معالم الايمان في تفسير القرآن – سورة البقرة – ج 14

سورة البقرة الآيات (79-86)

المقدمة
الحمد لله فاطرالسماوات والأرض، ذي القدرة المطلقة الذي جعل الحياة الدنيا دار المعجزة، إذ لا زمت الوجود الإنساني فهبطت مع آدم عليه السلام بلحاظ أنه نبي والمعجزة مرآة النبوة وشاهد عليها، وكان هبوطه وحواء الأرض معجزات وآية عظمى تتجلى بها عمارة الأرض بالتقوى والصلاح إلى يوم القيامة، وأمة مؤمنة تجاهد لتعاهد مبادئ التوحيد في الأرض، وحفظ التنزيل من التحريف والتغيير، وتعاقب الأنبياء من ذرية آدم في الأرض ثم صاحبت الناس معجزة القرآن إلى يوم القيامة لأن علومها وكنوزها من اللامتناهي , والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة السالم من المعارضة المقرون بالتحدي .
وفي المعجزة تأكيد للتوحيد وثبات النبوة، وإتصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين مائة وأربعة وعشرين ألف نبي بالمعجزة العقلية وهو القرآن الذي تتجدد آلاؤه، وتتلألأ ذخائره في كل زمان إلى جانب معجزاته الحسية، ومنها ما كان في ميادين الدفاع، ففي كل معركة حضرها وقادها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدد من المعجزات قد بينت إشراقات شطر منها في تفسيري الذي صدر منه والحمد لله أربعة وتسعون جزءً ويصل وفق منهجيته إلى أكثر من ثلاثة ملايين جزءً على العلماء في الأجيال القادمة إتمامه.
وللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزات حسية تتجلى دلالاتها ومعانيها ومنافعها التوليدية ما حلّ الجديدان وهي أكثر من أن تحصى منها مذكور في الكتب وما كان قبل البعثة وبعدها كأنين الجذع الذي كان يخطب عليه كأنين الناقة، وإنشقاق القمر له حينما سأله المشركون، وحديث الغار، ونسج العنكبوت، وكيف عمي على كفار قريش أثره[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( )، ومنها ما يستلزم الإستنباط والإستقرار والإقتباس.
ومن نعم الله عز وجل أن كل آية من آيات القرآن معجزة قائمة بذاتها، وهي معجزة في صلتها مع غيرها من آيات القرآن، لتكون علوم القرآن من اللامتناهي.
ويتضمن هذا الجزء من معالم الإيمان في تفسير القرآن تفسير وتأويل الآيات(79-86) من سورة البقرة ويبدأ بقوله تعالى[فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ] ( )، وذات الآية تخويف وإنذار ووعيد يصدح بتلاوته المسلمون في مشارق ومغارب الأرض كل يوم وليلة في الصلاة وخارجها ليكون من إعجاز القرآن أمور:
الأول : إتصال وإستدامة إنذارات القرآن.
الثاني : توثيق القرآن لأحوال أهل الملل والنحل الأخرى.
الثالث : بيان الخطأ والإثم الذي وقع فيه طائفة من أهل الكتاب بتحريف الكتب السماوية السابقة.
الرابع : تحذير المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً من أهل التحريف والتبديل في التنزيل.
الخامس : دعوة المسلمين للحيطة واليقظة من جهات:
الأولى : حفظ وتعاهد آيات القرآن، ومنع وصول يد التحريف إليه.
الثانية : كشف التحريف الذي طال الكتب السماوية السابقة.
الثالثة : عدم الركون إلى أرباب التحريف والذين ينصتون إليهم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
السادس : بيان شدة عذاب وسوء عاقبة الذين يحرفون ويبدلون التنزيل والكتب السماوية السابقة .
ومن إعجاز القرآن بطلان موضوع وأثر التحريف في الكتب السماوية السابقة , قال تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
لقد أراد الله عز وجل لكلمات وآيات القرآن الحفظ والسلامة من التحريف والتغيير فتفضل ببيان سوء عاقبة الذين قاموا بتحريف الكتب السابقة ، وفي وسط آيات الإنذار هذه جاءت آية للثناء على المسلمين بقوله تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ]( )، وفيه ترغيب بالإسلام، ودعوة لإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من الفرائض والمناسك، وليكون من معاني الإيمان وعمل الصالحات بلحاظ سياق الآيات هو تعاهد التنزيل وحفظ القرآن من التبديل وبيان البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت في الكتب السماوية السابقة .
ومن الإعجاز في الآيات التي يتضمن هذا الجزء تفسيرها مجيؤها بالوعيد بالنار مع بيان علة وموضوع هذا الوعيد وهو التحريف وإكتساب السيئة مطلقاً من منازل الكفر والجحود ليخرج المؤمنون بالتخصص من لغة الوعيد هذه بدليل قوله تعالى[وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ]( ).
ففي كل موطن من القرآن تذكر فيه عقوبة الكفار، يتعقبه ذكر للمؤمنين وثوابهم لبعث السكينة في نفوسهم، وتثبيت أقدامهم في منازل الإيمان، ويدرك الناس المائز والفيصل بين العقاب والثواب.
وفيه شاهد إخبار القرآن عن قانون ثابت وهو أن لغة الإنذار والبشارة مصاحبة للناس في أجيالهم المتعاقبة، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).

قوله تعالى [ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ] الآية 79.
الإعراب واللغة
[ فويلٌ ]: الفاء إستئنافية، ويلٌ: مبتدأ لأنه يفيد الدعاء والتعظيم وبيان عظيم الأمر، وفي اللغة يجوز نصبه على إضمار فعل فتقول ويلاً لزيد، وخبره: للذين.
يكتبون : فعل مضارع، الواو: فاعل، والجملة صلة الموصول.
الكتاب : مفعول به، بأيديهم: جار ومجرور متعلقان بيكتبون، والضمير الهاء : مضاف إليه.
ثم : حرف عطف، يقولون: جملة فعلية معطوفة على يكتبون.
هذا : مبتدأ، ليشتروا: اللام للتعليل، يشتروا: فعل مضارع منصوب بان مضمرة جوازاً، الواو : فاعل. قليلاً : صفة.
به : جار ومجرور، ثمناً : مفعول به منصوب.
الويل في اللغة الهلكة والعذاب، وتأتي للتقبيح وإرادة الهوان والخزي وتأتي للتعجب.
وفي الخبر ويل واد في جهنم لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حره، وعن ابن عباس انه العذاب الأليم (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنه واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره)( ).
في سياق الآيات
بعد أن بينت الآيات السابقة فرق الضلالة والكفر جاءت هذه الآية لتخبر عن أقصى صيغ الوعيد والإنذار لمن يحرف الكتاب، ويقوم معه باثم آخر هو الكذب على الله عز وجل وإدعاء الباطل.
وبالجمع بين هذه الآية والآية السابقة وبلحاظ المغايرة بين الأميين وبين الذين يكتمون الكتاب، تظهر صيغة الوعيد والتخويف في هذه الآية، فمنهم من يتجرأ ويكتب الكتاب من عنده وينسبه إلى التوراة، ومنهم من يصدّق عن أمية وجهل وعدم معرفة الفرقة الأخرى التي ترتكب الخطأ لأغراض الرئاسة والوجاهة والمنافع الدنيوية القريبة فجاء الإنذار المركب من الإبتلاء العاجل والآجل.
وجاءت الآيات السابقة بذكر النعم العظيمة التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل، وجاءت هذه الآية لتضمن اللوم على مقابلة تلك النعم بتحريف الكتاب والإفتراء على الله من قبل فريق منهم، بدل سعيهم جميعاً لتعاهد التنزيل شكراً لله تعالى على نعمة الكتاب والنعم العظيمة الأخرى، وجاءت الآية التالية تتضمن قولاً لا أصل له.
ومن إعجاز نظم الآيات أن الآيتين السابقتين جاءتا بصيغة إخبار المسلمين عن حال فريق من أهل الكتاب فأخبرت الآية السابقة بأن منهم أميين لايفقهون في أمور الدين يتبعون الهوى.
أما هذه الآية فجاءت على نحو القانون والحكم الإلهي لأن مضامينها أعم ولا تنحصر بفريق مخصوص، فهي إنذار إلى يوم القيامة لكل من يحرف الكتاب السماوي، ويدعي أن ما يقوله هو من عند الله لذا جاءت الآية بصيغة الفعل المضارع [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ] وعادت الآية السابقة لتخبر عما يقول فريق من أهل الكتاب، وبيان مضمون قولهم وهو عدم مكثهم في النار مكثاً طويلاً.
وتتضمن الصلة بين هذه الآية والآية التالية إعجازاً في نظم الآيات، وفيه إشارة إلى أن هذا القول هو مما يكتبونه بآيديهم، ويقولون هو من عند الله، وفعلاً لا تستطيع فرقة أو أمة أن تخبر عن حالها في عالم الأخرة والجزاء إلا بنسبة القول إلى الله بنص سماوي أو بالوحي عموماً، أو بتفسيره وتأويله، فاذا قيل ماذا يكتبون ويقولون أنه من عند الله تأتي لآية التالية جواباً [وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً] إلا أن يقال أن الواو التي في أول الآية التالية تفيد العطف والمغايرة والتعدد، وأن هذا القول غير ما يكتبون، وأن الكتابة والإفتراء جاء بخصوص إنكار صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في التوراة.
ولما ذكرت الآية السابقة أهل الكتاب وأن فريقاً منهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني جاءت هذه الآية لذم التحريف وأهله , وتأكيد حقيقة وهي وجود الكتاب الذي يفضح التحريف، وفيه دعوة للجوء إلى القرآن الذي جعله الله[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ولما أخبرت هذه الآية بلغة الوعيد عن قيامهم بالإفتراء وتدوين الكتاب وإدّعاء أنه تنزيل من عند الله جاءت الآية التالية للتحدي في باب العهد والتنزيل[أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا]( )، وفي الجمع بين الآيتين مسائل:
الأولى : فضح الإفتراء واللبس على الناس وقبح التحريف في الكتب السماوية السابقة.
الثانية : إبتدأت الآية التالية بحرف العطف الواو(وقالوا) مما يدل بالدلالة التضمنية على الإقرار بالإثم المترتب على إدّعاء أن التحريف من عند الله، وكأنهم قالوا أن إثمه قليل وقد يدعون إرادة غايات حسنة من هذا التحريف فلم يذكر القرآن التعليل الذي يقصدون لبطلانه ومقدماته فالتحريف محرم بالذات، وليس فيه إلا الضرر والأذى على أصحابه وغيرهم، وأبى الله إلا رحمة الناس فتفضل ببعثه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن بفضح التحريف، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ليكون من مصاديق الرحمة في المقام كشف الناس للتحريف وإجتناب أهله , والقرآن باق والتحريف زائل.
الثالثة : بيان تكرار لفظ(ويل) في آية البحث وإفادته معنى العذاب الأليم في الآخرة للذين يحرفون الكتاب ويتخذونه مكسباً لهم.
الرابعة : مع قيامهم بالتحريف فلم يستطيعوا الإدعاء بأنهم إتخذوا عند الله عز وجل عهداً.
الخامسة : جاءت هذه الآية بصيغة المضارع (يكتبون، يقولون، يكسبون) في دلالة على إستدامة تلبسهم بالتحريف ووردت الآية التالية وزعمهم بأن النار لن تمسهم إلا أياماً قليلة بصيغة الماضي مما يدل في ظاهره على سبق هذا الإدعاء، وكأنهم يعملون تحت مظلته فجاءت الآية لنفسه كأصل للتحريف.
السادسة: بيان قانون كلي وهو أن الله عز وجل يفي بعهده، وهو الذي له ملك السماوات والأرض، قال تعالى[وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ]( ).

إعجاز الآية
التشديد في الوعيد على التحريف وإضلال الآخرين مع إقامة الحجة عليهم وفضح إدعائهم وغاياتهم ووصفها بالقلة الذي يدل في مفهومه على عظيم الثواب على الصدق ونبذ التحريف.
ويتناسب التخويف في الآية مع الأضرار النوعية والعقائدية والأخلاقية التي تصاحب هذه المعصية المركبة وما فيها من الإفساد في الأرض.
وتكرر لفظ (ويل) في الآية ثلاث مرات، ويمكن أن يأتي مرة واحدة وتعطف مضامين الآية عليها، ولكنه تكرر لوجوه:
الأول : إرادة الوعيد على كل فعل مما ذكرته الآية وهي:
الأول : كتابة الكتاب بإيديهم إبتداعاً ونسبته إلى الله عز وجل وإدعاء أنه تنزيل.
الثاني : شراء ثمن، ونفع قليل في الدنيا عوضاً عن التحريف والكلام المبتدع.
الثالث : الكسب الحرام.
الثاني : بيان أن كل فعل مذموم من التي ذكرتها الآية تستحق العذاب الأليم.
الثالث : صحيح أن شراء الثمن القليل والكسب يترتبان على تحريف الكتاب، ولكن الآية تؤكد أن الفرع كالأصل في قبح الذنب الإثم وما يترتب عليه من العقاب.
الرابع : بيان حقيقة التغليظ والشدة في العذاب لبعث النفرة في النفوس من التحريف، وفيه دعوة للمسلمين للتوجه إلى الله بالشكر على نعمة تعاهد القرآن وسلامته من التحريف.
لقد جاء لفظ(ويل) الأول في الآية عاماً شاملاً للتحريف والكسب منه، ثم ورد اللفظان الآخران في البيان والتفصيل والإنذار والتخويف من كسب العرض الزائل من زينة الدنيا بغير حق.
ويمكن تسمية الآية (ويل) وهذه الآية هي الوحيدة التي يتكرر فيها لفظ ويل ، وذكر فيها ثلاث مرات.
وتكرار لفظ (ويل) في الآية من إعجازها، وكأن الأصل هو الأول في قوله تعالى[فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ] وأن الأثنين الآخرين متفرعان عنه، ولكن المعنى أعم، فكل واحد منها وعيد وتخويف مستقل، وإخبار عن الأثام التي تترتب على كل فرد منها .
الآية سلاح
في الآية إخبار عن فريقين من أهل الكتاب أحدهما يقوم بالإفتراء والجعل والوضع، وآخر يتلقى ذلك بجهل وتقرير مع بيان سوء عاقبة هذا الإفتراء وإغواء الآخرين.
وتقدمت بعض أسباب المدد في ثنايا إعجاز الآية بالإضافة إلى ما فيها من شفاء للصدور لسوء عاقبة أعداء النبوة والقرآن.
وليس من دليل على حصر الوعيد في الآية بالآخرة، فيشمل الحياة الدنيا لأصالة الإطلاق، ولأن الأمر يتعلق بالعبادات والعقائد وسلامة الدين وحفظ الجنس البشري ومنع الغواية والضلالة، ومن رأفة تعالى بالعباد أن يعجّل البلاء لمن يجتهد في غوايتهم وإضلالهم، ومن مصاديق الغواية، دبيب الكفر تحريف الكتب السماوية المنزلة
وتدل الآية على الإحتياط في الدين والرجوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن في أحكام الشريعة، والإحتياط سبيل النجاة وعلى إجتناب القول على الله بغير علم.
إن تلاوة المسلم لهذه الآية سلاح مركب من وجوه:
الأول : التنبيه والتحذير من التحريف.
الثاني : الإخبار عن وقوع التحريف في الكتب السماوية السابقة.
الثالث : إمتلاك سلاح وحجة في الجدال والإحتجاج.
الرابع : طرو كل ما يخالف القرآن مما في أيدي أهل الكتاب، والأعراض عنه.
مفهوم الآية
الآية قاعدة كلية وحكم سماوي ثابت متعلق بالفعل وليس بالأفراد والإنتماء الديني، وظاهر الآية ان الوعيد والتخويف متعلق بكبرائهم الذين حرفوا الكتب السماوية السابقة، وغيرهم من الملل الأخرى الذين ينسبون الى السماء والوحي ما يبتدعونه من أحكام وما يأتون به من الأخبار والعقائد، فما في الآية من الإنذار باق إلى يوم القيامة ومتجدد في كل زمان.
ومن مفاهيمها التحذير من الكذب على الله والإفتراء على الأنبياء، قال تعالى[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ]( )، وفيها تحذير من تبديل ما جاء في التوراة والإنجيل من صفات نبي آخر الزمان لمنع إنطباقها عليه صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته وصد الناس عن إتباعه، أي أن الآية توطئة ومقدمة لتصديق الناس بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والإنقياد لما جاء به من عند الله، فهي حرب على أقطاب الكفر في باب الفكر والعقيدة والتدوين، وهل من يحارب الإسلام في التنزيل ويفتري على الأنبياء السابقين بما يضر البعثة النبوية أكثر خطراً وحذراً من الذي يحاربه في ميادين الدفاع.
الجواب لا، من وجوه:
الأول : التحريف في الكتب السابقة أعم من محاربة الإسلام، فليس كل من قام بالتحريف أراد محاربة الإسلام.
الثاني : جاءت آية البحث مدداً للمسلمين للوقاية من التحريف.
الثالث : لقد جعل الله القرآن كتاباً جامعاً مانعاً من ترتب الأثر على التحريف، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الرابع : هذه الآية دعوة للتوبة والإنابة.
الخامس : بعث أهل الكتاب على إظهار الآيات، وكشف أسرار التنزيل، ومضامين البشارات النبوية.
السادس : الآية عون للمسلمين في الإحتجاج وإقامة البرهان.
السابع : تدعو الآية المسلمين إلى عدم الإصغاء إلى التحريف وما فيه شائبة التبديل والتغيير في الكتب السماوية السابقة.
وفي الآية مسائل:
الأولى : سلامة المسلمين من محاربة الآخرين بالسيف والقتال بإسقاط الذرائع وفضح الأسس العقائدية لتلك الحرب.
الثانية : إثبات بطلان وزيف حجة من ينكر نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : تبين الآية قبح مسالك أولئك المفترين في كسب الأموال وجمع الأنصار وحشد الأعوان فما بني على باطل فهو باطل.
الرابعة : الآية إنذار ووعيد وإخبار عن عدم الفلاح بهذا الكسب سواء المادي منه او البشري أو التعبوي لذا ترى الوقائع التأريخية مصداقاً لهذا الإنذار فما مرت الأيام حتى شهد كبراء بني قريظة الهزيمة والإندحار وكانوا سبباً في خسارة قومهم وجلائهم من المدينة.
وكما للآية منطوق يتعلق مصداقه التحريف والضلالة، فان لها مفهوماً من وجوه:
الأول : تحذير أهل الكتاب والناس من أرباب التحريف، وفضحهم والدعوة إلى الإعراض عنهم وعدم الإنصات لهم.
الثاني : تنبيه المسلمين إلى تعاهد القرآن والحيلولة دون ضياع الآيات أو التفريط بها، ولذا ترى المسلمين يحرصون على ضبط حركة الإعراب ويذكرون وجوه الإختلاف فيها وبالأولوية وشواهد كثيرة من علم القراءات والتدوين والتجويد .
ويظهر تأريخ القرآن تعاهد المسلمين لآيات وكلمات وحروف القرآن في أعظم عملية ضبط وتوثيق شهدته الأرض، منذ أن سكنها الإنسان ، وهذا سر يستقرأ من أسرار وإعجاز القرآن , وكأنه عنوان ديمومة الحياة الإنسانية لموضوعية لباس الإيمان فيها.
الثالث: عدم إعتماد الكتب السماوية السابقة التي تعرضت للتحريف، والتنبيه إلى تفشي التحريف بين أهل الكتاب، ومنه تغيير صفات خاتم النبيين والمطابقة لصفاته صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من عند الله.
الخامسة : الإلتفات إلى موضوع التحريف في الكتب السابقة.
السادسة : الإحتراز من التحريف مطلقاً.
السابعة : حث المسلمين على بذل الوسع لتعاهد كلمات وألفاظ ورسم القرآن وحفظه في الصدور وتدوينه.
الثامنة : مجئ الآية بصيغة الجمع، وفيه وجهان:
الأول : تعدد الذين يحرفون الكتاب، ولكن كل واحد منهم يعمل بمفرده وعلى شاكلته.
الثاني : إشتراك جماعة منهم بالتحريف وإتفاقهم على المكر وإرادة التغيير في الألفاظ والمعاني الخاصة بالكتب السابقة.
والصحيح هو الثاني خصوصاً وأن قيام أحدهم بالتحريف يحتاج إلى من يصدقه ويؤيده بما يفيد الشهادة عليه والتواطئ معه.
التاسعة : إبتداء الآية بالتخويف والوعيد , مع تعيين الموضوع وهوالتعدي على التنزيل بتحريفه , وأبى الله إلا فضح أعدائه.
العاشرة : إرادة معنى التنزيل من لفظ[الْكِتَابَ] إذا ورد مطلقاً، والإخبار بأنه لا يكتب ويدون إبتداءاً من البشر، بل ينزل من السماء، وفيه مدح وثناء على الأنبياء، وإخبار بأنهم لا يقولون الكتاب من عندهم بل يتلقونه وحياً من عند الله تعالى، قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) .
وهناك منزلة بين المنزلتين لم تذكرها الآية أعلاه ولكنها تدل عليها وهي النطق عن حكمة ورشاد وتدبر في الأمور، ومع أنها منهج العقلاء، وصاحبها يلقى الثناء من الناس ويتوقى أسباب البلاء بالإختيار، فإن الآية تدل على سمو مرتبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإستغنائه عن هذه المنزلة المحمودة لأن الله عز وجل تفضل عليه بسلاح الوحي , وهذا الإستغناء من مصاديق عصمة النبي , ودليل على حاجة الناس له وأن الذي يقوله يعجز الناس عن الإتيان بمثله، وعلى العقلاء إتباعه والنهل من سنن الوحي.
الحادية عشرة : جاءت الآية بالذم المركب والمتعدد من وجوه:
الأول : كتابة الكتاب إختراعاً.
الثاني : الإفتراء بإدعاء أنه من عند الله.
الثالث : طلب ثمن قليل من طعام الدنيا وجعله سبباً لهذا التحريف، وإتخاذ التحريف وسيلة لكسب المال، والجاه والشأن.
الثانية عشرة : من إعجاز القرآن مجئ الوعيد الخاص على الكسب من الإفتراء، ليكون هذا الكسب من السحت الذي يضر صاحبه.
الثالثة عشرة : في الوقت الذي تبين فيه الآية سوء عاقبة الذين يحرفون الكتاب، فإنها جاءت لفضحهم ومنع تأثيرهم على الناس، ودعوة أتباعهم إلى عدم تصديقهم أو الإنصات إليهم، إذ أن النفوس تنفر من الكذاب والمفتري خصوصاً وأن الله أنعم على الناس جميعاً بأن جعل الإسلام قوياً وأظهره على الدين، ولم يبق سلطان كبير لأهل الإفتراء والكذب على الله، فيستطيع كل إنسان أن يعرض عن الإفتراء ولا يصغي إلى الذين يحرفون الكتاب، وهو من مصاديق توجه الخطاب التكليفي إلى الناس الذكور والأناث بعرض واحد.
الرابعة عشرة : الأصل في الحساب في باب المال على موارد وإنفاق المال، الزكاة، وجاءت هذه الآية تتضمن الوعيد على ذات الكسب وأنه سحت وباطل.
ليكون وبالاً عليهم في الدنيا والآخرة وأن أخذ عن رضا، ومانعاً من الثواب في باب الإتفاق.
وتدل الآية على جهاد المسلمين في تعاهد آيات القرآن وسلامتها من التحريف والتغيير والتبديل ومحاربتهم للتحريف في الكتب السماوية السابقة، من غير تعارف أو تزاحم بين هذا التعاهد والمحاربة، وإجتماعها من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).

الآية لطف
صحيح أن الآية كلها وعيد وتخويف إلا أن هذا لا يمنع من تضمنها لمعاني اللطف الإلهي وأثرها في جذب الناس للإيمان، وإصلاح المجتمعات من التحريف وآثاره الضارة على صاحبه وعلى غيره من الناس، ولا ينحصر أثره وضرره على مكان وزمان التحريف بل يشمل أماكن أخرى وأزمنة لاحقة لتأتي الأيام بآثام وذنوب إضافية تلحق بالذين يحرفون الكتاب حتى بعد وفاتهم، إذ يحملون أوزاراً من ذنوب الذين يأخذون بالتحريف ويعملون به.
ويحتمل الكسب الذي جاء الوعيد بخصوصه وجوهاً:
الأول : ما يكسبونه من تحريف الكتاب.
الثاني : إتصاف جميع ما يكسبون بصبغة الحرام وإن كان من غير التحريف.
الثالث : تعدد وجوه الكسب وموارد المال فيكسبون المال الحلال إلى جانب الحرام.
الرابع : التباين بينهم في الكسب، فمنهم من ينحصر كسبه بالتحريف والإفتراء على الله ورسله ومنهم من تختلط عنده موارد الكسب، ويكون منها ما هو حلال ومنها ما هو حرام.
الخامس : الكسب الحلال فرع من الكسب الحرام، فيلحق به في حكمه، كما لو جمع الأموال من تحريف الكتاب والرياسة بالباطل، ووظفها في التجارة والزراعة فيلحق النماء حكم الأصل.
السادس: تعدد وجوه وأفراد المعاصي والذنوب التي يأتي منها الكسب، وهي أعم من تحريف الكتاب، وكلها باطل وحرام.
ولو كان عندهم كسب حلال فهل يشمله الوعيد أم أنه يختص بالحرام.
الجواب هو الثاني , وهو القدر المتيقن من الآية وعمومات النهي عن الكسب الحرام ، بتقريب وهو إعتبار موضوع الآية وما جاء في أولها من تقييد لموضوعها تخويفاً وتحذيراً .
ومن إعجاز الآية تعلق التحذير والوعيد أيضا بما يكسبون , وفيه دلالة على موضوعية الإفتراء والتحريف في سعيهم في الحياة الدنيا، لتبعث الآية النفرة في نفوس الناس جميعاً من تحريف الكتاب , وما يأتي بسببه وبواسطته من المال لأنه سحت وحرام وتحث الآية الناس للجوء إلى التنزيل الخالي من التحريف.
إفاضات الآية
تبين الآية فضح التحريف وتلاحقه ، وتنبه وتزجر الناس عنه، وتدعو إلى التحقيق ولزوم الفصل بين الحق والباطل وهو الذي يتحصل بالرجوع إلى القرآن.
وفي الآية مسائل :
الأولى : وجود من يقوم بتحريف الكتاب.
الثانية : هذا التحريف يجري عمداً وعن قصد وإرادة.
الثالثة : الوعيد والإنذار والتخويف لمن يقوم بالتحريف.
الرابعة : إدعاء أن هذا التحريف من عند .
الخامسة : الغاية من التحريف ثمن قليل وعرض دنيوي زائل.
السادسة : توكيد وتكرار الإنذار والوعيد مما يدل على الأضرار الجسيمة من هذا التحريف.
إبتلاء أهل التحريف بسبب ما يفعلون والذي لا يجلب لهم إلا الشر والأذى.
وتبعث الآية النفرة في قلوب المسلمين من الإفتراء على الله، والكذب مطلقاً، وتذم الآية الرشا وتبين أنها حرام وسحت وأنها طريق إلى العذاب الأليم.
لقد جعل الله عز وجل التنزيل صلة ميثاق الله في الأرض، وعهداً منه لأنبيائه والناس جميعاً، ينهلون منه ما فيه صلاحهم ورشادهم ونفعهم في النشأتين.
لقد أراد الله عز وجل للتنزيل أن يكون كنزاً دائماً في الأرض يطلع عليه الناس، ويتزودون منه في باب العبادات والمعاملات من غير أن ينقص منه شيئاً، لأنه ملك للأجيال، ولما قال الله تعالى للملائكة[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، جاء الرد الإنكاري[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
ولم يعلموا بأن الله عز وجل يتفضل بالكتب السماوية صلة تربط الناس بالسماء وتجعلهم يتعاهدون سنن الخلافة , وجاءت السنة النبوية بالنهي عن الحديث بغير علم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنِّي إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ)( ).
فمن باب الأولوية القطعية حرمة الإنذار على الله، وسوء عاقبته وإن وقع بخصوص الكتب السماوية السابقة، لقد جاء القرآن لإستدامة خلافة الإنسان في الأرض وتقومّها بالشهادتين وتقوى الله، وجاءت هذه الآية ليتعاهد المسلمون آيات القرآن، والإكتفاء بها بخصوص التنزيل وهو من عمومات قوله تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ]( )، فمن بركات القرآن فضحه للتحريف، ومجيؤه بأخبار السموات والأرض وأسرار اليوم الآخر بما يجعل المسلمين في غنى وإكتفاء في باب التنزيل، ومن بركاته عصمته من التحريف.
الصلة بين أول وآخر الآية
من إعجاز الصلة بين كلمات الآية ان كلاً من أولها ووسطها وخاتمتها جاءت (بويل) وهي كلمة تقبيح ووعيد وإنذار بالهلكة، وجاء الويل هنا على ثلاثة أقسام:
الأول : ويل لهؤلاء الذين يكتبون الباطل وإنذارهم على الكتابة والإفتراء بالإختيار وإدعاء أن ما يكتبون من الوحي والتنزيل يطلبون بسبب هذه الكتابة المال والجاه.
الثاني : الويل لهم بسبب إقدامهم على هذه الكتاية عن عمد وإصرار، وعلم وإقامة الحجة عليهم بأن يكتبون إفتراء على الله ورسله.
الثالث : الوعيد بعذابهم بسبب ما جمعوا من المال، ونالوا من الجاه بسبب هذه الكتابة، وقيل المراد من الكسب هنا إكتساب المعاصي والآثام.
وقد جاءت الآية بتعيين موضوع الكتابة وأنه الكتاب، والكتاب هو الجامع لمسائل متحدة في الجنس مختلفة في النوع، وقد يكون الكتاب ورقة واحدة أو أوراقاً متعددة.
وجاء الإنذار بالعذاب لإدعائهم بانه من عند الله، وإذا كان فريق منهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أماني فإن هؤلاء يفتنون بهم وبما يكتبون لذا جاء الوعيد في هذه الآية بالويل لأنهم يحملون ذنوبهم وذنوب غيرهم ممن يتبعهم وينصت لهم.
إن إدعاء وجود كتاب عند هؤلاء برزخ دون التفات وتدبر شطر من الناس لآيات القرآن لأن الأنبياء يقولون هذه الكتب من عند الله، وهؤلاء يدعون أنّ ما يكتبون من هو من عند الله فيحدث لبس عند طائفة من الناس فجاءت هذه الآية الكريمة لرفع هذا اللبس، ومنع إتساعه وتحذير الناس منه، فجاء منطوق الآية بالوعيد بالعذاب الأليم لأهل الإفتراء والتحريف في الكتب السماوية، أما مفهومها فهو على وجوه:
الأول : تحذير الناس من الإنصات لهم.
الثاني : دعوة الناس إلى التدبر فيما يقال إنه كتاب من عند الله، وفي الآية إعجاز قرآني إذ أنها تدعو إلى الفصل والتمييز بين كتاب الله وهو القرآن، وما يدعيه هؤلاء مما يدل على وجود مائز إعجازي يتصف به القرآن، وهذا المائز ظاهر وجلي لكل الناس على إختلاف مشاربهم وإدراكهم، أي ان القرآن حجة عقلية على كل الناس ويستطيع كل فرد وجماعة أن يميزوا بينه وبين ما يدّعى ويفترى أنه تنزيل، وهذه الآية شاهد على تسمية القرآن بالفرقان.
الثالث: الآية وما فيها من الوعيد على التحريف مقدمة للإنصات إلى القرآن واللجوء إليه لخلوه من التحريف.
وفي الآية مسائل:
الأولى: ورد ذكر الكتابة مرتين إحداهما بصيغة الفعل المضارع [يَكْتُبُونَ] مما يدل على الحدوث والتجدد وأنهم مستمرون في الكتابة وفي تحريف صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت في التوراة “.
وقيل المراد بالآية كاتب كان يكتب للنبي فغير ما يملي عليه ثم أرتد ومات فلفظته الأرض”( ).
ونسبته الى القيل تضعيف له، خصوصاً وأن الآية جاءت بصيغة الجمع وعلى نحو متكرر من وجوه:
الأول : الاسم الموصول الذين في قوله تعالى [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ].
الثاني : كتابة الكتاب في قوله تعالى [يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ].
الثالث : ما يعلنونه من القول [ثُمَّ يَقُولُونَ].
الرابع : أخذ الأموال والرشا من العوام لقوله تعالى [لِيَشْتَرُوا بِهِ].
الخامس : لفظ الأيدي والحواس التي تقوم بالكتابة [مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ].
السادس : ما يكسبون من المال الحرام بسبب هذه الكتابة لقوله تعالى [مِمَّا يَكْسِبُونَ].
مما يدل على إفادة تحريف التنزيل، وفيه تنزيه للقرآن من التحريف، وبيان أفضليته على الكتاب السماوية السابقة، ودعوة للمسلمين إلى تعاهد آياته وحفظه، ومنع وصول يد التحريف اليه.
الثانية : ذكرت الآية وقوع الكتابة منهم، وأنها بأيديهم للدلالة على الإفتراء وعدم وجود أصل للكتاب الذي يخرجونه للناس، وتحتمل الآية وجهين:
الأول : إرادة عالم الإمكان، والتحذير من وقوع هذه الكتابة.
الثاني : الإخبار عن وقوع هذه الكتابة فعلاً.
والصحيح هو الثاني لذا جاء ذكر الكتابة مرة أخرى بصيغة الفعل الماضي الذي يدل على الحدوث والإمضاء، قال تعالى [كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي]( ).
وجاءت هذه الآية من غلبة الله عز وجل ورسله بفضح الإفتراء والكتابة بالباطل وقد يفتري بعض الناس على بعضهم الآخر رجاء جلب منفعة وهذا الإفتراء محرم ومنهي عنه، ولكن الإفتراء على الله أشد منه، وهو من الكبائر وتدل كتابة الكتابة بالأيدي على أن الإفتراء أمر مستحدث وليس هو نقل عن كتب قديمة يظنون أنها من التنزيل، وقد كانت صفات النبي معروفة عندهم فلما بعثه الله عز وجل وهو بذات الصفات حرّفوا تلك الصفات لحب المال وإستدامة الجاه.
عن ابن أبى حاتم عن ابن عباس في قوله (فويل للذين يكتبون الكتاب) الآية قال هم أحبار اليهود وجدوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة أكحل أعين ربعة جعد الشعر حسن الوجه فلما وجدوه في التوراة محوه حسدا وبغيا فأتاهم نفر من قريش فقالوا تجدون في التوراة نبيا أميا فقالوا نعم نجده طويلا أزرق سبط الشعر فانكرت قريش وقالوا ليس هذا منا( ).
الثالثة: عدم إكتفاء هؤلاء بإبتداع الكتابة من عندهم، بل يقولون بنسبتها إلى الله عز وجل عن عمد وإصرار وبغي، ليتجلى العدل الإلهي في إنذارهم ووعيدهم.
الرابعة : بيان علة الكتابة والإنذار بنسبتها إلى الله عز وجل، وهو النفع القليل العاجل والمال والجاه.
ويحتمل الضمير الباء في قوله تعالى [لِيَشْتَرُوا بِهِ] وجوهاً:
الأول : الكتاب الذي يكتبونه.
الثاني : ما يقولونه ويدعونه بأن هذا الكتاب من عند الله.
الثالث : إرادة المعنى الأعم من الكتابة كبدعة وإفتراء، ونسبتها الى الله عز وجل.
الرابع : إغواء وإضلال الناس لأخذ الأموال منهم، وبقائهم منقادين وتابعين لهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية التي تدل على سوء سريرة ونية هؤلاء القوم، وإذ جاءت الآية السابقة بذم الأميين من أهل الكتاب جاءت هذه الآية لبيان حال فريق آخر منهم يحرف الكتاب، وأيهما أكثر ضرراً وإثماً الأميون أم الذين يحرفون الكتاب , الجواب هو الثاني إذ ان تحريف الكتاب إضرار بالنفس والغير وإغواء للأميين وغير الأميين ولبس على الناس، وإشاعة للفساد في الأرض فجاءت هذه الآية أرباب التحريف والإخبار عما ينتظرهم من العذاب الأليم.
الخامسة : بيان قلة الثمن الذي يكسبونه من التحريف والإفتراء على الله عز وجل، وإذا كان في التحريف ثمن قليل، فهل في إجتنابه والتنزه منه ثمن، الجواب نعم، وليس من حد لطرف الكثرة لهذا الثمن خصوصاً وأنه لا ينحصر بالحياة الدنيا بل يشمل الدار الآخرة، والثواب العظيم فيها وقد جاءت آيات القرآن بمدح الذين يتعاهدون التنزيل، ويحرصون على العمل بأحكامه، ويصونون آيات الله، قال تعالى [َ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ] ( ) .
ويحتمل الويل في الآية الكريمة وجهين:
الأول : الإتحاد، وإرادة ذات العذاب الذي ينتظر أهل التحريف والكسب بالباطل.
الثاني : تعدد وجوه العذاب.
والصحيح هو الثاني إذ يفيد التعدد في لفظ (ويل) كثرة وتعدد مواطن العذاب لأهل التحريف، وأنهم يحاسبون على كل من:
الأول: الكتابة بالباطل.
الثاني: إدعاء أن ما يكتبون هو من عند الله.
الثالث: السحت والحرام الذي يكسبون.

التفسير الذاتي
بعد أن جاءت الآية السابقة بصيغة الجملة الخبرية، وتضمنت وصف الذين يسبحون في عالم الأماني، ويتركون للرغائب والأماني الإستحواذ عليهم، ويهربون بواسطتها من الوظائف العبادية التي تجب عليهم، بأنهم أميون جاءت هذه الآية بلغة الإنذار والوعيد ولم تعطف هذه الآية على التي سبقتها بحرف العطف (الواو) بل إبتدأت بالفاء وكأن مضامينها معلقة على الآية السابقة والتي جاءت بالإخبار عن إتصاف فريق من بني إسرائيل بالأمية والجهل والتخلف عن التبصر في الدين، وإتخاذهم الظن سبيلاً ووسيلة، ولكنه يتخلف عن درك الحقائق، كما إنتقلت هذه الآية إلى لغة الوعيد، والتخويف.
ومن أسرار العطف بالفاء في هذه الآية أن الإقامة على الأماني، وما فيها من التخلف عن الوظائف العبادية والشرعية سبب في نزول العذاب بأصحابها كما تقدم الإستشهاد في الآية السابقة بخصوص أهل النار [وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ]( ).
وذكرت الآية ثلاثة أمورخاصة بفريق منهم وهي:
الأول : إنهم أميون ، يجهلون القراءة والكتابة ولا يستطيعون الوصول إلى التوراة والتدبر في معانيها وما فيها من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بواسطة غيرهم، وان حفظوها فانهم لا يتدبرون معانيها ودلالاتها.
الثاني : لايدركون مضامين التنزيل، ومعجزات القرآن، ولغة الإنذار والوعيد لمن يتخلف عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : يعتمدون الظن غير المعتبر، قال تعالى[يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا]( ).
وجاءت هذه الآية لبيان الضرر المترشح من الأمية وإتباع الأماني على أصحابها وعلى غيرهم من كبرائهم، وإنذار للذين يغوون هؤلاء الآميين، ويغررون بهم، ويتلون عليهم ما فيه التحريف من الكتاب، سواء كان التحريف في الأحكام أو البشارات التي جاءت بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويدل تعدد معاني الويل على شدة التخويف في الآية ولزوم إجتناب الفعل الذي يتوعد الله عز وجل به بالويل، وما يمنع هذا التعدد من إجتماعه على الكافر ليلقى الذي يفترى على الله الكتاب العذاب، ويهوى في قعر جهنم ويخلد في جبل من النار، إلى جانب الخوف والفزع الذي يصاحبه قبل وأثناء العقاب.
وهل يتغشى الخوف هؤلاء في الحياة الدنيا الجواب نعم، فان سماع هذه الآية يبعث الفزع والخوف في نفوس الذين يكتبون الكتاب بأيديهم وينسبونه إلى الله، أو ينقلون للأميين من أهل الكتاب ما يظنون معه أنه من التحريف على الله وأنبيائه، ويتجلى الذم للأميين في المقام بأن التصديق بأهل التحريف إتباع للظن الذي ذكرته الآية السابقة بقوله تعالى[إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ] كما أن الأمية سبب لخسارة الأموال ودفعها إلى كبرائهم والذين يقومون بالتحريف.
ولم يرد قوله تعالى [يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ] إلا في هذه الآية، وبعد ذكر الآيات للنعم التي تفضل الله عز وجل بها على بني إسرائيل وذكر الأميين منهم بصيغة اللوم، جاءت هذه الآية لبيان قبح فعل فريق آخر منهم ممن هم ليسوا بأميين، إذ يتعدون على التنزيل، ويفترون على الله، فيصدقهم هؤلاء الأميون، وهو من الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون الأوائل.
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين في أجيالهم المتعاقبة بهذه الآية لتكون سلاحاً، كما لاقى النبي الأذى من الكفار في ذات الموضوع مع التباين في الفعل اذ أنكروا نزول القرآن من عند الله [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ]( )، وورد في تفسير ( قوم آخرون ) في الآية أعلاه أنهم عدّاس مولى حويطب بن عبد العزي ويسار مولى العلاء بن الحضرمي وأبو فكيهة، وقيل هم جماعة من يهود المدينة.
فجاءت الآية محل البحث حرباً سماوية على الذين يكتبون الكتاب بأيديهم، والذين يجحدون بنزول القرآن من عند الله.
لقد ذكرت الآية أن هؤلاء يقومون بفعلين متعاقبين:
الأول : يكتبون الكتاب بأيديهم.
الثاني : الإدعاء بأنه من عند الله عز وجل، وفيه مسألتان:
الأولى : هل المعصية متحدة أم متعددة.
الثانية : هل هذا الإدعاء من الكبائر.
والجواب إذا كانوا يكتبون الكتاب مع تثبيت النية للإفتراء على الله فان تلك الكتابة معصية ومقدمة للمعصية، أماالثانية فان هذا الإفتراء من الكبائر، ولم يذكر في الأخبار الواردة في الكبائر لأن المسلمين منزهون من تحريف الكتاب، وإدعاء أن كتابة الكتاب من الله عز وجل، ويدل على أنه من الكبائر وجوه:
الأول : تعدد التخويف والوعيد في الآية، إذ يتكرر الوعيد في القرآن إلا في هذه الآية ولخصوص الذين يفترون على الله الكتاب، وأيهما أكثر معصية وظلماً الإفتراء على الله بالقول أم بالكتابة الجواب هو الثاني.
الثاني : الكذب على الله عز وجل عن قصد وعمد.
الثالث : كسب المال بالباطل، وقيل المراد ويل لهم مما يكسبون من المعاصي، ولا تعارض بين الوجهين ، إذ يمكن الجمع بينهما.
الرابع : إضلال الآخرين، ومنهم أصحابهم من الآميين الذين ذكرتهم الآية السابقة.
الخامس : محاولة تعطيل الحجة بالكتاب على الناس.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى : لما جاءت الآية السابقة بالإخبار عن كون فريق من بني إسرائيل أميين لا يتدبرون التنزيل، جاءت هذه الآية بالوعيد والإنذار للذين يغوونهم ويطلون عليهم بالتحريف، ويزاولون التبديل والتغيير في كلمات ومعاني الكتب السابقة.
الثانية : دعوة المسلمين لليقظة وأخذ الحائطة للدين، والحرص على سلامة القرآن من التحريف، وصيانته ومنع وصول أيدي أعداء الإسلام إليه كتابةً وتدويناً وتلاوة بما يؤدي إلى الإضرار به.
الثالثة : الإخبار عن وجود فريق من الناس يفترون على الله ويأتون بكلام من عندهم ويلائم أهوائهم ومصالحهم الخاصة ويدعون أنه تنزيل ووحي من عند الله.
وليسوا هم ممن يدعي النبوة فيسهل على الناس كشفهم وفضحهم، بل يقومون بالتحريف برداء إتباع الأنبياء فجاءت الآية لفضح هذا الفريق من الناس مع صيغة الإنذار والوعيد، والإخبار عن سوء عاقبتهم يوم القيامة.
الرابعة : حفظ الله تعالى للتنزيل والكتب السماوية بفضح الذين يحرفون الكتب ويدعون أنها من عند الله، والإخبار عما ينتظرهم من العذاب الأليم.
التفسير
قوله تعالى [ فَوَيْلٌ ]
ويل كلمة تقبيح وتوبيخ ووعيد، وتقال عند الهلكة، وقيل ويل واد في جهنم لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حره، وقد ترد للتعجب، ومنه حديث الإمام علي عليه السلام: (وَيْلُمِّهِ كَيْلاً بِغَيْرِ ثَمَنٍ لَوْ كَانَ لَهُ وِعَاءٌ)( )، أي يكيل العلوم بلا عوض الا أنه لا يلاقي واعياً.
وقيل (وي) مفردة للتعجب، ولامه مفردة، وإذا أرادت العرب تعظيم المخاطب بويل يقولون ويل الآخر ولا يخاطبونه بويل، وقد تأتي للتحسر والتفجع كما ورد في التنزيل [ يَاوَيْلَتَنَا]( ).
وأخرج عن هشام بن عروة أن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك! فجزعت منها، فقال لي: يا حميراء ان “ويحك” أو “ويسك” رحمة فلا تجزعي منها، ولكن اجزعي من الويل)( ).
ووردت مادة (ويل) في أربعين موضعاً من القرآن وبمعان مختلفة أكثرها على معناها الأصلي وهو التقبيح كما في هذه الآية التي اختصت بأن ذكر فيها (ويل) ثلاث مرات، مما يدل على الضرر النوعي الجسيم من تحريف الكتاب والإفتراء فيه، لما فيه من الظلم والتجاوز على قيم السماء وبث الضلالة والتعدي على التنزيل، مع ما له من قدسية كفضل ونعمة على الناس جميعاً.
وفي الكتابة إضلال للناس وللأجيال اللاحقة، وحاجز وغشاوة عن رؤية الحق بعين البصيرة، لذا كان نزول القرآن رحمة وتداركاً ووقاء من التمادي في التحريف وإتساع ضرره.
والآية الكريمة إنذار وتوبيخ ووعيد وبيان لقبيح ما يفعله أهل الإفتراء في التنزيل من الذنب المركب، يقدمون على تحريف الكتاب وإبتداع نصوص من عندهم ثم يكذبون بإدعاء أنها من الكتاب المنزل، وفي ذلك إفتراء في الدين وإضلال للناس لاسيما وأن ما يكتبونه عبارة عن منافع وأهواء خاصة، وفيه وجوه:
الأول : إنهم عمدوا إلى التوراة وحرفوا صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليوقعوا الشك عند المستضعفين من اليهود وهو المروي عن الإمام الباقر عليه السلام( )، وقيل كانت صفته في التوراة (أسمر رَبعة) فجعلوه (أدم طويلاً).
الثاني : إنهم وجدوا صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكتوبة في التوراة (أكحل اَعين ربعة حسن الوجه) فمحوه من التوراة حسداً وبغياً، فأتاهم نفر من قريش فقالوا لليهود: أتجدون في التوراة نبياً منا؟ قالوا: نعم نجده طويلاً أزرق سبط الشعر، عن عكرمة عن ابن عباس( ).
الثالث : إنهم كانوا يكتبون كتباً يبدِّلون فيها صفةَ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ويبيعونَهَا من الأَعراب ، ويبثُّونها في أتباعهم ، ويقولون هي من عند اللَّه) عن السدي ( ).
ويمكن ان نضيف وجوهاً أخرى بناء على المعنى الأعم للآية، وما يدل عليه مفهومها:
الأول : تبديل أحكام الله وتخفيف الحدود الواردة في الكتب السابقة تبعاً للأهواء.
الثاني : تغيير لغة الوعيد والتخويف التي في التوراة ومحاولة إخفاء وتأويل العذاب الأخروي ومدار إستحقاق العذاب الأليم.
الثالث : تخفيف العبادات والإكتفاء بمسمى الصلاة مثلاً، مما يجد هوى وميلاً في نفوس الكثيرين أولئك الذين يحبون الإنقطاع إلى الدنيا والإنشغال بملذاتها.
الرابع : التوكيد على ما رزقهم الله عز وجل وإدعاء إنفرادهم بالآيات ومحاولة إنكار وجود النبوة والكرامة عند غيرهم.
الخامس : تحريف الحقائق والوقائع ومحاولة طمس ما فيها من إنذار وتأديب لهم.
السادس : إنتظار النبوة وخروج آخر النبيين من بينهم مما يصدهم عن التدبر في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتفكر في آيات رسالته.
السابع : كتابة ما يبعث روح الصبر على ديانتهم وتحمل أشد أنواع الأذى والإبتلاء في البقاء عليها، لذا ترى بعض كبرائهم إختار الموت على ترك ملته كما في يوم فتح خيبر.
والويل والعذاب الوارد في الآية أعم من أن ينحصر بعالم الآخرة فيشمل الحياة الدنيا بفضحهم، وهذه الآية من مصاديقه، ليكون القرآن واقية من التحريف والإفتراء على التنزيل من وجوه:
الأول : كشف القرآن للإفتراء على الكتب السابقة وتحريفها، كما في هذه الآية.
الثاني : مجئ القرآن مصدقاً للكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل، والذي يدل بالدلالة التضمنية على تصديق التنزيل وفضح ما ليس منه بالعرض على القرآن وبيان الباطل.
الثالث : لجوء الناس إلى القرآن والتدبر في آياته، وقد تفضل الله عز وجل وجعله كافياً , قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الرابع : دخول الناس الإسلام، والصدور عن آيات القرآن وبعث السكينة في نفوسهم للأخذ من عين صافية، وتلاوة كلام الله عز وجل الخالي من التحريف.
علم المناسبة
ورد لفظ (ويل) في القرآن سبعاً وعشرين مرة، منها ثلاثة في هذه الآية وحدها، ولم يأت هذا اللفظ في غير هذه الآية في سورة البقرة والسور التي جاءت بعدها إلى سورة إبراهيم إذ ورد قوله تعالى [وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ]( ).
إن إنحصار ذكر لفظ “ويل” في هذه الآية من سورة البقرة ومجيئه فيها ثلاث مرات آية إعجازية، ودعوة للمسلمين والناس جميعاً للإتعاظ والإعتبار، ومن الآيات ان الإنذار والوعيد بالويل يتعلق بجهة واحدة معلومة وموضوع متحد وهو إبتداع الكتاب وإدعاء أنه من عند الله عز وجل.
ولم يرد لفظ “ويل” في سورة آل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف بينما جاء عشر مرات في سورة المرسلات وحدها مع أن آياتها خمسون آية، إذ تكرر فيها قوله تعالى [وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ] ( )، وجاء “ويل” تخويفاً ووعيداً للكفار والمكذبين والظالمين والمشركين، ليكون تذكيراً بلزوم التوبة والإنابة، وعبرة للناس جميعاً، وبياناً سماوياً لقبح الكفر والضلالة والظلم، ويدل إختصاص الذين يفترون على الله بالكتابة بتكرار الويل ثلاث مرات على قبح هذا الفعل، وشدة ضرره، ودعوة الناس للإحتراز منه.
وان تعمد هذا الإفتراء من الكبائر وتتجلى هذه الحقيقة بان الكتابة تنتشر بين الناس وتتوارثها الأجيال، ويدافع عنها الذين لهم منفعة فيها من جاه وشأن ومال، بالإضافة إلى أضرار تلك الكتابة في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإغراء الكفار والمشركين بمحاربته وقتال المسلمين لما في تلك الكتابة من تحريف لصفاته صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت في التوراة والإنجيل.
بحث أخلاقي
هل تخص الآية الكريمة طائفة من أهل الكتاب أم أن موضوعها أعم، الصحيح هو الثاني، فلا غرابة ان يقال أن المراد بالآية كاتب كان يكتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيغير ما يملى عليه ثم إرتد ومات فلفظته الأرض، ولكنه ليس وحده سبب نزول الآية، بل إنه يصلح أن يكون من مصاديق الآية الكريمة التي لها أفراد طولية وعرضية كثيرة من أهل التحريف وسياق الآيات والواقع يؤيده.
ولا ينحصر متعلق الآية بذمهم وتوبيخهم على ما فعلوا، بل لها وظائف عقائدية وأخلاقية وإجتماعية عديدة، فلكل من الوجوه السابقة آثار ومضار ومنها ما تبقى أسبابه السلبية إلى أجيال متعددة، ودراسات علم الإجتماع الحديثة تؤكده، ويحتاج زوال آثار التحريف إلى جهد ووقت مما يدل على ما كان يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون الأوائل في سبيل ترسيخ أركان الإسلام وأحكامه وهذا الإجماع وتعاهده من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
إن في الآية تنبيهاً للمسلمين , وحثاً لهم على إجتناب تحريف القرآن وتغيير أحكامه وتأويله بغير وجهه لما فيها من الإطلاق، لذا يفتخر عامة المسلمين بإجماع الأمة على ان ما بين الدفتين كله قرآن ليس فيه تحريف أو تبديل لكلام الله، مما يدل على الجهاد النوعي العام في الحفاظ على القرآن ولا عبرة بالشاذ النادر الذي يقول بالخلاف خصوصاً وأنه أصبح كالمعدوم.
لقد كان القرآن ولا زال مدرسة عقائدية كبرى إعتبر المسلمون مما فيه من قصص الأمم السابقة وإتعظوا مما عانوه بسبب المعصية وقبح الجحود، إنه دليل يثبت أهلية المسلمين لوراثة الأرض بعد فشل ونكوص غيرهم ممن آتاه الله عز وجل النعم الكثيرة، وفيه أيضاً حجة على غير المسلمين أولئك الذين عجزوا عن تعاهد شعائر الله، وأدى عدم إلتزامهم بالأحكام الشرعية إلى تعريضها للضياع، لولا فضل الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا الكلام يبدو في هذا الزمان وبعد أكثر من ألف وأربعمائة سنة على نزول القرآن أكثر ظهوراً وجلاءً إذ يحرص المسلمون بجد وإخلاص على تعاهده والتقيد بأحكامه.
قوله تعالى [يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ]
أي يبتدعونه من عندهم ضلالة وإضلالاً وكذباً على الله. فالكتابة هنا أعم من الإستنساخ أو تدوين ما يملى، لذا تفضل الله سبحانه ببيان كذبهم وإسنادهم تلك الكتابة إلى الله عز وجل، أي أنهم يدعون زوراً أنها من الوحي.
لقد إفتروا على الله عز وجل من أجل منافع دنيوية ذات عرض زائل ومكاسب شخصية تتمثل بأخذ الأجرة والمال عليها، أو بجعل الناس يتبعونهم ويسمعون منهم ونحو ذلك من مصاديق المال والجاه وفعل المعاصي والإقامة على قبائح الأعمال.
وفي الآية وجهان:
الأول : إنها تهديد وتحذير لمعصية ليس لها مصداق خارجي، وجاءت للمنع من حصوله، والزجر عن الإفتراء على الكتب والتطوع بالكتابة ثم نسبة هذه الكتابة إلى التنزيل.
الثاني : الآية وعيد لمن قام فعلاً بتدوين ما ليس بحق، وحرف الكتب السماوية بوضع وإضافة زيادات عليها.
والأصح هو الثاني فالآية جاءت للإخبار عن حصول التحريف، والتجرأ القبيح بالإفتراء وتدوين ما ليس بحق.
وجاءت الآية بتقييد الذم والوعيد بأمور :
الأول : حصول الكتابة بدعة وإفتراء.
الثاني : موضوع الكتابة وهو الكتاب لتوكيد ما للتنزيل من القدسية والمنزلة العظيمة.
الثالث : قيامهم بالكتابة بأنفسهم الذي يعني الإصرار على الإفتراء وانه لم يحدث عن غفلة وجهالة وتقليد بل جاء بقصد الإفتراء.
الرابع : الإفتراء والإدعاء بأن ما يكتبون هو وحي من عند الله نازل على الأنبياء السابقين.
الخامس : قصد الكسب الحرام من هذا الإفتراء.
قوله تعالى [ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً]
إبتدأ هذا الشطر بحرف العطف “ثم” ويحتمل وجوهاً:
الأول : التراخي، ووجود مدة بين البدعة والإفتراء بالكتابة إختراعاً، وبين إدعاء أنه من عند الله.
الثاني : عدم وجود مدة وفترة بينها.
الثالث : المعنى الأعم والتفصيل فمن الإفتراء والكناية ما تمر عليه مدة ثم يقولون أنه عند الله.
ومنه ما يتعقب كتابته القول بانه من عند الله، ولا تعارض بين هذه الوجوه، بالإضافة إلى إستقراء نكتة عقائدية في المقام من وجود (ثم) وهي وجود مؤمنين وأتباع للأنبياء يقفون بوجه الإفتراء ويجاهدون ضد دعوى الإفتراء , ولكن الإفتراء لم ينقطع ، فجاء الإسلام ونزل القرآن ليفضح وهذا الإفتراء الى الأبد , ويقطع موضوعيته ويحول ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دون ترتب الأثر عليه.
وذكر التعليل في الآية في قوله تعالى [لِيَشْتَرُوا بِهِ] يدل على عدم وجود فترة ومدة مديدة بين الكتابة وبين إدعاء انها من عند الله لأن الغرض منها هو الكسب الحرام، ويعود الضمير في “به” الى اسم الإشارة “هذا” والمراد منه التحريف والتبديل والإفتراء في الكتاب.
وفي قولهم (هذا من عند الله) إثم وهو ذنب فهم لم يقفوا عند كتابة الكتاب، ولو وقفوا عندها لم يلتفت الناس إليهم وإلى كتابتهم فتجرأوا على الكتاب السماوي وإدعوا ان ما يكتبون هو من التنزيل لينصت الناس إليهم.
وفي الآية مسائل:
الأولى : فضح أهل التحريف.
الثانية : دعوة الناس لعدم الإنصات لأرباب التحريف.
الثالثة : بعث الناس للبحث والتقصي عن التنزيل وخصائصه، وقد تضمن القرآن الإعجاز الذاتي والغيري إذ يشهد لنفسه بأنه كلام الله.
الرابعة : وجوب التمييز بين الحق والباطل، بين التنزيل وما طرأ عليه من التحريف.
الخامسة : التوكيد على الرجوع إلى القرآن , والصدور عنه لأن يد التحريف لم تصل إليه.
وجاءت الآية صريحة في ذكر سبب هذا التحريف وهو شراء ثمن قليل، والمراد منه على وجوه:
الأول : كسب المال، وجمع الثروة والأعيان والعروض.
الثاني : شراء الجاه والشأن بين الناس.
الثالث : وجود الأتباع والأنصار والأعوان.
الرابع : الزلفى عند السلاطين والرؤساء من أهل العناد والجحود.
لقد جاءت الكتابة والإفتراء بغياً وتعدياً على النبوة والإسلام، وحسداً للمسلمين والمسلمات الذين تلقوا القرآن بالتصديق والقبول، وإنفردوا بخصوصية من بين أهل التوحيد بالتصديق بكل الكتب السماوية التي سبقت القرآن كالتوراة والإنجيل، وإذ لم يستطع أهل النفاق والحسد الوصول إلى القرآن لأن المسلمين يتلقون آياته بالتعاهد والتدوين والحفظ من ظهر قلب والتسابق والتباري في حفظه والتفقه في معانيه ودلالاته، إتجهوا صوب تحريف الكتب السابقة لبعث الشك في قلوب أهل الكتاب خصوصاً وان المسلمين يؤمنون بها.
فجاءت هذه الآية لنصرة وتنزيه التوراة والإنجيل، ودعوة عامة للتمييز بين أهل التنزيل وبين التحريف، وطرح التحريف وفضح أهله الذين جاءت هذه الآية بأشد معاني الوعيد لهم مما يدل على عظيم الذنب وقبح الفعل الذي يقومون به بالإفتراء على الله تعالى وعلى أنبيائه.
لقد وصفت الآية الثمن بصفة الشراء، وفيه دلالة على السعي والقصد لهذا الشراء، فلم تقل يبيعوه بثمن قليل، وصحيح أن الشراء من الأضداد، وقد يستعمل في البيع، ولكنه جاء في المقام بقصد الشراء أي أنهم يجعلون الثمن القليل غاية ومقصداً، وأن ما يحصلون عليه بسبب الإفتراء يوظفونه في أمور زهيدة لأنه قليل لا يصلح أن يكون عوضاً لأعيان وعروض ذات ثمن مرتفع وقيمة عالية.
ففي الآية إخبار عن قلة الإنتفاع من الكسب الذي يحصلون عليه بسبب الإفتراء حتى وفق حسابات البيع والشراء وأمور الدنيا، وتحتمل القلة في المقام وجوهاً:
الأول : كل فرد من أهل الإفتراء يحصل على ثمن قليل ويكون في حال جمعه ثمناً ومالاً عظيماً.
الثاني : مجموع ما يحصل عليه أهل الإفتراء والتحريف ثمن قليل حتى في حال ضم بعضه إلى بعض.
الثالث : تعلق القلة في الثمن الذي يأتي دفعة واحدة، وليس مجموع الأموال التي يحصلون عليها.
الرابع : إنحصار القلة بخصوص المال نقداً أو عروضاً، دون المنافع الإعتبارية والجاه والشأن وتركه إرثاً لأبنائهم.
والصحيح هو الثاني، وتلك آية إعجازية في الوصف القرآني الذي يفيد الذم، ويبعث على النفرة من التحريف والكسب منه.
قوله تعالى [فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ]
أي ان العقاب والعذاب يثبت على الذين يقومون بالتحريف بطريقين:
الأول : مزاولتهم الكذب على الله عز وجل وهو ذنب عظيم وأشد مراتب الكذب قبحاً لما فيه من التجرأ والكفر وإضلال الناس بتحريف الكتاب.
الثاني : السعي في منع الناس من إلتزام جادة الصواب وسبل الهداية.
إن عاقبة ما ينالون على تلك الكتابة والإصرار على الباطل من مال وجاه هو العذاب الأليم والخزي والهوان، والكسب هنا يشمل الأفعال القبيحة والمعاصي التي تنتج عن إفترائهم هذا.
وفي الآية الكريمة عون للمسلمين بفضح أقوال أهل التحريف مما يخالف كتاب الله عز وجل , وهي دعوة للمؤمنين أن لا يستمعوا إلى أقوالهم فيما يخص التنزيل وسنن التشريع.
إنها سلاح عقائدي ووقاية دون وصول نتائج التحريف إلى معاشر المسلمين، وحث لهم على الأخذ من مناهل القرآن والإعتزاز والإفتخار بالإنتساب إليه وعدم الالتفات إلى ما يخالف الآيات والأحكام والسنن.
ومن المدد الإلهي في المقام للمسلمين قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، وما يدل عليه بالدلالة الإلتزامية من كفاية القرآن والسنة لأمور الدين والدنيا.
لقد تكرر لفظ (ويل) ثلاث مرات في الآية وهي حسب التوالي:
الأول : يتعلق بأمور:
الأول : كتابة الكتاب مع القصد والإرادة.
الثاني : الإدعاء زوراً بانه نازل من عند .
الثالث : شراء نفع زائل من الجاه او المال، وجاءت الآية بذكر (الكتاب) مما يدل على ان الإفتراء والإبتداع لم ينحصر بموضوع محدد أو مقدار معين وعدد من الكلمات، بل جاء بما يستحق لفظ الكتاب.
الثاني : ورود الوعيد والتهديد بالويل للذي يقوم بكتابة الباطل والإفتراء مما يدل على ما فيه من الظلم والتعدي والإثم، لأنه ضلالة ذاتية وإضلال لعدد من الناس لا يعلمه إلا   إذ أنه لا ينحصر بزمان الكتابة ومعارف وأصحاب الذي يقوم بالكتابة زوراً، بل يبقى أثره مع الأجيال ويكون تغريراً بهم، فهو سبب للغواية والضلالة، ولا يأتي الإثم من الأتباع والذين يصدقون بالتحريف، بل يأتي من طرف المسلمين ايضاً الذين يجاهدون للتغلب على هذا التحريف، ويواجهون بالصبر والإحتجاج العناد والإصرار والجحود من الذين صدقوا بالتحريف وإنقادوا للذين كتبوه وإن لم يروهم ولم يعلموا أنه تحريف، فإذا لاقى المسلم الأذى من هؤلاء , فمن كان سبباً وأصلاً لهذا الشقاق والجحود يتحمل قسطاً من الإثم.
الثالث : الوعيد على حيازة وجمع ما هو حرام وباطل، وفي الآية وجوه:
الأول : الكسب والمال الذي يأتي بسب التحريف كما لو كانت الكتابة تتعلق بدعوة الناس للرجوع إليهم أي الذين يكتبون الكتاب، وتمنعهم من التصديق بالنبوة التي جاءت بها البشارات في التوراة.
الثاني : الكسب مطلقاً، وكأن هناك قاعدة في الإرادة التكوينية ان الذين يحرفون التنزيل بالكتابة والإفتراء من عندهم، يكون كل ما يكسبون وبالاً عليهم.
الثالث : كسب الأعوان والأنصار بسبب الإغواء والتظليل ليحملوا شطراً من أوزار هؤلاء الأعوان.
علم أصولي جديد
وفي علم الأصول مبحث يسمى الملازمة بين المقدمة وذي المقدمة، وان الوجوب أو الحرمة يترشحان على المقدمة من ذيها، فصلاة الظهر عند الزوال واجب فيترشح منها وجوب الوضوء لأنه مقدمة للصلاة، لقوله تعالى [إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ..]الآية ( ) ، وعن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : لا صلاة إلا بطهور( ).
أما في هذه الآية فيمكن تأسيس مبحث جديد وهو ترشح الوجوب أو الحرمة على ذي المقدمة من المقدمة فان الكسب يكون حراماً إذا كان التحريف والتعدي على التنزيل قيداً لتحصيله مع المغايرة بين ماهية الكتابة والكسب , وكأنه من قانون العلة والمعلول .
وموضوع الآية من الإثنينية وتتقوم بطرفين الكتابة والكسب، وأحدهما متقدم على الآخر، ولكن هل يمكن الإقدام على هذه الكتابة من غير إرادة الكسب الجواب نعم، عناداً وجحوداً أو أن الكسب حاصل أصلاً من غير لجوء إلى التحريف، ومع هذا نرى أهل الغواية يأتون بأمور من عندهم وينسبها للتنزيل، لذا جاء الوعيد في الآية متعدداً بالكتابة على نحو الإستقلال، وعلى نحو الإنضمام للكسب.
ويحتمل أن يكون التعدد في الويل على نحو الإستقلال والإنضمام،للتغليظ في الإنذار , فالأول (فويل للذين) جامع وشامل للكتابة والكسب.
أما الويل الثاني فمتعلق بالكتابة.
والثالث بالكسب على نحو التفصيل، بإعتبار أن العقاب والعذاب يقع على الذي يكتب التحريف والتبديل للتنزيل وان لم يكن يكسب من الكتابة شيئاً، ويقع على من يكتب ويكسب بالكتابة أو على الذي يكسب منها وان لم يكتبها كما لو كان يعلم أنه تحريف وإخفاء لصفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية المنزلة ومع هذا فانه يكسب منها ويجمع الأموال ويجعلها وسيلة لبقائه في منصبه والمحافظة على شأنه.
ففي الآية إعجاز وتحذير من الإفتراء والتحريف، ودعوة لمحاربته وفضحه حتى من قبل القائمين عليه، ولزوم تدبرهم وتفكرهم فيما يفعلون, والمحافظة على التنزيل غضاً طرياً نقياً من التحريف , ورفض الباطل والمنكر .
بحث بلاغي
فُسر ذكر الأيدي في الكتابة بإنه من الإطناب، وهو في الإصطلاح البلاغي زيادة اللفظ على المعنى لفائدة كتقويته أو توكيده، وإظهارها مجسمة وكأنه يراها أمامه، وهو حسن، إلا أن ما لها من مضامين التفسير أعم كثيراً، وذكر الوجه البلاغي يجب ان لا يكون حائلاً دون التدبر في الوجوه الأخرى ذات الأهمية والإعتبار ومنها:
الأول : إنه نوع حجة وتثبيت للحكم عليهم، وأنهم لم يكتفوا بالأمانيّ ولا بالقول، بل إتجهوا إلى إشراك الجوارح في عملية التحريف.
الثاني : تحملهم لأوزار غيرهم ممن يرث هذا التحريف من الأجيال اللاحقة لأن الكتابة من جهة الأثر والتأثير تختلف عن القول، فالقول قد يزول وتضعفه الأيام وينساه الناس، أما الكتابة فتبقى شاهداً ووثيقة وطريقاً وسبباً.
الثالث : هول وعظيم التجرأ على الله لتعدد آلات وصيغ التحريف.
الرابع : توبيخ وإنذار ووعيد لشهادة الجوارح يوم القيامة على الناس كما في قوله تعالى[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
الخامس : الآية تأديب وإرشاد المسلمين.
السادس : في الآية عبرة وبيان وحث على الإحتراز في هذا الباب.
ومن الإعجاز في هذه الآية تكرار التقبيح والوعيد، لإفادة (ويل) هنا الذم المركب لتعدد فعل السوء منهم، وجاءت متعلقة بالسبب والمسبب، فالسبب الكتابة، والمسبَب الكسب الحرام بهذه الكتابة، وقد يكون العكس.
إن قصد الكسب الحرام وجحود النبوة هو السبب في التجرأ والتعدي وكتابة ما ليس بتنزيل، وكل منها إثم ومعصية وذنب يستحق العقوبة.

قوله تعالى[وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعدُودَةً قُلْ اتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]الآية80.
الإعراب واللغة
[ وقالوا ]: الواو إستئنافية. قالوا: فعل وفاعل.
لن: حرف نفي ونصب وإستقبال.
تمسنا: فعل مضارع منصوب بلن، والضمير (نا) في محل نصب مفعول به، الناس: فاعل مرفوع بالضمة، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، إلا: أداة حصر، أياماً: ظرف زمان منصوب، معدودة: صفة لأيام.
قل: فعل أمر، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت.
إتخذتم: الهمزة للإستنكار، وفعل ماض وفاعل، والجملة في محل نصب مقول القول.
عند: ظرف متعلق باتخذتم، وهو مضاف، واسم الجلالة: مضاف إليه، عهداً: مفعول به.
فلن: حرف عطف، وهي الفصيحة، يخلف: فعل مضارع منصوب بلن، اسم الجلالة: فاعل، عهده: مفعول به، مضاف، والضمير مضاف إليه.
المس واللمس: الملاقاة باليد وأصلهما اللصوق، وقد يأتي المس للملاقاة مطلقاً يقال مس الماء الجسد أي أصابه، واللمس معه إحساس.
أيام: جمع يوم وقيل اصله ايوام فأدغمت.
أصل [ أتخذتم ] ءاتخذتم، ولكن همزة الوصل سقطت لدخول همزة الإستفهام عليها.
والعهد: الوعد والأمان والإلتزام.
[ أم ]: حرف عطف جاء للتعيين، وهو يحتاج إلى جواب لأنه ورد بعد إستفهام.
في سياق الآيات
بعد أن بينت الآيتان السابقتان الفعل والإنفعال بالتحريف بين فريقين منهم، جاءت هذه الآية لتوثق وتسجل ما يقولون، وهذا القول مترشح ومتفرع وناتج عن التحريف وشاهد على شيوعه وانتشاره لأن هذا القطع لا يحصل إلا بالدليل السمعي والإخبار الإلهي، ولم تأت الكتب السماوية بالعفو العاجل لمن يجحد بالرسالات ويكتم الآيات.
وكان هلاك عدد من الأمم بسبب تكذيبها بالرسل قال تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
وبعد أن ذكرت الآيات السابقة جانباً من قبائح فريق من أهل الكتاب، جاءت هذه الآية بفرد جديد من أفراد ومصاديق أفعالهم الذميمة والرد السماوي عليهم.
وهل قولهم الوارد في هذه الآية بأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة، من كتابة الكتاب بأيديهم الذي ذكرته الآية السابقة أم هو إفتراء آخر يتصف بأنه قولي.
الصحيح هو الثاني لوجوه:
الأول: ورود العطف بالواو الذي إبتدأت به هذه الآية [وَقَالُوا].
الثاني: التباين بين الكتابة والقول.
الثالث: ذكرت الآية السابقة غاية التحريف والكتابة إفتراء بأنه شراء ثمن قليل، أما هذه الآية فأخبرت عن قول يتضمن الإقرار الضمني بدخولهم النار.
الرابع: جاءت الآية السابقة بالوعيد والتخويف على كتابتهم الكتاب من عندهم.
وجاءت هذه الآية بالرد والاحتجاج على قولهم.
وجاءت الآية التالية بقانون ثابت يبين خلود المجرمين وأهل السيئات في النار في نفي للإقامة المحدودة في النار، ودعوة لأهل الكتاب وغيرهم بإصلاح الذات والفعل والقول والتصديق بالنبوة، وإجتناب الإفتراء.
وإذ جاءت هذه الآية بالوعيد والتخويف للذين يفترون على الله عز وجل ويكتبون الكتاب ويدّعون أنه نازل من عند الله، وذم تلك الكتابة والغاية المذمومة منها، جاءت هذه الآية لذم ما يقوله هؤلاء، ليفيد الجمع بين الآيتين سوء قول وفعل هؤلاء الكبراء.
وإذ ذكرت الآية قبل السابقة أن فريقاً منهم أميون فان إدعاء عدم اللبث في النار وسيلة لبقاء هذا الفريق على ملتهم، وحثه على عدم الإصغاء والتدبر في المعجزات التي جاء بها النبيمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من عندالله عز وجل.
ولما جاء قبل آيتين بالإخبار عن كون علم الأميين منهم بأنه أماني، جاءت هذه الآية بالإخبار عن عدم اللبث في النار إلا أياماً قليلة، وفي الجمع بينهما وجوهاً:
الأول: أن القول بعدم اللبث الطويل في النار من الأماني.
الثاني: أراد كبراؤهم أن يمنوهم بالخروج من النار عند دخولها.
الثالث: الأميون من هم الذين يدّعون عدم اللبث الطويل في النار، ولا تعارض من بين هذه الأقوال، إذ يدّعيه الكبراء، فيتخذه الأميون منهم منهجاً.
ولا دليل على المغايرة في الموضوع بين هذه الآية والآية التالية، لأن الأصل في العطف في الفعل هو الإتحاد في الموضوع ليجتمع أمران.
الأول : الإفتراء في الفعل وهو الكتاب في الدنيا.
الثاني : الإفتراء في القول فيما يخص عالم الآخرة.
ومن الإعجاز أن كلاً من الآيتين تختتم بالإنذار والوعيد الخاص بموضوع الآية، وتبين الدراسة المقارنة بين الخاتمتين أن الإنذار والوعيد على الإفتراء على الله في الكتابة أشد من الوعيد على القول ، لأن أثر الكتابة أكبر وأعم زماناً ومكاناً.
لذا جاءت هذه الآية بعد نعت فريق منهم بأنهم أميون يتلقون الكتاب بأنه أماني ورغائب لبيان أنهم يفتنون بما يكتبه الذين ذكرتهم هذه الآية ليشاطروهم الإثم والوزر من غير أن يخففا عن أي من الفريقين، قال تعالى[يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ] ( ).
إعجاز الآية
في بيان قبيح القول تتجلى آيات الإصلاح ومدارس الإحتجاج متعدد الوجوه، وصحيح ان الذم في الآية لغير المسلمين إلا أنه تأديب وإرشاد للمسلمين في كيفية إقامة الحجة عليهم من غير حدة أو غضب، ومفهوم الآية يحث على التوبة والإعداد للآخرة بالهداية والرشاد والإيمان.
وفي الآية إخبار عن دخول الكفار في الهلكة وشدة العذاب، وفيها ما يسمى في البلاغة (الإبداع) لإشتمالها على عدة ضروب من البديع، ففيها الإخبار عن قولهم والإستعارة والوعد والوعيد والفضح والتقبيح.
ولم تقل الآية(لم تمسنا النار) لأن اللمس يكون باليد، ويأتي كناية عن الوطئ والجماع , قال تعالى[أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ]( )، ومن الفقهاء من جعل الجماع هو معنى اللمس، أما اللمس باليد فيكون بالقرينة كما في قوله تعالى[فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ]( ).
ويبين الدخول في النار والمس عموم وخصوص مطلق، فالمس أخف وأدنى مرتبة ولعله فرع أعمهم أن الله عز وجل وعد يعقوب عليه السلام ألا يعذب أولاده بالنار، فجاءت هذه الآية لنفي وجود عهد ينجيهم من النار قال تعالى[وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى]( ).
ويمكن تسمية الآية بآية (لن تمسنا ) وقد ورد هذا اللفظ في القرآن مرتين وبذات الموضوع( ).
الآية سلاح
تساعد الآية المسلمين وتلقنهم صيغ الإحتجاج وتمنحهم سلاح البرهان، وتنفع في إعداد الشخصية المسلمة التي لا تتجرأ على القول فيما لا تعلم، وإلى الآن ترى المسلمين يتحرجون من القول بغير علم ويرجعون إلى القرآن وإلى السنة غير المعارضة له في إقامة الحجة والإستدلال.
لقد بينت الآية حكماً عاماً شاملاً للناس جميعاً بلغة الإنذار والوعيد والتخويف لمنع الجهالة والغرر، وأخبرت الآيات السابقة بأن فريقاً من أهل الكتاب أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ويتبعون الظن، وجاءت هذه الآية لتحذيرهم وتخويفهم ودعوتهم للهداية والصلاح والرشاد.
لتكون هذه الآية نعمة عظيمة على بني إسرائيل، وبرزخاً دون إستدامة سلطان أهل التحريف عليهم، وفيه شاهد على حاجتهم والناس جميعاً للقرآن.
والأيام جمع يوم، ويحتمل في المقام وجهين:
الأول: إرادة اليوم من أيام الحياة الدنيا.
الثاني: المقصود الحساب الطويل وأيام العذاب، وموضوعية الشدة في طوله، قال تعالى[وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ] ( ).
والصحيح هو الأول وأنهم يقصدون أياماً معدودة مثل أيام الحياة الدنيا لوجوه:
الأول: التبادر إلى الإذهان من معنى اليوم.
الثاني: لغة الخطاب بين الناس.
الثالث: ورود القول مورد الإحتجاج والتفاخر والتباهي، فجاءت الآية التالية للإخبار عن خلود الكفار الذين يغادرون الدنيا وهم مقيمون على المعصية في النار.
أسباب النزول
ورد عن ابن عباس ومجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة واليهود تزعم أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما يعذب بكل ألف سنة يوماً واحداً. ثم ينقطع العذاب فأنزل الله هذه الآية( ).
وعن ابن عباس أيضاً أن الأيام هي الأربعون يوماً التي عبدوا فيها العجل وبه قال عكرمة وقتادة وابو العالية.
وفي الأيام المعدودة وجوه:
الأول : قالوا إنها أربعون , ويخلفنا غيرنا وأشاروا إلى المسلمين.
الثاني : زعموا أنهم وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، قالوا: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم، فتذهب جهنم وتهلك . “روي ذلك عن ابن عباس)( ).
الثالث : كان اليهود يقولون هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نُعَذَّب بكل ألف سنة يومًا في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة)( ).
الرابع : أنهم يعذبون أربعين يوماً وقيل: أربعين ليلة، ثم ينادى: اخرجوا كل مختون من بني إسرائيل)( ).
ومنهم من رجح القول أعلاه بأنها سبعة أيام الأول لإعتبار لغوي وهو أن أقل عدد يسمى أياماً هو ثلاثة وأكثر عدد يسمى به جمع القلة عشرة، ولكن وصفها بالمعدودة يدل على إمكان عدها وإحصائها من غير حصر بعدد منها إلا مع القرينة المنفصلة.
وفي صيام شهر رمضان قال تعالى[أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ.. ]( )، وفريضة الصيام ثلاثون يوماً شهراً كاملاً كما هو معروف شرعاً وعرفاً إلا أن يتفق فيكون الشهر القمري تسعة وعشرين يوماً.
وليس من فرق في المقام بين جمع التكسير بالألف أو التاء ما دام الموصوف وهو الأيام واحداً، إنما معدودة جمعت على الأصل لأن يوماً مذكر، كما في قوله تعالى [ قلوب يومئذٍ واجفة * ابصارها خاشعة ]( )، ولكنه قد يجمع كما يجمع المؤنث بلحاظ الجمع وليس المفرد كما في قوله تعالى [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسم اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ] ( ).
مفهوم الآية
تنمي الآية مدارك المسلمين وملكة الإحتجاج عندهم وتطلعهم على مفاهيم علم الكلام وتدعوهم إلى المعرفة والتفقه في أحوال الآخرة وعالم الجنة والنار، ترى لماذا قال هؤلاء أن النار تمسهم أياماً معدودة ولن يقولوا أنها لن تمسهم على نحو الإطلاق وهو الأفضل والأحسن مع أن مس النار لهم حجة عليهم , وبرهان يرتقي بإدراكه المسلمون الذين يسعون للخلود في الجنة.
الجواب : إن هذا القول إقرار ضمني منهم لتخلفهم عن الحق ودخول الإسلام ويبدو أن الحجة قامت عليهم بالآيات الباهرات التي جاء بها الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو أنهم عجزوا عن الإعتذار أو الإتيان بالسبب الذي يحول دون إسلامهم فاعترفوا بالتقصير وحاولوا تداركه بالقول أن عذابهم في النار جزاء الجحود بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم والبشارات التي وردت بحقها في التوراة والإنجيل لن يطول، كما أنهم ذكروا المس دون اللمس مما يعني إرادة عدم التأذي والألم في النار لأن دخولهم لها خال من الإحساس بناء على القول بأن المس هو اللمس من غير احساس.
والآية فضح لزيف دعواهم لثبوت عدم وجود عهد إلهي لأمة من الأمم بأنها لن تبقى في النار إلا أياماً معدودة، نعم قد يحصل هذا لبعض الأفراد يوم القيامة لا بعنوان الحكم الإبتدائي المنجز بل بالشفاعة والرحمة الإلهية، والشفاعة لا تنال إلا من إرتضى الله سبحانه، والمدار على صدق الإسلام والعمل في الحياة الدنيا لأنها دار إختبار.
ومن مفاهيم الآية النهي عن اتيان السيئات إتكالاً على دعوى لا أصل لها وهي عدم المكوث طويلاً في النار، وفيها ترغيب وندب للمسلمين لتقوى الله وحسن الإمتثال والتقيد بأحكام الحلال والحرام، وعدم إقتراف الذنوب إتكالاً على الشفاعة وأن القول بالبقاء في النار مدة قليلة إنما هو من الجهل والإفتراء على الله.
والآية سلاح ذو حدين بيد المسلمين:
الأول : إبطال ما يدعي الآخرون من المنزلة أو التخفيف في الآخرة بلحاظ الإنتماء لغير الإسلام.
الثاني : الإحتراز من إدعاء عدم دخول النار مطلقاً أو البقاء فيها لمدة محدودة.
فمن فلسفة الإسلام أن دخول النار أو عدمه أمر متعلق على أفعال العبد في الحياة الدنيا وفق موازين العدل الإلهي وهو الواسع الكريم، مما يعني أن الآية تحث المسلمين على العبادة والطاعة وتبين لهم أن الإسلام لا يقف عند النطق بالشهادتين بل إنه مدخل ومقدمة وشرط لعبادة الله وإتيان الفرائض.
وفي الآية مسائل:
الأولى : وجود قول وإحتجاج عند أهل الكتاب بخصوص عالم الآخرة يتلخص بعدم خلودهم في النار وسهولة العقاب الذي يتعرضون له، للتخفيف من أثر الوعيد والتخويف الذي جاء به القرآن.
الثانية : إجابتهم بالإحتجاج بصيغة التحدي والبرهان.
الثالثة : بيان الثقة بعظيم فضل الله تعالى ووعده الجميل، وأنه سبحانه إذا وعد وفى.
الرابعة : خاتمة الآية دعوة لإجتناب القول بغير علم.
الآية لطف
لقد أنعم الله على المسلمين والناس جميعاً ومنهم بنو إسرائيل بالقرآن وما فيه من أخبار عالم الحساب والجنة والنار، وبينت آياته إقامة المؤمنين في الجنة، والكافرين في النار، وتصدت بالبرهان والإخبار السماوي لقول فريق من بني إسرائيل بأنهم لن يمكثوا في النار طويلاً، وهذا الإخبار لطف بهم من وجوه:
الأول : إبطال القول الذي لا أصل له.
الثاني : منع اللبس على الأميين منهم.
الثالث : دعوتهم جميعاً للرجوع إلى القرآن، وأخذ الأحكام وأخبار الآخرة منه.
الرابع : الإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بخصوص عالم الحساب والجزاء، وعدم الإلتفات إلى الذين يحرفون الكتاب منهم.
الخامس : حصانة المسلمين من الإدعاء بالباطل، وقد لا يلتفت المسلمون إلى ضرورة نفي هذا القول الصادر من فريق من بني إسرائيل لولا هذه الآية التي هي حجة عليهم وعلى الناس جميعاً، وتشمل الآية غير الكتابي من باب الأولوية، وقد جاءت آيات القرآن بالإخبار عن خلود الكفار في النار، قال تعالى[وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ]( ).

إفاضات الآية
تحكي الآية الكريمة جانباً من أقوال وقصص الأمم السابقة، وهل يدخل ضمن أحسن القصص، الجواب نعم، بلحاظ الدروس والعبر التي جاءت فيها، وتعلم كيفية الإحتجاج لنفي وإبطال الإدعاء باللبث القليل في النار.وفي الآية توكيد على إنجاز الوعود الكريمة التي وعد  بها المؤمنين والصالحين.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار رجاء وأمل، ووعاء للدعاء وسؤال المغفرة ودخول الجنة، وجاءت هذه الآية لبيان النقص عند الأمم السابقة بتوكيد دخولهم النار مع قبح وضرر هذا الدخول ولو بادروا للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأخذوا بتلاوة الآيات التي تبعدهم عن النار، فان قيل ورد قوله تعالى [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا] ( )، في خطاب للناس، فهل هو مصداق لقولهم في الآية محل البحث أن النار لا تمسهم [إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً] والجواب لا، من وجوه:
الأول : ذكرت هذه الآية قولهم عدم اللبث الطويل في النار بإعتباره عهداً من عند الله وهي دعوى جاءت ذات الآية بإبطلاها.
الثاني : نفت الآية قولهم وجعلته من القول على الله بغيرعلم.
الثالث : مجئ الآية التالية للآية أعلاه من سورة مريم ببقاء الظالمين جاثمين في النار وحواليها، قال تعالى [ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا] ( ).
الرابع : ورود وجوه عديدة لتفسير ورود النار في الآية منها:
الأول : ماجاء (عن جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك , فقال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض: أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار، فيقال لهم: قد وردتموها وهي جامدة، وعنه رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية , فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (الورود الدخول، لايبقى برّ ولا فاجر إلا ودخلها، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار ضجيجاً من بردها) ( )، وفي قوله تعالى [أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ] فالمراد عن عذابها.
الثاني : عن ابن مسعود والحسن وقتادة: هو الجواز على الصراط لأن الصراط ممدود عليها( ).
الثالث : ما جاء عن ابن عباس قد يرد الشئ الشئ ولا يدخله كقوله تعالى[وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ] ووردت القافلة البلد وإن لم تتدخل هو لكن قربت منه( ).
الرابع : أما ما جاء عن مجاهد: ورود المؤمن النار هو مسّ الحمى جسده في الدنيا لقوله عليه الصلاة والسلام”الحمى من فيح جهنم” وفي الحديث”الحمى حظ كل مؤمن من النار”( )، فهو بصير عن معنى ومضامين الورود في الآية بدليل ذيلها.
وتبعث الآية على الإستعداد للآخرة، وأخذ الحائطة من عذاب النار، وإجتناب الإفتراء والقول على الله بغيرعلم.

الصلة بين أول وآخر الآية
قد تقدم قوله تعالى[قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ] ( )، وهو حديث خاص بين الذين يجحدون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويعلنون أمام المسلمين أنهم آمنوا به كذباً وخداعاً، وجاءت هذه الآية بذكر قول وإحتجاج فريق من بني إسرائيل يقولون أنهم لن يدخلوا النار إلا أياماً معدودات وأن هذا الدخول عبارة عن مس النار لهم مساً من غير ألم أو أذى.
وقال أبو العالية ، وعكرمة ، وقتادة : هي أربعون يوماً ، لأنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل( )، كما تقدم في أسباب النزول.
لقد تضمنت الآية قولين:
الأول: قولهم وإدعاؤهم عدم البقاء الطويل في النار، ويدل بالدلالة التضمنية على إقرارهم بدخول النار، وتخلفهم عن أسباب النجاة منها والتي تنحصر بالإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يأتي بأمر من الله عز وجل بقوله تعالى[قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ] ويحمل هذا الأمر على الوجوب، مما يدل على لزوم إقامة البرهان على هؤلاء، وفيه شاهد على تلقين الله عز وجل لنبيه ما يجب عليه قوله في الإحتجاج على أهل الكتاب وغيرهم، ليكون هذا الإحتجاج مدرسة كلامية لهداية الناس للإيمان، وبيان الأقوال الباطلة التي لم تأت عن علم أو إخبار سماوي.
وجاءت الآية بصيغة السبر والتقسيم فليس عندهم عهد من الله بالنجاة والسلامة من النار، فيبقى الوجه الثاني أن قولهم عدم اللبث الطويل في النار صادر عن جهل وغير علم، وهو أثر من آثار التحريف وكتابة الكتب بالأيدي، وفيه شاهد على أن الكتابة من عند الذات ونسبتها إلى الله يفضحها الله بالقرآن، والآيات الأخرى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وكما يأتي ذمهم على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان الثناء على الله عز وجل يأتي على لسانه، وفي ذات الإحتجاج للإخبار بأن الله عز وجل لا يخلف العهد، وفيه شاهد على أن الله عز وجل ينعم على شطر من عباده بالعهد بالبشارة، ودعوة الناس لنيل العهد من الله بالأمن والسلامة من النار واللبث فيها، قال تعالى [وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ] ( )، وتحتمل الآية وجهين:
الأول : عدم مس النار لهم أصلاً.
الثاني : لبثهم الطويل في النار.
وجاءت الآية لتؤكد الثاني وتنفي الأول بالأولوية القطعية لأنهم ذكروا المدة القليلة في النار لتفضيلهم وإنتسابهم للأنبياء والكتاب السماوي، فأكدت الآية أن المدار على العمل الصالح وقد أعطى الله عز وجل عهداً للمؤمنين الذين يعملون الصالحات بالأمن والسلامة من النار.
التفسير الذاتي
بعد أن جاءت الآية السابقة بذم الذين يفترون على الله عز وجل الكتاب، فيكتبون بأيديهم أموراً وأخباراً وصفات لنبي آخر زمان ثم يقولون هذه الكتاب من عند الله لإضلال الناس وكسب السحت والمال الحرام، وتكرر قوله تعالى [لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا] مرتين في القرآن إذ ورد في سورة آل عمران( )، وان هذا القول سبب لإعراضهم عن القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من الحق والصدق وأحكام الحلال والحرام، وموافقة القرآن ما في التوراة من رجم الزاني والزانية.
إذ يفيد الجمع بين الآيات أن إدعائهم عدم اللبث الطويل في النار بقصد الإعراض عن البراهين والحجج التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولما أصابهم من الغرور في دينهم، وذكر أن المراد بالأيام المعدودات أقوال هي:
الأول: الأيام التي عبدوا بها العجل.
الثاني: عن الحسن أنها سبعة أيام.
الثالث: عن الربيع أنها أربعون يوماً. بلحاظ أن الوعد الذي واعد الله عز وجل به موسى عليه السلام في الطور هو أربعون ليلة، إذ غادرهم فيه موسى وحصل الإفتتان بالعجل.
والأرجح أنهم لم يتخذوا العجل حال مغادرة موسى عليه السلام لهم لقوله تعالى [ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ]( )، وما يدل عليه الحرف (ثم) من الإبطاء ومن التراخي الزماني في المقام، وقد تقدم بيانه في تفسير الآية الحادية والخمسين من سورة البقرة.
ومن الشواهد على أن المسلمين هم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، تلقيهم البشارات بدخول الجنة، قال تعالى [لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ]( )، ووفق السبر والتقسيم فان القول في أحوال الإنسان في الآخرة يستلزم الوعد والعهد من الله، ومع عدمه يكون القول بغير علم وإفتراءً على الله عز وجل، وفيه دعوة للجوء إلى التنزيل في أمور الغيب، وعدم الإفتاء فيها بغير علم ولا إخبار سماوي.
ولم تذكر الآية عقوبة وعاقبة القول على الله بغير علم ولكن جاءت الآيات القرآنية بالوعيد عليه، وعلى الكذب على الله عز وجل، وجاءت خاتمة هذه الآية ليدركوا أنهم يقولون ما لا أصل له قال تعالى [وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ] ( ).
ومن فضل الله عز وجل على بني إسرائيل مجئ هذه الآية في تحذيرهم وإنذارهم من القول على الله بغير علم، ليكون هذا التحذير كشفاً للغطاء وإزالة للبس الذي يترشح عن طول الأمل والظن بالنجاة من النار للإنتساب إلى الأنبياء في البنوة وبيان حقيقة وهي أن النجاة من النار لا تكون إلا بإتباع الأنبياء والعمل بأحكام التنزيل، وإجتناب المعاصي والسيئات.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى : الآية وثيقة سماوية تبين قول فريق من بني إسرائيل.
الثانية : من إعجاز الآية أنها لم تأتِ بذكر قولهم وحده بل تضمنت فضحه وإبطاله بالحجة والإحتجاج المتعدد فليس من عهد عندهم على الله تعالى، مع زجرهم عن القول على الله بغير علم.
الثالثة : تؤكد الآية حقيقة وهي خلو التوراة من هذا القول، وأنه من عندهم.
الرابعة : هل تدل الآية على وجود أمة أخذت من الله عهداً بعدم بقائهم في النار إلا مدة قليلة، الجواب لا، ولكنها جاءت رداً على قول فريق من بني إسرائيل بصيغة الإحتجاج والبرهان.
الخامسة : جاءت خاتمة الآية بصيغة التوبيخ وتوكيد عدم وجود عهد لهم عند الله بالبقاء في النار مدة قليلة، وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي الوجه الثاني من الإحتجاج وهو قولهم على الله تعالى بدون علم لتقرير وإثبات مضمون الإحتجاج الأول وأنهم لم يتخذوا عند الله عهداً، وان الكتب السماوية السابقة خالية من هذا العهد، وتدل عليه عمومات جعل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختبار.
السادسة : حث اليهود وأهل الكتاب عامة على لزوم الإستعداد لعالم الآخرة، وما فيها من الجزاء على الإيمان وعمل الصالحات بالخلود في الجنة، والجزاء على الكفر وفعل السيئات باللبث الدائم في النارقال تعالى [وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
التفسير
قوله تعالى [وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعدُودَةً]
الضمير في [ قالوا ] يعود لفريق من بني إسرائيل بدليل قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ]( ) ، وللأخبار الواردة في أسباب النزول ولعدم نسبة هذا القول إلى النصارى، ولسياق الآيات.
لقد زعموا أنهم لن يعذبوا في الآخرة بالنار إلا أياماً قليلة وان تعددت وعظمت ذنوبهم، وهذه القلة نوع إكرام لهم، أرادوا بذلك الرد على المسلمين وما في القرآن من الوعيد، كما أنهم قصدوا من ورائه التغطية على مواصلتهم إرتكاب الذنوب بالقطع في تحديد مدة العذاب الأخروي عليهم من غير إعتبار لتماديهم في الذنوب ، إنه نوع إصرار عليها وتهاون في عواقبها تفضل الله بفضحه رحمة لنا ولهم وللناس جميعاً.
وقد ورد في آية أخرى وصف لهذا القول بأنه إفتراء في الدين أي أن هذه الدعوى من التحريف ولا أصل لها، قال تعالى [ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ]( ).
ومن الآيات الإعجازية في القرآن الدليل على أهلية المسلمين لحفظ شريعة التوحيد في الأرض، إن لفظ [مَعْدُودَاتٍ] ورد مرتين في فرائض المسلمين ومدحهم، الأولى في الصيام [ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ…]( )، والثانية في الحج [ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ]( ).
وبإعتبار أن [مَعدُودَةً ] تفيد ذات المعنى والدلالة للفظ [ مَعْدُودَاتٍ ] فتعتبر الكلمة قد ذكرت في القرآن أربع مرات، مرتين في ذم شطر من أهل الكتاب لتحريف الكتاب وادعاء ما لم يكن في الشريعة، ومرتين في مدح المسلمين وإكرامهم والإخبار عن تعاهدهم لأحكام الشريعة.

قوله تعالى [ قُلْ اتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ]
الألف في [اتَّخَذْتُمْ] للإستفهام الإنكاري، وعهد الله تعالى بوحي على نبي من أنبيائه أو بكتاب منزل، وجاء الأمر في الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ب[ قُلْ ]، وهو نوع جهاد لإبطال المقالات التي لا أصل لها والتي لها أضرار بالدعوة الإسلامية و بالتركيبة العامة للعقائد ومفاهيمها.
وهو عام للمسلمين جميعاً بواسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لمواصلة التبليغ والإنذار والزجر عن الإفتراء على الله عز وجل، وفي الآية رحمة وفضل على بني إسرائيل فهي تخلصهم من الإدعاء الذي يجعلهم يركنون إلى المعاصي، فلا ينحصر موضوعها بالتخويف والوعيد إنما تخبر عن الواقع والحق، وأن عذاب يوم القيامة ليس محدوداً ببعد زماني معين بل إن المجرمين والكافرين خالدون في النار.
إن هذا القول متصل بالآية السابقة، وفيه إخبار عن التحريف وكتابة الكتاب بالإختراع من الذات ونسبته إلى التنزيل أو النبي أو التأويل، وجاءوا به في مقابل حقيقة عقائدية وهي خلود الكافرين في النار، فكأنهم قالوا بالتمييز بينهم وبين الكفار والمشركين وأن الخلود في النار خاص بالكفار وهم منزهون عن الكفر لأنهم يقولون بنبوة موسى عليه السلام ومن سبقه ولأن آباءهم يشفعون لهم ويدخلون الجنة، وهم على ذات النهج والتصديق، فجاء في الآية الإحتجاج مقروناً بالتحدي والتوبيخ.
بعد أن بينت الآية إدّعاءهم بعدم اللبث في النار إلا أياماً قليلة وهذا اللبث على نحو المس العرضي وليس الدخول في جوف النار، لأن من خصائص المس سرعة مغادرة النار، والإبتعاد عنها، وقد يقصدون أنه لا يخالطون أهل النار من الكفار والجاحدين للتباين الموضوعي بين أتباع الأنبياء وبين الكافرين بنبوتهم.
ومن إعجاز القرآن أن الآية لم تترك قولهم سدى، ولم ترد عليه الآية بالجدال أو اللعن، والذم، بل جاءت بالإحتجاج وسؤال البرهان على قولهم بما يبين أنه قرية لا أصل لها، هل أخذتم موثقاً من الله عن طريق الأنبياء السابقين، هل آمنتم بالنبوات والرسالات السماوية.
لقد سألهم الله عز وجل البرهان على قولهم، ثم تفضل الله وعده لبيان قانون ثابت، وهو أن الله عز وجل إذا وعد وأعطى عهداً فأنه سبحانه ينفذ هذا الوعد لأن الأشياء كلها مستجيبة له سبحانه وهو على كل شيء قدير، وبيان هذا القانون وتأكيد من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وجاءت الآية بصيغة الخطاب والأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل أتخذتم……..) وفيه آية في مدارس الإحتجاج وصناعة البرهان، فلم يأت الإحتجاج من الله إلى بني إسرائيل مباشرة بواسطة التنزيل، بل ورد بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم وهو آية في إكرامه وتلقينه صيغ الإحتجاج وكيفية إقامة البرهان، قال تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
بحث كلامي
من صفات الله تعالى الثبوتية، أنه صادق فيما يعد ويخبر، أما الكبرى فإنه تعالى القوي الغني المنزه عن القبيح مطلقاً، وأما الصغرى فإن الكذب قبيح ذاتاً لأنه إخبار غير مطابق للواقع، وليس من واسطة بين الصدق والكذب مطلقاً أي من كل احد، وأن الكذب يدل على النقص في الذات ويستحيل النقص عليه تعالى لأنه مظهر الكمالات كلها وبوجهها الأتم ومن كل جهة إذ أن واجب الوجود يمتنع تغيره وأنفعاله وتجدد شيء له للثبوت العقلي الدائم لصفاته وما هو من شأنه، وهو الذي يتفضل بالكمالات ومنها الصدق بالوعد والوفاء به وهو من مصاديق الخير، والله لا يخلف وعده لأن عدم الوفاء بالوعد من الشر الذي هو عدم كمال الشئ والله سبحانه منزه عن الشر وقد ثبت وصف الخيرية في كل فعل إلهي.
إن الله تعالى حكيم أحاط بكل شئ علماً ولا يصدر الشيء منه إلا بتمام الإتقان والخلو من النقص والعيب، كما أن الوفاء بالعهد من أسباب النظام الأحسن.
ومن صفات الله تعالى الثبوتية أنه جواد، والجود الإعطاء وإيصال النفع إلى الغير من غير عوض، وهو الذي أفاض الوجود على الممكنات ولا تنفد خزائنه مع كثرة العطاء ، وليس له من غرض بالوعد إذ أنه في ذاته ملك غني عن غيره.
وبما أن [لن] حرف لنفي الإستقبال ولأن صفاته تعالى لا تتغير ولا تتبدل، وإنما الإنكار والتوبيخ ورد على قولهم ما لا يعلمون وعدم وجود مثل هذا الوعد.
قوله تعالى [أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]
[ أَمْ ] حرف عطف وتسمى أيضاً المعادلة لأنها تعادل الهمزة في إفادة معنى الإستفهام الذي تدل عليه الهمزة في [ أتخذتم ] أي أنها تعطي لمعطوفها الذي جاء بعدها ذات المعنى الذي دخلت عليه الهمزة، والمعنى واحد إن قيل [ أَمْ ] في المقام حرف إضراب جاء بعد إستفهام إنكاري وليس حقيقياً، ومعها كحرف إضراب هنا تقدير لحرف إستفهام بعدها كي يستقيم المعنى.
وفي الآية نعت لهم بالجهل وظلم النفس والآخرين بقول الباطل وإختيار الأثم بالإفتراء والكذب.
إنه نوع من الذم لهم بنسب ما يزعمون من البقاء في النار مدة قليلة إلى أمرين لا ثالث لهما، وكل منهما باطل لا أصل له.
وعلى القول بأن المس خالٍ من الإحساس بخلاف اللمس، يكون قولهم [ لَنْ تَمسَّنَا النَّارُ ] نفياً كلياً أو جزئياً للألم والعذاب، وتلك نكتة في علم التفسير، ودقة في بيان أفراد من كلامهم وقصدهم السلامة من العذاب الأخروي.
وفي الآية توبيخ إجمالي لمطلق الذين ينسبون أموراً إلى الله تعالى فعلاً وأمراً، وما يتعلق بالخلق كلاً أو جزءً، جهلاً أو جرأة عليه تعالى أو غروراً او تغريراً بالآخرين، وفيها ايضاً ذم لهم بعد ثبوت انه تعالى لم يعدهم به، لا لأن حكمه تعالى من حيث ماهية ونوع العقوبة على المعصية لا يختلف
في جميع الأمم فإن الله تعالى يفعل ما يشاء، إلا أن موضوع الوعد لبني إسرائيل بمحدودية العقوبة زماناً وحصرها بأيام قليلة لم يثبت وهو مخالف لنواميس التكليف في الأرض والآية التالية تدل عليه.
وفي الآية فضل على بني إسرائيل برفع الوهم عنهم، ورفع الضلالة والظن بالتفضيل في الآخرة بنوع العقاب كماً وكيفاً، وهذا الظن نوع تحريف أيضاً، ومن أضراره التغرير بهم وظهوره في أقوالهم وأفعالهم منفردين ومجتمعين وصدهم عن الإسلام بناء على أمر لا أصل له.
إن مثل هذه الآيات مصداق لقوله تعالى [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) فالآيات التي فيها توبيخ لبني إسرائيل إنما هي باب هداية ورشاد لهم وللأمم الأخرى.
ولا يتعارض ذمهم ولومهم مع الآية أعلاه بل هما من مصاديق الرحمة والرأفة، ولذا جاء في الفقه إن من موارد جواز الغيبة القدح بالمقالات الباطلة لحفظ صاحبها وغيره من الوقوع في الضرر، وإن كان فيه نوع توبيخ له لذا يرد في الرسائل العملية، ولكن هذا القدح وبحسب الظاهر خارج عن أفراد الغيبة على نحو التخصيص، وفي الآية الكريمة دعوة وتعليم للمسلمين وإرشاد ونصح بني اسرائيل بل والغلظة في مواجهة وجوه الضلالة.


قوله تعالى[ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ] الآية 81.
الإعراب واللغة
بلى: حرف إيجاب مختص بالنفي، ويفيد إبطاله بالتقرير والإثبات كما تقول: ألم يهل هلال شهر رمضان؟ فيقول: بلى أي أنه يقر بإهلاله، ولم يستعمل نعم في جواب الإيجاب والإثبات لمنع الإلتباس، لأن نعم جواب يتبع ما قبله في الإثبات والنفي، فان قلت: ليس هذا كتابي؟ فان قال: بلى فانه إقرار وإثبات بخلاف ما لو قال: نعم، وان كانت المحاورات العرفية في هذا الزمان، وفي بعض الأمصار تستعمل بلى للإثبات والتقرير في جواب الإيجاب، وربما تعدى للسياق والإستصحاب إلى جواب النفي.
من: اسم شرط جازم وهو مبتدأ.
كسب: فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو .
سيئة: مفعول به منصوب بالفتحة، وأحاطت: عطف على كسب، به: جار ومجرور متعلقان بأحاطت .
خطيئته: فاعل مرفوع، وهو مضاف والضمير الهاء مضاف إليه.
فاولئك: الفاء رابطة لجواب الشرط، واسم الإشارة مبتدأ، أصحاب النار: اصحاب: خبر، النار: مضاف اليه.
والسيئة: الخصلة والمعصية التي تسوء صاحبها عاقبتها، وأصل السوء الكره يقال: أساءه يسوءه سوءاً إذا أتاه بما يكرهه، وقد تقع السيئة على المصيبة والبلية.
في سياق الآيات
جاء حرف الإيجاب [ بلى ] لتوكيد حقيقة في عالم الحساب وهي بإن الذي يقيم على السيئات والمعاصي والجحود يخلد في النار، ولن يبقى الإحتجاج على نحو التساؤل فقد تضمنت هذه الآية الإجابة عليه.
وجاء هذا الحرف لتوثيق قولهم على الله بغير علم وان لبث الكفار والظالمين في النار لن يكون لفترة وجيزة وأيام معدودة، فالمدار على الخلود في النار على فعل السيئات وإرتكاب الكبائر وليس من خصوصية وعفو خاص للإنتساب إلى التوراة أو الإنجيل.
وتدعو الآية الأميين من بني إسرائيل الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني إلى الإلتفات إلى قوانين الجزاء يوم القيامة، ومنها الخلود في النار للذين يحرفون الكتاب ويكتمون ما أنزل الله، وإذا كان الرؤساء يقولون بأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة فان الأتباع الذين [َإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ] ( )، يقولون لا يصيبنا العذاب من باب الأولوية.
فجاءت هذه الآية لإخبارهم بإطلاق القانون والحكم العام للناس جميعاً بأن كل من فعل السيئات، وأحاطت به ذنوبه فان النار مثواه خالداً فيها ليتلقى كل مكلف منهم الخطاب الإلهي بواسطة القرآن على نحو البيان وبوضوح ليكون نعمة أخرى على بني إسرائيل عامة تتضمن منع الجهالة والغرر، وعدم إتخاذ الظن غير المعتبر طريقاً لأحوال الناس يوم القيامة، إذ جاءت هذه الآية بالقطع واليقين.
وجاءت الآية التالية في مدح الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والإخبار عن لبثهم الدائم في الجنة، ليكون الجمع بين الآيتين دعوة للناس للهداية والصلاح.
إعجاز الآية
في الآية قاعدة كلية لا تتعلق بأمة دون أخرى ولا بشخص دون آخر، نعم الملاك واضح وجلي، والملازمة بين فعل السيئات والمعاصي وبين دخول النار ظاهرة ومعلومة.
ومن إعجاز الآية أنها تضمنت ذكر قانون ثابت، مع مجيئها بمورد خاص، ورداً على فريق من أهل الملل السابقة، فلم ينحصر موضوع الإحتجاج بالإخبار عن إقامة الجاحدين الفساق منهم في النار وبما ينفي اللبث القليل في النار.
بل جاءت الآية بحكم إستغراقي عام وهو من أسرار إحاطة كلمات القرآن المحدودة بالوقائع والأحداث اللامحدودة، ولتكون الآية إحتجاجاً على هذا القول وغيره مما يتعارض مع قانون خلود الكفار في النار، ومن إعجازها أنها ذكرت إجتماع صفتين في أهل النار، وكل فرد منهما معصية مستقلة وقائمة بذاتها وإن تعلقا بموضوع واحد من المعاصي، وهما:
الأول : فعل السيئة.
الثاني : إحاطة السيئة، والمعصية بصاحبها بإصراره عليها، ومغادرته الدنيا من غير توبة ولا ندم وإستغفار.
ولم تقل الآية “وأحاطت به سيئته” بل ذكرت الآية الخطيئة وجعلت لها الفاعلية والإحاطة لبيان أنها أعم من فعل الفرد من السيئات والذي يأتي بلحظة وساعة شهوة وطمع، بينما تعني إحاطة الخطيئة الإطباق وقيام الحجة على المسيء، وتعدد أفراد الذنب والتلبس به والإحاطة عليه.
ولم يرد لفظ “خطيئته” بصيغة المفرد إلا في هذه الآية، وجاءت آيات القرآن بحث بني إسرائيل والناس جميعاً على الإنابة والإمتثال كيلا يأتون يوم القيامة وقد أحاطت بهم خطاياهم قال تعالى [وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ]( ).
ويمكن تسمية الآية بآية (كَسَبَ سَيِّئَةً) ولم يرد لفظ (من كسب سيئة) في القرآن الا في هذه الآية وكذا لفظ أحاطت ولفظ خطيئته.
الآية سلاح
الآية تنزيه للمسلمين وحث لهم على الإرتقاء في مسالك التقوى والإحتراز من السيئات، وإنذار للكفار والمشركين، وتحذير لهم من التمادي في الجحود هي سلاح تأديبي حي وحاضر في كل زمان ومكان، والإقرار بدخولهم النار أياماً معدودات حجة عليهم ودليل على إستحقاقهم للعذاب.
وقد جاءت الآيات بالبشارة للمسلمين بالنجاة من حرها وعذابها، وهي أعظم بشارة تتضمن السلامة والأمن يتلقاها إنسان، وتدل عليها هذه الآية في مفهومها، وفيها دعوة للناس جميعاً للوقاية من النار والخلود فيها بإجتناب السيئات والإقامة فيها، ومن أسرار هذه الآية إطلاق الحكم فيها، وعدم وجود مخصص في البين.
وإبتدأت الآية بحرف التصديق (بلى) لتأكيد قانون كلي وهو علم أهل الكتاب والناس بأن التلبس بالمعاصي على نحو السالبة الكلية طريق مظلم للهوي في الجحيم.
فمن إعجاز القرآن أن يأتي حرف الإثبات أو النفي لموضوع في الآية القرآنية ولكن دلالاته أعم، والحجة فيه ظاهرة على الناس، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
مفهوم الآية
الآية حكم سماوي ثابت لم يستثن منه أحد من البشر، وفيه غاية الإنذار والوعيد ولكنه رحمة لأهل الكتاب لما تظهره الآية من إبطال لدعوى زائفة ومنع من وجودها الذهني المؤثر على الجوارح والظاهر خارجاً في الأفعال، فالذي يظن أنه ولسبب إنتمائه الديني لن يعاقب في الآخرة يتمادى بإرتكاب الذنوب، ويقابل البعثة النبوية بالجحود، والآيات بالكفر، فجاءت هذه الآية لدعوته إلى الإسلام والعمل الصالح بإبطال الدعوى الزائفة.
فهذه الآية عون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ورحمة للناس بطرد الأماني المرتكزة على الوهم والإفتراء، وهي حرب على الرهبان الذين يحرفون الكتاب ويخبرون الأتباع كذباً باختصاصهم بالأمن في الآخرة ليعرضوا عن الإسلام والآيات القرآنية.
وفي الآية مسائل:
الأولى : التحذير والتخويف من فعل السيئة.
الثانية : إطلاق لفظ الكسب على (سيئة) مما يدل على تعلقها وأثرها بصاحبها.
الثالثة : إحاطت الخطيئة بالفاعل، وكأن الآية تبين وجود برزخ بين فعل السيئة وثبوت التعلق، هذا البرزخ فرصة للندم والإستغفار والإنابة، فان لم تحصل الإنابة تحيط الخطيئة بصاحبها.
الرابعة : بعد الإصرار على الخطيئة وعدم الرجوع عنها يستحق العبد العقوبة بالنار.
الآية لطف
لقد جعل الله عز وجل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ورحمة بالناس جميعاً وإذ تكلم فريق من أهل الكتاب عن عالم الجزاء بما لا أصل له، فقالوا بعدم لبثهم في النار إلا أياماً قليلة، جاءت هذه الآية الكريمة لدفع وهم ومنع الظن غير المعتبر الذي يؤدي إلى الإسراف في المعاصي، والإصرار على الجحود.
وصحيح أن الآية جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن الإنذار والتخويف والوعيد من فعل السيئات وإرتكاب المعاصي، وجاء الشطر الأول من الآية بصيغة المفرد والجملة الشرطية “من كسب سيئة” وجاء الشطر الثاني من الآية بلغة الجمع، وفيه مسائل:
الأولى : الإخبار عن قانون عام وثابت في عالم الجزاء، وهو خلود أهل الذنوب والفواحش في النار.
الثانية : شمول حكم العقاب الأخروي للكفار عامة، وعدم الإستثناء، قال تعالى [وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] ( ).
الثالثة : محاكاة لغة الجمع التي جاءت بها الآيات السابقة.
الرابعة : الإشارة إلى إشتراك الكفار والظالمين في فعل السيئات، بالتسبيب والمباشرة، والأمر من الأعلى والإمتثال من الأتباع.
الخامسة : الإنذار والوعيد للذين يقومون بتحريف الكتاب، وكتمان حقائق التنزيل.
وتبين الآية حقيقة وهي أن إرتكاب السيئات متكرر وخال من الندامة, ولحاظ الآية التالية وما فيها من البشارة للمؤمنين بالجنة الزجر عن الإقامة على المعاصي .
إفاضات الآية
تجعل الآية النفس الإنسانية تنفر من الذنب وتتجه نحو الصلاح وتلتفت إلى لزوم التوبة والإستغفار، وفيها إشارة إلى الوزر الثقيل الذي يسببه الذنب والخطيئة ويقود إلى النار.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على عالم الحساب والجزاء، وأن الحياة الدنيا دار عبور إلى حياة أبدية يكون فيها الناس على قسمين متباينين، فأخبرت بمنطوقها عن أهل النار وخلودهم فيها، لتدل في مفهومها على خلود المؤمنين في الجنة والنعيم الدائم، والترغيب بعمل الصالحات وهو الذي جاءت به الآية التالية ليكون الجمع بين الآيتين وسيلة لإصلاح الإنسان وبعث الشوق في نفسه لفعل الصالحات، والنفرة من السيئات.
وجعلت الآية الخطيئة فاعلاً ولها موضوعية وشأن , فمع أنها صادرة من العبد نفسه فإنها تحيط به كالشرنقة، وتلك آية في بلاغة القرآن تتضمن ملازمة الخطيئة ومصاحبتها لصاحبها .
إنها تخبر بأن السيئات عرض قبيح وجاثوم يجب على الإنسان أن يتخلص منه ويعلن براءته منه بالإستجارة بالله واللجوء إلى الإنابة والمبادرة إلى إتيان العبادات وفعل الصلاة، وفي الصلاة قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
ومن معاني الإحاطة في المقام أن المعاصي تحجب عن صاحبها رؤية ضياء الهداية، وتمنعه من إتخاذ الصراط المستقيم طريق للنجاة.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بجواب النفي (بلى) الذي يتضمن إنكار قولهم عدم اللبث الطويل في النار، وبينت موضوع دخول النار، وهو:
الأول : كسب السيئة.
الثاني : إحاطة الخطيئة به.
فالأول جاء بإختياره وفعله القبيح، أما الثاني فان خطيئته وفعله السيئ كسور السجن عليه الذي يفصل بينه وبين الأمن والسلامة في الآخرة.
ومن الإعجاز أن الآية لا ترد مباشرة على قولهم بالبقاء أياماً معدودات في النار بالنفي، والإخبار بأنهم خالدون في النار، بل ذكرت قانوناً ثابتاً، وحكماً إلهياً في عالم الجزاء، وهو الخلود في النار لمن يفعل السيئات ويصر على المعاصي، ويموت من غير توبة وإنابة.
لتبين الآية الوجه المشرق للغة الإنذار والوعيد في القرآن وأنه نزل لإصلاح وهداية الناس، ومنع اللبس والجهالة والغلو، إذ يقول جماعة منهم لن تطول إقامتنا في النار وإن المعاصي التي نرتكبها يعفو عنها الله فيستمع لهم العامة والأميون منهم، وقد يتمادون في الغي والجحود.
فجاءت الآية لدعوة العامة والناس جميعاً إلى عدم الإنصات للدعوى الباطلة التي لا أصل لها، ولترغيبهم بالإسلام، وجاءت الآية التالية بالبشارة للمؤمنين بقوله تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
وقيل (قال وأحاطت به خطيئته ولم يقل وأحاطت به سيئته) خالف بين اللفظين ليكون أبلغ وأفصح).
ولكن المعنى أعم وله دلالات عقائدية وكلامية، وبين الخطيئة والسيئة عموم وخصوص مطلق فكل خطيئة هي سيئة وليس العكس.
وجاء ذكر الخطيئة للحث على الإستغفار والتوبة والإيمان، فالتوبة ماحية للسيئة والخطيئة، وفي التنزيل [إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا]( )، وفي الجمع بين هذه الآية والآية السابقة زجر عن فعل السيئات والإتكال على الدعوى الباطلة بالبقاء أياماً معدودات في النار، فكل من يشرك بالله ويصر على الذنوب والمعاصي يكون مصيره الخلود في النار.
التفسير الذاتي
تأتي (بلى) لإثبات نفي سبقها كما في قوله تعالى [قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى]( )، وجاء بعده قوله تعالى [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ] أي يدخل الجنة غيرهم.
وإبتدأت الآية بالحرف (بلى) لإثبات خلود الظالمين في النار، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ]( ).
لقد جاءت هذه الآية لنفي ما إدعوه من نفي اللبث الدائم في النار للذين ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبشارات التي جاءت بها في التوراة والإنجيل بلحاظ أن نفي النفي إثبات.
وجاءت الآية قبل السابقة بالوعيد وتكرار الويل للذين يفترون على الله الكذب، ويكتبون ما ينسبونه إلى التنزيل، وجاءت الآية السابقة بالإدعاء بعدم البقاء في النار إلا أياماً قليلة، وعلى نحو المس الخالي من الألم والعذاب.
فجاءت هذه الآية رحمة بهم وبالناس جميعاً بكشف الحقائق، وبيان علوم الغيب وقانون ثابت في الإرادة التكوينية، ترى لماذا لم تقل لهم الآية (بلى إنكم أصحاب النار) الجواب من وجوه:
الأول: جاءت الآية لبيان حكم كلي في عالم الجزاء والعقاب.
الثاني: المدار في إستحقاق النار على إرتكاب المعاصي وليس على الإنتساب والصفة.
الثالث: بيان موضوعية التوبة وبقاء بابها مفتوحاً للناس جميعاً، قال زر: وما التوبة النصوح؟ قال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : هو الندم على الذنب حين يفرط منك، فتستغفر الله بندامتك عند الحافر، ثم لا تعود إليه أبداً)( ).
الرابع : منع اليأس والقنوط من الدبيب إلى النفوس.
الخامس : جاءت الآية للإحتجاج والرد على قول لا أصل له.
السادس : الآية شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله لما فيها من الإعجاز في كيفية نفي وإبطال الإفتراء بخصوص عالم الآخرة.
السابع : إنه من عمومات أن الدنيا دار إمتحان وإختبار بأن يأتي الإحتجاج بصيغة البرهان، ونفي القول بغير الحق، ودعوة الناس للصلاح والإستعداد للآخرة.
الثامن : من إعجاز الآية أن موضوعها أعم، وهو من أسرار بقاء الآية القرآنية غضة حية ذات أثر في القلوب والمجتمعات إلى يوم القيامة.
التاسع : تدعو الآية للإستقراء العقلي، وتحث الإنسان على توظيف العقل وإستنباط الحكم، ومعرفة سوء عاقبة الظالمين لأنفسهم الذين يرتكبون المعاصي والسيئات.
العاشر : تبين الآية رأفة الله عز وجل بالناس، وأن الخلود في النار لا يأتي إلا بالإصرار على المعاصي والإعراض عن الإستغفار والتوبة وأسباب الهداية والرشاد.
لقد ذكرت الآية أربعة أطراف هي:
الأول : إرتكاب المعاصي والسيئات.
الثاني : الإقامة على المعاصي، وغلق العبد باب التوبة على نفسه بإصراره عليها.
الثالث : ملازمة أهل المعاصي للنار يوم القيامة، وإستحقاقهم لصفة (أصحاب النار) وما فيها من الذم والتقبيح والوعيد.
الرابع : خلود الكفار في النار.
ومن إعجاز الآية التباين اللفظي بين السيئة والخطيئة مع إفادة الترادف بينهما ومجيئهما بصيغة الفرد، وإرادة الجنس والكثرة في كل منهما وكأنهما من المترادفين.
وجاءت السيئة بصيغة المفعول به، وأن المكلف هو الذي يكسبها.
أما الخطيئة فجاءت بصيغة الفاعل فهي تحيط بصاحبها، وتحدق به من كل جانب لأنه لا يمتثل للأوامر الإلهية، ولا ينزجر عما نهي عنه من الذنوب، ففي كل باب وميدان تكون له معصية وذنب، ولم يسعف نفسه بالتوبة والإستغفار، ويغادر الدنيا حاملاً أوزاره والذنوب التي إرتكبها.
والآية وإن جاءت بصيغة الوعيد والجملة الخبرية إلا أنها دعوة للناس لنبذ الذنوب والمعاصي، وحث لهم على التوبة والإنابة، والخشية من النار والخلود فيها، ومن يخش شيئاً يجتنبه، كما أنها تمنع من التمادي في الذنوب والإقامة على المعصية، وهو من رحمة الله عز وجل بالناس في الحياة الدنيا، على وجوه:
الأول : إنها إتمام الحجة عليهم، ومنع الغرور والغواية، فهذه الآية وما فيها من الوعيد لطف إلهي بالناس.
الثاني : في الآية زجر عن المعاصي والسيئات لتأكيد سوء عاقبتها.
الثالث : الآية باب للتوبة والهداية والإنابة.
الرابع : مضامين الآية حرب على الظن، وبرزخ دون إتباع الناس له.
الخامس : شاهد على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) من وجوه:
الأول : التنزه عن إتباع الظن.
الثاني : إجتناب السيئات وفعل المعاصي.
الثالث : الإمتناع عن إحاطة الخطيئات بهم.
الرابع : دعوتهم الناس للإستعداد للآخرة، والإيمان وفعل الصالحات.
الخامس : ما تدل عليه تلاوة هذه الآية من التفقه في الدين، والإرتقاء في المعارف، وورد في قوم نوح قوله تعالى[مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا] لبيان أن النار عاقبة الظالمين وإن ماتوا غرقاً وبالطوفان، وعن الضحاك (كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب) ( )، ولكنه يحتاج إلى دليل .
وتبين الآية أعلاه الترتيب والتوالي بين الغرق ودخول النار , والأصل هو سوء العاقبة والعذاب في الآخرة، وجاء تنكير النار لبيان أهوالها ولإنصراف اللفظ إلى نار الآخرة.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى : تتضمن الآية الإحتجاج على بني إسرائيل بذكر قوانين ثابتة في أحكام الآخرة.
الثانية : الإخبار عن موضوعية الإصرار على الذنب في إستحقاق الخلود في النار، إذ جعلت الخلود في النار معلقاً على إجتماع أمرين متداخلين هما:
الأول : فعل السيئة.
الثاني : إتيانها عن جحود وعناد وإصرار.
الثالثة : في الآية دعوة للمبادرة إلى التوبة وعدم مغادرة الدنيا بالإقامة على الكفر.
الرابعة : الجحود بالنبوة وإنكار المعجزات العقلية والحسية معصية تستحق اللبث الدائم في النار وليس البقاء المؤقت فيها.
الخامسة : العناية الإلهية بالناس جميعاً وتخويفهم من عذاب النار، واللطف ببني إسرائيل بنفي القول بالخروج السريع من النار بسبب النسب والإنتماء ليعقوب النبي وشريعة موسى.

التفسير
قوله تعالى [بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ]
الآية الكريمة نفي لإدعائهم قصر مدة بقائهم في النار وحصره بأيام قليلة بالإثبات المطلق للخلود في النار لأولئك الذين يعملون السيئات من غير هجران لها ولا توبة.
لقد جاءت الآية الكريمة بلغة العموم [ مَن ] وهو اسم شرط يفيد العموم والإستغراق، وبه قال المعتزلة وإستدلوا بآيات عديدة من القرآن، وجملة من الأخبار، ونفى الأشاعرة دلالتها على العموم دلالة قطعية وقالوا أنها احياناً تدل على البعض أو الأكثر.
والخلاف صغروي للإجماع على أن الأمر بيد الله وهو الواسع الكريم ان في الآية حكماً عاماً لا ينحصر بملة دون أخرى أو بأمة معينة، والمدار في الجزاء وسوء العقاب على ما يأتيه المكلف من الأعمال، وإن الإنتماء إلى ديانة سماوية ليس بعلة تامة للنجاة من العقاب، وعلى فرض وجود مثل هذا الأمر، أي البقاء المحدود في النار فإنه ليس بمطلق وغير مخصوص بأمة دون أخرى، إنما يتعلق بنوع الأعمال وبمورد الشفاعة ونحوها مما جاءت به النصوص.
وفي السيئة الواردة في الآية أقوال:
الأول : إنها هنا الشرك، وبه قال ابن عباس ومجاهد وقتادة( ).
الثاني : هي الكبيرة الموجبة للنار، وبه قال الحسن البصري.
الثالث : هي الذنوب التي أوعد الله عليها النار.
وحكم الآية يشمل هذه الوجوه كبرى وصغرى، أما الصغرى فإن السيئة أعم من الشرك وإن كانت على مراتب متفاوتة، وأما الكبرى فإن الخلود في النار لا يتعلق كعقوبة بفعل السيئة، والآية صريحة بتعدد العلة ووحدة المعلول وفق الإصطلاح الفلسفي، أو بتعدد الشرط وإتحاد الجزاء وما يسمى في علم الأصول بتداخل الأسباب وإجتماعها ليكون لها جزاءً واحداً، او كما في المنطق في القضية الشرطية المنفصلة المركبة، فيضاف إلى فعل السيئة إحاطة الخطيئة بصاحبها.
قوله تعالى [وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ]
أقوال :
الأول : المراد بالخطيئة الشرك ، روي عن ابن عباس والضحاك وأبي العالية.
الثانية : إنها الكبيرة، عن الحسن البصري.
الثالثة : إنها الإصرار على الذنب، عن عكرمة ومقاتل..
ترى هل من فرق بين السيئة والخطيئة في الآية، وبالنسبة للقولين الأول والثاني لا يبدو من فرق بينهما وان كانت الكبيرة أعم من الشرك وبينهما عموم وخصوص مطلق، ولكن الكبائر على مراتب أسوؤها وأكثرها قبحاً الشرك بالله، والثالث أعم من الثاني لصدق الإصرارعلى الكبيرة او الصغيرة بل إنه يرقى بالصغيرة إلى حد الكبيرة، وقد ورد في الحديث: (إنه لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الإستغفار)( ).
لقد إهتم المفسرون بموضوع الخطيئة الواردة في الآية، والأولى أن يكون الإلتفات معها إلى معنى الإحاطة فيها والنظر اليها من جهة الأخلاق والعرفان وعلم الكلام. إنها تعني وغياب البصير والتردي في المعاصي وغلق باب الإستغفار على النفس من خلال عدم التفكر بسوء الفعل والإمتناع عن إستحضار العاقبة وما يجب على الإنسان أداؤه من التكاليف والفرائض، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ولتكون الحجة لله عز وجل جلية , فيأتي إلى الكافر الأجل من غير أن يبادر إلى التوبة فيستحق البقاء الدائم في العذاب الأليم.
خالفت الآية بين لفظي السيئة في بداية الآية والخطيئة في أخرها ليكون أبلغ وأفصح، بالإضافة إلى المعنى الأعم بلحاظ نكتة كلامية في المقام وكأن بين السيئة والخطيئة عموم وخصوص مطلق، فالخطيئة أعم وتفيد الكثرة والتعدد في الذنوب، والإصرار عليها، إلا أن الإثنين تدركهما رحمة الله عز وجل بالإستغفار والتوبة وفي توبة السحرة ورد في التنزيل [إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
إلا أن من تحيط به ذنوبه وتحدق به من كل صوب فيغادر الدنيا وهو يحمل وزر الكبيرة والإثم والبهتان من غير توبة وإنابة وتدارك فان مصيره الخلود في النار، كما بينت هذه الآية، وفيه ترغيب بالتوبة، وحث على عدم الإصرار على الذنوب، والسيئة أعم من الذنب، فتشمل المحنة والإبتلاء كما في قوله تعالى [وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا] ( )، وإن جاءت الآية محل البحث بقرينة تدل على الذنب والمعصية لقوله تعالى [كَسَبَ سَيِّئَةً]أي أنه سعى للمعصية بإختياره , حتى تصبح كالطبع على القلب وصيرورة إرتكاب المعصية سجية لا يقوى على مغادرتها
قوله تعالى [فأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]
لقد بينت الآية الكريمة حكماً عاماً لجميع الناس وإن اختلفت التكاليف بين الأمم زيادة وقلة، تشديداً أو تخفيفاً.
وفيها رحمة لبني إسرائيل بنسخ وبيان زيف وبطلان ما يدعون، ولفت إنتباههم إلى إعتبار العمل وحده يوم الجزاء، وهي دعوة لهم بالصلاح وإتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإنقياد لما جاء به من عند الله تعالى.
وفي الآية إرشاد وتنبيه للمسلمين بأن التفضيل يوم القيامة على العمل، والصالح منه هو الذي يكون واقية وحرزاً من النار والخلود فيها، إذ أن الإنذارات القرآنية التي تخص الأمم الأخرى إنما هي موعظة وذكرى للمسلمين.
إن قيد (الإحاطة) أي إحاطة وإطباق فعل السيئة بالإنسان إشارة إلى ثقل وزها وعدم إدراك الرحمة والعفو لصاحبها، فكأن هذه الإحاطة حاجز إختياري يلف به الإنسان نفسه ليمتنع عن العفو ويكون دخوله النار باختياره وعناده، فجاءت هذه الآية للتذكير ولإعانة العبد على التخلص من هذا الحاجز الكثيف الذي قوامه الذنوب والخطايا.
إن الخلود في النار بحسب هذه الآية الكريمة نتيجة ومعلول لإجتماع أمرين معاً:
الأول: فعل السيئة وإتيان الفواحش.
الثاني: الدوام والإقامة على السيئات إلى الموت من غير توبة.
وهذه الآية قاعدة كلية باقية إلى يوم القيامة، ولغة من لغات القرآن وهي التخويف بالوعيد والعذاب العام المعد بلحاظ الأعمال وليس الأشخاص والملل والأمم.
ولا يعتبر مضمون الآية إغراءً على المعاصي المقترنة بإضمار قصد التوبة مع التلبس بالمعصية، فالآية تحث على التوبة والتدارك والندم، وفيها دفع وهم بالإختيار والتفضيل والإستثناء لليهود او النصارى او أي فرقة من الملل أو أي أمة من الأمم للاسم والنسب وحدهما، وهو فرع من عدله تعالى.
إنه إنذار وتحذير فيه عون على الصلاح والهداية وترك الغيلة والنفاق وإيذاء المؤمنين.


قوله تعالى [ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ] الآية 82.

الإعراب
والذين: الواو: حرف عطف، الذين: اسم موصول مبتدأ.
آمنوا: فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول.
وعملوا: عطف على آمنوا.
الصالحات: مفعول به، منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة.
أولئك: مبتدأ، أصحاب: خبر أولئك مرفوع، وهو مضاف.
الجنة: مضاف إليه، والجملة الإسمية خبر الذين.
هم: مبتدأ، فيها: جار ومجرور متعلقان بخالدون.
خالدون: خبر للضمير هم.
في سياق الآيات
بعد ذكر الوعيد والتخويف بالنار والخلود فيها، جاءت هذه الآية للترغيب والوعد الكريم بالجنة للحث على التوبة والكف عن التحريف ونبذ كتمان الآيات.
ومن إعجاز نظم الآيات أن جاءت هذه الآية بلغة الإطلاق والقانون الثابت الذي لا يخص أمة دون أخرى أو أفراداً دون غيرهم، بل يكون الحكم فيها عاماً من غير حصر بالذين جاءت الآيات السابقة بلومهم وتحذيرهم، وإذ تضمنت الآية السابقة صيغتين وإبتدأت بالمفرد وأختتمت بالجمع، فأن هذه الآية جاءت كلها بصيغة الجمع لعطفها على آخر الآية السابقة بحرف العطف الواو، إذ إبتدأت بقوله تعالى[وَالَّذِينَ].
لتكون الآية دعوة للناس جميعاً ولبني إسرائيل خاصة للإيمان وإتيان الصالحات وإقامة الفرائض والإمتناع عن السيئات والمعاصي، وجاءت الآية التالية بخصوص بني إسرائيل وأخذ الله تعالى الميثاق عليهم بأن لا يعبدوا غيره سبحانه، ولا يتخذوا له شريكاً، وأمرهم أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، لبيان طريق الجنة، وإحراز مقدمات الدخول إليها، وبلوغ مراتب الذين ذكرتهم هذه الآية.
وبعد لغة التذكير بالنعم، والذم على الجحود بها جاءت لغة المدح للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، ويمكن أن نصفه بالإلتفات العقائدي للإنتفاع.
وتضمنت الآية قبل السابقة إدعاء فريق من أهل الكتاب قاموا بتحريف الكتاب بأنهم لا يلبثون في النار إلا أياماً قليلة، وأن هذا اللبث ليس عذاباَ اليماً، إنما تمسهم النار من غير ألم ثم ينتقلون إلى الجنة وأبطلت الآية هذا الزعم بالتحدي وتعليق مثل هذا القول على العهد من عند الله.
وليس من عهد في المقام لأمة مخصوصة باللبث المؤقت في النار، إنما المدارعلى العمل والفعل في الدنيا , وأن العقاب ينتظر الذين يرتكبون السيئات، قال تعالى[مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا]( ).
وجاءت هذه الآية بالعهد الصريح للمؤمنين الذين يعملون الصالحات بأن الجنة مثواهم الدائم ويتضمن الإحتجاج على الذين يدّعون المكث المؤقت في النار، بأن الإيمان بالله ورسوله وأداء الفرائض نافع من وجوه:
الأول : النجاة من ورود النار ومسها والمكث المؤقت أو الدائم فيها.
الثاني : دخول الجنة وبحبوحة النعيم.
الثالث : اللبث الدائم في الجنة بوعد من الله عز وجل.
وأختتمت كل من هذه الآية والآية السابقة بذات الكلمات (هم فيها خالدون) مع التباين والتضاد المؤبد بين الحال والمحل في كل منهما، فتتعلق خاتمة الآية السابقة بخلود الكفار الظالمين في النار.
وتتضمن خاتمة آية البحث الوعد الكريم، ليفيد الجمع بين الآيتين أن الدنيا مزرعة للآخرة وأن عالم الجزاء يتصف بالخلود والدوام، قال تعالى[وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( ).
إعجاز الآية
من الإعجاز في الآية الكريمة تعقب الوعد بالجنة للوعيد بالنار، ليكون هناك تعادل للخوف والرجاء بل وترجيح للرجاء بتعقبه للوعيد لتكون الآية بلغة للهداية إلى سبيل الخروج من الخطايا الى التوبة والصلاح، ومن إعجازها إقتران الإيمان بالعمل الصالح وعدم إمكان التفكيك بينهما أو كفاية الإيمان من غير أن يترجل على الجوارح وفي الأعمال.
وتبين الآية حقيقة في الإرادة التكوينية وهي حتمية عالم الآخرة ووجود ثواب وعقاب وأنه لا برزخ بين الجنة والنار، فأما الثواب والأجر في الجنة، وأما الإثم والعقاب في النار.
لقد ذكرت هذه الآيات فريقين من الناس , بينهما تضاد وتناقض في عالم الفعل وكذا في الجزاء يوم القيامة، إذ جاءت الآية السابقة بذكر المقيمين على المعاصي، وسوء عاقبتهم، وتضمنت هذه الآية الثناء والبشارة للمؤمنين .
ترى هل من برزخ ووسط بين الفريقين، الجواب لا، وهو من أسرار التعاقب بين الآيتين.
لمّا ذكرت الآية قبل السابقة نفي وجود عهد من الله لقوم مخصوصين بالبقاء المؤقت في النار، جاءت هذه الآية بالعهد بالبقاء الدائم في الجنة لمن إختار الإيمان بالله ورسوله والتصديق بنزول القرآن والعمل بأحكام الإسلام , والله عز وجل هو الواسع الكريم وجعل عهده بالخلود في النعيم لمن يخشاه ويطيعه.
ليفيد الجمع بين الآيات أن النعم الأخروية بعهد من الله في الدنيا، وأن عالم الحساب والجزاء يتجلى في آيات القرآن إذ جعلها الله عز وجل[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
فجاءت آية البحث بأعظم وأسمى عهد، وهو يتكون من فردين هما دخول الجنة والإقامة الدائمة فيها، وليس بينهما إنفكاك , ويترتبان على فردين مجتمعين غير متفرقين هما الإيمان والعمل الصالح، فالذي يحسن إلى الآخرين ويتقيد بالأخلاق الحميدة، من غير إيمان لا ينال هذا العهد، لأن الكفر والجحود بالتوحيد أو الرسالة من الظلم للنفس، قال تعالى[لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]( ).
ويمكن تسمية هذه الآية بآية “والذين آمنوا”

الآية سلاح
في الآية حث على الإيمان وإتيان الصالحات وإخبار وبشارة عما ينتظر المؤمنين في الدار الآخرة، وترغيب بعمل الصالحات مع نية وقصد القربة ومنها أداء العبادات والفرائض.
والآية سلاح للإحتجاج على أهل الكتاب، وشهادة بأن المسلمين الذين يؤدون الواجبات الشرعية ويبادرون إلى فعل الخيرات في حرز وواقية من عذاب مطلقاً لا دائماً ولا أياماً معدودة، وفيها حث للذين يقولون لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة باللجوء إلى الإيمان وفعل الصالحات للسلامة التامة من النار، وعدم دخولها.
ومن إعجاز نظم القرآن مجيء هذه الآية بعد آية الذم والتوبيخ والوعيد للذين يصرون على المعصية , وتخترق هذه الآية الغشاوة وغيوم الظلام التي تترشح عن إرتكاب المعاصي، فتدعو الناس جميعاً إلى الإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعمل الصالحات.
مفهوم الآية
الآية بشارة ورحمة ودعوة لأهل الكتاب والناس جميعاً، وبني إسرائيل خاصة لدخول الإسلام وإحراز النعيم في الآخرة لحصر النجاة في الآخرة بإتباع النبوة وما نزل من عند الله تعالى من الكتب السماوية، وبلحاظ مضامين الآية السابقة فان هذه الآية دعوة سماوية لهم للنجاة من النار مطلقاً لا دائماً ولا أياماً معدودة، والنجاة تكون حصراً بدخول الإسلام، وأداء الفرائض وعمل الصالحات وإجتناب السيئات، وهذه الآية مدرسة قرآنية جامعة تدعو إلى الصلاح وتنهى عن الفساد.
لقد بينت الآية فعلين في الدنيا هما :
الأول : الإيمان , والمراد به التوحيد والإقرار بالشهادتين والتصديق بما جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عندالله وما جاء الأنبياء من قبل.
الثاني : العمل الصالح على نحو متعدد.
ليقابلهما في الآخرة دخول الجنة والخلود فيها ليكون كالعلة والمعلول، وعدم تخلف المعلول عن علته.
ومن الآيات أن الإيمان وعمل الصالحات سبب لإزاحة الكفر ووجوهه من الأرض، ووسيلة مباركة لجذب الآخرين وإنقاذهم من حضيض البهيمية والجهل والضلالة.
ومن مفاهيم الآية تقسيم الناس إلى قسمين , وبيان شرف وعظيم منزلة المؤمنين الذين إقترن الإيمان عندهم بعمل الصالحات.
وفي الآية مسائل:
الأولى : تتضمن الآية مدح المسلمين.
الثانية : في الآية ترغيب بالإسلام.
الثالثة : تدعو الآية في مفهومها للتنزه من الكفر والجحود وعمل السيئات.
الرابعة : تبعث الآية في النفس الإنسانية الشوق لعمل الصالحات.
الخامسة : تجعل الآية الكفار يندمون على التفريط وفعل السيئات.
السادسة : الآية شاهد على وجود أمة مؤمنة تواظب على عمل الصالحات ، وفي زمان وجود هذه الأمة وجوه:
الأول : أنه خاص بأيام نزول القرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : يبدأ وجود هذه الأمة مع الدعوة الإسلامية ويبقى في الأرض إلى يوم القيامة.
الثالث : الآية خاصة بأهل الكتاب من الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون الصالحات، وتتعلق بزمان ما قبل البعثة النبوية.
الرابع : تصاحب أحكام الآية الإنسان من أول وجوده في الأرض وإلى يوم القيامة.
والصحيح هو الرابع فالآية عهد وبشارة ووعد إلهي، وقانون من قوانين الأرادة التكوينية، وفي كل زمان هناك أمة مسلمة تتغشاها رحمة الله بالهداية وإستدامة الصلاح .
لذا فإن الآية عامة في الموضوع والحكم، وتشمل أصحاب الأنبياء والمؤمنين منذ أول الخلق وإلى يوم القيامة كل بحسب رسول زمانهم، لتكون دعوة سماوية متجددة للناس جميعاً للإيمان بالله واليوم الآخر وجميع الأنبياء، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
السابعة : بيان عظيم قدرة الله ببقاء المؤمنين في الجنة على نحو الدوام والتأبيد.
الثامنة : توكيد نعم الله تعالى على بني إسرائيل بهدايتهم إلى اللبث الدائم في الجنة بالإيمان وفعل الصالحات، ومن الآيات في الفضل الإلهي عدم وجود شروط أو قيود في دخول الناس للإسلام، وليس بين الإنسان ذكراً كان أو أنثى وبين الخلود في النعيم إلا النطق بالشهادتين وعمل الصالحات، وهو من الشواهد بأن الدنيا (دار التقوى).
التاسعة: بعث السكينة في نفوس المسلمين الذين يتعاهدون الفرائض والواجبات العبادية.
الآية لطف
لقد جعل الله عز وجل الإنسان محتاجاً، وكل كائن محتاج، وجاءت هذه الآية عوناً من عند الله لإصلاح الإنسان وجذبه إلى سبل الإيمان، ومنعه من التفريط في وظائفه العقائدية والعبادية، إذ تضمنت الإخبار عن حسن عاقبة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومن الآيات أن تتألف الآية من قسمين كل قسم يتكون من شعتبين، وهما:
الأول: فعل الإنسان في الدنيا وما يجب عليه وهو على شعبتين:
الأولى: الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر.
الثانية: أداء العبادات والفرائض، وفعل الخيرات.
الثاني: الثواب في الآخرة وهو على شعبتين:
الأولى: الفوز بالجنة ونيل مرتبة النعيم.
الثانية: الخلود في الجنة، واللبث الدائم فيها.
ولا يعني هذا التقسيم التفكيك بين فردي أي قسم منهما، بل إن الإيمان وعمل الصالحات متحدان، وهما مما إذا إجتمعا إفترقا، وإذا إفترقا إتحدا، ليكون الإيمان والعزم والإخلاص عملاً ومصداقاً من مصاديق العمل الصالح، ووجهاً من وجوه الإيمان، وشاهداً عليه بالجوارح والجوانح.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحارث بن مالك: ما أنت يا حارث بن مالك أو قال : يا حار قال : مؤمن يا رسول الله قال : مؤمن حقا قال : مؤمن حقا قال : فإن لكل حق حقيقة فما حقيقة ذلك قال : عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي و أظمأت نهاري و كأني أنظر إلى عرش ربي حين يجاء به و كأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها و كأني أسمع عواء أهل النار فقال النبي صلى الله عليه و سلم : مؤمن نور الله قلبه هذا منقطع)( ).
وتبين الآية قانوناً كلياً في الإرادة التكوينية يبين سعة رحمة الله وعظيم فضله على المسلمين بأن تكون البشارت بالبقاء الدائم في النعيم حاضرة عندهم.

إفاضات الآية
يتضمن القرآن البشارات والإنذارات، والبشارات على قسمين:
الأول: دنيوية.
الثاني: أخروية.
وجاءت هذه الآية لتتضمن أسمى معاني البشارة والفضل والعطاء غير المتناهي بصيغة الإخبار الذي هو لطف خاص بالناس جميعاً، إنتفع منه المسلمون وملأ ضياؤه نفوسهم، وتجلى في أفعالهم .
وللبشارة شأن وتأثير مبارك في إختيار الإيمان وعمل الصالحات لما في البشارة من دلالات الوعد الكريم والقدرة المطلقة وما تبعثه من الشوق والحب لله  فالوعد بالجنة جذبة منه تعالى للعباد إلى مقامات التقريب إلى كمال لطفه ورحمته.
وأخرج عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال لي : سل، فقلت : يا رسول الله أسالك مرافقتك في الجنة قال : أو غير ذلك ؟ قلت : هو ذاك ، قال : فأعني على نفسك بكثرة السجود( ).
لقد أراد الله عز وجل من الناس إظهار معاني الخشوع والخضوع له، فهو سبحانه الخالق ذو القدرة المطلقة، وإليه يرجعون جميعاً، ولما جاءت الآية السابقة بالإنذار من فعل السيئات والوعيد بالعذاب بالنار على الإقامة عليها، تعقبتها آية البشارة والوعد الكريم هذه لتذكرهم بلزوم التوبة والإنابة، وأن الإيمان وفعل الصالحات ناسخ لموضوع الخطيئة وإحاطتها بالإنسان، وبلغة لنيل الثواب العظيم الذي لا زوال أو إنقطاع له.
وتبين الآية التضاد والتناقض في عالم الجزاء بين الإيمان والكفر، والتضاد بين الدنيا وعالم الآخرة، فلا بد من مغادرة الإنسان للدنيا، وذات الدنيا نفسها تغادر وتضمحل وتزول كما تطوى الأيام والليالي، ليأتي عالم الجزاء وتؤكد هذه الآية إخبار الآية السابقة عن إتصافه بالخلود والدوام ليستعد الأنسان له في رحلة العمر الذي هو فرصة سانحة للإقامة الدائمة في النعيم بشرط الإيمان وعمل الصالحات.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بحرف العطف الواو للدلالة على إتصال موضوع هذه الآية بالآية السابقة، فبعد أن إدعى فريق من أهل الكتاب عدم اللبث الدائم في النار، وجاءت الآية السابقة ببيان موضوعية العمل، وأن عاقبة السيئات هي النار والخلود فيها، جاءت هذه الآية بذكر صفات أهل الجنة، الذين يلبثون فيها على نحو الدوام بصفتين:
الأولى : الإيمان بالله ورسوله.
الثانية : إتيان الصالحات.
ويدل الجمع بين هذه الآية والآية السابقة على أمور:
الأول : عدم وجود برزخ ووسط بين الجنة والنار في عالم الجزاء.
الثاني : حث الناس جميعاً على الإيمان.
الثالث : بعث الناس على التفقه في الدين، ومعرفة كيفية الوصول إلى الجنة، وتتجلى بالإيمان وعمل الصالحات.
الرابع : ترغيب الناس بالإسلام.
الخامس : مدح المسلمين والثناء عليهم وبشارتهم بالجنة.
فمن إعجاز القرآن مجئ منطوق الآية بصيغة الإنذار للكافرين، ليتضمن مفهوماً البشارة للمؤمنين، أو بالعكس، يأتي المنطوق بشارة ومدحاً للمؤمنين ليفيد مفهوماً الإنذار والتخويف للكفار.
ومن إعجاز الآية أنها ذكرت طرفين، كل طرف يكون من جزئين على نحو الإتحاد والجمع :
الأول : صفة الذين يدخلون الجنة، وهي على شعبتين:
الأولى : الإيمان.
الثانية : عمل الصالحات، وفيه دلالة على وجوب الملازمة بين الإيمان والعمل الصالح.
الثاني : طرف الجزاء، وهو على شعبتين أيضاً:
الأولى : دخول المؤمنين الذين يعملون الصالحات الجنة.
الثانية : خلودهم في النعيم الدائم جزاءً وفضلاً من عند الله عز وجل.
التفسير الذاتي
يتضمن القرآن البشارات والإنذارات لتكون إشراقة سماوية مباركة تجذب الناس لسبل الهداية، وبعد أن جاءت الآيات السابقة بذم الذين يفترون على الله الكذب، والوعيد بالنار على إرتكاب المعاصي والتمادي فيها، وجاءت الآية السابقة بأربعة أطراف فكذا هذه الآية مع الفارق والتباين في الموضوع، إذ جاءت هذه الآية بلغة المدح والثناء على أهل الإيمان من وجوه:
الأول : ذكر الذين آمنوا بالله ورسوله، ونزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : بيان الحسن الذاتي وأداء العبادات وفعل الصالحات ونشر البر والإحسان.
الثالث : البشارة بالجنة لأهل الإيمان والصلاح.
الرابع : الإخبار عن خلودهم في الجنة، وعدم مغادرتهم لها بموت أو زوال أو فناء.
وتلك أعظم بشارة يتلقاها الناس، ومن الآيات أنها جاءت بصيغة الجملة الخبرية لبيان السعة والمندوحة فيها وعدم حصرها بقوم دون آخرين.
وتفيد واو العطف في(عملوا الصالحات) الجمع، فلابد من الجمع بين الإيمان والعمل الصالح للفوز بالثواب العظيم في الآخرة، وفي الآية مسائل:
الأولى : إنها ترغيب بدخول الإسلام.
الثانية : فيها زجر عن البقاء على الكفر والضلالة.
الثالثة : إنها برزخ دون الإصغاء إلى التحريف في البشارات التي جاءت في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : تدعو الآية إلى التصديق بالمعجزات التي جاء بها من عند الله عز وجل.
من غايات الآية
لقد جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية، ولكن موضوعها أعم إذ أنها تبعث الناس للإيمان وفعل الصالحات، ودعوة للمسلمين عموماً إلى التمسك بمبادئ الإيمان، والتحلي بسننه، والمبادرة إلى عمل الصالحات.
وتبعث الآية السكينة في قلوب المؤمنين بخصوص حالهم في الدنيا، وعاقبتهم في الآخرة، والشفقة على الذين يتخلفون عن منازل الإيمان، والسعي لجذبهم إلى الهداية ودخول الإسلام، وإذ أدّعى فريق من أهل الكتاب بأن إقامتهم في النار محدودة، فإن الله عز وجل تفضل بالبشرى للمسلمين بأنهم في أمن من النار ودخولها، وأنهم خالدون في الجنة، وفيه دفاع عن المسلمين، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا…]( ).
وتتضمن هذه الآية اللطف المركب بالمسلمين إذ أنها جاءت بصيغة الجمع الإستغراقي الشامل للمؤمنين جميعاً بقيد العمل الصالح والوعد الكريم بخلودهم في الجنة، وفيه شاهد على سعة رحمة الله تعالى، وعظيم كرمه وإستدامة إحسانه ولطفه.
ومن خصائص الإنسان أنه يحب البقاء ويكره العدم والفناء للذات، فجاءت آية البحث بالإخبار عن البقاء الدائم، وهذا البقاء مقرون بالنعيم الذي ليس له حد في الجنس أو النوع، ولا أمد في أفراد الزمان الطولية المتراكمة.
ومن الإعجاز في الآية بيان الطريق إليه وهو الإيمان والعمل الصالح، ترى لماذا جاءت الآية بصيغة الجمع (الذين آمنوا) الجواب فيه بيان لسعة الجنة، وعدم حصول التزاحم فيها، وهو من عمومات قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وتشمل الآية المؤمنين منذ أيام أبينا آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، وهل هذه الآية من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، الجواب نعم إذ يجمعهم السعي لبلوغ الغايات الحميدة باللبث الدائم في الجنة، ويشد بعضهم أزر بعض للتوفيق في الصالحات، لذا تراهم يواظبون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للنصرة والتجاذب المتبادل في إكتساب الصالحات، وإجتناب الموانع وفعل السيئات مما يحول دون الوصول إلى النعيم الدائم.
وهل تدل هذه الآية وما فيها من البشارة بالجنة على الأخوة بين المؤمنين من المسلمين ومن قبلهم من الموحدين من أتباع الأنبياء، الجواب صحيح أن آية البحث قانون عام يشمل المسلمين الذين يعملون الصالحات في كل زمان من أيام أبينا أدم عليه السلام إلى يوم القيامة إلا أن القدر المتيقن من الأخوة في الآية أعلاه هو التآخي والوئام بين المسلمين ممن صدّق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التفسير
قوله تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ]
يتعلق سياق الآيات ببني إسرائيل، فبعد ان تضمنت الآيات السابقة توبيخاً على ما قاموا به من تحريف الكتاب وإدّعاء البقاء المؤقت في النار وصبغة الوعيد العامة في الآية السابقة للذين يعملون السيئات، جاءت هذه الآية بالوعد والبشارة للمؤمنين وهو لطف من الله تعالى ان يأتي بالوعد والبشارة إلى جانب الوعيد.
ولما كانت الآية السابقة في وعيدها حكماً عاماً يشمل بني اسرائيل وغيرهم، كذلك هذه الآية فإنها حكم عام وقاعدة كلية في جزاءالإيمان تصلح لكل زمان وان تغيرت أحياناً وبصورة نسبية صفة الإيمان ونوع الصالحات تبعاً للشرائع السماوية وما فيها من النسخ.
والنسخ لغة هو الإزالة والنقل ومنه الحديث “صوم رمضان نسخ كل صوم”( ) أي أزاله، وفي الإصطلاح هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بأمر شرعي جديد، أو تبديل حكم بحكم آخر سواء كان لإرتفاع زمانه أو للإرتقاء في عالم التكاليف أو للتخفيف فضلاً من الله تعالى.
ولا خلاف يعتد به بين علماء المسلمين على جواز النسخ ووقوعه في القرآن، ولكن وقع الخلاف في آلة النسخ كما في نسخ الكتاب بالسنة وبالإجماع وبالقياس المنصوص العلة، أو نسخ السنة بالأدلة أعلاه، لذا فالخلاف بين الفريقين صغروي وإن بلغ شهرة كبيرة بين المفسرين والفقهاء.
فما هو أنفع للأمة أن نحصي أو نجمع في كتاب مستقل الآيات التي يقولون أنها نسخت بالسنة والأحاديث النبوية التي نسختها ثم نبحث في مدلوله وننظر في باب التعادل والتراجيح مع إعتبار السند وهل هو متواتر أو من خبر الآحاد ، وهل كان ذات الحديث نفسه منسوخاً أم لا، وهل يتصف بالعموم والإستغراق أم أنه يتعلق بواقعة معينة ولا يصلح أن يكون قاعدة كلية، وقد لا يكون مجموع موضوع البحث إلا بضعة آيات يجري التحقيق والبحث في كل واحدة منها على حدة ضمن عمومات قوله تعالى [ مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
ولكن ذلك لا يمنع من البحث العلمي الهادف فقد يكون حكم النسخ كحكم المخصص المستقل ودورانه بين الأقل والأكثر في الشبهة المفهومية إذ لا يسري إجمال الخاص إلى العام ويصح التمسك بأصالة العموم فيما عدا الخاص الذي يفترض أنه خرج بدليل معتبر ونوع علم.
ومن الأمثلة التي إستشهدوا بها في نسخ الكتاب بالسنة المتواترة قوله تعالى [ قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ]( ).
وإنها نسخت بأحاديث تنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع والمسوخ وكل ذي مخلب من الطيور( )، وان هذه الحيوانات كانت مشمولة بنفي التحريم العام ولم تستثن في الآية الكريمة.
ولكن هذا الحديث ليس بناسخ للآية الكريمة إنما وسّع مصاديق التحريم بإضافة أفراد له، والمحرمات في الآية الكريمة باقية على حرمتها، كذلك نفي التحريم العام باق على أصله وإن نقص معه بعض الأفراد وبقي النفي على عمومه وبصفة الحقيقة وليس المجاز، لأن إرادة نفي التحريم موضوعة لذات الطبيعة ولعمومات قوله تعالى [خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا]( ) لا الطبيعة بجميع أفرادها بحيث لو أُستثني منها شئ جديد لتحول الأمر من الحقيقة إلى المجاز، وإرادة البعض دون العموم. ولعل علة ما ورد تحريمه في السنة هي غير علة التحريم القرآني فيختلف الموضوع، وسيأتي مزيد كلام عن الموضوع في آية النسخ( ).
وتتضمن الآية معنى الإخبار والإنشاء، الإخبار عن حال أهل الإيمان وأن المسلمين أمة تجمع بين أمرين:
الأول : العقيدة السليمة واتباع الحق، والإقرار بالتوحيد.
الثاني : اتيان الواجبات والمبادرة الى الخيرات واجتناب السيئات.
وأما الإنشاء فالآية دعوة إلى الإيمان وحث على الصالحات، وصيغة من الوعد الكريم وجاءت الآية بلغة الجمع [ وَالَّذِينَ آمَنُوا ] لإرادة المسلمين والإخبار عن نيلهم مراتب العز والرفعة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( )، وأما في الآخرة فان دخول الجنة هو أرقى مراتب العز.
وفي الآية تنبيه إلى ضرورة إقتران عمل الصالحات بالإيمان وأن النطق بالشهادتين وحده ليس كافياً لدخول الجنة، فمن يؤمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لابد أن يتقيد بما فيها من الأوامر والأحكام ويجتنب ما جاء في النواهي الواردة في القرآن والسنة، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وتمنع الآية من الغفلة والجهالة من جهات:
الأول: بيان موضوعية الإيمان بالنسبة للناس.
الثاني: التعدد والكثرة في الإيمان، لأن المؤمنين بعضهم يشد أزر بعض.
الثالث: ضرورة ملازمة الإيمان بفعل الصالحات، وإجتناب السيئات، وهذا العمل يأتي على نحو القضية الشخصية، والنوعية، مع المواظبة عليه لذا لم تقل الآية (وعملوا صالحاً) لأن النكرة في مقام الإثبات لا عموم لها، بل جاءت بالألف واللام (الصالحات) الذي يفيد الإستغراق والعموم في مصاديق الفعل الحسن، وتعدد موارد الصلاح وأفراده وانه لا يتعلق بالفعل الذاتي بل بجميع أنواع الصالحات فهم يبادرون إلى الفرائض ويحرصون على أداء الصلاة وصلاة الجماعة والصيام والعبادات الأخرى، ويأتون كل خير وفعل حسن ندبت له الشريعة , وترى آثارهم في كل ميدان من ميادين الخير والفلاح.
والجمع بين الإيمان وعمل الصالحات يعني إتيانها عن قصد القربة وليس رياء، فالصالحات ليست مطلوبة بالذات، بل هي وسيلة للتقرب إلى رحمة  ومناسبة لإظهار صدق الإيمان.
قوله تعالى [أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ]
جاء اسم الإشارة أولئك لإرادة الإكرام والتعظيم، وتدل صيغة البعد فيه على كثرة المؤمنين , وشمول الآية لأفراد الزمان الطولية فيما قبل البعثة النبوية وبعدها إلى يوم القيامة، وفيه دعوة للناس لإقتفاء آثارهم والسعي للإنضمام إلى جماعتهم، وتفضل الله سبحانه ووصفهم بانهم أصحاب الجنة وهذا تشريف عظيم وهبة كريمة.
فلم تقل الآية (أولئك في الجنة) بل قالت أنهم أصحابها وكأنهم مالكون لها، في إشارة إلى عدم خروجهم منها، وأنه لا أحد يهددهم بالخروج أو يعيرهم أو يمن عليهم بل إن الجنة هبة دائمة من الله تعالى للمؤمنين وكأنهم إشتروا منازلهم فيها بالإيمان والعمل الصالح ليكونا طرفا أعظم تجارة في الوجود، والربح فيها لا يقدر بقدر محدود سواء بالذات أو بلحاظ الفعل الذي يقدم عليه العبد.
وعندما خلق الله عز وجل آدم ونفخ فيه من روحه جعله يسكن الجنة مع الملائكة بعد أن أمرهم بما فيه المبالغة في إكرامه، قال تعالى[وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ] ( )، فاغواه إبليس وجعله وحواء يأكلان من الشجرة التي ينهاهما الله عن الإقتراب منها، فامر الله عز وجل بخروج الثلاثة من الجنة وهبوطهم إلى الأرض وهي الموضع الذي أراده الله لخلافة الإنسان، لتستمر عداوة إبليس فيه إذ أن ذات الحسد مستمر فيه ومجبول عليه.
وموضوع الخلافة وحده سبب لحسده إلى جانب البشارات التي جاءت للمؤمنين من الناس بخلودهم في الجنة من غير خوف من وسوسة إبليس فلا يستطيع الوصول إليهم حينئذ وهم ممتنعون من قبول الوسوسة ونحوها، وهذا الإمتناع من خصائص الجنة والخلود فيها، لذا جاءت الآية بنعتهم بأنهم أصحابها أي أنهم يفوزون بنعمها مجتمعة ومتفرقة.
وهل يستطيع إبليس إغواء أهل النار والوسوسة لهم باعتبار أنه معهم، أو أنه يوضع في موضع إنفرادي منها يعجز معه من الإتصال مع أحد من الناس .
الجواب لا هذا ولا ذاك , إذ أن الإغواء والوسوسة من خصائص الحياة الدنيا , وفرد من أفراد الإبتلاء والإمتحان فيها، أمّا الأخرة فهي دار الجزاء والثواب، وكأن هذه الآية والآية السابقة تؤكدان على حقيقة وهي أن الذي يصغى ويستمع في الدنيا إلى إبليس في إغوائه تكون عاقبته إلى النار، والذي يعصم نفسه منه يفوز بالثواب بالجنة، وتتجلى هذه العصمة بالإيمان بالله عز وجل والنبوة والتنزيل وإتيان الفرائض التي أمر الله عز وجل بها، وإجتناب ما نهى عنه من المعاصي والسيئات.
ولم تجعل هذه الآية والآية السابقة برزخاً في الأعمال ولا بين الثواب والعقاب، وجاءت بلغة البيان المانع من اللبس والإجمال.
وتبين هذه الآية لزوم شكر الله تعالى بالعمل الصالح وإظهار الإخلاص له في العبودية بفعل الخيرات، وتدل على أن الله تعالى شاكر عليم، يعلم ما يفعله العباد ولن يغيب عنه شيء من أفعالهم، وأنه تعالى يشكر المسلمين على إيمانهم وعبادتهم بعظيم الثواب.
قوله تعالى [هُمْ فِيهَا خَالِدُون]
بشارة وإخبار عن عالم الآخرة والمائز بينه وبين الدنيا، فالآية تدل بالدلالة الإلتزامية على أمور:
الأول : حتمية مغادرة الدنيا.
الثاني : لزوم بعثة الناس للحساب.
الثالث : من أجل دخول الجنة لابد من الجمع بين الإيمان والعمل الصالح، فلو آمن الإنسان بالتوحيد والنبوات ولكنه لم يأت الفرائض والواجبات، فلا يكون من أصحاب الجنة، وكذا الذي يعمل الصالحات ولكن من غير إيمان وقصد القربة.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على الحياة الأبدية في الآخرة، وهو أمر ثابت عند المليين، ويبين قدرة الله تعالى وكرمه ورحمته، وفيه عون للناس على الهداية والإيمان.
وحكي عن الجبائي أنه إحتج بهذه الآية بأن من يدخل الجنة لا يدخلها تفضلاً لأن قوله تعالى [أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ] للحصر فدل على أنه ليس للجنة أصحاب إلا هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولكن فيه وجوه:
الأول : للفضل الإلهي موضوعية في أصل الفعل والتمييز بين أهل الجنة وأهل النار.
الثاني : ماهية وكيفية الجزاء.
الثالث : في الآية حذف وتقديره أولئك أصحاب الجنة بفضل الله.
الرابع : الجنة ثواب كريم من عند الله , قال تعالى في الترغيب بها [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( ).
وتفيد الآية التعدد والمغايرة بين الإيمان والعمل الصالح، إذ أن الإيمان إعتقاد وعمل بالجنان، أما العمل الصالح فهو فعل مترشح عن الإيمان يظهر على الجوارح والأركان.
وللآية منطوق ومفهوم، فمنطوقها وعد كريم ويتضمن البشارة للمسلمين، أما مفهومها فاحدهما مفهوم الموافقة وهو حث المسلمين على أداء الفرائض وإتيان الصالحات، أما مفهوم المخالفة فهو ذم الكافرين والمنافقين وإيقاد للحسرة في نفوسهم عسى أن تكون علة للإقلاع عن المعاصي ودروب الضلالة والجحود.
والآية نص صريح بدوام خلود المؤمنين في الجنة، وهذا أمر لم يقع فيه خلاف ، فالذي يدعي أنه لن يبقى في النار إلا أياماً قليلة أولى له أن يسعى إلى دخول الجنة والخلود فيها، وليس له إلا طريق واحد هو طريق الإيمان وعمل الصالحات.
وقيل (الخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي عليها من غير إعتراض الفساد عليها)( )، ولكن الخلود في الجنة أعم إذ أنه يشمل صنوف النعيم الدائم الذي هو في زيادة وإتساع.
بحث بلاغي
من علوم القراءة معرفة كيفية تلاوة القرآن، وما ينبغي الوقوف عنده من الكلمات أو فواصل الآيات وما يتصل عنده وإبتداء القراءة، وهو علم يحتاج التحصيل بقدر كاف في باب النحو والتفسير والقراءة والقصص والفقه لتعدد أسباب الوقف أو الوصل.
وعلم التلاوة مدرسة لإستنباط الحكم، فمن يقف عند قوله تعالى [أَبَدًا] في قراءة [وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا]( ) لا يقبل شهادة القاذف وإن تاب.
وينبغي الوقوف عند الآية السابقة عند قوله تعالى [خَالِدُونَ] لأن فيها الوعيد بأليم العذاب، ولا توصل بهذه الآية التي تتضمن الإخبار عن المؤمنين ومنازل النعيم التي يقيمون بها في الجنة (وفي رواية أم سلمة ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقطع قراءته آية آية)( )، أي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقف عند رأس كل آية.
وهذا الوقف معلول لغيره وعلة لأمور أخرى، فهو معلول للدلالات العقائدية والعلمية والتشريعية في تقسيم القرآن إلى آيات، وعلة للتدبر والتفكر بآيات القرآن وما فيها من العلوم والأسرار.
وهناك قولان في هذا الباب:
الأول : الوقوف عند كل رأس آية , لأن أكثر آيات القرآن يكون معناها تاماً ودلالتها كافية وللإقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إعتبار المقاصد وأفعال المعاني في الآيات , فاذا كان لغرض يقتضي الوصل فينبغي عدم الوقف إلا عند موضع إنتهاء الغرض وإن كان في وسط الآية التالية.
ونسب هذا القول إلى أكثر القراء، فقيل يستحب الوقف عند قوله تعالى [ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ] ( )، لأنه رأس آية وإن كان الكلام متصلاً ومتعلقاً بما بعده.
وبين مصاديق القولين أعلاه عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء آيات السور القصار والآيات التي ينتهي فيها الغرض برأس الآية وفاصلتها، ولكنه يقع في بعض غايات الآية وعلى نحو الموجبة الجزئية للإتصال والتداخل بين غايات الآيات، ووجود غاية مشتركة للآيات المتجاورة إلى جانب الغايات الخاصة بها , أما الوقف أثناء الآية فهو أجنبي عن هذا الإختلاف , ومنه قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا]( ) .
وهل ينبغي الوقف عند اسم الجلالة في الآية أعلاه لأن الكلام تام وهو المنسوب إلى الأكثر، أم لا ينبغي الوقف وهو ظاهر النصوص الواردة عن أهل البيت قولان، الأقوى هو الثاني.
نعم علم الله تعالى مطلق وكلي، وعلم غيره بإذن منه من جهة الكم والكيف فيكون النزاع صغروياً.
والأقوى صحة الوقف عند رؤوس الآي مطلقاً إلا ما دلّ الدليل على الوصل، ولو شرّعنا قاعدة بتبعية القراءة للنزول لأصبح الوقف عند رؤوس الآي توقيفياً وليس إختيارياً لأن نزول الآيات كل آية مستقلة عن غيرها كعلامة ودلالة مناسبة للتدبر بأحكامها مستقلة, ولكن ثبوت هذه القاعدة يحتاج إلى دليل، ولا أصل لهذه القاعدة , إذ لا ملازمة بينه وبين الوصل بين الآيات.

قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ] الآية 83.
القراءة واللغة
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي لا يعبدون بالياء( )، والقراءة المشهورة بالتاء، (وفي قراءة عبد الله أن لا تعبدوا)( )، لذا قيل لما حذفت(أن) رفع(تعبدون) ونسب إلى الكسائي( )، وقرأ أبي بن كعب: (لا تعبدوا) لإرادة النهي بالحرف (لا) التي تجزم الفعل المضارع بعدها , والتقدير: قلنا لبني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله)( ).
وقال الفراء بجواز أن يكون الأصل النهي، ثم أخرج مخرج الخبر، خصوصاً وأن بعده(قولوا) (وأقيموا)(وآتوا)، ولكن المعنى والصلة بينهما أعم , وسيأتي في تفسير الآية .
وأختلف في قراءة (حسناً) في قوله تعالى(وقولوا للناس حسناً) (فقرأته عامة قَرَأَة الكوفة غير عاصم: (وقولوا للناس حَسَنا) بفتح الحاء والسين. وقرأته عامة قراء المدينة: (حُسْنا) بضم الحاء وتسكين السين. وقد روي عن بعض القَرَأَة أنه كان يقرأ: “وقولوا للناس “حُسْنَى” على مثال “فُعلى”)( ) , والمناط على المرسوم في المصاحف.
وأختلف في نصب إحساناً، وقال الزجاج أنه إنتصب على معنى إحسنوا بالوالدين إحساناً أو على معنى وصيناهم بالوالدين إحساناً وأختلفت القراءة في {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} فقرأ زيد بن ثابت وأبو العالية وعاصم وأبو عمرو {حَسَنًا} بضم الحَاء وجزم السّين وهو اختيار أبي حاتم دليله قوله عزّ وجلّ : {بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} وقوله تعالى : {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنَا}، وقرأ ابن مسعود وخلف حَسنا بفتح الحاء والسّين)( ).
وبني: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم وهو مضاف، وإسرائيل: مضاف إليه مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة لأنه علم أعجمي.
لا: نافية، تعبدون: فعل مضارع مرفوع، الواو: فاعل.
إلا: أداة حصر، : مفعول به، إحساناً: مفعول مطلق لفعل محذوف، وذي القربى: معطوف على الوالدين.
وأقيموا الصلاة: الواو: حرف عطف، أقيموا: فعل أمر، الواو: فاعل، الصلاة: مفعول به.
ثم: حرف عطف عطفت على محذوف أي فقبلتم الميثاق لبيان أن التولي جاء بعد القبول، ولم يكن الصدود والعناد إبتداء.
توليتم : فعل وفاعل، إلا : أداة إستثناء لأن الكلام تام موجب.
قليلاً: مستثنى بالا.
وأنتم معرضون: الواو: حالية، أنتم: مبتدأ.
معرضون: خبر.
والميثاق: العهد، مِفعال من الوثاق، وقيل هو في الأصل حبل أو قيد يشد به الأسير والدابة)( )، والإعراض عن الشيء: الصد عنه.
في سياق الآيات
بعد أن بينت الآيات السابقة النعم المتوالية على بني إسرائيل، جاءت هذه الآية مركبة من النعمة والتكليف، وهو أيضاً نعمة إلا أنه يتضمن الوظيفة الأساسية للإنسان مدة بقائه في الحياة الدنيا.
ومن فضل الله تعالى على بني إسرائيل أن يأخذ الله عليهم الميثاق وبيان الوظائف العبادية التي تجب عليهم ليكون عوناً ومقدمة لفعل الصالحات ودعوة للإمتثال وتعاهد مراتب التفضيل، وجاءت الآية التالية بذكر أفراد أخرى من الميثاق، ولكن بصيغة الخطاب لبيان موضوعية الميثاق ولزوم تعاهده، والإثم الكبير بتركه، مع تباين بين الآيتين في أفراد الميثاق.
وجاءت خاتمة كل منهما بصيغة الجملة الخبرية المعطوفة، وتكون من مبتدأ وخبر إذ تتضمن خاتمة هذه الآية الإخبار عن إعراضهم إلا القليل منهم عن الميثاق، بينما أختتمت الآية التالية بإقرارهم على أنفسهم وشهادتهم على الميثاق ليأتي الإقرار شاملاً لأفراد الميثاق، وليكون حجة ودليلاً على نقضها، وفيه تذكير وتوكيد عليها.
لقد تكرر ظرف الزمن الماضي(إذ) في آيات سابقة في تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم وإستمرت الآيات السابقة بذات لغة التذكير والإحتجاج من غير الإتيان بالظرف(إذ) لأنه صار من المتبادر إلى الذهن، ولتأكيد حقيقة وهي أن الغاية من هذه الآيات أعم من تذكير بني إسرائيل أو إرادتهم أو فريق منهم بالذات فهذه الآيات والتذكير بالنعم فيها آية ومدرسة للأجيال من المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم.
وعادت هذه الآية فإبتدأت بذات الظرف[وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ]( )، لتأكيد إتحاد الموضوع في هذه الآيات وأنها لا زالت في ذات النظم والسياق والميثاق هو الأصل.
لقد جــاء قبل آيتين التــحدي بســؤالهم هل أخــذوا عهــداً من الله عز وجل بصيغة الإستفهام الإنكاري[قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا]( )، وجاءت هذه الآية بالإخبار بأن الله عز وجل هو الذي أخذ عليهم عهداً وميثاقاً، ثم بيّنت الآية مضامين الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل لإتمام الحجة ومنع اللبس وقطع التحريف.
وهل يفيد الجمع بين الآيتين إنعدام العهد من الله لبني إسرائيل، أو لهم ولغيرهم، وأن الله عز وجل إنما يأخذ العهد والميثاق على الناس، ولا يعطي هذه العهد وله الربوبية المطلقة وفي التنزيل[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( )، الجواب لا دليل على القول بعدم إعطاء الله عهداً، فهو سبحانه اللطيف الكريم ومن نعمه على بني إسرائيل العهد قال تعالى[وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، بالوفاء من عند الله بحسن الثواب على الإيمان والعمل الصالح.

إعجاز الآية
تبين الآية نوع العهود التي أخذت على بني إسرائيل بواسطة أنبيائهم ومسؤولياتهم الجسيمة في الأرض وما فيها من العز والرفعة لهم في الأرض والوعد بالجنة، ولم تختتم الآية حتى بينت إعراضهم وصدودهم عن الميثاق.
وإبتدأت الآية بالأمر بعبادة الله، وفيه أمارة على إقرار بني إسرائيل بالتوحيد وتسليمهم بالربوبية لله عز وجل , خصوصاً بعد رؤية الآيات تترى على يد موسى عليه السلام ومصاحبتها لهم، وهم في مصر ثم التيه ثم دخولهم القرية والحضر، حيث السعة في الرزق وتحقق نصاب الزكاة عند فريق منهم، قال تعالى[وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا]( ).
ومن الآيات أن يأتي الإحسان للوالدين وذوي القربى واليتامى والمساكين على نحو الميثاق والعهد الإلهي، وجاء ذكرها متعقباً لعبادة الله، وقبل الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وجاءت الآية حجة على بني إسرائيل في موضوعها ومضمونها وخاتمتها.
ترى لماذا لم تقل الآية (وبالوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين إحساناً) إذ قدّمت الوالدين والإحسان لهم ثم عطفت عليهما الأفراد الأخرى ممن يجب الإحسان إليهم، والجواب فيه نكتة تبين أولوية الإحسان للوالدين والرأفة بهما في مواثيق الملل السابقة، وجاء القرآن بآيات إعجازية في وجوب العناية بالوالدين على نحو التعيين، قال تعالى[فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ]( ).
وقد تكرر قوله تعالى[وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا]( )، مما يدل على أن الإحسان للوالدين من فطرة الإنسان، وجزء من ماهيته وتكوينه بلطف من الله عز وجل , ومن يكون إبناً فإنه يصبح أباً وربما جداً، ويفيد لفظ الإنسان العموم، فيشمل جميع الناس من أيام أبينا آدم عليه السلام، فإن قلت ليس لآدم وحواء أب، وليس لعيسى عليه السلام أب، فهل يخرجون بالتخصص أو التخصيص من أحكام الآية، الجواب لا، لأنهم وسائط مباركة لنقل الوصية إلى الناس وتبليغهم بلزوم إكرام الوالدين والإحسان إليهم، وإن خفف الله عز وجل بخصوص إنعدام الأب، فهم أئمة في تثبيت وتوارث الوصية وإمامة الناس بالعناية بالوالدي, وإذا كان إنسان الإستنساخ ليس له والدان فهذا يعني أنه فاقد لخصائص إنسانية .
وحينما بعث الله عز وجل موسى عليه السلام رسولاً إلى بني إسرائيل كانوا في حال من الإستضعاف والقهر من قبل فرعون وملئه، فجاءت آية الميثاق هذه عهداً من الله لبني إسرائيل بالسعة في الرزق وكثرة الأموال بحيث يخرجون منها الزكاة والحقوق الشرعية، ويقدرون على مساعدة بعضهم بعضا، قال تعالى[وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ]( )، وفي نجاة بني إسرائيل من فرعون وقومه، وتوالي النعم عليهم، حجة عليهم لقبول الميثاق والإمتثال لما فيه من الأحكام والسنن.
ومن وجوه تقديم(وقولوا للناس حسناً) على أداء وإيتاء الزكاة وحدة الموضوع مع ما سبقها من الإحسان بلحاظ لغة الكثرة والعموم فيه، فإن قلت إن الصلاة والزكاة هما الأهم بلحاظ أنهما واجبان عينيان متجددان ، والجواب : قد تقدم في أول الآية الأمر بعبادة الله، ويتجلى مصداق العبادة بالصلاة والزكاة ونحوهما من الفرائض وكأن ذكرهما بعد القول الحسن للناس من البيان والتفصيل.
ويمكن تسمية الآية بآية “ميثاق بني اسرائيل”
الآية سلاح
الآية مدرسة للمسلمين في حفظ الوعود وما جاء به القرآن من الأوامر والنواهي والأحكام وهي سلاح بيدهم لمعرفة ما الزم به بنو إسرائيل ولم يمتثلوا له، وفيها دعوة للناس جميعاً لتعاهد المواثيق، والإقرار بالعبودية لله تعالى.
لقد جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار، وتفضل وأنزل الكتب السماوية وبعث الأنبياء لجذب الناس لمنازل العبادة والصلاح، وتقريبهم من الطاعات وإعانتهم عليها، وصدهم عن الفحشاء والفجور، وأنعم على بني إسرائيل بنعم كثيرة منها أنه سبحانه أخذ الميثاق عليهم بأن لا يشركوا به شيئاً، وهذا الميثاق تشريف لهم، وتفضيل لهم على أهل زمانهم، وحجة عليهم وعلى الناس جميعاً في لزوم تعاهد سنن التوحيد.
ومع أن هذه الآية جاءت بخصوص بني إسرائيل إلا أنها تتضمن في مفهومها مدح المسلمين لتعاهدهم العبادات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتدعوهم إلى تعاهد أحكام الشريعة والفرائض، وتحث الناس على الإلتحاق بهم.
وجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون خطاباً تكليفياً للناس جميعاً بلزوم التقيد بمضامين وسنن الميثاق الذي ذكرته هذه الآية، وإذ ذكرت التوراة الميثاق وندبت بني إسرائيل للتقيد بأحكامه، جاء القرآن بالأمر الإلهي الى الناس جميعاً للأخذ بالميثاق وما فيه من طاعة الله والإحسان للوالدين والناس وأداء العبادات، وفاز المسلمون به، وفي نزول القرآن رفع للتحريف، ومنع من أثره على النفوس وفي عالم الأفعال , وصرف للناس عن الباطل، وردهم إلى الحق.

مفهوم الآية
الآية دعوة للمسلمين للإلتزام بالمواثيق السماوية لأنهم ورثة الأنبياء والملل السابقة، وترغيب بإستدامة التوحيد في الأرض وتعظيم شعائر الله وبر الوالدين وتهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات كما أنها حجة على بني إسرائيل ومناسبة كريمة للمقارنة بين أفعال بني إسرائيل وما أمروا به من عند الله تعالى.
وتبين الآية موضوعية الصلاة والزكاة في السنن والشرائع وتحث على الإلتزام بهما، ومن مفاهيم هذا البيان دعوة بني إسرائيل والناس جميعاً إلى الإسلام باعتبار أنه الوعاء العقائدي الذي تقبل به الصلاة والزكاة.
لقد أبى الله عز وجل إلا أن يعبد في الأرض، فالعبادة هي العلة الغائية من خلق الناس لا لحاجة منه تعالى لها بل لتكون سبباً لإنتفاعهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة , أما في الدنيا فبالهداية والسكينة قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، وأما في الآخرة فهو النعيم الدائم , لذا تظهر الآية الحاجة الإنسانية العامة إلى الإسلام وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كي تدوم إقامة الصلاة في الأرض وتؤتى زكاة الأموال، وزكاة الأبدان وهي الصيام، ولتكون سبباً لبقاء الحياة الدنيا ونزول البركات وتيسير الأرزاق.
ويحكي اللوم الوارد في آخر الآية تخلف فريق من أهل الكتاب عن وظائفهم، وتدعوهم الآية إلى الإلتزام بالمواثيق السماوية وعبادة الله تعالى وعدم تكذيب الأنبياء، قال تعالى[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا]( ).
وما في الآية من البيان عن جحودهم وإعراضهم وعدم إنصياعهم للحق وتركهم السنن التي أمروا بها تذكير وإسقاط لدعواهم بحصر بقائهم في النار أياماً معدودة فقط، وتنبيه للخلل في سيرتهم , وتحذير من أضرار الإعراض عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والآيات التي جاء بها، فمن مفاهيم الآية لزوم الإنصات للحق والتدبر في آيات القرآن من دون إصرار على رفضها وعدم الإنصياع لها .
لقد إصطفى  عز وجل آل إبراهيم وآل عمران على العالمين ورزقهم مرتبة ورفعة بين الناس فهل ميثاق بني إسرائيل من الإصطفاء أم انه عام يشمل كل الناس، الجواب لا تعارض بين الأمرين، فالميثاق خاص بآل إبراهيم وعام في الناس بلحاظ جامع العبودية بينهم.
والمدار على حفظ وتعاهد الميثاق، ومن مفاهيم الآية دعوة المسلمين للتقيد بأحكام القرآن وعدم التفريط بها.
وفي ميثاق بني إسرائيل وأحكامه مسائل:
الأولى : إن   تفضل وأخذ المواثيق على الناس لا لحاجة منه للميثاق، ولكن لينجو الناس من العذاب باختيارهم الحرص على الميثاق والتقيد بأحكامه.
الثانية : وجود عهد بين  سبحانه وبين بني إسرائيل بواسطة الأنبياء والرسل.
الثالثة : لقد تعهد بنو إسرائيل بالتقيد بأحكام التوحيد وإجتناب الشرك والضلالة.
الرابعة : الإحسان للأب والأم بل الآباء مطلقاً أي وإن علو لصدق اسم الأب على الجد، ومن الإحسان للآباء تعاهد المواثيق والأحكام التي ورثوها منهم كما ورد في أولاد يعقوب النبي في التنزيل [نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ]( ).
الخامسة : جعل الإحسان ومضامين الرأفة والرحمة والإكرام عنوان الصلة مع الوالدين.
السادسة : إقتران الإحسان إلى الوالدين بعبادة الله تعالى مما يدل على موضوعيته في الدنيا والآخرة.
السابعة : إعتبار صلة القربى والرحم في المعاملة وجعلها موضوعاً تترتب عليه أحكام شرعية، وفي الآية دعوة لتعاهد صلات القربى ومعرفة الإنسان وحفظ الأرحام وعدم الجفاء أو قطع الرحم، فالإحسان إلى طرف ما يستلزم تعيينه ومعرفته، وهذا التعيين على شعبتين:
الأول: المراد من ذوي القربى النسب الذي يشمله هذا العنوان كالأخوان والأعمام والأخوال.
الثاني: مصاديق وأفراد القربى فيعلم الإنسان أن فلاناً وفلانة من أقاربه، وأن الآية تأمره بالإحسان إليهما، لأن الميثاق يدل على التعهد ولزوم الوفاء إلا أن يدل دليل على إرادة الإستحباب، نعم مراتب الإحسان تتباين فبالنسبة للوالدين تجب نفقتهما على الابن مع الحاجة والنقص المالي عندهما.
والإحسان من الأمور النسبية الإضافية وله مراتب متباينة وبحسب الحال والموضوع، فقد يكون مسمى الصلة مصداقاً للإحسان كافشاء السلام، وعن ابن عباس، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم فإنه لا قرب لرحم إذا قطعت وإن كانت قريبة ، ولا بعد لها إذا وصلت وإن كانت بعيدة )( ).
وتضمنت آية البحث الوصية بالإحسان للوالدين وذوي القربى فهل يتعارض مع قوله تعالى[لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ]( )، الجواب لا، للتباين الموضوعي، إذ ينفع الإنسان الإحسان إلى ذي الرحم ويأتيه الثواب من عند الله عليه بإعتباره مصداقاً من مصاديق الصالحات قوله تعالى[وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ]( ).
الثامنة : من مفاهيم الآية التصدي للتحريف والقول بعدم فرض الصلاة أو الزكاة في الملل السابقة بل إن الصلاة والزكاة عبادتان مفروضتان على المليين وأهل الكتاب قبل البعثة النبوية الشريفة، ليكون هذا الغرض مقدمة لتثبيتهما بالقرآن إلى يوم القيامة، والآية سلاح بيد المسلمين للإحتجاج، وعز لهم في وراثتهم لمواثيق أهل الكتاب ودعوتهم للتقيد بأحكام العهود، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
التاسعة : في الآية اخبار عن عدم إستمرار إمتثال بني إسرائيل لما في الميثاق من عهود وأحكام، وفيه نوع ذم وتوبيخ لهم كما إنه تنبيه للمسلمين بلزوم الحرص على ما يتضمنه القرآن من المواثيق والعبادات والفرائض.
والآية رحمة ببني إسرائيل لما فيها من كشف للحقائق وبيان للتقصير وعظيم الذنب بالتولي من أجل تداركها وإصلاح الحال خصوصاً وأن الوفاء بالعهود أمر ممدوح عقلاً وشرعاً كما أن الإعراض عنها أمر قبيح ومذموم مع إعتبار أن الميثاق مع  تعالى الذي يقف الناس بين يديه للحساب مما يعني العقاب الأخروي لمن يتخلى عنه.
العاشرة : من الإعجاز ان تفصل الآية بين من نقض الميثاق، ومن تقيد به، وتصف الذين تقيدوا به وإستمروا على تعاهدوا بالقليل، وجاءت لغة الخطاب للذين تولوا لأنهم الكثرة، ومدحت الآية القلة بالدلالة التضمنية، وفيه دعوة لأهل الحق بالصبر وإن كانوا قلة.
الحادية عشرة : التوكيد على موضوع “اليتامى” وخلوه من قيد القربى وصلة الرحم أو الجوار، وجاء الأمر بالإحسان لهم مطلقاً وشاملاً لكل يتيم، وهذه آية إعجازية في الأحكام الإسلامية وتدل على إنفراد الإسلام بالإرتقاء الأخلاقي، وفيه دعوة للأمم والدول بالإهتمام بالأيتام من غير إعتبار للقومية والجنسية واللغة، وتبين الآية الجامع المشترك بين الأيتام في آلامهم ومعاناتهم ولزوم تعاهدهم وما فيه من صلاحهم وصلاح النفوس والمجتمعات.
الثانية عشرة : لقد جعل   التباين في الأرزاق وحال المعيشة موضوعاً إبتلائياً للناس جميعاً، ليرى كيف يتصرف الغني بأمواله ويظهر حرصه على الأخوة الإنسانية وشكره على النعم، ومدا صبر الفقير ورضاه بما كتب  له من العوز والمسكنة مع لزوم الشكر له تعالى على نعمة الصحة والسلامة والرزق وإن كان قليلاً لا يكفي لسد المؤونة.
وجاءت الآية بصيغة الجمع (اليتامى) وفيه أمر للإكثار من الإنفاق والإحسان إلى اليتامى والمساكين وعدم الإكتفاء باعانة فرد واحد والإحسان له، وللإحسان مراتب تشكيكية متفاوتة ولا تنحصر بالمال والعون المادي بل تشمل السلام والرأفة والإعانة على العبادات والجذب لأداء الفرائض والحيلولة دون وقوع اليتيم أو المسكين في السيئة والمعصية.
الثالثة عشرة : التحلي بحسن الخلق، وإظهار الأدب مع الناس وإجتناب القبيح والفاحش من القول، والحرص على نشر الأخلاق الحميدة والعادات الفاضلة ومنع اللسان من التعدي والظلم، ويشمل لفظ الناس المسلمين وغيرهم لإرادة نشر المودة والرحمة وطرد الكدورات الظلمانية ومضامين الغضب والشهوة وما يؤدي إلى النفرة.
ومن مفاهيم الآية أن حسن الخلق والمعاملة وسيلة لجذب الناس إلى الإسلام، وبينما جاء الأمر بالإحسان للوالدين والقربى واليتامى والمساكين، فانه تعلق بالقول الحسن فيما يخص الناس، وبينهما عموم وخصوص مطلق، فالأمر بالإحسان يتضمن القول الحسن، مما يدل على المسؤولية النوعية والفردية لكل شخص أزاء اليتامى والمساكين.
لقد جاءت الآية بنشر مضامين الحب بين الناس ليكون مقدمة لحب الله تعالى والإنقطاع إليه، فمتى ما أدرك اليتيم أن الآخرين يساعدونه إمتثالاً لأمر  فان قلبه يتعلق به ولا يحب غيره، وكذا المسكين، وتكون عنده ملكة دائمة هي اللجوء إلى  عند الحاجة بل مطلقاً.
الرابعة عشرة : توجه الخطاب التكليفي لبني إسرائيل بأداء الصلاة وفيه دلالة على موضوعية إقامة الصلاة عند المليين وعدم إستثناء أمة منهم، وهي عنوان الإيمان والإقرار بالتوحيد والربوبية لله تعالى، وجاءت الآية مجملة للتباين في كيفية أداء الصلاة بحسب الرسالة السائدة، والمطلوب بعد نزول القرآن الصلاة الواجبة والفرائض اليومية الخمسة التي جاء بها رسول  محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة عشرة : في الآية إخبار عن تشريع الزكاة قبل الإسلام وأن لله حقاً في أموال الناس، جعله   موضوعاً للإبتلاء في الكسب والمال، وسبباً للنماء والرزق الواسع، وواقية من البلاء والأذى، وموضوعاً للأجر والثواب.
فمع أن   هو الذي يرزق الإنسان، ويجعله قادراً على إخراج الزكاة من الفائض من ماله، إستجابة لأمره تعالى، فانه يثيبه على الفعل أعظم الثواب، وتظهر الآية إعتبار الزكاة في ميثاق بني إسرائيل وهي تذكير لهم بوجوبها ودعوة للتقيد بأحكام الصلاة والزكاة، وعدم النفرة والإعراض عن الإسلام لما فيه من أحكام الصلاة والزكاة ووجوبهما، وتلك نكتة وآية إعجازية للقرآن من وجوه:
الأول : إن الصلاة والزكاة أمران ملازمان لحياة الإنسان في الأرض.
الثاني : اعتبارهما جزء من الميثاق الذي أخذه  على الأمم السابقة، لأن ذكر بني إسرائيل في الآية جاء من باب المثال وليس الحصر.
الثالث : فرضى الصلاة والزكاة والصيام على الأمم السابقة مقدمة للإنصياع لأحكام الإسلام، ومنع من النفرة والإعراض عن دخول الإسلام بسبب ما فيه من التكاليف، فقد يتردد بعض المليين في دخول الإسلام لأن فيه أداء للصلاة وتقيد بأحكامها.
الرابع : بيان إنتفاع الناس عامة والمليين خاصة من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وإحياء القرآن لدفع الزكاة على نحو الوجوب.
والزكاة تكليف بإقتطاع جزء من المال الشخصي لإعطائه للآخرين فجاءت الآية لتخبر أن الصلاة والزكاة جزء من الميثاق الذي أخذه الله عليكم، وأن الإسلام خير لكم لأنه السبيل الوحيد لأدائكم الصلاة والزكاة على الوجه الصحيح، وأن الآخرين الذين تعطونهم الزكاة أمركم  بالإحسان إليهم وهم اليتامى والمساكين والمحتاجون من ذوي القربى، فاذا كان ذو قربى يتيماً فان إعانته تكون بصفته ذا قربى ويتيما ًومسكيناً فتكون له أولوية وتقديم في مراتب العناية بالآخرين وأداء وظائف الميثاق.
السادسة عشرة : لم تذكر الآية الصيام، ولا يعني هذا عدم موضوعيته في مصاديق العبادة، بل لأن آية أخرى ذكرته قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، مما يدل على تضمن ميثاق بني إسرائيل لفريضة الصيام لإرادة الأمم السابقة وفيه زجر عن الإمتناع عن دخول الإسلام لوجود فريضة الصيام فيه وما يعنيه أداؤها من التكليف والصبر على الجوع والعطش , وكذا بالنسبة للحج , فقد جاء التكليف به للناس جكيعا بقيد الإستطاعة , قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
ومع أن العبادة هي علة خلق الإنسان لقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، إلا أن الآية جاءت بأفراد في الميثاق مع العبادة وهي فروع لها ومصاديق للعبادة، مع التباين في الرتبة والأهمية لتقدم الصلاة رتبة، والبر بالوالدين على الإحسان لغيرهم، وتمنع الآية من حصر الإحسان والعناية بفرد واحد من أفرادها أو بنسب أو صلة أو إرادة كلي في مُعين , بل جاءت بالدعوة إلى البر والإحسان مطلقاً، لتتجلى الأخلاق الإسلامية الحميدة , وتتغشى أهل الأرض وتكون دعوة للإيمان.
الآية لطف
لقد أراد الله عز وجل للقرآن أن يكون مدرسة للأجيال المتعاقبة، فجاءت فيه قصص الأمم السابقة بأسمى موضوع وأحسن حكم، ومنها هذه الآية التي تبين لطف الله تعالى ببني إسرائيل خاصة وبالناس عامة إلى يوم القيامة.
لذا جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ] لتعود الآية إلى لغة الخطاب في ماهية ومضامين الميثاق في خاتمتها وتلك آية إعجازية، ودعوة لبني إسرائيل للتوبة والإنابة، وتعاهد الميثاق الذي يتضمن العبادات والمعاملات، ولم تذكر الآية الإيمان بالنبوة ولكنها تدل عليه من وجوه:
الأول: واسطة النبي في أخذ الميثاق، لأن النبي هو الواسطة بين الله عز وجل وبين الناس، وتؤكد الآية للمسلمين ان أحكام الصلاة والعبادات عامة شاملة للمسلمين من الأمم السابقة وهي عهد وميثاق بين الله وبين عباده، وتدعو الناس جميعاً إلى التقيد بأحكامها.
الثاني : يتلقى الناس كيفية عبادة الله عن طريق الأنبياء.
الثالث : من عبادة الله التصديق بالنبوة وإتيان ما يأمر به الرسول في مرضاة الله، قال تعالى في حث على عبادته وطاعته وطاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ]( ).
إفاضات الآية
تبين الآية الإرتباط الخاص بين المليين وبين   وقوام هذا الإرتباط وهو الميثاق الذي هو عنوان العبودية، والآية شاهد على أن هذا الإرتباط من عالم الغيب وأنه إرتباط إختياري، وتجاذب متصل بين العباد والرب سبحانه.
وملاك هذا التجاذب هو الإنقياد لأوامر الله تعالى والوفاء بمواثيقه والعهود التي قطعها العباد على أنفسهم، ليستحق بنو اسرائيل درجة الإمتثال لسنن التفضيل , وينالوا المراتب العالية بين المسلمين من الأولين والآخرين إذا بذلوا من ذاتهم الوسع والطاقة وتعاهدوا الميثاق، وتلقوا التنزيل بالتصديق , ولكن الآية تخبر عن النكوص والحنث وما أقدموا عليه من نقض الميثاق , وفي الآية مسائل:
الأولى : الحث على التفاني في عبادة الله تعالى.
الثانية : الشهادة بأن القرآن واسطة الفيض الإلهي على الناس جميعاً وليس المسلمين وحدهم.
الثالثة : الترغيب بالوفاء بالمواثيق وعودة بني إسرائيل إلى المواثيق والعهود التي قطعوها على أنفسهم في تطهير الذات والإخلاص في عبادته تعالى.
الصلة بين أول وآخر الآية
لما جاءت الآيتان السابقتان بذكر عقاب الضلالة والإصرار على المعصية بالخلود في النار، وثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالخلود في الجنة، جاءت هذه الآية لبيان حجة الله عز وجل على بني إسرائيل ورحمته بهم بأخذ الميثاق والعهد عليهم.
ومن الآيات بيان الآية لمضامين العهد على نحو التفصيل وليس الإجمال، وهي:
الأول: الإيمان بالله عز وجل إلهاً واحداً، وإجتناب الشرك.
الثاني: أداء التكاليف والعبادات.
الثالث: بر الوالدين وخفض الجناح لهما، وجاء ذكرهما بعد العبادة لأنهما العلة السببية المقيدة بفضل ومشيئة الله.
الرابع: تعاهد صلة الرحم، وإعانة ذوي القربى في أمور الدين والدنيا.
ومن الآيات مجئ الآية بالإحسان إلى الوالدين والأقرباء على نحو الإطلاق من غير تقييده بإيمانهم وعملهم الصالحات، لوجهين:
الأول: المدار على النسب وصلة الرحم.
الثاني: الإحسان المذكور في الآية الكريمة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة.
وتبين آيات القرآن جانباً من هذا المعنى وبخصوص العناية بالوالدين قال تعالى [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا]( ).
الخامس: الرأفة بالصغار الذين فارقهم آباؤهم إلى الآخرة، لمواساتهم والتخفيف عنهم، وبعث الأمل في نفوسهم وإدراك حقيقة أن إعانتهم تأتي إمتثالاً لأمر الله عز وجل مما ينمي عندهم ملكة الإيمان، ويدعوهم للصلاح.
السادس: الإحسان والرحمة بالمساكين والفقراء الذين لا يملكون قوتهم ومؤونتهم اليومية، وعدم إستضعافهم، أو الإستخفاف بهم لقلة ما عندهم ولضعفهم.
السابع: نشر مبادئ الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتحلي بالأخلاق الحميدة، وإشاعة الفضائل.
الثامن: من الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على بني إسرائيل أداء الصلاة التي هي عمود الدين، والشاهد على صدق العبودية لله عز وجل.
التاسع: إخراج زكاة المال، ودفعها إلى المستحقين من الفقراء والمساكين، وإعانتهم في قضاء حوائجهم بما جعل الله عز وجل لهم من الحق في أموال الفقراء.
وإبتدأت الآية بصيغة الجملة الخبرية لتنتقل في خاتمتها إلى لغة الخطاب [ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ] بلغة اللوم بسبب إعراضهم عن مضامين وأفراد الميثاق الذي أخذه الله عز وجل عليهم، ونقضهم له.
ومن إعجاز الآية الإستثناء من هذا الإعراض وأنه لم يشمل بني إسرائيل على نحو العموم الإستغراقي , فهناك فرقة قليلة منهم تعاهدت الميثاق وأحكامه، وفيه شاهد على فضح التحريف الذي يقوم به بعضهم، وإخبار بوجود أمة منهم على الحق، قال تعالى [وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ] ( ).
وهل ينحصر موضوع الآية ببني إسرائيل، الجواب لا، فجاء ذكر بني إسرائيل للإحتجاج عليهم، ورد لقولهم [لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً] ولكثرة عدد الأنبياء الذين بعثهم الله لهم على نحو الخصوص، وإلا فان الله عز وجل أمر الناس جميعاً بعبادته، وقد جاء القرآن والسنة النبوية بأمر المسلمين بما أمُر به بنو إسرائيل في الميثاق وفيه شاهد على أمور:
الأول : القرآن جامع للأحكام الشرعية.
الثاني : الإسلام هو الشريعة المتكاملة.
الثالث : المسلمون هم الأمة التي تتعاهد أحكام الميثاق وتتقيد بمضامينه، ويدل مفهوم هذه الآية على أن المسلمين هم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، من وجوه:
الأول : تقيد المسلمين بأحكام الميثاق.
الثاني : دعوة المسلمين أهل الكتاب إلى العمل بالميثاق الذي أخذه الله عز وجل عليهم.
الثالث : تذكير بني إسرائيل بالميثاق، فلولا هذه الآية الكريمة لم يبق ذكر للعهد الذي أخذه الله عليهم، وفيه شاهد على حاجة الناس للقرآن.
الرابع : تحذير الناس من الذين ينقضون عهد الله.
الخامس : ترغيب بني إسرائيل والناس جميعاً بالعمل بالميثاق، والذي يعني الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها تتضمن الإيمان بالله وما أنزل من الكتب وتصديق بالبشارات التي جاء بها موسى عليه السلام.
السادس : تثبيت الأمة القليلة من بني إسرائيل التي ظلت على العمل بعهد الله في سبل الطاعة ودعوتهم للإسلام، وفعلاً بادر فريق من بني إسرائيل عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى دخول الإسلام , وهو من الشواهد الإعجازية على صدق زل هذه الآية وما فيها من بقاء فرقة تتعاهد الميثاق بدخولها الإسلام .
ويحتمل لفظ (أخذنا) وجوهاً:
الأول : الوجوب، ولابد أن يتقيد بنو إسرائيل بكل فرد من أفراد الميثاق.
الثاني : الإستحباب والندب في العمل بالميثاق.
الثالث : التفصيل في أفراد الميثاق، فمنها ما يكون واجباً، ومنها ما يكون مستحباً.
والصحيح هو الأول، إذ يدل أخذ الميثاق والعهد على الوجوب في جميع أفراده، ومن إعجاز الآية وتمام الحجة فيها إخبارها عن أعطاء بني إسرائيل العهد لله عز وجل على العمل بمضامين الميثاق فالأخذ ضد الإعطاء، ولم يعطهم الله الميثاق بل أخذه منهم، مما يجب عليهم الوفاء به، والذي لايكون في أيام البعثة النبوية إلا بالإسلام.
التفسير الذاتي
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء،ورزق الناس العقل وبعث لهم الأنبياء مبشرين ومنذرين وأنزل الكتب السماوية لصلاحهم وجذبهم إلى منازل الإيمان، وتقريبهم إلى مسالك الطاعة ودفعهم عن مواطن الهلكة وفعل السيئات.
فيحتمل الميثاق وجوهاً:
الأول: إنه من الإبتلاء والإمتحان في الدنيا .
الثاني: الميثاق من أسباب جذب الناس للإيمان.
الثالث: إنه من سبل إبعادهم عن المعاصي.
الجواب الميثاق منها جميعاً، وتلك آية في فضل الله عز وجل على الناس وصيغة البركة في الميثاق بأن يكون متعدداً وعظيماً.
فإذا فات الإنسان الإلتفات إلى الميثاق والعهد الإلهي من جانب فأنه يصغي إليه من جوانب وأسباب أخرى، وجاءت هذه الآية في سياق بيان نعم الله عز وجل على بني إسرائيل، والميثاق نعمة عظيمة فيها خير الدنيا والآخرة، وهي مقدمة وعلة للهداية والصلاح، والجحود بها والإعراض عنها سبب للبلاء قال تعالى[فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً]( ).
ومن إعجاز الآية أنها قدّمت التوحيد ولزوم عبادة الله عز وجل وعدم الإشراك به قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ]( )، وهو الوظيفة الأساسية للناس في الحياة الدنيا، والمدخل للخلود في النعيم في الآخرة، والواقية من التحريف وكتابة الكتاب ونسبته إلى الله عز وجل إفتراء.
ولم تقل الآية أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا يعبدون إلا الله، بإعتبار أنهم الذين أعطوا الميثاق وأن الله عز وجل أخذه منهم، فلابد أنهم نطقوا به وتعهدوا بمضامينه ولكن صيغة الآية بأن الميثاق عهد من الله يجب على بني إسرائيل العمل بسننه، وفيه مسائل:
الأولى : القرآن يفسر بعضه بعضا ، وقد ورد ذات الموضوع بصيغة الخطاب[وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ] ( ).
الثانية : جاءت الآية للحجة والبرهان.
الثالثة : أختتام الآية بصيغة الخطاب دعوة لهم لدخول الإسلام، ففيه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
ومن الآيات أن تلك المضامين بينة ظاهرة خالية من اللبس والترديد.
وجاءت آيات القرآن بوجوبها على المسلمين، وفيه دعوة الناس للتقيد بأحكامها وسننها، ومن فضل الله عز وجل على بني إسرائيل في المقام وجوه:
الأول : أخذ الميثاق عليهم.
الثاني : بيان أفراد الميثاق.
الثالث : إصلاح وجذب بني إسرائيل لسبل الهداية بالميثاق لأنه يجعل الإنسان أكثر حرصاً على العمل.
الرابع : تذكير بني إسرائيل بالميثاق في القرآن، ترى لماذا جاء ذكر الميثاق وأفراده في القرآن، فيه وجوه:
الأول : القرآن هو الكتاب السماوي الباقي إلى يوم القيامة.
الثاني : لا تصل يد التحريف إلى القرآن.
الثالث : في القرآن تبيان لكل شيء،وفيه الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على بني إسرائيل.
الرابع : في الآية حجة على بني إسرائيل.
الخامس : دعوة الناس للإلتفات إلى نعم الله عز وجل على بني إسرائيل، فقوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( )، يندب الناس في مفهومه إلى التدبر في النعم الإلهية على بني إسرائيل ودلالاتها.
السادس : إنذار وتحذير بني إسرائيل من إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإعراض عما فيها من المواعظ والحكم والحقائق فإخبار القرآن عن الميثاق وذكر أفراده على نحو الحصر والتعيين شاهد بأنه نازل من عند الله، ودعوة لبني إسرائيل للتدبر في الميثاق.
السابع : من أسماء القرآن أنه ذكر، قال تعالى[قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الثامن : الآية مناسبة لتفقه المسلمين في الدين، وتلقينهم صيغ الإحتجاج على الآخرين.
التاسع : الآية واقية من أذى اليهود، وجدالهم وتحريفهم للبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
والآية من الشواهد على قيام الحجة على الناس، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( )، بأن تكون الآية القرآنية مصاحبة للناس وتحكي لهم عظيم فضل وإحسان الله على بني إسرائيل.
العاشر: الآية من الدلائل على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) من وجوه:
الأول : حفظ المسلمين للمواثيق.
الثاني : قيام المسلمين بتذكير أصحابها بها، بتلاوة الآية، والإحتجاج بمضامينها.
الثالث : صيانة القرآن من التحريف، وعصمته من طرو يد التحريف عليه، فلا يمكن لأحد تبديل بعض كلمات وحروف هذه الآية فهي وثيقة سماوية وفيها توكيد للميثاق.
وتبين الآية أن ميثاق الله عز وجل لن يترك أو يذهب سدى، بل هو باق وإن أعرض عنه الذين تعهدوا بالعمل بمضامينه، وتبين الآية غنى الله عز وجل عن الناس، وعدم حاجته للميثاق إنما هو لنفعهم.
الرابع: إذا تخلف الناس عن المواثيق التي أخذها الله عز وجل عليهم فان المسلمين يقومون بتذكيرهم وإقامة الحجة عليهم.
الخامس: يتعاهد المسلمون المواثيق التي أخذها الله عز وجل على أهل الكتاب والمليين من قبل، لذا ترى أفراد الميثاق المذكورة في هذه الآية من الوظائف العبادية للمسلمين.
السادس: لقد أختتمت هذه الآية بالخطاب لبني إسرائيل [ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ] والمسلمون هم الأمة التي لا تتولى أو تعرض عن الميثاق، ولا عن التقيد بأحكامه والتذكير به.
إن مضامين هذه الميثاق قواعد كلية للناس جميعاً، ولكن تذكير بني إسرائيل بالميثاق نعمة خاصة بهم، ودليل على نعمة الميثاق وإختصاص بني إسرائيل به، بالإضافة إلى تضمن الآية إعراضهم عن الميثاق، ومن الآيات أن الميثاق لم يقصد لذاته فقط، بل هو خير محض، وباب لدوام النعم.
ترى لماذا لم تقل الآية (ثم توليتم وأنتم معرضون إلا قليلاً منكم) وهو الذي يقتضيه سياق الخطاب، لأن الإعراض صدَرَ من الذين تولوا، وكلاهما جاء بلغة الخطاب، الجواب من وجوه:
الأول: جاء الإستثناء من التولي والجحود بالميثاق وأفراده، فقليل من بني إسرائيل هم الذين بقوا على الإقرار بالميثاق ولم يتولوا عنه , ويتجلى هذا الإقرار بالتقيد بسنن الإسلام .
الثاني: منهم من لم يتول عن الميثاق ولكنه أعرض عن التقيد به، وإمتنع عن العمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما في قصة القرية التي كان بعض أهلها يصيد الحيتان يوم السبت وهو محرم عليهم، فنهاهم قوم ، ولكن قوماً أعرضوا وقالوا[لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ]( ).
الثالث: إن القليل منهم الذين بقوا على الميثاق لم يستطيعوا ثني هؤلاء عن جحودهم ومنعهم من التولي عنه، بل أعرضوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: جاء التولي منهم في الأزمنة السابقة أما الإعراض فالمراد به الإعراض عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من الدعوة لحفظ المواثيق، وتعاهد الأوامر والنواهي التي جاء بها الأنبياء السابقون.
وقد يقال أن الواو في[وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ] تفيد الحال وأنهم حال التولي كانوا معرضين، وهذا المعنى مع صحته، لا يتعارض مع قبح إرادة الصدود عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: التباين الجهتي بين التولي والإعراض، فبعد التولي كانت دعوة الرجوع إلى الميثاق والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتلقى هؤلاء هذه الدعوة بالتجافي.
السادس: بيان الإثم المركب بسبب التولي ثم الإعراض.
السابع: توكيد فضل الله عز وجل على بني إسرائيل بأنهم مع التولي تأتيهم الإنذارات والبشارات، ولكنهم يتلقونها بالإعراض.
وقد ورد قوله تعالى[ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ] ( )، وجاء بخصوص سبب نزول هذه الآية حصول زنا بين رجل وامرأة من ذوي الشأن من اليهود وكان الحكم عندهم في التوراة هو الرجم.
ومن الآيات في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظهور بعض الأحكام الموجودة في الكتب السابقة، وإقبال الناس عليها، فجاء جماعة منهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رجاء وجود رخصة عنده تمنع من الرجم، ورفعوا أمرهما له فحكم بالرجم (فقال له النعمان بن أوفى، وبجري بن عمرو جرت علينا يا محمد ليس عليهما الرجم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بيني وبينكم التوراة، قالوا قد أنصفتنا)( ).
فوجدوا الرجم في التوراة ورجمهما النبي، وغضب الجماعة فنزلت الآية أعلاه، أي أنهم تولوا عن الحكم ، وأعرضوا عنه.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: هذه الآية من الآيات التي تبين النعم الإلهية على بني إسرائيل، وتخبر بإن الميثاق رحمة وفضل وتفضيل لبني إسرائيل وكذا التكاليف التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن فانها رحمة من عند الله تعالى، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ حقيقة وهي أن أفراد النعمة عامة وخاصة، ومنها ما تتوجه إلى أهل ملة معينة لدعوتهم إلى الإسلام، مع إنتفاع الناس جميعاً من هذه النعمة كما في الخطابات القرآنية لبني إسرائيل وكشف وتوثيق نعم الله عليهم.
الثانية : الميثاق طريق لنيل المراتب العالية في الجنة.
الثالثة : إقامة الحجة على الأمم السابقة ممن تخلف عن وظائفه الشرعية.
الرابعة : إحصاء أفراد الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل من هذه الآية والآيات الأخرى التي تتحد معها في الموضوع والحكم.
الخامسة : إعجاز القرآن بذكر أمة من بني إسرائيل تعاهدت الميثاق وتوارثت أحكام الشريعة والتقيد بالسنن التي جاء بها الأنبياء.
السادسة : ذكر أفراد الميثاق، ومنع التحريف والتبديل لها، فمن فضل الله تعالى على بني إسرائيل أن يأتي توثيق الميثاق في القرآن الذي [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ]( )، ولا تستطيع يد التحريف أن تصل إليه.
السابعة: الإخبار عن تفضيل المسلمين بالتكاليف والعبادات وتعاهدهم لها.
التفسير
قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ]
الميثاق مفعال من الوثاق وهو في الأصل حبل وقيد يشد به الأسير او الدابة، صارت الواو ياء لإنكسار ما قبلها، والجمع مواثيق، والميثاق: العهد، وقال بعضهم إنه اليمين المؤكدة، وهو مصداق من مصاديق العهد، وفرد خارجي له، ويكون العهد بوجوه أخرى، والعهد أعم من اليمين، كما انه في اليمين تجب الكفارة عند حنثه، والحلف على خلاف الواقع مع عدم وجود الراجح وتضمن المصلحة وان كان في المقام ليس من مصلحة للعبد في مخالفة العهد ونقض الميثاق، وما أمر الله عز وجل به هو الراجح الثابت الذي تنجذب إليه النفوس.
وتحصل من هذا أن بين العهد واليمين عموماً وخصوصاً من وجه وان الميثاق والعهد في المقام ليس هو اليمين والحلف، لذا ورد في الخبر: “إن كل يمين فيها كفارة الا ما كان من عهد او ميثاق” أي ما يتعهده الإنسان لغيره لا كفارة له سوى الوفاء به، وقد يأتي الميثاق بمعنى العقد والإبرام لموضوع العهد، كما في قوله تعالى [ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ]( ).
وهل المراد من الميثاق هو الذي أخذه الله على الناس وهم أرواح في عالم الذر ودعاهم إلى الإقرار بالربوبية فآمن وأقر شطر منهم، أم أنه غير هذا.
الجواب هو الثاني والمراد أنه ميثاق في الحياة الدنيا، ترى كيف أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل فيه وجوه:
الأول : أخذ الله عز وجل منهم الميثاق مجتمعين ومتفرقين.
الثاني : تم الميثاق بواسطة موسى عليه السلام وأنبياء بني إسرائيل.
الثالث : تلاوة بني إسرائيل للتوراة والكتب السماوية وما فيها من الأوامر والنواهي، وإقرارهم بأنها تنزيل من عند الله عز وجل.
الرابع : أخذ الأنبياء الميثاق والعهد من بني إسرائيل مع التشديد والتوثيق من الله بالآيات الكونية والمعجزات.
والصحيح هو الرابع، قال تعالى[وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ] ( ).
فقد رفع الله عز وجل الجبل الذي كانوا على سفحه وقال لهم لتقبلن التوراة والعمل بها أو أرميه عليكم، فقبلوا بالتوراة ثم دعاهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزة والحكمة وآيات القرآن فتمادت قريش وآزرها بعضهم فكان السيف هو الفيصل في بدر وأحد والخندق وخيبر.
لقد ورد الميثاق في القرآن على نوعين:
الأول : ما يتعلق بمعاملات الناس، بعضهم مع البعض الآخر كما في قوله تعالى [ إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ]( ).
الثاني : ما يتعلق بالمواثيق والعهود العبادية التي أخذها الله عز وجل على عباده وهي على أقسام:
الأول : ميثاق الأنبياء.
الثاني : ميثاق أهل الكتاب.
الثالث : ميثاق بني إسرائيل.
الرابع : ميثاق النصارى.
الخامس : ميثاق المؤمنين.
ولقد ذم الله عز وجل بني إسرائيل على نقضهم الميثاق بقوله تعالى [بِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ]( ).
ولقد مدح الله عز وجل الذين يوفون بالعهد وموضوع العهد هو الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ]( ).
والآية الكريمة لها مفهومان:
الأول : مفهوم موافقة.
الثاني : مفهوم مخالفة.
أما الأول فإن الآية مدح للذين آمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بني إسرائيل وغيرهم وأن إيمانهم من الوفاء بعهد الله.
وأما على الثاني وهو مفهوم المخالفة فالآية ذم لليهود الذين لم يؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن عدم إيمانهم به نقض منهم للميثاق.
ومن الآيات أن آيات الميثاق هذه لا تنحصر بزمان دون زمان، وموضوعها أيام نزول القرآن وفي كل زمان بعده هو الإسلام والنطق بالشهادتين، وإتيان الفرائض من الصلاة والزكاة والصيام والحج.
ترى من المقصود بلغة الخطاب في الآية الكريمة، فيه أقوال:
الأول : إنه خطاب لعلماء اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إرادة أسلافهم في الخطاب.
الثالث : خطاب للمسلمين وتقريع للأخلاف( ).
وبالنسبة للقول الأول فالآية أعم منه لإطلاقات التكليف وشمولها لعموم المكلفين وعدم الدليل على إنحصارها بعلمائهم، وفيما يخص القول الثاني فهو خلاف لغة الخطاب في الآية الكريمة التي يمكن إعتبارها نوع ظهور فيها إلا مع القرينة الصارفة لغير الذين صاحبوا أيام نزول القرآن، وأما القول الثالث ففيه تفصيل وتقييد يفتقر إلى الدليل ولا يستوفي المقصود من الآية الكريمة.
والأنسب أن الآية خطاب لعموم بني اسرائيل وتتعلق بسيرتهم عامة، فنقض الميثاق لم يأت فجأة ومن عند جيل واحد منهم بل كان تدريجياً، وعلى فرض انه كان دفعياً فإن الذين ورثوا التحريف وعدم الإلتزام بالعهد والميثاق عليهم من الإثم مثل الذي على الذين بدأوا نقضه لوحدة الموضوع والحكم في تنقيح المناط.
ولأن التكليف بالإيمان بالنبوة عيني وينحل بعدد الأفراد أي ان هؤلاء النفر القليل الذين لم ينقضوا الميثاق كانوا حجة على أهل زمانهم فليس لأحد منهم أن يعتذر بعدم علمه بالميثاق مع وجود هذا النفر، ومن ورث النقض والمعصية كان جاهلاً مقصراً وليس قاصراً لأن الأمر يتعلق بالضروريات واليقينيات، وهم شهود من بين اليهود أنفسهم على صحة ما جاء به القرآن وهم مشمولون بالخطاب مع إستثنائهم مما في الآية من الذم والتوبيخ , والآية تمدحهم لإنجذابهم للإسلام كمصداق للعهد، وتدعو المسلمين إلى حسن معاملتهم.
قوله تعالى [لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ]
لقد أجمع الفلاسفة والمتكلمون وأهل العرفان على التوحيد في الخالقية والربوبية، وأن الشريك لله ممتنع الوجود، وأن كل فعل ومؤثر لا يصدر إلا من عند  تعالى سواء بالأصالة أو التبعية والواسطة، وليس من فاعل له إستقلال في التأثير، قال تعالى[لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا]( ) .
ودقة وكثرة أنظمة السماء والأرض وتداخل الجديدان معها في الضبط وإنعدام التزاحم بينها , أدلة عقلية ووجدانية تؤكد التوحيد وقوله تعالى أعلاه , وفيه آية بأن تفسير القرآن لا ينحصر بالتفسير الذاتي والسنة النبوية وعلوم اللغة، فالنظام الكوني تفسير لآيات القرآن، وتفسيره هذا حسي يطل على الناس في كل ثانية ودقيقة، فلا أحد يسّير الكواكب غير الله، لأن تعدد الأمر يوجب الإختلاف والتصادم والتغيير والتبدل، بل تجري الشمس والقمر والكواكب بأمر واحد من عند الله، وبإنتظام يبهر العقول، ويجذب الناس لعبادة الله، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
ومن الآيات في النفوس أن كل عضو من أعضاء الإنسان له نصيب من العبادة، (عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم : أعطوا أعينكم حظها من العبادة قالوا: يا رسول الله وما حظها من العبادة ؟ قال : النظر في المصحف والتفكر فيه والإعتبار عند عجائبه)( ) .
ووظيفة القلب الإيمان والتسليم بالوحدانية لله عز وجل، وحظ اللسان غير محدود وهو ترجمان الجوارح، فيجري الذكر والقراءة والدعاء والتسبيح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ولكل عضو من الناس نصيب من العبادة , وهو من عمومات[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وهو تعالى بسيط ليس بمركب، فالتركيب منفي عنه حتى في الأجزاء التحليلة العقلية، إذ أن الممكنات كلها مركبة من حيثيتين ماهية ووجود، أما واجب الوجود فوجوده وجود صرف منزه عن الماهية، فلا يمكن سلب أي كمال عنه لعدم تناهي وجوده تعالى، فصفات الكمال مجتمعة في الذات المقدسة.
إن وجوب عبادته تعالى من الفطريات وهي القضايا التي يحكم بها العقل من غير حاجة للإحساس بها اذ ان قياساتها معها، فحالما يستحضر العقل او يتصور الطرفين يكون الحكم معها.
بحث بلاغي
في باب وضع الخبر موضع الإنشاء ذكرت هذه الآية وأنَّ (لا تعبدون) تعني لا تعبدوا، وهو مناسب للمقام وفق الصناعة النحوية لأنه يجوز حينئذ عطف الجملة الإنشائية [ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ] عليه.
ولكن حمل الخطاب على ظاهره [ لاَ تَعْبُدُونَ ] أبلغ في الدلالة والأثر، فانه يفيد الإطلاق والقضية المهملة وان المراد إستدامة العبادة لله عز وجل، والنفي الدائم لوجود الشريك وهو من مبادئ الميثاق وأهم مقوماته، بالإضافة إلى بلاغة الجملة الخبرية، وفيه كشف للحقائق أكثر من الأمر والنهي، أي أن التقدير النحوي للكلمات والحروف حذفاً وإضافة لا يمنع من النظر للآية على ظاهرها.
وحجة الظواهر ظاهرة للعقل والوجدان وعليه مبنى العقلاء، إذ يتبادر إلى الأذهان أن المتكلم أراد المعنى الظاهر من كلامه، ولولاه لإختلت أنظمة التخاطب وصيغ الكسب والمعاشات .
ويقع الإجمال والترديد والإشكال في بعض الحالات كورود المخصص والإستثناء المتصل أو المنفصل , واللفظ الذي شاع إستعماله في المجاز ونحوها.
ويمكن تأسيس قاعدة وهي إذا صح التفسير والتأويل بالمعنى الظاهر وبالتقدير بالحذف أو الإضافة وفق الصناعة النحوية فلا مانع من الجمع بينهما، وهو من أسرار تعدد معاني ودلالات اللفظ القرآني.
قوله تعالى [وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ]
الوالدان: لفظ معروف يقصد به الأب والأم، وهما العلة السببية لنشأة وتكوين الولد، يقال تولد الشئ من الشئ أي نشأ منه، وذو القربى: الأرحام ومن يتصل بالنسب، وجاءت هنا مطلقة أي بصفة القربى، لتشمل المرتبطين بالنسب وغيره كالأخوة والقربى من الرضاعة وان علوا أو نزلوا للظاهر في الوصف وهو قيد للموضوع لا للحكم فيكون مطلقاً، ولأن الأصل في القيود أن تكون إحترازية.
وقال الرازي (أما قرابة الأم فانها تدخل في وصية العجم ولا تدخل في وصية العرب على الأظهر لأنهم يعدون ذلك قرابة، أما لو قال لإرحام فلان دخل فيه قرابة الأب والأم)( ).
ولكن الآية أعم من ذلك ولا ينظر لها بالمفهوم العرفي عند العرب انما بالمعنى الإصطلاحي والشرعي عند المليين وهو جميع الأقارب من جهة الأب أو الأم خصوصاً وأن خطابات القرآن ذات صبغة عالمية.
واليتامى: جمع يتيم وهو الذي مات أبوه من الصبيان الذكور والأناث الذين لم يبلغوا سن البلوغ.
والمساكين: جمع مسكين من المسكنة، وهي الذلة والإحتياج وهي صفة غالباً ما ترافق الفقر والحاجة.
ولفظ الفقير والمسكين جاءا بالمعنى الأصطلاحي في آية الصدقات بالعطف الذي يعني المغايرة، وللمسكنة مراتب متفاوتة إلا انها ليست مرتبطة بالقضية اللزومية مع الفقر، فقد يكون مسكيناً ولكنه ليس بفقير كما في قوله تعالى [ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ..]( ).
وأستدل بما ورد عن الصادق عليه السلام: (الفقير الذي لا يسأل الناس، والمسكين أجهد منه والبائس أجهدهم)( )، أي ان المسكين أسوء حالاً من الفقير، ولكن الإجهاد المذكور أعلاه أعم من الفقر.
تتعلق الآية ببني إسرائيل ضمن سياق الآيات ولكنها تبين طريق الجنة، والضلالة التي تؤدي إلى النار أي أن الله عز وجل تفضل عليهم بالميثاق وبين لهم وجوه الصلاح والفرائض والمندوبات وأنهم أقروا بذلك وقامت عليهم الحجة.
وينحل مضمون الميثاق إلى عدة مواثيق تختلف في أبوابها فمنها ما يتعلق بالتوحيد وهو أساس لشرائع السماء وأصل التكاليف لذا جاء في الآية في مقدمة أفراد الميثاق، لأن الأفراد الأخرى تتفرع عنه، وأغلبها لا يقبل إلا بقصد القربة الذي لا تتقوم العبادات إلا به.
وفي التوراة المتداولة (باب الوصايا العشر وبدايته: أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر دار العبودية لا يكن لك آلهة أخرى سواي)( ).
والبر بالوالدين ركيزة من ركائز الإيمان جاء القرآن بترسيخها وحفظها، ويبدو ان الأديان السماوية كلها أكدت على هذا الموضوع بإعتباره وجهاً من وجوه الشكر وباباً إلى الهداية بمعرفة الطاعة والإنصياع للآباء بخبرتهم وما تعلموه من الحياة الدنيا من دروس، وما ورثوه من الحكمة والمعرفة الإلهية بدليل ان الوصية جاءت بصفة الإنسانية كما في قوله تعالى [ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا]( ).
ومن علل الوصية ما يعانيه الوالدان من جهد ومشقة في إعداد الولد وتربيته كما في قوله تعالى [ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ.. ]( ).
وصحيح ان العقائد تتوارث ولكن غلبة المعصية والذنوب تؤدي الى الإعراض عنها بل وإعراضها عن غير اهلها، لذا تفضل الله عز وجل على الأمم عامة بالقرآن كتاباً [ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ]( ) ليكون حافظاً للمواثيق السماوية كافة ومنه ينهل الناس واليه يرجعون، ويتلقاه أبناء المسلمين بفخر تركة عظيمة فليس من برزخ دونه ولا إعراض في البين، وهذا التلقي من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
في التوراة المتداولة ورد في الوصايا العشر: (اكرم أباك وأمك كما أمرك الرب إلهك، يطول إيمانك، وتلقى خيراً على وجه الأرض)( ).
وجاء القرآن ليؤكد هذا ويخبر أن الوصية كانت في الميثاق وبالوالدين إحساناً، والإحسان أعم من الإكرام، ويتحلل الى مصاديق وأفراد مادية ملموسة تتعلق بالإنفاق والبر والصبر والتحمل والرضا والطاعة إلا في معصية وإيذاء وظلم.
ولم يكن القصد في الآية الكريمة في القرآن التعريض بفريق من إسرائيل، بل أنها تبين فضل المسلمين ومدى التزامهم بالأحكام الشرعية والذي يبدأ من ساعة التشريع، فهم يسمونها الوصايا والاسلام يسميها الفرائض والأحكام، أي أنا نتلقاها بروح العبودية والإنصياع والتسليم وبأنها قطعية نافذة ويتتابع تفصيلها ومصاديقها وفق ما جاءت به السنة النبوية الشريفة بإعتبار أنها بيان وتفسير للقرآن، وكأن في صدق التسمية ودلالتها على المسمى عون على الأداء وحسن الإمتثال.
وما تتضمنه في موضوع برِ الوالدين وما يتعلق به من أحكام في باب العقائد والأخلاق والإجتماع والفقه وغيرها يصلح أن تفرد له مجلدات عديدة ويكون مدرسة متكاملة تساهم في بناء المجتمعات على أسس فكرية سليمة تقود إلى الصلاح وتساعد في حل الكثير من المشكلات الأسرية والإجتماعية ومنها التي برزت في هذا الزمان مع إحتمال زيادة أضرارها إذا لم يتم التصدي لها بصيغ الهداية .
إن معرفة الله عز وجل من مقتضيات الفطرة وكيفية الخلق والوجود أي انها لا تحتاج إلى التعليم وليست قابلة للتغيير والتبديل، لذا ذهب بعض الفلاسفة إلى القول بعدم الحاجة إلى إقامة البرهان على وجود واجب الوجود لاسيما وإن المعارف الفطرية مستغرقة لجميع أفراد النوع الإنساني بل إنها من لوازم ماهية الإنسان، وهي من أسرار نفخ الروح في آدم وصيرورتها مادة حياة الإنسان، قال تعالى[ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
ولا غرابة حينما تجد شطراً من الناس يبحثون عن عبادة الله والطريق القويم الى مرضاته ومن هؤلاء النفر الذين آزروا الأنبياء ونصروهم في دعوتهم إلى الله، وهناك شواهد كثيرة في أيام النبوة وبعدها عن علماء وأكابر وجدوا ضالتهم في الإسلام وكان في إسلامهم حجة وعز للمسلمين، ومنهم من كان زمانه قبل الإسلام وهو شاهد إنساني متجدد على الحاجة للبعثة النبوية المباركة.
وهل المعرفة الفطرية بالله عز وجل هي من قبيل العلم الحضوري الذي يحصل من دون واسطة من صورة أو مفهوم ونحوهما، أو من العلم الحصولي الذي يتحقق بواسطة صورة حسية وخيالية أو مفهوم عقلي أو وهمي.
أما بالنسبة للقسم الأول من العلم فقد حصره بعضهم ومنهم الإشراقيون في خصوص علم المعلول لعلته والعلوم المجردة بإعتبار ان المادة عنوان التشتت والتفرق مكاناً وزماناً فلا حضور له، ولكن ذلك لا يمنع من وجود مرتبة ما من التجرد تجعل عنده مقداراً من العلم الحضوري وإدراك العلة المانحة للوجود مما يحتاج إلى مدد من العلم الحصولي، وهو كيفية نفسانية سواء كان في البديهيات التي يدركها العقل من دون الحاجة إلى برهان وإستدلال وتعليم، أو تلك التي تحتاج إلى البرهان العقلي والحجة الفلسفية والكلامية، وتصل تلك المعرفة إلى مراتب عالية من الكمالات النفسانية والإنقطاع إلى العبادة ووجوه الفرائض واتيان الصالحات سعياً الى القرب إلى مناهل الرحمة الالهية.
لذا فإن أمر الله عز وجل بالإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين فضل منه تعالى على بني إسرائيل الناس كي يواظبوا على عبادته تعالى بالصلاح ولتحول تلك الصالحات دون جحودهم وقسوة قلوبهم , ومن يعترف ويقر بتلك المواثيق يقابل الرسالة الإسلامية بعين البصيرة والعقل ويسأل الآيات والحجج سؤال تقرير لا سؤال إنكار مقترن بضميمة الإستهزاء ونية التكذيب، وان كان ذلك كله لا يمنع من الإستدراك عند رؤية الآيات ان لم يكن في البين غشاوة عامة من الضلالة والغي والإستكبار تحول دون التدبر والهداية.
وكما ان عمل الصالحات يرسخ الإيمان في النفوس والمجتمعات بإعتبار أنها مصاديق له وإبراز واقعي لأحكامه في باب الإجتماع فان إرتكاب الذنوب من عقوق الوالدين والقسوة المؤذية في التعامل مع المساكين باب مظلم للجحود ونكران الوظائف العقائدية، وهو مدخل سوء للتمادي في المعصية والتفريط في العبادات.
وجاءت الآيات بالحث على طاعة الوالدين وقرنها الله عز وجل بطاعته للدلالة على موضوعيتها، وإفادة نكتة في المقام وهي أن الإحسان للوالدين لا يتعارض مع طاعة الله، وإن الأولوية لعبادة الله عز وجل فلا طاعة لمخلوق في معصبة الخالق، وجاء البر للوالدين في الآية بلفظ الإحسان لتقييده بما فيه الصلاح والإصلاح، وإجتناب الفساد وأسباب الضلالة.
وتبين الآية فضل الله عز وجل على بني إسرائيل آباء وأمهات وأبناء وذراري، في صلاتهم الإجتماعية وأحوالهم المعاشية،وشؤون تنظيم الأسرة، فيدل قوله تعالى [وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا] في مفهومه على لزوم حسن العناية بالرجال والنساء عند الكبر والشيخوخة، لأن الله عز وجل أوجد بهم الأبناء .
وفي الآية آية إعجازية ووظيفة أخلاقية وعقائدية يتحملها الآباء والأمهات من بني إسرائيل، بالوصية لأبنائهم بالميثاق، والتوكيد على لزوم تعاهده، ليكون من الإحسان للوالدين الإصغاء لأوامرهما، والحرص على الإمتثال لما في الميثاق من الأحكام فكأن الآية تقول للآباء : قد أوصى الله أبناءكم بالإحسان إليكم فاستمروا بجذبهم للإيمان , وأحسنوا إليهم بمنعهم من الفسوق والظلم ونقض الميثاق، فكما يلزم الابن البر بالوالدين فانه يلزم الوالدين البر بإبنهما، ليتغشى الفضل الإلهي بني إسرائيل وهم أولاد بأن يحسنوا إلى آبائهم وأمهاتهم، ويتغشاهم وهم آباء، وأمهات بأن يتلقوا الإحسان من أبنائهم، الذين ينصتون لهم أيضاً لتلقي الأحكام وأفراد الميثاق، وقد جاء في الإنسان مطلقاً قوله تعالى [أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ]( )، وجاء إكرام بني إسرائيل بحثهم على الإحسان للوالدين بأمور:
الأول : الوصية للناس مطلقاً.
الثاني : تضمن الميثاق الذي أخذه الله عز وجل عليهم الإحسان للوالدين.
الثالث : تذكيرهم في القرآن بما جاء في الميثاق من لزوم البر بالوالدين.
الرابع : مجئ الآيات التي تأمر المسلمين بالإحسان للوالدين ليكون المسلمون ورثة الأنبياء، وتبقى هذه الآيات ومصاديقها العملية المتجددة في كل زمان من الشواهد على تفضيل المسلمين وأنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وتبين الآية التداخل بين أفراد الميثاق، وأن الإحسان للوالدين عون في عبادة الله عز وجل للآباء والأبناء، فمن الإحسان وراثة الإيمان وحفظ الميثاق مع تحذير الآباء من التحريف والتبديل، قال تعالى [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا]( )، لتكون هذه الصحبة هي المسمى للإحسان وبرزخا دون القطيعة والجفاء، ومناسبة للإنابة والتدارك من طرف الوالدين أو أحدهما , وزيادته بالهدى والإيمان.

قوله تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا]
أراد الله عز وجل من بني إسرائيل أن يشكروه على النعم الخاصة التي توالت عليهم برأفة بعضهم على بعض ، وبالرحمة لأهل الأرض لما لجميع الناس من حصة في تلك النعم التي منحها الله عز وجل لبني إسرائيل باعتبارها من الطبيعي الكلي، وصحيح أنها كانت خاصة ببني إسرائيل ولكن يجب أن لا تكون وبالاً على الأمم الأخرى كأن يطغى بنو اسرائيل ويتعدون على حقوق الناس مما يؤثر سلباً على منازل الإيمان والمؤمنين في الأرض لاسيما وأن إستضعاف آل فرعون لهم كان درساً وموعظة، لذا روي عن الإمام علي عليه السلام أنه قال في الآية: (وقولوا للناس حسناً للناس كلهم)( ).
كما وردت في الآية أقوال:
الأولى : قولوا للناس حسناً أي معروفاً، عن الربيع بن أنس.
الثانية : أمروا بأن يقولوا لبني إسرائيل حسناً.
الثالثة : يأمرون بلا إله إلا الله، من لم يقبلها ويرغب عنها حتى يقولها فان ذلك قربة إلى الله، وهو المروي عن ابن عباس , وقال: والحسن أيضاً لين القول، من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه)( ).
الرابعة : قولوا للناس حسناً أي صدقاً في شأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قاله ابن جريج، وعن مقاتل بن حيان: قُولُوا فِي مُحَمَّدٍ صِدْقًا أَنَّهُ نَبِيٌّ( ).
الخامسة : عن الامام محمد الباقر عليه السلام : قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله يبغض اللعان السبّاب الطعّان على المؤمنين، الفاحش المتفحش السائل الملحف، ويحب الحليم الضعيف المتعفف.
السادسة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن ابن عباس( ).
السابعة : وكان أسد بن وداعة يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَلا يَلْقَى يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا إِلا سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تُسَلِّمُ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا، وَهُوَ السَّلامُ”، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ( ).
(وروي عن ابن عباس أنه قال: قوله [ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ] نسخ بآية السيف وبقوله عليه السلام “قاتلوهم حتى يقولوا لا اله الا الله او يقروا بالجزية( ), والمختار أن السنة لا تنسخ القرآن.
وقال آخرون بل نسب إلى الأكثر: ليست منسوخة وقال قتادة: نسختها آية السيف.
وقال الطوسي والصحيح ليست منسوخة، وعلله بأن (كل واحد منهما ثابت في موضعه)( ).
نعم الآية ليست منسوخة، وموضوع النسخ الذي يبحثون فيه أجنبي عنها، فانها تتعلق خطاباً وموضوعاً ببني اسرائيل , وهي جزء من التوراة المنسوخة في الجملة بالقرآن، والناسخ والمنسوخ في القرآن.
ومن شرائط النسخ إتحاد الموضوع بين الناسخ والمنسوخ ففي النسخ أطراف:
الأول : الموضوع الناسخ.
الثاني : جهة صدور الناسخ.
الثالث : مصدر الناسخ وهل هو التنزيل أو الوحي مطلقاً أو السنة النبوية.
الرابع: زمان صدور الناسخ.
الخامس : تحقق النسخ.
السادس : الأمر والموضوع الذي يتعلق به النسخ.
السابع : تعيين المنسوخ.
الثامن : جهة صدور المنسوخ.
التاسع : أوان صدور المنسوخ ولزوم كونه سابقاً لزمان الناسخ، وينبسط القول الحسن على كل آنات الزمان وعلى المسلمين والمسلمات جميعاً ومنهم ممن لا يقدر على القتال أو أنه ساقط عنه، بالإضافة إلى الإطلاق المكاني في القول الحسن بإستحضاره في كل موضع ومناسبة وجعله سلاحاً في الدعوة إلى الله.
وهل آية [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ) منسوخة بآية السيف أم لا، الأقوى لا، وفيه مسائل:
الأولى : إن موضوع الآية أعلاه أعم من آية السيف .
الثانية : أختلف في تحديد آية السيف.
الثالثة : ان لفظ السيف غير موجود في القرآن.
الرابعة : ما أكثرالآيات التي قيل أنها منسوخة بآية السيف.
الخامسة : ليس من تعارض بين القول الحسن في مواضعه والسيف عند الحاجة إليه , والكلام الحسن واقية وبرزخ دون اللجوء إلى السيف، أو أنه مقدمة له وحجة على الكافر والجاحد، وأظهر وأبهى مصاديق الكلام الحسن الدعوة إلى التوحيد.
وآية البحث وثيقة سماوية وتذكير لبني إسرائيل بلطف الله بهم وإحسانه إليهم بأن أمرهم بالإحسان إلى الناس جميعاً، ليكون هذا الإحسان رشحة من رشحات نعمه على بني إسرائيل وتفضيلهم بقوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
لقد جاءت الآية خطاباً لبني إسرائيل وجزءً من الميثاق الذي أخذه الله عليهم، ليكون حجة عليهم ورحمة لهم وللناس جميعاً، وذكر في القرآن ليكون تركة عقائدية للمسلمين والناس جميعاً، لقد كان هذا الميثاق خاصاً ببني إسرائيل أما بعد نزول القرآن فأصبح عهداً للمسلمين والناس جميعاً، مع زيادة في الفضل الإلهي والتفصيل في القرآن والسنة منها قوله تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
وفيه شاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إمام الناس جميعاً في الدعوة إلى الصالحات، وهو الذي يقود الناس في سبل الخير، ويدعوهم لنشر الأخلاق الحميدة، وإذ جاء ميثاق بني إسرائيل بالأمر بالقول الحسن، فإن الله عز وجل تفضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة الناس لقول (الأحسن) وهو أفعل تفضيل وأسناه وأحسنه قول لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ويراد من(الأحسن) في المقام وجوه:
الأول : في الرد والجواب على الناس , كما في قوله تعالى[وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا]( ).
الثاني : الإمتناع عن رد السيئة بمثلها، قال تعالى[وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ).
الثالث : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأحسن مقالة وأسمى صيغة تكون برزخاً دون النفرة والصدود.
الرابع : الحرص على إجتناب الكلام الذي يسبب الخصومة والعداوة، فالدنيا دار ممر وإقامة مؤقتة، وعند الله الحساب والجزاء، لذا جاء في خاتمة الآية أعلاه [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً] ( ).
الخامس : ذكر الله مطلقاً أي مع الذات والمؤمنين والناس جميعاً، لذا فمن الإعجاز في الشريعة الإسلامية صيرورة الصلاة على شعبتين في كيفية القراءة:
الأولى : الصلاة الجهرية، وهي صلاة الصبح والمغرب والعشاء.
الثانية : الصلاة الإخفائية وهي صلاة الظهر والعصر.
لتكون الصلاة والقراءة فيها من الذكر والقول الأحسن.
السادس : التذكير بالموت ولزوم الإستعداد له بصيغ من القول والبرهان والمناسبة.
السابع : بيان حال الثواب والعقاب في الآخرة، وبعث الرجاء وطرد اليأس من النفوس، ومنه إستحضار أدلة من القرآن والسنة في المقام، مثل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن سلمان المحمدي: خلق الله يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة ، منها رحمة يتراحم بها الخلق وتسع وتسعون ليوم القيامة ، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة)( ).
وقال الكلبي: كان المشركون يؤذون المسلمين فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فأنزل الله تعالى: { وَقُلْ لِعِبَادِي } المؤمنين { يَقُولُوا } للكافرين { الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ولا يكافؤوهم بسفههم( )، والآية أعم في مضامينها ومعانيها من سبب النزول هذا.
وسيأتي مزيد كلام عن هذه الآية ومضامين الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على بني اسرائيل في الجزء الواحد والأربعين بعد المائتين من هذا السِفر.
قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ]
الصلاة أسمى العبادات وهي قربان كل تقي وعنوان الخضوع لسلطان الباري عز وجل، ورداء الهدى وطريق النجاة والإلتجاء الى الله عز وجل بصيغ الخشوع والإنقطاع عن الدنيا بالذكر والدعاء والتسليم لإرادته تعالى.
إنها السبيل الذي يلتقي عنده المليّون إمتثالاً لأمر الله تعالى وسؤالاً لمرضاته وهي منار التوحيد، لذا وردت تسميتها (في الحديث بانها عمود الدين)، بها يعلن المؤمنون حرصهم على تثبيت أركان العبودية لله عز وجل وتعظيم شعائره، لذا كان تشريع الصلاة في الأرض مع نزول آدم عليه السلام الأرض، لتكون ميراث الأنبياء والوجه المبارك لعمارة الإنسان للأرض، ومرقاة الهدى، ومصباح النور الممتد بين السماء والأرض.
لقد كانت الصلاة عوناً ومؤنساً للمؤمن وباباً للتوبة والإنابة والتماس الحاجة، أي ان ورود الصلاة في ميثاق بني اسرائيل رحمة لهم وباب للندم ومدخل غلى التوبة والإنابة فبالصلاة تظهر منافع الإيمان والأفعال العبادية المركبة لبني الإنسان من غير حاجة منه تعالى لها وقد تقدم أن واجب الوجود غير محتاج وأن الإحتياج من لوازم الإمكان.
وتبين الآية أن الأمر إلى بني إسرائيل باقامة الصلاة جاء من عند الله عز وجل ولا تكون الصلاة إلا له سبحانه، كما يلتقي في أدائها النبي وأتباعه، والغني والفقير، والسيد والعبد، والملك والرعية، وهل الأمر باقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من عمومات قوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( )، الجواب نعم من وجوه:
الأول : إقامة الصلاة عبادة لله عز وجل، ومصداق لعمارة الأرض بطاعته تعالى.
الثاني : الصلاة خير محض.
الثالث : بالصلاة تستديم معاني الأخوة بين بني إسرائيل وتتقوم بطاعة الله وإتباع موسى عليه السلام .
الرابع : إقامة الصلاة مناسبة لتعاهد البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومقدمة للتصديق بنبوته، إذ أنها ركن الإسلام.
وعن الإمام علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن عمود الدين الصلاة، وهي أول ما ينظر فيه من عمل ابن آدم فان صحت نظر في عمله وإن لم تصح لم ينظر في بقية عمله)( ).
وظاهر الحديث أعلاه أن الصلاة أمر مفروض على الناس جميعاً بدليل ورود الحديث بلفظ(عمل ابن آدم) وليس عمل المسلم على نحو التقييد.
لقد إبتدأ الميثاق في هذا الآية بالأمر بعبادة الله فهي الأصل وعلة الخلق ، وجاء عطف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة عليها وهو من عطف الخاص على العام والمفصل على المجمل.
ترى ما هي كيفية الصلاة التي تضمنها ميثاق بني إسرائيل الجواب هي الصلاة التي جاء به موسى وعيسى عليهما السلام والتي نسخت بالصلاة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويدل عليه قوله تعالى في سياق الخطاب لبني إسرائيل[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] وما فيه من التأكيد على الركوع الذي إختص الله عز وجل به المسلمين، ومن الآيات أنه ركن من أركان الصلاة تبطل الصلاة بتركه سهواً أو عمداً.
قوله تعالى [وَآتُوا الزَّكَاةَ]
لقد قرن الله عز وجل الزكاة بالصلاة في مواضع عديدة من القرآن وفيه دلالات متعددة منها موضوعيتها في منازل العبادة والتوكيد على عدم التفريط بها، والزكاة لغة الطهارة والنماء، وفي الإصطلاح ما يجب إخراجه في أموال خاصة بشروط مخصوصة.
ولا تعارض بين المعنيين وغالباً ما يستل الإصطلاح الشرعي من المعنى اللغوي اذ أن إخراج الفريضة من المال الشخصي يطهره من الأوساخ والأقذار المعنوية وما تعلق بمجموعه من حقوق الآخرين الظاهرة والباطنة مما لا يخفى على الله عز وجل.
ويوجب دفع الزكاة النمو والبركة في الباقي من المال وسلامة الإنتفاع منه في سبل المعيشة. وعن الصادق عليه السلام (لو ان الناس أدوا حقوقهم لكانوا عائشين بخير)( ).
ويلاحظ في الحديث ان الموضوع هو الناس وليس المسلمين فحسب، أي ان منافع الزكاة بل وجوبها لا يختص بملة دون أخرى ومثله نصوص كثيرة وردت في السنة منها قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (خير مال المرء وذخائره الصدقة)( ).
والزكاة من أركان كل شريعة إلهية، وقد ورد حكاية عن عيسى عليه السلام في التنزيل [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]( )، ويدل عليه أيضاً آية البحث وورود وجوب الزكاة بالنص في الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل.
وبالإضافة إلى الأدلة الشرعية فقد أجمع العقلاء على فائدة الزكاة وما في مساعدة الفقراء والمحتاجين من حسن عشرة ورأفة بين البشر وشيوع روح التعاون بينهم وهو أمر يعتبر من البديهيات وما تحكم به الفطرة، ولكنه في العقائد التي جاءت بها الشرائع السماوية أعم وأرقى من ذلك كثيراً، إذ أن بها عوناً على حفظ الدماء والأعراض والأحكام التي جاء بها الأنبياء والتآلف والتناصر في الله ولله.
وبالزكاة تصان الشرائع باظهار الأغنياء التزامهم بها والتضحية بأعز ما عندهم وهو المال حينما يدركون أن مقدار الزكاة إمتحان فهو وإن كان من سعيهم، وولايته في أيديهم ولكنه نوع أمانة شرعية ووديعة عندم، في إخراجها إلى أهلها إمتحان [إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
وإخراج الزكاة ودفعها للمستحقين من أجل أن تطهر نفوسهم وإدراك ما يمس الفقراء من شفقة الشريعة وتثبيت إيمانهم وعدم ترك إعانتهم لاسيما مع وجود شرائط محددة في مستحق الزكاة تتعلق بعدالته وصلاحه مطلقاً، ويكون علة للتمييز عن غيره من المستحقين.
وورد في تارك الزكاة الوعيد بعظيم العقاب في الدارين، أي ان للصلاة وللزكاة أحكاماً وآثاراً تتعلق بتعاهد التوحيد والإلتزام بأحكام الشريعة وصلاح المجتمعات، وذكرت الزكاة في الآية من مفردات الميثاق الذي تضمن الإقرار بالوحدانية لله عز وجل.
إنها إختبار بدني ومالي لصدق الإيمان ورسوخه في النفوس، وقال الرازي : (وروى عن ابن عباس أنه قال: أن الزكاة نسخت كل حق وهذا ضعيف، لأنه لا خلاف أن من إشتدت به الحاجة وشاهدناه بهذه الصفة فإنه يلزمنا التصدق عليه وان لم تجب علينا الزكاة)( ).
ولكن الأصل والإجماع والسيرة القطعية على عدم وجوب شئ إبتداءً غير الزكاة والخمس خصوصاً وقد وردت النصوص وظهر في الوجدان أن الزكاة لو أخرجت كاملة لسدت حاجة الفقراء، أي أن الفقر إن وجد فهو ناتج عن خلل في دفع الزكاة والصدقات، فيلزم سد رمق الفقير لأحكام الضرورة ولحرمة المسلم فأن للوجوب عنواناً ثانوياً بالاضافة الى الحق المفروض في المال.
نعم قد يفرض الإنسان على نفسه في ماله على قدر طاقته وسعة ماله مما يؤديه كل يوم أو كل جمعة او كل شهر كما ورد في تفسير الإمام جعفر الصادق عليه السلام لقوله تعالى [وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ]( ). وهذا الفرض إختياري ويأتي بالعرض وفيه نفع وثواب لصاحبه، وفيه نوع تدارك لتقصير الآخرين في باب الزكاة ولعل فيه دفعاً للبلاء النازل بسبب ترك الآخرين للزكاة، ولا يعني نسخ الزكاة لغيرها من الحق المالي إنتفاء إستحبابه.
وقال موسى لفرعون[فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى]( )، وهل المراد زكاة المال، أم زكاة القلب وتطهيره من الشرك والمعاصي، الجواب هو الأول وهي دليل أو طريق إلى الثاني، فالمبادرة إلى إقتطاع جزء من المال وإخراجه إلى الفقراء طاعة لله عز وجل شاهد على طهارة القلب من الشرك، وجهاد ضد النفس الأمارة بالسوء.
ودفع الزكاة لن يضر فرعون لكثرة أمواله، وورد في التنزيل حكاية عنه[قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي]( ).
وتدل دعوة موسى عليه السلام فرعون لدفع الزكاة بالدلالة التضمنية على إعلان موسى بأن فرعون ليس رباً إنما هو عبد لله عز وجل عليه أن يستجيب لأوامره.
وفيه إخبار للملأ من قوم فرعون بوجوب طاعة الله وعدم الإنصات إلى فرعون في ظلمه وعتوه، وإدعائه الربوبية، لقد وجّه موسى عليه السلام الإنذار إلى قوم وجنود فرعون بدعوته لفرعون بدفع الزكاة وفيه تحذير لهم من الخروج مع فرعون خلف بني إسرائيل وتعرضهم للغرق والهلاك قال تعالى[وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]( )، نعم يدل طلب موسى عليه السلام من فرعون دفع الزكاة على إرادة الحفاظ على ملكه وسلطانه بقيد الإيمان وأداء الفرائض، وإذا كان موسى عليه السلام يدعو فرعون لإيتاء الزكاة فمن باب الأولوية أنه يأمر بني إسرائيل لدفعها وإخراجها خصوصاً بعد أن كثرت أموالهم وضياعهم، وإختاروا الزراعة والعمل في المكاسب والتجارات كما جاء في قصة البقرة وقول موسى عليه السلام[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً]( )، و(عن ابن عباس أنهم اشتروها بملء جلدها ذهبا من مال المقتول و عن السدي بوزنها عشر مرات ذهبا قال عكرمة و ما ثمنها إلا ثلاثة دنانير)( )، ويرجح أن يكون زمان وقوع هذه القصة وهم في القرية والمدينة ويتعاطون التجارة وموسى معهم وليس في التيه ، وإتصفوا عندما كانوا في مصر بالإستضعاف.
وجاءت بداية الآية بذكر أول وأهم أفراد الميثاق، وهو عبادة  وعدم الشرك، فلماذا جاءت الآية هذه بذكر الصلاة والزكاة، وهما من مصاديق العبادة، والجواب من وجوه:
الأول: إرادة النية والعزم من كمصداق للعبادة ، وقصد النطق بشهادة التوحيد والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: جاء الأمر بعبادة  عاماً، ثم ذكرت أهم أفراد العبادة للتوكيد عليها وبيان فضل الصلاة والزكاة.
الثالث: منع الزيف والتحريف وإدعاء انه يعبدون  وان العبادة في الميثاق يكفي فيها مسمى الذكر، فجاءت الآية بذكر الصلاة والزكاة على نحو الخصوص وانها ركن من أركان الميثاق.
الرابع: إتيان المستحبات وحسن الخلق لا يسقط الواجب العبادي وقصد القربة في إتيانه.
الخامس: الآية شاهد على وجود الصلاة والزكاة في الشرائع السابقة، ولكن الناس تولوا وأعرضوا عنها.
السادس: جاءت الآية عوناً للمسلمين لمعرفة تفاصيل أحكام الملل الأخرى قال تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ] ( ).
قوله تعالى [ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ]
من المقصود في لغة الخطاب في الآية فيه وجوه:
الأول : الذين كانوا في عصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : من تقدم في زمانه.
الثالث : المعنى الأعم.
والأنسب هو تعلق الآية بعموم بني إسرائيل سواء الذين تقدموا منهم أو من تأخروا، إذ ان التولي يأتي عادة تدريجياً ويزداد مع شيوع التمادي في المعصية والإمتناع عن الواجبات وقلة الرادع وضعف سلطان الناهين عن المنكر، ويؤيد هذا ورود [ ثم ] في الآية أعلاه وهي تفيد التراخي، وتلك ظاهرة تكررت كثيراً في الملل السابقة عند غياب النبوة وإنقطاعها في مجتمعاتهم إلا في الإسلام إذ تعاهد المسلمون سنن الشريعة بإبقائها بعيدة عن التحريف والتغيير، وبالإلتزام بأحكامها جيلاً بعد جيل، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
فالآية الكريمة في منطوقها ذم لسوء فعلهم الذين أعرضوا عن المواثيق الإلهية التي أخذت عليهم، وهي في مفهومها مدح للمسلمين على حفظهم للمواثيق والأحكام الشرعية ودليل على عجز فرق من الملل السابقة عن حمل لواء التوحيد والمحافظة على السنن العبادية وذخائر التنزيل.
وفيها دعوة لهم لدخول الإسلام بإعتبار أنه عقيدة وأحكاماً وأمة الطريق الوحيد لبقاء عبادة الله في الأرض، وكما أن الآية حجة فهي إيضا ميثاق وعهد وحجة للمسلمين بأن لا يتبعوا الأمم التي سبقتهم في مسالك التعدي وسبل التفريط.
قوله تعالى [وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ]
فيه وجوه:
الأول : الجملة المباركة في محل حال، أي انكم حال توليكم كنتم معرضين عن الآيات والحجج.
الثاني : إنها تعني الإصرار على عدم الإلتفات إلى الميثاق ومصاديقه.
الثالث : معرضون عما جاء به موسى عليه السلام، وما هو مكتوب في التوراة.
الرابع : معرضون عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، سواء بتحريف صفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة، أو الدلائل والآيات التي تؤكد صدقه ومنها القرآن وإعجازه.
الخامس : معرضون عن اللطف الإلهي في إرجاعكم إلى سبل الهداية وأهم مصاديقها بزوغ فجر الإسلام كمناسبة للنجاة وتجديد العهد.
وفي الآية إنذار وتخويف من نزول البلاء بسبب الإعراض عن الآيات والنبوة، قال تعالى[وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا]( )، وبلحاظ الوعيد في الآية بالعذاب الشاق يتجلى ذكر الله بالتوحيد وأداء الفرائض العبادية.
السادس : في الآية إنذار وتوبيخ لبني إسرائيل على الذنب المركب من التولي والإعراض، فالتولي والصدود عن الميثاق هو ذنب لما فيه من عدم الإمتثال، ثم يقترن معه الإعراض لتوكيد العناد والإصرار على عدم الوفاء بالميثاق.
السابع : تبين الآية حاجة بني إسرائيل والناس للإسلام، وأنه ضرورة لحفظ المواثيق الإلهية.
الثامن : في الآية إخبار عن غنى الله تعالى عن العالمين وعن الملل، فإذا تولت أمة او أعرضت عن وظائفها الشرعية يبعث   أمة تتعاهد التكاليف، وتجذب تلك الأمة وغيرها إلى طرق الهداية.
التاسع : يعرض النسيان للإنسان، ويرتكب الذنب والمعصية ثم ينسى أنها معصية بسبب طول التلبس بها وقد يصعب إنقياده إلى الحق مرة أخرى إلا بوسائل وأسباب خارجية تكشف له زيف ما هو عليه، وتزيل الغشاوة عن بصره ليرى طرق الرشاد، فجاء القرآن ليكون ضياء ونوراً يهدي الأمم إلى الإسلام ويدعوهم إلى الرجوع إلى المواثيق والتقيد بها.
العاشر : في الآية دعوة لبني إسرائيل والأمم الأخرى إلى دخول الإسلام وعدم الإعراض عن المعجزات والآيات الباهرات التي جاء بها الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن الإعجاز في نبوته أن آيات القرآن حجة عقلية متجددة في كل زمان , وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وجاءت آيات القرآن بلزوم الإعراض عن الذي يتولى عن ذكر الله، ولا يصغى إليه، قال تعالى[فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا]( )، لتدعو آية البحث في مفهومها المسلمين للتمييز بين الناس بلحاظ ذكر الله أو العدول عنه.
وتدل الآية في مفهومها على الثناء على المسلمين، الذين تلقوا آيات التنزيل بالتصديق، وتحث على الدعوة إلى الله بالبرهان والدليل، قال تعالى[بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ]( ).
وكأن الآية أعلاه تبعث المسلمين إلى بيان الحق وصدق التنزيل للناس، وعندما يعلمون الآيات ويدركون حقائق التنزيل تنتفي علة الإعراض، وهذا البيان وبذل الوسع فيه من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).


قوله تعالى[ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ] الآية 84

الإعراب واللغة
وإذا أخذنا: تقدم تفسيره في الآية السابقة، لا تسفكون دماءكم: لا: نافية، تسفكون : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، الواو: فاعل، دماءكم: مفعول به منصوب بالفتحة، وهو مضاف، كم: ضمير متصل في محل جر مضاف إليه.
ولا: الواو حرف عطف، لا نافية، تخرجون: فعل مضارع مرفوع، واو الجماعة : فاعل، الضمير مضاف إليه، من : حرف جر.
دياركم : جار ومجرور متعلق بــ(تخرجون) الضمير(كم) مضاف إليه، أقررتم: فعل ماضي مبني على السكون و(ثم) ضمير متصل في محل رفع فاعل، وأنتم : الواو : حالية، والضمير المنفصل في محل رفع مبتدأ، تشهدون: فعل مضارع وفاعل.
ثم : حرف عطف يفيد الترتيب والتراخي.
الميثاق : العهد والإستحلاف وعقد النية على الإلتزام.
السفك لغة هو الصب (وفي الدعاء: وأمطرت بقدرتك الغيوم السوافك تصب صباً)، يقال سفكت الدم والدمع من باب أسفكه سفكاً أي هرقته، والسفك: الإجراء لكل مائع، ولكنه بالدم أخص والدماء، جمع دم وقيل(أصله دمي قول الشاعر :
فلو أنا على حجر ذبحنا جرى الدميان بالخبر اليقين)( ).
ولا يكفي في تعيين أصل اللفظ بيت من الشعر قد يكون تركيب لفظه لضرورة شعرية أو للغة قوم مخصوصين ونحوه.
والدار هي المنزل الذي شيدت فيه الأبنية للإقامة، والحضر بخلاف موضع الإرتحال خلافاً للخليل الذي أطلق لفظ الدار على ماكان فيه أبنية أو لم يكن من المواضع التي يحل بها القوم، وقد تسمى المحلة داراً إذا إجتمعت فيها قبيلة معينة.
وورد في حديث زيارة القبور: “سلام عليكم دار قوم مؤمنين”( ) تشبيهاً لموضع القبور بالدار باعتباره قراراً وسكناً للموتى، وقد يسمى البلد داراً ودياراً لوحدة إنتساب أهله إليه، ولأنه يدار به التصرف كما يقال مثلاً ديار بكر.
والإقرار: الإعتراف يقال أقر الرجل بالشئ أي إعترف به، وفي الفقه قاعدة كلية تسمى “إقرار العقلاء على أنفسهم جائز”.
في سياق الآيات
تلتقي هذه الآية مع الآيات السابقة في موضوعها وهو مضامين الميثاق على بني إسرائيل مع بيان أن نعم الله تعالى عليهم متتابعة وبصورة الإكرام والإعجاز الحسي الظاهر، وتتعلق هذه الآية بأحكام خاصة بين بني إسرائيل في الصلات والمعاملات بينهم والمواثيق التي قطعوها على أنفسهم بعد إقرارهم بها.
ومن إعجاز نظم الآيات أن تأتي آيتان متعاقبتان بخصوص الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل، فلم تبدأ الآية بالعطف على الآية السابقة “ولا تسفكون دمائكم” بل ذكرت الميثاق باللفظ، وفيه مسائل :
الأولى : توكيد الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل.
الثانية : جذب الأذهان إلى الميثاق وبيان موضوعية كل فرد منه.
الثالثة : تعدد الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل.
الرابعة : جاءت الآية بصيغة الحجة على بني إسرائيل.
الخامسة : التباين في تلقي الميثاق وأثره في عالم الأفعال، فتبين الآية السابقة توليهم وإعراضهم إلا قليلاً منهم، أما ما يتعلق بمضامين هذه الآية، فأخبرت عن إقرارهم وشهادتهم للميثاق.
السادسة : بيان التباين في موضوع كل فرد من فردي الميثاق.
السابعة : التوكيد على وجوب حفظ الدماء وعدم سفكها، ولزوم عدم إشاعة القتل بين بني إسرائيل وهو من عمومات النعم التي تفضل الله عز وجل بها عليهم، وتفضيلهم بقوله تعالى[اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
ومن الآيات أن يأتي ذكر الميثاق على نحو متعدد بعد الآية التي تبين ما يناله المؤمنون الذين يعملون الصالحات من الخلد في الجنان، وفيه حث على التقيد بالمواثيق الإلهية، وبيان إمامتها للموحدين، ومنافعها في إصلاح وسلامة النفوس.
وتتحد هذه الآية مع الآية السابقة في جهة الخطاب وأول الكلمات فيها(وإذ أخذنا) وذكرت الآية السابقة ميثاق بني إسرائيل بصيغة الغائب، وذكرته هذه الآية بصيغة الخطاب، وفيه إكرام لهم بأن يتضمن القرآن مخاطبتهم وتذكيرهم بالنعم الإلهية، وهو لا يتعارض مع معاني الإنذار والتحذير فيها.
لأن الآية التالية تتضمن الإخبار عن القصور والتخلف عن مضامين الميثاق مع أن خير الدنيا والآخرة.
ومن نعم الله عز وجل على بني إسرائيل تعدد الميثاق عليهم، وتغشيه للعبادات والمندوبات والمعاملات والأحكام، لقد أراد الله لهم أن يكونوا أمة متحدة تتطلع لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت بها بشارات التوراة والإنجيل , لتكون أخوتهم في الإسلام مستديمة بلحاظ الإيمان والإقرار بالتوحيد والنبوة قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
وتبين الآيتان قبل الآية السابقة البيان والقانون الكلي لموضوع الميثاق إذ جاءت آية بالإخبار عن نزول العذاب بالكفار الذين يصرون على المعاصي.
وجاءت الآية قبل السابقة بالبشارة للمسلمين الذين يعملون الصالحات، وأخبرت بوعد كريم من الله عز وجل[أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( )، ليكون الوعد والميثاق من الله عز وجل متقدما في نظم الآيات على ميثاق بني إسرائيل، وهو من اللطف الإلهي بالعباد والحجة عليهم، وأسباب بعثهم للعمل الصالح، وزجرهم عن المعاصي والسيئات، ومن الشواهد بأن ترتيب آيات القرآن توقيفي من عند الله، وأن هذا الترتيب يتضمن آيات إعجازية( ).
وأختتمت آية البحث بقوله تعالى[ ُثمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ]( )، ويحتمل متعلقها وجهين:
الأول : إرادة مضامين الميثاق المذكور في آية البحث والآية السابقة.
الثاني : المقصود أفراد الميثاق الواردة في هذه الآية.
والصحيح هو الأول، لإرادة الإطلاق في مضامين الميثاق التي أقرّ وإعترف بها بنو إسرائيل مجتمعين ومتفرقين.
وورد حرف العطف والتراخي (ثم) في خاتمة هذه الآية، وإبتدأت به الآية التالية، وفيه آية أخرى تتضمن جانباً من تفسير هذه الآيات، ويحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة ذات الطبقة والجيل من بني إسرائيل فالذين أخذ الله عز وجل منهم الميثاق هم أنفسهم الذين إعترفوا به وهم يشهدون، وهم الذين تولوا عنه ونقضوا مضامينه وقتل بعضهم بعضاً.
الثاني : التباين والتعدد في الأشخاص من ذات الجيل والطبقة، فمنهم من أقر بالميثاق وتعاهده، ومنهم من أقر وإعترف ثم نقضه بالمعصية والفعل القبيح.
الثالث : إرادة التعاقب والتغاير بين الجيل الذي أعطى الميثاق لله عز وجل وشهد عليه والجيل الذي نقضه.
الرابع : نسبة العموم والخصوص المطلق بين الذين أعطوا وأقروا بالميثاق والذين نقضوه، أي أن الذين نقضوه من الذين أعطوا الميثاق ومن الأجيال اللاحقة لهم جمعاً بين عطف التراخي بالحرف (ثم) وبين إتحاد لغة الخطاب( ثم توليتم).
والأرجح هو الرابع، ويدل على ظهور القاتل بينهم، كما تدل عليه الآيات الخاصة بقصة البقرة قال تعالى[وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا] ( )، فلجأوا إلى موسى عليه السلام لمعرفة القاتل مما يدل أن القتل جرى في أيام موسى عليه السلام وإن كانت قضية في واقعة، وعين فرديه إلا أنها تدل على بدايات حصول قتل بعض بني إسرائيل لبعضهم، وحدث هذا القتل بين أبناء عم منهم، فوضعت الآية التالية القتل بأنه للنفس بقوله تعالى[ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ]( ).
وبين موضوع هذه الآية والآية السابقة عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء ذكر الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على بني إسرائيل، وأن مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول : ذكر بني إسرائيل بالاسم في الآية السابقة، بينما ذكرتهم هذه الآية بلغة ضمير الجماعة (ميثاقكم) مع ورود الميثاق بصيغة المضاف في الآيتين.
الثاني : تجمع الآية السابقة بين العبادات والمستحبات، وجاءت هذه الآية بوجوب تعاهد الأخّوة بين بني إسرائيل ، ودرء أسباب الفتنة.
الثالث : أختتمت الآية السابقة بالإخبار عن إعراض أكثر بني إسرائيل عن الميثاق، بينما أختتمت هذه الآية باقرارهم بالميثاق، وشهادتهم عليه.
ومن أسرار هذا التباين أن الآية السابقة تضمنت العبادات، فجاء لفظ [ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ] للإشارة إلى الإمتناع عن أداء التكاليف والمندوبات، أما هذه الآية فجاءت بالنهي عن أفعال، فجاءت الآية بالإخبار عن التعدي بالفعل المتعدد وذي المفاعلة بين طرفين، كلاهما من بني إسرائيل القاتل والمقتول، والمخرج والخارج من الديار بينما أخبرت الآية السابقة عن الإعراض السلبي، وهذا التباين من إعجاز آخر في نظم الآيات.
إعجاز الآية
تتجلى في الآية آيات العناية الإلهية ببني إسرائيل وإكرامهم بالمواثيق التي تنزههم عن الكبائر من الذنوب، وتبعث القوة في مجتمعاتهم وتجلب لهم الإستقرار وما فيه من المنعة وهو مناسبة لإخلاص العبادة .
وأخذ الله الميثاق من الآباء والأسلاف من أيام أنبياء بني إسرائيل ومرت عليه عدة مئات من السنين قبل نزول هذه الآية , فبين عيسى عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من خمسمائة سنة , ومع هذا فإن الخطاب وما فيه من الذم جاء موجهاً إلى بني إسرائيل الموجودين أيام نزول القرآن.
والجواب يحتمل وجهين:
الأول : هل الميثاق في عالم الذر، وقبل ان ينفخ الله سبحانه الروح في أبينا آدم عليه السلام.
الثاني : أُخذ الميثاق من الآباء وأن الأبناء أشركوا معهم لأنه بلغهم موضوعاً ومضموناً.
الجواب هو الثاني، ومن الشواهد القرآنية التي ترجح هذا القول آية البحث ذاتها للغة التراخي في الإقرار(ثم أقررتم) أي بعد أخذ الميثاق بمدة مديدة أو أجيال كان الإقرار من الأبناء على الميثاق الذي أخذه الله على الآباء.
وقوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ] وثيقة سماوية وإخبار قرآني بقدرتهم على الشهادة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتضمنت هذه الآية الزجر والنهي عن أمرين:
الأول : القتل وسفك الدماء.
الثاني : طرد فريق منهم لإخوانهم من ديارهم وأراضيهم , ويحتمل النهي في الآية وجوهاً:
الأول : النهي عن كل من القتل والتهجير على نحو مستقل.
الثاني : النهي والمنع عنهما مجتمعين.
الثالث : النهي عنهما مجتمعين ومتفرقين.
الرابع : إرادة الزجر عن أسباب الفتنة والفرقة بين بني إسرائيل مطلقاً.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق هذه الآية الكريمة ويترشح النهي عن الفتنة من مفاهيم الآية من وجوه:
الأول : الأولوية من النهي في منطوق الآية عن القتل، لقوله تعالى[وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( ).
الثاني : الفتنة مقدمة للقتل والإقتتال، والتهجير وهل يلزم الدور بين القتل والفتنة، الجواب لا، لتعدد جهة الأثر واللحاظ وتعدد المناط.
ويمكن تسمية الآية بآية “لا تسفكون” ولم ترد مادة (سفك) في القرآن إلا مرتين إذ ورد في قول الملائكة بخصوص خلافة الإنسان في الأرض،[ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ).
الآية سلاح
لقد جاءت الآية لبيان نعم الله تعالى على بني إسرائيل في حفظ دمائهم، ولزوم بقائهم في بلدانهم وأراضيهم، ومنع الإقتتال فيما بينهم، والآية مدرسة عقائدية لهداية المسلمين لسبل الظفر والظهور على الملل الأخرى.
وهي من مصاديق تفضيل المسلمين، لأنها تخبر عن تخلف الأمم الأخرى عن التقيد بأحكام المواثيق الإلهية.
في الآية قوة للمسلمين، وإخبار عن إنتصار الإسلام وسيادة مبادئه، وحجة على اليهود وتفنيد وإبطال لما يدعون.
وفي الآية دعوة للمسلمين لتعاهد الميثاق والأوامر والنواهي، وقد مدح  الذين يوفون بالميثاق، قال تعالى [الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ] ( ).
ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار الميثاق) إذ يتجلى في القرآن قانون كالسور الكلي الذي يحكم حياة الناس وهو الميثاق بينهم وبين الله , ويكون تارة عاماً مع الناس جميعاً وأخرى خاصاً مع أهل ملة معينة لإفادة الجمع بين العام والخاص في لزوم الإمتثال ليأتي القرآن بالميثاق الأتم والأكمل الذي يتضمن النجاة في الدنيا والآخرة، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ) .
وتبين الآية في مفهومها القبح الذاتي للقتل وسفك الدماء بين أهل الملة السماوية الواحدة، وطرد بعضهم بعضاً من الديار والنفرة من مجاورتهم لينتفع المسلمون من مضامين هذا الميثاق ويتعاهدوا معاني الأخوة بينهم، ويكون هذا التعاهد إحياءً للميثاق وعملاً به إلى يوم القيامة مما يدل على حتمية وجود أمة في كل زمان تعمل بكل ميثاق أخذه الله على العباد، والقرآن كتاب الميثاق والعهود، وهو من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
مفهوم الآية
تبين هذه الآية تعدد الميثاق وكثرة العهود التي أخذت على بني إسرائيل بواسطة الأنبياء وأنها تتعلق بالتوحيد وبر الوالدين وإتيان الفرائض وحسن الخلق وعدم التعدي والظلم وإجتناب القتل فيما بينهم، وعدم ترك الديار من غير راجح شرعي.
وتتضمن المواثيق أيضاً الإقرار بالنبوة والتصديق بما جاء به موسى عليه السلام ومنه البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتقطع الآية الطريق أمام الغدر والإعتذار بخصوص الميثاق لتوكيدها على إقرارهم وإعطائهم للمواثيق عن بصيرة وإدراك.
وهي موضوع للإحتجاج، وبرزخ دون التطاول على المسلمين وقيام بني إسرائيل بالتمسك بالتفضيل مع تغير موضوعه وتقييد إستدامته بدخول الإسلام .
وهل يعتبر ما ورد في مواثيق الأمم السالفة ميثاقاً على المسلمين، ويلزمهم التقيد به لكبرى كلية ، وهي أنهم ورثة الأنبياء وحفظة الميثاق , ومقيموا سنن العبادة في الأرض إلى يوم القيامة.
الجواب : القدر المتيقن من الميثاق هو بنو إسرائيل خصوصاً , وجاء الخطاب في هذه الآية والآية السابقة بصيغة المخاطب “ميثاقكم، ” ويحتمل الأمر وجوها:
الأول : إن ميثاق بني إسرائيل هو نفسه ميثاق المسلمين.
الثاني : ميثاق المسلمين أعم من ميثاق بني إسرائيل، وأن كل أفراد ميثاق بني إسرائيل هو من ميثاق المسلمين.
الثالث : المسلمون ليس عندهم ميثاق، وأمر الميثاق خاص ببني إسرائيل والصحيح هو الثاني.
لقد أخذ   الميثاق على الناس في عالم الذر كما أن الآيات جاءت بأخذ الميثاق في الحياة الدنيا، ولا ينحصر موضوعه ببني إسرائيل بل يشمل النصارى قال تعالى [وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ] ( )،كما أخذ  ميثاق الأنبياء أو الرسل ومنهم الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ]( )، مما يدل على أن الميثاق تشريف وإكرام، وأن  أخذ من المسلمين الميثاق بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيها إشارة إلى قاعدة كلية أن المواثيق التي تؤخذ على العباد جامعة للشرائط ولا تكون عن غفلة أو جهل ولا يتسرب إليها النسيان أو السهو، لذا جاء التذكير بها كحجة على نحو القطع.
وتظهر هذه الآيات عظيم فضل الله تعالى على بني إسرائيل بالقرآن وبالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من التذكرة والموعظة والإنذار، فقد ينسى الإنسان ما يجب عليه، وما تعهد به ولكن الذكرى تنفعه وتعيده إلى رشده، والآية من مصاديق صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإخبار القرآن بالعهود والمواثيق التي حملها بنو إسرائيل.
ومن الميثاق النطق بالشهادتين وهو عنوان الإسلام، و منه الإمتثال لما في القرآن من الأوامر والنواهي والأحكام.
وإذا تدبرت آيات القرآن وجدت مضامين هذه الآية والآية السابقة في أحكام الإسلام، من عبادة  وبر الوالدين وصلة الرحم، والرأفة باليتامى والمساكين، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وكذا بالنسبة لوجوب نبذ الفرقة وحرمة الإقتتال بين المسلمين والحرمة وردت في الغيبة وذكر المسلم بسوء لكيلا تكون الغيبة والآثار المترتبة عليها مقدمة للخصومة والنزاع بينهم، وجاء القرآن بالثبات وعدم الفرار من الزحف , ويدل بالأولوية على عدم ترك الديار بغير راجح شرعي أو عقلي.
ومن الإعجاز ورود التفصيل بين هذه الآية والآية السابقة، وإفراد آية خاصة للنواهي وفيها:
الأول : عدم سفك الدماء، وإشاعة القتل بين بني إسرائيل ، وكان القتل مذموماً بينهم، وفي الآية إشارة إلى دعوتهم للإسلام، وعدم تعريضهم أنفسهم للسيف بمحاربة المسلمين، أو لا أقل إختيارهم الجزية إذ أن حكم الكتابي هو أما الإسلام أو دفع الجزية، وقد حارب اليهود النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في خيبر وإنتصر عليهم وأسر أكثرهم ثم أطلقهم وأذن لهم بالعمل في أرضهم مقابل نصف الحاصل.
فتتضمن الآية أخذ الميثاق على بني إسرائيل بالتصديق مع المؤمنين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بعثته وعدم إشهار السلاح ومحاربته والكيد به، لأن هذه المحاربة ستؤدي بهم الى القتل فكأنهم هم الذين قتلوا أنفسهم بالتعرض لدعوة الحق ونكران الرسالة السماوية التي بشّر بها موسى وعيسى عليهما السلام.
الثاني : عدم مغادرة الأرض والديار، وجاءت الآية باخراج النفس من الديار فلم تقل الآية (ولا تخرجون من دياركم)، بل تخرجون أنفسكم وفيه إشارة إلى قيامهم بمحاربة الإسلام والمسلمين ومغادرة أراضيهم عند إنتصار المسلمين ، وعندما نقض يهود بني قينقاع عهد الصلح الذي عقدوه مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونكثوا عهدهم أثناء معركة بدر وخلوا المدينة المنورة من الرجال وكان عددهم أربعمائة مقاتل وقاموا بقتل أحد المسلمين غزاهم رسول  صلى الله عليه وآله وسلم وأجلاهم إلى أذرعات الشام وأعطاهم شيئاً من المال، وأخذ منهم الخمس وسلاحاً كثيراً، فكأن اليهود هم الذين أخرجوا أنفسهم من ديارهم .
وهذا التأويل لا يمنع من حمل الآية على معناها الظاهر وان اليهود يقومون بترك ديارهم والنزوح إلى غيرها، وتحمل أيضاً على إثارة الفتنة بينهم وقيام الفتنة والسبط القوي يطرد السبط والفئة الضعيفة.
الثالث : إقرار الميثاق بأحكامه، والعلم بلزوم الوفاء به لأنه أرقى أقسام العهود وليس فيه إلا النفع النوعي والشخصي، والشهادة بالميثاق , ويتضمن معنى الشهادة أموراً منها:
الأول : رؤية منافع الميثاق وما فيه من الفوائد والمصالح.
الثاني : دفع الميثاق للمفاسد والأضرار.
الثالث : يبعث الميثاق على الإتحاد والقوة، ويعطي بني إسرائيل المنعة، لأن البقاء في الديار وإجتناب الإقتتال أمران يسببان النماء والكثرة في الأنفس والأموال.
الآية لطف
لقد أنعم الله تعالى على بني إسرائيل بالميثاق، وإذا قيل ما هي وجوه ومصاديق التفضيل، جاءت هذه الآية والآية السابقة لتكون إخباراً سماوياً عنها، وبياناً لعدد من أفرادها.
لقد أراد الله عز وجل لبني إسرائيل أن يكونوا أقوياء في مواجهة القوم الكافرين والجبارين في زمانهم، وقادرين على حفظ ملة التوحيد وتعاهد شريعة موسى عليه السلام.
ومن اللطف الإلهي في الميثاق الذي أخبرت عنه هذه الآية انه يتكون من شعبتين:
الأولى: حقن الدماء.
الثانية: الإقامة في الديار.
وتتجلى في الآية الكريمة نعمة إضافية أخرى من الصلة بينهما، ولزوم دوام الأخوة الإيمانية.
وتدعو الآية المسلمين الى تعاهد الأخوة الإيمانية فيما بينهم والمرابطة في الأوطان والثغور , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، ولا تتعارض هذه المرابطة مع هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في بداية الدعوة الإسلامية لأنها كانت ضرورة وعقائدية ومقدمة لترسيخ مبادئ الإسلام والثبات في وجه الكفار والمنافقين، ولأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم محمداً والمسلمين ما لبثوا أن دخلوا مكة فاتحين.
إفاضات الآية
تكرر لفظ الميثاق وأخذه على بني إسرائيل في هذه الآية والآية السابقة وبلغة اللوم والذم، لأن الله تعالى يحب ان يرى عباده يتقيدون بأحكام الميثاق لأنهم خلقه وأراد لهم أن يكونوا خلفاءه في الأرض، وأمر الملائكة بالسجود لآدم، ولخصوصية في بني إسرائيل وهي درجة التفضيل التي نالوها.
فاذا كانت الأمة التي فضّّلها  تعالى على الناس تنقض الميثاق الإلهي وعنوان الصلة المباركة بينها وبين  ، فكيف حال الأمم الأخرى، مما يدل على الحاجة إلى جذب الناس إلى الإسلام بقوة وعلى نحو طوعي وقهري، وهو من مصاديق اللطف الإلهي لما فيه من زجر عن الكفر والجحود، ومنع من نقض العهود التي فيها دوام الحياة الإنسانية وإشراقات الهداية والرشاد.
وإذ جاءت الآية السابقة بما تضمن الميثاق من الأوامر جاءت هذه الآية بذكر النواهي التي عاهد بنو إسرائيل   على إجتنابها.

الصلة بين أول وآخر الآية
بدأت الآية بذات الموضوع الذي بدأت به الآية السابقة، وهو أخذ الميثاق على بني إسرائيل ولكن هذه الآية جاءت بذكر النواهي التي تضمنها القرآن، ليكون الجمع والتفريق بين الآيتين إعجازاً لنظم وسياق الآيات وشاهداً على أن تقسيم السورة إلى آيات له منافع منها:
الأول : فيه تخفيف وهداية إلى إقامة البرهان.
الثاني : إنه طريق للتدبر بمعاني الآيات.
الثالث : إنه برزخ دون التفريط ببعض مضامين ودلالات آيات القرآن.
الرابع : فيه مصداق من مصاديق البركة في قوله تعالى[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ]( ).
فان أعرضت الأمم السالفة عن الميثاق فان المسلمين متقيدون به، ويساعدهم على التقيد مجئ القرآن على هيئة آيات مستقلة.
والمراد من الخطاب اليهود الموجودون في أيام البعثة النبوية ومابعدها، ولكن الميثاق عام يشمل أسلافهم أيضاً، ومن وجوه الميثاق نزول التوراة وما جاء به موسى عليه السلام.
وهل أفراد الميثاق المذكورة في هذه الآية منفصلة عن أفراده في الآية السابقة الجواب لا، بل هي في طولها وجزء من ذات الميثاق، وأفراد الميثاق المذكور في هذه الآية على وجوه:
الأول : نهي بني إسرائيل عن قتل بعضهم بعضاً، وحثهم على لزوم تعاهد معاني الأخوة الإيمانية بينهم.
الثاني : أخذ الله عز وجل العهد على بني إسرائيل بألا يتركوا ديارهم وأراضيهم، ولا يكره بعضهم بعضاً على الخروج من أرضه ومحل سكناه، وما في هذا الإخراج من الفتنة وأسباب الضعف والفرقة، ترى لماذا جاء النهي عن الإخراج عن الديار، الجواب في إجتماعهم وجوارهم مناسبة لحفظ الميثاق، وتعاهد أحكامه، لذا وردت خاتمة الآية بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ].
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على تحذير بني إسرائيل من فعل ما يستوجب إخراجهم من أرضهم كما في بني النضير إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستعينهم في دية قتيلين لجوار عقده لهما،قالوا: نعم، يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت، مما إستعنت بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض، فقالو : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد، فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقى عليه صخرة، فيريحنا منه، فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، أحدهم.
فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقى عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وآله سلم في نفر من أصحابه.
فنزل جبرئيل بالوحي يخبر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالمكيدة وأخبر أصحابه سار بهم وحاصرهم ست ليال، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة( )، ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما إستقلت به الابل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام( ).
ومن الآيات أن ميثاق بني إسرائيل لم يأخذه عليهم موسى عليه السلام أو غيره من أنبيائهم، بل أخذه الله عز وجل وإن كان بواسطة موسى، وفيه توكيد لموضوعيته، ولزوم تقيد بني إسرائيل بأحكامه وسننه.
وهل يحمل النهي الوارد في الآية على لزوم الترك أم كراهته، الجواب هو الأول لوجوه:
الأول: ورود النهي بصيغة الإطلاق.
الثاني: التبادر في إنصراف النهي إلى المنع.
الثالث: القبح الذاتي والغيري لسفك الدماء والخروج من الديار.
الرابع: الأصل في النهي الحرمة إلا مع الدليل أو القرينة على الخلاف، وهي مفقودة في المقام.
وأختتمت الآية الكريمة بإقرار بني إسرائيل بالعهد الذين أخذه الله عليه، وفيه وجوه:
الأول: الإقرار بالميثاق على نحو الإجمال.
الثاني : الإعتراف بما ورد في هذه الآية من النواهي التي تضمنها الميثاق.
الثالث: إرادة الإقرار بجميع أفراد الميثاق المذكورة في الآية السابقة، وهذه الآية على نحو التفصيل.
والصحيح هو الثالث:
الأول: ذكر الآية لها على نحو التعيين والبيان.
الثاني: وردت الآيات للحجة والبرهان.
الثالث: يمكن أن نؤسس قاعدة في المقام وهي لو دار الأمر بين التفصيل والإجمال، فالأصل إرادة التفصيل في أفراد الميثاق، قال تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ]( ).
الرابع: الإقرار بالتفصيل شاهد على رحمة الله عز وجل ببني إسرائيل وهو من عمومات قاعدة منع الجهالة والغرر.
وجاءت الآية بصيغة الجمع في الميثاق [مِيثَاقَكُمْ] وفي الإقرار [أَقْرَرْتُمْ] وشهادتهم ورضاهم بالميثاق دلالة على عدم تخلف فريق منهم عن قبول الميثاق، وكيف يتخلفون عنه، وفيه نجاتهم وسلامتهم في الدنيا والآخرة.
إن تعلق الإقرار في خاتمة هذه الآية بمضامينها ومضامين الآية السابقة، وما فيهما من أفراد الميثاق إعجاز عقائدي وبلاغي لآيات القرآن، وأختتمت هذه الآية بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ] لتكون هذه الآية الكريمة شاهداً عليهم، ودعوة لهم للتقيد بأحكام الميثاق، ومن معاني شهادتهم وجوه:
الأول: الإقرار أن بعضهم يشهد على بعضهم الآخر بإقراره ليكون عوناً له على التقيد بأحكامه.
الثاني : كل واحد منهم شاهد على صاحبه في الدنيا والآخرة أنه نقض الميثاق.
الثالث : توكيد وقوع الإقرار والإعتراف منهم عن رضا وقبول وإختيار.
الرابع : المناجاة للتقيد بأحكام الميثاق .
الخامس : تنمية ملكة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتذكير بها وتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن للكتب السابقة بهذا الأمر والنهي ووجوبه في الإسلام
السادس : بعث بني إسرائيل على إستحضار الميثاق.

التفسير الذاتي
بعد أن جاءت الآية السابقة بصيغة الجملة الخبرية، جاءت هذه الآية بصيغة الخطاب، مع إتحاد الموضوع وإرادة بني إسرائيل، وإختصت هذه الآية بمعاني الأخّوة بين بني إسرائيل ونبذ الفرقة والخصومة فيما بينهم، فمن فضل الله عز وجل على بني إسرائيل أخذ الله عز وجل الميثاق عليهم، ولم يتركهم وشأنهم من غير ميثاق.
وهل من صلة بين هذا الميثاق وبين نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الجواب نعم، من وجوه:
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تثبيت لهذا الميثاق.
الثاني : مع تخلف بني إسرائيل عن الميثاق تكون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة.
الثالث : من فضل الله عز وجل وجود أمة مؤمنة في كل زمان، وعندما نقض الناس المواثيق التي أخذها الله عليهم تفضل سبحانه بأمة تتعاهد الميثاق وهم المسلمون.
ومن الآيات أن مواثيقهم جاءت بكتاب سماوي وهو القرآن ليتلونه في الليل والنهار سالم من التحريف، لا يغيب عنهم، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وتبين الآية موضوعية الإستقرار في السكن في تثبيت الملة والعمل بالميثاق، وكأنه عون ومقدمة لتعاهد أفراد الميثاق التي ذكرتها الآية السابقة، لأن بعضهم يحث بعضهم الآخر على التقيد بسنن وآداب الميثاق، ويكون رقيباً عليهم في العمل بأحكامه، وسبباً لتذكره وإستحضاره.
والإستقرار في الديار من أسباب تعاهد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآية مدرسة في علم الإجتماع وتأكيد منافع الإجتماع في الديار وعدم التفرق في الأمصار والبراري وإجتناب العودة إلى حياة الأعراب، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالإجتماع والإتحاد في مرضاة الله، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
وقد جاء الإسلام بالنهي عن التعرب بعد الهجرة، وذم الأعراب الذين يؤثرون الكفر والنفاق، ويكون سفك الدماء سبباً للخروج من الديار، أما هرباَ وأما خوفاً من تجدد القتل، أو سنن الثأر .
ولم تقل الآية (ولا تخرجون من دياركم) بل قيدت الإخراج بأمرين:
الأمر الأول : وقوعه على أنفسهم ، وهو أن المراد تهجير وطرد فريق منهم من ديارهم، وعدم الرضا ببقائهم مجاورين لهم، كما لو كانوا فقراء خصوصاً بعد هبوطهم إلى مصر وقيامهم بالعمل وحصول التفاوت بينهم في الموارد والمعاشات.
ويجوز إرادة الغير من النفس مع القرينة الصارفة كما في قوله تعالى[قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ] ( )، وإرادة الإمام علي عليه السلام من قوله تعالى(وأنفسنا)، وعن جابر عن أبي جعفر قال: النَّبِيُّ وَعَلِيٌّ( ).
وفي قوله تعالى (أنفسكم) إعجاز من وجوه:
الأول : توكيد معاني الأخوة بين بني إسرائيل.
الثاني : دعوة بني إسرائيل لتعاهد مضامين الأخّوة فيما بينهم، وتتجلى بالدعوة والمناجاة بالتصديق بالتنزيل ومعجزات النبوة وأداء الفرائض.
الثالث : بيان الأضرار التي تلحق بني إسرائيل من هذا الإخراج، ولا تنحصر تلك الأضرار بالذين يُخرجون، بل تشمل الذين يقومون بفعل الإخراج ويطردون إخوانهم، ومنها حال الضعف التي تلحقهم، وطمع الأعداء وإغرائهم بهم وبديارهم لأنهم يصبحون أقل عدداً وقوة.
الرابع : كأن الأذى الذي يلحق الذين أخرجوا أذى للذين أخرجوهم، سواء في العاجل ، أو الآجل .
الأمر الثاني : تعلق الإخراج بديار بني إسرائيل بقوله تعالى[مِنْ دِيَارِكُمْ] وفيه وجوه:
الأول : بيان نعمة الله عز وجل على بني إسرائيل بأن تكون لهم ديار، فبعد الذل والعذاب عند آل فرعون، والتيه أربعين سنة، أصبحت عندهم ديار وملك.
الثاني : مع الديار تكون الزراعة والرعي وإمتلاك المواشي، وبناء الدور وإقتناء الفرش والأثاث، وفي قوله تعالى[وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا]( )، ورد عن زيد بن أسلم عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زوجة ومسكن وخادم)( ).
الثالث : من الشكر لله عز وجل على إمتلاك الديار إجتناب طرد الأخوان منها.
الرابع : هذه الديار من الكلي الطبيعي الذي يكون لكل فرد وجماعة منهم حصة فيه، لذا يجب ألا يُطردوا منها.
الخامس : الحاجة إلى الدفاع عن الديار، ولزوم الإنتفاع من كثرة الرجال ووجودهم في الديار، وهو نوع مرابطة فيها بوجه الكفار والظالمين والجبارين، ولقد كان في قصة آل فرعون وسومهم لبني إسرائيل سوء العذاب درساً في لزوم الإستعداد وأخذ الحيطة من الأعداء، وهو من عمومات قوله تعالى[فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي]( )، بلحاظ أن الفرد والجماعة ينتفعون من قصص آبائهم أيضاً.
وقد جاء في أفراد الميثاق في الآية السابقة[وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] ( )، فمن باب الأولوية القطعية أن يكون القول الحسن هو السائد بين بني إسرائيل، وفيه درء للفتنة، ودفع للكدورات الظلمانية وأسباب النفرة فيما بينهم.
ومن إعجاز القرآن أن يأتي بدعوة بني إسرائيل إلى إصلاح ذات بينهم، وإجتناب الفرقة والتشتت في وقت كانوا ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويحرضون كفار قريش على المسلمين، وصحيح أن ميثاق بني إسرائيل جاء على لسان موسى عليه السلام والأنبياء من بعده، إلا أن ورود مضامينه في القرآن آية من عند الله، وفيه مسائل:
الأولى : إنه رحمة وفضل عظيم من الله عز وجل على اليهود.
الثانية : فيه ودعوة لهم لإجتناب الإقتتال فيما بينهم.
الثالثة : إنه حث لهم على عدم محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : زجرهم عن التسبيب في إخراج أنفسهم بأيديهم من المدينة وخيبر وفدك.
الخامسة : إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث إلى بني إسرائيل، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
لقد دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً إلى التخلية بين وبين العرب بما رزقه الله من الحجة والبرهان على صدق نبوته، فأبى أقطاب الكفر من قريش إلا الحرب والقتال، وزحفوا على يثرب برجالهم وخيلهم في بدر وأحد والخندق فأخزاهم الله عز وجل بصمود وصبر المؤمنين بوجههم مع قلة عدد المؤمنين إذ لا يتجاوز عددهم في كل معركة منها ثلث عدد جيش الكفار إلى أن جاءت السنة الثامنة للهجرة ليدخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة المكرمة ظافراً منتصراً، قال تعالى في فتحها[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
بلحاظ أن الفتح ظفر بالبلد بالقهر والقوة أو بالصلح من غير حرب، لأنه كان منغلقاً، وبعد الظفر فتح أمام المجاهدين وأحكام الشريعة وصار أداء العبادات فيه أمراً ظاهراً.
وقيل الآية أعلاه في صلح الحديبية وإن لم يكن فيه قتال شديد، ولكن تراشق القوم بالسهام والحجارة.
وعن ابن عباس: رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم، (وعن موسى بن عقبة أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية راجعاً فقال رجل من أصحابه: ما هذا بفتح لقد صدّونا عن البيت وصدّ هدينا، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتوح، وقد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا) ( ).
ترى ما هي الصلة بين سفك الدماء والإخراج من الديار في آية البحث، الجواب كلاهما يدل على الخصومة والفتنة بين بني إسرائيل:
الأول : إجتماعهما في حال وزمان ومحل واحد.
الثاني : التباين الزماني بين سفك الدماء والأخراج من الديار وإن إتحدا في المكان والديار.
الثالث : الإختلاف في المكان والديار وإن إتفق الزمان، كما إذا كان فريقان من بني إسرائيل في موضعين، كل فريق منقسم إلى شطرين يريد أحدهما إخراج الآخر.
الرابع : الإختلاف في المكان والزمان أي أن (واو) العطف في قوله تعالى[تَسْفِكُونَ] على وجوه:
الأول : إفادة الجمع بين قتل النفوس وإخراج بعضهم من ديارهم.
الثاني : إفادة الترتيب بينها، كما لو جاء القتل ثم الإخراج.
الثالث : إفادة الجمع والترتيب.
الرابع : عدم إفادة الجمع ولا الترتيب.
أي أن دلالات (الواو) في الآية أعم من القواعد النحوية التي تفيد الحصر على نحو الإستقراء، وفيه إعجاز قرآني في باب النحو وعالم رحب ومندوحة في التفسير، ومانع من التقيد بأحكام النحو إذا كان الدليل أعم منها.
وجاء القرآن بحث المسلمين على التمسك بالقرآن والسنة، وتعاهد معاني الأخوة الإيمانية بينهم، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ] ( )، وهذه الألفة والتآلف مصاحبان للمسلمين إلى يوم القيامة، كما جاء القرآن بنهي المسلمين عن قتل أولادهم خشية الإملاق والجوع( )، وجاء بالنهي عن قتل النفس مطلقاً بغير حق وحكم بالقصاص، قال تعالى[وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ]( ).
وجاء القرآن بالوعيد المستمر والمتجدد لمن يقتل مؤمناً متعمداً قال تعالى[وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا] ( )، وفيه تحذير لبني إسرائيل أيضاً من قتل المسلم، وبيان حاجة المسلمين إلى الدفاع عن النفس لمنع إخراج بني إسرائيل لهم من ديارهم، كما قام فريق من اليهود بالتواطئ مع قريش ضد المسلمين في المدينة، بعد أن أخرجت قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة، قال تعالى[يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ]( ).
وفي الآية والتحذير من سفك الدماء ونسبتها إلى الذين يقتلون بني عمومتهم بلفظ (تسفكون دماءكم) شاهد على أن القتل يضر بالذين يقومون به أنفسهم ويعرضهم للأذى لأنه موضوع للضعف والوهن إلى جانب العقوبة الأخروية التي تنتظر القاتل.
لقد أراد الله عز وجل لبني إسرائيل كثرة العدد والنسل بالنهي عن القتل وهو من فضل الله عز وجل عليهم في القرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووجوه تفضيلهم.

من غايات الآية
تتضمن الآية مسائل:
الأولى : بيان النعم العظيمة التي تفضل الله تعالى بها على بني إسرائيل.
الثانية : دعوة بني إسرائيل إلى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإخبار عن مضامين الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على بني إسرائيل، وهو من علم الغيب.
الثالثة : مجيء الآية بصيغة الخطاب لتتضمن معنى الإحتجاج والجدال مع بني إسرائيل.
الرابعة : إقامة الحجة على بني إسرائيل، وذكر الشواهد التي تدل على تفضيلهم، وتخلفهم عن الحفاظ عليها وحاجتهم والناس جميعاً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خارج بني إسرائيل.
الخامسة : تضمنت الآية ثلاثة أمور:
الأول : ذكر الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل، وهو على شعبتين:
الأولى : نهي بني إسرائيل عن إفشاء القتل بينهم.
الثانية : منع بني إسرائيل من الخروج من ديارهم سواء خروج الجميع أو بعض منهم.
الثاني : إقرار وإعتراف بني إسرائيل بالميثاق.
ومن إعجاز الآية الإشارة إلى إستدامة الإقرار إلى مدة مديدة وأجيال منهم بدليل ورود (ثم) التي تفيد التراخي [ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ] مع إدراك النفع العظيم من مضامين الميثاق وحقن الدماء والثبات في الديار، وعدم مغادرتها، وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على حفظ الله تعالى لبني إسرائيل في بلادهم وعدم تعرضهم للقتل إذا ثبتوا فيها.
الثالث : شهادة بني إسرائيل على الميثاق ورؤيتهم لمنافعه، وفيه دعوة لهم للتمسك بالميثاق وصيانته.
السادسة : إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية.
السابعة : إعانة المسلمين في موارد الإحتجاج وإقامة الحجة على الآخرين.
الثامنة : دعوة المسلمين إلى التقيد بالفرائض والعبادات.
التفسير
قوله تعالى [وإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ]
الواو في [وإِذْ] واو عطف، أي أن هذه الآية في سياق نعمة الميثاق، وتبين نوعاً آخر من مصاديق الميثاق، إذ يعتبر التكليف بكل واحدة منها نعمة مستقلة .
والعطف والفصل بين الآيات مع وحدة الموضوع في تنقيح المناط وإنحلال الميثاق إلى عدة مصاديق متفرقة مستوعبة للآيات يدل على موضوعية كل فرد منها وعظيم شأنه وملاك كل نعمة منها وأنها آية وحجة وعبرة وموعظة.
وجاءت الآية بصيغة الماضي لتثبت وتؤكد حصول الميثاق، ولكن الخطاب أيام نزول الآية موجه لبني إسرائيل وأهل الكتاب الموجودين والمعدومين الذين سيأتون بعدهم بينما جرى الميثاق مع غيرهم، ذلك أن الميثاق حصل بلحاظ العقيدة والإنتماء، فإتباع الأنبياء يترشح عنه الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإقرار بنبوته.
وهل الميثاق لبني إسرائيل خاصة أم أنه أخذ على الناس جميعاً، الأقوى أن الميثاق على الناس كافة ومن عالم الذر، إلا أنه لا يمنع من ميثاق خاص لبني إسرائيل كنعمة وفضل إلهي عليهم ولمنعهم عن الصدود والجحود، وسياق الآيات وإن أفاد إرادة بني إسرائيل فهو من باب المثال وتعدد المطلوب وليس الحصر .
وكما يمكن تسمية الحياة الدنيا دار الميثاق، فكذا يوم القيامة فإنه يوم الميثاق لما فيه من الجزاء والثواب العظيم على الوفاء بالميثاق والعقاب الأليم على نقضه.
وتحتمل موضوعية الميثاق وجوهاً:
الأول : إنه حجة على نحو مستقل، وبرهان قائم بذاته يدعو إلى التقيد بأحكام التنزيل، والأوامر والنواهي الواردة فيه.
الثاني : الميثاق هو الأصل وآيات التنزيل، وما جاء به أنبياء بني إسرائيل فرع تابع له، لأن الميثاق عهد مع الله، أما التنزيل فهو تبليغ بواسطة النبي والرسول، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).
الثالث : الميثاق مؤازر ومعضد لمعجزات الأنبياء، ودعوة للتصديق بها.
الرابع : التنزيل والنبوة مؤازران وعون للميثاق في إصلاح الناس للعبادة.
الخامس : من تخلف عن العمل بالميثاق يجذبه التنزيل والنبوة.
وكذا العكس من يحرم نفسه من التنزيل يصده الميثاق عن الصدود والجحود والتمادي في المعصية .
وهو من معاني اللطف الإلهي بالميثاق ونعمته تعالى على بني إسرائيل بأخذ الميثاق منهم وتأكيده في القرآن على نحو البيان الخالي من الإجمال.

قوله تعالى [لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ]
نهي مولوي عن القتل الذاتي، وصحيح أن المقصود فيه قتل بعضهم لبعض إلا أنه لا يمنع من أن يكون المقصود فيه أيضاً النهي عن (البخع) أو ما يسمى بالإنتحار لحرمة إتلاف النفس، ولعل هذا الفرد ذو أهمية خاصة لنجاة الشخص خصوصاً في أزمان يشيع فيها قتل النفس للتخلص من بلاء خاص أو عام، أو لإنتشار فكر يدعو إلى البطش ويشجع على الإقدام على قتل النفس كما ثبت عند بعض أهل الملل آنذاك بأن قتل النفس نجاة من عالم الفساد، وباب لدخول عالم النور والفلاح.
ان للشرائع السماوية نعماً غير ظاهرة للعيان، ويلتفت إليها شطر من الناس لأسباب مختلفة منها أن تلك النعم جاءت غير مباشرة و أنها أصبحت من البديهيات والمسلمات وكأنها جزء من السلوك العام لبني آدم ،وفات الباحثين أن الحضارات التي تولدت عن نتاج جهاد الأنبياء والصالحين وميراث الحنيفية والسنن السماوية رحمة من عند الله تعالى لأهل الأرض، وتخفيف عن المؤمنين في سعيهم لصلاح نفوسهم وأهليهم.
وكان بها منع لسيادة الجهل وأفكار الضلالة التي قد تكون أكثر نفاذاً في المجتمع عندما يميل لها بعض ملوك الأزمان الغابرة او الملأ والوجهاء وفي التأريخ شواهد عديدة، وتراها شبه منعدمة في هذا الزمان أو ان أثرها محدود كماً وكيفاً وزماناً ومكاناً لسيادة الشرائع السماوية وتداخل الحضارات وتقارب الأمم والتماس الفكري بين العقائد وقطع سلطان الجهالة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعلم والبرهان، وتوظيف العقل، فكان الرجحان لعقيدة التوحيد جلياً ليشيع بين الأمم والجماعات نبذ المسالك الذميمة في إيذاء النفس والآخرين ومعرفة أضرارها من خلال حالات الوفاق الإجتماعي والتآلف بين المسلمين وما تتضمنه الشريعة السمحاء من الأحكام والسنن في هذا الباب.
وتقع على رجال الإجتماع والفكر مسؤولية دراسة الظواهر الإجتماعية السليمة بلحاظ موقعها في الشرائع السماوية وأثر الأخيرة في تحديدها ومن الإنصاف إدراك وإبراز الفعل المبارك للشرائع في قوام السلوك الإنساني وما تميزت به مجتمعاتهم من الرقي والسلام.
وهذا الباب يصلح أن يكون حجة على ختم الشرائع بالإسلام وأن الناس أصبحوا مؤهلين لتعاهد الأحكام السماوية وحفظ الشريعة من التبديل والتغيير بدليل آية القرآن وإعجاز الإخبار السماوي في حفظه من التحريف بآيات وشواهد عديدة.
ويمكن إستنباط عدة مسائل في الآية محل البحث :
الأول : لقد ورد النهي عن القتل بغير الحق مطلقاً سواء كان للقريب أو البعيد، ترى لماذا خُص بنو اسرائيل بالنهي عن قتل النفس. الأرجح أنهم كانوا يعيشون في التيه ونحوه في مجتمعات مقصورة عليهم وليس فيها غيرهم ولابد أن تتوجه النزعة الشريرة والنفس الغضبية عندما يستطيع إبليس تحريكها إلى أبناء العمومة إذ المقصود بأنفسكم في الآية من يتصل بالإنسان في النسب والقرابة بالإضافة الى عدم خلوها من المعنى الظاهري كما تقدم.
الثاني : إن شيوع القتل بينهم ضعف مركب لقوتهم بنقص الأفراد وقلة المقاتلة وإنشغالهم بالفرقة والفتنة فيما بينهم، وقد يدل بالدلالة الإلتزامية على غلبة عدوهم عليهم بما يلحقهم من الضعف والذل، فيقوم بقتلهم ويكون القتل وفق قواعد التسبيب كأنه قتل منهم لأنفسهم، لاسيما وأن بلاءه تعالى رحمة وفضل، ويتضمن منافع عظيمة لهم في حياتهم ومعيشتهم.
الثالث : إن قتل الغير موضوع للقصاص بقتل القاتل، فيكون القتل إزهاقاً للنفس بالواسطة.
الرابع : لم ترد في القرآن مادة (سفك) إلا مرتين، في هذه الآية وفي قوله تعالى حكاية عن الملائكة [ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ… ]( ) وبضميمة الآية التالية وحصول القتل وقوله تعالى [ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ… ] إن آدم لم يسفك دماً، ويمكن القول أن بني إسرائيل هم من المقصودين بإستفهام الملائكة الإنكاري وما ورد في الآية التالية من سوء أفعالهم من أفراد الإفساد في الأرض، نعم يمكن إن يكونوا من مصاديق الآية ومن باب المثال وليس الحصر ليكون من معاني بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) أنه سبحانه يبعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لنشر العدل والأخوة الإيمانية بين الناس لذا جاءت آيات عديدة خطاباً لبني إسرائيل، ودعوة لهم للخشية من يوم القيامة وأهوال الحساب.
الخامس : إنه نوع إكرام وإعانة وحث على إجتناب السيئات، بإعتبار أن النهي هنا أمر وجودي.
السادس : بيان وتذكير بفضل الله تعالى، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ]( ).
وجاءت الآية بصيغة الخبر وليس الإنشاء، و(لا) فيها نافية وليست ناهية، فلم تقل الآية (لا تسفكوا دمائكم) مما يعني ان الميثاق قطعه بنو إسرائيل على أنفسهم، وعهد تعهدوا به ليكون حجة عليهم.

بحث بلاغي
ذكرت هذه الآية في باب وضع الخبر موضع الإنشاء والطلب وأن الأصل هو (لا تسفكوا)، أي أن اللام ناهية وليست نافية، ولكن الجملة الخبرية تفيد الإستدامة والدوام، وفيها إشارة إلى لزوم إجتناب مقاتلة المسلمين وأن مقاتلتهم تؤدي إلى هلاك بني إسرائيل وهو الذي حصل في بني قريظة والقينقاع، وأنهم تعرضوا للقتل بإختيارهم وسوء فعلهم.
فبنو النضير مثلاً أسياد يهود المدينة آنذاك وهم من الشام وقيل من قبيلة جذام العربية ثم تهودوا( )، ونسبتهم إلى محل سكناهم آنذاك، فالنضير جبل على بعد ميلين من المدينة.
لقد عاهد بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان لا يحاربوه ولا ينصروه، ولكن كعب بن الأشرف( ) حالف قريش وحرضهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقتله المسلمون.
وحاول اليهود قتل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الثانية للهجرة فكان نقضاً فعلياً لعهدهم، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصالحهم على ان يحقن دماءهم.
وكذا في كتيبة وادي القرى وفدك، فحينما غلبهم المسلمون وفتحوا حصونهم تركهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعملون في أرضهم وإن أصبحت ملكاً للمسلمين، وترك لهم نصف غلتها.
وهناك وقائع كثيرة متعددة تظهر أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يقابل إساءتهم إلا بالإحسان والإمهال ولم يضع السيف فيهم كما يدعون، فالآية جاءت بصيغة الجملة الخبرية وبما يفيد الإستدامة والثبات.
قوله تعالى [وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ]
من وجوه الميثاق وأقسامه أن لا يخرج بنو إسرائيل أنفسهم من ديارهم، ونسبة الفعل إليهم ويحتمل إتحاد الفاعل والقابل في مسألة الخروج:
الأول : لا تفعلوا ما يؤدي إلى خروجكم من أرضكم، والفعل المنهي عنه في المقام يتصور على وجوه منها معصية الخالق بما يستحقون به نفيهم من أرضهم وديارهم، أو فعل ما يؤدي إلى طردهم من أرضهم وديارهم وفق الأحكام الشرعية السائدة أو الأحكام الموضوعة من قبل الملوك والرؤساء .
الثاني : إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم أو نفيهم مباشرة أو تسبيباً.
الثالث : الهجرة في البلاد بما يؤدي إلى ضعف الدين، وإبتعادهم عن أحكام الشريعة، وإستحقاق العذاب بمخالفتهم للميثاق.
والدار: المنزل المسكون، وسميت داراً لدوران الجدران حول بيوتها، وأطلق اسم الدار على الدنيا وقيل أن للدنيا حائطاً محيطاً لما فيها من البيوت، وربما كانت التسمية بسبب كونها مسكناً للناس مدة حياتهم وأيام التكليف، وقد تضاف الدار إلى الآخرة إضافة بيانية.
إن نهيهم عن إخراج أنفسهم من ديارهم نعمة أخرى على بني إسرائيل، وفيها عز ووحدة لهم، ومنع من تشتتهم وضياع أحكام التوراة وإبتلائهم بالضعف والهوان وقلة الإيمان، لذا ورد ذم التعرب بعد الهجرة.

بحث بلاغي
في علم البلاغة تعتبر هذه الآية من باب إطلاق الخبر وإرادة النهي، فالجملة جاءت خبرية لأن (لا) نافية وليست ناهية والمراد منه النهي والإنذار بقرينة حكايتها للميثاق الذي أخذه الله عز وجل، وهذا من إعجاز القرآن بأن يأتي البيان بما يفيد الحجة والتذكير بالأوامر والنواهي، وهو من اللطف الإلهي في دعوة الناس للتوبة والإنابة، والإقرار بالتنزيل وإجتناب التحريف، ولكن الخبر هنا يفيد المعنى الأعم ويتضمن الحجة عليهم.
وتبين الآية لزوم إستدامة عمل بني إسرائيل بالميثاق وهذه الإستدامة لا تتعارض مع دعوتهم للإسلام بل إنها تتحقق بدخول الإسلام وجاء النهي عن القتل بقوله تعالى[وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ]( ).
قوله تعالى [ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ]
أي أقررتم بالميثاق وإعترفتم بأن عليكم الإلتزام به وترجل قبولكم إلى الخارج بالتقيد بما فيه من العهود بصبر ورضا، والآية حجة على بني إسرائيل تثبت إقرارهم بالميثاق وإعطاءهم العهد بالإمتناع عن الإخلال بما فيه، لاسيما وأن منزلتهم بين الموحدين والأمم آنذاك مطلقاً ذات شأن خاص لما يتميزون به من النعم الإلهية الظاهرة والباطنة والتفضيل الذي إنفردوا به.
ومن الإعجاز القرآني أن جاء الإقرار مرحلة لاحقة لأخذ الميثاق مع كفاية أخذ الميثاق في الحجة على بني إسرائيل، وجاءت الآية لتكون وثيقة سماوية دائمة تبين إقرار بني إسرائيل بالميثاق وعملهم بأحكامه وعدم وجود مشقة وعناء بالتقيد بمضامينه.
وفيه نكتة عقائدية وهي رؤيتهم للمنافع العظيمة للميثاق وتلمس بركاته، لما فيه من الصفاء وتهذيب النفوس وإشاعة الأمن والسكينة والإستقرار والعمران، فالأصل لزوم التمسك به بالذات والعرض.
أما الذات فلأنه عهد مع  .
وأما العرض فللمصالح التي يجلبها العمل به.
قوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ]
أصل الشهادة الحضور والمعاينة، ومنه جاء المعنى الإصطلاحي للشهادة في الخصومة ونحوها. وفي الآية وجوه:
الأول : إنهم شهدوا على أنفسهم بالإقرار وليس لهم بعده الإنكار، أما إذا أعرضوا وجحدوا فأنها معصية وأثم مركب، أي أنهم تارة يفعلون الذنب ويعترفون بالخطأ وبمخالفة الميثاق، وتارة يأتون المعصية ويلتفتون إلى الميثاق فتكون المعصية مركبة وتفتح عليهم أبواباً عاجلة من العذاب كما في اليمين الغموس حينما يحلف الإنسان بالله وتارة أخرى يحلف مع الجحود والحنث، فقد يكون للإمهال موضوعية في الأول، لما للإقرار بالوحدانية من إعتبار فيها، بخلاف الثانية التي يأتي العقاب معها فورياً.
الثاني : إنهم أقروا بالميثاق مجتمعين أي كان حضورهم عند العهد والميثاق عامّاً وهو أبين في الحجة والبرهان وباب لكي يذّكر أحدهم الآخر وسبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقوم كبراؤهم مثلاً بتثبيت ما في الميثاق من العهود في مرتكزات أذهان الناس وفي الأعمال وان ينهى بعضهم بعضاً عن المعصية ومخالفة الميثاق.
وإجماع علماء المسلمين على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوباً كفائياً وله شرائطه وأحكامه، وعن الإمام الصادق عليه السلام: “ويل لقوم لا يدينون الله بالأ مر بالمعروف والنهي عن المنكر”( ).
ولا تعني الآية إنعدام الأمر بالمعروف في بني إسرائيل مطلقاً، ففي القرآن شواهد على وجوده، وهو وجه من وجوه الإعجاز في القرآن إذ يعطي لكل ذي حق يعط حقه وما فيه من لغة الإنصاف حتى بالنسبة للذين أظهروا للإسلام العداء، ومن تلك الشواهد قوله تعالى [وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ]( )، وقوله تعالى [فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ]( )، وكأن أهل الأمر بالمعروف عندهم نواة للإستجابة لنداء القرآن وحجة على الكثيرين منهم وغيرهم من الأمم الأخرى.
نعم تظهر هذه الآية موضوعية وجود أثر محسوس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إحتمال التأثير سواء كان ترتب الأثر حالياً أو في المستقبل وأن لا يكون الفاعل للمنكر والتارك للواجب مصراً على فعله.
والآية المتقدمة أعلاه [وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ….] مطلقة ولكن هل هي مقيدة زماناً بالآية الأخرى التي تتعلق بأصحاب القرية الذين يعتدون في السبت، أم أن الأخيرة فرد من مصاديقها يخص قوماً وواقعة معينة جاءت من باب المثال لا الحصر للإعتبار والبيان، وان تلك الأمة موجودة آنذاك .
الأقرب هو الثاني لمشيئة الله تعالى في حفظ أحكام التوحيد في الأرض وليكونوا حجة حاضرة على قولهم وباب رجاء للإنابة وعوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام بتبشيرهم به كما ثبت ذلك في التأريخ والسنن ومن أعلام ذوي شأن بينهم ، ومنه ما ذكره ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال لي: هل تدري عمّ كان إسلام ثعلبة ابن سعيَّة واسيد بن سعيِّة وأسد بن عبيد، نفر من بني هدل، أخوة بني قريظة، كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا سادتهم في الإسلام.
قلت: لا والله، قال: فإن رجلاً من يهود أهل الشام، يقال له ابن الهيبان، قدم علينا قبيل الإسلام بسنين، فحل بين أظهرنا، لا والله ما رأينا قط رجلاً يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فإستسق لنا، فيقول لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة، فنقول له: كم؟ فيقول: صاعاً من تمر، أومدين من شعير. قال: فنخرجها ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرّتنا فيستسقى لنا. فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ونسقى، قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث.
قال: ثم حضرته الوفاة عندنا. فلما علم أنه ميت قال: يا معشر يهود، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير الى أرض البؤس والجوع؟: قلنا: إنك أعلم، قال: فأني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه، وهذه البلدة مهاجره، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحاصر بني قريظة، قال هؤلاء الفتية وكانوا شباباً أحداثاً: يا بني قريظة، والله انه للنبي الذي كان عهد اليكم فيه ابن هيبان، قالوا ليس به، قالوا: بلى والله، انه لهو بصفته، فنزلوا وأسلموا، وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم( ).
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما فيهما من المصالح والحسن العقلي ظاهرة كريمة لازمت وجود الإنسان على الأرض وكانت معروفة عند المليين، وقد ورد عن الامام الباقر عليه السلام أنه قال: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج العلماء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر”.
الثالث : قد تأتي الشهادة ويقصد بها معرفتهم لنعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومشاهدتهم للآيات التي جاء بها كما في قوله تعالى [ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ]( ).
فهل إن المقصود في الآية محل البحث الأقرار والشهادة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم انها تفيد المعنى الأعم، الجواب: أنها أعم وبين موضوع الميثاق ونبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عموم وخصوص مطلق بلحاظ أفراد الزمان الطولية، نعم نبوته صلى الله عليه وآله وسلم من أهم وأشرف أفراد الميثاق بعد التوحيد والإقرار بالعبودية لله عز وجل.
الرابع : قد يفرق لغة وإصطلاحاً بين الشاهد والشهيد من جهة الاتصاف بالثبوت والإثبات او قل الحدوث والبقاء، فالشاهد بمعنى حضور الحدث وعمل الشهادة للملازمة بينها وبين المعاينة، وإذا ثبت تحمله لها في زمان إستدامة الشهادة بعد تحققها فهو شهيد، أي أنكم أصبحتم شهداء على أنفسكم بعد حصول الإقرار منكم بالميثاق.
الخامس : وأنتم تشهدون أي أجتمع الشاهد والمشهود عليه فيكم، وليس من مانع من اجتماعهما إذ أن الشهادة ليست من الأمور الخارجية التي يتباين فيها الحال والمحل، بل إنها من الأمور الإعتبارية الإضافية.
وقد ثبت في الفلسفة أن وحدة المحل لا تستلزم وحدة الحال مع الإختلاف كما يحل في الجسم البياض والبرودة والحركة، ثم أن الشهادة في المقام تنحل إلى أفراد متعددة بعدد بني إسرائيل والوجوه التي تلتقي كل جماعة عليها.
السادس : في الآية رحمة لبني اسرائيل وتجديد للنعمة عليهم لما فيها من تذكيرهم بالميثاق وتنبيه ودعوة لعودتهم.
السابع : في الآية إنذار وتوبيخ لبني إسرائيل بالإعراض عن الميثاق وعدم إستحضارهم للإقرار به وأن كتمان الآيات وما في الميثاق من الأحكام لم ولن يؤدي إلى تعطيلها أو ستر حقيقة العهود والمواثيق التي أخذت عليهم قال تعالى [وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ…]( ).
وورد السمع والأبصار هنا بعنوان الجزئية للذات الإنسانية وإمكان شهادة الجزء على الكل، وكذا العكس , وكان في بني اسرائيل نفر يشهدون بالميثاق وبتحريفهم للكتاب وبما جاء من نعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه , ومع هذا يعرضون عن الإسلام.
ومنه ما ورد بالإسناد عن سلمة بن سلامة وهو بدري من الأنصار قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، قال: فخرج علينا يوماً من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيهم سناً على بردة لي، مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار، قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان، لا يرون ان بعثاً كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان؟ وترى هذا كائناً، أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها باعمالهم؟ قال: نعم والذي يحلف به، ولوّد أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدار، يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطينونه عليه، بأن ينجو من النار غداً، فقالوا له: ويحك يا فلان! فما آية ذلك؟ قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى مكة واليمن، فقالوا ومتى نراه؟ قال: فنظر إلي وأنا من أحدثهم سناً، فقال: ان يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، قال: سلمة: فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغياً وحسداً، قال: فقلنا له: ويحك يا فلان ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى، ولكن ليس به( ).
الثامن : تحمل الآية على المعنى الأعم لها فالإقرار لم ينحصر ببني إسرائيل الموجودين أيام موسى عليه السلام وكذلك الإشهاد وإن كانوا أقروا بالميثاق وشهدوا على أنفسهم بمضامينه، وهو يشمل الذين عاشوا أيام نزول القرآن، فإن قلت متى أقروا بالميثاق قلت: ان نسبهم وانتمائهم الديني واتباعهم لموسى عليه السلام في الشريعة يعني إلتزامهم بأحكام شريعته، ولذا ترى الإسلام يعاملهم معاملة أهل الذمة ولا يجري حكم السيف في غير المحارب منهم.
التاسع : قد تأتي الشهادة بمعنى الكتابة فيقال مثلاً صلاة مشهودة أي مكتوبة، يشهدها الملائكة ويكتب اجرها وثوابها للمصلي، فإقرار بني اسرائيل بالميثاق مدون في التوراة وفي مواضع عديدة منها كما في الوصايا العشر ومنها: ( لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على أحد شهادة زور)( ).
وفيها دلالة على انهم كانوا يقرأون أحكام الميثاق في التوراة، أي ان الشهادة في الآية معاينة وقراءة التوراة، خصوصاً وان القراءة وجه ومصداق من مصاديق الشهادة.
العاشر : لقد كان بنو إسرائيل يحافظون على الميثاق وما فيه من العهود وفي ذلك حكمة وعلة تتعلق بمصالحهم في الدنيا فالتابوت الذي كان يحمل في مقدمة الجيش وفيه نصرهم إنما هو تابوت العهد كما في قول سليمان عليه السلام لأبياتا الكاهن: أنك رجل تستوجب الموت لكني لا أقتلك هذا اليوم لأنك حملت تابوت العهد أمام داود أبي وعانيت ما عاناه.
وفيها حجة عليهم أن آباءهم قد حرصوا على لفظ الميثاق، وان الميثاق لم يكن فقط عهوداً يجب عليهم أن يلتزموا بأحكامها إنما هو باب للنصر والفتح، وكذا الأحكام الشرعية التكليفية فمع ما فيها من مشقة وجهد إضافي فهي باب للتوفيق والفلاح في كل الأزمان والأمكنة ولا تنحصر بركاتها ونفعها بالحياة الدنيا بل تتعدى إلى الآخرة حيث النعيم الخالد والثواب الجزيل.
الحادي عشر : الآية تذكير بالشهادة كحجة وبرهان وموضوع للحساب وهي نعمة مركبة لما فيها من ترغيب بالثواب وإنذار بالعقاب الأليم يوم القيامة، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
الثاني عشر : يتعلق الإقرار في الآية مباشرة بالموجودين من بني إسرائيل أيام موسى عليه السلام وبالذين من بعدهم بالواسطة، أما قوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ] فإنه خطاب للموجودين منهم أيام نزول القرآن , وهو حجة وبيان وتذكير ودعوة للرشد ومناسبة للإستدراك والإنابة والتوبة بدخول الإسلام بعد رؤية الآيات ومنها موضوع هذه الآية .
الثالث عشر : في الآية درس عقائدي ودليل على علو الإسلام درجة على الشرائع السابقة له زماناً باعتباره الشريعة الناسخة والملة الباقية إلى يوم القيامة، فالمسلمون ومن خلال القرآن يحتجون عليهم في إعراضهم عن الميثاق، قال تعالى [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ..]( ).
الرابع عشر : الآية حجة على المسلمين وتحذير لهم من الإقتداء بمن نقض عهده، وموضوع مبارك للإتعاظ بهم وإجتناب الزيغ عن طريق الهدى، وهي دعوة لهم للإلتزام بالميثاق وتعاهد أحكام الرسالة , قال تعالى [ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
إنها مناسبة للإعتبار وآية في إثبات أهلية المسلمين لخلافة الأرض بمحافظتهم على الميثاق والتزامهم بأصول الدين واتباع سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى في خطاب للمسلمين[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( )، وهل الميثاق من حبل الله , الجواب نعم، وتلك آية في الثناء على المسلمين وتقريبهم من مقامات التقوى.


قوله تعالى [ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ] الآية 85.
القراءة واللغة
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي والأعمش[تظاهرون] بتخفيف الظاء( ) والباقون بالتشديد.
وقرأ حمزة [أسرى] بفتح الهمزة وسكون السين وبغير ألف بعدها( ).
وقرأ أهل المدينة وعاصم والكسائي ويعقوب [ تفادوهم] بضم التاء وبألف، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبة.
ثم: حرف عطف للتراخي، أنتم: ضمير مبتدأ، وأختلف في حروف الضمير على قولين:
الأول: الضمير هو (أن) والتاء حرف خطاب.
الثاني: الحروف هي الضمير، وهو الأصح.
هؤلاء: اسم اشارة في محل نصب منادى حذف منه حرف النداء وقيل اسم الإشارة هو الخبر، وجملة تقتلون حال، وعند البصريين لا يجوز حذف حرف النداء من اسم الإشارة وتكون جملة تقتلون خبر المبتدأ(أنتم) والأول أرجح، والهاء في أوله حرف تنبيه.
تقتلون: فعل مضارع، الواو: فاعل، جملة تقتلون خبر أنتم.
أنفسكم: مفعول به، وهو مضاف، والضمير في محل مضاف اليه.
وتخرجون: الواو: حرف عطف، تخرجون: فعل مضارع، الواو: فاعل، فريقاً: مفعول به.
تظاهرون: فعل مضارع مرفوع، الواو: فاعل، والجملة في محل نصب حال من الواو، أي متظاهرين عليهم.
عليهم: جار ومجرور.
بالإثم : جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال .
وقيل ( المعنى تظاهرون عليهم حال تلبسهم بالإثم ) ( ).
والصحيح : حال تلبسكم بالإثم , لأن الآية جاءت لتوبيخ المخاطَبين منهم, فلو كان المظاهر عليهم هم المتلبسين بالإثم لقالوا أردنا تأدييهم وإجتناب أذاهم.
وإن يأتوكم: الواو: استئنافية، ان: شرطية.
يأتوكم: فعل الشرط مجزوم بحذف النون، الواو: فاعل، الكاف: مفعول به.
أسرى: حال، تفادوهم: جواب الشرط مجزوم، الواو:فاعل، والضمير (هم) مفعول به.
وهو: الواو: حالية، هو: مبتدأ محرم: خبر مرفوع بالضمة.
إخراجهم: مبتدأ مؤخر.
أفتؤمنون ببعض الكتاب: الهمزة للإستفهام الإستنكاري، الفاء: حرف عطف.
تؤمنون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، الواو: فاعل، ببعض: جار ومجرور متعلق ب(تؤمنون) .
الكتاب: مضاف إليه مجرور .
الواو: حرف عطف.
فما: الفاء فصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر، ما: نافية وهي تدخل على الجملة الفعلية فلا تعمل شيئاً وتدخل على الجملة الإسمية كما هو الحال في المقام فتعمل عمل ليس عند الحجازيين وأهل تهامة ونجد بشروط، جزاء: مبتدأ مرفوع بالضمة.
من: اسم موصول في محل جر بالإضافة،يفعل: فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو، والجملة صلة الموصول.
ذلك: اسم إشارة مفعول به، منكم: جار ومجرور متعلقان بمحذف حال، إلا: أداة حصر.
خزي: إستثناء مفرغ خبر جزاء.
في الحياة:جار ومجرور صفة الخزي، الدنيا: صفة للحياة، ويوم القيامة: الواو: إستئنافية، يوم: ظرف زمان منصوب، متعلق بيردون، يردون: فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، الواو: فاعل، إلى أشد: جار ومجرور وأشد مضاف، العذاب: مضاف إليه.
وما: الواو استئنافية. ما: نافية حجازية تعمل عمل ليس، اسم الجلالة: اسم ما مرفوع، بغافل: الباء حرف جر زائد، غافل: خبر ما محلاً.
عما: جار ومجرور.
تعملون: فعل مضارع، والواو: فاعل، والجمل الفعلية صلة الموصول.
الواو: فاعل، ببعض: جار ومجرور مفعول به محلاً.
تظاهرون: تتعاونون، وأصل المظاهرة المعاونة مشتقة من الظهر، لأن بعضهم يقوي بعضاً فيكون له كالظهر.
تفيد [ ثم ] تراخي المعطوف عن المعطوف عليه، في الحدوث والرتبة وكأن فيها إشارة إلى الاختلاف في الفعل والزمان بين الذين أقروا بالميثاق عند التشريع وبين أحوال الذين من بعدهم لتعدد أفراد الزمان الطولية بين بعثة موسى عليه السلام وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
[ أنتم هؤلاء ] إجتمع فيها الضمير مع اسم الإشارة، قدم فيها الضمير ودخل فيها التنبيه على اسم الإشارة، وقد يقدم التنبيه على الضمير في القرآن ويؤخر اسم الإشارة، قال تعالى [ ها انتم أولاء تحبونهم… ]( )، وقد يجرد الضمير واسم الإشارة معاً من التنبيه كما في قوله تعالى [ هم أولاء…]( ).
ولكل من الحالات معنى يختلف بحسب الغاية والقصد وإرادة التنبيه أو التوكيد، وقد جاءت هنا لتنبيه المخاطبين بحضور أنفسهم بلحاظ صفة نقض الميثاق وللمبالغة في بيانه وشموله لهم ولغيرهم من الذين سبقوهم أو الذين يأتون بعدهم إذا ما بقوا ملازمين للعادات والسنن التي أدت بهم إلي تلك الأعمال، أي أن الآية دعوة لهم لدخول الإسلام كسبيل وحيد للنجاة مما يودي بهم إلى الهلاك، وشريعة يتفانى أهلها في منع نقض الميثاق وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
[تظاهرون عليهم ] أي تعاونون على إيذائهم.
و[ الإثم ] الذنب وما يؤثم الإنسان بفعله مما ينهى في الشريعة عنه.
و[ أسارى ] جمع أسير، وهو الأخيذ اخذاً وقهراً من الإسار بالكسر وهو القد ولعله ستر بقد من جلد غير مدبوغ أو من الأسار وهو الحبل يشد به الأسير،(وكلُّ محبوس في قدٍّ أَو سِجْنٍ أَسيرٌ) ( )، وفرق بعضهم بين الأسرى والأسارى، فالأسرى الذين في اليد، والأسارى الذين في وثاق وهو اشد مبالغة.
يتفاداه من الأسر إذا إستنقذه بمال، وتفادوهم من المفاداة يقال فاداه إذا أعطى فداءه وأنقذه. وتفادوهم: تنقذوهم من الأسر بالمال
وبعض الشيء: طائفة منه، وأجاز النحويون إدخال الألف واللام عليها أي على بعض، وخالف الأصمعي الذي قال: كل وبعض معرفة، فلا تدخلان عليهما لأنهما في نية الإضافة، وبعض تشمل ما زاد على نصف الشيء أيضاً فيقال مثلاً إن السبعة بعض من العشرة، وبعض من الأمور الاعتبارية، فقد يكون ذات الشيء بعضاً من غيره أو كلاً وغيره بعضاً منه، وصلاة الظهر مثلاً بعض من الصلاة اليومية وهي نفسها كل، والركعة الواحدة بعض منها.
الجزاء: المكافأة، ويستعمل في الخير والشر، ومن مفاهيم الجزاء أنه لا يكون إلا بالفعل.
الخزي: المقت والذل ويكون من توابع الصغار والقهر، (يُقال خزي خزياً إذا ذل وهان)، ويأتي بمعنى الفضيحة، ويأتي بمعنى الهلاك.
ويقال رد الشئ عن وجهه يرده رداً ومرداً: صرفه.

موضوع النزول
نزلت الآية في جماعات من أهل الكتاب والنزاع الذي بينهم، فبنو قينقاع أعداء قريظة.
وقريظة والنضير إخوان ثم إختلفوا وإقتتلوا , وكانوا يفتدون الأسرى عند إنتهاء الحرب، فجاء القرآن بذم فعلهم هذا وتبعيضهم للإيمان.
وفي الآية إشارة إلى موضوع الأسرى وأسر بعضهم لبعضهم الآخر وإشتراكهم في المعارك التي تجري بين العرب بلحاظ التحالف معهم وبيان عدم إستمرار أجيال بني إسرائيل بالتقيد بأحكام التوراة ليكون هذا الإحتجاج في مفهومه برهاناً على تصديق القرآن للتوراة والإنجيل قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]( ).
ومن مواضيع الآية التذكير بعالم الآخرة، وجذب الحواس لإدراكه، وجعل مواطنه ووقائعه قريبة من أذهانهم وتجلي لغة الإنذار في إستحضار العذاب الأليم لمن يُبعض الإيمان، ويرفض التصديق بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
في سياق الآيات
تعدد وجوه المواثيق التي أخذت على بني اسرائيل ونقضهم لها على نحو السالبة الكلية والعذاب الذي أعده الله عز وجل لمن يعصيه.
فبعد أن ذكرت الآيتان السابقتان المواثيق والعهود التي أخذها  على بني اسرائيل، وجاءت هذه الآية لبيان نقض مضامين المواثيق، ومع تقدم مواثيق العبادة والإيمان على مواثيق الأفعال في الآيتين السابقتين، فان هذه الآية بدأت بذكر نقض مواثيق الأفعال، وهذا من الإعجاز ولابد له من دلالات عقائدية منها:
الأول : إقامة الحجة عليهم.
الثاني : توكيد النظم بين هذه الآية والآية السابقة.
الثالث : موضوعية الإتحاد، ونبذ الفرقة واجتناب الإقتتال.
لقد تضمنت الآية السابقة فردين من الميثاق، كل واحد منها نهي:
الأول : النهي عن سفك الدماء بين بني إسرائيل.
الثاني : النهي عن إخراج بعضهم من أراضيهم ومساكنهم.
وأخبرت آية البحث عن مخالفة طائفة لكل من فردي الميثاق أعلاه مع تمادي في المخالفة بالمظاهرة والتعاون عليه بالإثم والعدوان، قال تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( )، ثم إنتقلت الآية إلى الإنكار البياني والتوبيخ التأديبي(أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)
وجاءت كل من هذه الآية والآيتين السابقتين بصيغة الخطاب وهو موجه إلى بني إسرائيل، وإنتقلت الآية التالية إلى صيغة الغائب[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ….]( )، ويدل اسم الإشارة الذي إبتدأت به الآية على التخويف والوعيد للذين ينقضون الميثاق بالعذاب الأليم في الآخرة من غير أن يشفع لهم نبي أو رسول.
وأخبرت الآية التي بعدها عن نزول الكتاب على موسى عليه السلام، والآيات البينات لعيسى عليه السلام، وهو من عمومات قوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، ثم عادت الآية إلى صيغة الخطاب بلغة التوبيخ[أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمْ…..] لتبين الآيات جهاد الأنبياء وتعاهدهم للمواثيق الإلهية وقيامهم بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان الثمن الذي دفعوه باهظاً، ولكنه قليل في جنب الله.
إعجاز الآية
الإخبار عن المواثيق التي أخذت على الأمم السابقة، ونقضهم لها مما يدل في مفهومه على أن القرآن وما فيه من الأحكام مواثيق وقوانين لدوام الصلاح وثبات الإيمان في الأرض، وان عقاب الكافرين وآثار المعصية ونقض لمواثيق لا تنحصر في دار الحياة الدنيا او الآخرة وحدها وليتعاهد المسلمون مواثيق وسنن القرآن، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وتتضمن الآية وبقياس الأولوية وما يسمى في علم الأصول بفحوى الخطاب لوماً لهم، فتخاطبهم بأنكم تعاونون المشركين وتظاهرونهم على اخوانكم في الدين بينما تجتمعون وتلتقون في الصدود عن الحق والنبوة مع ظهور الآيات الباهرات قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ]( )، والآية القرآنية وثيقة سماوية تتعلق بأحوال أهل الكتاب قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأيامها، وحاجتهم إلى بعثة لإصلاح الأرض، ولما نفخ الله عز وجل في آدم من روحه وجعله خليفة في الأرض فإنه سبحانه أبى أن تكون الأرض خالية من أمة تدعو إلى الله، وتهدي إلى الحق والهدى، ووجود هذه الأمة من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عندما سألوا بصيغة الإنكار وكيف يكون خليفة في الأرض من يسفك الدماء[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ) .
وتكشف الآية عن أحكام التوراة في موضوع مخصوص، وهو حرمة إخراج بعض بني إسرائيل لبعضهم الآخر من بيوتهم وديارهم.
ومن إعجاز الآية أنها رحمة بنبي إسرائيل لما فيها من بيان وما يترتب عليها من العقاب في الدنيا والآخرة.
ويمكن تسمية هذه الآية آية ” ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء” ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية .
الآية سلاح
في الآية ذم لما يجري من مظاهر الفرقة والفتنة بين أهل الكتاب , وتدل بالدلالة التضمنية على أن مثل هذه الأعمال ليست مما جاءت به الكتب السماوية، وفيها وعيد لمن يجزء ويبعض الإيمان، وما في هذا الوعيد والإنذار من لغة التبعيض دعوة لهم لدخول الإسلام وتنبيه للمسلمين للإحتراز مما فعله فريق منهم وما يصدر عنهم بسبب هذا التبعيض.
والآية من عمومات قوله تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( )، إذ أن تلك القصص أعم من أن تختص بالأمم المنقرضة فتشمل الأمم والطوائف التي كانت موجودة أيام البعثة النبوية، فبعض الوقائع التي تذكرها الآية تتعلق بأسلافهم من الأجيال المنقرضة والآية موضوع للإحتجاج، وسلاح للجدال، وإقامة الحجة والبرهان بيد المسلمين.
وفي الآية تأديب للمسلمين بلزوم عدم ترك العمل بمضامين بعض الآيات فلابد من العمل بآيات القرآن على نحو العموم المجموعي، سواء كانت في العبادات أو المعاملات أو الأحكام.
لقد أراد الله عز وجل للإسلام أن يكون الديانة الباقية إلى يوم القيامة قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( )، فكانت قصص الأمم السابقة موعظة وعبرة للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة بأن يجتنبوا ويحترزوا مما تخلف عند فريق من الأولين، والآية موضوع ومناسبة لقيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
مفهوم الآية
الآية دعوة للتوفيق بين العهد والفعل، وبين الواجب والإمتثال، وتلك من خصائص القرآن يذكر قوماً إصلاحاً لهم واثباتاً لخطأ ما هم عليه وحثاً على هجران السيئة، ودعوة لإصلاح الحال وإختيار الراجح في العقيدة والسلوك.
وتبين الآية الحاجة إلى الإصلاح ووقف التعدي وأن الوسائل الذاتية مع فريق منهم ومن داخلهم أصبحت غير قادرة على إصلاحهم وحملهم على الوفاء بالعهود والمواثيق التي قطعوها على أنفسهم ضمن أحكام التكليف في الأرض وقوانين الأسباب والمسببات والعلة والمعلول، فجاء ختم النبوة بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليكون الإسلام شاهداً على نقض فريق منهم العهد، وفرصة كريمة لهم للتخلص من الغدر والخيانة وتحريف الكتاب خصوصاً وأن القرآن في حرز وواقية وبيد المسلمين فلا يستطيعون تغيير آياته أو تبديلها، فلا غرابة ان تجد التحذير القرآني والنهي عن مس غير المسلم له، قال تعالى[لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ]( ).
وفي رسالتنا العملية “الحجة” جاء في المسألة الثانية والستين بعد المائة من كتاب الطهارة : لا يجوز تمكين الكافر من القرآن وان كان في يده يجب أخذه منه مع صدق عنوان الهتك أو التنجيس.
وقد تقدمت الآية الرابعة والسبعون وأختتمت أيضاً بقوله تعالى [ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ] لوحدة الموضوع في تنقيح المناط بين الآيتين .
فالأولى تتعلق بقسوة القلوب وما يترشح عنها من الإعراض عن الآيات وعدم الإستعداد لقبول الحق.
أما الآية محل البحث فانها تتعلق بنقض الميثاق في السيرة وعمل الجوارح، بالإضافة إلى ذم تجزئة الإيمان بالكتب السماوية ليكون إجتماع الإنحراف والضلالة بهما سبباً لنزول الغضب الإلهي.
ولم يكن القتل أمراً معروفاً عند بني إسرائيل، كما أن موضوع خاتمة هذه الآية [ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ] لا ينحصر بهذه الآية بل يشمل الآيات التي سبقتها.
فالآية في مفهومها تبعث على الإيمان بالكتب السماوية على نحو العموم المجموعي بإعتبار نزولها من عند الله تعالى وللتكامل التدريجي في الشرائع والسنن، فالذي يؤمن بالسابق منها ويكفر باللاحق كمن يبني له بيتاً ثم يسكنه قبل وضع السقف فلا يقيه من أذى الحر ولا البرد ولا يختلف عن الكافر الذي لم يؤمن بالكتاب أصلاً إلا كمن سكن داراً ليس فيها إلا الجدران الجانبية.
فجاءت الآية تذكرة بهذا النقص وتدعوه إلى بناء السقف وتشييد داره وفق احكام العقل والشريعة واتمام بنائه بما يدفع عنه العذاب والبلاء وينفع ذريته في النشأتين، ولا يستلزم ذلك منه إلا الدخول في الإسلام فهو الواقية والستر والحرز، قال تعالى[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ]( ).
وفرّق الإسلام بين الكتابي وغيره , وفرض الجزية على الكتابي ولكنه لم يتركه في حاله تلك من النقص والخلل بنقض الميثاق ، خصوصاً وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعث رحمة للعالمين.
إفاضات الآية
يعتبر الإيمان قوة وسلاحاً للجذب بين أهله، ووسيلة مباركة لترغيب الناس به، وتلتقي النوايا وتتحلى النفوس بالفضائل، وتتخلى عن الرذائل باختيار الإيمان لأنه نور وجمال يملأ الجوانح، وضياء يشع على العقول، وبرزخ عقائدي يمنع الإنسان من الظلم والتعدي على الغير مطلقاً وعلى الذات والرحم خاصة.
لذا تضمن ميثاق بني إسرائيل التنزه عن التعدي، ولكن الخلاف والخصومة دبت بينهم وإستحوذت النفس الشهوية والغضبية على عالم الأفعال عند فريق منهم، وخرجوا عن المواثيق التي تعهدوا بها والتي كانت من أسباب تفضيلهم وإكرامهم ونزول النعم وتوالي الفيض والبركات عليهم، قال تعالى[فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ]( ).
ولم يأتِ التعدي عن غفلة وجهل منهم، بل إنهم قاموا بتحريف الرغائب والمصالح الذاتية الخاصة، وترك ما فيه النفع العام والقواعد الكلية التي تنهى عن الظلم والتعدي.
لقد جعل الله عز وجل الإنسان محتاجاً في ذاته ووجوده، والحاجة ملازمة لعالم الإمكان مطلقا ، والإنسان ممكن، وتفضل الله عز وجل بالميثاق على بني إسرائيل لحاجتهم للإيمان وثباته في نفوسهم , وجاءت هذه الآية لأن التذكير بالميثاق حاجة لبني إسرائيل والناس جميعاً.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بحرف العطف والتراخي (ثم) لتوكيد أخذ الله عز وجل العهد على بني إسرائيل، وإقرارهم به، وشهادتهم على الإقرار وأن نقضهم للميثاق لم يحصل إلا بعد حين، وتوالي بعثة الأنبياء على بني إسرائيل حجة عليهم بلزوم تعاهد الميثاق في أفراد الزمان الطولية، وعدم التفريط بها على نحو السالبة الكلية أو الجزئية مع تقادم الأيام والسنين.
وجاءت هذه الآية بصيغة اللوم لهم على التفريط بالميثاق، بعد أن أخذه الله عز وجل منهم، وقيامهم بمخالفة مضامينه، ولم تذكر الآية صدور نهي عن بعضهم على هذه المخالفة بإعتبارها من المنكر الذي يجب أن ينهى عنه، ولكن القرآن أخبر عن وجود مثل هذا النهي، قال تعالى [وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ]( ).
وهو من مصــاديق اللطف الإلهي بتعاهد الناس العبادة في الأرض، وعدم محـــوها لأنها عــلة الخلق فلابد من مصداق لها في كل زمان، وهو من عمومــات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ويمّن الله عز وجل على الناس بتقريبهم إلى سبل الطاعة، ويبعدهم عن صيغ المعصية، ويدفع الكفر ومفاهيم الجحود عن الإستحواذ على الناس ومن هذا التقريب الآيات الدائمة والمتجددة والمستحدثة التي تدل على بربوبيته المطلقة، ووجوب عبادته سبحانه.
وهو من بديع صنع الله بأن يصاحب النهي المعصية كي لا تستحوذ على المجتمعات والأذهان، ولكن فريقاً أصر عليها، وذكرت هذه الآية أفراداً من نقض الميثاق هي:
الأول : وقوع القتل بينهم، وجاءت قصة البقرة لمعرفة القاتل بمعجزة شاهداً على وقوع القتل بينهم في أيام موسى عليه السلام، ولكنه على نحو القضية الشخصية في المقتول، قال تعالى[وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا]( ).
وفي الآية مسائل:
الأولى : تفيد (ثم) الواردة في بداية الآية إرادة معنى أعم وحصول قتل متعدد بينهم بعد حين.
الثانية : ليس المراد من قتل النفس في الآية هو الإنتحار، ولكنه شيوع العداوة والبغضاء بينهم وقتل بعضهم بعضاً، وفيه سبب لإستضعاف غيرهم لهم.
الثالثة : كأن الذي يقتل أخاه من بني إسرائيل إنما يقتل نفسه، مما يدل على مجيء التوراة بأخوة بني إسرائيل، ولكنهم لم يتعاهدوها، بينما جاء القرآن بذات المعنى بين المسلمين بقوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، فحرص المسلمون على تعاهد الآية رسماً وتلاوة وعملاً.
الثاني : قيام بعضهم بإخراج بعضهم الآخر من ديارهم، وجعلهم يجلون عن محل سكناهم، للبغضاء والقتل، وغلبة فريق وسبط منهم على سبط آخر، وفي هذا الخروج مخالفة لأحكام الميثاق لأن الله عز وجل أخذ عليهم العهد بأن لا يخرج بعضهم بعضاً من أرضه.
الثالث : من مصاديق نقض الميثاق تبعيض الإيمان، وترك الإقرار بشطر من الكتب، وفيه إشارة إلى جحودهم وإنكارهم للبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تضمنتها التوراة.
فان قلت لم تذكر آية البحث هذا الإنكار، إنما ذكرت وجوهاً معينة من نقض الميثاق، والجواب من وجوه:
الأول : إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره، فذكر الآية لمصاديق من نقض الميثاق لا يفيد الحصر والتعيين للإراد هذا النقض ، فلابد من إستقراء المصاديق الأخرى من عموم آيات القرآن وأخبار السنة النبوية، والكتب السابقة.
الثاني : من الميثاق التصديق بآيات الله عز وجل ، والقرآن آية عقلية جلية.
الثالث : مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات الحسية التي تدعو إلى التصديق بنبوته.
الرابع : توثيق القرآن لنقضهم العهود التي عقدوها مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل لبني إسرائيل تعاهد أفراد الميثاق بجعل بعضها حرزاً لبعضها الآخر، لأن بقاءهم متحدين وفق معاني الأخوة عون لهم لإستحضار أفراد الميثاق، والمناجاة والتذكير بأفراده ولزوم التقيد به والعمل بأحكامه، وتعاهد نصوصه، وعدم تحريفه أو تغيير بعض أفراده.
لذا جاء اللوم لبني إسرائيل لقيامهم بإخراج بعضهم من ديارهم، وما ترتب عليه من عدم التقيد بأحكام الميثاق على نحو تدريجي , وهذا التدريج من خصائص ورود “ثم” في أول الآية.
وتدل الآية الكريمة في مفهومها على مدح المسلمين لتقيدهم بأحكام الميثاق وتعاهدهم لآيات القرآن، وحرصهم على العمل بمضامينه.
وتأتي تلاوة آياته في الصلاة كل يوم وسيلة عبادية مباركة لحفظه من الضياع والتحريف، ومما يتلوه المسلمون في صلاتهم هذه الآية التي تخبر عن نقض الأمم السالفة للميثاق وذمهم على هذا النقض، وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد العهود والمواثيق الإلهية وحث للناس جميعاً على التوبة والإنابة، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
فوظيفة المسلمين في المقام على وجوه:
الأول : التقيد بأحكام الميثاق وحفظ ما فرطت به الأمم السالفة من العهود الإلهية.
الثاني : تنبيه وتوبيخ الذين نقضوا الميثاق.
الثالث : تلاوة الآيات التي تخبر عن أحوال الأمم وتبين مضامين الميثاق.
الرابع : دعوة الناس جميعاً إلى العمل بالمواثيق الإلهية بتلاوة هذه الآيات وبسلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وهو شاهد بأن صلاح المسلمين لم ينحصر بهم بالذات وفيما بينهم بهداية الناس إلى سبل الإيمان والصلاح، قال تعالى في خطاب للمسلمين[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ) .
وهل من الخير في المقام إصلاح حال أهل الكتاب، وتجديد معاني الأخوة بينهم لإظهار تمسكهم بالكتاب في الجملة، وتوكيد المائز بينهم وبين الكفار والمشركين، الجواب لا دليل على هذا المعنى، إنما المراد من الذم وبيان قبح الفعل وذم نقض المواثيق دعوتهم للإسلام والتصديق بالمعجزات, وتعاهد الأخوة بالإسلام .
إن الإقرار بالعهد الإلهي مناسبة للتقيد به، ودعوة للأجيال المتعاقبة للعمل بمضامينه، وإشارة إلى ما فيه من الخير المحض والمنافع العظيمة، ولكن الذي حصل هو تخلفهم عن العمل بأحكامه، فقتل بعضهم بعضاً وأخرجوا فريقاً من ديارهم، ومع هذا تراهم لا يرضون ببقائهم أسرى عند الأعداء بل يبذلون المال فداء لهم لإنقاذهم من الأسر، أي من باب الأولوية القطعية أن يمتنعوا عن قتلهم وإخراجهم من ديارهم.
ولم تذكر الآيتان السابقتان موضوع الفداء من الأسر ، إلا أن هذه الآية تدل عليه وتخبر عن عملهم به وبقواعده إلا أن يراد من قوله تعالى [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ] ( ) الإيمان بالتوراة والكفر بالقرآن وإفادة المعنى الأعم من الكتاب وهو التنزيل مطلقا , ولكن لا مانع من الجمع بين المعنيين.
ً وتبين الآية الكريمة قانوناً كلياً بلزوم التصديق بالكتاب كله، وعدم التفريط ببعضه، وأن الكفر بالجزء يوجب الخزي في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة.
ومن إعجاز الآية مجيؤها بدعوة اليهود إلى تعاهد معاني الأخوة بينهم، ونبذ الفرقة والإقتتال بين أسباطهم وجماعاتهم، مع أنهم أعداء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، والأصل أن يرغب الإنسان بأن يكون عدوه ضعيفاً، منشغلاً بنفسه كي تسهل مواجهته ومحاربته.
ولكن الآية جاءت بذم أسباب الفرقة بين بني إسرائيل، وتذكيرهم بالميثاق الإلهي مما يدل على صدق نزول القرآن من عند الله، وأن الآية رحمة ببني إسرائيل وحجة عليهم وهي من وجوه تفضيلهم بالعناية الخاصة بهم بدعوتهم للإسلام وتحذيرهم من مخالفة الميثاق الذي أخذه الله عز وجل عليهم.
وفيه تحذير للناس من تحريفهم للكتاب وإنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا جاء القرآن بدعوة الناس جميعاً للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
وجاءت الآية باسم الإشارة “ذلك” في وعيد وتخويف لهم من نقض المواثيق، والمراد على وجوه:
الأول : قيامهم بقتل بعض إخوانهم من بني إسرائيل.
الثاني : إخراجهم المستضعفين منهم من ديارهم.
الثالث : التعاون فيما بينهم لإخراجهم ظلماً وعدواناً وبغير حق، وعدم التقيد بأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربما إستعانوا بالكفار والمشركين على إخراج إخوانهم من ديارهم.
الرابع : الكفر بنزول القرآن من عند الله عز وجل، قال تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ]( ).
وجاءت الآية بكاملها بصيغة الخطاب من أولها إلى آخرها، وفيها مواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إيذائهم له، وإمتناعهم عن التصديق بنبوته إلا القليل منهم وإشارة إلى أن إعلانهم التصديق بالتوراة ليس بتام، لأنهم لا يعملون بأحكامها وسننها.
وتدعوهم هذه الآية للعمل بالعهد الإلهي ليكون على وجوه:
الأول : إنه مقدمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إتخاذ العهد طريقاً مباركاً للهداية والرشاد.
الثالث : جعل الكفار يقتدون بأهل الكتاب بالتصديق بالمعجزات النبوية.
الرابع : الفوز بالأجر والثواب الذي يترتب على العمل بمضامين العهد والميثاق , قال تعالى[وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً]( ).
التفسير الذاتي
جاءت الآية السابقة والتي قبلها بذكر أفراد الميثاق على بني إسرائيل، وبينما جاءت الآية قبل السابقة بأفراد الميثاق مع ذم من تولى عنه وعن مضامينه بإستثناء فريق منهم وهم الأقل عدداً ، جاءت الآية السابقة بذكر عدد أقل من أفراد الميثاق إذ أنها تضمنت فردين هما:
الأول : الإمتناع عن سفك الدماء والقتل الذاتي فيما بين بني إسرائيل.
الثاني : إجتناب طرد فريق منهم من الديار والقرى والمدن.
ثم ذكرت إقرار بني إسرائيل بالميثاق وشهادتهم عليه، وذكرت هذه الآية نقض فريق منهم لفردي الميثاق أعلاه وعلى نحو التفصيل، ولم تذكر بقاء فريق أو قليل منهم على الميثاق، والحرص على عدم الإعراض عنه، ويحتمل وجوهاً:
الأول : إشتراك بني إسرائيل بنقض فردي الميثاق اللذين ذكرتهما الآية السابقة.
الثاني : إستصحاب بقاء قليل منهم على الميثاق والعهد بلحاظ مضامين الآية السابقة، بالإضافة إلى عمومات قوله تعالى [وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ]( ).
الثالث : عدم ذكر فريق منهم باق على العهد لعدم تأثيره على الذين ينقضونه، ولأن أمر سفك الدماء وإخراج فريق منهم من ديارهم قد حصل في الواقع الخارجي، فحتى في حال وجود هذا الفريق فانه عجز عن تعاهد الميثاق والمنع من سفك الدماء وإخراج فريق منهم من ديارهم.
وبإستثناء الوجه الأول، فانه لا تعارض بين الوجهين الثاني والثالث، لذا جاء اللوم لبني إسرائيل مع وجود قليل منهم يحرصون على الميثاق وينهون عن المنكر الذي يتمثل بنقضه وإشاعة القتل فيما بينهم وحصول الطرد لبعض منهم من ديارهم.
فان قيل جاءت الآية بصيغة الخطاب، والمتبادر منه إرادة عموم بني إسرائيل فكيف يستثنى فريق منهم، الجواب يدل على هذا الإستثناء والتخصيص دليل منفصل، ومنه الآية أعلاه وقوله تعالى في الآية السابقة [ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ] بالإضافة إلى إرادة وقوع النقض الفعلي للميثاق وحصول سفك الدماء والإخراج من الديار .
وهل يمكن إعتبار الفئة والطائفة الأقل عدداً وقوة هم الذين يتقيدون بأحكام ومضامين الميثاق وهم الذين تعرضوا للقتل والتشريد أو كانوا ممن تعرض له الجواب لا دليل عليه، كما أن الكثرة والقلة من الأمور غير المستقرة، فالطائفة الضعيفة قد تصبح هي الأقوى خصوصاً وأن اليهود تحالفوا مع الأوس والخزرج، ومنهم من يستعين بقبائل من العرب ويلجأ لهم العرب في بعض الحاجات.
ومن إعجاز الآية أنها تخاطب بني إسرائيل بلغة الخطاب (ثم أنتم) وفيه وجوه :
الأول : إنه شاهد على فضل الله عز وجل على بني إسرائيل، وما لهم من المنزلة بين الأمم.
الثاني : إن نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفوز المسلمين بصفة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لم يمنع من إستدامة فضل الله عز وجل على بني إسرائيل.
وكما خصت هذه الآيات بني إسرائيل بالذكر وأفراد الميثاق فانها أظهرت إكرامهم، وحثهم على المبادرة لدخول الإسلام.
الثالث : دخول الإسلام هو السبيل للسلامة من نقض الميثاق لأن (الإسلام يجّب ما قبله) ( ).
الرابع : جاءت الآية بصيغة الذم، وفيه حجة عليهم، وتخويف من التعدي على المسلمين، وبرزخ دون تحريف الكلم، وإخفاء فضل الله، ومن أسماء الله عز وجل (المنّان) وهو الذي يتفضل على الخلائق بالنعم العظيمة ويذكرهم بها، ويدعوهم للشكر عليها.
وجاءت هذه الآية لمنع إخفاء تلك النعم، وإنكار الحقائق , ولبيان كيفية نقض الميثاق الذي هو خير محض ونعمة على بني إسرائيل والناس جميعاً، والتقصير والقصور في تعاهده إضرار بالنفس والغير، وبرزخ دون إنتفاع الناس منها بالعرض، فجاء الإسلام لينتفع الناس جميعاً من المواثيق الإلهية، ومن مبادئها وأحكامها وسننها.
وإذ جاءت الآية السابقة بقوله تعالى [وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ] جاءت هذه الآية بذكر الذين وقع عليهم الإخراج وأنهم فريق منهم وموضوع الإخراج هو من (ديارهم) أي ديار الذين أخرجوا وطُردوا وفيه حجة عليهم، فلا يقال بأنهم أُخرجوا من غير أرضهم، بل كانوا في أرضهم وملكهم .
وهذه الملكية من فضل الله عز وجل على بني إسرائيل , قال تعالى في خطاب لبني إسرائيل[اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا]( ).
إذ أنعم الله على كل واحد منهم بالملك والشأن بعد النجاة من عذاب آل فرعون، والتيه في الصحراء.
وإبتداء الآية بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء] بيان لعظم الذنب وقبح التعدي بالتخلي عن الميثاق والإصرار على عدم الوفاء به بعد الإقرار على النفس والشهادة عليها بلزوم التقيد به وبسنته مع بيانه وظهوره.
وإذ جاءت الآية السابقة بفردين من الميثاق هما:
الأول : عدم إشاعة القتل بين بني إسرائيل.
الثاني : الإمتناع عن إخراج فريق منهم من ديارهم.
جاءت هذه الآية بنقض فردي الميثاق على وجوه:
الأول : قتل بعضهم بعضاً، وقيام بعضهم بقتل الأنبياء الذين يدعونهم إلى طاعة الله، قال تعالى[قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني : إخراج فريق منهم من أرضهم وديارهم، والتذكير بنقض الميثاق دعوة لإجتناب الجحود بآيات الله.
الثالث : بيان كيفية وموضوع هذا الإخراج، وما له من السبب الذي لا يصلح أن يكون علة تامة، والتعاون على إخراجهم من المناجاة بالباطل ونقض الميثاق، وفيه ذنب وإثم إضافي ظاهر، وحجة عليهم لأن الإخراج لم يحدث عن لبس وترديد وخلط في المفاهيم بل جاء بالتعاون بين جماعة منهم على الظلم والتعدي.
الرابع : مفاداة من يأتي أسيراً من قومهم، ومن باب الأولوية القطعية عدم قتلهم أو إخراجهم من الديار.
الخامس : مجئ الآية بالذم على تبعيض الإيمان بآيات الكتاب، وتوكيد حرمته، لأن فداء الأسرى اليهود من أيدي الأوس والخزرج يأتي عملاً بالتوراة بإعتبار أن الأوس والخزرج قبل الإسلام أهل شرك ويعبدون الأوثان فلا يصح بقاء الأسرى عندهم، مع أنهم يقاتلون إلى جانبهم عملاً بالحلف الذي معهم.
وكما جاءت خاتمة الآية السابقة ببيان إقرار بني إسرائيل بالميثاق وشهادتهم عليه، جاءت خاتمة هذه الآية بذكر العقاب الأليم الذي ينتظر الذين ينقضون الميثاق.
ومن إعجاز الآية أن الذم جاء بصيغة الخطاب ولكن ذكر العقاب جاء بصيغة القاعدة الكلية لبيان حقيقة وهي عدم إنحصار العذاب الأليم بجيل مخصوص، بل هو حكم عام يشمل كل من ينقض الميثاق والعهد الذي أخذه الله عز وجل عليهم، وأن مخالفة الميثاق وتبعيض الإيمان والجحود بشطر من الكتاب من الكبائر، ويلحق أصحابه الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، ومضامين هذه الآية حجة عليهم، وشاهد على ما يلحقهم من الخزي والفضح والذم.
ومن إعجازها عودتها في الخاتمة إلى لغة الخطاب مع تضمنها الإنذار والوعيد والتخويف والزجر عن نقض الميثاق وما فيه من القبح الذاتي والغيري ، وما يترتب عليه من الضرر والإضرار بالنفس في الدنيا والآخرة بلحاظ أنه من الكبائر، وتتفرع عنه قبائح عديدة منها الصدود عن دعوة الحق التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا]( ).
لقد جاء القرآن رحمة بالناس جميعاً، ومنهم الذين نقضوا المواثيق من الأمم السالفة ببيان قبح الفعل الذي إرتكبوه بلغة الوعيد والتخويف عليه وهذا البيان من فضل الله، والشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه من الإنذارات التي جاء بها، وما من نبي إلا وهو مبشر ونذير، قال تعالى [إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ]( ).
ولما جاءت الآية السابقة بصيغة الجمع، وأخذ الله عز وجل الميثاق على عموم بني إسرائيل، جاءت هذه الآية لتدل بالدلالة التضمنية على وقوع القتل والإخراج من الديار على فريق منهم، فيحتمل أموراً:
الأول : حدوث نقض الميثاق من فريق منهم،وهم الذين يسفكون الدماء، ويخرجون غيرهم من الديار , ولا ينحصر موضوع الخروج من الديار بذاته، بل يشمل ما يترتب عليه من ترك المساكن والتجارات والزراعات والعروض التي لا يمكن نقلها وحملها.
الثاني : مع وقوع النقض من فريق منهم إلا أنهم جميعاً إستحقوا الذم لأنهم نسوه ولم يتناجوا بالبر والإحسان وتعاهد الميثاق، والتقيد بأحكامه وسننه.
الثالث : الذين تعرضوا للقتل والإخراج ممن نقض الميثاق، كما لو حصل الإمتثال بينهم، وطرد القوي الضعيف من الديار، فلو كان الذين أخرجوا قادرين على إخراج إخوانهم لفعلوا.
الرابع : إشتراك الجميع بالإقتتال والقتل، وتعدد الإخراج، وكأنه من الكر والفر، وقيام الحجة عليهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وفيه حجة وتنبيه، وتحذير من الظلم والتعدي وسفك الدماء ليدل في مفهومه على نهي بني إسرائيل من قتال النبي محمد صلى الله عليه وآلله وسلم والمسلمين، وزجرهم عن إعانة المشركين في قتالهم مع المسلمين، وقد حدثت مصاديق من تلك الإعانة، وفتك المسلمين ببعض رؤوس الفتنة كما في تحريف كعب بن الأشرف لقريش إلى أن قتلته الآوس، وعداوة وتحريض سلام بن أبي الحقيق على رسول الله (فاستأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قتله، وهو بخيبر فأذن لهم) ( ).
التفسير
جاءت الآية الكريمة لبيان حال فريق من بني إسرائيل وإعراضهم عن الميثاق والعهود التي قطعوها على أنفسهم، والآية حجة عليهم وهي من إعجاز القرآن لما فيها من التحدي والفضح لهم ولأعمالهم، وبامكانهم أن ينكروا ما فيها ويقولوا بعدم إتيانهم تلك الأعمال لولا أن تقام عليهم الحجة ويثبت البرهان الحسي الملموس والوقائع والشواهد وان كان مجرد نطق القرآن بها هو حجة وبينة وشاهد صدق قاطع اليقين.
قوله تعالى[ثم انتم هؤلاء]
جاء اسم الإشارة (هؤلاء) للبعيد مع ضمير الخطاب أنتم لوجوه:
الأول : تمييزهم والتوكيد على شمول الموجودين أيام نزول القرآن بالخطاب وبالإشارة المحسوسة.
الثاني : جعل نقضهم للميثاق في الأزمنة المتعاقبة وكأنه أمر محسوس مشاهد.
الثالث : الإتيان باسم الإشارة للبعيد مع ضمير المخاطب يدل بضميمة القرائن الحالية والمقالية على توالي نقض الميثاق من أجيالهم وأنه لا ينحصر بالموجودين أيام النزول، كما أن عدم ظهور مصاديق النقض على افعالهم في مدة معينة لا يعني أنهم لم يتخذوه منهجاً.
الرابع : قد يستعمل اسم الإشارة بلفظ القريب وقد يستعمل للبعيد، ويقال (قاتل الله الأبعد) كناية عن الحاق البلاء والعقاب بالأبعد وذماً وإزدراء.
وفي المقام جاء اسم الإشارة للبعيد للدلالة على الإنحدار والإبتعاد عن مقام الميثاق والعهد.
لقد جاء ذمهم صريحاً بمخالفتهم للميثاق وما قطعوه على أنفسهم من العهود وأنهم تجرأوا على الدماء بقتلهم بعض إخوانهم مع ما للدماء من حرمة، وما تقدم في قصة البقرة وحرص موسى عليه السلام وبني إسرائيل على فضح القاتل ، وورد في التنزيل[وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( ).
وكما أن للآية منطوقاً ظاهراً فإن لها مفهوماً يؤكد أنهم سعوا بأيديهم إلى الضعف والتفرقة والنقص والوهن وغياب القوة والرجال لاسيما وأن إكرامهم كافة ينحل إلى الأفراد فليس بالضرورة أن القاتل أشرف من المقتول، والقتل بغير الحق من أسوء مراتب الظلم والتعدي، وفيها أيضاً أن قتل النفس يجعل الطائفة غير مؤهلة لخلافة الأرض التي تستلزم التقوى والورع والتقيد بالميثاق، ولا بد لحملة لواء التوحيد من السعي والإجتهاد والجهاد في سبيل الله، ونبذ خلافاتهم وما فيه الفرقة والضعف.
لذا فإن الآية تنبيه للمسلمين، وحث لهم على الحرص والإلتفات الى عدم التفريط بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجعل خلافتهم في الأرض مستديمة، والشواهد في التأريخ الإسلامي كثيرة، ومنها صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وأهل البيت عليهم السلام وتحملهم لمسؤولية غايات سامية تتعلق برفعة الإسلام ودفع أو رفع أسباب الفرقة والتشتت وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس : قد يكون إجتماع ضمير المخاطب مع اسم الإشارة بلحاظ وحدة الموضوع في تنقيح المناط، أي أن الحاضر والمخاطب بالمعنى الأعم إشتركا معاً في نقض الميثاق والإنحراف في السلوك والسيرة عنه وأنه أصبح سنة عامة متوارثة في أجيالهم فقامت الحجة عليهم.
والآية ذم وتوكيد سماوي على مخالفة فريق منهم للعهد وسعيهم الى إتلاف نفوسهم وهي مادة الدعوة إلى الله، ومما يثبت قتلهم بعضهم لبعض ما تقدم في قوله تعالى [وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا..]( )، وهناك ما يدل على تفشي القتل بينهم في فترة بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن غير سبب خاص يتعلق بهم، فقد كانت في يثرب مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم طائفة منهم حلفاء للخزرج وهم بنو قينقاع، وطائفة حلفاء الأوس وهم بنو النضير وقريظة.
وكانت النضير حلفاء الأوس، وقريظة حلفاء الخزرج , وقيل بالعكس فاذا قامت حرب بين الأوس والخزرج خرجت بنو النضير مع الأوس، وخرجت قريظة مع الخزرج لينصر كل منهم حلفاءه على أعدائهم وإن كان معهم أخوته فيسفك بعض اليهود دم بعضهم الآخر، وبعد أن تنتهي الحرب يفتدي كل منهم من أسر من أصحابهم، وربما إفتدى بنو قريظة مثلاً من كان في أيدي بني النضير أوبالعكس.
وقال السدي : كان ناس من اليهود أسلموا وأبى بعضهم وكانت قريضة والنضير في الجاهلية إذا قتل رجل من بني قريضة رجلاً من بني النضير قتل به وأخذ ديته مائة وسق تمر وإذا قتل رجل من بني النضير رجلاً من قريضة لم يقتل به وأعطى ديته ستّين وسقاً من تمر وكانت النضير وهم حلفاء الأوس أكثر وأشرف من قريضة وهم حلفاء الخزرج.
فلما جاء الله بالإسلام وهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة. قتل رجل من بني النضير رجلاً من قريضة فاختصموا في ذلك.
فقالت بنو النضير: قد كنا وأنتم اصطلحنا في الجاهلية على أن نقتل منكم ولا تقتلون منا، وقالت الخزرج: هذا شيء كنتم قلتموه في الجاهلية لأنكم كثرتم وقللنا، فقهرتمونا ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا ودينكم واحد وليس لكم علينا فضل، وقالت بنو النضير : لا بل نحن على ما كنا.
فقال المنافقون منهم: انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي ومالك بن خزيمة، وقال المسلمون من الفريقين: لا بل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأبى المنافقون فانطلقوا إلى أبي بردة ليحكم بينهم.
فقال: أعظموا اللقمة يعني الرشوة فقالوا: لك عشرة أوسق قال: لا. بل مائة وسق ديتي فاني أخاف إن نصرت النضيري قتلتني قريظة أو أنصر قريظة قتلتني النضير، فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل قوله : {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى} وقوله {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كاهن) اسلم ( إلى الإسلام فأتى وانصرف فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإبنيه: أدركا أباكما فإنّه إن جاوز عقبة كذا لم يسلم أبداً فأدركاه فلم يزالا به حتى انصرف وأسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم منادياً ينادي ذلك الكاهن أسلم قد أسلم( ).
وقيل هناك فرق بين تفدوهم وتفادوهم بأن تفدوهم إفتكاك بمال وتفادوهم هو إفتكاك الأسرى بالأسرى، وإنه إذا أسر الرجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه.
فعيرتهم العرب وقالوا كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم.
فيقولون أمرنا أن نفديهم، وحرّم علينا قتالهم، ولكنا نستحي ان نذل حلفاءنا)( ).
والظاهر ان الذم تعلق بما يقومون به من القتال والفداء ومن معاني (تفادوهم) في المقام وجوه:
الأول : كيف تأخذون على إخوتكم فداء حتى تطلقوهم من الأسر.
الثاني : إرادة معنى المفاعلة والإشتراك في(تفادوهم) بأن يسعى الجميع في الفداء وجمع الأموال له.
وأصل الفعل كله محرم عليكم وهو المظاهرة عليهم بالإثم وإعانة الشرك، ولعل في الآية توبيخاً للرؤساء الذين يُخرجون قومهم في غير مرضاة الله، كما أن خروجهم معهم لا يجوز وهو أمارة على إعراضهم عن التوراة وما فيها.
وفي المقام هناك نعمة على بني إسرائيل بأن كانت يثرب مهجر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومحل نزول الآيات، وهو من مصاديق البركة والرحمة في بعثة النبي محمد واليهود حلفاء الأوس والخزرج الذين كانوا يتقاتلون فيما بينهم قد أسلموا وأحسنوا إسلامهم الأمر الذي يعتبر مناسبة كريمة أن يقتدي بهم حلفاؤهم من اليهود.
وفي الآية إشارة إلى إتحاد بني إسرائيل من حيث النسب والملة و بما يميزهم عن غيرهم، والأقرب أن المقصود هو قتل بعضهم بعضاً مما يدل على أن ظهور القتل بينهم باب لإستئصالهم من الأرض لما في القتل من النقص في الرجال والضعف في القوة والقدرة، والعجز عن مواجهة الأعداء، أي أنهم بمخالفتهم للميثاق لم يضروا أنفسهم فقط ولكنهم يسيئون لعقيدة التوحيد في الأرض لتعلق حفظها أو شطر منها آنذاك بهم أمة وشريعة, فكانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة مباركة لحفظ سنن التوحيد وصيغ العبادة.
والله عز وجل هو الواسع الكريم أبى إلا أن يتم نوره ويجعل كلمته هي العليا في الأرض فلذا جاء الإسلام ضرورة وحاجة إنسانية ورحمة متجددة لأجيال البشر .
بحث أصولي
الفهم لغة المعرفة وضد الغباوة، وفي حديث يتعلق بمدح الاسلام: جعله”فَهْما لِمَنْ عَقَل”( )، وللمفهوم في الإصطلاح عدة معان.
الأول: إنه مدلول اللفظ سواء كان حقيقياً أو مجازياً.
الثاني: ما يقابل المصداق أي ما يفهم من اللفظ وان لم يكن المفهوم مدلولاً له، والمدلول هو ما يدل عليه الدليل أو أنه ما يتحقق من العلم والمطلوب، وهذا المعنى أعم من الأول.
الثالث: في مقابل المنطوق ويختص بالجمل التركيبية إنشائية كانت أو إخبارية فليس للمفرد مدلول.
أما في علم المنطق فإن المفهوم يعني الصورة الذهنية المنتزعة من حقيقة الشيء التي تمثل “المصداق” وقد يشمل المصداق ما ينطبق عليه المفهوم، وإن كان أمراً عدمياً لم يكن له وجود خارجي.
والمفهوم قد يكون جزئياً كما في الصورة الذهنية لشخص ما الذي هو مصداق خارجي حقيقي، وقد يكون مفهوماً كلياً كالإنسان.
فهل الموجودون من اليهود من بني إسرائيل يشملهم منطوق الخطاب، أم يشملهم بالمفهوم وفق المعنى الأصولي الثابت المتقدم، أم أنه لا يشملهم وأن الميثاق أخذ من غيرهم .
الأقوى هو شمولهم بالمنطوق والمفهوم المساوق له بإعتبار أنهم من أهل الميثاق، وممن أخبر عن الميثاق بالواسطة بتوارث التوراة وكذا بنزول القرآن.
وينقسم المفهوم في علم الأصول إلى المفهوم الموافق والمخالف، لذا فالآية تنبيه ولوم ودعوة للتدارك، وهي أيضاً برهان على إستحقاق المسلمين لحمل لواء التوحيد بعد إعراض أتباع الأنبياء السابقين، وهو من وجوه فوز المسلمين بمرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لأن وجود أمة تتعاهد التوحيد وتحمل لواءه من أسباب إستدامة الحياة على الأرض فنزول البركات في زمانها عليها وعلى الناس جميعاً.
وهل آية البحث وما فيها من البيان والوثائق والتحذير والإنذار من هذه البركات، الجواب نعم، فليس من حصر لمواضيع وأفراد البركة التي جاءت في القرآن وهي توليدية ومتجددة ومن اللامتناهي، وهو من فضل الله، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
ومن وجوه الشكر لله في المقام التقيد بأحكام المواثيق الإلهية، ونبذ الجحود والضلالة.
بحث تأريخي
مع ما في موضوع الميثاق من الدروس، ووجوه الحجة فانه يبين ما لبني إسرائيل من الشأن في تأريخ الملل وأمم التوحيد، ولكن ذلك لا يعني إنفرادهم بالميثاق أو تمسكهم به، فما كان تشريفاً في أوانه فانه حجة وإنذار عند نزول القرآن.
ترى من المخاطب في الآية الكريمة:
الأول : الذين صاحبوا موسى عليه السلام وعاصروا أيام نبوته، باعتبار أن الخطاب إستغراقي يشمل أبناءهم من بعدهم بما ورثوا عنهم من التوراة وأحكام النبوة.
الثاني : علماء بني إسرائيل في الأزمان المتلاحقة من أيام موسى عليه السلام إلى نزول القرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن خلالهم إلى أتباعهم وأهل ملتهم.
الثالث : بنو إسرائيل وهم في عالم الذر.
الرابع : الأسلاف والأبناء معاً بعرض واحد، وأن كلاً منهم قد أخذ عليه الميثاق.
ولا تعارض بين هذه الوجوه المحتملة فانها تصلح للإنطباق على المقام وتفيد صدق تحقق الميثاق من اليهود.
الخامس : إنه للآباء، وفيه تحذير للأبناء وتقديره: وإذ أخذنا ميثاق آباءكم ولكنكم تخالفونه.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، مع خروج من تقيد بالمواثيق بالتخصص من صيغة اللوم، كما في قوله تعالى[وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ]( ).
قوله تعالى [تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ]
لقد عقد الميثاق على عدم سفك الدماء، أما هذه الآية فأخبرت عن حصول القتل وزهق الأرواح أي لم يقفوا عند حدود الخصومة وجرح بعضهم لبعضهم الآخر، والقتل أقسى أنواع المواجهة، كما تبين الآية ان هذا القتل ظلم وتعد، وليس هو قتلاً بالحق، لأن الآية تبين نقضهم للمواثيق، والقتل بالحق كالقصاص وإقامة الحد ليس نقضاً للميثاق.
لقد نهت الآية عن أي نوع من أنواع الجرح والإقتتال وسفك الدماء ولكنهم تجرأوا وبلغوا أقصى مراتب التعدي ونقض الميثاق باشاعة القتل وليس الخصومة المسلحة وحدها، وجاءت الآية بصيغة الجمع مما يدل على تعدد القتل بينهم.
وجاءت الآيات السابقة بذكر بني اسرائيل بلفظ الأنفس وبصيغة الذم منها:
الأول : نسيان الذات مع أمر الناس بالبر والصلاح ، لقوله تعالى[تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ]( ).
الثاني : ظلمهم لأنفسهم باتخاذهم العجل.
أما هذه الآية فقد جاءت بالإخبار عن حصول القتل بينهم، وهذا القتل قبيح دائماً بالإضافة إلى مخالفته للميثاق والعهد الذي قطعوه على أنفسهم.
وتبين الآية سراً من أسرار التفضيل الإلهي لأمة أو ملة، وقيداً للتفضيل، وهو عدم إشاعة القتل بينهم، وفعلاً ليس من أمة تتقاتل بينها إلا دبّ الضعف فيها، وتمكن العدو من النفاذ إليها أو قهرها والإستيلاء عليها.
وفي الآية تحذير للمسلمين من الإقتتال فيما بينهم، ودعوة للإعتبار من الأمم السالفة، وسبيل إجتناب الإقتتال هو الإمتثال لأحكام الشريعة والتقيد بما جاء به رسول  صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله تعالى.
وتبين الآية حرمة القتل وأن بني إسرائيل أقدموا على فعل الحرام , وهو أشد وجوه نقض الميثاق، قال تعالى[وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا]( )، وكأن الولاية هنا بالإسلام وذم القرآن للقاتل منهم.
لقد جاء القتل لذات الأنفس وكأنه نوع إنتحار مما يدل على حقيقة وهي أن القتل يضر بهم جميعاً وكأن القاتل يقتل نفسه سواء للخسارة في فقد المقتول، أو للعذاب الذي ينتظر القاتل بسبب جنايته ونقضه للميثاق،أو لهما معاً وهو الأرجح.
قوله تعالى [وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ]
هذا هو الوجه الثاني الذي ذكره القرآن لنقضهم الميثاق، وهل جاء ذكر وجوه النقض في الآية من باب الحصر أو الحجة والمثال، الجواب هو الثاني وبالإمكان إستقراء وجوه أخرى من نقض الميثاق منها عدم التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أن موسى عليه السلام جاء بالبشارة بها، وفي عيسى عليه السلام ورد قوله تعالى[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
وقدم القتل على الإخراج في الآية، فهل في الآية ترتيب وأن القتل حصل قبل الإخراج على نحو الترتيب الزماني او الفعلي، أو أن العطف جاء لتقديم الأهم على المهم في أفراد النقض وأن القتل أخطر وأكبر جرماً من الإخراج لذا جاء تقديمه.
الأقوى هو الأول، خصوصاً مع قرينة وهي عدم ترك الديار إلا عند الإكراه والقتل أقسى صيغ الإكراه والضرر، وجاءت شكوى الملائكة عند إخبار الله عز وجل لها بجعل الإنسان خليفة في الأرض، بتقديم الفساد بما ورد في التنزيل[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
وقد بدأت الآية بذكر القتل مما يدل على التجرأ على ما هو دونه أو أقل منه من باب الأولوية القطعية، فمن يقدم على قتل أخيه فكأنه قتل نفسه، وفيه إضعاف للجماعة والملة، فلا يتردد فيما هو دون القتل من وجوه التعدي إلا مع القرينة الصارفة.
وفي الآية إخبار عن إصابة بني إسرائيل بالوهن والضعف , لأن قوتهم تفرعت الى شعبتين:
الأولى : تبددت بالإقتتال بينهم، وتلفت أنفسهم أي أصابت الخسارة القاتل والمقتول.
الثانية : ما بقي من القوة النوعية العامة لهم وظف في طرد وإخراج فريق منهم من أرضهم، وهذه أيضاً خسارة فادحة للطرفين لأن الفريق الذي قام بإخراج غيره، فقد عضداً وعوناً وإخواناً.
أما الثاني فقد التجأ إلى الغير ليعيش في حالة مسكنة وضعف، ويختار الأعمال والمكاسب الأدنى لسد الحاجة، أو أنه ينشغل بالإعداد للعودة بالقوة، وفيه أيضاً ضعف له ولمن أخرجه من إخوانه.
وفي الآية لوم مركب لبني إسرائيل من وجوه:
الأول: نقض الميثاق وعدم الوفاء بالعهد بخصوص مسألة الملكية الخاصة، وحق كل سبط وجماعة بالبقاء في أرضهم وبيوتهم وديارهم.
الثاني: التعدي على الغير من الإخوان.
الثالث: إخراجهم من ديارهم بغير حق.
وتبين الآية أهمية الملك الشخصي، والبقاء في الأرض والديار، وتحذر من التهجير الجماعي على أساس قبلي أو عرقي أو عشائري، لما فيه من الظلم والأذى، وما يسببه من الأحقاد والضغائن، وتجدد القتال .
وتبين حاجة الناس إلى الإيمان، ليكون عنواناً للتآخي , ووسيلة لنشر معاني الود والمحبة بينهم، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
قوله تعالى[تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]
أي تتحدون وتتعاونون على إخراج إخوانكم بصيغ الظلم والتعدي وما هو حرام شرعاً وعقلاً وفيه ذم لهم لنصرتهم للظالمين وأهل الشرك وأنه معصية وظلم، فكل منهم كان يعبد الأوثان فيعتبر تأييدهم إعانة للباطل وتقوية لأهل الشرك والكفر ونصرة لهم على إخوانهم من اليهود من غير حق.
فجاء القرآن ذكرى وموعظة وبرهان حق وحجة قاطعة تُشهد الناس جميعاً على سوء فعل فريق من بني إسرائيل ومقابلتهم للنعم بالجحود وإستحقاقهم العذاب بما فعلت أيديهم أو على الأقل ثبوت عدم أهليتهم لحفظ شريعة موسى عليه السلام، وليس من أحد غيرهم يسعى لحفظها وصيانتها لتشرق الأرض بنور الإسلام رحمة للناس جميعاً، وفيه حفظ للتنزيل والكتب السماوية، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ونقل القرطبي قولاً بأن الآية تضمنت وجوب فك الأسرى (أي أسرى المسلمين عند الأعداء) ( ).
ولكن الآية لا تدل على هذا الوجوب لا نصاً ولا ظاهراً، وردت النصوص بقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفك الأسرى وأمر بفكهم وعليه سيرة المسلمين، ويكون فكهم من بيت المال وإلا فهو واجب كفائي ويجوز ان يكون من الزكاة سهم في سبيل الله، ويمكن استقراؤه من بعض الآيات القرآنية من مثل قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، وقوله تعالى[وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]( )، وإن كان موضوع نزوله خاصاً ويتعلق بأهل البيت عليهم السلام ولكن بتقريب ان إطعام الأسير من الأعداء هنا حث على ما هو أعم.
ويدل وفق مفهوم المخالفة على لزوم العناية بالأسير المسلم ببذل الوسع لفكه من الأسر، ويحتمل هذا السعي وجوها:
الأول: إنه من الجهاد في سبيل الله بالمعنى الأعم، بالمال أو بالمال والبدن.
الثاني: إنه ليس من الجهاد في سبيل الله، ولكنه يدخل في عمومات الأمر بالمعروف , قال تعالى[أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ]( ).
الثالث: التفصيل، فمن السعي لفك الأسرى ما يكون جهاداً.
والصحيح هو الأول، لما في فك أسرى المسلمين من العز ورفع الغبن، ودفع الضرر عنهم، وبعث للعزم على القتال في نفوس المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وتنزل الآية في موضوع وسبب ولكن أحكامها باقية إلى يوم القيامة، وتتضمن الآية التوبيخ للذين يظاهرون ويعينون العدو على إخوانهم وأبناء ملتهم، مما يدل على تضمن الميثاق لزوم حسن الصلات بين بني إسرائيل.
وتؤكد الآية صبغة هذه المعاونة وانها باطلة موضوعاً وكيفية وحكماً بدليل انها مصداق للإثم وتتضمن المشاركة في الإعتداء عليهم.
وجاءت هذه الآية لإقامة الحجة عليهم، وأنهم قاصرون عن القيام بوظائف حفظ مبادئ التوحيد بين جماعتهم و  يريد أمة قوية تتعاهد التوحيد في الأرض.
وفي الآية إعجاز من وجوه :
الأول: الآية جواب على سؤال بني إسرائيل عن بعثة رسول من غيرهم.
الثاني: تدعو الآية إلى الألفة والإتحاد بين بني إسرائيل، والتدارك بمنع الفرقة والإقتتال بينهم، ومع محاربتهم للنبي والمسلمين فان الآية تحثهم على نبذ الفرقة فيما بينهم .
وليس في مفاهيم وسنن الملوك والسلاطين والحكومات دعوة العدو إلى إصلاح الشأن والإتحاد وطرد الخصومة، مما يدل على أن القرآن كتاب سماوي يدعو إلى الأخلاق الحميدة والقيم والمعارف الإلهية ولأن نبذ الفرقة بين أهل الكتاب مناسبة لإستحضار البشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتخاذها طريقاً للتدبر في المعجزات التي جاء بها وإتخاذ تلك المعجزات طريقاً ومقدمة لإستحضار تلك البشارات والإمتناع عن إنكارها .
وهل يستلزم الدور في المقام بلحاظ أن كلاً من المعجزات والبشارات تكون طريقاً ومقدمة للآخرة الجواب لا، للتباين الموضوعي، ولإمكان تعدد الوسائل والطرق للغاية المتحدة، فتكون تلك البشارات والمعجزات مجتمعة ومتفرقة بلغة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه، قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
الثالث : تنهى الآية عن الإعتداء مطلقاً، وخصوصاً بين أبناء الملة والإخوان.
الرابع : لقد إصطفى  آل إبراهيم وبنو إسرائيل منهم، ومن مصاديق الإصطفاء منعهم عن مواصلة التعدي والإثم وإقتراف الذنوب قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( ).
الخامس: تمنع الآية من مظاهرة المشركين في الإعتداء على المسلمين ومحاربة القرآن، لأن الآية جاءت بذم الإثم والعدوان مطلقاً والمظاهرة والنصرة بغير حق.
قوله تعالى [وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ]
في الآية إعجاز وهو وصف حال الأسرى بأنهم (أتوا) بصيغة الفاعل وقد جاء موضوع الأسرى في القرآن بلغة الأخذ والقهر كما هو الواقع إذ أن المحارب لا يقع في الأسر إلا عند العجز عن الدفاع أو عند الفرار، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى]( )، وقوله تعالى [مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ]( ).
أما هذه الآية فأخبرت بأن الأسرى هم الذين يأتون، وفيه وجوه:
الأول : إنهم لا يريدون القتال، ويختارون الأسر.
الثاني : يرجعون إلى ديارهم فيؤخذون أسرى ظلماً وعدواناً.
الثالث : يفرون من الظلم خارج ديارهم ومساكنهم، ويرجعون مفضلين الوقوع في الأسر عند إخوانهم وهذا بعيد لأن الآية ذكرت قيام المخاطبين بالفداء وأن الآخرين متلبسون بالأسر حال مجيئهم.
الرابع : ما ورد في موضوع النزول، وهو مفاداتهم عندما يكونون أسرى عند غيرهم، أي أنهم يقتلون فريقاً منهم ويخرجونهم من ديارهم ولكن إن رجعوا إليهم أسرى عند الأعداء، أفتدوهم وأبوا تركهم أسارى عند المشركين.
فجاءت الآية لفضح هذا التباين في فعلهم أزاءهم، فانتم الذين أخرجتموهم من ديارهم فكيف تفادوهم إذا جاءوا أسرى، فالأولى عدم إخراجهم من ديارهم ولا التعدي عليهم.
وإن قالوا إن تركهم أسرى عند العدو حرام، فمن باب أولى عدم قتلهم وإيذائهم، كما أن المظاهرة عليهم سبب في وقوعهم أسرى، فعندما تنصرون العدو عليهم وتكشفون له ثغرات وعيوب إخوانكم، فإنكم سبب في وقوعهم في الأسر، ومع هذا تفادونهم وتدفعون الأموال لفكهم من الأسر والسجن.
قوله تعالى [وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ]
ذكرت الآية حرمة الإخراج، ولم تذكر حرمة الأسر، لتدل على وقوعهم أسرى عند غيرهم، وجاء النهي عن المساهمة في مقدمات الأسر بالمظاهرة على الفرق الأخرى من بني إسرائيل.
وتدل الآية في موضوعها على وقوع الفرقة والخصومة الشديدة بين بني إسرائيل، وعدم إمكان حصول الوئام والصلح بينهم فضلاً عن تعذر الإنتفاع النوعي العام منهم في نشر مبادئ التوحيد.
وتمنع الآية من تعليل وتأويل الإخراج، أو إضفاء صبغة شرعية عليه، كما لو إدعوا بأن الذين أُخرجوا أفسدوا في الأرض، أو إبتدأوا العدوان أو جحدوا بالتوحيد والرسالة ونحوها.
فجاءت الآية صريحة بحرمة الإخراج مما يدل على عدم وجود أي مسوغ شرعي لإخراجهم، وأنه قبيح ذاتاً وحكماً، وخلاف مضامين الميثاق والعهد الذي قطعه بنو إسرائيل على أنفسهم.
لقد إعتبرت الآية السابقة قيامهم بإخراج طائفة منهم بأنه إخراج لهم جميعاً لأنه ظلم وتعد وباب لإستيلاء العدو حيث كان الكفار يحيطون بأهل الكتاب .
ولكن  تفضل ببعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليحافظ على كلمة التوحيد ومبادئ الإسلام في الأرض، وينجو المسلمون والمصدقون بالرسالات من تعدي الكفار، قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
وهل كان الذين أُخرجوا مؤمنين، وأن الإيمان علة وسبب للأذى والطرد من الديار.
الجواب لم يثبت هذا الإحتمال، خصوصاً وأن الآية قالت [وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ] والجار والمجرور (منكم) يفيد التبعيض والجزئية من الذات والجماعة والأمة الواحدة، وهو أعم من إرادة النسب والملة ولكنه القدر المتيقن من الآية كما أن أسباب النزول تتعلق بالأيام السابقة للإسلام لبيان الحاجة اليه.
ويحتمل الضمير الكاف في(يأتوكم) وجوهاً:
الأول : إرادة الذين يُخرجون من ديارهم فيقوم الأقوياء من بني إسرائيل بطردهم من الديار وإعانة الظالمين عليهم، ولكن حينما يقعون في الأسر، يسعون لفكهم في الأسر.
الثاني : إرادة العموم وعدم حصر الأمر بمن يُطردون من ديارهم، وتقدير الآية : وإن يأتوكم من بني إسرائيل أسارى عند غيرهم فإنكم تفادوهم.
الثالث: إن طرد فريق من بني إسرائيل عن أرضهم وديارهم ضعف ووهن لهم ويؤدي إلى الوقوع في الأسر فيقوم بنو إسرائيل بفكهم من الأسر، في الوقت الذين كانوا هم السبب في أسرهم للتخلية بينهم وبين أعدائهم.

قوله تعالى [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ]
ذم وتوبيخ في موضوع عقائدي ترتكز عليه إستدامة الحياة على الأرض بلزوم الإيمان بالكتاب كله، لقد أراد الله عز وجل إتباع الناس للأنبياء والعمل بمضامين التنزيل وأحكامه على نحو العموم المجموعي وعدم التفريط بها، أوترك شطر منها، قال تعالى[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ]( )، وهذا الإيمان فاز به المسلمون من بين أهل الأرض، بتصديقهم بالكتب السماوية المنزلة، وعملهم بأحكام القرآن، وتنزههم عن تحريف كلماته وآياته.
(ورد في الآية ان اخراجهم كفر، وفداءهم إيمان ونسب إلى ابن عباس وقال به قتادة وابن جريج)( ).
ولكن الآية أعم وتتعدى مضمون ما ورد في صدرها إذ أن فيها تعريضاً بهم على تبعيض وتجزئة الإيمان من جهة المتعلق فيصدقون بما يلائمهم من الشريعة ويجحدون بشطر منها، خصوصاً وأن الإيمان إعتقاد، وهو أعم من الفعل.
بحث بلاغي
في باب المجاز ذكرت هذه الآية كمصداق لإيقاع السبب وإرادة المسبب، وأن المراد من الآية (أفتعملون ببعض التوراة وهو فداء الأسارى وتتركون العمل ببعض وهو قتل إخوانكم وإخراجهم من ديارهم)( ).
ولكنه تقييد من غير مقيد اذ ان الكلام العربي مطلقاً يحمل على الحقيقة، ولو دار الأمر بين الحقيقة والمجاز تقدم أصالة الحقيقة، وعليه سيرة العقلاء ايضاً، وهو أمر ممكن في هذه الآية بل هو الأولى، فالتوبيخ جاء متعلقاً بتبعيضهم الإيمان، لتبين الآية أن المدار على الإيمان، وأن الأفعال تصدر منه، ولإقامة الحجة عليهم وإبطال إعتذارهم وإدعائهم بأنهم يؤمنون بالتوراة أو بنبوة موسى عليه السلام.
لقد أرادت الآية ان تبين لهم ان الإيمان لا يقبل التجزئة كعقيدة وسلوك لإنتفاء المشروط بإنتفاء شرطه.
ولا ننكر وجود المجاز في القرآن بل هو وجه من وجوه إعجازه، ولا عبرة بما ذهب إليه القليل النادر من نفيه مثل داود الظاهري وابن القاص وأبي مسلم الأصبهاني وإدعوا أن العدول إلى المجاز من العجز، فالمتكلم إذا ضاقت به الحقيقة يستعير، فالله لا تستعصي عليه مسألة، وهو سبحانه[عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
فالإستعارة آية إعجازية وحجة على العرب وكنز من كنوز القرآن، وباب للعلم مفتوح حتى يوم القيامة، ولم يستظهر منه حتى الآن إلا الشيء القليل.
بحث فلسفي
قسم العلماء النفوس بلحاظ مراتب الكمال إلى:
الأولى : ما كان تاماً في كماله بالفطرة كالعقول المفارقة.
الثانية : غير محتاج إلى أمور زائدة من الخارج لتكميله كالنفوس الفلكية، ونفوس الأنبياء، ومع إكتفائه يحتاج الى التكميل، وبعد الإستكمال قد ترتقي تلك النفوس فتكون من العقول المفارقة.
الثالثة : وهي الناقصة بحسب الفطرة والخلقة وتحتاج إلى مدد خارجي لإعانتها من غيرها فأنعم الله عز وجل بانزال الكتب وبعثة الأنبياء لإزاحة ما يستتر به العقل أو ما يحجبه من مشاغل الدنيا وكدورات الشهوة وظلمات النفس الأمارة.
فالآية الكريمة تدل على أن القرآن آلة الإرتقاء إلى منازل الكمال العقائدي بالإسلام ونبذ الجحود ونقض المواثيق.
وفي الآية إعجاز مركب، ومن وجوه:
الأول : عدم إمكان إنكار التحريف من قبل فريق بإفشاء القتل بينهم، وطرد فريق منهم من ديارهم.
الثاني : الآية نصح وإرشاد لهم لمنع الخصومة والقتال بينهم، وكل المتحاربين أعداء الإسلام فلو لم يكن القرآن من عند الله تعالى لرأيت الرغبة في إستدامة الخلاف بينهم أو السكوت عنه لما في القتال من ضعف للفريقين أو لهم جميعاً وإنشغال عن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الثالث : ما تتضمنه الآية من إنكار لتبعيض الإيمان مدرسة عقائدية تؤكد لزوم قبول الإيمان وعدم تجزئته، وتدعو للعمل بمقتضاه والإلتزام بقواعده على نحو العموم المجموعي وإن تفرعت وتعددت مسائله وميادين أحكامه وأبواب علمه.
الرابع : تؤكد هذه الآية أن القرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رأفة ورحمة لجميع الناس، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الخامس : نبذ الخصومة بينهم مقدمة للتدبر والإعتبار والإلتفات والإستماع إلى آيات القرآن، وما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : من التبعيض العقائدي هذا إيمانهم بنبوة موسى عليه السلام وإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع وحدة الملاك والموضوع وكل منهما ورد في الميثاق إذ جاءت التوراة بالبشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وتدل الآية على عدم جواز التبعيض في أحكام الشريعة إذ أنها مركب متحد من العبادات والمعاملات لا يقبل التفريط وإن كان على نحو السالبة الكلية، كما أن المركب يفوت بفوات بعض أجزائه، ولا إعتبار للأهواء ولا موضوعية لها في الأخذ بالأحكام.
وفي الآية دعوة وتنبيه للمسلمين بعدم التفريط بأحكام وفرائض الإسلام وأن عليهم إدراك الملازمة بين الإسلام وأحكامه وفرائضه وحدوده، لذا عرّف الإيمان بأنه التصديق بالجنان والأركان والجوارح بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل.
قوله تعالى [فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]
الآية إنذار وتوبيخ، لجهة مخصوصة على فعل معين مذموم وفيها إعجاز وتحد ببيان ما يلحقهم كنوع وجماعة وأفراد من المقت والإبعاد ووجوه الذل، ولما كان نقضهم الواقعي للميثاق تدريجياً ومستوعباً لشطر كبير من جماعتهم خلال الأزمان والأماكن المختلفة فلابد أن الخزي لحقهم في الحياة الدنيا إذ أن الآية جاءت بلغة المضارع التي تعني الثبوت والدوام، وترى مصداق ذلك منذ أيام موسى عليه السلام كما في قوله تعالى [ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ]( ).
وكما أن في الآية إخباراً عما لحق الماضين منهم كذلك فإن فيها وعيداً للموجودين منهم بلحاظ نقضهم للميثاق وتبعيضهم لمصاديق الإيمان وفي أهم أفراده وهو كفرهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إيمانهم بنبوة موسى عليه السلام.
وقد جاء الخزي متناسباً في أثره مع كثرة الآيات التي رافقت البعثة النبوية الشريفة وتكرر الإنذارات، ومن الخزي إخراج بني النضير من ديارهم، وقتل عدد من رجالات بني قريظة وسبي ذراريهم وأخذ المسلمين لخيبر التي قسمت ثلاثة أقسام بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لأنها ذات قرى متعددة فبعضها فتح عنوة وكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم منها الخمس، وبعضها صلحاً بغير قتال فكانت فيئاً خاصاً بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
وأختلف في الخزي الذي لحقهم بما كسبوا من المعصية، فمنهم من قال إنه حكم الله الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القصاص وأخذ القاتل والإنتقام من الظالم للمظلوم، ومنهم من قال إنه الجزية التي يدفعونها وهم صاغرين لقاء بقائهم على دينهم في ذمة الإسلام، وقال قوم إنه إخراج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير من ديارهم، وقتل مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم( ).
وهذه الوجوه مصاديق للآية الكريمة، وهي قاعدة كلية مقترنة بأيامهم السابقة للإسلام للملازمة بينها كحكم وبين المعصية ونقض الميثاق كموضوع، ويتغير الموضوع بالبعثة النبوية بالنسبة بخصوص الأفراد والجماعات التي إعتنقت الإسلام فيتبدل الحكم بالنسبة لهم لتبعيته للموضوع سواء على نحو التخصص أو التخصيص، فكان من وجوه الخزي بالنسبة للكفار للذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن – بالكسر والسكون – في قوله تعالى [منكم] حرف جر له عدة معاني وهو في المقام يفيد التبعيض أي التحريف ونقض الميثاق بالمعصية، وفعل السيئات لم يكن صبغة كل بني إسرائيل، ولعل فيه توكيداً على أن طائفة من بني إسرائيل سينتفعون من الإنذارات والوعيد، كما أن فيه إخباراً عن إسلام شطر منهم وهو ما حصل، وورود الجملة والفعل بصيغة المضارع يدل على تعليق العقاب على الفعل لا على نحو الإطلاق أو العام المجموعي فالمدار يكون على الفعل.
وتدل الآية على عدم إنحصار العقاب بالآخرة بل إن الحياة الدنيا دار للعذاب أو للإبتلاء عقوبة، وإن هذا العقاب لا يكون بالضرورة دفعياً أو ذا صبغة واحدة على كل الأفراد في كل الأزمان والله واسع عليم.
ومن وجوه الخزي ما كتب عليهم من الجزية في الإسلام وان كانت في الأصل رحمة لهم لشمولهم بأحكام الذمة أي أنهم في ذمة الإسلام وأن إختصاصهم بالجزية دون الآخرين من غير المسلمين نوع إكرام نوعي لهم بالمقارنة مع الكفار الوثنيين الذين لا يرضى منهم إلا الإسلام وان كان بقاؤهم على دينهم وجهاً من وجوه التخلف عن الإسلام، قال تعالى[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ]( ).
ويدل التنكير في قوله تعالى [خزي] على الإطلاق وتعدد مصاديق الخزي الحقيقية التي يظهر فيها جلياً ومحسوساً ولكي لا يلوموا إلا أنفسهم عندما يرون الذل والهوان والمشقة تحيط بهم، وكل من أفرادها يلح عليهم بضرورة التدبر والإقلاع عن المعصية.
و(ذلك) اسم إشارة للبعيد، وفي دلالته وجوه:
الأول : محاولة إشاعة القتل في صفوف بني إسرائيل، ومحاربة بعضهم لبعضهم الآخر.
الثاني : الظلم والتعدي بقيامهم بإخراج إخوانهم من المستضعفين أو الخاسرين للقتال سواء جرى القتال بينهم بالذات، او يكونون فيه تابعين لغيرهم من الفرق المتنازعة، كما في قتال الأوس والخزرج قبل الإسلام، ونصرة كل فريق من اليهود لطرف منهما.
الثالث : إعانة الآخرين ضد إخوانهم، وهذه الإعانة بالباطل والإثم وليس بالحق.
الرابع : تبعيض وتجزئة الإيمان، والعمل بأحكام التوراة التي تناسب أحوالهم ومصالحهم، وترك ما يتعارض منها مع أهوائهم.
الخامس : في الآية تذكير بلزوم دخول الإسلام لأن الجحود برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تؤدي إلى الخزي في النشأتين.
وأسمى جزاء هو جزاء الله عز وجل، فالبشارة بالثواب والنعيم تضئ القلوب بمصابيح الإيمان، وتبعث المسلمين إلى التسابق في فعل الخيرات، قال تعالى[وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ] ( )، أما الجزاء بالعذاب على الكفر والظلم ونقض الميثاق فهو برزخ دون التمادي في فعل السيئات، ودعوة سماوية للتوبة والإنابة.
بحث كلامي
في قوله تعالى [إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] مسائل:
الأولى : إنفراد الله عز وجل بالقدرة المطلقة في الدنيا والآخرة.
الثانية : تتضمن الآية قانوناً كلياً وهو أن الخزي والفضح في الدنيا أمر بيد الله، وهو جزاء وعقوبة.
الثالثة : على الناس الإتعاظ وإستحضار ذكر الله في مواطن إصابة بعض الظالمين بالخزي، وهل هذا الخزي خاص بحياة ذات الظالم وأيامه في الدنيا أو يشمل ما بعد حياته.
الجواب هو الثاني، والشواهد عليه جلية وهو ظاهر الآية القرآنية التي ذكرت الدنيا كوعاء زماني للخزي ولو كان على نحو القضية الشخصية ومن مصاديق هذا الخزي مجئ آيات القرآن بذم الذين ينقضون الميثاق، والقرآن باق إلى يوم القيامة بمأمن من يد التحريف والتبديل.
الرابعة : إصابة الكفار بالخزي تذكير بعظيم قدرة الله وأن الحوادث بيد الله عز وجل وتخضع لمشيئته.
الخامسة : لا ينحصر الجزاء بالآخرة، فيشمل الدنيا، ومن الجزاء في الدنيا الخزي للظالم , والذكر الحسن للمتقين.
السادسة : تحذير وإنذار الكفار والفاسقين من فعل السيئات، ونقض الميثاق لتعقب الخزي له في الدنيا.
السابعة : الخزي في الدنيا مقدمة وتذكير بعذاب الآخرة، وهل من ملازمة بينه وبين عذاب الأخروي , الجواب لا، فقد يتوب الإنسان ويتعظ من الخزي فيصلح حاله.
الثامنة : من مصاديق الخزي الذل والهوان.
التاسعة : من إعجاز الآية أنها جاءت بلفظ الخزي وهو أعم من الذل والهزيمة فقد يترتب الخزي عليها، وينقطع سببه، ولكنه أي الخزي باق كأثر.
وجاءت الآية بصيغة المضارع (فما جزاء من يفعل ذلك منكم) وفيه إنذار من تجدد ذات النقض موضوعاَ وحكماً، وهو من الشواهد على أن نزول القرآن رحمة لبني إسرائيل، ودعوة لهم وللناس للصلاح والتقيد بالمواثيق.
والآية دعوة للمسلمين للتوقي من الخزي وأسبابه ومقدماته، وحث لهم للتوجه بالدعاء إلى الله بسؤال السلامة من الخزي، وتتجلى هذه السلامة بالثبات على الإيمان وتعاهد الفرائض، وقد تقدم قبل صفحات( )، تسمية الحياة الدنيا(دار الميثاق).
وهل يمكن تسمية الحياة الدنيا ( دار الخزي) الجواب لا، لأنه لا يلحق إلا فريقاً يصر على المعصية، والدنيا دار الذكر الحسن لأهل الإيمان والتقوى، قال تعالى[لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ]( ).
بحث لغوي
الإستثناء في الإصطلاح إخراج فرد مخصوص من حكم عام في الجملة بأحدى أدوات الإستثناء ومنها (إلا) كما في قوله تعالى [قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ]( )، ويمسي الخارج من الحكم مستثنى، والموضوع العام الذي وقع عليه الإخراج مستثنى منه، ويمكن القول أن الإستثناء نوع عطف يحمل طابع التباين والتناقض، وهو على أقسام ثلاثة:
الأول : الإستثناء المتصل وهو ما يكون فيه المستثنى والمستثنى منه من جنس واحد كما في قوله تعالى [ لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ]( ).
الثاني: الإستثناء المنقطع وهو الذي يكون فيه المستثنى من غير جنس المستثنى منه وكأنه صيغة من صيغ الاستدراك، وتستطيع ان تضع بدل أداة الإستثناء أداة الاستدراك كما في قوله تعالى [ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ]( )، فتقول للبيان والتفصيل والتدارك : فسجدوا لكن إبليس لم يسجد .
وترفع أداة الإستثناء التوهم بأن الإنقطاع بين المستثنى والمستثنى منه تام، بل تشير إلى وجود صلة وترابط ضمنى أو جزئي بينهما.
الثالث: الإستثناء المُفرغ والذي يكون خالياً من المستثنى منه كما في الآية محل البحث [فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] والعامل في هذا الإسلوب من الإستثناء تفرغ بعد أداة الإستثناء لأخذ معموله ولكن هذا لا يعني أن الكلام ناقص أو أنه غير مفيد.
فالآية تدل على إطلاق الجزاء، والحساب يشمل هؤلاء وغيرهم ولكن نوعه بالنسبة للذين نقضوا المواثيق ينحصر بالخزي والعذاب خصوصاً وأن الجزاء هو المكافأة بالمعنى الأعم، وان وجوه الجزاء متعددة ومتباينة وتشمل الدارين الدنيا والآخرة.
قوله تعالى [وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ]
إنذار ووعيد وحجة في بيان ما يستحقه الذين ينقضون العهد والميثاق، وظاهر الآية أن الرد إلى العذاب هنا هو الخلود فيه، وليس كما قالوا بقلة أيام مكثهم في النار , ورد في التنزيل [ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً…]( ).
وللعذاب مراتب عديدة تتفاوت شدة وضعفاً أشدها عذاب يوم القيامة بالقياس إلى عذاب الدنيا، والآية تشير الى عذابهم في الدنيا أيضاً بما يسببه الجحود والعناد من الأذى، أو العقاب الدنيوي على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ولما في عذاب النار من شدة الأذى ولصفة الدوام والخلود فيه إستحق أن ينعت بأشد مراتب العذاب.
وفي الآية نكتة بلاغية وهي الإلتفات , وإنتقال الآية من لغة الخطاب وما فيها من إطلاق التوبيخ إلى لغة الغائب مما يعني عدم عمومه ولكن إتصاله وإستمراره فيه من غير إطلاق، أي أن نقض الميثاق باق على نحو السالبة الجزئية والشطر والمتمثل موضوعاً بالإصرار على الجحود.
ومضامين الإلتفات في القرآن أعم من أن تنحصر بالجانب البلاغي ولها دلالات عقائدية منها في المقام:
الأول : خاتمة الآية قاعدة كلية وحكم شامل لكل من ينقض الميثاق والعهود التي جاءت بها الكتب السماوية.
الثاني : الآية رحمة وتخفيف فالإنذار والوعيد خاص بمن يصر على الإثم ونقض الميثاق وليس لجميع المخاطبين من بني إسرائيل، وفيه دعوة لهم للصلاح والهداية ودخول الإسلام لأنه من أهم مصاديق التقيد بالميثاق الذي جاء به موسى عليه السلام .
الثالث : لقد أثنى الله عز وجل على الذين يؤمنون بنزول القرآن من عند الله وذكر خصالهم الحميدة لطفاً منه تعالى وتثبيتاً لتلك الخصال في نفوسهم والمجتمعات، قال تعالى[الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ]( ).
الرابع : عدم إنحصار الوعيد وسوء العاقبة بالمخاطبين بل يشمل الذين نقضوا الميثاق من المتقدمين والمتأخرين، أي من السابقين لزمان نزول القرآن واللاحقين له.
قوله تعالى[وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ]
فيه مسألة وهي أن المليين يعلمون أن الله عز وجل أحاط بكل شيء علماً وأنه لا يغفل عن أمر , لأن الغفلة عرض من صفات المخلوق الذي قد يترك الشيء وينساه بعد أن ذكره، أما واجب الوجود فإن صفاته عين ذاته، ومن صفات الله أنه عليم فلماذا جاءت هذه الآية.
إنها وعيد وذكرى وموعظة ومصداق من مصاديق قوله تعالى [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ… ]( )، فبالقرآن وآياته يتم تنبيه الناس إلى ما يجب فعله، وتحذيرهم من التمادي في المعصية، وهو مناسبة كريمة لبيان الطريق القويم للنجاة يوم القيامة من العذاب الأليم، بإتخاذ الإسلام عقيدة ومنهاجاً وملاذاً.
نعم هو حجة عليهم إن أبوا الإستماع إلى ما فيه من الإنذارات، أي أن الآية الكريمة لطف منه تعالى، ونعمة مستحدثة على بني إسرائيل، وفيها تحديد لشطر من المعاصي التي تتعلق بنقض الميثاق، كما تتضمن الزجر والردع، وهي آلة وسبيل لتنمية ملكة الحيطة والحذر من المعصية وإن كان على سبيل التوكيد بأن يدرك العبد أن الله عز وجل يراه فيستحي من ولوج مسالك المعصية، ويتردد في الإقدام على الإثم.
وما في الآية من الوعيد لا ينحصر ببني إسرائيل وحدهم وإنما ورد ذكرهم من باب المثال الأمثل لإتصال النعم الإلهية عليهم وإقرارهم بالميثاق ثم مخالفتهم له معصية وجحوداً، والمورد لا يخصص الوارد فهي تحذير وتنبيه لكل الأمم بما في ذلك المسلمون ولو على نحو المفهوم لتعلق الحكم بموضوعه وهو النقض الفعلي للميثاق بعد الإقرار به , وفيه عبرة للمسلمين وتنبيه وإرشاد كريم لإجتناب دروب الغي , ونهي عن التولي والإعراض عن أحكام الشريعة، قال تعالى[إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً]( ).
ولا ينحصر علم الله تعالى والإشارة له في الآية بنقضهم الميثاق وأفراده المذكورة فيها , إنما يشمل إعراضهم وعدم إستجابتهم لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولفظ الآية (عما تعملون) لا يعني أنه دائماً من صيغ التوبيخ والتخويف والوعيد بل قد يرد ثناءً وبشارة كما في قوله تعالى [ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ]( ).
مما يعني أن الآية تتضمن في جانب منها مدحاً لمن يلتزم بالمواثيق من بني إسرائيل بدليل لغة التبعيض في الآية بحرف الجر [ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ ].
فيخرج من الذم في الآية بالتخصيص الذين أسلموا منهم وأحسنوا إسلامهم، أي يمكن القول أن ذيل الآية يتضمن بالدلالة الضمنية والمفهوم المدح للمسلمين أيضاً.


قوله تعالى [ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ] الآية 86.
الإعراب واللغة
أولئك : اسم إشارة مبتدأ، الذين: اسم موصول خبر، إشتروا: جملة فعلية من فعل وفاعل لا محل لها لأنها صلة الموصول.
الحياة : مفعول به منصوب بالفتحة، الدنيا: صفة للحياة بالآخرة: جار ومجرور متعلقان بإشتروا، فلا: الفاء للسببية، وقيل أنها الفصيحة، لا: نافية.
يخفف : فعل مضارع مبني للمجهول، عنهم: جار ومجرور، متعلقان بيخفف.
العذاب : نائب فاعل، ولا هم ينصرون: الواو عاطفة، لا: نافية .
هم : مبتدأ.
ينصرون : جملة من فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، والواو فاعل، والجملة الفعلية خبر.
في سياق الآيات
بعد ان ذكرت الآيات السابقة الميثاق وموضوعاته الأصلية فيما يتعلق بالعبادات والمعاملات والأحكام ونقضهم لها جاءت هذه الآية لتبين عظم المعصية والجزاء والعقاب الشديد لنقض المواثيق الإلهية.
وإقرارهم وشهادتهم على الميثاق، وتضمنت هذه الآية ذكر العقاب الأليم للذين ينقضونه، وجاءت هذه الآية بخصوص موضوع الميثاق ونقضه وبالأعم منهما.
وهذا التعدد في الغايات الحميدة من إعجاز القرآن وأسرار تأخر الإخبار عن مجئ الآيات لموسى عليه السلام في نظم القرآن، وفيه إشارة إلى إرادة المعنى الأعم من الميثاق وأن المعجزات التي جاء بها موسى وعيسى عليهما السلام وأنبياء بني إسرائيل دليل كاف لإنصياع بني إسرائيل والناس للأوامر والنواهي الإلهية، ليكون الميثاق فضلا ولطفا من الله، وتأكيدا لوجوب عبادته بالعهد الذي قطعه الناس على أنفسهم.
ومن الإعجاز في نظم الآيات إبتداء آية البحث باسم الإشارة للبعيد مع تعلقها بموضوع الآية السابقة، وإنعدام الفاصل بينهما، ويمكن تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم أولئك الذين إشتروا الحياة الدنيا بالآخرة.
وهل يتعلق الذم والنعت بشراء الدنيا بالطرفين القاتل والمقتول بلحاظ إتحاد الوصف (أنفسكم) أم المقصود الذين يقومون بقتل إخوانهم.
الجواب هو الثاني ولو كانت عند الطرف الآخر وهو المقتول النية والعزم على قتل غيره فهل يشمله الذم والوصف بنقض الميثاق وإستحقاق العقوبة عليه حسب منطوق الآية، الجواب لا، لأن المراد تحقق نقض الميثاق واقعا وإستحقاق العقوبة عليه حسب منطوق الآية، بالقيام بالقتل لقوله تعالى[تقتلون أنفسكم].
الثاني : وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا)، ولا يضر بهذا التقدير التباين بين لغة الخطاب والغائب في الجمع أعلاه.
الجواب لا، لأن الأمر والجمع هنا للبيان والتفصيل، وظهور ذات معنى الجمع في الآيتين.
الثالث : تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة.
الرابع : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض الكتاب أولئك الذين إشتروا الحياة الدنيا بالآخرة.
وقد يقال إن القدر المتيقن من تعلق العذاب هو نقض أفراد الميثاق مجتمعة وجاءت الآية بالحجة البالغة، وبيان فضل الله عز وجل على بني إسرائيل بمجئ موسى وعيسى بالتنزيل والآيات الباهرات ليتضمن التنزيل الميثاق، وتكون الآيات والمعجزات التي جرت على أيدي أنبياء بني إسرائيل برهاناً ودعوة للتقيد بأحكامه.
ومن بديع صنع الله ولطفه بالناس جميعاً وبني إسرائيل خاصة أنه سبحانه يمدهم بالعون لتعاهد المواثيق، ويقربهم من منازل العمل بها، فتفضل الله سبحانه ببعث أنبياء متعاقبين في بني إسرائيل كما ورد في الآية التالية [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ] ( ).
ليكون من إعجاز القرآن تجلي بيان شدة عذاب الذين ينقضون الميثاق وإستحقاقهم له بلحاظ الجمع بين الآيات السابقة والآيات اللاحقة فقد تقدم في الآيتين السابقتين ذكر أفراد الميثاق.
وتدل هذه الآية والآية السابقة[أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ]على أن تجزئة الإيمان، وترك التصديق بشطر من الكتاب كان لأغراض دنيوية من المال والجاه وحب الشهوات وما يترشح من غلبته على القول والعمل الشخصي والنوعي من تعطيل للأحكام وهجران للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وجاء في خاتمة الآية السابقة[وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ] وجاءت هذه الآية بالإخبار عن عدم تخفيف العذاب عنهم مع إتحاد موضوع الآيتين مما يدل على إستدامة شدة العذاب عليهم يوم القيامة، وإنعداد الفترة والتخفيف فيه.
وقد أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى[وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] أما هذه الآية فاختتمت بقوله تعالى[وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ] وتفيد أن الله عز وجل يحجب عنهم النصرة ويمنع عنهم الشفاعة.
ويدل علم الله عز وجل بعملهم في الدنيا، وصيرورتهم في حال عذاب وهوان وإنعدام الناصر في الآخرة على حقيقة وهي أن الدنيا دار عمل بلا حساب والآخرة دار الجزاء.
إعجاز الآية
دخول عالم الدنيا والآخرة في لغة البيع والشراء وإن كان مجازاً إلا أن الآية تدل في ظاهرها على أن الأصل في عاقبة العبودية هي الجنة والنعيم الخالد، أي ان الله عز وجل عندما خلق الانسان جعل دار الدنيا محل إقامة مؤقت وأعد له النعيم في الآخرة إلا أن بعض الناس لم يسلك إليها الطريق المستقيم فحجب عن نفسه بإرادته وفعله النعيم الأخروي، ومن إعجازها أيضاً إظهار نوع ملازمة موضوعية بين الدنيا والآخرة، فالدنيا مزرعة الآخرة وزجر عن غلبة الغلبة على أيام الإنسان فيها، قال تعالى[وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ).
ومن إعجاز الآية أنها تبين علة الإعراض عن المواثيق الإلهية وهو حب الدنيا والميل إلى شهواتها، فرغب القوم في الدنيا ولم يسعوا ويستعدوا للآخرة فاستحقوا العذاب.
وجاءت آيات قرآنية بذم الحياة الدنيا ووصفها بأنها دار الغرور واللهو قال تعالى[إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ]( )، وجاءت آية البحث بأشد معاني الذم للدنيا وجعل التمتع فيها وعرضها بلغة وغاية في ذات الوقت وهذا الذم من جهات:
الأولى : اسم الإشارة البعيد (أولئك).
الثانية : تعلق موضوع هذه الآية بالآية السابقة ونقض الميثاق، والعهد مع الله.
الثالثة : إرادة شراء الزائل والفاني بالدائم الباقي.
الرابعة : إن اللعب واللهو والغرور ليس من أوصاف الدنيا، ولكن الجاحدين غلبت عندهم النفس الشهوية، ونسوا ما يجب عليهم من التقيد بأحكام وسنن الميثاق، فجاءت آية البحث لجذبهم إلى منازل الإيمان، وتذكيرهم بالآخرة، ودعوتهم إلى سلاح الدعاء للجمع بين خير الدنيا والآخرة.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية(إشتروا الحياة) ولم يرد لفظ (إشتروا الحياة الدنيا) في القرآن بصيغة الماضي إلا في هذه الآية الكريمة , وهو عنوان ذم إضافي، وشاهد على الذنب العظيم في نقض الميثاق.
الآية سلاح
يتصف الوعيد في الآية بالصراحة والوضوح وفي ذلك تخفيف عن المسلمين في صيغ الانذار والتبليغ، والآية في مفهومها بشارة للمسلمين، لأنهم لم ينقضوا العهود والمواثيق، الأمر الذي يعني أنهم لم يبيعوا الآخرة وأنهم يسعون لها.
وتساهم الآية في تعيين كيفية المعاملة والسيرة مع الذين نقضوا المواثيق، إذ أن الآية تقسم الناس تقسيماً إستقرائياً إلى قسمين:
الأول: أهل دنيا أحبوا زينتها وإنقطعوا إليها، ولم يفكروا فيما بعدها من عالم الحساب والجزاء، فنقضوا المواثيق، قال تعالى[بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى]( ).
الثاني: الذين أقبلوا على الآخرة وأيقنوا بأن النشور حق، وتقيدوا بأخلاق الأنبياء والتزموا بأحكام المواثيق الإلهية التي تقودهم الى الجنة.
لتبعث الآية النفرة في النفوس من الإنقطاع إلى الدنيا وصيرورتها سبباً لترك الوظائف العبادية ومصاديق الصلاح التي هي من مراتب التقوى، وتقرب الإنسان إلى النعيم فتكون هناك نوع ملازمة بين توجهه قهراً إلى الآخرة بتقادم الأيام والليالي وبين سعيه للحساب، فلا يمر عليه يوم إلا وقد أدى ما عليه من الواجبات وفاز بالمستحبات وإعتصم عن المعاصي، ولله فضل عظيم في المقام يتجلى بفتح باب التدارك والإنابة، فإن قصّر في بعض الأيام والسنين ففي القادم منها مناسبة كريمة للتوبة والإستغفار، قال تعالى[وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وأخرج عن جابر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: يدعو الله بالمؤمن يوم القيامة حتى يوقفه بين يديه فيقول : عبدي إني أمرتك أن تدعوني ووعدتك أن أستجيب لك فهل كنت تدعوني؟ فيقول : نعم يا رب. فيقول : أما أنك لم تدعني بدعوة إلا أستجيب لك ، أليس دعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك أن أفرج عنك ففرجت عنك؟ فيقول : بلى يا رب . فيقول : فإني عجلتها لك في الدنيا . ودعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك أن أفرج عنك فلم تر فرجاً ، فيقول : نعم يا رب . فيقول : إني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا . ودعوتني في حاجة قضيتها لك ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فلا يدعو الله عبده المؤمن إلا بين له إما أن يكون عجل له في الدنيا ، وإما أن يكون ادخر له في الآخرة . فيقول المؤمن في ذلك المقام : يا ليته لم يكن عجل له شيء من دعائه)( ).
بحث قرآني
جاءت الآية السابقة بلغة الخطاب وفيه تعريض ووعيد، أما هذه الآية فجاءت باسم الإشارة للبعيد مع إفادته التحقير ، فالآية تبين معالم ضابطة كلية ووصف عام يستحق عليه الإنسان العقوبة بالخلود في العذاب.
وهل هذه الضابطة التي تتمثل بنقض الميثاق والزيادة والتمادي في مخالفته هي التي تكون سبباً للعذاب الأليم يوم القيامة، أم هناك غيرها من الأسباب، الجواب هو الثاني وأشدها أكبر الكبائر وهو الشرك بالله، وعن الإمام جعفر الصادق قال: الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمدا وقذف المحصنة، والفرارمن الزحف، والتعرب بعد الهجرة، وأكل مال اليتيم ظلما، وأكل الربا بعد البينة وكل ما أوجب الله عليه النار)( ).
فكما أننا نضع قواعد في علم الفقه والأصول مستقرأة من القرآن والسنة فأيضاً بالإمكان وضع وتأسيس قواعد كلامية وفلسفية على ضوء آيات القرآن والسنة تساهم في تهذيب مسائلهما، وتفتح مدرسة للدراسات القرآنية الهادفة في أبواب من علم الكلام والفلسفة، وتكون باباً لتوسعة مثل هذه المنهجية والفلسفة القرآنية وبعث روح الايمان والحكمة في العلوم العقلية.
وليس من ملازمة بين شخص معين وبين دخول النار، فالقاعدة الكلية الأعم والأعظم هي تغشي وشمول كل إنسان بالتوبة التي لا يغلق بابها على العبد إلى أن تغادر روحه جسده، ليكون رحمة للناس جميعاً وحجة على الكافر تتجدد كل يوم بلغة الترغيب واللطف والجذب، وبعد وفاته تبقى وتستديم كحجة عليه إلى يوم القيامة لأن الآخرة دار حساب وجزاء بلا عمل، وفي التنزيل في ذم وبيان حال الكافر يوم القيامة[بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ]( ).
وأخرج عن وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب عم النبي قال: لما كان في أمر حمزة ما كان ألقى الله خوف محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قلبي خرجت هارباً أكمن النهار، وأسير الليل، حتى صرت إلى أقاويل حمير، فنزلت فيهم، فأقمت حتى أتاني رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوني إلى الإِسلام؟ قال: تؤمن بالله، ورسوله، وتترك الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وشرب الخمر، والزنا، والفواحش كلها، وتستحم من الجنابة، وتصلي الخمس. قال: إن الله قد أنزل هذه الآية{يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فصافحني وكناني بأبي حرب)( ).
ومن إعجاز القرآن في المقام تعقب آيات البشارة لآيات الإنذار في مواطن كثيرة منه لتملأ السكينة نفس المسلم، ويتدبر الناس في عواقب الأمور.

مفهوم الآية
الآية تأديب للمسلمين وباب إعتزاز وفخر وقوة ومنعة لهم، فالتأديب بالإتعاظ من الأمم السابقة واجتناب الأخطاء والذنوب النوعية التي أقدموا عليها ثروة عقائدية فاز به المسلمون، خصوصاً وان القرآن يخاطبهم ويلومهم كأمة فلو كان نقض الميثاق على نحو القضية الشخصية لما توجه اللوم والذم للأمة.
والآية حرز وواقية للمسلمين ودعوة لنبذ الفاسق والعاصي والذي لا يأتي بالفرائض، قال تعالى[فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا]( ).
وهي في مفهومها إعتزاز وفخر للمسلمين لأنهم لم يخالفوا كتاب الله وسنة رسوله الكريم، وقوة ومنعة لهم لأنها تكشف ضلالة الجاحد، وإختياره الأدنى العاجل على النعيم الدائم لصدوده عن رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومفهوم الآية يتجلى بالمقارنة بين لغة الخطاب فيها ولغة الخطاب في الآيات السابقة التي وردت بضمير المخاطب وإرادة بني اسرائيل [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ] ( ) [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ] ( ) بينما جاءت هذه الآية باسم الإشارة للبعيد [أُوْلَئِكَ]للدلالة على قلة ضررهم وعدم أثرهم، قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
وتبين الآية الكريمة عقوبة نقض الميثاق وشدة عذاب الكفار والجاحدين وفيها تنبيه ودعوة للإحتراز من الجهالة ولإجتناب الغفلة، وهي واقية قرآنية من كيدهم ومكرهم، فالذي تعرف سوء عاقبته تنفر منه ولا تنجذب إلى قوله أو فعله.
الآية لطف
قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، ومن نعم الله آية البحث من وجوه:
الأول : بيان حال قوم إشتروا الدنيا وجعلوا زينتها وما فيها من الأموال والرئاسات هي الغاية والأمل.
الثاني : ذكر مواضيع ومناهج من مصاديق شراء الحياة الدنيا.
الثالث : تحذير الناس من شراء الحياة الدنيا بعد بيان مصاديق منه، وفيه نفي للجهالة والغرر.
الرابع : دعوة الناس للتدبر في ماهية الحياة الدنيا والمصاديق الأخرى من شراء الحياة الدنيا، بالرجوع إلى آيات القرآن والسنة النبوية، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وتبين الآية مسألة في الإرادة التكوينية وهي أن شراء الدنيا يكون بالنفس وخسارتها في الدنيا، فكأن هذا الشراء مرآة لإنعدام البرزخ بين الجنة والنار في الآخرة، وفي الآية إنذار من إيثار الدنيا الفانية ومتاعها الزائل بالتفريط باللبث الدائم في رياض الجنة.
إفاضات الآية
مع أن الآخرة مواطن متعددة، وعواقب متباينة , وبين الجنة والنار تضاد وتفاق، فقد جاءت الآية بذكر الآخرة على نحو الإطلاق في ذم الذي يبيعها ببقاء أدنى، وفيه بيان لحقيقة وهي أن الذي يموت على الكفر ليس له نصيب وشأن في الآخرة، وفي التنزيل[وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا]( ).
ويفيد الجمع بين هذه الآية وخاتمة الآية السابقة[فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( )، إن الذي يشتري الدنيا ويجتهد في اللهث وراء زينتها يحصد الخزي فيها، وقد تراه متنعماً وله شأن فيها ولكن الخزي يلاحقه ويصيبه في حياته أو بعد مماته.
فالذي يشتريها يخسر الصفقة في حياته، فكأنه إشترى سراباً وليس من موضوع أو طرف آخر قد باعه إنما فرط هو نفسه بأيامه وخسر في الإختبار والإمتحان لإنقياده للهوى والنفس الأمارة بالسوء ، ومع هذا فإن الله عز وجل يقيل عثته ويقبل توبته .
وجاءت هذه الآيات لبعث الناس إلى التوبة وندبهم إلى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله , وإتيان ما أمر به وفيه النجاة في النشأتين، قال تعالى[أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وتدعو آية البحث إلى التدبر بحقيقة الدنيا وأنها دار إجتياز يتخذها الإنسان بلغة إلى دار النعيم بينما يجعلها الذين يشترونها غاية بذاتها مقصودة بلذاتها، فأراد الله لهم بالقرآن أن ينزعوا أملهم منها، بمحاربة النفس الشهوائية والغضبية , وباللجوء إلى التنزيل والعمل بالمواثيق الإلهية.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت الآية لبيان الصلة بين الفعل في الدنيا والعاقبة في الآخرة، بلحاظ الآيات السابقة وما فيها من الإخبار عن نقضهم لعهد الله، وتبعيض الإيمان، والإقرار بالتوراة والجحود بالقرآن طمعاً بالمال والجاه في الحياة الدنيا، وفي الآية دلالة على التباين والتضاد بين الرغائب وإتباع الهوى في الدنيا وبين السعي لمقامات النعيم في الآخرة.
وجاء ذكر الحياة الدنيا لإرادة ترجيحها، وجعلها الغاية في أعمالهم، وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد مبادئ وأحكام الإسلام على نحو العموم المجموعي من غير تفريط ببعضها، وحث لأهل الكتاب للإقتداء بالمسلمين، وأخذ الدروس العقائدية منهم.
لقد أنزل الله الكتب السماوية وبعث الأنبياء لكي ينقاد الناس لأحكام الشريعة، وتجلى هذا الإنقياد بحسن سمت المسلمين وإيمانهم بالنبوات كافة ونصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لتكون هذه النصرة حجة على الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه الآخر.
وتبين الآية قانوناً ثابتاً وهو سوء عاقبة الكفار، وان إختيار الدنيا وزينتها ومباهجها برزخ دون الأمن والسلامة يوم الحساب، وحرمان من الشفاعة والنصرة.
لقد أختتمت الآية السابقة بذكر العقاب الشديد يوم القيامة للكفار، ثم إبتدأت هذه الآية بالإشارة إليهم ووصفهم بوصف يعرفون به في الدنيا والآخرة وهو[الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ] وحيث أن الدنيا زائلة غير دائمة لأهلها فإن صفقة هذا الشراء خاسرة، وهل يمكن ضرب من الدنيا لهذا لشراء فنقول مثلاً كالذي إشترى زرعاً فجاءت آفة من السماء فأهلكته، أو كالذي باع كل ما عنده وأشترى به أرضاً فغمرتها المياه إلى الأبد وأصبحت غير صالحة لزراعة أو غيرها.
الجواب إن هذه الأمثلة تقريبية ولا تفي بوصف حال الكافر يوم القيامة، لأن صفقة شراء الزرع والأرض الخاسرة تنقطع وتنتهي بذهاب المال، أما الذي يشتري الدنيا بالآخرة فأنه يبوء بالعذاب الأليم يوم القيامة.
وجاءت هذه الآية بوصف وعقوبتين، أما الوصف فهو الإعراض عن الآخرة والزهد فيها وجعلها ثمناً للدنيا وزينتها، وأمّا العقوبتان فما:
الأولى : شدة وإتصال العذاب.
الثانية : غياب وإنتفاء الولي للذي ينقضون المواثيق الإلهية، فليس من أحد يمنع عنهم العذاب الذي أراده بهم، وتكون الشفاعة محجوبة عنهم وقد ينتظر أصحاب النار في كل ساعة النصرة والشفاعة وتخفيف العذاب فجاءت هذه الآية للإخبار عن غلق هذا الباب عنهم لأنهم حجبوا عن أنفسهم ولوج سبل التوبة، وفي التنزيل[ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنْ الْعَذَابِ].
التفسير الذاتي
إبتدأت الآية بلفظ (أولئك) لإرادة البعيد، وفيه ذم لهم، وإشارة إلى زوال حكمهم، وعجزهم عن طرد إخوانهم وغيرهم من ديارهم لأن الله عز وجل أنعم على الناس بالإسلام ودولته وأحكامه، وفيه دلالة على أن من ينقض الميثاق لا يبقى في منازل الحكم والسلطان، وهو من الشواهد على تفضيل المسلمين وأنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لقد جاء القرآن مدرسة لصلاح المسلمين، وتثبيت إيمانهم، وزيادتهم هدى وتقوى، قال تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، فجاءت هذه الآيات بلغة الخطاب في ذم وتوبيخ الذين نقضوا الميثاق، وإنتقلت هذه الآية للإخبار عن إضرارهم بأنفسهم، وفيه بعث للنفرة من نفوس المسلمين من نقض الميثاق وأهله والأضرار المترتبة عليه، فلم يأت نقض الميثاق في هذه الآيات ليجعل المسلمين ينظرون له من غير تقبيح ونفرة، بل جاء بلغة الذم وبيان قبح النقض وأضراره في الدنيا والآخرة، كي يتجنب المسلمون أولئك الذين نقضوا عهد الله، ولا تسكن نفوسهم إليهم في العقائد والمعاملات ومسائل الإحتجاج والجدال.
وبعد أن أختتمت الآية السابقة بالوعيد على نقض الميثاق، جاءت هذه الآية في وصف الذين ينقضونه بالمصداق الخارجي، مع ذكر ما ينتظرهم من العذاب في الآخرة، ويحتمل وصف هؤلاء بشراء الحياة الدنيا وجوهاً:
الأول : إنه من الوصف الحسي.
الثاني : إنه من الوصف الحدسي والعقلي.
الثالث : العنوان الجامع للوجهين أعلاه.
والصحيح هو الثالث فان شراءهم للحياة الدنيا وإعراضهم عن الآخرة يدرك بالحواس والعقل، ويتجلى بمصاديق لهثهم وراء زينة الدنيا وعدم الصبر على مضامين الميثاق، وتحمل الأذى طاعة لله عز وجل، قال تعالى [وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً]( ).
وفي الآية إرشاد وتأديب للمسلمين والناس جميعاً من وجوه:
الأول: بيان التضاد والتباين بين الدنيا والآخرة.
الثاني: القبح الذاتي لشراء الحياة الدنيا وطلبها ولذّاتها بالذات.
الثالث: توكيد الأضرار الفادحة التي تتفرع عن شراء الحياة الدنيا بالآخرة، وتظهر بالخسران المبين في الآخرة.
الرابع: الحذر وأخذ الحائطة من الذين آثروا الحياة الدنيا وتركوا الإستعداد للآخرة، قال تعالى[فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا]( ).
الخامس: بيان علة ترك الميثاق والعهد الإلهي، وهو حب الدنيا وزينتها.
السادس: لزوم التهيئ للآخرة، وعدم التفريط بالدنيا كمزرعة لها.
وهل الدنيا لا تنال إلا بترك الإستعداد للآخرة الجواب لا، فالله عز وجل واسع كريم، وهو الذي جعل الحياة الدنيا داراً لتوالي رحمته وأسباب فضله، ومحلاً لخلافة الإنسان، ولكن من الناس من يترك وظائفه العبادية ويجعل الدنيا غايته، ولم يتخذها بلغة لبلوغ المنازل الرفيعة في الآخرة .
فجاء القرآن بالإنذارات المتعددة في موضوعها ومناسبتها وحكمها لزجر الناس عن إتخاذ الدنيا داراً للهو واللعب، وليس من حصر لإنذارات القرآن في المقام، ومنها آية البحث وما فيها من اللوم والذم لنقض الميثاق، ولإرتكاب الفعل القبيح على نحو جماعي فتوجه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى بني إسرائيل بالقرآن وبواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى يوم القيامة وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
إذ ينفرد المسلمون برفع لواء الجهاد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان قبح نقض الميثاق، وأضراره على الذات والغير.
وتدل الآية على تعدد صدور المعاصي والذنوب من الذين إختاروا الركون إلى الدنيا والإنقياد للهوى، ويحتمل نقض الميثاق في صلته مع حب الدنيا وزينتها وجوهاً:
الأول: الأصل هو نقض الميثاق، وحب الدنيا فرع له.
الثاني: نقض الميثاق فرع من حب الدنيا واللهث وراء بهجتها وزينتها.
الثالث: كل فرد منها أصل قائم بذاته، يدل على إختيار المعصية.
والصحيح هو الثاني، فقد جعل أهل الدنيا اللذة العاجلة وإتباع الهوى همهم ولم ينظروا إلى ما وراءها من علوم الغيب وأهوال الآخرة، ولا إلى العهود والمواثيق التي أخذها الله عز وجل عليهم.
إن شراء الحياة الدنيا لا يعني بالضرورة التنعم فيها، إذ لا ملازمة بين الركون للحياة الدنيا والنعيم فيها، فقد يكون الذين يشترونها ويجعلونها غايتهم ومقصدهم في هم وحزن متجدد، ويريدون منها أكثر مما ينالون، وهي تتمنع عليهم ولا تعطيهم بغيتهم وإن أعطتهم فانها تعطي القليل من الأماني والآمال التي يريدون، ومنها ظنهم بحصول النفع الخاص والعاجل من إشاعة القتل في إخوانهم وطردهم من أراضيهم، ولكنه ضار من وجوه:
الأول : ترشح الضعف عن الفتك والقتل.
الثاني : الإثم والذنب بالتعدي بالقتل وطرد الإخوان وأبناء العمومة من أراضيهم.
الثالث : ظهور الحاجة لمن يطردونه في العمل والكسب والدفاع عن النفس، وذات الديار التي أخرجوا منها.
الرابع : ظهور الأخلاق المذمومة بينهم.
الخامس : مخالفة الميثاق والعهد الذي أخذه الله عز وجل عليهم، قال تعالى[وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً]( ).
السادس : العذاب الأليم في الآخرة، والذي تدل عليه هذه الآية الكريمة.
وجاءت الآية بصيغة الجمع، وتحتمل وجوهاً:
الأول: كل فرد منهم يشتري الحياة الدنيا.
الثاني: يشترون الدنيا مجتمعين بمناجاتهم في نقض الميثاق، وإشتراكهم في قتل وطرد فريق منهم بدليل مجئ الآية السابقة بصيغة الجمع.
وجاء بصيغة المضارع بمعنى المدح للمسلمين في قوله تعالى[فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ]( )، والمراد الذين يبيعون الحياة الزائلة، ويعرضون عن زينتها رجاء النعيم في الحياة الباقية، لأن لفظ يشتري من الأضداد والأصل فيه الإستبدال، ويقال لمن تمسك بشئ وأعرض عن غيره إشتراه ولم يحصل عقد للبيع والشراء ، ولا معاطاة.
ومن إعجاز القرآن أن يأتي ذات اللفظ مع التباين في المعنى والدلالة بلحاظ القرائن والإختلاف في الموضوع .
ومعنى قوله تعالى (يشترون) في الآية أعلاه يبيعون الحياة الدنيا رجاء الفوز في الآخرة، ورغبة فيها، وهو من مصاديق كون المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ويفيد الشراء معنى الطلب بقصد لما في فعلهم من نقض للميثاق ولمجئ الآية بصيغة الذم والوعيد في خاتمة الآية والذي جاء على وجهين:
الأول: عدم نقص العذاب عنهم، وفيه دليل على عدم إنتفاعهم من الإنتساب بالبنوة للأنبياء.
الثاني: حرمانهم من الناصر والشفيع يوم القيامة.
التفسير
قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ]
(أولئك) اسم إشارة للبعيد مكاناً وخارجاً، ولكن قد يراد من معنى البعد الظاهر في حرف الإشارة أحياناً وبالقرائن المقت وما هم عليه من الإنحدار والإنحطاط عن منزلة المخاطب – بالكسر – أي الذي يقوم بالإشارة، أو المخاطَب – بالفتح – , كما يوصف صاحب الذنب بالبعد.
والمقصود من اسم الإشارة في المقام هم الذين ينقضون الميثاق ويفعلون السيئات من بني إسرائيل كما في قوله تعالى [ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ ]( ).
والآية تتضمن أموراً منها:
إنهم لم يلتفتوا إلى الآخرة وما فيها من النعيم الخالد بمتاع قليل في أيامهم المعدودة في الحياة الدنيا، وينحصر موضوعه بالميل إلى الهوى وعدم الإكتراث بالتكليف.
وتنقسم اللذة من حيث متعلقها الى حسية وهي ما يدرك باحدى الحواس الخمسة كآلة، وعدم إدراك الجزئي إلا بوجوده في الخارج، وعقلية وهي ما تدرك بالعقل .
ولا ملازمة بين الشهوة واللذة فقد تكون اللذة بالجهد والمشقة وما يتعقبهما من الثواب كما في التكاليف فان المؤمن يجد ضالته بأدائها والعكوف عليها ويشعر باللذة ساعة الأداء، وبعدها أيضاً للتوفيق لها لذا يتوجه بالشكر لله عز وجل على لطفه بإعانته لأداء التكاليف ولا يلتفت إلى ما فيها من التعب المحدود لأن نظره وسعيه نحو غايات أسمى يتمثل بطاعة الخالق وحسن الثواب بالنعيم الأبدي.
ومن الناس من كان سعيداً آمناً وفي رغد عيش في الدنيا ويبشر بالنعيم بالآخرة، أي أن الجمع بين السعادتين ليس أمراً محالاً، بل هو سر من اسرار خلق الإنسان وأشرف وأرقى سبيل مما أعده الله للسالكين، وأغلب الناس ان لم يكن جميعهم يعرفون ذلك بالفطرة والوجدان والشواهد ولكن الذين يسلكون دروبه ومهتدين بضيائه قليل.
وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} قال: إستحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة)( )، ولا ينحصر الأمر بإستحباب الدنيا وقليلها وتفضليها بحرف الإستعلاء(على) بينما جاءت بحرف الجر الباء الذي يفيد في المقام العوض والمقابلة , وهي الباء التي تدخل على العوض وليس المعوض، وقال ابن عقيل تكون الباء للتعويض نحو إشتريت الفرس بألف درهم، وإستدل عليه بآية البحث)( ).
لقد كان بامكان أولئك الذين نقضوا الميثاق وأساءوا أن يتنعموا بـالحياة الدنيا من غير ان يشتروها بالآخرة، أي ان هناك واسطة بينهما على وجوه وهي:
الأول : التنعم في الحياة الدنيا بشرائها بالآخرة ونعيمها.
الثاني : التنعم في الحياة الدنيا من غير ان يجعل الآخرة ونعيمها عوضاً لذلك.
الثالث : التنعم بالحياة الآخرة بشرائها بالحياة الدنيا.
الرابع : التنعم في الحياة الآخرة من غير شرائها بالحياة الدنيا.
الخامس : عدم التنعم بأي منهما.
السادس : التنعم بكل منهما.
والوجه الأول مذموم لما فيه من غلق العبد على نفسه أبواب الرحمة وصده عن الرشاد وهو الذي إختاره الذين نقضوا الميثاق وأصروا على إرتكاب المعصية.
أما الوجه الثاني فيصعب تصوره للملازمة بين الحياة الدنيا والآخرة ولانحصار الأعمال في الدنيا بالتكاليف العبادية الخمسة الوجوب، الاستحباب، الإباحة، الكراهة، الحرمة.
والوجه الخامس أعلاه ينطبق على من يقضي حياته في شقاء وعناء مع الجحود والكفر إذ أن شراء الدنيا ومباهجها يصاحبه حسرة وندم وخوف من العواقب.
قوله تعالى [فلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ]
الفاء للسببية وما قبلها علة لما بعدها، أي أنهم إستحقوا العذاب بما أقدموا عليه من سوء الفعل والشراء البئيس، وهي أيضاً تدل على العطف والتعقيب وأن كان بعد زمان طويل وفي عالم الآخرة، أي أن اللفظ العربي والقرآني بالخصوص أعم من أن ينحصر بقواعد كلية نحوية محددة، فالفاء هنا تدل أيضاً على الترتيب، نعم تختلف عن حرف العطف بعدم دلالتها على الإشتراك.
وقال الرازي: “إن الجمع بين تحصيل لذات الدنيا ولذات الآخرة ممتنع غير ممكن والله سبحانه مكّن المكلف من تحصيل أيهما شاء وأراد، فاذا إشتغل بتحصيل أحدهما فقد فوّت الآخر على نفسه”( ).
ولكن الظاهر بخلافه فإن حيازة النعيم في الدارين أمر ممكن والله واسع كريم، وقد يجتمعان في موضوع واحد ويكونان بالإستقلال والإجتماع طريقاً الى الآخرة، وفي التنزيل[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
والتكليف رحمة ونعمة يحس معها المؤمن بالسعادة والغبطة , للتوفيق في أداء العبادات , كالصوم مثلاً وما ورد فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المشهور : “للصائم فرحتان”( ).
ولكن ليس من تناقض بين لذات الدنيا والآخرة ويؤيده قوله تعالى [هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ]( ). ثم أن للذة معاني متعددة وعرفت بتعريفات متقاربة وهي عرض تابع للمزاج وخلاف الألم، أي أنها حالة إعتدال تلحق بالمزاج وتسر النفس، وعند الحكماء أنها إدراك الملائم، وعرفها بعض المعتزلة بأنها إدراك متعلق الشهوة.
فقضية اللذة هنا ليس من القضية المنفصلة الحقيقية الموجبة , وهي ما يحكم فيها باستحالة إجتماع طرفيها دائماً بل قد تكون موجبة مانعة للخلو أي بالإمكان إجتماع طرفيها.
وتتضمن الآية لغة الوعيد والإخبار بأن عذابهم سيكون شديداً، وفيه بالدلالة التضمنية رد على ما قد يقولونه من بقائهم في النار أياماً معدودة وأن عذابهم سيكون مخففاً وأن إكرامهم في الدنيا سيبقى متصلاً وباقياً حتى في الآخرة ويظهر في باب العقاب بالتخفيف عنهم.
فجاءت هذه الآية لتنفي ذلك الإدعاء وما فيه من الزيغ والجهالة والغرر، أي أنها نعمة ورحمة بهم ولهم لإخبارها وتوكيدها على الحكم الإلهي الذي لا يتبدل فيما يخص نوع العذاب الذي ينتظر الذين كفروا ونقضوا الميثاق.
وأختلف في معنى التخفيف هل هو الإنقطاع وقصر مدته وعدم الدوام باعتبار أن الإنقطاع نوع تخفيف، أم أنه يتعلق بنقصان شدته وقلة ما فيه من الألم والأذى، أي هل يعني مفهوم الآية دوام العذاب لأولئك الذين نقضوا المواثيق، أم عدم نقصانه فقد تقدمت الآيات التي تنفي إنقطاع العذاب وتؤكد الخلود فيه، والظاهر ان الآية تدل على الأمرين معاً.
أمّا التخفيف بمعنى قلة شدته فيدل على نفيه قوله تعالى [ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ]( ).
ولم يترك نقض الميثاق سدى، وعقوبته لا تنحصر بالحياة الدنيا بل إن الحساب والجزاء سوف يكون شديدا في الآخرة.
قوله تعالى [وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ]
أختلف في نفي نصرتهم هل هو في الآخرة ويعني إنعدام الناصر والشفيع لسؤال رفع العذاب أو تخفيفه وهو الأشهر أو إنعدامه في الدنيا كما ذهب إليه جماعة.
وربما يحتج القائلون بالقول الأول بأن واو العطف في [وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ] تدل على عطفها على قوله تعالى [فلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ] التي تتعلق بالآخرة إجماعاً إتباعاً للأقرب، وأن النصرة لهم قد تتحقق في الدنيا كما قال الرازي (وهذه الصفة لا تليق بالآخرة ولأن الكفار قد يصيرون غالبين للمؤمنين في بعض الأوقات)( ) .
ولكن غلبة الكفار في واقعة أو بلد لا تدل على تحقق النصرة ووجود ناصر ومعين ومدد لهم لأمور:
الأول: قد تتم تلك الغلبة من غير إعانة أو نصرة من أحد وقد تكون سبباً للإستدراج , وموضوعاً للإبتلاء [ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ]( ).
الثاني: إن الأمور بخواتيمها، ولا تصلح الواقعة الواحدة ونحوها أن تكون كبرى كلية في القياس والإستنباط.
الثالث: قد يراد من النصرة في المقام النصرة بالحق.
لذا فان الآية تحمل على الإطلاق لوجود المقتضي وفقد المانع من تقييدها بالآخرة فقط او بالدنيا، والعقل والوجدان وصيغ العموم في لغة القرآن تشهد بذلك لأنها في الآخرة أظهر وأبين.
والآية في مفهومها عز للمسلمين وبيان لما هم عليه من الأخوة والتآلف ونصرة بعضهم بعضاً في الدنيا، وحيازتهم لفخر الشفاعة في الآخرة شافعين ومشفوعاً لهم، وتتغشاهم بركاتها في الدنيا كأمل ونوع أمان وحرز منتظر.
ويعتبر الإيمان واقية وحصناً من الآثار العرضية السلبية كالتمادي في المعصية.
وتبين الآية إختيار الذين ينقضون الميثاق الفقر في الآخرة لقاء لذات زائفة والإنصياع للنفس البهيمية والشهوانية التي تشتاق إلى اللذات الحسية وتميل إلى طلب الغذاء ومصاديق المتعة ذات العرض الزائل وتركهم عن عمد ما أقروا به في الميثاق مع ظهور وإستبانة الملازمة بينه وبين إعتناق الإسلام , قال تعالى في ذم اينقطعون إلى الدنيا[وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ]( ).
فالإقرار بالميثاق يؤدي إلى الإسلام، والإسلام هو السبيل الوحيد لإحياء الميثاق والتقيد بمصاديقه وما فيه من العهود , قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
ويحتمل إنعدام الناصر وجوهاً:
الأول : إرادة عالم الآخرة وتعذر الشفيع.
الثاني : المقصود إنعدام الناصر في الدنيا.
الثالث : المعنى الأعم والجامع المشترك للوجهين أعلاه.
والصحيح هو الثالث، إذ تتضمن الآية الإنذار على نقض الميثاق والتمادي في المعصية ومحاربة النبي محمد صلى عليه وآله وسلم والمسلمين, ومع وجود الدولة الفارسية والرومية على مشارف الجزيرة فإن الكفار لم يجدوا عوناً وناصراً في حروبهم مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وإن سعوا وأرادوا تحريضهم، ومنهم من ذهب إلى ملك الحبشة لإستعدائه على المسلمين والمهاجرين منهم خاصة فرجع خائبا.
بحث منطقي
تقسم القضية المنطقية وهي الجملة الخبرية التي تحتمل الصدق والكذب تقسيماً شائعاً ومتعارفاً بلحاظ تركيبها الى قسمين:
الأول : القضية الحملية (البسيطة).
الثاني : القضية الشرطية (المركبة).
وسُميت الأولى بالحملية لإفادة الحمل معنى الحكم باعتباره صفة للموضوع ثبوتاً أو نفياً، وتنقسم القضية الحملية إلى عدة أقسام من حيث الكم والكيف، أو الموضوع والمحمول، وقد جعل لكل قسم منها لفظ يدل على الحكم ويحدده وسُمي سوراً لتصبح قضية محصورة أو مسورة ويأتي في أولها في الغالب.
وسور القضية الكلية الموجبة: كل، جميع، كافة، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
وسور الكلية السلبية: لا، لا شيء … ونحوها من أدوات وألفاظ النفي التام، ومنها أيضاً أسوار الجمع إذا أضيف لها ما يدل على النفي , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ]( ).
وأسماء الإشارة تصلح أن تكون من أسوار القضايا الحملية، وهذه الآية الكريمة فيها سوران، الأول هو اسم الإشارة [ أولئك ] فجميعهم إشتروا الحياة الدنيا ورغبوا فيها بالرغبة عن الآخرة.
أما الثاني فهو أداة النفي ( لا ) في قوله تعالى [ فلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ] فهي سور للقضية الكلية السلبية بمعنى عدم تخفيف العذاب كموضوع أو محمول بالنسبة لهم , وفيه بعث لليأس في نفوس الكفار , ولكنه ليس يأساً على نحو السالبة الكلية , لتفضل الله ببقاء باب التوبة مفتوحاً للناس جميعاً , قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا]( ).


مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn