سورة البقرة الآيات( 93 – 100 )
المقدمــــــــة
[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ]( ) وجعل القرآن سفيراً بينهما تلّقاه الخليفة فضلاً منه تعالى في ذات موضوع وحكم الخلافة في الأرض وبقاء القرآن مصاحباً للحياة الإنسانية ليكون نوراً يضيء للناس دروب الهداية والسبل التي تقودهم إلى النعيم الأخروي , قال تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا]( ).
ليس من مدرسة في البشارة والإنذار مثل الذي في القرآن بالذات وما يترتب عليها من الأثر والتأثير ، ليكون من إعجاز القرآن إمامة ما فيه من الإنذارات الناس نحو الجنة والنعيم الدائم، وليس من موضوع خاص للإنذار القرآني .
ففي كل آية من القرآن بشارة وإنذار سواء في منطوقها أو مفهومها، وفي قصص وأخبار القرآن عن الأنبياء والأمم السابقة علوم مستحدثة في هذا الباب بما يجعل النفوس تنقاد لمضامينها وتكون عند الناس واقية ذاتية للإحتراز من فعل المعاصي، ومنه المضامين القدسية للآيات التي يتناول تأويلها الجزء السادس عشر من التفسير هذا ويبدأ بتفسير قوله تعالى[وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ]( ) في تذكير لفريق من أهل الكتاب بالعهد بين الله وبينهم، ويدل بالدلالة التضمنية على ما خصّهم الله به من اللطف والتقريب إلى منازل الطاعة، ولتكون هذه الآية منه وتوثيقاً له وتذكيراً يدعو في ثناياه إلى التدبر في الكنوز الغيبية التي في القرآن والتي تتعدد موضوعاتها من جهات:
الأولى : صفات الذات والفعل لمقام الربوبية.
الثانية : الإطلاق في المشيئة الإلهية.
الثالثة : بديع قدرة الله في خلق السموات والأرض.
الرابعة : أسرار خلق الإنسان، والمحاورة الكريمة بين الله عز وجل وملائكته كما ورد في التنزيل حكاية عنهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
الخامسة : إمتناع إبليس عن السجود لآدم، وإستدامة ماهية هذه المعصية وأثرها على حياة الناس في الأرض ويوم القيامة لولا لغة البشارة والإنذار في القرآن , ومنها الآيات التي يتناولها هذا الجزء من هذا السفر الخالد.
السادسة : قصص الأنبياء والأمم السابقة، وتثبيت القرآن لحقيقة وهي أنها من علوم الغيب مما يفيد تضمنها للتحدي , ومنه عدم العلم بها قبل نزولها , وسلامتها بعد نزولها من التحريف الذي طرأ عليها ، قال تعالى بخصوص مضامين قصة يوسف عليه السلام [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( )، وجعلها من علوم الغيب شاهد على حفظها بالقرآن، ولا ينحصر موضوع هذا الحفظ بذكر ذات القصص فيشمل ما يقتبس ويستنبط منها من العلوم والمواعظ والعبر، وما يؤسس من مناهج التفكير والعمل.
ومن الإعجاز عدم إختصاص هذه القصص بالصالحين والأمم الموحدة فتضمن القرآن قصص الطواغيت وأعمدة الشرك والضلالة وسوء عاقبتهم، فحينما يذكر القرآن آل فرعون في آيات عديدة يبين هلاكه وإنقطاع دولته ونسله , وجاء هذا الإنقطاع والقطع بقوله تعالى[وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]( ).
لتتضمن الآية أعلاه ومنى تنظرون فيها الإشارة إلى إرادة الله بقاء بني إسرائيل بقيد التباين بينهم وبين آل فرعون، وهو إيمانهم وكفر آل فرعون وجاءت أكثر آيات هذا الجزء من هذا الوجه من علوم الغيب.
السابعة : علوم الغيب المصاحبة لأيام البعثة النبوية وبشارات نصر المسلمين على الكفار، وتوثيق نزول الملائكة مددا سماويا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الثامنة : الإخبار عن الشأن العظيم للمسلمين بين الناس، ومنه قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وما فيه من التحدي في تحلي المسلمين بالخصال الحميدة، وصيرورتهم أسوة كريمة للناس، وهل تلاوة وحفظ آيات هذا الجزء من هذا التفضيل الجواب نعم، وهو باب لإستدامة وتعاهد المنزلة الرفيعة للمسلمين.
التاسعة : بيان أحوال أهل الكتاب والناس، وأسباب الرشاد والصلاح.
العاشرة : علوم الغيب التي تتعلق بعالم الآخرة ومواطن الحساب والجزاء فيها.
وأختتم هذا الجزء بتفسير الآية المائة من سورة البقرة[أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا…..] وهو من علوم الغيب ويتضمن الدعوة السماوية للمسلمين وأهل الكتاب والناس لحفظ العهود والمواثيق وما ورد في التنزيل والكتب السماوية وما تم مع الناس، قال تعالى[وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً]( ).
قوله تعالى [ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ] الآية 93.
الإعراب واللغة
وإذ: الواو: حرف عطف، إذ: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بإذكر مقدرة.
أخذنا: فعل ماض وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها.
ميثاقكم: مفعول به منصوب بالفتحة، والضمير مضاف اليه.
ورفعنا: عطف على أخذنا، وقيل بامكان اعرابها حالية , ولكن الأول أرجح بلحاظ موضوع الآية ونزولها.
فوقكم: فوق ظرف مكان متعلق برفعنا وهو مضاف، والضمير مضاف اليه.
الطور: مفعول به منصوب بالفتحة.
خذوا: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة مقول قول محذوف أي قائلين لكم خذوا.
ما: اسم موصول بمعنى الذي مفعول به.
آتيناكم: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة لا محل لها من الإعراب لانها صلة الموصول.
بقوة: جار ومجرور، وأسمعوا: الواو: حرف عطف.
أسمعوا: فعل أمر مبني على حذ ف النون، الواو: فاعل.
سمعنا وعصينا: جملتان احداهما معطوفة على الأخرى , وهما مقول القول.
واشربوا: الواو حالية أو عاطفة، واشربوا: فعل ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعل والتشبيه البليغ والتمثيل بشرب القلوب حب العجل مدرسة للإعتبار والإتعاظ، لأن القلب أمير الأعضاء فينبسط اثره على أركان البدن كأنها منشغلة بموضوع حب القلب.
وعبر عنه بالشرب دون الأكل لأن الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل الى باطنها، والطعام لا يتغلغل فيها. ولسهولة الشرب وسرعة ظهور أثره.
في قلوبهم: جار ومجرور متعلقان بأشربوا، وقلوب: مضاف، والضمير “الهاء” مضاف اليه.
العجل: مفعول به ثان على تقدير مضاف أي حب العجل.
بكفرهم: جار ومجرور متعلقان بأشربوا، وجاءت الباء للسببية، أي بسبب كفرهم، قل: فعل أمر والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت.
بئسما: بئس: فعل ماضِ جامد يراد منه الذم والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره(هو).
ما: نكرة تامة بمعنى شيء في محل نصب على التمييز للضمير المستتر.
يأمركم: فعل مضارع مرفوع، والضمير (كم) مفعول به.
به: جار ومجرور متعلق بـ(يأمر).
إيمانكم: فاعل مرفوع بالضمة، والضمير (كم) مضاف إليه:
إن كنتم: (إن) حرف شرط جازم.
كنتم: فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم، والضمير المتصل اسم كان.
مؤمنين: خبر كان منصوب، وعلامة نصبه الياء.
والميثاق مفعال من الوثيقة، (وقال ابن هشام: أخذ الميثاق بمعنى الإستحلاف، قاله كثيرون منهم الزجاج)( )، ولكنه أعم من الإستحلاف في كيفيته، فيشمل العقد والعهد والوعد، وفي المقام القبول وتلقي الأمر الإلهي، وقد ورد في عقد النكاح[وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا]( )،
(والطور: كُلُّ جَبَل يُنْبِتُ الشَّجَرَ فإِن لم يُنْبِتْ شَيْئاً فليس بطُورٍ)( ).
إشربوا: أي خالط حبه قلوبهم وحل محل الشراب (يقال أشرب فلان حب فلان : أي خالط قلبه)( ).
في سياق الآيات
تتضمن هذه الآية إظهار جانب آخر من فعل فريق من أهل الكتاب وقيام الحجة عليهم باتخاذ النقض والجحود منهجاً مع تجاهرهم بالمعصية.
لقد جاءت هذه الآية نوع بيان وتفسير للآية السابقة، ومع أن موسى جاء بالآيات والبراهين الدالة على التوحيد وصدق نبوته، فإن الله تعالى أخذ عليهم الميثاق لعبادته، وعدم الشرك به، ورفع فوقهم الجبل تخويفاً وتهديداً، وحثاً على عدم الإبطاء في الإستجابة والإمتثال، والميثاق ورفع الجبل نعمتان إضافيتان.
لقد أراد الله تعالى لبني إسرائيل الإنصات لما يقوله موسى عليه السلام، والعمل بما جاء به من عند الله كما في قوله تعالى [وَاسْمَعُوا] والمراد اعم من السماع ، إذ يشمل الإستماع والقبول والرضا والإمتثال لما جاء به.
وجاء الجواب الدال على الجحود مركباً من أمرين السماع والعصيان [قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا].
ومن وجوه تفسير هذه الآية السابقة قوله تعالى [وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ] أي دخل حب العجل في قلوبهم وإستمعوا إلى السامري، وأعرضوا عما أمرهم به موسى عليه السلام لتغرير السامري وفتنته.
وإذ جاءت الآية قبل السابقة بالإخبار عن قولهم بإنهم يؤمنون بما أنزل الله على موسى من التوراة فان هذه الآية تنفي مصداق هذا القول لأن إتخاذ العجل يدل على عدم الإيمان، لولا أن منّ الله عليهم، وخلّصهم من فتنة العجل، كما جاء في التنزيل حكاية عن موسى في خطابه مع السامري[وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا]( )، ليكون الذم على عبادة العجل تذكيراً بنعمة الله عليهم بالتدارك والتخلص من العجل كمادة وسبب للجحود والإفتتان، ودعوتهم من جديد إلى عبادة الواحد الأحد.
وإذ جاءت هذه الآية في بيان النعم الإلهية على بني إسرائيل في إصلاحهم للعبادة وحملهم عليها بالتغليظ والتخويف والزجر عن الفواحش وأسباب العناد جاءت الآية التالية تحدياً، ودعوة لإثبات قولهم أن الجنة لا يدخلها غيرهم بإن يتمنوا الموت لأنه مقدمة لدخول الجنة، وقد ورد ذكر رفع الطور في آية سابقة( )، لبيان عظيم النعمة برفع الميثاق وإعراضهم عنها يحسب نظم الآيات، وجاء هنا ذكره للإحتجاج عليهم ومؤاخذتهم ونفي إدعائهم الإيمان بالإضافة إلى الفوائد العقائدية في تكرار ذكر النعم.
جاء فعل الأمر (قل) ثلاثمائة واثنتين وثلاثين مرة في القرآن، والأغلب الأعم منها موجه من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو مدرسة في العقيدة وعلم الكلام، والإحتجاج.
وجاء لفظ (قل) في هذه الآيات للإحتجاج ، وتوجيه اللوم لهم، وفيه إصلاح للمسلمين، ودعوة لهم للتوقي من أسباب تضييع منازل التفضيل، وحث للمسلمين على تعاهد التفضيل والتشريف والإكرام بنزول القرآن، وما فيه من الأحكام والتكاليف، وهو من عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وجاء قبل آيتين قوله تعالى (قل) وكذا في الآية التالية وغيرها( )، وكلها أمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإحتجاج على بني إسرائيل، وهذا الإحتجاج لطف خاص بهم من الله، وحث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإكرامهم والعناية بهم، ودعوتهم للإسلام بالحجة والبرهان.
وإذ جاءت خاتمة هذه الآية بقول للنبي محمد موجه لهم بأمر من الله عز وجل، جاءت الآية التالية بالأمر له بالقول والإحتجاج عليهم , إذ بدأت بقوله تعالى [قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ].
إعجاز الآية
تدل لغة الذم في الآية وتوالي تعداد تلك الأفعال على اسرار عقائدية وفيها وجوه محتملة وهي:
الأول: الموضوعية الخاصة لإعتبار بني إسرائيل.
الثاني: انهم موعظة وعبرة ومن خلالهم تكون الآيات اعتباراً درساً للناس جميعاً، قال تعالى في وصف القرآن[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثالث: انهم ذكروا من باب المثال والفرد الأمثل وليس الحصر لبيان فضل الله تعالى على بعض الأمم وما عند الانسان من الجحود، وكيف ان المسلمين حفظوا المواثيق وتعاهدوا النبوة.
الرابع: إنه درس للمسلمين لينتفعوا منه في سيرتهم وفي معاملتهم مع الأمم والملل الأخرى.
الخامس : التداخل بين الوجوه أعلاه مع عدم الاخلال بالتعدد التداخل والتغاير بينها.
السادس : التداخل بين الوجوه المحتملة الثلاثة اعلاه.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، إذ أن الدنيا دار الموعظة والإعتبار مع بيان الآية للنعم التي نالها بنو إسرائيل من عند الله، فمع النبوة يأتي التوكيد الإلهي بلزوم قبولها بالآية الحسية الظاهرة بتحريك الجبل وجعله فوقهم وكأنه يريد أن يهوي عليهم ويهلكهم.
ومن الإعجاز في الآية أن الأمر بالإستماع جاء بعد الميثاق ورفع الطور والأمر بأخذ ما آتاهم الله بقوة ، وهل تدل الآية على الإستماع إلى الأنبياء ومنهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنها تحصر الإستماع بما جاء به موسى عليه السلام.
الجواب هو الأول، وأن الآية تتضمن الإطلاق في الإستماع لكل ما أنزل الله تعالى من الكتب وخاصة القرآن الذي جاء بالتوثيق السماوي لهذه الآيات، والإستماع للأنبياء والمرسلين فيما يأتون به من عند الله، والإطلاق من وجوه:
الأول : عطف الأمر بالسماع على الأخذ بقوة لما آتاهم الله.
الثاني : إتحاد سنخية التنزيل.
الثالث : إتحاد أحكام الشرائع، من غير أن يتعارض هذا الإتحاد مع النسخ فيما بينها، والنسخ علة للزوم الأخذ بالشرائع اللاحقة، وقد جاءت شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ناسخة لما قبلها من غير أن تنسخها شريعة أخرى.
الرابع:جاء الأمر بالسماع مطلقاً من غير تقييد بشرط أو حكم، وأن جاء قولهم شاهداً على سماعهم لما جاءبه موسى بقوله تعالى [قَالُوا سَمِعْنَا]وإفادة الزمن الماضي في السماع لا يتعارض مع إطلاق الأمر بالإستماع لأن موسى عليه السلام جاء بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم تصديقه وإتباعه ونصرته.
وجاء لفظ (وإشربوا) بصيغة المبني للمجهول مع أنه عن إختيار منهم وفيه مسألتان:
الأولى: الإشارة إلى فتنة السامري، لذا قام موسى عليه السلام بلومه وتوبيخه على نحو الخصوص.
الثانية: إنتقال الآية إلى صيغة الغائب وخاتمتها خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتكون مجتمعة ومتفرقة حجة.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية (واسمعوا) وقد ورد هذا اللفظ أربع مرات في القرآن واحدة في خطاب لبني إسرائيل في هذه الآية الكريمة وثلاثة منها موجهة للمسلمين، وتتضمن هي ومصاديقها الواقعية الثناء عليهم وتوكيد (أنهم خيرأمة أخرجت للناس)( )، فلم يظهر المسلمون الإمتناع عن الإستماع والإمتثال , وهم الأمة المستمعة للتنزيل.
الآية سلاح
من الأغراض والمقاصد السامية في هذه الآية الكريمة رفع اللبس، ومنع الإغترار، ودفع الجهالة، ودفع الجهالة، وبعث النفرة من الإصرار، قال تعالى في الثناء على المسلمين[وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
لقد أراد الله عز وجل في هذه الآيات تقوية المسلمين عقائدياً بنهيهم عن الإستماع الى ما يقوله أهل الجدال وإن كانوا من المليين وإن المدار على دخول الإسلام او الكفر به اذ لا واسطة بينهما ويدل عليه قوله تعالى[قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ].
والآية دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وأمر لهم بتوبيخ الكافرين والإجهار بذم الجاحدين، والآية زجر عن الأفعال القبيحة وبعث للمسلمين على تجلي معاني الإيمان على جوارحهم وعرض اعمالهم وسيرتهم النوعية والشخصية على موازين الايمان وضوابطه الكلية، وهي باب لإتقان لغة الإحتجاج والدعوة الى الله بإقامة الحجة والبرهان.
وهي تأديب للمسلمين وحث على تعاهد الإيمان بمصاديقه الصحيحة، إذ أن ذم الإنسان لفعل المنكر تنبيه وحرز له في الغالب من إتيان ذات الفعل.
(قال علي ابن أبي طالب وابن عمه عبد الله عباس: ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بَعَث محمدًا وهو حَيّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمَرَه أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصرُنَّه)( ).
لقد خلق الله عز وجل الناس للعبادة وخصال الصلاح، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، وجاءت مواثيق الأنبياء لبعث الناس على العبادة، وجذبهم إلى منازل الصلاح والتقوى، وتفضل الله وأنزل القرآن وجعله الكنز السماوي الذي يحفظ مواثيق الأنبياء والأمم.
موضوع النزول
وفيه وجوه :
الأول : ذكر القرطبي من غير ان يرفع الخبر او يذكر سنده ان موسى عليه السلام لما جاء لبني اسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم: خذوها والتزموها، فقالوا: لا إلا ان يكلمنا الله بها كما كلمك، فصعقوا ثم أحيوا.
فقال لهم: خذوها، فقالوا: لا، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله؛ وكذلك كان عسكرهم؛ فجعل عليهم مثل الظلة، وأُتوا ببحر من خلفهم، ونار من قبل وجوههم، وقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق الا تضيعوها، والا سقط عليكم الجبل، فسجدوا توبة لله وأخذوا التوراة بالميثاق)( ).
الثاني : الإنذار والتذكير وما في التذكير من الموعظة واحتمال التدارك بدخول الإسلام، ومن النتائج تعليم المسلمين صيغ الجدال، قال تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
الثالث : عن السدي وابن جريج ان موسى عليه السلام برد العجل وذراه في الماء وقال لبني اسرائيل: اشربوا من ذلك الماء فشرب جميعهم، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه، وابن جريج يروي احياناً عن التوراة.
مفهوم الآية
الآية مناسبة للتوبة والإنابة والندم وعدم اتباع الآباء في إخطائهم وإتباعهم الهوى وميلهم الى عبادة العجل، وفيها تحذير من الكفر والجحود ودعوة للزوم التقوى وطاعة الله تعالى وإظهار مصاديق الإيمان ومن اهمها اعتناق دين الإسلام واتباع الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن مفاهيم الآية المنع من امتداد حب العجل في القلوب وتجليه سلباً على نحو عبادة الطاغوت واتباع رؤوس الضلالة والكفر.
إذ جاء ذكر العجل من باب المثال والفرد الحاصل واقعاً، وفيه دعوة للمسلمين لعدم الإفتتان، والتنزه من أسباب الشرك والضلالة، وإذ أفتتنوا بإتخاذ العجل مع غياب موسى عليه السلام للمواعدة، وهارون النبي معهم، فان المسلمين يتعاهدون في أجيالهم المتعاقبة وبعد مرور أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان ديانة التوحيد، والإتيان بالفرائض الذي يحكي واقع تقيدهم التام بإحكام العبودية لله تعالى.
ومن الآيات في الشريعة الإسلامية فرض الصلاة على نحو متعدد في اليوم فرض عين على كل مكلف ومكلفة لتكون مرآة للإيمان، وشاهداً على عدم إفتتان المسلمين أو غلوهم بأحد من الخلائق، وهو من مصاديق نيلهم مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وفيه دعوة للناس للحاق بهم، فحينما يأتي ذم عبدة العجل في القرآن فانه لا يستطيع أحد أن يرد على المسلمين حين تلاوتهم الآيات، فهم حفظة التوحيد وحملة لوائه إلى يوم القيامة، ولم يرفع الطور على المسلمين بل جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم وللناس جميعاً بلغة الوعد والوعيد والبشارة والإنذار من عند الله بالمعجزة العقلية الخالدة (القرآن).
وفي الآية مسائل:
الأولى: تتضمن الآية توكيد أخذ الله الميثاق والعهد من بني إسرائيل، وإخبار القرآن ذاته توكيد، وجاءت الآية بصيغة الماضي، وبلغة الخطاب وإذ أخذنا ميثاقكم، في إشارة إلى أيام موسى عليه السلام، وإتصال مضامين وأثر الميثاق إلى أيام نزول القرآن، وتلك آية إعجازية بإن يؤخذ الميثاق من جيل منهم , فيكون شاملاً لأجيالهم المتعاقبة إلى حين نزول القرآن، الذي يتضمن الدعوة إلى الإسلام والعمل بإحكام وسنن الميثاق.
الثانية: مع أن رفع الطور تخويف وإنذار حسي ظاهر فانه نعمة أخرى على بني إسرائيل، إذ رأى كل واحد منهم آية رفع الجبل من مكانه، وإشرافه وتدليه عليهم، ليكون سبباً إضافياً، وعوناً لهم على العمل بإحكام الميثاق على نحو مستمر ودائم، إذ أن موضوع رفع الطور لا ينحصر بساعة رفعه فقط، بل هو أمر مصاحب لوجوب العمل بالميثاق على مر العصور، ومن أفراد الميثاق التصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا التصديق مقدمة للعمل بالأحكام والسنن التي جاء بها من عند الله.
الثالثة: بيان عظيم قدرة الله تعالى في رفع الطور من مكانه، وما في قلعه من موضعه من الوعيد والتخويف دليل على أن المسلمين هم الأمة الأفضل بين الأمم لأنهم آمنوا بما أنزل الله تعالى وعملوا بأحكام القرآن من غير آية حسية في الوعيد والتخويف كرفع الطور.
الرابعة: الإخبار عن علة وموضوع رفع الطور وهو لزوم عدم تفريط بني إسرائيل بمضامين الميثاق على نحو السالبة الكلية أو الجزئية، وعدم الإستخفاف بأحكام النبوة، أو الإستهزاء بالمؤمنين، ولو أخذوا ما أتاهم الله بقوة وإنقطعوا إلى العبادات لما إتخذوا العجل وأفتتنوا به.
الخامسة: بيان قانون ثابت وهو أن تلقي الكتاب السماوي بالقبول والإصغاء للنبي واقية من المعصية والشرك والضلالة، ومن خصائص المسلمين تعاهد القرآن رسماً وتلاوة وأحكاماً، وحفظ وتدوين سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية لذا إستحقوا نعت [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
السادسة: تعدد النعم والفضل الإلهي على بني إسرائيل بتعدد إسباب دعوتهم للإيمان وهو في هذه الآية على وجوه:
الأول: أخذ الله تعالى الميثاق عليهم، وفيه توكيد وحث على التقيد بأحكامه فلم يقم موسى عليه السلام بأخذ الميثاق من بني إسرائيل ولم يفوض الأمر إلى هارون النبي والعلماء من بعده،بل أن الله تعالى هو الذي أخذ الميثاق منهم, رحمة بهم ولبيان وجوب التقيد بمضامينه القدسية.
الثاني: رفع الطور فوقهم ليكون حجة حسية ظاهرة تمنع من الشك أو الزيغ، ومن الآيات أن الطور لم يقع عليهم وحال رفعه أو فيما بعد عندما عصوا وإتخذوا العجل وافتتنوا به، مما يدل على أن رفع الطور نعمة وحث لهم على التقيد بسنن الميثاق وعدم التفريط بمضامينه، قال تعالى[لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً]( ).
الثالث: الأمر الإلهي لبني إسرائيل بإن يعملوا ويتقيدوا بما أمرهم به سبحانه بقوة وحرص.
الرابع: إقتران الأمر[خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ] برفع الطور وعدم تخلف أحدهما عن الآخر ليكون العمل بالميثاق كالمعلول الذي لا يتخلف عن علته وظهور الآيات وحال الخوف والفزع من نزول البلاء عند التقصير والتفريط والجحود.
الخامس: تكرر مادة (خذ) في الآية مع الإتحاد في موضوعها والتباين في الجهة، فالله عز وجل أخذ الميثاق من بني إسرائيل وهو الغني عن العالمين، ولكن أخذ الميثاق لنفعهم في الدنيا والآخرة، لذا جاء قوله تعالى [خُذُوا] لتتجلى معالم الميثاق بالقول والعمل من بني إسرائيل , وهو من عمومات قوله تعالى[وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
السادس: مجئ قوله تعالى [وَاسْمَعُوا] بصيغة الأمر الذي يحمل على الوجوب وعدم الترك، ولم تذكر الجهة التي يجب على بني إسرائيل الإستماع إليها، ولا الموضوع الذي يستمعون إليه، وفيه وجوه:
الأول: الإستماع للآيات التي تنزل من عند الله، وما في التوراة من الأحكام.
الثاني: ما يأتي به موسى عليه السلام من عند الله تعالى.
الثالث: الوحي الذي يخبر به الأنبياء من بعد موسى عليه السلام.
الرابع: البشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل وعلى لسان موسى وعيسى عليهما السلام في محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: سماع كلام الله تعالى وما ينزل من عنده، قال تعالى [يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ].
السادس: الإصغاء للأنبياء وفيه توثيق لآيات الميثاق .
السابع: دعوة الأنبياء للجهاد والصبر في ذات الله.
الثامن: النواهي عن الكفر والصدود والمعاصي.
التاسع: الإنصات إلى الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
العاشر: الإستماع لتلاوة القرآن وتدبر معاني الآيات وما فيها من الإعجاز، قال تعالى [ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا] ( )، إن ورود قوله تعالى[وَاسْمَعُوا] على نحو الإطلاق يفيد العموم وكثرة النعم والإنذارات والبشارات التي ترد على بني إسرائيل وتجعلهم مع الإستماع إليها في سياحة في عالم الملكوت، وفي الإستماع للآيات مسائل:
الأولى : إنه وسيلة للصلاح.
الثانية : صيرورة الإستماع مناسبة للهداية.
الثالثة : إنه واقية من الجحود والمعاصي.
الرابعة : تجديد للعهد بالبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتطلع إلى زمانها، وتدارس علاماته، وفي الثناء على فريق من أهل الكتاب ورد قوله تعالى[وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ]( ).
وعن سعيد بن المسيب وغيره(بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه كتاباً إلى النجاشي، فقدم على النجاشي ، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه، وأرسل النجاشي إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر بن أبي طالب أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ عليهم سورة مريم، فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع، وهم الذين أنزل فيهم{ولتجدن أقربهم مودة} إلى قوله {مع الشاهدين}
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير في قوله{ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً} قال: هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلاً اختارهم من قومه الخيِّر الخيِّر، فالخير في الفقه والسن، وفي لفظ: بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلاً، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه، فقرأ عليهم سورة يس، فبكوا حين سمعوا القرآن، وعرفوا أنه الحق)( ).
السابع: مجيء خاتمة الآية بصيغة اللوم والذم لفريق من أهل الكتاب على المعصية، وهذه الصيغة نعمة أخرى وفيه وجوه:
الأول : إنها مدرسة في الأصلاح.
الثاني : إنها سبيل للتوبة والإنابة.
الثالث : التذكير بالإيمان وما يترشح عنه من الوظائف العقائدية والأخلاقية.
الرابع : صيرورة الإيمان هو الملاك في تقييم الأفعال.
الخامس : تأكيد قانون في الإرادة التكوينية، وهو لزوم ترشح معاني التوحيد على قول وفعل المؤمنين مجتمعين ومتفرقين.
السابعة: من اللطف الإلهي ببني إسرائيل أخذ الميثاق منهم، وألأمر الإلهي لهم بأخذ ما آتاهم الله بقوة، وفيه مسألتان:
الأولى: ترى ماذا أتى الله بني إسرائيل، وفيه وجوه:
الأول: بعث موسى عليه السلام نبياً رسولاً من الخمسة أولي العزم من بين ظهرانيهم.
الثاني: الميثاق الذي أخذه الله عليهم، قال تعالى [خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ] ( )، أي أذكروا ما في الميثاق من الأحكام والسنن ومضامين الحكمة والميثاق التي أخذها الله عليكم، وجاء الأمر الإلهي لبني إسرائيل بإن يأخذوا ما آتاهم، ولا تعارض بين الأمرين لأن المراد أخذهم وقبولهم بمضامين الميثاق والعمل بإحكامه.
الثالث: نجاة بني إسرائيل من العذاب الذي كانوا يلقونه من فرعون وقومه.
الرابع: ما أنعم الله تعالى به على بني إسرائيل أذ جعل فيهم ملوكاً، وجعلهم أصحاب أموالٍ وبيوت وشأن، قال تعالى [اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا]( ).
الخامس: نزول التوراة، ولزوم تعاهد بني إسرائيل لها وللأحكام والبشارات التي فيها.
السادس: البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت في التوراة وعلى لسان أنبياء بني إسرائيل.
السابع : العبادات والمناسك والتقيد بالأوامر الألهية.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلهامن مصاديق الآية الكريمة.
الثانية : ما المراد من القوة في قوله تعالى [خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ]:
الأول : توكيد أخذ ما آتاهم الله، ولزوم عدم التفريط به.
الثاني : بيان شدة التكاليف والأفعال العبادية، وتعاهد المبادئ العقائدية.
الثالث: الإشارة إلى ما يلاقيه بنو إسرائيل من العناء في الحفاظ على المبادئ وما يتعرضون له من الأذى من القوم الظالمين، فجاء قوله تعالى [بِقُوَّةٍ] حثاً على التمسك بالمبادئ وأحكام الشريعة والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون وسيلة لإستدامة الأمل والإنشغال بالدعاء للفوز بنصرته.
الرابع: تحذير بني إسرائيل من الإنقطاع إلى الدنيا وحب المال وترك ما أمرهم الله تعالى به.
الخامس: قيد (بقوة) دليل على عظيم النعمة الإلهية على بني إسرائيل بالميثاق، وفيه إشارة إلى تجلي معاني الشكر لله تعالى على هذه النعمة بأخذ الميثاق بقوة.
السادس: أخذ الميثاق وآيات التوراة، والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوة برزخ دون نسيانها والتفريط بمضامينها.
السابع: بيان قانون ثابت وهو وجوب أخذ المواثيق الإلهية بقوة.
الثامن: الميثاق نعمة عظيمة على بني إسرائيل مما يستلزم تعاهدهم لها والعزم والثبات على فعل ما فيه وحسن النية في التقيد بأحكامه.
التاسع: إشتراك عموم بني إسرائيل بأخذ ما أتاهم الله تعالى لأن عمل الجماعة والأمة قوة وسبب لإستدامة العمل بالميثاق والعهود.
وورد ذكر أخذ الميثاق بقوة في القرآن ثلاث مرات بصيغة الجمع، كلها في بني إسرائيل ولزوم أخذهم ما آتاهم الله، ومرة بصيغة المفرد وهي في موسى عليه السلام ووجوب حث بني إسرائيل على الأخذ بما في الألواح من الموعظة والبيان قال تعالى[فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا]( ).
السابعة: مجيء الأمر الإلهي إلى بني إسرائيل مركباً من وجهين:
الأول: أخذ ما آتاهم الله بقوة.
الثاني: وجوب السماع.
ويدل تعدد الكيفية والتنافي بين الأخذ والسماع على لزوم إشتراك الحواس والجوارح في الإمتثال لأمر الله تعالى، وأداء العبادات ويفيد إقتران الأخذ بالسمع لزوم العمل بمضامين الميثاق.
الثامنة: ذكر جواب بني إسرائيل، وتوثيقه في هذه الآية وقولهم [سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا] وهو حجة عليهم، وشاهد على معرفتهم بما يجب عليهم، وقيام الأنبياء بوظيفة التبليغ.
التاسعة: إفتتان فريق بالعجل وفتنة السامري، وبيان سبب هذا الإفتتان وهو الجحود بالنعم ومنها نعمة نبوة موسى والآيات التي جاء بها.
العاشرة: بدأت الآية بذكر الميثاق والنعم الإلهية بصيغة الخطاب الموجه إلى بني إسرائيل، ولكن حينما جاء الذم والنعت بالكفر إنتقلت الآية إلى لغة الغائب وهو المسمى في الإصطلاح البلاغي بالإلتفات ثم عادت الآية إلى لغة الخطاب بالأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن ينكر عليهم فعلهم، وتناقضه مع إدعائهم الإيمان.
الحادية عشرة: أن الإيمان باعث للصلاح، فهو واعز نفسي وملكة تعصم الإنسان من إرتكاب المعاصي والسيئات.
الآية لطف
يفيد الجمع بين بداية الآية وخاتمتها التوكيد على الميثاق بصيغ التخويف والوعيد وأنه رحمة ببني إسرائيل كي يرسخ الإيمان في النفوس، ويصبح ملكة تصدر عنها أفعال الطاعة، وبرزخاً دون إرتكاب المعاصي والفواحش، قال تعالى[فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
فلا يجتمع الإيمان مع فعل المعصية لأنه زاجر للنفس، ومانع من إتباع الهوى، ومن خصائص اللطف في الآية أمور:
الأول : إرشاد المسلمين، وتفقهم في الدين.
الثاني : تأديب المسلمين ودعوتهم لتعاهد أحكام الشريعة، وإذا كان بنو إسرائيل أخذ الله عليهم الميثاق، فأحكام القرآن ميثاق سماوي ودعوة لازمة.
الثالث : حث المسلمين على التقيد بمفاهيم التوحيد، وسنن الحلال والحرام.
الرابع : توثيق القرآن للمواثيق الإلهية على الأمم السابقة، قال تعالى[أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ]( ).
وأخرج أحمد عن عبد الله بن ثابت قال(جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني قد مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً. فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه لضللتم. إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين)( ).
الخامس : دعوة الناس إلى الإتعاظ مما يترشح عن إيمان المسلمين وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من تقيدهم بالفرائض والسعي الدؤوب في مرضاة الله الأمر الذي يتجلى بإحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
ومن الآيات أن يأتي التخويف في الدنيا للنجاة والسلامة في الآخرة، وإقامة الحجة على الناس، والله عز وجل غير محتاج لأحد، والخلائق جميعها محتاجة إلى رحمته.
وقد أنعم الله على بني إسرائيل بالميثاق مع التخويف برفع الطور، والتوكيد على أخذ الأحكام والفرائض بقوة وعزيمة وثبات، وهو لطف خص الله به بني إسرائيل ليفوزوا بالجنة، وتصدّق أجيالهم اللاحقة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وحينما قالوا سمعنا وعصينا فان كلمة التوحيد ظلت في الأرض يتوارثها المسلمون منهم ومن غيرهم من أهل الكتاب إلى أن أنعم الله على أهل الأرض بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن أخذ الميثاق من بني إسرائيل لطفاً بهم وحدهم، فهو مدرسة وموعظة للمسلمين في الأجيال المتعاقبة، وعبرة لجميع أمم الأرض، وشاهد على العناية الإلهية ببني إسرائيل، وعمومات قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، بذكرهم وتذكيرهم في القرآن ودعوتهم إلى الإيمان بالنبوة.
إفاضات الآية
الميثاق في الآية عطاء وهبة من عند الله خص بها بني إسرائيل ليتعاهدوا تفضيلهم على الناس من أهل زمانهم والمواثيق الإلهية أعم وتبدأ من عالم الذر، وجاء بصيغ التخويف والحجة الظاهرة والآية الحسية التي تتجلى برفع الجبل عليهم وهم ينظرون اليه، فمرة كانوا ينظرون إلى فرعون وجنوده وهم يفرقون في اليم، وأخرى ينظرون إلى الجبل وكأنه واقع عليهم ليأخذوا ما آتاهم الله من التنزيل والحكمة والبشارات ووجوه العبادات وفيه عون لهم، ودعوة لغلبة العقل والإنقياد إلى صوت الإيمان، ومنع إستحواذ النفس الشهوية على عالم الأقوال أو الأفعال، ومع الميثاق يأتي الفيض الإلهي،بالعلم والمرعفة وأسباب التفقه في الدين وهو الذي يتجلى بقوله تعالى [خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ].
لقد جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار، وتفضل وأعان الناس بالهداية إلى الإيمان ليكون نبراساً يضئ دروب الهداية وبرزخاً دون المعصية وغلبة مفاهيم الكفر على النفس أو في المجتمعات.
وجاءت خاتمة الآية بذكر حقيقة وهي أن الإيمان يأمر الإنسان، ولا يأمر إلا بطاعة الله وإجتناب الكفر ومقدماته، والتنزه عن المعاصي وتدعو الآية الناس إلى التدبر في سنن المسلمين وإقامتهم للفرائض، وتعاهدهم لها، ومنها أداء الصلاة خمس مرات باليوم، وفي حديث عن الشعبي عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وَإِنَّه واللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي)( ).
وتحتمل نسبة المواثيق للقرآن وجوهاً:
الأول : في القرآن ميثاق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثاني : ليس في القرآن إلا المواثيق التي يذكرها بالاسم والموضوع.
الثالث : في القرآن مواثيق الأنبياء.
الرابع : ذات القرآن ميثاق.
وبإستثناء الوجه الثاني فإن الوجوه الأخرى كلها صحيحة، وهو من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت الآية ببيان ذكر المواثيق والآيات التي تتضمن أخذ العهد على بني إسرائيل، وحثهم على التقيد بأحكام التوحيد، وهي:
الأول: أخذ الله الميثاق من بني إسرائيل، ولم تذكر هذه الآية الميثاق ولكن الآيات السابقة ذكرته على نحو التفضيل، ولزوم عبادة الله عز وجل.
الثاني: رفع الله الجبل فوق رؤوس بني إسرائيل إنذاراً وتخويفاً، وحثاً على لزوم عبادة الله، وعدم التفريط بأحكام الميثاق.
الثالث: الأمر الإلهي بأن يتلقوا التنزيل والأحكام بالقبول والتصديق.
الرابع: لزوم الإمتثال بما في التوراة والتنزيل من الأوامر والنواهي وهذا اللوم يتجلى بقوله تعالى [وَاسْمَعُوا] بصيغة الأمر.
ان كل فرد من الآيات والأوامر أعلاه نعم عظيمة على بني إسرائيل وعلى الناس، وباب لتثبيت دعائم الإسلام في الأرض، ولكن القوم لإفتتنوا بالعجل بسبب جحودهم وعدم تقديهم بالعهود والمواثيق والآيات.
فجاءت خاتمة الآية بالأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيه اللوم لهم على التباين والتناقض بين مايدعون من الإيمان وبين وسوء فعلهم الذي يتنافى مع الإيمان.
التفسير الذاتي
جاء قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ] ثلاث مرات في القرآن كلها في سورة البقرة، وهذه هي الثالثة منها، وتقدم قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ]( )، وفي تعدد آيات الميثاق مسائل:
الأولى: بيان أهمية وموضوعية الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على بني إسرائيل.
الثانية: تعدد مضامين الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على بني إسرائيل.
الثالثة: الميثاق حجة على بني إسرائيل.
الرابعة: التذكير بالميثاق مناسبة للصلاح والإصلاح.
الخامسة: في ذكر مصاديق الميثاق على بني إسرائيل آية يحتج المسلمين عليهم.
السادسة: الآية مناسبة لتفقه المسلمين في الدين، ومعرفتهم بأحوال الأمم السابقة.
السابعة: إنه من عمومات قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن التذكير بالميثاق لم يأت مجرداً بذاته، بل جاء من بيان نقضهم له، وتخلفهم عن مضامينه بعد أخذ العهد عليهم، ومن أفراد ومصاديق الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل أمور:
الأول: عبادة الله عز وجل، وعدم الشرك به، وفي عبادتهم للعجل نقض لأهم أفراد الميثاق، لذا جاءت هذه الآية بالتذكير بالميثاق والإخبار عن نقضهم له بعبادة العجل، التي هي معصية ومن الكبائر بذاتها كما أنها نقض للميثاق، مما يدل على أنهم لم يتخذوا العجل عن جهالة،وهل يمكن القول بأن إتخاذهم العجل قبل أخذ الله عز وجل عليهم الميثاق، الجواب لا، ويدل عليه سياق هذه الآية.
الثاني: البر بالوالدين، والإحسان لهم، ويشمل قوله تعالى [وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا]( )، المبادرة إلى قضاء حوائجهما والإستجابة لأمرهما وعدم نهرهما أو زجرهما أو إسماعهما ما يكرهان.
لقد أراد الله عز وجل التخفيف عن بني إسرائيل رجالاً ونساءاً وأبناءً، فبعد أن كان فرعون وقومه يؤذونهم كما في قوله تعالى[يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ]( )، جاء أخذ الميثاق عليهم بالرفق بالوالدين، وإعانتهما في أمور العبادة وتذاكر الميثاق، وسنن الأنبياء.
الثالث: الإحسان لذوي القربى، ومد يد العون والمساعدة لهم، وبذل الوسع معهم ونصحهم للثبات على الإيمان ودعوتهم للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن مصاديق الإحسان لذوي القربى الإنصات لدعوتهم للإسلام.
الرابع: الرفق بالأيتام، وإجتناب إيذائهم وظلمهم وأكل أموالهم، وتبين الآية إحاطة الميثاق بأمور عقائدية وإجتماعية وأخلاقية كثيرة لمنع حصول الفرقة والشقاق والفتنة بين بني إسرائيل، ومن الإعجاز في الميثاق أن أفراده ومضامينه عون على التقيد به.
الخامس: الإنفاق على المساكين وإطعامهم، والرفق بهم، وإجتناب ظلمهم وقهرهم وحملهم على أداء الأعمال الشاقة وبخسهم أجورهم، وهل ينحصر الأمر بالمساكين من بني إسرائيل الجواب لا، من جهات:
الأولى: أصالة الإطلاق.
الثانية: تعلق الإحسان بصفة المسكنة والفقر، والعجز عن توفير مؤونة السنة.
الثالثة: إرادة إصلاح النفوس وتهذيب المجتمعات، وجذب الفقراء لمنازل الإيمان.
الرابعة: الميثاق فضل من الله عز وجل على بني إسرائيل، ومناسبة لإحراز الأجر والثواب بتعدد مصاديقه الخارجية.
الخامسة: إعانة المساكين من مصاديق تعاهد الميثاق.
السادس: مخاطبة الناس بالمعروف، ودعوتهم إلى الهداية بالحكمة والحجة، وإعلان البشارات التي جاءت في التوراة بخصوص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم تصديقه وإتباعه وقال الطبرسي: وقوله [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا]( ) فيه عدول إلى الخطاب بعد الخبر( )، ولكنه من صيغة الخطاب ذاتها في الآية وإرادة توجيه الخطاب بالتكاليف وما في الميثاق من الأوامر إلى بني إسرائيل، فهو ليس من الإلتفات وفق الإصطلاح البلاغي، وهو لا يتعارض مع تقدير (قلنا لهم قولوا) وفي لغة الخطاب في الآية أمور:
الأول: حث بني إسرائيل على التقيد بأحكام الميثاق.
الثاني: بيان موضوعية كل فرد وموضوع من مواضيع الميثاق.
الثالث: شمول أحكام الميثاق لبني إسرائيل على نحو العموم الإستغراقي، فكل فرد منهم يتوجه اليه الخطاب التكليفي سواء كان حاضراً أوان الميثاق أو يولد فيما بعد، لأن لفظ (بني إسرائيل) سور جامع يشمل الأجيال والذراري منهم، مع التباين بلحاظ الموضوع فان الأجيال السابقة تبشر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، اما الذين عاصروا بعثته فعليهم العمل بتلك البشارات وتصديقه وإتباعه، لقد أراد الله عز وجل للأمة التي فضّلها على الناس تهذيب المنطق، وإصلاح اللسان، وجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون المسلمون أئمة الصلاح في الكلام والتهذيب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإجتناب اللعن والسباب، وهو من مصاديق قوله تعالى [كنتم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السابع: الأمر إلى بني إسرائيل بإقامة الصلاة، ومع أن الصلاة عمود الدين، وهي عبادة، فقد جاءت بعد الأمر بالبر بالوالدين والإحسان للناس بالفعل والقول، لتقدم الأمر بعبادة الله، ليكون الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بياناً وتفصيلاً لوجوه العبادة، وهو شاهد بأن الميثاق جاء لهم على نحو التفصيل والبيان المانع من الجهالة والغرر، والبعيد عن الإجمال الذي يسبب الترديد والخلاف.
فمن فضل الله عز وجل على بني إسرائيل والعناية واللطف بهم، إصلاحهم لأمور الدين والدنيا، ودفع أسباب الشقاق بينهم، ومنها النهي عن إخراج بعضهم من ديارهم، وجاء الأمر بإقامة الصلاة على نحو الإطلاق ولكنه مبين بواسطة الأنبياء، ليكون الأمر أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأدائها بشرائطها وحدودها التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية المباركة.
الثامن: بيان حقيقة وهي أن الزكاة واجبة على بني إسرائيل ومقترنة بوجوب الصلاة مع الفارق الذاتي الذي يستقرأ من الأحكام الشرعية بأن الصلاة واجب مطلق على كل المكلفين، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
أما الزكاة فهي واجب مقيد بلحاظ النصاب، بخصوص المصداق والوجوب، أما من حيث التكليف فهي واجب عام وشامل لبني إسرائيل معلق على حصول النصاب، وهو من الإعجاز في التكاليف الشرعية، بأن يأتي الخطاب عاماً، أما الوجوب والفعل فهو خاص بالذين تجتمع عندهم شرائط الزكاة وفيه مسائل:
الأولى : الزكاة خير محض وعون للفقراء والمحتاجين.
الثانية : في الزكاة طرد للنفرة من النفوس.
الثالثة : دفع الزكاة برزخ دون الفتن.
الرابعة : الزكاة عبادة وإمتثال لأمر الله، وهي مرآة الإيمان.
الخامسة : الزكاة نوع طريق لإصلاح النفوس، وتحصيل ملكة العدالة عند الذي يدفعها كتجارة للآخرة وعند الفقير الذي يأخذها.
السادسة : في الزكاة إصلاح للطرق والجسور والمدراس والمساجد، وإعانة المقاتلين وأهل الثغور.
السابعة : في الزكاة بركة ونماء للمال.
الثامنة : في الزكاة ثواب عظيم، وهي باب للمغفرة والعفو وشاهد الإيمان، وفي وصف المتقين قال تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( ).
التاسعة : في الزكاة ثواب عظيم، ويدل عليه الكتاب والسنة، وعن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري أن رجلاً قال: يا رسول الله خبرني بعمل يدخلني الجنة , فقال القوم ماله ماله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرب ماله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم)( ).
إن مجيء القرآن بوجوب الصلاة والزكاة من الشواهد على تصديقه بالكتب السماوية السابقة، وفي تقيد المسلمين بأحكامها وشرائطها حجة لهم، ودعوة للناس لدخول الإسلام، وقد جاء الأمر الإلهي لبني إسرائيل بأن يأخذوا الميثاق بقوة، ويحرصوا على التقيد بأحكامه وأن يذكروا ما فيه، ويستحضروا سننه( ).
التاسع: أخذ الميثاق على بني إسرائيل بعدم إشاعة القتل بينهم، ومن إعجاز القرآن أن جعل آية مستقلة لموضوع النهي عن القتل، والطرد من الأرض، مع أنه من الميثاق وجاء متعقباً للآية التي ذكر فيها الميثاق بحيث تكرر ذكر أخذه على بني إسرائيل في آيتين متعاقبتين( ).
العاشر: منع بني إسرائيل من طرد بعضهم من ديارهم، لأن هذا الطرد فرع الفرقة والإنشقاق وسبب للوهن والضعف سواء للذين يقومون بالإخراج أو الذين يخرجون أنفسهم.
وجاءت مواضيع وأفراد الميثاق في آيات من القرآن منها عدم الإفتراء أو الكذب على الله عز وجل قال تعالى [أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ] ( )، ومنها عدم التعدي والعمل في السبت قال تعالى [وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا]( )، ومنها بيان آيات الكتاب والبشارات التي جاءت بالنبي محمد في التوراة، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ]( ).
كما جاءت الآيات بأخذ الله الميثاق على الأنبياء ومنهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن النصارى، قال تعالى[وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ]( ).
ومن الآيات أن يقترن أخذ الميثاق من بني إسرائيل بالتخويف والإنذار برفع الطور، ومع الأمر بأخذ الطور جاء الأمر بالإستماع في قوله تعالى [وَاسْمَعُوا] وفيه وجوه:
الأول: الإنصات إلى مضامين الميثاق.
الثاني: الإستماع أمر إضافي أعم من الميثاق، ويتضمن الإنصات للأحكام الشرعية.
الثالث: تلقي البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والرضا.
الرابع: جاء الأمر بالإستماع لإجتناب التولي والإعراض، ليكون توليهم الوارد في قوله تعالى [ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ] حجة عليهم وأنه لم يأت إلا بعد التوكيد من الله عز وجل وبلغة التحذير والإنذار منه ومن الأعراض عن الآيات، ويكون بقاء القليل منهم على الميثاق بفضل من الله عز وجل، ولتتجلى معاني التوكيد بالأمر بالإستماع الوارد في هذه الآية.
وورد قوله تعالى [خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ]ثلاث مرات في القرآن كلها في بني إسرائيل، وجاءت مع التخويف والإنذار برفع الطور عليهم( )، وهو من فضل الله عز وجل على بني إسرائيل في لزوم العمل بالميثاق، وفيه وجوه:
الأول: جاء التخويف للملازمة والإقتران بين أخذ الميثاق بقوة ورفع الطور.
الثاني: جاء رفع الطور آية وبرهاناً على لزوم العمل بالميثاق.
الثالث: رفع الطور من فضل الله عز وجل على بني إسرائيل لإستحضاره دائماً، وهو نعمة لما فيه من الزجر عن المعاصي، قال تعالى[اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( ).
الرابع: إن الله عز وجل يعلم أن بني إسرائيل لا يتقيدون بالميثاق إلا برفع الجبل فوقهم، وتخويفهم بسقوطه عليهم عند نقض الميثاق، فلذا تفضل برفعه عليهم.
الخامس: إن الطور الذي صعد عليه موسى لتلقي التوراة يكون آلة ومادة للبطش ببني إسرائيل إذا أخلوا بالمواثيق والعهود التي جاءت بها التوراة.
السادس: بيان معجزة وآية من عند الله، وكما جاءت المعجزات بواسطة موسى عليه السلام كمعجزة العصا، وفلق البحر، وغيرها، فان آية رفع الطور جاءت من عند الله لتخويف بني إسرائيل من التولي والإعراض.
السابع: جاء رفع الطور بعد تردد بني إسرائيل في قبول التوراة وما فيها من أحكام الحلال والحرام، وبعد أن طلبوا آية على صدق أن الألواح التي جاء بها من عند الله عز وجل، فأرسل الله الملائكة فنتقوا الجبل فوق رؤوسهم فأخذوا التوراة.
والصحيح هو الثاني والثالث والرابع والسادس والأخير الذي جاء به الخبر، ولا دليل على الملازمة التي وردت في الأول، ولا تلك التي في الوجه الخامس أعلاه.
أما التخويف بالعقاب فهو مستمر [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، ويحتمل العقاب في المقام وجوهاً:
الأول: العقاب في الدنيا، بلحاظ رفع الطور وما يدل عليه من قرب آلة العقوبة ونزول العذاب.
الثاني: العقاب في الآخرة.
الثالث: إرادة المعنى الأعم.
والصحيح هو الثالث، لأن رفع الطور عنوان العقوبة العاجلة، إلا أن يعفو الله عز وجل كما في قوله تعالى لبني إسرائيل بعد إتخاذ العجل [ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، والآخرة دار الجزاء، لذا نزل القتل فيهم بعد فتنة العجل.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: جاءت الآية في سياق تعداد النعم الإلهية على بني إسرائيل.
الثانية: تبدأ الآية بالحجة من عندالله على بني إسرائيل، وتختتم بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، للإحتجاج عليهم لفعل الأمر الذي يحمل على الوجوب [قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ].
الثالثة: كما كان البحر من جنود الله تعالى في إطباقه على فرعون وجنوده، فان الجبل من جنود الله إذ ترك من مكانه وأشرف على بني إسرائيل تخويفاً لهم لكي يتقيدوا بإحكام الميثاق.
الرابعة: بيان فضل الله تعالى بنعمة الميثاق، ودعوة المسلمين لتعاهد آيات القرآن وأحكام الفرائض والعبادات.
الخامسة: توثيق إفتتان بني إسرائيل بالعجل، وتركهم لما أمرهم به موسى عليه السلام.
السادسة: لزوم التنزه من أسباب الكفر.
السابعة: من خصائص الإيمان التصديق بالأنبياء وما يأتون به من المعجزات، وليس الجحود بها.
وفي خاتمة الآية دعوة للناس جميعاً للتدبر بالآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله.
الثامنة: منع الناس من الإفتتان بالذين أفتتنوا بالعجل ودعوتهم إلى عدم الإصغاء لإنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسعة: إعانة المسلمين في الإحتجاج على غيرهم بالبينة والواقعة التأريخية.
العاشرة: منع تحريف الحقائق والوقائع، لأن إخبار القرآن حق وصدق.
الحادية عشرة: جعل بني إسرائيل يتفكرون في أمرهم من وجوه:
الأول: لزوم العمل بأحكام الميثاق وعدم التخلف عنه.
الثاني : التصور والنهي , وكأن الطور مرفوع عليهم، وتتجلى لغة الوعيد أيام البعثة النبوية بالعذاب الأليم لمن يتخلف عن التصديق بالنبي محمد وإتباعه.
الثالث: جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدعوة الناس جميعاً للإسلام، وفيه حث لبني إسرائيل للإنصات للآيات.
الثانية عشرة: إدراك حقيقة التنافي بين الإيمان وبين المعصية وإتخاذ العجل، وهذا الإدراك عون لهم لدخول الإسلام.
الثالثة عشرة : أخذ الحيطة والحذر من الشرك الظاهر والخفي والبراءة منه، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ قَالُوا وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الرِّيَاءُ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً ( ).
التفسير
قوله تعالى [ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ]
جاء الشطر الأول من الآية مكرراً فقد ورد في الآية الثالثة والستين من سورة البقرة وقد تقدم تفسيره( )، والى جانب ما في التكرار من التوكيد والبيان والفائدة فان المقام اكثر تفصيلاً، والنفع فيه أعم، بالاضافة الى اعتبار سياق الآيات في تفسير الآية أي ان معاني متعددة تترشح على الآية من السياق وموضعها في السورة والآيات المجاورة لها، فلا غرابة ان يكون النظم توقيفياً.
وتظهر الآية الترتيب وان رفع الطور جاء بعد اخذ الميثاق، مما يدل على ان التوبة عقوبة نقض الميثاق عاجلة ومن لطف الله تعالى ان يسبق العقوبة بالإنذار، ولكن الإنذار في موضوع العقوبة نفسه، وهو متقدم عليها رتبة زمانية، أي ان العقوبة بالطور والإنذار بالتلويح به ورؤيته حقيقة وقد أشرف عليهم.
وأختلف في الطور:
الأول : انه اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وانزل عليه فيه التوراة دون غيره، رواه ابن جريج عن ابن عباس( ).
الثاني : ما انبت في الجبال خاصة دون ما لم ينبت، رواه الضحاك عن ابن عباس ايضاً، والظاهر ان الألف واللام للعهد خصوصاً وان الآية جاءت للتذكير والتوبيخ.
الثالث : أي جبل كان، عن مجاهد وقتادة( ).
الرابع : انه اسم جبل بالسريانية، عن مجاهد( ).
وفي تلك الآية جاء ذكر الميثاق ضمن تعداد النعم العظيمة التي تفضل الله بها على بني اسرائيل، أما هذه الآية فهي حجة عليهم، وتبين انهم اوتوا النعمة ورأوا الآيات المخوفة وجحدوها، وأمروا بالسمع للأنبياء وإتيان الأحكام الشرعية فقابلوها بالمعصية العمدية استخفافاً واستكباراً.
قوله تعالى [ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ]
تبين الآية ان الذي اتاهم الله غير الميثاق ورفع الطور فكلاهما طريق لتعاهدهم وحفظهم لما آتاهم الله عز وجل، فلقد تفضل سبحانه على اليهود ببعثة موسى وهارون والأنبياء الآخرين وآتاهم التوراة وتوالت عليهم النعم وانجاهم من بني اسرائيل وانزل عليهم المن والسلوى، قال تعالى [سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ]( ).
والظاهر أن الآية تتعلق بالتوراة وما أنزل الله عز وجل من الأحكام والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صلى الله عليه وآله وسلم وان الأمر الإلهي بالأخذ نوع اكرام وتشريف لهم، وكل ما يتعلق بنبوته واتباعه او التبشير به وانتظار نبوته هو تشريف واكرام للمأمور بتحمله، كأمانة وعهد، ، ويدل على تعلق الأمر بالتنزيل قوله تعالى [ يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا] ]( ).
لقد أخبرت الآية عن اهليتهم لتلقي الكتاب وتحمل مسؤولية تعاهده وحفظه خصوصاً وانه تعالى لا يكلف العباد بما لا يطيقون، نعم نبوته وايمان الناس بها لا تتوقف على حفظهم للميثاق لأن آيات القرآن تصديق سماوي لنبوته.
ولكن حفظهم للميثاق وتعاهدهم للتوراة وما فيها من الأحكام والبشارة لمنفعتهم ومصلحتهم , وفيها تخفيف عن المؤمنين قبل وبعد البعثة، فجحود الإنسان لا يغير من المفردات الواقعية للإرادة التكوينية وارادته تعالى نافذة وماضية، ولكن الناس يحتاجون الإنقياد لها، ويلقون اشد العذاب عند مخالفتها.
جاءت الآية بالتذكير بالميثاق، ويمكن تسمية القرآن(الذكرى) لما فيه من تذكير الناس عامة وأهل الكتاب بما أنعم الله عليهم، ولزوم تقيدهم بأحكام الميثاق، قال تعالى[قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ]( )، وليس من حصر لمصاديق الذكرى الواردة في القرآن، إذ أنها توليدية ومتجددة، ومنها بلحاظ آية البحث أمور:
الأول: أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل.
الثاني: لغة الوعيد والتخويف مجيء الوعيد والتخويف بآية حسية أصابت فريقاً منهم، وهي تكفي لبعث الفزع والخوف في نفوسهم، وإمتناعهم عن الإحتراز بالإسلام والمسلمين.
الثالث: أمر الله عز وجل لبني إسرائيل بأخذ الميثاق والعهد بقوة والتمسك به.
الرابع: تذكير بني إسرائيل بقولهم(سمعنا) وما فيه من الحجة عليه.
الخامس: القيام بالمعصية بعد أخذ الميثاق عليهم.
السادس: العكوف على العجل.
السابع: التذكير بعلة هذا الجحود وهي الكفر.
الثامن: تذكير بني إسرائيل بما يجب عليه إذ كانوا مؤمنين وما يأتي في القرآن من الذكرى لأمة مخصوصة يكون بالنسبة للناس جميعاً على وجوه:
الأول: إتخاذ الناس له موعظة وذكرى، والقرآن نزل بلغة إياك أعني وأسمعي ياجارة.
الثاني: إتعاظ الأمم المختلفة من الذكرى بالواردة من القرآن.
الثالث: إقامة الحجة على الأمم التي يأتي القرآن بتذكيرها بالنعم، قال تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( ).
الرابع: دعوة الناس للتوبة والإنابة.
الخامس: إعتبار وإنتفاع المسلمين من الذكرى القرآنية وفي خطاب للمسلمين ورد قوله تعالى[وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ]( ).
قوله تعالى [بِقُوَّةٍ]
أي بنية صدق وارادة على العمل، وعزيمة على السعي في مرضاة الله، وعن ابن عباس بجد واجتهاد.
ان الآيات التي تنزل من عند الله عز وجل يجب ان يتعاهدها الناس بالعمل واقبال القلوب وجعلها ميراثاً وهبة سماوية مباركة للأجيال اللاحقة، أي ان مسؤولية الناس وفي كل زمان مركبة من العمل بالأحكام والسنن السماوية ومن ثم تسليمها الى من بعدهم، ومن شرائط التسليم وملحقاته إيجاد أسبابه كتهيئة الأبناء وإعدادهم لقبولها وإظهار الامتثال لما فيها من الأوامر والنواهي.
والقوة: الطاقة والمقدرة وضد الضعف، والباء في (بقوة) حرف يدخل على الإسم، ويصاحبه وتأتي الباء على وجوه عديدة، وقد نُظمت معانيها في بيتين من الشعر:
بالباء ألصق، واستعن، أو عد، أو … أقسم، وبعض، أو فزد، أو علل
وأتت بمعنى مع، وفي، وعلى، وعن… وبها فعوض، إن تشا، أو أبدل( ).
وللآية بلحاظ معنى حرف الباء معاني متعددة، ويكون مفهوم (بقوة) بلحاظ هذه المعاني على وجوه :
الأول : تفيد الباء معنى الإلصاق , وقيل هو الأصل في معانيها، ولم يذكر سيبويه غيره لها معنى وتقدير الآية أي خذوا الكتاب بصيغة القوة والشدة.
الثاني : التعدية، وباء التعدية هي التي تقوم مقام الهمزة لإيصال أثر الفعل إلى المفعول، قال تعالى[ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ]( )، ليكون المعنى أن ما آتيناكم فيه الحجة والبرهان.
الثالث : الإستعانة، وباء الإستعانة تدخل على الفعل، ومنه قوله تعالى[بسم الله الرحمن الرحيم] لتكون القوة والشدة، والفطنة التي تأخذوك بها ما آتاكم الله موضوعاً للإنتفاع الأمثل منه، ومنهم من يذكر باء الإستعانة في باب السببية، والأفضل التفصيل وأن صفة السببية تطلق على ما كان من فعل لله عز وجل، لأنه سبحانه غني عن الخلائق، وكل شئ منقاد له، ومستجيب لمشيئته.
الرابع : باء السببية أي صيرورة الشئ سبباً ومادة للفعل، قال تعالى [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ] ( ).
وتتضمن الآية بلحاظ هذا المعنى للباء مسائل :
الأولى : إن الله عز وجل هو الذي آتاهم الكتاب .
الثانية : أن ما آتاهم الله عز وجل فضل عظيم يستلزم أخذه بقوة وشدة.
الثالثة : وجوب عدم تفريط بني إسرائيل فيما آتاهم الله.
الرابعة : أخذ الكتاب بقوة سبب لحفظ البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمنع من تبديل صفاته بقوة، وفيه وجوه :
الأول : تعلق القوة بكيفية إتيان الكتاب والأحكام.
الثانية : إكرام الله لبني إسرائيل باتيان الكتاب لهم بقوة.
الثالثة : كما تفضل الله وأخذ الميثاق من بني إسرائيل فهو أنعم عليهم بصيغة القوة فيما آتاهم من النعم كي يتعاهدوها، ويتخذوها وسيلة للثبات في منازل الإيمان.
الخامسة : من معاني الباء التعليل، والتي تصلح اللام بديلاً عنها في الغالب، كما في قوله تعالى في آل فرعون[فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِم ] ( )، وقد تصلح اللام بدلاً للباء في غير التعليل[إِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ]( )، لتكون علة أخذ بني إسرائيل الكتاب بقوة على شعب:
الأولى : العمل بمضامين الميثاق الذي أخذه الله عليهم.
الثانية : سلامة التوراة من التحريف.
الثالثة : أداء بني إسرائيل للفرائض.
الرابعة : حفظ وتوارث البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بلحاظ أن معنى القوة في المقام توارث البشارة مع التأكيد عليها كعهد من عند الله.
السادسة : المصاحبة وهي التي يصح إتيان (مع) بديلاً لها، كما في قوله تعالى[يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ]( )، وتسمى (باء الحال) لإمكان وقوع الحال محلها.
وبلحاظ هذا المعنى للباء يكون تفسير الآية على وجوه :
الأول : آتاهم الله عز وجل الكتاب مع قوة وعلى نحو دفعي مرة واحدة، كما في نزول التوراة.
الثاني :مصاحبة الملائكة لما آتى الله بني إسرائيل، وفيه إكرام لهم، وبرهان على موضوعية وعظيم شأن هذه النعمة، وفي وصف جبرئيل ورد قوله تعالى[ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ]( ).
الثالث : مصاحبة أسباب المنعة لما آتى الله بني إسرائيل لسلامته من الشياطين، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ]( ).
السابعة : الظرفية ، وهي التي يحسن المجئ بالحرف (في) بدلاً عنها، كما في قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( ).
الثامنة : المقابلة، وهي التي تدخل على الأثمان والأعواض، كما في قوله تعالى[وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ]( ).
ليكون عوض وبدل تلقي نعمة الميثاق ونزول التوراة هو أخذهما بقوة قال تعالى[مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ]( ).
فالله سبحانه هو الغني الذي ينعم على الناس لمنفعتهم، وأن العوض والبدل هو تلقيهم الميثاق بقوة.
لقد أراد الله للمسلمين العمل بالتوراة بعزيمة وقصد القربة وبقوة الإيمان، والحرص على تعاهد البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يمنع من الإختلاف والشك في نبوته .
وهل من معاني الآية تلقي نبوته صلى الله عليه وآله وسلم بقوة أي بالقبول من غير تردد أو ريب , الجواب نعم بلحاظ كبرى كلية وهي أن أهل الكتاب حملة أمانة الكتاب والعهد والميثاق والتي تدعو للتصديق بنبوته ويمكن القول في الآية حذف، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : خذوا ما آتيناكم بقوة وشدة ومن غير إبطاء أو تسويف.
الثاني : خذوا ما آتيناكم بقوة الإيمان، وإخلاص العبادة.
الثالث : خذوا ما آتيناكم بقوة وتمسكوا به، ولا تفرطوا فيه.
الرابع : خذوا ما آتيناكم بقوة أي واعملوا بمضامينه القدسية، وفي خطاب إلى موسى عليه السلام بخصوص الألواح قال تعالى[فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا]( ).
الخامس : خذوا ما آتيناكم بقوة العقل وحكمة التدبير.
السادس : خذوا ما آتيناكم بقوة ومدد من الله لإعانتكم لأخذه والتعلم والإقتباس منه.
وتأتي الباء الزائدة مع الفاعل ومع المفعول ويكون المعنى خذوا ما آتيناكم وهو قوة بذاته.
قوله تعالى [وَاسْمَعُوا]
أي انصتوا للآيات النازلة من عند الله تعالى وللأحكام التي جاء بها موسى عليه السلام والأنبياء من بعده والبشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد اجتمع في الآية الأمر بالأخذ والسمع، وقيد الأخذ بالقوة دون السمع، لإرادة الكتب المنزلة والأوامر الجهادية من لفظ الأخذ، ويستلزم الثبات والوثوق والتأكد، والسمع من الكلي المتواطئ ويعني الإنصات وتتم الحجة فيه بأدنى مراتبه , وجاءت آية البحث لتوظيف بني إسرائيل والمسلمين الأسماع باسمى مرتبة، وأكثرها نفعاً للذات والغير.
والتعدد هنا لا يعني التغاير التام بين الأخذ والسمع، فقد يكون من مصاديق اذا اجتمعا افترقا واذا افترقا اجتمعا، كما يفيد اتمام العهد واحكام الآيات والأمر الإلهي.
وورود الأمر مع التخويف والوعيد نوع تحذير، ودعوة لعدم التردد في اطاعة الأوامر الإلهية، ولعل فيه أمارة على نقضهم للميثاق فيما بعد، لأن التردد مع رؤية الآيات واثناءها يدل على ضعف القابل , واحتمال تلكئه في حمل الأمانة بعد تعاقب الأيام , قال تعالى[إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ]( ).
وتفيد الآية لزوم إجتماع أفعال من بني إسرائيل وهي:
الأول : أخذ الميثاق.
الثاني : التسليم والإقرار بأن الميثاق من عند الله لقوله تعالى[مَا آتَيْنَاكُمْ].
الثالث : كيفية الأخذ والتلقي بقوة وحزم.
الرابع : الإستماع لما أنزل الله، ويحتمل الإستماع بلحاظ زمانه وجوهاً:
الأول : إرادة الزمن الماضي للتلقي والإستماع.
الثاني : حدوث التلقي والأخذ في الزمن الماضي , والإستماع في الوقت اللاحق له.
الثالث : إجتماع التلقي والإستماع في وقت واحد.
الرابع : التباين الزماني وهو أن الأخذ في وقت والإستماع في وقت، وكل منهما متأخر عن الأمر الوارد في الآية بلحاظ فعل الأمر(خذوا).
الخامس : أصل حدوث أخذ الميثاق والإستماع في أزمنة متعددة، وأوقات متفرقة.
قوله تعالى [قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا]
ويتضمن اموراً:
الأول : الاقرار بالسمع وتحقق التبليغ.
الثاني : إصرار فريق على الإقدام على المعصية.
الثالث : اللوم لترك الأوامر السماوية.
الرابع : الظن بان هذه المعاصي لا يترتب عليها عقاب.
الخامس : الاعتراف بالفعل , وفيه حجة واثبات لأداء الأنبياء لرسالتهم وما بعثوا به , ولم يكلف القوم بما لم يطيقوا وما لم يعلموا , لقبح التكليف بما لا يطاق.
السادس : لزوم الإنتفاع من النعم التي توالت عليهم والشكر للباري عز وجل بالتقوى والصلاح، قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
السابع : تحويل العبد السعادة الدنيوية واسبابها الى أذى , ولو على نحو السالبة الجزئية .
وفي الآية نكتة في المعرفة الإلهية وهي التعدد الجهتي لموضوع الميثاق وفق اللحاظ والمناسبة، من وجوه :
الأول : يذكر الموضوع لبيان النعمة.
الثاني : يذكر للحجة.
الثالث : بيان وتجلي عظيم قدرة الله وسعة فضله.
والذكر الواحد نفسه له وجوه متعددة كما يظهر من خلال التفسير فما هو حجة عليهم حجة ودرس للمسلمين، وما هو توبيخ وغضب على الغير يعتبر موعظة للمسلمين وللناس جميعاً، ومنهم الذين يتوجه لهم الخطاب الذي يتضمن معاني الغضب.
قوله تعالى [وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ]
إخبار عن تعلق قلوبهم بحب العجل، والإنشغال به ويحتمل الشرب هنا وجوهاً:
الأول : إرادة المجاز ببلوغ حب العجل إلى قلوبهم , وظهر هذا الحب على جوارحهم وحواسهم , فكأنه جرى في بدنهم كالماء الذي يشربون.
الثاني : المراد المعنى الحقيقي للشرب، وأن موسى عليه السلام قام يبرد العجل بالمبرد، ورمى برادته في الماء فشربوه وان موسى عليه السلام: اشربوا ، فشرب جميعهم . فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه ، وهذا قول يردّه في قوله : { في قلوبهم } . وروي أن الذين تبين لهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن ( ).
الثالث : الجامع بين الحقيقة والمجاز أعلاه من غير تعارض بينهما.
وقالت الأشاعرة في قوله تعالى [وَأُشْرِبُوا] ان فاعلاً غيرهم فعل بهم ذلك، وانه لا يقدر عليه سوى الله.
اما المعتزلة فقالوا ان الآية لا تفيد ارادة فعل غيرهم بهم لكن لفرط ولههم وألفهم بعبادة العجل أشربوا قلوبهم حبه، وان المراد من اشرب أي زينه عندهم ودعاهم اليه كالسامري وابليس وشياطين الإنس والجن.
وتتضمن الآية التفسير والتأويل والبيان لمضامينها القدسية.
وللباء في [بِكُفْرِهِمْ] وشبه الجملة من الجار والمجرور معان متعددة، فللباء ثلاثة عشر معنى , منها الإستعانة وهي الداخلة على آلة الفعل كما تقول : كتبت بالقلم , ومنها باء السببية , قال تعالى[فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ]( ).
لقد كان الكفر آلة وسبباً وعلة ومادة لحب طائفة العجل وعكوفهم عليه، وهو صريح الآية وموضوعها اذ انها جاءت لبيان سوء الفعل، والشرب جاء هنا استعارة تبعية لدلالة اثر حب للعجل وظهوره في اعمالهم.
ولم يرد لفظ(أُشربوا) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، نعم ورد لفظ(اشربوا) بصيغة الأمر ست مرات منها ما يتعلق بالحياة الدنيا ومنها في إكرام أهل الجنة، وورد في خطاب للمسلمين في فريضة الصيام قوله تعالى[وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ]( ) .
ومن معاني الباء في(بكفرهم) وجوه:
الأول : الإلصاق وهو على وجهين حقيقة ومجاز ، ومن الأول أمسكت بزيد، وكأن الكفر وعاء لإمتلاء القلوب بحب شيء والإفتتان به.
الثاني : السببية، وأن الوله والشغف بالعجل بسبب الكفر.
الثالث : إرادة المصاحبة والتقدير، وأشربوا في قلوبهم العجل مع كفرهم.
الرابع : إرادة الظرفية كما في قوله تعالى[نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ]( )، ليكون الكفر وعاء ومناسبة للميل الى الشي في النفس.
بحث بلاغي
من أقسام المجاز باب النقصان بحذف المضاف واقامة المضاف اليه مقامه كما في قوله تعالى [وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ ]( ) أي واسأل اهلها وذكر هنا ان المراد حب العجل، ولكن المعنى الأعم وفيه بيان لبعض منافع المجاز وما يدل عليه من السعة والتعدد في المقاصد.
ونستفيد من قرينة [قُلُوبِهِمْ ]ارادة حب العجل والتأثر به , كدليل خبري على الأمر الخارق للعادة، كما في اذعان الفراعنة للسحرة عندما ألقوا عصيهم وجاءوا بسحرهم للتغطية وحجب الناس عن الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام.
وذكر العجل وحده اشارة الى المعنى الأعم من الحب، فحذف المضاف لا يدل على المجاز وحده بل يراد منه معاني حقيقية لا يمكن البحث عنها واستقصاؤها الا بذكره الذي يدل بالدلالة الالتزامية على الاطلاق والقضية المهملة والتنكير الموضوعي.
فلو جاءت الآية بذكر حب العجل وحده، لأصبح ذكر غير الحب من القول بالرأي وخروجاً عن النص، وبذا يظهر لنا وجود قسيم ثالث للحقيقة والمجاز وهو الجامع لهما، وفيه دعوة للتفكر والتدبر في مضامين الآية وعدم الوقوف عند المعنى الحرفي او المفهوم البلاغي.
قوله تعالى [قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ ]
تظهر دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خطأ مستند بعضهم، وفي الآية علاج وطريق شفاء اذ تتناول بالبيان والوقائع اصل المبنى والوهم الذي يترتب على غير الصحيح منه، إنها رحمة وارشاد لإزالة الغشاوة وإزاحة للحواجب التي تحول دون رؤية للآيات بل والتنزيه للأفعال وما فيها من قبح.
وتدل الآية على ان الايمان يترشح على الجوارح والاركان ويبرز على الافعال، وانه سجية وملكة ثابتة لها سلطنة في السلوك وتمييز للصالح من الافعال وانه ليس عرضاً فحسب، وقيل: “ان المراد بالايمان هو الايمان بالتوراة”.
وهل ما المقصود من الايمان في الآية؟ الايمان بالتوحيد والاقرار بالربوبية، أم والايمان بنبوة موسى عليه السلام، أم وبالتوراة، .
الظاهر أنه المعنى الأعم والعنوان الجامع للإيمان ويدخل فيه الايمان ببعثة الانبياء والتسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها تدخل ضمن السور الجامع للإيمان، باعتبارها جزء مما جاءت به التوراة.
ومن إعجاز الآية أن جعلت للإيمان أمراً ونهياً ليكون الإيمان الذاتي آمراً، وصاحبه مأموراً، وإنتفاء الملزوم بإنتفاء اللازم أي أن الإيمان يأمر بالعمل بالميثاق والإستماع للآيات والبراهين، ولا يأمر بالمعصية والكفر والجحود، وهو واقية من الشرك بالله.
والآية مدرسة في علم النفس، وبيان أثر العقيدة والواعز الذاتي في نوع وماهية الأفعال التي يقدم عليها الفرد والجماعة.
وتدل الآية في مفهومها على حاجة المسلمين لرسوخ الإيمان في نفوسهم، وفي شطر من الأعراب وتخلفهم عن منازل التقوى ورد قوله تعالى [قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]( )، ومع هذا فان مرتبة الإسلام فخر وعز وبينها وبين الكفر تناف وتضاد، وأراد الله عز وجل للمسلمين جميعاً بلوغ مرتبة الإيمان وعدم تخلفهم عن مفاهيم الصلاح والتقوى وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وتتضمن خاتمة الآية في مفهومها مسائل:
الأولى : الإلتفات إلى حقيقة وهي موضوعية الإيمان في إختيار نوع الفعل، وهو من البركات والمنافع للإيمان في الدنيا والآخرة.
الثانية : ملازمة الخشية من الله للإيمان، وترشحها عنه، قال تعالى[وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
الثالثة : جذب أهل الكتاب إلى أصول السنن الإيمانية التي تجمعهم والمسلمين، قال تعالى[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا]( ).
الرابعة : صيرورة الإيمان فاعلاً، وتأكيد أنه ملكة تصدر عنها الأفعال الحميدة ومضامين الصلاح والرشاد.
قوله تعالى [إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]
دعوة لهم للرجوع الى الايمان وجعله ميزاناً لاعمالهم، واخبار بأن سيرتهم مناقضة ومباينة لحقيقة الايمان وتوكيد على اهمية الإيمان وبما يترشح منه من المعارف الحقة والإنصياع لأمر الله تعالى وما جاء به الانبياء من الكتب السماوية.
وتبين الآية موضوع الإحتجاج بين المسلمين وأهل الكتاب وهو(الإيمان) وفيه آية بأن يثبتوا إيمانهم وأن يسعوا إلى منازل التقوى، والآية من عمومات قوله تعالى [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )، ومن الأحسن بلحاظ آية البحث أمور:
الأول : الجدال بصيغ اللطف.
الثاني : جعل الإيمان هو المدار في الجدال.
الثالث : ترك الغلظة والخشونة في الجدال.
الرابع :كظم الغيظ عند الإحتجاج , قال تعالى في الثناء على المتقين ووعد الله لهم بالجنة[وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ]( ).
الخامس : بيان الحجج والبراهين التي تدل على قبح المعصية والإفتتان بالعجل.
وجاء هذا الشطر بالأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) وفيه شاهد على قوة وعز الإسلام بأن توجه النبي إلى أهل الكتاب بالحجة والبرهان بعيداً عن سطوة وتعدي قريش وإحتمال هجومهم على بلاد الإسلام وهي يومئذ المدينة المنورة.
ولقد أمر الله عز وجل رسوله بالغظة والشدة مع المنافقين[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( )، بينما تضمنت آية البحث تذكير أهل الكتاب بالإيمان.
لقد تضمنت الآية الكريمة توجيه اللوم لهم وان الإيمان بالتوراة لا يعني عبادة العجل ابداً بل على النقيض منه تماماً.
والآية مدرسة في المعرفة الإلهية باتخاذ الملل السابقة عبرة وموعظة لمنع الغلو والانحراف العقائدي، وليتخذ المسلمون الآية حرزاً وواقية.
و[إِنْ] المكسورة المخففة تدخل على الجملة الفعلية كما في هذه الآية، وعلى الجملة الإسمية ايضاً وموضوعها الإستقبال وان كان الفعل ماضياً كقولك ان جاءك زيد فاكرمه، وتأتي لمعان متعددة اكثرها الشرطية والأصل فيها عدم القطع بحصول الشرط، كما هو الحال في المقام.
ويحتمل المراد من الإيمان في الآية وجوهاً:
الأول : إرادة معنى الإيمان بالله عز وجل.
الثاني : الإيمان بنبوة موسى عليه السلام.
الثالث : المراد الإيمان بالقلب والتصديق بالجوانح.
الرابع : نيل صبغة الإيمان، وصيرورته واعزاً وملكة تصدر منها الأفعال.
الخامس : الإشارة ما تقدم قبل آيتين[قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا]( ).
السادس : جاءت الآية للإحتجاج والبرهان.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية وهي من عمومات قوله تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )، وجعل الإيمان وخصائصه هي موضوع الجدال.
بحث اصولي
بين الأمر والنهي تناف وتباين، ويمكن القول أن بينهما عموماً وخصوصاً من وجه، فمادة الالتقاء الطلب الانشائي فهما متحدان في النوعية، ومادة الافتراق المتعلق وكيفية الفعل اتياناً او كفاً وامتناعاً وقد يراد من المتعلق الموضوع الخارجي الذي يرتبط بالفعل، فمتعلق الأمر وجود الشيء ومتعلق النهي عدمه.
واذا عرفنا النهي بأنه الزجر الأكيد فان الكراهة لا تدخل فيه، لذا يدخل في الاباحة بالمعنى الأعم الاستحباب والاباحة والكراهة، اما لو عرف بانه مطلق الطلب والزجر فانه يشمل الكراهة، والقول بأن الطلب الضعيف الذي يفيد الكراهة ليس نهياً ملاكه عدم افادة الزجر الأكيد فيه، وكذا شرط العلو في النهي فلو صدر النهي من المساوي والداني فهل يصدق عليه نهي او لابد من جهة الاستعلاء في النهي قولان الارجح هو الثاني وان صدر من العالي على نحو التواضع وخفض الجناح.
وجاء استحضار الأمر في الآية لبيان لزوم التزامهم بالنهي عن الانحراف والجحود وان لا يعلنوا تقيدهم بظاهر الأمر ولكنهم يحتالون في مخالفته، فقد اراد الله عز وجل منهم وبصيغة التهديد والوعيد الاستماع ولكنهم أصروا على المعصية مما يدل على عظيم الذنب واقترافه عن عمد لأن المراد من السماع هو الاستجابة والامتثال.
وفي الآية نهي مولوي عن حب العجل ودعوة الى نبذه بالتوجه الى الاسلام، والتذكير به وبما فعله آباؤهم أزاءه تحذير كريم من الجحود من جديد وان اختلف صورته.
بحث منطقي
المعروف ان البرهان هو الطريق المناسب لادراك الحق واظهار اليقين وهو حائل دون القول بما يخالف الواقع اذ انه قياس متكون من يقينيات يترشح عنه بالضرورة يقين لذات القياس سواء كان لاستحالة وجود الممكن من غير علة او لاستحالة تخلف المعلول عن علته او غيرها بما ينتظم معه البرهان، وقد لا يكون الحال بما ينفع معه البرهان فتبرز الحاجة الى الجدل وهو القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات وبما يفيد الاعتراف والاقرار والتسليم والاتيان بحجة بقصد دفع الخصم عن حجته وافساد قوله ولالزامه واقحامه.
وقد ذكر السيد المرتضى في الحدود والحقائق تعريفاً للجدل وهو صرف الخصم من مذهب الى آخر بطريق الحجة او الشبهة او الشغب، ولكن هذا المعنى الأعم لا يتناسب مع لغة القرآن وصيغ الجدل الكريمة فيه والشواهد ماثلة للجميع، والإحتجاج فيه مؤازر للبرهان ومتمم له وهو لطف ورحمة منه تعالى وطريق لتأييد المطلوب وبلوغ الغاية وهي الهداية العامة وفضح الكافرين والجاحدين والمارقين.
وقيل ان صناعة الجدل اخذها مناطقة العرب من اليونانيين وانها تسمى عندهم طوبيقا، والأقوى انه صيغة عقلية وطريق يختاره الإنسان بالطبع ومزاولة المحادثة والمحاججة وقد تكون أمة أشهر فيه من أمة أخرى، وبغض النظر عن الأسماء والعناوين فإن القرآن مدرسة جامعة ورائدة في هذا الفن.
قوله تعالى[قُلْ إِنْ كَانتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] الآية 94.
الإعراب
(قرأ ابن أبي إسحاق بكسر الواو من (تمنوا) للالتقاء، وحكى الأهوازي عن أبي عمرو أنه قرأ: تمنوا الموت بفتح الواو، وقراءة الجماعة بضم الواو)( ).
قل: فعل أمر، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت.
ان: شرطية تجزم فعلين، كانت: فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط.
لكم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كانت المقدم.
الدار: اسم كان المؤخر.
الآخرة: صفة للدار.
عند الله: عند ظرف مكان متعلق بخالصة، وهو مضاف.
واسم الجلالة: مضاف اليه.
خالصة: حال من الدار.
من دون: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، ودون مضاف.
والناس: مضاف اليه مجرور وعلامة جره الكسرة.
فتمنوا: الفاء واقعة في جواب الشرط، تمنوا: فعل أمر مبني على حذف النون، الواو: فاعل، والجملة في محل جزم جواب الشرط.
الموت: مفعول به منصوب بالفتحة.
ان كنتم صادقين: ان: أداة شرط.
كنتم: كان فعل ماضِ ناقص في محل جزم فعل الشرط، والتاء إسمها.
صادقين: خبر كان منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم، وجواب الشرط محذوف لدلالة، ما قبله عليه أي فتمنوا الموت، وجملة(كنتم صادقين) لا محل لها إستئنافية.
وخالصة: أي تميزوا وانفردوا بها دون غيرهم.
والتمني رغبة في القلب وكيفية نفسانية وبينه وبين كل من الإرادة والشهوة عموم وخصوص من وجه، فالتمني يتعلق بما يصح وقوعه وما لا يصح، والإرادة لا تتعلق الا بما يصح حدوثه.
كما انه يتعلق بما مضى وما هو آت في مستقبل الايام، والشهوة لا تتعلق الا بالحاضر والمستقبل.
في سياق الآيات
إبتدأت الآية السابقة بخطاب إلى بني إسرائيل ببيان نعمة الميثاق، وأختتمت بخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإحتجاج بصيغة اللوم لتعارض فعلهم مع شرائط الإيمان وقواعد التسليم والخضوع لله تعالى، وجاءت هذه الآية معطوفة على خاتمة الآية السابقة.
ومن إعجاز نظم الآيات وما بينها من الفصل أن الآية إبتدأت(بقل) مع أنه ورد في آخر الآية السابقة، فلم تقل الآية(وأن كانت لكم الدار الآخرة) وجعل القارئ والمستمع يدرك معاني العطف وإرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخطاب بلحاظ حرف العطف في أولها بل إبتدأت بذات فعل الأمر(قل) لتتضمن الآية بكاملها موضوع الإحتجاج، وجاءت الآية التالية جواباً من عند الله على هذا الإحتجاج ويتضمن التحدي لهم، والإخبار عن عدم تمنيهم لقاء الله مع بيان علة عدم هذا التمني، وذكرت الآية التي بعدها حرصهم على الحياة الدنيا والرغبة بطول العمر.
ومن إعجاز نظم الآيات الربط بين عالم الدنيا والآخرة، ومنع الترديد والجهالة والغرر، إذ تبين الآية التالية علة عدم تمنيهم الموت وهو ماهية الأفعال في عالم الحساب .
إعجاز الآية
في الآية مسائل:
الأولى : الكشف عن جانب من عالم الغيب ومما لا يستطيع أحد اثباته او نفيه الا بالوحي لعدم الاحاطة به ولتعلقه بعالم الآخرة، فجاءت هذه الآية للإخبار عن أهم معالم الغيب وكشف زيف الدعوى.
الثانية : ليس في فضح ما يخفون في نفوسهم مما يتعارض مع ما يظنون ويعلنون.
الثالثة : ظاهر دعوتهم لتمني الموت حث لهم على عدم محاربة المسلمين, و فيه وجوه:
الأول : القطع بعدم تمنيهم للموت، وذاك لا يتم الا بإخبار إلهي.
الثاني : تمني الموت باب للاستبصار واختيار الطريق الأمثل للنجاة في عالم ما بعد الموت ولا يقود البحث والاستقصاء والتدبر الا الى دخول الاسلام ديناً وملاذاً وأماناً وامتثالاً لأوامره تعالى.
الثالث : تمني الموت يدل بالدلالة الإلتزامية على الإيمان بالمعاد واليوم الآخر وهو طريق للتسليم بالرسالات السماوية.
الرابع : من يتمنى الموت يحرص على كيفية مناسبة لمغادرته الدنيا ويختار الطريق الأفضل ولا يأتي الا بالهدى والإيمان.
وتتضمن الآية بالدلالة التضمنية وإدعاءهم أن الجنة خاصة لهم كما ورد في التنزيل[وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى]( )، مع نفيه بالإحتجاج عليهم، والآيات التي تبشر المسلمين بالجنة والخلود فيها.
وتمني الموت أمر وجداني إرتكازي لا يدرك في الخارج كالحاجة إلى الأكل والشرب فلا يمكن إقامة البرهان عليه إلا بأمارة وقرينة مقالية أو حالية ظاهرة، مما يدل على إرادة بيان مثل هذه القرينة، وحتى مع عدمها فيستحيل إخفاء الأمر الوجداني على الوجدان فأراد الله عز وجل في هذه الآية السعة والتخفيف عن بني إسرائيل بالإعلان عن تمني الموت أو الإكتفاء بالنية أو عدم حدوث هذه النية، فالآية للحجة والبرهان وبيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية [فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ]ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا مرتين( ).
الآية سلاح
تفتح الآية للمسلمين ابواب الجنان بتكذيبها لدعوى حصرها بغيرهم، وتكون لغة الإحتجاج فيها مدداً وتأييداً للمسلمين وتحدياً لبني اسرائيل وغيرهم، انها سلاح عقائدي ذو حدين وطريق هداية للسعي لحسن العاقبة فهي درس في عدم نيل الآخرة بالآماني , وهذه الآيات بما فيها من سلاح البرهان مدرسة في المعرفة الإلهية، وفيها إثبات للمعاد والنشأة الآخرة.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على الجامع المشترك بين المسلمين وأهل الكتاب وهو الإقرار باليوم الآخر والتسليم بعالم الثواب والعقاب وأن الآخرة فيها جنة ونار .
وهل في الآية دعوة للمسلمين للإستعداد للتضحية في سبيل الله بلحاظ أن الأمة التي تقول بأن الآخرة لها حصراً يرغب أفرادها بالموت ويسعون إليه . قال تعالى[وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الجواب لا دليل عليه فجاءت الآية للإحتجاج , وبلغة التحدي والإخبار عن التنافي بين حب البقاء في الدنيا والتنعم بمباهجها وبين القول بإختصاصهم بنعيم وجنات الآخرة .
ورد خطاب للمسلمين في قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ] ( ) ويتعلق سبب النزول بواقعة أحد إذ أظهر المسلمون الشجاعة وأعلنوا حب لقاء العدو والخروج لقتاله، ولم يرضوا بالتحصن بالمدينة والإكتفاء بالدفاع عنها كما اشار عليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقيل أن المراد وهو حب اللقاء وإرادة غايته وهي الشهادة والموت، ولكن الكلام العربي يحمل على ظاهره , فتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على أن المسلمين أرادوا الشهادة في سبيل الله، وأنهم كانوا يعلمون قوة وبأس مشركي قريش الزاحفين على المدينة، خصوصاً وأن الأخبار عن الجيش ومؤونته وأسماء فرسانه تصل إليهم تباعاً، كما أن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم يطلعهم من أسرار الوحي بما ينفي عنهم الجهالة والغرر ، وقد كان نفر من الصحابة لم يشهدوا بدراً فرغبوا في مثلها .
(أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس : أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يقولون: ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد أو ليت لنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين، ونبلى فيه خيراً، ونلتمس الشهادة والجنة والحياة والرزق فأشهدهم الله أحداً، فلم يلبثوا إلا من شاء منهم فقال الله{ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون})( ).
مفهوم الآية
تظهر الآية صيغة التحدي في الإحتجاج القرآني لفضح الدعوى الباطلة، وتبين اهمية القواعد الكلية المتعلقة بعالم الآخرة ولزوم عدم تجاوزها وتشويه ما تتضمنه من الحقائق والمفاهيم المترشحة عن عظيم رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة.
وتدعو الآية المؤمنين الى محبة لقائه تعالى والشوق الى الجنة وهي مدرسة في التآخي وفق سنن التوحيد والإيمان للإشتراك في تلقي فضله العظيم في الدنيا والآخرة.
وفي الآية مسائل:
الأولى: توجه الخطاب في الآية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإحتجاج والجدال بالأحسن.
الثانية: تعيين موضوع الإحتجاج وهو تمني الموت.
الثالثة: في الآية حذف، والتقدير أن كنتم صادقين بأن الجنة خالصة لكم.
الرابعة: لا ينحصر موضوع تمنيهم الموت بإختصاصهم بالجنة، فكيف إعتقادهم بدخولها، والفوز بالإقامة فيها وأن الله لا يعذبهم وهو لا يتعارض مع دخول غيرهم من أهل الملل الجنة، فلماذا خصت الآية موضوع إختصاصهم وإنفرادهم بالجنة، والجواب من وجوه:
الأول: جاءت الآية للإحتجاج والبرهان.
الثاني: توثيق قولهم بأن الجنة لهم.
الثالث: توكيد حقيقة وهي أن موت الأشخاص لا يؤثر سلباً على بقاء كلمة التوحيد في الأرض، إذ يحمل المسلمون لواء التوحيد ويجاهدون من أجل تثبيت أحكام الشريعة في الأرض.
الرابع: جاء الإحتجاج بالخاص ليشمل العام بدلالته والخاص هو إختصاصهم بالجنة والعام هو دخولهم مع غيرهم الجنة.
الخامس: إرادة التعدد في مواضيع الإحتجاج، وإبطال ما يدعون من خلوص الجنة لهم.
السادس: اللازمة بين تمني الموت وبين القول بالإختصاص بالجنة.
فمن الآيات أن المسلمين لا يقولون بإنفرادهم بدخول الجنة بل يدخلها كل الموحدين المؤمنين الذين عملوا الصالحات من الأمم والملل السابقة، والذين لاقوا العذاب في ذات الله من إتباع الأنبياء.
ولا تعارض بين الآية الكريمة وبين ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “لا يتمنين أحدكم الموت لضُرٍّ نزل به، فإن كان لا بدّ متمنيا الموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي”)( ).
ويتضمن الحديث أعلاه ذكر علة النهي وهي الضر الذي يلحق بالإنسان، إذ أن الدنيا دار إمتحان وبلاء، ومناسبة لنيل المسلم الأجر على الصبر والعناء، والضر والأذى مناسبة للدعاء والتوسل إلى الله لكشفه وزواله، وفي بقاء المسلم حياً فرصة له لأداء الفرائض والعبادات ونيل الأجر والثواب.
الخامسة: تتضمن الآية إقرار بني إسرائيل باليوم الآخر، وعالم الآخرة وما فيها من الثواب بالإقامة في الجنة، والعذاب باللبث في النار وهذا الإقرار مناسبة للإستعداد للآخرة والحساب فيها.
ويلتقي المسلمون وأهل الكتاب بهذا الإقرار والتسليم ونشور الناس بعد عالم البرزخ، وفيه دعوة للناس جميعاً للتدبر في ماهية الحياة وأنها دار زوال ومزرعة للآخرة.
فالإحتجاج واللوم في الآية موجه إلى بني إسرائيل، ولكنه رسالة للناس جميعاً، ودعوة للتسليم بعالم الآخرة ولزوم التهيء له بالإيمان وعمل الصالحات.
السادسة: ذكرت الآية الدار الآخرة وموضوعها أعم من الجنة ويشمل مواطن الحساب والحوض والميزان والصراط ودخول المؤمنين الجنة، ودخول الكفار النار، ولكن الآية ذكرت العام وإرادة الخاص أي المقصود دخول الجنة بقرينة وهي إفادة الحياة والخلود في الجنة.
فتطلق الدار الآخرة على الجنة كأنه من لا يدخل الجنة لا حياة ولا نصيب له يوم القيامة، قال تعالى[تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا]( ).
السابعة: إبطال إدعائهم بإختصاصهم بالجنة بعزم تمنيهم الموت ولم تذكر الآية الشهادة والقتل في سبيل الله، وفيه وجوه:
الأول: إرادة المعنى الأعم من الموت وشموله للشهادة.
الثاني: النسبة بين الموت في الآية وبين الشهادة هي التساوي.
الثالث: لا تحصل الشهادة إلا بدخول الإسلام والجهاد في سبيل الله والصبر في مرضاته.
والصحيح هو الثالث، وجاءت الآية حصراً لتمني الموت لما فيه من الإنتقال إلى عالم الآخرة على الملة التي غادر بها الدنيا.
الثامنة : جاءت الآية بصيغة الجمع، وفيه وجوه:
الأول : تمني كل فرد منهم الموت.
الثاني : تمني الكل الموت على نحو العموم المجموعي.
الثالث : جعل تمني الموت قاعدة ثابتة عندهم.
التاسعة : ليس من تعارض بين هذه الآية وما فيها من إدعائهم بإختصاصهم بالجنة، وبين قولهم[لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً]( ) بإعتبار الإنتقال إلى الجنة بعد تلك الأيام.
الآية لطف
تعتبر هذه الآية من اللطف الإلهي من وجوه:
الأول: إنها لطف بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على نبوته وتفضيله، فالله عز وجل ينعم عليه بتلقينه الإحتجاج على أهل الكتاب، وهل الآية من مصاديق تأديب الله تعالى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ ورد عنه: أدبني ربي فأحسن تأديبي)( ).
الجواب نعم، فالآية تأديب وتعليم وإرشاد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في كيفية الإحتجاج على أهل الكتاب وهي دليل على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف ، إنما بالحكمة والموعظة الحسنة فقوله تعالى(قل) أي إحتج عليهم وأثبت لهم بطلان قولهم ، وأخبرهم بأنه المسلمين أصحاب الجنة، وأن دخول الجنة بالإيمان العمل الصالح.
الثاني: الآية لطف ببني إسرائيل لأن إبطال القول الذي لا أصل له لطف ورحمة، ودعوة لتركه.
وفيه جث للإصغاء للقول لأنه أمر من الله تعالى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتبليغ الرسالة.
الثالثة: من خصائص الآية القرآنية بقاء الحكم فيها إلى يوم القيامة.
الرابعة: في الآية لطف بالذين يريدون دخول الإسلام، وطرد للشك والريب من نفوسهم، وجعلهم لا يلتفتون إلى دعوى إختصاص الجنة بملة معينة.
إفاضات الآية
تبين الآية حقيقة وهي أن القرآن كتاب سماوي عقائدي، قائم على الحجة والبرهان، ولا تختص مسائله وأحكامه بالحياة الدنيا بل تشمل عالم الآخرة ومنازل الناس فيها، ومن الإعجاز في هذه الآية القرآنية أنها تتناول قول لفر يق من الناس مرتبطة بحجة آنية ظاهرة، فإن كانوا صادقين بدعوى إنفرادهم بدخول الجنة فليتمنوا الموت ويعلنوا على ألسنتهم هذه الأمنية، ويتخلوا عن حب الدنيا، وأسباب العزوف عن الإسلام، وعدم إنصاتهم للآيات والأحكام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها الجهاد وحب القتل في سبيل الله إذ أنه من أسباب الإمتناع عن دخول الإسلام، وليس كل من يتمنى الموت أو يجاهد في سبيل الله يأتيه الموت والقتل، ولكنه عنوان وشاهد على حب لقاء الله تعالى مع التباين بين الأمرين، فتمني الموت وحده لا يعني دخول الجنة بخلاف الجهاد في سبيل الله.
وجاءت الآية للإحتجاج والبرهان ولنفي قولهم أن الجنة خالصة لهم، ولكشف حقيقة وهي أنهم لا يتمنون الموت للمعاصي التي إرتكبوها كما تبينه الآية التالية ومضامين الآية شاهد على ظهور الإسلام، وقدرة المسلمين على جذب الناس للإسلام بصيغة الإحتجاج، إذ تأتي الآية الكريمة بالإحتجاج على فريق من أهل الكتاب فتكون مدرسة للناس جميعاً وسبباً لدخولهم الإسلام، وعدم إصغائهم لأهل الشك والريب ومن مضامين الآية الكريمة أنها أمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يخاطب ويحتج على أهل الكتاب سواء يقصدهم في منتدياتهم أو عندما يأتون إليه.
والآية عون ومدد للمستضعفين من الناس جميعاً للتدبر بإحوالهم يوم القيامة ، والعمل على النجاة فيه بالعمل الصالح وليس الدعوى التي لا أصل لها , قال تعالى[إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بالخطاب الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل) والتقدير: قل يا محمد وهو آية في الإحتجاج، وفيه حجة على صدق نبوته فمع سيادة الإسلام وظهور دولته في المدينة المنورة فإن سلاح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الناس لغة الإحتجاج، وهو شاهد بأن الإسلام قام وإنتشر بالحكمة والموعظة الحسنة، مع أن قولهم أن الدار الآخرة خالصة لنا قد يتضمن تعريضا بالمسلمين.
ويدل في مفهومه على إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه إيذاء لكل من آمن بالمعجزات التي جاء بها، ومع هذا لم يؤاخذهم المسلمون، بل جاء النهي عن الدعوى التي تبث روح الشك والريب في النفوس، ودعاهم القرآن إلى تمني الموت للقاء الله عز وجل، والخروج للجهاد ومحاربة المشركين لأن الذي يضمن حسن عاقبته بالنعيم الدائم في الآخرة يبادر للجهاد في سبيل الله ولا يخشى الموت، والمسلمون هم الذين أظهروا حب لقاء الله، وإندفعوا في سوح المعارك طلباً للنصر أو الشهادة في سبيل الله، وجاء الإحتجاج في باب البرهان الإني بالإستدلال بالمعلول على العلة، وتكون الآية وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الذي تكون له الدار الآخرة يتمنى الموت.
الصغرى: المسلمون يتمنون الشهادة في سبيل الله.
النتيجة: المسلمون تكون لهم الدار الآخرة.
وإثبات شيء لشيء لا يدل على غيره , ترى لماذا لم تقل الآية تمنوا الشهادة , والجواب من وجوه:
الأول: إشتراط الشهادة بنية القربة إلى الله والتي لا تتقوم إلا بالإسلام.
الثاني: الإشارة إلى الموت , ومن يقتل من غير أجر أو ثواب.
الثالث: جاءت الآية للإحتجاج ، وليس لبعث روح العناد والإصرار عندهم.
الرابع: تبين الآية الحال التي كانوا عليها من حب الدنيا، والميل إلى زينتها.
الخامس: في الإحتجاج توبيخ إضافي لكراهة تمني الموت بذاته، ولأن من يتمناه منهم لن تكون الآخرة خالصة له.
السادس: لقد إمتنعوا عن دخول الإسلام لأن الملك الذي يأتي بالوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو جبرئيل، وهو يأمر بالقتال، والقتال مقدمة للموت.
وتبعث الآية الخوف من المسلمين لأنهم عشاق للشهادة ولقاء الله عز وجل، وهم لم يتمنوا الموت لذاته، بل لأنه يأتي بالعرض بالجهاد في سبيل الله ليكون مقدمة وطريقاً للفوز بالنعيم الخالد, (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نصرت بالرعب مسيرة شهر”)( ).
ومن الآيات في البعثة النبوية أن القرآن لم يقل بأن الدار الآخرة خالصة للمسلمين الذين يتبعون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , بل جاءت بالمدح والبشارة للموحدين الذين إتبعوا نهج الأنبياء وصدّقوا بهم جميعاً.
التفسير الذاتي
لقد جاءت خاتمة الآية السابقة بالأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج عليهم بلفظ(قل)، وإبتدأت هذه الآية بذات الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الإختلاف في الموضوع، إذ يتعلق الموضوع في هذه الآية بالحياة الآخرة.
وتدل الآية على أنهم يقولون أن الجنة خاصة بهم، ولا يدخلها غيرهم لإرادة الحرب على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصد الناس عن دخول الإسلام، وبعث الخوف والفزع من أحكامه وسننه.
إن الترغيب بالثواب يوم القيامة والجزاء الحسن بدخول الجنة من أهم الأسباب التي تجذب الناس للإسلام لإدراكهم بأن وظيفتهم تقتضي سلامة النفس في الآخرة والتي تنحصر بدخول الإسلام، إلى جانب الطمع في الإقامة في الجنة، والسعي للفوز بمرضاة الله.
ومن الإعجاز في الآية أن القول متحد والمخاطَب متعدد، إذ يتوجه إحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المتعدد الكثير ، وفيه دعوة للمسلمين للإقتداء بالنبي في الإحتجاج، ومن التخفيف عنهم أن تلاوة هذه الآية وحدها قول وإحتجاج.
فان قلت: تأتي تلاوة المسلمين في الغالب في المساجد والبيوت وليس عند أهل الكتاب , والجواب من وجوه :
الأول : هذه التلاوة سلاح ومناسبة للتفقه في الدين.
الثاني : إنها حرز من الإغواء والبغي والحسد.
الثالث : في تلاوة هذه الآية مادة وعون عند الإحتجاج، إذ يمكن إستحضارها وإتخاذها حجة.
وتدل الآية على نفي قول فريق من أهل الكتاب بأن الجنة خاصة بهم، ترى لماذا لم تقل لهم الآية تقولون أن الدار الآخرة عند الله خالصة لكم، والجواب من وجوه:
الأول: صحيح أن الآية لم تذكر إدعاءهم بأن الجنة لهم إلا أنها تدل عليه بالمفهوم والمعنى.
الثاني: جاءت الآية للإحتجاج ونفي إختصاص الجنة ببني إسرائيل.
الثالث: تدل خاتمة الكتاب على إفتقار إدعاء الإختصاص للدليل والشاهد والبينة لقوله تعالى [إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( )، وتقدير الآية: إن كنتم صادقين في قولكم أن الجنة عند الله خالصة لكم.
وجاء القرآن بالإخبار بأن الطيبات في الآخرة تكون للمؤمنين بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ).
فمن رحمة الله عز وجل في الدنيا إشتراك وإنتفاع الناس عموماً من الطيبات والرزق الكريم، أما في الآخرة فانها محرمة على المشركين والكفار، والطيبات من خصائص الجنة.
وتبين الآية جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما لاقاه من الأذى من أهل الكتاب إلى جانب محاولات مشركي قريش وغيرهم في صد الناس عن الإسلام وإيذاء الذين بادروا إلى الإسلام، وزحفهم بالجيوش الكبيرة نحو المدينة المنورة لقتال المسلمين، فقد يكون قول فريق من المليين بخلوص الجنة لهم عوناً لكفار قريش في زحفهم، ومحاولة لتثبيط عزائم المسلمين، وحرباً على قانون الشهادة عند المسلمين، ورجاءهم لقاء الله عز وجل.
فجاءت هذه الآية رداً على تلك الحرب، وهو من إعجاز القرآن وشاهد بأنه سلاح بيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في الحرب والسلم، قال تعالى في الثناء على القرآن [هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ….]( )، أي أن القرآن كله حجج وبراهين تدعو إلى التوحيد، وتبطل الأقوال التي لا أصل لها، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: القرآن هو النور المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم)( ).
لقد جاء التحدي بتمني الموت، ويكون النهي بالقول والنطق كعنوان للإعلان وإظهار الرغبة، ومنهم من قال أنه معنى في القلب، بإعتبار أن الموت مقدمة لدخول الجنة ويكون في المقام الخلاف صغروياً،فلابد من إظهار تمني الموت على ألسنتهم للرد على التحدي الوارد في الآية كالقول:اللهم إنا نتمنى الموت، أو ما يدل على هذا المعنى.
وفيه مناسبة للتدبر بماهية الحياة الدنيا، وأنها دار زوال، ويحتمل تمني الموت في المقام أموراً:
الأول: إنه مطلوب بذاته لذاته.
الثاني: تمني الموت وسيلة لغايات حميدة.
الثالث: المعنى الأعم.
الرابع : الخلاص من الدنيا وهمومها ومواطن البلاء فيها.
والأصل هو الثاني، إذ إن تمني الموت للعلم بأن ما بعده خير للإنسان، ومن الأسرار في هذا التحدي أن تمني الموت إقرار بعالم الجزاء، وان الله عز وجل يدخل فريقاً من الناس الجنة.
وجاءت الكتب السماوية كلها بالتوكيد على أن المدار في دخول الجنة هو الإيمان والعمل الصالح، وليس النسب فيكون تمني الموت وإستحضار ما بعده من العوالم مناسبة للتفقه في أمور الآخرة، ومعرفة ما فيها من الأهوال، وحاجة الإنسان فيها إلى الإيمان والتصديق ببعثة الأنبياء على نحو العموم الإستغراقي، والعمل بمضامين البشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم تصديقه وإتباعه، وورد عن أنس عنه صلى الله عليه وآله وسلم: التوحيد ثمن الجنة، و{الحمد لله} ثمن كل نعمة، ويتقاسمون الجنة بأعمالهم)( ).
وقد ورد لفظ (تمنوا) مرتين، إذ ورد قوله تعالى [إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ]( ).
والنسبة بين الآيتين هي العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء بينهما من وجوه هي:
الأول: إبتداء الآيتين بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل).
الثاني: إتحاد جهة الخطاب وتوجه الخطاب، إذ إبتدأت الآية أعلاه من سورة الجمعة بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثالث: وحدة موضوع التحدي وهو تمني الموت والرغبة في الإنتقال السريع إلى الآخرة.
الرابع: العموم في الخطاب، وعدم خروج فريق منهم بالتخصص، نعم من دخل منهم الإسلام لا يشمله الخطاب.
الخامس: إختتام الآيتين بقوله تعالى [إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] وهذه الخاتمة عنوان تحد آخر، وتوكيد للتحدي الأول، وبرهان أعم في موضوعه من تمني الموت.
السادس: تعقب الآيتين بالقطع بعدم تمنيهم الموت( )، بقوله تعالى [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ].
أما مادة الإفتراق فهي على وجوه:
الأول: هذه الآية بخصوص الإدعاء أن الجنة خالصة لهم.
الثاني: ذكر الآية من سورة الجمعة قولهم أنهم أولياء الله.
الثالث: لم تذكر هذه الآية قولهم وإدعائهم أن الجنة خالصة لهم وحدهم من دون الناس وان كانت تدل عليه، اما الآية من سورة الجمعة فانها ذكرت قولهم وبلفظ (الزعم).
الرابع: جاء نفي تمنيهم الموت في الآية التالية ب(لن) وجاء في سورة الجمعة بالحرف(لا) [لاَ يَتَمَنَّوْنَهُ]( )، والمعنى واحد، إلا أن (لن) أكثر توكيداً وتشديداً من (لا)، وتتعلق بالزمن المستقبل.
والتحدي بتمني الموت آية إعجازية في القرآن تتجلى بتخلفهم عن هذا التمني، وعدم إظهارهم له، ومن سجايا الإنسان أنه يفر من الموت ويحذر مقدماته، ويكره مغادرة الدنيا، ولعله من آثار نفخ الروح فيه، وان ظهر على الحيوان أيضاً أنه يفر من الموت , ولا يكون تمني الموت إلا بسبب راجح، وأمل ورجاء للعالم الذي بعد الموت، والفوز بالإقامة في الجنة.
ويفيد الجمع بين الآيتين أن الذين هادوا يقرون بحقيقة وهي أن دار الكرامة في الآخرة أعدها الله عز وجل لأوليائه، والصالحين من عباده، فجاء التحدي بتمني الموت لإبطال قولهم [نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ]( ).
ولم تذكر الآية الجنة أو دار الكرامة , فلم تقل ( قل إن كانت لكم الجنة عند الله خالصة) بل ذكرت الدار الآخرة وهي أعم وتشمل مواطن الحساب، والجزاء، إذ أن النار من عالم الآخرة، وتدل القرائن على إرادة دار الكرامة والعز في الآخرة، وأن أهل النار ليس لهم في الآخرة إلا الخسارة والعذاب الأليم، وتفيد اللام في قوله تعالى [إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ] الإستحقاق والإختصاص بما فيها من النعيم واللبث الدائم في الجنة.
وهل إدعاء أن الجنة خالصة لهم من تحريف وتبديل الكتاب وعمومات قوله تعالى [يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ] ( )، الجواب من وجوه:
الأول: لم تأت التوراة والإنجيل بهذا القول.
الثاني: تدل الآية بالدلالة التضمنية على لزوم عدم الإعراض عن البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: إنه من عمومات قوله تعالى[تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن إعجاز ومنافع هذه الآية أمور:
الأول: تثبيت البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: توكيد صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: بيان حقيقة وهي أن الإفتراء على الله، وإخفاء البشارات لن يضر الإسلام، إذ جاء القرآن بكشف الحقائق، وإظهار العلوم.
الرابع: دعوة الناس للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته.
الخامس: تعيين الطريق المؤدي إلى الجنة وهو دخول الإسلام، والعمل بأحكام القرآن.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى : توجه الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد بالحجة والبرهان.
الثانية : لا ينحصر الخطاب في الآية بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو موجه إلى المسلمين والمسلمات بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو إمامهم في سبل الهداية والرشاد.
الثالثة: توثيق إدعاء بني إسرائيل بأن الجنة خاصة لهم بلحاظ خاتمة الآية[إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]، وجاءت الآية بصيغة الفعل الماضي(كانت) مع أنها في عالم الآخرة وما بعد إنقضاء الحياة الدنيا.
الرابعة: تجعل الآية يني إسرائيل وغيرهم يفكرون بما لهم والتدبر فيما يحتاج إليه العبد في الآخرة، إذ لا ينفعه ويصاحبه فيها إلا العمل الصالح.
التفسير
قوله تعالى [قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً]
في الآية وجه آخر من وجوه الإحتجاج فبعد ان جاءت الآيات المتقدمة بذم الأفعال المخالفة للإيمان نزلت هذه الآية الكريمة بتكذيب إخبارهم عن الغيب والعالم الآخر، لقد اعتقدوا واشاعوا بين الناس انهم اهل الحق كما في قولهم [نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ]( ).
والظاهر ان الآية رد عليهم فيما يزعمون، إن دعوة انفرادهم بنعم الآخرة تدل بالدلالة الإلتزامية والمفهوم على إرادة حرمان المسلمين منها, فجاءت الآية متضمنة وجهاً من وجوه التحدي ودعوة إلى إختيار الموت وهو أعم من الشهادة، فالشهادة خاصة بأهل الحق والذين يختارون القتل في سبيل الله تعالى، وورد في التنزيل ايضاً [وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى]( ).
أي انهم في الحياة الدنيا يعيشون ويتعاملون مع غيرهم بشعورهم بالتفضيل والامتياز، الأمر الذي يجعل غشاوة وحجاباً على بصائرهم واسماعهم من دعوتهم للإسلام، وهم يعتقدون انهم في الآخرة سينفردون بالجنة اذ ان المقصود بالدار الآخرة في الآية هي الجنة، وان سائر المذاهب والملل الأخرى غير محقة بزعمهم، ولا يعني انهم يقصدون انعدام وجود غيرهم في الآخرة فهذا ما لم يقل به أحد من المليين.
ويحتمل لفظ الناس بقوله تعالى(من دون الناس) وجوهاً:
الأول : المراد عموم الناس، بلحاظ أن الألف واللام للإستغراق.
الثاني : المقصود المسلمون.
الثالث : إتخاذ القول بإختصاصهم بالجنة موضوعاً للجدال مع المسلمين مع إرادة المعنى الأعم.
والصحيح هو الثالث، إذ كان المسلمون يتلون الآيات التي تبشرهم بالجنة ويسعون إليها بالجهاد والتفاني في القتال، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( )، فجاء هذا الإحتجاج من فريق من بني إسرائيل لتنشيط العرائم.
ومن الإعجاز في الآية أنها قيدت لفظ الآخرة بأنها(عند الله) لبيان أن المقصود هو العيش في كنف النعيم الذي يتفضل به الله في الآخرة بينما جاء الإسلام ببيان قانون كلي وهو أن المقام في النعيم في الآخرة يتعلق بالعمل الصالح في الدنيا وليس بالإنتساب إلى الأنبياء أو إلى أمة مخصوصة.
قوله تعالى [فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ]
لكي يشعر المسلمون وغيرهم بتمنيهم للموت لابد ان يظهر بمبرز خارجي من الإجهار به او فعل ما يدل عليه، وفي الآية اعجاز وهو ان حدوث التمني او عدمه لا يعلمه الا الله، والآية تنفي وجوده أو حصوله عندهم مستقبلاً.
وتمني الموت يحمل دلالات ايمانية تصلح مجتمعة أو منفردة مادة للإحتجاج، ترى ما هي تلك الدلالات، نذكر منها:
الأول : ان الموت أمر وجودي وهو مخلوق وموضوع للإبتلاء ويدل عليه قوله تعالى [خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ]( )، أي ان حالة الموت سبيل الى اختبار الناس ومعرفة ما يستحقونه من الجزاء الذي يكشف عن صدق نواياهم وصحة او بطلان أعمالهم.
الثاني : ان الجنة لا تُنال الا بحسن الطاعة والعبادة وان الذي يعلم صحة اعماله ويعلم ان الجنة هي الثواب والمآب يدرك ان الموت طريق الى الجنة وباب يلج منه الى السعادة الأخروية الدائمة.
الثالث : في الآية انذار ووعيد من الآخرة وما فيها من شدة الحساب، قال تعالى[وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
الرابع : إنذار وتهديد قريش من سيوف المسلمين عند الإستمرار في محاربة الإسلام وتحدي المؤمنين، وعندها قد تتحقق مقدمة الوعيد الجزائي الأخروي ايضاً، ومعاداة الإسلام سبب لإستحقاق العذاب وعلة للطرد والبعد عن رحمته تعالى.
الخامس : في الآية دعوة لدخول الإسلام ، ويجعل التذكير بالموت وذكر موضوع تمنيه الإنسان يفكر جدياً في الإستعداد له، وادراك حجية حدوثه كسبب للمسارعة في الخيرات واختيار طرق النجاة في الآخرة الأمر الذي لا يجدونه الا في الإسلام.
جاءت هذه الآية بخصوص ما يتبنون من دعوى عظيم المنزلة في الحياة الآخرة، وفيها طعن بأقوالهم.
وقد ذهب جماعة من المفسرين الى القول بان وظيفة الآية الكريمة تنحصر بالإحتجاج كما ذهب اليه جملة من المفسرين، ولكن للآية وظائف عقائدية تخص المسلمين وتتعلق بايمانهم وتصديقهم بنبوة سيد المرسلين وخاتم النبيين، لاسيما وان كثيراً من المباني الفلسفية الإسلامية ترتكز على الثواب الأخروي بما في ذلك باب الجهاد والإستعداد لتقديم النفس والمال في سبيل الله .
أي ان هذه الآية تتحدى في منطوقها إدعاء إنحصار الإكرام في الآخرة، اما في مفهومها فانها تثبت صدق المسلمين في عقيدتهم واختيارهم الإسلام والتضحية من أجل تثبيت أركانه طريقاً الى الجنة والنعيم الدائم، واعتبار الجهاد في الشريعة الاسلامية واجباً كفائياً يتعلق بالمكلفين غير المعذورين .
وعن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لله مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسع وتسعون إلى يوم القيامة)( ).
وهل في الآية دعوة للمسلمين بتمني الموت، الجواب ان المسلمين لا يدعون انفرادهم بالنعيم في الآخرة بالإضافة الى جهادهم في سوح المعارك في سبيله تعالى، وعدم التمني هذا مانع عن شمولهم بعمومات الخطاب في الآية وترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية.
وعن ابن عباس: “لَوْ تَمَنَّوَا الْمَوْتَ لَشَرَقَ أَحَدُهُمْ بِرِيقِهِ”( ).
فلأن قلت: قد ورد نهي المسلمين عن تمني الموت بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا يتمنين احدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل اللّهم احييني ان كانت الحياة خيراً وتوفني ان كانت الوفاة خيراً لي( ).
قلتُ: بينهما تباين في الموضوع، فالأمر في آية البحث جاء على نحو التحدي والوعيد، والنهي الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعلق بالمؤمن وما يتعرض له من الابتلاء، وفيه دعوة للصبر وتعليم لكيفية التزود من الصالحات في الدنيا كطريق إلى الآخرة.، فبقاء المؤمن في الدنيا مناسبة لإتيانه الفرائض وإصلاح النفس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإستدل الرازي بقوله تعالى[يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا]( )، والظاهر ان الآية اجنبية عن المقام لأنها تتعلق بقيام الساعة.
وقال ايضاً: انهم لو قلبوا الكلام على محمد صلى الله عليه وآله وسلم لزمه ان يرضى بالقتل، قلنا الفرق بين النبي محمد عليه السلام وبينهم ان الرسول الأكرم كان يقول اني بعثت لتبليغ الشرائع الى اهل التواتر وهذا المقصود لم يحصل بعد فلأجل هذا لا ارضى بالقتل واما انتم فلستم كذلك فظهر الفرق( ).
وقد لا يخلو هذا الكلام من تعارض ومخالفة للواقع والرد عليه بوجوه:
الأول : ليس لهم ان يقلبوا الكلام لاسباب منها انهم ادعوا ان الدار الآخرة خالصة لهم وانه لن يدخل غيرهم الجنة.
الثاني : ان تحديهم جاء بكتاب منزل ووحي من عنده الله تعالى.
الثالث : ان المسلمين لم يقولوا ان الدار الآخرة خالصة لهم بل هي وعد كريم لمن يعبد الله ويخلص في عبادته ويمتثل لأوامره ويجتنب نواهيه، وهذا العنوان يقع على المسلمين انطباقاً وجرياً، وعلى المؤمنين من اهل الكتاب ممن سبق بعثته صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : ان تمني الموت يكون باللسان والقول، وقد لا يحصل معه الموت اذ لا ملازمة بين تمني الموت وبين حدوثه الا أن يشاء الله.
الخامس : لم يقف المسلمون عند حدود تمني الموت بل سعوا اليه باختيارهم بالقتال في سبيل الله.
ومن اهم مقومات واسرار دوام الإسلام فلسفة الشهادة والشوق للقاء الباري عز وجل، وخوض المعارك جهاداً في سبيله تعالى يدل بالدلالة التضمنية على تمني الموت ولكن وفق قواعد الشريعة واصولها واعتبار العقل وعدم الخضوع للشيطان في اغوائه واستدراجه.
السادس : لقد تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنذ الايام الاولى للدعوة للقتل وقاد بنفسه معارك المسلمين مع اعدائهم واكثرها خطورة ولم يفر ولم ينهزم واصيب في بعض المعارك، وهذه امور تتعدى تمني الموت.
عن أبي عبد الله، عن آبائه عليهم السلام قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: الخير كله في السيف، وتحت ظل السيف، ولا يقيم الناس الا بالسيف، والسيوف مقاليد الجنة والنار)( ).
ونسب القرطبي الى القيل: ان الله صرفهم عن اظهار التمني، وقصرهم عن الإمساك ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم( ).
ولا تصل النوبة الى الصرفة ومعانيها , لأن الآية نوع تحد وتوبيخ ودعوة إلى الكشف عن إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
كان المسلمون يطلبون الشهادة ويسعون في دروب القتال والفتح وهو أمر أعم من تمني الموت واعلى مرتبة في موضوعه، والمعروف ان الدار الآخرة تتضمن الثواب بالجنة والعقاب بالنار، وانها لا تنحصر بالجنة وفيها ايضاً الحساب ويدخل في الآخرة عالم البرزخ، وخلوصها هنا يعني ارادة الجنة.
وفيه دلالة على عدم شأنية اهل النار ومنازلهم، فالآية في دلالتها الإلتزامية ذم لأهل الجحود والمعصية وانذار لهم بان لن يكون لهم ذكر وشأن في الآخرة.
ويحتمل متعلق الآية أمرين:
الأول : إرادة النوايا وسرائر القلوب.
الثاني : المقصود ظاهر القول من تمني الموت.
الثالث : تجلي تمني الموت على عالم الأفعال.
الرابع : تمني الموت بالقلوب وسؤاله بالألسنة، قاله قوم)( ).
والصحيح هو الثاني وهو القدر المتيقن، وقال ابن عباس: المراد به السؤالُ فقط، وإِن لم يكن بالقَلْب)( ).
والموت حق وهو أجل حتم لكل إنسان، قال تعالى[أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ]( )، وجاءت آية البحث لوقاية المسلم من كراهة الموت وعدم النفرة منه، وفيه سعادة حاضرة وأمل رغد العيش والخلود في النعيم الأخروي.
وقال عمار بن ياسر عند شهادته: الآن ألاقي الأحبة محمداً وحزبه)( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قولوا إن كنتم صادقين: اللَّهُمَّ أَمِتْنَا، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَقُولُهَا رَجُلٌ مِنْكُمْ إلاّ غَصَّ بِرِيقِهِ)( ).
قوله تعالى [إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]
جملة الشرط إحتجاج وإتمام للتحدي في إعلان الرغبة بالموت ليكون هذا الإعلان مصداقاً ظاهراً على اللسان والجوارح بحب الإنتقال إلى عالم الآخرة والعيش بالنعيم، وتدل الآية بالدلالة التضمنية على تسليم أهل الكتاب بأمور:
الأول : يبدأ عالم القبر من حين الموت ومغادرة الروح الجسد.
الثاني : عالم البرزخ من عالم الآخرة , وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من مات قامت قيامته)( ).
الثالث : الآخرة عالم الجزاء , وفي التنزيل[لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
هل يتعلق التحدي في هذه الآية بصدقهم في دعوى خلوص الجنة لهم، أم انه أعم وان هذا القول جزء من اعتقاد نوعي راسخ، الجواب هو الثاني.
والآية في مفهومها تشترط الصدق بتمني الموت وان ذكر على نحو المثال وليس الحصر، ولكنه يكفي لإقامة الحجة الحاضرة، وتدل بالدلالة التضمنية على الوعيد والتخويف بالآخرة.
وتظهر الآية اعجاز القرآن وفضحه للقول الذي لا أصل له بأمر مقدور عليه وملائم لقولهم، وتحد باق الى يوم القيامة.
وتبين آيات القرآن مدرسة الإحتجاج بأبهى حلة وبما ينمي ملكة الجدال المقرون بالتقوى عند المسلمين ، وقد إحتج إبراهيم على نمرود وأفحمه وأخزاه كما يدل عليه قوله تعالى [قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ] ( ).
وأخرج عن السدي قال : لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك ولم يكن قبل ذلك دخل عليه ، فكلمه وقال له : من ربك؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت .
قال نمرود : أنا أحيي وأميت ، أنا أدخل أربعة نفر بيتاً فلا يطعمون ولا يسقون حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا وتركت اثنين فماتا .
فعرف إبراهيم أنه يفعل ذلك , قال له : فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر وقال: إن هذا إنسان مجنون فأخرجوه، ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها، وإن النار لم تأكله، وخشي أن يفتضح في قومه)( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام إن إبراهيم عليه السلام قال له: أحي من قتلته إن كنت صادقا ثم استظهر عليه مما قاله ثانيا (فبهت) الذي كفر( )، أي إنقطع وأفحم وعجز عن مواجهة الحجة.
وتقدير الآية على وجوه:
الأول : إن كنتم صادقين في إدعاء إنفرادكم بالجنة.
الثاني : إن كنتم صادقين في جدالكم.
الثالث : إن كنتم صادقين في حب الموت كواسطة للإنتقال للآخرة، والدار الآخرة عنوان عام ولكن القرائن المقالية تبين إرادتهم الجنة وإنفرادهم بنعيمها، ويتجلى بيانه بلحاظ السبر والتقسيم في قوله تعالى[وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى]( ).
قوله تعالى[وَلَنْ يَتَمنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ] الآية 95.
الإعراب واللغة
ولن: الواو استئنافية، لن: حرف نفي ينصب المضارع ويخلصه للإستقبال.
يتمنوه: جملة من فعل وفاعل، والهاء ضمير في محل مفعول به.
أبداً: ظرف زمان متعلق بـ(يتمنوه).
بما: جار ومجرور، ما: اسم موصول بمعنى الذي.
قدمت أيديهم: جملة فعلية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة ما.
وأيدي: مضاف، والضمير هم مضاف اليه.
والله عليم: الواو إستئنافية، واسم الجلالة: مبتدأ مرفوع بالضمة.
بالظالمين: جار ومجرور متلعقان بعليم.
والأبد: الدهر والدوام , ومنه الحديث: واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا)( )، أي مخلداً الى آخر الدهر، وقد يقال أبد الأبد للتوكيد كما في حديث الحج قال سراقة بن مالك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، مُتْعَتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ قال: “لا بَلْ لِلأبَدِ”( ).
في سياق الآيات
في الآية إخبار إلهي يتضمن التعجيز والتوبيخ ضمن آيات التوبيخ والوعيد، وجاءت هذه الآية لبيان حالة العجز عن الإرتقاء الى مراتب الإخلاص والرفعة في الآخرة.
اوجاءت الآية السابقة خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته للمسلمين للإحتجاج، والإعتبار من المسألة والملازمة بين تمني الموت وعدم كراهته وبين الأعلان عن دخول الجنة بعد الموت.
وجاءت هذه الآية لنفي هذا التمني مما يعني أن الجنة ليست خالصة لهم كما يدعون، وفيه دعوة لهم لرؤية المسلمين كيف يجاهدون في سبيل الله شوقاً للقاءه، وجاءت الآية التالية لتؤكد حبهم للدنيا وزخرفها.
وهل تمني الموت من الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل لا دليل عليه، إلا أنه ورد للإحتجاج ونفي زعمهم أن الجنة خالصة لهم من دون الناس، وفيه إشارة إلى باب الجهاد، وإمتناع فريق منهم عن دخول الإسلام بسبب الأمر الإلهي فيه بالجهاد، ونزول جبرئيل بقتال الكافرين والمشركين.
لذا جاءت الآية بعد التالية بذم عداوة جبرئيل، والإخبار بأنه رسول من عند الله.
ومن إعجاز نظم آيات القرآن أن هذه الآية والآية السابقة والآية اللاحقة تتعلق بالتحدي في باب تمني الموت وموضوعه هو دعوى الإنفراد بالإقامة الدائمة في الجنة والرد عليها بصيغة البرهان في اللازم مع إرادته والملزوم.
اعجاز الآية
جاءت الآية عقب سؤال التحدي الذي ورد في الآية السابقة وبما يكون إخبارا عن حالهم وتعذر إستجابتهم للطلب الوارد في الآية أعلاه بتمني الموت، ليكون من إعجاز القرآن لغة الإحتجاج التي فيه بما يمنعهم من محاربة الإسلام، ويجعلهم يتدبرون في صدق التخلف عن تمعني الموت، ودلالته على أن الجنة ليست خاصة بهم وأن الله عز وجل جعلها للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وصحيح أن الآية أعلاه خطاب للمؤمنين لأنها معطوفة على قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( )، ولكنها دعوة سماوية للناس جميعاً من وجوه:
الأول : فتح باب التوبة والإنابة للناس جميعاً.
الثاني : إخبار الآية عن إعداد الجنة للمتقين الذين يخشون الله عز وجل.
الثالث : توجه الدعوة الإسلامية للناس جميعاً.
الرابع : آية البحث ذاتها دعوة للمسارعة إلى المغفرة لما فيها من الإحتجاج، وتتضمن الآية الدعوة للرضا والعمل على حسن الجوار والصلات مع المسلمين وإجتناب قتالهم.
وفي الآية مسائل:
الأولى : في الآية اخبار عن الغيب بنفي تمني بني اسرائيل للموت، وانه لن يكون منهم في المستقبل، مع انه قريب منهم , وفي متناولهم في كل ساعة.
الثانية : في الآية تحد في مسألة ليست صعبة عليهم , كما انه تعالى بيّن علة وسبب عدم تمنيهم الموت وهي الذنوب التي تجعل صاحبها يتجنب لقاء الموت لانه بداية الحساب ودخول عالم الآخرة.
الثالثة : هناك نوع ملازمة بين عدم تمني الموت واتيان الذنوب حسب المنطوق، اما مفهوم الآية الكريمة فهو انهم اذا اصلحوا انفسهم واعمالهم يستطيعون تمني الموت واستحضاره وذاك لا يتم الا بالإسلام واتباع احكامه.
الرابعة : صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخباره بما يأتي به من عند الله عز وجل من المغيبات.
الخامسة : تعلق التحدي باحساس قلبي وتوكيد نفيه مع انه وجوداً وعدماً خفي عن الناس ولم يدع أحداً منهم وحتى بعد نزول الآية انه يتمنى الموت.
ومن الإعجاز في الآية ذكرها الأفعال بلغة التقديم والمقدمة للآخرة وستأتي في باب التفسير وجوه تقدير المحذوف في الآية.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “ولن يتمنوه” ولم يرد لفظ “يتمنوه” في القرآن الا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
تظهر الآية حالة الشوق الى لقاء الله تعالى عند الاطمئنان الى حسن العاقبة، وتجعل المؤمن ينجذب الى الشهادة، وتنفي الحرج عمن يدافع في سوح المعارك ويقاتل في سبيله تعالى.
لقد تعرض بنو إسرائيل للأذى والإضطهاد من فرعون، ومواجهة فريق منهم الظالمين، وخاضوا المعارك وإنتصروا عليهم، كما في طالوت ومن خرج معه من بني إسرائيل لمحاربة الجبارين والجهاد سبيل الله من مصاديق تمني الموت، والرغبة في لقاء الله تعالى.
قال تعالى في نصر بني إسرائيل[فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ]( )، وداود نبي من سبط يهوذا بن يعقوب النبي، قيل توفى في بيت المقدس سنة 1015، وكان راعياً لغنم أبيه وقيل ألحقه ملك بني إسرائيل بأهل مجلسه لأنه كان يعرف الرمي بالمقلاع.
ولما وقعت الحرب مع الكنعانيين وهم الفلسطينيون وكان قائدهم جالوت محترز بالدروع والحديد، ولا يبدو منه إلا عيناه من ثقب في قناعه الحديدي، فرماه داود بالمقلاع بين عينيه ثم قطع رأسه فانهزم جنوده، وآتاه الله النبوة وأوحى إليه الزبور، ويسمى المزامير.
وتخبر هذه الآية عن عدم تمني الموت، والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على تخلفهم عن قتال المسلمين , والآية الكريمة مدد للذين يدخلون الإسلام من الملل الأخرى، ومنع لدبيب الشك والريب إلى نفوسهم.
مفهوم الآية
تدعو الآية الى الحرص والتقيد باحكام الشريعة وعدم ارتكاب السيئات لأنها وزر وحاجز ظلماني يحول دون تمني الموت، ومن مفاهيمها الإستعداد للموت بالإيمان والعمل الصالح، ومع تسليم المليين بإحاطته تعالى علماً بكل شيء كلياً او جزئياً، ظاهراً او باطناً فان اخبار الآية عن علمه سبحانه بالظالمين تخويف وانذار، وهي تنبيه للمسلمين وحث للناس على اجتناب السيئات والظلم بوجوهه المختلفة.
وفي الآية مسائل.
الأولى: النفي القاطع لرغبتهم بالموت، والإخبار عن حبهم للحياة الدنيا التي هي نعمة وفضل من عند الله على الناس، ويتجلى الشكر على نعمة الحياة الدنيا وطول العمر بالمبادرة إلى الإيمان والتصديق بالنبوة والمعجزات التي يأتي بها الأنبياء.
الثانية : جاءت الآية بصيغة الجمع، وهي إنحلالية وفيه وجوه:
الأول : كل واحد منهم لا يتمنى الموت.
الثاني : عدم إنحصار موضوع التحدي في الآية بأيام التنزيل، بل هو شامل لما بعده من الأيام وفيه شاهد على عدم صحة الدعوى بأن الجنة لهم وحدهم.
الثالث: ظهور عدم تمني الموت على ألسنتهم وأفعالهم، لذا جاءت الآية التالية بالإخبار عن حبهم وشغفهم بالدنيا[وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ] ( ).
الثالثة: الإطلاق الزماني لعدم تمنيهم الموت بقوله تعالى[أَبَدًا] في الوقت الذي يكون إدراك المؤمن لصيرورته بعد الموت إلى الجنة سبباً في عدم الإستيحاش من الموت.
الرابعة: لا يختلف إثنان بأن عالم الجنان أفضل وأحسن كثيراًمن عالم الدنيا، ومن يقول بأنه يدخل الجنة فإنه يشتاق إليه، ولا تكون الدنيا كل همه وغاية عمله، قال تعالى[وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( ).
الخامسة: بيان علة عدم تمنيهم الموت، وهو الذنوب والآثام التي إرتكبوها لأنها سبب للحساب والعقاب الأخروي فالإمتناع عن الرغبة بالموت مرتكز على الخشية من الحساب، والإقرار بالكبائر والمعاصي التي إرتكبوها.
السادسة: بيان تفضيل المسلمين على غيرهم من أهل الملل الأخرى لأن الله تعالى فتح للمسلمين باب الإستغفار وجعله أكبر كفارة، وبه وبالدعاء يغفر الله تعالى لهم الذنوب ويتجاوز عن السيئات.
السابعة: إختتام الآية بلغة الوعيد والإنذار دعوة للتدارك والتخلص من أوزار الذنوب، ومناسبة للإبتعاد والتنزه عما فعله في سابق الزمان الذين كذّبوا وقتلوا فريقاً من الأنبياء ممن جاء بعد موسى عليه السلام مع أنهم لا يدعون إلا لله تعالى.
الآية لطف
لغة الإحتجاج في القرآن مدرسة عقائدية ذات منافع متعددة، وهذا التعدد من وجوه:
الأول: كثرة الجهات والجماعات والأفراد الذين ينتفعون من هذا الإحتجاج.
الثاني: يأتي الإحتجاج على قوم ولكن الذين ينتفعون منه أعم، إذ يقتبس المسلمون منه الدروس، ويستنبطون المسائل والأحكام، ويتخذه الناس عبرة وموعظة، قال تعالى[إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى] ( ).
الثالث: مصاحبة الإحتجاج القرآني للأمم والأجيال المتعاقبة، وجاءت هذه الآية لطفاً ببني إسرائيل لمنعهم من إدعاء ما ليس بحق، والإخبار عن عالم الحساب والجزاء من غير دليل.
وهي لطف بالمسلمين لما فيها من الدفاع عنهم، وتلقيهم الحجة لتقييد المقالات الباطلة وجاءت خاتمة الآية بصيغة الوعيد لتنفر النفوس من الظلم ويعلم الناس جميعاً أن أعمال العباد حاضرة عنده، قال تعالى[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]( ).
إفاضات الآية
تتحدث الآية الكريمة عن الزمن الماضي والحاضر والمستقبل بلغة السبب والمسبب، والعلة والمعلول، أما الماضي فيتعلق بالذنوب والسيئات وعالم الأفعال، وأما الحاضر والمستقبل فيخص عدم تمنيهم الموت، ليجتمع الأمران معاً في الإخبار عن قانون كل في الإرادة التكوينية وهو أن الآخرة دار الثواب والجزاء الحسن على عمل الصالحات.
وتدعو الآية المسلمين إلى إجتناب السيئات والفواحش لما تسببه من الأوزار التي تجعل الإنسان يكره الموت، ويخاف من المعاد، ويفزع من ذكر الحساب وسواء تمنى الإنسان الموت أو لم يتمناه فإنه ملاقيه في موعد وأجل لن يتخلف عنه، ولكن تمني الموت له منافع منها:
الأول : إنه شاهد على الدعوى.
الثاني : الملاك فيه حسن الإستعداد للحساب.
الثالث : حمل الزاد للفوز بالثواب والإقامة في الجنة.
الرابع : تأكيد حقيقة وهي الملازمة بين التقوى وتمني الموت , فحينما يتمنى الإنسان الموت ويقرّ ويعترف بأن وراءه حساباً في الآخرة كما في الآية السابقة[إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ]( )، لا بد وأن يتزين بلباس التقوى، ويجتهد في طاعة الله عز وجل، ليكون الإحتجاج بتمني الموت ترغيباً بالخشية من الله، ومنها إعلان الإعتراف بمعجزات النبوة، قال تعالى[اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
الخامس : الآية الكريمة من الإنذارات التي جاء بها القرآن، وكل فرد منها حجة حاضرة ومتجددة إلى يوم القيامة، قال تعالى[إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ]( ).
لذا أختتمت الآية بالتحذير من الظلم واالإشارة إلى أن الأعمال تحضر يوم القيامة مع الناس لا تتخلف عنهم، ويكون جزاء الظالمين الحجب عن الجنة وعدم التنعم فيها.
الصلة بين وأول وآخر الآية
يأتي نظم الآيات بالإعجاز في لغة الإحتجاج والجواب عليه بمعجزة أخرى، فأمرت الآية السابقة النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول لبني إسرائيل إذا كنتم تقولون بإنفرادكم بدخول الجنة فتمنوا الموت.
وجاءت هذه الآية وثيقة سماوية في بيان حالهم بعدم تمنيهم الموت، ترى لماذا أخبرت هذه الآية عن عدم تمنيهم الموت الجواب أن التمني حالة نفسانية، ولا تعرف في الخارج إلا بالقول والفعل.
وجاءت الآية بفضح هذه الحال النفسية، بدلالة الشواهد عليه فهم لم يظهروا هذا التمني على ألسنتهم ثم جاءت خاتمة الآية بذم الظالمين والإخبار بأن الله عز وجل يعلم تعديهم، وفيه إشارة إلى ما في قولهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من التعريض والإيذاء للمسلمين، والظلم في المقام من وجوه:
الأول: إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: الإعراض عن البشارات التي جاء بها موسى عليه السلام في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: تحريض قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتحذير من هذا التحريض.
الرابع: إدعاء أن الدار الآخرة خالصة لهم، لإيذاء المؤمنين الذين كانوا مشغولين بقتال الكفار في معركة بدر وأحد وغيرهما، فلا غرابة أن تنزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معارك الإسلام الأولى لأن الأذى الذي كان يأتيهم متعدد الوجوه ومن جهات متباينة، قال تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
الخامس: التخلف عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظلم للنفس وإضرار بها.
السادس: من وجوه الظلم للنفس الظن بحسن العاقبة مع عدم الإستعداد له بالإيمان والعمل الصالح.
السابع: خسارة الذين جحدوا بالنبوة وإخبار بأنهم ظالمون لأنفسهم، وأن الله عز وجل يعلم بما يقولون وما يفعلون، وفي خاتمة الآية إنذار ووعيد للذين يفترون على الله عز وجل، قال تعالى[أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
التفسير الذاتي
بدأت الآية بالحرف (لن) الذي يفيد نفي موضوع تمنيهم الموت في المستقبل، وفي(لن) تشديد وتوكيد أكثر من (لا) بالإضافة إلى عطف الآية على الآية السابقة، وما فيها من التحدي، لبيان أنهم ليسوا صادقين بإدعائهم أن دار الكرامة والنعيم في الآخرة خالصة لهم من دون الناس.
ومن إعجاز الآية توكيد النفي، في أفراد الزمان الطولية القادمة، فمع أن (لن) تفيد التأبيد في النفي، جاءت الآية الكريمة بقوله تعالى [أَبَدًا] وفيه مسائل:
الأولى : إستدامة تجديد التحدي .
الثانية : الدعوة للتدبر بآيات القرآن وإخباره عن خلجات نفوسهم.
الثالثة : إظهار القرآن لعجزهم عن مواجهة تحديه مع أنه يتعلق بالتمني والقول.
الرابعة : تبعث الآية الفخر والعز في نفوس المسلمين.
الخامسة : تجعل الآية المسلمين أكثر إيماناً وثباتاً على الهدى، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
لقد أظهر مشركوا قريش معاني الريب والشك بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقاموا لكفرهم وجهالتهم بترجمة هذا الريب والشك إلى صيغ قتالية وهجومية على المسلمين الذين كانوا حديثي عهد بالإيمان، وقليلي العدد، ويفتقرون إلى السلاح والمؤون.
وكان أعداء الإسلام من قريش وغطفان ونحوهم شديدي المكر والدهاء، وأدركوا قوة سلطان المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على القلوب المنكسرة، والنفوس المستضعفة، وطلاب الحقيقة والصدق، وسليمي الفطرة، فسارع هؤلاء الأعداء إلى التصدي لضياء النبوة بالتشويه والتحريف، ورأوا عشق المسلمين للشهادة، وهو من الأسباب التي تغّير موازين القوى في الحرب ، قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
ولم تكن كثرة الجنود والعدة علة للترجيح وسبباً للنصر، فقال فريق منهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، ولعل فيه تعريضاً بالمسلمين، وسعيهم الحثيث في مرضاة الله، وشوقهم للقائه خصوصاً وان آيات القرآن والسنة النبوية جاءتا بالترغيب والحث على الدفاع في سبيل الله، والوعد الكريم لمن يقتل من المسلمين في ميادين الجهاد والدفاع عن الإسلام، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ]( ).
ولم ينحصر الأمر بالإدعاء بأن الجنة خالصة لهم، وجعل كفار قريش الشك ذريعة وصيرّوه حجة على المسلمين، وسبباً لزجر الذين يرومون دخول الإسلام من أبنائهم ومواليهم ومنعهم من إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الجنة قد إستحقها وأحرز حق الإختصاص بها غيرهم ممن سبقهم من أهل الكتاب، ولا ينحصر هذا الفعل والتأثير بقرية أو بلدة مخصوصة بل هو أمر متعدد ومتسع، ولا يختص بزمان دون آخر.
فجاءت هذه الآية مدداً وناصراً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وفضحاً للقول بإختصاص فريق من أهل الكتاب بالجنة، لقد جاء القرآن بالبيان وتفصيل الحجة وتمام البرهان، ولم يكتف بالإجمال في المقام لإحتمال تعدد التأويل، وبقاء التحريف والتشويه للحقائق.
وجاءت هذه الآية من عمومات قوله تعالى [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى]( )، للإخبار بأن عالم الآخرة وما فيه من الجزاء بيد الله عز وجل، ومن الآيات أن تكون الحياة الدنيا وعاء لهذا البيان بنزول القرآن من عند الله، ومنه هذه الآية التي تدفع الأوهام وتمنع من الشبه والوهم عن أحوال يوم القيامة، وتؤكد وجوهاً:
الأول: تمني الموت شاهد على حب الآخرة، والظن بحسن المقام فيها.
الثاني: الذين يدّعون إختصاصهم بالجنة، وحصر الدخول إليها يوم القيامة بهم لن يتمنوا الموت الذي هو مغادرة قهرية للدنيا ومقدمة وطريق للجنة .
الثالث: بيان علة عدم تمني الموت، وهو الجحود بالبشارات التي جاءت بها في التوراة وتخلفهم عن وظائفهم العبادية، ومضامين الميثاق الذي أخذه الله عز وجل عليهم، وهي كثيرة ومتعددة، وقد أعرضوا عنها إلا فريقاً منهم، قال تعالى [ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ]( ).
وتحتمل موضوعية تمني الموت وجوهاً:
الأول : لا أثر لتمني الموت في أوان الأجل للفرد والجماعة، قال تعالى[فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
الثاني : موضوعية تمني الموت بقرب وحلول الأجل.
الثالث : تمني الموت سبب لإطالة العمر لما يدل عليه بالدلالة الإلتزامية من رجاء لقاء الله والعيش الرغيد , فيتفضل الله سبحانه بالجزاء العاجل بزيادة أيام العمر.
ولأن الآية في مقام الإحتجاج , فقد جاء الخبر بخصوص الوجه الثاني أعلاه.
وجاءت خاتمة الآية بصيغة الوعيد، وفيها بعث للسكينة في نفوس المسلمين، ودعوة لهم للصبر، وإشارة إلى تلقي الأذى والحيطة من الذين يدّعون إختصاصهم بالجنة، وعدم دخول غيرهم معهم فيها، وفي هذا الإدعاء وجوه:
الأول: هذا التمني لا أصل له.
الثاني: في هذا القول تحريف للكتاب، وهو من الظلم.
الثالث: إنه ظلم للمسلمين، وبخس لحقهم، ومحاولة لصدهم عن سبيل الله عز وجل.
الرابع: فيه نوع صد للذين يريدون دخول الإسلام.
الخامس: فيه برزخ وحاجب لمنع رؤية الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتدبر في مضامينها القدسية، وأسرارها والمسائل المستنبطة منها.
ويحتمل أوان وزمان هذا الإدعاء وجوهاً:
الأول: إنحصاره بساعة هذا القول والإدعاء.
الثاني: أثره خاص بالحياة الدنيا.
الثالث: المعنى الأعم، وأن آثار إدعاء إختصاصهم بالجنة تستمر إلى الدار الآخرة.
والصحيح هو الأخير، فإن إدعاء إختصاصهم بالجنة ظلم للنفس ، وجاء القرآن بطريق التوبة والإنابة.
وتحتمل الصلة بين إدعائهم الإختصاص بالجنة، وقولهم[لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً] ( )، وجوهاً:
الأول: عدم التعارض بينهما، والمراد أنهم يدخلون النار أياماً ثم يخرجون من بين الناس، ليدخلوا الجنة.
الثاني: تعدد القول والإدعاء منهم، فمرة يقولون أنهم لن يبقوا في النار إلا أياماً قليلة، ومرة يقولون الجنة خاصة بنا.
الثالث: جاء القولان منهم في باب الجدال بعد دعوتهم للإسلام كما ورد في قوله تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ] ( ).
الرابع: التباين الموضوعي بين القولين، فجاءت الآية أعلاه بعد إقامة الحجة عليهم، أما الآية محل البحث فتبين محاولة صد الناس عن دخول الإسلام، وبعث الشك في نفوس المسلمين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، لأن القرآن يوثق الأقوال، وهذا التعدد من مصاديق الظلم الذي ذكرته خاتمة الآية، وعلم الله عز وجل به، أي أنه سبحانه يكتب ما يقولون مع تعدد الموضوع وإتحاده في الإدعاء الذي يتنافى مع سعة رحمة الله في الدنيا والآخرة.
وتحتمل هذه الآية في صيغتها وجوهاً:
الأول: إنها جملة خبرية.
الثاني: إنها جملة إنشائية، وإستمرار لما جاء في الآية السابقة (قل) والتحدي بأمرهم بتمني الموت إن كانوا صادقين في دعوة إنحصار دخول الجنة بهم.
الثالث: المعنى الأعم.
والصحيح هو الثالث فهي وان كان ظاهرها الإخبار وإستمرار الخطاب مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإبتدأت الآية بالخطاب إلا أنها تتضمن الأمر والإنشاء[وَلَتَجِدَنَّهُمْ].
مما يدل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إمتثل لقوله تعالى في الآية السابقة [قُلْ إِنْ كَانَتْ] بقيامه بالتبليغ والإحتجاج الحسن وان المصداق الخارجي للآية بدأ بعد نزولها، وأنهم لم يقولوا اللهم أمتنا مع أن المقام مقام تحد.
وفيه معجزة بإبطال قول يتعلق بعالم الآخرة، ويتعذر على الناس إثبات كذبه، فجاء إبطال هذا القول من السماء بتحد وقول وآية باقية إلى يوم القيامة.
ومن الإعجاز الحسي والعقلي لهذه الآية إبطال الصدود عن دخول الإسلام ، بإظهار العجز عن إثبات قولهم بخصوص الآخرة، مع أن تمني الموت لا يدل على إختصاصهم بالجنة، ولكنه يدل على رضاهم بلقاء الله وحكمه.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: تتضمن الآية لغة الإحتجاج، فجاءت الآية السابقة بالأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتحديهم بأن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين في دعوى إختصاصهم بالجنة، وجاءت هذه الآية ببيان حال التخلف عن مثل هذا التمني.
الثانية: النفي الدائم لتمنيهم الموت، ومن يرجو الآخرة يسعى إليها ولا ينفر مما فيها.
الثالثة : التحذير من تحريف مضامين الكتب السماوية المنزلة.
الرابعة : الدعوة لهجران التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها.
الخامسة : تأكيد إعجاز القرآن بالكلام عن التأبيد في الحال النفسية، ويحتمل التأبيد في الآية وجوهاً:
الأول : إرادة القضية الشخصية وأن الفرد لا يتمنى الموت مادام في الحياة الدنيا.
الثاني : المراد بقاء ملة بني إسرائيل إلى يوم القيامة، مع عدم تمني الموت.
الثالث : المقصود أن الشخص الواحد منهم لا يتمنى الموت في كل الأحوال وأيا كانت الأسباب.
السادسة : المضامين القدسية لخاتمة الآية أعم من موضوعها لأنها قانون كلي يتضمن الإنذار والوعيد للظالمين من الناس جميعاً، وبعث النفرة من الظلم والتعدي، وهو لا يتعارض مع الدعوة إلى التوبة والإنابة، قال تعالى[فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ]( ).
التفسير
قوله تعالى [وَلَنْ يَتَمنَّوْهُ أَبَدًا]
وجه من وجوه الإخبار عن الغيب بنفي تمنيهم الموت المطلق المنبسط على كل آنات المستقبل من غير خشية لإحتمال حصوله في يوم ما وان كان لا ينفعهم حينئذ في الإحتجاج أو الفعل، والتأبيد في الإخبار بمفرده آية مستقلة تتحداهم في كل زمان.
وهل يدل هذا اللفظ على بقاء عقيدتهم الى يوم القيامة لأنه محمول لابد ان يكون موضوعه موجوداً.
جاءت الآية هنا لنفي التمني على نحو الإطلاق سواء كان موضوعه متصلاً او سيكون معدوماً في بعض الأحيان ويكفي تحقق الاعجاز بوجود صرف الطبيعة، بالاضافة الى دلالة اتصال واستمرار مفهومها الذي يتمثل باعتبار وإتعاظ المسلمين، قال تعالى[فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ]( ).
وبعد سؤالهم بتمني الموت تأتي هذه الآية لتنفي ادعائهم باظهار حبهم للدنيا.
والتمني هذا يحتمل وجهين:
الأول: المعنى القائم في النفس.
والثاني: ظهوره باللفظ ومطلق المبرز الخارجي.
والمقصود بالآية الكريمة المعنيان معاً وهو أبلغ في التحدي وكشف الحقائق وابطال الدعوى.
والآية من علم الغيب المتجدد كل يوم , وفي قصة يوسف ورد قوله تعالى[ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( )، بخصوص قصة أحد الأنبياء السابقين، وجاءت آية البحث بعلوم غيبية تتعلق بقادم الأيام وعلى نحو مستمر ومتجدد وهو ظاهر ومحسوس للناس بما لا يكون فيه إجمال وترديد وجهالة، ليكون من إعجاز القرآن إتصافه بالتحدي في كل زمان، ويكون إخباره عن أحوال الناس شاهدا على صدق نزوله من عند الله سبحانه.
بالإضافة إلى الإطلاق الزماني في إعجازه وتغشيه لأفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل، قال تعالى[اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ]( ).
قوله تعالى [بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ]
ذم وتحد بذكر سبب عدم تمنيهم الموت وهو سوء الأفعال والذنوب التي تجعلهم يخافون لقاء الآخرة ومنازل الحساب فيها، فالآية الكريمة تفضحهم في الإعتقاد والفعل، والذي يعلم ان قبيح فعله يعرضه للعقاب الأخروي تكون الحجة قد قامت عليه بعدم الأهلية للإنفراد بالثواب لإدراكه بان الذي ينتظره خلافه بل نقيضه.
وتدل الآية على اقرارهم بالآخرة وما فيها من الحساب، وهو ظاهر قولهم وادعائهم انها خالصة لهم.
ومفهوم الآية الكريمة ان الذي يرجو لقاء الله لا يقيم على المعاصي ولا يخشى الموت، ويمتلك الارادة على تمنيه لأنه رجوع وعودة الى المعشوق.
وذكر إنه مكتوب في التوراة ان اولياء الله يتمنون الموت ولا يرهبونه.
وجاءت الآية بلفظ الأيدي , ويحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة المجاز والكناية عن الأفعال كما في قوله تعالى في مناجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً]( ).
الثاني : إرادة ذات الإنسان بذكر أبين وأظهر أعضائه في ذات موضوع المعصية، كما تذكر الرقبة في العتق والمراد الإنسان وخلاصه من العتق، قال تعالى[فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ]( ).
الثالث : المقصود الإستعمال الحقيقي للفظ الأيدي بلحاظ أن أغلب المعاصي تؤتى باليد، أو تكون اليد واسطة فيها، ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة ودلائل الإعجاز فيها.
وفي الآية مسائل:
الأولى : بيان موضوعية اليد في ماهية الأفعال.
الثانية : تسخير الفعل للتحكم بفعل اليد وبما فيه التريث والتدبر في العواقب.
الثالثة : إستحضار عالم الجزاء عند إقدام اليد على فعل , وأصل هذا الإستحضار أمر فطري وموجود في ذات الإنسان.
بحث فلسفي
من مقولات الكيف التي يبحثها الفلاسفة الكيفية الإستعدادية التي تكون علة وواسطة لترجيح ظاهرة ومحمول معين في موضوعها، .
وقد يطلقون عليها الإمكان الإستعدادي لتتميز عن الإمكان الذاتي فعلاً وهو وصف عقلي للماهية كذات بمعزل عن موضوع الوجود والعدم لأنهما ليسا ضروريين لها وهو من المعقولات الثانية الفلسفية، وليس من قبيل المعقولات الأولى والمفاهيم الماهوية كالأجناس والذاتيات، وقد يخوض الإنسان في المعقولات وهو لا يستطيع الإلتفات الى الحسيات وفيها باب للمعرفة والاعتبار.
بحث منطقي
لليقين معنيان معنى عام وهو الإعتقاد الجازم ، وخاص وهو الإعتقاد المطابق للواقع الذي لا يحتمل الخلاف فيخرج به الظن الذي لا يفيد القطع.
وتنقسم القضية اليقينية الى بديهية ونظرية كسبية يحتاج استحضارها في الذهن الى الكسب لتنتهي ايضاً الى البديهيات لتكون من أصول اليقينيات، ومنها المحسوسات وتسمى ايضاً المشاهدات وهي التي يتخذ العقل الحس آلة للحكم فيها.
لذا قال الفلاسفة من فقد حساً فقد فَقَدَ علماً، ويمكن حمله على السالبة الجزئية دون السالبة الكلية لسعة فضل الله تعالى في التخفيف والعوض والخلف، قال تعالى في البدل والعوض للإنفاق في سبيله[وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ]( ).
والحس نوعان، ظاهر وباطن ويتعلق الأول بالحواس الخمسة الظاهرية لذا قُسم الكيف المحسوس الى خمس فئات، فالنظر الى وجه العَالِم من الكيفية المبصرة، والإستماع الى القرآن من الكيفية المسموعة، ومذاق طعام الإفطار من الكيفيات المذوقة، والطيب من الكيفيات المشمومة، ونعيم الجنة وألم وحرارة النار من الكيفيات الملموسة, وقد تقدم علماء النفس الحديث خطوات في بحوثهم باحتمال وجود حواس اخرى غير الحواس الخمس.
والمعروف ان المعجزات التي جاء بها الأنبياء لبني اسرائيل حسية في الجملة، ومعجزات هذه الأمة عقلية لما يتصف به المسلمون من الكمال العقلي والذكاء وحسن الفهم ولأن القرآن معجزة دائمة وباقية إلى يوم القيامة.
فماذا كان نوع التحدي في موضوع تمني الموت؟ انه حسي عقلي معاً، حسي عقلي في جانب بني اسرائيل لأنه بسيط لا يقبل التجزئة، وكذا بالنسبة للمسلمين فانه حسي عقلي لتنتزع منه امور اعتبارية وتستنبط مفاهيم مشتركة من الماديات والمجردات.
ما دامت الآخرة ليست خالصة لهم سواء تمنوا الموت او لم يتمنوه اذن لماذا هذا الإحتجاج.
وبالقياس الإستثنائي : لو كانت الدار الآخرة خالصة لفريق مخصوص من الموحدين لتمنوا الموت، ولكنهم لم يتمنوا الموت لأن الدار الآخرة ليست خالصة لهم .
بحث أصولي
الآية إخبار بصيغة الجزم والقطع عن تخلف محسوس وظاهر في باب العقيدة يحمل طابع التناقض للتداخل بين المقدمة وبين ذيها، فمما هو متسالم بين العقلاء ان الشخص إذا أدرك وجوب شيء عليه أو أراد تحقيق غاية فلابد له من تحصيل مقدماتها التي تمكنه من إحراز الوصول إليها.
وقد ثبت في علم الأصول ان العقل يدرك لزوم مقدمة الواجب وان اختلف في قسم تلك الملازمة، فالحج مثلاً يحتاج الى مقدمة عقلية ومنها المشي والسعي للوصول لأداء مناسك الحج ، وان كان في القياس فارق لعدم تعلق الأمر بالمقدمة، فصحيح ان العقل يرشد الى الإتيان بكل ما يتوقف عليه المأمور به وتحصيل اسبابه للملازمة الفعلية بين المقدمة وذيها، ولكن الدار الآخرة لم تكن خالصة لأهل ملة من الملل السابقة وإن تمنوا الموت.
والتمني ليس فعلاً خارجياً ولكنه من اعمال القلوب وفرد من افراد الشوق ينفعل حتى يستحيل الى قصد وارادة كما في الأفعال التدريجية والتوليدية، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ]
إخبار عن عظيم قدرة الله تعالى واحاطته علماً بما يفعل الناس، وفي الآية تنشيط لنفوسهم ووضع لإنشغالهم بالدنيا واصرارهم على الانكار وتنمية لتوجه النفوس مطلقاً اليه تعالى، وتكامل علومها بالخوف والخشية منه تعالى، وليكون حبه تعالى واضحاً في الوعي والعمل.
وفي الآية ذم وتخويف وتأديب ووعيد، وتدل بالدلالة التضمنية على الخيبة لأهل الظلم.
وهي نفي لإدعاء الإنفراد بالجنة يوم القيامة.
والظلم في هذه الدعوى على وجوه:
الأول : ظلمهم لأنفسهم بادعاء ما ليس لهم وما لهذا الإدعاء من الأضرار على النفس والأفعال بالتمادي في الغي والغرور.
الثاني : إيذاء المسلمين بما في هذه الدعوى من قصد نفي دخول غيرهم الى الجنة وحصرها بهم.
الثالث : الظلم العقائدي بذكر مبدأ لا أصل له.
ويحتمل الظلم في موضوعه في المقام وجوهاً:
الأول: الظلم لعدم تمني الموت.
الثاني: حب الدنيا، وعدم الرغبة في مغادرتها.
الثالث: القول على الله بغير علم.
والصحيح هو الثالث، ومنه يتبين التعدي والظلم والضرر الذي يترشح من إدعائهم الإختصاص بالجنة، وحاجة المسلمين والناس للإعراض عن هذا القول، وقد لا يلتفت إلى أضراره الفادحة في بث الشك والريب في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وأنه يتعلق بعالم غير الدنيا وموضوع النبوة ومعجزاتها، وكأنهم يتحدثون عن أمر مضى إبرامه، وأصبح من المسلمات.
فجاءت هذه الآية ضياء سماوياً مباركاً، ولا يقف عند التحدي، بل جاءت خاتمة الآية بنعتهم بالظلم، والوعيد لهم بالعذاب، ويستقرأ هذا الوعيد من هذه الآية، ومن آيات عديدة تنص عليه , قال تعالى [أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ]( ).
وفي الجمع بين الآيتين دعوة لبني إسرائيل والناس لإجتناب الظلم وما يترتب عليه من آثار في الدنيا، والآخرة، وهذه الدعوة من فضل الله عز وجل عليهم، والتخفيف واللطف بالناس جميعاً , وهذا اللطف وعمومه من خصائص القرآن.
جاءت هذه الآية في أولها ووسطها وخاتمتها بصيغة الجملة الخبرية، والله عز وجل عالم بكل شيء الموجود والمعدوم، تفضل بآية البحث لإصلاح أحوال الناس، والندب إلى التوبة , وهو سبحانه يعلم ما يفعله الناس , فجاءت هذه الآية لأمور:
الأول : التنزه عن الظلم.
الثاني : فضح الظالمين.
الثالث : الدعوة إلى عدم إتباع الظالمين.
الرابع : هداية الناس للإسلام.
الخامس : لزوم إجتناب ظلم النفس والغير، وعن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إن الله تعالى يقول: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه”)( ).
ويحتمل متعلق موضوع الآية وجوهاً:
الأول : إرادة علم الله بالظالمين قبل أن يتلبسوا بالظلم.
الثاني : المراد علمه تعالى بهم أثناء تلبسهم بالظلم.
الثالث : بعد إنقطاع ظلمهم وتوبتهم.
وصحيح أن الله عز وجل عالم بكل هذه الوجوه والأحوال قبل أن يخلق آدم إلا أن المراد هو أثناء تلبسهم بالظلم، أما بعد التوبة فالآية غير شاملة له لتغير الموضوع وتبدل الحكم تبعاً للموضوع.
قوله تعالى[ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ] الآية 96.
الإعراب
ولتجدنهم: الواو عاطفة، وقيل ان اللام جواب لقسم محذوف، تجدنهم: فعل مضارع مبني على الفتح، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوباً تقديره أنت، والهاء، مفعوله الأول، احرص: مفعوله الثاني.
الناس: مضاف اليه مجرور بالكسرة.
على حياة: جار ومجرور.
(ومن): الواو: حرف عطف على المعنى، ويجوز أن تكون إستئنافية.
الذين: اسم مجرور.
يود أحدهم : يود : فعل مضارع مرفوع بالضمة.
أحدهم : أحد: فاعل مرفوع بالضمة، وهو مضاف، والضمير هم مضاف اليه.
لو يعمر: لو: مصدرية غير كاملة، أي يود التعمير وهي والفعل بعدها في تأويل مصدر مفعول يود.
يعمر: فعل مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازاً تقديره هو.
ألف: ظرف زمان متعلق بيعمر، وهو مضاف.
سنة: مضاف اليه مجرور بالكسرة.
وما هو: الواو: حالية، ما: نافية مصدرية، هو: اسمها.
بمزحزحه: الباء: حرف جر، مزحزحه: مجرور لفظاً منصوب محلاُ على انه خبر ما , والضمير مضاف إليه.
من العذاب: جار ومجرور متعلقان بمزحزحه.
أن يعمر: ان وما في حيزها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لمزحزحه لأنه اسم فاعل.
والله بصير بما يعملون: الواو: إستئنافية، الله بصير: مبتدأ وخبر، بما: جار ومجرور.
يعملون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون.
والواو: فاعل.
وفي تنكير (حياة) نكتة بلاغية وهي ان الحريص لابد ان يكون حياً، وحرصه على الحياة لحاضره ومستقبله.
وقد لا يتعارض الحرص مع الإيمان بالمعاد، ولكن الذي يؤمن بالمعاد ويحسب نفسه من أهل الجنة أولى باللوم من غيره خصوصاً وان الحياة مزرعة الآخرة.
بحث نحوي
قالوا ان اللام في [ وَلَتَجِدَنَّهُمْ] لام القسم , وتقديرها: والله لتجدنهم، والظاهر ان القسم في المقام لم يثبت لغة ولا شرعاً، والصناعة النحوية يجب ان تترشح عن اللغة ومعاني الألفاظ.
ومن شرائط القسم عدم تمام معناه الا بجملتين، تسمى الأولى جملة القسم، والثانية جواب القسم، وكما نشكل من جهة الشرع والعقل والعرف والنحو في جعل جملة فيها اللام المؤكد بالنون مثل (لأصومن) بانها جواب للقسم يدل على حذف جملة القسم، وما ذهبوا اليه من التقدير: أقسم بالله لأصومن يحتاج الى مؤونة زائدة والى دليل وبقصد وعزم على القسم أو ما يتضمن معناه، والأصل البراءة.
والحرص: الاجتهاد وشدة الطلب، والتعمير: طول العمر، وزحزحه: أي دفعه ونحاه، وزحزحته: باعدته , وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا”( ). ومنه دعاء الإمام علي “أعوذ بك من كل شئ زحزح بيني وبينك”( ).
وتنعت بعض الحروف او الأفعال في الصناعة النحوية بأنها زائدة وهي لغة مدرسة البصرة، والمراد من الزيادة هي الزيادة في الإعراب وليس في المعنى لجواز تعدي العامل الذي سبقها الى غيرها، فسيبويه يقول في قوله تعالى [ فَبِمَا نَقْضِهِمْ ]( ) ان (ما) لغو لأنها لم تحدث شيئاً، ويمكن ان تكون استفهامية او للتعجب من المخاطبين او للتوكيد.
وأما مدرسة الكوفة فانهم اختاروا اصطلاح الصلة والحشو والحروف التي يمكن ان تأتي زائدة في بعض الأحيان هي: أن، إن، لا، ما، من، الباء، اللام.
والأولى اجتناب مثل هذه الإصطلاحات كاللغو والحشو في علوم القرآن وان كانت خاصة بالصناعة النحوية لعمومات تنزيه القرآن وفي اللغة سعة، نعم لا بأس بالصلة كنعت ووصف وإن أنكر المبرد وثعلب الصلة في القرآن.
إن الدعوة لإجتناب اعراب الحرف في القرآن بانه زائد تنطلق من علم النحو نفسه قبل ان تصل النوبة الى قواعد علم الكلام، لأن هذا الحرف غالباً ما يأتي للتوكيد، أي ان معنى الكلام يحصل بدونه، اما مع ارادة التوكيد فلابد من الإتيان بهذا الحرف، والله سبحانه حكيم اتقن كل شيء صنعاً.
فيمكن ان يقال في إعراب الحرف الزائد انه حرف توكيد او ما يناسب موضعه من الجملة، وقد يرد عنوان الزيادة في الإعراب ولكنها مقيدة بما يدل على انحصار الزيادة في الاعراب , كما يقال (والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها جواب كذا او صلة الموصول، ونحوه).
أما قولهم حرف زائد فيرد على نحو الإطلاق وهو مما تأباه النفس المؤمنة او يقع فيه الإغراء لغير العارف بصناعة وقواعد النحو وعلومه خصوصاً وأن أهل الإختصاص بها في تناقص إلا أن يشاء الله.
في سياق الآيات
ذكرت الآية مصاديق قريبة وحاضرة لإبطال دعوى أن الدار الآخرة لهم ينفردون بنعيمها، وان العارض على المحمول عارض على الموضوع، وشدة حبهم للدنيا من المشهورات الحقيقية أي التي لا تزول شهرتها عند التحقيق والتأكد، فهي ليست من المشهورات الظاهرية التي تكون شهرتها بدوية تزول بالتحقيق والتعقب، او الشبيهة بالمشهورات وهي في الإصطلاح المنطقي التي تنال الشهرة بعرض غير لازم وتزول بزواله.
وجاءت هذه الآية في سياق الدعوة لأن يعلنوا تمنيهم للموت كدليل وشاهد صدق على إدعائهم بأنهم أهل الجنة، وتضمنت إبطال هذا الإدعاء لكونهم أكثر الناس حرصاً على الدنيا، وهم يحبون البقاء فيها، مما يعني أولوية الحياة في إختيارهم وأفعالهم، منهم لا يحبون الجهاد في سبيل الله لأن فيه تعريضاً للنفوس للقتل والهلاك، ويخافون من الآخرة لسوء فعلهم، ومن المشركين من يحب أن تطول حياته، ويعمر ألف سنة وهذه الأمنية مناقضة لتمني الموت الذي جاءت الآيتان السابقتان بذكره.
وجاءت الآية التالية لتخبر عن سبب من أسباب جحودهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أن جبرئيل عليه السلام هو الذي يأتيه بالوحي من عند الله، وهو يأتي بالأمر بالقتال والشدة والتكاليف ولا يعلمون أنه رسول من عند الله ليس له الزيادة أو النقصان من التنزيل.
إعجاز الآية
في الآية نوع تحد واخبار عن عرض ملازم لا يزول وهو تعلق الكفار بالدنيا وتمنيهم العمر الطويل فيها، أي ان هذه الصفة باقية فيهم لا يستطيعون تغييرها.
فان قلت: ليس من المستحيل تغييرها، الجواب: نعم , فهو أمر ممكن وسهل بالرجوع الى الشريعة والعقل وهو واجب، ولكن مع الرجوع يتغير الموضوع ايضاً وهو المطلوب، اذ يدركون معه ضرورة الدخول في الإسلام وعندها يتغير الحكم ولا يصدق عليهم انهم من الذين تشملهم الآية، فبإختيارهم الاسلام يصبحون خارج موضوع هذه الآية تخصصاً لا تخصيصاً فلا يشملهم ما فيها من الذم.
هذا في المنطوق، اما مفهوم الآية فهي تأديب للمسلمين ودعوة إلهية لهم لنزع حب الدنيا وشهواتها من نفوسهم , وارشاد إلى عدم الغفلة عن الحقيقة التكوينية وهي ان الآخرة هي دار القرار التي يجب ان تكون هدفاً ومراداً.
وبلحاظ كون (الواو) في[وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا] إستئنافية فإن الآية جاءت بالعام وهو لفظ الناس، ثم الذين أشركوا منهم، فبعد أن ذكرت حال الذين لن يتمنوا الموت بأنهم أكثر الناس حرصاً مع الحياة، ذكرت بعض المشركين ممن يتمنى أن يعيش في الحياة ألف سنة، ولكنه لا ينجيه من العذاب، وهل الآية بشارة على الزيادة في عمر الإنسان بالعلاج مستقبلا، الجواب نعم على الظاهر , وشواهد الوجدان في علوم وطب هذا الزمان .
وهو من إعجاز القرآن، لأن الود يأتي فيما يصح ويحتمل وقوعه ولو على سبيل الوهم، وليس هو كالتمني الذي يتعلق بما يصح وقوعه وبما لا يصح، والإرتقاء العلمي السريع في هذا الزمان أمارة على إحتمال زيادة معدل عمر الإنسان ليكون بعض الناس من المعمرين وقد تصل أعمار بعضهم إلى مائة سنة أو تزيد مع بذل علماء الأبدان الوسع في الأجيال اللاحقة.
فجاءت الآية لتكذيب بلوغه ألف سنة وأنه مجرد ود وأمنية خصوصاً وأن الآية جاءت بقوله تعالى(لو يعمر) ولو حرف إمتناع لإمتناع أي أنه لا يعمر هذه المدة , وأحكام القرآن باقية إلى يوم القيامة فلن يحصل مثل هذا العمر للإنسان إلا أن يشاء الله سواء على نحو القضية الشخصية أو الأعم ، وبالمعجزة أو الأسباب إذ أن النعم الإلهية في الدنيا تشمل البر والفاجر وهو من رحمته سبحانه ولأن الدنيا دار إمتحان وبلاء وتبذل الجهود العلمية في هذه السنوات لكي يعيش الإنسان ضعف عمره، وتجري بحوث لإستخدام المتقدمين في السن هرمونات خاصة منها هرمون النمو، والهرمون الذكري لكي يستعيد الإنسان نشاطه ويحافظ على شهوته الجنسية.
وقد تحقق بعض النجاح، ولكنها لا تبلغ ما يطمعون إليه، ولا تنفي الآية طول العمر بالعلاج ولكنها تخبر عن قانون ثابت وهو أن طول عمر الكافر لا ينجيه من العذاب فلابد أن يغادر الحياة الدنيا ويقف بين يدي الله تعالى للحساب وجعل الناس يتدبرون في آخرتهم ويعلمون أن متوسط عمر الإنسان المتعارف سر من أسرار الإرادة التكوينية، وفيه نفع للإنسان، فأما المؤمن فيأتي الآخرة بحسنات تجعله مستبشراً, ومضاعفة عمره وعاء ومادة للنماء والزيادة المتكثرة في حسناته وما يفعله من الصالحات.
وأما الكافر فإن زيادة سني حياته سبب في كثرة آثامه وأوزاره وأغوائه لغيره.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “ولتجدنهم” ولم يرد هذا اللفظ ولفظ (أحرص) إلا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
الآية الكريمة ذم للذين يدعون ان الجنة خالصة لهم من دون الناس وتدعوهم إلى الرجوع إلى التنزيل وسمات الموحدين، وهي عون للمسلمين ببيان وذم جانب الضعف بالشغف المطلق للدنيا، الذي يجعل الإنسان يعزف عن الجهاد , والوجدان والتأريخ شاهدان عليه.
وموضوع الآية اعطاء صورة جلية تساعد المسلمين في صبرهم وجهادهم وغيرهم في تحديد الخلل ومعرفة الحجب التي تحول دون الاستجابة للبعثة النبوية، انها بيان لتقدم العلة الناقصة على المعلول وتسمى (السبق بالطبع)، أي انها تظهر جانباً وسبباً من اسباب عدم ايمان بعضهم.
مفهوم الآية
لم ترتق المدارس الإجتماعية الى صيغ التأديب القرآني المختلفة فلغة الذم في الآية توبيخ للكافرين وتنبيه للمسلمين وبيان لحقيقة الحياة الدنيا وانها قصيرة مدتها، زائلة بهجتها، والحساب عاقبتها، واعمال العباد فيها حاضرة عند الله تعالى ما دق منها وما كبر وما ظهر وما خفى.
إن إخبار الآية عن علمه تعالى بأفعال العباد تحذير من السيئات ودعوة سماوية لإتيان الصالحات وهو انذار للكافرين وبشارة للمسلمين وباعث على الشوق الى الجنة وما فيها من النعيم الدائم والحياة الأبدية فمن يحرص على الحياة يجد الخلود في الآخرة.
ومن مفاهيم الآية الإحتراز من الذنوب لأنه مقدمة عقلية وشرعية لإجتناب العذاب في الآخرة.
وفي الآية مسائل:
الأولى: بعد إن جاءت الآية قبل السابقة بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل) عادت هذه الآية إلى ذات لغة الخطاب ولكن ليس بصيغة الأمر بل بالإرشاد والتعليم والتنبيه إلى حقيقة ومصداق لعدم تمنيهم الموت، وهذا المصداق حجة إضافية، وعلامة ظاهره تؤكد لزوم الإلتفات إلى عالم الآخرة ومنازل الناس فيها .
ومن إعجاز القرآن أنه يبطل المقولة التي لا أصل لها، ويجعلها عديمة الأثر والتأثير على المسلمين، وفيه شاهد على حاجة المسلمين للقرآن وما فيه من الدروس وأصول الحكمة.
الثانية: (أحرص) أفعل تفضيل، ولفظ(الناس) يشمل أهل الملل والنحل المختلفة، ويدخل فيه المسلمون وأهل الكتاب والمشركون، وجاءت الآية بصيغة الإطلاق فليس من أمة من الأمم أشد حرصاً على الدنيا، وأكثر حباً للبقاء والممتعة فيها، لبيان حب الدنيا، وهو أعم من إرادة الدقة العقلية.
وهذا القطع علم إحصائي لا يقدر عليه البشر، إذ أنه يلحظ حال الأمم المختلفة في زمان لم تكن فيه وسائل للإتصال، وتتعذر إحاطة بعض الأمم بأحوال الأمم الأخرى، والإضافة إلى قاعدة كلية وهي شمول أحكام الآية القرآنية للأزمنة وللأجيال المتعاقبة، ويحتمل المراد من الآية وجوهاً:
الأول: في كل زمان هم أكثر الناس حرصاً على الدنيا.
الثاني: المقصود العنوان الجامع للأزمنة المتباينة.
الثالث: يكون فريق من الناس في كل زمان، أكثر الناس حرصاً على الدنيا والمكث فيها.
الرابع: إرادة فريق منهم في المدينة أيام التنزيل، وإقامة الحجة بخصوص حالهم وحب الدنيا.
والآية ناظرة إلى الناس في مختلف الأزمنة ، فحتى لو ظهر أفراد أو أهل ملة في زمان ما هم أكثر حرصاً على الحياة فإنه لا يغير من القاعدة الكلية التي ذكرتها الآية وإرتفاع معدل حرصهم على الدنيا بالقياس إلى غيرهم من الأمم، وكذا لو وُجد أفراد منهم لم يظهر حب الدنيا على ألسنتهم.
الثالثة: في الآية دعوة للناس جميعاً بعدم الإفراط في الحرص على الدنيا والبقاء فيها، فلابد من مغادرة الإنسان لها، وهذه المغادرة ليست مفتوحة في أوانها، بل هي محدودة، قال تعالى[إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
الرابعة: في قوله تعالى[وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا] قال الفراء: يريد وأحرص من الذين أشركوا أيضاً، كما يقال: هو أسخى الناس ومن حاتم ومن هَرِم) ( ).
أقول: تفيد الآية معنى آخر على وجهين :
الأول : كونهم أحرص الناس لا ينفي وجود أفراد وجماعات من المشركين والكفار يحب أحدهم أن يعيش أضعاف عمره، لأنه مشرك يخشى الآخرة لا يؤمن بالحياة بعد البعث أو أنه يخشى النار والعذاب الأليم، ووجود مثل هذا الفرد بين المشركين لا يتعارض مع عمومات القاعدة الكلية التي ذكرتها الآية في أولها.
الثاني: عدم التعارض بين شدة الحرص عندهم، وبين ود الذين أشركوا بطول العمر، لأن الحرص أعم , ويعني الإنشغال بالدنيا والسعي وإرادة التشبث بها , وإختيار النفع الدنيوي، وعدم الإلتفات إلى عالم الآخرة.
الرابعة: تتضمن الآية ذم المشركين ليس من باب الأولوية فحسب،لأن أفراداً منهم يتمتعون طول العمر والبقاء، وهذا التمني لا ينفي إقراره بحتمية مغادرته للدنيا وإنتقاله لعالم الآخرة بسبب حده بحد مخصوص وسنوات معدودة وإن كانت كثيرة ومخالفة للواقع، ليكون هذا الإقرار حجة عليه ودعوة له للتدبر في أمور الدين وكيفية الإستعداد للآخرة.
الخامسة: جاءت الآية بفعل التبعيض(من) في قوله تعالى[وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا] وهو آية في الإعجاز، فليس كل الكفار والمشركين يودون البقاء في الدنيا هذه المدة المديدة، فمنهم من يكون وده أقل، ومنهم لا يرغب في الزيادة لأنه يقضي أيامه في الدنيا في شقاء متصل، ولمعرفته بعدم تحقق هذه الرغبة واقعاً، أو لإصراره على إنكار الآخرة.
السادسة: من مفاهيم الآية بيان فضل الله على المؤمنين من الأجيال المتعاقبة بأن يجعلهم خالدين في النعيم، فالكافر يود لو يعمر في الدنيا ألف سنة.
أما المؤمن فأنه يفوز باللبث الدائم في جنة الخلد، وينتظر الكافر العذاب الأليم.
السابعة: جاءت الآية بقوله تعالى[لَوْ يُعَمَّرُ] ولو حرف إمتناع لإمتناع أي أنه لا يبلغ عمر الكافر ألف سنة، وإذا أراد طول العمر فعليه بالإيمان وفعل الصالحات عندها لا يخاف ويفزع من الموت أو يكره مغادرة الدنيا، لأن العمل الصالح طريق الخلود في النعيم.
الثامنة: حتمية الرجوع إلى الله تعالى، والوقوف بين يديه للحساب، فما بلغ عمر الكافر في الدنيا من طول وكثرة السنين فإنه لابد وأن ينال جزاءه من العذاب الأليم، إن القطع بعذاب الكافر دعوة له للتوبة والإنابة.
التاسعة: جاء قوله تعالى[أَنْ يُعَمَّرَ] على نحو الإجمال وفيه وجهان:
الأول: في الآية حذف وتقدير: أن يعمر ألف سنة.
الثاني: إرادة الإطلاق سواء عمر أكثر من متعارف عمر الإنسان أو على فرض بلوغه ما يود من العمر فأنه العذاب ملاق الكافر لما قدمت يداه.
العاشرة: إختتمت الآية بالإخبار على علم الله تعالى بما يفعل الكفار والمشركون وجميع الأعمال حاضرة عنده تعالى لا يغيب عنه شيء في السموات والأرض، قال تعالى[وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( ).
الآية لطف
تخبر الآية عن حرص فريق من أهل الكتاب على الدنيا، ويتجلى ذم هذا الحرص بلحاظ نظم الآيات وأنها جاءت لبيان بطلان قولهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم.
لقد جعل الله الجنة ثواباً للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، وجاء الأنبياء السابقون بالبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن خصائص المؤمنين التصديق بما جاء به الأنبياء مطلقاً فيما يخص الأحكام والشرائع والبشارات والإنذارات، ومن اللطف الإلهي أن تأتي هذه الآيات بياناً لماهية الحياة الدنيا وما فيها من القوانين الثابتة في اليقين الإجمالي لعمر الإنسان وفق المتعارف والمتوارث ودعوة الناس إلى عدم التعلق بزخرفها وزينتها.
والآية مدرسة للناس جميعاً إذ تبين حال المشركين وحبهم للدنيا، وتخبرهم عما في نفوسهم من الخيال والتمني الذي لا أصل له، وفي هذا الإخبار مسائل:
الأولى : إنه حجة على الناس، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الثانية : إنه مناسبة لإصلاح النفوس والإصغاء لآيات القرآن وما فيه من الإسرار، ومفاتيح العلوم قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الثالثة : الدلالة على المنافع العظيمة للقرآن وأنها لا تقف عند الرشاد والصلاح مع سمو كل منهما بل تقود لما هو أرفع وأعم وأعظم من خير الدنيا والآخرة ، لتتجلى في الآية مصاديق وفيوضات من قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابعة : في هذا الإخبار مصداق لتحدي القرآن، وتجدد هذا التحدي في كل زمان.
الخامسة : دعوة الناس إلى التدبر في الدنيا وإتخاذها مزرعة للآخرة، وعدم اللهث وراء المباهج التي تأتي مع الليل والنهار.
وقيل لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً في بيت من شعر، فيقال له: يا نبي الله ابن بيتا. فيقول: أموت اليوم أموت غداً)( ).
وذكر في الآية أعلاه من سورة الإسراء(فيها تأويلان:
أحدهما: شهادة أن لا إله إلا الله ، قاله الكلبي والفراء.
الثاني : ما تضمه من الأوامر والنواهي التي هي أصوب ، قاله مقاتل)( ).
ولكن الآية أعم، فإن قلت وردت الآية بلفظ المفرد (للتي هي) والجواب من وجوه:
الأول : إرادة اسم الجنس.
الثاني : تجدد مصاديق الهداية في كل آن وزمان.
الثالث : الآية إنحلالية، وكل آية من القرآن هداية، وضياء ورشاد.
الرابع : موضوع الهداية بالقرآن أعم من أن يختص بالمسلمين، فيشمل الناس جميعاً، وليس من حصر للمحذوف المقدر في الآية والمتعلق بمصاديق أمرين:
الأول : الهداية.
الثاني : لفظ أقوم، ومعانيه مثل أعدل وأصوب وأحكم، وأبصر وأحسن وأرجى وأنفع.
ومن وجوه الحرص على الحياة إجتناب القتال ومقدماته، فجاءت الآية لدعوة المسلمين لعدم الإلتفات إلى ما يصدهم عن التوجه نحو سوح القتال، بذم الذين يفرطون في الحرص على الدنيا، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا]( ).
إفاضات الآية
لقد جعل الله تعالى الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، ووسيلة مباركة لفعل الخيرات وإقتناء الصالحات، وجاءت هذه الآية بخصوص الذي يتمنون طول البقاء في الحياة الدنيا، ولا يتمنون الموت ومع هذا يقولون أن الدار الآخرة خالصة لهم الآية لتطرد اليأس من قلوب المسلمين، وترد القول بخلوص الآخرة لغير المسلمين بالحجة الدنيوية الحاضرة , وفي ذات أصحاب القول بإثبات حبهم للدنيا، وحرصهم فيها وعليها ولها، وإذ جاءت الآيات السابقة بخصوص الجنة والإقامة فيها.
فإن هذه الآية ذكرت عاقبة الكفار، وحلولهم بالعذاب الأليم، وأن أصبح بعضهم من العمرين، فبدل أن يود طول العمر عليه أن يود الإقامة في دار النعيم والخلود في الجنة، ولا يتحقق مصداق هذا الأمر إلا بالإيمان والعمل الصالح.
فمن الفيض الإلهي في الآية القرآنية أن تأتي لكشف حال نفسانية ليكون هذا الكشف علاجاً وسبباً للهداية والصلاح، وموعظة وعبرة للناس جميعاً، وتبعث الآية في نفوس المسلمين حب الجهاد في سبيل الله، وعدم التعلق بالدنيا وزينتها لما تدل عليه من كراهة الحرص على الدنيا وذم قوم يحرصون على الدنيا أكثر من غيرهم.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببيان قبح حب الدنيا وزينتها والسعي لجمع الأموال، ومن كان هذه صفته فأنه لا يتمنى الموت في سبيل الله.
وجاءت الآية بصيغة الجمع للتفاني في حب الدنيا وذكرت الآية الذين أشركوا للتعريض ومع هذا يحبون الدنيا أكثر من حب المشركين والكفار لها.
وجاءت الآية بالإنذار بسوء العاقبة للكفار والمشركين بأن تمنيهم البقاء والمكث الطويل في الدنيا لا ينجيهم من العذاب الأليم في الآخرة لأن عاقبة الكفر بالنبوة هو دخول النار , وجاءت خاتمة الآية بالاخبار عن إحصاء الله عز وجل لأعمال العباد.
وتدل الآية في مفهومها على اقتران حب الشهادة بالايمان بالله والنبوة واليوم الآخر وعدم إنقطاع الدنيا وزينتها لأنها إلى زوال.
وتتضمن الآية دراسة مقارنة بين الناس بلحاظ أن الألف واللام في قوله تعالى(احرص الناس) للجنس والإستغراق، ولم يطلع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون على أحوال الناس وتمنياتهم وموارد حرصهم ودرجات رغبتهم في الدنيا ، أو زهدهم فيها، فتفضل الله عز وجل وأخبر عن قانون كلي وهو أن فريقاً منهم يتصف بشدة الحرص على الدنيا أكثر من غيره، وهو يطلبها كحياة مطلقا ويكره مغادرتها وإن لم تكن ذات مباهج .
وورد لفظ (الف سنة) في القرآن أربع مرات، وهذه هي الآية الوحيدة في النصف الأول منه، وجاءت واحدة في الثناء على نوح وبيان جهاده في سبيل الله وصبره على قومه وإصرارهم على الإعراض والتجافي عن دعوته، وما رزقه الله من طول العمر , واثنتان في الإرادة التكوينية.
والآية مناسبة لتفقه المسلمين في الدين، ومعرفة حقيقة وهي أن طول عمر الكافر لا ينجيه من العذاب، لإنحصار طريق النجاة بالإيمان والصلاح , قال تعالى[تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا]( )، وذكر لفظ يعمر مرتين:
الأولى : ذكر متعلق ومفعول يعمر هو (الف) سنة.
الثانية : مجئ الفعل المضارع مبيناً للمجهول ولم يذكر الفاعل، ويحتمل وجوهاً:
الأول : الإتحاد والتشابه بين الفعلين.
الثاني : التعدد والتباين بين متعلقهما.
الثالث : نسبة العموم والخصوص المطلق.
والصحيح هو الثالث وهو من إعجاز الآية، فبينما إتضح الأول بأنه الف سنة، ورد الثاني بصيغة التنكير والإطلاق، أي سواء كان عمر الكافر ألف سنة أو أقل أو أكثر .
وفي الآية إنذار لكفار قريش ودعوة لهم للكف عن إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وزجر عن الزحف على المدينة المنورة للقتال.
وأختتمت الآية بقانون يؤكد إحاطة الله عز وجل علماً بكل ما يفعل الناس، وفيه مسائل :
الأولى : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإخبار بأن ما يلاقيه في عين الله، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)( ).
الثانية : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للصبر والتحمل في جنب الله، فاذا علم العبد أن الله يعلم ما يلاقيه، وما يفعله الكفار فانه يزداد إيماناً.
الثالثة : حث المسلمين على أداء العبادات والتفقه في الدين، وعدم الإنشغال بما يفعله عدوهم وأهل الشك والعناد.
الرابعة : إنذار الكفار ودعوتهم للتوبة والإنابة.
التفسير الذاتي
إبتدأت الآية بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه إكرام له وتخفيف عنه وعن المؤمنين لما يلاقونه من محاولات فريق من الناس صد الناس عن الإسلام وتثبيط عزائم المؤمنين، فجاءت الآية لبيان تخلفهم عما يدل على صدقهم في دعواهم خلوص الجنة في الآخرة لهم، مع أن الإسلام أكرم أسلافهم من الصالحين وأتباع الأنبياء وأثنى عليهم، وأخبر عن حسن عاقبتهم.
ولكن هؤلاء لم يستطيعوا أن يطيقوا ما جاء في القرآن من البشارات بالجنة واللبث الدائم في النعيم للمؤمنين، وتلقي الناس تلك البشارات بالقبول والرضا والحرص على إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها لم تأت مجردة بل جاءت مقترنة بالمعجزات العقلية والحسية التي تؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل على صدق ما يخبر عنه القرآن من أمور الغيب، وحصل تعارض بين إخباره وبين ما يقوله فريق منهم.
فجاءت هذه الآية لقطع هذا التعارض، وإسقاط قولهم إلى يوم القيامة بتحد يسير تمنيهم الموت والبقاء في الدنيا والحرص عليها نقيض تمني الموت، مما يدل على أن التحدي لم ينحصر بتمني الموت، بل يشمل الإخبار عن حبهم الدنيا، وحرصهم على عدم مغادرتها، مع شدة الطلب، فهم يرجون البقاء في الدنيا، ويسعون اليه، ويبذلون الوسع لدفع مقدمات وأسباب الموت عن أنفسهم.
وفي الآية وجوه:
الأول: لتجدنهم أحرص من الذين أشركوا، وهم المجوس، ومن لا يؤمن بالبعث.
الثاني: إن الكلام تم عند قوله على حياة، وقوله [وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا].
الثالث: في الكلام تقديم وتأخير وتقديره : ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة، وإذا كانت الواو في (ومن الذين أشركوا) للعطف، فان الذين أشركوا هم من الناس الذين ذكرتهم الآية في بدايتها، ليكون من عطف الخاص على العام، إلا لإرادة البيان والتوكيد، وإنشغالهم بحب الدنيا وزينتها أكثر من المشركين.
أما القول الثالث وهو تقدير كلمة (طائفة) فيحتاج إلى مؤونة زائدة ولم يعهد في القرآن ذكر طائفة من المشركين في مقام تحدي أهل الكتاب الذي هم أقرب للمسلمين، وعلى فرض أن الواو في (ومن الذين أشركوا) إستئنافية فان الضمير في (أحدهم) يعود إلى الذين أشركوا على الظاهر، ويكون خلاف بلاغة القرآن . وسبك كلماته لتكرر التبعيض في حرف الجر (من الذين و(أحدهم) فيكون تبعيضاً في تبعيض.
لذا فانه يعود لذات المعنى الذي يعود إليه الضمير (هم) في لتجدنهم، ويدل عليه نظم الآيات ومجئ الآية في سياق التحدي والإخبار عن تخلفهم عن تمني الموت الذي هو أمارة وشاهد على دخولهم الجنة.
وجاءت خاتمة الآية السابقة بالوعيد [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ] ليكون الحرص على الدنيا وصد الناس عن الإسلام من الظلم.
وتبين الآية الفارق بين أهل الكتاب والمشركين , ولزوم ظهوره في الواقع الخارجي، إذ أن أهل الكتاب يؤمنون بيوم البعث وعالم الجزاء، أما المشركون فانهم لا يؤمنون بالبعث.
وورد حكاية عنهم في التنزيل [أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ]( )، ومع هذا فان الذين يدّعون إختصاصهم وإستحقاقهم للجنة دون غيرهم من الناس يحرصون على الدنيا أكثر من المشركين، والذي يرجو دخول الجنة يشتاق إليها، ولا يأسف على مغادرته الدنيا.
ترى ما هي الصلة بين الحرص على الحياة، ومودة البقاء في الدنيا ألف سنة، الجواب هي العموم والخصوص المطلق، فالحرص على الحياة أعم ويشمل إلى جانب مودة البقاء فيها ألف سنة أموراً:
الأول: جمع الأموال خصوصاً وان الرغبة بالمكث الطويل في الدنيا تجعل صاحبها يحتاط ويستعد لها بالإدخار والشح.
الثاني: الإعراض عن الجهاد في سبيل الله.
الثالث: عدم التقيد بالأوامر والنواهي الإلهية التي تتعارض مع حب الدنيا.
الرابع: تعطيل الحدود الشرعية، والإمتناع عن دفع الزكاة، والود هو المحبة والرغبة.
ومن الحرص تعيين مدة البقاء في الدنيا على نحو المودة والرغبة، وأن الشخص الواحد منهم يرغب في البقاء في الدنيا ألف سنة.
وجاءت خاتمة الآية بالإطلاق في نزول العذاب بالكفار والظالمين، وإن طالت أعمارهم وبقاؤهم في الحياة الدنيا، لأنهم لم يتعظوا من الدنيا، ولم يستثمروا أيامها للتوبة والإنابة والصلاح.
وقد ورد في ذم الكفار عندما يعاينون النار ويطلعون عليها أنهم يتمنون العودة للدنيا للتصديق بآيات الله، وقال تعالى [وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ]( )، أي لو أرجعوا إلى الدنيا لعادوا إلى المعاصي والذنوب والجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن إعجاز الآية أنها أختتمت بقوله تعالى [وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ] في إشارة إلى أن بقاء الكافر وزيادة عمره وبال عليه، وسبب لزيادة إثمه بإصراره على الجحود ، ويدل قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّهُمْ] على جواز معرفة أقوالهم وآرائهم، وما يرغبون، وما تكره نفوسهم، وأنه ليس من التفتيش عن أحوال الناس للنهي عنه، إلا أن يقال أن الأمر لا يستلزم الفحص فهو ظاهر على السنتهم وفي معاملاتهم، ويدل عليه نفرتهم من النبوة والدعوة إلى طاعة الله ، وإصرارهم على عدم إتباع الأنبياء.
وهل من موضوعية لودهم ورغبتهم في طول أعمارهم، الجواب لا، فان الله عز وجل جعل الدنيا دار إمتحان وإختبار، وجعل لكل إنسان أجلاً لا يتعداه إلا أن يشاء الله، لذا ورد لفظ (يُعمر) في القرآن ثلاث مرات، إثنتين في هذه الآية والثالثة في قوله تعالى [مَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ] ( ).
وليس من تعارض بين الدعاء لطول العمر وما مكتوب في صحيفة الإنسان لعمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( )، ولعلم الله عز وجل بما يفعل العبد من أسباب إطالة العمر أو قصده ( وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار( )، وعن قتادة: المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة)( )، ولا دليل عليه خصوصا بلحاظ هذا الزمان نعم هو من موارد شكر أهل هذا الزمان لله عز وجل على نعمة طول الأجل وسعة الأمل .
والمعمر هو طويل العمر, وليس له حد من جهة الكثرة لأنه لطف وفضل من الله عز وجل والله واسع كريم، ويدل عليه الإرتقاء في العلوم وعالم الطب، وإصلاح الغذاء، وسلامة الإنسان من الأمراض والعناية المتصلة للوقاية والعلاج منها.
فمن إعجاز النبوة عدم حصر أيام النبي بقيد محدد، بل وردت الآيات بأن نوحاً عليه السلام لبث في قومه [أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا]( )، يدعوهم إلى الله عز وجل وذكر أن عمر نوح هو ألف وخمسون سنة، بعث على رأس أربعين سنة من عمره، وذكرت أقوال أخرى في عمره وأنه أطول من هذا، وطول عمر نوح على نحو الحقيقة والواقع، وليس الود والتمني، لأنه أخلص لله عز وجل وجاهد في سبيله، وتحمل الأذى من قومه في دعوتهم إلى عبادة الله وعدم الشرك به، وهل في طول عمر نوح بالنص القرآني بشارة زيادة متوسط عمر الإنسان بالعلم الجواب نعم.
ولم يرد لفظ (مزحزحه) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، وجاء اللفظ زحزح مرة واحدة بموضوع مختلف في قوله تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ]( )، وفيه دعوة للناس للتوبة، والنجاة من الطريق المؤدي إلى النار، والإمتناع عن الإغترار بالحياة الدنيا وزينتها.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: توكيد عدم تمني الموت بأمور ظاهرية، ووقائع تدل على حب الدنيا.
الثانية : معرفة المسلمين لحال أهل الملل الأخرى، ومنه تعلق فريق منهم بالدنيا وزخرفها.
الثالثة : توثيق آيات القرآن للحجة الناقصة، والبرهان الذي يتضمن التأديب والإصلاح، وذم ما هو قبيح عقلاً وشرعاً.
إن الحرص على الدنيا، والإفراط في التعلق بزخرفها وحب البقاء فيها مذموم.
الرابعة : ذكر شغف الذين كفروا بالدنيا وزينتها، ومودتهم لما هو خلاف العقل والواقع بأن يرغب أحدهم بأن يعمر ألف سنة في الدنيا، ويعمل وفق هذا الحب.
الخامسة: بيان حقيقة وهي ملاقاة الإنسان وأن عمّر ألف سنة لله عز وجل فلابد من الإتعاظ من الآيات والتوبة إلى الله، وعلى فرض أن الله عز وجل أطال بعمر إنسان خلاف المتعارف، وعاش مثلاً مائتي سنة، وأدركته التوبة آخر أيام حياته فهل تقبل توبته أم لا بإعتبار أنه في المدة الزائدة على عمره الأصيل، الجواب تقبل توبته ما دام لم يغادر الدنيا، والله واسع كريم.
السادسة: ورد الضمير(هو) في قوله تعالى[وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ] وفيه وجوه:
الأول: إرادة الحرص على الدنيا.
الثاني: الود الذي يحمله للعيش واللبث الطويل في الدنيا.
الثالث: البقاء في الدنيا ألف سنة.
الرابع: البقاء الطويل في الدنيا.
والصحيح هو الرابع، فسواء بقي الكافر فيها ألف سنة أو أكثر أو أقل فإن لا ينجو من العذاب الأليم, قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ]( ).
السابعة: إن خلق الإنسان وأيام حياته في الدنيا رحمة ونعمة من عند الله تعالى، ويجب أن يشكر الإنسان الله على نعمة الحياة، ويسأل طول العمر مع التقوى والصلاح، ولكن الكافر يصر على الكفر ويبتغي أن يعمر في الأرض كثيراً.
التفسير
قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا]
تتضمن الآية الكريمة إخباراً عن حب بعضهم للحياة الدنيا وتعلقهم بزينتها ومتاعها وما فيها من النعم الظاهرة، وفيها نفي لاحتمال كونهم في منزلة وسط بينهما وهي عدم تمني الحياة او الموت، وانهم لم يلتفتوا او لم يكترثوا بموضوع تمني احدهما.
لعل في الكلام حذفاً مثل(وأحرص) فهم احرص من الذين اشركوا والذين لا يؤمنون بالحياة الآخرة، وقيل فيه تقديم وتأخير، والمعنى لتجدنهم وطائفة من الذين اشركوا احرص الناس على حياة، ولكنه يحتاج الى قرينة صارفة.
ترى من هم الذين اشركوا الذين ذكرتهم الآية، فيه وجوه:
الأول : إنهم مشركوا العرب خصوا بالذكر لأنهم لا يؤمنون بالبعث، فهم يتمنون طول العمر، قاله الحسن ومال اليه القرطبي بقوله: ومشركوا العرب لا يعرفون الا هذه الحياة ولا علم لهم من الآخرة، الا ترى قول شاعرهم:
تمتع من الحياة فانك فانٍ
من النشوات والنساء الحسان( )
والنقاش يقع فيه كبرى وصغرى، اما الكبرى فان بيت شعر لأحد الشعراء لا يصلح ان يكون مقياساً لموقف وعقيدة أمة، فاذا اجريت تحقيقاً في الشعر العربي الجاهلي تجد قصائد وأبياتاً من الشعر تؤمن بالمعاد والبعث مشهورة ومعروفة عندهم.
ثم إن هذا البيت الذي ذكره لا يدل على عدم الإيمان بالآخرة، فالقدر المتيقن منه الإقرار بالموت وانقطاع اللذات لمن يفعل المعاصي ويقترف الذنوب ويتخذ الدنيا دار لهو، وقد لا تثبت نسبته لزمن الجاهلية لإحتمال انه مقتبس من علة انقطاع التمتع في قوله تعالى [كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ]( )، وحينئذ يمكن تأويل بيت الشعر هذا على الوعيد والتهديد.
الثاني : هم المجوس لأنهم يقولون في تسميت العاطس “عش ألف سنة”( )، وقيل(قد بلغ من حبهم في الحياة أن جعلوا تحيتهم (عش ألف سنة ))( )، وهي(زِه هزار سَال) ولكن الآية ذكرت الذين اشركوا بقصد الجنسية والعموم المتجدد .
الثالث : تنبسط الآيات القرآنية في معانيها ومفاهيمها على كل الأزمان والأمم ولا تنحصر بزمن النزول وما قبله، فالآية تشمل المشركين في الأزمان المتتالية الى يومنا هذا وما بعده في آية اعجازية تدل على صدق الآيات القرآنية وانطباقها وملائمتها لكل الأزمنة وانها لا تعرف البلى.
الرابع : هناك نوع ملازمة بين الشرك وحب الحياة الدنيا لفقدان الأمل بالحياة الآخرة، اما لعدم العلم بالآخرة او للتسليم بالخسارة والخزي او للإنكباب والإنغماس بملذات الدنيا فيسبب التلبس بها حجباً ظلمانية تمنع من رؤية ما بعدها من الخلود.
والآية تنبيه للمسلمين إلى خلل في الفكر العام السائد عند بني اسرائيل بل وغيرهم وإلى ضعف في كيانهم الا وهو الافراط في حب الدنيا، والعقائد السماوية تبتنى على أولوية الثواب والسعي الى السعادة الأخروية.
أي ان هذا الافراط مخالف لما جاء به موسى عليه السلام من عند الله، كما انه باب لضعفهم وسهولة انتصار المسلمين عليهم. وقد دلت الوقائع اللاحقة على هذا الأمر فمع ان اليهود كانوا ذوي قوة وعدة ولكنهم ما ان يحاصرهم المسلمون أياماً الا ويطلبون الاذن بالمغادرة بأموالهم واهلهم كما في بني النضير.
وعن النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهوراً، وجعلت أمتي خير الأمم)( ).
بحث بلاغي
تقسم الأسماء بلحاظ الدلالة على الشيء الى قسمين:
الأول : المعرفة وهو الاسم الذي وضع لشيء معين، والمعارف هي الضمير والعلم واسم الإشارة والمعرف بال والاسم الموصول والمضاف الى معرفة والمعرف بالنداء.
الثاني : النكرة وتفيد معنيين اما الوحدة او الجنس وقد يجتمعان معاً بحسب القرائن، فالوحدة مثل قوله تعالى [هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ]( )، والجنس مثل قوله تعالى[فَكُّ رَقَبَةٍ]( ).
وللتنكير أغراض معينة قد لا تتحقق بالتعريف، وفيه مندوحة ويجعل الباب متسعاً وعنده الأهلية لقبول المصاديق الاضافية ويجعل اتساعها في الوجود الذهني أمراً ممكناً، ومن اغراضه التعظيم، والتهويل، والتكثير، والتقليل، والإستهزاء، والتخصيص.
وفي هذه الآية جاء تنكير (حياة) للتحقير وبيان قلة الذي يحرصون عليه وأنهم أرادوا مسمى الحياة وأدنى فرد من افرادها.
فهم أحرص من الذين اشركوا، كقولك هو اسخى الناس ومن حاتم، لتكون الواو في [وَمِنْ] على قسمين :
الأول : واو عطف، وبه قال الفراء، وجملة من المفسرين من بعده .
الثاني : (الواو) للاستئناف وتقديره: ومن الذين أشركوا أناس يود أحدهم.
والأول أقوى، والثاني في طوله , والآية الكريمة أعم، ويجب ان نبحث عن الدلالات العقائدية والفلسفية والاخلاقية التي تتضمنها ومنها:
الأولى : إن (أحرص) افعل تفضيل ولكنه لا يمنع من التقاء جماعة غيرهم معهم بعرض واحد او بدرجات أقل من المرتبة العالية من الحرص على الدنيا وحب الحياة فيها.
الثانية : في الآية توبيخ للذين تمادوا في حبهم للحياة الدنيا حتى صاروا احرص عليها من المشركين، بينما هم من المليين الذين ينبغي ان يكون ميلهم وتوجههم وحبهم للآخرة اكثر.
الثالثة : ذكر الحياة بصيغة التنكير يدل على حبهم لها بأي حال من الغنى والفقر، والعز والذل، والصحة والمرض، وسن الشباب والشيخوخة، وهذا لا يتم الا بالنظر للموت وما بعده كأنه أمر عدمي، او انهم يخافون الآخرة وما فيها من العذاب الأليم وهذا الوجه هو الأنسب في المقام.
الرابعة : شدة الخطأ، فإذا كان غيرهم قاصراً في جهله فتقصيرهم أكبر بمقدار يتناسب والتباين والفارق الواسع بين الملي وغيره.
الخامسة : في الآية دعوة للمسلمين لنبذ التعلق والحرص على الحياة الدنيا وهو طريق الى التشوق الى الجنة والتماس طرقها والسبل المؤدية اليها والسعي لنيل ما فيها من السعادة الأبدية، قال تعالى[سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( ).
قوله تعالى[ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ]
إخبار وتوكيد واقعي للإصرار على عدم تمني الموت ويدل بالدلالة الالتزامية على نفي التعلق بالآخرة .
وهل العطف في الآية ليس من عطف الخاص على العام محضا بل ورد بقصد الغيرية والتعدد ضمن الكلي المشكك أي المتباين في أفراده، وان الآية أرادت من لفظ الناس المليين واهل الكتاب بلحاظ معرفتهم بالتوحيد والرسالات السماوية، ثم جاء ذكر المشركين لبيان تقدمهم على غيرهم في الحرص على الدنيا فان بعض الناس ومنهم المشركون يتمنون البقاء في الدنيا، ولكن هذا التمني لا يصل بهم الى هذه الدرجة من الغلو والافراط.
الجواب هو الاطلاق وارادة المشركين ايضاً، خصوصاً وان المقام للتوبيخ والتقبيح وإقامة الحجة، واظهار التناقض بين حرصهم على الحياة وما تقتضيه دعواهم بخلوص الآخرة لهم من تمني الموت، ولإثبات إنعدام تمني الموت عندهم وعلى نحو السالبة الكلية.
وقيل ان المجوس كانوا يقولون لملكهم: عش ألف نيروز وألف مهرجان، والنيروز وهو نزول الشمس في برج الحمل ويصادف يوم الحادي والعشرين من شهر آذار، والمهرجان وقت انتهاء الشمس الى الميزان وهو الاعتدال الخريفي الذي يستوي فيه الليل والنهار.
ولا أظن أنه مقصود كمثال في الآية الكريمة وان ذهب اليه بعضهم، فقد يكون ذلك اتفاقاً، أو أنه أمر شائع بين المشركين ثم ان المجوس يقولونه رياء وزلفى لملكهم وقد تقدم أنه تحيتهم.
ومن إعجاز الآية أنها ذكرت فرداً يلتقي به المشركون والمعاندون ويستحق التوبيخ والتنبيه ليكون وسيلة هداية وتفقه بحقيقة الدنيا الفانية ينتفع الناس منها، وانذاراً وحجة عامة ، ولا يعني حصر الآية ومضامينها ببني إسرائيل.
بحث بلاغي
يعتبر الوقف التام هو افضل اقسام الوقف لأنه عون على الإتعاظ وتدبر الآية ولا يخل بمضامينها اللفظية والمعنوية، ومن خواصه ما يسمى المراقبة وهو ان الكلام له شقان اذا حصل الوقف في احدهما يجب الوصل في الآخر كما في [حَيَاةٍ ] و[أَشْرَكُوا ] في هذه الآية الكريمة، فاذا اختار الوقف عند [حَيَاةٍ ] وجب ان لا يقف عند [أَشْرَكُوا ] بل يصل بها [يَوَدُّ].
أما لو إختار الوقف عند[أَشْرَكُوا] وجب أن يصل [عَلَى حَيَاةٍ] بتقدير: وأحرص من الذين اشركوا.
وبما إن الوقف والإبتداء ليس توقيفياً، فانه أمر مترشح عن غيره ومعلول لعلة، فلابد من الرجوع الى النصوص وعلم التفسير لمعرفة موضع الوقف.
قوله تعالى [وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ]
الضمير [هُوَ] ذكرت فيه أقوال منها:
الأول : أنه كناية عن أحدهم، أي وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره.
الثاني : ضمير لما دل عليه يعمر من مصدره.
الثالث : إنه مبهم وان يعمر بيانه.
ولا يخلو هذا التفصيل من ثمرة علمية كبيرة بلحاظ تعديه الصناعة النحوية، وتعدد معنى الأقوال الثلاثة وعدم إنحصاره بطول عمر الكافر.
ترى لماذا لا يخفف عن الكافر العذاب الأخروي مع طول عمره في الدنيا ؟ الأرجح ان السبب هو إقامته على المعصية والجحود اذ ان طول العمر وحده لا يصلح سبباً للعذاب او دوامه ولكنه وعاء زماني اما للتوبة وفعل الصالحات وما يتعقبها من ثواب، او لإتيان المعصية واستحقاق العقاب وقد يطيل الله عز وجل عمر انسان لعلمه بتوبته، ويكون طول العمر احياناً استدراجاً وسبباً في التمادي بالمعصية, قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ).
فالآية الكريمة إنذار ووعيد ودعوة للتفكر في التوبة والرشد، وفيها اخبار اعجازي عما ينتظر الإنسان من الحساب وان تعاقبت الأيام، فالبعث حق والنشور حق ولا بد من الحساب. .
والآية حجة وبلاغ وسبر لاغوار النفس الانسانية، وكما ان الآية نوع توكيد لعدم موضوعية طول العمر في نجاة الإنسان لأن الثواب والعقاب يدوران مدار الاعمال فإنها تنفي إطلاق الذم على حال تمني طول العمر، أما بالنسبة للمؤمن فإن تمنيه لطول العمر يتقوم بغرض فعل الخيرات؟
وهل هذا التمني طريق آخر للجنة من غير من غير تعارض مع تمنيه الموت ولقاء الله، فقد يكون تمنيه لطول العمر على نحو الموجبة الجزئية والطريقية لاكتناز الصالحات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الاقرار الدائم بلقاء الله عز وجل.
قوله تعالى [وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ]
موضوع آية البحث هو الإحتجاج بذم الحرص الشديد على الدنيا، وهذا الحرص من الكلي المشكك الذي تكون له مراتب متفاوتة قوة وضعفاً من ذات الجنس أو من ضروب متعددة , فجاءت الآية لتؤكد الأخير بلحاظ قوله تعالى(يعلمون) ببيان ترجمة هذا الحرص في عالم الأفعال، وسعيهم إلى التشبث بالدنيا وزينتها، ومنه الإعراض عن دعوة الإيمان لأن فيها مقدمة للقتال والجهاد في سبيل الله.
وتتضمن الآية الإنذار والوعيد للكفار بأن الله عز وجل يعلم بكيدهم ومكرهم وأنه سبحانه يحول دون إلحاق الضرر بالمسلمين , قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
وتبعث الآية السكينة في نفوس المسلمين، لما تدل عليه بالدلالة التضمنية على السلامة والأمن من تدبير العدو ضدهم، وخيبته في مقاصده والله سبحانه[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الموت واعظاً للإنسان، وزاجراً عن التعدي والمعصية، والإتعاظ من الموت على وجوه:
الأول : إدراك الإنسان لحقيقة لا تغادر الوجود الذهني وهي ملاقاة الموت له .
الثاني : تسليم الإنسان بالعجز عن دفع الموت.
الثالث : رؤية الإنسان مغادرة بعض ممن حوله الدنيا على نحو قهري ومؤبد لتدل الآية على الإنذار بحضور الأعمال عند الله، قال تعالى[مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ]( ).
بحث كلامي
من صفات الله تعالى انه سميع بصير، وصفة البصر عنده تعالى تختلف عما هو عند الناس اذ اننا نبصر بآلات جسمانية، وهو أمر ممتنع عليه تعالى عقلاً لأنه تعالى لا يوصف بما يحده لتجرد واجب الوجود عن اللوازم المادية كالعين والاذن وكذا العلم الحصولي الحسي، وبصره تعالى للأشياء انما هو علمه بها وحضورها عنده.
وقال الأشعرية وجماعة من المعتزلة انها صفة زائدة على العلم، وذكر إن البصر من الصفات الذاتية المنتزعة من مقام الذات بلحاظ الكمال الوجودي.
ويأتي البصير في كلام العرب بمعنى العالم بالشيء المطلع عليه , وفي التنزيل[قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ]( ).
وفي آية البحث نكتة إذ أن صدر الآية يتحدث عما يميلون اليه من حب قلبي للدنيا ووده للبقاء الطويل فيها، وذيلها يتعلق بعلم الله تعالى بما يعملون، فهل الميل النفساني عمل؟ فيه مسائل:
الأول : على فرض ان الميل عمل فالآية أعم في متعلقها.
الثاني : إنه ليس بعمل إنما هو كيفية نفسية، فالآية تتعلق بأعمالهم مطلقاً، ومنها ما كان معلولاً ومسبباً لهذا الميل كالمباشرة المستمرة للمعصية، او ما كان من الأعمال علة له.
الثالث : الرجوع الى عمومات القول بأن بني اسرائيل يؤاخذون بما تكسب قلوبهم وتكتب عليهم سيئة اذا إعتقدوها أو هموا بها.
وهذا الشطر من الآية يوسع من دائرة موضوعها والمقاصد السامية منها، فهي لا تنحصر بما يجعل نفوسهم لا تتوازن في احوالها ولا تعتدل اخلاقها بل تشمل الأعمال، ولعلها في المقام تلك الاعمال التي تترشح عن هذا الحرص من الانغماس بالمعاصي والاصرار على الجحود فطول الأمل يُنسي الأجل، الا ان يكون في جنب الله ووسيلة لتعظيم شعائره وهو الواسع العليم.
قوله تعالى [قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] الآية 97.
الإعراب
قل: فعل أمر، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت.
مَن: اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، وجملة قل مستأنفة لبيان نوع آخر من أنواع الجحود.
كان: فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، وأسمها ضمير مستتر يعود الى من يعادي جبريل.
عدوا: خبر كان، والجملة في محل نصب مقول القول.
لجبريل: اللام حرف جر، وجبريل اسم مجرور باللام وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه علم أعجمي او يلحق بالأعجمي، فأنه: الفاء عاطفة على جواب الشرط المحذوف.
نزله: فعل ماض، وفاعل مستتر، تقديره هو يعود لله تعالى، والضمير الهاء مفعول به يعود للقرآن، والجملة في محل رفع خبر(إن).
على قلبك: جار ومجرور متعلق بــ(نزّل)، وقلب: مضاف، والضمير الكاف مضاف اليه.
بإذن الله: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، واسم الجلالة: مضاف اليه.
بين يديه: بين: ظرف مكان متعلق بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول.
يديه: مضاف اليه، وهو مضاف، والضمير الهاء مضاف اليه.
وهدىً: معطوف على مصدقاً، وبشرى: معطوف.
للمؤمنين: جار ومجرور متعلقان ببشرى,
مصدقاً: حال، لما: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وهدى وبشرى: معطوفان على مصدقاً.
للمؤمنين: جار ومجرور متعلق بــ(هدى وبشرى) وفي جبريل ثلاث عشرة لغة منها :
الأولى : جبريل زنة قنديل، وقيل هي أفصحها وبها جاءت هذه الآية، وهي لغة الحجاز، قال حسان بن ثابت:
وجبريل رسول الله فينا … وروح القدس ليس له كفاء)( ) وهي لغة تميم وقيس.
الثانية : جبريل ( بفتح الجيم ) وهي قراءة الحسن و ابن كثير وروي عن ابن كثير أنه قال : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم في النوم وهو يقرأ: جبريل وميكائيل فلا أزال أقرؤهما أبدا كذلك .
الثالثة : جبرئيل ( بياء بعد الهمزة مثال جبريل ) كما قرأ أهل الكوفة وأنشدوا:
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة … مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها)( ).
ونقل قول بأنه مشتق من الجبروت، وفيه مسائل:
الأولى : لم أجد هذا القول في كتاب معتبر مما إطلعت عليه.
الثانية : جبريل ملك سامع يطع الله قال سبحانه[لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ]( ).
الثالثة : جاء القرآن بالثناء على جبرئيل، وحينما سأله النبي عن ثناء الله عز وجل على أمانته بقوله تعالى[مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ]( )، قال جبرئيل: إن الله عزّ وجلّ أنزل من السماء مائة وأربعة كتب على أنبيائه لم يأتمن عليها غيري)( ).
في سياق الآيات
تبين هذه الآيات ضرورة تلقي الإنسان لأحكام العالم العلوي بصيغ القبول والإمتثال لبعدها عن الزيغ والخلاف، وفيها بيان للآثار السلبية الجسيمة لموضوع تحريف الكتاب.
وتكشف عن حاجتنا الى مدرسة جامعة تهتم بدراسة موضوع التحريف وكيف ان اشخاصاً معدودين في زمن معين يقومون به.
ولكن البلاء والأذى ووجوه الشر الناجمة عنه تستمر مع توالي السنين وتزداد تفاقماً وتشعباً خاصة وان التحريف قد يصير من إيمان بعضهم بالرسالة ودعوة الحق مع وجود المقتضي وظهور الآيات واقامة البراهين.
و[ قل] في صدر الآية له مضامين كلامية واعجازية وبلاغية، منها بعث المسلمين على الاحتجاج عليهم وعدم تركهم في افكارهم الخاطئة أزاء القرآن والملائكة.
إبتدأت الآية بفعل الأمر(قل) الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته إلى المسلمين للإحتجاج على بني إسرائيل، وقد تكرر ذات اللفظ ومضمونه في الآيات السابقة وهي الآية 91-93-94، وهذا التكرار آية إعجازية تدل على مضامين الرحمة والإصلاح في القرآن، وما فيه من اللطف ببني إسرائيل والناس جميعاً بدعوتهم للإسلام بالحجة والبينة ومنع النفس الشهوية والغضبية من الإستحواذ عليهم في باب تلقي الدعوة إلى الإسلام.
وتحتمل الصلة بين هذه الآية والآيات السابقة وجوهاً:
الأول: الملازمة بين عداوة جبرئيل وعدم تمني الموت.
الثاني: ترشح عداوة جبرئيل عن عدم تمني الموت، فالذي لا يتمنى الموت يعادي جبرئيل.
الثالث: لا صلة بين الأمرين، فعداوة جبرئيل أمر مستقل ومنفصل عن عدم تمني الموت.
الرابع : التفصيل، والفرد الجامع للوجوه أعلاه.
والصحيح هو الأخير بلحاظ نظم الآيات وأسباب النزول وعداوة جبرئيل أعم من نزوله بالحرب والقتال.
وجاءت الآية التالية لتحذر من عداوة جبرئيل لأنه أمين لا ينزل إلا بما يأمره الله تعالى، وأن الذي يعاديه يعاديه الله عز وجل.
ثم جاءت الآية بعد التالية لتؤكد في مفهومها أمانة جبرئيل بإخبارها بأن آيات القرآن النازلة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي من عند الله بقوله تعالى[وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ]( ) وفيه دلالة على أن الذي أنزل الآيات هو الله تعالى وأن جبرئيل واسطة وملك أمين مأمور من عند الله تعالى.
ومن الآيات التي نزل بها جبرئيل هذه الآيات وإخباره عن كراهية شدة الحرص على الحياة الدنيا وعدم تمني الموت لغرض الدنيا.
موضوع النزول
بيان قاعدة كلية عامة من الآية الكريمة وهي انتقام الله عز وجل ممن يحارب الدين والأنبياء والملائكة مجتمعين أو منفردين وان الله يعادي من يعادي أحدهم، وضرورة الإيمان بهم على نحو العموم المجموعي أي لا يصدق الإمتثال الا بالإيمان بالجميع.
ظاهر الآية انها جاءت بياناً لحقيقة عقائدية ثابتة منطوقاً ومفهوماً وهي النهي عن بغض الملك الرسول، وفيها تثبيت وبيان لعظيم منزلته وان وظيفته لا تتعدى الرسالة الملكوتية التي تتصف لزوماً بالأمانة.
وأكدت خطأ مبنى عداوة جبرئيل بدليل ما يتحمله من الأمانة المطلقة ومسؤولية تبليغ أحكام النبوة، فهو رسول الرحمة وواسطة نزول القرآن وسفير الأحكام، أي ان موضوع النزول مركب من أمور هي:
الأول : ذم الذين يعادون جبرئيل
الثاني : بيان مسؤولية الملك الرسول وعظيم ما يؤديه.
الثالث : الإخبار عن اكرام المسلمين الدائم لجبرئيل والملائكة.
الرابع : اعراض المؤمنين عن مقولات الجحود.
الخامس : تفضل الله تعالى بتنزيه وحماية الملائكة والانتقام ممن يعاديهم.
السادس : وجود قاسم مشترك بين المسلمين وأهل الكتاب وهو نزول الكتاب من السماء بواسطة ملك من الملائكة.
إعجاز الآية
الأول : فضح العداوة للملك الرسول من عند الله.
الثاني : تحديهم باثبات عظمته وعدم السكوت عن الموضوع مما يدل على اهميته وانه يستلزم البيان ومخاطبة الناس جميعاً، مع ان المقصود بالذم جماعة قليلة من الكبراء، فان الآية قاعدة كلية تدل على الرسالة العالمية للقرآن ومسؤولية كل مكلف بوجوب الإيمان، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : الآية في مفهومها إخبار عن خيبة وخسارة الذي لا يؤمن بما جاء به جبرئيل من عند الله.
الرابع : تقوية عضد المسلمين عقائدياً بالتصدي القرآني لمحاولات التشويه وارادة التشكيك.
الخامس : تثبت الآية أمانة الملائكة كطريق لصحة النبوة وصدق نزول القرآن من عنده تعالى، ان القرآن يحفظ حقيقته وسماويته ويدافع عمن تولى أمانة تنزيله فلا غرابة بأن يصون حملّته.
وجاءت الآية بصيغة الإنذار بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يحذر ويخوّف الذين يعادون جبرئيل مع أنه رسول كريم يقوم بأداء أعظم أمانة في تأريخ الإنسانية وهي تبليغ القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بلحاظ أمور:
الأول: إن القرآن مائدة السماء في الأرض.
الثاني: القرآن المهيمن على الكتاب كله.
الثالث: في القرآن تبيان لكل شيء.
الرابع: نزول القرآن على سيد الأنبياء والمرسلين.
الخامس: القرآن كتاب[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادس: في القرآن دعوة لكل الناس مجتمعين ومنفردين لدخول الإسلام.
السابع: في القرآن إخبار عن خلود المؤمنين في الجنة.
ومن إعجاز الآية أنها جاءت بالبشارة مع الإنذار من غير تعارض بينهما للتباين في جهة الخطاب في كل واحد منهما، إذ يتوجه الإنذار للذين يعادون جبرئيل لما يغيظهم من قيامه بالنزول بالقرآن وتضمن آيات القرآن الدعوة للقتال، أما البشارة فتأتي للمؤمنين بما يأتي به جبرئيل من عند الله مع الإقرار بأنه ملك ينزل من الله عز وجل.
ومن إعجاز الآية أنها تتضمن اللوم للذين يعادون جبرئيل، ولكن هذا اللوم ليس صريحاً ظاهراً في الآية بل جاء بالمفهوم والدلالة التضمنية وفيه مسائل:
الأولى: إنه مصداق لكون القرآن، هدى ورحمة، لأن الأصل ليس اللوم بل دعوة الناس للإيمان بنزول القرآن.
الثانية: جاءت الآية للدفاع عن جبرئيل، وبيان عظيم منزلته وعلو درجته، فهو يأتي بما فيه رحمة للناس ولكن بعضهم يواجهه بالعداوة والصدود.
الثالثة: مدح القرآن وبيان حسنه وإعجازه الذاتي والغيري، ويدل في مفهومه على ذم الذين يعادون جبرئيل الذي نزل بالقرآن.
والأصل أن يشكر الناس جبرئيل لوظيفته في إعانة الناس على العادة، ونقل أشرف أمانة سماوية إلى الأرض وإيصالها تامة كاملة إلى سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومع أن عداوة الإنسان لجبرئيل إثم فلم تأت آية البحث بالتخويف والوعيد، وفيها مسائل:
الأولى : الآية مدرسة في الإحتجاج والجدال بصيغ الود والمحبة والجلب لمنازل الهداية.
الثانية : تدل الآية على الوعيد بالدلالة التضمنية لأنها تؤكد صدق نزول القرآن من عند الله، ويتضمن القرآن البشارة والإنذار، قال تعالى[مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ]( ).
الثالثة : تضمنت الآية التالية النص بالوعيد على معاداة جبرئيل وإنذار الكفار بالخزي والخسارة لأنهما من رشحات عداوة الله.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “نزله على قلبك” ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
تمنع الآية الكريمة تشعب الكفر وبلوغ التحدي الى التشكيك بالملائكة، وهي درس يبين صيانة القرآن بالذات والطريق.
وتعتبر الآية وثيقة سماوية في بغض عداوة جبرئيل والصدود عن التنزيل لهذا السبب، وتبعث الآية في النفوس حب الملائكة وتقديسهم وتجعلهم موضوعاً للتباين والإختلاف بين اهل الإيمان واهل الكفر، كما تبين ان الإيمان مطلوب على نحو العموم المجموعي من غير غلو في حبهم، قال تعالى[وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا]( ).
قد لا يلتفت بعض المسلمين إلى موضوعية الدفاع عن الملائكة وتنزيههم، وذم من يعاديهم ويذكرهم بالسوء، فجاءت هذه الآية دعوة للمسلمين لإكرام الملائكة والذب عنهم لأنهم رسل الله.
وتؤكد الآية صدق نزول القرآن من عند الله، وتنفي الإفتراء على النبي محمد كما يوثقه قوله تعالى[أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ]( ).
والآية الكريمة مناسبة لتفقه المسلمين في الدين، ومعرفة أسرار التنزيل والصلة بين أهل السموات والأرض وتقومها بشرف تنزيل الكتاب على الأنبياء على نحو الحصر والتعيين، وفيه بيان لمنزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند أهل السموات ولزوم إكرام أهل الأرض له، ويتجلى هذا الإكرام بتصديقه وإتباعه، قال تعالى[لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا]( ).
أسباب النزول
ذكر المفسرون في الآية (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا فقال يا محمد كيف نومك، فقد اخبرنا عن نوم النبي الذي يجئ في آخر الزمان؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم “تنام عيناي ولا ينام قلبي” قال صدقت يا محمد، فأخبرني عن الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة فقال صدقت.
فما بال الرجل يشبه أعمامه دون أخواله أو يشبه أخواله دون أعمامه؟ فقال: ايهما غلب ماؤه صاحبه كان الشبه له، قال صدقت، فقال: أخبرني أي الطعام حرم اسرائيل على نفسه وفي التوراة ان النبي الأمي يخبر عنه؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “انشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن اسرائيل مرض مرضاً شديداً فطال سقمه فنذر لله لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن على نفسه أحب الطعام والشراب وهو لحم الأبل وألبانها؟ فقالوا نعم”.
فقال له: بقيت خصلة إن قلتها آمنت بك، أي ملك يأتيك بما تقول عن الله؟ قال: جبريل. قال ان ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدة، ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك.
ومبدأ هذه العداوة أن الله تعالى انزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب في زمان رجل يقال له بختنصر ووصفه لنا فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالاً فدفع عنه جبريل وقال ان سلطكم الله على قتله فهذا ليس هو ذاك الذي اخبر الله عنه انه سيخرب بيت المقدس فلا فائدة في قتله، ثم انه كبر وقوى وملك وغزانا وخرب بيت المقدس وقتلنا، فلذلك نتخذه عدواً واما ميكائيل فانه عدو جبريل)( ).
مفهوم الآية
تنهى الآية عن معاداة الملائكة وتدعو الى حبهم، ومن مفاهيم النهي عن عداوة جبرئيل بيان علو مرتبته وانه من ملائكة الله عز وجل الأمر الذي يستلزم الإيمان به والتسليم بما جاء به من عند الله لما هو ثابت عند المليين من امانة الملائكة وعظيم منزلتهم عند الله.
وتظهر الآية اشراقات القرآن وما يتضمنه نزوله من الإفاضات القدسية والمعارف الإلهية والسنن المباركة ومن مفاهيمها الإحتجاج على الذين يعادون جبرئيل مع انه لم يأت الا بما يؤيد تثبيت الملل السماوية السابقة ويؤكد نزول التوراة والإنجيل من عند الله تعالى.
أي ان نزول جبرئيل بالقرآن على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم توثيق للكتب التي عندهم فلماذا هذا العداء، نعم هذا النزول فضح لما جرى من تحريف على الكتب السابقة ودعوة للإنتماء الى الإسلام وهو فضل الهي يجب ان يستبشر ويفرح به الموحدون.
وفي الآية مسائل:
الأولى: جاءت الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتضمن الأمر له بأن يقول لبني إسرائيل قاعدة كلية وقانوناً ثابتاً.
الثانية: تدل الآية على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتبع الأمر الإلهي في معاملته مع بني إسرائيل وغيرهم من الناس، ويتجلى هذا الأمر بالإحتجاج عليهم، فهو لم يقل لهم من يكن عدواً لجبرئيل مصيره هدر الدم والقتل، بل أمر الله تعالى نبيه أن يبين لبني إسرائيل وظيفة جبرئيل وأنه واسطة ملكوتية لتبليغ النبي الآيات من عند الله وأن وظيفته رحمة بالناس جميعاً وهذا البيان حجة وشاهد على إرادة الهداية والصلاح.
الثالثة: جاءت الآية بصيغة الجملة الشرطية من كان عدواً لجبرئيل، ومن غير توجيه اللوم إلى بني إسرائيل خاصة، وفيه وجوه:
الأول: الآية دعوة للتوبة والإنابة.
الثاني: في الآية إشارة إلى عدم إجماع بني إسرائيل على عداوة جبرئيل، وأن فريقاً منهم لا يعادي جبرئيل لعلمه بأنه ملك من الملائكة.
الثالث: في الآية ندب إلى عدم الإجهار بالعداء لجبرئيل والملائكة، ودعوة للتدارك والإنابة.
الرابع: قبح عداوة جبرئيل، وحث الناس على التصدي لأعدائه بالحكمة والموعظة والإحتجاج.
الثالثة: ذكر اسم جبرئيل مجرداً من أي عنوان وصفه يدل على معرفة المليين به وعظم شأنه وأنه ملك من الملائكة، وفيه حجة تؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديقه بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام والأنبياء السابقين، وأن القرآن مصدق للتوراة والإنجيل.
فإن الملك الذي نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن والوحي معروف عند اليهود والنصارى، ولا أحد يجهل عظيم قدره وعلو منزلته بين ملائكة السماء.
الرابعة: تتضمن الآية الدفاع عن جبرئيل، وذكر وظائفه وهي:
الأولى: قيامه بتنزيل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: لم ينزل القرآن إلا بأمر الله تعالى، وإذن منه تعالى ولعل فيه إشارة إلى أخذ جبريل للقرآن من اللوح المحفوظ.
الثالثة: ليس في القرآن إلا ما هو تصديق للتوراة والإنجيل مما يدل على صدق جبرئيل وأنه لم يفعل إلا الحق، وأن التوراة والإنجيل شاهدان على صدق نزوله بالقرآن، لما فيها من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكر صفاته.
الرابعة: نزول القرآن هدىً للمسلمين.
الخامسة: قيام جبرئيل بتنزيل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشرى للذين يؤمنون برسالته بالجنة واللبث الدائم في النعيم المقيم.
ولا ينحصر هذا الإيمان بأيام النبوة والتنزيل بل هو مستمر وباق في أجيال المسلمين المتعاقبة إلى يوم القيامة.
المسألة الخامسة : إذا كان المراد من الأمر الإلهي (قل) النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، فقد يرد إشكال بخصوص إختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره من الصحابة وعموم المسلمين بقوله تعالى[فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ]لأن القرآن لم ينزل إلا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والجواب من وجوه:
الأول : جاءت آيات تفيد نزول القرآن على المسلمين بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا] ( ).
الثاني : آية البحث قانون كلي يتغشى أفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل لبيان قبح عداوة الملائكة جميعاً، وجبرئيل خاصة.
الثالث : التفكيك في مضامين الآية الكريمة، فنزول الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أما القول والزجر عن عداوة جبرئيل فهو وظيفة النبي والمسلمين بالمعروف.
بالإضافة إلى عدم التعارض بين عموم الخطاب في أول الآية في قوله تعالى(قل) وإختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى[فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ] لعدم ثبوت الملازمة بينهما.
وهل في الآية حذف والتقدير: فقل أنه نزلّه على قلبك) الجواب نعم، ولا يمنع هذا التقدير من صحة قراءة الآية بلا حذف وهي الأولى إذ جاءت خطاباً من عند الله تعالى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير تعارض بين الوجهين.
الآية لطف
ويأتي النفع في الآية على نحو مركب من وجوه:.
الأول: ذكر المقولة الباطلة.
الثاني: التحذير منها، والإخبار عن عدم وجود أصل لها.
الثالث: دعوة الناس للكف عما يشبهها من المقولات.
الرابع: إكرام الله تعالى للملائكة والأنبياء وعددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي وفي بعض الأخبار(عددهم ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف من بني إسرائيل و أربعة آلاف من غيرهم)( ).
(والمذكور في القرآن ثمانية وعشرون منهم)( ).
وعن علي عليه السلام: إنّ الله تعالى بعث نبياً أسود ، فهو ممن لم يقصص عليه)( ).
وقد جاءت هذه الآية لمدح جبرئيل والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معاً في آية واحدة، فجبرئيل ملك يؤدي أعماله بأمانة وقوة والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى التنزيل ويقوم بالتبليغ، لتكون هذه الآية دعوة للناس جميعاً لإكرام الملائكة والأنبياء، ومعرفة حقيقة وهي أن الأنبياء يتلقون الوحي من التنزيل بواسطة الملائكة الذين هم معصومون من الزلل والسهو والنسيان، وفيه دلالة على عظم مسؤولية الوحي وشأنه وموضوعيته بين الخلائق إذ أنزله الله تعالى بواسطة أشرف أهل السموات على أكرم أهل الأرض، والوحي أسمى رسالة وبلاغ لأنه من عند الله.
القرآن هو الكتاب السماوي الخالد الذي يتضمن تبيان كل شيء، وهذا البيان رحمة بالناس، وموضوع لقضاء حاجات الإنسان، وهو من مصاديق حاجة ممكن الوجود لله تعالى، وتفضله تعالى لقضاء الحاجة، إذ يفتح القرآن آفاق العلم أمام الإنسان ويخبره عن حاله، ويهذب أخلاقه، ويمنعه من الزيغ وفعل القبيح والإعتقاد الخاطىء الذي لا يعود عليه إلا بالأذى والضرر في النشأتين.
إفاضات الآية
تدافع الآية عن جبرئيل بذكر حسن فعله وأمانته وطاعته لله عز وجل، وتخبر بان القرآن الذي نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء به جبرئيل من عند الله تعالى، وجاءت الآية وكأنها حديث بين الله تعالى وبين نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخباره عن وجود قوم يعادون جبرئيل، وأنه لا يستحق من الناس الا الإكرام لأنه لم ينزل الا بأمر الله تعالى.
وفي الآية مسائل:
الأولى : طرد الشك من قلوب المسلمين.
الثانية : الآية برزخ دون تأثير إعلان فريق من الناس لعداوتهم لجبرئيل على المسلمين.
الثالثة : الآية سلاح بيد المسلمين في الرد على الذين يعادون جبرئيل، ببيان وظيفته وعمله وطاعته لله تعالى.
ترى كيف تكون العداوة لجبرئيل فيه وجوه:
الأول: الإمتناع عن دخول الإسلام بذريعة ان جبرئيل هو الذي ينزل بالقرآن.
الثاني: الإدعاء بأن جبرئيل ينزل بالحرب والقتال، وكأنه يختار ما ينزل به، فجاءت الآية لتخبر بأنه رسول أمين لا ينزل الا بما يأمره الله تعالى به، قال سبحانه [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ]( ).
الثالث: معاداة جبرئيل لأنه يقوم بالنزول المتكرر على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخباره بالوحي والتنزيل.
وتبين الآية ان ملك السماوات والأرض وما بينهما لله تعالى، ومن بديع صنعه أن يأمر ملكاً من أكبر الملائكة وأكثرهم شأناً بالنزول بالقرآن، وفيه دعوة إضافية للناس لدخول الإسلام، وإجتناب الصدود والجحود.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت هذا الآيات خطاباً وتلقيناَ للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب الإحتجاج وفيه شاهد على اكرام الله عز وجل له وللناس بتغليب لغة لاحتجاج في كيفية التعامل , وهو من رشحات وظيفة الإنسان في الأرض, قال تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
والآية ارشاد وتعليم في كيفية الإحتجاج، وفيه نكتة وهي عدم الإنتقال من الإحتجاج إلى السيف، فبعد أن قامت الحجة على عدم خلوص الجنة لأهل ملة مخصوصة، لم يقر المسلمون بإيذائهم، بل إنتقلت الآيات إلى إحتجاج آخر، في دعوة للمسلمين لاتخاذ الإحتجاج وسيلة لدفع الأذى، ومنع تسرب الشك للذين يدعون إلى الله إذ أن التعدد في مواضيع الإحتجاج دعوة إلى عدم الإنتقام من أهل الكتاب على اقوالهم وان كانت لغرض إيذاء المسلمين والاضرار بهم وانكار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمفهوم والدلالة.
وجاءت هذه الآية لذم الذين يعادون جبرئيل لأنه نزل بالقرآن على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأمر بالقتال وهذا الأمر من عند الله فما جبرئيل إلا رسول أمين ينقل إلى النبي ما يأمره الله عز وجل, الذي أعلم بالمصلحة والمنفعة.
وفي الآية مدح لجبرئيل لما قام به من أداء الأمانة وبيان عظيم منزلة القرآن وما فيه من المنافع للناس جميعاً وقد ذكرت الآية القرآن بصفات هي:
الأولى : القرآن مصدق وشاهد على الكتب السماوية السابقة التي نزلت على الأنبياء، فاذا كان اليهود يؤمنون بالتوراة والنصارى بالإنجيل فان القرآن تصديق لهما فلم يكذب القرآن نزولهما, قال تعالى في وصفه[وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ]( ).
جاء بتصديق نزول التوراة والانجيل وفيه رحمة وفضل من عند الله عز وجل على اليهود والنصارى ودعوة المسلمين للرأفة بأهل الكتاب والتفقه في الدين واتخاذ الاحتجاج والجدل وسيلة لإقامة الحجة خصوصاً وأن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرة جلية.
الثانية: القرآن هدى للناس والأصل أن الموحدين مطلقاً يريدون الهدى والصلاح للناس وهو الذي جاءت به التوراة والإنجيل لذا فان تصديق القرآن لهما أعم من ان ينحصر بالشهادة على نزولهما من عند الله عز وجل بل أنه يأتي بالدعوة الى التوحيد وعبادة الله وعدم الشرك به.
ومن وجوه تصديق القرآن بالتوراة والإنجيل مجيؤهما بالشهادة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن، ليكون ذات نزوله تصديقاً للتوراة والإنجيل، قبل أن تصل النوبة الى ما فيه من الأحكام والشواهد والإعجاز الذي يدل على تصديق بشارة التوراة والإنجيل به وبنزوله ومن وجوه التصديق في المقام أن القرآن هدى وخير محض.
وفي الآية تحد وإعجاز لأنها تصف القرآن بأنه هدى، وآياته وأحكامه بينة وظاهرة للناس جميعاَ، ومن وجوه الهداية فيه لغة الإحتجاج التي جاءت بها هذه الآيات لأنها دعوة للإسلام سواء للذين جاءت الآية لإقامة الحجة عليهم بتخلفهم عن تمني الموت وإثبات زيف إدعائهم.
الثالثة: القرآن بشرى للذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحتمل هذه البشارة وجوهاً:
الأول: البشارة في الحياة الدنيا بالأمن والسلامة من كيد الكفار والفاسقين، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الثاني: البشارة للمؤمنين بالله والملائكة والأنبياء والكتاب في الآخرة، وتدل هذه البشارة على إقرارهم باليوم الآخر وأنه يوم الجزاء.
الثالث: المعنى الأعم للبشارة وإرادة الحياة الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الثالث، وفيه رحمة بالمسلمين والناس جميعاً، ودعوة لأهل الكتاب للإنتفاع الأمثل من نزول القرآن، وما فيه من البشارات إذ أنه يتضمن الإخبار والبشارة بالنصر والعز للمسلمين في الدنيا كما في نزول الملائكة مدداً للمؤمنين في معارك الإسلام الأولى قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )، ليتكرر لفظ المؤمنين في الآية أعلاه والآية محل البحث , وفي القرآن بشارة متكررة للمؤمنين باللبث الدائم في الجنة , قال تعالى [وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا]( ).
ويفيد الجمع بين وسط وآخر الآية أن الذين يقولون بأنهم مؤمنون بالله، فان جبرئيل لم ينزل إلا بالبشارة لهم، مما يملي عليهم وده وعدم عداوته.
لقد جعل الله عز وجل الملائكة خلقاً عظيماً من خلقه، وأكرمهم بأن أسكنهم السماء في جواره، وهم منقطعون إلى العبادة والذكر والتسبيح، ولا يفعلون إلا ما يأمرهم الله عز وجل، ومنه قيام جبرئيل بالنزول بالقرآن، بأمر من الله عز وجل، وما فيه الخير المحض للناس جميعاً.
التفسير الذاتي
جاءت هذه الآية بذات النظم والموضوع الذي جاءت به الآيات السابقة، فهي خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لقد إمتنع بعضهم عن دخول الإسلام لأن جبرئيل هو الذي يأتي بالوحي، وينزل بالقرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وجاءت الآية لتؤكد على أمور:
الأول: حرمة عداوة الإنسان لجبرئيل.
الثاني: إن جبرئيل ملك من ملائكة الله، وتشمله عمومات قوله تعالى [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
الثالث: لم يفعل جبرئيل ما يستحق العداوة، بل قام بأعظم عمل ملكوتي لخدمة وإعانة الناس وإلى يوم القيامة.
الرابع: التحذير والوعيد من عداوة جبرئيل.
الخامس:دعوة الناس إلى عدم الإصغاء لمن يعادي جبرئيل، أو يعرض عن القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسبب الواسطة الملكوتية.
السادس: يأتي جبرئيل بالوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو حجة في صدق نبوته.
السابع: الإحتجاج على صحة فعل جبرئيل من وجوه:
الأول: نزل بالقرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره من الناس، وهو من أصدق وجوه الأمانة لتعيين شخص نبي آخر الزمان، وعدم الترديد فيه.
الثاني: ينزل بالقرآن بما يجعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يفهم ويحفظ القرآن، ويعي معانيه، ويكون قادراً على تلاوته وبيانه وتفسيره.
الثالث: لم ينزل جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بأذن من الله عز وجل، ويحتمل هذا الأذن وجوهاً:
الأول: الإتحاد في الإذن، فيكفي إذن واحد لينزل به جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المرات المتعددة التي نزل بها عليه .
الثاني: تجدد الإذن في كل مرة ينزل بها جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: إختصاص الإذن بمجيء جبرئيل بآيات القرآن، أما إذا لم ينزل بالقرآن فلا يحتاج الإذن.
الرابع: التفصيل في الإذن، ومعرفة جبرئيل لأوان النزول بكل آية من خلال الإذن المتحد والتفصيلي.
والأصل هو الثاني، إلا أن يدل دليل على الخلاف، ففي كل مرة ينزل فيها جبرئيل يحتاج إلى الإذن من عند الله، ليكون على وجوه:
الأول : نزول جبرئيل بآية قرآنية.
الثاني : النزول بآيات متعددة من القرآن.
الثالث : النزول بسورة من القرآن كما في قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سورة الأنعام عن ابن عباس قال: نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح)( ).
وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والأرض لهم ترتج ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول سبحان ربي العظيم ثلاث مرات)( ).
الرابع : مجيء جبرئيل بحديث قدسي.
الخامس : النزول بالوحي مطلقاً، وبينه وبين القرآن عموم وخصوص مطلق فكل قرآن هو وحي وليس العكس.
السادس : زيارة جبرئيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع : نصرة المسلمين في القتال.
الثامن : حل معظلة، وإجابة مسألة سئل بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فنزل جبرئيل بجوابها.
التاسع : تعضيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
العاشر : الذب عن النبي محمد صلى الله عليه وتحذيره قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
الحادي عشر : معارضة ومقابلة وتدارس آيات نازلة من القرآن مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه بيان لمنزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله، وتوكيد بأن جبرئيل لم يأت من تلقاء نفسه، ولم يتصرف بإرادته، بل ينزل بمشيئة وإذن وأمر من الله عز وجل , مما يملي على الموحدين إكرامه.
ويبين قوله تعالى [نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ] أن يوم نزول جبرئيل بالقرآن هو يوم عيد في السموات والأرض، وعنوان الصلة الدائمة بينهما، فلما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
جاءت هذه الآية لتوكيد قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) وأن خلافة الإنسان في الأرض، أعم من موضوع الصلاح والفساد، وحقن أو سفك الدماء، ليتجلى إعمار الأرض بعبادة الله عز وجل بوجود الإنسان فيها، وتلقي الأنبياء للوحي بنزول الملائكة أنفسهم ليكونوا مدداً للأنبياء والصالحين في الحياة الدنيا، وما مرّت الأيام على بدايات نزول القرآن حتى نزل الملائكة مدداً وناصرين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وليكونوا شهوداً للمؤمنين، وشهوداً على الكافرين من قريش بالصلة المباركة بين السماء والأرض بأن ينزل جبرئيل على سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالكتاب السماوي الباقي في الأرض إلى يوم القيامة.
وجاءت الآية بصفات حميدة للقرآن تدل على أنه آية عظمى من عند الله عز وجل ونعمة على أهل الأرض تستلزم منهم تلقيها بالشكر والثناء، وإكرام الملك الرسول الذي نزل به، والنبي الذي تلقاه من عند الله.
وهذه الصفات هي:
الأول : القرآن مصدق للكتب السماوية السابقة، وفيه بعث للسكينة في نفوس أهل الكتاب من القرآن ودعوة لهم للتصديق به وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : يهدي القرآن الناس إلى سبل الصلاح والتقوى، والأمن من الفزع يوم القيامة، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وتدل الآية على أن القرآن بذاته هدى، فإلى جانب دعوته للهدى، فإنه يهدي للهدى والصلاح، ليكون التصديق به وتلاوته من مصاديق الهدى، لذا جاء الخبر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأجر والثواب في قراءة كل حرف من القرآن.
أخرج بالإسناد عن ابن مسعود قال: تعلموا القرآن فإنه يكتب بكل حرف منه عشر حسنات، ويكفر به عشر سيئات، أما إني لا أقول (الم) حرف، ولكن أقول ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر) ( ).
الثالث: القرآن بذاته بشرى، ويحمل معه مضامين البشارة وهي على أقسام منها:
الأول: البشرى بحلول زمان بعثة سيد المرسلين.
الثاني: البشرى بإنقطاع التحريف والتبديل في التنزيل، فكلما ينزل الملائكة بالوحي تصل إليه مع مرور الأيام يد التحريف، فجاءت البشرى بنزول القرآن وعصمته من التحريف، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثالث: مجيء القرآن بالبشرى بنزول الملائكة لنصرة المسلمين وفي ميدان المعركة، وفي نزول الملائكة يوم أحد ورد قوله تعالى[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ] ( ).
الرابع: يتضمن القرآن البشرى بنصر الإسلام، وثبات أحكام الحلال والحرام، وهداية الناس إلى سواء السبيل.
الخامس: في القرآن البشرى بإقامة المؤمنين في الجنة، وهل تختص هذه البشرى بهم الجواب لا، فهي بشارة للملائكة أيضاً لما فيها من الثواب والجزاء الحسن لأهل الصلاح والتقوى، الذين آمنوا بالله وملائكته، ولم يعادوهم على نحو العموم أو التبعيض.
إن إطلاق صفة البشرى على القرآن دعوة للناس لدخول الإسلام لينتفعوا وينهلوا من بشارات القرآن التي ليس لها حصر في عددها، أو تخصيص في موضوعها ومنافعها في أفراد الزمان الطولية المقدرة وغير المقدرة، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( ).
وجاءت الآية أعلاه بنسبة التنزيل لله عز وجل، وذكرت الآية محل البحث أن جبرئيل هو الذي نزل به، وفي الجمع بين الآيتين شاهد على أن جبرئيل رسول من عند الله عز وجل في تنزيل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتحتمل(الهاء) في(نزّله) وجهين:
الأول: إنها عائدة للقرآن، وتقدير قوله تعالى[فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ] أي فإن جبرئيل نزل بالقرآن.
الثاني: إنها تعود لجبرئيل، وتقدير الآية فإن الله نزّل جبرئيل.
والصحيح هو الأول، وإن لم يكن القرآن مذكوراً في الآية، ولكن القرائن تدل عليه ببيان صفاته فيها وأنه هدى وبشرى للمؤمنين وسيأتي في الآية بعد التالية قوله تعالى[وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ] ( )، وهذا المعنى لا يتعارض مع الوجه الثاني أعلاه بل هو في طوله.
ومن إعجاز القرآن أن الآية لم تقل(أنه نزله على قلبي) مع أنها في سياق الأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل جاءت بلفظ المخاطبة أيضاً، وفيه وجوه:
الأول: تثبيت المسلمين في منازل الإيمان.
الثاني: وظائف الآية أعم من الإحتجاج على طائفة وفريق من اليهود، فهي باقية إلى يوم القيامة.
الثالث: موضوع الآية أعم من مسـألة عداوة جبرئيل , ومن معانيها تأكيد نزول القرآن من عند الله.
إن إظهار العداوة لجبرئيل، وجعلها برزخاً دون التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن جبرئيل هو الذي ينزل بالقرآن حجة عليهم، وشاهد على العجز عن التشكيك بنزول القرآن من عند الله، وتعذر الإحتجاج على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته، وتسليم بالمعجزات التي جاء بهـــا، فأظهروا الخلاف والعناد في مسألة من أمر الله عز وجل فلذا جاءت الآية بالإخبار بأن جبرئيل رسول من عند الله، ولم يفعل إلا ما أمره الله عز وجل، وأنه كان أميناً في رسالته.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: بيان لغة الخطاب بين الله تعالى وبين نبيه، وان الله سبحانه يأمر نبيه بالدفاع باللسان عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي، ويدل في مفهومه على عدم إتخاذ القوة والبطش في هذا الباب، وان هذه الآية تكفي للرد على الذين يحاربون جبرئيل، ويضمرون له العداوة.
الثانية: العداوة نوع مفاعلة، وهي تارة تكون من طرف واحد، وأخرى من الطرفين، وهي ضارة بأطرافها، وسبب في حصول الكدورة والأذى وان تباين الأذى بين الطرفين بحسب الحال والقصد، الا في عداوة الإنسان لله والملائكة فانها لا تضر الا الإنسان نفسه، فمن يعادي جبريل لا يحصد الا الخيبة والخسران في الدنيا والآخرة.
الثالثة: في الآية إشارة الى قول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ]( )، فعداوة جبرئيل من الإفساد في الأرض، ومن مصاديق الرد الإلهي على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ). مجيء هذه الآية بفضح الذين يعادون جبريل، ومنع تفشي هذه العداوة بين الناس، وإعانة الناس على معرفة الوظائف العظيمة لجبرئيل، وإدراك صدق نزول القرآن من عند الله تعالى بذم الذين يعادون جبرئيل.
فمن إعجاز الآية القرآنية تعدد الوظائف والغايات العقائدية لها، فهذه الآية جاءت بخصوص الذين يعادون جبرئيل وقبح هذه العداوة الا انها تبين أيضاً مسائل :
الأولى: لزوم إكرام جبرئيل لصدقه وأمانته وتشرفه بنقل الوحي والتنزيل من عند الله على خير خلقه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: صدق نزول القرآن من عند الله تعالى.
الثالثة: ترك عداوة الملائكة مطلقاً.
الرابعة : وصول القرآن الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير نقصان أو زيادة لأنه جاء بواسطة ملك من أكبر ملائكة السماء.
الخامسة : نفع الملائكة للناس جميعاً، والمؤمنين على نحو الخصوص بنزولهم بما فيه هدايتهم وصلاحهم، والإخبار عن حسن مقامهم في الآخرة.
الرابعة: دعوة أهل الكتاب والناس الى التدبر بآيات القرآن، وعدم الإنشغال بشخص الملك الذي نزل به وهل هو جبرئيل أو ميكائيل فالأهم هو معرفة حقيقة وهي ان جبريل نزل بالهداية والرشاد والفلاح بإذن من عند الله.
الخامسة : لم تقل الآية “هدى وبشرى لكم” بل قالت للمؤمنين ليبقى باب الدخول الى الإسلام مفتوحاً للناس جميعاً، فمن يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن الذي نزل عليه فانه يشكر لجبرئيل حسن أمانته وعظيم رسالته، وقيامه بالنزول بالقرآن من عند الله الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة: تتضمن الآية في مفهومها اللوم والتوبيخ لمن يعادي جبرئيل، إذ ذكرت المصاديق والأسباب التي تمنع من هذه العداوة فهو لم ينزل الا بأمر من الله تعالى، ومن يطع الله تعالى يجب أن لا يعادى، وما جاء به موافق لأخبار وأحكام التوراة والإنجيل، وانه نزل بالقرآن الذي هو سبيل رشاد وباب هداية وبشارة لمن آمن برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولمن يؤمن بها، وينتفع من مضامين هذه الآية، ويترك عداوة جبرئيل وما تخلفه من الكدورة والغشاوة على البصر والبصيرة.
السابعة: توكيد حقيقة وهي ان الطريقة الملكوتية في التنزيل أمينة وآية إعجازية إضافية تدل على شرف الواسطة، وإختصاص الملك بحمل مسؤولية نقل الوحي والتنزيل الذي هو رحمة للناس جميعاً، مما يستلزم تلقيه بالقبول والرضا.
التفسير
قوله تعالى[قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ]
الخطاب في منطوقه موجه الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه انحلالي، فهو سلاح بيد المسلمين واعلان سماوي دائم وحجة وبرهان.
و[من] اسم شرط، والهاء في[فَإِنَّهُ ] تعود الى جبرئيل، وفي [نَزَّلَهُ] تعود الى القرآن، وجواب الشرط محذوف والتقدير: فلا سبب لعداوته، أي ان في الآية جواباً وتوبيخاً للأشخاص الذين يعلنون عداوتهم لجبريل سواء بالقتال لأنه يأمر بالقتال والشدة وهم يبغضون القتال كموضوع بغض النظر عن دوافعه ومقاصده وما فيه من الغايات أو لغيره.
ترى ما هو سبب تلك العداوة , فيه وجوه:
الأول : نزول جبريل بالقرآن هو سبب تلك العداوة او جزء علة لها.
الثاني : يحول نزول جبريل بالقرآن دون ايمانهم بالقرآن باعتبار ان عداوة الواسطة تمنع من الأخذ بما يأتي عن طريقها.
الثالث : إمتنع بعض الأشخاص عن الكفر الصريح وهم اصحاب كتاب ومن اهل التوحيد فاتجهوا نحو الملك الذي تولى وظيفة حمل الرسالة بانزال القرآن واحكام الإسلام من السماء الى الأرض.
وهل أرادوا التشكيك بالقرآن بسبب الواسطة السماوية والملك الذي يقوم بتبليغه الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه نكتة عقائدية وهي أنهم عجزوا عن ذم القرآن لذاته او ابداء النفرة مما فيه بعد ان ثبت اعجازه وساد سلطانه الرباني ونفذت آياته وسننه في النفوس ويدل على هذا القول ذيل الآية.
الرابع : أن الملك النازل بالوحي لا يخطأ ولا يضل ومنزه عن التبديل أو التحريف والاشتغال بغير ما أمر به.
الخامس : الآية دعوة لنبذ حالة الإرباك الفكري التي تحول دون إعمال البصيرة وإدراك الكمالات الإنسانية ووجوه الصلاح العقائدي والتدبر في معرفة سبل النجاة في الدارين.
قوله تعالى [فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ]
فجبرئيل عليه السلام رسول أمين منقاد بتسليم لحكم الله لم يختر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عنده ولم يكن له حق الإختيار في موضوع التبليغ وغايته.
ان في الآية تكذيباً لدعوى مخالفة جبريل عليه السلام لما هو موجود عندهم لبطلان اللازم، وهو دعوى بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بينهم فالملزوم مثله.
وفي الآية تنزيه وثناء على جبرئيل عليه السلام ودعوة للمؤمنين والناس جميعاً باكرامه وطرد الشك والوهم في احتمال طرو الخطأ او السهو عليه، اذ ان مقتضى التبليغ يملي علينا التصديق المطلق بما جاء به وهذا لا يتم الا بالتسليم له بملكة العصمة المطلقة كما جاءت به الآيات والنصوص.
وردت الآية على نحو القاعدة الكلية من غير ذكر أمة معينة تظهر عداوتها لجبرئيل لأن الملاك اقامة الحجة وبيان الآيات، لقد اشارت الآية الى التنزيل وانه على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإعجاز الآية أنها جاءت باسم الشرط والكبرى الكلية والتعريض بلحاظ العداوة , ولم تذم ملة معينة من أهل الكتاب لأن القرآن رحمة وهداية وصلاح , وفيه دعوة لنبذ المقالات الخاطئة.
وورد ذكر القلب في الخطابات القرآنية الموجهة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب التنزيل مرتين ففي سورة الشعراء [ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ ]( ) .
وورود ذكر القلب بالخصوص فيه وجوه:
الأول : الإتيان بالخاص وارادة العام كما في قوله تعالى[فَكُّ رَقَبَةٍ]( )، وإرادة عتق الإنسان وليس شقصاً منه.
الثاني: ذكر اشرف عضو من اعضاء الإنسان والقلب امير الجوارح.
الثالث : بيان حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن وضبطه لآياته.
الرابع : التوكيد على سلامة الطريق وإنعدام تأثير الشيطان في الواسطة والغاية.
الخامس : تقييد حصول التنزيل على القلب إخبار عن أمانة جبرئيل مما ينفي أي اسباب لحصول العداوة معه.
السادس : القدرة والأهلية اللتان يتصف بهما جبرئيل عليه السلام من الوصول الى قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : تعظيم شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الملك ينزل على قلبه، والآية تفتح باباً للدراسات في الوحي والتنزيل.
الثامن : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقيام الملائكة التاسع : نزول الآيات على قلب النبي حرز وأمان من الشياطين والتحريف والتبديل.
العاشر : لعل في الآية حثاُ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم للذب عن جبرئيل عليه السلام وفاء لأمانته وما حصل بينهما من صلة رسالية سماوية.
الحادي عشر : في الآية تذكير بإخلاص جبرئيل وحرصه على عدم التفريط بآيات القرآن وسعيه لتوثيقها وتعاهدها، فبدأ بإنزالها على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخصوص.
الثاني عشر : تذكير بني إسرائيل بنزول جبرئيل لأنبيائهم، وفي قوله تعالى[أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
الثالث عشر : بيان علة نزول جبرئيل، وهي بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتبليغ والدعوة إلى الله، والتحذير من الشرك والضلالة، قال تعالى[نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ]( ).
قال وهب وابن إسحاق والسدي: وإنّما كانت الأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى يبعثون إليهم لتجديد ما نسوا من التوراة ثم خلّف بعد إلياس اليسع وكان فيهم ما شاء الله أن يكون، ثم قبضه الله إليه، وخلفت فيهم الخلوف وعظمت فيهم الخطايا، وظهر لهم عدو يقال له البلثانا وهم قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم من مصر وفلسطين، وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوهم على كثير من أرضهم وسبوا ذراريهم وأسروا من أبنائهم أربعين وأربعمائة غلام وضربوا عليهم الجزية
وأخذوا توراتهم ولقي بنو إسرائيل منهم بلاء وشدة، ولم يكن لهم نبي يدبّر أمرهم، وكانوا يسألون أن يبعث الله لهم نبيّاً يقاتلون معه.
وكان سبط النبوة قد هلكوا فلم يبق منهم إلاّ امرأة حبلى فأخذوها وحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدّله بغلام لما يرى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، فجعلت المرأة تدعو الله عز وجلّ أن يرزقها غلاماً فولدت غلاماً فسمّته إشمويل تقول سمع الله دعائي، فكبر الغلام فأسلمته يتعلم التوراة في بيت المقدس، وكفله شيخ من علمائهم وتبنّاه،
فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبياً أتاه جبرائيل والغلام نائم إلى جنب الشيخ، وكان لا يأتمن عليه أحداً فدعاه بلحن الشيخ: يا إشمويل فقام الغلام فزعاً إلى الشيخ فقال: يا أبتاه دعوتني، فكره الشيخ أن يقول: لا فيفزع الغلام، فقال: يا بني ارجع فنم فرجع الغلام فنام، ثم دعاه الثانية فأتاه الغلام أيضاً فقال: دعوتني .
فقال: ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني، فلمّا كانت الثالثة ظهر له جبرائيل فقال له: اذهب إلى قومك فبلّغهم رسالة ربك فإنّ الله قد بعثك فيهم نبياً، فلما أتاهم كذّبوه وقالوا استعجلت النبوة ولم يأن لك.
وقالوا: إن كنت صادقاً {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} آيةً من نبوتك، وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالإجتماع على الملوك، وطاعة الملوك أنبياءهم، وكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنبي يقيم له أمره ويشير عليه، يرشده ويأتيه بالخبر من ربه عزّ وجلّ)( ).
قوله تعالى [بِإِذْنِ اللَّهِ]
جاءت الآية وبحسب السياق تنزيهاً لجبرئيل ونفياً لحصول الخطأ في أمانته ومنعاً لذمه.
ومن معاني الآية بالدلالة الإلتزامية ان الذي يضمر العداوة لجبرئيل لن يضر الا نفسه.
ترى لماذا ورد قوله تعالى [بِإِذْنِ اللَّهِ ] ولم يقل “بأمر الله” والإذن أعم من الأمر مع ان الأمر فيه دلالة على الوجوب لغة وعقلاً كما ثبت في علم الإصول، ويدل على ان جبرئيل عليه السلام ليس له في الموضوع شأن إلا أداء الأمانة من غير تبديل او تغيير.
أما الإذن فقد يعني التصديق والإمضاء لفعل المأذون له، والجواب يقع في وجوه:
الأول : بلحاظ باب تفسير القرآن بالقرآن وهو ان الآيات جاءت لبيانه وتوكيده وان الإذن يعني الأمر، وفي لسان العرب يقال: فعلت كذا وكذا باذنه، أي فعلت بعلمه ويكون اذنه بأمره( ).
ولكنه ليس على نحو الإطلاق بل يحتاج الى قرينة صارفة.
الثاني : ذيل الآية بيان وتفصيل بعد إجمال , قال تعالى[مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ] أي ان عمل جبرئيل عليه السلام منحصر بتصديق ام الكتاب وليس له ان يبتدع شيئاً من عنده بما في ذلك شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أنزل عليه القرآن.
الثالث : موضوع الإذن في الجهة والقصد خاص وليس مطلقاً، إذ أن نعت واسم وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو مما في الكتاب الذي بين يديه، ولعل موضوع الإذن في الآية يتعلق بأوان وكيفية النزول وإن كان يغيض عرضاً بعض الذين كانوا ينتظرون غير ذلك.
الرابع : في الآية رحمة لبني اسرائيل لما تتضمنه من تطمين وسكينة لهم في موضوع الواسطة السماوية لنزول القرآن وما لها من مدخلية في الإعتبار العقائدي ببيان امانة جبرئيل والمفروغية من عدم تفريطه او تعديه، وكل نبوة رحمة بالناس[اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ]( ).
الخامس : في الآية تكذيب لرؤسائهم فيما يزعمون في اختيار النبوة، ودعوة لبني اسرائيل بالإعراض عما يدعون وحث لهم على الإلتفات الى هذه الحقيقة وهي صدق جبرئيل وامانته لتكون عوناً لهم على قبول ما جاء به من الحق.
السادس : في الآية اعجاز لما فيها من تهيئة أسباب تنزيه القرآن وصيانته ومنع أقاويل الناس فيه وما يتعلق به وبنزوله ومقدماته.
السابع : الآية دعوة للمؤمنين للدفاع عن القرآن وعدم حصر هذا الموضوع في الذب عنه، بل ببيان حقيقته وعظمته وإعجازه ومصاديقه بما يجعل الناس ينتفعون من آياته وما فيها من الأحكام والسنن، قال تعالى[وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ]( ).
بحث كلامي
لجبرئيل عند كل مسلم منزلة وحب واجلال خاص به، فهو الواسطة المباركة لنزول القرآن والشاهد يوم القيامة على تعاهد المسلمين للقرآن واحكامه، فالمسلمون سوف يستقبلون يوم البعث والنشور بعمل مبارك وهو حفظ القرآن وعدم وصول يد التحريف اليه، وكأنهم يؤدون الأمانة ويعيدون العهد والميثاق مقروناً بالعمل الصالح والإمتثال لما فيه من الأوامر والنواهي.
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ: قل: اللهم اجعل لي عندك عهداً، واجعل لي عندك ودّاً، واجعل لي في صدور المؤمنين مودة فأنزل الله{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً} قال: فنزلت في علي)( ).
وفي الآية مسائل:
الأولى : تثبيت الحقائق القرآنية والوحي وتلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآيات من غير واسطة بشر.
الثانية : فضح الذين يبغضون جبرئيل.
الثالثة : النهي والتحذير من معاداة الملائكة.
الرابعة : الآية واقية وحرز للمسلمين، وحائل دون تأثرهم بأسباب التحريف والضلال.
الخامسة : بيان المسؤوليات الجسام التي قام ويقوم بها جبرئيل.
السادسة : التقرب الى الله بالصلاة على جبرئيل، وفي الصلاة على حملة العرش , وعن ابن عباس: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام، وقيل: أرجلهم في الأرض السفلى، ورؤوسهم خرقت العرش، وهم خشوعٌ، لا يرفعون طرفهم، وهم أشد خوفاً من سائر الملائكة)( ).
السابعة : نيل شفاعة يوم القيامة بالدعاء لجبرئيل والتسليم والتصديق بما جاء به من عند الله , وفي قوله تعالى[فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ] قال عبدالله بن مسعود: يشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلاّ أربعة ثم تلا قوله سبحانه: {لم يك من المصلين} إلى قوله{بِيَوْمِ الدِّينِ})( ).
وفي دعاء حملة العرش للمؤمنين ورد قوله تعالى[رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ]( ).
الثامنة : إعراض المسلمين عن مقولات الجحود والإساءة إلى الملائكة.
التاسعة : تأديب المسلمين وتعليمهم إكرام الملائكة.
العاشرة : معرفة الخلل الفكري وضعف الإيمان عند أهل الملل التي لا تكرم الملائكة، ومن يتجرأ عليهم.
الحادية عشرة : التصديق بالوحي وما جاء به جبرئيل، ومعرفة عظيم منزلته وأهمية الوحي بلحاظ الواسطة الملكوتية التي قامت بتبليغه وايصاله الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية عشرة : نزول جبرئيل بالوحي تشريف وإكرام لكل مسلم، (أنزل الله تعالى القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدُّنيا ثمَّ أنزله جبرائيل على محمّد آياً بعد آي)( ).
الثالثة عشرة : معرفة وظائف الملائكة وما يقومون به من الأعمال الشاقة طريق لإثبات الصانع , وإطلاع على جانب من أمور العرش وشؤون السماء ببركة القرآن ونزوله.
الرابع عشرة : يمكن القول ان جبرئيل صلة مباركة بين اهل السماء واهل الأرض.
الخامسة عشرة : تثبيت كبرى كلية وهي ان المسلمين يكرمون الملائكة.
السادسة عشرة : تلاوة هذه الآية من القرآن حرب على الكفر، وصلة مع الملائكة في الذب عنهم، يطالبهم المسلم يوم الفاقة والعطش الأكبر بالجزاء والإحسان.
السابعة عشرة : تنمية المعارف الإلهية عند المسلمين ومعرفتهم باهل السماء وعظيم منزلتهم عند الله.
الثامنة عشرة : الشكر لله عز وجل على تفضله بتنزيل القرآن بواسطة الملائكة.
لقد خلق الله الملائكة مجردين من الشهوة والغضب فاستولى الصفاء والصلاح على نفوسهم، فكانت عبادة كل ملك آية من آياته تعالى، وحجة على الإنسان ودعوة له للإقتداء بالملائكة وفق الممكن والميسور.
إن قيام جبرئيل بالنزول بالقرآن من عند الله تعالى موضوع لشكره، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يشكر الله من لا يشكر الناس)( ).
لقد قام جبرئيل عليه السلام بأداء الأمانة وإيصال كلام الله الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير تغيير او تبديل او تحريف أو نقص.
وفي الحديث: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل وهو يبكي قال: تبكي يا جبريل وأنت من الله بالمكان الذي أنت به؟ فقال: وما لي لا أبكي أنا أحق بالبكاء، لعلي أكون في علم الله على غير الحال التي أنا عليها، وما أدري لعلي أُبتلى بما أُبتلي به إبليس فقد كان من الملائكة، وما أدري لعلي ابتلي بما ابتلي به هاروت وماروت ، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى جبريل، فما زالا يبكيان حتى نوديا: أن يا جبريل ويا محمد ان الله قد أمنكما أن تعصياه)( ).
وفي الآية إبطال لإدعاء بعضهم بان القرآن نزل مضمونه وموضوعه مجملاً من عند الله وانه من صياغة جبرئيل أو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالملائكة أمناء ومؤهلون للأمانة، والأمين لا يبتدع ولا يتعدى او يفرط في أمانته، فينحصر عمل جبرئيل بحفظ الأمانة وايصالها تامة سالمة الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليبلغها إلى الناس بأمانة نبوية.
ومن إعجاز القرآن مجيء قوله تعالى[وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ]( )، مع وروده بصيغ أخرى، ويدل بالدلالة المطابقية على أن الرسول ليس له إلا تبليغ الرسالة، وكذا جبرئيل عليه السلام لذا ورد قوله تعالى[وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ]( ).
وعن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين فعرفوا أنه لا يكذب في شيء، ولكنهم كانوا يجحدون . وكان أبو جهل يقول: ما نكذبك لأنك عندنا صادق، وإنما نكذب ما جئتنا به)( ).
وروي: أنّ الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس عندنا أحد غيرنا؟ فقال له: والله إن محمداً لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والنبّوة، فماذا يكون لسائر قريش)( ).
والقرآن أكبر وأشرف هبة ومنة وأمانة تنزيلية بعث الله بها الى الأرض بواسطة الملائكة، مما يترشح عنه شرف الملك الذي يتولى حمل هذه الفريدة السماوية الكريمة.
وفي أمانة الملائكة مسائل:
الأولى : إنها جزء من إنقطاعهم إلى العبادة.
الثانية : إنها فرع تجرد الملائكة عن الشهوة.
الثالثة : الأمانة من الدلائل على إنتفاء السهو والغفلة عن الملائكة.
الرابعة : أمانة الملائكة فرع العصمة التي رزقهم الله.
الخامسة : من مصاديق طاعة الملائكة المطلقة لله سبحانه إتصافهم بالأمانة.
وتفضل الله تعالى بائتمانهم على الوحي أحسن توثيق لهم واثبات لصدقهم لما يمتازون به من الأداء التام لجميع ما يتلقون من الأوامر الإلهية، والاتقان مع اليقظة الدائمة في تنفيذ جميع ما يناط بهم من واجبات الفعل أو الإشراف او المراقبة او الرصد والحراسة بالتزام صادق وسعي دؤوب لأداء ما يحملون لأهل الرسالات والتبليغ والأنبياء وهو جزء من نسكهم وتسبيحهم وعبادتهم التي لا يفترون ولا يكسلون عنها.
وقد قام جبرئيل عليه السلام بوظيفته في تنزيل القرآن بفخر واعتزاز مع انه من الملائكة المقربين وأهل الزلفة والجاه لدى مقام القدس.
(وقيل جبرئيل مأخوذ من جبروت الله، وميكائيل من ملكوت الله)( ).
قوله تعالى [مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ]
مصدقاً حال، وفي متعلقه وجوه:
الأول : بيان حال جبرئيل وأنه المصدق.
الثاني : المراد القرآن.
الثالث : الحال يعود إلى التنزيل.
الرابع : المراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، ولإعجاز القرآن في كون الفاظه إنحلالية ومعانيه متعددة.
أما بالنسبة للوجه الأول فإن جبرئيل مصدق لما بين يديه من وجوه:
الأول : أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبي رسول.
الثاني : حصر تنزيل وإبلاغ القرآن وأداء الأمانة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يتعداه إلى غيره من أهل الأرض بلحاظ ذات زمان التنزيل أو قبله إبتداء من أيام آدم أو لما بعده من الأزمان وإلى يوم القيامة.
الثالث : تصديق أوان نزوله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا فمن الآيات ما نزلت بالحضر أو السفر، وبالنهار أو الليل، ومنها ما كان نزولها والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه أو مع أهله وعياله أو بمفرده.
الرابع : بقاء الآيات عند جبريل عند تبليغها وإيصالها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد التبليغ، ليكون هناك نوع مطابقة بينها، وهو من مصاديق أمانة جبريل، فلا يعتمد جبريل على ذاكرته، بل يلحظ التطابق التام بين كل من:
الأول : ما بين يديه من الآيات.
الثاني : ما يبلغه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : ما في اللوح المحفوظ.
الرابع : ما يتلوه المسلمون من آيات القرآن.
الخامس : ما مدون بين الدفتين في المصاحف، وهل يدل قوله تعالى[نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ] على وجه سادس للوجوه أعلاه، وهو أن جبرئيل يعلم ما في قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات وأنه لم يطرأ عليها تغيير أو تبديل في حرف أو كلمة أو كلمات منها، بحيث ينبهه ويعارضه فيها .
الجواب لا دليل عليه، وقد أثنى الله عز وجل على نفسه بإختصاصه بما في ثنايا قلب الإنسان من الأسرار بقول تعالى[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
ولا يمكن القول بأن إطلاع جبرئيل على نص الآيات في قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قضية عين خاصة، إذ أن القدر المتيقن من متعلق الإذن في قوله تعالى[نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ]، هو التنزيل وقد عصم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من نسيان الآيات أو السهو فيها.
وعن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة واحد من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة. فقال المشركون : لولا نزل عليه القرآن جملة واحد. فقال الله {كذلك لنثبت به فؤادك} أي أنزلناه عليك متفرقاً ليكون عندك جواب ما يسألونك عنه، ولو أنزلناه عليك جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك جواب ما يسألونك عنه)( ).
ليكون تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن من عمومات قول الله للملائكة[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) فيرى الملائكة كيف أن أصل التنزيل موجود في السماء ويصل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتتقوم به عبادة الله في الأرض، وفيه تأكيد لحكمة الله عز وجل في خلق الإنسان وأسرار إستدامة الحياة في الأرض.
السادسة : تأكيد حقيقة وهي بقاء نص الآيات التي ينزل بها جبرئيل عنده فلا تغيب عنه، وهو من أسرار ومعاني معارضته.
قال مسروق عن عائشة، عن فاطمة أسر إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي)( ).
ويقال(وفلان يُعارِضُني أَي يُبارِيني)( )، والمراد من الحديث المقابلة بين ما تلوه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما عند جبرئيل، يقال عارض الشيء بالشيء معارضة أي قابله، ومنه عارضت كتابي بكتابه.
وقال ابن الأثير: أَي كان يُدارِسُه جمِيعَ ما نزل من القرآن)( )، والمعنى الأول أعلاه أي المقابلة هو الأظهر ويأتي التدارس في طوله وجزءً منه مما يدل على أن جبرئيل يتناول مع النبي محمد صلى الله وآله وسلم تثبيت آياته وسوره في الأرض وتعاهد المسلمين لها وتدوينها كما أنزلت قبل أن يستأثر الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلك نعمة من وجوه:
الأول : ضبط آيات القرآن.
الثاني : منع إختلاف المسلمين في تلاوة وترتيب آيات وسور القرآن.
الثالث : الآية شاهد بأن ترتيب آيات وسور القرآن توقيفي.
الرابع : تأكيد سلامة القرآن من التحريف.
أما بالنسبة للوجه الثاني وهو أن المراد بمصدق هو القرآن ففيه وجوه:
الأول : موافقة نطق حروف وكلمات القرآن كالذي عند جبرئيل.
الثاني : وصول القرآن إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتام والكمال، ليس فيه نقص ولا زيادة لأنه موافق لما عند جبرئيل.
الثالث : سلامة القرآن من التحريف أيام نزوله وما بعدها، بلحاظ مفهوم المشتق في علم الأصول، وهو حقيقة تلبس الذات بالمبدأ حال النسبة، ويتصف القرآن بحقيقة وهي عدم إنقطاع هذا التلبس فلا يطرأ عليه إحتمال المجاز، إذ تلازم القرآن صفة تصديقه لما بين يدي جبرئيل إلى يوم القيامة ليكون جبرئيل حارساً على القرآن وهو من مصاديق الأمانة في قوله تعالى[مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ]( ).
وهل يمكن القول أن من مصاديق قوله تعالى(مطيع) في الآية أعلاه أن جبريل يوجه الملائكة وغيرهم لدفع يد التحريف عن القرآن وهو من معاني قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، وقوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، بتقريب أن الله عز وجل يسخر جنوداً لجبرئيل لحفظ القرآن وسلامته رسماً وتلاوة وتفسيراً، وذات جبرئيل عليه السلام من جنود الله.
الجواب لا مانع من هذا المعنى وقد يطالب بعضهم بدليل أكثر بياناً وأقرب حجة والحق معه.
الرابع : بعث السكينة في قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بخصوص نزول القرآن، وأن الشياطين لا يستطيعون الوصول إليه عند التبليغ وفيما بعده، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ]( ).
وللتمني في الآية أعلاه معنيان:
الأول : التمني بمعنى القراءة والتلاوة، وعن ابن عباس في الآية أعلاه: إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه)( ).
الثاني : حمل لفظ التمني على معناه الظاهر والمتبادر إلى الذهن وهو الرغبة والرجاء في تصديق الناس له وإتباعه في طاعة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي عند المقام إذ نعس، فألقى الشيطان على لسانه كلمة فتكلم بها، وتعلق بها المشركون عليه فقال { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى}( ) فألقى الشيطان على لسانه، ونعس، وإن شفاعتهم لترتجى وإنها لمع الغرانيق العلى، فحفظها المشركون، وأخبرهم الشيطان: أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قرأها فذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله{وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي}( ) فدحر الله الشيطان، ولقن نبيه حجته)( ).
وروى ذات المعنى عن عكرمة، وعن سعيد بن جبير وعن محمد بن كعب القرظي وأبي صالح، ولم يرد الحديث عن صحابي خصوصاً المهاجرين إذ أن نزول سورة النجم وذات الواقعة التي يذكرون وقعت في مكة نعم(أخرج البزار والطبراني وابن مردويه الحديث عن سعيد بن جبير يرفعه إلى ابن عباس)( )، والخبر ضعيف دلالة ومعنى.
الخامس : زجر الكفار عن إثارة أسباب الشك والريب بالقرآن نزولاً وإعجازاً، وبعث الخيبة في نفوسهم ومنعهم من التعدي على التنزيل.
السادس : دعوة أهل الكتاب إلى التدبر في وجوه الإلتقاء ومعاني التصديق بين القرآن من جهة وبين التوراة والإنجيل، لتكون الكتب السماوية كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضاً.
ومن الآيات أن صيغة الفاعل في التصديق جاءت بخصوص القرآن وفيه مسائل:
الأولى : يصدق القرآن الكتب السماوية السابقة، ومن دلالات إعجازه أن إثبات نزوله من عند الله لا يتوقف على تصديقها، بل بتجلى بإعجازه الذاتي أيضا مما يؤكد صدق نزوله.
الثانية : بيان فضل الله عز وجل، في نزول التوثيق السماوي للكتب السماوية السابقة.
ومن إعجاز القرآن الغيري أن تصديقه هذا مستمر إلى يوم القيامة وفيه نصرة للنبوة والتنزيل وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( )، فتنقطع أيام الرسول وينتقل إلى الرفيق الأعلى ولكن القرآن مستمر في تصديق نبوته، ويتلو المسلمون في كل زمان ومكان الآيات التي تدل على لزوم التصديق به، ليدل في مفهومه على ذم الذين حاربوا الأنبياء وأعرضوا عن دعوتهم إلى الله.
الثالثة : فضح التحريف الذي طرأ على الكتب السماوية السابقة بعرض مضامينها على القرآن، ليكون من أسرار السنة النبوية قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعرض سنته على القرآن.
الرابعة : مجيء القرآن بالأحكام الشرعية والسنن العبادية وإكتفاء المسلمين كتنزيل جامع، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وليكون تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة من الإطلاق في هذا البيان.
أما بالنسبة للوجه الثالث وهو أن النبي محمداً هو المصدق بلحاظ أن لفظ مصدقاً حال للمضاف إليه في(قلبك) ليكون معنى الضمير في(يديه) والموضوع الذي يصدّقه النبي محمد على وجوه:
الأول : تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما بين يديه من النبوات وأتباع الأنبياء.
الثاني : بين يدي قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من صيغ التقوى والصلاح.
الثالث : بين يدي القرآن من الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل.
الرابع : إرادة جبرئيل وما بين يديه من آيات القرآن ومضامينها القدسية.
وتتضمن جملة(نزله على قلبك) أفراداً هي:
الأول : فضل الله عز وجل في الأمر والإذن بنزول جبرئيل بالقرآن لقوله تعالى(بإذن الله).
الثاني : النازل بالقرآن وهو جبرئيل.
الثالث : الكتاب الذي نزل به جبرئيل وهو القرآن.
الرابع : جهة النزول وهي قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه آية بالإكرام وشاهد على ثبوت التنزيل، وعدم مغادرته لقلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه يصل إلى القلب والعقل قبل أن يصل إلى الحواس.
وهل في الآية إخبار عن توصل العلم والتقنية الحديثة إلى صيغ من العلم تخاطب العقل مباشرة وتتعدى الحواس وتجعلها مرآة لتلك العلوم بعد تلقيها .
الجواب نعم، وفيه تقريب للعلوم للأذهان وتيسير للطلبة وإرتقاء وسبب للتوسعة في المناهج الدراسية وسمو درجات التحصيل.
وفي تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما بين يديه مسائل:
الأولى : شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على صدق نبوة موسى وعيسى عليهما السلام والأنبياء السابقين، وهو من عمومات قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
الثانية : حكم وإخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن اليهود والنصارى أهل كتاب وجواز بقائهم على ملتهم، وليس من حدّ لمنافع هذا الحكم على المسلمين وأهل الكتاب مجتمعين ومتفرقين، وفيه طرد للحسد من النفوس ودعوة للألفة ونبذ الإقتتال بينهم , قال تعالى[وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى]( )، وفيه بيان للتباين بين أهل الكتاب وبين عبدة الأوثان والكفار .
وفي المجوس ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: سُنوا بهم سُنةَ أهلِ الكِتاب، غير ألا تنكحوا نساءهم، ولا تأكلوا ذبائحهم)( ).
الثالثة : الآية مصداق لتفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشهادته وتصديقه للكتب السابقة، وموضوعية هذه الشهادة حجة في تثبيت صدق نزولها بين أهل الأرض إلى يوم القيامة.
الرابعة : موضوعية شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على صدق نزول التوراة والإنجيل يوم القيامة، وسماع أهل المحشر له، وهو يتلو آيات القرآن التي تدل على صدق نبوة موسى وعيسى عليهما السلام وتبين جهاده وجهاد المسلمين في تثبيت هذه الحقيقة، قال عبد الله بن مسعود : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اقرأ عليَّ قلت : يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل، قال : نعم . إني أحب أن أسمعه من غيري . فقرأت سورة النساء حتى أتيت على هذه الآية { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } فقال: حسبك الآن . . فإذا عيناه تذرفان ( ).
الخامسة : موافقة الوقائع والأحداث لآيات القرآن ودلالاتها، وتحتمل تلك الوقائع في ذاتها وجوهاً :
الأول : الأوامر والنواهي الإلهية وأحكام الحلال والحرام.
الثاني : ما يأمر به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الثالث : المعارك والدفاع والكتائب والسرايا أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعن أنس بن مالك قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة والمدينة فتراءينا الهلال . الحديث . وفيه : فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس . يقول هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله . قال : فقال عمر : فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله وعليه وسلم ، فجعلوا في بئر بعضهم على بعض ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم ، فقال: يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقاً . قال عمر : يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها؟ قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا على شيئاً( ).
وعن أنس بن مالك ترك قتلى بدر أياماً حتى جيفوا ، ثم أتاهم فقام يناديهم ، فقال : يا أمية بن خلف ، يا أبا جهل بن هشام ، يا عتبة بن ربيعة؛ هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً( ).
الرابع : إحاطة القرآن باللامتناهي من الوقائع والأحداث وإلى يوم القيامة، ليكون من معاني (ما بين يديه) الإطلاق الزماني في بيان ودلالة وتصديق القرآن للوقائع، وفيه مسائل :
الأولى : إنه شاهد متجدد على إعجاز القرآن بالإخبار عن علوم الغيب التي لا يعلمها إلا الله.
الثانية: إنه دعوة متجددة للناس للتصديق به.
الثالثة : لزوم إكرام جبرئيل وعدم عداوته لأنه نزل بما فيه خير ومنفعة البشرية إلى يوم القيامة.
الرابعة : جذب الناس للرجوع إلى القرآن والصدور عن آياته في علوم الغيب ومعرفة وتحليل وقائع التأريخ.
الخامسة : من خصائص هذا التصديق إنتفاع المؤمنين منه يوم القيامة لأنه باب ومناسبة للعمل الصالح وجني الثمرات.
وقال المفسرون ان الذي بين يديه هو الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء، ومنهم من قال المقصود هو التوراة خاصة، ولكن الآية اعم وتتعلق بأحكام التنزيل وكيفيته وأوانه وترتيبه وتنجيمه، والحال هنا قيد وحرز ودليل على تمام الأمانة وكمال الأداء.
وفي قوله تعالى[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ]( )، قال ابن عباس المهيمن الأمين قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله. وفي رواية: شهيد عليه. وعن ابن عباس: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} قال: مؤتمنا. وأصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب)( ).
قوله تعالى [وَهُدًى]
ان قيام جبرئيل بانزال القرآن من عند الله عز وجل باب صلاح وسبيل هداية للناس جميعاً.
أي ان قوله تعالى [ وَهُدًى ] ثناء ووصف كريم ودعوة وارشاد الى التدبر في حقيقة فعل جبرئيل، وانه مغاير موضوعاً ومحمولاً لما قد يدعيه بعضهم مما يتعلق بتأريخ الافتراء على الملائكة في تبليغها الوحي والكتب المنزلة حسداً للمسلمين.
فمن كان فعله الهدى كجبرئيل يجب ألا يُعادى، بل لو تنزلنا وتركنا جانباً موضوع عداوته وجعلناها عرضاً خارجياً يبقى بين ايدينا موضوع التنزيل وما فيه من الغايات والمقاصد، اذ ان هذه الكلمة من التنزيل وهي [ وَهُدًى وَرَحْمَةً ]( ) مركبة من وجوه:
الأول : ما فيها من الدلالة على عظيم المنفعة في التنزيل.
الثاني : ان ما قام به جبرئيل عليه السلام وما يتصف به من الأمانة وحسن الأداء رحمة وهدى للعالمين، وقد مدح الله عز وجل جبرئيل بقوله تعالى مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ .
الثالث : الآية رحمة من جهة المنطوق وهي رحمة من جهة المفهوم بما تفيده من الدلالة على زيف الإدعاء بخطأ جبرئيل.
الرابع : في الآية توبيخ لمن يتخذ جبرئيل عدواً له، اذ كيف يعادى من لا يأتي الا بالهداية والفلاح للناس جميعاً، والهداية هنا تنحل الى أفراد متساوية من حيث العدد مع الناس جميعاً ومنهم بنو اسرائيل، وكأن الآية تقول انصتوا وصدقوا بمن يريد لكم الهدى والخير.
الخامس : [ مُصَدِّقًا ] حال وقد يعود الى القرآن، مما يعني ان الآية تتضمن اللوم والذم لأولئك الذين يعادون جبرئيل لأنه نزل بما فيه الهداية، وتتضمن مدح الآية القرآن والدعوة الى العمل بأحكامه.
قوله تعالى [وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ]
البشرى هنا مركبة وذات وجوه متعددة وتنشطر الى بشارات عديدة لاسيما وانها وردت على نحو الاطلاق والعموم من غير تخصيص، ومن أهم تلك البشارات:
الأولى : البشارة التي وُعد بها المؤمنون في التوراة والإنجيل، وفي التنزيل حكاية عن عسى عليه السلام[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
الثانية : بشرى للذين لا يصدقون بتحريف الكتاب والإدعاءات الكاذبة التي تتعلق بنزوله على فريق من أهل الكتاب حصراً.
الثالثة : بشارة للمؤمنين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به جبرئيل عليه السلام.
الرابعة : بشارة الثواب العظيم في الآخرة الذي ينتظر المسلمين الذين يطيعون الله ورسوله ، قال تعالى[يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ]( ).
الخامسة : بشارة فضح الذي يعادون جبرئيل وانتفاء آثار تلك العداوة.
السادسة : بشارة نزول القرآن وأحكام الشريعة وكأنه أمر متوقع ومنتظر.
السابعة : في الآية عز للمؤمنين وتوبيخ للذين يعادون جبرئيل عليه السلام، كما ان فيها اعجازاً تدل عليه في مفهومها من الإخبار عن خيبة وخسارة الذي لا يؤمنون بما جاء به جبرئيل.
الثامنة : البشارة بالنصر على كفار قريش، وأن نزول جبرئيل بالقرآن طريق للغلبة على الكفار، ومقدمة لنزول جبرئيل والملائكة مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام الأولى، وفي نزولهم في معركة أحد قال تعالى[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ]( ).
التاسعة : البشارة للمؤمن عندما يعاين الموت، وبداية رؤيته لمصاديق الإستقبال الكريم من الملائكة، والإخبار الغيبي في القرآن عما ينتظره من السعادة والنعيم.
والآية إنحلالية وتتضمن معاني البشارة للمتحد والمنفرد من المسلمين فتكون آيات القرآن وتلاوتها بشارة نزول البركة والولد الصالح الذي يرث منه الإيمان، قال تعالى في إبراهيم عليه السلام[وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ]( )، أي باركنا على إبراهيم في الأولاد والجاه والشأن بين الناس إلى يوم القيامة.
لقد نزل جبرئيل بالقرآن لتستديم الحياة على الأرض لقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، فلابد من الملازمة بين الوجود الإنساني وعبادة الله، ويحمل لواء العبادة وإلى يوم القيامة المسلمون بتلاوتهم للقرآن والعمل بسننه وأحكامه مع التسليم بأنها نازلة من عند الله، فإن قلت إذن لماذا لم تقل الآية وبشرى للناس.
والجواب من وجوه:
الأول : إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
الثاني : البشارة للمسلمين أعم في موضوعها ودلالاتها.
الثالث : في الآية دعوة للناس للإيمان.
الرابع : المراد من البشارة المعنى الأعم وتغشيها لأحوال الدنيا والآخرة.
الخامس : تقييد وحق البشارة بصيغة الإيمان إخراج للمنافقين والكفار، قال تعالى[بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا]( ).
السادس : إرادة التحدي ببيان حقيقة وهي زيادة القرآن لإيمان المسلمين، وجعلهم يرتقون في منازل التقوى والصلاح، ويمتلكون مجتمعين ومتفرقين القدرة على الحيطة والتوقي من أسباب الشك والريب.
السابع : الآية بلحاظ التفسير الذاتي للقرآن بيان وتأكيد لقوله تعالى[وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى]( )، فنزول جبرئيل بالقرآن هداية للموحدين والمليين ودعوة لهم للنهل من العلوم التي جاء بها فضلاً ونعمة من الله عز وجل، ولم تكتف الآية بالهداية، فلم تقل(وهدى للمؤمنين) بل جمعت بين الهداية والبشارة في آية إعجازية للدلالة على النفع العظيم من القرآن، وأنه يتضمن إصلاح الذات الإنسانية وينمي ملكة الأخلاق الحميدة، ويجذب الناس إلى منازل الهداية ويزيد في إيمانهم ويجعلهم يرتقون في سلم المعارف ودرجات التقوى.
لقد جاء الإحتجاج في هذه الآية بالترغيب والوعد الكريم بذكر خصائص القرآن من الهداية وأسباب البشارة، لتبعث الآية في النفوس الحب لجبرئيل، وتدعو الناس للإنتفاع الأمثل مما نزله به جبرئيل، قال تعالى[وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ]( )،
ويدل قوله تعالى في الثناء على القرآن[وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] على لزوم إجتناب عداوة جبرئيل لأنها تمنع من أسباب الهداية التي رحمة وفضل من الله، وتمنع الآية الإنسان من التفريط بأيامه في الدنيا وتضييع البشارات التي ينزل بها جبرئيل والتي تتغشى العوالم الطولية، الحياة الدنيا، عالم البرزخ، ومواطن الحساب، منازل الجزاء.
قوله تعالى[ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ]الآية 98.
الإعراب
من: اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، كان: فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود على الى (من).
عدواً: خبر كان.
لله: متعلقان بمحذوف صفة لعدو، وملائكته ورسله وجبرئيل وميكال: معطوف على اسم الجلالة.
فان الله عدو: جملة معطوفة على جواب الشرط.
وان: حرف مشبه بالفعل.
اسم الجلالة: اسم ان منصوب بالفتحة.
عدو: خبر ان مرفوع بالضمة.
للكافرين: اللام: حرف جر.
الكافرين: اسم مجرور وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم.
قيل ان معنى جبريل عبد الله، وان اسمه في الملائكة خادم الله، والملائكة يطيعون أمره ويرجعون اليه.
وأخرج الديلمي عن أبي أمامة ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اسم ميكائيل عبيد الله)( )، ولا يعني أنه أصغر منزلة من جبريل بلحاظ التصغير في الاسم.
اللغة
ذكرت في جبريل أكثر من عشر لغات، منها جبريل، بكسر الجيم، واخرى بفتح الجيم، وجبرئيل وهي قراءة اهل الكوفة وتميم قيس، وجبرئل، وجبرين، وجبرئين، وجبرائيل.
وقيل: انه اسم اعجمي عربته العرب، لذا تعددت فيه اللغات ولا ينصرف ، والأقرب انه اسم عربي، وتعدد اللغات في التسمية للتسامح وتباين الألسن فيما اعتادت عليه من الألفاظ لاسيما مع عدم وجود فرد آخر بهذا الإسم.
وميكائيل ذكرت فيه ست لغات، منها ميكال كمفعال وهي لغة أهل الحجاز وبها قرأ أبو عمرو وحفص وميكئيل، وميكاييل.
(وعن الزهري عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: (أتدرون ما اسم جبرائيل من أسمائكم؟ قلنا: لا. قال: اسمه عبد الله، قال: فتدرون ما اسم ميكائيل من أسمائكم؟ قلنا: لا. قال: اسمه عبيد الله، وكل اسم مرجعه إلى “يل” فهو إلى الله)( ).
وعن ابن عباس: جبر، وميكا، واسرا كلها بالأعجمية بمعنى عبد ومملوك، وايل اسم الله تعالى)( ).
في سياق الآيات
فضح الكيد والمكر الذي يواجه الإسلام ونبذ وذم معاداة الملائكة وايجاد الحصانة الذاتية في نفوس المؤمنين من الإفتراء على الملائكة او التشكيك في عظيم مقامهم، والتخويف والوعيد لمن يعادي الملائكة والأنبياء والرسل الذين أخلصوا في العبادة وصدّقوا في التبليغ وأداء الأمانة.
لقد جاءت الآية السابقة بذم فريق يعادون جبرئيل عليه السلام مع انه لم ينزل الا بما هو خير ورحمة للناس جميعاً، والشواهد على صدقه وأمانته بين أيديهم في التوراة والإنجيل، وجاءت هذه الآية لبيان قانون ثابت وهو ان الله عز وجل عدو للكفار الذين يعادون الله وملائكته وجبرئيل وميكائيل.
ثم جاءت الآية التالية لتخبر عن نزول الآيات من عند الله تعالى، وانه سبحانه هو الذي أنزلها وفيه شهادة سماوية على أمانة جبرئيل، وفي الجمع بين هذه الآية والآية السابقة تحذير من عداوة جبرئيل وانها من وجوه الكفر والعناد.
وتحتمل الآية في صلتها بالآية السابقة وجوهاً:
الأول : عطف الآية على الآية السابقة، وكونها جزءً من الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى(قل).
الثاني : الآية ليست معطوفة على الآية السابقة أي ليس هي جزء من القول الذي أمر الله تعالى به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ] بل هي حكم وقانون مستقل، جاء بصيغة الإنذار والتحذير لأهل الملل والناس جميعاً، فمن الكفار من يعادي الأنبياء، ومنهم من يعادي الملائكة , فجاءت الآية لتخبر عن عداوة الله لهم جميعاً، فالله غني عن العالمين.
الثالث : لم تبدأ بحرف العطف (الواو) مع إتحاد موضوعها مع موضوع الآية السابقة لإفادة المعنى الجامع بين الوجهين أعلاه.
فبعد الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبين وظيفة جبرئيل ويقيم الحجة والبرهان على أمانته وانه واسطة ملكوتية في التنزيل، ومن مقتضيات الحكمة ان ينزل ملك من عند الله تعالى بالكتاب والوحي، وفيه شاهد على إشتراك الملائكة في هداية البشر ودعوتهم للصلاح والعبادة وكيف ان الملائكة يؤدون وظائفهم بأمانة تامة ورضا وحسن إمتثال.
جاءت هذه الآية لتبين غضب الله تعالى على الكفار الذين يعادون الملائكة ويفترون عليهم.
وفي الصلة بين هذه الآية والآية التالية[مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ…]( )، وفيها مسائل:
الأولى : تكرر لفظ (من كان عدواً) في الآيتين , وفيه وجوه :
الأول : بين الآيتين عموم وخصوص مطلق، فالآية التالية أعم في موضوعها ودلالاتها.
الثاني : تجلي الحكم في الآية التالية التابع للموضوع، وأن عداوة الله وملائكته ورسله كفر.
الثالث : الإنذار والوعيد من معاداة الله عز وجل والملائكة والأنبياء.
الثانية : بيان منزلة جبرئيل بتكرر إسمه في الآيتين، وفيه وجوه:
الأول : إكرام جبرئيل وبيان عظيم منزلته.
الثاني : إتحاد الموضوع وهو ذم الذي يعادي جبرئيل.
الثالث : معاداة جبرئيل معاداة لله عز وجل والملائكة والرسل، وحرب على التنزيل مطلقا , وفيه إنذار إضافي للذي يجحد برسالة جبرئيل في تنزيل الكتاب، ووعيد للكفار.
الرابع : قد يستقرأ من الآية أن الملائكة لا تنتقم ولا تعادي الإنسان وإن عاداها، ولكن الله عز وجل هو الذي يدافع عن الملائكة , وعن ابن عباس قال: قال أبو جهل لعنه الله: لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأن عنقه. فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : لو فعل لأخذته الملائكة عياناً)( ).
الثالثة : الزجر عن الكفر بالتنزيل.
الرابعة : بيان دفاع الله عز وجل عن الملائكة، وفيه آية وهي دعوة الناس إلى إجتناب معاداة الملائكة وهم في أمن وسلام من معاداة الناس لهم، والتي لا تضر إلا أصحابها، قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ]( ).
الخامسة : الفضل الإلهي والثناء على أطراف التنزيل وهي:
الأول : الملك الذي نزل بالكتاب من الله.
الثاني : التنزيل والكتاب.
الثالث : النبي الذي نزل عليه الكتاب، قال تعالى[قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ]( ).
السادسة : التباين بين خاتمتي الآيتين، فاختتمت آية البحث بقوله تعالى (وبشرى للمؤمنين) وأختتمت الآية التالية بقوله تعالى[فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ] لتتجلى آيات الإعجاز في الجمع بينهما.
وفيه وجوه :
الأول : الترغيب بالإيمان.
الثاني : الثناء على المؤمنين.
الثالث : بيان منافع التنزيل وما فيه من أسباب الهداية.
الرابع : بعث النفرة في النفوس من الكفر والجحود.
الخامس : تأكيد حقيقة وهي أن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وهي مزرعة للآخرة، وأن الناس فيها إما مؤمن وأما كافر، فجاءت آية البحث بالبشارة للمؤمنين على نحو النص والبيان، وجاءت خاتمة الآية التالية بالوعيد للكافرين، فمن يكن الله عدوه يخسر الدنيا والآخرة.
موضوع النزول
لا ينحصر موضوع النزول والغايات السامية في نزول هذه الآية وما قبلها بموضوع عداوة الملائكة، بل يتعدى ليشمل حفظ وتعاهد القرآن بإثبات سلامة طريق نزوله وخلوه من الآفات.
ولا يقتصر علم التفسير على موضوع العداوة الواردة في الآية والمفروض انه يتفرع وينشطر بالتطبيق الفعلي لعلوم القرآن الخاصة بكل آية كما في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “لِكلِّ آيةٍ ظَاهرٌ وبَاطِنٌ وحَدٍّ ومَطْلَع”( ).
ويمكن القول ان هذه الآيات تفسير لقوله تعالى [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون ]( ) أي حفظه في طريقه والرسول النازل به.
إعجاز الآية
تتجلى في الآية صيغة التحدي لمن يعادي جبرئيل، وعدم المهادنة أو الرضا بإختيار بعض وجوه الإيمان دون بعض، وفيها فضح للمباني الفكرية الخاطئة التي ترجع الى التحريف او الشبهات، كما تدل الآية على قوة الاسلام وانعدام التقية في موضوعها او التدرج في العقيدة كما هو حال التدرج في بعض الأحكام الشرعية كالنهي عن شرب الخمر , لأن الآية من وجوه التقارب ومصاديق الإلتقاء بين الإسلام والديانات السابقة كاليهودية والنصرانية، وهو من عمومات قوله تعالى[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ]( )، بلحاظ أن عبادة الله نفي وتبرأ من عداوته وعداوة الملائكة والأنبياء.
ومن إعجاز الآية أنها تبعث النفرة من عداوة الأنبياء والملائكة وتحذر من معاداة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو إنكار الدلالات الباهرات التي جاء بها.
ولم ينحصر موضوع الآية بأيام النزول، فهي باقية في رسمها ومنطوقها ومعانيها إلى يوم القيامة، لذا ففيها تحذير من الكفر والجحود وما يترشح عنهما من المنكرات وأسباب الصدود وهجران مقامات العبودية لله.
وفيها فضح للمكر الخفي بالإسلام وعداوة جبرئيل وبغضه وما يقصد منه عدم الإلتفات لما ينزل به من عند الله، يريدون باظهار هذه العداوة إيجاد النفرة من الوحي وما ينزل به من الأحكام.
وفي الآية إشارة الى المقاصد الخبيثة التي تكمن في عداوة جبرئيل، وتتمثل بالصد عن الإسلام، والإعراض عن القرآن وما فيه من الآيات الإعجازية، وتحريض الناس على عدم الإنصات للتنزيل وفيها بيان لحكم الذين يعادون الملك الذي يقوم بالوحي والتنزيل بأمر من عند الله.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “من كان عدواً” ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الا في هذه الآية والآية السابقة.
وفيه إعجاز إضافي وتحذير من معاداة الملائكة والأنبياء، لأن من يكن الله عدوه يخسر الدنيا والآخرة، ولا يرى الفلاح والتوفيق.
وتبين الآية خسارة الذي يحارب النبي ويعادي ملائكة السماء لأن الله يعاديه، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله عز وجل : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ، ومن كنت خصمه خصمته : رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حرا فأكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيرا استوفى منه ولم يوفه أجره ( ).
وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، إلا أن يكون معنى الخصومة غير العدوة.
الآية سلاح
تنفي الآية الايمان عمن يقوم بتبعيضه لانتفاء الكل بانتفاء جزئه ولأن الايمان كل لا يتجزأ، والواقع يظهر ذلك فمعاداة جبرئيل تعني التشكيك بالكتاب النازل به او على الأقل عدم الايمان به وهو فهو ليس الا رسول كريم من عنده تعالى.
وفي الآية تأديب للمسلمين وبيان لكيفية التعامل مع الناس والملل على أساس الهداية والإيمان، وعدم التفريط في باب إكرام الملائكة، وذم الذين يعادونهم، قال تعالى[وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
لقد جعل الله عز وجل القرآن مدرسة للنهل من علوم السماء، والتزود بالمعارف الإلهية، وتفتح كل آية منه آفاقاً من العلوم، وتمنع من حصول الكدورات والشقاق وأسباب الفرقة، وإنتقلت الآيات من نفي إنفراد أهل الكتاب بالجنة بدليل عدم تمنيهم لقاء الله الى بيان قبح عداوة الإنسان والجماعة لجبريل إذ أنه لم يأتِ الا بما فيه الصلاح والخير للناس جميعاً فهو الواسطة في نزول القرآن، ليكون نزوله بالوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وجاءت هذه الآية بصيغة الإنذار والوعيد للتحذير والنهي ليس عن عداوة جبريل وحده بل عن عداوة الله تعالى والملائكة والأنبياء جميعاً، ليكون هذا الوعيد على وجوه :
الأول : إنه زاجر عن مثل هذه العداوة.
الثاني : إنه وسيلة لإصلاح الناس.
الثالث : الوعيد والتخويف مناسبة لإنصات الناس لآيات القرآن التي هي نازلة من عند الله بواسطة الملك، ونزولها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فبين مضامين الآية ونزول القرآن صلة وتداخل , فالله تعالى هو الذي أنزل القرآن، وهو خالق كل شيء واليه نرجع جميعاً ونقف بين يديه للحساب سواء حرص الناس على الدنيا وودوا أن يعمروا الف سنة أو لم يحرصوا عليها، وهو الذي خلق الملائكة وجعل مسكنهم في السماء وأكرمهم وجعلهم عقولاً من غير شهوة، وليس لهم من عمل الا التسبيح والتهليل.
وفي باب إحتجاج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض قالت الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، ونزل جبرئيل بالقرآن بإذن الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتلقاه الناس بالقبول والرضا والتدبر.
وفيه حجة على الناس جميعاً، ومن يكفر بعدئذ فان الله تعالى عدو له، وإذا كانت عداوة الكافر للملائكة لا تتعدى اللسان، وعداوته للأنبياء باللسان أو اللسان والعقل المحدود، زماناً ومكاناً وموضوعاً فان عداوة الله للكفار في ميادين الحياة كلها، وفي الآخرة ومواطن الحساب والجزاء.
مفهوم الآية
الآية قاعدة كلية ثابتة في الإرادة التكوينية والتشريعية الى يوم القيامة وفيها غاية التحذير والتنبيه للناس جميعاً والتوبيخ بصورة خاصة لأولئك الذين يعادون جبرئيل لأنه نزل بالقرآن من عند الله تعالى.
ومن مفاهيم الآية بيان الدرجة الرفيعة للملائكة عند الله ولزوم الإيمان بما ينزلون به لأنهم الوسائط النورانية بين حضيرة القدس والأنبياء، والعداء لهم يعني الصدود عن الوحي والتنزيل والإنزلاق في هاوية الكفر والضلالة.
وجاءت مضامين الآية صريحة وواضحة لتظهر الملازمة بين عداوة الإنسان لجبرئيل وبين الكفر لتكون من أرقى معاني الإنذار والتوبيخ والحجة ، وتدعو الآية إلى إكرام الملائكة كمقدمة للتصديق والتسليم لما نزلوا به من عند الله وتنهى عن الإصرار على الإمتناع عن الإنصات لآيات القرآن.
وفي الآية مسائل:
الأولى: إبتداء الآية كبداية الآية السابقة موضوعاً وشرطاً مع ان النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، فجاءت الآية السابقة بخصوص ذم العداوة لجبرئيل، وجاءت هذه الآية بذم العداوة لله والملائكة والأنبياء.
الثانية: التحذير الإضافي من عداوة جبرئيل.
الثالثة: مع أن الآية ذكرت الملائكة فإنها عادت وذكرت جبرئيل وميكائيل على نحو التعيين، للبيان ولما لهما من الموضوعية في حياة الناس وعقائدهم.
الرابعة: عداوة الله تعالى للذين يعادونه ويعادون ملائكته ورسله، وكأنها من المعلول الذي لا يتخلف عن علته.
الخامسة: عداوة جبرئيل من الكفر والجحود، لأنه نزل بالوحي من عند الله، ومن مصاديق عداوته عدم التصديق بما أنزل الله تعالى.
وتدل الآية على اتحاد سنخية تلك العداوة وإن تعددت وجوهها وموضوعها، وهذا الإتحاد سبب لمجيء الحكم متحداً بعداوة الله تعالى للكافرين جميعاً، ويدل في مفهومه على حب الله تعالى للمؤمنين، وهذا الحب سبيل لنيل المراتب العالية في جنة الخلد.
الآية لطف
تبين الآية القبح الذاتي للكفر، وتعدد وجوهه، وتذكر فرداً من أفراده وهو عداوة الله وعداوة ملائكته ورسله وما يترتب عليه من الأثر في الدنيا والآخرة، إذ أن الفرد أو الأمة التي يعاديها الله تخسر النشأتين، فإخبار الآية بعداوة الله تعالى للذين يعادون الملائكة والأنبياء لطف بالناس لما فيها من التحذير والإنذار والزجر عن مثل هذه العداوة.
ومن الإعجاز في منطوق الآية أنها لم تعين أفراداً أو أهل ملة مخصوصة جاءت بصيغة الشرط وبلغة الإطلاق إذ أنها ذكرت أفراداً من عداوة الإنسان وهي:
الأول: العداوة لله تعالى.
الثاني: العداوة للملائكة.
الثالث: العداوة للأنبياء.
الرابع: العداوة لجبرئيل.
الخامس: العداوة لميكائيل.
ولو كان جماعة او فريق يعادون نبياً من الأنبياء يؤمنون بغيره فهل تصدق عليهم أحكام الآية وأنهم من الكافرين أم لا، الجواب هو الأول من وجوه:
الأول: وجوب التصديق بالأنبياء على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي.
الثاني: المراد التصديق بآيات النبوة.
الثالث: يشترك الملائكة والأنبياء عداوة النبي عداوة لله تعالى.
والآية مدرسة في الإحتجاج البرهان، والدعوة لتهذيب النفوس، والخشية من الله تعالى في السر والعلانية.
إفاضات الآية
تبين الآية حقيقة وهي أن الله ينتصر لملائكته وأنبيائه، ومن يبغضهم ويعاديهم فان الله تعالى يبغضه ويعاديه، ويحجب عنه أسباب التوفيق والهداية لتكون عداوة الله له نفعاً للمؤمنين وللناس جميعاً، لما فيها من التأديب والإصلاح، ومنع الكفار من الإستحواذ على قلوب الناس والتأثير على إختياراتهم، بالإضافة الى النفع العظيم لهذه الآية في تفقه الناس في أمور الدين، وسنن التوحيد، ومعرفة المقامات السامية للملائكة والأنبياء، فليس للإنسان أن يقول مادمت اؤمن بالله فليس علي ضير بالتعدي والإساءة الى الملائكة أو الأنبياء.
بل جاءت الآية بالنهي عن عداوتهم والتحذير منها، مع أن العداوة أدنى مرتبة ومقدمة للتعدي، وتدعو الآية في مفهومها الى الإيمان بالملائكة والأنبياء وإجتناب عداوتهم كلاً أو بعضاً، وهذا الإيمان من شرائط العبودية والخضوع لله تعالى لأنه سبحانه جعلهم وسائط نورانية، وأسباباً للهداية والرشاد.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت الآية بقاعدة كلية وهي ان العداوة لله والملائكة كفر وجحود بالربوبية، ومن يكن كافراً فان الله عز وجل هو عدوه، وجاءت الآية السابقة بذكر العداوة لجبرئيل، أما هذه الآية فجاءت بالمعنى الأعم لأنها قانون وقاعدة كلية، وفيه نكتة وهي أن عداوة جبرئيل عداوة لله عز وجل، وتبين الآية القبح الذاتي والعرضي لعداوة الملائكة وسوء عاقبتها.
إبتدات الآية باسم الشرط(من) وقيل من خصائص الشرط أن يكون في الإستقبال , نحو: ان جاء شهر رمضان فصمه) ولكن موضوع وحكم أدوات الشرط أعم بلحاظ أفراد الزمان فقد يراد منها الماضي بحسب القرائن والدلائل، وتبين الآية مدى الجحود والصدود عند بعض الناس والضرر الذي يجلبه الكافر على نفسه، بقبح إختياره، وسوء فعله[ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ]( ).
ومن إعجاز الآية تحذيرها من عداوة الله عز وجل، وعداوة كل من :
الأول : ملائكة الله.
الثاني : رسل الله.
الثالث : جبرئيل.
الرابع : ميكائيل.
وجاء ذكر جبرئيل وميكائيل مع دخولهما في العموم وهو الملائكة لبيان عظيم منزلتهما، ويسمى في البلاغة بالتجريد أي الإفراد بالذكر مع شموله بالعموم، وذكرهما خاصة بعد العموم من أسرار قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً]( )، وفيه مسائل:
الأولى : تأكيد موضوع النزول وهو لزوم عدم عداوة جبرئيل.
الثانية : بيان صلة الملائكة مع بني آدم وأنها تتقوم بأسباب الهداية والتنزيل.
الثالثة : تأكيد إكرام وتفضيل جبرئيل وميكائيل، وبيان ما لهما من خصوصية في صلة أهل السماء بأهل الأرض، وفي العموم والخصوص قال تعالى[فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ]( )، عن أبي علي الفارسي أن المراد بالملائكة في آية البحث غير جبرئيل وميكائيل) ( ).
لقد إبتدأت الآية بالجملة الشرطية والتي تتعلق بالعداوة التي هي خلاف الوظيفة الشرعية، للإنسان قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وأختتمت الآية بقانون كلي وهو عداوة الله للكافرين، وتولي الله نفسه محاربة الذي يعادي الملائكة والرسل لتتضمن الخاتمة الوعيد والإنذار، وهو من أسرار الجملة الشرطية في القرآن فلا يختص موضوعها بجواب الشرط بل يشمل الأمر والنهي، والبشارة والوعيد ليتجلى عموم النفع في الآيات ومضامينها، وهو من إعجاز القرآن بلحاظ تعدد علوم وأسرار البلاغة والفصاحة فيه بما يفوق كلام البشر في والمصداق والدلالة والحكم والأثر.
وتدل الآية على كفاية الله سبحانه لملائكته وأنبيائه، مما يدل على سلب التوفيق ممن يعاديهم ، والحيلولة دون بلوغه مراتب النجاح أو الدوام في منازل العز.
التفسير الذاتي
إبتدأت الآية السابقة بالأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يحتج على فريق من أهل الكتاب، ويخبرهم بأن عداوة جبريل لا أصل لها، وهي معصية [قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ] ( )، وإبتدأت هذه الآية باسم الشرط (من) وتحتمل وجهين:
الأول: الآية معطوفة على الآية السابقة، والتقدير (قل من كان عدواً لله وملائكته).
الثاني : الآية مستقلة، وهي جملة خبرية، وليس من الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقوله .
ومن إعجاز القرآن عدم التعارض بين الوجهين، فحتى لو كانت جملة خبرية فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يتخذونها سلاحاً.
والأقرب أنها آية مستقلة، جاءت بياناً وتفصيلاً، بدليل أن موضوع الإحتجاج ينحصر بعداوة جبرئيل وأنهم لايعادون ميكائيل، وتؤكد هذه الآية وحدة موضوع وحكم الإيمان، وأن التفريط بركن من أركانه من أفراد الكفر والضلالة، وحقيقة العداوة هي الإضرار بالطرف الآخر، والسعي لهذا الإضرار، ولكن الله عز وجل منزه عن تلقي العداوة، قال تعالى [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ), وما يلحق الإنسان من البلاء والعذاب إنما بسبب سوء فعله.
والعداوة هنا المعصية والإمتناع عن إتيان الفرائض، وكذا بالنسبة للملائكة فان عداوة الإنسان لهم لا تلحق بهم الضرر والأذى، ولكنها عبارة عن الكفر بما ينزلون به على الأنبياء والكفر بهم.
ولقد نزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يوم بدر وأحد والخندق وغيرها , قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )، فهل الكفار الذين قاتلوا المسلمين يؤمئذ ممن يعادي الله فجعلهم الملائكة أعداء لهم ونزلوا لقتالهم لأنهم يحاربون النبوة والإيمان، ومن عداوة الله للكافرين أن ينزل ملائكة لقتالهم وهزيمتهم في المعركة , منعا لغلبة الباطل وسنن الكفر.
والعداوة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، والجحود بالرسالة من العداوة، وكذا بغض بعض الملائكة.
وفي الآية دعوة للكفار والمشركين لدخول الإسلام، والإمتناع عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وتحتمل عداوة الله عز وجل للكافرين وجوهاً:
الأول: الإنتقام منهم في الدنيا.
الثاني: سلب التوفيق منهم.
الثالث: حجبهم عن منازل الرئاسة والقدرة على البطش.
الرابع: إقامتهم في العذاب الأليم يوم القيامة.
لقد جاءت الآية بالشرط والجزاء، والموضوع والحكم، وبيان حقيقة أن الذي يعادي الأنبياء أو الملائكة يكون من الخاسرين لأن الله هو عدوه، وعداوة الله عز وجل مطلقة في زمانها لا تنحصر بعالم الآخرة , قال تعالى [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى]( ).
وقد تفضل الله عز وجل برسل من الملائكة والناس، وأمر بتصديقهم، ورزقهم الشواهد والبراهين على صدقهم من المعجزات للأنبياء والقدرات العجبية والخارقة للملائكة، ومجيئهم بالوحي للأنبياء.
وتبعث الآية الفزع والخوف في قلوب الكفار، سواء الذين يجحدون بالتنزيل والنبوة، أو يعادون الملائكة، فأخبرت بأن الله عز وجل عدوهم، مما يدل على خسارتهم في النشأتين، لتكون هناك ملازمة دائمة بين الكفر والخسارة، وهو من عمومات قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، لأن عداوة الله للكافرين سبب لضعفهم ووهنهم وعجزهم عن إلحاق الضرر بالمسلمين.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: بيان قبح عداوة الإنسان لله والملائكة والأنبياء.
الثانية: من يعادي الملائكة لا يضرهم، ولكنه يضر نفسه.
الثالثة: الإشارة الى ما لاقاه الأنبياء في ذات الله، وما تحملوه من الأذى من القوم الكافرين.
الرابعة: وجوب التصديق بكل ما نزل به الملائكة وما أخبر به الأنبياء من الوحي، ومن عداوتهم عدم التصديق بالنبوة والتنزيل، وعدم الرضا بما فعلوه طاعة لله، وصلاحاً للبشرية.
الخامسة: الإخبار عن قانون ثابت وهو عداوة الله تعالى للكافرين مجتمعين ومتفرقين.
السادسة: تحذير المسلمين من أعداء الله الذين يحاربون الأنبياء، ويعادون جبرئيل الذي نزل بالوحي , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ] ( ).
السابعة: الإنذار والوعيد للذين يعادون الملائكة والأنبياء لأن عداوتهم عداوة لله تعالى، والإخبار عما ينتظرهم من العذاب الأليم جزاء لهم، قال تعالى [وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ]( ).
الثامنة: توكيد مضامين الآية السابقة بذكر جبرئيل، وذكر ميكائيل، لبيان عدم الفرق بينهما، مع الإتحاد في المرتبة السامية والدرجة الرفيعة والطاعة المطلقة لله، قال تعالى[وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
التاسعة : تحذير المسلمين ممن يعادي جبرئيل أو الملائكة الآخرين، لأن هذه العداوة من الكفر، قال تعالى[إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا]( ).
العاشرة: جاءت خاتمة الآية أعم في موضوعها، إذ أنها تشمل الكفر والجحود والإخبار عن عداوة الله لجميع الكفار والمشركين، وفيه بشارة الظفر والنصر للمسلمين، فمن يعاديه الله لابد وأن تلحقه الهزيمة ويكون من الخاسرين.
الحادية عشرة: تدعو الآية المسلمين الى الإحتجاج على الكفار وأهل الجحود، مع الصبر وتعاهد إكرام الملائكة والأنبياء.
الثانية عشرة: بيان عظيم منزلة جبريل وميكائيل عند الله وبين الملائكة, إذ جاء ذكرهما بعد ذكر الملائكة وهو من عطف الخاص على العام لخصوصية وشأن وموضوع في الخاص.
ومن الآيات ان إسميهما ذكرا بعد ذكر الرسل، وفيه إشارة الى لزوم عدم عداوة أي نبي من الأنبياء أيضاً , ولم يذكر اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لورود لفظ الرسل وهو منهم , قال تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( )، ولأن موضوع الآيات هو النهي عن عداوة جبرئيل وبيان قبحها الذاتي والغيري.
التفسير
قوله تعالى [مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ]
الآية إخبار عن حقيقة كونية ثابتة تتضمن عظيم منزلة الملائكة عند الله عز وجل وحصانتهم وفيض الأنوار الإلهية الذي يتغشى عالم الملكوت، وكما إصطفاهم الله بالعلم والإستغراق في المعرفة والإنقطاع الى العبادة كفاهم شر العداوة والفتنة، فأنت ترى معصية ابليس وتمرده ورفضه الإمتثال في السجود لآدم لم تؤثر سلباً على تسليم الملائكة وإنقيادهم طوعاً لأمر الله تعالى.
فجاءت هذه الآية لتؤكد وحدة موضوع الإيمان وعموم افراده المجموعي وعدم قبوله التجزئة وبيان بعض ما شرف الله عز وجل به الملائكة.
ومن أركان الربوبية الملكية المطلقة لله عز وجل وقانون استجابة الممكنات وخضوعها القهري لواجب الوجود، وقد مدح الله عز وجل الملائكة[لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( )، أي انهم يؤمرون من عند الله تعالى، واذا ثبت طاعتهم لجبرئيل فإنما هو واسطة لطاعة الله تعالى.
وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره لاسيما وقد ورد في الخبر عن وجود جنود لبعض الملائكة كما في ملك الموت، وستبقى هذه الآية درساً إيمانياً لتأديب المسلمين في الإيمان بالملائكة واكرامهم وادراك انهم عباد منقادون لأمره تعالى، وهي ارشاد الى فضل الله تعالى في اكرامه لأوليائه وعباده المخلصين الدائبين في طاعته.
كما انها حجة على بني اسرائيل وعلى كل من لا يؤمن بالملائكة أي يحاول الإنتقاص من شأنهم، وهي ارشاد لطرق الإيمان والهداية بالتدبر فيما يأتي به الملائكة من عند الله عز وجل.
بحث كلامي
الملائكة خلق عظيم من خلق الله تعالى، وكل واحد منهم آية تدل على بديع صنعه تعالى وطريق للإستدلال وفق البرهان الإني، أي الإستدلال من المعلول على العلة.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله تعالى من الملائكة…) الحديث.
والملائكة دائبون في العبادات الباهظة في جميع الأوقات لا تتخلل عبادتهم فترة سكون او قنوط او ضعف او وهن او فراغ، يبتعدون عن التقصير في طاعة الله وعن النقصان في التسبيح، ويبادرون بحزم الى تنفيذ ما يأمرهم الله به وما يرضيه عنهم، وهم دائماً بعيدون عن الغفلة التي هي من اعراض الذات الإنسانية بما يستوجب أسمى ضروب الأخلاص في العبادة، قال تعالى[وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ]( ).
ان الإيمان بالملائكة اقرار بالبعثة النبوية وتصديق بالكتب السماوية فهم رسل الله إلى أنبيائه، وليس بين الأنبياء عداوة، وهم متلبسون بأعلى مراتب التقوى والصلاح، لذا فان مدح اهل التقوى نوع تقرب الى الله تعالى، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
ولكل من جبرئيل وميكائيل منزلة وجاه عند الله ومكانة متقدمة في تقوى الله وطاعته وتنفيذ كل يؤمران به من غير تحريف او تهاون او ضعف او تقصير، وروي عن الإمام علي عليه السلام قال: (مؤذن أهل السماوات جبرئيل، وإمامهم ميكائيل يؤم بهم عند البيت المعمور).
وتدل الآية الكريمة في مفهومها على أمور:
الأول : الحث على اكرام ومحبة أولياء الله وحملة عرشه وملائكته.
الثاني : الإتعاظ والإعتبار من سيرة الملائكة مع عظيم خلقهم.
الثالث : تعليم المسلمين الدعاء للأولياء واهل الإيمان والتقوى.
الرابع : اشاعة مضامين العبادة.
الخامس : حث المسلمين على الإرتقاء في منازل العبادة والإقتداء بالملائكة.
السادس : الشعور بالتقصير في العبادة مقارنة مع اجتهاد الملائكة وتفانيهم في التسبيح والعبادة.
السابع : مع عجزنا عن بلوغ درجات الملائكة في العبادة فاننا نتوسل إلى الله تعالى بهم وبذكر عبادتهم.
الثامن : يدل إستحضار ذكر الملائكة على التفقه العقائدي والتفات المسلم إلى قبائل وأصناف الملائكة.
ومن الإعجاز في الآية ان الله عز وجل جعل من يعادي الملائكة والرسل بعرض واحد مع من يعاديه سبحانه.
وكما قام جبرئيل بالنزول بالقرآن من عنده تعالى فانه صاحب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في صعوده في السماء ليلة الاسراء وعرّفه على الملائكة وهم في حال دائبة من الإشتغال بالتسبيح والتقديس والخشوع مطأطئين رؤوسهم اجلالاً وحباً ورهبة لمقام الربوبية.
وفي حديث الإسراء قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثم مررنا بملائكة من ملائكة الله عز وجل خلقهم الله كيف شاء ووضع وجوههم كيف شاء ليس شيء من اطباق اجسادهم الا وهو يسبح الله ويحمده من كل ناحية بأصوات مختلفة اصواتهم مرتفعة بالتحميد والبكاء من خشية الله، فسألت جبرئيل عنهم فقال كما ترى خلقوا ان الملك منهم الى جانب صاحبه ما كلمه كلمة قط ولا رفعوا رؤوسهم الى ما فوقها ولا خفضوها الى ما تحتهم خوفاً من الله وخشوعاً فسلمت عليهم فردوا علي ايماء برؤوسهم لا ينظرون الي من الخشوع.
فقال لهم جبريل: هذا محمد نبي الرحمة ارسله الله الى العباد رسولاً نبياً وهو خاتم النبيين وسيدهم افلا تكلمونه؟ قال فلما سمعوا ذلك من جبريل اقبلوا علي بالسلام واكرموني وبشروني بالخير لي ولأمتي( ).
ويدل الحديث على حفاوة الملائكة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستبشارهم بقدومه وكيف انهم يردون التحية بالإيماء لأولوية التسبيح والتحميد وانشغالهم بهما.
قوله تعالى [وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ]
جاء العطف هنا بالواو لأنها تنفرد بين حروف العطف بعطف الخاص على العام وبالعكس، وجبريل وميكائيل من الملائكة وهي هنا لا تفيد الجمع والمعية، فان العداوة لجبرئيل او ميكائيل وحده أمر مبغوض ويسبب غضبه تعالى، بدليل قوله تعالى في الآية السابقة[قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ]( ).
وقيل إن جبريل وميكائيل لما كانا أميري الملائكة لم يدخلا في لفظ الملائكة أولاً، كما أن الأمير لا يدخل في مسمّى الجند، حكاه الرماني في العجائب( ).
لقد نزل جبرئيل بالخير كله، ومن الآيات أن بركات نزوله متجددة في كل يوم وموضع من الأرض، وهل تلاوة المسلمين للقرآن في الصلاة من الخير الذي نزل به جبرئيل , الجواب نعم من وجوه :
الأول : النفع الخاص للمسلم الذي يتلو الآيات.
الثاني : إنتفاع المسلمين من تلاوتهم لآيات القرآن، وتلاوة الفرد الواحد لها.
الثالث : بالتلاوة تنزل شآبيب الرحمة والبركات على المسلمين والناس جميعاً.
الرابع : تلاوة الآيات دعوة لمحبة الناس لجبرئيل، والتبرأ من عداوته لأنه نزل بالقرآن.
الخامس : الثواب العظيم للذي يتلو آيات القرآن.
وتؤسس هذه الآية لقانون كلي من جهات :
الأولى : تأكيد وجود جبرئيل وميكائيل، وأن كلاً منهما ملك مقرب.
الثانية : إكرام التنزيل والكتاب السماوي بذاته وشخص النبي المنزل عليه والملك الذي نزل به.
الثالثة : لمَا كان الملائكة عباد مطيعين لله عز وجل فانه سبحانه يدافع عنهم ويعادي من عاداهم، وفي الحديث القدسي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب ( ).
قوله تعالى [ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ]
إنذار ووعيد واطلاق صفة الكفر على من يعادي الملائكة مع ان عداوتهم لا يمكن تصورها بالوجود الخارجي المادي بل انها لا تخرج عن اللفظ، لقد شرّف الله عز وجل الملائكة بأن جعلهم وسائط مباركة تنبعث الى الذوات الطاهرة من البشر، وبأسباب الرحمة تارة او انزال العقاب الإلهي تارة اخرى، فهم رسل ونواب وحفظة وخزنة للعلم والتنزيل، فلا يفعلون الا ما يأمرهم به الله تعالى ففعلهم منه تعالى وبأمره فلابد ان يكونوا أمناء دائبين في طاعته مستغرقين في حضرة جلاله ويستضيئون بأنوار قدسه ومن أبغضهم او حاربهم فقد جحد وكفر.
وتبين الآية الخسارة المطلقة لمن يعادي الملائكة لأنه يتعرض لغضب الله تعالى، ولم تتعرض الآية لرد الملائكة على هذه العداوة بالإعتداء بالمثل او العفو او منزلة بينهما، الظاهر ان الملائكة مشغولون عن هذه العداوة بالتسبيح ولا يعتنون بها لعدم اعتبارها، ولأنها تعود على اصحابها بالضرر والأذى ثم انهم لا يفعلون شيئاً الا بأمر الله تعالى، ويكفيهم عزاً وفخراً ان الله عدو لمن عاداهم.
تدل الآية في مفهومها على تقسيم الناس إلى قسمين :
الأول : مؤمنون.
الثاني : الكافرون.
وهل يمكن الدلالة على وجود قسم ثالث هو برزخ بينهما ليس بمؤمن ولا كافر، الجواب لا، إذ جعل الله عز وجل الإمتحان والإختبار من خصائص أهل الحياة الدنيا، وهو من أسرار خلق الإنسان وجعله خليفة فيها.
ومن عداوة الله للكافرين ما أعدّ لهم يوم القيامة , قال تعالى[إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً]( )، لتكون آية البحث رحمة بالناس جميعاً، ودعوة للإنابة وهجران معاداة الملائكة والأنبياء، وقيل أن جميع الخلق لو تعانوا على عداوة الله لا يمكن أن يضروه بشئ، وهذا الكلام صحيح في ذاته ولكن لابد من الإلتفات إلى حقيقة وهي أنه في كل زمان هناك أمة مؤمنة تحارب الذين يعادون الله.
ليفوز المسلمون بنعمة الجهاد في سبيله تعالى بالقول والفعل.
وتحتمل العداوة في متعلقها الزماني وجوهاً:
الأول : عداوة الله عز وجل للكافرين بأن يدخلهم النار لأن الآخرة دار حساب وجزاء بلا عمل.
الثاني : إرادة عداوة الله للكافرين في الدنيا، فصحيح أن الدنيا دار إمتحان وإختبار إلا أن الذي يكفر بالله يعاديه الله بتركه وضلالته، قال تعالى[كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ]( ).
وهل يكون من عداوة الله الإنتقاص من رزق الإنسان الجواب لا، فالدنيا دار فضل الله وموضوع نزول النعم منه سبحانه ومن أسمائه الجواد الكريم، قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ).
الثالث : العداوة بالمعنى الأعم الشامل للحياة الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الثالث لأصالة الإطلاق.
بحث قرآني
مع ان الآية القرانية لها عدة وجوه ومعاني وتأويلات فأنها ايضاً لا تنحصر بموضوع واحد، فقد يكون صدرها في شيء ووسطها في شيء وذيلها في شيء آخر ويعرف ذلك بالقرائن والامارات والبينة اللغوية او القرآنية او بالسياق ونظم الآية.
ومن اعجاز القرآن ان الآية تختتم احياناً بقاعدة او ضابطة كلية، او بحكم أعم مما يترتب على ما تتضمنه من الوصف، لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف، بينما يكون الحكم في الآية أعم من موضوعها ومناسبته وتتفرع عنه عدة دراسات واحكام.
والأولى تأسيس مدرسة قرآنية تعنى بخواتيم الآيات التي تتضمن قواعد واحكاماً عامة وما يتفرع عنها من المسائل مما ينفع في معرفة حقائق الاشياء وماهياتها واسرار القرآن بالمفهوم الأعم من الدلالة على المعنى المنحصر بالتعريف اللفظي، وبما ينفع في إقتباس الدروس والمواعظ منها متفرقة ومجتمعة.
لقد جاء صدر الآية بالذم والوعيد لمن عادى الله والملائكة والرسل، وخاتمتها جاءت بالإخبار عن عداوة الله سبحانه للكفار سواء اعلنوا العداوة او لم يعلنوها لأن اعلانهم العداوة نوع كفر بالذات والنتائج..
قوله تعالى[وَلقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ] الآية 99.
الإعراب و اللغة
ولقد: الواو استئنافية، وقالوا ان اللام جواب لقسم محذوف، ولكنه ليس قسماً حقيقة او مجازاً، والظاهر انها لام الإبتداء والتي تسمى ايضاً لام التوكيد لأنه معناها وقد تقدم الكلام فيه، قد: حرف تحقيق.
أنزلنا: فعل ماض، وفاعل اليك: جار ومجرور، متعلقان بانزلنا.
آيات: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم، بينات: صفة مجرور بالياء لأنه جمع مؤنث سالم.
وما: الواو عاطفة، ما: نافية، يكفر: فعل مضارع مرفوع بالضمة، بها: جار ومجرور متعلقان بيكفر، الا: اداة حصر.
الفاسقون: فاعل يكفر , مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم.
الفسق لغة: الخروج عن الموضع، وتقول العرب اذا خرجت الرطبة عن قشرتها قد فسقت الرطبة من قشرتها، وهو في الإصطلاح اختيار المعصية والخروج عن طاعة الله،
(عن الأخفش: فَسْقاً وفُسوقاً أي فَجَرَ)( ).
بحث علمي ولغوي
الواو: حرف عطف وبه قال سيبويه واكثر النحويين، وهي عاطفة على مفهوم تقديره وما يكفر بالآيات، وقال بعضهم يحتمل ان تكون زائدة، وليس من حرف زائد في القرآن، فيطرح هذا القول تخصصاً وليس تخصيصاً لقاعدة كلية قرآنية وهي خلوه من الزيادة رسماً ولفظاً، وان كانت الأحرف الزائدة وفق الصناعة النحوية يؤتى بها غالباً للتوكيد.
ولا يقال بزيادة الحرف مع وجود معنى ينصرف له.
وعن سيبويه: “رب توكيد لازم حتى يصير كأنه من الكلمة”.
ولكن الإختلاف في السنخية ظاهر بين الزيادة وافادة المعنى، ومعاني الألفاظ القرآنية خالية من الزيادة مطلقاً، واللغة فيها سعة من حيث المصطلحات والمعاني وقابلية كلمات القرآن وصلاحيتها كمسميات لأسماء إصطلاحية نحوية مناسبة.
ولا بأس من تأسيس قاعدة كلية وهي اشتقاق المفهوم الاصطلاحي من المعنى اللغوي للفظ مع لحاظ إصطلاحات العلوم الأخرى كيلا يحصل تناف في المعنى الاصطلاحي للفظ، أي لا يكون له معنى اصطلاحي في علم مغاير لمعنى ومفهوم اصطلاحي في علم آخر لأنه لا ينطبق عليه حينئذ الإشتراك اللفظي او المعنوي، ولا بأس بدراسة مسألة كبرى وهي توحيد اصطلاحات العلوم وبيان اصطلاحات علوم القرآن خاصة مع التنقيح بصيغ التحقيق.
ولو تنزلنا وقلنا بالحرف الزائد فانه يتعارض في باب علوم القرآن مع القاعدة الكلية المعروفة والثابتة بالوجدان وواضح البرهان عند عموم المسلمين وهي ان اللفظ القرآني له عدة معاني ومضامين، فاذا كان الحرف زائداً من وجهة نظر نحوية في معنى معين فهو غير زائد في المعنى او المعاني الأخرى ويجب ان نختار الأفضل والأنسب.
لقد كانت جهود النحويين عوناً في بيان واظهار علوم القرآن ولا يستطيع احد ان ينكر فضلهم واياديهم في ميدان العلم او يستغني عنهم، ولكن هذا لا يمنع من توجيه الملاحظات التي تساهم في توسيع علوم النحو ومدارك زيادة النفع من آيات القرآن وبلاغته واسراره.
والخلاف لفظي وصغروي فحتى القائل بأنه حرف زائد لا يريد الزيادة بالمعنى الحقيقي المتبادر، بل ان الزيادة بلحاظ الإعراب وعلم النحو وان الحرف لم يأت لمعنى مستقل وخاص به وانما جاء مذكوراً مع غيره لتوكيده وزيادته وضوحاً ووثاقة.
أسباب النزول
ذكر في عنوان أسباب النزول ان ابن صوريا القطويني وهو من علماء بني إسرائيل قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك، فأنزل الله هذه الآية.
وورد عن ابن عباس: ان اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه، فلما بُعث من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه.
فقال لهم معاذ بن جبل يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفون لنا صفته، فقال بعضهم ما جاءنا بشيء من البينات وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
موضوع النزول
ويستغرق الحكم في الآية أفراد الزمان الطولية، وفي الآية نكتة عقائدية اذ ان عدم ذكر فريق مخصوص بالاسم على وجه التعيين نوع رأفة للفارق بين ارادة التعيين والذم الصريح وبين لغة التعريض واطلاق الحكم، وهي دعوة إلى الإسلام والإنصات والتدبر في آيات القرآن، قال تعالى[أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ]( ).
والآية تخلو في ظاهرها من اسباب حصر الجرح والقدح بفريق من الناس دون غيرهم، ولكنها تحث الناس مطلقاً على الإلتفات الى تلك الآيات والإنتقال من مواضع الجحود والكفر الى منازل الهداية والرشاد.
وأخرج ابن شهاب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تلا القرآن على مشركي قريش ودعاهم إلى الله قالوا: يهزؤون به {قلوبنا في أكنة بما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب}( ))( ).
فجاءت الآية لدعوة الناس للتصديق بالتنزيل وزجرهم عن التكذيب بآيات القرآن وما فيها من الدلالات والبراهين الساطعة.
وهل يختص قوله تعالى[وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ] بآيات القرآن أم يشمل الحديث القدسي وعموم الوحي لقوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
في سياق الآيات
تؤكد الآية نزول القرآن من عند الله تعالى وتطلق حكماً ووصفاً مذموماً لمن يكفر به، ويشير نظم الآيات وسياقها الى الملازمة بين العداوة لبعض الملائكة وبين الكفر بالقرآن، وفي ذم آل فرعون وعداوتهم لموسى عليه السلام الذي جاءهم بالآيات[وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ]( ).
لقد جاءت الآية قبل السابقة في ذم الذي يعادي جبرئيل، مع بيان حقيقة وهي ان جبرئيل لم يفعل الا الخير المحض، وما فيه الصلاح والهداية، وكذا كل فعل يأتي بأمر من الله تعالى سواء كان الفاعل ملكاً أو نبياً، وأخبرت عن نوع الصلة بين جبرئيل وبين الناس وهي أنه نزل بالقرآن من عند الله تعالى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتبدأ مرحلة جديدة في الحياة البشرية تشع منها أضواء الهداية وتترسخ فيها وإلى الأبد مفاهيم التوحيد وسنن الإيمان.
لذا جاءت الآية التالية بان الله تعالى عدو لمن يعادي جبرئيل ويمتنع عن الإيمان بسبب ان جبرئيل هو الذي يأتي بالتنزيل والوحي، وأنه يتضمن النزول بالدفاع والحرب، وهذه العداوة حرب على الإسلام ومحاولة لمنع رسوخ مفاهيم الإيمان في الأرض ومن يفعلها يستحق ان يقابل بالعداوة، ولكن الآية مرتبة من الإنذار والوعيد والتحذير.
ثم جاءت هذه الآية لتخبر بان الله تعالى هو الذي أنزل الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن البيان فيها مضامين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، وإذ أختتمت هذه الآية بوصف الذين يكفرون بآيات الله بالفاسقين.
فان الآية التالية جاءت في ذمهم وذكر مصداق من مصاديق نقض العهد، وفيه دعوة للناس للتصديق بالنبوة وعدم الوقوف عند الملك الذي ينزل بالوحي لأنه نوع واسطة مباركة ورسول ملكوتي بالآيات تأتي من عند الله.
وإذ أختتمت الآية السابقة بالإخبار عن عداوة الله تعالى للكافرين، فان هذه الآية أخبرت بان الذين يكفرون بآيات الله ولا يصدقون بها هم الفاسقون، ويفيد الجمع بين الآيتين ان الله عدو للفاسقين، ولا تنحصر عداوته بالذين يعادونه ويعادون الملائكة والأنبياء، بل تشمل الذين يجحدون بآيات القرآن.
إعجاز الآية
تظهر الآية الكريمة حجية الآيات والمغيبات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم و التي جرت على يده، وفضح الذين يأبون الإيمان بها، وفيها ترسيخ لمضامين الإيمان وقوة للمؤمنين.
ومن اعجاز الآية انها تلاحق أسباب التشكيك وحيل الكفر فتفضحها وتفضح الكفر المستتر , وتدعو الى الايمان بالقرآن ونزوله وطرقه الملكوتية.
وتمنع الآية من الإنشغال بموضوع عداوة جبرئيل، وشخص الملك الذي يأتي بالوحي، وتبين ان المدار هو على الإيمان بالآيات التي أنزلها الله تعالى، ومن يؤمن بالقرآن فانه لا يعادي جبرئيل.
بينما جاءت الآية قبل السابقة بذم عداوة جبرئيل، جاءت بتأكيد هذا الذم والإنذار من معاداة الله والملائكة والرسل، ثم تفضل الله عز وجل بآية البحث لتوكيد حقيقة وهي نزول القرآن من عند الله سبحانه، وهذا التوكيد إنحلالي من وجوه:
الأول : تأكيد حرمة معاداة جبرئيل.
الثاني : عدم جواز معاداة الله عز وجل، فهذه العداوة مجلبة للشر والعذاب لصاحبها في النشأتين، وليس من ملك يوم القيامة إلا لله تعالى قال سبحانه[لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
الثالث : يأتي الإنذار والوعيد لأعداء الله في الدنيا بواسطة التنزيل والنبوة فمن يبقى في منازل العداوة يكون محل إقامته الدائمة نار جهنم.
الرابع : طرد الغفلة والجهالة عن الناس بلزوم الإيمان بالله وملائكته ورسله.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “ولقد أنزلنا” ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الا في هذه الآية، مع ان لفظ “أنزلنا” ورد في القرآن أربعين مرة.
وفيه دلالة على خصوصية هذه الآية وما لعطفها على الآيات السابقة من البرهان على تنزيه جبرئيل عليه السلام، وان القرآن الذي نزل به كله من عند الله عز وجل.
الآية سلاح
في الآية تثبيت لقلوب المسلمين , وطرد للوهم الذي قد يتسرب الى النفوس من التشكيك في النزول من قبل بعضهم ، قال تعالى[ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
وتتضمن الآية الدفاع عن جبرئيل عليه السلام وبيان خطأ وقبح فعل من يعاديه لأنه رسول أمين وأن الذي يعادي جبرئيل على باطل وفي ضلالة وان عداوته عداوة لله تعالى .
وعادت هذه الآية الى صيغة الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس فيها أمر إلهي بالإحتجاج ومع هذا فهي تتضمن الإحتجاج والحجة في مفهومها وتخبر عن ماهيته موضوع عداوة جبرئيل بأنه ضلالة، وتتضمن مدح جبرئيل والثناء عليه لأنه تحمل أعباء الأمانة، وقام بها خير قيام .
والآية واقية من الشك الذي يسعى لبثه أهل الحسد والعداوة، وتبعث الثقة في نفوس المسلمين وتزيدهم إيماناً.
والنسبة بين هذه الآية والآية السابقة في الموضوع وفن الإحتجاج هي العموم والخصوص المطلق، فبعد ذم عداوة الإنسان لله عز وجل والزجر عنها، جاءت هذه الآية بالموضوع والحكم الأعم وهو نزول آيات وسور القرآن من عند الله عز وجل لتكون عداوة الإنسان لجبرئيل أمراً زائداً لا موضوع له، ولا يجلب لصاحبه إلا البلاء والعذاب.
فهذه الآية رحمة بالناس ودعوة للتفقه , ونبذ الأسباب والأقوال التي تجلب لصاحبها الأذى والضرر , وكل عاقل يدرك أن عداوة إبليس ضرر عليه بالذات وأذى للغير.
وجاءت الآية السابقة بصيغة الجملة الشرطية من كان عدواً لله، لتأكيد بقاء باب التوبة مفتوحاً للناس، والإنزجار عن عداوة الله والملائكة والأنبياء وإدراك القبح الذاتي والعرضي لهذه العداوة.
أمّا هذه الآية فجاءت بصيغة الجملة الخبرية لأنها حق وصدق ونص لا يحتمل التعدد في التأويل أو الترديد في التفسير.
وإذ أختتمت الآية السابقة بالإخبار عن عداوة الله للكافرين أختتمت هذه الآية بذم الفاسقين وأنهم هم الذين يكفرون بآيات التنزيل لأنهم خارجون عن طاعة الله.
مفهوم الآية
تدل نسبة نزول آيات القرآن إلى الله سبحانه بالدلالة التضمنية على ان جبرئيل لم يكن الا واسطة وعبداً مأموراً من عند الله تعالى في موضوع التنزيل والجهة التي تكون غاية للتنزيل أي انه نزل بالقرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالذات بتعيين واختيار منه تعالى وان عداوة جبريل تعني الكفر والجحود والصدود.
وانتقلت الآية الى الكفر بالآيات القرآنية وهي موضوع نزول جبرئيل وعداوتهم له لتخبر عن التقاء الكفر والفسوق وان احدهما يقود الى الآخر في هذا الباب.
والقتال في سبيل الله انما هي بأمر الله تعالى، وان ما فيه من أحكام الجهاد والدفاع إنما هي بأمر الله تعالى، وليس من عند الملك أو النبي، مما يبعث عند المسلمين القوة والمنعة ويجعلهم يتنافسون في الخيرات ويندفعون الى سوح الجهاد، وتتضمن الآية مسائل:
الأولى: الآية خطاب من الله تعالى الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: تلقي الآية السكينة في نفس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: تطرد الآية الشك من النفوس، وتدعو المسلمين الى إكرام جبرئيل عليه السلام والثناء عليه.
الرابعة: تدعو الآية الناس جميعاً الى التدبر في آيات القرآن، وبذل الوسع لإستنباط السنن والأحكام والعلوم من آيات القرآن.
الخامسة: وصف آيات القرآن بانها بينات تحدِ للذين لا يصدقون بالقرآن، ودعوة للناس للإيمان بنبوة محمد بالبرهان والإعجاز الذاتي للقرآن.
السادسة: تدل الآية في مفهومها على ان الله عز وجل يرى ويسمع ما يبلغ به جبرئيل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن، وان هذا التبليغ موافق لما في اللوح المحفوظ من غير زيادة أو نقيصة، وفيه تنزيه وتزكية لجبرئيل، وإخبار لمن يعاديه بعدم وجود سبب وأصل لهذه العداوة.
السابعة: وجوب التصديق بآيات القرآن والإنتفاع مما فيها من البيان.
الثامنة: ذم الذين يجحدون بآيات التنزيل , ونعتهم بالكفر والخروج عن طاعة الله .
الآية لطف
لقد رزق الله تعالى الإنسان العقل، وجعله حجة ذاتية مصاحبة له في ليله ونهاره وحضره وسفره، وصحته ومرضه، وجاءت آيات القرآن بمخاطبة العقل بالبيان والبرهان والدعوة الى الإيمان، ويحتمل البيان في المقام وجوهاً:
الأول: تكون آيات القرآن مجتمعة مبينات.
الثاني: كل آية قرآنية مبينة.
الثالث: العنوان الجامع للوجهين أعلاه.
والصحيح هو الثالث، فالآية القرآنية بينة بذاتها، وهي مجتمعة مع غيرها بيان وبرهان، وهذا الإجتماع مركب ومتعدد وآية في الإعجاز إذ انها تكون بياناً بإجتماعها مع غيرها التي تتحد معها في الموضوع أو في النظم أو في الحكم أو بالصلة مع أي آية قرآنية أخرى للإلتقاء والتنزيل من الله تعالى والإعجاز والحجة .
وقد يبدو في زمان عدم وجود صلة جلية بين آيتين معينتين من آيات القرآن، ولكن ما تمر السنين والأحقاب حتى تتضح وجوه من الصلة بينهما ليكونا مجتمعتين بياناً وضياء ينير دروب السالكين ولطفاً بالناس جميعاً.
فيكون اللطف في القرآن بلحاظ إجتماع كل آيتين أو ثلاثة من القرآن من اللامنتهي، إذ ان الآية القرآنية الواحدة تلتقي وتجتمع في البيان مع آيات كثيرة على نحو الإستقلال، فتجتمع في الدلالة كل آية من الآيات التي تلتقي معها في الموضوع على نحو مستقل، وكذا بخصوص النظم والحكم والغاية المتعددة .
وتضمنت الآية إخباراً وقانوناً، وكل فرد منهما يقبل العنوان الآخر، ففي الآية إخبار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته للمسلمين والناس جميعاً بان القرآن آيات بينات أنزلها الله تعالى عليه.
وهل يصلح أن يكون قانوناً ثابتاً لإنبساطه على آيات القرآن , الجواب نعم، وهو من إعجاز القرآن وعلومه.
وفي وصف الذين يكفرون بالتنزيل بالفسق والخروج عن الطاعة مسائل :
الأول: إنه نوع إخبار ليكون زاجراً عن الجحود والصدود عن الآيات والكتب السماوية .
الثاني : إنه واقية للناس من الغواية والضلالة .
الثالث : تحذيرًالناس من الإنصات لأعداء الله وأنبيائه ورسله.
إفاضات الآية
هذه الآية شاهد على ان الله تعالى يتعاهد ويحفظ القرآن بعد نزوله ولم يترك الناس وشأنهم في قبوله أو الإعراض عنه بل أنه يقربهم الى الطاعة، ويجذبهم الى منازل الإيمان ويجعل العوائق والموانع دون الإصرار على الكفر، ولكن هذه الموانع ليست على نحو الموجبة الكلية والعلة التامة بل هي من اللطف والرحمة الإلهية لأن الدنيا دار إمتحان وبلاء وإختبار.
مما يدل على ان الله تعالى يرأف بالعباد ولا يخلي بينهم وبين الإبتلاء وموازين الإختبار بل يزين لهم الإيمان ويقرب لهم البرهان، ويجعل نفوسهم تنفر من الكفر والجحود، فجاءت هذه الآية بما يقربهم الى الإيمان بالإخبار بان القرآن آيات بينات أنزلها الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبرت عن فسق وقبح فعل الذي يجحد بهذه الآيات، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
ومن حفظ الله تعالى للآيات تفضله بهذه الآية وإخباره بانه هو أنزل آيات القرآن، لتكون كل آية منها مدرسة في المعارف والعلوم، وكشفاً للوقائع والأحداث والعواقب، ودليلاً وعيناً وسبيل هدى، لذا فان الذي يجحد بها يكون خاسراً في الدنيا والآخرة.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الجملة الخبرية لتوكيد نزول القرآن من الله عز وجل، وأن كل آية منه دلالة باهرة، وحجة بالغة، والمراد من الخطاب المسلمون والمسلمات والناس جميعاً، ومنهم أولئك الذين يعادون جبرئيل كما ذكرت الآية قبل السابقة، لإفادة معنى أن الذي ينزل القرآن ليس هو جبرئيل بل هو الله عز وجل، وفيه مسائل:
الأولى: جبرئيل عليه السلام واسطة ملكوتية يتصف بالأمانة والصدق.
الثانية: ما ينزل به جبرئيل آيات وحجج داحضة، وفيه دعوة للناس للتدبر في الآيات، وعدم الإنشغال بمن ينزل بها من عند الله، وإظهار العداوة له.
الثالثة: لقد أراد بعض الرؤساء البقاء على حال الكفر ودوام شأنهم وما لهم من الجاه والمأكلة على العامة، فنزل جبرئيل بالقرآن، فأظهروا العداوة له حسداً وبغياً، فجاءت هذه الآية لفضحهم، وجذب الناس للموضوع الأصل وهو التنزيل، والإخبار عن كونه آيات بينات.
الرابعة: في الآية دفاع عن جبرئيل، ومنع من عداوته، وتدل بالدلالة التضمنية على أمانة جبرئيل لأن الآيات التي وصلت إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي ذاتها التي أنزلها الله عز وجل بواسطة جبرئيل.
وجاءت خاتمة الآية بذم الذين يجحدون بآيات القرآن ويصدون عنها مع أن كل آية معجزة عقلية، ودليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن الآيات أن الله عز وجل يدعو إلى الإيمان به وبملائكته ورسله وكتبه، بالآيات البينات ليصدق عنوان الفسق والخروج عن الطاعة على الذين لا يؤمنون بآيات القرآن، قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( ).
وجاءت الآية لذم الذين يجحدون بالآيات ونعتتهم بالكفر والفسق بقوله تعالى [وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ] وكأن الفسق طريق إلى الكفر، والكفر بالآيات شاهد على الفسق.
وتدل الآية على أن آيات القرآن تتضمن الإعجاز الذاتي المانع من الكفر بها، فهي نفسها تصدق أمر نزولها من عند الله ومنها هذه الآية.
التفسير الذاتي
جاءت هذه الآية في سياق التحدي وإنكار العداوة لجبرئيل الذي ينزل بالقرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله عز وجل.
وجاءت هذه الآية لتؤكد أن آيات القرآن من عند الله عز وجل، وأن جبرئيل رسول أمين، إن الإقرار والإيمان بالله وبأي طرف من أطراف التنزيل يعني التصديق بها كلها، فإذا كان الإنسان يؤمن بالله عز وجل فانه يصدق بملائكته وكتبه وأنبيائه، لأنه يخبر عنها، وينهى عن معاداة أي منها، وكذا الإيمان بالأنبياء وأنهم مبعوثون من عند الله عز وجل يدل على أنهم لا يخبرون عن الله إلا بالحق والصدق، وكذا فان الإيمان بالتنزيل يعني التصديق بالذين نزل به، وهو الملك، والذي أنزل عليه وهو النبي.
وبعد إختتام الآية السابقة بقانون ثابت وهو عداوة الله عز وجل للكافرين والجاحدين، جاءت هذه الآية لتثبيت قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وللتخفيف عنهم من وطأة وضرر الكفار وأهل الشك والريب من أهل الكتاب، وهو من عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بأن جعل الله عز وجل المسلمين قادرين على مواجهة أهل الجدال، ورزقهم العصمة من الشك والريب الذي يريد بثه في نفوسهم كفار قريش.
ترى ما هي الصلة بين موضوع هذه الآية وما جاء في الآيتين السابقتين من الإنكار على بني إسرائيل عداوتهم لجبرئيل، الجواب هو أن المدار على التصديق بنزول القرآن من عند الله، وأن موضوع عداوة جبرئيل له صلة بصدق نزول القرآن من عند الله عز وجل، لأن هذا النزول حق، لذا تذكر الآية ثلاثة أطراف:
الأول: تفضل الله عز وجل بتنزيل القرآن.
الثاني: القرآن آيات باهرات نازلة من عند الله عز وجل.
الثالث: نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت الآية بصيغة الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان عظيم منزلته عند الله عز وجل وأن آيات القرآن تتضمن الخطاب له، كما تتضمن الخطاب للمؤمنين والناس بواسطته، وجاء قبل آيات قوله تعالى [وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ]( )، في خطاب إلى بني إسرائيل.
وجاءت هذه الآية للإخبار بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نزلت عليه الآيات البينات، والآيات جمع آية وهي العلامة والحجة، والبينات جمع بينة، وهي الدلالة الواضحة، مأخوذة من الإبانة وهي الفصل بين الشيئين بما يمنع الإختلاط والشركة واللبس، لأن نزول آيات القرآن أظهرت الحق، وفضحت الكفار الذين يصرون على الجحود.
وهذه الآيات البينات من عمومات قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وتفضل الله تعالى بتعليم آدم، قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، ليكون العلم الذي رزقه الله عز وجل آدم عليه السلام في آيات القرآن، وموضوعاً لهداية وإصلاح المجتمعات، قال تعالى في وصف القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
لقد أراد جماعة جعل المدار على عداوة جبرئيل وأنها برزخ دون إيمانهم، فجاءت هذه الآية دعوة لهم للإيمان وجعل المدار على آيات القرآن وأنها معجزات باهرات نازلات من عند الله، وهذه الآية من فضل الله عز وجل على بني إسرائيل وعلى الناس جميعاً.
ومن إعجاز الآية أنها أعم في موضوعها من عداوة جبرئيل، إذ تتضمن شهادة الله عز وجل على نزول القرآن من عند الله، فهي دعوة للناس للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتبعث الشوق في نفوسهم للإنصات لآيات القرآن والتدبر في معانيها ودلالاتها، وتمنع من الإلتفات إلى عداوة بعضهم إلى جبرئيل، وجعلهم لها مانعاً من الإيمان بنزول القرآن.
وتبين الآية فضل الله عز وجل على الناس بنزول القرآن، وعظم الذنب والمعصية بالجحود بهذه الآيات، والإنذار والوعيد للذين يجحدون بها، وتتضمن تعريف القرآن بأنه حجج باهرات، وبراهين ساطعات يتجلى إعجازها بأنها نازلة من عند الله عز وجل، فان هذا النزول وحده آية، وقد ورد ذكر الفاسقين بصيغة الرفع (الفاسقون) في القرآن سبع عشرة مرة، وبصيغة النصب والجر (الفاسقين) ثمان عشرة مرة، من مجموعها مرتان في سورة البقرة.
الآية الثانية جاءت بصيغة النصب [وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ]( )، جاءت في المثل القرآني وأنه سبب لزيادة إيمان المسلمين، وباب لفتنة الكفار والخارجين عن الصراط القويم، ويفيد الجمع بين الآيتين أن المراد من الإضلال في المقام هو إختيار الفاسقين الكفر والجحود بالآيات، وأن كفرهم أعم من أن ينحصر بالمثل القرآني.
ويدل ذم الجاحدين بالقرآن بالدلالة الإلتزامية على الثناء على المسلمين الذين تلقوا القرآن بالتصديق والعمل بما فيه من الحلال والحرام، فيمكن القول أن الآية في مفهومها مدح للمسلمين، وهذا المفهوم من عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، من وجوه:
الأول: إحتراز المسلمين من الفاسقين.
الثاني: بيان صبر المسلمين مما يلاقونه من أذى الكفار، إذ أن الجحود بآيات القرآن إيذاء للمسلمين، لأنه خلاف الوظيفة الشرعية، وإدراك العقل، ونوع إنكار لتلقي المسلمين آيات القرآن بالقبول والتصديق، ومن الناس من كان يظهر كفره في القرآن لتحريض الناس على عدم الإيمان به، وللإستخفاف بالمسلمين، كما ورد في قوله تعالى [أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ]( )، فجاءت هذه الآية لتثبيت قلوب المسلمين، ودعوتهم لعدم الإلتفات إلى كفر هؤلاء بالقرآن.
الثالث: الآية دعوة للناس جميعاً للتصديق بالقرآن.
الرابع: إقرار وتسليم المسلمين بنزول القرآن من عند الله عز وجل، وأنه آيات وعلامات واضحات تنير دروب الهداية للسالكين.
الخامس: سلامة المسلمين من الفسق والخروج عن طاعة الله.
السادس: ان جبرئيل رسول أمين نزل بالقرآن بإذن الله.
وجاء موضوع النزول بصيغة الماضي (أنزلنا) وهو عنوان للثبات والإمضاء والقطع بينما جاء موضوع الكفر بالآيات بصيغة المضارع (وما يكفر) وفيه دلالة على إستمرار وإستدامة الحكم بلزوم عدم الكفر بالتنزيل.
ومن أسرار وإعجاز صيغة المضارع هذه عدم وجود عذر لمن يكفر بآيات القرآن في قادم الأيام والأحقاب، وهو شاهد على أمور:
الأول: الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن، وأنه يتضمن البرهان على صدق نزوله من عند الله، ولذا جاءت هذه الآية بتسميته بالآيات البينات، فهو حجج وبراهين قائمة بذاتها على نحو الإستقلال، وبالتداخل فيما بينها.
الثاني: سلامة القرآن من التحريف إلى يوم القيامة، فهو آيات بينات في كل زمان.
الثالث: بقاء القرآن معجزة خالدة مع الإرتقاء العلمي والفكري عند الناس.
الرابع: القرآن بذاته رسول لكل الناس وفي كل الأزمنة، يتضمن الإخبار عن صدق النبوة.
فمن الآيات أن يجاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت صدق نزول القرآن من عند الله، ليبقى القرآن دلالات سماوية باهرات تدل على صدق نبوته.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: بيان حقيقة وهي ان جبرئيل رسول من عند الله تعالى، أمره سبحانه بأن ينزل بالآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ]( ).
الثانية: تدعو الآية المسلمين الى التمسك بالقرآن وإتخاذ آياته إماماً وسبيل هدى، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
الثالثة: بيان رحمة الله تعالى بالناس وكرمه وجوده وإحسانه إذ أنزل الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينات واضحات تطرد الجهالة والغفلة عن الناس، ولا تقبل اللبس والترديد.
الرابعة: بعد أن أنزل الله تعالى على الأنبياء السابقين التوراة والزبور والإنجيل وغيرها من الكتب السماوية، تفضل فأنزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكل آية منه مدرسة بينة، وبرهاناً ساطعاً.
الخامسة: في الآية إشارة الى قانون ثابت وهو بقاء آيات القرآن في الأرض، وحاجة الناس اليها في كل زمان لما فيها من البيان والحجة والبرهان.
السادسة: ذم الذين يجحدون بالآيات التي أنزلها الله تعالى وسوء فعلهم بإنشغالهم بعداوة جبرئيل، مع أنه رسول أمين.
السابعة: الآية شاهد على خلو القرآن من التحريف، وفيها نعت لذين يكفرون بالقرآن بانهم فاسقون، وبما ان أحكم الآية القرآنية باقية الى يوم القيامة، فان هذا النعت يدل على بقاء القرآن سالماً من التحريف والتغيير الى يوم القيامة، وان الآيات التي أنزلها الله باقية على حالها وألفاظها ورسمها ودلالاتها.
التفسير
قوله تعالى [وَلقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ]
تبين الآية قاعدة كلية في باب التشريع ينقسم الناس بلحاظها الى فريقين لا ثالث لهما، اذ لا واسطة بين الإيمان والكفر وان كان لكل منهما مراتب متعددة متباينة لأنهما من الكلي المشكك الذي يصدق على عناوين متعددة بمعنى واحد وبينها اختلاف بالشدة والضعف او التقدم والتأخر ونحوهما، ويقابله الكلي المتواطئ وهو الذي يصدق على افراده على نحو التساوي وينطبق على أعيان متعددة بعرض واحد.
وقال المعتزلة ان الفسق منزلة بين الكفر والإيمان، ولكنه لا يصلح قاعدة كلية
والآية تمدح الذين يؤمنون بما بالقرآن وما انزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات ويدل عليه مفهوم هذه الآية وآيات عديدة من القرآن، قال تعالى [ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ]( ).
وتذم الآية الفريق الثاني وهم الذين يبتعدون عن آيات الله معرضين مستكبرين.
وقال الرازي: الإنزال عبارة عن تحريك الشيء من الأعلى الى الأسفل وذاك لا يتحقق الا في المسمى، فهو على هذا الكلام محال، لكن جبريل لما نزل من الأعلى الى الأسفل واخبر به سمي ذلك انزالاً( ).
ولكن النزول أعم ويعني الهبوط، ويشمل ما كان بالواسطة ويتعدى لما كان أثراً من العلويات، والأسباب من عند الله تعالى كما في قوله تعالى [قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ]( ).
هذا بالإضافة الى ما جدد من صور وهيئات وحقائق واحكام بسور القرآن غير الألفاظ والحروف الدالة عليها. ثم ان الآيات كموضوع أعم لشمولها لعناوين الارادة التكوينية والتشريعية كما في قوله تعالى[إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ).
لذا فالمقصود من الآيات البينات في الآية الكريمة أمور:
الأول : مجموع الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزات النبوة ويكون القرآن أسناها وأعظمها وأشرفها، اذ وقف العرب العرباء مع فصاحتهم وارتقائهم في مقامات البلاغة والقدرة على المحاورة وتركيب الألفاظ عاجزين ازاءه، واقروا واعترفوا بما في آياته من الإعجاز.
أي انه يتضمن أمراً خارقاً للعادة يتعذر على الناس الإتيان بمثله، ولغة التحدي فيه ظاهرة وهي مسألة لم تكن معروفة في الكتب السماوية الأخرى، والقرآن معجزة لأنه تنزيل وإخبار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الله عز وجل بلا واسطة احد من البشر كما تقرر في الفلسفة وفي باب النبوة الذي يلحق بمباحث العدل.
وصحيح ان الإنسان قد يتوصل الى معرفة الخالق بالنظر الى الكون ويدرك وجود الصانع بالتدبر في آياته، الا ان ثبوت الشرائع السماوية وما فيها من الأحكام يتوقف على صحة النبوة.
لذا قيل بوجوبها في الحكمة لما فيها من المنافع للخلق بهدايتهم وارشادهم إلى أسباب ومقدمات صلاحهم وفلاحهم في الدنيا وفوزهم في الآخرة باتيان الفرائض والمندوبات وردعهم عن المعاصي وما فيه المفسدة.
الثاني : الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة ومتعددة منها انشقاق القمر، ونبوع الماء من بين اصابعه، وحديث الطير، واشباع العدد الكثير من الناس بالطعام القليل كما في تفسير وسبب نزول قوله تعالى [ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، بل وفي آيات غيرها ايضاً اذ ان هذه الآية لم تكن خاصة الدعوة.
بل تكررت مرات عديدة منها يوم دعا جابر بن عبد الله الأنصاري النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق، ومنها يوم دعته أم سليم على مدين( )، من شعير طبختهما وعصرت عليهما من عكة كان فيها سمن، فجاء النبي ومعه اربعون رجلاً فأكلوا منه، وكلام الحيوانات معه كالذئب والثعبان والضب والطير وما في يده من البركات الإعجازية.
ومنها تسبيح الحصى في كفه، وحنين الجذع، واخبار الذراع المسموم له، وإخباره عن المغيبات آية بينة متجددة كل حين، وظهورها لغير المؤمن يتجلى بوضوح اكثر منه للمؤمن، الذي يتلقاها بالتسليم والإنقياد، اما غير المسلم فانه ينظر اليها على انها تحد مركب ويبقى متفحصاً ومترصداً لوقوعها في الخارج ولما فيها من الدعوة الى الإسلام والدلالة على صدق النبوة.
الثالث : المقصود هو القرآن الكريم وآياته لما فيها من الإعجاز والإخبار عن الغيب ولسان التحدي والإنذار التفصيلي والبشارات القطعية ويمكن الإستدلال عليه بشواهد كثيرة من القرآن، قال تعالى [وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ]( ).
وحكي عن الأصم ان الآيات علم التوراة والإنجيل والإخبار عما غمض مما في كتب الله السالفة كقوله تعالى [ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ]( )، بينات أي واضحات، تفصل بين الحق والباطل)( ).
ويمكن ان نشرع قاعدة وهي لو دار الأمر في تأويل الآية والمعنى المقصود منها بين القرآن والكتب السماوية السابقة فالأصل انها تعود للقرآن.
مع ان مضامين ومصاديق هذه الآية أعم اذ انها تؤكد نزول الآيات الذي يتجسد بأبهى صورة بالقرآن واعجازه، ولأن الضمير في [اليك] يعود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى [وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفاسِقُونَ]
الآية تدل على المغايرة بين الكفر والفسق، وان الفسق أعم من الكفر وكل كافر فاسق وليس العكس، وهل هو كالعلة التي لا يتخلف معلولها عنها، الجواب: لا، فالكفر وان كان متعقباً للفسوق الا ان الانسان قد لا يصل اليه، أي انه يقف عند أحد مراتب الفسوق، والكفر مترشح عنه ويصلح ان يكون صفة له.
نعم تخبر الآية على ان الفسوق من الأمور التوليدية لوجوه الشر فقد يكون سجية وملكة سوء يتفرع عنها الكفر والجحود.
فمع مجيء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآيات بينات ودلالات واضحات تشهد على صدق نبوته وإخباره عن الله عز وجل رحمة للناس ودعوة لهم إلى الإسلام، لا يبقى مانع يحول دون الإيمان إلا تعمد التمرد والمعصية والإصرار على الجحود، وقد جاء القرآن بذم ابليس حينما جحد وعصى في السماء كما في قوله تعالى [فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ]( ).
وتدل الآية على ان الكفر صفة سلبية زائدة مترشحة عن الفسق، وان الطريق الى اجتناب الكفر هو اصلاح النفس ومنعها من الجحود والتمرد، لتصبح قادرة على تلمس سبل الهداية، والإمتناع عن اقتحام دروب الضلالة والتمادي فيها، وان الفسق نوع طريق او سبب الى الكفر والجحود، والفسوق هو الموضوع، والكفر هو المحمول او ان الفسق تعلق بالذات ويكون الكفر بلحاظه بالعرض.
والفسق لغة خروج الشيء عن ذاته الى غيره، وكل معصية صغيرة كانت او كبيرة فسوق، وقال المعتزلة انه اسم لما يستحق به العقاب وليس كل معصية فسقاً.
والآية نوع تعظيم لما انزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبه استبان الحق وتجلى صدق النبوة وزال اللبس والشك والحيرة، وفيها ايضاً تأييد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بانزال الآيات عليه وبيان وتوكيد لما فيها من الحجة .
والآية وما فيها من الإخبار تثبيت لقلوب المؤمنين وتصديق لسلامة فعلهم باتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على عظيم نعمته تعالى على المسلمين , قال تعالى[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( ).
وتحتمل الصلة بين الكفر والفسوق وجوهاً:
الأول : التساوي بينهما وأن الفسوق هو الكفر.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، وأن كل كفر فسوق وليس العكس.
الثالث : التباين الموضوعي فان الكفر جحود بالرأي وخلل بالمبنى بينما الفسوق قول وفعل.
الرابع : الكفر أشد من الفسق.
الخامس : كل منهما قبيح عقوبته النار في الآخرة، والبلاء في الدنيا، وفي قوله تعالى[سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ]( )، ورد عن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنه قال: منازل القرون الماضية ممن خالفوا أمر الله لتعتبروا بها)( )، أي كما في قوم ثمود وفرعون.
السادس : الكفر والفسوق مما إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا.
السابع : كل فرد منهما يؤدي إلى الآخر، ويكون مقدمة له.
الثامن : ليس من ملازمة بينهما، فكل فرد منهما مستقل عن الآخر.
والصحيح هو الثاني والرابع والخامس والسادس والسابع وتدل آية البحث على الملازمة بينهما وأن الخروج عن طاعة الله، وإرتكاب المعاصي، والإمتناع عن أداء الوظائف العبادية يؤدي إلى إنكار التنزيل وما فيه من الأوامر والنواهي.
بحث عقائدي
إن عظمة الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعددها وما فيها من الإعجاز والعلوم وكثرة ابوابها وشمولها لموارد الفكر والعمل يجب ان لا يقلل من حضور دلالات القرآن كآية جامعة مستقلة.
كذلك فان بذل الوسع في دراسة آيات القرآن الإعجازية واستنباط الحكم والأحكام من آياته يجب ان لا يحول دون احصاء ودراسة وبيان الآيات الإعجازية الأخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغ البيان الإيماني ذي الموعظة والذي يكون عوناً على الهداية وسبيلاً الى استحضار تلك الآيات وجعلها حاضرة في كل زمان رديفاً للقرآن ودليلاً عليه وتفسيراً وتأويلاً لآياته.
ومن إعجاز القرآن، ودقة الضبط ودلائل التشريع إمكان الفصل بين القرآن وآيات النبوة الأخرى، والمتتبع لتركيب الفاظ آيات او آية من القرآن يدرك هذا المعنى بوضوح، والقرآن توثيق خالد لها، وقد ترد الآية عنواناً لآيات كونية تكون أمراً خارقاً ومعجزة لأحد الأنبياء او نعمة على أمة او ملة ما.
لقد رزق كل نبي معجزة ليؤمن به قومه، فمعجزة نوح مثلاً في نفسه وطول عمره ليكون آية نبوته، وزاد عليه الله من فضله(فلم يسقط له سن، ولم تنقص له قوة، ولم يشب له رأس) ( )، ثم جاءت آية بناء السفينة ومدته ثم ركوبه ومن آمن معه فيها.
وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن ليكون سفينة نجاة تتسع لأهل الأرض وهو مصاحبة لهم وإلى يوم القيامة ، تصاحب الناس في الدنيا ، وتختص بالمؤمن في الآخرة فتدخل آيات القرآن معه القبر تذب عنه .
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر ( ).
وأخرج عن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خباءه على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا إنسان يقرأ سورة الملك ” تَبَارَكَ ” حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب القبر” ( ).
بحث عرفاني
تحمل هذه الآيات النصح والارشاد الى المسلمين وغيرهم بعرض واحد مع صيغ التوبيخ والانذار لكفار قريش وقد تخص بعضهم بالنصح والتحذير ولزوم الاعتبار من الآخرين بالغرض السامي في ذات الوقت الابتدائي، فهي اذن دعوة للصلاح والهداية وسبل الاستقامة مما يدل على عز الاسلام وقوة المسلمين والاطمئنان الى رسوخ اركان الايمان والا فكيف يوجه النصح للآخرين من كان مشتغلاً بنفسه اعداداً وحفظاً بما قد يعده العقلاء من السفه والحمق، لذا يجب ان لا نغفل عن حقيقة كريمة تتضمنها مثل هذه الآيات وهي جانب الرحمة فيها وقصد قطع اسباب الفساد من منابتها قال تعالى[وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا]( ).
والإلتفات الى هذا الجانب من كنوز القرآن يكشف عن مرآة جمال تتجلى فيها أنوار الكمال للإرتقاء بالإنسان مطلقاً من منازل الإنحطاط الى مراتب الرفعة بإظهار كمال العبودية وطرح الاعتراض بالقلب او باللسان عما يجري من حكمة الله تعالى سواء بين ساكني السماوات او أهل الارض للتأهيل للفوز بدار الكرامة وعدم الابتعاد عن حضرة القدس وان كان في الحياة الدنيا فتزول الحجب بينه وبين نفسه، فمن ينساها قد لا يجد الطريق الى معرفتها مرة اخرى .
فتفضل الله سبحانه ببراهين وآيات ينبعث منها النور لينفذ الى قلوب أولي الألباب وذوي البصائر وشغاف قلب كل إنسان فيزيل عنها الصدأ ويتعاهدها بالإنجذاب اليه يبهرها ضياء الآيات وما تبعثه من أنوار الحكمة والمعارف النظرية.
قال تعالى[ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ] الآية 100.
الإعراب واللغة
الألف في قوله تعالى [ أو كلما ] للإستفهام الانكاري او للأعم منه، لاسيما وانها أم حروف الاستفهام، والواو: حرف عطف.
كلما: كلمة مركبة من (كل) و(ما) المصدرية ويليها جملتان، لذا ذهب بعضهم الى عدها من أدوات الشرط تسامحاً، وهي منصوبة على الظرفية الزمانية ومتعلقة بالفعل (نبذه) الذي هو جواب في المعنى، ويجوز إعراب كلما على وجهين:
الأول : ظرفية حينية تفيد الشرط من غير جزم.
الثاني : كل: ظرف، ما: حرف مصدري يؤول مع الفعل بعده(عاهد) مصدراً في محل جر مضاف إليه.
والواو: فاعل و(عهداً): مفعول به وقيل المفعول الأول محذوف أي عاهدوا الله عهداً ولكن الآية أعم، نبذ: فعل ماض، فريق: فاعل مرفوع، وجملة(نبذه فريق) لا محل لها جواب شرط غير جازم.
منهم: جار ومجرور صفة لفريق، بل: حرف اضراب وعطف.
اكثرهم: مبتدأ والضمير(هم) مضاف إليه، لا يؤمنون: لا: نافية، وجملة (يؤمنون) خبر أكثرهم.
النبذ: الترك والطرح، تقول: نبذت الشيء انبذه نبذاً اذا القيته من يدك، (والنَّبْذُ: طَرْحُكَ الشَّيْءَ من يَدِكَ أمَامَكَ أو خَلْفَكَ)( ).
والفريق: الطائفة من الناس ومن الشيء مطلقاً، وهو اكثر من الفرقة، وقد يأتي الفريق بمعنى المفارق.
أسباب النزول
في تفسير ابن كثير قال مالك بن سيف (ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر للناس ما اخذ عليهم من الميثاق وما عهد الله اليهم فيه، قال مالك بن الصيف: والله ما عهد الينا في محمد عهد، وما اخذ علينا من ميثاق، فأنزل الله فيه[ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا].
ولكنه لم يرفع الخبر، كما يمكن مناقشته دلالة فالمعاهدة نوع معاملة ومفاعلة بين طرفين، الا ان يقال أنهم أقروا وأذعنوا واظهروا التسليم، والآية اعم حتى في اسباب النزول لظهورها صريحة بالعهد ويؤكده النبذ وهو أخص وأشد وأبغض من الإنكار.
وفي علم البلاغة اعتبر عدم ذكر اسم مالك بن الصيف من المبهمات لقصد الستر عليه واستعطافه، ولكن النقاش في الكبرى وهي ثبوت تعلق الآية به، خصوصاً وان ظاهرها جاء بصيغة الجمع ويفيد المعنى الأعم وتعدد ناقضي العهد، كما ان مالك هذا ذكر ايضاً في أسباب نزول قوله تعالى [ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ]( )، ولكن إسمه ورد في أسباب نزولها مع آخرين مثل كعب بن الأشرف.
وتذم الآية عدم الوفاء بالعهد واتخاذه سجية وعادة، وجاء آخر الآية بلغة المضارع وعلى نحو القاعدة الكلية في إشارة إلى الملازمة بين نقض العهد وعدم الايمان.
في سياق الآيات
تبين الآية الكريمة ظاهرة مستديمة عند أهل الجحود تتصف بالقبح وكأنها كدورات متزاحمة تتلاطم في اعماق نفوسهم وتبرز الى الخارج بالشهوة واللذة التي تكون عائقاً دون ايمانهم.
إبتدأت الآية بقوله تعالى [ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا] ولابد أن واو الجماعة تعود الى أمة أو فريق تقدم ذكرهم في سياق الآيات، وقبل ست آيات ذكر فريق من بني إسرائيل يقولون بأن الدار الآخرة خالصة لهم، لا يدخلها غيرهم من أهل الملل والنحل.
ويدل مجيء واو الجماعة على الإتصال في مضامين هذه الآيات وموضوع عداوة جبريل، الا ان يقال بان المراد من “واو الجماعة” في هذه الآية هم القوم الفاسقون الذين أختتمت الآية السابقة بهم على نحو التعيين، ولا تعارض بين الوجهين وبينهما عموم وخصوص مطلق ويدل على العطف بين الآيات إبتداء هذه الآية بحرف العطف “الواو” إذ ان الذين يكفرون بالآيات التي أنزلها الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعم وأكثر عدداً، وإذ جاءت هذه الآية بخصوص نقض العهود، جاءت الآية التالية بالإخبار عن الإعراض عن التنزيل.
وفي الآيات تحذير من الذين يعادون الملائكة والأنبياء، وإخبار بأن فريقاً منهم ينقضون العهود والمواثيق.
ولما أختتمت آية البحث بقوله تعالى[بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] إبتدأت الآية التالية بقوله تعالى[وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ] وفي الجمع بينهما مسائل:
الأولى : بيان رحمة الله عز وجل للناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : حاجة الناس للإسلام ونزول قرآن في أمور الدين والدنيا.
الثالثة : اللطف الإلهي بدفع الناي عن منازل الكفر وعدم الإيمان ويتجلى هذا اللطف في المقام بأمور:
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكونه رسولاً جاء بشريعة مبتدأة.
الثاني : نزول القرآن كتاباً جامعاً.
الثالث : إتصاف القرآن بخصوصية وهي تصديقه للتوراة والإنجيل فهو يحارب الضلالة والكفر بما فيهما من الأحكام، ويدعو لما فيه من الأحكام وللتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : تأكيد قانون في الإرادة التكوينية، وهو أن الدنيا دار الرحمة والإنذار، فالذين لا يؤمنون لم يتركوا وشأنهم بل تفضل الله عز وجل وبعث لهم الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم تقل الآية التالية(ولما جاء رسول) بل قالت(ولما جاءهم….) وسواء أريد من الضمير(هم) المعنى الأعم أو الأخص فإنه يشمل الذين أختتمت بذكرهم هذه الآية وهم الذين لا يؤمنون، وفيه حجة إضافية عليهم، وتأكيد لصدق نزول القرآن من عند الله، دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى الإيمان بالمعجزة والبرهان.
الخامس : بيان منافع نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدخول الناس الإسلام، وبعد أن كان أكثرهم لا يؤمنون، ذكرت الآية التالية خصوص نقض الميثاق من فريق من أهل الكتاب، وتكرر لفظ(نبذ) في الآيتين وتعلق الفعل بفريق دون الجميع، وفيه بعث للنفرة في النفوس من هجران العهد والميثاق.
إعجاز الآية
لقد تضمنت الآية التحدي في الإخبار عن تكرار نقض العهود سواء في صورة الماضي منه او الحاضر او المستقبل، وانهم يعجزون عن النفي العملي لهذا الفعل القبيح بالثبات والإلتزام بعهد او ميثاق.
ان حدوث الوقائع التي كانت مصاديق للآية الكريمة تدل على اعجاز واقعي وشاهد خارجي للآية يبقى نابضاً بالحياة.
وتحذر الآية من الفسق وهو الخروج عن طاعة الله وفيه شاهد بأن نزول القرآن رحمة للناس.
وجـاءت الآية بصـيغة الجمــلة الخبرية لتــبين قانوناً وشـهادة مـن الله عـز وجل بلزوم حفظ وتعاهد العهد ومن الإعجاز في الآية نسبة العهد للجميع، وإن تولاه الكبراء والملأ منهم.
ليكون من صفات القرآن أنه مدرسة العهد ولزوم التقيد به وذم الذين يهجرونه وينقضونه ولا يعلم أحد ما في العهود من منافع وأكثرها يأتي عن حاجة أو بعد خصومة وخلاف، ويكون سبباً للمنعة والقوة أو منع الشقاق ودرء الفتنة , وفي العهد مع الله خير الدنيا والآخرة، والنفع العظيم ومع نقضه يظلم نفسه ويجلب لها الضرر والأذى وجاءت هذه الآية لتأكيد هذا المعنى، وإلحاق الخزي به، قال تعالى[وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
ومن إعجاز الآية لغة التبعيض المركب فيها، فمع قلة كلمات الآية ورد التبعيض مرتين:
الأولى : الذين ينقضون العهد فريق منهم وليس كلهم.
الثانية : جحود اكثرهم، وليس كلهم، لتكون الغاية دعوة المسلمين إلى معرفة أحوال أهل الكتاب، وعدم جعل نقض العهد صفة ملازمة لهم، لما فيه من إنعدام الثقة وترك العهود والمواثيق، فاذا كنت متأكداً أن الطرف الآخر لا يتقيد بأحكام العهد فانك لا ترغب بالعهد معه، مع أن العهد حاجة للمسلمين والناس فهو مناسبة لإصلاح المسلمين لشؤونهم وزيادة قوتهم وإمتلاك السلاح الكافي لمواجهة العدو، ونشر الإسلام، كما أنه فرصة للكفار والمعاهدين ليروا الآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بنبوته كما حصل في صلح الحديبية وإيمان عدد من القبائل والأفراد ودخولهم الإسلام اثناء فترة الصلح.
ويمكن ان نسمي هذه الآية آية ” أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا ” ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
في الآية معاني ومفاهيم متعددة، فهي توبيخ لمن ينقض المواثيق بالزمن الحالي وبالاستصحاب القهقري والرجوع الى الوراء، وفيها تحذير وفضح للموجود منهم أيام النزول وعون للمسلمين بالتزام جانب الحيطة والحذر وعدم الاطمئنان للعهود والمواثيق التي يقطعونها على انفسهم فهي مدرسة في الاحتراز.
وتدعو الآية المسلمين الى عدم الركون للمواثيق التي يعقدها ناقض العهد، ومن وجوه الحيطة والحذر تهيئة أسباب الدفاع والعدة واليقظة والتأهيل لحمل السلاح , قال تعالى [[ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( ).
وفي الآية وموضوعها تنمية لملكة الوفاء، وتعاهد العهود والمواثيق وإن كانت شفوية وإجتناب الإكراه والغلظة في عقد المواثيق والعهود، فلا بد أن تكون عن إختيار ورضا.
وتعاهد العهد والميثاق شاهد على الخشية من الله والتنزه من القدر والخيانة، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ]( ).
ولما نقض أهل مكة العهد مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(لم يوجه إليهم بل قال: اللهم اقطع خبرنا عنهم وغزاهم وهو أيضا معنى الآية لأن في قطع العهد منهم ونكثه مع العلم به حصول نقض عهدهم والاستواء معهم فأما مع غير العلم بنقض العهد منهم فلا يحل ولا يجوز)( ).
وعن ابن عباس قال: الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستلم الحجر فقد بايع الله ورسوله.
وأخرج الأزرقي والجندي عن ابن عباس قال : إن هذا الركن الأسود يمين الله في الأرض يصافح به عباده)( ).
بحث نحوي
قال المفسرون ان الإستفهام هنا انكاري، ولكنه أعم من ذلك، وعلينا ان لا نقيد علم التفسير بالقواعد النحوية تقييداً يحول دون بيان بعض وجوهه او اظهار شطر من أسرار وذخائر الآية.
نعم هو استفهام انكاري وفيه تبكيت وتوبيخ للكفار ولكنه ايضاً للتقرير وان موضوع الآية واقع وفيها لوم لفاعله، وقد تفيد التهكم, والتعجب من سوء فعلهم وما لا يتناسب مع ما يجب على المليين ويتعارض مع سيرة العقلاء.
ونتطلع الى مدرسة جديدة في النحو القرآني تمتاز بقواعد تتناسب وتعدد المعاني للفظ القرآني، وتتعدى حدود القواعد النحوية الثابتة على آيات القرآن لتنطبق على شطر من وجوه التفسير والتأويل.
ان في تقييد وحصر التفسير بقواعد ثابتة ومحدودة تضييع لوجوه كريمة ومفاتح مستحدثة منه لما تتضمنه الآيات القرآنية من العلوم، فقد يكون للكلمة القرآنية عدة وجوه اعرابية وكل وجه منها يدل على معنى مختلف وليس من تعارض بينها.
يجب ان يكون النحو وبأوسع أبوابه وأحسن وجوهه مدخلاً وطريقاً لتفسير القرآن، لا ان يكون حاكماً على التفسير ومقيداً لعلوم القرآن وما في كل آية من مفاهيم وكليات متشعبة تساهم في إدراك الحقائق والماهيات وما يتعلق بها من اللوازم والخصوصيات.
ومن إعجاز القرآن الذاتي إثباته بالنص والدلالة والتأويل على أنه أوسع وأعم من قاعد النحو، أي لو لا تستطيع صناعة لغوية أو نحوية أو صرفية أو بلاغي حصر معاني اللفظ القرآني فهو بذاته يفيض بالعلوم التي تفوقها وتزيد عليها، قال تعالى[قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا]( ).
مفهوم الآية
تنهى الآية في مفهومها الناس جميعاً عن نقض العهود بعد إبرامها وتذم الطرف الذي يتركها ويعرض عنها ويتجه الى فعل ما يخالفها وبذا يتطابق حكم الشرع مع حكم العقل في الدعوة الى الصدق والإيفاء بالعهود والوعود وقبح الجناية.
ومن الإعجاز في الآية أنها تجعل ترك العمل بالعهود فرع عدم الإيمان، أي ان الإيمان أصل تبتنى عليه عدة أحكام وسنن منها الوفاء بالعهود والتقيد بالشروط ونبذ الخيانة.
ومن مفاهيمها انها تحذير للمسلمين ودعوة لهم للحيطة في وعود الكافرين وما يقطعون من عهد.
وتلاحظ في الآية الدقة في الوصف والتقييم ومعرفة الناس في معادنهم ومللهم فان ترك وطرح العهود لم تكن عند الكافرين على نحو السالبة الكلية بل على نحو السالبة الجزئية ومع هذا فان الآية تدعو المسلمين للحذر واليقظة والفطنة والإستعداد لردع الخيانة والتصدي للنفاق.
وتعريض الآية بالكافرين الذين ينقضون العهود تنزيه واكرام للمسلمين ومدح لهم على عدم تركهم واعراضهم عن العهود حتى في حال تغير الموضوع وازديادهم قوة ومنعة، وهناك شواهد تأريخية كثيرة تبين التزام المسلمين بالعهود بل واعطائها ابتداء كما في موضوع نزول سورة التوبة [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
وفي الآية مسائل:
الأولى: إنصاف فريق منهم بحفظهم العهود أو عدم نقضها.
الثانية: وجود أمة منهم لا ينقضون العهود، او لا يرضون بنقضها، ولكنهم لا يؤثرون على مجريات الأمور، لأن من مصاديق النقض الضرر، مما يستلزم أخذ المسلمين الحذر حتى مع العهود.
الثالثة: تبين الآية قوة المسلمين، فهم حتى مع نقض الطرف الآخر للعهود يبقون في منازلهم، ويزدادون قوة.
الرابعة: رجاء إسلام فريق من أهل الكتاب كما تدل عليه الشواهد التأريخية في زمان النبوة، وقد اسلم عبدالله بن سلام وجماعة معه.
الآية لطف
تبين الآية حال معاملة فريق من الناس مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، إذ أنه جرت مواثيق وعهود معهم، ولكن فريقاً منهم ينقض تلك العهود.
إن نقض العهد أمر يسبب المشقة الزائدة والعناء، مما يدل على ما كان يلاقيه المسلمون في جهادهم وصبرهم وهو سبب لزيادة قوتهم ومنعتهم وتآخيهم ومنع الفرقة والشفاق فيما بينهم، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
وجاءت هذه الآية لطفاً بالمسلمين، ومنعاً من تسرب روح اليأس والوهن الى نفوسهم، فإذا قام العدو بنقض العهد فان المسلمين يتوقعون هذا الأمر، ولايفاجئم به، بل يكون وبالاً على العدو نفسه، ومناسبة لزجره، وتخبر الآية عما هو السبب والعلة وراء نقض العهود وهو الكفر والجحود.
فان الكفر يدفع بصاحبه الى الحسد والبغضاء والتعدي لتكون الآية مدرسة في المعرفة الإلهية وبياناً لحال الذين يجحدون بالنبوة، ودليلاً على حاجة المسلمين للسيف للدفاع عن أنفسهم ومبادئ واحكام الشريعة.
إفاضات الآية
تتضمن العهود التخفيف والسعة والمندوحة لأطرافها، وقد تأتي بعد قتال ، او تكون برزخاً دون القتال والتعدي، ومن الآيات في البعثة النبوية ان لواء الإسلام ينتشر مع العهود، فحينما يعقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون عهداً وميثاقاً وصلحاً مع غيرهم من الأمم والطوائف والملل فانه مناسبة لمعرفة الناس بالآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فترى كثيراً من الناس يدخل في الإسلام في مدة الهدنة والعهد، وهو أمر يبعث الغيظ والحسد في قلب العدو فيميل الى نقض العهد، ويتحين الفرصة للوثوب على المسلمين ظناً منه أنهم ركنوا الى عهده وصلحه وتوجهوا الى اعمالهم الخاصة وانشغلوا في الدنيا.
فجاءت هذه الآية لقطع الطريق عليه، وجعل نقضه للعهد لايضر إلا نفسه، وهذا الضرر من وجوه:
الأول: القبح الذاتي لنقض العهود.
الثاني: بعث الفرقة لذا قالت الآية بالتبعيض [نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ] مع اتحاد لفظ العهد في الآية ويزداد هذا الشقاق والخلاف فيما بينهم عند مواجهة المسلمين لنقض العهد ودفاعهم عن الثغور والشريعة والنفوس.
الثالث: سوء العاقبة في الأخرة لمن ينقض العهد الذي يعقده مع النبي والمسلمين.
وعن الأعمش قال: أعظم الخيانة أداء الأمانة إلى الخائنين، وقال : نقض العهد وفاء العهد لمن ليس له عهد)( ).
وليس هذا المعنى بتام، إنما يعمل المسلم بتكليفه، قال تعالى[وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً]( )، والذي يفيد الإطلاق وعموم الوفاء إلا مع القرينة الدالة على التقيد في المقام، ومن مصاديق قوله تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا]( )، ميل الإنسان بالفطرة إلى الوفاء بالعهود، وإدراك الفرد والجماعة لحسنه العقلي ونفعه العام.
الصلة بين أول وآخر الآية
لقد جاء الأنبياء بالبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعندما بعث صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة لاقى ومن آمن به صفوف الأذى من قومه فهاجر وأصحابه وأهل بيته إلى يثرب حيث كان اليهود يسكنون مع أهلها من الأوس والخزرج ومنهم بنو قريظة والنضير الذين عاهدوا النبي محمداً أن لايعينوا عليه أحداً، ثم نبذ بعضهم العهد وأعان قريشاً يوم الخندق.
وتتضمن الآية توجيه اللوم لهم لنقض العهد، وهو أمر قبيح ذاتاً وأثراً، ومن الإعجاز مجيء الآية بالإطلاق بخصوص العهود، والتقييد بخصوص نقضها والإخبار عن نقض فريق للعهود دون الجميع، فمنهم من كان ينهى عن نقض العهود التي عقدوها مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن إعجاز الآية أنها تقسم فريقاً من الناس إلى ثلاثة أقسام تتباين في القلة والكثرة وهي:
الأول: إرادة الكل في عقدهم العهود.
الثاني: الذين ينقضون العهد وهم فريق وطائفة منهم.
الثالث: الذين لا يؤمنون وهم أكثرهم.
وهذا التقسيم آية إعجازية تدل على العهود تتغشاهم جميعاً، وتدعوهم للتقيد بأحكامها، أما الذين ينبذونها فليس كلهم ولا الأكثر منه.
وبين كل قسم والقسم الآخر عموم وخصوص مطلق، فكل من لم يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يشمله العهد وإن قام به كبراؤهم فانه يشملهم جميعاً، وبين الذين لا يؤمنون وبين الذين ينقضون العهود عموم وخصوص مطلق، فكل من ينقض العهد هو غير مؤمن وليس العكس، وفيه إشارة إلى أن العهود قد تنقض نتيجة لعدم الإيمان، ووظيفة المؤمن عدم ترك العهد.
وتبين الآية حقيقة وهي أن عدم الإيمان اكثر قبحاً وضرراً من نقض العهد، إن حصر نبذ العهود بفريق دعوة للفريق الآخر بأن يتقيد بها وينهى من تركها كونها منكراً وفعلاً مذموماً عقلاً وشرعاً وعرفاً.
التفسير الذاتي
جاءت الآية معطوفة على الآية السابقة بحرف العطف الواو في (أَوَكُلَّمَا) والتي دخلت عليها ألف الإستفهام التي إبتدأ بها الكلام لبيان أثر الإنكار في المقام، ولأن الألف أُم حروف الإستفهام، بينما تدخل الواو على هل فتقول (وهل الشمس طالعة) لأن الأصل هو تقديم العاطف على حرف الإستفهام، وقيل الواو زائدة وهو بعيد لأن نظم الآيات جاء لذكر قبائح تتعلق بالنقض للمواثيق وجاء لفظ(كلما) لإفادة التكرار في ترك لعهود.
ومن إعجاز الآية أن العهد يصدر على نحو العموم أما النقض وترك العهد فيأتي من فريق وطائفة منهم، وفيه شاهد بأن القرآن من عند الله وأنه لم يأت لهتك وفضح الناس والإضرار بهم، بل جاء للإصلاح والهداية والإرشاد فلو كان المراد إهانة وقدح فريق من الناس أو أهل الكتاب لما قيدت الآية حصول النقض من فريق من المعاهدين منهم، ولكنها جاءت بالبيان الموضوعي، وما يكون وثيقة إلى يوم القيامة، لتخبر في مفهومها على أن فريقاً وطائفة منهم يتقيدون بالعهود التي يقصدونها.
وفيه إبقاء لباب المعاملة والتجارة معهم مفتوحاً، وإستدامة وتجدد المواثيق في ميادين الصلح والتراخي ولكن الآية تفيد لزوم أخذ الحيطة والحذر، وقد جاءت آيات القرآن بذم الذين ينقضون العهود مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ]( )، في ذم الذين أصروا على العناد من كفار قريش، والذين حالفوهم، إذ إنطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم، ومن خصائص خلافة الإنسان في الأرض، ونفخ الله الروح فيه، تعاهد الميثاق والعهد، وبه إنتظام للحياة، وبعث للسكينة في النفوس.
وهو مناسبة للتدبر في صنع الله وتعظيم شعائر الله.
ويفيد الجمع بين الآيتين مسائل:
الأولى: عدم إنحصار النقض أحياناً بفريق منهم، بل هو أعم أي أن العهد من الكلي المتواطئ الذي يتعهد به جميعهم، بينما النقض والنبذ من الكلي المشكك الذي يصدر أحياناً من فريق منهم، وهذا الفريق أيضاً يتصف بالقلة أحياناً والكثرة أحياناً أخرى.
الثانية: عدم إختصاص نقض العهود بوقت مخصوص.
الثالثة: حث المسلمين وأهل الكتاب والناس على التقيد بالعهود.
الرابعة: التحذير من نقض المواثيق.
الخامسة: تدل الآية على قوة المسلمين، وأنهم أصبحوا في حال عز وهيبة وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ) وفيه وجوه:
الأول: عقد العهود والمواثيق مع غيرهم من الناس.
الثاني: قيام فريق من الذين يعقد معهم المسلمون العهود بنقضها.
الثالث: تحذير وإنذار الذين ينقضون العهود مع المسلمين.
الرابع: مجيء هذا الإنذار من عند الله عز وجل في القرآن، وفيه مدد وعون إضافي للمسلمين.
الخامس : لزوم عدم الإنتقام أو البطش بسبب نقض العهود.
ومن إعجاز الآية أنها تحذير متحد في موضوعه، ومتباين في جهته، من وجوه:
الأول: التنبيه والزجر عن نقض العهود، خصوصاً وأن المسلمين يزدادون قوة وثباتاً في منازل الإيمان ودولتهم تأخذ بالإتساع.
الثاني: تخويف وتحذير الناس من نقض العهود مع المسلمين فمن عقد عهداً معهم عليه أن يحرص على التقيد به، ومن يريد أن يعقد عهداً معهم لابد أن يعمل على الوفاء به.
الثالث: تحذير المسلمين من الذين ينقضون العهود والمواثيق، فمع وجود هؤلاء يلزم المسلمين الحيطة والإستعداد لما يترتب على نبذ الطرف الآخر والعدو العهود[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ]( ).
الرابع : تأديب المسلمين، وإرشادهم إلى تعاهد وحفظ العقود والمواثيق مع غيرهم.
ومن إعجاز الآية أنها لم تأت بصيغة الخطاب والتوبيخ بل جاءت بصيغة الجملة الخبرية ليكون المعنى أعم والنفع أكثر، مع تضمنه للغة التوبيخ والذم ذاتها للذين يتصفون بنقض العهد.
وبين نبذ العهود والكفر عموم وخصوص مطلق بلحاظ أن نبذ العهود فرع من الكفر والجحود، ولما نزل قوله تعالى[بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ) بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام على ناقة النبي وتسمى العضباء فخطب عند جمرة العقبة : وقال يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم بأن لا يدخل البيت كافر و لا يحج البيت مشرك و لا يطوف بالبيت عريان و من كان له عهد عند رسول الله فله عهده إلى أربعة أشهر ومن لا عهد له فله مدة بقية الأشهر الحرم و قرأ عليهم سورة براءة)( ).
ومن الآيات في الشريعة الإسلامية وبيان مصاديق هذا الحفظ قوله تعالى[بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِين* فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ]( ).
وعن الإمام جعفر الصادق: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا بكر مع براءة إلى الموسم ليقرأها على الناس ، فنزل جبرئيل فقال: لا يبلغ عنك الا على، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله عليا فأمره أن يركب ناقة العضباء وأمره أن يلحق أبا بكر فيأخذ منه براءة ويقرأه على الناس بمكة ، فقال أبوبكر: أسخطة؟ فقال: لا الا انه انزل عليه لا يبلغ الا رجل منك ، فلما قدم على مكة وكان يوم النحر بعد الظهر وهو يوم الحج الاكبر،
قام ثم قال: انى رسول الله اليكم، فقرأها عليهم: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الارض أربعه أشهر) عشرين من ذى الحجة ومحرم وصفر وشهر ربيع الاول، وعشرا من شهر ربيع الآخر، وقال: لا يطوف بالبيت عريان ولا عريانة، ولا مشرك الا من كان له عهد عند رسول الله، فمدته إلى هذه الاربعة الاشهر)( ).
وأخرج عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث علياً بأربع: لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فهو إلى عهده، وإن الله ورسوله بريء من المشركين)( ).
ووردت روايتان عن أبي هريرة وأنه كان مع الإمام علي عليه السلام واحدة تقول(فهو إلى عهده) والأخرى (ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أمره أو أجله إلى أربعة أشهر فإذا مضت الأربعة أشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله)( ).
ويبين الجمع بين الآية محل البحث والآية أعلاه من سورة التوبة فضل الله عز وجل بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعاهد أهل الكتاب، ويبقون على عهدهم إلى أن يقوموا هم أنفسهم بنقضه ونبذه، أو يتم إلى أوانه , ولو رجعوا إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعفا عنهم، وقد لا يأتي نبذ العهود بالنقض وحده، بل بالمكر وإيذاء المسلمين، وإعانة كفار قريش عليهم، لذا فأن الآية تنبيه وتخويف من سوء عاقبة هذا النبذ في الدنيا والآخرة , ولزوم إجتنابه.
وورد لفظ (أكثرهم) في القرآن خمساً وأربعين مرة، جاءت في ذم الكفار والظالمين وإخباراً عن تخلفهم عن وظائف العلم والإدراك والتدبر في الآيات.
ولم يرد لفظ(أكثرهم لا يؤمنون) إلا في هذه الآية الكريمة، بينما ورد قوله تعالى[وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ] ثمان مرات في سورة الشعراء وحدها، وفيه بيان لموضوعية مضامين سورة البقرة وما فيها من الإنذارات ولغة الوعيد والتخويف لأهل الكتاب والناس جميعاً، وتحذير المسلمين من الذين يتركون العهود خلف ظهورهم ولا يتقيدون بها مع حاجة المسلمين لإجتناب أذاهم، وكفاية شرهم.
ولكن الله عز وجل هو الذي ينصر الإسلام، ويظهر رسوله الكريم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , فهؤلاء عندما أدركوا أن دولة الإسلام تزداد إتساعاً، وأن العهود التي عقدها معهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جعلتهم عاجزين عن نصرة الكفار وأعداء الإسلام، فأرادوا إعانتهم قبل أن يصبح المسلمون أقوياء قادرين على قهر أعدائهم مجتمعين ومتفرقين.
وجاءت هذه الآية للزجر عن نقض ونبذ العهود، كما تفضل الله عز وجل بنصر المسلمين بمدد ملكوتي متكرر من السماء، ليعلم الذين نبذوا العهود بأنهم لن يضروا إلا أنفسهم, قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: التحذير من تعدد وكثرة نقض العهود التي ابرمها بنو إسرائيل مع المسلمين.
الثانية: دعوة المسلمين لأخذ الحذر والحائطة من إحتمال نقض العهود والتشديد في لزوم العمل بأحكامها.
الثالثة : حث الناس على عدم نقض العهود، فاذا كانت طائفة منهم تنقض العهود، فان فريقاً آخر من ذات الملة لا يرضى بهذا النقض، وجاءت الآية لتدعوه الى الحيلولة دون غلبة الذين يمكرون وينقضون العهود.
الرابعة: دعوة الناس جميعاً الى احترام العهود والتقيد بأحكامها وإجتناب نقضها.
الخامسة: تذكير أهل الكتاب بالمواثيق التي اخذها الله عليهم بإتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين بعثته.
السادسة: طرد الغفلة عن المسلمين عند إبرام وعقد المواثيق.
السابعة: عدم إضرار نقض العهود بالمسلمين لمجيء الآية بفضحه قبل وقوعه.
الثامنة: دعوة المسلمين لمراقبة عدوهم وان عقدوا معه صلحاً، وهل تحث الآية على أخذ الضمان والمواثيق على الطرف الآخر لكي لا ينقض عهده، الجواب نعم.
التاسعة: جاء حرف الإضراب بل ليبين ان المسألة في المقام هي كفر وجحود فريق من الناس بنبوة محمد وعدم ايمانهم بها.
العاشرة: الآية دعوة للمسلمين الى عدم القاء السلاح حتى وان ابرموا العهود والعقود مع العدو، لأن العدو يجعل العهد أمراً متزلزلاً غير مستقر.
الحادي عشر: ذكرت الآية فريقاً منهم ينقضون العهود اما الفريق الآخر فلم تذكره الآية وتدل في مفهومها على عدم نقضه للعهد وفيه وجوه:
الأول: عدم الرضا عن نقض العهود لقبحه الذاتي ولما فيه من الشين.
الثاني: وجود أمة في بني إسرائيل تنهى عن نقض العهود قال تعالى[وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ] ( ).
الثالث: معرفتهم عودة النقض عليهم بالخسارة والخزي.
الرابع: إدراك حقيقة وهي الهزيمة أمام المسلمين في حال نقضه، وتكون الخسارة فادحة وعامة.
الخامس: العلم بقوة المسلمين، وقدرتهم على الرد والتغلب على نقض العهد.
التفسير
قوله تعالى[أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ]
ومن إعجاز الآية أمور:
الأول : تأديب للمسلمين.
الثاني : المنع من الإنتقام والبطش بالذي ينقض العهد.
الثالث : تجعل الآية المسلمين يحتملون نقض الطرف الآخر للعهد, وقد أثنى الله على المسلمين وبشرهم بالجنة بقوله تعالى[وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الرابع : إستعداد المسلمين لحال نقض العهد وما يترتب عليه من الأثر فلا تحصل مباغتة ورد فعل شديد وقاس.
الخامس : إحتراز المسلمين، وتعاهدهم للثغور ومواطن الميثاق والعهد.
السادس : طرد الغفلة ونفي الجهالة عن المسلمين.
إن إستحضار نقض الميثاق مدرسة ودعوة لحفظه وتعاهده , ولا تنحصر هذه الدعوة بالمسلمين أو فريق من أهل الكتاب بل هي عامة، وهل تشمل الآية في مفهومها الدعوة للحفاظ على العهود والمواثيق بين أهل الملل الأخرى مما لا يكون المسلمون طرفاً فيه.
الجواب لا دليل عليه لأن القدر المتيقن من الآية التقيد بالعهود مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، والآية مناسبة لتفقه المسلمين في الدين وإنقطاعهم للعبادة وحفظهم للقرآن، وبناء أمصارهم، وتعاهد الزراعات والتجارات , وتقوية الثغور , وهي من أسباب ومنافع العهد والمواثيق .
وتدل الآية بأن الإسلام لم يقم وينتشر بالسيف وأن القرآن يدعو المسلمين إلى حفظ العهود وإن تبدل الموضوع وأصبح المسلمون أقوى من الطرف الآخر للميثاق مما يدل بالدلالة التضمنية على أن العهد مع المسلمين خير محض .
وتتضمن الآية ذماً للمداومة على نقض العهود والرجوع عما يُعطى ويؤحذ من المواثيق التي هي من نواميس وكرائم الجنس البشري في تنظيم الحياة والمعاملات.
وقال الرازي: فكأنه تعالى اراد تسلية الرسول عند كفرهم بما انزل عليه من الآيات من الغيب بان ذلك ليس ببدع منهم، بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم( )، ولكن المقاصد الشريفة من الآية أعم عقائدياً وتأريخياً وأخلاقياً وفيها دروس سماوية عظيمة النفع منها:
الأول : إنها وثيقة سماوية تضع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين منهجاً كريماً متحصناً بالتوكل على الله في التعامل مع الملل والجماعات الأخرى للتعايش الحسن بين الناس جميعاً.
وفيها تحذير من الركون الى العهود والمواثيق التي يعطيها الآخرون لعمومات القاعدة الكلية ان القرآن نزل بلغة إياكِ أعني واسمعي يا جارة، أي اذا كان كفار قريش مثلاً معتادين على النقض بعد الإبرام فكيف حال غيرهم ممن يحيط بالمسلمين من القبائل التي تمارس الغزو والسبي والغصب ولأسباب شخصية وساذجة.
الثاني : على طريقة تفسير القرآن بالقرآن يمكن ان نتلمس تفسيراً لهذه الآية والآيات التي تحذر المؤمنين وتحثهم على التربص وخشية المباغتة.
الثالث : دعوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالبقاء يقظين لا يغفلون ساعة من ليل او نهار، وتلك اليقظة لا تنحصر بالجانب العسكري والقتالي بل تشمل الميادين الفكرية والإجتماعية والتربوية، اذ انهم يحاولون ان يبثوا سمومهم ويقربوا شكوكهم الى اذهان الناس والى الواقع الخارجي بالشبهة والمغالطة والجدل.
الرابع : فيها تخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وواقية من احتمال توجيه اللوم والسؤال الإستنكاري لإتصال الجهاد ودوام المواجهة مع غير المسلمين والمليين منهم بالذات.
الخامس : الآية سلاح فكري وحصانة نفسية من المفاجأة بنقض الآخرين للعهود والمواثيق بالاضافة الى الاستعداد لمثل هذا الاحتمال الطارئ وما يتمثل به من التعدي وصيغ الغدر وما يترتب عليه من الآثار السلبية الضارة في ميادين الدفاع والحياة المدنية والعقائدية، ولعل من أهم اسباب النقض هو محاولة إحداث الإرباك الفكري.
السادس : فيها منع للمسلمين من اظهار العجز او القنوط من صيغ الجهاد، فما دام العدو يتربص المكائد والفرص للنقض والإنقضاض كيف الركون الى عهده.
السابع : إن الافتراء على نبي الله سليمان عليه السلام ونعته باتيان السحر حينما رأوا منه الأمور العجيبة او تسخير الجن جنوداً له، قد يسري الى رمي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفعل السحر، وهو الأمر الذي حصل من وجهاء قريش منذ الأيام الأولى للإسلام وإجتمع وتشاور بعض كبراء كفار قريش في أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأيام الأولى للبعثة (فقال أبو جهل هو مجنون و قال زمعة هو شاعر و قال خويطب هو كاهن ثم أتوا الوليد بن المغيرة و عرضوا ذلك عليه فقال هو ساحرإِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا( ).
ولكن تلك المقولة سرعان ما تبددت واندحرت امام اعجاز القرآن البلاغي الذي سبق ذلك الإفتراء والتعدي وتأخر عنه، ولكنه حينما يصدر من فريق من أهل الكتاب يكون تأثيره السلبي اكثر وأضر لأنهم من المليين ويقولون بالنبوة ونزول الكتاب، ويرجع اليهم شطر من المشركين في السؤال والرأي بلحاظ انهم أهل كتاب خصوصاً وان المسلمين يقرون بالتوراة والإنجيل.
الثامن : فيها عبرة وموعظة تساهم في ارتقاء المسلمين الفكري واحاطتهم علماً بسجايا الأمم وسننهم، اذ ان كمال الإنسان يتعلق بنهج وسيرة مركبة من ترك ما لا ينبغي شرعاً وعقلاً، وفعل ما ينبغي واجباً كان او مندوباً.
التاسع : توكيد قبح الإخلال بالعهود والمواثيق وذم للذين ينقضونها، لذا ترى في الفقه الإسلامي قاعدة كلية ثابتة وهي “المؤمنون عند شروطهم” مفادها الإلتزام بالشرط واتخاذه مبنى في الحكم.
العاشر : عدم الركون الى عهود الكفار والمشركين , وإحتمال حصول النقض والمماطلة وقد أعطت سورة براءة (التوبة) للناس موعظة بلزوم تعاهد المواثيق وهي دعوة لدخول الإسلام.
الحادي عشر : الإخبار عن قيامهم المستمر بنقض العهود واقية وحرز نفسي للمسلمين عامة يحول دون الإرتباك او الشك او التخاذل عند حصول النقض.
الثاني عشر : منهم من قال ان (ما) في (كلما) اسم نكرة بمعنى وقت، فتكون الجملة بعدها نعتاً لها، والتقدير كل وقت يعاهدون فيه عهداً ينبذه فريق منهم، فتكون للآية دلالات اعجازية منها احاطة المسلمين علماً بسجاياهم واخبارهم وتحذيرهم فيما تم من العهود او ما سيأتي منها بلحاظ الزمن سواء كان ماضياً او مستقبلاً.
الثالث عشر : الآية في مفهومها حث للمسلمين على عدم نقض العهد والميثاق وتجسد ذلك في الواقع كتطبيق وترجمة للآية وتأديب للمسلمين بسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقادة المسلمين في مواثيقهم مع الكفار وأهل الذمة خاصة، ويدل إصطلاح أهل الذمة على التزام المسلمين بمواثيقهم وتحملهم ما يتعقب العهد من مسؤوليات مركبة.
الرابع عشر : فيها إقرار بصدق النبوة وما عليه المسلمون من الصواب وسلامة العقيدة والمذهب، اذ ان إقدام غيرهم على العهد معهم لابد ان يكون عن رضا وقناعة بأحكام الاسلام , ولو على نحو الموجبة الجزئية.
الخامس عشر : فيها تثبيت لمنزلة المسلمين وعظيم شأنهم بين الأمم وأهليتهم لإبرام العهود، لذا ورد أن أدنى المسلمين له ذمة وأهلية لإعطاء الأمن ولو كان عبداً مملوكاً.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “يسعى بذمتهم أدناهم”،( ) وفي رواية : “ان علياً عليه السلام أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون، وقال عليه السلام: من المؤمنين”.
السادس عشر : لا عبرة بنقض ونبذ الغير للعهود بل يلزمون بها، اذ لا يترتب الأثر على الإنكار بعد الإقرار.
السابع عشر : في الآية وبالدلالة التضمنية اذن بالغلظة وعدم موضوعية العهد بعد نقضهم له، فلا يجب على المسلمين ان يلتزموا بالعهد وما عليهم فيه بعد نقض الطرف الآخر، وهل فيها رخصة بأخذهم بأشد الأحوال، الجواب لا دليل عليه.
الثامن عشر : ورد في الآية عن ابن عباس ان المراد بالعهد هو الذي أخذه الأنبياء عليهم أن يؤمنوا بالنبي الأمي، والآية عامة تشمل الجماعات والافراد زماناً ومكاناً واشخاصاً وهي عبرة ودرس وغاية وميثاق.
التاسع عشر : العهد رحمة وفضل من الله تعالى، ونقضه جحود منهم لتلك النعمة، ويمكن استقراء ذلك من سياق الآية وانها تفيد التذكير بالنعم الإلهية على الناس، الخاصة منها والعامة وغايات العهد لا تنحصر بالأمان وايقاف القتال والعدوان، بل انه مناسبة لإطلاع الآخرين وفهمهم للإسلام واستبصارهم بالآيات واعجاز القرآن، وهو ايضاً فرصة لتثبيت قوة المسلمين وإتساع رقعة الإسلام في جوانب وميادين وجبهات أخرى.
العشرون : تترشح عن لطف الله تعالى إفاضات لا تنحصر بالمؤمنين بل تشمل الكافرين، ولكن المؤمنين هم الذين ينتفعون منه أي ينفردون بالقابلية لنيله وأخذه، فمن صفاته تعالى اللطيف والرحيم والرؤوف ففعله واحد , انما التباين بالقوابل اهلية واستحقاقاً واستجابة وفعلاً، كما ترى بعض السطوح تختلف في قبول ضوء الشمس والأجسام تتباين وتتفاوت في التسخين بالحرارة مع اتحاد العلة كماً وكيفاً.
الحادي والعشرون : لغة التبعيض التي يدل عليها حرف الجر “من” في [فَرِيقٌ مِنْهُمْ] تشير الى عدم مؤاخذتهم جميعاً بسبب النقض لأنه لم ينقض من قبل الجميع ولعمومات قوله تعالى[وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( ) ففي الآية دقة وحكمة ونكتة عقائدية ودعوة للإنصاف.
وتحتمل الواو في [عاهدوا] في عائديتها وجوها:
الأول : إرادة الكفار عامة.
الثاني : المقصود كفار قريش والقبائل التي حول مكة.
الثالث : المراد فريق من أهل الكتاب.
الرابع : عودة واو الجماعة للفاسقين لإختتام الآية السابقة بقوله تعالى[وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ].
وقرأ ابو السَّمَّال بسكون الواو في [أو كلما]( ) إشارة إلى الفاسقين ليكون المعنى بالإتصال بين هذه الآية والتي قبلها: وما يكفر بالآيات الا الفاسقون او الذين يتكرر منهم نقض العهد.
الخامس : تعود لمن يتصف بصفات القبح المتقدمة، من عداوة الله وملائكته ورسله.
وهنا تظهر الحاجة الى علم سياق الآيات في المقام وما يتفرع عنه من أبواب العلوم وما يستلزمه من دراسات، فموضوع الآية وان كان شخصياً فإنه يصلح ان يكون قاعدة كلية ترى شواهدها متكررة.
وصيغة الغائب في هذه الآيات لا تتعارض مع صيغة الخطاب في الآيات السابقة لأن الإنتقال من لغة الخطاب الى الغيبة أمر معهود في اللغة العربية ويسمى في الإصطلاح البلاغي (الإلتفات).
وإرادة خصوص فريق منهم لا يمنع من قصد وارادة غيرهم من الناس ، فذكر فريق مخصوص برزخ بين اسباب النزول وتوجه الخطاب اليهم لاسيما وقد تقدم التحقيق بأن مفاهيم الآية أعم وتشمل تأديب المسلمين وقصد اتعاظهم .
وقراءة ابي السّمال شاذة وقد لا تتناسب والمعنى الإنسباقي للآية وأبو السمال قعنب ابن أبي قعنب العدوي البصري له قراءات شذ بها عن الجمهور.
قوله تعالى [بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ]
بيان لما هو أهم من نقض العهود وقد تكون العلة المادية للنكوص، للحاظ الايمان في معرفة السلوك، والضمير (هم) في [ أكثرهم ] في عائديته على وجوه محتملة:
الأول : الذين يعقدون العهد.
الثاني : الفريق الذي يطرح العهد ولا يعمل به فيكون عدم الإيمان عند اكثرهم سبباً للنقض وعدم الإلتزام بالعهد.
الثالث : الذين كانوا موجودين ايام الرسالة من الملل الأخرى.
ان وجود حرف الإضراب (بل) دون الحروف الأخرى مثل (ان) ونحوها قد يساعد في تحديد المقصودين بالضمير في المقام وهو لا يتعارض مع عموم الآية، وفيه نوع تقبيح تعريف لتلك السجايا من النقض والغدر عندهم كمبرزات خارجية ومعلولات لعلة عدم الإيمان التي يتصف بها اكثرهم، أي لما كان اكثرهم لا يؤمنون، فلا غرابة ان يكون فريق من الأكثر ينقضون العهد، وفي الآية مسائل:
الأولى : ان نقض العهد من صفات الذين انعدم عندهم الإيمان مما يدل على الملازمة بين الإيمان والوفاء بالعهد، فمع فقد عنصر الإيمان يبقى إحتمال نقض العهد قائماً.
الثانية : في الآية ايضاً إشارة إلى التأثير السلبي للذين ينقضون العهد على تلك الجماعات والملل، أي أن عدم الإيمان مناخ مناسب للمكائد والعزم على السوء وفعل القبيح والعدوان، وبعد أن واعد كعب بن أسد القُرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم على قومه نقض العهد بتأثير واغواء حيي بن اخطب النضري وان كان قد إمتنع وأبى بشدة في أول الأمر بقوله وشهادته: “لم أرَ من محمد الا صدقاً ووفاءً”( ).
الثالثة : إن نقض العهد من قبل بعضهم هو الصغرى، أما الكبرى فهي عدم ايمانهم وتصديقهم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من الآيات.
الرابع : الآية تطمين للمؤمنين وتحذير لهم من احتمال إقدام غيرهم على ما هو أشد ضرراً وأكبر خطراً من نقض العهد وما يترتب عليه.
الخامس : في الآية تأديب وتعليم عقائدي للمسلمين بالإهتمام بعلل أنماط السلوك ومعرفة مناسبة إعطاء العهود وعدمها بحسب الأولوية والتقيد بها وجعل الحكم مبتنى عليها.
السادس : لم يكن عدم الإيمان صفة شاملة لفريق منهم على نحو العموم الإستغراقي او العموم المجموعي، بل ان جماعة منهم كانوا مؤمنين او انهم سيؤمنون ويلتحقون بالمسلمين، قال تعالى [ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ]( ).
السابع : التمييز والتفريق بينهم في الحكم والتصرف بالمناسب اذ ان نفي الإيمان عن اكثرهم يدل بمفهوم المخالفة على التخصيص، ففي الآية انصاف وارشاد الى العدل.
الثامن : الذين ينبذون العهد انما هم فريق منهم، والفريق: الطائفة، بينما الذين لا يؤمنون هم الأكثر منهم، وهناك عموم وخصوص مطلق بينهما، فالذين لا يؤمنون اكثر عدداً وأعم من الذين يتركون عهودهم فيمكن تقسيمهم وفق مفهوم الآية الكريمة الى:
الأول : مؤمنون وهم القلة منهم وقد بادروا الى إظهار الإسلام والتصديق بنبوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : غير مؤمنين وهم الأكثر وهؤلاء ينقسمون الى فريقين:
الأول: الذين نبذوا العهود واعرضوا عما عاهدوا.
الثاني: الذين لم ينبذوا العهود، وهؤلاء ينقسمون الى شعبتين بلحاظ السبب وعلة عدم النقض:
الأولى : لم ينقضوا لهوانهم وعدم اعتبارهم كالمستضعفين منهم .
الثانية : إلتزامهم بالعهد والميثاق.
فالآية الكريمة تذم غير المؤمنين والذين ينقضون العهود.
وهل يمكن القول ان بين الذين لا يؤمنون والذين ينقضون العهود عموم وخصوص من وجه، أم بينهم عموم وخصوص مطلق، الجواب: هو الاخير للملازمة بين عدم الإيمان ونقض العهد.
وأختتمت الآية ببيان حقيقة وهي أن الأكثر منهم لا يؤمنون , والنسبة بينه وبين قوله تعالى[وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ]( )، الجواب هي العموم والخصوص المطلق، إذ أن الآية أعلاه أعم في موضوعها ومصاديقها , والقدر المتيقن من آية البحث هم الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن إعجاز القرآن أن يلتقي الوصف بين الناس عموما بأن أكثرهم لا يؤمنون وبين الذين يعاهدون رسول الله وينقضون العهد والميثاق.
وفي الآية إعجاز يتجلى بالتحدي في تكرار وتعداد النقض من الطرف الآخر، بقوله تعالى(أو كلما عاهدوا) مع التباين فيه من جهة الملة والإنتماء والإنتساب.
وفيه شاهد تصديق للأخبار الواردة في السيرة النبوية عن نقض قريش مثلا العهود التي أبرموها مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي الآية دعوة لأهل الكتاب وغيرهم بلزوم زجر الذين ينقضون العهد، ويمنعون سلطانهم وإمضاء نقضهم، وتلك آية في إصلاح القرآن للمجتمعات وأهل الملل , ودفع أسباب الغدر والخيانة .
ومن إعجاز الآية بيان التباين بين نقض العهد وعدم الإيمان، وحتى لو تكرر النقض من ذات الطرف فلا يكون من عدم الإيمان , نعم هو فرع منه ومترشح عنه.
وفي خاتمة الآية حذف , والتقدير على وجوه:
الأول : أكثرهم لا يؤمنون بوجوب الوفاء بالعهد.
الثاني : أكثرهم لا يؤمنون بالعواقب الوخيمة لنقض العهد، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ]( ).
الثالث : بلحاظ الآية السابقة يكون المعنى أكثرهم يكفرون بالآيات والبينات التي أنزل الله عز وجل.
الرابع : أكثرهم لا يؤمنون بظهور دولة الإسلام.
الخامس : لا يؤمنون بمطابقة صفات نبي آخر زمان لشخص رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : لا يؤمنون بالحساب يوم القيامة على نقض العهد قال تعالى[إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً]( ).
السابع : لا يؤمنون بأن نقضهم الميثاق سيوثق بذكره بالقرآن الكتاب الخالد والباقي سالماً من التحريف إلى يوم القيامة، وكان المنافقون يحذرون أن تنزل سورة تتضمن ذمهم.
ورد عن كعب بن مالك قال: قال محشي بن حمير : لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منكم مائة على أن ينجو من أن ينزل فينا قرآن. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمار بن ياسر أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا، فإن هم أنكروا وكتموا فقل بلى قد قلتم كذا وكذا ، فأدركهم فقال لهم. فجاءوا يعتذرون، فأنزل الله {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم} فكان الذي عفا الله عنه محشي بن حمير، فتسمى عبد الرحمن وسأل الله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمقتله. فقتل باليمامة لا يعلم مقتله، ولا من قتله، ولا يرى له أثر ولا عين)( ).
لقد أختتمت الآية بقانون كلي وهو[بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] وفيه إعجاز بلحاظ الإخبار عما في الصدور , وعلم الله عز وجل بما يدور في منتدياتهم ومجالسهم الخاصة , وفيه آية في بعث الحذر والحيطة في نفوس المسلمين، والإحتراز منهم، قال تعالى في خطاب للمسلمين[لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( ).
ويتجلى الإعجاز أيضاً ببيان كبرى كلية وهي أن عدم الإيمان أقبح فعلاً وأشد ضرراً من نقض العهود لذا جاءت الخاتمة بصيغة أداة الإضراب(بل) وفيه حث للمسلمين لدعوة الناس إلى الإيمان، وعدم الوقوف عند نقض العهود وإن كانت كبيرة وظلم، فمع الإيمان وحصوله يكون الطرف الآخر في العهد أخاً لك، ويسقط من الأصل موضوع الميثاق معه لتبدل الموضوع ، وتلك آية في ماهية الحياة الإنسانية، وموضوعية الإيمان في إصلاح السرائر، والعصمة بالهداية من أسباب الإثم والضلالة.
لتتضمن خاتمة الآية في مفهومها دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة الإيمان وما فيه من السلامة من الذم والتوبيخ في باب المواثيق، لحرص المسلمين على حفظ وتعاهد المواثيق وهو الذي تؤدي وتدل عليه هذه الآية الكريمة وتلاوة المسلمين لها في الصلاح وخارجها.