهم بعدم الترديد والتشديد على النفس، وهذا لا يتعارض مع القول بالحذف وفق قواعد البلاغة.
وهل يمكن الإستدلال بالآية على عصمة الأنبياء على نحو العموم الإستغراقي والإطلاق الشامل لكل نبي وقبل النبوة أو بعدها، بإعتبار ان موسى عليه السلام يستعيذ بالله من الجهالة والإنتماء للجاهلين.
الجواب لا دليل على هذا العموم في الآية الكريمة , ولكن الآية تنزيه لمقام موسى عليه السلام وإخبار سماوي بانه عالم بما يقول وبما ينقل عن الله تعالى من الوحي والأوامر والنواهي , وكذا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه سيد ولد آدم .
وفيه دلالة على أن كل ما يأتي به موسى عليه السلام هو حق وصدق، ونفي للجهالة والغفلة عن الأنبياء، وإخبار بأنهم لايقولون على الله إلا الحق، وفيه دعوة لبني إسرائيل للتصديق بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن والذي يتضمن الدلائل الذاتية على صدق نزوله من عند الله.
بحث كلامي
العصمة لغة هي المنع، لذا سمي النكاح عصمة لأن المرأة به تصبح ممنوعة عن غير زوجها، والعصمة في الإصطلاح الإمتناع عن جميع محارم الله بفضل منه تعالى، ولكن من غير منافاة للإختيار، لأن القول بالعصمة لا ينافي القول بعدم الجبر، وهي غير الإعتصام الذي هو طلب العصمة، وهي ملكة ذاتية تكون واقية للإحتراز من الموبقات.
والعصمة بالنسبة للنبي حاجة ولطف من الله كي يؤدي رسالته على أحسن وجه، وربما توقف نجاحه فيما بُعث فيه بوثوق الناس بما يبلغه عن الله عز وجل وإختلف المسلمون في جواز مقاربة الأنبياء للذنب أو عدمها على أقوال:
الأول: جواز الصغائر عليهم على سبيل السهو.
الثاني: تجوز عليهم الكبائر والصغائر عمداً وسهواً إلا الكفر والكذب.
الثالث: الإقدام على الكبائر سهواً لا عمداً، أما الصغائر فتجوز عمداً.
الرابع: الكبائر مطلقاً ممتنعة عليهم، وتجوز الصغائر سهواً.
الخامس: جواز إقدامهم على الذنوب قبل البعثة دون ما بعدها، أي ان العصمة ملازمة للتلبس بالنبوة، والذين يذهبون إلى هذا القول منعوا عن الأنبياء الكفر والإصرار على الذنب قبل النبوة.
السادس: إمتناع الذنوب عليهم مطلقاً، أي الكبائر والصغائر قبل النبوة وبعدها.
والقائلون بالعصمة إحتجوا بوجوب إتباع النبي وإلانقياد اليه فمن المحال ان يصدر عنه الذنب كذلك , فإنه لو أذنب لم يحصل الإنقياد الجماعي له ويضعف الوثوق بما يقول لأن الذنب دليل أو أمارة على النقص .
والآيات القرآنية والأخبار التي تفيد في ظاهرها صدور الذنب من بعض الأنبياء لابد من تأويلها أو حملها على ترك الأولى كما في أكل آدم عليه السلام من الشجرة وقد تقدم بيانه( ).
قوله تعالى [قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ ]
نوع إكرام لمقام النبوة وحرص على منزلتها بين الناس، إذ سارع موسى عليه السلام للإلتجاء إلى الله عز وجل جواباً ودفعاً لظنهم. والجهل في حال عرضهم الحال على موسى عليه السلام يتصور على وجوه:
الأول: التلبس بالإستهزاء.
الثاني: التقصير في إكرام الآخرين.
الثالث: مقابلة الجد بالهزل.
الرابع: السخرية من أصحاب الحاجة.
الخامس: التفريط في مقام الرياسة.
السادس: الإبتعاد عن وظائف النبوة في الحياة اليومية الخاصة.
السابع: ترك إعتبار العلم عند الإجابة وإتخاذ القرار.
الثامن: عدم الشعور بعظيم المسؤولية.
التاسع: الإعراض عن مقام الإفتاء وأمور الحسبة.
العاشر: إهمال حقوق الناس.
الحادي عشر: تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني عشر: عدم إستحضار فضل الله وحضور المعجزة .
الثالث عشر: السهو عن تفضيل بني إسرائيل .
الرابع عشر: الغفلة عن لزوم إحقاق الحق بسلاح الآية والمدد من الله.
الخامس عشر: ترك العناية بوحدة وتآخي بني إسرائيل التي تضمنت معجزات موسى تعاهدها.
السادس عشر: القضية الشخصية في تعطيل الحكم والقضاء بين الناس.
السابع عشر: مقابلة الجد بالهزل.
الثامن عشر: الجهل بالله وصفاته وعظيم قدرته.
التاسع عشر: الجهل ببديع حكمة الله في الأمر بذبح البقرة.
العشرون: الجهل بوظائف النبوة وقوانين الرسالة.
الحادي والعشرون: تنزه موسى عليه السلام من الجهل بإحاطة الوحي بملائكة ورصد للتوقي من الجن والكهنة ليبلغ المكلفين من غير زيادة أو نقيصة أو تبديل، قال تعالى[عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا]( )، وقال سعيد بن جبير: ما نزل جبرائيل بشيء من الوحي إلا و معه أربعة من الملائكة حفظة , فيعلم الرسول أنه قد أبلغ الرسالة على الوجه الذي قد أمر به)( ).
الثاني والعشرون : إظهار عدم الإكتراث بالمصيبة التي حلت ببني إسرائيل , من جهات :
الأولى: قتل أحدهم غيلة.
الثانية: تعذر كشف الجاني.
الثالثة: جهل أسباب القتل والجناية , ولم تكن آنذاك خصومات وعداوات بين بني إسرائيل وقد نفى موسى عليه السلام وجوه الجهل عن نفسه , وقصده وأمره بذبح البقرة وجعل ذلك النفي بواسطة الإلتجاء إلى الله عز وجل إحترازاً وإحتياطاً، ويمكن الإستدلال بأنه وجه من وجوه العصمة، لتتضمن الآية تحذير المؤمنين من الإستهزاء والسخرية وتظهر قبحهما , قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
وسعى موسى عليه السلام أيام حياته لهدايتهم وصلاحهم ومن أسباب صلاحهم حملهم على فهم الإرادة الجدية من كلامه وأوامره، وأنها تكشف عن الدلالة التصديقية التي مصدرها اللغة والتي تدل على الإرادة الإستعمالية، وتعني تصور معاني كلمات الجملة ودخول حالة الهزل والسهو فيها لتجردها من المدلول التصديقي اللاحق الذي يدل على إرادة معينة واعية تكون ظاهرة وحجة في كلام الأنبياء والعقلاء، لأن النبي لا يأتي بفعل فيه إستهزاء وسخرية، و المطلوب متابعته وتصديقه والإنقياد والإمتثال لأوامره، والإستهزاء نقض وخلاف الحكمة.
وفي الآية مسائل:
الأولى: في الآية توبيخ لهم على سوء ظنهم وفهمهم، إذ أنهم لم يعطوا للنبوة حقها وظنوا من موسى الإستهزاء رغم ما رأوه من الآيات والمعجزات التي جرت على يده عليه السلام.
الثانية: لم تنحصر إستعاذة موسى بالله من الجهل بموضوع المسألة إنما جاءت مطلقة ونافية للجهل عن أفعاله عليه السلام وانه لا يفعل ما لا ينبغي فعله.
الثالثة: إنها حث للمؤمنين على نبذ الإستهزاء والإستخفاف بالآخرين، وإجتناب وجوه الجهل لما فيه من التضييع والسفه.
وتلقي الآية على القائمين بتبليغ أحكام الله ومن يتولى شؤون القضاء وظائف أخلاقية وأدبية تتعلق بطريقة تعاملهم وعموم تصرفهم مع الناس، لما يمثله الجد والصدق وحسن النية من مقدمات وأسباب للقبول والأخذ منهم.
الرابعة: في الآية تنزيه للنبوة، فاذا ظهر من النبي الإستهزاء في مقام الحكم والبيان فقد لا يتم الوثوق بقوله والإنقياد إلى حكمه في الحال لإحتمال الإستهزاء في أمره ونهيه، فلا يتحقق إتباعه، وتتلاشى فوائد النبوة والبعثة وهو محال.
الخامسة: الإستهزاء في أمور الدين يستحق العقاب سواء بذات موضوعه أو بإعتباره معصية وجهلاً أو لأنه مقدمة للضرر العام والخاص وباب للتهاون والتمادي في العقيدة والأخلاق والمجتمع ونحوها.
وقال الرازي: واعلم ان هذا القول من موسى عليه السلام يدل على أن الإستهزاء من الكبائر العظام، وقد سبق تمام القول فيه في قوله تعالى [ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ…. ]( ).
وهذا منه قياس مع الفارق، إذ ان إستهزاء الكفار نوع جحود منهم ويتعلق بالعقيدة كما يدل عليه منطوق الآية [ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ]( ).
اما الإستهزاء في الآية محل البحث فإنهم يقصدون به نوع مزحة ودعابة وأنها جائزة على النبي وأنهم أجروها مجرى التعجب، ولكن حتى هذه الحصة الأدنى مرتبة في باب الإستهزاء إستعاذ منها موسى عليه السلام مما يدل على صدق النبوة وضرورة تنزيهها وتقديسها من قبل الجميع، وان النبي لا يخبر عن الله إلا الحق والصدق .
وفي تلك الآية كان الإستهزاء صادراً منهم، وليس في المقام نوع إستهزاء من بني إسرائيل.
لقد كان كلامهم إستفهاماً إنكارياً عن خطأ وغفلة فأعانهم موسى عليه السلام لما في النبوة من لطف وحسن عقلي وذهاب الريب عنهم، فأصلحوا سريرتهم وتوجهوا إليه سائلين قاصدين الإمتثال.
وهذه أول آية في نظم القرآن تتضمن الإستعاذة بالله، وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الإستعاذة على لسان نبي رسول وهو موسى عليه السلام.
الثانية: لم تأت الإستعاذة من الشيطان الرجيم بل جاءت من الجهالة , والنسبة بينهما برزخ بين العموم والخصوص المطلق وبين العموم والخصوص من وجه.
الثالثة: التنبيه إلى حقيقة وهي وجود فرقة تجتمع على الجهالة لقوله تعالى[أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ] ويترشح من هذا المعنى لزوم الحيطة والحذر من الجهل والجاهلين، وفي التنزيل[أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
والنسبة بين الجهالة وغير العلم عموم وخصوص مطلق، فكل جاهل لا يعلم وليس العكس.
الرابعة: الإستعاذة واللجوء إلى الله واقية من الجهالة.
الخامسة: حاجة الإنسان للإستعانة بالله للتوقي والسلامة من الجهالة ومن الدخول في زمرة الجاهلين، للأولوية القطعية فإذا كان الرسول موسى عليه السلام يستعيذ بالله من الجهالة فمن باب الأولوية القطعية أن يستعيذ غيره، لتكون هذه الآية سلاحاً وثروة بيد المسلمين , وطريقاً للأمن من الجهالة والنفرة منها.
وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول: الملازمة بين السخرية بالناس وبين الجهالة.
الثاني: إتخاذ الناس هزواً فرع من الجهالة.
الثالث: السخرية بالغير طريق إلى الجهالة.
الرابع: القدر المتيقن من الآية هو رفعة وتنزه مقام النبوة من الإستهزاء بالذين يأتون للفتوى وسؤال الحكم الشرعي لأن موسى عليه السلام لم يأمرهم بذبح البقرة إلا بعد أن أخبروه عن حدوث قتل عندهم، وطلبوا منه كشف القاتل.
ترى لماذا لم يضرب موسى عليه السلام الميت بعصاه ويحييه، والجواب من وجوه:
الأول: في الواقعة دلالة على التقييد بوظائف معجزة عصا موسى، وأنها ليست لكل شيء, لقانون كلي وهو أن الإرادة التكوينية بيد الله.
الثاني: يفيد الجمع بين قوله تعالى[قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى]( )، وبين آيات البقرة، أن إحياء الموتى ليس من تلك المآرب، لذا جاء لفظ(مآرب) بصيغة التنكير والتقييد بأخرى بما لا يدل على العموم.
الثالث: تنمية ملكة الإيمان عند بني إسرائيل بتعدد صيغ ووجوه الفضل الإلهي عليهم.
الرابع: آيات البقرة وإحياء الميت بشارة علمية بنبوة عيسى، ومقدمة لما ورد في التنزيل حكاية عنه[وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
الخامس: في الآية توكيد بأن الإرادة التكوينية بيد الله وليس من أحد غيره عنده تفويض مطلق فيها، فلا تكون معجزة إلا بمشيئة الله عز وجل، وتتصف المعجزة الحسية بالتقييد الزماني والمكاني والموضوعي.
ترى ما هي منافع وآثار إستعاذة موسى، ودفع شبهة الاستهزاء ببني إسرائيل عن نفسه، فيها وجوه:
الأول: دعوة بني إسرائيل للإصغاء والإمتثال للأوامر الإلهية.
الثانية: إعلان موسى عليه السلام لقانون وهو أن إخباره عن الله حق وصدق، وهل هو بمرتبة واحدة مع قوله تعالى بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، الجواب لا، وبينهما عمــوم وخصــوص مطلق فكل ما ينطــق به النبي محمــد صــلى الله عليه وآله وســلم هو حق وصــدق والإخبار عـن الله عــز وجل من أسمى مصاديقه.
الثالثة: بعث بني إسرائيل على ذبح أي بقرة وإجتناب التشديد على النفس، ومن خصال الأنبياء هداية وإرشاد قومهم إلى الصيغ والسبل التي تتضمن التخفيف والتيسير.
الرابعة: لقد تجلت آثار إستعاذة موسى من الجهل في الآية التالية بأن سأله قومه عن صفات تلك البقرة التي يأمرهم الله بذبحها وفيه شاهد على تصديقهم بكلامه، وإقرار بأنه لم يكن يستهزأ بهم , ومن المواضيع التي إستعاذ منها موسى من الجهل في المقام أمور:
الأول: الإخبار عن الله.
الثاني: الإستهزاء بقوله.
الثالث: إتخاذ البقرة آلة ومادة لإحياء الميت.
الرابع: المعنى الأعم وإرادة نفي الجهالة عن نفسه.
الخامس: تأكيد حقيقة وهي أن موسى عليه السلام لا يخبر إلا عن علم ودراية.
السادس: تنزه موسى عليه السلام عما ينافي مقامات النبوة.
لقد إلتجأ موسى إلى الله عز وجل وإستعاذ به للسلامة والإحتراز من الجهالة، بإعتبار أنها عرض طارئ قد تحل بالإنسان كأثر لغلبة النفس الشهوية والغضبية , فجاءت الإستعاذة لتتغشى أفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل من أيامه عليه السلام في الدنيا، ووردت في القرآن لتكون وثيقة سماوية باقية إلى يوم القيامة.


قوله تعالى[ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ] الآية 68.

الإعراب واللغة
قالوا: فعل ماضِ، والواو: فاعل.
أدع: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت، والجملة مقول القول.
[لَنَا]: جار ومجرور متعلقان بأدع، ربك: مفعول به منصوب، والكاف: مضاف اليه.
[ يُبَيِّنْ ]: فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب .
وبينت الشئ أي عرفته وأصله من البين وهو الفراق، وبالتعريف تفصله وتميزه عن غيره.
[ مَا ]: اسم إستفهام في محل رفع المبتدأ، [ هِيَ ]: ضمير منفصل في محل رفع خبر.
والجملة الإسمية في محل نصب مفعول يبين .
قال: فعل ماضِ، إنه: حرف مشبه بالفعل وإسمه، يقول: فعل مضارع مرفوع بالضمة، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود لله والجملة الفعلية خبر أن.
إنها بقرة: حرف مشبه بالفعل وإسمه وخبره، وجملة إن وما في حيزها مقول القول.
ولا فارض : لا: نافية، فارض: صفة بقرة، ولا بكر: عطف على ما تقدم.
عوان: صفة لبقرة، بين ذلك: بين ظرف مكان وهو مضاف، ذلك: مضاف إليه.
[ فَافْعَلُوا ]: الفاء فصيحة، افعلوا: فعل أمر وفاعل.
[ مَا تُؤْمَرُونَ ] ما: إسم موصول مفعول به، وجملة تؤمرون صلة الموصول، والعائد محذوف أي (به) وقال بعضهم إن (ما) مصدرية.
والفارض: المسنة ويقال للشيء القديم فارض , ومنه فرضت الشاة فهي فارض، (وقيل ان الفارض التي ولدت بطوناً كثيرة فيتسع لذلك جوفها، لأن معنى الفارض في اللغة الواسع الضخم)( ).
وقال الجبائي : التي لم تلد بطوناً كثيرة فيتسع لذلك بطنها، وخطّأه الرماني. ويمكن القول ان بين البقرتين عموماً وخصوصاً مطلقاً فكل من ولدت بطوناً كثيرة هي مسنة وليس العكس.
والبكر من البهائم: الفتى، والبكر من كل شئ أوله، والبكر من النساء والبهائم ما لم يفتحلها الفحل.
وعوان بين ذلك : أي وسط ليست بالمسنة ولا الصغيرة.
ورُفعت [ فَارِضٌ ] و[ بِكْرٌ ] لأنهما صفة لبقرة، و[ عَوَانٌ ] خبر مرفوع لمبتدأ محذوف تقديره هي.
في سياق الآيات
تظهر الآية الكريمة جدال وتردد القوم ، ولقد جاء الأمر الإلهي بسيطاً من غير تركيب أو لبس، ولكن بني إسرائيل أخذوا يسألون عن تفصيلات تتعلق بذات البقرة المطلوب ذبحها.
لقد جاءت الآية السابقة بالأمر الإلهي بذبح البقرة، وما جرى من حوار بين بني إسرائيل وبين موسى عليه السلام، ونفيه الجهل عن نفسه، أما هذه الآية فجاءت بسؤال بني إسرائيل لموسى بان يسأل الله عز وجل عن ماهية البقرة التي يجب عليهم أن يذبحوها، وجاءت الآية التالية بالسؤال عن لونها مع الجواب المانع من الترديد والإجمال.
وصلة هذه الآية بالآيات المجاورة على شعبتين:
الشعبة الأولى: صلة الآية بالآيات السابقة، وفيها وجوه:
الأول: صلة الآية بالآية السابقة[وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ…] ( )، وفيها مسائل:
الأولى: إتحاد موضوع الآيتين وهو ذبح بقرة لتعيين القاتل.
الثانية: إتحاد طرفي الخطاب والحوار، وهما موسى وقومه من بني إسرائيل.
الثالثة: التباين في جهة الخطاب، فجاءت الآية أعلاه خطاباً من موسى لقومه أما آية البحث فهي خطاب من بني إسرائيل إلى موسى عليه السلام.
الرابعة: من إعجاز نظم هذه الآيات إستمرار الخطاب بين المتحد والمتعدد، بين النبي من جهة وقومه من جهة إخرى، فهم لم يعرضوا أو يعزفوا عن السؤال والتردد على موسى عليه السلام، وهو بجيبهم بما يأمره الله عز وجل من غير ملل , وفيه آية في إكرام بني إسرائيل وهو من عمومات قوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
الخامسة: تضمنت الآية السابقة الأمر من الله عز وجل لبني إسرائيل بذبح بقرة، ويتصف هذا الأمر بأنه نص خال من اللبس والإجمال والترديد، ولكن بني إسرائيل سألوا عن ماهيتها.
السادسة: جاءت الآية السابقة بتأكيد الأمر الإلهي برد موسى عليه السلام على قومه حينما[قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا] وإنتفع منه بنو إسرائيل ولكن على نحو الموجبة الجزئية إذ أظهروا التسليم بالأمر، وأن ذبح البقرة لكشف القاتل هو آية حسية ومعجزة من وجوه:
الأول : إنها دليل على صدق نبوة موسى عليه السلام.
الثاني : لزوم طاعة بني إسرائيل لله ورسوله موسى عليه السلام فيما يأمرهم به.
الثالث: دعوة بني إسرائيل لتصديق موسى بالبشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: بيان حقيقة وهي شمول المعجزة للأحكام الجنائية، ترى لماذا لم يوح الله عز وجل إلى موسى باسم القاتل فيخبر به بني إسرائيل , والجواب من وجوه:
الأول : إن الله عز وجل[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ).
الثاني : لقد أراد الله عز وجل لقصة البقرة أن تكون درساً وموعظة لبني إسرائيل.
الثالث : تفضل الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً بمجئ عدة آيات في قصة البقرة، ومنها آيتا البحث والسياق، وجاءت تسمية أكبر وأعظم سورة في القرآن باسم سورة البقرة مع أنها تضم الأحكام والسنن والقصص .
وعن الإمام علي عليه السلام قال: سمعت رسول الله يقول يا علي سيد البشر آدم و سيد العرب محمد و لا فخر و سيد الفرس سلمان و سيد الروم صهيب و سيد الحبشة بلال و سيد الجبال الطور و سيد الشجر السدر و سيد الشهور الأشهر الحرم و سيد الأيام يوم الجمعة و سيد الكلام القرآن و سيد القرآن البقرة و سيد البقرة آية الكرسي يا علي إن فيها لخمسين كلمة في كل كلمة خمسون بركة)( ).
وقد وردت نصوص كثيرة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فضل آية الكرسي، وتلقاها المسلمون جيلاً بعد جيل بالتسليم ولمسوا تلك البركات التي تترشح عن هذه الآية.
بالإسناد عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا المنذر أي آية في القرآن أعظم؟
قال: الله ورسوله أعلم! قال: أبا المنذر أي آية في كتاب الله أعظم قال: الله ورسوله أعلم! قال: أبا المنذر أي آية في كتاب الله عز وجل أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم ، فقال: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} قال: فضرب صدره وقال : ليهنك العلم أبا المنذر)( ).
وفي سورة البقرة آيات كثيرة ذات شأن خاص وفيها علوم كثيرة، وجاءت التسمية باسم سورة البقرة , وفيه مسائل:
الأولى: فيه تذكير إضافي لبني إسرائيل بما أنعم الله عليهم به، قال تعالى[سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ] ( ).
الثانية: إتصال إكرام بني إسرائيل في الكتب السماوية المنزلة.
الثالثة: إقامة الحجة على بني إسرائيل.
الرابعة: فيه دليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله عز وجل، لأن تفاصيل قصة البقرة لايعلمها إلا الله عز وجل.
الخامسة: فيه درس وموعظة للمسلمين للإعتبار من الأمم السابقة.
السادسة: إنه من عمومات قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
السابعة: فيه ثناء على المسلمين إذ أنهم لم يشددوا على أنفسهم، ولم يكثروا من التردد والرجوع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأمرهم به، بل يتلقون الأوامر بالإمتثال وحسن الطاعة وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثامنة: جاء الجواب من الله عز وجل وافياً تاماً وبرزخاً دون الترديد والوهم، مما يدل على أن كلام الله عز وجل ليس ظني الدلالة، والله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى، فتضمن الرد من الله عز وجل وجوهاً:
الأول : تأكيد أن المطلوب هو ذبح بقرة.
الثاني :البقرة المطلوبة ذبحها ليست كبيرة أو هرمة.
الثالث : ليست البقرة صغيرة.
الرابع : البقرة وسط بين الكبيرة والصغيرة، وعن مجاهد: وسط ولدت بطنا أو بطنين( ).
وعن ابن عباس: وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر وأحسن ما تكون( ).
وفي لفظ الوسط في المقام آية إعجازية لأنه من الكلي المشكك المردد بين أعمار متعددة بين الكبيرة والصغيرة، وفيه مندوحة لبني إسرائيل، ولكن هذه المندوحة تتضيق عندما يكثر بنو إسرائيل من السؤال والترديد لأن صفات إضافية كاللون وتكرار السؤال عن الماهية , وبما يتضمن على نحو الجري والانطباق التقييد والحصر .
وجاء قوله تعالى[بَيْنَ ذَلِكَ] باسم إشارة للمفرد والبعيد، ولم تأت بصيغة التأنيث مع أن المقصود هي الوسط بين الفارق والبكر، قال تعالى[فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ] ( )، والجواب من وجوه:
الأول: إن عوان عنوان مستقل يفيد معنى قائماً بذاته من غير النسبة إلى الوسطية , قال ابن منظور: العَوانُ من البقر وغيرها النَّصَفُ في سنِّها( ).
الثاني: جاء (ذلك) للإشارة إلى سن البقر الذي يخرج بالتخصص من الوصف المراد للبقرة، وأكتفي باسم الإشارة ذلك لما تقدم من البيان وأن المراد منه هو الأسنان غير المطلوبة إجتمعت في اسم إشارة واحد بعد بيانه ومعرفته.
الثالث : قال الفراء: إنقطع الكلام عند قوله ولا بكر ثم استأْنف فقال عَوان بين ذلك( ).
التاسعة:البيان الذي ورد في آية البحث شاهد صدق على أن موسى عليه السلام ليس بهازئ بل هو ينقل أمر الله عز وجل الذي هو رحمة لهم.
العاشرة: تأكيد موسى عليه السلام على الإمتثال السريع، ويدل في مفهومه على لزوم إجتناب بني إسرائيل السؤال المتعدد والمتكرر.
الحادية عشرة: جاءت الآيتان بمادة (أمر) وهو من إعجاز نظم الآيات فقد ذكرت الآية السابقة مسألة وهي أن ذبح البقرة أمر من الله عز وجل، وتلقى بنو إسرائيل الأمر بالظن بأن موسى عليه السلام يستهزأ بهم أو أنهما دعابة .
وفي هذه الآية جاء التأكيد على الأمر وبيان حقيقة وهي لزوم فعل بني إسرائيل مايأمرهم الله بخصوص البقرة وصفاتها الواردة في هذه الآية، ويحتمل الأمر في الآيتين وجوهاً:
الأول: إرادة الوجوب في كل من الآيتين.
الثاني:الآية السابقة تفيد الوجوب , أما هذه الآية فتحمل على الإستحباب.
الثالث: مفاد الآية السابقة الإستحباب , أما هذه الآية فتدل على الوجوب.
الرابع: المراد من الأمر في كل من الآيتين هو الإستحباب والندب.
والصحيح هو الأول، لأصالة الوجوب في لفظ الأمر، وعدم وجود قرينة صارفة للإستحباب، ويدل في مفهومه على الزجر عن التردد والسؤال عن صفات أخرى للبقرة، وفيه تأديب وإرشاد للمسلمين بالإمتناع عن كثرة السؤال والتشديد عن النفس .
وقد جاءت مصاديق التخفيف عن المسلمين في أحكام وآيات كثيرة، كما في فريضة الصوم وسقوط الأداء عن المريض والمسافر بقوله تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( )، وقوله تعالى في العفو في باب القصاص[ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ] ( )، وفي فريضة الحج وكفاية الفريضة مرة واحدة على المكلف بقيد الإستطاعة، وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة : وابن أبي حاتم والحاكم عن علي قال: لما نزلت {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً }( )، قالوا : يا رسول الله في كل عام؟ فسكت . . قالوا : يا رسول الله في كل عام؟ قال:لا. ولو قلت نعم لوجبت . فأنزل الله { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم( )( ).
الثاني: صلة هذه الآية بقوله تعالى[فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا..]( )، وفيه مسائل:
الأولى: مجئ كل من الآيتين بخصوص بني إسرائيل.
الثانية: في الجمع بين الآيتين التنبيه والتحذير، ولزوم الإعتبار من الأمم السابقة، وتذكير أهل الكتاب بما فعله فريق من الأجيال السابقة من بني إسرائيل.
الثالثة: لقد جاءت آية السياق بالعقاب الحال بالذين عصوا الله وإعتدوا بالصيد يوم السبت أما آية البحث فذكرت أوصافا من البقرة المراد ذبحها وأختتمت بقوله تعالى[فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ] وهذه الخاتمة نوع إعجاز فبنو إسرائيل هم الذين سألوا موسى عليه السلام إبتداء عن معرفة القاتل، ولكن الجواب من الله جاء على نحو الأمر في هذه الآية، والآية السابقة إذ ورد بقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ] ( )، لتدل الآيتان مجتمعتين على لزوم إجتناب بني إسرائيل لأسباب التعدي والظلم ونزول العذاب بهم.
الثالث: صلة آية[وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا]( )، بهذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: إتحاد موضوع الآيتين، فكل واحدة منهما جاءت بخصوص بني إسرائيل، وجاءت آية السياق بصيغة الخطاب على نحو العموم الإستغراقي الشامل لهم جميعاً، أما آية البحث فذكرت قول بني إسرائيل، ورد موسى عليه السلام عليهم بالوحي من الله عز وجل، وفيه نعمة أخرى على بني إسرائيل بسرعة إستجابة الله عز وجل لهم، وهدايتهم لما فيه أمنهم وإحقاق الحق، ومحاربة الباطل.
وقد كان القتل عظيماً في بني إسرائيل لأنهم يدركون منزلتهم والنعم العظيمة التي تفضل بها الله عز وجل عليهم إذ أنجاهم من آل فرعون وأغرق آل فرعون وجنوده بعد أن عبر البحر بنو إسرائيل وكأنه أرض يابسة، وكانت عصا موسى معجزة حاضرة معهم في حلهم وترحالهم، تتجدد الآيات بها ومنها وفيها .
وجاءت مادة(العصا) إثنتي عشرة مرة في القرآن، كلها في موسى عليه السلام وعصاه، وتستلزم تأليف مجلد خاص إسمه (عصا موسى في القرآن) أو(آية العصا) مع بيان الصلة والإتصال بين عصا موسى عليه السلام ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد سأل موسى عليه السلام الله عز وجل أن يجعل أخاه هارون وزيراً
له، كما ورد في التنزيل[وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي]( )، وكانت العصا عضداً ومدداً لموسى عليه السلام في مواجهته فرعون والإحتجاج عليه، ودخول السحرة الإسلام، ثم عبور بني إسرائيل البحر، قال تعالى[فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ]( )، وجريان الماء من الحجر بعد ضرب موسى له بالعصا، وبيان حقيقة وهي أن موسى عليه السلام لم يستعمل العصا إلا بالوحي والأمر من الله عز وجل.
لقد كان بنو إسرائيل يرون المعجزات وصاروا في أمن وبحبوحة من العيش بعد ظلم وقهر فرعون، لذا تنفر نفوسهم من قتل بعضهم بعضاً مع تواتر وتوال المعجزات عليهم، فأدركوا أن الله عز وجل الذي أنعم عليهم بهذه المعجزات هو الذي يكشف لهم عن القاتل، ويفضحه ويخزيه فلجأوا إلى موسى عليه السلام , ترى لماذا لم يسألوا موسى عليه السلام أن يضرب الميت بالعصا , يحتمل الجواب وجوهاً:
الأول: لم يعلم بنو إسرائيل أن ضرب العصا يحيي الميت.
الثاني: لقد فوض بنو إسرائيل لموسى عليه السلام كيفية حلّ المسألة وفك النزاع، ( وعن الرضا عليه السلام : أن رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم أخذه و طرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثم جاء يطلب بدمه فقالوا لموسى سبط آل فلان قتل فأخبرنا من قتله قال ائتوني ببقرة(قالوا أ تتخذنا هزوا) الآية و لو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد الله عليهم) ( ).
الثانية: لقد أختتمت آية السياق بقوله تعالى(وموعظة للمتقين)للإشارة إلى عقوبة الذين إعتدوا في السبت، وكذا في قصة البقرة وتشديد القوم على أنفسهم في كثرة السؤال عن أوصاف البقرة بما يفيد الحصر والتعيين، وتضييق موارد التخيير فيها، ليصير بيانه في القرآن موعظة للذين يخشون ربهم .
وهل هذه الموعظة خاصة بالمؤمنين الجواب إنها شامل للمسلمين من الأمم السابقة أيضاً لتكون العقوبة للمعتدين زاجراً عن تحريف البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن هذا التحريف أكبر ضرراً ومعصية من الصيد يوم السبت، ومانعاً من محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وتحريض قريش والقوم الكافرين على المسلمين، فإن العذاب ينزل بالذين يقاتلون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليكونوا عبرة وتذكرة للأجيال المتعاقبة .
(وعن ابن عباس : لما بين يديها للأمم التي تراها وما خلفها ما يكون بعدها)( ).
الثالثة: أيهما أسبق زماناً وحدوثاً، مسألة ذبح البقرة أم الإعتداء في السبت، الجواب هو الأول، فإن قصة البقرة حدثت في أيام موسى عليه السلام , أما التعدي يوم السبت فقد حصل في الأجيال اللاحقة من بني إسرائيل، قال تعالى[وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ]( )، ويتعلق موضوع الآية أعلاه بأهل قرية من بني إسرائيل وإنقسموا إلى ثلاثة فرق:
الأولى: فرقة قانصة أي تقوم بالصيد يوم السبت.
الثانية: فرقة واعظة.
الثالثة: فرقة ساكتة .
ويجمع هذه الفرق قوله تعالى الذي يتضمن عذر وقصور الفرقة الساكتة[وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا]( )، (وقيل كانت هذه القصة في زمن داود عليه السلام)( )، وهو تخلف في زمانه عن أيام موسى عليه السلام، وهذا القول يحتاج إلى دليل خصوصاً وأن داود كان نبياً وملكاً أي بوجود أحكام تشريعية ووضعية تمنع بني إسرائيل من الصيد يوم السبت .
وقد دفع الله عز وجل عن بني إسرائيل الظلم والإضطهاد بنبوة موسى، وكذا في نبوة داود، فببركة نبوة داود وسعيه لإصلاح بني إسرائيل ينجيهم الله من التعدي ونزول العقوبة والعذاب بهم.
الرابعة: تتضمن كل من الآيتين الإخبار عن أحوال بني إسرائيل في الأزمان السالفة وفيه وجوه:
الأول: إنه موعظة وعبرة للناس، وشاهد قرآني يبين أحوال المليين قبل الإسلام.
الثاني:إنتفاع المسلمين مما حصل في بني إسرائيل، وإظهارهم التقيد بأحكام الشريعة وإجتناب التعدي والمعصية فيما أمر الله عز وجل , وهذا التقيد من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : إنذار اليهود من التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتعدي على المسلمين.
الرابع: دعوة الناس لمعرفة سوء عاقبة الذين إعتدوا على المسلمين، وأرادوا الإجهاز على الإسلام في أيامه الأولى , وفي قريش حينما زحفت بجيوشها على المدينة المنورة يوم بدر قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وهل في قوله بني إسرائيل(ادع لنا ربك) تعد، الجواب لا، فهو وان كان من التشديد على النفس إلا أنه يتضمن أموراً:
الأول: رجوع بني إسرائيل إلى النبي موسى عليه السلام.
الثاني : رجاء توجه موسى عليه السلام بالدعاء إلى الله ليوحي إليه.
الثالث: إعلان العزم على الصدور عما يأمرهم الله به وإن أكثروا من المسألة , فان قلت جاءت الآية بذمهم[وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا] الجواب قد ثبت أن القاتل متحد، والذي جاءوا يسألون هم قوم موسى، وحتى وان كان السائلون نفراً منهم فان الآية نسبت السؤال والترديد لهم جميعاً.
الشعبة الثانية: صلة هذه الآية بالآيات التالية، وفيها وجوه:
الأول: صلة هذه الآية بقوله تعالى[قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا.]( )، وفيها مسائل:
الأولى: إفتتاح كل من الآيتين بذات اللفظ مع الإتحاد في جهة صدور الخطاب، والجهة التي يتوجه لها[قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا] وكذا ذات الألفاظ إفتتحت بها الآية السبعون، وقد لا تجد في القرآن ثلاث آيات متتاليات يتكرر فيها مثل هذا العدد من الكلمات، وفيه حجة وبيان لتشديد بني إسرائيل على أنفسهم وفضل الله عليهم في الإستجابة لهم، وتحديد الصفات التي يريدون إتخاذها وسيلة لتعيين البقرة المراد ذبحها، مع مجئ ثلاثة أفعال في كل منها، ومرتين الجار والمجرور(لنا).
الثانية : تتضمن كل من الآيتين سؤال بني إسرائيل لموسى عليه السلام عن أوصاف البقرة ورد موسى الذي يتضمن الإستجابة لهم، ومن الإعجاز في هذه الآيات أن البقرة التي قيدت بهذه الصفات كانت موجودة عندهم وعلى نحو المتعدد وان كان قليلاً نادراً، فقالوا كما في الآية التالية[إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا] ( ).
الثالثة: سأل بنو إسرائيل في آية البحث عن ماهية البقرة وذاتها، أما في آية السياق فجاء سؤالهم عن اللون وهو عرض ثابت، مما يدل على موضوعية لون البقر آنذاك , وفيه دليل على كثرته عند بني إسرائيل وأنها من النعم التي تفضل الله عز وجل بها عليهم.
الرابعة: أختتمت آية البحث ببعث بني إسرائيل للفعل والإمتثال[فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ] ومع أن آية السياق جاءت بعدها وبمزيد من السؤال والبيان لصفات البقرة فانها لم تحتتم أو تتضمن هذا الأمر بل جاءت بذكر لون البقرة على نحو جلي , وفيه وجهان:
الأول: آية السياق تابعة لآية البحث في لزوم الفعل والمبادرة إلى ذبح البقرة.
الثاني: تقدير خاتمة آية السياق : فاقع لونها تسر الناظرين فافعلوا ماتؤمرون.
ولا تعارض بين الوجهين، فيأتي الأمر على لسان موسى عليه السلام بحثهم على الفعل والذي يدل في مفهومه على الكف عن السؤال، وطلب التفصيل في موضوع البقرة.
الخامسة: يحتمل تعلق سرور الناظرين بالبقرة وجوهاً:
الأول: إنه خاص بلون البقرة الأصفر.
الثاني: إنه شامل للون البقرة وسنها وقوتها وأنها ليست بالكبيرة ولا الصغيرة.
الثالث: إرادة ما يأتي في سؤالهم التالي وأنها لم يذللها العمل بحرث الأرض ولم يُستسق عليها في الزرع , وأنها خالية من العيوب.
الرابع: الوجه الثاني أعلاه لا ينطبق إلا على مصداق واحد، وهو الذي جاء ذكره في قوله تعالى[إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَ شِيَةَ فِيهَا] ( ).
الخامس: إرادة ما ورد في آية السياق وأن البقرة تبعث البهجة في لونها وهيأتها إلا أن ماجاء في الآية أعلاه يزيدها حسناً بين البقر، ويكون السرور بالنظر إليها عاماً , لذا جاءت الآية بصيغة الجمع [تَسُرُّ النَّاظِرِينَ].
وبإستثناء الوجه الأول فأن الوجوه أعلاه من مصاديق الآية وأسباب السرور بالنظر إليها فكونها وسط بين البقر، ولونها خالص الصفرة يبعث الفرح في نفوس الذين ينظرون اليها، والصفات الأخرى وكونها ليست من العوامل تزيدها حسناً.
ومن إعجاز آية السياق أنها لم تقل (فاقع لونها يسر الناظرين) بصيغة المذكر المفرد، فجاءت بصيغة المؤنث (تسر) أي ذات البقرة بصفاتها هي التي تسر الذين ينظرون إليها.
الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى[قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ..]( )، وفيها مسائل:
الأولى : الإتحاد في بداية الآيتين في الموضوع والألفاظ والدلالة مع التباين الرتبي، لأن التكرار جاء لسؤال صفات أخرى إضافية للبقرة.
الثانية : بعد تفضل الله عز وجل ببيان لون البقرة أعاد بنو إسرائيل السؤال عن ماهية البقرة، فجاءهم الجواب من الله عز وجل.
الثالثة : جاءت آية البحث بوصفها بأنها وسط بين الكبيرة والصغيرة فلم يكتف به بنو إسرائيل، فجاءت آية السياق والآية التي قبلها بسؤالهم عنها.
الرابعة : ليس في آية البحث إستثناء وتدارك في السؤال، أما آية السياق فقد تضمنت ما يفيد التوسل بقوله تعالى[وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ] ( وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث: وأيم الله لو لم يستثنوا ما بينت لهم إلى آخر الأبد( ).
الخامسة : تضمنت آية البحث سؤال بني إسرائيل وجواب الله عز وجل عليه بواسطة الوحي إلى موسى عليه السلام.
أما آية السياق فلم تتضمن الجواب من الله ولكنها تضمنت سؤال بني إسرائيل من وجوه:
الأول : السؤال عن ماهية البقرة.
الثاني : الإعتذار بتشابه البقر، ووجود صفات البقرة المطلوبة في أكثر من بقرة، ويحتمل وجوهاً:
الأول : إنهم ذهبوا ليتفحصوا البقر فوجدوا بقرات عديدة تحمل ذات الصفات فرجعوا إلى موسى عليه السلام.
الثاني : إنهم إستحضروا البقر وأفراده في الوجود الذهني فأدركوا تعدد البقر الذي يكون بذات اللون من الصفرة الشديدة التي تسر الذين ينظروا إليه، فاعادوا السؤال في نفس الساعة والمجلس.
الثالث : إنهم ذهبوا للتشاور والسؤال عن البقرة المطلوبة فأخبر بعضهم بوجود هذه الصفات في بقرات متعددة، فرجعوا إلى موسى عليه السلام من غير أن يذهبوا في الأسواق ويتفحصوا عن البقرة المطلوبة.
إن إعتذارهم بالقول[إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ] يحتمل الوجه الثاني.
الثالث : اللجوء إلى الله، والإقرار بالمشيئة الإلهية والإستعانة بالله للوصول إلى ذات البقرة المطلوبة، بالتعريف الإضافي الذي يتفضل به سبحانه.
ومن خصائص الإستثناء التأكيد بأنهم عازمون على ذبح البقرة وكشف القاتل، وأنهم لم يقصدوا التسويف والمكر، وهو لايتعارض مع قوله تعالى[وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا] ( )، لأن الآية أعلاه جاءت في ذم الذين قتلوا خاصة وإتهموا غيرهم بالقتل.
وقوله تعالى[فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا] أي كل واحد وسبط يدفعون القتل عن أنفسهم وإبنائهم.
الثالث : صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا..] ( )، وفيه مسائل:
الأولى : جاءت كل من الآيتين خطاباً لليهود، والمراد أسلافهم أيام النبي موسى عليه السلام على عادة العرب في خطاب الأنبياء بفعل الأباء مدحاً أو ذماً، وفيه دعوة للحاضر منهم أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإجتناب سوء الفعل والقتل الذي تم في أيام موسى عليه السلام.
الثانية : في سياق الآيات إعجاز، فقد تقدمت آيات أوصاف البقرة التي تكون سبباً لكشف القاتل بينما جاءت آية السياق للإخبار عن القتل وتقدير الجمع بين الآيات: وإذ قتلتم نفساً فاختلفتم فيها فسألتم موسى فقال[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً] وفي هذا التقديم والتأخير وجوه:
الأول : إنه من إعجاز القرآن، وباب لإستنباط المسائل منه.
الثاني : بيان حقيقة وهي أن قصة ذبح البقرة مسألة كلامية وأصولية مستقلة عن القتل، وإن جاءت بخصوصها.
الثالث : إرادة آيات البقرة وذكر أوصافها من عمومات قوله تعالى[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ] ( )، لما فيها من الزجر عن التشدد على النفس، ومنهم من يظن بالملازمة بين الإحتياط والورع، وأن الإحتياط الزائد دليل على الورع والتقوى، فجاءت آيات البقرة لتحذر من الإحتياط الذي هو خلاف الإحتياط.
الرابع : إستمرار الخلاف حتى بعد بيان صفات البقرة من قبل موسى عليه السلام بوحي من الله عز وجل، ليكون في هذا الإستمرار على فرض ثبوته ذم لهم.
الخامس : ذكر قانون وهو إن الله عز وجل يكشف القاتل والمكر الذي حصل بدعاء موسى عليه السلام ، ورفع الإختلاف الذي ترشح عنه فيما بين أسباط بني إسرائيل، وفيه درس للمسلمين بلزوم التقيد بأحكام الأخوة الإيمانية عند مصيبة القتل والمكر، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
السادس : بيان صفات البقرة المراد ذبحها من عمومات قوله تعالى[وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ] ( )، إذا أمرهم الله بضرب المقتول ببعض البقرة وجزء منها.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في الآية قال : ضرب بفخذ البقرة فقام حياً فقال : قتلني فلان ، ثم عاد في ميتته ، وأخرج ابن جرير عن السدي قال : ضرب بالبضعة التي بين الكتفين( ).
السابع : لو لم يسأل بنو إسرائيل ويشددوا على أنفسهم في كثرة السؤال وطلب صفات تقع على فرد مخصوص من البقر فان الله عز وجل مخرج مسألة القتل وفاضح القاتل لأن هذا الفضل من نعم الله عز وجل على بني إسرائيل ووجوه تفضيلهم على غيرهم من أهل زمانهم قال تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
الثامن : تأخر آية قتل النفس تحذير لليهود من قتل المسلمين والكيد بهم وتحريض قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فان الله مخرج هذا الكيد والمكر، وهو من أسرار مجئ خاتمة آية السياق بصيغة الإطلاق[وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ] ليشمل إخفاء البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى] ( ).
الثالثة : بيان صفات البقرة وقوله تعالى[فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ] رحمة ببني إسرائيل لمنع إستدامة الإختلاف وتكرر القتل بينهم، وإزدياد تجرأهم في الدماء، وهذا المنع من وجوه تفضيلهم، وهو مناسبة لتعاهد العبادات والتدبر بالنعم والآيات التي جاء بها موسى، ومنها البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويدل سياق الآيات على تلقي بني إسرائيل دفاع وإحتجاج موسى بالتصديق والقبول، إذ أختتمت الآية السابقة بتأكيد موسى بمعرفته بالله وأنه لا يخبر عنه إلا بما هو حق وصدق، وقيامه بالإستعاذة من الجهل والإنتساب إلى جماعة الجاهلين، فبادروا إلى سؤال موسى عليه السلام بالدعاء والتضرع إلى الله بأن يبيّن لهم ما هي خصائص وصفات البقرة.
إعجاز الآية
تبين الآية أمر الله تعالى وتفضله في ذكر التفاصيل وأوصاف البقرة التي يراد ذبحها، ومحاورة الرسول عليه السلام وتلقيه الإجابة وتبليغها في آن واحد ومن غير تأخير.
والآية الكريمة وثيقة سماوية لموضوع ذبح البقرة، وما جرى من رد بني إسرائيل على موسى عليه السلام، والجواب الإلهي الذي هو نعمة إضافية عليهم من وجوه:
الأول : تفضل الله تعالى بالإجابة.
الثاني : بيان صفات البقرة.
الثالث : حث بني إسرائيل على المبادرة إلى الفعل والإمتثال.
ومن إعجاز الآية أن بني إسرائيل لم يقولوا “قل لربك” بل جاء سؤالهم بصيغة الدعاء والمسألة من الله تعالى، وكذا في قوله تعالى [فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ] لإدراكهم بأن مسألة النبي عز وجل تأتي بصيغة الدعاء والتضرع والمسألة.
لم يسألهم موسى عليه السلام عن مرادهم من الماهية وقول (ما هي) بل أجابهم في الحال , وفيه مسائل:
الأولى : إخبار موسى عن الله عز وجل (قال إنه يقول).
الثانية : دلالة الآية على سماع الله عز وجل لقول بني إسرائيل وإستجابته لمسألتهم مع ما تتضمنه من التشديد على النفس، وفي التنزيل في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ]( ).
الثالثة : بيان لطف الله بالأنبياء وقومهم فحالما سألوا موسى جاء الجواب من الله عز وجل، وفي التنزيل[ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
ومن إعجاز الآية أن بني إسرائيل لم يقولوا (قل لربك) بل جاء سؤالهم بلفظ (أدع لنا ربك) وفيه مسائل:
الأولى : إنه شاهد على إرتقاء بني إسرائيل في الفقاهة والمعرفة الإلهية، ولو على نحو الموجبة الجزئية.
الثانية : الإقرار بأن موسى عليه السلام نبي رسول.
الثالثة : إن النبوة أعم من الوحي الذي يأتي إبتداءً وفضلاً من الله عز وجل، فتشمل السؤال والدعاء من النبي وتعقبه بالإستجابة من الله عز وجل.
الرابعة : إن كنوز الغيب ملك لله ، وأن النبي لا يحيط بأفراد منه إلا بما يطلعه الله عليه، قال تعالى[وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
الخامسة: الآية شاهد بسماوية القضاء عند بني إسرائيل، وأن الأمر ينزل من عند الله.
ويمكن تسمية الآية بآية (لا فارض) ولم يرد لفظ فارض، ولا لفظ (بكر ) في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
في الآية دروس وعبر تتعدى موضوع البقرة وذبحها وتتمثل في لزوم عدم الإستغراب من صدود فريق منهم عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي.
وفي الآية درس لبني إسرائيل وللمسلمين جميعاً بالإنتفاع من التخفيف الذي يتضمنه الإطلاق والعموم، وإجتناب كثرة الرد على الأنبياء، وتدعو الآية في مفهومها إلى الوسط في الأمور، والإبتعاد عن الإفراط والتفريط، لقوله تعالى [عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ]( ).
وجاءت آية البحث حرباً على هذا الصدود . ومدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في أجيالهم المتعاقبة في الدعوة إلى الإسلام، والسلامة من الكيد والمكر.
والآية حجة على بني إسرائيل في الإنتفاع الأمثل من حضور النبي موسى عليه السلام بين ظهرانيهم وإجابته لهم في أمور الدين والدنيا.
وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على التغليظ والشدة في حكم القاتل عمداً، وجاءت النصوص بأن حكمه عندهم القصاص أيضاً، وهو الذي يدل عليه كتمان وإخفاء أمر القاتل وسعي بني إسرائيل لمعرفته وتعيينه.
مفهوم الآية
يتجلى في الآية أثر إستعاذة موسى عليه السلام ولجوئه إلى الله عز وجل عندما ظنوا أنه يستهزئ بهم وكيف أنهم أفاقوا ورجعوا إلى العقل وإستحضار أحكام النبوة في الجملة وأن الأنبياء لا يقولون إلا الحق والصدق .
وسؤالهم له بالتوجه إلى الله تعالى إقرار بنبوته وتسليم بمناجاته لله تعالى وإظهار لإستعدادهم لتلقي الوصف والإخبار والوحي السماوي من موسى عليه السلام بالقبول والرضا، وفي الآية مسائل:
الأولى: سؤال بني إسرائيل لموسى عليه السلام أن يسأل الله عز وجل عن ماهية البقرة، مع أن الأمر بذبح بقرة تجزي فيه أي بقرة.
الثانية: تفضل الله تعالى بالإجابة.
الثالثة: إخبار موسى عن الله عز وجل “قال إنه يقول” وأن الله سبحانه يخبر موسى عليه السلام بالوحي ويستجيب لسؤال بني إسرائيل، وهذه الإستجابة وحدها نعمة عظيمة تستلزم الشكر والتقيد بأحكام النبوة.
الرابعة: جاء الوصف من غير تشديد وفيه إختيار للوسط، وفلسفة الوسط أمر حسن ومقبول، فالبقرة ليست بالصغيرة ولا الكبيرة.
الخامسة: أمر موسى عليه السلام لهم بالفعل والإمتثال الحسن، وعدم التردد والتسويف، والمراد في الآية الفورية وليس التأخير والإبطاء، بلحاظ صيغة الأمر (إفعلوا) والإستجابة للأمر المخصوص، وجاءت الآية بصيغة الجمع للحث على إتيان الفعل والحجة والإخبار بأن الحادثة تهم بني إسرائيل، وليس شخصاً أو أشخاصاً قليلين.
السادسة: تكرار قيام بني إسرائيل بالرد على موسى عليه السلام، والنسبة بين الحكاية عنهم في التنزيل [ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ] وبين الرد في الآية السابقة [أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا] عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء التردد وعدم المبادرة إلى الإستجابة ورد بني إسرائيل على موسى عليه السلام.
أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول : دلالة هذا الرد بالدلالة التضمنية على القبول، وإرادة الإمتثال.
الثاني : جاء هذا الرد تتمة للرد في الآية السابقة، فبعد أن إستعاذ موسى عليه السلام بالله عز وجل من الجهالة، والإخبار عن الله بغير حق أدرك بنو إسرائيل صدقه، وما في كلامه من مضامين التكليف بذبح بقرة.
الثالث : إنتقال بني إسرائيل في هذه الآية إلى السؤال عن ماهية البقرة وصفاتها.
الرابع : تضمن هذا الرد طلب التوجه بالسؤال إلى الله تعالى.
السابعة : تدل الآية في مضمونها على عدم الحاجة إلى هذا السؤال، فقد جاء الأمر الإلهي مطلقاً [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً] وليس فيه تقييد أو ذكر لوصف مخصوص في البقرة، ولكنهم سألوا عن ماهية البقرة، وهل في هذا السؤال شك من بني إسرائيل بكلام موسى عليه السلام وإستمرار لقولهم الوارد في التنزيل [أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا] الجواب لا، لوجوه:
الأول : أصالة عدم الشك.
الثاني : إن بني إسرائيل في مقام الإستبيان.
الثالث : إقرار بني إسرائيل بنبوة موسى عليه السلام.
الرابع : جاء جواب موسى لهم الوارد في الآية السابقة [أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ] لطرد الوهم، ودفع سوء الظنة.
الثامنة : إبتدأت الآية بكلام بني إسرائيل [ادْعُ لَنَا رَبَّكَ] وفيه إقرار بالوحي في القضايا الشخصية، وأن ما ينزل على النبي من عند الله لا ينحصر بالقواعد العامة بل يشمل تفاصيل فك الخصومة , والإجابة في الأمور الشخصية , (وفي الحديث القدسي: يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك، و ملح عجينك)( ).
التاسعة : ليس في قول بني إسرائيل وطلبهم من موسى عليه السلام أن يسأل الله عز وجل إعراض عن موسى وحكمه، بل جاء تتمة لقول موسى عليه السلام [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً] ( )، فما دام الله عز وجل هو الذي تفضل بتعيين وسيلة كشف الجناية وهي البقرة فلابد من اللجوء إليه في بيان ماهية وتفاصيل البقرة المراد ذبحها.
العاشرة : لم يقل بنو إسرائيل “أدع لنا الله” أو “أدع لنا ربنا” بل جاء سؤالهم [ادْعُ لَنَا رَبَّكَ] مع أن السؤال يتعلق بموضوع وحاجة لهم، ونعمة يتفضل الله تعالى بها عليهم.
الحادية عشرة : جاء جواب موسى عليه السلام عن الله عز وجل [إِنَّهُ يَقُولُ] وفيه إكرام لموسى عليه السلام، ولبني إسرائيل، وهو شاهد على النعم العظيمة التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل عامة، وعلى موسى عليه السلام خاصة في إستجابة سؤاله وسؤال قومه.
الثانية عشرة : مع أن سؤال بني إسرائيل من التشديد على النفس، فلم يتأخر الجواب الإلهي عنهم فضلاً من عند الله ليكون من نعم الله على بني إسرائيل أن فضله تعالى عليهم لا يحجبه التشديد على النفس وكثرة السؤال والمسلمون أولى بهذه النعمة.
الثالثة عشرة : وصف البقرة بقيد يتضمن أمرين:
الأول : البيان والوضوح وعدم اللبس.
الثاني : السعة والمندوحة، وعدم الحصر.
فلم يتضمن الجواب تشديداً على بني إسرائيل بسن مخصوص للبقرة التي يجب ان تذبح، بل جعلها الله عز وجل وسطاً بين الكبيرة والصغيرة، وهذا الوسط من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب وأسنان متعددة وإن كانت متقاربة.
الرابعة عشرة : أختتمت الآية بقوله تعالى [فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ] ويحتمل وجهين:
الأول : إنه تتمة لقول الله تعالى الخاص بذبح البقرة والذي ينقله موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل.
الثاني : إنه قول لموسى عليه السلام يحكيه الله عز وجل عنه في القرآن، وتقدير الآية: “وقال موسى: فافعلوا ما تؤمرون”.
والصحيح هو الثاني، وفيه آية من آيات الله عز وجل من وجوه:
الأول : تداخل كلام النبي مع كلام الله عز وجل فيما يخص الأوامر الموجهة إلى بني إسرائيل.
الثاني : إكرام القرآن لموسى عليه السلام بأن يأتي كلامه متعقباً لكلام الله تعالى.
الثالث : حث بني إسرائيل على الأخذ بكلام موسى.
الرابع : إخبار النبي موسى عليه السلام بأن كلام الله عز وجل وبيانه لصفات البقرة التي تذبح هو أمر , ويحمل على الوجوب، مع حرمة الترك.
الخامس : في الآية زجر لبني إسرائيل عن العودة والترديد مرة أخرى في أوصاف البقرة , وحث على الإكتفاء بالأسئلة والصفات التي ذكرت لها , لتكون عندهم مندوحة في الإختيار ليكون من معاني خطاب الله للمسلمين[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، هو الإنزجار عن التردد والسؤال وإرادة غير المأمور به أو قصد إرتكاب المنهي عنه والتخفيف فيه.
لقد أراد الله عز وجل لبني إسرائيل آية إعجازية تبين أن موسى عليه السلام لم يكن مستهزءً بهم، وإنما قام بتبليغهم بأمر الله لهم بذبح بقرة كوسيلة لكشف الجاني الذي إرتكب القتل بغير حق , وفي الآية مسائل :
الأولى : قيام بني إسرائيل بالرد على موسى عليه السلام مرة أخرى.
الثانية : إنتقلوا هذه المرة إلى السؤال عن لون البقرة التي أمرهم الله بذبحها.
الثالثة : جاءت الآية بصيغة الدعاء ” ادْعُ لَنَا رَبَّكَ “.
الرابعة : عدم الحاجة إلى هذا السؤال، وكفاية ذبح بقرة ليست بالكبيرة ولا الصغيرة وعدم موضوعية لون البقرة في المقام , وإنتفاء التقييد بلون مخصوص .
الخامسة : تفضل الله تعالى بالإستجابة لسؤالهم، وبيان لون البقرة التي يراد ذبحها.
السادسة : مع تشديد بني إسرائيل على أنفسهم تأتي الإستجابة على نحو الحصر والتعيين، ففي الآية السابقة خرجت كل بقرة بكر هرمة أو صغيرة بالتخصيص.
وفي هذه الآية خرجت كل بقرة ليست بصفراء، وحصرت الأمر بكل بقرة صفراء فاقع لونها ليست بالكبيرة ولا الصغيرة، فبعد سؤال بني إسرائيل خرجت كل بقرة لونها ليس بأصفر وإن كانت وسطاً لا بكراً ولا فارضاً.
السابعة : جاء تعيين لون البقرة، ويتضمن ثلاثة صفات خاصة باللون وهي:
الأول : يكون لون البقرة أصفر.
الثاني : يتصف بأنه أصفر فاقع.
الثالث : يبعث لون البقرة السرور في نفوس الناظرين.
الثامنة : جاءت الآية بصيغة الجمع “الناظرين” وفيه آية إعجازية لإخبار الآية عن حصول أمارة نوعية عامة عند بني إسرائيل تساعد في تعيين البقرة الواجب ذبحها وهي إتصافها بلون أصفر فاقع يسرهم ويسعدهم حين النظر إليها، ويحتمل هذا السرور في علته وجوهاً:
الأول : إنه راجع لذات البقرة في هيئتها وسنها ولونها، وجاءت الآية بصيغة المؤنث تسر الناظرين أي ان البقرة ذاتها هي التي تسرهم ولم ترد مادة(سرّ) من السرور في القرآن إلا في هذه الآية والسرور البهجة وهو ضد الحزن والكآبة.
الثاني : تعلق السرور بلون البقرة على نحو الخصوص، لنظم الآية ولأن النظر يحصل للون بالذات، خصوصاً وان هيئة البقرة ليست ذات موضوعية في حصول السرور للناس بها في الغالب.
الثالث : يترشح السرور من إيجاد البقرة الجامعة للشرائط والصفات المذكورة في هذه الآية، وكأن الآية تقول لبني إسرائيل: إذا رأيتم هذه البقرة سررتم بها، وهذا السرور مناسبة للكف عن تكرار السؤال.
الرابع : ترشح السرور عن الإمتثال بإكتمال صفات البقرة المطلوبة على نحو الحصر , وإنعدام المثل والشبه لها .
الخامس: السرور بتحقق المقدمة الموصلة لإكتشاف الجاني، مما يدل على وثاقة بني إسرائيل مما موسى عليه السلام، وإدراكهم لحقيقة وهي متى ما أحضروا البقرة أمر القاتل سيتضح، فهم مبتهجون بالعثور عليها ويتباشرون حين رؤيتها بتهيئة أسباب كشف الجاني، مما يدل على السخط العام الذي تغشى بني إسرائيل بقتل أحدهم، وخفاء الجناية وتعذر معرفة القاتل عليهم لولا الرجوع إلى الرسول موسى عليه السلام.
ولا تعارض بين هذه الوجوه في الجملة، وتدل على الإعجاز في الآية الكريمة وفيه إخبار عن وجود بقرة بهذا الوصف، وما يترتب عليه من الأثر، ويحتمل السرور المترتب على رؤية تلك البقرة وجوهاً:
الأول : سبق زمان حصول السرور عند رؤيتها على أوان تعيينها للذبح، فهي في الأصل كانت تسر من رآها، وهذا السبق يحتمل وجهين:
الأول : حسن هيئة ولون البقرة، وإنفرادها بلون مخصوص وهو(أصفر فاقع).
الثاني : ترشح السرور من تعيينها والحصول عليها، فعندما يرى بنو إسرائيل تلك البقرة تمتلأ نفوسهم سروراً لأنهم وصلوا إلى بغيتهم.
الثالث : تظهر علامات الرضا والقبول على بني إسرائيل عندما يرون المصداق العملي لما يأمرهم به موسى عليه السلام.
الآية لطف
جاءت هذه الآيات في بيان النعم العظيمة التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل، ومن النعم الإضافية فيها ذكرها في القرآن ليكون النفع منها عاماُ فينتفع منها المسلم والكتابي والمشرك، وتكون مدرسة في الدعوة إلى التوحيد.
فليس المسلمون وحدهم الذين يدعون إلى الإسلام , فالقرآن إمام في الدعوة إلى الله، ووزير للمسلمين في دعوتهم، وهاد لهم لسبل الدعوة وكيفيتها، ولا يستطيعون الإستغناء عن آياته ومضامينه القدسية.
فجاءت هذه الآية لطفاً بهم وعوناً لهم في أمور دينهم ودنياهم، ويتساءل المسلم والمسلمة لماذا لم يمتثل بنو إسرائيل للأمر الإلهي على إطلاقه وما فيه من التخفيف بل سألوا التفصيل فجاءهم بصيغة الحصر مع الحث والندب على الفعل وعدم الرجوع مرة أخرى إلى سؤال التفصيل.
ويدرك الجميع أن نعم الله على بني إسرائيل لا تقف عند حد، فهو سبحانه يرد على سؤالهم، ويجيبهم في مسألتهم لموسى، يسألون موسى فيدعو موسى الله تعالى، فيجيبه والله هو الواسع الكريم الذي لا يمل من كثرة الدعاء، والذي يعطي من سأله ومن لم يسأله، ويتجلى الإطلاق في البعث على الدعاء بقوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
وتدل الآية في مفهومها على إخبار بني إسرائيل إن الله تعالى قريب منهم وأنه سبحانه يجيب مسألتهم ودعاءهم بقيد الإيمان ، وفيه دعوة لهم لإجتناب إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أوتكذيبه، لأن دعاء النبي مستجاب.
كل مرة يتكرر فيها السؤال من بني إسرائيل هو لطف مركب من وجوه:
الأول : إنصات موسى عليه السلام لبني إسرائيل في أسئلتهم المتكررة في الموضوع المتحد وهو ذبح البقرة.
الثاني : مجئ السؤال عقب السؤال مع تعليق إستجابة بني إسرائيل، فمن الآيات أن الإستجابة الإلهية لهم تتكرر كل مرة، من غير أن يقوم بنو إسرائيل بالإمتثال.
الثالث : إختتام هذه الآية الكريمة بقوله تعالى[فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ] وفيه لطف إضافي بحث وترغيب بني إسرائيل بالإمتثال، ويدل بالدلالة التضمينية على كراهة الزيادة في السؤال وطلب التفصيل عن ماهية البقرة التي يراد ذبحها.
الرابع : توثيق أسئلة بني إسرائيل، والفضل الإلهي عليهم في القرآن، وهذا التوثيق نعمة إضافية عليهم، وشاهد سماوي على تفضيلهم على الأمم الأخرى بذكر خصالهم وما رزقهم الله عز وجل من الإستجابة لأسئلتهم في مسألة تخصهم وهي كشف القاتل ومنع الفرقة والخلاف بين الأسباط.
وتبين هذه الآيات الخاصة بذبح البقرة أن المعجزة الإلهية تأتي لتؤسس مفاهيم عقائدية وقيماً أخلاقية تساعد في تثبيت أركان التوحيد في الأرض، وتمنع من حصول الفتنة والإختلاف بين المسلمين وأتباع الأنبياء ، وهو من اللطف الإلهي الذي خص الله عز وجل به بني إسرائيل في المقام، ليكون شاهداً على اللطف الإلهي بالمسلمين من باب الأولوية القطعية، وقد تجلى في آيات قرآنية كثيرة منها[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( ) وقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) وآيات الصلح وغيرها.
الخامس : إعانة بني إسرائيل على المبادرة إلى الإمتثال من وجوه:
الأول : الإستجابة لكل سؤال من أسئلتهم.
الثاني: حثهم على الفعل والإمتثال لقوله تعالى في الآية [فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ].
الثالث : الحصر والتعيين للبقرة المطلوبة في الإجابة على أسئلتهم.
الرابع : دلالة الإجابة على أسئلتهم على عدم الحاجة لطلب التفاصيل والصفات الدقيقة وماهية البقرة التي يراد ذبحها.
إفاضات الآية
تبين الآية رشحات فضل الله تعالى على بني إسرائيل في الكليات والجزئيات التي تلحق بها، فقد أمرهم سبحانه بذبح بقرة ليكون إحياء الميت بواسطتها فيريهم آياته، وقدرته على البعث بأسباب حسية تلفت إنتباههم ، وتجعلهم يدركون بالمعاينة والوجدان حصول بعث شخصي بسعي جماعي يتجلى بإمتثال لأمر الله بالواسطة .
وهل في الآية بشارة الإرتقاء العلمي في أحياء بعض الموتى بعد وفاتهم بوقت قصير كالذين يموتون بالنوبة القلبية، والجلطة الدماغية وبعض حالات القتل وما شابه، الجواب نعم، وفيه ترغيب بطلب العلم في الإجتهاد في هذا الباب ففي قوله تعالى [كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا] ( ) ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه كان يجد عند مريم عليها السلام فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف.
وتجد هذه الآية في هذا الزمان بالوسائل العلمية والتقنية كالزراعة المغطاة ووسائط النقل السريعة وغيرها.
والله هو القادر على أن يبعث القتيل من بني إسرائيل بالكاف والنون، وفي التنزيل[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
ومن مفاهيم الآية ذم بني إسرائيل في ردهم على موسى عليه السلام فهذا الرد لم يظهر إستجابتهم وندمهم وإعتذارهم عن سوء التصرف مع مقام النبوة والرسالة، بل إستمروا في العناد ولكن بنوع جديد من التحدي ولطلب التفصيل وما فيه من التشديد الزائد، وجاء لفظ البقرة على نحو النكرة والقضية المهملة، وهو أمر يغني عن السؤال عن الماهية.
وفي إستجابة الله تعالى لهم آية إعجازية أخرى “قال إنه يقول” وهو فضل توليدي متجدد، وتدل الآية على أن موسى عليه السلام لم يكن عبوساً غليظاً معهم، ولم يحاول إقناعهم بالإكتفاء بالأمر الأول الإجمالي والإمتناع عن التشديد في السؤال بل توجه إلى الله تعالى رجاء الإستجابة مع علمه بحصول البيان من الأمر الأول.
ترى لماذا لم يرشدهم موسى عليه السلام للإكتفاء بذبح بقرة وإخبارهم عن حصول الإمتثال بأي بقرة خصوصاً مع علمه بما في التشديد على النفس وكثرة السؤال من المشقة.
ولا دليل على إنتفاء هذا الإرشاد بل يتجلى بحثهم على المبادرة لشراء وإحضار البقرة , وعلى فرض إنتفائه فالظاهر أنه يخشى العناد وسوء التأويل وعدم قبول النصيحة خصوصاً وأنهم كانوا يطلبون المزيد من الآيات والبراهين الحسية، ويتكرر عندهم الأمر في كل مرة، فأراد الله ان تكون مسألة البقرة عبرة وتأديباً لهم وموعظة لغيرهم من الأمم، نعم بعد تفضل الله تعالى بالإستجابة وإخبار موسى عليه السلام بالوحي حثهم على الكف عن السؤال والتشديد على النفس فما ورد في الآية الكريمة [فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ] هو من كلام موسى عليه السلام وفيه توكيد على الأمر في الجملة الخبرية في الآية [إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ] ولدفع الوهم والشك.
فحينما يشق عليهم إيجاد البقرة ذات الأوصاف الخاصة أو أن ثمنها مرتفع فقد يتجه البعض منهم إلى القول بان هذه الأوصاف جاءت بصيغة الخبر وعقب السؤال الإضافي ويدعي كفاية الإستجابة للأمر الأول الذي جاء بصيغة “إفعل” ولغة الأمر والجملة الإنشائية “ان الله يأمركم” وهذا البيان من موسى عليه السلام رأفة وإعانة لبني إسرائيل على حسن الإمتثال، ورؤية الآيات الباهرات.
ومن مفاهيم الآية أنها تأديب للمسلمين ، وحث على إختيار الوسط في الأمور خاصة عند حصول العلم الإجمالي والترديد في الأمور التشكيكية التي لها مصاديق كثيرة متباينة قوة وضعفاً.
وفي علم الأصول وعند دوران الأمر بين الأقل والأكثر فان الأقل يجزي في الإمتثال، والإحتياط يقتضي الأكثر، وليس من أكثر في المقام إلا الذي جاء عن طريق تشديدهم على أنفسهم، ليخرج عن موضوع الدوران بين الأقل والأكثر.
لذا فإن الآية تنهى عن التشديد على النفس وتدعو للإنتفاع مما في الشريعة من السماحة والتخفيف، وتبين نزول النعم العظيمة بأقل وأدنى الأسباب.
الصلة بين أول وآخر الآية
بعد أن ذكرت الآية السابقة أمراً من الله إلى بني إسرائيل بواسطة موسى عليه السلام بذبح بقرة، ورد بني إسرائيل على موسى، وإستعاذة موسى عليه السلام من الجهل والغفلة، إبتدأت هذه الآية بقول آخر لبني إسرائيل في نفس موضوع البقرة إذ سألوا موسى أن يسأل الله عز وجل ليبين سن البقرة وبعض صفاتها.
وقال بنو إسرائيل[ادْعُ لَنَا رَبَّكَ] أي إسأله من أجلنا، وفيه إخبار بحاجة بني إسرائيل لهذا السؤال، وهذه الحاجة ليست في أصل السؤال لأنه من التشديد على النفس، وذبح البقرة مقدمة ووسيلة لكشف القاتل، وفيه رجاء وتوسل لموسى عليه السلام، ونوع إعتذار مما صدر منهم أزاءه ونعت كلامه بأنه إستهزاء بهم.
إذ يدل كلامهم هذا على إدراكهم بأن موسى عليه السلام ينقل لهم أمر الله عز وجل وأنه لم يستهزأ بهم، ومن فضل الله عز وجل على بني إسرائيل أن الجواب جاء من عند الله عز وجل على سؤالهم، وأن موسى عليه السلام لم يمتنع عن التوسل إلى الله.
لكنه لم يقل لهم إذبحوا أي بقرة تجزيكم ولا تشددوا على أنفسكم، وفيه نكتة وهي أن موسى عليه السلام لا يتكلم من عنده بل يلجأ إلى الله عز وجل ويسأله ما سأل بنو إسرائيل وينتظر الأمر الإلهي، فجاء الجواب هنا، فأمرهم الله بأن تكون وسطاً ليست بالكبيرة ولا الصغيرة، فهي قوية ومن أحسن البقر.
وهل من صلة أو ملازمة بين كون البقرة وسطاً في السن، وبين القاتل أو المقتول بأنه وسط في عمره وأنه ليس بالكبير ولا الصغير، الجواب لا دليل على مثل هذه الصلة والملازمة.
وإذ أختتمت الآية السابقة بإستعاذة موسى عليه السلام فإن هذه الآية أختتمت بحثه وطلبه من بني إسرائيل بأن يمتثلوا لأمر الله عز وجل، ويبادروا إلى ذبح البقرة بالصفات التي ذكرتها هذه الآية، وفيه مسائل:
الأولى : اللطف الإلهي ببني إسرائيل بمنع التشديد على النفس، وهذا اللطف من عموم النعم عليهم.
الثانية : الإشارة إلى أن الله عز وجل رؤوف رحيم بالعباد لا يريد لهم التشديد على أنفسهم.
الثالثة : إن بيان صفات البقرة في هذه الآية جزء من الأمر الإلهي بذبحها وكشف القاتل.
الرابعة : إعانة موسى عليه السلام لبني إسرائيل في الإمتثال وإجتناب الترديد والتشديد على النفس.
الخامسة : إحتراز موسى عليه السلام من قول محتمل لبني إسرائيل فيما بعد لماذا لم تطلب منا وقف التشديد على النفس، وأنهم لا يعلمون كفاية صفة واحدة في البقرة لذبحها، فجاء كلام موسى عليه السلام عوناً لبني إسرائيل.
وجاء قوله تعالى[عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ] لبيان الدقة في الحكم، ودعوة بني إسرائيل لعدم الرجوع بالسؤال بخصوص سن البقرة، لأن الوسط هنا من الكلي المشكك الذي يقع على أفراد كثيرة، وأعمار متقاربة من البقر بين الكبيرة والصغيرة.
ومن العلماء من إحتج بقوله تعالى[عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ] على جواز الإجتهاد وإستعمال غالب الظن في الأحكام إذ لا يعلم أنها بين البكر والفارض إلا بالإجتهاد ولكن الصفات الأخرى للبقر ة جاءت لتقيد الحصر والتعيين، وعدم الترديد.
ومن الإعجاز في هذه الآيات أن الصلة فيها لا تكون فقط بين أول وآخر الآية، بل تكون مع الآية السابقة والآية التالية لوحدة الموضوع وهو ذبح البقرة وبيان صفاتها، ولم يأت موضوع الصفات إلا بعد سؤال بني إسرائيل، ومع أن اسم الإشارة[ذَلِكَ] للمفرد فقد جاء للإشارة إلى صنفين من البقر الفارض والبكر، وتدل على المعنى القرينة المقالية وإرادة إجتناب كل واحد منهما على حدة، وفيه نكتة وهي وحدة جنس البقر وأن الأصل هو الإجزاء بذبح أي بقرة , والتعيين ببقرة يخرج العجل وهو ولد البقرة الأهلية , و(الثور وهو الذكر من البقر )( ).
وتبين خاتمة الآية أن موسى عليه السلام ندب وحث بني إسرائيل على المبادرة إلى ذبح البقرة بالوصف الذي ذكرته هذه الآية أي كونها وسطاً بين الكبيرة والصغيرة، وهو جزء من الأمر الإلهي الخاص بصفات البقرة.
وتدل الآية على أن الوصف ليس فيه تشديد على بني إسرائيل إنما يبين مسألة في الذبح الذي يتقرب به إلى الله تعالى.
التفسير الذاتي
ورد قوله تعالى “أدع لنا ربك” ست مرات في القرآن، كلها في موسى عليه السلام، خمسة منها خطاب من بني إسرائيل( )، ثلاثة منها في قصة البقرة وحدها، والسادس نداء من فرعون وقومه [وَقَالُوا يَاأَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ]( ).
لقد طلب بنو إسرائيل من موسى عليه السلام أن يبين الله عز وجل لهم صفات البقرة التي يراد منهم ذبحها، فتفضل الله عز وجل بإجابتهم وانها ليست بالهرمة ولا بالصغيرة، فهي وسط بينهما.
وأختتمت الآية بالأمر بذبحها والذي يدل في مفهومه على الحث على المبادرة لذبح أي بقرة وسط بين الكبيرة والصغيرة والكف عن طلب تفاصيل أخرى عن البقرة، لقوله تعالى [فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ].
ففي الآية قبل السابقة يجزي ذبح أي بقرة ويتحقق بها الإمتثال للغة التنكير في قوله تعالى [أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً] ( )، أما في هذه الآية فجاء تقييدها بلحاظ السن مع حث بني إسرائيل للمبادرة إلى ذبحها لأنها نوع طريقية للكشف عن القاتل وفضحه.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى : بيان تفاصيل ذبح بني إسرائيل للبقرة التي يتم بها كشف الجاني.
الثانية : جواز ذبح البقرة والإنتفاع منه.
الثالثة : تدل الآية على أن بني إسرائيل أصبحوا ذوي أموال ومواشي، ويمتلكون الأنعام.
الرابعة : إن كثرة الرد من بني إسرائيل وإستجابة الله تعالى لهم تدل على رحمة الله تعالى ببني إسرائيل.
الخامسة : جاءت خاتمة الآية بصيغة الإطلاق في لزوم إمتثال بني إسرائيل لما يأمرون به، وفيه وجوه:
الأول : حمل الأمر الإلهي على الوجوب وحرمة الترك.
الثاني : إجتناب التسويف والتأخير.
الثالث : ما يأمر به موسى عليه السلام من أمر الله تعالى.
الرابع : إن موسى عليه السلام ينطق بالوحي وهو كليم الله.
الخامس : بيان نعم الله تعالى على بني إسرائيل، ونزول الإجابة بما يكون عوناً لبني إسرائيل في الإمتثال، فمضامين هذه الآية لطف محض، وتقريب لبني إسرائيل للإمتثال، وعدم حدوث الفرقة والخلاف بين بني إسرائيل، لأن ذبح البقرة جاء لفك الخصومة بآية إعجازية تزيدهم إيماناً، وتجعلهم ينفرون من المعاصي، ويحرصون على التقرب إلى الله تعالى بالطاعة والبراءة من المجرمين الذين يعيثون في الأرض فساداً وهو من النعم العظيمة التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل.
في الآية مسائل:
الأولى : بيان تشديد بني إسرائيل على أنفسهم.
الثانية : الإخبار الإلهي عن سؤال بني إسرائيل عن حال البقرة وهل هي من العوامل أو السوائم التي ترعى، ولا تعمل في الحرث.
الثالثة : تكرار بني إسرائيل سؤال موسى عليه السلام بقوله تعالى[ادْعُ لَنَا رَبَّكَ]ثلاث مرات ولم يقولوا مرة منها (أدعو لنا ربنا).
الرابعة : بيان فضل الله على بني إسرائيل، وما جاءهم به من النعم وهي في المقام على وجوه:
الأول : سؤال الله عز وجل بواسطة رسوله موسى عليه السلام.
الثاني : مجئ الجواب من عند الله إلى بني إسرائيل.
الثالث : وقوع السؤال والجواب الإلهي في الأحكام الجنائية، وفصل الخصومة في قضية شخصية.
الرابع : تكرار سؤال بني إسرائيل، وتعقب الإجابة الإلهية له فمع كل تكرار للسؤال وطلب للتفصيل نعمة إضافية على بني إسرائيل.
الخامس : دعوة بني إسرائيل للكف عن المسألة والترديد.
الخامسة: إعانة المسلمين في الإحتجاج على بني إسرائيل، وبيان عظيم فضل الله عليهم.
التفسير
قوله تعالى [قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ]
بعد أن نفى موسى عليه السلام عن نفسه نسبة الإستهزاء بهم وأيقنوا بوجود ملازمة بين أمره بذبح البقرة وبين موضوع القتل الذي جاءوا من أجله طلبوا التفصيل، يدل هذا الطلب في ظاهره على القبول والتسليم، أما إحتمال أنه للإختبار والإستقراء فهذا بعيد لقرائن عديدة منها إقرارهم بمقام النبوة وأنهم جاءوا طلباً للحل، كما يدل عليها إقدامهم على ذبحها فيما بعد.
لقد سألوا موسى عليه السلام أن يتوجه إلى الله تعالى في الدعاء والمسألة لبيان صفة هذه البقرة.
وفي الآية عدة مسائل:
الأولى: هل الدعاء بمعنى السؤال كما في قوله تعالى [ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ]( ) أم أنه بمعنى صفة الخشوع والخضوع والسؤال.
الأرجح هو الثاني لما في البيان من صفة إعتبارية زائدة تدل على اللطف والرحمة وهو أمر يستلزم الدعاء والتوسل للحصول عليها.
الثانية: في الآية إقرار من بني إسرائيل بصدق نبوة موسى عليه السلام وإخباره عن الله عز وجل.
الثالثة: إنهم لم يقصدوا الكفر والجحود في قولهم [ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ].
الرابعة: إن حالة بني إسرائيل العقائدية قد تحسنت ، وأن الإيمان أصبح ظاهراً ومتعارفاً عندهم.
الخامسة: إنهم جادّون في مسألة البقرة، إنما أرادوا البيان بغض النظر عما فيه من التشديد، ولعل نفراً منهم يظنه من الإحتياط.
السادسة: لا يترددون في سؤال موسى عليه السلام وإبداء ما في نفوسهم له، أي أنه عليه السلام كان لين العريكة معهم قريباً منهم.
السابعة: مرجوحية كثرة السؤال، لم تمنع من الإستجابة مطلقاً.
الثامنة: إن نعم الله تعالى على بني إسرائيل متصلة وواسعة وتشمل الأصول والفروع، وتراها ظاهرة في المجمل من الأمور والمبين.
وقولهم [ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ] يدل على الإطلاق والسؤال عن الحقيقة والذات والماهية ولم ينحصر سؤالهم في صفاتها، وذكر السن في الجواب يدل على أثره في الماهية، فبين الله عز وجل بفضله سنها وانها ليست بالكبيرة ولا الصغيرة متوسطة بينهما، وفي هذا البيان رحمة وتخفيف لتعدد المطلوب، وكثرة البقر بهذه السن وسهولة الحصول عليها.
وجاء سؤال البيان لعامة بني إسرائيل ويدل عليه سور الموجبة الكلية الضمير(نا) وهل يدخل فيه موسى عليه السلام أم أنه خارج بالتخصص أو التخصيص، الجواب إنه خارج بالتخصيص، فموسى لم يطلب هذا البيان والتفصيل، وتدل عليه خاتمة الآية (فافعلوا ما تؤمرون) من جهات:
الأولى : بعث موسى عليه السلام لقومه للمبادرة بذبح البقرة.
الثانية : أمر موسى لقومه بالتعجيل في ذبح البقرة لدلالة الفاء في(فأفعلوا) على الفورية ولزوم عدم الإبطاء.
الثالثة : لقد أراد بنو إسرائيل بيان صفات البقرة من الله، فبلّغهم موسى عليه السلام بصفاتها وأكد لهم أن الله يأمرهم بذبحها بقوله تعالى[فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ] وكأنه منزلة بين الوجوب العيني والكفائي، وفي علم الأصول يقسم الواجب إلى قسمين:
الأول : الواجب العيني.
الثاني : الواجب الكفائي .
وتبين الآية الكريمة تخلف هذا التقسيم عن مصاديق ومراتب الأمر والواجب من الله عز وجل، وكأن هناك قسيماً ثالثاً للقسمين أعلاه وهو لزوم تعاون الجميع في مقدمات وتهيئة أسباب الفعل .
وصحيح أن الإمتثال قضية شخصية وهي ذبح بقرة واحدة إلا أن السؤال جاء من الجميع وكذا الأمر توجه لهم جميعاً ليهبوا ويبادروا إلى ذبحها، لتتجلى حقيقة وهي أن موسى عليه السلام هو الآخر يريد إمتثال بني إسرائيل لأمر الله، وكشف الجاني والإعانة على منع التجرأ في الدماء والقتل بين بني إسرائيل .
لقد أراد موسى عليه السلام بيان مسألة لبني إسرائيل وهو أن الأمر الإلهي لهم بذبح بقرة خير محض، وهو رحمة بهم وإكرام وتفضيل لهم، ولم تؤمر أمة مثلهم بذبح بقرة , وصيرورته مقدمة وآلة للكشف عن صاحب الجناية، وما يلحق هذا الكشف من لحوق الخزي به بين بني إسرائيل وسؤالهم.
وجاءت ما الإستفهامية في محل رفع بالإبتداء , ويؤتى بها لوجوه منها:
الأول: بيان وشرح الاسم , وفي التنزيل[قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
الثاني: يسأل بها عن الماهية وإرادة طلب التفصيل.
الثالث: السؤال عن الفعل والحال , كما في قوله تعالى بخصوص موسى عليه السلام [قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ]( ).
والوجوه أعلاه من مصاديق الآية الكريمة خصوصاً وأن بني إسرائيل يتطلعون إلى البيان والتعيين في علامات وأوصاف البقرة التي أمرهم الله بذبحها.
قوله تعالى [قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ]
تتجلى في هذه الآية بعض مفاهيم النبوة وعظيم منزلتها عند الله وفيها سر من أسرار الخلافة في الأرض بقرب موسى عليه السلام من الله عز وجل وتلقيه الجواب دون فاصلة زمانية، والآية خالية مما يدل على سؤال موسى عليه السلام لله عز وجل في مسألتهم وتلقي الإجابة , وهو يحتمل أمرين:
الأول : إنه من الحذف في البلاغة.
الثاني : إن الله تعالى سمع قولهم وأنزل الإجابة قبل أن يتوجه موسى عليه السلام بالسؤال.
الأرجح هو الأول لتقديم الظاهر إلا مع القرينة الصارفة ولأنهم طلبوا من موسى عليه السلام أن يسأل الله عز وجل والله يحب أن يسأله الأنبياء وجميع العباد، قال تعالى[وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي]( ).
وهل الإجابة إكرام لموسى عليه السلام أم لبني إسرائيل أم للجميع الجواب هو الثاني، وأنها لموسى عليه السلام بالأصالة ولهم بالتبعية ولبيان الحجة عليهم وإظهار تشريفه لنبيه بنزول الوحي وسرعة الإستجابة، وهذا التشريف فيض إلهي ينتفع منه الجميع، ومنهم المسلمون بذكرهم وإستحضارهم وتوثيقهم لهذه النعمة والإنتفاع منها كحجة.
لقد أراد الله عز وجل أن يري بنو إسرائيل عظيم قدرته ببعث الحياة بالذي فقدها تذكيراً بالآخرة ، وإظهاراً للآيات.
وكان سؤالهم عن (الماهية) بقولهم ما هي، إذ أن البقر ذو جنس واحد وليس متعدداً , وجاء الجواب ليؤكد أن السؤال كان عن السن او ان السن هو المائز الأظهر عندهم في البقر لإعتباره في الحليب والتناسل والحرث ونحوها، فاخبرهم موسى عليه السلام أن الله سبحانه يقول أنها وسط ليست بالكبيرة الهرمة ولا الصغيرة، بمعنى أنها أفضل أنواع البقر وأحسنها.

قوله تعالى [فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ]
الفاء حرف إستئناف لوقوعه بين جملتين مختلفتين خبراً وإنشاءً، ومن النحاة من نفى مجئ الفاء للإستئناف، وقال إنها في مثل هذه الحال تكون سببية، أن بيان سن البقرة وحقيقتها سبب لإتيانهم بما أمروا به.
وفي الآية نعمة ولطف لوجوه:
الأول: توكيد الأمر الأول.
الثاني: التعجب لإتيانه بصفة ذات أفراد عرضية وطولية كثيرة ومتيسرة.
الثالث: الحث على الإستجابة والفعل.
الرابع: نعتهم بأنهم مأمورون، والآيات تدل بوضوح على أن الأمر من عند الله عز وجل كما في قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام [ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ] وإن جاء بواسطة نبيه عليه السلام.
الخامس: دعوتهم لنبذ العنت وكثرة السؤال.
السادس: معاني الإكرام في لغة الخطاب وهي من مصاديق تفضيلهم بقوله تعالى [اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلى الْعَالَمِينَ]( )، وهي حجة عليهم وحث على الإلتزام بما يأتي به الأنبياء من عند الله عز وجل.
السابع: ما تدل عليه الآية في مفهومها من وجوب تصديق الأنبياء والإنقياد لهم.
الثامن: التحذير والتنبيه إلى إجتناب إعادة السؤال والتعمق في التكليف بالمبادرة إلى إتيان المأمور به.
التاسع: وجود وسهولة نيل المأمور به.
العاشر: التعجيل من أجل حل المعضلة التي حضروا من أجلها.
وجاءت الآية بصيغة الفعل المضارع وفيه وجوه:
الأول : إرادة الإمتثال للأمر الإلهي بذبح البقرة.
الثاني : تلقي الأوامر التالية في أوصاف البقرة بالفعل والإمتثال، وكأن موسى عليه السلام يخبر عن عزمهم السؤال مرة أخرى عن صفات أخرى للبقرة.
الثالث: مجئ الفعل بصيغة المضارع وإرادة الماضي والتقدير فافعلوا ما أمرتم.
الرابع: صدق لغة المضارع على الأمر المتوجه لبني إسرائيل بلحاظ أنه متجدد مع آنات وأفراد الزمان الطولية إلى حين الإمتثال.
الخامس : بيان رغبة موسى عليه السلام بحسن موضوع ذبح البقرة، وفك الخصومة ودفع الفتنة.
السادس: تأكيد موسى عليه السلام لحقيقة أنه لم يكن مستهزءً أو ساخراً ببني إسرائيل.
السابع: لما نفى موسى عليه السلام عن نفسه الجهالة ندب قومه إلى المبادرة إلى ذبح البقرة، فكما كان جاداً معهم في الأمر بذبح البقرة فانه جاد وناصح لهم في لزوم الإمتثال بذبحها، ويريد منهم محاكاته بطاعة الله.
وجاءت الآيات التالية تفسيراً لقوله تعالى (فافعلوا ما تؤمرون) لما فيها من البيان وذكر تفاصيل القصة كما في قوله تعالى[وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( )، و[فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا]( ).
فقد أراد الله عز وجل كشف الجاني الذي تعدى وظلم وقتل في بني إسرائيل وأخفى جنايته وأن هذا الكشف لا يتوقف على علة محصورة وسبب متحد ومقدمة يقوم بها بنو إسرائيل، فلو لم يذبحوا البقرة لإتضح أمر القاتل أيضاً سواء بوحي من الله لموسى عليه السلام أو ضرب الميت أو الجاني بالعصا، أو آية أخرى، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
بحث بلاغي
أصل السجع صوت الطير، قيل سميت الحمامة سجعاً من باب نفع أي هدرت وصوتت , وقيل الهديل والهدير للحمام , والسجع للقمري واللقلقة للقلق، والبطبطة للبط والصفير للنسر , (وفي المثل: لا آتيكَ ما سَجَعَ الحَمامُ يريدونَ الأَبدَ عن اللِّحيانيِّ)( )، والسجع هو الكلام المقفى والتوالي على وزن واحد، فيقال سجع الرجل كلامه أي نظّمه وجعل أواخره متشابهة كقوافي الشعر، والجمع أسجاع وأساجيع.
ويمكن ان يقال ان بينه وبين الشعر عموماً وخصوصاً مطلقاً فكل شعر هو سجع وليس كل سجع هو شعر، وقد يقع السجع من غير قصد خصوصاً عند البليغ وحال إتصال الكلام ( وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إِياكم وسَجْعَ الكُهّان وروي (أَنه نهى عن السَّجْعِ في الدُّعاء قال الأَزهري إِنه صلى الله عليه وآله وسلم كره السَّجْعَ في الكلام والدُّعاء لمُشاكلتِه كلامَ الكهَنَة وسجْعَهم فيما يتكهنونه فأَما فواصل الكلام المنظوم الذي لا يشاكل المُسَجَّع فهو مباح في الخطب والرسائل)( ).
ومن إعجاز القرآن أنه منزه عن السجع الذي يستطيع بعض الناس البلغاء الإتيان به، لقد أبى الله إلا أن ينفرد القرآن بخصائص غاية في البلاغة والفصاحة تجعل الجميع يتصاغرون أمام عظمته بالإضافة إلى ما في هذه الخصوصية والإنفراد من حلاوة وعذوبة، فلا غرابة أن تسمع كبار بلغاء العرب من المشركين يقفون صاغرين مبهورين متحيرين أمام بلاغة القرآن.
وفي هذا الباب ذكرت أقوال:
الأول: لأن القرآن من صفات الله عز وجل فلا يجوز وصفه بصفة لم يرد الإذن بها وإن صح المعنى.
ولكن القرآن ليس صفة لله تعالى بل هو كلامه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والكلام غير المتكلم وهو كالشعاع بالنسبة للشمس والمغايرة بينهما ظاهرة، وإن كان هذا المثل لا يرقى للتشبيه ولكنه لتقريب المعنى للأذهان.
وفي كلام الإمام علي عليه السلام في إثبات الصانع: (ليس له صفة تنال ولا حد يضرب له فيه الإمثال).
الثاني: قالوا: السجع هو الذي يقصد في نفسه ثم يميل المعنى عليه، والفواصل التي تتبع المعاني ولا تكون مقصودة في نفسها.
وهذا التفصيل حسن، أي ان البليغ والمتكلم يقصد السجع عن إختيار له بذاته ليكون موافقاً لآخر الجملة التي سبقته، ولكنه لا يحيط بمعاني الفواصل القرآنية، فقد تكون مرادة بذاتها للإعجاز المركب، اعجازها كفاصلة وعدم مناسبة غيرها من المرادفات ولموضعها في الآية القرآنية، فلو جئت بالمرادف وإن كان مشابهاً في لفظه فانه لا يستطيع أن يؤدي ذات المعنى وهذا من إعجاز القرآن.
الثالث: قال الرماني في كتاب إعجاز القرآن: (أن الفواصل بلاغة والسجع عيب)، وتبعه القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن.
ونعت السجع بأنه عيب لم يثبت بل الواقع خلافه لما فيه من النظم والعناية والحاجة إلى العلم الكسبي، وسعة الإطلاع في مفردات اللغة وما لها من المعاني وإستحضار المترادفات، ولما فيه من الطلاوة والعذوبة.
فتنزه القرآن عن السجع ليس لأن السجع عيب بل لأن القرآن كله إعجاز فجعله الباري عز وجل فوق كلام البشر جميعاً وليكون حجة وبرهاناً على صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتراه متضمناً لأساليب البلاغة كلها مع خروجه سهلاً سلساً من غير تكلف ولا شدة.
إن نعت السجع بأنه عيب لا أصل له، ويحرم الناس من تجلي حقيقة قرآنية وهي أن السجع مع ما فيه من العذوبة والحسن والجمال فان القرآن مستغن عنه وجاء بما هو أرقى منه.
وفي هذا الزمان قل إستعمال السجع في الكلام والكتب المؤلفة، ولا يمكن أن يكون السبب هو فقد المقتضي بل لعله في أحيان كثيرة وجود المانع عند المتكلم أو السامع أو المؤلف لما يحتاجه السجع من جهد إضافي، ومؤونة زائدة في إختيار الإلفاظ المناسبة والمتابعة.
وسواء إستمر الكلام المسجع أو لا، فان الحالتين تدلان على إعجاز القرآن مطلقاً، وإعجازه أيام التنزيل حيث الكثرة والتعدد للفصحاء من العرب.
وقال الأشعرية بخلو القرآن من السجع (ونص عليه الشيخ ابو الحسن الأشعري في غير موضوع من كتبه) ( ).
وأثبت آخرون السجع في القرآن، وزعموا أنه مما تبين فيه فضل الكلام وأستدل عليه بقوله تعالى [ هَارُونَ وَمُوسَى ]( ) لملائمته للسجع مع أن موسى أفضل من هارون.
وصحيح أن موسى عليه السلام أفضل لأنه من الرسل الخمسة أولي العزم، وهارون أصبح نبياً ووزيراً له بدعاء موسى عليه السلام، ولكن التقديم أعم من الأفضلية والسجع , لأن آيات كثيرة ونصوصاً من السنة النبوية الشريفة قد بينت أفضلية موسى عليه السلام بالإضافة إلى تفضيل الرسل على مجموع الأنبياء، فاذن لابد للتقديم في المقام من خصوصية مثل:
الأول : جاءت الآية حكاية عن لسان السحرة، قال تعالى [ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سجداً]( ) .
الثاني: كان هارون محبوباً عند بني إسرائيل.
الثالث: لم يعرف السحرة المائز بين الإثنين ، وهذا نقص عندهم ودليل عدم علمهم بالغيب وأسرار ومرائب النبوة.
الرابع: تدل الآية على وحدة جهاد الأنبياء.
الخامس: إن هارون عليه السلام لم يكن مؤازراً لموسى عليه السلام فقط، بل كان قائداً ورائداً في جهاد الكافرين كما هو حال موسى عليه السلام في إشارة إلى وظائف الوزارة النبوية.
السادس: كان هارون صاحب آيات باهرات إنجذب لها السحرة.
السابع: السحرة ليسوا من المؤمنين الذين يعرفون الفارق الرتبي بين موسى وهارون عليهما السلام.
الثامن: إن الله عز وجل أراد اللبس عليهم حفظاً لموسى عليه السلام من قصده بالذات للإنتقام منه، فقد ينتقم صاحب السلطان عند خسارته ودحره.
التاسع: التعدد في كيفية ذكر القصة الواحدة ،ولابد لهذا التعدد من دلالات عقائدية.
العاشر: أراد السحرة التورية واللبس على فرعون، والدفع عن موسى عليه السلام.
الحادي عشر: جاء قوله تعالى [ هَارُونَ وَمُوسَى ]( ) لبيان عدم دلالة التقديم على الأفضلية، والإستدلال بهذه الآية على حقيقة وهي: أنه لو جاء تقديم فلا يدل على الأفضلية إذا كانت هناك قرائن تدل على المدعى. كما في المقام، فان القرائن تدل على افضلية موسى عليه السلام وإن قدم هارون عليه السلام.
الثاني عشر: سمو مرتبة النبوة، وجواز تقديم اسم نبي على نبي آخر.
الثالث عشر: كان هارون أكبر سناً من موسى ولعل السحرة جعلوا له موضوعية.
وأستدل على السجع بقوله تعالى [ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ]( ) ولكنه أعم وأوسع من السجع وأحكامه الأدبية، فالصيغة القرآنية وحدها عالم علمي وبلاغي مستقل تتفرع عنه علوم متعددة، الأمر الذي يملي علينا ان لا نقف عند حدود السجع ونحوه من المصطلحات البلاغية.
وقد ترد بعض الفواصل بما يشبه السجع ولكنه ليس سجعاً بل جزء من إعجاز القرآن، ولو تنزلنا وقلنا بوجود السجع في القرآن فانه لا يضر بإعجازه حتى في ذات الكلمة والسجع نفسه، إذ أن القرآن نزل بلغة العرب وعاداتهم في المخاطبة وطرقهم في البلاغة، ويمثل السجع مرتبة عالية فيها، والسجع القرآني يختلف بمضمونه ومعانيه المتعددة وهو حجة , ظاهراً وباطناً وحداً ومطلعاً.
بحث بلاغي كلامي
جاء قوله تعالى(فافعلوا ما تؤمرون) بصيغة الجمع ولغة المضارع , وفيه وجوه:
الأول: إرادة الأوامر مطلقاً في العبادات والمعاملات.
الثاني: الحث على ذبح البقرة بالصفة التي وردت في الآية السابقة بأنها وسط بين الفارض الهرمة التي لا تلد وبين البكر أي الصغيرة، (وعن ابن عباس: “فِي قَوْلِهِ: “وَلا بِكْرٌ “، قَالَ: يَقُولُ: لَيْسَتْ بِصَغِيرَةٍ ضَعِيفَةٍ”)( )، لتتصف بالقوة والحسن، (قال السدي: في”البكر”، لم تلد إلا ولدا واحدا)( ).
وقيل العوان: النصف والوسط وتدخل فيه التي ولدت بطناً أو بطنين.
والأصل في ظرف المكان بين دخوله (بين) ما تصح التثنية أو الجمع فيه كما في قوله تعالى[وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ]( )، ولكنه ورد في آية البحث باسم الإشارة للمفرد (ذلك) وفيه وجوه:
الأول: المراد عوان ووسط بين ما ذكر من الصفات، (قال رؤبة:
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
قيل له: كيف تقول كأنه؟ وهلا قلت: كأنها، فيعود على الخطوط، أو كأنهما، فيعود على السواد والبلق؟ فقال: أردت كان ذاك)( ).
الثالث: ورد اسم الإشارة بصيغة المفرد والمراد والتثنية بحسب القرآن وموضوع الآية، لأن تثنية وجمع وتذكير أو تأنيث اسم الإشارة ليست على الحقيقة بل للقياس مع متعلقه.
الرابع: مجيء اسم الإشارة للإثنين أو الجمع بلحاظ جامع مشترك بينهما ظاهر في الكلام، فيطلق العرب المفرد ويراد منه المثنى أو الجمع، قال لبيد:
إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل.
أي: كلا ذينك، لدلالة المعنى عليه في بيت الشعر أعلاه بالمثنى(كلا).
الخامس : وجود حذف في الآية يتعلق بالمعطوف لدلالة الآية عليه، والتقدير: عوان بين ذلك وهذا.
السادس : جاء لفظ المفرد في اسم الإشارة لبيان حكم وهو خروج الطرفين الفارض والبكر من الإختيار الواجب، فهما وإن كانا مثنى ولكنهما يشتركان في لزوم إجتنابهما، كما في قوله تعالى[وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً]( ).
السابع : الفارض والبكر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متعددة متفاوتة فمن الفارض من ولدت بطوناً وتلك البطون ولدت، ومن البكر ما كانت صغيرة وضعيفة أو هزيلة، فجمعها أمر واحد وهو الإستثناء، والتقدير: بين ذلك الترك.
الثامن : تأكيد الصفة الملازمة في البقرة المراد ذبحها وهي أنها عوان ووسط في السن، فجمع غيرها وما يقابلها بصيغة المفرد وإن كان متعدداً.
التاسع : المراد من(عوان) أيضاً كلي مشكك يقع على أفراد متعددة في السن تشترك بخصوصية وهي لا يصدق عليها أنها فارض هرمة، ولا بكر صغيرة، وجاء المفرد أيضاً لبيان السعة والمندوحة في إختيار الوسط والعوان، قال تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة وهي شاهد على الإعجاز في دلالات اللفظ القرآني.
وقال الفراء (ثم قال(بين ذلك) و(بين) لا تصلح إلاّ مع إسمين فما زاد، وإنمّا صلحت مع “ذلك” وحْدَه؛ لأنّه فى مذهب اثْنيْن، والفعلان قد يُجمعان بـ”ذلك” و “ذاك”؛ ألا ترى أنّك تقول: أظنُّ زيدا أخاك، وكان زيدٌ أخاك، فلا بدّ لكان من شيْئَين، ولا بدّ لأظن من شيئين، ثم يجوز أن تقول: قد كان ذاك، وأظنُّ ذلك. وإنما المعنى فى الاسمين اللذين ضَمَّهما ذلك: بين الهَرم والشَّباب. ولو قال فى الكلام: بَيْنَ هاتَيْن، أو بين تَيْنِك، يريد الفارِضَ والبِكْرَ كان صوابا)( ).
والمثل بتعدي كان وظن أجنبي عن المقام، وقوله قد كان ذلك، وأظن ذلك، بتقدير محذوف.
وقوله(ولو قال فى الكلام: بَيْنَ هاتَيْن، أو بين تَيْنِك، يريد الفارِضَ والبِكْرَ كان صوابا) ليس المدار على الصواب الذي هو سور جامع لأفراد متعددة، ولكن القرآن يتصف بالإعجاز الخارق للعادة ومنها صيغ البلاغة والبيان، فلفظ هاتين وتينك يحمل على فردين مخصوصين كل واحد منهما عين مؤنث بينما يكون هناك جامع بين كل من طرفي الإستثناء الفارض والبكر فجمعهما اسم إشارة واحد للدلالة على تركها.
وينحل اسم الإشارة في الآية (بين ذلك) إلى أقسام:
الأول: كل بقرة هرمة.
الثاني: كل بقرة بكر.
الثالث: ما تلحق بالهرمة من البقر كبير السن لأن الآية قيدت الوصف اللازم بأنه وسط بين الهرمة والصغيرة، وما تكون قريبة من الهرمة ليست ب(عوان) أو وسط.
الرابع: ما تلحق بالبكر من العجلة والبقرة الصغيرة ، بحيث لا يصدق عليها أنها وسط بين الكبيرة والصغيرة، أي ما كانت أقرب إلى البكر ليست بعوان , وفيه شاهد بكون القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، لما في نظم لفظه من إجتماع التخفيف والحجة على بني إسرائيل بالتقييد والسعة في آن واحد في أوصاف البقرة المطلوبة وأوصاف البقر الخارج عن الطلب في ذات الموضوع، ليكون موضوعها موعظة للمسلمين ومناسبة للإحتجاج وإستنباط الدروس ومعاني الحكمة ، وبعثهم على الإنشغال بتأريخهم وفق وثائق آيات القرآن, وحثهم على إجتناب الجدل وصيغ الشك والإرتياب بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون كلاً من هذا الإنشغال والإجتناب نعمة على بني إسرائيل في أيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ورحمة نازلة في القرآن من غير أن تنحصر بهم لإتعاظ الناس منها على نحو متجدد ما دامت السماوات والأرض لملازمة حضور وتلاوة آيات القرآن لعمارة الإنسان الأرض.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn