معالم الايمان في تفسير القرآن – سورة البقرة – ج 17

  (101-105)

                       


المقدمة

الحمد لله الذي أنزل القرآن كنزاً من تحت العرش بصبغة الصدق موضوعاً وحكماً، وهو الصادق بذاته والمُصدِق للكتب السماوية السابقة، والمصدَق بالبشارات بتنزيله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصدَق بالوقائع وإلى يوم القيامة بما يفيد المطابقة بين آياته وما فيه من الأخبار والأنباء وبين الحوادث المتعاقبة، قال تعالى[فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون]([1]).

وجاء القرآن بالإخبار عن صيرورة رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حقاً وصدقاً، قال تعالى[لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ]([2])، إذ جاء مصداقها العملي كفلق الصبح وبمرأى من المسلمين والناس ، بدخول المسلمين البيت الحرام في عمرة القضاء عام سبع للهجرة.

وهل للناس موضوعية في صبغة التصديق التي يتصف بها القرآن، الجواب نعم، فقد جعل الله عز وجل المسلمين والمسلمات شهوداً مصدقين على نزول القرآن يتعاهدون رسمه وآياته بالتلاوة والحفظ والعمل بمضامينه.

لقد أراد الله عز وجل لأفراد الزمان أن تكون علامات ودلائل على صدق القرآن، ومدداً ووعاءً وزمانياً لثبات المسلمين في مواطن التصديق بالتنزيل وتقريب الناس منها.

وقد إبتدأ هذا الجزء وهو السابع عشر من معالم الإيمان في تفسير القرآن بحلته الجديدة الموسعة بتفسير وتأويل قوله تعالى[وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ]([3])، لبيان حقيقة وهي تقوم سنخية الصدق في القرآن من وجوه:

الأول : نزوله من عند الله عز وجل ليكون أعظم هبة ونعمة نازلة بالخير والبركة على أهل الأرض.

الثاني : مجيؤه لأهل الكتاب والناس، وما في(ولما جاءهم) من البراهين على معرفتهم به وفهمهم لدرره , وحلوله بين ظهرانيهم وبلوغه إلى منتدياتهم وأسماعهم.

الثالث : إتصاف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين التبليغ بصفة أنه رسول الله مما يدل على إبرام وإمضاء مضامين الرسالة ووصولها إلى أهل الكتاب خالية من النقص والتبديل، وفيه حجة على سلامة القرآن من التحريف، وعجز أعداء التنزيل عن حجب وصول القرآن إلى الناس إلى جانب الوعيد للذين يجحدون به قبل التدبر في نظمه، والسياحة في معانيه، وتصفح دلائله والنظر بإمعان إلى إستنباط علماء الإسلام منه المسائل والأحكام، قال تعالى[بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ]([4]).

الرابع : أهلية القرآن بذاته للبيان والتبليغ من غير وسائط ومقدمات وشرائط , لقوله تعالى ( ولما جاءهم ) وما فيه من مفاهيم الفاعلية والإعجاز الذاتي .

 وأختتم هذا الجزء بقوله تعالى بموضوع متعلق بالتنزيل والتصديق به بقوله تعالى[مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ…]([5]).

لبيان نعمة الوحي والتنزيل وأن المسلمين فازوا بهما، وفيه بشارة نزول البركات وترشح الخير والنصرة ومصاحبة العلوم ومضامين الحكمة للقرآن، ويكون حال المسلمين في تقواهم وصلاحهم وإرتقائهم وثرواتهم من شواهد الصدق على نزول القرآن من عند الله , وسيأتي بيانه في تفسير خاتمة آخر الآية من هذا الجزء وهي[وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]([6]).  

قوله تعالى [ وَلَمَّا جاءَ هُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْد اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] الآية 101.

الإعراب واللغة

(ولما): الواو: عاطفة، لما: في موضع نصب على الظرفية وهي بمعنى (حين) لذا يسمونها في مثل هذه الحال والتركيب بالحينية، وتدل على وقوع الشيء بوقوع غيره فيقال انها حرف وجود لوجود، والعامل فيه نبذ .

 جاءهم: فعل ماض، والضمير(هم) مفعول به.

رسول: فاعل مرفوع , من عند: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لرسول، اسم الجلالة: مضاف إليه مجرور.

مصدق: صفة لرسول مرفوعة , وقال الطبرسي (ولو نصب لكان جائزاً لأن رسول قد وصف بقوله [مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] فلذلك يحسن نصبه على الحال الا انه لا يجوز في القراءة الا الرفع لأن القراءة سنة متبعة)([7]).

أقول: الأولى عدم تطبيق القواعد النحوية المحتملة على آيات القرآن وكلماته او وفق القراءات الشاذة وغير المتعارفة، بل علينا ان نفسر القرآن على قراءته المتواترة والمتعارفة عند المسلمين.

وصحيح ان الحال وصف في الجملة الا انه مسوق لبيان الهيئة، وتسمى مؤسسة لأنها تشير الى معنى جديد، وللتوكيد وتسمى مؤكدة وهي التي يترشح معناها مما سبقها كما في قوله تعالى [ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]([8]).

فالإستدبار مستقل عن التولي والإدبار وقابل للإنفكاك عنه، والحال صفة وعرض غير ملازم في الغالب وهي الأصل وتسمى الحال المنتقلة وهي التي لا تلازم صاحبها، وقد تلازمه ولكن بشروط منها ان تكون مؤكدة بانواعها، وان يكون عاملها مشعراً بالحدوث كقوله تعالى [ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]([9]).

ففي المقام يختلف المعنى بين الصفة والحال، وتصديقه لما معهم من الآيات فرد من صفاته وما يمتاز به من الكمالات واسرار النبوة، وان الغاية من بعثته أعظم واكبر من التصديق بما عندهم بل الأخذ بايديهم الى الديانة الباقية الى يوم القيامة، هذا التصديق ليس هو الملاك انما هو نوع طريقية لإسلامهم وتوكيد لما في ايديهم من التوراة وفيها صفته ونعته صلى الله عليه وآله وسلم.

لما: جار ومجرور متعلقان بمصدق، معهم: ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة للموصول .

 والضمير(هم) مضاف إليه، نبذ: فعل ماض، فريق: فاعل مرفوع، من الذين: جار ومجرور.

أوتوا: فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، الواو: نائب فاعل، الكتاب: مفعول به منصوب بالفتحة، عامله أوتوا .

 كتاب الله: كتاب مفعول به منصوب عامله نبذ، اسم الجلالة: مضاف إليه مجرور.

وراء: ظرف مكان منصوب، وظهورهم: ظهور مضاف إليه مجرور، وهو مضاف والضمير(هم) مضاف إليه.

كأنهم: حرف شبه بالفعل وإسمه، لا يعلمون: لا: نافية، يعلمون: فعل مضارع مرفوع، والواو: فاعل، وجملة كأن حالية.

في سياق الآيات

تبين هذه الآية والآيتان السابقتان الجحود والإستكبار الفكري في مواجهة الرسالة الإسلامية وكيف انه تعدى بالإصرار والفسوق من ترك المواثيق.

وهذه الآية جزء من الآيات التي تبين قبائح شطر من أهل الكتاب وهي صريحة باثبات رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه مصدق وشاهد على رسالة موسى عليه السلام.

وجاءت الآية السابقة في ذم نقض العهود وتحذير الذين يتركون العمل بما عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عليه، وأختتمت بقوله تعالى[بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ]([10])، في بيان للعلة والسنخية التي يصدر عنها نقض العهود وهو الجحود وعدم الإيمان وإبتدأت آية البحث بالإخبار عن مجيء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدلالات الباهرات التي تتضمن التصديق بها.

وفي الجمع بين خاتمة الآية السابقة وبداية هذه الآية مسائل:

الأولى : تأكيد اللطف الإلهي بالناس بأرسال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم جميعاً.

الثانية : عدم صيرورة الجحود وعدم الإيمان برزخاً دون توجه الدعوة لهم.

الثالثة : إكرام الله عز وجل للناس جميعاً بأن خص الذين لا يؤمنون بمجيء الرسول لهم بقوله تعالى[وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ].

الرابعة : التقييد بوصف الرسول بأنه [رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] شاهد على وجوب قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الدعوة والوحي إلى أهل الكتاب والكفار والذين ينقضون العهود وهو من عمومات قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ]([11]) .

 وقيام بعض الناس بنقض المواثيق، وإصرارهم على الكفر والجحود لم يمنع من وصول الدعوة الإسلامية لهم، وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بتبليغهم والإحتجاج عليهم، والإنصات لهم والإجابة على أسئلتهم، فإن الله عز وجل هو الذي أرسله إليهم مثلما أرسله لغيرهم من الناس.

وفي حديث الإسراء ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: قال ربي : يا محمّد اتخذتك خليلي كما اتخذت إبراهيم خليلاً وكلمتك كما كلمت موسى تكليماً وأعطيتك فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة وكانا من كنوز العرش ولم أعطها نبياً قبلك .

 وأرسلتك إلى أهل الأرض جميعاً أبيضهم وأسودهم وإنسهم وجنّهم ولم أرسل إلى جماعتهم نبياً قبلك وجعلت الارض كلها برّها وبحرها طهوراً ومسجداً لك ولأمتك وأطعمتك وأمتك الفيء ولم أطعمه أمة قبلهم ونصرتك بالرعب على عدوك مسيرة شهر،

 وأنزلت عليك سيد الكتب كلها ومهيمناً عليها قرآناً فرقناه ورفعت لك ذكرك فتذكر كلما ذكرت في شرائع ديني، وأعطيتك مكان التوراة المثاني ومكان الانجيل المبين ومكان الزبور الحواميم، وفضلتك بالمفصّل وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس وجعلهم أمة وسطاً وجعلتهم الأولين وهم الآخرون فخذما أتيتك وكن من الشاكرين)([12]).

وفي الصلة بين آية البحث والآية قبل السابقة مسائل:

الأولى : جاءت هذه الآية بصيغة الغائب إذ تخبر عن مجيء الرسول من عند الله إلى الناس وترك فريق منهم كتاب الله بالإعراض عن التنزيل ودعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام وهو الذي تضمنت الكتب السماوية السابقة البشارة به.

أما آية السياق فإنها جاءت بصيغة الخطاب الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبآيات الإكرام الذي هو فضل من الله عز وجل بقوله تعالى[وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ].

الثانية : يفيد الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل أرسل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بآيات بينات، وأنه لم يبعثه إلى أهل الكتاب إلا بعد نيله مرتبة الرسالة ونزول الآيات.

ومن الإعجاز أن أكثر آيات القرآن مكية وفق التقسيم بأن الآيات المكية هي التي نزلت قبل الهجرة، والمدنية هي التي نزلت بعد الهجرة، وكان بنو قريظة وبنو النضير، وبنو قينقاع في المدينة، كذلك جاء وفد نصارى نجران إلى المدينة، ونزل قوله تعالى[فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ]([13]).

الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:

الأول : ولقد أنزلنا إلى رسول من عند الله.

الثاني : ولما جاءهم آيات بينات.

الثالث : ولما جاءهم رسول الله من عند الله بآيات بينات.

الرابع : ولقد أنزلنا إليك آيات بينات لما معهم.

بحث عقائدي

قد لا تكون ثمة عهود ومواثيق، ولكن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موجهة للناس جميعاً وهي ذاتها ميثاق، ومما يتصف به أهل الكتاب هو وجود التوراة والإنجيل عندهم، وتصديق القرآن على نحو الإعجاز بما فيها من المضامين والأحكام.

لقد جعل الله تعالى المسلمين بقوتهم واتساع دولتهم وحكمهم شهوداً عدولاً على نزول التوراة والإنجيل، ليكونوا عوناً لليهود والنصارى على الكفار والمشركين، فما يتنعم به أهل الكتاب من البقاء على ملتهم وكف أيدي الناس عنهم في الجملة هو ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن.

ومن الشواهد ما كان يلاقيه اليهود في المدينة من الأذى والعناء من المشركين، ومن قبل ما تحمله بنو إسرائيل من فرعون وقومه ومن الجبابرة، وإذ أهلك الله تعالى فرعون بآية انفلاق البحر، فان الله عز وجل جعل آية حفظ اليهود في آخر الزمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليكف المشركون عن إيذاء اليهود من وجهان:

الأول: دخول أكثر المشركين الإسلام، الذي يقر باليهودية والنصرانية، وقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بابرام العهود والمواثيق مع أهل الكتاب، ومع هذا فان فريقاً منهم نقضوا تلك العهود التي تدل في ماهيتها على حفظ أهل الكتاب وديانتهم.

الثاني: ضعف المشركين ووهنهم إذ ان الإسلام حارب الكفر والشرك ومفاهيم الضلالة، ودخول أكثر المشركين الإسلام أهم أفراد ضعف قوى الشرك، وهو سبب في سلامة أهل الكتاب، وكما ان أحكام القرآن باقية الى يوم القيامة، وانه آية عقلية، ومعجزة دائمة في كل زمان فان سلامة أهل الكتاب مستمرة ليكون هذا الإستمرار شاهداً على صدق إستدامة إعجاز القرآن وتفضيله على آيات الأنبياء الآخرين الحسية، ويمكن إستقراء هذا من وجوه:

الأول: ان آية نجاة بني إسرائيل من فرعون قضية في واقعة، وحادثة حسية في زمان مخصوص، أما سلامتهم من المشركين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن فهي مستمرة الى يوم القيامة إذ يخشى الكفار والمشركون التعدي على أهل الكتاب.

الثاني: ان آية البحر وسلامة بني إسرائيل خاصة بجيل مخصوص منهم، ممن أقام في مصر، أما سلامتهم في القرآن فهي تتغشى أجيالهم كلها.

الثالث: القرآن وقاء سماوي لسلامة أهل الكتاب جميعاً من اليهود والنصارى، وهذه السلامة لا تتعارض مع دعوتهم للإسلام على نحو الوجوب العيني، وتتجلى في هذا المعنى منافع وأسباب فرض الجزية عليهم .

 فلم يختص حفظ المسلمين لأهل الكتاب بالذين هم في دولة الإسلام، بل يشمل أهل الكتاب جميعاً [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]([14]).

وهذا الحفظ من مصاديق قوله تعالى خطاباً للمسلمين [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([15]). فبالإسلام جعل الله عز وجل قوانين سماوية تحكم الأرض تقوم على حفظ المسلمين وأهل الكتاب مع الدعوة المستمرة لدخول الإسلام.

وجاءت هذه الآية لتتضمن هذين الأمرين معاً، بما فيها من الإخبار السماوي عن كون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً من عند الله وانه مصدق لما في أيدي اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل، لتحذر الآية من الجحود بنبوته التي هي خير محض لأهل الكتاب، وضرورة لبقاء أثر التوراة والإنجيل، ووقف التحريف في الكتب السماوية ومنع تأثيره لأن القرآن منزه ومعصوم عن التحريف والتغيير.

إعجاز الآية

الآية مدرسة في جهاد النبي صلى الله عليه وآله والمسلمين وصيغ الجحود التي قوبل بها، ففريق لم يرض بالكفر بالرسالة بل أدى به عناده الى ترك ما بين يديه من الآيات والبشارات وما هو مسطور في الكتاب الذي يؤمن به.

وتبين الآية عالمية رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم تصديق أهل الكتاب به لأنه جاء لهم وللناس جميعاً، ان وجود الكتاب السماوي بين أيديهم حجة عليهم، وعون للإيمان، وجزء علة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه من البشارات بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم، والجزء الآخر هو المعجزات التي جاء بها.

ومن إعجاز الآية إخبارها عن تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوراة والإنجيل ويحتمل وجوهاً:

الأول: ان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو المصدق للتوراة والإنجيل، قال تعالى [ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ]([16]).

الثاني: إرادة تصديق القرآن للتوراة والإنجيل، وفيه آيات عديدة منها قوله تعالى [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]([17]).

الثالث: إرادة المعنى الأعم وان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مصدق للتوراة والإنجيل، وكذا القرآن مصدق لهما.

والصحيح هو الثالث، فالنبي برسالته ونبوته وسنته القولية والفعلية مصدق للتوراة والإنجيل، وكذا آيات القرآن تتضمن الشهادة على نزولهما من عند الله تعالى.

وهل يحتمل إرادة عيسى في المقام وان المراد تصديقه للتوراة الجواب لا، من وجوه:

الأول: نظم الآيات، وصيغة اللوم لإعراضهم عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثاني: مجيء هذه الآية بالمعنى الأعم، فلم تذكر بني إسرائيل بنحو الخصوص، بل ذكرتهم الآية بالتبعيض والنسبة الى الكتاب بقوله تعالى [فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ].

الثالث: جاء ذكر عيسى عليهم بانه رسول الى بني إسرائيل، ومصدق لما بين يديه من التوراة.

الرابع: ذكرت هذه الآية القرآن بأنه كتاب الله بآية إعجازية إذ تقدم ذكر أهل الكتاب بقوله تعالى [نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ] للإشارة الى عموم أهل الكتاب.

ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “نبذ فريق” ولم يرد الفعل الماضي “نبذ” مجرداً عن الضمائر والإضافة إليها في القرآن الا في هذه الآية الكريمة.أهل

الآية سلاح

موضوع الآية مرآة تساعد المسلمين في فهم حقيقة كفر أهل الكتاب بالرسالة وكيف ان مدركه الاصرار والجهل والعناد وتكشف عن التردي في هاوية الضلالة فلم يعد قولهم في النبوة والبعثة حجة او ذا اعتبار.

لقد تلقى المسلمون دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والتسليم، وفيه شاهد على صدق الدعوة لأن هذا التلقي معلول لعلة، وأثر لمؤثر وهو المعجزات والآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله تعالى، وحصول حال اليقين عندهم بصحة نبوته، وانه رسول من عند الله، ومن معاني الرحمة الإلهية في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه لم يبعث الى أمة أو أهل ملة دون أخرى، بل جاء رسولاً من عند الله للناس جميعاً.

ومن فضل الله تعالى على أهل الكتاب مضامين هذه الآية، وذكرهم بالخصوص بان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاءهم رسولاً من عند الله، وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فمجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الكتاب لا يعني انه لم يبعث الى غيرهم من الناس، بل تدل الآيات على عموم رسالته قال تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]([18])، لتكون الآية سلاحاً بيد المسلمين في إدراك حقيقة وهي أنهم على الحق والصواب عندما إختاروا الإسلام وان الإسلام حاجة للناس جميعاً، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([19])، إذ يتوجهون الى الناس جميعاً بدعوتهم للإسلام، فالرسالة والدعوة باقية الى يوم القيامة.

أسباب النزول

قال السدي لما جاءهم محمد عليه الصلاة والسلام عارضوه بالتوراة فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت , فلم يوافق القرآن فهذا قوله تعالى[وَلَمَّا جَاءَهُمْ] الآية. ثم اخبر عنهم بانهم اتبعوا كتب السحر , ولكنه لم يرفع الحديث إلى النبي أو صحابي كشاهد على الوقائع وأحوال النزول.

والآية توكيد لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعالمية رسالته وانه مبعوث للمليين أيضاً، وتدعو وبلغة الذم والتوبيخ إلى نبذ الجحود.

مفهوم الآية

تظهر الآية في مفهومها الملازمة بين القرآن وبين الكتب السماوية الأخرى من وجوه :

الأول : تصديق القرآن لما أنزل الله على الأنبياء.

الثاني : مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدلائل على صدق نبوة الأنبياء السابقين الذين يتبعهم أهل الكتاب .

الثالث : بشارة الكتب السابقة بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وجاء التصديق في هذه الآية بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه هو الذي يؤكد سماوية الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل ويدل على إرادة القرآن الذي جاء به بالإضافة إلى موضوعية جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تصديقها وتثبيتها ومنع التعدي عليها من قبل المليين.

فمن مفاهيم الآية منع التفريط بالتوراة والإنجيل والحيلولة دون اقدام بعضهم في الأزمنة اللاحقة بنفي سماوية التوراة او الإنجيل او اعتماد التحريف علة تامة لهذا النفي.

وتحذر الآية من ترك مضامين آيات القرآن وما جاء به من السنن وتدعو المسلمين والناس جميعاً الى تعاهدها والإلتزام بها، فالقرآن جامع للشرائع والأحكام ونزوله رحمة لأهل الأرض وحاجة وغذاء ملكوتي ضروري لإستدامة الحياة، والتوبيخ الوارد لفريق من اهل الكتاب لإعراضهم عن القرآن وما انزل الله من الحق يتضمن في مفهومه التحذير من الإعراض عن آيات القرآن وما فيها من الأحكام والدعوة للعمل بما جاء فيه وإتباع أوامره وإجتناب نواهيه.

وفي الآية مسائل:

الأولى: بيان عموم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه مرسل من الله الى أهل الكتاب أيضاً.

الثانية: الزجر عن القول بترك أهل الكتاب وشأنهم أو إكتفائهم بما عندهم.

الثالثة: بيان علو مرتبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الأنبياء، وعظيم منزلته عند الله، بان جاءت بعثته الى الناس جميعاً مع إختلاف مشاربهم ومللهم، الأمر الذي يستلزم إقامة الحجة، كل بحسبه وبما عنده، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]([20]).

الرابعة: بيان اللطف الإلهي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، ان جعل الله تعالى صلة وسلاح التصديق حجة وبرهاناً لجذب أهل الكتاب الى الإسلام لإتحاد وسنخية النبوة، وإلتقاء الأنبياء بالمعجزات من عند الله تعالى ولحاجة الناس جميعاً الى رسالة الإسلام والعمل بأحكامه وسننه.

الخامسة: لقد جاء أنبياء أهل الكتاب بالمعجزات والآيات كما في آيات موسى وعيسى عليهما السلام، وتخبر هذه الآية عن كون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً من عند الله الى أهل الكتاب، ولابد انه جاء بالآيات والمعجزات فالآية تحدِ لأهل الكتاب، وتدل بالدلالة الإلتزامية على ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المعجزات وكأن في الآية حذفاً والتقدير: ولما جاءهم رسول بالمعجزات من عند الله.

السادسة: تبين الآية كيفية تلقي أهل الكتاب للرسالة، ومن الإعجاز انها تقول إعراض فريق منهم عن الكتاب وليس الجميع.

السابعة: تعيين موضوع الآية والإخبار عن الماهية التي أعرضوا بها عن الدعوة الى الإسلام بان تركوا كتاب الله والآيات التي تؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثامنة: إكرام الآية لكتاب الله، ودعوة الناس لإكرامه سواء كان المراد منه القرآن أم التوراة.

التاسعة: ذم فعل الذين جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان قبح إختيار الجحود.

العاشرة: دعوة أهل الكتاب الى عدم الإعراض عن الكتب السماوية، وحثهم على الرجوع الى القرآن والتوراة والإنجيل لمعرفة صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته وإتباعه.

الحادية عشرة: دعوة الناس من غير أهل الكتاب الى عدم الإصغاء الى قول الذين ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب لأنهم تركوا كتاب الله وراء ظهورهم، وفيه دعوة للناس بالتدبر في آيات القرآن ومعرفة البشارات الواردة بنبوته في التوراة والإنجيل.

الآية لطف

تبين الآية ان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لطف بأهل الكتاب، ورحمة بهم وبالناس جميعاً فذات الرسالة لطف، وإقترانها بالتصديق بالكتب والآيات والأحكام التي جاء بها الأنبياء السابقون لطف أيضاً، وهذا التصديق عون لأهل الكتاب وغيرهم من الناس على دخول الإسلام وترك التردد والإعراض عن الآيات.

وجاءت الآية بصيغة الماضي لتحكي أيام نزول القرآن وما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة في مواجهة أهل الجحود والعناد، وقد تكرر ضمير الجمع “هم” أربع مرات في الآية، بالإضافة الى صيغة الجمع في الآية ثلاث مرات وهي “فريق” “الذين أوتوا” “لا يعلمون”، ولم تقل الآية “نبذ فريق منهم” بل جاءت بالتبعيض بانه من أهل الكتاب وفيه وجوه:

الأول: الآية في مقام الحجة والبيان، لا يقتضي الحصر الإجمالي بأهل الكتاب، لقابلية الموضوع للسعة والعموم.

الثاني: تذكير أهل الكتاب والناس بحقيقة وهي ان اليهود والنصارى عندهم كتاب سماوي.

الثالث: في الآية بيان لقانون إعجازي في القرآن وهو تفسير ألفاظ الآية الواحدة بعضها لبعض بما يدفع اللبس والترديد، فيفيد قوله تعالى [الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ] ان المراد من الضمير في “معهم” هم أهل الكتاب وان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء مصدقاً للتوراة والإنجيل، وليس التوراة وحدها.

الرابع: في الآية تنبيه بان الإعراض عن كتاب الله لم يأتٍ من جميع أهل الكتاب، وفيه دعوة للمسلمين الى البحث عن الذين يصدقون بالقرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب، ومعرفة الذين أسلموا منهم وأحسنوا إسلامهم، وفيهم شاهد على صدق  مضامين هذه الآية.

الخامس: جاءت الآية دعوة لعدم الإعراض عما في التوراة والإنجيل من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، السابقة تخاطب الآية عموم اليهود والنصارى بإنه إذا كان فريق منهم أعرضوا عن التنزيل وترك الأخذ بما فيه، فيجب عليكم الرجوع الى التوراة والإنجيل وما فيهما من الأخبار والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

السابع: لو قالت الآية (نبذ فريق منهم) لاحتمل إنصراف المعنى الى المشركين، والى فريق من عموم الكفار، فجاءت الآية على نحو التعيين بذكر الفريق الذي أبى ان يأخذ بكتاب الله.

الثامن: في الآية تذكير لليهود والنصارى بأنه عندكم كتاب منزل من السماء لا تتركوه وما فيه من البشارات، فحينما جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتصديق التوراة والإنجيل، فلا بد من إجتناب السعي لغلق باب من الإعجاز ومنع شاهد سماوي يدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

التاسع: تكرر لفظ الكتاب في الآية، وقد ورد لفظ الكتاب في القرآن من غير إضافة (242) مرة، وهذه الآية هي الوحيدة التي يذكر فيها اللفظ مرتين وعلى نحو التعاقب وإلتصاق بالآخر[أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ]، ومع هذا لا تدل الآية على أن لفظ (كتاب الله) تفسير وبيان لفظ (الكتاب) على نحو الحصر لإرادة معنى مستقل لكل منهما بحسب سياق ومنطوق الآية، فجاء لفظ الكتاب لتعريف الفريق الذي ترك كتاب الله، والعمل به بأنهم جزء من الذين آتاهم الله الكتاب.

أما لفظ (كتاب) الثاني فجاء لإرادة الكتاب الذي أعرض عنه هؤلاء وتركوا العمل به، وفيه وجوه:

الأول: إرادة ذات الكتاب الذي آتاهم الله وهو التوراة والإنجيل.

الثاني: المقصود التوراة وما فيها من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ إن المراد من الفريق هم العلماء منهم الذين لم يسلموا.

الثالث: المراد هو القرآن.

الرابع: العنوان الجامع، بترك العمل بالتنزيل وعدم الأخذ بالبشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل بخصوص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يتدبروا من الآيات التي جاء بها، وما في القرآن من الإعجاز الذاتي والبرهان على صدق نزوله من عند الله.

العاشر: في تعيين نسبة الفريق وانهم من أهل الكتاب لطف إضافي بالمسلمين وبأهل الكتاب، لما فيه من مضامين الحجة والإخبار عن حال شطر وطائفة منهم، تركوا العمل بمضامين الكتاب.

إفاضات الآية

تبين الآية حقيقة وهي حرمان فريق من الناس أنفسهم من نعمة “التصديق” بالنبوة , وهي على وجوه:

الأول: تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء السابقين في بعثتهم وأخبار نبوتهم.

الثاني: تصديق القرآن للتوراة والإنجيل.

الثالث: إخبار التوراة والإنجيل عن نزول القرآن.

الرابع: بشارة الأنبياء السابقين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكل بعثة نبي نعمة، وكل كتاب سماوي نعمة ورحمة نازلة من عند الله، وهناك نعمة أخرى مترشحة عنها تدل على الفيض الإلهي وهي صلة التصديق بينها، فكل بعثة نبي تصديق وتثبيت لبعثة الأنبياء والكتب السابقة وكل كتاب نازل يصدق ما قبله.

وجاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن بأبهى معاني التصديق بين الكتب السماوية، لتكون حجة على أهل الكتاب، ودعوة لهم لدخول الإسلام، وعدم الإستيحاش من الأحكام والفرائض التي جاء بها من عند الله، ومع حصول التحريف والقصور فإن القرآن يبقى سالماً من التحريف، وقد جاء بتصديق ما بين أيديهم من التوراة والإنجيل لطرد الشك والريب، ومنع غلبة النفس الغضبية .

وبين النبي والرسول عموم وخصوص مطلق، فكل نبي هو رسول وليس العكس، وجاءت هذه الآية للإخبار بأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله بعثه بشريعة.

فهناك أنبياء جاءوا بعد موسى عليه السلام ولكن وظيفتهم تصديق رسالة موسى عليه السلام وتثبيت العمل بالتوراة وما فيها من أحكام الحلال والحرام.

أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو رسول من عند الله جاء بأحكام متكاملة تلائم الأجيال المتعاقبة، وأفراد الزمان الى يوم القيامة لذا ذكرته الآية بلفظ الرسول ليكون المراد من التصديق، تصديقه هو بالكتب السابقة، وتصديق القرآن بها، من غير أن يتعارض هذا التصديق مع وجوب عمل الناس بأحكام القرآن ومنهم أهل الكتاب وهو الذي يدل عليه لفظ “جاءهم” أي لجذبهم ودعوتهم الى الإسلام، ومن وجوه الدعوة التصديق بالتنزيل وما فيه من الأحكام والسنن.

الصلة بين أول وآخر الآية

إبتدأت الآية بالإخبار عن مجئ بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً وليس لقوم أو أهل ملة دون غيرهم، فهو جاء لليهود والنصارى والمشركين والناس كلهم، ويجب على كل قوم أن يدركوا بعثته لهم، وفيه شاهد على أن، معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية تخاطب أولي الألباب، وحسية تبعث الناس على إدراكها بالحواس.

وقد جاءت الآية السابقة بذم نقض العهود، أما هذه الآية فأخبرت عن ترك ما في التوراة والإنجيل من البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بها.

 ومن الإعجاز ذكر الذين يعرضون عن الكتاب، وفيه دعوة للمسلمين إلى عدم توجيه الذم لأهل الكتاب جميعاً، وكان نفر يحثون قومهم على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويذكرون بما جاء في التوراة والإنجيل من صفاته وعلاماته.

وجاءت هذه الآيات بالتخفيف عن أهل الكتاب من وجوه:

الأول: الإخبار بأن القرآن آيات باهرات نازلة من عند الله عز وجل كما في الآية قبل السابقة [وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ].

الثاني: التذكير بالعهود والمواثيق التي عقدوها مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم التقيد بأحكامها.

الثالث: ذم الذي يترك العقود والمواثيق، ودعوة العقلاء إلى عدم الإنجرار خلف الذين يتركون العهود.

الرابع: الشهادة السماوية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رسول من عند الله عز وجل.

الخامس: بيان حقيقة وهي تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوراة والإنجيل، وفيه دليل على صدق نبوته , ولم تذكر هذه الآية التوراة والإنجيل بالاسم ولكنها قالت [مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ] وفيه تشريف لأهل الكتاب، ودعوة لهم لدخول الإسلام.

السادس: البشارات برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي جاءت بها التوراة والإنجيل، ومن وجوه التصديق في المقام إنطباق علامات نبي آخر زمان على شخصه المبارك , وماجاء به من الآيات الباهرات.

وفي حديث أنس في صفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: كان أزهر ليس بالآدم، ولا الأبيض الأمهق)([21]).

أي أن لونه أبيض محمود كلون القمر والدر الذي تخالطه حمرة، أما الأمهق فهو الذي يكون لونه أبيض لا يخالطه حمرة ولا ينير، ويكون لونه كلون الجص.

وقد ورد عن علي عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبيض اللون، مشرباً بحمرة أي مخلوطاً بحمرة (أدعج العينين) المعني شديد سواد العينين.

(سبط الشعر) معنى سبط الشعر أي أن شعره ليس مسترسلا، ولا مجعدا.

(كث اللحية، ذا وفرة، دقيق المسربة) والمقصود الشعر الذي من أعلى الصدر إلى أدنى السرة .

(ليس في بطنه، ولا صدره شعر غيره , شئن الكفين والقدمين) أي غليظ أصابع الكفين وغليظ أصابع القدمين.

( إذا مضى كأنما ينحط من صبب، وإذا مشى كأنما ينقلع من صخر، إذا التفت التفت جميع) أي كأنه يهبط من مكان العالي.

(كأن عرقه اللؤلؤ، ولَريح عرقه أطيب من ريح المسك الأذفر، ليس بالطويل ولا بالقصير،ولا الفاجر ولا اللئيم) .

(لم أر قبله ولا بعده مثله) ، وفى لفظ أي لعلي بين كتفيه خاتم النبوة وهو خاتم النبيين، والخاتم  شعيرات ما بين الكتفين من الخلف إلى جهة الشمال أقرب، .

(أجود الناس كفا  وأوسع الناس صدرًا , وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عِشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وآله وسلم)([22]).

وجاءت خاتمة الآية لإقامة الحجة للغة التشبيه فيها [كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] لأن نبذ وترك الكتاب شاهد عن العمد وسوء النية والقصد بالإعراض عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

إبتدات الآية بتوكيد نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من عند الله إلى الناس جميعاً، وأن الله عز وجل هو الذي بعثه للناس، فلا يريد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الملك والسلطان والمال والجاه، بل أكرمه الله بأن خصه بالرسالة من عنده تعالى لتبليغ الناس أحكام الحلال والحرام.

ومن إسرار هذه الآية أنها تعضيد لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد سماوي بأنه رسول من عند الله إلى الناس جميعاً، وليس إلى العرب أو الكفار والمشركين فقط،ولعل بني إسرائيل يظنون أن النبي يأتي إلى قومه على نحو التعيين، قياساً على نبوة موسى عليه السلام وأنه من بني إسرائيل وجاء لهم نبياً.

فجاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية التي تفيد القطع بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول إلى بني إسرئيل مثلما هو رسول إلى غيرهم من الناس.

وذكرت الآية جحود فريق من أهل الكتاب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دون الفريق الآخر منهم، وفيه شاهد على وجود من يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب.

لقد جاءت الآية بالثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من عند الله، ومصدق لما مع بني إسرائيل بلحاظ أن الآيات جاءت بذكرهم على نحو الإطلاق، أو أنه مصدق لما مع اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل، وهذا الثناء من الشواهد السماوية على تفضيله على الأنبياء السابقين، ودليل على حاجة الناس وأهل الملل السابقة لنزول القرآن رحمة بهم.

وإذ ترك والقى طائفة من الناس البشارات، وأعرضوا عن الآيات ووجوه الشبه بين القرآن من جهة والتوراة والإنجيل من جهة أخرى، فان طوائف وأمماً دخلت الإسلام، وصدّقت بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما في القرآن من الإعجاز والبراهين التي جاء بها ، قال تعالى[وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]([23]).

التفسير الذاتي

إبتدأت الآية بحرف العطف (الواو) في إشارة إلى إتصال موضوع هذه الآية بالآيات السابقة، وإذ تعلقت الآية بنبذ ونقض العهود وتكرار النقض مع أنه مذموم شرعاً وعقلاً وعرفاً، جاءت هذه الآية بخصوص إعراضهم عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونبذ الكتاب، ليجتمع فعلان مذمومان :

الأول: ترك العهود الذي تدل عليه الآية السابقة.

الثاني: نبذ الكتاب الذي تدل عليه هذه الآية.

إن كلاً من العهود والكتاب لهما موضوعية في حياة الناس، وسنن أهل التوحيد، وبهما تتقوم الحياة في الأرض، وهما من أسرار دوامهما وعلل خلق الإنسان، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]([24])، بلحاظ أنها من مصاديق العبادة ومقدمة لها.

وتبين الآية إكرام الله عز وجل لبني إسرائيل بأن جعل في هذه الآية بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم[وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ] وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فهذا لا يعني أن النبي محمداً رسول لليهود خاصة بل هو رسول للناس جميعاً، قال تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ]([25]).

وفي الآية توكيد لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لم يكن تابعاً في نبوته لشريعة من سبقه من الرسل، بل هو رسول جاء بشريعة ناسخة ومتممة لما قبلها، وأن الناس محتاجون إلى الرسالة، ويجب عليهم الإصغاء إليها والعمل بأحكامها، لأنها جامعة للأحكام، مبينة للحلال والحرام، وجاءت الآية بمدح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووصفه بصفات حميدة هي:

الأولى: رسول من بين رسل الله، وبين النبي والرسول عموم وخصوص مطلق، فكل رسول هو نبي وليس العكس ومنه إن الرسول هو صاحب شريعة مبتدأة، والنبي يعمل بتلك الشريعة ويحفظها.

الثانية: أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله، فهو الذي بعثه للناس، قال تعالى في الثناء عليه [رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ]([26]).

وجاء قبل أربع آيات لأنه ينزل بالقرآن وهو ينزل بالحرب والقتال، قال تعالى[مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ]([27]).

وجاءت هذه الآية لتوكيد حقيقة وهي أن النبي محمداً  صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله، مما يدل بالدلالة الإلتزامية على أن جبرئيل رسول أمين.

الثالثة: النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته شاهد على صدق نزول التوراة، وفيه رحمة ببني إسرائيل تتجلى بعظمة القرآن وموضوعيته في حياة المسلمين خاصة والناس عامة إلى يوم القيامة , وسلامة بني إسرائيل ببركة الإسلام ونزول القرآن من البطش والفتك, وهو من عمومات قوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]([28]).

وتحتمل موضوعية هذا التصديق وجوهاً:

الأول: حاجة التوراة والإنجيل لهذا التصديق.

الثاني: إنحصار هذه الحاجة بالتوراة.

الثالث: إختصاص الحاجة لهذا التصديق بالإنجيل.

الرابع: إستغناء التوراة والإنجيل وعدم حاجتهما لهذا التصديق.

والصحيح هو الأول، وتلك آية في فضل الله عز وجل على الناس جميعاً بنزول القرآن، وهذه الحاجة من وجوه:

الأول: فضح التحريف الذي طرأ على الكتب السماوية.

الثاني: تصديق نزول التوراة والإنجيل.

الثالث: الإخبار السماوي عن نبوة موسى وعيسى عليهما السلام.

الرابع: بيان وتفصيل ما في التوراة والإنجيل.

الخامس: منع إستمرار وتجدد التحريف في الكتب السماوية.

السادس: نسخ بعض الأحكام في الشرائع السابقة، ومجيء القرآن بالشريعة المتكاملة.

السابع: بيان أحوال الأمم، وأمور الناس قبل وبعد نزول التوراة والإنجيل.

الثامن: إتصاف القرآن بخصوصية وهي عدم طرو التحريف عليه، ليكون شاهداً سماوياً باقياً في الأرض، وإماماً تعمل بمضامينه الأمم، وضياءً ينير الدروب السالكين، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]([29]).

ومن وجوه تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن للكتب السماوية السابقة التوكيد على العهود والمواثيق، وتعاهدها وحفظها، ومنع التفريط بها، وذم الذي يصر على نقض العهود وترك المواثيق وعدم التقيد بها ويُعرض عن القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها تتضمن الأوامر بالعمل بأحكامها وسننها، مما يدل على أنهم تركوا كلام الله مع وجود المقتضي للإيمان به، والسبب لهذا الترك هو وجود المانع الذاتي عندهم بغلبة الهوى وإستحواذ حب الدنيا، وعدم الإنقياد للأوامر والنواهي النازلة من السماء.

 ومن الإعجاز والفضل الإلهي في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التعدد في أفراد تصديق القرآن للتوراة والإنجيل من وجوه:

الأول: النبي محمد مصدق للتوراة والإنجيل، كما تدل عليه هذه الآية، وقال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ] ([30])، وفيه بيان لموضوعية إخبار وشهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها أسمى وأعلى من البينة وشهادة الناس، لأن إخباره وحي.

الثاني: تصديق القرآن وآياته للتوراة والإنجيل، قال تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ] ([31]).

ومن بركات القرآن تصديقه بالتوراة والإنجيل.

الثالث: تصديق جبرئيل لنزول التوراة والإنجيل بتقريب أن من وجوه ومنافع نزوله بالقرآن التصديق بالتوراة والإنجيل، وقد جاء بخصوص الجن أنهم لما سمعوا آيات القرآن صدّقوا بها، وفي التنزيل حكاية عنهم[إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ] ([32]).

وروي (أن الجن كانت تسترق السمع فلما حُرست السماء ورجموا بالشهب قالوا : ما هذا إلا لنبأ حدث فنهض سبعة نفر أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى : منهم زوبعة فضربوا حتى بلغوا تهامة ثم اندفعوا إلى وادي نخلة فوافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم في جوف الليل يصلي أو في صلاة الفجر فإستمعوا لقراءته وذلك عند منصرفه من الطائف حين خرج إليهم يستنصرهم فلم يجيبوه إلى طلبته وأغروا به سفهاء ثقيف)([33])، وفي إستماع الجن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوته للقرآن قولان:

الأول: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجن وما رآهم، عن سعيد بن جبير وإنما كان يتلو في صلاته فمّروا به فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر فأنبأه الله بإستماعهم.

الثاني: ما جاء عن عبد الله بن مسعود بخصوص ليلة الجن، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم غشيته أسودة كثيرة) ([34]).

ويمكن أن نؤسس قاعدة كلية في علم الرجال والدراية وهي إذا ورد خبران يتساوى فيهما رجال السند ويلتقي الحديثان في عدم مخالفة الكتب والسنة، ويختلفان في جهة الصدور، وأحدهما يصدر عن صحابي والآخر عن تابعي من غير الأئمة، فالراجح هو الحديث الوارد عن الصحابي، ومنه هذا الخبر الذي تدل القرائن على رجحان ما ورد عن عبد الله بن مسعود خصوصاً وأنه يخبر عن نفسه وأنه كان مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن.

وتبعث الآية الفخر والعز في نفوس المسلمين، وتزيدهم إيماناً، وحصانة من أسباب الشك والريب، ومفاهيم الجدال الذي يقوم به فريق من أهل الكتاب.

 وتبين الآية إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية فقد يقال إنكم لم تطلعوا على الكتب السابقة، وليس عندكم ما عند اليهود من علوم الأولين، وقصص الأنبياء، فجاءت هذه الآية لتدل على أن القرآن جامع للأحكام الشرعية، وفيه غنى عن الكتب السابقة لأنه يتضمن ما فيها من المعارف والأخبار والسنن، ليكون رحمة الله عز وجل في العالمين، وسبب الهداية والرشاد للناس جميعاً.

 وجاءت هذه الآية بلغة التبعيض في الذين تركوا كتاب الله وراء ظهورهم، مع أن هذا الترك ليس إبتدائياً، إذ تدل الآية على قيام الحجة عليهم وإعراضهم عن كتاب الله عز وجل.

 إن نبذ الكتاب وراء ظهورهم سبب لنقض العهود، وإزاحة لمانع موضوعي وحكمي لهذا النقض، ومن منافع ومعاني هذه الآية أمور:

الأول: اللوم والذم على الإعراض عن كتاب الله مع أنه رحمة لهؤلاء الذين تركوه من أهل الكتاب والناس جميعاً.

الثاني: التنبيه إلى العلة الذاتية لهذا الترك، ولزوم هجرها، والدعوة إلى التنزه منها الحكمة والبرهان، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ([35]).

وجاء قوله تعالى[وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ] كناية وتعريضاً بهم، إذ أن الكتاب بين أيديهم، ولكنهم أصروا على الإعراض عنه، قال السدي: نبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت) ([36]).

وقد يستقرأ هذا المعنى من الجمع بين هذه الآية والآية التالية، إلا أن مضامين هذه الآية مستقلة وليس إفتتانهم بالسحر علة تامة لترك كتاب الله، لذا جاءت خاتمة الآية بقوله تعالى[كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] لإقامة الحجة والإخبار عن العلم والمعرفة بأسرار التنزيل.

 ومن إعجاز القرآن تكرر لفظ الكتاب في الآية مرتين، فمرة بوصف الذين يتركون كتاب الله بأنهم فريق، وأخرى بأن الذي ينبذونه هو كتاب الله، ولكن هذا لا يعني المغايرة والتباين بين الكتابين، في قوله تعالى[أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ] ([37])، وورد فيه قولان:

الأول: المراد من كتاب الله في الآية أعلاه التوراة، دُعوا إليها فأبوا لعلمهم بلزوم الحجة، لما فيها من الدلالات على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه، عن ابن عباس.

الثاني: معناه القرآن، عن الحسن وقتادة، دعوا إلى القرآن لأن ما فيه موافق لما في التوراة من أصول الديانة وأركان الشريعة، عن الحسن وقتادة)([38]).

وجاء لفظ كتاب الله في القرآن بالمعنى الأعم من القرآن ومطلق التنزيل قال تعالى[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ]([39])، مما يدل على أن تعدد لفظ الكتاب في الآية من معاني الإعجاز فيها، إذ أن المراد من كتاب الله التوراة والإنجيل والقرآن وأسرار التنزيل وأن النبذ سبب حالة من الضياع والإعراض عن الوظائف الشرعية والتكاليف ولو على نحو السالبة الجزئية فإتجهوا إلى الإنشغال بالسحر، كما تخبر الآية التالية[وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ].

 وفي الإطلاق في معنى كتاب الله أن العمل بأحكامه وعدم تركه يقود إلى الصلاح والفلاح لما فيه من مضامين البركة والقدسية وضياء الهداية الذي يشع على القلوب المنكسرة، فالأخذ بالتوراة يفيد التصديق بالبشارات الواردة بحق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إتباعه ونصرته.

وفي لغة التشبيه في قوله تعالى[كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] حجة وذم للذي يختار الضلالة عن عمد وإصرار، وليس عن غفلة وجهالة ونسيان.

من غايات الآية

في الآية مسائل:

الأولى: التوكيد السماوي لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثانية: لوم فريق من أهل الكتاب لتضييعهم فرصة الدعوة الى الإسلام والتي جاءت مقترنة بالحجة والبرهان.

الثالثة: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجديد للعمل بأحكام الكتب السماوية، ولكن طائفة تركوا العمل بما بين أيديهم من التنزيل “وقال سفيان بن عيينة : أدرجوه في الحرير والديباج ، وحلوه بالذهب والفضة ، ولم يحلوا حلاله ، ولم يحرموا حرامه ، فذلك النبذ، و قال الشعبي : هو بين أيديهم يقرأونه ، ولكن نبذوا العمل به”([40]).

الرابعة: بيان عموم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانها للناس جميعاً ومنهم أهل الكتاب، ومن الآيات ان بدأت البعثة بين مشركي قريش في مكة المكرمة، وليس بينهم من أهل الكتاب، لتواجة بأمرين متضادين قبول جماعة منهم، وإنكار وتكذيب من الملأ من قريش مع غلظة وإضطهاد للمسلمين الأوائل، إذ زحفت قريش بخيلها وخيلائها الى المدينة المنورة لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة من المهاجرين والأنصار.

الخامسة : إقامة الحجة على الذين تركوا العمل بالكتاب وأعرضوا عن التنزيل بغير حق.

السادسة: دعوة الفريق الآخر إلى عدم إتباع الذين أعرضوا عن التنزيل، فمن منافع الآية الكريمة انها تمنع الإفتتان بالذين أعرضوا عن الرسالة وتكون برزخاً دون الإنقياد لهم ومحاكاتهم.

السابع: منع الناس من الإنصات للذين تركوا كتاب الله وراء ظهورهم، وأعرضوا عن الأحكام الإلهية.

الثامنة: تتضمن خاتمة الآية لغة الإنذار من محاربة الإسلام.

التاسعة: بيان الإثم المركب للذين يتركون مضامين الكتب السماوية ويكذبون بالتنزيل.

العاشرة: ان نعمة التصديق وسيلة للهداية، وسبيل للرحمة يدرك بواسطتها أهل الكتاب وجوب تصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى جانب المعجزات التي جاء بها.

الحادية عشرة: بيان حقيقة عقائدية وهي ان أهل الكتاب يمتازون عن غيرهم من الناس بان عندهم التوراة والإنجيل، وبينهم وبين عموم الناس عموم وخصوص مطلق، فأهل الكتاب والناس جميعاً يرون ويدركون الآيات، ويختص أهل الكتاب بان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن مصدقان لما بين أيديهم من التوراة والإنجيل، فلذا جاءت الآية بخصوصهم، مما يساعدهم على المبادرة الى الإيمان قبل غيرهم، وتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوراة والإنجيل باب هداية لغير أهل الكتاب أيضاً.

الثانية عشرة: جاءت الآية بقوله تعالى [لِمَا مَعَهُمْ] وفيه دلالة على ان تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن لما بين أيديهم من التوراة والإنجيل يبين ما طرأ عليهما من التحريف بإعتبار ان [لِمَا مَعَهُمْ] قيد يخرج التحريف في كتاب الله تعالى.

فمن منافع نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كشف وفضح ما دخل على التوراة والإنجيل من التغيير وذات النبوة والمعجزات التي صاحبت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة في ماهية البشارات التي جاءت به في التوراة والإنجيل، وإخبار عملي على زيف ما لا يوافق تلك الصفات.

ولذا  فمن معاني “مصدق” في الآية ان التصديق بالمعجزات التي جاءت على يديه وبسنته القولية والفعلية يصدق ما عند اليهود من التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، وما عند النصارى من الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام، ليطرح جانباً ما وضعته يد التحريف والتغيير، ولكن الذي حصل هو ان فريقاً أعرضوا عن القرآن، والجامع بين الكتب السماوية من نعمة التصديق والأحكام والسنن.

فجاءت هذه الآية لوماً لهم وإخباراً عن جهلهم وعدم علمهم وتخلفهم عن وظائفهم، وإنذاراَ بان الله عز وجل يظهر الإسلام ويبين الأحكام ويرسخها في الأرض بجهاد المسلمين وإتباعهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن مصاديق كونهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([41])، إذ انهم يقومون بالتبليغ بتلاوة هذه الآية وآيات القرآن الأخرى، ويدعون بالحكمة والموعظة الحسنة الى الإسلام.

التفسير

قوله تعالى [ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]

تدل الآية في منطوقها على وضوح وظهور صفة الرسالة والبعثة في شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي ان الله عز وجل جعل عندهم ما يكفي لادراك انه رسول من عند الله، وظاهره يتعدى البشارات به وبنزول القرآن ويخبر عن آيات مصاحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء بها ليدركها اهل الكتاب سواء بلحاظ أنهم أهل كتاب يرون وينتظرون ما لا يحسه او ينتظره غيرهم، او بما هم بشر تخاطب الرسالة عقولهم بالآيات البينات.

ومن مفاهيم هذه الآية الاخبار عن وظائف النبوة وضرورة تبليغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجهاده والمسلمين في سبيل الله ومحاربة اهل الشرك والذين لا يؤمنون.

وكما تبين الآية حال طائفة في مواجهة الرسالة الإسلامية، تشير ايضاً وعلى نحو الإجمال الى وظائف المؤمنين وما يجب عليهم فعله وكيفية استيعاب واجتناب اضرار تلك المواجهة.

 أما منطوق الآية فهو بيان لجحود نعمة هي هنا ذات مضامين عقائدية وعقلية وليست حسية فقط، ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اختلفت عن معجزات الأنبياء السابقين فجاءت عقلية تخاطب أولي الألباب وتفرض بقاءها مع الأزمان وتعاقب الأجيال.

وما دام النبذ في الآية من قبل فريق، فلماذا جاء الذم في الآيات السابقة في الجملة.

الظاهر ان جماعة وقوماً منهم فقط اعرضوا وتركوا العمل بالكتاب، اذن ما هو حال الباقين هل عملوا بالكتاب ولم يؤمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يدخلوا الإسلام، أم انهم آمنوا وأسلموا.

ان عدم نبذ الكتاب أعم من الإيمان، ويمكن القول ان هناك برزخاً بين نبذ الكتاب واختيار الدخول في الإسلام.، والذم الوارد في هذه الآية لمن ترك الكتاب واعرض عنه لا يعني انحصاره به او عدم استحقاق الآخرين للذم، فاثبات شيء لشيء لا يعني نفيه عن غيره.

وفي الآية نكتة وحكمة وهي عدم انغلاق سبل الهداية في أهل الكتاب، وأن فريقاً منهم ايضاً أما اسلموا او عندهم قابلية للإسلام وتدبر الآيات، وتفضل الله سبحانه وجعل ذكر هذا الفريق على نحو القضية المهملة رحمة وتخفيفاً وقد يكون عند ملة أكثر من ملة اخرى.

ويحتمل الضمير في [ جَاءَهُمْ] وجوهاً:

الأول : إنه يعود لليهود.

الثاني : لأهل الكتاب.

الثالث : للمسلمين.

الرابع : للناس جميعاً.

والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت لليهود او لأهل الكتاب او العرب دون غيرهم فقط، وانما جاء لإنقاذ واصلاح اهل الأرض جميعاً عربيّهم واعجميّهم، ابيضهم واسودهم، الكتابي منهم والوثني، قال تعالى [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]([42]) جاء للإنسانية جمعاء ولكن قد يراد من بعض الآيات أمة او ملة او قوم معينون بحسب القرائن الحالية او المقالية، فهل يحتمل ان يكون المقصود بالرسول غيره صلى الله عليه وآله وسلم؟ الجواب: لا، لسياق الآيات ووحدة الموضوع وثبوته في الخارج وللمقاصد الشريفة من الآية الكريمة وموضوع النزول واسبابه.

فالضمير في [ جَاءَهُمْ] أعم من الضمير في [  معهم ] وليس من دليل على اتحادهما في العائدية، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء للناس جميعاً.

قوله تعالى [ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ]

تشريف ومدح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد جاء ليتعاهد ويحفظ الرسالات السابقة، والتصديق في الآية يكون على وجهين:

الأول: ان نبوته هي التي بشرت بها التوراة والإنجيل فتكون بعثته صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً لها واثباتاً لصحة الخبر منها، وقد وردت الآية بصيغة الجملة الخبرية وقد عرف الخبر في علم المنطق (بأنه المركب التام الذي يصح ان يُوصف بالصدق او الكذب، وهو متعلق التصديق).

وقد لا تكون للكلام نسبة تامة ظاهرة في الواقع تطابقه او تخالفه وذلك عندما يوجد المتكلم المعنى بلفظ المركب وهو الذي يُسمى الانشاء والجملة الانشائية كالأمر والنهي والاستفهام والتوبيخ والانذار، وقد يرد الكلام بصيغة الخبر ولكنه يفيد الانشاء كما في المقام فإنه يفيد الذم والتوبيخ على الجحود والصدود عن التنزيل.

الثاني: ان بعثته صلى الله عليه وآله وسلم تصديق للبشارات التي جاءت بها التوراة والإنجيل، والتصديق الذي جاء به الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم مركب ومتعدد الجوانب والأبعاد الزمانية، فهو مصدق لما في ايديهم من التوراة والإنجيل.

ولا يعني هذا شمول التحريف بالتصديق بل انه مصدق لما هو حق، ويعني في مفهومه فضح التحريف وزيفه ومنع تفشيه واتساعه، ومصدق للبشارات التي وردت في كتبهم وتوارثوها اباً عن جد.

لذا فمن الإعجاز ورود(مع) ولم يرد (عند) لأن المعية تعني الأعم وتشمل المصاحبة والإجتماع سواء في المكان او الرتبة او الزمان وقد تفيد الإضافة، وهي عند الأكثر ظرف زمان كما تقول صليت مع اول وقت الصلاة أي مع زمن مجيء اول الوقت وحذف زمن المجيء، وقامت (مع) مقامهما.

وقد ترد (مع) لأفعال الجوارح والأعيان مثل قوله تعالى [ يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ  ]([43])، وترد للأفعال المعنوية واعمال القلوب، وقد تكون للأمرين معاً كما في هذه الآية.

فالتصديق جاء بالآيات العقلية والحسية، كما ان شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه مصدق لما معهم، لأن الذي معهم البشارة والترقب والتربص لبعثة نبي آخر الزمان، فكانت بعثته والآيات التي جاء بها مما يثبت صدق نبوته وحصول وتنجز البشارة تصديقاً لما معهم من الأخبار والكتب.

وتذكر الآية إسماً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو(مُصدق) وفيه أمور:

الأول : الشهادة السماوية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه صادق لقيد العدالة والصدق في تحقق مصداق التصديق.

الثاني : بيان وظيفة عقائدية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أنه مصدق للكتب السماوية السابقة، وفيه مسائل:

الأولى : نصرة الأنبياء السابقين.

الثانية : المدد والعون لأتباعهم من اليهود والنصارى.

الثالثة : دعوة أهل الكتاب إلى إجتناب محاربة الإسلام أو مؤازرة أعدائه.

الرابعة : بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين، وإدراكهم لخيبتهم وخسارتهم، إذ أنهم ليسوا من الذين صدّقوا وهم المسلمون ولا مع أهل الكتاب.

الخامسة : الدعوة للإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته , قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]([44]).

الثالث : تقّوم بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصدق من وجوه:

الأول : رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله صدق وحق.

الثاني : كل آية من القرآن صدق، قال تعالى[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]([45]).

الثالث : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تصديق لرسالته.

الرابع : كل آية من القرآن تصديق لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاء قبل آيتين قوله تعالى[وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ]([46])، ووصف آيات القرآن بأنها بينات دليل على موضوعيتها وعظيم نفعها في تصديق وتثبيت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطرد أسباب الشك والريب بها.

ويحتمل قوله تعالى(مصدق) وجوهاً:

الأول : تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكتب السماوية في الجملة.

الثاني : تغشي تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمضامين الكتب السماوية.

الثالث : تصديق البشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل فتكون البعثة النبوية المصداق العملي لتلك البشارات.

ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة.

بحث كلامي

هذه الآية مدرسة في المعرفة الإلهية تدل على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعدد وظائف الرسالة وانها لا تنحصر بالدعوة الى الإسلام، بل تشمل الإقرار والتصديق بالرسالات الأخرى، وهذا التصديق في منطوقه تثبيت لتلك الرسالات وامضاء لأفعال الناس العبادية وفق سننها الى أوان البعثة النبوية المباركة، اما مفهومه فهو نفي للإدعاءات الكاذبة بالنبوة ولعلها ليست قليلة آنذاك لاسيما مع تحزب بعض الأقوام لمدعيها من ابناء قومهم او قبيلتهم.

 لقد كان في تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرسالات والأنبياء والكتب المنزلة من قبل عزاً ونصراً للمليين وتثبيتاً لعقائدهم، فوجودها في هذا الزمان على نحو الهيئة المتسعة والكيان المستقل يرجع في جانب منه الى الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اذ شهد على ديانتهم وصحتها ضمن دعوتهم الى الإسلام، ولا تعارض بين الأمرين فتخلفهم عن الإستجابة لنداء الإسلام لا يحول دون بقاء الإقرار والتصديق بصحة وصدق انبيائهم وسماوية كتبهم كالتوراة والإنجيل.

لقد كان هذا التصديق وظيفة نبوية لا يكون حساب الربح والخسارة تأثير فيها ، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينظر الى نتائج هذا التصديق واثره على نفوس بعض منهم في اصرارهم على ديانتهم واتخاذه سبباً لإعراضهم عن الإسلام، بل ادى رسالته وما أمره به الله سبحانه.

لذا فان ذكر لفظ الرسول في الآية وليس بلفظ النبي له دلالات منها اقامة الحجة عليهم وبيان عالمية رسالته وانهم مشمولون بالدعوة الإسلامية.

قوله تعالىنَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ]

تظهر الآية الحالة العامة التي نشأ فيها الاسلام والمشاق وأسباب الصدود التي واجهته للدلالة على سماوية الرسالة والمدد الإلهي في تثبيت دعائم الاسلام، فالمرتجى بحسب الاصول والقيم الانسانية المتعارفة ان يبادر أهل الكتاب الى تأييد الرسالة، فهم القاعدة الملية والأمة التي تستطيع فك رموز الخطاب الرسالي، ولكن اكثرهم قابلها بالجحود ليكون ذلك شاهداً ومخبراً بأن علة التوفيق وسيادة الاسلام هو المدد الإلهي وصدق المسلمين في عقيدتهم وتفانيهم في الجهاد في سبيله تعالى .

 قال تعالى بخصوص نصر المسلمين وهزيمة مشركي قريش في أول معارك الإسلام[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]([47])، فلقد كانت بعثته صلى الله عليه وآله وسلم اختباراً للناس، ولكنه كان خالياً من اللبس واسباب التردد لظهور الآيات البينات.

و المقصود بالفريق الذي ترك واعرض عن كتاب الله عندما جاءهم نبي مصدق لما بين أيديهم، فيه وجوه:

الأول : طائفة من اليهود والنصارى.

الثاني : فريق من اليهود وان المقصود من كتاب الله هو التوراة.

الثالث : علماء اليهود.

الرابع : الذين أبوا الدخول في الإسلام والإقرار بما في كتبهم من البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

 واختلف في المراد ب(كتاب الله) في الآية، فمنهم من قال انه القرآن، ومنهم من قال انه التوراة.

وقال الرازي: قيل انه التوراة وقيل انه القرآن، (وهذا هو الاقرب) لوجهين:

الاول: ان النبذ لا يعقل الا فيما تمسكوا به اولاً واما اذا لم يلتفتوا اليه فلا يقال انهم نبذوه.

الثاني: انه قال (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب) ولو كان المراد به القرآن لم يكن لتخصيص الفريق معنى لأن جميعهم لا يصدقون بالقرآن)([48]).

ويفيد سياق الكلام انه يميل الى القول بإنه التوراة، ولكن ظاهر كلامه (وهذا هو الأقرب) وهذا يعود للقريب انه القرآن، ولعل هناك خطأ من النساخ: وهذا هو الأقرب بقرينة ما أورده بعد هذا الكلام.

والإنسباق عند المسلمين يشير الى القرآن، ولو قلنا بأن الآية أعم من موضوع الإنسباق والتبادر، و[ كِتَابَ اللَّهِ] وردت في ثلاث آيات أخرى من القرآن، اثنتين منها قوله تعالى [ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ]([49])، وقوله تعالى [ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ]([50]) فهل يكون اللفظ أعم من ان ينحصر بكتاب معين من الكتب السماوية المنزلة وان القرآن يتضمنه لأن فيه تبياناً لكل شيء.

الجواب: نعم، بدليل ان القرآن جاء بتشريع هذه القواعد الواردة في الآيتين، فا ما ان يكون بين كتاب الله والقرآن التساوي، أو انهما اسمان لمسمى واحد، او مرة يكونان من الأول ومرة من الثاني مع بقاء نسبة التساوي بينهما، وهو الارجح.

وفي تفسير (كتاب الله) في قوله تعالى [ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ]([51]) ذكرت عدة أقوال فعن ابن عباس انه اللوح المحفوظ الذي كتب فيه احوال مخلوقاته بأسرها على التفصيل، وهو الأصل للكتب التي انزلها الله على جميع الانبياء عليهم السلام، وعن ابي مسلم: أي فيما أوجبه وحكم به، وقال بعضهم : المراد من الكتاب القرآن.

ولا تعارض بين هذه الأقوال لأن القرآن تجسيد وبيان لما في اللوح المحفوظ ويتضمن احكام الشريعة.

وقد تكون نوع اثنينية وتعدد في لفظ الكتاب المتكرر في الآية على قصرها، أي ان [   كِتَابِ اللَّهِ   ] في الآية غير التوراة والإنجيل المشار اليهما بقوله تعالى [ أُوتُوا الْكِتَابَ] لاسيما وان اليهود مثلاً كانوا متمسكين بالتوراة في الجملة.

وفي بعض المباحث العرفانية ان هناك فرقاً بين كلام الله وكتاب الله، فالأول من عالم الأمر والإبداع، والثاني من عالم الخلق والتقدير، وعالم الأمر متقدم في الشرف والفضل، ولأن النبذ عندهم يتعلق بما كان عندهم وليس فيما طرأ عليهم ولم يأخذوا به بعد يقال نبذتَ الشيء اذا القيته من يدك، والإلقاء لا يكون الا بعد الأخذ والتلقي.

الأقرب ان المقصود بكتاب الله في الآية مجمل الأحكام السماوية النازلة ومنها بالخصوص البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأوامر التي تفيد الإيمان بنبوته واتباعه، إنه الميثاق وأحد أركان الإرادة التكوينية والتشريعية.

أي ان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإيمان بها حقيقة يرجع ثبوتها الى يوم خلق الله السموات والأرض، والعقل لا يأبى ذلك، فعندما خلق الله السماوات والأرض وقدّر فيها أقواتها وضع لها الأسس والمبادئ التي تسير الناس في معتقداتهم وتقودهم في مسالك العبادة ودروب الهداية وكان رأس ذلك نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإيمان بها، وتفضل الله سبحانه بتثبيت هذه الحقيقة في الكتب السماوية النازلة لتكون إخباراً عن إرادة حتم، وفي الآية مسائل:

الأولى : ذم فريق من أهل الصدود عن التنزيل لسوء فعلهم.

الثانية : التبيان بأن اعراضهم عن الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لوجود مانع موضوع منهم وباختيارهم، لا لنقص او خلل في الرسالة.

الثالثة : الإلتفات الى ما في الكتب السماوية المنزلة من الحقائق والشواهد والبشارات، فالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تساهم في تثبيت قلوب المؤمنين.

الرابعة : الإخبار عن اختيار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنبوة والرسالة منذ خلق الله عز وجل السماوات والأرض، وبهذا الأخبار وعلى ما أسسناه من علم وهو عرض وارجاع كل حديث من احاديث السنة الى القرآن يثبت موضوع الأحاديث الواردة بهذا الخصوص مثل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “كنت نبياً وآدم بين الطين والماء”.

الخامسة : ان اعراضهم هذا لن يغير في مناهج الإسلام شيئاً ولم يؤثر سلباً على سير الأحداث والتطورات على سطح الأرض لسبق ارادة الله تعالى باعلاء راية الإسلام، قال تعالى [ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]([52]).

وتدعو الآية المسلمين إلى الصبر عند رؤية فريق من الناس يجحدون بالنبوة ليلازم الصبر مصاديق الإيمان ويكون كل منهما رداً على صدود فريق من الناس عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]([53]).

قوله تعالى [ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ]

وردت مادة (نبذ) ومشتقاتها في القرآن اثنتي عشرة مرة، اما الفعل (نبذ) فلم يرد الا في هذه الآية والآية السابقة وفي ذات الموضوع، وبينهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء النبذ والترك، ومادة الإفتراق في الآية السابقة نقض العهد، وفي هذه الآية ترك كتاب الله.

وقوله تعالى [ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ] كناية عن اعراضهم مع القصد والعزيمة على عدم الإلتفات اليه، أي انهم لم يتصرفوا مع الكتاب بقلة اكتراث او قلة التفات له كما فسروه، بل ان قيد (النبذ) يفيد ان الإعراض كان عن ارادة واختيار، وهذا من اعجاز القرآن وما فيه من دقة الوصف وتضمن المفهوم البلاغي لمعان عقائدية متعددة.

فالآية فضح وحجة ويدل ظاهر الآية على تعدد الآيات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالقرآن حجة بذاته وحجة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وان الآيات الأخرى التي جاء بها دعوة للأخذ بالقرآن والعمل باحكامه لأنه الكتاب الموعود.

ومن الإعجاز في الآية الدقة في الوصف والفرز، واظهار التمايز بين ابناء الطائفة الواحدة بلحاظ الحسن والقبح في الأفعال ولو على نحو نسبي ومراتب متفاوتة، فنبذ الكتاب لم يصدر من اهل الكتاب جميعهم بل من جماعة وفريق منهم، ويتجلى الإعجاز من وجوه:

الأول : بلحاظ عدم وصول الدعوة لجميع اهل الكتاب.

الثاني : استمرار الآية حية وباقية الى يوم القيامة.

الثالث :      من اهل الكتاب من اتعظ بالآيات واعلن اسلامه.

الرابع : منهم اميون او مستضعفون لا يعلمون من الأمر شيئاً.

الخامس : تعاهد فريق من أهل الكتاب ما في التوراة والإنجيل من البشارات إلى حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وإذا كان هذا التعدد عند اهل الكتاب فلماذا هذا الذكر للفريق الذي نبذ الكتاب، الجواب: لأنهم في الغالب من علمائهم وكبرائهم الذين يتبعهم كثير من الناس، فينقاد اليهم اتباعهم من اهل الكتاب، ويستمع اليهم المشركون باعتبار انهم ادرى بالكتب السماوية والنبوة.

لقد جاء الذم لهم في هذه الاية للضرر الفادح الذي تسببه هذه الجماعة، وقد تكون وراء نشوب المعارك وجحود الكثير من القبائل، فجاء الخطاب القرآني لفضحهم وتنبيه الناس لما هم عليه من الضلالة والجحود.

وبذا تتجلى وجوه اخرى من الإعجاز في مضامين الذم والفضح الوارد في القرآن، فانه لا يقصد بذاته على نحو مجرد بل يشمل غيره بالدلالة التضمنية والإلتزامية وفحوى الخطاب، فهذا الذم دعوة للناس جميعاً لعدم الإلتفات الى كل من اعرض عن القرآن من أهل الكتاب.

قوله تعالىكَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ  ]

 كأن: تفيد التشبيه المؤكد كما ورد في التنزيل [ كَأَنَّهُ هُوَ]([54])، والآية حجة عليهم وشهادة سماوية من علام الغيوب وما تخفي الصدور، انهم كانوا يعلمون بالنبي المبعوث في آخر الزمان وصدقه وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من عند الله، ولكن نبذ الكتاب وطرحه جاء منهم مكابرة وعناداً.

ومن مصاديق هذه الآية آيات وشواهد من السيرة النبوية وكيف ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقام عليهم الحجة بأنهم كانوا يعلمون ببعثته وينتظرونها.

وهناك أخبار عديدة تدل على معرفة علماء بني اسرائيل بل والذين عندهم اطلاع على التوراة وما فيها بأوان البعثة النبوية وصدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وان كانت الآيات الإعجازية التي جاء كافية لدعوة الناس للتسليم والإنقياد لأحكام الله وسنة نبيه.

بحث عقائدي

أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مأمور بتبليغ الوحي ومنه تصديق الرسالات السابقة، (وقيل اراد بالرسول الرسالة كما قال كثير:

فقد كذب الواشون ما بُحت عندهم
 
 
 بليلى وما ارسلتهم برسول([55])
 

وهذا القول لا يصلح للإستدلال وهو خلاف الظاهر ومضامين ومعاني الآية الكريمة، وربما جاءت القافية هنا للضرورة الشعرية وعلى نحو المجاز.

فقصد الرسول دون الرسالة ظاهر وواقع في الآية، وفيه آية من آيات النبوة وبيان لفضل الإسلام على الأديان الأخرى، فهو لم يأت لمحاربتها ولم يعمل على ابطالها من اجل انتشاره واحكام القرآن، ولم ينظر الى ان وجودها وبقاءها يسبب له وجوهاً من الأذى والمشقة.

ولكنه أخبر عن النسخ في الشرائع، وتلك سنة ملازمة للرسالات وتشهد لها الكتب السماوية على نحو القاعدة الكلية او المصاديق المتعددة المتعاقبة.

 وهذا التصديق حجة زيادة في توبيخهم، أي ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ومع تصديقه بما عندكم من الكتب تقومون بتكذيبه والإعراض عن تلك الكتب، بالإضافة إلى دلالات عقائدية وجهادية لما تعطيه الآية من موضوعية في التبليغ وحسن الأداء وتحمله الشخصي لاعباء الرسالة وايصالها الى من يعلم بجحوده وكفره.

ويمكن القول ان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانت ضرورة عقائدية ولم تكن سبباً لإعراضهم عن كتاب الله، بل كانت كاشفة عن حقيقة لزوم الإلتزام بأحكام الشريعة التي جاء بها الرسل من عند الله، وعن الحاجة الى الديانة التامة التي لا تقبل النسخ والإسقاط والهجران، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]([56]).

والتحقيق التأريخي العام والخاص يثبت ان الناس كانوا محتاجين الى كتاب منزل من السماء لا يمكنهم جعله وراء ظهورهم، كتاب يتضمن كافة أحكام الشريعة، والى رسالة للناس عامة تنفرد بخصوصية معينة وهي عدم قبولها للتشتت ، وتتصف بإمتلاك عناصر البقاء والثبات بحصانة وحرز وواقية ذاتية وعرضية ، فكان القرآن نوراً عقائدياً يملأ الآفاق ويشع ضياؤه على النفوس , وتظهر أحكامه على الجوارح وفي الأفعال طوعاً وقهراً وجرياً وانطباقاً ولو على نحو الإجمال.

***********

قوله تعالى [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]الآية 102.

الإعراب واللغة

قرأ عامر وحمزة والكسائي [وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا] بتخفيف نون [لكن] ورفع [الشَّيَاطِينَ] فلا تعمل لكن ولا تنصب الاسم بعدها لزوال اللفظ الذي به شابه الفعل في التخفيف.

وقرأ الحسن البصري الشياطون وهي قراءة شاذة

الواو عاطفة، واتبعوا: فعل ماض وفاعل، ما: اسم موصول مفعول به.

تتلو : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الواو، الشياطين: فاعل مرفوع بالضمة، على ملك: جار ومجرور متعلقان بـ(تتلو)

سليمان: مضاف اليه مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.

وما كفر: الواو استئنافية وقيل إعتراضية، وما: نافية، كفر: فعل ماض، سليمان: فاعل مرفوع بالضمة.

ولكن: الواو حرف عطف، لكن: حرف مشبه بالفعل للإستدراك، الشياطين: اسم لكن منصوب، كفروا: فعل ماض، والواو: فاعل.

يعلمون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، الناس: مفعول به منصوب بالفتحة.

السحر: مفعول به ثان منصوب بالفتحة.

وما: الواو: حرف عطف، ما: اسم موصول في محل نصب معطوف على السحر، أنزل: فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو، على الملكين: جار ومجرور متعلق ب(أنزل) وعلامة جره الياء لأنه مثنى.

ببابل: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وعلامة جره الفتحة لإمتناعه من التنوين للعلمية والعجمة.

هاروت وماروت: بدل من الملكين مجروران بالفتحة لذات السبب أعلاه، وما يعلمان: الواو إستئنافية، ما: نافية، يعلمان: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والألف: ضمير متصل في محل رفع فاعل.

من أحد: من حرف جر زائد، احد: مجرور لفظاً منصوب محلاً لأنه مفعول يعلمان.

حتى: حرف جر وغاية، يقولا: فعل مضارع بأن مضمرة بعد حتى، إنما: كافة ومكفوفة، والكافة(ما) والمكفوفة(إن) التي كُفت عن العمل، والأصح أن يقال(مكفوفة وكافة) بلحاظ التقديم والتأخير في ذات اللفظ، ولكن قدموا لفظ كافة للتخفيف وضروب الفصاحة وهل هو من السبر والتقسيم الجواب لا.

نحن: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ، فتنة: خبر مرفوع بالضمة، والجملة في محل نصب مقول القول، فلا تكفر: الفاء رابطة لجواب شرط مقدر، لا: ناهية جازمة، تكفر: فعل مضارع مجزوم، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت، فيتعلمون: الفاء: إستئنافية، يتعلمون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، منهما: جار ومجرور.

ما يفرقون: ما: اسم موصول في محل نصب نفعول به، يفرقون: مثل يعلمون، به: جار ومجرور، بين: ظرف مكان منصوب متعلق بـ(يفرقون)، المرء: مضاف إليه مجرور.

وزوجه: الواو: حرف عطف، زوجه: معطوف بالواو على المرء مجرور مثله، والضمير الهاء مضاف إليه.

وما هم بضارين: الواو عاطفة , ما : نافية تعمل عمل ليس بلغة الحجاز، والجملة لا محل لها في محل نصب حال، وقيل إعتراضية.

 هم : ضمير منفصل في محل رفع اسم ما، الباء حرف جر: ضارين: اسم مجرور وعلامة جره الياء،  به: جار ومجرور، من أحد: من: حرف جر، أحد: مجرور لفظاً منصوب محلاً مفعول به لضارين.

إلا بإذن الله: إلا: أداة حصر، بإذن: جار ومجرور، متعلق بمحذوف حال أي مقروناً بإذن الله.

ويتعلمون ما يضرهم: الواو: حرف عطف، يتعلمون: تقدم إعرابها أعلاه، ما: اسم موصول في محل نصب مفعول به.

يضرهم: فعل مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، والضمير هم: مفعول به، ولا ينفعهم: الواو: حرف عطف، لا: نافية، ينفع: فعل مضارع والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، والضمير(هم) مفعول به.

ولقد: الواو: حرف عطف، اللام: قيل لام قسم مقدر والأقوى أنها لام الإبتداء، قد: حرف تحقيق، علموا: فعل ماض مبني على الضم، الواو: فاعل.

لمن: اللام للإبتداء وتفيد التوكيد، علّقت(عمل) عن العمل، من: اسم موصول في محل رفع مبتدأ، إشتراه: فعل ماض: والهاء: مفعول به، والفاعل ضمير مستتر تقديره(هو)، ما له: ما: نافية مهملة، اللام: حرف جر، الهاء: ضمير في محل جر متعلق بمحذوف خبر مقدّم.

في الآخرة: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال، من خلاق : جار ومجرور لفظاً، مرفوع محلاً مبتدأ مؤخر وجملة(إشتراه) لا محل لها صلة الموصول، ولبئس: الواو: حرف عطف، اللام: لام قسم مقدّر، بئس: فعل ماض جامد لإرادة الذم، والفاعل ضمير مستتر تقدير(هو).

وما شروا: ما: نكرة في محل نصب تمييز للضمير المستتر(هو) شروا: فعل وفاعل، به: جار ومجرور متعلقان بــ(شروا) أنفسهم: مفعول به منصوب،(هم) ضمير متصل في محل مضاف إليه.

لو كانوا يعلمون: لو: شرطية غير جازمة، كانوا: كان واسمها، وجملة (يعلمون) خبرها، وجواب (لو) محذوف للبلاغة والتهويل والوعيد.

ويقال تبعت الشيء تُبوعاً: أي سرت في أثره.

وتلوته تُلواً: تبعته ويقال هذا يتلو هذا أي تبعه.

والشياطين: جمع شيطان فيعال من شطن اذا بَعُدَ والنون فيه اصلية، وهو كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب([57])، وقيل الشيطان فعلان من شاط يشيط اذا هلك واحترق مثل هيمان وغيمان، والأول أرجح وأقوى وملك اسم لما يملكه ويجوزه الإنسان ويتصرف به وزنه فُعل بضم الفاء، وجاء في الآية بالمعنى الأعم ليشمل السلطان وكرسي الحكم..

وسليمان بن داود أحد أنبياء بني اسرائيل آتاه الله الملك الى جانب النبوة ونسبه سليمان بن داود سليمان بن داود بن أتسى بن عويد بن عمى ناذب من رام بن حضرون بن قارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)([58]).

والسحر: صنعة لها مراتب منها ما هو يأخذ العين، ومنها عمل فيه اسباب خفية لتصوير الشيء بخلاف صورته وتوهم بأنها تغيره ظاهراً دون الحقيقة، ومنها ما له تأثير في الإعتباريات وما يدخل في علوم النفس الإنسانية.

وعن ابن مسعود: كنا نسمي السحر في الجاهلية العضة , والعضة عند العرب شدة البهت وتمويه الكذب، قال الشاعر:

اعوذ بربي من النافثات

 
 في عضة العاضة المعضة

ولا بأس من الوقوف عند هذا الخبر تحليلاً واستنباطاً وان ذكر في كتب التأريخ رواية ومن غير تحقيق او قصد يتعلق بالمقام فهو يدل على الرقي الفكري عند العرب ايام الجاهلية وعدم انطلاء الخداع عليهم بخلاف غيرهم كآل فرعون اولئك الذين انقادوا للسحرة وتأثروا بالسحر.

ويدل ايضاً على اعجاز القرآن لأن ما عليه العرب من مستوى الإدراك والفهم يؤهلهم للتمييز بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وان اقرار بلغاء العرب وكبرائهم باعجاز القرآن وانه فوق كلام المخلوقين شاهد على التحدي الذي كان يمثله ايام النزول، وقد يكون التحدي بعد ايام النزويل اكبر، خصوصاً في زمن العولمة وتقارب البلدان وتداخل الحضارات والتماس والمجاورة والمواجهة بين الأفكار والملل.

والفتنة الإبتلاء والإمتحان والإختبار، ويردد القول بأن أصله من فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر مدا جودته([59])، ولكن هذا الأصل يحتاج الى أصل ودليل، وقد تأتي الفتنة بمعنى الإثم او الشرك بحسب السياق والقرائن، قال تعالى[كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا]([60]).

[ما]: هنا اسم موصول بمعنى الذي وتستعمل في الغالب لغير العاقل، والأقوى انه معطوف على السحر أي يعلمون الناس السحر ويعلمونهم الذي انزل على الملكين.

والملكين: بفتح اللام وهي القراءة المشهورة والمتواترة وتؤكدها الأخبار، وقرأ الحسن البصري بكسر اللام، وقال كانا علجين، وقيل كانا ملكين صالحين، ونسبت هذه القراءة الى ابن عباس وانهما داود وسليمان وقد لا تثبت مثل هذه النسبة.

ونسب ابن كثير الى ابن حزم ان هاروت وماروت قبيلان من الجن، وانهما علجان من أهل بابل، والعلج – بالكسر والسكون – الكافر وقيل الرجل الفخم من كفار العجم(والعِلْج بالكسر: الرَّجُلُ الشديدُ الغليظ، وقيل: هو كلُّ ذي لِحْيَةٍ، واسْتَعْلَجَ الرَّجلُ: خَرجَتْ لِحْيَتُه وغَلُظَ واشتَدَّ وعَبُلَ بَدَنُه، وإِذا خَرَجَ وَجْهُ الغُلامِ قيل قد اسْتَعْلَجَ)([61]) .

 والانزال هنا بمعنى الخلق لا الإيحاء، كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء)([62]).

والمرء: الرجل ومؤنثه المرأة.

والزوج: يطلق على الزوج والزوجة وهي اللغة العالية وبها جاء التنزيل، وهو مأخوذ من صفة الزواج الإعتبارية الزائدة، وانكر بعض النحويين أن يكون الزوج اثنين، قال ابن الأنباري: والعامة تخطىء فتظن إن الزوج اثنان وليس ذلك من مذهب العرب([63]).

والضر: – بفتح الضاد او رفعها – لغتان: نقيض النفع، وفي الفقه قاعدة كلية تسمى لا ضرر ولا ضرار مقتبسة من الحديث النبوي الشريف.

 والإذن: الإباحة والإطلاق، وذكرت له معاني أخرى كالعلم والأمر.

أسباب النزول

روي إنه سئل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زماناً عن التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك الا انزل الله عليه ما سألوا عنه فيخصمهم، فلما رأوا ذلك قالوا هذا أعلم بما أنزل علينا منا، وانهم سألوه عن السحر وخاصموه به فأنزل الله تعالى[ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ].. الآية، أي اقتدوا بما كانت تتلو الشياطين.

وهناك قول آخر في أسباب النزول وهو:

 لما نزل القرآن بنبوة سليمان قالوا: إنظروا الى محمد يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء انما كان ساحراً يركب الريح فأنزل الله تعالى الآية.

وعن ابن عباس قال: إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، فإذا سمع أحدهم بكلمة حق كذب عليها ألف كذبة فاشربتها قلوب الناس واتخذوها دواوين، فاطلع الله على ذلك سليمان بن داود فأخذها فقذفها تحت الكرسي، فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع؟ قالوا: نعم. فأخرجوه فإذا هو سحر فتناسختها الأمم، وأنزل الله عذر سليمان فيما قالوا من السحر فقال{واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان…})([64]).

وأخرج النسائي وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل به، فاكفره جهال الناس وسبوه، ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم يسبونه حتى أنزل الله على محمد{واتبعوا ما تتلوا الشياطين})([65]).

وفيه شاهد على ترك سليمان بكنوز من العلم وتوثيقها وحفظها من قبل وزيره آصف بن برخيا الذي ذكر في القرآن بقوله تعالى[قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ]([66])، وهو الذي دعا باسم الله الأعظم[الْحَيُّ الْقَيُّومُ]([67]) في حمل عرش بلقيس من سبأ إلى سليمان قبل أن يرتد إليه طرفه([68]).

وسعي الشياطين في محاربة الناس لعدم الإنتفاع منها، ليكون إفتراءهم هذا على سليمان من عمومات قوله تعالى[إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا]([69]).

وفي الآية الإفتراء على سليمان، ليكون من خصائص القرآن عودة الزمان بنزوله إلى إكرام الأنبياء على نحو العموم الإستغراقي والبدلي، وفضح الإفتراء الظاهر والخفي عليهم، فلا أحد يعلم خفايا عمل الشياطين إلى الله عز وجل لأنها قوة خفية قد لا تدرك الحواس فعلها، بالإضافة إلى التقادم الزماني على ذات الإفتراء من قبل الشياطين وا

لكذب الذي نسج حول السحر, فجاءت آية البحث نجاة للناس من كيد الشيطان وزيغه، وفيه بيان لحاجة الناس للقرآن، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا]([70]).

في سياق الآيات

بيان بعض وجوه الزيغ والضلالة التي تحول دون قبول فريق من الناس الاسلام , وتركوا الانصياع للاحكام عن جهل وبإغواء الشيطان، والآيات مجتمعة ومتفرقة مدرسة في معرفة الاسباب والحجب.

والظاهر ان من مسائل هذه الآية تفضل الله عز وجل بإنزال ملكين الى الأرض، وفيه نعمة أخرى على الناس من اجل إصلاحهم ونجاتهم من أفعال الضلالة كالسحر ولكنهم لم ينتفعوا منها.

لقد جاءت الآية السابقة بالإخبار عن مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة بالكتاب السماوي والمعجزات الى الناس جميعاً، ومنهم أهل الكتاب الذين عندهم التوراة والإنجيل، فكان النبي بما آتاه الله من الوحي شاهداً على نزول التوراة والإنجيل من عند الله تعالى، ولكنهم بدل ان يقابلوه بالتصديق والإتباع والنصرة أعرضوا عن كتاب الله الذي فيه البشارة بنبوته والدلالة على أفضليته ووجوب إتباعه.

إن إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس تركاً وهجراً للتوراة والإنجيل، بل هو إمتثال لما فيهما من الأحكام والبشارات بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم وبدلاً من إتباعه وتلاوة الآيات التي تدل على صدق نبوته من الكتاب، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وإتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، لذا إبتدأت الآية بحرف العطف “الواو” في قوله تعالى [واتبعوا] لتكون حجة عليهم وإخباراً بأنهم لم يعرضوا عن كل شيء بل إختاروا ما فيه الجحود والصدود وما فيه وهم وأذى.

وجاء قبل ثلاث آيات الإخبار بالتحذير عن عداوة الله وملائكته ورسله وجبريل وميكال، وهل في إتباع ما تتلو الشياطين على ملك سليمان عداوة له الجواب نعم، ومن يتبع الأنبياء يكفر بالشياطين ويعرض عن وسوستهم وإغوائهم، ويتلقى الآيات البينات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله تعالى بالقبول والتصديق.

وجاءت الآية التالية ببيان منافع الإيمان لو أنهم إختاروه وما فيه من النفع والثواب العظيم، وإذ جاءت الآية الرابعة والتسعون بالإخبار عن قولهم بان الجنة لهم من دون الناس جاءت هذه الآية بالدعوة إلى نبذ السحر وأسباب الغواية .

وتبين الآية حالة التردي الفكري والاجتماعي عند فريق من الناس  بإعراضهم عن مواثيق النبوة في الأرض وضلالتهم باتباع الوهم والغي وتركهم الصلاح والإصلاح وولوجهم سبل الغي والإفتراء والإيذاء.

والتمادي في الانحراف مع توالي النعم والآيات العظيمة وبيان الحاجة والأسباب التي تمهد للبعثة النبوية المباركة ونزول القرآن وانقياد الناس لأحكامه لطفاً من الله تعالى.

إبتدأت الآية بحرف العطف الواو(وإتبعوا) للدلالة على إتصال موضوع آية البحث بالآية السابقة التي إبتدأت بقوله تعالى[وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ…] مما يدل على وحدة الموضوع وصيغة الذم فيه , وتحتمل واو العطف في أول آية البحث وجوهاً:

الأول : إفادة الترتيب وأن ترك الكتاب وبشاراته سابق زماناً على إتباع كذب وإفتراء الشياطين على ملك سليمان.

الثاني : الإتحاد الزماني وأن الإعراض عن الكتاب وإتباع الشياطين بعرض وزمان واحد.

الثالث : تقدم إتباعهم للشياطين زماناً بلحاظ القرائن في المقام، لأن فعل الشياطين متقدم في زمانه على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الرابع : إتباع الشياطين في كذبها جزء علة للصدود عن النبوة والمعجزات التي جاء بها الرسول.

وأخبرت الآية السابقة عن تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنبوات السابقة وتأكيد نزول التوراة والإنجيل بقوله تعالى[مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ]([71])، وليكون من وجوه هذا التصديق أمور:

الأول : الزجر والنهي عن إتباع الشياطين.

الثاني : صدق نبوة سليمان بن داود.

الثالث : حرمة السحر وإجتناب إتخاذه وسيلة للإيذاء والضرر.

الرابع : التنزيل على الملكين هاروت وماروت ببابل.

الخامس : عدم وقوع الإضرار بالناس إلا بإذن الله.

السادس : الخسارة والعذاب في الآخرة للساحر ومن إتبعه.

السابع : بيان المنافع العظيمة للبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة والإنجيل. 

إعجاز الآية

في الآية بيان اسباب القصور عن الدخول في الإسلام لا لخلل فيه لاسيما وان آياته ظاهرة، وبراهينه جلية.

وهل عدم قبول فريق من الناس الإسلام باب للتشكيك بتلك الآيات؟ تجيبك هذه الآية بكشف مقدمات وعلل تخلفهم، وتخبر بأن إعجاز القرآن وآيات النبوة باقية حتى يوم القيامة وثابتة ولا يمكن إنكارها، ولكن الخلل في اتباعهم لإغواء الشيطان وبمسالك معينة، فالقرآن لم يكتف بذمهم على نحو الاجمال بل تعرض للتفاصيل حجة وعبرة وموعظة ونوع طريق للإنابة.

وفيه محاربة للباطل والإفتراء من غير خوف او تردد , وعدم تصديقهم بسبب ما تراكم من ظن بعض من الفرق السالفة السوء بسليمان، وفضح لآراء واقوال.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما ذهب ملك سليمان ارتد فئام من الجن والإِنس واتبعوا الشهوات، فلما رجع إلى سليمان ملكه وقام الناس على الدين، ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي حدثان ذلك، فظهر الجن والإِنس على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان أخفاه عنا، فأخذوه فجعلوه ديناً، فأنزل الله {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} أي الشهوات التي كانت الشياطين تتلو، وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله)([72]).

والآية شاهد عن وحي وإنزال تم على ملكين في الأرض.

والآية مدرسة عقائدية تكشف عن حقيقة تأريخية وهي ان سليمان جمع الى جانب النبوة الملك والسلطان، وان كفر الشياطين وسوء ما قاموا به لم يضر بنبوته وملكه، ولكن اللوم يتجه نحو الذين إتبعوا الشياطين ، والآية سلاح وواقية من السحر.

ومن إعجاز هذه الآية انها جاءت لذم فريق أو جماعة إلا أنها تتضمن تأديب المسلمين وبيان قاعدة كلية وحكم شرعي، وهو حرمة تعلم ومزاولة السحر، ولزوم الإبتعاد عنه، وبذا تتجلى معاني قدسية سامية في الآية القرآنية إذ أنها تقص حال قوم بصيغة اللوم ولكنها تبقى واقية وحرزاً للمسلمين الى يوم القيامة من سنن الإحتيال والخداع بالسحر والوهم.

وتتضمن الآية الدفاع عن ملك سليمان لتبين قانوناً كلياً وهو أن الله عز وجل إذا آتى النبي ملكاً وسلطانا فإنه ينصره في أيامه ويدافع عنه بعدها إلى يوم القيامة، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا…]([73]).

ويتجلى هذا الدفاع في القرآن الكتاب الباقي إلى يوم القيامة بفضح الشياطين وإتباعهم الذين يفترون عليه، لتكون فيه دعوة الناس للإنقطاع إلى عبادة الله والتوجه إلى سلاح الدعاء، قال تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]([74])

ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “ملك سليمان” ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الا في هذه الآية.

ولم ترد إضافة الملك في القرآن لغير الله الا لسليمان في هذه الآية مع الفارق وان ملك سليمان محدود وهو من فضل الله تعالى عليه وعلى بني إسرائيل والمسلمين عموماً.

الآية سلاح

في الآية بيان لفعل ذي وجوه متعددة تتصف بالقبح وتدل على الضلالة ومنها ما انعكس على عامة الناس بالإضرار بهم، وفضح هذا الفعل ردع لهم وتنبيه وتحذير للناس، وفيه إعانة للمسلمين ووقاية اجتماعية وتحصين لهم ولأسرهم.

والآية دعوة لنبذ السحر بالتوكل على الله وصدق الإيمان بالرسالة وهي مدرسة في تنزيه الأنبياء، ومنع الضلالة والتشويه الذي يرد من فريق من الناس عن حياة وسنة الأنبياء، وفيها دعوة للمسلمين لمعرفة قصص الأنبياء من القرآن، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]([75]).

لتبقى الآية سلاحاً بيد المسلمين يدركون معه عصمة الأنبياء، ويحرصون على الذب والدفاع عنهم بالحجة والبرهان، فاذا إدعى الذي تعلم السحر أنه أُخذ من سليمان، فان هذه الآية تنفي قوله وتنزه ساحة سليمان وأنه لم يكفر أبداً، ولم يفتتن بالملك والسلطان، بل كان عبداً لله ونبياً يدعو الناس الى الإسلام، وقد يكون بإمكان المسلم تعلم فنون السحر، والإحتيال له، فجاءت هذه الآية لتبين وجوب إجتنابه، وتدعو الى التبرأ منه ومن أهله.

لقد جاءت آية البحث في بيان ملك وسلطان سليمان لتكون حجة على عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهاده في سبيل الله وجسن سمته وزهده وتقواه.

وأخرج عن ابن عباس قال: قال أهل الكتاب: زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة وليس همه إلا النكاح، فأي ملك أفضل من هذا. فأنزل الله هذه الآية {أم يحسدون الناس} إلى قوله{ملكاً عظيماً}([76]) يعني ملك سليمان)([77]).

وعن ابن عباس: كان في ظهر سليمان مئة رجل ، وكان له ثلثمائة امرأة وثلثمائة سرية)([78]).

مفهوم الآية

في الآية تحذير من اتباع الشياطين ودعوة لنهج الحق ولزوم الإنقياد للأنبياء وعدم الإعراض عن التنزيل ، ومن نعم الله تعالى ان يكون بعض الأنبياء ملوكاً لتثبيت اركان التوحيد ودفع الناس طوعاً وقهراً لأداء الفرائض واتخاذ السلطان وسيلة لنشر الإحسان وفعل الصالحات واقامة حدود الله واجتناب السيئات ودرء الظلم النوعي والشخصي ولا ينحصر اثر هذه النعمة على زمانها ومدة ملك النبي بل تستمر الى اجيال من بعده وقد تجلت في الإسلام باعتباره عقيدة سماوية متكاملة تستوعب جميع جوانب الحياة.

فجاء ذكر إتباعهم ما تتلوه الشياطين على ملك سليمان لتوبيخهم والتذكير بسوء فعلهم وتحذيرهم من التعدي على حكم الإسلام والإفتراء عليه ومحاولة تشويه وتحريف الآيات والمعجزات والإنتقاص من الكرامات التي تجلت مع بزوغ شمس الإسلام.

وتدعو الآية الى التعامل مع الإبتلاء والإمتحان بصيغ الإيمان ومفاهيم العقل، وعدم توظيف العلم لأغراض الشر واسباب الفتنة والضلالة والضرر الذاتي والإضرار بالآخرين.

وهل يمكن القول أن انتاج واستخدام الأسلحة الجرثومية والكيمياوية من مفاهيم هذه الآية، فيما يتعلق باستخدامها ابتداء ولأغراض الهجوم والتعدي والقتل العشوائي والرمي الغارب الجواب لا، لما فيها من الضرر العام الواقعي والأثر الفعلي المترتب عليها , وللتباين الموضوعي .

وتدعو الآية الى ملاحظة الغايات لكل تعلم وتحصيل وعمل وان تكون حميدة وذات نفع عام ونبذ التعليم الخالي من النفع.

وهل السحر الوارد في الآية اعم من معناه الإصطلاحي المتعارف وانه يشمل كل موضوع يفتتن به الناس ويكون سبباً للإعراض عن التنزيل وأحكام النبوة من موضوع هذا السحر الطواغيت والإنقياد لهم واتباعهم فيما يأمرون به مما يتعارض مع احكام الشريعة.

الجواب لا، لتجلي القدر المتيقن منه وهو التمويه وتخيل الشيء بغير صورته، قال تعالى[يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى]([79])، وبين السحر والشعبذة عموم وخصوص مطلق، فكل سحر هو شعبذة وليس العكس، لأن الشعبذة الخداع بالسرعة والخفة.

ولا تنحصر آثار تعليم السحر السلبية على زمان تعليمه بل انه سنة سيئة وتركة ضلالة يؤثم من ابتدعها ومن كان سبباً في تعلمها في الأجيال اللاحقة كتعاقب الأيادي على العين المغصوبة فانه لا يغير من موضوعها وحكمها وان اشتراها اللاحق بالمال والعوض فلو علّم الساحر شخصاً وهذا علّم آخر السحر , فان الأول يؤثم بفعل الأخير للسحر الحرام.

ومن مفاهيم الآية تعاهد دوام الصلات الزوجية مطلقاً وبغض الطلاق والتفريق بين الزوجين مطلقا من جهة الملة والحال، كما انها تحذر من ايقاع الفتنة بين الزوجين والإضرار بالناس.

فالآية من آيات الرحمة وتتضمن المعاني الإنسانية السامية وتدعو في مفهومها الى اشاعة روح الألفة والتآخي والسلام والأمان ونبذ الغدر والخيانة مع استثمار ملك الأنبياء والقواعد الكلية التي تترشح عنه في ميادين العلم والإجتماع والأخلاق والتأريخ والسياسة وفنون القتال، وتدعو الى الإيمان والتسليم بما جاءوا به من عند الله، ومن مفاهيمها تثبيت نبوة سليمان وما رزقه الله من الآيات وجهاده في سبيل الله نبياً وملكاً.

وفي الآية مسائل:

الأولى: عطف مضامين هذه الآية على الآية السابقة، وتحتمل واو الفاعل في “وأتبعوا” وجوهاً:

الأول: إرادة الفريق الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.

الثاني: طائفة من الناس إفتتنوا بالسحر والكهانة.

الثالث: فريق من أهل الكتاب كانوا في عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وبه قال الربيع وابن إسحاق، والسدي.

الرابع: من كان منهم في زمن سليمان، عن ابن عباس([80]).

الخامس: فريق وجماعة منهم في زمن سليمان، وتوارث السحر عنه جماعة أيضاً.

السادس: جماعة من المشركين والكفار.

والصحيح هو الرابع، إذ جاءت الآية لبيان النعمة العظيمة التي أنعمها الله تعالى في بعثة وملك سليمان عليه السلام ومقابلة فريق منهم نعمة الملك هذه بتعلم وإقتباس السحر من الشياطين، والإفتتان بهم.

الثانية: كان الشياطين يفترون ويكذبون على ملك سليمان ويقومون بالتحريف ونقل ما ليس بحق، قال تعالى [َكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ]([81])، ومن الآيات ان الآية لم تعين جنس الشياطين وفيه وجوه ثلاثة:

الأول: شياطين الجن.

الثاني: شياطين الإنس.

الثالث: شياطين الجن والإنس .

والصحيح هو الأول، ويكون الثاني والثالث في طوله , من جهات:

الأولى: إصالة الظواهر.

الثانية: إنه المتبادر من اللفظ .

الثالثة : عمومات ودلالة قوله تعالى [وَمِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ]([82]).

الرابعة : موضوع الآية وهو التلاوة على الملك والكرسي وإنصرافه الى شياطين الجن.

الخامسة : نظم الآية وما فيها من الإخبار عن كفر الشياطين.

السادسة : إخبار الآية عن تعليم الشياطين الناس السحر والتباين بينهم وبين المتعلمين وهم الناس.

فان قلت ان الجمع بين الآية محل البحث والآية أعلاه من سورة الأنعام يفيد العموم ورجحان الوجه الثالث أعلاه، قلت: ان عداوة الشياطين من الإنس والجن لسليمان أعم من أن تنحصر في موضوع التلاوة على ملكه، وممن يعاديه من الإنس من تلقى السحر من الشياطين، وإفترى على سليمان في نبوته وملكه.

الثالثة: تنزيه مقام النبوة من الضلالة والكفر، والإخبار بأن النبي مع توليه الملك فانه معصوم من أسباب الإضرار بالناس، وإعتماد السحر ونحوه وان كان بمقدوره فعله.

الرابعة: لقد جاء موسى عليه السلام بمحاربة السحر بآية من عند الله، ونجّا الله تعالى بني إسرائيل من فرعون وملئه، قال تعالى[أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ]([83]).

وإذ أفتتن فريق بالعجل والسحر، فان  الأنبياء من بني إسرائيل بقوا على ذات النهج من إمامة الأمة وقيادتها، في مسالك الهدى والإيمان.

وجاءت هذه الآية لنفي وجوه الضلالة والكفر مطلقاً عن نبي الله سليمان.

الخامسة: توجيه اللوم الى الذين إتبعوا الشياطين الذين كفروا، فمن الجن ما كان مسخراً لسليمان، ومنهم من كان مؤمناً ومنهم من كان كافراً وفي التنزيل حكاية عن الجن [وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا]([84]).

السادسة: بيان الموضوع الذي ترشح عن كفر الشياطين، وهو قيامهم بتعليم الناس السحر والخداع والإحتيال.

وتتضمن الآية في مفهومها التحذير من الإفتتان بالشياطين وأسباب الضلالة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ]([85])، وبين الآية أعلاه وقوله تعالى[وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ]، بلحاظ موضوع الإتباع عموم وخصوص مطلق، لأن النهي الوارد في الآية أعلاه أعم وأكبر من وجو:

الأول : النهي عن إتباع الشياطين في أسباب الكفر والمعاصي والأخلاق المذمومة.

الثاني : توجه النهي إلى المسلمين وهم أمة عظيمة، أما الذين جاءت الآية بذمهم لسوء إختيارهم بإتباع الشياطين فهم فريق وطائفة قليلة من الناس.

الثالث : خطوات الشياطين التي تنهى الآية أعلاه عن إتباعها تشمل الكفر والشرك، وإشاعة الفحشاء، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]([86]).

إفاضات الآية

تبين الآية حقيقة وهي توالي الإثم والإنجرار في مسالك المعصية للذي يعرض عن التنزيل والأحكام التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام، فبعد ترك الكتاب السماوي جاء إتباع الشياطين في إفترائهم على سليمان وملكه حيث سخّر الله له جنوداً من الإنس والجن والطير، ويدل في مفهومه على أن الصدور عن التنزيل والكتاب السماوية واقية من سبل الضلالة وأسباب الجهالة، وتبين الآية قبح السحر، ونشأته وأن الشياطين قاموا بإفشائه لجعل الناس يفتنون به ويتأذون منه.

وعن عثمان قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ كَانَ لِدَاوُدَ نَبِيِّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ اللَّيْلِ سَاعَةٌ يُوقِظُ فِيهَا أَهْلَهُ فَيَقُولُ يَا آلَ دَاوُدَ قُومُوا فَصَلُّوا فَإِنَّ هَذِهِ سَاعَةٌ يَسْتَجِيبُ اللَّهُ فِيهَا الدُّعَاءَ إِلَّا لِسَاحِرٍ أَوْ عَشَّارٍ)([87]).

ومن بركات آية البحث أنه تتضمن الزجر عن الرجوع إلى السحرة أو اللجوء إليهم في الحوائج والمعاملات لأن فعلهم يتقوم بالكفر والجحود، وفيه دعوة للمسلمين للتوجه إلى الدعاء في تحقيق الرغائب ودفع البلاء، بلحاظ آية البحث هل الدعاء واقية من السحر وأثر الجواب، نعم، قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]([88])، لإفادة عموم المسلمين والإطلاق في موضوع الدعاء بقوله تعالى(إدعوني) وإنتفاء الحصر في الإستجابة لقوله تعالى(أستجب لكم) من غير تقييد.

وتبين الآية التضاد والتنافي بين العمل بمضامين الكتاب وسنن النبوة وبيان إتباع الشياطين.

وتبين الآية قبح السعي في التفريق بين الزوجين بالمكر والحيلة والخداع، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما أحل الله حلالا أحب إليه من النكاح ولا أحل حلالا أكره إليه من الطلاق)([89]).

الصلة بين أول وآخر الآية

جاءت الآية بصيغة الجمع من جهة التابع والمتبوع، بقوله تعالى[وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ] وفيه إشارة إلى التعدد والكثرة مع الذم للطرفين وتأكيد إنتفاء العذر في المقام، وقيام الحجة من وجوه:

الأول : مخالفة إتباع الشياطين  لما جاء به الأنبياء السابقون.

الثاني : التنافي بين إدراك العقل وإتباع الشياطين.

الثالث : مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن والتصديق بالكتب السماوية السابقة وما فيها من الشواهد على نبوة سليمان.

وتبين الآية مصداقاً من مصاديق عداوة الشياطين للناس بمعاداة الأنبياء حتى بعد إنقضاء أيامهم ومغادرتهم إلى الرفيق الأعلى لمجيء الفعل في (تتلو الشياطين على ملك سليمان) بصيغة المضارع وتعقب الموضوع للإعراض عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل على الإطلاق الزماني في عداوة الشياطين هذه وتوارثهم لها وهو من عمومات قوله تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ]([90])، ومن أسرار فلسفة الإبتلاء في الحياة الدنيا.

ترى ما هي الصلة بين ما يعلم الشياطين للناس، وما يعلمه لهم الملكان، الجواب إنه التباين، إذ أن الشياطين يعلمون السحر، والملائكة يعلمونهم سبل الهداية وأحكام الشريعة، وكيفية أداء التكاليف والسحر نوع تخييل، وفن وصنعة تتصف بالخفة واللطف، ويتضمن الخداع والتمويهات والمخاويف، وقيل يستطيع الساحر أن يقلب الإنسان حماراً، وهذا القول من السحر بأن يفترون على الله، ويبعثون الفزع في قلوب الناس، ويجعلون بعضهم ينقاد إلى الساحر، مع الظن بأن عنده قوة قاهرة.

لقد جعل الله عز وجل الإنسان ذا قدرة محدودة، يعجز عن الأمور الخارقة وهذا العجز خير محض لأنه نوع طريق لبقاء الإنسان في منازل العبودية والخشوع لله، وهو مقدمة وشاهد على معجزات الأنبياء، وتجلي صدقهم بما تفيده المعجزة من الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي والسالم عن المعارضة ومن الشواهد على قبح السحر، وزيف ما يدعيه الساحر، هو معيشته في فقر وضنك فتراه عاجزاً عن العيش الرغيد، والتوسعة على عياله، وقد يتظاهر بالزهد والصبر، ولكنه بعيد عن الزهد.

فجاءت الآية التالية بالحث على الإيمان والتقوى لنيل رغد العيش والسعادة في النشأتين، والسلامة من الفقر والجوع والفاقة في الدارين.

بعد إخبار الآية عن إتباع فريق لما تتقوله وتفتريه الشياطين بخصوص ملك سليمان وما فيه من الإعجاز الإلهي في تسخير الإنس والجن والطير ذكرت الآية قانوناً باقياً إلى يوم القيامة وإن إنقضى موضوعه وهو تنزيه سليمان عن الكفر بوجوهه المختلفة .

 ليكون من إعجاز الآية الإبتداء بالذم وتعقبه بالمدح، الذم لفريق لم يتبعوا الأنبياء والتنزيل، والثناء على الأنبياء الذين حملوا لواء الإيمان في الأرض، ودعوا الناس إلى التوحيد، فنبي لم يكفر ونبي يأتي في آخر الزمان ليخبر بالوحي عن صدق نبوة سليمان وأنه برئ مما يفتريه عليه الشياطين، لينعدم أثرهم وينقص ويتضاءل عدد الذين يتبعونهم , حتى إذا خرج الدجال في آخر الزمان وهو أسحر السحرة لم يجد أتباعا كثر فيسهل قتله ووقف الإفتتنان به.

وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين، وشمول الأنبياء وأتباعهم بعمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]([91])، وهذه الرحمة من عند الله وفيه دلالة على تجددها وتواليها في كل زمان بهذه الآية وغيرها.

ولقد بينت الآية أن سليمان عليه السلام له ملك ودولة وسلطان، وأنه معصوم من الكفر، بينما تدل الآية على خسارة الذين ينقادون إلى بالسحر أو الإغواء , وتبين حقيقة وهي أن القرآن هو الفيصل في الحكم بين الناس، وبيان وجوه التمييز بين المؤمن والكافر، والتفصيل والبيان في سنن الإيمان والكفر، على وجوه:

الأول : القرآن حجة على الناس.

الثاني : آيات القرآن مقدمة للحساب الآخروي.

الثالث : أحكام وقصص القرآن وما فيه من البشارات والإنذارات هي القواعد التي يبتنى عليها الحساب يوم القيامة.

الرابع : البشارة بالفوز لمن يعمل بالأوامر التي في القرآن بالجزاء الحسن واللبث الدائم في الجنة.

وصحيح أن الآية جاءت لذم الشياطين وأتباعهم إلا أنها تدل بالدلالة التضمنية على تنزيه ملك وحكم سليمان، إذ كان يحكم بما أنزل الله عز وجل، قال تعالى[وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا]([92]).

ومن إعجاز الآية أنها تحصر الوصف بالكفر بالشياطين ولم تشرك معهم أتباعهم، وفيه لطف إلهي بجذب الناس لمنازل التوبة وهل فيه شاهد بأن إتباع تلاوة الشياطين على ملك سليمان ليس بكفر صريح الجواب نعم، فقد يكون الإتباع بخصوص فعل مخصوص، ورغبة زائلة تتنافى مع الوظيفة الشرعية.

وأخبرت الآية عن كفر الشياطين وجحودهم للدلالة على قبح إتباعهم ونبذ الإنصات لهم , ومن أسرار التنزيل أنه يتودد للناس بالبينة والبرهان، وهو لم يتركهم والشياطين بل جاءت هذه الآية لإتباعهم وملاحقتهم وهي تسعى لمنعهم من إتباع الشياطين، ولتكون بفضل الله برزخاً دون إستدامة هذا الإتباع.

وتبين الآية خبث رؤوس الضلالة بتعليم الناس السحر والغواية، وما فيه من الصد عن سبيل الله، ويدل قوله تعالى[وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ] على أن الألف واللام في قوله تعالى[يُعَلِّمُونَ النَّاسَ] للعهد وأن الذين يعلمهم الشياطين طائفة مخصوصة من الناس وهو الذين يتبعونهم ويدل عليه أيضاً ماهية التعليم بأنه أذى وإضرار بالناس , وفيه شاهد على كون النبوة والعقل والفطرة مانع وواقية لأكثر الناس من إتباع الشياطين في إغوائهم .

الآية لطف

لقد ذكر القرآن قصص الفرق والملل السابقة بما يكون موعظة للمسلمين ومناسبة للإعتبار، ودعوة للناس للتدبر وإختيار سبل الهداية والإمتناع عن إتباع أهل الغواية والضلالة الذين يسوقون الذي ينصت إليهم ويتبعهم إلى النار، حيث أوان البراءة منه , فجاءت آية البحث للنجاة من النار، والعصمة من إتباع الشياطين وجنود الشرك، وجذبهم إلى منازل التوبة وتذوق طعم الإستغفار، وإمتلاء النفس بالغبطة والسعادة عند إتيانه واللجوء إليه.

عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاث من لم يكن فيه واحدة منهن فإن الله عز وجل يغفر له ما سوى ذلك: من مات لا يشرك به شيئا، ولم يكن ساحرا ولم يتبع السحرة، ولم يحقد على أخيه)([93]).

وتتقوم الحياة الدنيا بتنزيه الأنبياء من أسباب الزلل ومقدمات المعصية، لتتضمن آية البحث النص على عصمة نبي الله سليمان من الكفر بمختلف مراتبه وضروبه، وهو من اللطف بالمسلمين وتأديبهم وتثبيتهم في مقامات الإيمان وإجتناب عداوة الرسل.

وتقدم قبل أربع آيات قوله تعالى[مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ]([94])، وتبين الآية موضوعية السعي للآخرة وحسن الإستعداد لها وتأمين المقام الكريم في جناتها بالعمل الصالح ومصاديق التقوى والخشية من الله، ومنها إجتناب السحر والسحرة.

التفسير الذاتي

جاءت الآية ببيان فعل قبيح وهو إتباع ما كانت الشياطين تقوم به من التعدي على ملك سليمان، وورد اللفظ (تتلو) في القرآن خمس مرات، إلا أنه لم يرد بصيغة الجمع إلا في هذه الآية، وجاءت الأربعة الأخرى في تلاوة آيات الكتاب، قال تعالى[كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ] ([95])، أي جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمة قد تقدمتها زمانياً أمم أخرى عديدة، ليقرأ عليهم آيات القرآن العظيم، الذي هو وحي وتنزيل من عند الله عز وجل، ليكون في إتباع ما تتلوه الشياطين ذم إضافي لأنه خلاف الوظيفة الشرعية في إتباع ما يتلوه الأنبياء، ولما فيه من الإضرار والظلم للنفس والغير.

 وذكرت الآية ملك سليمان وكان نبياً وملكاً، ولم ترد في القرآن صفة ملك للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه كان نبياً ورسولاً وإماماً وحاكماً، ولكنه لم يكن ملكاً، وفيه تفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يتعارض مع تفضيل سليمان فيما رزقه الله عز وجل من الملك والنبوة.

 فلم يكن عند الشياطين وسيلة لجعل الناس تفتتن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق نسخ شريعته للشرائع السابقة، ومجيؤها تامة متكاملة لا تستطيع الشياطين أن تنفذ إليه.

 وتدل الآية على التحذير والإنذار من الشياطين وما يتلونه،  فلقد أمر الله عز وجل آدم وحواء أن يهبطا إلى الأرض، وطرد إبليس من الجنة لينزل إلى الأرض ويكون سبباً ومادة لفتنة آدم وذريته، قال تعالى[شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ] ([96])، وجاء الأنبياء والرسل وما أنزل عليهم من الكتب السماوية واقية وحرزاً من إبليس وجنوده.

 وجاءت الآية بتنزيه مقام سليمان عليه السلام من الكفر وهو من باب المثال والإشارة إلى قانون ثابت في مفاهيم النبوة وهو عصمة الأنبياء، وإحترازهم من الشياطين وإغوائهم وفتنتهم.

 ومن إعجاز الآية أنها جاءت بالبيان وتعيين جهة الكفر، وأن الشياطين هم الذين كفروا، وفيه دلالة على آثار جحود إبليس ونزوله لفتنة وإغواء آدم.

ولم يرد قوله تعالى[الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا] إلا في هذه الآية، وقد تحدثت الآيات عن عداوة الشيطان للإنسان وولايته للكفار، ولكن هذه الآية إختصت بوصف الشياطين بالكفر لبيان قبح فعلهم بتعليم الناس السحر وأنه كفر، وفيه إنذار وتحذير من السحر وفعله، ومثلماً تنزه الآية مقام النبوة فإنها تنزه الملائكة الذين نزلوا إلى الأرض، وهما في المقام هاروت وماروت مما يدل على تنزيه ملائكة السماء مطلقاً من باب الأولوية القطعية، قال تعالى في مدح الملائكة[لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ]([97]).

وجاءت الآية بذكر فعل حسن للملكين وهو تحذير الناس من الإفتتان والكفر بفعل السحر، وقيل(إن سحرتهم كانوا يدّعون أن الله عز وجل أنزل السحر على لسان جبرائيل وميكائيل على سليمان فأكذبهم الله في ذلك) ([98])، فجاءت الآية بنعت الشياطين بالكفر وبصيغة الفعل الماضي(كفروا).

وتؤكد الآية حرمة السحر وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين منزهون عن السحر وعن فعله، وأن ما عند النبي معجزات باهرات، وأسرار وآيات إعجازية.

وعن الإمام جعفر الصادق عن آبائه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ساحر المسلمين يُقتل، وساحر الكفار لا يقتل، قيل: يا رسول الله لم لا يقتل ساحر الكفار قال : لأن الشرك أعظم من السحر، لأن السحر والشرك مقرونان) ([99]).

 وقد يكون المعنى أن ساحر الكفار يقتل لكفره إذا كان وثنياً وحربياً, ومصاديق التوبة تشمل السحر والساحر مطلقاً أي سواء كان مسلماً أو كافراً ثم إهتدى والله غفور رحيم.

والآية مدرسة في بيان قبح السحر وأضراره، والمفسدة التي تترتب عليه، لمنع الجهالة والغرر، ولصيانة المسلمين ونفوسهم ومجتمعاتهم من آثار السحر، والإفتنان بالسحرة، ومن هذه الأضرار التي ذكرتها الآية:

الأول: التفريق بين الزوجين، وما فيه من الأذى لهما، فإن قلت ورد قوله تعالى[وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ] ([100])، والجواب من وجوه:

الأول: وردت الآية أعلاه بعد الحث على الإنصاف والعدل في معاملة الزوجة، وعدم تركها بحال برزخية بين ذات البعل والمطلّقة بقوله تعالى[فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ] ([101]).

الثاني: جاءت الآية أعلاه بصيغة الجملة الشرطية أي أنها لا تحث على الطلاق والفرقة ولكنها تبين أن الطلاق والإفتراق أفضل من بقاء المرأة كالمطلقة، والتي وردت في قراءة أبي(فتذروها كالمسجونة) ([102]).

الثالث: جاءت الآية أعلاه لبيان سعة الفضل الإلهي، وأن الله سبحانه ينصر المستضعفين رجالاً كانوا أو نساء.

الرابع: في الآية دليل على نسخ الشريعة الإسلامية للشرائع السابقة، ومجيء القرآن بالعدل والإنصاف، ومنع جعل الزواج سبباً للظلم ولو داخل الأسرة.

الخامس: صحيح أن الآية جاءت بخصوص دفع ورفع الغبن والأذى عن الزوجة سواء في حال بقائها بصفة الزوجية، أو عند الفراق والطلاق، إلا أن موضوعها أعم فيشمل الرجال، والطلاق رحمة بهم وباب للسعة والسعي لنيل الفضل الإلهي، لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ولعل الآية ناظرة للقوانين الوضعية في بعض أفراد الزمان الطولية، أو في أماكن ودول وقوانين مختلفة.

السادس : تبين آية(وأن يتفرقا…) وقوع الطلاق بإرادة وإختيار الزوجين ومجيء الآية بخصوص فضل الله عليهما منفردين أو مجتمعين، أما آية البحث فذكرت حصول التفريق بمؤثر خارجي وظلم.

الثاني: السعي للإضرار بالناس بالسحر، ويدل عليه مفهوم قوله تعالى[وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ].

الثالث: القيام بتعلم ما فيه جلب المفسدة والإضرار بالنفس والجماعة، وترك ما فيه النفع والمصلحة.

ومن إعجاز الآية أنها جاءت بصيغة الجمع في الوجوه أعلاه وفيه عنوان إضافي للذم، وسبب لإستحقاق العقاب لأفراد هذا الفريق منهم، ولكن الله عز وجل تفضل عليهم ببعثة الأنبياء، ودعوتهم للهدى، وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة المتكاملة، والتنزه من السحر، وبيان قبحه الذاتي والعرضي، كما في هذه الآية.

ليكون لقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ([103])، في المقام دلالات وأمور منها:

الأول : فضح السحر وضرره.

الثاني : الحرب على السحرة.

الثالث : إزاحة أثر السحر عن النفوس والأبصار ليتوجه الناس لعبادة الله عز وجل والتدبر في الآيات الكونية ودلائل التنزيل.  

الرابع : التوجه لتلاوة آيات القرآن بل إتباع تلاوة الشياطين، ويتجلى التباين من وجوه:

الأول : القرآن كتاب نازل من السماء، وما يتلوه الشياطين كذب وإفتراء.

الثاني : يتلو الإنسان القرآن بنفسه، ليس بينه وبين الله واسطة إلا كلامه سبحانه[كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ]([104])، أما بالنسبة الذين يتبعون الشياطين فليس من تلاوة إنما هو إتباع وإنقياد.

الثالث : ثبوت الأجر والثواب في قراءة القرآن(اقرأوا القرآن، فإنكم تؤجرون عليه أما إني لا أقول {الم} حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر، فتلك ثلاثون)([105])، أما إتباع الشياطين في تلاوتها ففيه الأثم والعذاب والأليم.

الرابع : لقد أمر الله عز وجل بتلاوة القرآن ونهى عن إتباع الشياطين في تلاوتها ومطلقاً.

وجاءت مادة الشراء في خاتمة الآية مرتين :

 الأولى : بمعنى الشراء وفيه إشارة إلى أنهم بذلوا جهداً ومالاً لتعلم السحر مع أنه سبب للإضرار بهم .

 الثانية : بمعنى البيع[وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ] لأنهم بتعلم السحر لم يحافظوا على أنفسهم، وتركوا السعي لسلامتها مع أنه حاجة وضرورة، لذا قال تعالى[لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] .

وتفيد لو معنى الإمتناع أي أنهم لا يعلمون ما ينفعهم وما يجب عليهم فعله، إن ذكر الآية لشراء الأنفس نوع ذم ولوم، لما فيه من التفريط بأعز شيء عند الإنسان، وتعريض الذات إلى العذاب الأليم.

فجاءت هذه الآية رحمة بالناس جميعاً من وجوه:

الأول : التحذير والتخويف من السحر.

الثاني : الدعوة للتنزه منه ومن آثاره.

الثالث : التوجه بدل السحر والشعوذة لطاعة الله والتوكل عليه.

الرابع : نبذ الفرقة وأسباب العداوة بين الناس.

الخامس : نشر مفاهيم الود والصلاح بين الناس.

ويحتمل السحر وجوهاً:

الأول: وجود حقيقة واقعية تكوينية له.

الثاني: الحقيقة الخيالية، وإنها ليست من الوهم المحض.

الثالث: الوهم وإنعدام الموضوع.

الرابع: التفصيل، فمن السحر ما يكون له حقيقة خيالية، ومنه ما يكون وهماً.

أما بالنسبة للأول، فلم يثبت، وهو خلاف العقل، ولم يقل به حتى أصحاب الفن من السحرة.

أما الثاني فهو أمر ممكن من حيث ترتب بعض الآثار عليه، التي تنكشف بالتمحيص والتدقيق، قال تعالى في موسى عليه السلام والسحرة[فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى]([106]).

أما الثالث فهو صيغة وصفة لكثير من أفراد السحر .

 لقد جعل الله عز وجل الإرادة التكوينية من مختصاته سبحانه، وحجب عن الناس المشيئة والقدرة فيها لتكون نسبة السحر من الواقع نسبة الخيال والتخييل والمكر فيه، وهو أقرب إلى الخديعة والوهم منه إلى الواقع، وإن ظهرت بعض الآثار القريبة له والمرتبطة بالنفوس الشريرة الشيطانية، وهذه الآثار كالسراب سرعان ما تزول وتمحى، ولا ترقى إلى أدنى مراتب الكرامات والمعجزات وآثار الدعاء، ويتفشى السحر وتعلمه بين الناس حال الجهالة والقصور العقائدي، وضعف التقيد بمضامين العبادة، وترك الإنقياد لسنن الأنبياء , لذا فإن من إعجاز نظم الآيات مجيء هذه الآية بعد الإخبار عن نبذهم كتاب الله وراء ظهورهم.

وليس من نظام أو قواعد كلية للسحر، فهناك أمم عديدة لها سحر خاص كالفراعنة , والكلدانيين، والبابليين، والهنود وجاء القرآن بالتوثيق السماوي للصراع والحرب الذي دارت بين السحر ومعجزة النبوة، وبحضرة ملك  الكفر والجحود فرعون إذ تلاقى موسى عليه السلام بعصاه، مع السحرة وشياطينهم أمام فرعون الذي إدعى الربوبية، قال تعالى[فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ] ([107]).

 وما لبث  السحرة أن سجدوا خاشعين مقرين بنبوة موسى عليه السلام وأن عصاه معجزة حسية وآية عظمى من عند الله عز وجل.

 ولا تدل قصة موسى والسحر على أن السحر وهم تام على نحو القطع، ولكنها تدل على غلبة المعجزة والآية من عند الله وتبصرة الناس بأسرار المعجزة والمائز بينها وبين ما في السحر من الضلالة والوهم.

وقيل بعدم الحرمة النفسية في تعلم السحر، وإنما حرمته غيرية , ولكنه محرم بالذات .

وهل يدل ظاهر الآية على التفصيل وأن الحرمة النفسية تختص بتعلم ما فيه الضرر والإضرار بالناس ومنه ما ورد في قوله تعالى[فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ]الجواب لا دليل عليه، لأن السحر مبغوض ذاتاً وأثراً على نحو الإطلاق.

وورود بعض الأخبار بخصوص جواز الحل وعدم العقد خصوصاً عند إنحصار العلاج به أي القيام بحل وإزالة أثر وعقد السحر خاص بمن كان قد تعلم السحر سابقاً وإختار التوبة، إذ أن حرمة السحر تفيد حرمة تعلمه ومقدماته لحرمة المقدمة لحرمة ذيها، وما ورد بخصوص هاروت وماروت دليل خاص لمحاربة السحر وفي رواية علي بن الجهم عن الإمام الرضا عليه السلام(وأما هاروت وماروت فكانا ملكين علما الناس السحر ليتحرزوا به من سحر السحرة ويبطلوا به كيدهم)([108]).

قال قتادة والزهري، عن عبيد الله بن عبد الله[وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ] كانا ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما بين الناس. وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم، فحاكمت إليهما امرأة، فحافا لها. ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك، ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا قال قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما ألا يعلما أحدا حتى يقولا [ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ]([109]).

لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار سعادة وبهجة، وهذه البهجة لا تتعارض مع قواعد الإمتحان والإبتلاء في الدنيا، ولكنها تبعث في النفوس الشوق للخلود في النعيم في الآخرة وتجعل الإنسان يجتهد في مرضاة الله شكراً له على النعم المتتالية والكثيرة في الدنيا، وجاءت هذه الآيات بذكر النعم العظيمة التي تفضل الله عز وجل بها على بني إسرائيل، ومن النعم في الدنيا نعمة الزواج، وقد خلق الله حواء لتكون زوجة لآدم، ولم يهبط إلى الأرض إلا وزوجته معه، وفيه حث على الزواج وزجر عن حياة العزوبة، وكراهيتها للرجل والمرأة ولكنها للمرأة أشد، قال تعالى [الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا]([110]).

وجعل الله عز وجل الحياة الزوجية سبباً ومادة للسكينة ونزول الرحمة وبعث المودة، قال تعالى[وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً]([111])، وتفضل بهذه الآية الكريمة للحرب على الموانع التي يضعها أهل الجهالة والضلالة في طريق هذه المودة، وإقامة الحجة عليهم، والإمتناع بالإختيار لاينافي الإختيار، فاذ يريد الذين يتبعون ما يتلوه الشياطين بعث الفرقة وأسباب الفتنة بين الأزواج فان الله عز وجل يصرف كيدهم ومكرهم، ومن مصاديقه هذه الآية الكريمة وتلاوة المسلمين لها.

لقد أراد الله عز وجل للمودة بين الزوجين أن تكون سبباً وطريقاً لكثرة النسل، وهذه الكثرة مقدمة وموضوع لعمارة الأرض بعبادة الله عز وجل فلذا جاءت الآية التالية ببيان منافع الإيمان والتقوى في النشأتين.

وجاء القول في هذه الآية على نحو العموم الإستغراقي في إشارة إلى توارث هذا القول , والأرض بحاجة إلى كتاب سماوي يبين صحة أو كذب الإدعاءات بخصوص الآخرة، وأمة تصون التنزيل، وتتعاهد حفظه من التحريف فأنعم الله عز وجل على الناس بالقرآن كتاباً جامعاً للأحكام[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ([112])، ومنه الخلاف بين أهل الملل الأخرى وأنعم على الناس بأن أخرج لهم المسلمين[يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ([113]) .

وجاءت هذه الآية وثيقة لما يقوله، وفيها مسائل:

الأولى: الأصل هو التنزه عن الطعن والذم، ويجب الرجوع إلى الكتاب الذي يتلونه.

الثانية: بيان الحاجة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إصلاح الناس والألسن، وكشف الحقائق.

الثالثة: تدل الآية على إنشغال فريق من أهل الكتاب بالإختلاف فيما بينهم، وفيه ضعف وإضعاف لهم ولكل فريق منهم.

الرابعة: نبذ الإصرار على عدم التصديق، والإخبار عن إحتمال ذم المسلمين.

لقد جاء القرآن لمنع إتباع الهوى، والصدور عن الأماني والأوهام، ودعا إلى الحجة والبرهان مما يدل على بداية مرحلة جديدة في تأريخ أهل الأرض.

 ومن إعجاز القرآن مجيء هذه الآية بعد بيان قانون ثابت في الأجر والثواب بقوله تعالى[مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ] فالمدار ليس على الإنتماء وإنما المدار على الإيمان وإخلاص العبادة لله عز وجل والعمل الصالح.

ويحتمل قولهم هذا في زمانه وجوهاً:

الأول: إنه كان قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثاني:  أيام البعثة النبوية.

الثالث: إرادة المعنى الأعم وأنه شامل لزمان البعثة وما قبلها.

والصحيح هو الثالث لأصالة الإطلاق، ولظهور الخلاف بينهم، فجاءت الآية للدعوة إلى الله عز وجل ونبذ الخلاف الذي لا ينفع أحداً منهم لذا قالت الآية[فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ].

ومن إعجاز الآية ذكرها وجه التشابه في القول، وفيه دلالة على أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً، وعلاج من الفتنة بين أهل الملل والتي لا أصل لها.

 وتبين الآية المائز بين أهل الكتاب والكفار، وأن إتيان الكتاب والتنزيل علم قائم بذاته وسبيل لتحصيل العلم وإكتساب المعارف , والقرآن هدايةلهم فيما يختلفون فيه.

التفسير

تفسير قوله تعالى [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ ]

بعد ان أعرضوا عن الرسول وتركوا ما في أيديهم من الكتاب السماوي جحوداً وبغياً لاسيما وأن الرسول شهد بصدق الكتاب الذي في أيديهم، أمعنوا في الضلالة والغي وإقتدوا وانقادوا لأفاعيل الشيطان وكدورات النفس البهيمية .

 وفي الآية تحذير للمسلمين من المكر والكيد والجدال وضروب المغالطة، قال تعالى[وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ]([114]).

وفي الآية نكتة عقائدية وهي ان خلو القلب من الإيمان ونزع النفس لرداء المعرفة مدخل لنفاذ الشيطان واستحواذه على الجوارح.

لقد أراد الله عز وجل للناس ببعث الأنبياء السعي في مراتب الرفعة الى درجة الأصفياء وأهل السماوات النورية وبلوغهم منازل الملكوت واعانتهم بالتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتباعه، والثبات على ملة التوحيد كبرزخ زماني ووسيلة تعينهم على التدرج في مقامات الهدى بإعمال الذهن بالبرهان وإدراك الآيات بالوجدان والتخلص من عذاب النيران بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الكريم المنان ليقودهم بسلام الى جنة الرضوان، وتلك غاية شريفة ومقصد من مقاصد النبوة كطريق لتنقية الروح من الكدورات الشيطانية ولكي يشتغل العقل والجوارح وأركان البدن بصدق التوبة وإخلاص العبادة والتوجه الى الحضرة الربانية.

إن إتباعهم للشياطين معصية مركبة بإضافة مناسبة المقام وإنها جاءت بعد البعثة النبوية المباركة ورؤية الآيات والحجج والبراهين، كما في قوله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم[مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ]([115])، أي لأنهن بالبيت الذي يهبط فيه الوحي ويشاهدن الآيات والبينات، وللمسؤوليات التي تمليها الصلة والإنتساب السببي او النسبي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال: “لولا ان الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا الى ملكوت السماوات”([116]).

ولكن هذا لا يرفع التكليف ووقوع الذم على من يتبع اغواءهم، فالحديث اظهر حاجة الإنسان للجهاد النفسي وعدم الإنقياد للنفس الغضبية والشهوية.

ترى من المقصود بالذين اتبعوا ما تتلو الشياطين:

الأول : طائفة من الناس ممن كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبه قال الربيع و أبو إسحاق.

الثاني : فريق من الناس كانوا في زمن سليمان، ونسب هذا القول إلى ابن عباس.

الثالث : إرادة الصفة والفعل لمتبقي السحر لم يزالوا منذ عهد سليمان الى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.

والأرجح ان الذين تعلق بهم الوصف هم الذين اتبعوا زيف الشيطان وافتتنوا بالسحر ونحوه، وان وقع في آنات متباعدة وأزمنة كثيرة تبدأ من أيام سليمان عليه السلام أو بعد وفاته وتتصل الى زمان البعثة النبوية المباركة وما بعدها.

وان اتباعهم للشياطين جاء محاكاة وتقليداً لأسلافهم فتشمل الذم للجميع، وان أفاد العطف تعلق الذكر بالموجودين أيام الرسالة النبوية المباركة ونزول القرآن، اذ لا يعقل انهم ابتدعوا الإقتداء بالشياطين مع تقدم زمانهم، ولا يمنع هذا من اتصال فعل الشياطين واستمرارهم بالإغواء بذات المادة والموضوع منذ ايام سليمان عليه السلام.

وقال بعضهم ان سليمان عليه السلام ليس بنبي وانه ملك، فجاء القرآن ليمنع حركة الإفتراء والحسد وليفضح اهل الجحود والضلالة، فقد يكون تعديهم على سليمان والمراد عموم الأنبياء وخلق حالة من التعدي والتجرأ عند الناس على مقام النبوة، فتكون هناك حرب على الإسلام ولكن ليس بالسيف ولا باشخاص معروفين يمكن مواجهتهم، بل حالة نوعية عامة ومرض يتفشى بين الناس ويصيب البصائر، فجاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتصدي لهذه الأقاويل، وجاء القرآن بفضحهم ليمنع من إضرارهم بالإسلام وليحفظ مواثيق الأنبياء ويصونهم في الدنيا، ويكون رسالة للإنذار والتوبيخ وعبرة وموعظة، قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]([117]).

لقد إستمر الشياطين بالقراءة والخداع على ملك سليمان في عهده ومن بعد انقضاء مدة حكمه بإيجاد صيغ وقواعد ثابتة للخداع والكذب والسحر، او ان فعلهم كان في أيام ملك سليمان ثم انقطع ولكن اتباعهم من الإنس استمروا على الأفعال التي أخذوها منهم آنذاك، والأرجح الأول لأن الشياطين يقومون بإغواء بني آدم ويتخذون الطرق الملائمة والفرص المواتية لإضلالهم وصرفهم عن الدين وسماع الآيات.

وقد تكون تلاوة الشياطين هذه أعم من المعاني المعروفة لهذه الكلمة لغة وعرفاً، فلا بأس من تدبرها والنظر في معانيها المجازية المناسبة للموضوع والحكم بلحاظ نوع الفعل الذي يأتونه.

 وعن ابن عباس في قوله[تَتْلُو] أي تتبع، وعن عطا تقرأ و(على ملك سليمان) أي على عهد ملك سليمان([118]).

 وعن ابن مسلم تكذب.

وما المراد بالشياطين هل هم شياطين الجن أم شياطين الإنس أم شياطين الإنس والجن معاً، ونسب القول الأول الى الأكثر والثاني الى فريق من المعتزلة، أما الثالث فهو المعنى الأعم.

والأخذ بالعموم حسن بل هو الأولى إذا كان ممكناً وتشير إليه الأمارات والقرائن، ولكن القرائن بخلافه اذ المراد على الظاهر هو الأول.

والأقوى ان ما المراد بقوله تعالى[عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ] هو ملك سليمان وما يتعلق به، وعلى عهد سليمان ومدة حكمه.

لقد أوهم الشياطين الناس بأن سليمان صار له هذا الملك والسلطان لما أتقنه من السحر وتسخير الجن بعلومه، لا لثغرة في ملك سليمان او خصوصية فيه تدل على زيف ادعائهم، بل لدأب الشياطين على الإفتراء والكذب والتمويه على الناس بصيغ الإفتتان المناسبة، فكان ملكه الواسع مادة وموضوعاً لمحاولاتهم الفتنة والضلالة.

والظاهر انهم كانوا يقولون ذلك في أيام ملك سليمان أو يفعلون ما فيه افتراء على سليمان وملكه، وان امتاز سليمان بتسخير الشياطين له كما في قوله تعالى [وَمِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ..]([119]).

إذ أن [من] تفيد التبعيض، وهل يقوم بعض منهم بأفعال أخرى لسليمان كالذين يقومون له بالبناء في قوله تعالى [وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ…]([120])، فيحمل هنا على مطلق الشياطين فلا يكون له منهم أيام ملكه عدو ومفتر يكذب عليه .

 الجواب : لا، لسنة الله في الخلق والقواعد الكلية الثابتة في سنخية نزغ الشيطان وكفره ولقوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ]([121]).، وللنصوص والأخبار.

وصحيح ان العداوة هذه أعم من ان تبرز خارجاً بالتلاوة والإخبار والكذب، ولكن القرآن يفسر بعضه بعضاً وان عداوة الشياطين لسليمان ذكرت بهذه المصاديق وهو أمر يقبله العقل والوجدان لأن الشيطان ينفذ من أي طريق يتحصل منه إغواء وضلالة لبني آدم.

وتعرض بعض الشياطين للعقاب في أيام سليمان وملكه يدل في الجملة على مزاولتهم لمحاربته وللفتنة، وهل كان الشياطين يفترون على ملك سليمان في أيام حكمه، والإتباع من قبل الإنس إستمروا في المعصية والفتنة فيما بعد.

أم ان الشياطين استمروا بالإفتراء على ملك سليمان ولم ينقطع الشياطين عن الإفتراء على ملكه بدلالة صيغة المضارع للفعل [تَتْلُو] وتقريبه ان الواو في [اتَّبَعُوا]  تشمل ايضاً الموجودين منهم أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الظاهر حصول الأمرين معاً، والآية في مفهومها تفيد التحذير من الإفتراء على ملك سليمان ونسبة السحر الى بعض شؤون مملكته، وفيها تنزيه له وللنبوة عامة للتمايز الموضوعي بين النبوة والسحر، ودعوة للمسلمين للحذر والحيطة، خصوصاً وان ملك الإسلام ودولته في اتساع، ويمكن استظهار ذلك من قوله تعالى [وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا].

وفي الآية مسائل:

الأولى : تقرير التباين بين السحر والعاملين به وبين النبوة والمقتدين بها وحرب فهي حرب على كل ما يوهم التشبه بالنبوة والأنبياء، انه حفظ سماوي للنبوة والكتب السماوية، وهو أمر بيّن يتجسد بالمعجزات التي يأتي بها الأنبياء ويعجز عنها السحرة كما في قصة موسى عليه السلام والسحرة، ولكن شطراً من الناس يميل الى المحسوسات ويتأثر بما هو قريب منه وان كان ذا مرتبة ادنى وينفعل بالتضليل والإيهام واسباب الغشاوة التي تحول دون الإدراك السليم والبصيرة الثاقبة.

الثانية : نفي الكفر عن النبي سليمان دلالة العصمة والحصانة والمنعة الإلهية، وتثبيت لما جاء به من الأحكام الشرعية وللحيلولة دون الشك واثاره على بعض النفوس سلباً وعدم الإنقياد للريب وسوء الظن.

وظاهر الآية والإخبار أن طائفة نسبت السحر لسليمان بينما نفت الآية عنه الكفر، وفيه وجوه محتملة:

الأول : جعل السحر بمنزلة الكفر.

الثاني : السحر  احد مصاديق الكفر.

الثالث : إن سليمان نبي فهو منزه عن السحر ومعصوم من الزلل، والنبي لا يخطأ ويتوجه الى السحر , فهو منزه عن السحر والجحود بالنعم لعظيم المسؤوليات والرسالة التي جاء بها.

الرابع : للتعريض بهم وذمهم وتوبيخهم.

الخامس : لبيان المائز الكبير بينهم وبين سليمان.

السادس : لإقامة الحجة عليهم فيما يدعون بخصوص نبي الله سليمان.

الثالثة : من فلسفة النبوة حفظ مواثيقها والوثوق بالأنبياء على نحو العموم المجموعي والإستغراقي، لذا فان الكفر بأحد الأنبياء مذموم وقد يفضي إلى الفساد والطعن بموضوع النبوة.

الرابعة : دفع الوساوس عن بني آدم ومحاربة الشياطين في اعمالهم وشرورهم وابطال صناعتهم وكيدهم، وعن الصادق عليه السلام: وقد سئل من اين علم الشياطين السحر؟ قال: من حيث عرف الأطباء الطب بعضه تجربة وبعضه علاج([122]).

الخامسة : فضح السحر كنوع من انواع الغش والمكر.

السادسة : تنبيه الناس جميعاً وخاصة أهل الإيمان الى اجتناب ورواده وخاصة أهل الإيمان.

السابعة : الإلتفات الى جسامة الأعمال التي يقوم بها الشياطين، وانهم لا يمتنعون عن التعدي على مقامات النبوة.

الثامنة : لم يكن اذاهم للأنبياء بالذات، فلم يؤثروا سلباً على سليمان ولم يحولوا دون عمله بما أمره الله عز وجل وتثبيته للعقائد السماوية، انما كان عملهم باغواء ضعاف القلوب من الناس والذين أبوا الا الإعرا ض عن دعوة الحق، كالذئب لا يفترس الا القاصية من الغنم.

التاسعة :  نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دفاعه عن الأنبياء، بتعرية أقوال الذين إفتروا على سليمان وسلامة التركيبة الإيمانية لدى عامة المسلمين، لذا ذكر في أسباب النزول في بعض الأخبار أنه قيل: ألا تعجبون من محمد صلى الله عليه وآله وسلم يزعم أن سليمان كان نبياً وما كان إلا ساحراً، فأنزل الله هذه الآية، ثم إن القائل بنبوة سليمان هو الله عز وجل، مما يعني انهم أرادوا حصول تحريض الناس على الجحود وصدهم عن الإيمان.

العاشرة : توبيخ الذين يتبعون الشياطين فيما يفترون على ملك سليمان.

الحادية عشرة :    بيان الأذى الذي يلاقيه الأنبياء وانه قد يستمر الى ما بعد مماتهم، فحينما عجزت الشياطين عن الإنقضاض على ملك سليمان ونبوته واستطاع ان يقيدهم بالأصفاد أرادوا فيما بعد الإنتقام منه بالإفتراء عليه وانتقامهم في هذه المسألة من الذي يتبعونهم اكثر واكثر ضرراً لما يعنيه من الإفتتان وركوب المعصية، ولأن قصدهم اغواء بني آدم ولا يتعلق الا بالأحياء والذي سيولدون منهم، ولا يشمل الأموات لإنقطاع ايام العمل والإبتلاء بالإنتقال الى عالم الحساب من غير عمل , فجاءت الآية واقية وحرزاً.

الثانية عشرة :     دفع الضر والأذى عن الناس أي ليس عن المسلمين فقط خاصة ومحاربة السحر وتأثيره، وإظهار صدق الإسلام وعظيم منافعه منذ الأيام الأولى للبعثة النبوية الشريفة، أي لولا حدوث الاول لما حدث الثاني، وكحركة المفتاح المتولدة من حركة اليد، فكفرهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس بسبب نقص الآيات والمعجزات فهي كثيرة وظاهرة، بل لما ما جبلت عليه نفوسهم من الكفر وأوهام الشياطين.

الثالثة عشرة :     تفضل الله تعالى برحمة الناس جميعاً بالتبليغ والإنذار، فمن النعم في هذه الآية ان الله عز وجل لم يخل بين الناس وبين الشياطين واتباع اسباب ومقدمات اتباعهم، بل ذمهم على نحو التنبيه والدعوة الى الإبتعاد عن دروب الضلالة.

الرابعة عشرة : الآية مصداق لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ  ]([123]) لما فيها من الدعوة للتوبة ونبذ الإفتراء وتحصين المسلمين من أذاه المركب.

الخامسة عشرة : فيها تنبيه للمستضعفين وإشارة إلى سوء فعل رؤساء الضلالة، وان مباني معارضتهم أو امتناعهم عن الدخول في الإسلام كانت نتيجة لإفتراء الشياطين واغوائهم.

السادسة عشرة : إفاضات القرآن وبركات التنزيل لا تنحصر بالمسلمين بل تشمل غير المسلمين وصلاحيتها لتكون مقدمة للإيمان وموعظة وتذكرة واصلاحاً للنفوس والمجتمعات، فالآيات القرآنية سيف وسلاح يفتح القلوب ويملأ النفوس بنور الإيمان ويطرد عنها نزغ الشيطان.

السابعة عشرة : بيان لجانب من اسرار الخليقة وهي إتساع دائرة حركة الشياطين وسعيهم جاهدين لتكون بين الناس جماعة تعمل بعملهم وتدين بالإعتقاد لهم فتنة واغواء لغيرهم.

الثامنة عشرة : دعوة أهل الكتاب إلى إتباع سليمان والإقتداء به، فإن في اتباعه طريق ومقدمة للإسلام , وهو كباقي الأنبياء بشروا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما تطلع الى الإسلام المؤمنون من الأمم السابقة حملة التوراة والزبور والأنجيل وان كان ذلك بالواسطة، فقد كانوا يبشرون به وينتظرون قدومه وبعثته للأخبار الواردة عنه في الكتب السماوية المنزلة وتبشير وإعلام أنبيائهم لهم بحتمية خروجه.

التاسعة عشرة : هناك نوع ملازمة بين الكفر بسليمان وما جاء به والكفر ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل هي نتيجة اتباع الشياطين فأنهم لا يرضون من الإنسان الا الكفر الذي يغلق على من يستحوذون عليه ابواب التوبة ويعمي بصره وبصيرته عن سماع الآيات وتدبر البراهين الا ان يشاء الله.

أي يمكن القول بان كفرهم بالإسلام انما هو من الأفعال التوليدية وهي كل فعل تقدم او حدث معه سبب لولاه لم يوجد.

العشرون : إتفاق القرآن والتوراة في مضامين التوحيد والنبوة وتثبيت الشرائع السماوية وصدق النبوة والانبياء.

الحادية والعشرون : الآية هدم متجدد لبناء السحر البالي إذ كان شائعاً في تلك الايام ومؤثراً في النفوس والمجتمعات، ولقد تصدى له موسى عليه السلام من قبل وانتصر عليه  بآية من عند الله تعالى، فلابد ان يتحقق النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليه وعلى أهله، لا للأولوية فحسب، بل لأن الاسلام هو الديانة الباقية في الارض فلابد أن تجتث أسباب الشقاق وعناصر الخبث التي قد تزلزل ايمان فريق من المستضعفين.

الثانية والعشرون : محاربة السحر وصنوف الخداع والتظليل وظيفة الموحدين في كل زمان.

الثالثة والعشرون : الآية في مفهومها دعوة لتصدي المسلمين لأهل التحريف وفضحهم للأسباب التي تحول دون قبولهم الإسلام واستماعهم الآيات كعناوين الضلالة والفسوق ومنها السحر.

الرابعة والعشرون : تدل الآية على قوة الإسلام وعز المسلمين لما فيها من مهاجمة للباطل العرضي دون خوف.

الخامسة والعشرون :  عالمية الرسالة المحمدية وان في القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]([124])، بما يتناوله من تفاصيل في إعتقاد الملل والمذاهب الأخرى والذي يدل في مفهومه على رجاء صلاحهم الناس كافة.

السادسة والعشرون : حاجة المليين وغيرهم الى القرآن والى بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإخبار بأن اللجوء إلى الشياطين لا يؤدي إلى قضاء حوائج دنيوية بل فيه أذى والشر والعدوان.

السابعة والعشرون : لم يختلف اثنان بأن سليمان كان ملكاً الا ان الملك لا ينفي النبوة، أي ان اجتماعهما ليس من الممتنع، وورد في العهد القديم ما يدل بالدلالة التضمنية على انه كان نبياً سواءً بأخباره أو سيرته مثل(ومنح الرب سليمان الحكمة كما وعده)([125])، وفي باب الرب يتجلى لسليمان ثانية: (تجلى الرب له ثانية كما تجلى له في جبعون وقال له: سمعت صلاتك وتضرعك اليّ…)([126]).

وقال القاضي ان ملك سليمان هو النبوة او يدخل فيه النبوة.

ولكن التبادر والعرف يفيدان ان الملك والحكم غير النبوة واجتمعا لسليمان وإختار الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذيه اختار التواضع كما في حديث الإسراء (انه هبط مع جبريل ملك لم يطا الارض قط معه مفاتيح خزائن الارض قال ان شئت كنت نبياً عبداً وان شئت ملكاً نبياً فأشار اليه جبرئيل ان تواضع يا محمد فقال بل أكون عبداً نبياً)([127]).

الثامنة والعشرون : ذم السحر والنهي ضمناً عن تعلمه لاسيما وانه كثر وشاع استعماله، فكان تركه أمراً وجودياً كنوع امتحان واختبار وهو طريق ودفع لحاجز يحول دون رؤية الآيات والتدبر بها وازالة للغشاوة التي على العيون.

وفي الخبر أراد بعضهم سحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجعله يرى انه فعل ما لم يفعله، او انه لم يفعل ما فعله، وهو حجة وبيان للحاجة الى نبذ السحر ومحاربته.

وقال الله سبحانه وتعالى حكاية عن الكفار [إنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا]([128])، والكفاركاذبون في كلامهم، حاشا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من كل صفة نقص تنفر عن قبول قوله فأنه حجة الله على خليقته وصفوته على بريته.

ووردت الأخبار عن طرق المسلمين المتعددة تبين بطلان السحر، وقد ورد عن ابي عبد الله عليه السلام: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سحره لبيد بن اعصم اليهودي، قيل: وما كاد وما عسى من سحره؟ قال: بل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه يرى يجامع وليس يجامع، وكان يريد الثياب فلا يبصرحتى يلمسه بيده، والسحر حق ولم يسلط السحر الا على العين والفرج… الحديث([129]).

لقد أرادوا ان الذي يأتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السحر أو بتأثير السحر لاستئناسهم وتعلقهم بالسحر واتباعهم للشياطين فيه، أما حادثة السحر تلك فهي قضية في واقعة لم يصدر معها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل او تقرير، ولكنها كانت عبرة وموعظة وجزءً من الأذى الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من عمومات قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)([130]) فلا تعارض بين آية البحث وهذا الخبر لاختلاف الحكم والموضوع.

التاسعة والعشرون :   تدل الآية على اعجاز القرآن بالتحدي في اثبات نبوة سليمان والرد على من قال أنه ملك ساحر.

الثلاثون : ذكر في اسباب نسبتهم السحر الى سليمان (انهم ارادوا تفخيم شأنه وتعظيم أمره وترغيب القوم في قبول ذلك منهم)([131]).

والتباين موضوعي بين النبوة وبين السحر، وزمان موسى عليه السلام وفضحه للسحر وتحديه للسحرة ليس بعيداً عنهم فالنبوة في صراع مع السحر، ولعل اضافة السحر الى بعض الأنبياء من حرب السحر والسحرة على النبوة، وهو نوع سحر ايضاً للبس على الناس ومحاولة خلط البياض مع السواد واضلال الناس، أي ان القصة لم تنحصر بمحاربة النبوة بل برواج السحر ونشره مما يعني ان وظيفة القرآن كانت مركبة ومتعددة في ميادين الإصلاح.

ويطلق لفظ الشيطان على الإنسان الماكر الذي يفعل الخبائث، قال تعالى[شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ]([132])، وهذا الوحي والوسوسة بالأباطيل والزخرف على أقسام:

الأول : إيحاء شياطين الجن بعضهم لبعض.

الثاني : إيحاء شياطين الجن لشاطين الإنس والوسوسة بهم بالقبيح من القول والفعل.

الثالث : المناجاة والهمس بين شياطين الإنس قال تعالى في ذم المنافقين[وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ]([133])، ونزلت الآية أعلاه في المنافقين إذ(كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين، وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلاّ وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو مصيبة أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أصحابهم وأقرباؤهم. فلمّا طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمرهم ألاّ يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك، وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية)([134]).

وعن الحسن البصري في قوله تعالى[وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ] قَالَ: ثُلُثُ الشِّعْرِ، وَثُلُثُ السِّحْرِ، وَثُلُثُ الْكِهَانَةِ”)([135])، ولا دليل عليه بالذات وكيفية التقسيم، ولا مدخلية للشعر في المقام إلا أن يكون من فروع صناعة السحر، كما لو كان هناك توثيق لأبيات شعرية خاصة تتلوها الشياطين على فرض وجودها فلا ترقى لأن تكون ثلثاً معادلاً للسحر والكهانة.

بحث بلاغي

قالوا بان (على ) هنا بمعنى (في) وبهذا المعنى إستشهد الأشعري على قوله تعالى [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى]([136]) ومعناه احدث الله في العرش فعلاً سماء واستواء([137]).

وصحيح ان (على) لها عدة معان منها الظرفية وتكون موافقة للباء وتأتي بمعنى عند الا ان الغالب في استعمالها هو الإستعلاء على مجرورها، وهو ظاهر في المقام لبيان الشرور العارضة للقوة الوهمية والنفس المنقادة لوساوس الشيطان والمستجيبة للحاجات الشهوية والغضبية.

ومن الأسرار في إستعمال الحرف (على) في المقام أمور:

الأول : إرادة التعدي من الشياطين.

الثاني : الغرور والغي الذي عليه الشياطين.

الثالث : يتضمن اللفظ (على) بالذات تحذير الناس من إتباع الشياطين لأنه ظاهر بالظلم والتجاوز على الأنبياء الذين لم يأتوا إلا للإصلاح والنفع العام.

الرابع : تأكيد كذب وإفتراء الشياطين على النبي الملك سليمان ومحاربتهم له وتقوّلهم عليه بما ليس بحق أو صدق.

قوله تعالى[عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ]

من إعجاز القرآن البيان والوضوح وما فيه منع الإجمال لأنه كتاب الله الباقي إلى يوم القيامة، فإبتدأت الآية بذكر إتباع فريق من الناس للشياطين وبينت من غير فاصلة أن موضوع الإتباع هو ما تتلوه وتتقوّله الشياطين على ملك سليمان ليكون الإثم مركباً من وجوه:

الأول : إتباع الشياطين، وهو قبيح بالذات والأثر.

الثاني : موضوع الإتباع وهو التجاوز على ملك بني من الأنبياء أكرمه الله عز وجل بالملك والسلطان مع النبوة ليكون هذا الملك وسيلة لتثبيت معالم التوحيد في الأرض.

الثالث : الإنقياد لما هو تعد وحرب على النبوة.

لقد حسدت الشياطين سليمان على ما آتاه الله عز وجل من الشأن والملك، وإنقياد الجن والإنس له، وتسخير الريح والطير له، وتوجهه بالدعاء إلى الله بإنفراده بملك لا يناله أحد بعده، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إن عفريتًا من الجن تفلت البارحة ليقطع عليّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان “رب هب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي)([138])“فرددته خاسئا”)([139]).

وتدل آية البحث وما فيها من الإخبار عن تلاوة الشياطين على ملك سليمان على عدم تسليط الشياطين على ملك سليمان، وعدم التسليط هذا من الإطلاق والشأن الرفيع لملك سليمان.

وأخرج عبد بن حميد عن وهب بن منبه أنه ذكر من ملك سليمان، وتعظيم ملكه، أنه كان في رباطه اثنا عشر ألف حصان، وكان يذبح على غدائه كل يوم سبعين ثوراً، سوى الكباش، والطير، والصيد فقيل لوهب: أكان يسع هذا ماله؟! قال: كان إذا ملك الملك على بني إسرائيل اشترط عليهم أنهم رقيقه، وإن أموالهم له؛ ما شاء أخذ منها، وما شاء ترك)([140]).

 ولا دليل على ملوك بني إسرائيل عليهم بالرقّية، وهو خلاف قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]([141])، للتضاد بين التفضيل والرقية لغير الله عز وجل، وقد نجّاهم الله من إستضعاف فرعون لهم بآية عبورهم البحر.

وأخرج ابن عساكر عن الزهري والشعبي قالا: لما هبط آدم من الجنة وانتشر ولده أرخ بنوه من هبوط آدم فكان ذلك التاريخ حتى بعث الله نوحاً ، فأرّخوا ببعث نوح حتى كان العرق، فكان التاريخ من الطوفان إلى نار إبراهيم، فأرّخ بنو اسحق من نار إبراهيم إلى بعث يوسف، ومن بعث يوسف إلى مبعث موسى، ومن مبعث موسى إلى ملك سليمان، ومن ملك سليمان إلى ملك عيسى، ومن مبعث عيسى إلى مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،

وأرخ بنو إسمعيل من نار إبراهيم إلى بناء البيت حين بناه إبراهيم وإسمعيل فكان التأريخ من بناء البيت حتى تفرقت معد، فكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا مخرجهم حتى مات كعب بن لؤي فأرّخوا من موته إلى الفيل، فكان التأريخ من الفيل حتى أرخ عمر بن الخطاب الهجرة. وذلك سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة)([142]).

عن وهب بن منبه قال: أن داود عليه السلام أراد أن يعلم عدد بني إسرائيل كم هم، فبعث نقباء وعرفاء وأمرهم أن يرفعوا إليه ما بلغ عددهم، فعتب الله عليه لذلك، وقال : قد علمت أني وعدت إبراهيم أن أبارك فيه وفي ذريته حتى أجعلكم كعدد الذر، وأجعلهم لا يحصى عددهم ، وأردت أن تعلم عددهم، إنه لا يحصى عددهم ، فاختاروا إثنين أن أبتليكم بالجوع ثلاث سنين، أو أسلط عليكم العدو ثلاثة أشهر، أو الموت ثلاثة أيام ، فأشار بذلك داود عليه السلام على بني إسرائيل،

فقالوا ما لنا بالجوع ثلاث سنين صبر، ولا بالعدوّ ثلاثة أشهر صبر، فليس لهم تقية ، فإن كان لا بد، فالموت بيده لا بيده غيره، فمات منهم في ساعة ألوف كثيرة ما يدري عددهم، فلما رأى ذلك داود عليه السلام شق عليه ما بلغه من كثرة الموت فسأل الله ودعا، فقال: يا رب، أنا آكل الحامض وبنو إسرائيل تدرس؟ أنا طلبت ذلك، وأمرت به بني إسرائيل، فما كان من شيء فبي، وارفع عن بني إسرائيل فاستجاب له، ورفع عنهم الموت،

فرأى داود عليه السلام الملائكة عليهم السلام سالين سيوفهم يغمدونها، يرفعون في سلم من ذهب من الصخرة، فقال داود: هذا مكان ينبغي أن يبنى فيه لله مسجد أو تكرمة، وأراد أن يأخذ في بنيانه، فأوحى الله إليه: هذا بيت المقدس، وإنك بسطت يدك في الدماء فلست ببانيه، ولكن ابن لك بعدك اسمه سليمان، أسلمه من الدماء

فلما ملك سليمان عليه الصلاة والسلام بناه وشرفه، فلما أراد سليمان عليه السلام أن يبنيه قال للشياطين: إن الله عز وجل أمرني أن أبني بيتاً له لا يقطع فيه حجر بحديدة. فقالت الشياطين: لا يقدر على هذا إلا شيطان في البحر له مشربة يردها، فانطلقوا إلى مشربته فأخرجوا ماءها، وجعلوا مكانه خمراً فجاء يشرب، فوجد ريحاً، فقال شيئاً ولم يشرب، فلما اشتد ظمؤه جاء فشرب فأخذ، فبينما هم في الطريق إذا هم برجل يبيع الثوم بالبصل فضحك، ثم مر بامرأة تكهن لقوم فضحك، فلما انتهى إلى سليمان أخبر بضحكه، فسأله؟

فقال: مررت برجل يبيع الدواء بالداء، ومررت بامرأة تكهن وتحتها كنز لا تعلم به. فذكر له شأن البناء، فأمر أن يؤتى بقدر من نحاس لا تقلها البقر. فجعلوها على فروخ النسر، ففعلوا ذلك، فأقبل إليه، فلم يصل إلى فروخه، فعلا في جوّ السماء ثم تدلى فأقبل بعود في منقاره فوضعه على القدر فانفلقت ، فعمدوا إلى ذلك العود فأخذوه فعملوا به الحجارة)([143]).

ولم يرفع وهب بن منبه الحديث وكان يكثر من الإسرائيليات وبخصوص العود الذي جاء به النسر يمكن التحقيق فيه بلحاظ الإكتشافات العلمية الجديدة، ووصول الإنسان إلى أعماق البحار وأعالي الجبال وصعوده في السماء، نعم أًبح في هذا الزمان قطع الحجر من دون إستعمال للحديد أمر ممكن وسهل.

قوله تعالى [وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا]

في الآية وجوه:

الأول : لم تنف الآية السحر واثره عن سليمان وملكه فحسب بل نفت الكفر مطلقاً عنه عليه السلام، مما يدل بالدلالة التضمنية ان السحر فرع الكفر ومن البديهيات ان كل نبي منزه عنه، والبديهيات هي القضايا التي يحكم بها العقل لذاتها بمجرد تصور طرفيها من غير التوقف على مبدأ غيرها.

الثاني : تعتبر الاية تعاهداً وحفظاً لملك ونبوة سليمان عليه السلام وتوثيقها، واعانة على العمل بما فيها بلحاظ إنها نوع طريق لإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثالث : عند موت سليمان عليه السلام واطلاع الناس على كتبه، ادعى اهل الحسد انه مما تتلوه الشياطين سواء كان المراد بالتلاوة الأخبار والقراءة او الكذب، وان سليمان استعان بهم، وقولهم هذا تعد على الوحي ومحاولة لإخفاء الآيات وزلزلة للإيمان والوثوق بالشرائع والتنزيل.

وبذا يتجلى لنا جهاد النبي محمد  صلى الله عليه وآله وسلم، وانه كان يدعو الى التوحيد ويهدم بناء الضلالة الذي يستلزم انطباقاً وجرياً اشهار السيف عند الضرورة بوجه اعداء الملل السماوية والدين.

لقد حاولوا عدم الربط بين الملك والنبوة، وايجاد اسباب الإنفكاك القهري بينهما، في تصد لإنتشار احكام الإسلام ومجيئه بالإمامة وهي الرياسة العامة في امور الدين والدنيا، كأنهم يقولون ان الملك العام يتأتى من السحر واعانة الشياطين ومجيئهم بامور خارقة لقدرة البشر، مما يجعل الناس ينقادون لمن تتلو عليه الشياطين الأخبار ويعلمونه اسباب السحر الذي يتقوم به ملكه، فجاء القرآن لينفي هذه الشبهة ويثبت الوحي ويؤكد للمسلمين ان الإسلام باق لأنه دين سماوي وضد السحر.

ففي الآية سكينة للمسلمين ودفع لوساوس الشياطين وتقوية لنفوس المؤمنين في مواجهة السحر والسحرة.

الرابع : تنزيه الإنبياء وتوكيد عصمتهم من الزلل والخطأ ونفي الشبهات عنهم.

الخامس : تبين الآية وما فيها من فضح التشويه والتحريف الحاجة النوعية لمعجزة القرآن، اذ ان معجزات الأنبياء حسية في الغالب ومعجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقلية لقطع الطريق امام اهل الجحود والضلالة، بالإضافة الى كثرة معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم.

وليس من حصر لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الذات والأثر ويمكن تقسيمها بحسب أفراد الزمان الطولية إلى أقسام :

الأول : المعجزات قبل ميلاده وهي على شعبتين:

الأولى : البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثانية : الوقائع التي تدل على دنو زمانه.

الثاني : معجزات ما بعد الميلاد المبارك للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتنقسم إلى شعبتين:

الأولى : ما يتعلق بشخصه الكريم.

الثانية : الأحداث والمقدمات لنبوته.

الثالث : بعد بعثته وتنقسم إلى أقسام متعددة , بحسب الموضوع , منها معجزات ودلائل التنزيل.

الرابع : بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم.

السادس : منطوق الآية ذم للشياطين وتقبيح لأفعالهم، اما مفهومها الموافق فهو التحذير من اتباعهم والتأثر بافعالهم، ومفهومها المخالف هو محاربة الشياطين ونبذ السحر واتباع الأنبياء والتصديق بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئاً من شأنه، أعطى الجرادة وهي امرأته خاتمه، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذلك اليوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي. فأخذه فلبسه، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإِنس، فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي. فقالت: كذبت لست سليمان. فعرف أنه بلاء ابتلي به.

 فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتباً فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب، فبرىء الناس من سليمان وأكفروه حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه{وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا})([144]).

قوله تعالى [ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ]

بيان تفصيلي لكفر الشياطين وما يقدمون عليه من السيئات والمنكر، وفيه تعليم وارشاد للناس، ولماذا هذا البيان لاسيما وان المليين جميعاً يعلمون قبح الشيطان وفعله .

 الجواب: ان الشيطان نفذ الى الناس بإتيان وفعل ما تستهويه نفوسهم وكان في موضوعه جذب واشغال لقلوبهم مما يعني الإبتعاد عن الإيمان وكيفياته.

وفي الآية ذكر للفاعل والقابل أي وجود شطر من الناس منقادين اليهم من شياطين الإنس وبلحاظ أن السحر من أفراد زخرف القول ويصدق عليهم قوله تعالى [شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا  ]([145])، وتعليم السحر مذموم بقيد تعلم ما فيه الضرر والأذى، وكونه مصداقاً للكفر.

وقال عامة المعتزلة وبعض أصحاب الشافعي بأن السحر لا حقيقة له وانه نوع خفة وتخييل وايهام كما في قوله تعالى [يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى]([146]).

ولكن الآية لا تنفي وجود وجوه أخرى للسحر اذ ان إثبات شيء لشيء لا ينفي ما عداه، نعم القول بمثل تلك الوجوه وان للسحر حقيقة وثبوت يحتاج الى دليل أو برهان أو شاهد، وقيل لو لم يكن للسحر حقيقة لم يمكن تعليمه ولا أخبر تعالى انهم يعلمونه الناس، ولكن لا ملازمة بين التعليم والحقيقة اذ ان مسائل التمويه قد تحتاج الى تعليم، كما ان التعليم له مراتب متفاوتة يصدق على ادناها والعلم عند الله.

السحر وماهيته

أختلف في السحر وماهيته ومراتبه واثره اختلافاً كثيراً مع انه من الأمور الخارجية الوجدانية على وجوه:

الأول : شيء يأخذ بالبصر ثم يزول ويضمحل.

الثاني : تخيل ما ليس له حقيقة كحقيقة.

الثالث : تمويه يتعذر معرفته على من لم يطلع عليه اجمالاً.

الرابع : لفظ مشترك بين معنيين:

أحدهما: ما دق ولطف وتعجبت منه العقول والأذهان.

الثاني: ما يذم فاعله مما يتخيل على غير حقيقته ويخفى سببه.

الخامس : إظهار أمر خارق للعادة من نفس شريرة خبيثة بواسطة التعلم والتلمذة لأفعال مخصوصة.

السادس : إراءة ما لا حقيقة له بمنزلة الشعبذة التي سببها سرعة الحركة او حيلة خفية.

والظاهر ان السحر من الكلي المشكك الذي يدل على افراد ومسميات متعددة ولكنها بمعنى واحد، فيختلف بلحاظ التعليم وخفة حركة اليد، او الآلة، او الأثر في الخارج، او تأثر القابل، والحق انه ليس للسحر حقيقة تكوينية وماهية ذات مبرز خارجي مطبوع مع عدم نفي موضوعه وأثره في الجملة، ونسبته الى الواقع نسبة الخيال في الغالب.

ولعل من بين اسباب هذا الإختلاف عدم وجود أصل لكثير من الصور والكيفيات التي تتعلق به، بالإضافة الى ابتنائه على الخداع، فان اسمه والأخبار والأقوال والنعوت التي تذكر له قد لا يكون لها وجود خارجي، فيكون الخداع فيه مركباً، في المسمى وفي الإسم، وفي الوصف الى جانب الأثر والفعل.

ولكن هذا لا يمنع من البحث فيه بحثاً جدياً وتتبع وجوهه ودرجاته وفنونه تتبعاً دقيقاً لإجتناب اضراره بل واسبابه.

وقال المرتضى: انه (تخيل ما ليس له حقيقة كالحقيقة، يتعذر على من لا يعلم وجه الجملة فيه)([147])، وقيل هو اظهار أمر خارق للعادة من نفس شريرة خبيثة بمباشرة أعمال مخصوصة يجري فيها التعلم.

وقيل هو مجرد ارادة ما لا حقيقة له بمنزلة الشعبذة التي سببها خفة حركات اليد او اخفاء وجه الحيلة فيه.

ولعل السحر أعم من هذه التعاريف كتعدد وجوهه وانطباقه على مصاديق مختلفة ومتفاوتة موضوعاً ومحمولاً، خصوصاً وانه مر بمراحل متعددة وشهد في بعض الأزمنة رواجاً وعناية من بعض الملوك لأغراض تثبيت الحكم او للإبتلاء العام او لأسباب اخرى.

والسحر لغة كل ما لطف مأخذه ودق، وعن الازهري هو صرف الشيء عن وجهه، وفي الاصطلاح الفقهي هو قول او كتابة او رقية او عقد او نحوها مما يؤثر في بدن المسحور او عقله او افعاله من غير تأثير مادي مباشر، وهو محرّم وان لم يؤثر في المسحور.

ومن مسائل رسالتنا العملية (الحجة):

  • يحرم السحر عملاً وتعليماً وتعلماً وتكسباً وسواء كان ذلك بكتابة او تكلم او نفث او عقد او دخنة او تصوير، سواء كان تأثيره في المسحور،  عقلياً او بدنياً او نفسياً او مالياً، وحباً او بغضاً، ويلحق به تسخير الجن، والحق به في بعض الرسائل العملية استخدام الملائكة واحضار الأرواح وهو أمر يحتاج ثبوته الى دليل وان كثر ادعاؤه.
  • يستثنى من حرمة السحر ما يؤتى به لحل السحر وابطاله وما يكون للعلاج ودفع الإفتتان.
  • تحرم الشعبذة عملاً وتعليماً وتعلماً وكسباً وهي ملحقة بالسحر وعبارة عن خطفة وســرعة ومخــاريق واراءة غير الواقع واقعاً هذا اذا لم يكن فيها غــرض شرعي صحيح، ولا تشمل الشعبذة ما تسببه الآلات الكهربائية من فعل فيه سرعة خارقة او نحوها الا مع قصدها)([148]).

وعن الإمام الباقر عليه السلام: “ان السحر لم يسطو على شيء الا على العين”. وقال بعضهم: “ان الله سبحانه جمع الشرور في سورة الفلق وختمها بالحسد ليعلم انه أخس الطبائع”([149])، ولكن لا دليل على الكبرى اعلاه وهي جمع الشرور في الفلق فضلاً عن الصغرى.

والسحر قديم في الأرض وتفشى في بعض البلدان كما في مصر أيام فرعون، وهو حصيلة فعل الشياطين واستيلائهم على النفوس الضعيفة واستغلالهم في فترات غياب النبوة والشرائع السماوية وابتعاد الناس عنها وعن مناطق تأثيرها وسلطانها، فتنفذ الشياطين بوسائل الخداع والمكر والزيغ الى المجتمعات والأفراد يدعونهم الى النار ويسخرون الأرواح الشريرة ليضروا الناس بالخيال والوهم في دنياهم واخرتهم.

وأصبح السحر علماً له قواعده وفنونه وحيله التي تختلف من بلد الى بلد ومن طائفة الى أخرى ويتناسب في مراتبه وتطوره مع عناية الناس والملوك به وضعف الإيمان في نفوسهم، فتراه احياناً ينتشر ويكون صناعة ذات قواعد وأحكام .

 ويذكر ابن بطوطة في رحلته منه وجوهاً عجيبة رآها في بلاد الهند وأن رجلاً من الجولية وبأمر الملك صعد الى فوق رؤوسهم في الهواء وبقي متربعاً برهة الى ان ضرب استاذه بنعل على الأرض فصعدت واخذت تضرب في عنقه وهو ينزل قليلاً قليلاً([150]).

وهذا النوع من السحر لم يثبت ولو كان لبان، ولا يختلف في الإسلوب فقط مع السحر الذي ورد ذكره في القرآن بقوله تعالى [سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ]([151]) ، بل يختلف معه في الماهية الا على القول بأنه نوع رياضة نفسية وتمرين طويلة مدته، الا ان الخلاف في الكبرى وهو اثبات صدق ونوع مثل هذا الوجه من السحر وحدوثه.

ولماذا لا تبرز الآن مع توفر وسائل النقل السمعية والمرئية ووصولها الى مختلف انحاء العالم لاسيما وان زمان الرحلة ليس ببعيد وان ابن بطوطة أملى اخبار رحلاته كما قيل على الأديب الذي دونها عام 1356م، 757 للهجرة.

وقيل السحر علم كسائر العلوم، ولكن اجراء دراسة مقارنة وعرض لتعريفه وتعريف العلم ينفي عنه صفة العلمية، فالعلم اعتقاد يقع بحجة واثبات للمعلوم على ما هو به بما يقتضي سكون النفس إليه بعد ظهوره وانكشاف صورته وحصولها في العقل.

لقد اضيفت للسحر أمور لا صلة لها به مثل الرياضيات الخاصة بتنقية النفس ومخالفتها للهوى او بعض التفاعلات في الكيمياء، والتصرف ببعض الأدعية، وما له اسباب علمية دقيقة واستعمال بعض الأدوية.

ولغياب الأسباب والعلل عن عامة الناس ولعدم بلوغ تلك الأسباب والتوصلات الا من قبل افراد قليلين ولشغف الإنسان وشوقه الفطري الى المغيبات كطريق للاطلاع على أسرار الخليقة تراه يميل الى التصديق والخوف من تلك الأمور وعدها من ضروب المؤثرات الخارقة للعادة، فيفرح الشيطان حينئذ باغوائه ويسعى لجذبه وضمه الى جنوده من السحرة واتباعهم.

وهناك مراتب للسحر أعلى وادنى، اما الأدنى على نحو المجاز فهو البديع من الكلام الذي يعد ضرباً من التخيل ويأخذ بالإسماع (حكى المدائني بإسناده عن عبد الرحمن بن حوشب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمرو بن الأهتم التيمي: أخبرني عن الزبرقان بن بدر، فقال: مطاعٌ في أدنيه، شديد العارضة، مانعٌ لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: يا رسول الله، إنه ليعلم مني أكثر من هذا، ولكنه حسدني، فقال عمرو: أما والله يا رسول الله إنه لزمر المروءة، ضيق العطن، لئيم الخال، أحمق الوالد، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى، ولقد رضيت فقلت أحسن ما علمت، وسخطت فقلت أسوأ ما علمت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكماً)([152])، ويمكن القول ان اطلاق السحر على البيان مجاز بلحاظ الحكم والموضوع.

نعته رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسحر لإمتزاج الخداع بالبلاغة والقدرة على التركيب، والتلاعب بالألفاظ والأغراض وتباينها على موضوع واحد، هو شخص واحد قال فيه مدحاً وحسناً مرة وقال ذماً وجرحاً في مرة أخرى وفي مجلس واحد من غير ان يجانب الواقع، لم يوبخه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يوجه له اللوم ونعت كلامه بالسحر مجازاً.

وقيل خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة اذ شبههما بالسحر ومال إليه القرطبي وقال: والدليل عليه قوله عليه السلام: (فلعل بعضكم ان يكون الحن بحجته من بعض)([153]) وقوله: (ان ابغضكم الي الثرثارون المتفيهقون)([154])، وبغض النظر عن سند ودلالة الحديث الثاني اعلاه فان موضوع هذين الحديثين مختلف الا ان يحمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم على المعنى الأعم من مناسبة المقام.

اما الأعلى من السحر فهو احداث تبدل وتغيير في المسحور، وفي هذا الباب ذكرت قصص خيالية غريبة يصعب إنكارها في الجملة خاصة حال التعدد والكثرة، وحينما يأتيك اكثر من واحد ويقول: أنا رأيت كذا، ولكن الكبرى لم تتم وليس هناك ما يدل على صحة المبنى.

نعم هناك سحر له تأثير بأن يغري الشخص لفعل ما فيه أذى له او لغيره فيقدم عليه وهو لا يعلم عواقبه وما فيه من اضرار، وهذا دأب ابليس وجنوده من الجن والإنس ولكنه فعل ذو اسباب واقعية، كما في حسد ابليس لآدم وتسببه في خروجه من الجنة، ففي خطبته في يوم الغدير قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إن إبليس أخرج آدم من الجنة بالحسد، فلا تحسدوه فتحبط أعمالكم وتزل أقدامكم([155]).

ومن السحر ولعله الغالب ضرب من التخيلات وخداع البصر، ومنها ادعاء الإستعانة بالجن وتسخيره ونحوه مما يشيع أمره بين الحين والآخر هنا او هناك.

وانكر جماعة من الفلاسفة الجن ولكنها حقيقة قرآنية، انما النزاع في الصغرى، هل للجن قدرة على التدخل في شؤون الإنسان وقابلية على التأثير فيه، وما هو نوع واسلوب ذلك التدخل؟ هل يكون تخيلاً وايهاماً؟ أم تلبساً وانفعالاً؟ وهل يمكن للإنسان بعلوم اكتسابية معينة توجيه الجن بقسميه الخير منه والشرير، كما ورد في التنزيل [وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ]([156])، أو بالتفصيل وهو تسخير المؤمن للجن الذي مثله في سنخ الايمان وتسخير الكافر للجن الذي مثله او العكس.

الأقرب هو انحصار فعلهم بالتخيل والوهم فحينما تبتعد النفس الناطقة العاملة عن مسالك العبودية تطرأ عليها الشرور من شياطين الجن ووساوسها، ومن القوة الوهمية في نفس الإنسان ذاته ايضاً.

مواجهة الأنبياء للسحر

لقد دأب الأنبياء على محاربة السحر تلك الظاهرة الشيطانية الخبيثة في الأرض وما تزرعه في النفس الإنسانية من الشك والوهم، يكفي في قبح السحر ان يكون الإنقياد للسحره واتباع السحرة حاجزاً ومانعاً من الإلتحاق بصفوف المؤمنين.

انه تدخل شيطاني وتصد خادع للرسالات السماوية ولكنه مع وهنه له اثر كبير على النفوس والشعوب، مما يعني ان الأنبياء لاقوا في محاربته العناء والجهد لما فيه من الإبتلاء والفتنة.

وقصة موسى مع السحرة آية ايمانية تأريخية، ومدرسة ايمانية مستقلة وضعت الأسس والقواعد الكلية الثابتة للإنقضاض على السحر والسعي الجاد في ابطاله، فلابد لمن أراد او بدى له ان يسلك سبل الهدى وطريقة اهل الحق واليقين ان يطهر نفسه ويبعدها عن الأباطيل ويعرض عن المعطلين واولياء الشياطين الذين ختم الله على قلوبهم وسمعهم، فتراهم يفرحون بما عندهم من الأقاويل المضلة والبدع الخاوية التي تكون كالسحب المظلمة وتحول دون رؤية نور شمس الحقيقة وضياء معجزات النبوة المبارك الذي يجلو البصائر وينقي القلوب ويزيل ما علق عليها من الرين.

وتبين تجليات الهداية في هذه الآيات السر الإلهي في نزول القرآن منجماً حسب الحاجة والمصلحة والزمان، في كل آية درر وكنوز من الحقائق والسنن والآداب، يمكن اعتبارها مرآة للعلوم الربانية وهبة السماء في الأرض لينجو الإنسان من ظلمات الوهم ويتنزه عن واقع الشر والطبائع التي تلقيه في مراتب التردي ومنازل النقصان.

وقيل لا نهاية لمراتب نقص العبد ومنازل عجزه ووهنه، لذا فهو محتاج للنبوة تجذبه وتعينه للخلاص من ظلمات الشرك والكفر والجهل، وهو نوع ترقية وكمال لأشرف المخلوقات بنيل المعارف الكلية وعدم جعل المحسوسات وحدها ملاك المعرفة، قال تعالى[عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]([157]).

وتجلت في أيام موسى عليه السلام واقعة (النبوة والسحر) إذ وصف الله عز وجل ما جاء به السحرة بأنه سحر عظيم , وكأن الغلبة في بداية اللقاء كانت للسحرة حينما ألقوا عصيهم، قال تعالى[يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى]([158])، وتفضل الله عز وجل وأمره بإلقاء عصاه بقوله تعالى[وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا]([159])، وأُبهمت في الأمر ولم يذكرها الله بلفظ العصا لبيان الوظائف المتعددة للعصا[وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى]([160])، ولمنع الوجل والخوف الذي دبّ إلى نفس موسى على فعله وقوله، فلا يتردد في إلقاء العصا ويظن أنها لا تنفع في مواجهة السحر العظيم الذي جاء به السحرة، وليكون هذا الإبهام آية في تأديب الله للأنبياء ونصرته لهم، ولتتجلى الواقعة عن هزيمة فرعون ودخول السحرة الإسلام.

لقد إبتلعت عصا موسى عليه السلام عصا السحرة حقيقة بذات المنظور إليه، وليس كما فعل السحرة بقلب النظر وخداع العين.

وتدل الآية أعلاه على قبول توبة الساحر وعن أبي موسى الأشعري قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ان الله يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار وبالنهار ليتوب مسئ الليل حيت تطلع الشمس من مغربها)([161]).

لقد كانت عصا موسى عليه السلام آية حسية عظيمة فضحت السحر، ليأتي القرآن آية عقلية مصاحبة للإنسان إلى يوم القيامة تزجر عن السحر وتبين بطلانه وتدعو الناس إلى محاربته ومنع الجهالة والغرر فيه بالذات والمقدمات ومنها إتباع الشياطين.

لقد أبطل القرآن السحر بذمه وفضح السحرة، وبالآيات الباهرات التي تذهل العقول، ومع هذا فقد بيّن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحد بين السحر وغيره.

وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم رقية الحية فقال: اعرضها علي فعرضها عليه بسم الله شجنية قرنية ملحة بحر قفطا فقال: هذه مواثيق أخذها سليمان على الهوام ولا أرى بها بأساً)([162]).

بحث كلامي

      لقد أراد الأنبياء لأخيهم الإنسان ان يكون من سكان الجنان بعد ان ينزه نفسه من رذائل الإخلاق وقيود الشهوة والغضب ويطرد آثار الشيطان بنبذ السحر والأكاذيب والأضرار وازالة الشبهات ودفع الوسواس بسلاح الهداية وبنور البصيرة.

ومما تحصل في البحوث العقلية ان لكل ممكن كمالاً ونقصاً يتغايران في الجهة او الجهات وقد يتناوبان على جهة او حيثية  واحدة او جهات معينة، ولأن الإنسان اشرف الممكنات وله قوة ذاتية على الإرتقاء في منازل الكمال وسلم الرفعة ولأن رحمة الله تعالى لا نهاية لها، وفضله على الإنسان دائم وقدرته مطلقة، فان النبوة طريق سالك وعلاج ناجح لشفاء النفوس من درن السحر وشره وعلائق منازل عالم الجسمانيات المتدنية.

إنه اللطف الإلهي تمثل بموسى ثم جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليفطم الأرض من سلطان السحر ويبقيه منزوياً اعزلاً فاقداً للتأثير تتجافى عنه الأمم وتنفر منه النفوس بعد ان اعتادت على لغة الخطاب الإلهي ومقامات الوحي وبراهين النبوة ومعجزات الرسل ويقاوم سلطان العقل اضراره المحتملة.

والأنبياء وان كانوا من البشر الا انه يمكن النظر لهم بأنهم موجودات روحانية منزهة ووسائط بين الله والبشر، بهم تتم حجته وتسري مشيئته وتبلغ احكامه، وما كان ملاك التأثير فيه لعالم الأمر كيف يرضى الأنبياء بسطوة الأجسام فيه وهي من عالم الخلق وتتعلق بها الآفات والفتور والقصور وما يلازمها من الحسرة وألم الحرمان والإبتعاد عن سبل الرحمة، ليأتي لطف الله تعالى متمثلاً بجهاد الأنبياء وانذاراتهم ونزول الكتب السماوية لأرجاع الناس الى واجب الوجود ومفيض كل موجود ومبدع كل شيء فكانت هذه الآية وما شابهها جهاداً , وتعرية لآلة السحر.

 ولم يكن الجهاد موجهاً للسحر على نحو الحصر كموضوع لأنه يكون احياناً فرع عبادة الكواكب، والقول بأنها المدبرة للوقائع والأحداث في العالم السفلي وان الخير والشر يأتيان منها، فيشمل محاولة إنقياد النفوس والخشوع اليها والإعراض عن المبادئ الحقة، فكانت محاربة السحر واسبابه وموضوعه من أولويات الجهاد للدعوة إلى التوحيد.

بحث اعجازي

وهذه الآية من إعجاز القرآن لما فيها من التحدي وهي وحدها حرب على الكفار في موضوع السحر كباب لولوج المنكرات والإعراض عن الصالحات، فلو كان الموقف من السحر راجعاً الى تدبير البشر لترك وحاله واعتبر من المباحات او المكروهات للانشغال بما هو اكبر واعظم منه، ولاجتناب المواجهة مع عامة الناس ومن يميل إليه ويعتقد بتأثيره وسطوة رواده.

ولكنها الشريعة السماوية المتكاملة التي جاءت لإنقاذ الناس من الكفر والضلالة والجهل ودسائس الشياطين، الديانة الخالية من النقص والعيب التي لا تخشى الحسد الذي قد يرافق توجه الناس للإهتمام بها بالتشكيك والتحليل وتتبع الزلات والإنتباه الى الفجوات والخلل، فجاءت الدعوة في الآية مركبة من وجوه :

الأول : نبذ الإنقياد الى الشياطين.

الثاني : الإعراض عن الذين يصدون على دخول الإسلام.

الثالث : تنزيه الأنبياء.

الرابع : كشف الضر والأذى عن الناس.

الخامس :  إيجاد أحوال اجتماعية متناسبة والفطرة السليمة لتكون النفوس مهيأة لقبول العقائد الحقة والتمييز بين الإعجاز والخيال، وبين البرهان والأباطيل، فلا غرابة ان يقرن النبي صلى الله عليه وآله وسلم السحر بالشرك.

إن محاربة الإسلام للسحر دليل على انه يعتمد العقل والبرهان ويحارب الضلالة والوهم واقطابهما، فمن اعجاز القرآن قدرته على إثبات سماويته وفضحه وتحديه لكل زيف.

وعن الإمام الباقر في قوله تعالى [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ]  قال : “فلما هلك سليمان عليه السلام وضع ابليس السحر وكتبه في كتاب ثم طواه وكتب على ظهره: هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم، من اراد كذا وكذا فليعمل كذا وكذا، ثم دفنه تحت سريره ثم استشاره لهم فقرأه فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان الا بهذا، وقال المؤمنون بل هو عبد الله ونبيه، فقال الله جل ذكره [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ].

وفي الخبر أن سليمان عليه السلام دفن كثيراً من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه كي تكون وثيقة مدفونة خشية ان يفتقد الظاهر منها، فيرجع الى المدفون المدخر، وبعد موت سليمان استخرجوها وجاءوا بتخيلات سحرية تقرب منها في ظاهرها وعمل الجن لإيهام الناس وان سليمان ما وصل الى تلك العلوم الا بسبب علوم مكتسبة.

بحث فقهي

السحر وان لم يكن له واقع وهو خداع وتخيل الا ان الإشتغال به أمر وجودي له تأثير عند طائفة من الناس، واذ ان الفقه مدرسة متكاملة للأحكام الشرعية التي تشمل كل ميادين الحياة وتجد فيه حكماً لكل واقعة، وفتوى لكل مسألة.

والإجماع على تحريم السحر عملاً وتعليماً وتعلماً وما يؤخذ فيه من الكسب والمال من السحت لقاعدة لا ضرر ولا ضرار وتدل على ذلك جملة من النصوص، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا عائشة : أما علمت أن الله عز وجل أفتاني في أمر استفتيته فيه؟ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكث كذا وكذا يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهن أتاني رجلان، فجلس أحدهما عند رجلي، والآخر عند رأسي، فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي ما بال الرجل؟

 قال: مطبوب، قال: من طبه؟

قال: لبيد بن الأعصم، قال: وفيم؟ قال: في جف طلعة ذكر في مشط، ومشاقة تحت رعوفة، أو راعوفة شك ربيع، وقال غيره: راعوفة في بئر ذروان، قال: فجاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا الذي رأيتها كأن رءوس نخلها رءوس الشياطين، وكأن ماءها نقاعة الحناء، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخرج، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله فهلا، قال سفيان: يعني تنشرت قالت: فقال: أما والله، فقد شفاني، وأكره أن أثير على الناس شرا، قالت: ولبيد بن أعصم رجل من بني زريق)([163]).

وعن ابن عباس قال: السحت الرشوة في الحكم ومهر البغى وثمن الكلب وثمن القرد وثمن الخنزير وثمن الخمر وثمن الميتة وثمن الدم وعسب الفحل واجر النائحة واجر المغنية واجر الكاهن واجر الساحر واجر القائف وثمن جلود السباع وثمن جلود المتية فإذا دبغت فلا بأس بها واجر صور التماثيل وهدية الشفاعة وجعلية الغزو)([164]).

وقَالَ مَالِكٌ: السَّاحِرُ الَّذِي يَعْمَلُ السِّحْرَ، وَلَمْ يَعْمَلْ ذَلِكَ لَهُ غَيْرُهُ، هُوَ مَثَلُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ) فَأَرَى أَنْ يُقْتَلَ ذَلِكَ، إِذَا عَمِلَ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُهُ)([165]).

والشرك أم الكبائر ومقدم على السحر كعلة لاستحقاق القتل وان قيل أن الكفار غير مكلفين بالفروع، وهو القول الذي ذهب إليه من خالف مشهور علماء الاسلام، ولا يعني هذا الإقتران والإتحاد العرضي في المنزلة او التساوي من كل جهة بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “الشرك أعظم من السحر”.

ولا فرق في حرمة السحر بين مختلف اساليبه واشكاله سواء كان نفثة او دخنة او كتابة او تقريراً او عقداً وكان اثره عقلياً أو نفسياً، فاحشاً في الحب والبغض ونحوهما او بدنياً أو مالياً وغير ذلك مما تترتب عليه المفسدة لإطلاق الأدلة وصدق اسم السحر عليها ولتعدد صوره باختلاف البلدان والأزمان، فلو ظهر في المستقبل سحر مستحدث وبوسائط علمية وتقنية عالية فمع الشك في صدق اسم السحر عليها فالأصل الإباحة ولا عبرة بالآثار العرضية الحادثة الا ان يرد النهي عنه بدليل آخر، أما لو صدق عليه اسم السحر لغة وعرفاً وأثراً فان الأدلة والأحكام تشمله.

وهل حرمة السحر ذاتية كما ذهب إليه جماعة، ام انها نوع طريقية للمفسدة المترتبة عليه والأضرار الناتجة عن فعله، الظاهر ان له حرمة ذاتية لحرمة تعلمه وطريقية وهب قبيح ذاتاً وعرضاً، ولما فيه من اللهو والإنشغال عن ذكر الله ورؤية الآيات واعتقاد ما هو ليس بحق بالإضافة الى حرمته كمقدمة للحرام.

وألحق بعض الفقهاء بالسحر استخدام الملائكة واحضار الجن والأرواح، وحرروه في رسائلهم العملية وفتاواهم، ولكن النقاش في الكبرى وهي ثبوت هذا الإستخدام، او عدمه ولعله مجرد دعوى لا دليل على كليته، خصوصاً بالنسبة للملائكة ولزوم تنزيههم، وقد أثنى الله عز وجل على المسلمين لإيمانهم بالملائكة قال تعالى[قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ…..]([166]).

ولا بأس بتعلم السحر طريقاً لإبطال السحر وحل عقده إذا انحصر العلاج بهذا الحل للأصل ولقاعدة نفي الحرج في الدين واحكام الضرورة وانصراف ادلة النهي عنه، ولأن المدار على تحقق الضرر والمفسدة

وما ورد في خبر السكوني عن الصادق عليه السلام عن ابائه عليهم السلام: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لامرأة سألته ان لي زوجاً وبه عليّ غلظة واني صنعت شيئاً لأعطفه عليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أف لك كدرت البحار، وكدرت الطين ولعنتك الملائكة الأخيار وملائكة السماوات والأرض، فصامت المرأة نهارها وقامت ليلها وحلقت رأسها ولبست المسوح فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ان ذلك لا يقبل منها).

يمكن الإستدلال به على الحرمة الموضوعية للسحر وليس الطريقية فحسب، وان النصوص القائلة بالجواز خرجت بالتخصيص التي تحمل على موارد الضرورة وانحصار التخلص من آثار السحر بالسحر فلا تعارض بينهما، ودفع الشبهة وفضح المغالطة والخداع.

ومن الفقهاء من حمل عدم القبول من المرأة في الخبر اعلاه باحتمال تضرر واذى الزوج منه.

وان الذي يجوز له تعلمه يجب ان تكون عنده ملكة اجتناب اتخاذ السحر للضرر والإضرار والإنشغال عن آيات الله.

وقال شطر من المفسرين بعدم الحرمة النفسية لتعلم السحر، ولكن ورد عن الإمام علي عليه السلام: (من تعلم شيئاً من السحر قليلاً او كثيراً فقد كفر، وكان آخر عهده بربه وحده ان يقتل الا ان يتوب)([167])، ويحمل الحديث على الإطلاق وترجل التعلم بمبرز واثر في الخارج.

نعم يمكن تقييده بما إذا لم يكن التعلم ممن يمتلك الحصانة والأهلية لكل فضيلة وكمال، وان العلة الغائية لتعلمه ما جاء في بعض النصوص من الإذن فيه لدرء المفاسد.

والسحر من الأمور التي لا ينحصر النهي فيها على عمل السحر بل يتعدى ليشمل القابل والذي يسخر السحر لغاياته الخاصة، كما في الربا مثلاً فان اللعنة تشمل الآخذ والمعطي والشاهد والكاتب.

كذلك فان الرجوع الى الساحر لأغراض عمل السحر منهي عنه، وقد روي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “من اتى كاهناً او عرافاً فصدقهما بقول فقد كفر بما انزل على محمد”([168])، ونسب الى الإمام علي عليه السلام: ان هؤلاء العرافين كهان العجم فمن أتى كاهناً يؤمن له بما يقول، فقد برئ مما انزل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ولعله للإعتقاد بان الكواكب المدبرة للوقائع في العالم السفلي، وان الشياطين تستطيع التأثير وفعل الشرور بالناس أو دفع الملمات، او للظن بان الساحر بامكانه خلق الأجسام واعادة تركيب بعض الأشياء.

لذا جاء التقييد في الحديث اعلاه بالإيمان بقول الساحر، لمخالفته للعقائد الحقة وان الله عز وجل بيده مقاليد الأمور، اما لو كان الاخبار عن قراءة في النجوم وسير الكواكب ومنازلها والأبراج فان ذلك جزء من آيات الخلق جعل ما يجري في الأرض قد يرى في السماء لوحدة الكون، بالإضافة الى عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]([169]) فقد يمحى الشيء بالدعاء او الصدقة وليس بالركون الى السحرة ونحوهم.

وقال مالك: ان المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفراً يقتل ولايستتاب ولا تقبل توبته لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني، ولأن الله تعالى سمى السحر كفراً بقوله [وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ]، قال القرطبي: وهو قول أحمد ابن حنبل وابي نور واسحاق والشافعي وابي حنيفة.

ولكن الإستدلال بالآية في القتل غير تام، اذ ان الكفر فيها ليس نعتاً للسحر على نحو الإطلاق والتعيين ولعمومات قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “ادرؤا الحدود بالشبهات”([170])، والحديث الذي اخرجه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “حد الساحر ضربه بالسيف”، ضعيف لإنفراد اسماعيل بن مسلم به وهو ممن لم يوثق.

وعن الشافعي: “لا يقتل الساحر الا ان يقتل بسحره ويقول تعمدت القتل، وان قال لم أتعمده لم يقتل وكانت فيه الدية كقتل الخطأ، وان أضر به أدب على قدر الضرر”([171]) وهذا الحكم ليس فيه حصر وموضوعية للسحر، ورده ابن عربي من وجهين.

(روي سفيان عن عمار الذهبي ان ساحراً كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل ويدخل في است الحمار ويخرج من فيه، فاشتمل له جندب على السيف فقتله، وجندب بن كعب الأزدي الذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يكون في امتي جندب يضرب ضربة بالسيف يفرق بين الحق والباطل، فكانوا يرونه جندباً هذا قاتل الساحر)([172]).

ولكن الحديث ضعيف سنداً ودلالة وفيما يتعلق بالأفعال التي كان يأتي بها الساحر ولو كان لظهر وشاع، فاخبار السحر كثيرة وعجيبة وخارقة ولكنك عند التحقيق والإستقصاء لا تجد لها مبرزاً خارجياً ومصداقاً حسياً الا ما يخضع لموازين العقل والإمكان والعلة المادية، ولو تنزلنا وقلنا به على قاعدة التسامح بأدلة السنن فان الحديث وثيقة نبوية تضع حداً وحاجباً ايمانياً دون تفشي السحر بين المسلمين او انقيادهم له ورادعاً للسحرة من التلاعب في قلوب الناس واوهامهم.

قوله تعالى [وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ]

في الآية نوع مغايرة أي ان الذي انزل على الملكين غير السحر، وتلك المغايرة قد تكون في الماهية حتى على القول باختلاف مراتب السحر وتأثيره.

وقد لا يكون كفر الشياطين في هذه الآية بتعليمهم السحر، بل لأنهم كفروا وقاموا بإغواء الناس وحاولوا جعلهم يعتقدون بإلهية الكواكب او بعض المخلوقات، ان تعليم السحر ليس علة تامة للكفر، انما كان عملاً من اعمال الكفر.

والفعل ايجاد الشيء والعمل ايجاد الأ ثر في الشيء، وكأن تعليم الناس السحر فعل توليدي، وهو كل فعل تقدمه او حدث معه سبب لولاه لم يوجد كسير المركبة المتولدة عن قيادة وحركة صاحبها، أي ان تعليم السحر هو الثاني، والكفر هو الأول فلولا كفرهم لما اقدموا على تعليم الناس السحر، نعم قد يكون طريقاً ومدخلاً للكفر لذا اخذت الشياطين تنشط في فنونه بغية اغواء الإنسان.

وقوله تعالى [وَمَا أُنزِلَ] أي انزل من عند الله تعالى، وانشغل المفسرون بموضوع السحر على انه المتبادر في المقام، ولكن فيه آية اعجازية تحتاج الى البحث والتحقيق وهي وجود ما انزل على غير الأنبياء، كما في ورود الوحي لبعض المخلوقات غير الناطقة قال تعالى [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا…]([173]) .ولكن مع الإختلاف في الرتبة والموضوع.

ومن مراتب الوحي والتنزيل في الأرض ما كان نازلاً على ارقى الممكنات واتمها خلقة واكثرها طاعة وامتثالاً لله عز وجل، وان ماهية التنزيل اشرف واعظم من ان تكون سحراً.

واقول ان الملكين بما عندهما من الملكات والقدرات الخارقة يعرفان فنون السحر بالذات والأثر.

ومما لا يختلف فيه اثنان من المليين قدرة الملك على الاحاطة بفنون السحر، فمجرد نزولهما واختلاطهما بالناس جعلهما قادرين على تعليم الناس السحر فضلاً منه تعالى ولحل السحر وابطاله ودرء الفتنة والحيلولة بمانع سماوي مبارك من إنزلاق الناس في مسالك الهلكة والضلالة، فيكون تعليم السحر وقاية وحرزاً وجزءً من وظيفتهما في الأرض من غير ان ينزل عليهما السحر.

واخبرت الآية عن نزول شيء من السماء عليهما وموضوع التنزيل غير السحر ويؤيد هذا ان الآية الكريمة وما فيها من العطف [ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ] ان المنزل غير السحر ولعل جانباً منه يتعلق بموضوع السحر وآثاره.

إذن ماذا أنزل على الملكين؟ ولماذا أنزل؟ وأين هو الآن ؟ وكيف ننتفع منه؟

لابد ان يكون موضوع النزول متعلقاً ببني آدم كلاً او جزءاً سواء كان الملكان مبعوثين لهم مباشرة او بواسطة الانبياء في زمانهم، وان يكون خيراً محضاً ونفعاً عاماً، وانهما لم يبخلا بما عندهما، فكل ما في الأرض مسخر لنفع الانسان، وما انزل على الملكين من المضامين السامية والدرر الثمينة التي تتلألأ في سماء العقيدة لتثبت دعائم التوحيد وتؤكد على صدق النبوة، بالإضافة الى ان تلقي اهل الأرض الشرائع والأحكام من السماء من السنن الكونية الثابتة، قال تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً..]([174]).

فإن قلت إن مجيء(لو) في الآية أعلاه دليل على إمتناع سكن ملائكة في الأرض , والجواب جاءت الآية بصيغة الجمع والمضارع(ملائكة يمشون) أما آية البحث فتتعلق بقضية عين وخاصة بمثنى جماعة من الملائكة ولم يستمر وجودهما في الأرض هذا على فرض هذا التأويل الذي تحتمله آية البحث كما لو يقال إنه باب فتحه الله مرة للحجة والبرهان ثم غلقه إلى يوم القيامة، من غير أن يتعارض فتحه هذا مع قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]([175]).

وقيل إن نزول الملكين لتعليم الناس السحر جاء لمواجهة السحرة في ذلك الزمان وتحديهم للناس وادعائهم النبوة، أو لأن الجن يأتون بفنون من السحر يعجز البشر عن مواجهتها، والظاهر إن الذي انزل على الملكين أعم وان علة وجودهما في الأرض له علل وغايات ومقاصد عظيمة يعتبر التصدي للسحر والشرور العرضية المصاحبة له فرداً من افرادها.

لقد أنعم الله عز وجل على الناس بإنزال الملائكة مدداً وعوناً عاماً بعد الانحراف الغالب نحو السحر والخداع ليكون هذا الإنزال من فضل الله العظيم ورحمته الواسعة.

(وقال الرازي: قال بعضهم هذه الواقعة انما وقعت في زمان ادريس عليه السلام لأنهما إذا كانا ملكين نزلا بصورة البشر لهذا الغرض فلابد من رسول في وقتهما ليكون ذلك معجزة)([176]).

ولا ملازمة بين نزول الملكين ووجود نبي او رسول في مدة نزولهما، ولا يتوقف وجود احدهما على الآخر كما يتوقف وجود المعلول على علته مثلاً.

والملكان هما هاروت وماروت نزلا من السماء، وقيل ان الإسمين أعجميان لا ينصرفان، واليه ذهب الأكثر، والظاهر ان اسميهما من الهرت والمرت لذا فهما ينصرفان، يقال هرت الثوب مزقه، وهرت عرضه طعن فيه.

ويمكن تأسيس قاعدة كلية وهي ان اللفظ القرآني اذا دار بين وضعه في العربية وبين غير العربية، فالأرجح هو الأول لعمومات قوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا]([177]) الا ان تدل قرينة معتبرة على الخلاف وعلى فرض القرينة فيحتمل أيضاً أن اللفظ إنتقل من العربية إلى غيرها وعاد بالقرآن أو نطق بعض قبائل العرب به.

وورد ان الملائكة تعجبت من اعمال بني آدم وقبحها وخبثها واقدامهم على السحر مع ان الله اكرم الإنسان وجعله خليفته في الأرض، فاراد الله ان يبتلي الملائكة فطلب اختيار ملكين من اكثر الملائكة زهداً وعلماً فاختاروا هاروت وماروت، وجعل فيهما شهوة الإنس بالإضافة الى العقل وانزلهما ونهاهما عن الشرك والقتل والزنا وشرب الخمر، فذهبت اليهما امرأة وهي الزهرة الكوكب المعروف اهبطه الله الى الأرض ثم عاد مكانه في السماء، فراوداها عن نفسها فأبت الا ان يعبدا الصنم ويشربا الخمر فامتنعا في بداية الأمر ثم غلبت شهوتهما فأطاعاها.

ودخل عليهم سائل فطلبت منهما قتله كي لا يفتضحوا، فقتلاه ولما فرغا من قتله طلباها فلم يجداها فندما وتابا وتضرعا الى الله تعالى، فخيرهما سبحانه بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فأختارا الأول، فهما يعذبان ببابل معلقان بين السماء والأرض يعلمان الناس السحر.

وقيل ان المرأة فاجرة من أهل الأرض وانهما واقعاها بعد شرب الخمر وقتل النفس وعبادة الصنم، ثم علماها الاسم الذي كانا يعرجان به الى السماء، فتكلمت به وعرجت فمسخها الله وجعلها هي الزهرة.

ولكن تلك الرواية ضعيفة سنداً ودلالة وجهة صدور، فلم يثبت الى ابن عباس ما نسب إليه، وان كانت فيها أمور كونية واحكام وضعية عجيبة تستهوي القارئ والسامع.

ونسب الإمام احمد الحديث في مسنده الى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورواه ابو حاتم وابن حبان وابن مردويه، وقال ابن كثير: (واقرب ما يكون في هذا انه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار لا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال عبد الرزاق في تفسيره عن النوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار)([178])، وذكر الحديث.

ومنها مثلاً ان امرأة أتت عائشة فقالت لها: اني ساحرة فهل لي من توبة؟ فقالت: وما سحرك؟

 فقالت: صرت الى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب علم السحر فقالا لي: يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت، فقالا لي: اذهبي فبولي على ذلك الرماد، فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت: لا افعل، وجئت اليهما فقلت: قد فعلت، فقالا لي: ما رأيت لما فعلت؟

 فقلت: ما رأيت شيئاً، فقالا لي: أنت على رأس أمر فاتقي الله ولا تفعلي فابيت.

فقالا لي: اذهبي فافعلي، فذهبت ففعلت، فرأيت كأن فارساً مقنعاً قد خرج من فرجي فصعد الى السماء، فجئتهما فأخبرتهما فقالا: ايمانك قد خرج عنك وقد احسنت السحر، فقلت: وما هو؟ قالا: ما تريدين شيئاً فتصوريه في وهمك الا كان، فصورت في نفسي حباً من حنطة فاذا انا بحب، فقلت: انزرع فانزرع فخرج من ساعته سنبلاً، فقلت: انطحن فانطحن من ساعته، فقلت: انخبز فانخبز، وانا لا اريد شيئاً اصوره في نفسي الا حصل، فقالت عائشة: ليس لك توبة([179]).

والنقاش في ادعاء هذه المرأة، ومن المستغرب انه حين ينقل صحابي أو تابعي أو تابع التابعين حديثاً وخبراً يخضع للقواعد الرجالية، ومنها ما لا يخلو من قسوة لاسيما إذا كان الباحث يرجع الى مصنفات في هذا الباب لا تذكر لهذا الناقل الا ما ورد فيه من الجرح، ولو كان اولئك الذين اجتهدوا في نقل وجمع وتدوين علوم الحديث ونحوها يعلمون ان اشخاصهم وسيرتهم ستخضع الى تلك التحقيقات الرجالية فيما بعد موتهم، لاختار بعضهم العافية ولإجتنب السعي الدؤوب في هذه العلوم الشريفة، ولكن عندما تأتي امرأة مجهولة بمسألة خيالية غريبة، تسرد حكايتها في امهات كتب التفسير من غير تحقيق او تشكيك، ولماذا لم تطلب منها عائشة مثالاً وشاهداً للتصديق.

وهل فيه نوع سحر، كيف وصلت الى هاروت وماروت وليس عندها من المقدمات الخارقة شيء، ولماذا لم يصل غيرها، وان جاء شخص الى الخليفة أيام الدولة الأموية وذكر مثل ذلك وتكررت الروايات، فهل يعتبر هذا من المتواتر؟ الجواب: لا، لأن التواتر في الاصطلاح هو خبر جماعة عن جماعة تنفي كثرتهم في كل طبقة إحتمال اتفاقهم وتواطئهم على الكذب، ويحصل باخبارهم العلم.

ويمكن نفيها قرآناً وسنة وعقلاً، اما القرآن فأن قول الملائكة حينما خلق الله عز وجل آدم واراد أن يكون خليفته في الأرض [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ  ]([180])، مما يعني في الجملة انهم يرون فعل بني آدم في المستقبل وانهم استغربوا منه، فلو اطلعوا في الغيب على فعل الملكين عند نزولهما لما احتجوا على أفعال بني آدم، الى جانب الآيات العديدة التي تدل على عظيم منزلة الملائكة، وبالاضافة الى الدلالات الخاصة بنزولهما كقوله تعالى في هذه الآية [وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ].

ومن السنة نصوص كثيرة عامة وخاصة، وعن الإمام الصادق عليه السلام في حديث طويل فيه: (وكان بعد نوح عليه السلام قد كثرت السحرة والمموهون، فبعث الله تعالى ملكين الى نبي ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة، وذكر ما يبطل به سحرهم ويرد به كيدهم، فتلقاه النبي عن الملكين واداه الى عباد الله بأمر الله وأمرهم ان يقفوا به على السحر وان يبطلوه، ونهاهم ان يسحروا به الناس، (وهذا كما يدل على السم ما هو، وعلى ما يدفع به غائلة السم)، ثم يقال لمتعلم ذلك هذا السم فمن رأيته سُم فادفع غائلته بكذا وإياك ان تقتل بالسم أحداُ، ثم قال [وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ] وهو ان ذلك النبي أمر الملكين ان يظهرا للناس بصورة بشرين ويعلماهم ما علمهما الله من ذلك ويعظاهم، فقال تعالى [وَمَا يُعَلمَانِ مِنْ أَحَدٍ] ذلك السحر وابطاله حتى يقولا للمتعلم [إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ] امتحاناً للعباد ليطيعوا الله فيما يتعلمون من هذا ويبطلوا به كيد السحرة ولايسحروهم.. ) الحديث([181]).

وبابل: هي المدينة المعروفة في العراق، ولا ينصرف للتأنيث والتعريف، وقيل والعجمة، وسميت بابل لأن الألسن تبلبلت بها أي اختلطت، فاسمها يدل على اهميتها وإجتماع الناس من مختلف بقاع الارض اليها، وقيل تبلبلت الألسن بها حين سقط صرح نمرود، وقيل هي العراق وما والاه، وقال ابن مسعود لأهل الكوفة: أنتم بين الحيرة وبابل، وقال بعضهم هي بالمغرب وهو ضعيف وشاذ.

ومن إعجاز القرآن ان بابل ذكرت بالكتب السابقة وتشير الى بابل ذاتها المعروفة الآن في العراق، فجاء في العهد القديم: (حل البابليون محل الآشوريين كقوة تهدد أمن المنطقة، فاستولوا على اورشليم سنة 587 ق.م وسبوا السكان الى جهات بابل)([182]).

ولكن القرآن ذكرها محلاً لنزول ملكين فيها مما يدل على حضور ايماني وجهاد رفيع في سبيل تثبيت أركان التوحيد، وحكم كلي تشريعي يجسد الملاك والمصلحة بعيداً عن الجزئيات وشؤون الافراد، الى جانب ظهور أسرار التنزيل والبلاغة الاعجازية بالمقارنة مع لغة السرد الاخباري في العهد القديم.

ولا زالت أطلال بابل وآثارها الى الآن تحكي حضارة عريقة وفيها نظام ومملكة من اعظم ممالك العالم آنذاك، ولابد ان نظامها مستمد من الشرائع السماوية في الجملة، اذ كان الأنبياء يأتونها لإقامة الحجة على الناس وقصد تبليغ العدد الأكبر منهم لأنها كانت محلاً للتجارات المختلفة، فسكنها ابراهيم عليه السلام وفيها جرت المحاججة مع نمرود، وتكثر مقامات وقبور الأنبياء حواليها فقبرا نبيي الله هود وصالح في ظهر الكوفة.

وعن الإمام الباقر عليه السلام في وصف مسجد الكوفة: “انها سرة بابل”، أي وسطها واطيب موضع فيها، ومقام ادريس في مسجد الكوفة، وموضع سفينة نوح في مسجد الكوفة كما في بعض الأخبار.

وكان اسم الكوفة قديماً بانقيا، وبا: مائة، ونقيا: نعجة بالنبطية لأن ابراهيم عليه السلام اشتراها أي الكوفة من اهلها بمائة نعجة، وسبب الشراء انه نزل ضيفاً فيها فلم تحدث فيها زلازل وارادوا منه الإقامة فيها فاشتراها بشرط ان يقيم مع شرائها.

وإذا رأينا في شريعة حمورابي مثلاً ما يلتقي والشرائع السماوية فهو مستل منها، وان الواقع الاجتماعي والتشريعي قد اقتبس واخذ طوعاً او كرهاً من الاحكام السماوية لوجود الانبياء وأثرهم حتى بعد وفاتهم، ولكن التفخيم والبيان نسب إلى غير الأنبياء اما للقوة والسلطان، او للمال والضلالة سبباً او غاية او كليهما معاً، خصوصاً مع  القول بالملازمة بين إدراك العقل وحكم الشرع، فإذا التقت آراء العقلاء بما هم عقلاء على حسن شيء لحفظ النظام وشيوع العدل، أو على قبح الظلم والاعتداء، فالله سبحانه خالق العقل وهو الذي جعله رسولاً دائماً عند الإنسان وشاهدا على صدق النبوة.

والأنبياء يموتون أو يقتلون ولكن شرائعهم باقية بالصالحين وبالعقول النيرة التي ترى الحق وتتبعه فهي مادة حفظ الشرائع، والدليل الذاتي عند الانسان والذي يقوده الى الشريعة واحكامها وتبني الآراء المحمودة والتي تعني في الإصطلاح المنطقي ما تطابق عليه اراء العقلاء مما يترشح عن اقتضاء الخلق الإنساني له.

فلا غرابة ان تأتي بعض الشرائع بسنن الأنبياء ومتولدة عنها وان لم تكن على نحو التساوي أو العموم والخصوص المطلق، بل جاءت مترتبة عليها على القاعدة الفلسفية كل متأخر حدث من المتقدم،كجزء من الترتيب الذي جعله الله عز وجل بين الموجودات لحفظ النظام ولترتب الغايات على الأشياء في سيرها وتركيبها.

وليكون هذا المتأخر عن الشرائع مقدمة عقلية للشرائع التالية والأنبياء الذين يبعثون في تلك الأمم، ولتكون بقايا سنن الأنبياء وما يترشح عنها من السنن الإجتماعية والقواعد التشريعية والاخلاقية مزروعة ومتوثبة في النفوس وفي الخارج لإستقبال النبوة مع إستدامة البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقد ورد حكاية عن عيسى عليه السلام[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]([183]).

وقد يخشى بعض الملوك في فترات ما بعد النبوة وسيادة الشريعة السماوية بين الناس الإبتعاد عنها في احكامهم لتجسيدها للعدل والإنصاف وحفظها للأنفس والحقوق والأعراض والتزام الناس او شطر منهم بما جاءت به، ويدركون بالعقل العملي والحسي السليم كما في مصطلح القدماء من علماء الإخلاق حسنها وقبح ما يخالفها.

إن نزول الملكين في بابل وذكرها بالاسم في القرآن يدل على عظيم شأنها في  ذلك الزمان في قاموس الشرائع والأحكام. وهو آية من عند الله تعالى في موضوعه ومحموله وغاياته ونتائجه.

إنها ظاهرة فريدة في الأرض تتضمن الوجود السماوي الحقيقي على سطح المعمورة، شغلتنا بعض النصوص الضعيفة عن البحث والإستنباط فيها، ولعله نوع سحر، سحروا اذهان الناس بالقصص الغريبة في موضوعهما ومراودتهما لكوكب الزهرة ونحوه، من الناس من يميل إلى الحكايات العجيبة والقصص الفريدة لا لموضوعية فيها كما قد يظن.

ولكن لما ثبت في اذهانهم وتسالموا عليه وهو عظيم قدرة الله تعالى وانه لا تستعصي عليه مسألة، كقضية يقينية بديهية ومن الأوليات التي يعتقد بها لذاتها من غير سبب خارج عنها اعتقاداً جازماً، وجعلوا حواجز وهمية عن التدبر المناسب لمضامين هذا النزول والتشريف لأهل الأرض وللعقائد السماوية فيها بل ولأرض بابل على نحو الخصوص , ليأتي القرآن ببديع القصص وآية البحث من عمومات قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]([184]).

فهذه الآية إعجاز قرآني سواء نزل الملكان على صورة الإنسان وعاشا مع الناس بهيئتهما كما يتمثل جبرئيل احياناً بصورة دحيّة الكلبي اذ ان الملائكة ذوات لها وجود جوهري تشغل حيزاً وليست هي اعراضاً وان كانت قادرة على التصور باشكال حسنة وصور مختلفة، وهي عند الفلاسفة عقول مجردة، ولكنها اجسام نورانية لطيفة تأتي الأعمال الشاقة، والملائكة مجبولون على طاعة الله مواظبون على العبادة اختياراً، ومما يختلف فيه الرسول عن النبي ان الأول يرى الملك.

 وتبين الآية الإعجاز في أحوال الدنيا ولزوم إستحضار هذه الإرادة الإلهية في مصالح معينة خروجاً عن السنن الكونية مما تظهر فيها قدرة وسلطان مشيئة الله سبحانه في ملكه.

وصحيح ان الوحي أعم من النبوة الا انه لا يستعمل في غير النبوة الا مع القرينة الصارفة والدالة عليه، والملك عنوان اعتباري يصلح ان يكون محلاً للوحي ونزول الآيات، نعم يمكن توجيه القول بأن الملكين النازلين من السماء وبما يمتلكان من الخصائص والقدرة الخارقة والمتميزة عن امكانيات البشر استطاعا الإرتقاء الى منازل الحكم والسلطنة، ولكنه يحتاج الى دليل، بالإضافة الى ان التأريخ لم يحدثنا عن ملكين ببابل حكما البلاد وان اسميهما هاروت وماروت بينما ذكرت اسماء كثيرة لملوك بابل، وخلدت الآية الكريمة اسمي الملكين وقصة نزولهما لتفتح الباب للدراسات العقائدية والعلمية والعرفانية في هذا الموضوع وإقتباس الدروس منها.

وهذا القول المنسوب الى الحسن البصري، ينفي قوله في مفهومه انهما نزلا من السماء وهو خلاف ولكن ظاهر الآية والشواهد الكثيرة على تدل على نزولهما من السماء مع امكان وحصول نزول الملائكة الى الأرض في بعض الحالات كما في الملائكة الذين جاءوا الى قوم لوط.

وليس من مانع ان هؤلاء الملائكة كانوا يتلقون اثناء نزولهم المؤقت هذا علوماً واحكاماً تتعلق بالسحر وابطاله , لسنخيتهما السماوية.

ولا تفيد محل البحث دوام بقاء الملكين في الأرض ولكنها تدل على ان أمراً ما نزل عليهما لمنافع في الخلق وليس من دليل على حصر الأمر النازل عليهما بالسحر كما يذهب إليه غالب المفسرين، فهذا الحصر تفريط وتضييع لحقائق عقائدية وهو خلاف الثابت في فلسفة التنزيل وغاياته، وحينما يصل موضوع التنزيل الى الملائكة فلابد ان يكون المتبادر أعم وأشمل من السحر.

والبحث في الآية من جهة الأصل والظاهر والمفهوم ومناسبة المقام والأخبار، اما الأصل فان موضوع التنزيل الأحكام والتشريع ولا يعدل عن الأصل الا بدليل، وظاهر الآية يفيد العموم وعدم الحصر وما لا يتعارض مع الأصل، ومفهوم الآية لا يشير الى خروج موضوع معين من التنزيل أي ان المفهوم لا يدل على خروج غير السحر منه، ومناسبة المقام لا تدل على انحصار حاجة الناس في غرض معين، اما الأخبار فقد ورد بعضها في تعليم الملكين الناس السحر، ولكن لا ملازمة بينه وبين موضوع التنزيل، فالتنزيل أعم.

 والأرجح ان الملكين بامكانهما تعليم الناس السحر حتى في حالة عدم إنزال شيء عليهما بخصوصه من السماء لما يمتاز به الملائكة من القدرات والعلوم.

وتعليم الملائكة للناس ليس غاية في ذاته انما مقدمة لشيء آخر، وهو مدخل لمقاصد شريفة اكبر، منها منع انقياد الناس للسحرة ومحاربة السحر والتمييز بين المعجزة والسحر، أي انها رحمة للناس لتمكينهم من الإستبصار والتدبر في معجزات الأنبياء والتفريق بينها وبين صيغ الخداع والتمويه والتضليل التي يأتي بها السحرة، اذن هما مدد للأنبياء والمؤمنين متصلان مع السماء بالتنزيل واحكامه.

ولعل التنزيل من الأمور الملازمة لوجود الملك في الأرض، أي ما دام الملك في الأرض فانه ينزل عليه، اذ فلابد وان عندهم رسالة، فهم وسائط بين الله عز وجل والناس، وقيل ان اصل اسم الملك ملأك وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي الرسالة، لذا يسمى الذي ليس عنده رسالة منهم روحاً.

(قال الزجاج: وروي عن علي عليه السلام انه قال: “أي والذي انزل على الملكين، وان الملكين يعلمان الناس تعليم انذار من السحر لا تعليم دعاء إليه”.

وقال الزجاج: والذي انزل عليهما هو النهي)([185])، والظاهر ان الذي انزل عليهما أعم ومنه الأمر بالنهي وليس النهي بعينه.

وقد جعل القدماء ملوك الأرض طبقات فأقروا فيما زعموا جميع الملوك لملك بابل بالتعظيم وأنه أول ملوك العالم ومنزلته فيها كمنزلة القمر في الكواكب لأن إقليمه أشرف الأقاليم ولأنه أكثر الملوك مالاً وأحسنهم طبعاً وأكثرهم سياسة وحزماً وكانت ملوكه يلقبونه بشاهنشاه ومعناه ملك الملوك ومنزلته من العالم كمنزلة القلب من الجسد والواسطة من القلادة، ثم يتلوه في العظمة ملك الهند وهو ملك الحكمة وملك الغلبة لأن عند الملوك الأكابر الحكمة من الهند، ثم يتلو ملك الهند في الرتبة ملك الصين وهو ملك الرعاية والسياسة وإتقان الصنعة وليس في ملوك العالم أكثر رعاية وتفقداً من ملك الصين في رعيته وجنده وأعوانه وهو ذو بأس شديد وقوة ومنعة له الجنود المستعدة والكراع والسلاح وجنده ذو أرزاق مثل ملك بابل.

ثم يتلوه ملك الترك صاحب مدينة كوشان وهو ملك التغزغز ويدعى ملك السباع وملك الخيل إذ ليس في ملوك العالم أشد من رجاله ولا أجرأ منه على سفك الدماء ولاأكثر خيلاً منه ومملكته ما بين بلاد الصين ومفاوز خراسان ويدعى بالاسم الأعم وهو إيرخان. وكان للترك ملوك كثيرة وأجناس مختلفة أولوا بأس وشدة لا يدينون لأحد من الملوك إلا أنه ليس فيهم من يداري ملكه. ثم ملك الروم ويدعى ملك الرجال وليس في ملوك العالم أصبح من رجاله، ثم تتساوى الملوك بعد هؤلاء في الترتيب([186])، ولم يذكر ملك فارس، مع الإشارة إليه في القرآن بقوله تعالى[غُلِبَتْ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]([187]).

قوله تعالى [وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ  فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ]

ان انتقال صورة الملائكة الى صورة الناس وهيئاتهم لا يعني التماثل في الصفات النفسانية والبشرية البهيمية والسبعية وما ينتج من العناصر الأربعة المتضادة في جسد الإنسان، بل يبقى الملائكة على حقيقتهم وانقيادهم المطلق لله تعالى من غير ان تداهمهم القوى الوهمية لإنعدام علتها وهي العنصر الناري وغلبته على النفس.

وكما هو الظاهر فان الملكين تفضلا بتعليم الناس مع التفريق بينه وبين المعجزة، أي ان الذي بامكان كل انسان اكتسابه ليس من المعجز.

فالمعجز هو الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي السالم عن المعارضة، وقيد بالتحدي ليخرج العلم المكتسب ومنه السحر، وبالسلامة عن المعارضة لعجز المخلوقات المطلق وان اجتمعت على الإتيان بمثله، ويتوجه الإعجاز الى الكفار والمسلمين بل والى اهل ذلك الزمان، لذا تراه يأتي متناسباً مع توجههم والغالب عندهم وفي سنن الأنبياء وتأريخ النبوة شواهد كثيرة منه.

والقيد والتحذير من الفتنة في التعلم لا يدل بالضرورة على الحصر بالسحر، الا ان القرائن المقالية وذيل الآية والأخبار تدل على انهما كانا يعلمان الناس السحر أو ما يقتبس منه السحر وربما يقال لذلك لم يرد ذكره، ولكن عدم الذكر أعم من التحديد، والقرائن مجتمعة ومتفرقة لا تنفي تعليم غير السحر.

انهما يعلمان الناس كيفية اجتناب السحر وسبل ابطاله وعدم اعتباره، ومتعلقه لابد ان يكون أمراً وجودياً وهو ايجاد درجة من الإيمان والبصيرة عند الأفراد وفي المجتمعات تصدى لها الملكان كمدد إلهي.

والفتنة: الإختبار والإمتحان، فتعليم الملكين الناس السحر ابتلاء من عند الله تعالى ليتميز الطيب من الخبيث، والمؤمن من الكافر وذلك بفضح السحر ومنافذه الى القلوب الفارغة التي تحس بالعطش والظمأ، تريد من يفسر لها ما وراء الغيب مما عجزت البصائر عن إدراك كنهه ومعرفة اسراره، فربما ظنت ان السحر هو السبيل الأمثل او الطريق الوحيد الثابت المتيسر، فلابد ان الناس ازاء السحر على اقسام منهم من عمل به وعلمه، ومنهم رجع إليه في شؤونه او بعضها، ومنهم من كان متردداً في أمره، واذا كان هناك من لا يؤمن به فانه لا يستطيع التأثير في مجرى الأمور لشيوع وموضوعية السحر في المجتمع آنذاك.

وقد يقال ان المراد الذي نعلمكم اياه له وجهان ويمكن ان يكون في الخير مطابقاً للأصل وهو سبب وعلة التعليم لا ان يكون سبباً للكفر، ولعل هذا القول هو المتعارف في علم التفسير، والظاهر ان الذي يعلمانه ذو وجه واحد لا يحمل المتناقض والمتنافي، لا يعلمان الا في الخير وأسباب الصلاح والهداية والرشاد ومنه كيفية حل السحر، ودرء اباطيل السحرة، ولكنهم اختاروا الكفر بتوظيف ذلك العلم في أفعال الشر والإضرار بالناس، فان قلت: ان تلك الأفعال لنعتهم بالكفر، قلنا: الكفر بجحود النعمة وعدم الإنتفاع منها، أي مجرد الجحود وجعل هذا التعليم آلة للإيذاء مصداقاً من مصاديق الكفر.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: (الكفر في كتاب الله على خمسة اوجه، كفر الجحود وهو على وجهين: جحود بالربوبية وان لا جنة ولا نار، كما قال صنف من الزنادقة والدهرية الذين يقولون [وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ]([188]).

والوجه الآخر من الجحود هو ان يجحد الجاحد وهو يعلم انه حق واستقر عنده كما قال تعالى [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ]([189])، والثالث كفر النعمة قال تعالى [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ]([190]).

والرابع ترك ما أمر الله به وعليه قوله تعالى[أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ]([191])، والخامس كفر البراءة وعليه قوله تعالى في قول ابراهيم لقومه [كَفَرْنَا بِكُمْ]([192])([193]).

والكفر في الآية ينطبق على الوجه الثاني من كفر الجحود اعلاه، وعلى الثالث وهو كفر النعمة، وربما انطبق على الرابع ايضاً لأن أمر الملكين بالواسطة يكون من عند الله تعالى، ولكن بمراتب متباينة سواء في وجوه الكفر تلك او من قبل الأشخاص.

   و[نَحْنُ] جمع انا من غير لفظها، وفي الآية مسائل تتضمن الإعجاز منها:

الأول : لم يقل الملكان أن الذي نعلمه فتنة بل نعتا انفسهما بالفتنة، أي ان الله عز وجل انزلنا لإمتحانكم واختباركم وبنا قامت الحجة عليكم، لا يقولن أحد بعد الآن لم اعلم ولم يهدني أحد الى دروب الهداية وطرق الرشاد، فالذي جئنا به من الآيات بالذات والعرض، فلا سبيل للتشكيك في الملائكة ورسالتهم لأنهم ليسوا من سنخ البشر.

أي ان مجرد وجود الملائكة على الارض آية عظمى ودعوة الى الإيمان، فلا تصل النوبة بالناس الى استقراء آيات الأنبياء وصدق الدعوى، فالذي يجحد بعد الآن يكون مقصراً وكافراً لا سلطان لنا في الأمر ولا نستطيع ان نتدارك اخطاءكم و لا نشفع لكم.

وإختار الله عز وجل مدينة بابل لنزول الملكين لشأنها في ذلك الزمان وهي في وسط أقطار الأرض وقد يكون لها شأن في آخر الزمان، مثلما هو شأن مكة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]([194]).

الثاني : لقد ورد التعليم بلغة المفرد وكذا الخطاب بالنهي عن الكفر، بينما وردت صيغة الإخبار عن كيفية تعلمهم بصيغة الجمع [فَيَتَعَلَّمُونَ] ان لغة المفرد جاءت لبيان ثبوت الحجة على كل مكلف بالأمر الصريح والتنبيه والتحذير قبلاً، ولمنع احتمال الإنكار وجحود الإنذار ووضع اللوم على الكبراء منهم او على اقطاب السحر، ولغة الجمع جاءت لبيان شيوع المنكر بينهم واستحقاقهم للوم والذم والعقاب.

ومع انه انذار وتخويف لكنه في مفهومه دعوة للصلاح والإيمان اذ لا واسطة بين الإيمان والكفر، لقد كان الملكان يدعوان الناس الى الإيمان بالفعل والقول والنصح ويبينان لهم الفوارق الموضوعية بين المعجزة والسحر وماهية كل منهما، ولزوم إجتماع المؤمنين على نبذ الشرك ومضامينه ومقدماته الظاهرة منها والخفية.

وقوله تعالى[يُعَلِّمَانِ] ظاهره أنهما يبادران بالتعليم او كانا مستعدين لتعليم الناس وارشادهم ولا يترددون في ذلك وهو نوع جهاد وسعي في سبيل الله، ولعل السحرة استعانوا بالجن في فنون السحر والضلالة فجاؤا بما قهروا به اوهام الناس وزرعوا فيهم الخوف والوجل من السحرة واعمال السحر فاستسلموا لها منقادين وانشغلوا عن ذكر الله واتباع الأنبياء، فانعم الله عز وجل بلطفه على الناس بالملكين لتثبيت معالم الهدى والمعرفة والغلبة على الضلالة.

وتدل لغة الجمع في قوله تعالى [فَيَتَعَلَّمُونَ] على كثرة الذين اتخذوا هذا العلم طريقاً للضلالة والأذى والشر ولم ينتفعوا من الإنذار والتحذير، لتكون الآية مناسبة لتوبيخهم ولومهم والتذكير بالنعم التي انعم الله عز وجل عليهم وجحدوا بها.

الثالث : مواساة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، فان القوم الذين جحدوا بأوامر الملائكة الموجهة اليهم من غير واسطة بشر لا يتورعون عن الكفر بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بشر مثلهم آتاه الله النبوة، قال تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]([195]).

       قوله تعالى [فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ]

أي يتخذون الذي يتعلمونه من الملكين مادة للتفريق بين الزوجين، لا لأن الملكين يعلمون الناس السحر وكيف يفرقون بين الأزواج بالسحر ونحوه، ولكن مادة التعليم وموضوعه يمكن استعمالها في الشر وان كان في الأصل وعلة التعليم الخير المحض والتصدي للشر، والتفريق أعم من الطلاق كما في السلاح الفتاك في هذا الزمان يصنع للتوقي والدفاع وإرهاب العدو وكف أذاه فيستعمله بعضهم بالقتل الجماعي بغير حق، فقد ينعكس اثر السحر بالتفريق بينهما بالفراش وأسباب تخيلية وهمية تمنع وصول الزوج الى زوجته ولمسها، او باثارة الخصومة والنزاع اليومي بينهما.

لقد اراد الله عز وجل في موضوع الزوجية الرحمة والألفة تكون مدخلاً للسعادة وحفظ النسل والتدبر بنعم الله وآياته، قال تعالى[وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً]([196])، فيأتي الشيطان ليلقي البغضاء بينهما ويلهيهما عن الذكر وتنظيم الاسرة واعداد الأولاد وصلاحهم، أي ان عقد السحر لإحداث الفرقة بين الزوجين له غايات ذميمة تتعلق بالعقيدة والفكر وخواتيم الأعمال.

انه بداية لمنهج منظم يستهدف ايجاد امة لا تلتفت الى التوحيد وتعرض عن الأنبياء ودعوتهم في واقع اجتماعي مملوء بالإنفعال والحدة اللذين يشكلان غشاوة تخيلية تحول دوعن رؤية الأشياء بعين الحقيقة وحاجباً وهمياً يمنع انكشاف الآيات ويحجب انوار البراهين عنهم، وهو باب للجوء الناس الى السحر للإنتقام والرد بالمثل، فانت تراهم الى اليوم وفي بعض بقاع من العالم يبحثون عن اسباب من السحر ونحوه عندما يظنون او يتوهمون تعرضهم له، وجاء الإسلام بتحريم السحر، والدعوة إلى بناء الإسرة الكريمة وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: تناكحوا تكثروا فإني اباهي بكم الامم)([197]).

قوله تعالى [وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ]

وفيه مسائل:

الأولى : الضرر أعم من ارادة التفريق ونحوه، فمن فضل الله تعالى ان أعمال السحر قد لا تؤثر سلباً على المراد ايذاؤه بالسحر.

الثانية : لا يكون التفريق بين الزوجين ضرراًَ محضاً على نحو الدوام فقد يكون فيه ضرر وقد يكون فيه ضرر ونفع وهذا القسم ينشطر الى ثلاثة اقسام:

الأول: الضرر فيه اكثر من النفع.

الثاني: تساوي الضرر والنفع.

الثالث: رجحان النفع.

الثالثة : فيه نفع محض كما يدل عليه وعلى وجود نفع فيه في الجملة عمومات قوله تعالى[وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ]([198]).

وظاهر الآية إن السحر يؤدي الى الضرر المحض أو الراجح وان التفريق بين الزوجين أحد أهم مصاديقه وموارد الإبتلاء به، ولا ينحصر السبب بتوجه الشياطين وجنودهم بالسحر اليه للغايات الشريرة وتحصيل النتائج المبتغاة منه، انما هو باب يسهل طرو التخيلات فيه واسباب الحسد وغيرة احد الزوجين على الآخر وتفكك روابط الزوجية وحقوقها وواجباتها وإستحداث همّ وكدورة للأسرة وهو مناسبة لسرعة تصديق الأوهام.

ويشمل عموم لفظ[أَحَدٍ] الأولاد والأجيال اللاحقة كما يشمل الزوجين والذي يمت اليهما بنسب او سبب.

وقال الرازي في احد وجهين للآية: (ان هذا التفريق انما يكون بان يعتقد ان ذلك السحر مؤثر في هذا التفريق فيصير كافراً، واذا صار كافراً بانت منه امرأته فيحصل تفرق بينهما)([199])، ونشكل عليه بأن الآية أعم لوجوه:

الأول : هذا الوجه مخالف لظاهر الآية، فالآية تفيد الإثنيينة فاعل متعلم، وقابل متضرر، والذي يُفرق غير الذي يقع بينهما التفريق.

الثاني : إعتقاد تأثير السحر في التفريق لا يفيد على إطلاقه النعت بالكفر بالمعنى الإصطلاحي الذي يكون سبباً للتفريق.

الثالث : تذكر الآية احوال ملة وامة سابقة للإسلام، ولم يثبت في ملتهم ان الذي يعتقد تأثير السحر او الكفر يفرق بينه وبين زوجه.

الرابع : التفريق المقصود في الآية أعم من الطلاق والفسخ ونحوهما، فقد يكون بمراتب ادنى كنوع فتنة فلا يحتاج في اسبابه الى الكفر والجحود.

الخامس : الباء في [بِهِ] للإستعانة أي بما يتعلمون من السحر من غير واسطة، والوجه المذكور يجعله واسطة، والإنتقال اليه يحتاج الى دليل.

أي ان الذين يتعلمون السحر يقومون بتوظيفه بما هو أعم في موضوعه من التفريق بين الزوجين الذي ورد من باب الفرد الغالب والشائع والحال الرخو الذي تظهر عليه آثار السحر بسهولة، أو بالعرض والإتفاق ولإحتمال ان التفريق على فرض نفاذ السحر وتأثيره لا يؤدي مطلقاً الى الإضرار بكل من الزوجين، وللتوكيد على عدم الملازمة بين السحر والتأثير في الواقع.

قوله تعالى [إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ]

آية اعجازية مباركة ورحمة وعز وأمل للمؤمنين، اذ ان البدع الخبيثة والأهواء الفاسدة والمسائل الوهمية التي لاحقيقة لها والخيالات الواهية التي لا وجود لها قد تجد لها وقعاً في نفوس الناس واثراً في قلوبهم، ولو كان الفعل راجعاً الى العبد وارادته لوقع كثير من الناس في الفتنة والهاوية ولكانت تلك الخيالات والزخرفة مزلة للأقدام.

ولكن حركة وافعال الموجودات صادرة من مشيئة الله تعالى ومنبعثة من قدرته ان شاء خلى بين العبد وما يتعرض له او استدرجه وابتلاه وامتحنه، فحينما يعملون السحر لا ينفذ اثره على نحو السالبة الكلية بل يتوقف نفوذه على اذنه تعالى وارادته، فاذا أذن بالتأثير واراده في منازل الإستحقاق والإبتلاء مضى السحر في القابل، وان لم يأذن الله سبحانه فلا اثر لفعل السحرة.

وتظهر الآية ان الموجودات تسير بقدرة ونظام واتقان وأنها لا تخرج عن قدرة ومشيئة الباري تعالى وارادته ولا تترك حركتها وما يجري عليها من الحوادث لأقطاب الكفر والفساد والعبث بالناس ومعتقداتهم، فلابد من وجود مسلمين وتابعين للأنبياء مستعدين لتلقي علوم الشريعة والعمل بأحكامها.

ومن إعجاز الآية بيان فضل الله تعالى على الناس وهو ان الضرر لا يصل بالضرورة اليهم جماعات وافراداً، والشواهد عليه كثيرة، والآيات القرآنية تدل على حفظه تعالى للعبد ودفع البلاء عنه الى حين الأجل عندئذ يخلي بينه وبين الأسباب، وفي التنزيل[إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ]([200]).

فمن فضل الله تعالى ان جعل افراداً من البشر يعيشون بفيض رحمته تتغشاهم واقية من عنده تعتبر شاهداً على قهره وعظيم سلطانه وفعلاً خارجياً تتجلى فيه افاضات الباري وتعلق الأسباب القصوى بارادته وعدم اطلاق يد الجهالة ليكونوا اسوة وموعظة ودعوة عملية للإيمان والإقرار بخشوع لجبروته تعالى، وفيه آية أخرى وهي ان الأرض لا تخلو من الدعاة الى التوحيد الممنوعين من نزغ الشيطان.

بحث كلامي

في الآية ابطال لأوهام المنكرين للتوحيد والسائرين في طرق الكفر الذين لم يقروا بأن الخير والشر كله بقضاء الله وأمره، والخير هو الأصل وتتعلق المشيئة به بالذات، اما الشر فبالعرض وان الذي يصدر من الإنسان وما ينفعل به ومطلق الحوادث والأفعال والتغيرات الكونية وأوانها ومتعلقها انما هي مقدرة بارادته تعالى، والأدلة النقلية والشواهد التي تثبت ذلك وتؤكده كثيرة وظاهرة ومتيسرة لكل انسان وفي كل زمان ومكان.

ومن إعجاز الآية انها تنفي قول المجبرة والمفوضة معاً، تنفي تكليف العبد بالمحال وجبره على الأفعال لعلم الله بعواقب الأمور وما تؤول إليه الأحوال، وفيها رد على الذين قالوا باستقلال العبد في افعاله، فالتدارك الملكوتي لأفعال العبد يتحصل في مراحل سابقة ومقارنة ولاحقة له، اما السابقة فهي بعث الأنبياء وانزال الكتب السماوية ووجود سلف صالح ودروس الموعظة والإنذار، وهذه الآية تدل على وجود أمر إضافي اعتباري عظيم وهو وجود ملائكة في الأرض واحكام تنزل عليهم لمصلحة الإنسان الدنيوية والأخروية.

واما المقارن فهو استصحاب الأسباب المتقدمة اعلاه حضوراً واثراً، الى جانب الإنذارات والتوجيه والتنبيه، ومنها ما ورد في قوله تعالى [وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ].

ومن اللاحقة ايضاً الحيلولة دون ترتب الأثر على الفعل، سواء كان العبد فاعلاً او قابلاً فاذن الله تعالى الوارد في الآية فرع المشيئة وتعلقها بمورد مخصوص، فلكل مكلف حكمه وما يستحقه، ومشيئة الله تعالى في إتيان الفعل وإمضائه تتغشى المراحل الثلاث. ومن الأسباب اعلاه ما يكون سابقاً ومقارناً ولاحقاً بالذات وبالعرض ويكون مباشراً او بالواسطة.

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام(ان مما أوحي الى موسى عليه السلام وأنزل عليه في التوراة: اني أنا الله لا إله الا أنا، خلقت الخلق وخلقت الخير وأجريته على يدي من أحب، فطوبى لمن أجريته على يديه، وأنا الله لا إله الا أنا، خلقت الخلق وخلقت الشر وأجريته على يدي من أريده، فويل لمن أجريته على يديه)([201]).

وفي الخبر عنه عليه السلام: لا يكون شيء في الأرض و لا في السماء الا بهذه الخصال السبع بمشيئة، وارادة، وقدر، وقضاء، واذن، وكتاب، وأجل، فمن زعم انه يقدر على نقض واحدة فقد كفر)([202]).

قوله تعالى [وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ  ولاَ يَنفَعُهُمْ].

من أسماء الله تعالى النافع وهو الذي يوصل الخير والنفع الى من يشاء من خلقه وهو سبحانه خالق النفع والضرر، والخير والشر.

والنفع الخير وما يتوصل به الإنسان الى غيره يقال نفعني الشيء نفعاً فهو نافع، وقيل الضر – بالضم – الضرر في النفس من مرض وهزال – وبالفتح – الضرر من كل شيء، وتحمل الآية على المعنى الأعم لعدم التقييد وعدم ثبوت التفصيل اعلاه وللتداخل بين وجوه الضرر البدنية والمالية ونحوها و المراتب البرزخية بينها، ومنها الآلام النفسية من الضيق والإنقباض والجزع.

والطريقية هنا مركبة فلا تنحصر بالتعلم بل تشمل موضوع التعلم، ويتخذ التعلم وموضوعه طريقاً للضرر والأذى وهذا التعدد الطريقي والإمتداد الزماني والإختلاف في الماهية والتبدل في الكيفية مناسبة وفرصة للتدارك والإلتفات الى العواقب.

وهو ايضاً حجة عليهم فيما يقدمون عليه وبيان لعدل الله تعالى وامهاله وعدم ظلمه للناس، وتدل على ان القدوة واختيار الفعل والتمكن منه متيسر للإنسان وانه يستطيع توظيف حواسه وجوارحه كيف يشاء سواء في طريق الخير والنفع او طريق الشر والأذى، واللطف يساعده على اختيار الأول وفيها رد على القدرية.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لُعنت القدرية على لسان سبعين نبياً، قيل: ومن القدرية يا رسول الله؟ قال: قوم يزعمون ان الله سبحانه قدر عليهم المعاصي وعذبهم عليها)([203]).

وهذا الجزء من الآية يبين قبح توظيف التعلم والكسب، فالأول يتعلق بالإضرار بالآخرين كما في التفريق بين الزوجين وبث روح الخصومة والعداوة والفتنة بين الناس، وهذا الوجه يتعلق بالأذى الذي يجلبونه على انفسهم من تعلم السحر، وهو غير الأذى الذي يلحقهم بالتسبيب بأذى الآخرين، وإضرارهم بانفسهم لا ينحصر بالدنيا بل يشمل ترتب العقاب والإلتقاء مع الشياطين في العذاب في الآخرة.

وكما إن في الآية توبيخاً وانذاراً لهم واخباراً عما ينتظرهم من العذاب الأليم، فإن وفيها موعظة وعبرة للمؤمنين وحثاً لهم على عدم توظيف ما يكتسبونه من العلوم في الأذى وجلب الضر وهي دعوة للناس لإجتناب السحر والشعوذة. 

وفي الآية إخبار لهم واعانة لهم بالإطلاع على قصص الأمم السابقة وعلة تخلفهم وعجزهم عن تحمل مسؤوليات الأمانة، أي انها في مفهومها درس في كيفية حمل الأمانة والإلتزام بأوامر الشريعة واجتناب المناهي وعدم التفريط بالعلم، لاسيما وان الآية تشير الى حقيقة بالغة الأهمية وهي ان افراداً من العلم تكون ذات وجهين، الأصل فيها النفع اما الشر فيأتيها بالعرض، وان العلم قد يكون وبالاً على صاحبه.

فان قلت إذا كان في العلم ضرر وأذى عليهم فلماذا علّمهم الملكان؟ قلنا: ان نزول الملكين آية في الأرض لا تنحصر منافعها في الحاضرين زمن النزول، واذا حجب فريق منهم النفع عن أنفسهم فإن غيرهم ممن يأتي من بعدهم سيأخذ العلم منقحاً وخالياً من الشوائب التي لحقت به.

وقد تقدم ان نزولهما حجة ولا يمنع من قيامها عدم إنقياد فريق من الناس لها والإيمان بها، ولكن قيامهما بالتعليم لم يمنع الناس من التمادي والتعدي وهذا التعدي لم يمنع من توظيف طائفة وفريق من الناس هذا التعلم للخير والصلاح والثبات على الإيمان والتصديق بالنبوة والتنزيل.

ومن تمام الحجة ان يكون هناك من يؤمن بها وان كان على نحو الموجبة الجزئية والأفراد المعدودين، وان الذم جاء متعلقاً بالأعم الغالب، قال تعالى [وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ]([204]).

وما ورد في الحديث القدسي: (خلقت الخير واجريته على يدي من احب، وخلقت الشر واجريته على يدي من اريده)، فالمراد من الخلق التقدير في عالم الأمر، والنقش في اللوح المحفوظ، لا خلق تكوين وهو وجود الخير و الشر في الخارج وفي افعال العباد، ولا غرابة في ذلك اذ ان كل ما عداه سبحانه ممكن، وكل ممكن يخرج من العدم الى الوجود ويحتاج الى تقديره سبحانه وتصويره.

وعن جابر أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: اللهم إني أسألك علما نافعا وأعوذ بك من علم لا ينفع)([205]).

وعن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن نفس لا تشبع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعوة لا يستجاب لها)([206])، وفي بعض النصوص ومن دعاء لا يسمع.

قوله تعالى [وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ]

تدل الآية على تمام الحجة على اولئك الذين اتخذوا ما تعلموه طريقاً للأذى والغدر بالنفس والغير، لم يكن تعلمهم عن جهل او قصور، بل ركبوا المعصية عن قصد ونية واستعملوا العلم للسحر وحاولوا جلب النفع بواسطته وهو نوع ضلالة مسبوقة بالمعرفة، قال تعالى [اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ]([207]).

وهذا العلم جاء من أسباب متعددة منها قول الملكين [وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ  ]، ومنها توالي بعثة الأنبياء، ومنها جعل الله ما عندهم من العقل والقدرة على التمييز الى جانب وجود الأنبياء وبقايا شرائع الماضي منهم.

والخلاق: الحظ والنصيب من الخير، والآية توكيد للخسارة الأخروية بتركهم التوراة وما فيها من الأوامر والنواهي، واتباعهم الشياطين واقدامهم على السحر مما يحرمهم من درجات الآخرة، ومنازل السعادة الأبدية في دار الجنان، فكما ان الأعمال في الدنيا على طرفي نقيض، صالحات وسيئات، كذلك في الآخرة ثواب وعقاب على نحو اتباع المعلول لعلته، والمسبب لسببه.

وفي الآية دلالة على علمهم واقرارهم بالحياة الآخرة وما فيها من الحساب، وعلى بقاء شطر من الأحكام والمغيبات التي جاء بها الأنبياء السابقون والمعاصرون لهم.

وما دام الحشر عاماً وجامعاً للناس من غير استثناء فان ميزان الأعمال لا ترجح فيه لفاعل القبيح ومريد الشر الا الكفة التي تقوده الى النار من غير رجاء شفاعة او تدارك عمل.

وفي تفسير قوله تعالى [مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ] ورد في العيون عن الإمام الصادق عليه السلام انه قال: لأنهم يعتقدون ان لا آخرة، فانهم يعتقدون انها إذا لم تكن آخرة فلا خلاق لهم أي لا نصيب لهم في دار بعد الدنيا، فهم مع كفرهم لا خلاق لهم فيها.

وفي الآية مدح للمسلمين وإشارة الى اهليتهم لخلافة الأرض وتلقي العلوم الشرعية وتعاهدها، لقد علموا وعملوا بما علموا، بعد ان علم غيرهم وعمل بخلاف ما علم.

ومادة (شرى) وردت في القرآن خمساً وعشرين مرة جاءت جميعها بالمعنى العقائدي وتتعلق بالدار الآخرة في الجملة باستثناء آيتين في سورة يوسف قوله تعالى [وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ  ]([208])، وقوله تعالى [وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ]([209])، وحتى هذا الشراء يتعلق بذات الموضوع ولكن بالواسطة.

و(قد) أداة تدخل على الفعل الماضي والمضارع، والمشهور التفصيل وأنها تكون مع الفعل الماضي حرف تحقيق، ومع الفعل المضارع حرف تأكيد، وقد يكون العكس مما يدل على السعة والمندوحة في إستعمال (قد) والتشابه في وظيفتها سواءكان الفعل ماضياً أومضارعاً .

 وعن القرطبي : مع الماضي تكون حرف تحقيق، ومع المضارع حرف تأكيد) وقال الزجاجي: قد: معناه التأكيد، وقيل التقريب إذا دخل على الماضي، ومعناه التحقيق مع المضارع، قال الخليل: هي لقوم يتوقعون أمراً، فيقال لهم: قد كان ذلك([210])، ودخلت اللام على (قد) في هذه الآية للتأكيد، وثبوت الحجة وللموعظة والعبرة.

قوله تعالى [وَلَبِئْسَ مَا شَروْا  بِهِ  أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]

بئس كلمة ذم كما ان نعم كلمة مدح، وورود الذم الصريح في القرآن لفعلهم يدل على عظيم الذنب ويكون إخباراً على ان فعل السحر ونحوه جعلهم يخسرون آخرتهم.

ونوقش في قوله تعالى [وَلَقَدْ عَلِمُوا] ثم نفيه عنهم بقوله تعالى [لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]، والوجوه التي قيلت فيه نذكرها إختصاراً:

الأول : إن الذين علموا غير الذين لم يعلموا، وبه قال الأخفش وقطرب.

الثاني : علموا ما لهم في الآخرة من خلاق، وجهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة.

الثالث : على فرض القوم واحد والمعلوم واحد فهم لم ينتفعوا بعلمهم بل اعرضوا عنه فصار ذلك العلم كالعدم، قاله الرازي([211]).

والأول بعيد لوحدة الموضوع في الآية وظاهرها، اما الثالث فالقوم واحد ليس على سبيل الفرض بل الظاهر والأقوى، كما ان المعلوم ليس بواحد بل متعدد.

والعلم الأول وهو [وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْترَاهُ..] لم يكن كالعدم بل انه حاضر أمام أعينهم وفي أنفسهم بعرض واحد مع العلم الثاني المنفي بقوله تعالى [لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] لتكون الحجة قائمة وتامة عليهم.

والعلم الأول يتضمن الشراء لفعل ضلالة وهو السحر وما فيه من الضرر.

اما العلم الثاني المنفي عنهم فيتعلق ببيعهم لأنفسهم، لأن اشترى تأتي بمعنى باع وبمعنى ابتاع وهو هنا مستعار اذ لا معاوضة، ويدل على الإستبدال والحب لأن الشراء فيما يحبه المشتري ولأن وجوه التجارة راجعة الى الإستبدال، والعرب تطلق على كل ما إستبدال شيء بشيء لفظ الشراء مجازاً.

فهم قد اشتروا السحر وهم يعلمون انه لا ينفعهم في الآخرة، وباعوا انفسهم والقوها في العذاب الآجل بكسب زهيد، أي مع علمهم بان الكفر والسحر والظلم امور ليس من نفع ونصيب لها في الآخرة لم يعلموا خساسة العوض الذي باعوا به انفسهم، قال تعالى [وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]([212]).

وفي الآية حث على التفقه في علوم الآخرة واحوال الحساب والحشر.

ويحتمل قوله تعالى [لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] وجهين:

الأول: إرادة العلم مقابل الجهل وكأنه جزء من جواب (لو) الواردة في قوله تعالى [وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا].

الثاني: تقدير محذوف جواب (لو).

ولا تعارض بين الوجهين، وفيه لطف من عند الله ببني إسرائيل، إذ أن الآية تنسب إتباعهم للشياطين في عمل السحر، ورجاء النفع منه إلى الجهالة والغرر، والغشاوة التي يسببها اللهث وراء الخيال والوهم والزيف.

ومن مصاديق الآية وجوه:

الأول: لوكانوا يعلمون أن إتباع ما تتلو الشياطين على ملك سليمان خسارة في النشأتين .

وأخرج الحاكم عن ابن عباس إنه قال لرجل عنده: أدن مني أحدثك عن الأنبياء المذكورين في كتاب الله أحدثك عن آدم كان حراثاً، وعن نوح كان نجاراً، وعن إدريس كان خياطاً، وعن داود كان زراداً، وعن موسى كان راعياً، وعن إبراهيم كان زراعاً عظيم الضيافة، وعن شعيب كان راعياً، وعن لوط كان زراعاً، وعن صالح كان تاجراً، وعن سليمان كان ولي الملك، ويصوم من السهر ستّة أيام في أوله، وثلاثة في وسطه، وثلاثة في آخره، وكان له تسعمائة سرية، وثلاثمائة مهرية، وأحدثك عن ابن العذراء البتول عيسى إنه كان لا يخبىء شيئاً لغد، ويقول: الذي غداني سوف يعشيني والذي غشاني سوف يغدّيني، يعبد الله ليلته كلها، وهو بالنهار يسبح ويصوم الدهر ويقوم الليل كله)([213]).

الثاني: لوكانوا يعلمون أن الأمور كلها بيد الله عز وجل، وأنه سبحانه جعل الدنيا دار إمتحان، ومزرعة للآخرة.

الثالث: لو كانوا يعلمون أن الإيمان والتقوى واجب على المكلفين، وفيها الثواب والجزاء الجزيل.

الرابع: مع الإيمان والتقوى يأتي العلم، ويزول الجهل.

الخامس: لو كانوا يعلمون أن الشيطان يسعى لإضلالهم، قال تعالى [يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]([214]).

(عن عمرو بن شعيب قال: إن أول حد أقيم في الإسلام لرجل أتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرق فشهدوا عليه، فأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقطع، فلما حف الرجل نظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كأنما سفى فيه الرماد، فقالوا: يا رسول الله، كأنه اشتد عليك قطع هذا!.. قال: وما يمنعني وأنتم أعون للشيطان على أخيكم! قالوا: فأرسله قال: فهلا قبل أن تأتوني به، إن الإمام إذا أتى بحد لم يسغ له أن يعطله)([215]).

السادس: لوكانوا يعلمون بوجوب التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من تقوى الله، للأوامر الإلهية بلزوم التصديق بنبوته وإتباعه ونصرته.

السابع: لوكانوا يعلمون بوجوب إتقاء السحر والكفر والإضرار بالناس والتفريق بين الأزواج.

بحث بلاغي

لقد تنزه القرآن عن إصطلاح القافية المتداولة في الشعر وسمى عن فنون صناعته مع انه واجهة أدبية رفيعة، وسميت القوافي لأن الشاعر يتبع بعضها ببعض في الشعر، وهو اصطلاح خاص بالشعر وجزء من القصيدة وهي مقصودة للشاعر بذاتها، والقرآن خال من الشعر واوزانه كما يمتنع استعمال القافية في القرآن.

اما إصطلاح الفاصلة الذي يطلق على رأس الآية القرآنية، فلا يصح في الشعر، فالنسبة بين الفاصلة والقافية عموم وخصوص من وجه، مادة الإلتقاء نظم الخاتمة، ومادة الإفتراق اختصاص القافية بالشعر وتنزه القرآن عنها، وإطلاق إصطلاح الفواصل على أواخر الآيات.

وفي الشعر يقبح حصول الإيطاء وهو في الإصطلاح تكرار الشاعر لكلمة تكون قافية لأكثر من بيت في القصيدة وفيه مناسبة لإقتباس المواعظ والعبر، اما في القرآن فقد تتكرر ذات الكلمة في فواصل الآيات، كما في تكرار نفي العلم عنهم في هذه الآية والآيتين السابقتين [كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] [لَوْ كَانوا يَعْلَمُونَ] لتكون للتكرار خصوصية واشراقة وسر ومعنى متجدد بلحاظ المفهوم والمعنى السياقي والتوكيد ترغيباً او ترهيباً.

قوله تعالى [وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلمُونَ] الآية 103.

الإعراب واللغة

ولو: الواو عاطفة، لو: حرف شرط غير جازم، وتفيد إنتفاء الشيء لإنتفاء غيره، وقيل أنها لا تفيد إلا الربط والإخبار، والحق أنها تدل على المعنى الأول، أما الثاني وهو الربط فلا يأتي إلا مع القرينة، وعرّفها النحويون بانها حرف إمتناع لإمتناع.

وقال سيبويه: انها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره)([216]).

آمنوا: فعل ماض وفاعل، والجملة الفعلية خبر (أن) وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر مبتدأ خبره محذوف والتقدير: ولو إيمانهم ثابت، واتقوا: عطف على آمنوا.

لمثوبة: اللام للإبتداء وعلى القول بأن (لو) شرطية تكون واقعة في جواب لو، ومثوبة: مبتدأ، من عند: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لمثوبة، اسم الجلالة: مضاف إليه مجرور بالكسرة، خير: خبر مثوبة.

لو: حرف شرط، كانوا فعل ماض ناقص واسمها، يعلمون: فعل مضارع، مرفوع ببوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو: فاعل.

والمثوبة: الثواب الذي يعني في الإصطلاح النفع المستحق المقارن للتعظيم والإجلال.

وقرأ قتادة في الشواذ لمثوبة بسكون التاء، وهي لغة في المثوبة.

في سياق الآيات

في الآية صيغة من صيغ التوبيخ وهي إظهار الحسرة والخسارة العظيمة التي أصابتهم بتركهم الإيمان وإنشغالهم بأسباب الفتنة.

وبعدما جاءت الآية السابقة بذكر إتباعهم ما تتلوه الشياطين على ملك سليمان بصيغة الذم، جاءت هذه الآية لبيان طريق السلامة والأمن وما فيه النفع وهو الإيمان بالنبوة، وإجتناب السحر والمعصية مطلقاً.

ليكون الإيمان حرزاً يوم القيامة، وواقية من العذاب، ومن الإعجاز في نظم الآيات إختتام هذه الآية والآية السابقة بقوله تعالى [لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] وهو أمر نادر في القرآن أن تأتي خاتمة آيتين متعاقبتين بذات الكلمات والألفاظ وإن كان المعنى متبايناً.

وجاءت الآية قبل السابقة بالإخبار عن مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً من عند الله، ومصدقاً للكتب السماوية السابقة مما يدل على ان الإيمان قريب منهم، وان إتباع أسباب الكفر والجحود وما تتلو الشياطين جاء بسبب إعراضهم عن الرسالة وتركهم كتاب الله، وعدم عملهم بأحكامه، وفيه حجة على الناس بان الله تعالى لم يتركهم وشأنهم، ولم يخلِ بينهم وبين الشياطين.

 فالنبوة والكتب السماوية واقية من الفتنة، وفيهما ترغيب بالجنة، وتخويف من النار.

إن إتباع الشياطين في الفتنة والسحر غشاوة وحجاب من رؤية وسماع الآيات والتدبر في معانيها، فلذا جاءت هذه الآية بحرف الإمتناع “لو” ولكنها لا تنفي عنهم التوبة والإنابة مطلقاً لأنها جاءت بصيغة الزمن الماضي والإخبار بأنهم ليسوا بمؤمنين ولن تكون الجنة مثوى لهم إلا أن يؤمنوا بالنبوة والتنزيل.

 وهذا من إعجاز آيات القرآن بأن تأتي لغة اللوم والذم لتتضمن تعليماً وإرشاداً الى أسباب الهداية، وطرق الرشاد ويتجلى التعليم والرشاد في آيات القرآن، وما فيها من البيان وصيغ البرهان كما جاء قبل ثلاث آيات [وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ] ([217]).

إن إنتقال هذه الآية من لغة اللوم والتبكيت إلى بيان سبيل النجاة آية إعجازية في سياق الآيات، وفيه وجوه:

الأول : توكيد لحقيقة وهي مجيء اللوم التوبيخ في القرآن.

الثاني : الرحمة والتخفيف عن المسلمين والناس.

الثالث : إصلاح الذين هم موضوع اللوم في الآيات السابقة.

الرابع : الآية دعوة سماوية للتخلص من أسباب اللوم.

الخامس : بيان قانون من أسرار التنزيل وهو أن القرآن جاء لإنقاذ الناس من براثن الضلالة والشك، وواقية من إتباع الشياطين وأسباب الغواية والضلالة.

 ومن الآيات في رحمة الله أن جعل باب التوبة مفتوحاً لكل إنسان وفي مختلف سني  عمره، وتلاحقه هذه الآيات بما فيها من اللوم والندب إلى الإيمان ليبادر إلى التوبة والصلاح.

إعجاز الآية

تدعو الآية إلى الإيمان التوبة والهداية والرشاد ببيان الضلالة في تركها، وفيها وجوه عديدة من البلاغة، وظاهرها بيان مقارن بين إتباع الشياطين وما فيه من اذى للنفس والغير، وبين الإيمان وما فيه من النفع والفائدة في الدنيا والآخرة.

والتباين بين أهل الإيمان وأهل الضلالة وان إختيار الإيمان والتقوى شاهد على العلم قال تعالى [هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ]([218])، ومن إعجاز الآية الجمع بين الإيمان والتقوى لنزول الثواب وتلقي النفع والخير المحض في الدنيا والآخرة، بلحاظ أن الإيمان إعتقاد، والتقوى قول وعمل ومرآة للإيمان.

وقيدت الآية المثوبة بأنها(من عند الله) لبيان قبح السحر وعدم إنتفاع الساحر ومن يلجأ اليه ويستغيث به وخسارتها في الدنيا والآخرة، ولتوكيد حقيقة وهي الإطلاق الموضوعي والزماني للثواب الإلهي، إذ يتغشى عالم الدنيا والبرزخ والآخرة، وهو أمر لا يقدر عليه الا الله عز وجل.

ويمكن أن نسمي هذه الآية آية [وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا] ومع ورود لفظ آمنوا في القرآن مائتين وثمانيا وخمسين مرة وفي وجوه ومضامين متعددة، فانه لم يرد لفظ “إنهم آمنوا” إلا في هذه الآية.

الآية سلاح

تحث الآية على دعوة الناس إلى الإيمان ونبذ الفتنة والكفر والجحود بعد ظهور أضرارها النوعية العامة.

وتجعل الآية المسلمين يتمسكون بأحكام الدين، ويحرصون على العبادات ويظهرون معاني الإيمان على الألسنة والجوارح وفي عالم الأفعال، ويتسابقون في مسالك التقوى، ويتنزهون عن المعاصي والسيئات لأن الإيمان والتقوى هما السبيل لنيل رضا الله، والفوز بالسعادة الأبدية.

ولما جاءت الآية السابقة بذكر لجوء فريق من بني إسرائيل إلى السحر وتعلمه جاءت هذه الآية لجذبهم والناس جميعاً إلى أمور:

الأول: التدبر في آيات الله.

الثاني: بيان الحاجة إلى عبادة الله عز وجل.

الثالث: إقتران التقوى والخشية من الله بالإيمان.

الرابع: وجوب إجتناب المعاصي والسيئات ومنها السحر وما يتفرع عنه.

الخامس : الترغيب بالإيمان وبيان منافعه , وفي التنزيل[وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ]([219]).

السادس: إحتراز المسلمين من السحر، والنفرة منه ومن أهله.

وهذه الإحتراز من خصائص المسلمين وإختيارهم من بين الأمم لمقامات العز، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([220]).

موضوع النزول

الترغيب بالتوبة والكف عن السحر والمعصية والوعيد للسحرة الموجودين في أيام نزول القرآن والإخبار عن إمكان إستبانة طريق الهدى حتى عند مخالطة الكفر والمعصية.

وفي الحديث: “لابن آدم لمة من الملك ولمة من شيطان”، واللمة الزورة والحضرة والنزول به، ويدخل موضوع الآية بعمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]([221]).

ويمكن إستنباط مسائل عديدة من الآية منها:

الأولى : الترغيب والدعوة للإيمان ومضامين الهدى.

الثانية : الترهيب من إتيان الذنوب وإتباع الشيطان.

الثالثة : الآية علاج وشفاء لمن إستمع وأبصر، وفيها تصد وتحذير للكافرين.

الرابعة : فيها إشارة إلى الخسران المبين باتيان السحر وإرتكاب المعاصي.

الخامسة : تحمل الآية في مفهومها البشارة للمسلمين بالثواب الجزيل في الآخرة.

السادسة : تتضمن الآية ثناء على من آمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإختيار طريق الإيمان والصلاح.

السابعة : الآية دعوة للمسلمين لبلوغ مراتب التقوى.

الثامنة : فيه الآية ضرب الله عز وجل مثلاً بالمؤمنين وما أعد لهم من الثواب الجزيل.

التاسعة : فيها إخبار عن وجود فريقين، فريق يعمل السيئات وافراده يعلمون انهم في حضيرة الكفر والجحود، وفريق يقف بصمود وشموخ معلناً إيمانه، وساعياً إلى ثوابه الذي أعده الله عز وجل.

العاشرة : الذي أدركه المؤمنون في عالم الشهادة وأسباب عالم الغيب والملكوت ظل محجوباً عن الكافرين، ولكن الحجب ليست مؤبدة ولا تعتبر عرضاً لازماً كثيفاً فضلاً منه تعالى في دوام الحجة وقرب البينة والآية ممن يريد الاستبصار قال تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ([222]).

الحادية عشرة : فيها ذم للذي يترك ويهجر العلم كآلة ووسيلة للنجاة في الدارين، ومدح للمسلمين على التسلح بالعلم الذي يمنع النفس من التجرئ على فعل القبيح.

مفهوم الآية

تبين الآية عظيم منافع الإيمان في الدارين الأمر الذين يدل على اقتران الخسارة بالكفر والضلالة، وإذا كانت الدنيا دار إمتحان وإختبار فان الآخرة دار الجزاء، وبما أن الكفار حرموا انفسهم من الأجر والثواب فلا ينتظرهم إلا النار بتعلم فنون السحر ومسالك الضلالة وإغوائهم للآخرين وإضرارهم بهم.

وتطرح الآية في مفهومها تساؤلاً وهو ما هي المكاسب الخاصة من تعلم السحر وآثار الفتنة وإختيار الكفر مطلقاً، وتتضمن الجواب على هذا التساؤل بمفهوم منافع الإيمان والثواب العظيم في إختياره طريقاً ومبدأ وفعلاً.

وفي الآية ذم وتوبيخ للكافرين وأتباع الشيطان والغواية بوصفهم بالجهالة وعدم العلم، ومن مفاهيم هذا الذم مدح المسلمين والمسلمات من وجوه:

   الأول: إختيارهم الإيمان بالرسالة دليل على العلم وعدم الجهالة، وفي التنزيل[وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا]([223]).

الثاني: الثناء عليهم للتمسك بالإسلام وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بالرسالات السماوية وبشارتهم بالجنة والجزاء الحسن وفي هذه الدعوة والبشارة حصانة عقائدية لهم ورادع عن تتبع آثار مدرسة السحر لذا تجد المسلمين اكثر الأمم محاربة للسحر والسحرة في وقت كانت الأمم الأخرى تولي اهتماماً خاصاً به، ويقرب اغلب ملوكها السحرة ويلجأون اليهم في بعض شؤونهم وقراءة المستقبل والطالع.

وفي الآية مسائل:

الأولى: مع قلة عدد كلمات هذه الآية، تكرر فيها لفظ “لو”مرتين، وفيه وجوه:

الأول: جاء اللفظان في ذم فريق من أهل الكتاب تركوا الكتاب وأعرضوا عن الآيات.

الثاني: تؤكد الآية نفي الإيمان والعلم عن الذين يتبعون الشياطين في إغوائهم.

الثالث: الملازمة بين عدم الإيمان وعدم العلم.

الرابع: مجئ اللفظين بصيغة الذم والتبكيت.

الخامس: بيان قبح السحر وتعلمه ومزاولته.

الثانية: حث أهل الكتاب على الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثالثة: موضوعية الخشية من الله وإجتناب المعاصي في بلوغ المراتب العالية، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]([224]).

الرابعة: ضرورة السعي لنيل الثواب من عند الله، وحاجة الإنسان لهذا الثواب، مما يدل على لزوم بذل الوسع لنيله وإحرازه بالإيمان والتقوى حصراً.

الخامسة: جاءت الآية بقوله تعالى [مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] لإفادة الإطلاق والعموم، وإرادة الدنيا والآخرة، وان الخير كله بيد الله، قال تعالى [وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى] ([225]).

السادسة: ذم الذين يقتدون بشياطين الجن الذين كانوا يكذبون على سليمان وملكه وحكمه.

السابعة: تعدد وجوه وصيغ ذمهم بلحاظ حذف جواب (لو) وما فيه من معاني التعدد والكثرة في الجواب بلحاظ مناسبة الآيات والتكاليف، كما سيأتي في التفسير.

الآية لطف

جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية، وفيها إخبار عن لزوم عدم التخلف عن الإيمان، والأضرار الدنيوية والأخروية لهذا التخلف، لتبعث في النفس الإنسانية الشوق إلى الإيمان، وتجعل الناس يدركون أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة ونعمة عليهم جميعاً، وعلى أهل الكتاب خاصة.

وفي الترغيب بالإيمان الذي ورد في الآية مسائل:

الأولى : إنه لغة في التأديب ودعوة للإستقامة.

الثانية : الحث على التدارك والإنابة.

الثالثة : موعظة للناس كافة.

الرابعة : تحذير من البقاء في منازل الكفر والجحود.

والآية لطف بالمسلمين لحسن إختيارهم ومبادرتهم إلى التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم تخلفهم عن نصرته، وفيها دعوة للناس للإقتداء بهم، ليأتهم الثواب على إسلامهم وإقتداء الآخرين بهم، كما أنهم المصداق والشاهد العملي لمضامين هذه الآية.

وعن الأوزاعي في وعظه لأبي جعفر المنصور قال: حدثني مكحول، عن عطية يعني ابن بسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه فإنها نعمة من الله سيقت إليه، فإن قبلها بشكر وإلا كانت حجة عليه من الله ليزداد بها إثماً ويزداد الله بها عليه سخطة)([226]).

إفاضات الآية

تتضمن الآية وعداً كريماً بالأجر والثواب لمن يبادر إلى الإيمان، ويسعى في أداء وظائفه العبودية والعبادية، ويهجر منازل الكفر والضلالة ويعتصم بالتقوى من إغواء الشيطان، وتبعث الآية السرور في قلب المسلم وتجعله يؤدي مناسكه وعباداته برضا وأمل، وهي واقية له من أسباب الشك والريب التي يقوم بها أعداء الإسلام.

وتبين الآية الملازمة بين الإيمان والثواب، وما يحكمهما من قوانين العلة والمعلول فضلاً من الله تعالى على المسلمين، وفيها ترغيب بالإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ]([227]).

وتتضمن هذه الآية معنيين مختلفين منطوقاً ومفهوماً، وموضوعاً ولكن الغاية واحدة.

 فالمنطوق هو إنذار وتخويف ولوم للذين أصروا على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

 وأما المفهوم فهو الثناء على المسلمين لإتباعهم نهج الهدى، وصيرورتهم حجة على غيرهم من الناس، وداعية إلى الله ورسوله بألسنتهم وأفعالهم وتلاوتهم للآيات، ومنها هذه الآية الكريمة التي هي وعد كريم لهم بدخول الجنة بالإيمان والتقوى.

 ومن الفيض الإلهي في الآية أنها لم تضع الحواجز والشروط وأسباب الحصر لمن ينالون الثواب بل قيدته فقط بالإيمان والتقوى، فلو كان الناس كلهم مؤمنين لفازوا بالثواب.

 وتتجلى عظمة وسعة الثواب بنسبته إلى الله وأنه ليس من ملك أو من نبي إلا يرجو الثواب من عند الله فلا غرابة أن يفتتح القرآن ببسم الله الرحمن الرحيم، ليكون من مصاديق الرحمة فتح باب الثواب والجزاء الحسن لمن أختار الإيمان وسعى في سبل التقوى من الناس جميعاً.

وتبين الآية اللذة والمتعة بإدراك إفتقار العباد مجتمعين ومتفرقين إلى الله، وفيه دعوة للفزع إلى الإيمان والإستجارة بطاعة الله، والتعلق برجاء الثواب من عنده تعالى (وفي حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: اللهم إني أسألك إيماناً دائماً فرب إيمان غير دائم وأسألك علماً نافعاً فرب علم غير نافع).

ليفيد الجمع بين آية البحث والآية السابقة الدعوة إلى العلم والهداية والرشاد ونبذ تعلم السحر , وترك الرجوع إلى أهل السحر والكهانة والشعوذة.

الصلة بين أول وآخر الآية

بعد حرف العطف في أول الآية جاء حرف الإمتناع (لو) لتوكيد ذم إختيار إتباع السحر والسحرة، وبيان ما يجب فعله، وما فيه النفع وهو الإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتدل الآية على التناقض والتنافي بين الإيمان وتعلم السحر، وأنهما ضدان لا يجتمعان، ولم تأت الآية بالحث على الإيمان وحده بل أكدت على التقوى والخشية من الله عز وجل لأنها واقية من تعلم السحر.

فقد يؤمن إنسان بالنبوة ولكنه يرتكب المعصية بفعل السحر، طمعاً بالدنيا وان كان السحرة في حال سيئة ومرتبة لا تبتعد عن الفقر والطاقة كثيراً، وجاءت الآية للإخبار بأن التقوى حرز وواقية من السحر ومن تعلمه ومن إتباع من يزاوله سواء على المعنى بأن السحر نوع تخييل وخفة وفن، إنه خدع ومخاريق وتحويه.

وتبين الآية حاجة الناس للإسلام للتنزه من الرذائل وقبائح الأفعال وإبتدأت الآية بالحرف(لو) وأختتمت به لإرادة أنهم لم يؤمنوا لأنهم لا يعلمون ما ينعم والخير العظيم الذي يأتي مع الإيمان والتقوى، وتدل الآية في مفهومها أمور:

الأول: حرمة السحر، وقد بيناه في كتبنا الفقية.

الثاني: نيل المسلمين المراتب العالية لبلوغهم مراتب الإيمان والخشية من الله.

الثالث: أن المسلمين قوم يعلمون بحسن عاقبة الإيمان، وأنهم لم يختاروا الإيمان عن علمهم ودراية.

 ويفيد حرف العطف الواو إتصال موضوعها بالآية السابقة ، فبعد اللوم والإخبار عن الخسارة التي تترشح عن إتباع الشياطين وأسباب الغواية والتفريق بين الزوجين ، جاءت هذه الآية لبيان سبيل النجاح وطريق الفلاح والتوفيق بقوله تعالى [  وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا] ليدل الجمع بين الآيتين على حقيقة وهي أن القرآن يذم الفعل القبيح ويدعو إلى  نبذه ويأتي بالفعل الحسن ويأمر بالمبادرة اليه ويبين منافعه وتارة يأتي هذا الأمر ومنافعه صريحاً وأخرى بالدلالة التضمنية والجملة الخبرية كما هو في آية البحث .

إذ أنها ذكرت خصلتين يجب أن يتصفوا بها للنجاة في الدنيا والآخرة وهما :

الأولى : الإيمان .

الثانية : التقوى والخشية من الله عز وجل .

ويبين مجئ حرف الإمتناع (لو) أنهم لم يختاروا الإيمان والهداية ، ليكون من وظائف آية البحث هداية الناس جميعاً للايمان والإعتبار من خسارة أولئك الذين إتبعوا إغواء الشياطين ، وجاءت الآية بصيغة الجملة الإسمية (لمثوبة) والأصل فيه (لأثيبوا) وإمتناع ثبوت الإيمان لإمتناع شرطه الذي يدل عليه (لو) الإمتناعية .

ومن خصائص مجئ (خير) بصيغة التنكير والإطلاق أن الإيمان والتقوى من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، ليكون فيه ترغيب بالتقوى وتأكيد حقيقة وهي كلما زاد المسلم من فعل الصالحات تضاعفت حسناته، قال تعالى[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]([228]).

وتكرر الحرف (لو) في الآية إذ جاء أيضا في خاتمة الآية قوله تعالى [لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] للإخبار عن إمتناع بلوغهم مراتب العلم بما في الإيمان من الثواب العظيم

التفسير الذاتي

إبتدأت الآية بحرف الإمتناع(لو) لبيان تخلف الكفار وأهل الجهالة عن وظائفهم العبادية، وما يترشح عن نعمة العقل من التدبر والفهم وإدراك لزوم الإيمان والتقوى، والآية من مصاديق المدد الإلهي للناس في الحياة الدنيا، وإرشادهم إلى سبل النجاة في النشأتين، ولما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض لأنه يفسد في الأرض، وينشر القتل، أجابهم الله عز وجل بقوله[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]([229])، وجاءت هذه الآية من مصاديق هذا العلم بإصلاح الناس لسبل الهداية وجعلهم ينفرون من السحر ومن إتباع الشياطين مطلقاً، وتضمنت بيان الحسن الذاتي للإيمان، ولزوم إقترانه بالتقوى والخشية من الله عز وجل.

ومن منافع هذا الإقتران التنزه عن الشرك الظاهر والخفي والإبتعاد عن الوهم والتخييل والإستعانه بغير الله، مما لا يجلب نفعاً ولا يدفع شراً، لتصاحب الدعوة إلى الخير والصلاح الناس برهم وفاجرهم، فمن كان مؤمناً جاءت هذه الآية لتثبيت إيمانه، وجعله يحذر من السحر وأهله.

ومن كان ضالاً تحثه الآية على ترك منازل الضلالة والمعصية، والمبادرة إلى التوبة والإنابة، فإذا كان يرجو من السحر النفع فأن النفع كله في الإيمان، وإذا كان يسعى للإضرار بالناس بواسطة السحر، فأن التقوى واقية من هذا السعي والقصد إلى الإضرار بالآخرين وتحمل أوزاره، ومن مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] بقاء اللطف الإلهي والتقريب إلى سبل الطاعة والهداية مصاحباً للناس في الحياة الدنيا، ومنه هذه الآية التي تدل في منطوقها على سلامة مناهج الإيمان، وحسن عاقبة أهل التقوى والصلاح، وتدل في مفهومها على توكيد ما جاء في خاتمة الآية السابقة من إختيار أهل السحر والغواية بيع أنفسهم وتعريضها للعذاب، قال تعالى[وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ].

ومن إعجاز القرآن والشواهد على حفظه للغة العربية، وحاجتها له في علومها ومعانيها وإستدامتها أن لفظ(مثوبة) جاء مرتين في القرآن مع التباين في معناها، فجاء في هذه الآية بمعنى الجزاء الحسن، وجاء في قوله تعالى[قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ]([230]) لتوكيد الجزاء بالعقوبة ونزول العذاب بالذين غضب الله عليهم من بعض فرق الملل السابقة ليفيد الجمع بين الآيتين التحذير من تعلم السحر وإتباع أهل الغواية والضلالة.

من غايات الآية

في الآية مسائل:

الأولى:  بيان الآية قبائح أفعال فريق من أهل الكتاب مع ذكر سبيل النجاة، وإرشادهم إليه مجتمعين ومتفرقين، فمجيء الآية بصيغة الجمع لا تعني عدم نيل الذي يختار بمفرده الإيمان، ويخالف أبويه وأهله مثلاً، بل يكون حجة عليهم، خصوصاً وان الخطابات التكليفية في أصول وفروع الدين تتوجه إلى الرجل والمرأة، والأب والابن بعرض واحد.

الثانية: إنتقال الآية إلى بيان ما ينفعهم في الدنيا والآخرة بالإيمان والتقوى.

الثالثة: حث الناس جميعاً على معرفة مصاديق التقوى، والتقيد بسننها لأنها وظيفة ذاتية لكل واحد منهم، ونوع طريق لبلوغ الغايات الحميدة , قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]([231]).

الرابعة : تأكيد قانون وهو أن عدم الإيمان يؤدي إلى الحرمان من الثواب.

الخامسة: ذم البقاء في منازل الكفر والجحود.

السادسة: وصف الجاحدين بالجهالة وعدم العلم، وفيه دعوة للمسلمين لنشر مبادئ الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.

التفسير

قوله تعالى [وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا]

تبين الآية سعة رحمة الله تعالى وبقاء الإنابة والتوبة مفتوحاً للعاصين، إنها دعوة للإيمان، ويحمل الإيمان والتقوى في الآية على وجوه:

الأول : إبتداء أيام توجيه التكليف لهم.

الثاني : الإختيار في اظهار الندم والتوبة بعد المعاصي والسحر وايذاء النفس والغير.

الثالث : إرادة المعنى الأعم لهما والجامع للإيمان والتقوى.

الرابع :     إتيان المعصية وإظهار الجحود والكفر تكون التوبة ثم الرجوع إلى المعصية ثم التوبة والإيمان.

الأنسب أن الآية تشمل الوجوه الأربعة أعلاه لإطلاقات أدلة التوبة وفيض رحمته سبحانه الذي يتغشى المخلوقات، ولأن هذه الآية جاءت عهداً وإخباراً عن الثواب والجزاء الحسن عند الرجوع عن الكفر والسحر والمعصية.

   و[وَلَوْ]: حرف أمنية ولكنه يدل على إمتناع الشيء لإمتناع غيره، بينما تمنع (لولا) الشيء من أجل وقوع غيره.

وقد تأتي (لو) شرطاً لتكون تخويفاً وتشويقاً، أو وعيداً ووعداً وشرطاً لا يتم، لذا فهي في الآية اعم من ان تحمل التمني وتشبيهها ب(ليت) كما ذهب اليه بعض كبار المفسرين باعتبار أن (ليت) تفيد التمني ايضاً.

فالآية ذم لإختيارهم إتباع الشياطين وتركهم للإيمان والتقوى وعدم الإحتراز من معصية الله، وتبين الآية تحقق اسباب الإيمان وقربها منهم، وإنما تركوها بإختيارهم، والإمتناع عن الإيمان بالإختيار لا ينافي الإختيار، وجاء مثوبة على نحو الجملة الإسمية الخبرية، وفي الإسمية دلالة على الثبات والدوام، والخبرية جاءت بعد الإمضاء والإستمرار، وهي أيضاً تحمل معنى الجملة الإنشائية في الحث على الهداية ونبذ المعصية، وهي وعد كريم أي أنها تتضمن الدعوة والترغيب بالإيمان مع الوعد بالأجر والثواب.

وتدل مضامين الآية الكريمة، وصلتها بالآية السابقة على صدق نزول القرآن من وجوه:

الأول : موافقة آيات القرآن لماهية الدنيا وأنها دار إمتحان وإبتلاء.

الثاني : تقريب الناس إلى منازل الإيمان والتقوى، ببيان منافع الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحسنه الذاتي والغيري.

الثالث : بيان تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم وتجلي معاني التفضيل في القرآن ببيان قبح ما يفعله فريق منهم كما في الآيات السابقة، وترغيبهم بالإيمان وحثهم عليه.

وتحتمل الصلة بين الإيمان والتقوى وجوهاً:

الأول : الإيمان بالله والتقوى والخشية منه تعالى.

الثاني : الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتقوى من الله وطاعته.

الثالث : الإيمان بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والخشية من الله سبحانه .

والصحيح هو الثالث أعلاه لافادة الجمع وتمام الجمع وإرادة الخشية من الله.

وبين الإيمان والتقوى عموم وخصوص مطلق، فكل متق هو مؤمن، لذا قدمت الآية الإيمان , وكأنه من عطف العام على الخاص.

وتبين الآية الوظائف العبادية للإنسان بأن يجمع بين الإيمان والتقوى، وهل التصديق بالإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من التقوى، الجواب نعم إن الله عز وجل هو الذي بعثه رسولاً للناس جميعاً وأمر بإتباعه والإنقياد لأوامره , قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]([232]).

لقد أراد الله عز وجل لهؤلاء التوبة عن السحر وعن إتباع الأوهام وإغواء الشياطين، ليصلحوا أنفسهم بالعمل الصالح(وعن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام إنما التوبة العمل والرجوع عن الأمر وليست التوبة بالكلام)([233]).

وتتجلى التقوى بمصاديق ووجوه عديدة منها:

الأول: العمل الصالح، لذا جاءت الآيات بإقترانه بالإيمان في باب البشارة بالثواب الجزيل، قال تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ]([234]).

الثاني: الخشية والخوف من الله بالغيب، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]([235]).

الثالث: إجتناب المعاصي والسيئات التي نهى الله عز وجل عنها ومنها إتيان السحر.

الرابع: فعل الخيرات ونشر مفاهيم البر والإحسان ومصاديق الخير, قال تعالى [وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ] ([236]).

الخامس : حسن التوكل على الله عز وجل , قال تعالى [وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ]([237]).

السادس: إتباع مرضاة الله عز وجل.

السابع: التصديق بالأنبياء والرسل.

الثامن: الإمتناع عن التحريف والتبديل في مضامين وأحكام والكتب السماوية، وما جاءت به من البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم تصديقه وإتباعه.

وعن ابن عباس قال: كل شيء في القرآن ( لو ) فإنه لا يكون أبداً)([238]) .

 فإن قلت قد يأتي الحرف (لو) كما في قوله تعالى[لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا…]([239])، والجواب إن التمني هنا فرع الإمتناع ويحمل صفة الشرطية أيضاً ولكنه محبوب.

تفسير قوله تعالى [لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ]

لقد نفخ الله عز وجل في آدم من روحه وأهبطه الأرض ليعمر هو وذريته الأرض بالعبادة، وهذه العبادة من أهم مقومات خلافته فيها وتحتمل العبادة وكيفيتها وجوهاً:

الأول: وجوب عبادة الله، وحرمة تركها.

الثاني: العبادة أمر مستحب.

الثالث: التخيير في كيفية العبادة وهو على شعب:

الأولى: التخيير إذا كانت العبادة واجبة.

الثانية: التخيير إذا كانت العبادة مستحبة.

الثالثة: الحصر والتعيين مع الوجوب، والتخيير مع إستحباب العبادة.

الرابعة: التخيير مع وجوب العبادة، والتعيين مع إستحبابها.

الرابع: إجتماع التعيين والتخيير في العبادة.

الخامس: التعيين في كيفية العبادة.

والصحيح هو الأول والخامس أعلاه، فلا تصح البدعة في العبادة ولا التخيير، إلا مع الحكم بالتخيير كما في وجوب كفارة اليمين وترددها بين وجوه متعددة، وهي واجب بالعرض وليس بالذات، إذ أنها محدودة بين وجهين، ومع تعذرها ينتقل إلى البدل على نحو التعيين قال تعالى [فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ]([240]).

والأصل في العبادة أن تكون واجباً عينياً إلا مع الدليل على إرادة الواجب الكفائي، فالصلاة والصيام واجبان عينيان.

وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أن يكونا واجباً كفائياً بقيام فرد واحد من المسلمين بالأمر بالمعروف وتحقق الغرض وسقوطه عن الآخرين , قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]([241]).

ومن إعجاز الآية أنها لم تقل (خير لهم) بل جاءت بالإطلاق في متعلق الخير الذي يأتي جزاء من عند الله على الإيمان والتقوى، وفيه مسائل :

الأولى: إرادة نيل الخير والتوفيق والرشاد في الدنيا.

الثانية : ليس من حصر لمواضيع وميادين الثواب الإلهي.

الثالثة : الثواب الإلهي في نماء وزيادة، كما تشمله عمومات قوله تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]([242]).

الرابعة: ترشح النفع من الفعل الشخصي على الجماعة، فيأتي النفع والثواب لذرية المؤمن، ومن يقتدي به، لذا جاءت الآية بصيغة الجمع في الندب إلى الإيمان والتقوى [وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا] واللام في لمثوبة لام الإبتداء جاءت على نحو الجواب وبيان الأثر، والمثوبة والثواب والأجر نظائر.

الخامسة : في الآية وعد كريم للأجر العظيم على الإيمان والتقوى.

السادسة : إرادة الفوز بالخلود في النعيم في الآخرة، وفيه آيات عديدة، فقد جعل الله عز وجل الآخرة داراً للثواب الذي هو أعم من الجزاء الحسن فيشمل مطلق ما يعود للإنسان على نحو المكافاة , يقال تاب يتوب توباً وتواباً وإتابة ومتوبة، وجاء قوله تعالى (خير) لبيان صفة الثواب الحسن للذين آمنوا واتقوا.

وصحيح أن الآية جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن الإنشاء من وجوه:

الأول: الأمر بالإيمان لما فيه من النفع والأمر.

الثاني: الحث على التقوى والخشية من الله عز وجل.

الثالث: إقتران الإيمان بالعلم، فمع العلم وإجتناب الجهالة يكون الإيمان والتقوى ملكة ظاهرة منبسطة على الجوارح والأركان.

الرابع: تتضمن الآية الوعد الكريم من الله عز وجل، وإتباع الشياطين ليس فيه إلا الخسارة , وفي التنزيل [وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ]([243]).

والمثوبة اسم مصدر أثاب إذا أُعطي الثواب وناله العبد، وفيه ترغيب بالإيمان بأن يكون الثواب جلياً واضحاً وواصلاً للعبد.

قوله تعالى [لَوْ كَانُوا يَعْلمُونَ ]

لأن العلم ممتنع عليهم ومحجوب عنهم كذلك الإيمان والتقوى لا يدخلان قلوبهم ولا يظهران على جوارحهم، ولا يكون عدم العلم هو نفسه عدم الإيمان، لأن العلة لا تكون نفس المعلول، ولأن الشيء لا يتقدم على نفسه وللتغاير الموضوعي، وهل العلة هنا مادية ووجوب الشيء معها بالفعل، او صورية ووجوب الشيء معها بالقوة.

الجواب: انها علة مادية صورية للحاجة الى العلم في اختيار طريق الهدى والإلتزام بمناهجه، والضمير هنا عائد الى فريق , جاء من باب المثال بلحاظ التشابه في الفعل لاسيما وان القرآن يدعو الى الطاعة ونبذ المعصية عامة.

وهل العلم هنا فعلي أي انه سبب لوجود المعلوم في الخارج كما اذا تصورت أمراً وجئت به، أو إنفعالي وهو المستفاد من الأعيان الخارجية ويكون مترشحاً عن وجود الشيء كما اذا تعلقت بشيء بعد ان شاهدته او احسست به.

الجواب: كلا العلمين يصدقان على الآية، فهم بحاجة الى العلم الاتصالي ليدركوا الآيات الحسية بمنظار العقل والبصيرة ويميزوا بينها وبين السحر بعد ان نهوا عنه وعرفوا اضراره، وهو فعلي بمعنى انه كلي ناتج عن كثرة افراده الخارجية التي انبثق هو منها، لأن العلم والفهم والإدراك اسباب للإيمان.

لقد اعرضوا عن العلوم الضرورية التي يتمكن بها من اكتساب العلوم الشرعية التي اكتملت شروطها وظهرت حججها، ولم يميزوا بين الحق والباطل مع ان هذا التمييز من ثمرات العقل وفروع الإستدلال والنظر.

وتشير الآية الى نوع ملازمة تضمنية بين عدم العلم والضلالة، فهي اذن تحذير للمؤمنين من ترك العلم بوجوب الواجبات واجتناب ما نهى الله عنه والرجوع الى العقل الذي هو مناط التكليف والحاكم على الأشياء المبروزة فيه , وقد خفف الله عن الناس بالتنزيل ولزوم قبوله، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]([244]).

وفي هذه الآية وما شابهها حث للمسلمين على اعتماد العلم واتخاذه آلة وسلاحاً، وتنبيه على اكرام اهل العلم مطلقاً وتشجيع وجوه العلم المختلفة واكتساب العلوم المستحدثة وتوجيهها والإنتفاع منها وفق ملاكات الإيمان ومنازل الكمال الإنساني كمدخل للسعادة في الآخرة.

وفي الآية حذف ، والتقدير على وجوه :

الأول : لو كانوا يعلمون بالثواب العظيم على الإيمان .

الثاني : لو كانوا يعلمون بالاثم والذنب العظيم باتباع الشياطين .

الثالث : بشدة العقاب الأخروي لإتباع الشياطين ، قال تعالى[وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ]([245]).

الرابع :  إن الله عز وجل يفضح السحرة وأتباعهم في الدنيا والآخرة.

الخامس : إن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس وسبيل للنجاة من آفة السحر وآثاره.

السادس : لو كانوا يعلمون بوجوب ترك باطل وزخرف الدنيا، ولزوم إتباع الحق, والمنافع التي تترشح عنه.

 وهل ترميهم الآية بالجهالة في مقابل العلم, الجواب لا، إنما  تبين عجزهم عن معرفة ما ينفعهم وترك ما يضرهم , وقوله تعالى[لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] دعوة للتوبة والإنابة، وحث على الكسب والتدبر في معجزات النبوة وآيات القرآن.                                         

***********

قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ] الآية 104.

الإعراب واللغة

يا : حرف نداء، وأي : منادى مبني على الضم في محل نصب، والهاء : للتنبيه.

الذين : بدل من أيها، آمنوا: فعل ماض وفاعل، والجملة صلة الموصول، لا تقولوا: لا: ناهية، تقولوا: فعل مضارع مجزوم بلا، راعنا: فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت، والضمير نا: مفعول به، وقولوا: الواو حرف عطف، تقولوا: معطوف على لا تقولوا، أنظرنا: فعل أمر، والضمير (نا): مفعول به.

واسمعوا: معطوفة على قولوا، وللكافرين: الواو استئنافية , والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

عذاب : مبتدأ مؤخر، أليم: صفة لعذاب.

الروع – بالفتح فالسكون – الفزع، يقال راعني الشيء أي افزعني، ومنه الخبر: “لا يروعهم الله يوم القيامة ولا يصيبهم منه فزع”.

والروع – بالضم فالسكون – العقل والقلب , ومنه حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “ الأوان الروح الأمين نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وإن أبطأ عليها([246]).

وراعٍنا أي إستمع منا.

أسباب النزول

وفيه وجوه:

الأول : كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم راعنا يا رسول الله اذا تلا عليهم شيئاً من العلم، ولجماعة من غيرهم كلمة يتسابون بما يشبه هذه الكلمة وهي راعينا، ومعناها على ما قيل اسمع لا سمعت، فاحتالوا بمحاكاة المسلمين بالإتيان بذات الكلمة ولكن بالمعنى الذي يبغون في لغتهم واتخذوها مناسبة لسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فيأتون إليه

ويقولون: يا محمد راعنا ويضحكون بقصد الإساءة فسمعها منهم سعد بن معاذ([247]) فقال: “يا اعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأضربن عنقه، فقالوا: او لستم تقولونها؟ فنزلت الآية.

الثاني : ورد عن قطرب إن اهل الحجاز كانوا يقولونها عند الهزء والسخرية فنهى الله عنها ولم يثبت ذلك لغة وعرفاً لاسيما وان للكلمة معاني متعددة.

الثالث : إن اليهود كانوا يقولون راعينا أي انت راعي غنمنا فنهاهم الله عنها.

والخطاب والنهي موجه للمؤمنين والقراءة المتواترة راعنا وتدل النصوص على إرادة نهيهم عن مخاطبة النبي بها، كما انه لم يثبت ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان راعياً عند اليهود، لقد كانوا في المدينة وينتظرون خروج النبي المبعوث في التوراة فدخلها بالرسالة المباركة وبصفة النبوة , وقد يقصدون في هذه الدعوى بعض الآباء.

وهناك أقوال أخرى ذكرت في الآية اعرضنا عن ذكرها فقد قال الرازي مثلاً: فقولهم راعنا أي فعلت رعونة ويحتمل انهم ارادوا به صرت راعناً أي صرت ذا رعونة، فلما قصدوا هذه الوجوه الفاسدة لا جرم نهى الله تعالى عن هذه الكلمة، وان يكون المراد لا تقولوا قولاً راعناً أي قولاً منسوباً الى الرعونة بمعنى راعن([248]).

والأول أعلاه أورده بالبيان الواحدي عن ابن عباس، ولعل الآية تدل وبلحاظ سبب النزول على المنع من محاكاة غير المسلمين في الأقوال والأفعال التي لا تتناسب وأحكام الشريعة للتوقي والإرتقاء في عالم الألفاظ وحسن الأدب في كيفية مخاطبة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذكره مطلقاً في مجالس ومنتديات المسلمين، لذا وردت النصوص بالصلاة عليه حين ذكره عليه السلام.

في سياق الآيات

بعد بيان قبائحهم جاءت هذه الآية لتشترك مع الآيات السابقة في ذات الموضوع والغرض ولتخاطب المسلمين أيضاً لإستخلاص الدروس والعبر.

وبعد مجيء الآيات السابقة بلوم وتوبيخ الذين أصروا على الجحود، وإرشادهم والناس جميعاً إلى الإيمان وبيان وجوبه وعظيم الحاجة إليه، والملازمة بين الواجب الحاجة إذ أن الله عز وجل غني عن العالمين، وما يفعله الناس في سبل الطاعة هو لهم ولمنفعتهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى[وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]([249]).

وإنتقلت هذه الآية للغة الخطاب للمسلمين بإبتدائها بخطاب التفضيل والشأن والإكرام [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وهذا الإلتفات والإنتقال فيه وجوه:

الأول: الإشارة إلى أن لغة اللوم للآخرين حجة للمسلمين.

الثاني: الأصل هو ان آيات القرآن كلها خطاب للمسلمين بالمنطوق أو المفهوم أو الدلالة، فالآيات التي تخص الملل الأخرى موعظة للمسلمين، ووسيلة سماوية لإرتقائهم في المعارف الإلهية ومناسبة لإكتساب العلوم.

الثالث: تنبيه المسلمين الى ان لغة الإحتجاج يجب ألا تكون حائلاً دون عنايتهم بأحكام وآداب الشريعة التي لها الأولوية.

الرابع: إذ جاءت لغة اللوم لفريق من الناس في الآيات السابقة حجة للمسلمين، فان تأديب وإرشاد المسلمين في هذه الآية دعوة لغيرهم بأن يروا الآيات في سيرة المسلمين، وكيف أنهم بعين الله ليكون من وجوه تفضيل المسلمين تعاهدهم لأسباب إقتداء الناس بهم، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([250]).

الخامس: الإنتقال في الخطاب هنا آية إعجازية في سياق الآيات لما فيه من إصلاح للنفوس والمجتمعات، وهو شاهد على إتحاد مضامين الآيات وفيه دعوة للمسلمين للإعتبار والإتعاظ من الأمم الأخرى، ولزوم عدم التخلف عن الوظائف العبادية.

 وجاءت الآية التالية جامعة للأمرين إذ انها خطاب للمسلمين ويتضمن لوم فريق من الناس على حسدهم للمسلمين على ما أنعم الله تعالى عليهم به من التنزيل.

السادس : جاءت الآية السابقة بالزجر عن السحر وإيذاء المسلمين والناس به.

 وجاءت هذه الآية خطاباً للمسلمين بالنهي عن لفظة مخصوصة لبيان تنزه المسلمين عن الكبائر والصغائر، وفضل الله عليهم في تعليمهم وهدايتهم.

 وإذ جاءت الآية السابعة والتسعون بالتحذير من عداوة جبرئيل، والآية الثامنة والتسعون بالإنذار من عداوة الله وملائكته ورسله، جاءت هذه الآية بالأمر الإلهي للمسلمين للإستماع والإصغاء لما يأتي به جبرئيل من عند الله وهذا الإستماع عنوان الحب والإكرام للملائكة والأنبياء.

موضوع النزول

تتعلق الآية بالسلوك اليومي للمسلمين ولا ينحصر موضوعها بصيغة الخطاب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي وردت في مثل قوله تعالى [لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا]([251])، فقوله تعالى [لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا] نهي إرشادي يدل في مفهومه على إختيار الأولى والأفضل.

وهو درس للمؤمنين في الصبر في تلقي العلوم الشرعية وتحقيق الغايات والمقاصد الإسلامية العامة وان الله عز وجل واسع كريم، ففيها دعوة للتأني والإمهال والإنظار، وهي نوع هداية وتخفيف ورحمة بالإضافة إلى ما في مفهومها من ذم، وهذا من إعجاز القرآن وهو تعدد المقاصد والغايات والمفاهيم للكلام الواحد، والتي تلتقي بصبغة النفع العام.

إعجاز الآية

في الأمر بالسمع هنا آية إعجازية وهي عدم الوقوف عند سؤال الإنظار والإمهال لأنه قد يؤدي إلى التفريط، والإمهال ليس أمراً بالإهمال، فمع الإنظار والتأني يجب أن يكون الإصغاء والإنصات والإستعداد للتلقي كما في قوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]([252]).

ومع الأمر بسؤال الإنظار في هذه الآية تكون ملازمة السماع له لتصبح مدرسة جامعة تقود المسلمين إلى الكمال وتساهم في تثبيت أحكام الإسلام وتمنع من الإفراط والتفريط، وتجعل نوع موازنة وتناسق في السيرة العامة للمسلمين بما يؤدي بهم إلى منازل العز وإمتلاء القلوب بمبادئ الإسلام ويهيء أسباباً تحول دون التأثير السلبي للكفار وجدالهم على النفوس وفي الأفعال.

ومن إعجاز الآية أنها لم تذكر الذي يخاطب المسلمين، ولزوم تبديل لفظ ولهجة الخطاب معه، ولكن المتبادر هو إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة والرسالة وخصوص ما ينزل عليه من القرآن وعلوم الوحي مما يدل على إنقطاع المسلمين إلى الوحي والرسالة، وصدورهم عن مقام النبوة، وعدم رجوعهم إلا إلى القرآن والسنة، وفيه درس لأجيال المسلمين .

وجاءت الآية بصيغة جمع المذكر، ولكنها تشمل الرجال والنساء، ووردت لغة التذكير للتغليب، وتولي الرجال مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدين والدنيا على نحو الفرد الغالب، وإلا فإن النساء كن يسألن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً في ذات المسألة.

 وهل تشمل الآية أهل البيت وأزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم، فجاءت صيغة العموم في الآية والمستقرأة من قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في أولها، لحث الصحابة وأزواج النبي على إظهار السمت الحسن، والإنقياد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتلك آية في نفضيله وقد لاقى بعض الأنبياء من أزواجهم كما في نوح ولوط، قال تعالى[ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امرأة نُوحٍ وَامرأة لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا]([253])، والآية دليل على تفضيل المسلمين إذ يتلقون التأديب من الله عز وجل في كيفية مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي هذا التأديب وجوه:

الأول: إنه مطلوب بذاته.

الثاني: إنه مقدمة للإصغاء لما يأمر به وينهى عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثالث: فيه الأجر والثواب.

الرابع: فيه دعوة للناس لدخول الإسلام، والإقتداء بالمسلمين في لغة الخطاب.

الخامس : تنمية ملكة الخطاب الحسن مع الناس، والإمتثال لقوله تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]([254]).

ومن إعجاز الآية إختتامها بالوعيد للكفار بالعذاب الأليم يوم القيامة، وفيه تحذير من قبيح الخطاب ولغة التعدي على مقام النبوة بالخطاب والنداء غير المناسب وقول (راعنا) ونحوه.

ويمكن أن نسمي هذه الآية آية [لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا] ولم يرد لفظ راعنا في القرآن إلا في هذه الآية.

  الآية سلاح

تساعد الآية المسلمين في كيفية التعامل مع مقام الرسالة لما فيها من تأديب وتعليم لصيغ المخاطبة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الصيغة من مستلزمات الإيمان لتعلق أمره ونهيه بما ينزل عليه من الوحي، وهي تتضمن الوعيد والتخويف للكافرين.

والآية مصداق لإكرام المسلمين، وشاهد على أنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([255])، إذ تتضمن تعليمهم لغة الخطاب، وإعانتهم في أمور دينهم ودنياهم، وإصلاحهم لكيفية مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليكون هذا الإصلاح مقدمة لحسن تلقيهم الأحكام، وأدائهم للفرائض والعبادات.

ومن دلالات تفضيل المسلمين في هذه الآية، أنها تنهاهم عن سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان يستمع منهم , وتأمرهم بأن يأخذوا الأحكام منه.

مفهوم الآية

الآية إكرام للمسلمين سواء بتوجيه الخطاب الإلهي لهم على نحو التخصيص او بمضمونه التأديبي الذي يفردهم عن الآخرين بمزايا وافعال تؤكد عملياً الإيمان، والنهي الوارد في الآية لا يعني ذماًً بل تعليماً وتأديباً والقصد منه توبيخ الآخرين على لغة إياك اعني واسمعي يا جارة ولإعطائهم درساً عملياً بحسن تلقي المسلمين للأحكام وإمتناعهم عن العناد واستعمال اللفظ والفعل غير المناسب.

إنها من الآيات التي ترسم للمسلمين منهاجاً ينفردون به ويتصف بالصلاح وتتجلى فيه سيماء الإيمان كما أنها تدعو الى الصبر وحسن التعلم وإستقبال الوحي والتنزيل بالإنصات وحسن الإستماع.

 والوعيد بالعذاب الأليم للكافرين في مفهومه إخبار عن جزاء عاجل للمسلمين بحسن الإنقياد إلى التنزيل والإستماع إلى الآيات.

وفي الآية مسائل:

الأولى: تتضمن الآية الثناء على المسلمين من وجوه:

الأول: مخاطبتهم  من عند الله تعالى بصيغة المدح والإكرام [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].

الثاني: جاء النهي في الآية للتأديب والإرشاد والتعليم، وليس للتوبيخ، وعن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلاَ اللَّعَّانِ وَلاَ الْفَاحِشِ وَلاَ الْبَذِىءِ)([256]).

الثالث: وعلى فرض ان المسلمين يقولون “راعنا” فهو ليس للإساءة بل يطلبون رؤية حالهم والتخفيف عنهم بلحاظ بعض الأعذار وترك بعض الأوامر والوظائف الجهادية.

 فجاءت الآية لتقول لهم إن تلك الأوامر لا تسقط ولابد من الجهاد في سبيل الله، لوجود المقتضي، ولا تسألوا الإعفاء عنها بل إسألوا الإمهال لحين زوال المانع.

الثانية: في الآية دعوة لأهل الكتاب لكي يتعلموا من المسلمين، وينظروا لمراتب الإكرام التي فازوا بها.

الثالثة: وجوب إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صيغ الخطاب وبيان عظيم مقام النبوة.

الرابعة: إختتام الآية بلغة الإنذار والوعيد للكافرين، والذي يدل على الأمن للمسلمين وان النهي الوارد في الآية ليس للإنذار، بل للإرشاد والتعليم.

الآية لطف

لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات من عند الله عز وجل، وكل آية معجزة خارقة للعادة سالمة من المعارضة، مقرونة بالتحدي سواء كانت الآيات الحسية، أو الآيات العقلية، والتي تتجلى في آيات القرآن، ومنها هذه الآية , وفيها مسائل:

الأولى : إنها مدرسة في العناية الإلهية بالمسلمين.

الثانية : الآية باعث على الصلاح والتقوى.

الثالثة : الآية وسيلة لتهذيب الأخلاق، وتنزيه النفوس.

الرابعة : تتضمن الآية في مفهومها الدعوة إلى ذكر الله بترك مقدمات الضد والإنشغال باللهو، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان ربي العظيم) ومتى ما ترك المسلمون ما نهى الله عنه فانهم يزدادون حرصاً على أداء وظائفهم العبادية، وينصتون بتدبر للآيات، والأقوال وخطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتسابقون في طاعة أمر الله تعالى وأمر رسوله.

لذا جاءت الآية بأمور:

الأول: النهي عن قول.

الثاني: الأمر بقول.

الثالث: الحث على الإنصات بقوله تعالى [وَاسْمَعُوا] والذي جاء مطلقاً في موضوعه ومن غير تعيين لجهته لكي ينصتوا لآيات القرآن ويستمعوا للسنة النبوية التي هي من مصاديق الوحي , قال تعالى [ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]([257]).

 وجاءت خاتمة الآية وعيداً للكفار ولكنها لطف من وجوه:

الأول: لطف بالمسلمين لبيان سلامتهم وأمنهم من العذاب.

الثاني: تحذير أهل الكتاب من الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثالث: دعوة الناس جميعاً للإستماع لآيات القرآن، والتدبر في معانيها ودلالاتها.

الرابع: توكيد حقيقة وهي ان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس جميعاً، إذ تتضمن هذه الآية حث الكفار على هجران منازل الكفر والصدود ودعوتهم للنجاة من العذاب التي تنحصر بدخول الإسلام، والإشتراك في تلقي الخطاب بالإيمان وتلقي الإرشاد والتعليم السماوي بكيفية مخاطبة مقام النبوة.

إفاضات الآية

تبين الآية المنزلة العظيمة لصاحب الكمالات الإنسانية محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ ترشد المسلمين إلى كيفية خطابه بما يساعدهم على التعلم منه والإقتباس من العلوم التي جاء بها من عند الله عز وجل.

لقد كانت فترة وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين قليلة لا تتجاوز من حين البعثة إلى مغادرته إلى الرفيق الأعلى والتي تبلغ نحو ثلاث وعشرين سنة، وقضى أيامه في مكة وهو يتلقى الأذى من مشركي قريش، ثم هاجر إلى الطائف وبعدها الى يثرب ليمكنه الله تعالى من إقامة دولة الإسلام، وكان يخرج بنفسه إلى كتائب  ومجموع الكتئب التي خرجها صلى الله عليه وآله وسلم ستاً وعشرين مرة ، وكان التنزيل والوحي مصاحبين له.

فجاءت هذه الآية لتدعو المسلمين الى إجتناب ما يكون مانعاً من الإنتفاع الأمثل من النبوة والتنزيل، وتحثهم على الإنصات بتدبر وحفظ إلى الآيات التي ينزل بها جبرئيل عليه السلام على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون كل مسلم شاهداً على التنزيل، ولا ينحصر الأمر بالصحابة وأهل البيت، الذين كانوا حاضرين عند الوحي والتنزيل، ونالوا شرف الإستماع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل تشمل الآية كل المسلمين وتأمرهم بحفظ وتعاهد التنزيل والوحي، والإستماع الى آيات القرآن وأحاديث السنة النبوية، ومعرفة السنة الفعلية، وإتخاذها نبراساً وضياءً وإماماً في دروب الهدى والرشاد.

ولم تقف الآية عند النهي عن قول مخصوص، بل جاءت بالقول والفعل الواجبين فجاء النهي عن قول “راعنا” ولكن لم يترك للمسلمين أن يختاروا ما يقولون لإحتمال أن يكون هذا الإختيار غير مناسب أو غير نافع.

 فجاءت الآية بذكر القول الذي يجب أن ينطقوا به مجتمعين ومتفرقين في خطابهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو “أنظرنا” مع لزوم الإصغاء.

التفسير الذاتي

جاءت الآية في تنزيه المسلمين، وإرشادهم إلى صيغ المنطق الحسن، ومناجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يناسب مقام النبوة، وما يدل على صدق الإيمان ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ] ([258]).

 في دلالة على الشرف والفضل العظيم في الحديث والكلام مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للصفة والرتبة والمنزلة العالية التي نالها بالنبوة ونزول القرآن، ولأن كلامه وجوابه مرآة للتنزيل قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]([259])، وكان المسلمون أكثروا من سؤال النبي كماً وكيفاً وزماناً، فيسألونه بخصوص شؤونهم وأحوالهم الخاصة، وغيرها، وفي النهار والليل، وفي المسجد وساعة وجوده عند أهله في البيت.

 ومن صيغ الوحي أن بيوت أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مطلة على المسجد، وأبوابها مفتوحة عليه، وفيه تخفيف عن المسلمين، ودعوة لهم لمناجاة النبي، مع لزوم تقديم الأهم على المهم، وجاءت آية المناجاة أعلاه بياناً للفضل الإلهي العظيم بوجوده بين ظهرانيهم، وللإلتفات إلى قدسية هذه المناجاة، وأن كل سؤال وكلام معه يستحق أن تكون له مقدمة صدقة معتد بها تتجلى فيها معاني الشكر لله عز وجل على هذه النعمة، وفيه دعوة للمسلمين لتوثيق السنة النبوية وحفظها، والإصغاء إلى كل كلمة يقولها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإتعاظ منها.

 وهل في الآية إمتحان وإختبار للمؤمنين خصوصاً وأن أكثرهم إمتنع عن المناجاة بعد نزول الآية إلى حين نسخها الجواب لا، من وجوه:

الأول: جاء الإختبار والإمتحان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد إستجاب المسلمون لدعوته، وإتبعوه وصدّقوه.

الثاني: إبتدأت الآية أعلاه بالنداء الذي يتضمن مدح المسلمين، والثناء عليهم بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وهو خطاب إنحلالي يشمل الصحابة وأهل البيت.

 وهل يشمل أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والزهراء عليها السلام، الظاهر لا لأنهن خارجات بالتخصص أو التخصيص عن إطلاقات الآية بل لأن صلة الزوجة والبنوة أعم من المناجاة وموضوعها، ولوجوب النفقة على النبي، ومع هذا فلو إستمر العمل بهذة الآية ولم تنسخ لبادرت أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والزهراء عليها السلام للتصدق قبل المناجاة، ندبا ورجاء الثواب بالإمتثال للأمر الإلهي العام.

وذكر أن الآية نسخت (بعد عشر ليال، وقيل ما كان إلا ساعة من نهار)([260])، (قال علي: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي : كان لي دينار فصرفته ، فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم . قال الكلبي : تصدق به في عشر كلمات سألهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن ابن عمر : كان لعليّ ثلاث : لو كانت لي واحدة منهنّ كانت أحب إليّ من حمر النعم : تزوجه فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى.

 وفي الآية قال ابن عباس: هي منسوخة بالآية التي بعدها، وقيل منسوخة بالزكاة) ([261])، وجعل الصدقة مقدمة لمناجاة النبي من خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووجوه تفضيله على الأنبياء السابقين، كما أن تلقي المسلمين الآية بالقبول، وقيام الإمام علي عليه السلام بالإمتثال لمضامينها شاهد على تفضيل المسلمين بأن رزقهم الله عز وجل مناجاة وسؤال خاتم  النبيين وسيد المرسلين، وإتخاذ هذه المناجاة طريقاً للتفقه في الدين.

وبعد لغة اللوم إلى الذين يتخلفون عن الإيمان جاءت هذه آية البحث رحمة ولطفاً في تعليم وإرشاد المسلمين، وهدايتهم إلى سبل الصلاح وسلامة اللسان والفعل، وفي النسبة بين لغة اللوم تلك وهذا التعليم وجوه:

الأول: تثبيت أقدام المسلمين في منازل الإيمان.

الثاني: تحذير المسلمين من إتباع أولئك الذين يعلمون السحر، ويرجعون إلى السحرة.

الثالث: زجر المسلمين عن محاكاة الذين يحاولون الإستخفاف بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صيغ الخطاب , وهل يختص موضوع الآية بأيام النبوة ووجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين الجواب لا , فإن الآية دعوة للمسلمين والمسلمات في كل زمان للعمل بأحكام السنة النبوية وعدم الإعراض عنها، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري… ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)([262]).

الرابع: بيان المنزلة العظيمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله عز وجل، وحاجة الناس للصدور عن الوحي.

 وهذه الآية من مصاديق تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى، لما فيها من التحذير مما يقوله غيرهم، وإرشادهم إلى سبل السلامة والتهذيب وإصلاح مجتمعاتهم وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([263])، بأن يتلقون صيغ الخطاب من الله عز وجل، ويظهرون الإكرام لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما يحمله بين جنبيه من أسرار النبوة.

 ويحتمل هذا الإكرام في متعلقه وجوهاً:

الأول: إنه مطلوب بالذات.

الثاني: إنه مقدمة غيرية، ووسيلة لمقاصد حميدة أخرى.

الثالث: وجود أسباب وعلل هذا الإكرام.

ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية لما فيها من إرادة حسن الأدب مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن إعجاز الآية أنها جاءت بنهي وأمر في موضوع واحد، من غير تعارض بينهما.

فالنهي زجر ومنع عن قول مخصوص وهو قول(راعنا) في مخاطبة النبي  محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

 والأمر بصيغة ونوع الكلام الذي يجب أن يقولوه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن إعجازها أنها لم تأت بالنهي وحده، بل جاءت بالأمر بما يجب وهذا من التكامل في لغة الأوامر والنواهي القرآنية.

 ومن المقاصد الحميدة لإكرام المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور:

الأول: الإنصات للتنزيل.

الثاني: الحرص على متابعة أخبار الوحي.

الثالث: الإصغاء لآيات القرآن، وتلاوتها.

الرابع: إجتناب الإعراض عن الأوامر والنواهي الإلهية والنبوات، إذ أن إتخاذ الإستهزاء سجية يحرم الإنسان من منافع وفرص كثيرة.

وإذ جاء النهي بخصوص القول، فإن الأمر شامل للقول والسمع، وفيه شاهد على تنزه المسلمين من الكلام والفعل القبيح، وجاء قوله تعالى[وَقُولُوا انظُرْنَا] للإنتفاع من المندوحة والإمهال والسعة التي يتفضل بها الله عز وجل وليتدبر المسلمون في أمور الدين والدنيا، وهو مناسبة للفهم والتفقه ومعرفة أحكام الحلال والحرام، والأحكام التكليفية الخمسة الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة.

وورد الأمر بالقول الحسن في خطاب المسلمين بقوله تعالى[اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا] ([264])، والقول السديد أي القاصد إلى الحق، وإرادة النفع والخير المحض، والإصلاح.

 والنسبة بين الآية أعلاه والآية محل البحث هي العموم والخصوص المطلق، فقول (أنظرنا) من القول السديد، وإرادة قصد الحق والعدل، وفيه إمتثال لأمر الله عز وجل، ورجاء لنيل الأجر والثواب، وهو باب لرحمة ورأفة الله عز وجل، ومن تقوى الله في المقام أمور:

الأول: حفظ اللسان.

الثاني: إجتناب الفاحش من القول والتعدي القولي.

الثالث: الإمتناع عن إيذاء المؤمنين بصيغ الإستهزاء والإستخفاف.

بعد الآيات التي جاءت في ذم فريق من الناس بإتباعهم لما تلاه الشياطين من السحر على ملك سليمان، وبيان النفع العظيم في الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذي يدل في مفهومه على ذم التخلف عنه، والإثم في معاداته والمسلمين.

إنتقلت هذه الآية لخطاب المسلمين مما يدل على أن الآيات السابقة يقصد في معانيها ومفاهيمها إطلاع وتفقه المسلمين بأحوال وأمور أهل الكتاب والناس جميعاً، وتحذيرهم من الكيد والمكر والأذى وفي هذا الإنتقال توكيد لتحذير المسلمين الذي تدل عليه الآيات السابقة.

 ومن الإعجاز في نظم الآيات أن موضوع هذه الآية متصل مع لغة الآيات السابقة بلحاظ نهي المسلمين عن قول يتخذ من لفظه بعضهم من غير المسلمين مناسبة للإستهزاء والإستخفاف، وهذا الإستخفاف نوع إصرار على العناد، ومناسبة لصد طائفة من الناس عن معجزات نبوته، فجاءت الآية واقية وعلاجاً، واقية من السخرية، وعلاجاً للآثار المترتبة عليه، وغلقاً لباب التعدي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنعاً من الفتنة خصوصاً من كانوا معهم في عهد وميثاق ومشغولين بمحاربة الكفار والمشركين وتثبيت أحكام الحلال والحرام.

ومع أن الآية تضمنت الأمر والنهي، والأمر أشرف من النهي، فقد تقدم النهي فيها على الأمر، وهذا التقدم  من إعجاز الآية لأنه مقدمة للإمتثال للأمر الوارد فيها، وكأن المأمور به ناسخ وناقض للمنهي عنه، فقال تعالى[لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا].

ويحتمل هذا النهي وجوهاً:

الأول: إرادة النهي بذاته، وعدم وجود بديل عن هذا اللفظ.

الثاني: إرادة النهي بذاته، مع ذكر بديل من عالم الفعل ناسخ له.

الثالث: النهي مقدمة غيرية وليس مطلوباً بالذات.

والصحيح هو الثاني، وجاء الأمر بالبدل بعده مباشرة من غير وجود فاصلة وكلمات كي لا يشتبه المعنى والقصد على القارئ والسامع خصوصاً وأن الآية في مقام التأديب والإرشاد.

ويدل موضوع الآية على مسائل:

الأولى: تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأذى حتى في صيغ الخطاب ذات النفع العام للمسلمين والناس بما يفعله بعضهم، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال(ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)([265]).

الثانية: براءة وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من موضوع يستهزء به الأعداء، فلجأوا إلى التشابه اللفظي بين لغتين، وهو ليس من المشترك اللفظي وهو اللفظ الموضوع أو المستعمل لمعنيين أو أكثر، فيكون اللفظ متحداً والمعنى متعدداً، أما في المقام فهو من التشابه بين لغتين متباينتين، حصل إتفاقاً.

الثالثة: في الآية دعوة للمسلمين لإجتناب الألفاظ التي تفيد معنى غير مناسب في اللغات الأخرى عند فتح البلدان وإتساع رفعة الإسلام، ولايشمل هذا الإجتناب كلمات وألفاظ القرآن، فإن قلت قد حصل إستخفاف من الكفار في تلك الكلمات كما في قوله تعالى[إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ *طَعَامُ الأَثِيمِ] ([266])فقد(قال ابن الزبعري: إن أهل اليمن يدعون أكل الزبد والتمر التزقم، فدعا أبو جهل بتمر وزبد فقال: تزقموا فإن هذا هو الذي يخوّفكم به محمد) ([267]).

وقد يحصل البيان والتفسير بتغيير الحرف , وعن أبي الدرداء أنه كان يقرئ رجلاً فكان يقول طعام اليثيم، فقال: قل طعام الفاجر يا هذا) ([268]).

والجواب من وجوه:

الأول: جاءت الآية محل البحث من علم الغيب وللإخبار عن أحوال الكفار يوم القيامة.

الثاني: لا يضر في دلالات الآية دعوى وجود معنى لها مغاير في بلد ما، لأن القرآن نزل بلغة قريش.

الثالث: كانت قراءة أبي الدرداء لإيضاح المعنى، والإعانة على القراءة، بخصوص الذي كان لا يحسن النطق بلفظ(الفاجر) وقال الزمخشري بخصوصها(وبهذا يستدل على أن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها)([269]).

 ولكن لا دليل على هذا الإستدلال لأن المسألة جاءت على نحو القضية الشخصية، وبيان المعنى عند القارئ وعلى نحو مؤقت غير دائم وبلحاظ كبرى كلية وهي تثبيت كلمة (الأثيم) في المصاحف.

 ولم يرد قوله تعالى (راعنا) إلا في آيتين من القرآن مع وحدة الموضوع، إحداهما الآية محل البحث , والأخرى قوله تعالى[وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ]([270]).

وتبين الآية إرادتهم قصد الإساءة والإضرار بالإسلام والشرائع لما في تحريف الكلام وإختيار لغة السب والشتم لإغراء للناس للإعراض عن مقامات النبوة والتنزيل، وأنهم كانوا يفتلون ألسنتهم بالكلام ويحرفونه بدل تلقي الحق بالتصديق.

 وإذا جاءت الآية محل البحث بهداية المسلمين إلى ما فيه النفع والكسب والتفقه في الدين وعدم محاكاة الذين يلحدون بألسنتهم ويأتون باللفظ الذي يكون معناه بالعربية وظاهره الإكرام، ومعناه بلغة ولهجة أخرى بالعبرية وباطنه السب والإهانة والإستخفاف فإن الآية أعلاه من سورة النساء إرشاد وإنذار للفريق الذين يصرون على لغة الإستخفاف والشتم، وهو من فضل الله عز وجل عليهم بأن خصهم الله عز وجل بالحث على التنزه من التعدي بالشتم.

ويفيد الجمع بينهما أن إصرار هؤلاء على قول(راعنا) وقصد الإستخفاف بمقام النبوة والمعجزات بها علة لنزول العذاب الأليم بهم، وفيه مسائل:

الأولى: إن الله عز وجل غني عن العالمين.

الثانية: خاتمة الآية محل البحث بشارة ظهور وقوة الإسلام.

الثالثة: الإستخفاف والإستهزاء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته من الكفر والجحود، قال تعالى[إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ([271]).

الرابعة: بعث السكينة في نفوس المسلمين، لما ينتظر المكذبين بالنبوة من العذاب الأليم.

الخامسة: إقامة الحجة على الناس، وبعث الفزع والخوف في نفوس الذين يسخرون بالنبوة ودعوتهم إلى عدم محاكاة الذين يقومون بالسب والشتم والتعدي على مقام النبوة.

 وتحتمل الآية في زمانها وجوهاً:

الأول: إرادة زمان نزول القرآن ووجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة.

الثاني: الآية خاصة بأيام معدودة وأوان الميثاق والعهد مع بعض أهل المدينة من الملل الأخرى.

الثالث: إرادة المعنى الأعم، وشمول أفراد الزمان الطولية.

والصحيح هو الأخير، فلا ينحصر موضوع الآية بأيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان موضوعها لغة الخطاب معه ودعوة المسلمين لمخاطبته بما لا يليق بمرتبة النبوة وحمله لأسرار الوحي والتنزيل.

 وبما يؤكد صدق إيمان المسلمين وإقبالهم على الأمتثال لأوامره، فلغة السب والشتم قد تصدر من أهل العناد والحسد، ويكتسبها منهم المنافقون والكفار، ويتكرر الإستهزاء بمقام النبوة حتى بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الفريق الأعلى.

 فجاءت الآية للتحذير من تجدد هذا الإستهزاء، ومن مصاديق التحذير خاتمة الآية وما فيها من الإنذار المستديم للكفار، وفيه شاهد بأن القرآن واقية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في أيام حياته وبعدها وإلى يوم القيامة، فقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في بداية الآية يشمل المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة وعلى نحو العموم الإستغراقي، بتلقيهم الآيات القرآن، والسنة النبوية الشريفة بالتصديق والإصغاء، والقبول، قال تعالى [مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ([272]).

من غايات الآية

في الآية مسائل:

الأولى: بعد مجيء الآيات السابقة باللوم والتوبيخ لفريق من أهل الكتاب مع ذكر القبائح التي فعلوها، جاءت هذه الآية لتبعث الأمل والسكينة في قلوب المسلمين.

الثانية: جاءت الآية بلغة الخطاب لعموم المسلمين والمسلمات الذين صدقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل الله عليه، وهو نوع ثواب عاجل في الدنيا، وبشارة الثواب الآجل.

الثالثة: إبتداء الآية بخطاب التشريف والإكرام دعوة للمسلمين للتقيد بمضامين الآية الكريمة ومعناها: إنكم لإيمانكم مؤهلون لتلقي هذا التعليم والعمل به، قال تعالى[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]([273]).

الرابعة: في الآية ترغيب للناس بدخول الإسلام.

الخامسة: تنزيه المسلمين عن الألفاظ غير المناسبة.

السادسة: عدم محاكاة المسلمين لغيرهم فيما يقولونه من الألفاظ غير اللائقة.

السابعة: بيان عظيم فضل الله على المسلمين في إرشادهم الى الآداب وصيغ الخطاب.

الثامنة: التوكيد على رفعة ومقام ومنزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إكرامه بحسن الخطاب.

التاسعة : موضوعية اللسان في عالم الأفعال والثواب والعقاب , ولزوم إصلاح المنطق.

وقد جاءت آيات في هذا الباب منها قوله تعالى [لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا]([274])، [إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ] ([275])، [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ]([276]).

 فتدخل الآية محل البحث مع الآيات التي تفيد إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم حسن الأدب معه، والذي هو مطلوب بذاته ويكون مقدمة لغيره، من وجوه:

الأول: معرفة المسلمين للمنزلة الرفيعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثاني: إنصات المسلمين لما يأتي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثالث: إدراك حقيقة الوحي والتنزيل وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يقول إلا ما يوحى إليه.

الرابع: إعتبار وإتعاظ الناس من آداب المسلمين مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الخامس: بعث الخوف والفزع في قلوب أعداء الإسلام، فحينما يرون كيفية إكرام المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في لغة الخطاب بالإضافة إلى طاعتهم للتنزيل وإستجابتهم له، وإندفاعهم الى سوح القتال فانهم يدركون عجزهم عن قهر الإسلام، وتجلت مصاديق هذا الأمر من بدايات البعثة النبوية وإلى يومنا هذا، وهي متصلة غير منقطعة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر)([277]).

السادس: تأديب وتعليم أجيال المسلمين المتعاقبة لبقاء أحكام الآية القرآنية غضة طرية.

السابع: عموم موضوع الآية إذ أنها لا تنحصر بالسنة وأقوال النبي بل تشمل الإنصات إلى آيات القرآن، والتدبر في معانيها لذا ورد قوله تعالى [وَاسْمَعُوا] على نحو الإطلاق.

التاسعة: في حين نهت الآية المسلمين عن قول “راعنا” وما له من المعنى وما قد يدل عليه من الإبطاء والتسويف وما يسببه من التكاسل وتغليب الحاجة والمنفعة الشخصية، جاءت الآية بالأمر الإلهي المركب من أمرين:

الأول: قول المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  [انظُرْنَا] وترك معرفة أحوالهم وما يناسبهم من الجهاد كيفية وزماناً ومكاناً وجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يختار ما يأمره الله تعالى به، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ]([278]).

أما قوله تعالى “أنظرنا” فيتضمن معنى الرضا والقبول بما يأمر به الله ورسوله ورجاء فضل الله، وقد يكون فيه ما يريد نفر من المسلمين من الإمهال ومعرفة أعذارهم خصوصاً وأن الصبر سلاح بيد المسلمين، والأمر بالمعروف والجهاد في سبيل الله من أحسن مصاديق الصبر وأعظمها نفعاً للمسلمين في الدنيا والآخرة ولا ينحصر نفعه بالمسلمين بل يشمل الناس جميعاً لما فيه من الدعوة إلى الإيمان، وإقامة الحجة عليهم.

الثاني: الأمر الإلهي للمسلمين بالسمع والإستماع، ويحمل الأمر على الوجوب وهو الظاهر والمتبادر والأصل ويتجلى بمصاحبة النهي عن الضد وهو قول “راعنا” وفيه شاهد على إستقراء معاني “راعنا” لو كانت صادرة من المسلمين فانها ليست مسألة سب ونحوه، لأنه لا يصدر من المسلمين إلا ما فيه الإكرام لمقام النبوة والوحي وإن كان غيرهم تتخذها سباً.

ولو تردد الأمر بين كون “راعنا” كلمة عبرانية تعني السب أو انها كلمة عربية بحسب اللفظ والمعنى، فالصحيح هو الثاني، وتعني “إستمع إلينا” وهو الظاهر ولا يعدل عنه إلا مع القرينة الصارفة كالمأثورمن التفسير , خصوصاً وان الكلمة التي جاءت الآية بالأمر بها بعدها مباشرة بذات الصيغة وكل واحدة منهما فعل طلب الى النبي من المسلمين بصيغة الجمع فبعد كلمة “راعنا” جاءت الكلمة “انظرنا”.

ولا ينحصر الأمر الإلهي “وأسمعوا” بالقاء السمع والإنصات بل يشمل الإمتثال والإستجابة لما يأمرهم به الله تعالى ورسوله.

العاشرة : جاءت خاتمة الآية بالإنذار والوعيد للكفار، ومن غاياته وجوه:

الأول : حث المسلمين على عدم محاكاتهم في ألفاظهم.

الثاني : عدم الحزن والخوف مما يقوله فريق من أهل الكتاب والكفار من صيغ التعدي.

الثالث : بعث الفزع والخوف في نفوس الكفار.

الرابع : فضح الكفار وبيان سوء فعلهم، فقد لا يعرف فريق من المسلمين ما يقصد هؤلاء من كلامهم.

الخامس : تنمية ملكة الحذر والحيطة عند المسلمين من الكفار.

السادس : إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية بمعرفة سوء عاقبة الكفار.

الصلة بين أول وآخر الآية

الأول : جاءت الآية بالجمع بين [وَقُولُوا انظُرْنَا] وبين[ وَاسْمَعُوا]  إذ يقول المسلمون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انظرنا، وفيه وجوه:

الأول: أي أمهلنا نتفقه في الدين ونتدبر الآيات.

الثاني: كي نتعلم معاني الآيات لذا ورد أن الصحابة كانوا يقرأون الآيات عشر آيات بعد عشر، ولا ينتقلون إلى العشرة التالية إلا بعد معرفة مضامين التي يقرأونها.

الثالث: أقبل علينا، ويجوز أن يكون معناه أنظر الينا، فحذف حرف الجر.

الرابع: إظهار المسلمين لنصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون له (أنظر لنا) كيف ندافع عن الإسلام، وندفع الأعداء ويبعث هذا الكلام القوة والعزيمة في قلوب المسلمين، والخوف والفزع في قلوب أعداء الإسلام.

الخامس: الآية من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]([279])، إذ يسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين وهم يعلنون نصرته وإستعدادهم للذب عن الإسلام، ولا ينحصر موضوع الآية بالصحابة وأيام التنزيل بل إنها موضوعاً وحكماً باقية إلى يوم القيامة، تدعو المسلمين إلى إعلان إستعدادهم لمواجهة المشاق وتحمل الأذى والعناء في مرضاة الله تعالى.

السادس: ومن إعجاز الآية إتصال جهاد المسلمين، وحضور الآيات القرآنية والسنة النبوية في ماهية أقوالهم وأفعالهم.

السابع: على القول بان معنى الآية أنظر لنا، وإطلاق أحكامها في أفراد الزمان الطولية إلى يوم القيامة ففي الآية وجوه:

الأول: إن الله عز وجل يجعل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يرى المسلمين كما في موضوع بلوغ سلام من يسلم عليه، ورده عليه  .

الثاني: يصدق الإنظار على معرفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة بما فعل المسلمون.

الثالث: ان لغة الخطاب جاءت للصحابة بالأصالة حيث يخاطبون النبي بقولهم “أنظرنا” ولأجيال المسلمين بالتبعية والإلحاق.

الرابع: المراد هو سؤالهم الله تعالى أن يتفضل عليهم بلطفه وكرمه وجوده، وتدل الآية على توجه كلام المسلمين الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مستقرأ من القرائن والتأويل , وتؤكده الأخبار والتفسير.

وفي الآية تأديب للمسلمين في كيفية الخطاب مع مقام النبوة ومعرفة الوظائف العبادية والإستعداد للإمتثال والأداء وعدم التسويف أو التفريط أو التراخي المخل ولا ينحصر موضوع الآية بأيام النبوة والتنزيل بل يشمل جميع أفراد الأزمنة الطولية وأجيال المسلمين المتعاقبة بالنهي عن ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما لا يليق بمقام النبوة، والزجر عن الإساءة له في القول والفعل، ويشمل النهي وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وطرق الثورة المعلوماتية وتدل الآية على حقيقة وهي ان إكرام المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإمتثالهم للأحكام الشرعية كان من أسباب النصر والغلبة والثواب العظيم، بالإضافة إلى سوء العاقبة التي يلقاها الكفار يوم القيامة.

ولو جاء قوله تعالى “انظرنا” وحده لأفاد إرادة معنى الإمهال والإبطاء والتأخير من غير تعيين للواجبات والوظائف ومعرفة للمأمورين به ولا تحديد أوان الفعل، فقيدت الآية الكريمة قول الإنظار بالسمع والطاعة، ليكون الإنظار على وجوه:

الأول: الإنظار في موضوع دون آخر.

الثاني: يقول المسلمون انظرنا، ولكن المدار على ما يأتيهم من الأوامر الإلهية، لتكون الغلبة للسماع.

الثالث: المراد من السماع هو الإمتثال، ومع التعارض بين أنظرنا والإمتثال يقدم الإمتثال.

الرابع: من إعجاز الآية تعقب قوله تعالى “إسمعوا” لقوله تعالى “انظرنا”  ويأتي للتوفيق في الفعل أي ان السمع والإمتثال ينسخ قول انظرنا وطلب الإمهال.

الخامس: على معنى حسن الإمتثال والمبادرة في قوله تعالى [انظرنا] وإستعداد المسلمين للبذل والعطاء، يكون المراد من قوله تعالى “وأسمعوا” ان المدار في الفعل على تقيد المسلمين بما يؤمرون به وليس الإندفاع من غير أمر، فالآية تدل على طاعة المسلمين لله تعالى وانهم لا يفعلون إلا ما يؤمرون، ليجتمع حسن النية والإستعداد عند المسلمين مع توجيه أفعالهم بأوامر إلهية.

السادس: من خصائص الجمع بين “انظرنا” و”أسمعوا” عدم التفريط والظن بالإمهال في الأمور، وغلبة التريث والتأخير، بل على المسلمين ان يعطوا الأولوية لتلقي الأوامر الإلهية والعمل بما فيها من الأحكام، وعدم التخلف عن الواجبات، فلو جاءت “انظرنا” وحدها لكان جوابهم في كل أمر طلب الإمهال والتخفيف عنهم وتأخير ما يأتي في الشتاء الى الصيف، وما يحل أوانه في الصيف إلى الشتاء.

 فجاءت الآية بالأمر بالإستماع والتسابق في الخيرات، ومنها حسن الإمتثال.

السابع: الجمع والترتيب في المقام من مصاديق تقديم الأهم على المهم، فالأهم هوالإستماع والطاعة لله ورسوله، لذا جاء الترتيب سراً من أسرار الآية وسبيل هدىً.

وإبتدأت الآية بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في خطاب للمسلمين يتضمن الأمن والسلامة والنجاة، وجاءت خاتمة الآية بالوعيد والتخويف للذين كفروا، وفي الجمع بين دلالات أول الآية وخاتمتها مسائل:

الأولى: ذكر المسلمين بالمدح والثناء، مع مجيء صيغ الإنذار والتخويف للكافرين.

الثانية: هذا الجمع مدرسة في العلم المقارن، ومعرفة التباين بين المسلمين والكفار.

الثالثة: بيان قانون ثابت وهو أن حال الإنسان في الدنيا يحدد مقامه في الآخرة، فاذا كان مؤمناً فانه ينال الجزاء الحسن، وان كان كافراً فانه يلقى العذاب الأليم.

الرابعة: إجتماع البشارة والإنذار في الآية، ولكنه ليس من إجتماع النقيضين لتعدد المحل وإختلاف الموضوع، إذ تتوجه البشارة للمسلمين، والإنذار للكافرين.

الخامسة: في الآية دعوة للكفار لدخول الإسلام، والهروب من أسباب الفزع والخوف من العذاب الأليم، إلى الأمن والسكينة.

السادسة: تجعل الآية المسلمين يشتاقون إلى الجنة، ويشكرون الله عز وجل على نجاتهم من العذاب الأليم.

السابعة: يبعث الجمع بين أول الآية وخاتمتها الرضا في قلوب المسلمين لإقتران تأديب المسلمين بالذم والوعيد للكافرين، ويترشح الذم من ذات لفظ الكفر والنعت به.

الثامنة: إمتثال المسلمين لمضامين هذه الآية وما فيها من الأحكام إذ انها تتضمن نهياً وأمرين أما النهي فهو المنع من قول “راعنا” وأما الأمران فهما:

الأول: قول “انظرنا”.

الثاني: السماع والإستجابة، وكل من النهي والأمر متوجه إلى المسلمين على نحو التعيين، لذا فمن إعجاز الآية أن تختتم بذكر الكفار وما ينتظرهم من العذاب الأليم لتبعث الحسرة في قلوبهم على الحرمان من الإكرام الإلهي للمسلمين الذي يتجلى بتلقيهم الأوامر والنواهي من عند الله تعالى.

التاسعة: من خصائص النهي الوارد في الآية [لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا] حث المسلمين على إجتناب محاكاة الكفار ومشركي قريش في لغة الخطاب مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

العاشرة: لقد أراد الله من الآية بيان حقيقة وهي لزوم مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يدل على الإيمان والتصديق بنبوته والإستعداد للإمتثال والإستجابة، مع الوعيد والتخويف للذين كفروا وجحدوا .

ومن وجوه الوعيد كفرهم بالنبوة، وقبح الصيغ التي يخاطبون بها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، فيتضمن ذم الذين كفروا في الآية زجرهم عن سوء مخاطبته، والآية مدد سماوي له والمسلمين في بناء صرح المقام الكريم له بين الناس وتهذيب لغة الخطاب معه عون للمسلمين لتلقي الأحكام والتفقه في الدين.

الحادية عشرة: تبين الآية تعدد وأهمية وقدسية التكاليف العبادية والسنن التي يجب على المسلمين أن يؤدوها، وبالإضافة إلى خصوصية كل حكم والتباين بين الأحكام التكليفية الخمسة الوجوب، الندب، الإباحة، الكراهة، الحرمة، مما يستلزم من كل مسلم ومسلمة التفقه في الدين، وهذا التفقه لا يأتي بقول راعنا، بل بالإنصات والإستماع والتهيء للفعل المأمور به.

الثانية عشرة : لقد أثنى الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]([280])، فجاءت هذه الآية لإكرامه ولحوق المسلمين برتبته في السنن الحميدة ولغة الخطاب.

الثالثة عشرة : بلحاظ أسباب النزول ففي الآية إنذار ووعيد للكفار الذين يقولون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم راعنا وتمنع الآية من ترتب الأثر على إستخفافهم وإستهزائهم ومحاولتهم إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وفي التنزيل حكاية عن موسى عليه السلام[يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ]([281])، فجاءت هذه الآية لتمنع من إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

 وفيه شاهد على تفضيله صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء والرسل الآخرين، فهذا كليم الله موسى عليه السلام يتوجه إلى قومه باللوم على إيذائهم له.

 أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان الله تعالى تفضل ودفع عنه أذاهم، إذ فضح أسباب إيذائه، ومنع المسلمين من محاكاة غيرهم فيه، وحثهم على تعاهد إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في لغة الخطاب وحسن الأدب، وإعلان الإستعداد للإستجابة، وإظهار صيغ الطاعة لله ورسوله.

وتبين الآية حال المسلمين وهي أنهم أمة مؤمنة مستمعة للحق، ممتثلة لأمر الله ونبيه،وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([282])، وليس من أمة مثلهم في حسن الإستماع والإنصات.

 ومن الآيات في الثناء عليهم وبيان حسن سمتهم مجيء الآية الكريمة بصيغة الجمع كي ينصت المسلمون جميعاً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فليس فيهم من يرد القول أو يتردد في الإمتثال، أو يعارض الأوامر الإلهية والنبوية .

وجاءت قصة البقرة في مفهومها مثالاً للتباين بين المسلمين وغيرهم، فلم يتردد المسلمون أو يردوا القول ويكثروا من السؤال والتشديد على أنفسهم كما فعل فريق من أهل الكتاب([283]).

الثالثة عشرة: في الآية فضح وخزي للمنافقين لأنهم تسقط ما في أيديهم، وتجعلهم عاجزين عن إيجاد أعوان وإنصار لهم في نفاقهم، والإساءة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاولة الإضرار بالمسلمين، فكل المسلمين يقومون بالإنصات والإستماع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يقولون إلا ما يرضي الله ورسوله، ويتبعونه في القول والعمل الأوامر الإلهية.

الرابعة عشرة: تحبب الآية الإيمان إلى النفوس، وتجعلها تنفر من الكفر والضلالة، إذ يحرص الإنسان على جلب المنفعة ودفع المفسدة، واشارت الآية إلى المنافع العظيمة للإيمان، بلحاظ قوانين ثابتة في الإرادة التكوينية تفيد القطع بترتب الثواب والجزاء الحسن على فعل الصالحات وحسن الإمتثال، والعقاب الأليم على الكفر والجحود، لذا جاءت الآية بالخطاب التشريفي للمسلمين، وأختتمت بالوعيد للكافرين.

الخامسة عشرة: تدل الآية على إستحقاق المسلمين لتلقي الأوامر الإلهية بدخول الإسلام والتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فمع دخول الإسلام تأتي الشواهد والبشارات على نيل المراتب العالية في جنة الخلد بخطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]وفيه دعوة لأجيال المسلمين المتعاقبة بتعاهد الإيمان، والذي يؤكده قوله تعالى [واسمعوا] من وجهين:

الأول: الفضل الإلهي العظيم في الأمر الإلهي للمسلمين [واسمعوا] أي أحرصوا على عدم التفريط بأي أمر من الأوامر التي تتوجه إليكم في القرآن والسنة، وإجتناب ما نهى الله ورسوله عنه.

الثاني: الآية بشارة لتتابع الأوامر الإلهية للمسلمين، وعظم الأمانة الملقاة على عاتقهم، والمسؤوليات الشرعية التي يتحملونها والتي تستلزم منهم الإستماع والإنصات مجتمعين ومتفرقين، وتلقي الأوامر الإلهية بالقبول والرضا، وفيها إنذار لأعداء الإسلام والذين ينشغلون بالإستهزاء بالمسلمين، ويحاولون بث روح الشك والريب بالسيء من القول.

السادسة عشرة: كما جاءت الحروف المقطعة في بدايات بعض السور لجذب الإنتباه، ومنع الكفار من إثارة الضوضاء ومنع إنصات الآخرين، فقد جاءت هذه الآية بمنع إثارتهم وجعل المسلمين ينصتون ويصغون للأوامر الإلهية بمعنى انه حتى لو حاول فريق من قريش والمشركين الإثارة والضوضاء فإنهم لا يستطيعون التأثير، ولا يترتب على فعلهم إلا الخزي وسوء العاقبة، وما ينتظرهم من العذاب الأليم في الآخرة الذي أختتمت به هذه الآية.

السابعة عشرة: تدعو خاتمة الآية الكفار إلى الكف عن الإضرار بالمسلمين، وإجتناب إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسوء الخطاب.

لقد جاءت آيات القرآن بالبشارة للمسلمين بعدم حصول الإضرار بهم من قبل الكفار وأهل الكتاب، قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]([284])، وجاءت هذه الآية لتكون سلاحاً للمسلمين ووسيلة لدفع الضرر عنهم، لأن فيها أموراً:

الأول: مدح المسلمين بالخطاب التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وإخبارهم بمصاحبة المدد والعون الإلهي للإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثاني: منع المسلمين من محاكاة أهل الشك في أقوالهم وخطابهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذي يدل بالدلالة التضمنية على قبح قول “راعنا” وفضح وذم الذي يقوله.

الثالث: جاء النهي عن قول “راعنا” من باب المثال، وليس الحصر والتحديد، إذ تدل الآية على كبرى كلية وهي لزوم إجتناب المسلمين والناس جميعاً خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما لا يليق بمقام النبوة فالآية مدرسة في تهذيب النفوس وعالم الألفاظ من وجوه متعددة منها:

الأول: الإرتقاء في لغة الخطاب.

الثاني: إدراك حقيقة وهي إكرام الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.

الثالث: إختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمرتبة من الإكرام يجب على المسلمين أن يتقيدوا بأحكامها.

الرابع: الآية الكريمة بشارة توالي نزول الآيات والأحكام على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بتبليغها للمسلمين، لأنها تأمرهم بالإستماع لها.

الخامس: من وجوه الإستماع للآيات القرآنية العمل بمضامينها وعدم التفريط بها بإعتبارها نعمة عظيمة، وفيه تفضيل للمسلمين على الأمم الأخرى لأنهم تلقوا الآيات بالإستماع والإستجابة  والإمتثال، فإستحقوا وراثة الأرض وتعاهد أحكام التوحيد إلى يوم القيامة.

السادس: في الآية شاهد على عدم حصول التحريف في التنزيل وآيات القرآن، لأن المسلمين يتلقون الآيات وكلمات الوحي بالقبول والرضا والحفظ، وتتجلى المصاديق الخارجية لقوله تعالى [انظُرْنَا وَاسْمَعُوا] في توارث أجيال المسلمين جيلاً بعد جيل لآيات القرآن وأحكام الشريعة، مع حرصهم على تدوينها وحفظ الآيات عن ظهر قلب.

التفسير

تفسير قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا]

بعد أن تفضل الله سبحانه بتعليم نبيه مراحل وكيفية التبليغ وان القرآن وما فيه من الأحكام ينزل نجوماً آية بعد أخرى، وسورة بعد سورة قال تعالى [لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ]([285])، كمصداق من مصاديق قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”،([286])جاءت هذه الآية خطاباً للمؤمنين في ذات الموضوع وهم أكثر حاجة إلى مثل هذا التأديب.

ويأتي التأديب قرآناً وقد يأتي ضمن السنة، ووروده في آية من القرآن تشريف للمسلمين ودلالة على أهمية الموضوع و ما يترتب عليه، وفي الإمهال مندوحة ومناسبة لفهم ما أخذوا من الأحكام والعمل بها قبل أن ترد عليهم آيات جديدة تتضمن سنناً وأحكاماً.

ويدل ظاهر الآية ولغة الإكرام في صيغة الخطاب على عظيم منزلة المسلمين، ونظم الآية يبين ان المؤمنين في مقام التعلم وتلقي الأحكام الشرعية، فالآية عون لهم وتأديب في كيفية هذا التلقي وليكون على الوجه الأكمل وينفعهم في دنياهم وآخرتهم.

أقول: لماذا لا يكون تأويل الآية أيضاً وفق المعنى اللغوي والقرآن نزل عربياً وان المؤمنين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم راعنا أي افزعنا بما يجب علينا من الجهاد والعبادة وأخذنا إلى الإتيان به أخذاً قوياً مفزعاً، وخوفنا مما ينتظر العاصين من العذاب وشديد العقاب، لا اقل انه وجه من وجوه تأويل الآية الكريمة يستحق ان يذكر ولا يمنع من البحث فيما تعنيه من الامهال لاسيما وان قراءة أبُي (انظرنا) من النظرة أي أمهلنا.

فجاء النهي لطفاً ورحمة وتخفيفاً وبلغة إكرام وإرشاد وتوجيه نحو الأحسن، وفيها إخبار عن رضا الله تعالى على صدق إيمانهم، إذ أن النهي لا يتعلق بالماهية والهيولي بل بالكيفية والصورة.

قانون سدّ الذرائع

الحمد لله الذي جعل الشريعة السماوية متكاملة بآيات القرآن والسنة النبوية ، ليخلص الناس في طاعة الله ، وتكون العصمة من الفتن العامة سنة ثابتة في الأرض ، تبعث النفرة في النفوس من الفسوق والمعاصي ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]([287]).

ومن سنن الشرائع سدّ الذرائع ، والسد لغة هو إغلاق الخلل ، وتدارك النقص.

والذريعة هي الوسيلة والسبب والبلغة للوصول إلى شئ ، وهي في الإصطلاح الأمر الذي الأصل فيه الإباحة ، ولكن يفضي إلى فعل محظور من ذات الفاعل أو من غيره ، فيترك هذا الأمر بسبب نتيجته وكأنه من ترك المقدمة لترك ذيها المنهي عنه .

وقال المالكية بسد الذرائع حتى أنهم اشتهروا به ، وبه قال الحنابلة ، ولم يقل به الشافعية والحنفية.

وسيأتي في الجزء السادس والأربعين بعد المائتين من هذا السِفر بأن الخلاف فيه صغروي ، فهناك ما يكون سدّ الذرائع ظاهراً ، مثل (المنع عن حفر البئر في الطرق العامة لأنه يسبب الهلاك والموت).

وهناك على الضد منه ما لا يمنع منه ، ولا يكون وسيلة لا تحسم مثل جواز زراعة العنب وعدم إتخاذ احتمال عصره خمراً من بعضهم سبباً للمنع منه ، ومنه عدم النهي عن سير المركبات في الطرق العامة في الليل خشية ضعف الرؤية واحتمال الحوادث.

واستدل بآية البحث على القول بسد الذرائع إذ كان المسلمون يقولون : (راعنا) يا رسول الله من المراعاة والإمهال والتخفيف للعمل بأحكام الشريعة ، وأن يسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلامهم واسئلتهم ، وما يرجون من البيان والتوضيح للأحكام ، إذ أنهم حديثو عهد بالشريعة السماوية .

ولكن هذه الكلمة تعني شيئاً قبيحاً عند اليهود ، ومعناها عندهم : اسمع لاسمعت ، أو أنها من الرعونية.

فنزل القرآن بنهي المسلمين عن قولها سداً للذريعة ، للمشابهة وأن لا يخاطب بها غيرهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للسخرية ، لوجود كلمات مرادفة ونظائر أخرى تفيد معنى المراعاة .

وفيه دعوة للمسلمين للتفقه في الدين ، ومن سد الذرائع مثلاً المنع من سفر المرأة بغير محرم قطعاً لذريعة الطمع فيها والتعدي عليها مع احتماله .

ومنه حرمة الطيب على المحرم لأنه من مقدمات الوطئ ، أو الإفتتان في مقام الإنقطاع إلى الله عز وجل بالتلبية وأداء المناسك في الحج ، قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]([288]).

بحث كلامي

من إسماء الله تعالى (المؤمن) وامان الله للخلائق مطلق لا يقدر أحد على التجاوز فيه , وفيه دعوة للناس للإيمان والإقرار بالعبودية له سبحانه , ومنهم من قسم الإيمان إلى إيمان قديم وهو صفة من صفاته تعالى، والإيمان المحدث وهو إيمان الخلائق وحقيقته التصديق وهذا التقسيم غير صحيح للتباين في الموضوع والمسمى وإن إتحد اللفظ، وفي التنزيل في صفات الله عز وجل[السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ]([289]).

والمؤمن هنا اسم فاعل من آمن غيره أي أن الهمزة للتعدية، فالله سبحانه هو الذي جعل الخلائق في آمان، وهو الذي حفظ الكون والنظام الدقيق للكواكب، وأمن التناسل بين البشر وحفظ خلافة الإنسان في الأرض بالتقوى والعبادة، قال تعالى[وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ]([290]).

 وأختلف فيه على أقوال كثيرة لا تعارض بينها، وهو على وجوه منها:

الأول: أن تؤمن بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر.

الثاني: تؤمن بالقدر خيره وشره.

الثالث: أداء الطاعات والفرائض دون النوافل.

الرابع: إجتناب السيئات والمعاصي.

الخامس : إرادة جميع الطاعات الواجبة والمندوبة.

السادس: إنه اسم شهادة العقول والآثار بالتصديق على وحدانية الله تعالى.

السابع: الإقرار بأن لله الخلق والأمر، لا شريك له.

 فمتعلق الأقوال أما التصديق أو الإقرار أو العمل أو إجتماعها.

وعن الإمام علي عليه السلام عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (الإيمان معرفة بالقلب واقرار باللسان وعمل بالأركان) ([291]).

 وعن علي بن الحسين عليه السلام: “ليس في القرآن [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إلا وفي التوراة “يا أيها المساكين” وهو المروي عن ابن عباس وعن خيثمة([292]).

بالاسناد عن ابن عباس قال: (ما أنزل الله آية فيها يا أيها الذين آمنوا إلا وعلي رأسها وأميرها([293]).

وقال الحسن والضحاك: إن كل شيء من القرآن [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فانه نزل بالمدينة([294]) ويستلزم التحقيق.

ولغة الخطاب نوع تشريف وإكرام وإمضاء لإيمانهم وهو بشارة لهم وشهادة إلهية على إيمانهم، ولكن متعلقها في الأفراد إجمالي، أي حالة بسيطة هي مبدأ تفاصيل المركب، ففي علم الله تعالى يكون الذين توجه لهم الخطاب معروفين ومتميزين، ولكننا في علمنا الطبيعي الذي يحتاج إلى المادة في الوجود الخارجي والذهني يتعذر علينا التعيين بصورة دقيقة شاملة، وهذا لا يمنع من الحكم على ظاهر الإيمان.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: (ان الخطاب يشمل المنافقين والضلال وكل من أقر بالدعوة الظاهرة)([295])أي خطاب[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].

فهم مشمولون بهذا الخطاب التشريفي لدخولهم بالنطق بالشهادتين في إطلاقاته، ولا يعني أنهم يستحقون ما فيه من الإكرام بعرض واحد مع المؤمنين بل هو باب من فضله تعالى يبقى مفتوحاً لهم للتوبة وإصلاح سريرتهم بعد علانيتهم ولإقامة الحجة.

وورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في القرآن تسعاً وثمانين مرة، وهو عنوان إكرام للمسلمين.

 وقيل: انه تعالى خاطب المؤمنين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن) ([296])، وكان العلماء يولون أهمية خاصة لمفهوم العدد ويبذلون الوسع في الإحصاء والمتابعة العددية بواسطة حب الشعير ونحوه من غير إستعانة بآلة حديثة للحساب.

 وهذه هي أول آية وفق ترتيب سور القرآن يرد فيها هذا الخطاب التشريفي الكريم، وفيه آيات ومسائل:

الأولى : إنه جاء بعد ما ورد في الآية السابقة من قوله تعالى [وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا] في ذم من فوت على نفسه فرصة الإيمان من الأمم السابقة، فالجمع بين الآيتين والدراسة المقارنة لمضمونهما يدل على إستحقاق المسلمين لمنازل الإيمان وأهليتهم لهذا العنوان العظيم إبتداءً وبقاءً إذ أن الخطاب القرآني هذا ينحل إنحلالاً مركباً، وينحل إفرادياً بعدد المؤمنين الموجود منهم والمعدوم في زمان النزول وينبسط زمانياً على الموجود من جماعات المؤمنين في كل زمان أي وان كان معدوماً أيام التنزيل.

الثانية : يدل الخطاب في مفهومه على وعد بالثواب، وهو من فضل الله تعالى وإحسانه لما في نوع الوصف من مضامين الرضا والإكرام وهو بشارة الأمن من العذاب.

الثالثة : إن أول فرد من هذا الخطاب التشريفي جاء بالنهي عن أمر بقوله تعالى [لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا]، ولعله للمحافظة على الإيمان باجتناب النواهي، ومراتب الإيمان متعددة ومتفاوتة ويصدق على كل منها عنوان الإيمان، ولكن النواهي تشترك فيها جميع تلك المراتب بعرض واحد، وهي أمور وجودية تفيد الترك المقرون بالإرادة والعزيمة.

الرابعة : هذا التشريف والنعت بصفة الكمال يملي على المسلمين مسؤوليات عقائدية منها نبذ الطرق التي أدت بالأمم السابقة إلى الإنحراف وسلب صفات المدح والثناء عنهم.

الخامسة : المخاطب في الآية الكريمة أعم من المؤمنين فيشمل من يلحق بهم من المسلمين.

لقد أكرم الله عز وجل المسلمين بأن دعاهم إلى التنزه عن القول القبيح الذي يأتي على أهله بالذم والتوبيخ، وفي هذا النهي مسائل:

الأولى: إنه بيان لمقام وعظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثانية: دعوة الناس جميعاً إلى حسن الخطاب والنداء مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثالثة : إظهار المسلمين إقرارهم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحسن السمت والأدب في صيغة الخطاب.

الرابعة : الإنكار على الذين يسيئون الخطاب مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الخامسة : تعليم المسلمين صيغ الإحتجاج والزجر عن القبائح بالنهي القولي والحكمة، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ([297]).

ومن أسرار الآية أنها تمنع المسلمين من البطش باليهود وغيرهم والذين يسيئون الخطاب مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويظهر الإستهزاء والإستخفاف من وجوه:

الأول: تذكر الآية القول والخطاب القبيح[رَاعِنَا].

الثاني: تهدي الآية المسلمين إلى الخطاب بالأحسن، وما فيه إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومقام الرسالة.

الثالث: في الآية إنذار ووعيد للكافرين، وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين، وشفاء لما في صدورهم من التعدي والإيذاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولهم، إذ أن الإستهزاء في مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إساءة وإيذاء للمسلمين والمسلمات جميعاً.

فجاءت خاتمة الآية وسيلة لتغشيهم بالصبر، وإنشغالهم بإصلاح أنفسهم، والإنقطاع إلى ذكر الله عز وجل وأداء الفرائض .

إن الإستهزاء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في لغة الخطاب، إنكار للتنزيل، وإستخفاف بالمسلمين وهو من عمومات[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ] ([298])، وهؤلاء الذين يخاطبون النبي بكلمات إستخفاف ويقولون[رَاعِنَا] ويقصدون الإستهزاء هم السفهاء لأنهم لا يضرون إلا أنفسهم، ولا ينحصر هذا الضرر بالحياة الدنيا، بل يشمل الآخرة، إذ تكون عاقبتهم الخلود في الجحيم، وجاءت هذه الآية لزجرهم عن الإستهزاء بالمسلمين، ودعوتهم إلى التدارك بالتوبة والإنابة.

[وَقُولُوا انظُرْنَا] من إعجاز الآية أنها لم تأت بالنهي وحده ، بل جاءت بالأمر بما يقال بدل الكلام المنهي عنه، مع إتحاد جهة الخطاب وإرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويحتمل الموضوع وجهين:

الأول: إتحاد الموضوع في قول راعنا وإنظرنا.

الثاني: تعدد الموضوع.

والصحيح هو الأول وذكر أن كلمة راعنا ليست سباً وإنما كان المسلمون يقصدون أن ينتظرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتأنى بهم حتى يفهموا الآيات والنصوص، ويحفظوها ويتفقهوا فيها، ولكن كانت عند بعضهم كلمة بذات اللفظ تفيد باللغة العبرانية والسريانية السب والشتم، فلما سمعوا المؤمنين يقولون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(راعنا) أخذوا يخاطبون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بها إستهزاء ولإرادة الشتم والسب والإستهزاء للإتفاق اللفظي بين الكلمتين مع تباين المعنى في اللغتين.

فجاءت هذه الآية لدعوة المسلمين إلى إختيار كلمة مشابهة في المعنى لكلمة(راعنا) ومغايرة لها في اللفظ، وهو من الإعجاز في الشريعة الإسلامية وسنن الخطاب بين المسلمين، وتدخّل القرآن بلغة الأوامر والنواهي في صيغ التخاطب.

وما يفيد التخفيف عنهم، ومنع إستخفاف الآخرين بهم، والنيل منهم، وهل في الآية دعوة للمسلمين لتعلم اللغات الأخرى الجواب نعم لأن فيه الأمن من أذاهم إلى جانب المنافع الكثيرة المتعددة في هذا التعلم.

وأمرت الآية المسلمين أن يقولوا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[انظُرْنَا] أي إنتظرنا نتدبر ونتفقه في الدين ونحسن أداء التكاليف.

(وقرأ أُبي أنظرنا) ([299])، من النظرة: أي أمهلنا حتى نحفظ.     

ولا تنحصر منافع الأمر في هذه الآية بالسلامة من الخبث والإستهزاء الذي يقوم به بعضهم عند سماع الكلمة، والنطق بها مع إرادة قصد الإستخفاف والسب.

ويمكن القول أن بين[رَاعِنَا]و[انظُرْنَا]عموماً وخصوصاً مطلقاً، فمعاني كلمة راعنا أعم، فقد أرادوا من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يخفف عنهم ويراعي حالهم وينظر إلى عدم قدرتهم على التكاليف، وحداثة عهدهم بها، وكأن المراد سؤال بعض المسلمين النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تأجيل بعض الكتائب في الشتاء مثلاً وإنتظار الصيف أو العكس، أو إلى حين تتهيأ عندهم الأسباب والمقدمات، وإتيان بعض الأفعال العبادية دون بعضها الآخر.

 أما قوله تعالى[انظُرْنَا] فيعني الإمهال والتأني بهم، وليس منه التبعيض والتجزئة في الواجبات.

تفسير قوله تعالى [وَاسْمَعُوا]

أمر بالإستماع والإصغاء إلى الآيات القرآنية وإلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأمرهم به من عند الله عز وجل، والأمر بالسمع يدل على صفة زائدة غير قيام حاسة السمع بالسماع قهراً، إذ أن الآية تطلب منهم السماع الذي جاء إستعارة وكناية عن القبول والعمل بالأحكام الشرعية، وفيه مسائل:

الأولى :     الآية تنبيه وتحذير كيلا يكونوا مثل الأمم السابقة في الإعراض عما جاء به الأنبياء.

الثانية : الإستماع والطاعة طريق للنجاة في الآخرة.

الثالثة : هو من صفات المؤمنين.

الرابعة : إظهار الفرق وما يتميز به المؤمنون عن غيرهم بالإستماع والإصغاء لما يأتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الخامسة : الإستماع والإنصات مقدمة وطريق للتدبر بآيات الله.

السادسة : سماع الآيات والتدبر والعمل بمضامينها باب ومدخل لنزول آيات واحكام جديدة.

السابعة : الإستماع نوع توثيق ذاتي للأوامر الإلهية وما يأتي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثامنة : فيه درس للناس وهم يرون المسلمين يصغون بقصد الإتباع والطاعة إلى ما ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات وما يأمر به.

التاسعة : الآية في دلالاتها دعوة لدخول الإسلام.

وورد لفظ(اسمعوا) في أربع آيات من القرآن، ويتقدمها جميعاً حرف العطف(الواو)، جاءت واحدة خطاباً لبني إسرائيل قال تعالى[خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا]([300])، لبيان موضوعية حاسة السمع والإصغاء للآيات في تثبيت الإيمان في الصدور، وتعاهد العمل بالأحكام الشرعية.

وجاءت الآيات الثلاثة الأخرى خطاباً للمسلمين إحداها الآية محل البحث، كما ورد قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا] في الخشية من الله عز وجل في الشهادة، والحرص على صدقها، وإستماع المسلمين إلى الأوامر والنواهي إستماع إجابة وإمتثال، وتلقيها بالقبول والتعاهد.

وورد في سورة التغابن [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا]([301])، وفيه حث للإستماع لآيات القرآن وما فيها من الموعظة والحكمة، ومن الآيات أن الأمر بالسماع جاء في الآيتين أعلاه بعد الأمر بتقوى الله مما يدل على موضوعية الخشية من الله في تحقيق أصل الإستماع، وفي النفع العظيم منه، فمع التقوى يكون الإصغاء والفهم والتدبر وإتخاذ السمع وسيلة للنجاة في النشأتين.

تفسير قوله تعالى [وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ].

إنذار ووعيد للذين يكفرون برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالقرآن، وفي الآية بشارة مركبة للمسلمين فيما ينتظر الكفار من العقاب في الآخرة، وهي في مفهومها بيان لصحة فعل المسلمين بتخلصهم من الكفر ودخولهم في الإسلام.

وجاءت الآية في وجوه:

الأول: ذم الذين ينادون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بما لايليق ومقام النبوة.

الثاني: تحذير المسلمين من محاكاتهم.

الثالث: إرشاد المسلمين إلى صيغ الخطاب وحسن الأدب مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الرابع: الوعيد والتخويف للكافرين، ويحتمل لفظ (الكافرين) في المقام وجوهاً:

الأول: الذين يكفرون بالله عز وجل.

الثاني: الذين ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثالث: إرادة الذين يمتنعون عن الكف عن مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما لا يليق.

الرابع: المقصود المسلمون الذين لايتقيدون بأحكام هذه الآية.

والوجوه الثلاثة الأولى كلها صحيحة، لإرادة الإطلاق ، وصدق الكفر على تلك الأفعال المذمومة.

 أما الرابع فان الآية جاءت لإكرام المسلمين، وهدايتهم، وتتضمن آيات القرآن في منطوقها ومفهومها المدح والثناء للمسلمين، فيكفي أنهم صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من عند الله لتنتف عنهم صفة الكفر.

 ولم يخاطب المسلمون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلا بما يدل على الإكرام والتقديس، قال تعالى[لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا]([302]).

مناسبة الآية

ورد قوله تعالى [وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ] مرتين في القرآن ومثل هذا اللفظ يأتي في آخر الآية، ولعل المفسرين لم يجعلوا موضوعية لمثل هذا التعدد الذي يرد في صيغ وأحوال مشابهة عديدة في القرآن وما يدل على التباين في المعنى والتأويل في الغالب، فالظاهر ان الآية اذا جاءت بذات اللفظ فلا يعني وحدة المعنى بل المعنى مختلف باختلاف مناسبة المقام والموضوع والسياق.

لذا فتحنا باباً جديداً في التفسير فيه بيان للألفاظ التي قد تتكرر في الآيات أسميناه (علم المناسبة) كي تظهر الفائدة الخاصة بكل آية وينكشف ما فيها من الحجب النورانية ولتبدو صفحة اخرى من عظمة القرآن واعجازه، وتتجلى آفاق مباركة تكون مدخلاً لدراسات وعلوم مستحدثة في أسرار آيات القرآن.

والمرة الثانية التي ورد فيها هذا اللفظ في كفارة الظهار [وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ]([303])، وموضوعها ليس الكفر بالربوبية او كفر الجحود بل الكفر الذي يعني ترك ما أمر الله به، ولعل المقصودين بهذه الآية غير المقصودين بالآية محل البحث فهما نوعان مختلفان وان جمعتهما وحدة الجنس.

ان طلب الإنظار والإمهال لن يكون مناسبة وتشجيعاً للكفار بالإنقضاض على الإسلام او على المؤمنين، والأمر بسؤال الإنظار لا تتولد عنه آثار عرضية ضارة ولا يكون مطمعاً لأعداء الإسلام، ولعله لما اصبح عليه الإسلام من القوة والمنعة ولما يلازم حالة الإمهال من الإستماع والتوثب والإستعداد والعلم عند الله.

قوله تعالى[مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ] الآية 105.

الإعراب واللغة

ما: نافية، يود: فعل مضارع مرفوع، الذين: فاعل يود، كفروا: فعل وفاعل صلة الموصول.

من أهل: جار ومجرور، في محل نصب على الحال، الكتاب: مضاف اليه مجرور وعلامة جره الكسرة.

ولا المشركين: الواو: حرف عطف، لا: نافية،جاءت للتوكيد، المشركين: معطوف على اهل الكتاب، مجرور وعلامة جره الياء لانه جمع مذكر سالم.

 ان ينزل: ان وما في حيزها في تأويل مصدر والتقدير نازل.

عليكم: جار ومجرور متعلقان بالفعل المبني للمجهول(ينزل). 

من خير: من: حرف جر زائد، خير: مجرور لفظاً مرفوع محلاً على انه نائب فاعل.

من ربكم: جار ومجرور متعلقان بالفعل المبني للمجهول (ينزل).

والله: الواو استئنافية، الله: لفظ الجلالة مبتدأ مرفوع.  يختص : فعل مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، برحمته: الباء: حرف، رحمة: اسم مجرور، وهو مضاف، الهاء مضاف إليه، من: اسم موصول مفعول به، ويجوز ان تكون الواو عاطفة.

يشاء: فعل مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو الله، ومفعول يشاء محذوف لإطلاق قدرة الله عز وجل وسعة فضله.

والله ذو الفضل العظيم: الواو:حرف عطف، الله: اسم الجلالة مبتدأ مرفوع، ذو: خبر مرفوع، وعلامة رفعه الواو، الفضل: مضاف إليه مجرور، العظيم: صفة للفضل مجرور بالكسرة، والجملة لا محل لها معطوفة على جملة(الله يختص).

الود: الحُب، وغالباً ما يكون في ابواب الخير، ويأتي بمعنى التمني، ومن اسمائه تعالى (الودود)، وهو فعول ويصح ان يكون بمعنى فاعل وبمعنى مفعول، فهو الذي يحب عباده، وهو المحبوب من قبلهم.

وخصه بالشيء يخصه خصّاً، وخصوصية – بفتح الخاء او ضمها والفتح افصح – أي افرده به دون غيره.

في سياق الآيات

جاءت الآيات السابقة في موضوعين متتاليين:

الأول: ذم الذين أقدموا على القول والفعل المنافي لصيغ وآداب المليين.

الثاني: نصح المسلمين وارشادهم في كيفية التصرف رجاءً للوحي وتلقي الأحكام وتضمنته الآية السابقة، وجاءت هذه الآية جامعة في وحدة الموضوع والاخبار والتنبيه الى جانب من الآثار العرضية المركبة للآيات السابقة وعمدتها بشارة المسلمين، وسيأتي في الآية التاسعة بعد المائة من هذه السورة ان الحسد تجلى ظاهراً في نفوسهم بمحبتهم لرد المسلمين عن ايمانهم.

وآية البحث معطوفة ومتصلة في موضوعها بالآية السابقة ، وان لم تبدأ بحرف عطف كالواو ، ويدل على العطف في المقام صيغة الخطاب في الآيتين إذ إبتدأت الآية السابقة بنداء التشريف والإكرام[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]، ويفيد الجمع بين آية البحث والآية قبل السابقة[وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا]([304]) مسائل:

الأولى : ورد في الآية قبل السابقة لفظ خير [لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌْ] ولفظ(خير) وهو اسم تفضيل ويتضمن معنى الفضل والنعمة أيضاً أما في آية البحث فالمراد لفظ (خير) مصدر استعمل كالاسم وجاء على نحو التنكير لإفادة الإطلاق والتعدد في الرزق والفضل الإلهي على المسلمين، وفيه دعوة لهم للتوجه للدعاء وسؤال نزول المزيد من النعم مع التوقي من الحسد وأسبابه.

الثانية :  إن الإيمان والتقوى هما الطريق لنزول الخير من عند الله ويدل عليه الخطاب للمسلمين في الآية السابقة بصفة الإيمان ويكون وفق القياس الإقتراني:

الكبرى :  الذين آمنوا واتقوا ينزل عليهم الخير من الله .

الصغرى : المسلمون هم الذين آمنوا واتقوا .

النتيجة : المسلمون ينزل عليهم الخير من الله .

الثالثة : بيان حقيقة وهي أن الناس شرع سواء في الخير النازل من عند الله بقيد تحقق شرائطه بالتحلي بخصال العبودية لله عز وجل.

الرابعة : الإيمان واقية من الحسد والبغضاء لإنتفاء الواسطة بين العبد المؤمن والخير النازل من عند الله.

فما يراه عند غيره من المؤمنين يجده عنده وفي متناول يده وتكرر لفظ (خير) في الآية التالية بقوله تعالى[مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا]([305]) لبيان مصداق من مصاديق الخير التي أخبرت آية البحث عن نزولها، وأنها لا تنحصر بالحسن الذاتي ، بل تشمل التفضيل في الأثر ، وليس في ذات التنزيل لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، فكل آية وكل كلمة من القرآن من عند الله ، وهل تدل آية النسخ هذه على سلامة القرآن من التحريف ، الجواب نعم ، وان النعمة اللاحقة أعظم وأكبر من النعمة التي نزلت قبلها في ذات الموضوع.

وأختتمت الآية التالية بقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] وفيه دعوة للناس جميعاً لجلب المصلحة والنهل من فضل الله بالعمل بأحكام التنزيل، قال تعالى[نَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ]([306]).

إعجاز الآية

الآية بيان لما يملأ صدور الكفار من الحنق وعدم الرضا بنزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتغشي الفيض الإلهي على المسلمين في دينهم ودنياهم، ووعد بدوام نعمه تعالى على المسلمين واتصالها عليهم وظهورها بدوام الهداية والايمان، وفيها اشارة لما قد يسببه الحسد من كيد وأذى لهم، كما تثبت الآية عظيم فضل الله تعالى ونعمه على المسلمين.

وتظهر الآية ما يخفيه الكفار من نوايا السوء نحو المسلمين وفضحه، وبشارة دوام توالي النعم على المسلمين، وهي سلاح احترازي بيد المسلمين لما في الآية من انوار مباركة، وفيها بيان لتفضل الله تعالى بنعمة ورزق خاص وكريم لبعض الأمم أو الأشخاص.

وتبين الآية حال الحسد الذي يضمره الكفار للمسلمين، وتدعو المسلمين الى الحيطة والحذر منهم، وتتضمن الآية الإخبار والتأديب، ومن الإعجاز في الآية مجيء التبعيض بخصوص أهل الكتاب، والعموم بالنسبة للمشركين ومن الآيات ان حرف العطف “الواو” لا يحتمل تأويل التبعيض أيضاً في المشركين.

الأول: مجيء أداة النفي “لا” في قوله تعالى [وَلاَ الْمُشْرِكِينَ].

الثاني: ان المشركين هم كفار والتبعيض بخصوص أهل  الكتاب رحمة ورأفة بهم، ودعوة لهم لمعرفة ما يلحقهم من النفع بالنعم الإلهية على المسلمين وهو على وجوه:

الأول: إقرار المسلمين بنزول التوراة والإنجيل.

الثاني: إيمان المسلمين ببعثة موسى وعيسى والأنبياء جميعاً عليهم السلام وبه جاءت الآيات القرآنية والسنة النبوية.

الثالث: بقاء كلمة التوحيد في الأرض، لذا جاءت الآيات السابقة بذكر فريق من أهل الكتاب، أما هذه الآية فذكرت الذين كفروا، في إشارة الى أن النعم والرحمة الإلهية على المسلمين تؤدي الى تثبيت التوحيد وإعلاء لواء لاإله إلا الله.

الرابع: في الخير الذي يأتي للمسلمين واقية لأهل الكتاب من المشركين لتسليم المسلمين بصدق نبوة موسى وعيسى عليه السلام، فمن إعجاز الآية أن المشركين أعداء أهل الكتاب، وجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بأهل الكتاب ودعوة لدخولهم الإسلام، ومن يبقى منهم على دينه فلا يكره على الإسلام ما دام غير حربي، ويكتفى منه بدفع الجزية، أما المشركون فلا يقبل منهم إلا الإسلام.

الخامس: من وظائف أهل الكتاب العقائدية التسليم بإن الله عز وجل يفعل ما يشاء، ويرزق من يشاء بغير حساب وأنه سبحانه تفضل على المسلمين بالعز والنصر والخير الكثير.

السادس: إن النعم الإلهية على المسلمين مصداق للبشارات التي جاء بها موسى وعيسى عليهما السلام، ونزلت بها التوراة والإنجيل.

ويمكن أن نسمي  هذه الآية آية “ما يود” ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.

الآية سلاح

تطلع الآية الكريمة المسلمين على ما في نفوس الآخرين من الحسد لهم، وتبشرهم بالنعم لما فيها من مضامين الملازمة بين الايمان ونزول الرحمة.

وفيها دعوة للمسلمين لأخذ الحائطة والحذر من وجوه:

الأول: التوقي من أهل الحسد والبغضاء.

الثاني: الإحتراز مما يترشح عن الحسد من الأذى والضرر، فالآية أخبرت عن عدم ود الكفار لما يناله المسلمون من النعم، وهو أصل وحالة نفسانية تغلب معها النفس الغضبية والشهوية عندهم وتترشح بالتعدي على المسلمين مع القدرة عليه،  فجاءت الآية لجعل المسلمين يأخذون أهبة الإستعداد لذا قال الله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ]([307])، بلحاظ المعنى الأعم للآية.

الثالث: تعاهد المسلمين للنعم الإلهية، والحفاظ عليها وعدم التفريط بها.

وتدعو الآية المسلمين للشكر لله عز وجل على النعم المتوالية عليهم ، وعلى تحذير آية البحث لهم ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] ويتجلى شكر المسلمين بلحاظ آية البحث من وجوه :

الأول : توجه الخطاب في الآية للمسلمين.

الثاني : إنفراد المسلمين برزق كريم من عند الله وإتصافه بخصوصية وهي كونه نازل من عند الله عز وجل.

الثالث : كشف ما يضمره الآخرون أزاء الإسلام والمسلمين، وإطلاع المسلمين عليهم ليكون مناسبة لسلامتهم من آثار الشك والريب .

الرابع : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديق المسلمين به وترشح الخير والبركة عليهم من ليلة ولادته وإلى يوم القيامه، (عن مخزوم بن هانئ المخزومى، عن أبيه وأتت عليه خمسون ومائة سنة قال: لما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة.

ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادهم، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك فتصبر عليه تشجعا، ثم رأى أنه لا يدخر ذلك عن مرازبته، فجمعهم ولبس تاجه وجلس على سريره ثم بعث إليهم فلما اجتمعوا عنده.

قال: أتدرون فيم بعثت إليكم ؟ قالوا: لا إلا أن يخبرنا الملك فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب خمود النيران فازداد غما إلى غمه، ثم أخبرهم بما رأى وما هاله فقال الموبذان: وأنا، أصلح الله الملك، قد رأيت في هذه الليلة رؤيا.

ثم قص عليه رؤياه في الابل، فقال: أي شي يكون هذا يا موبذان؟ قال: حدث يكون في ناحية العرب وكان أعلمهم من أنفسهم فكتب عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر، أما بعد فوجه إلى برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه فوجه إليه بعبد المسيح بن  مرو بن حيان بن بقيلة الغساني، فلما ورد عليه قال له: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه ؟ فقال: لتخبرني أو ليسلني الملك عما أحب، فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلم.

فأخبره بالذي وجه به إليه فيه قال: علم ذلك عند خال لى يسكن مشارف الشام يقال له سطيح قال فائته فاسأله عما سألتك عنه ثم ائتنهى بتفسيره.

فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح وقد أشفى على الضريح، فسلم عليه وكلمه فلم يرد إليه سطيح جوابا فأنشأ يقول: أصم أم يسمع غطريف اليمن* أم فاد فازلم به شأو العنن يا فاصل الخطة أعيت من ومن* أتاك شيخ الحى من آل سنن وأمه من آل ذئب بن حجن* أزرق نهم الناب صرار الاذن أبيض فضفاض الرداء والبدن* رسول قيل العجم يسرى للوسن تجوب بي الارض علنداة شزن* لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن ترفعني وجنا وتهوى بى وجن* حتى أتى عارى الجآجى والقطن تلفه في الريح بوغاء الدمن* كأنما حثحث من حضنى ثكن

قال: فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه يقول: عبد المسيح،  على جمل مشيح، أتى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بنى ساسان، لارتجاس الايوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها.

يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادى السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما.

يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات وكلما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه فنهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول: شمر فإنك ماضى العزم شمير * لا يفزعنك تفريق وتغيير إن يمس ملك بنى ساسان أفرطهم * فإن ذا الدهر أطوار دهارير فربما ربما اضحوا بمنزلة * يخاف صولهم الاسد المهاصير منهم أخو الصرح بهرام وإخوته * والهرمزان وسابور وسابور والناس أولاد علات فمن علموا * أن قد أقل فمحقور ومهجور ورب قوم لهم صحبان ذى أذن * بدت تلهيهم فيه المزامير وهم بنو الام إما إن رأوا نشبا * فذاك بالغيب محفوظ ومنصور والخير والشر مقرونان في قرن * فالخير متبع والشر محذور قال: فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بما قال له سطيح،

فقال كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور وأمور! فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان)([308]).

وكان آخر ملوكهم الذي سلب منه الملك يزدجر بن شهريار بن أبرديز بن هرمز بن أنو شروان وهو الذي إنشق الإيوان في زمانه وكان لإسلافه في الملك ثلاثة آلاف سنة ومائة وأربعة وستون سنة.

مفهوم الآية

تدعو الآية إلى التصديق بالقرآن ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأعطت الآية للمشركين نعتاً جامعاً لهم لأنهم لا يقرون بالتنزيل ولا يقولون بالتوحيد.

 فالآية في مفهومها تخبر عن وجود طائفة من اهل الكتاب لا يحسدون المسلمين على ما آتاهم الله من فضله ونزول القرآن علىالرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا ورد قوله تعالى [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى] ([309]).

إن بيان عظيم نعمه سبحانه على المسلمين دعوة لأهل الكتاب والناس جميعاً للإقرار بمنزلة المسلمين عند الله وهذا الإقرار مقدمة لدخول الإسلام ومشاطرة المسلمين النعمة من غير ان ينتقص منها شيء وهي تزداد بفضله واحسانه تعالى مع ازدياد عدد المسلمين واتساع رقعة الإسلام، أي ان الآية تدعو الناس جميعاً ليكونوا ممن يختصهم الله برحمته وتتغاشهم رأفته بالإسلام.

وتبعث مضامين الآية السكينة وتحث على التدبر في آيات الله تعالى وعظيم احسانه وتوالي نعمه ووواسع رحمته، وتدعو المسلمين الى الشكر والثناء عليه تعالى لما خصهم به من نعمة الهداية ولزوم تعاهد الإسلام ومبادئه واحكامه.

وفي الآية مسائل:

الأولى: نفي رضا وقبول فريق من الناس لما عليه المسلمون من الشأن وتوالي النعم.

الثانية: تجلي النعم على المسلمين، وظهور معالمها عليهم جماعات وأفراداً، ومن الشواهد عليه حسد الكفار للمسلمين، لأن الحسد كالأثر لموضوع موجود واقعاً.

الثالثة: ترى لماذا لايود هؤلاء نزول الفضل الإلهي على المسلمين، فيه وجوه:

الأول: تجعل النعم والمدد الإلهي المسلمين في قوة ومنعة.

الثاني: في نزول الخير للمسلمين علو شأن المسلمين وإتساع دولتهم، وتوجههم لسوح الدفاع في سبيل الله.

الثالث: يقوم المسلمون مع توالي النعم عليهم بدعوة الناس للإسلام وحملهم على التقيد بالسنن الإلهية.

الرابع: صحيح أن الآية جاءت بالجمع بين الذين كفروا من أهل الكتاب وبين المشركين، الا أن بغضهم لما عند المسلمين يتباين في أسبابه وكيفيته ومواضيعه وغاياته.

إن الإقرار بالبشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برزخ دون الحسد، ومانع من غلبة النفس الشهوية لما يترشح عنه من التسليم بأمر الله، وأهلية المسلمين لتلقي الرحمة الإلهية.

الرابعة: لا تنحصر مضامين الآية بمصاديق الخير التي نزلت على المسلمين، بل تشمل ما ينزل منها بعد نزول الآية في أيام النبوة المباركة، والخلافة الراشدة ودولة وأيام المسلمين إلى يوم القيامة، وتخبر الآية عن بقاء حال الحسد والنفرة وعدم الود من قبل الكفار لتوالي النعم على المسلمين، لذا فان مجئ الآية بصيغة الفعل المضارع دليل متجدد على إعجازها في المقام، كما أن المصاديق الواقعية لمضامين الآية شاهد يومي آخر على صدق نزولها من عند الله.

الخامسة : تدل الآية في مفهومها على عدم موضوعية وأثر الكفار وكراهتهم في نزول الخير على المسلمين لأنه بيد الله، والله عز وجل يفعل ما يريد، ويرزق من يشاء وهو الذي ينزل النعم على المسلمين، قال تعالى[وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ]([310]).

السادسة : لا يستطيع الناس مجتمعين ومتفرقين منع النعم الإلهية عن المسلمين.

السابعة : لم تذكر خاتمة الآية المسلمين على نحو الخصوص في إختصاص النعمة ، وفيه وجوه:

الأول: دلالة الآية على إرادة المسلمين بلحاظ أولها ومضامينها وإخبارها عن نزول النعم الإلهية على المسلمين.

الثاني: تدعو الآية الناس الى الفوز بالخير ومصاديق الرحمة برضا الله، الذي يكون بالتصديق بالنبوة والتنزيل، وفي التنزيل[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا]([311]).

الثالث: دخول الإسلام نعمة وخير عظيم.

الرابع: فرض العبادات والتكاليف على المسلمين والتوفيق لأدائها من النعم الإلهية.

الثامنة : خاتمة الآية ترغيب للناس بالسعي لنيل فضل الله تعالى.

الآية لطف

لقد أراد الله عز وجل للمسلمين العز والرفعة للمسلمين في الدنيا والآخرة، وتفضل عليهم بالنعم المتصلة المتعاقبة، وزاد عليهم بأسباب الوقاية لهذه النعم وبما يكفل دوامها.

ومن هذه الأسباب الآية الكريمة محل البحث التي تفضح أهل الحسد والبغضاء وهي لطف بالناس جميعاً لتحذيرهم من المكر بالمسلمين، والإساءة اليهم.

وفيها تنبيه لهم بقبح الحسد على المسلمين، وتدعوهم الى السعي للفوز بما ناله المسلمون، وهذه الدعوة من عمومات قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] فخزائن الخير والفضل الإلهي من اللامنتهي، والله هو الواسع الكريم ، لذا وردت نصوص بمدح الغبطة وتمني مثل النعم التي عند الآخرين وعدم الرغبة بزوالها عنهم، وذم الحسد وهو تمني زوال نعمة الغير.

وتتضمن الآية توبيخ أهل الحسد، ودعوتهم لتركه، ومن منافع تركه النظر الى الأمور بمنظار التدبر والبصيرة، ومعرفة سعة رحمة الله، وإمكان التوبة والإنابة، وفتح باب الدعاء والمسألة للناس جميعاً لذا جاءت خاتمة الآية بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] .

فمن منافع الذم والتوبيخ لأهل الحسد أمور :

الأول : دعوتهم لإصلاح الذات.

الثاني : الحث على تهذيب النفوس.

الثالث : الترغيب بإكتساب المعارف.

الرابع : تأكيد القبح الذاتي للحسد.

لقد أراد الله تعالى للمسلمين تعيين أعدائهم وغاياتهم ووسائل مكرهم.

إفاضات الآية

جاءت الآية بصيغة الخطاب للمسلمين بلحاظ العطف على الآية السابقة التي تبدأ بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لتكون هي ذاتها خيراً كثيراً للمسلمين، وهذه الآية رحمة من عند الله إختص بها المسلمين من بين الأمم ، وهي شاهد على تفضيل المسلمين على الناس، ومصداق لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ([312])، إذ أن إختصاص المسلمين بهذه الآية وما فيها من الخير ولغة التحذير والتنبيه أمور:

الأول : الآية رحمة بالناس جميعاً.

الثاني : الآية وسيلة لسعي المسلمين في جذب الناس للإسلام.

الثالث : منع الناس من الإضرار بالمسلمين.

الرابع : ذم أسباب الحسد والبغضاء.

الخامس : الآية شاهد على إقرار الناس بعلو مرتبة المسلمين، وصيرورتهم أمة عظيمة يتغشى الخير والبركة أفرادها مجتمعين ومتفرقين.

وتدعو الآية المسلمين إلى شكر الله تعالى على ما في هذه الآية من النعم، وهي على وجوه:

الأول: توالي نزول الفضل الإلهي على المسلمين.

الثاني: فوز المسلمين بالإختصاص برحمة الله وهذا الإختصاص لا يعني حجبها على الناس، بل المراد وجوه وأفراد معينة من فضل الله تعالى لا ينالها إلا من يشاء الله تعالى من وجوه:

الأول: تتغشى نعم الله تعالى الناس جميعاً في خلقهم ودوام معيشتهم وإستدامة أسباب الرزق وحسن العاقبة.

الثاني: دلالة الآية على معنى الزيادة في الرزق لقوله تعالى بصيغة الشرط [أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ].

الثالث: إختتام الآية بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ومن مصاديق هذه الخاتمة ان الرزق الإلهي على وجوه متعددة وهي:

الأول: ماهو شامل للناس جميعاً ، قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ([313]).

الثاني: ما يصيب البر والكافر.

الثالث: الرزق الذي يأتي لمن إختاره واختصه الله تعالى به، وتدل الآية على حب الله تعالى للمسلمين، ونزول زيادة من فضل ورحمة الله تعالى عليهم، وحسد الكفار لهم على هذه الزيادة مع أنها في متناول الناس جميعاً بما فيهم أهل الحسد أنفسهم ولكن بقيد الإيمان وحسن السمت.

التفسير الذاتي

إبتدأت الآية بأداة النفي (ما) والود هو المحبة والميل إلى الشئ، أي لا يريد ولا يحب الذين كفروا نزول الخير والنعمة على المسلمين من عند الله، ومع أن مصادر وجهات الخير متعددة وليس لها حصر، فان الآية ذكرت النزول لبيان أن الآيات القرآن وما ينزل من السماء، وفيه مسائل:

الأولى: التنزيل خير محض.

الثانية: الأصل في الخير هو الوحي والتنزيل، إذ تترشح منه البركة والفيض.

الثالثة: كشف ما تخفيه نفوس الكفار من العداء للمسلمين.

  وتدعو الآية المسلمين للتوجه إلى الله عز وجل بالشكر والثناء لتفضله بنزول الخير عليهم من السماء، فاذ يشترك الناس بتلقي الخيرات والبركات من الأرض والناس ذاتهم إذ جعل الله عز وجل الناس بالناس، فانه سبحانه أنعم على المسلمين بنعمة إضافية زائدة، وهي نزول القرآن كأعظم نعمة تلقاها الناس منذ هبوط آدم إلى الأرض، وهو من الشواهد على أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([314])، من وجوه:

الأول: تشريف وإكرام المسلمين بأعظم نعمة.

الثاني: إختصاص  المسلمين بنزول القرآن عليهم.

الثالث: عدم حجب هذه النعمة على الناس، فكل إنسان يستطيع أن ينهل وينتفع منها بشرط الدخول في الإسلام.

الرابع: من خصائص نعمة القرآن عدم إنحصار منافعها بالحياة الدنيا بل تشمل الدنيا والآخرة.

الخامس: في القرآن بيان للأحكام والسنن، وعلوم الغيب قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]([315]).

السادس: القرآن واقية من الكيد والحسد والضرر، فمع ورود هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية فانها تتضمن مسائل:

الأولى: تحذير المسلمين من أهل الحسد والكراهية.

الثانية: بيان ما يلتقي به الكفار بخصوص حسد المسلمين على ما رزقهم الله.

الثالثة: تُطلع الآية المسلمين على أحوال الأمم والملل الأخرى.

الرابعة: الآية سلاح بيد المسلمين في موارد الجدال والإحتجاج ومضامينها من علم الغيب، ودعوة للناس للحذر وإجتناب محاولة الإضرار بالمسلمين لأن الله عز وجل يخبرهم بما يضمره لهم الآخرون من الحسد، فمن باب الأولوية أن يطلع الله عز وجل ورسوله على الكيد والمكر الذي يراد بهم.

وهذه الآية من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]([316])، لما فيها من الكشف والتخفيف عن المسلمين، ودعوتهم للإحتراز والتوقي، وهناك تباين بين أهل الكتاب والمشركين بلحاظ إقرار أهل الكتاب بالتوحيد، وإتباعهم لبعض الأنبياء السابقين، كما في إتباع اليهود لموسى عليه السلام والنصارى لعيسى عليه السلام، وهما من الرسل الخمسة أولي العزم.

وتبين الآية أمراً وهو الإلتقاء الجهتي بخصوص حسد المسلمين على النعم الإلهية التي تأتيهم من السماء والتي تتجلى بنزول القرآن ومطلق الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه تفصيل، وتنزيه لفريق من أهل الكتاب من الحسد والبغض للمسلمين  بسبب نزول القرآن عليهم، فمنهم من يرى أن القرآن رحمة للناس وأنه تنزيل من عند الله، قال تعالى في النصارى ووجود أمة من القساوسة والرهبان [وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ]([317])، لما يظهرونه من رقة القلوب والإنصات عند سماع آيات القرآن.

(يحكى عن النجاشيّ أنه قال لجعفر بن أبي طالب: حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة والمشركون وهم يعزونه بهم ويتطلبون عنتهم عنده: هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر : فيه سورة تنسب إليها ، فقرأها إلى قوله [ذَلِكَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ] وقرأ سورة طه إلى قوله [وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى] فبكى النجاشي وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم سبعون رجلاً حين قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سورة يس، فبكوا([318]).

وفي الآية دعوة لجميع أهل الكتاب للتنزه عما يجمعهم مع المشركين خصوصاً في محاربة الإسلام والمسلمين، وأهل الكتاب هم أولى الناس بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للبشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل برسالته ولزوم تصديقه وإتباعه، ومع تخلفهم عن التصديق به فالأصل إجتنابهم مشاركة الكفار في العداء للإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وفي الآية دعوة للإصلاح ومنع من إتساع آفة الحسد وإزدياد أصحابه والجماعات التي تنتمي إليه، لماذا جاءت الآية بالفعل المبني للمجهول (يُنزل) ولم تقل(ينزل) بصيغة الفعل المبني للمعلوم خصوصاً وأنها ذكرت جهة الصدور وإبتداء الغاية وأن الخير نازل من الله عز وجل بقوله تعالى[خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ] والجواب من وجوه:

الأول: إخبار الآية عن تعلق حسدهم وعدم ودهم بما ينزل للمسلمين.

الثاني: كراهيتهم لتوالي نزول الآيات والوحي من عند الله، لأن(تنزل) تدل على معاني الإستمرار، وقد أفزعهم كثرة الآيات النازلة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثالث: الإشارة إلى كراهية فريق من الناس للملك الذي ينزل بالوحي وهو جبرئيل، لذا جاء قبل آيات قوله تعالى[مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ] ([319]).

الرابع: لقد رأى أهل مكة والمدينة توالي نزول الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجلت منافع هذا النزول ظاهرة وباطنة على المسلمين لسؤال المزيد من التنزيل والفضل الإلهي عليهم قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ولم تقل الآية (ينزل عليكم خير) بل جاءت الآية بحرف (من) (من خير) وفيه وجوه:

الأول: جاءت(من) زائدة، وتفيد التوكيد، والأصل هو الرفع.

الثاني: تفيد(من) الدلالة على أن ما بعدها واحد في جنسه، كما  تقول، ما جاءني من واحد، فأنها تنفي القليل والكثير من جنس الإنسان، والمراد أنهم لا يودون نزول أي فرد من أفراد الخير من السماء على المسلمين، وأن نزول كل آية يؤدي إلى بعث الغيظ في نفوسهم[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ([320])، ومن علمه تعالى بما في صدورهم بغضهم لنزول الخير على المسلمين.

الثالث: جاءت (من) للتبعيض، فهم يكرهون نيل المسلمين لأي صفة ومصداق من مصاديق الخير، سواء من آيات القرآن أو الوحي أو النصر والغلبة، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بنزول الملائكة لنصرتهم يوم بدر وأحد وغيرهما قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]([321])([322])، وهل نزول الملائكة  هذا من الخير الذي لايود نزوله المشركون، الجواب نعم، وهو من أصدق معاني الخير لما فيه من النعم وهي من وجوه:

الأول: إنه مصداق عملي لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم

 النسبة بين رحمة الله وبين الخير النازل عموم وخصوص مطلق، لأن رحمة الله أكبر وأوسع وأكثر من أن تحيط بها أوهام البشر، ونسبة الفضل والخير إلى الله عز وجل وأنه هو الذي يختار ويختص من يشاء بالرحمة والخير تتضمن المدح والثناء على المسلمين، فهذا الإختصاص نوع تفضيل وتشريف، وفيه دعوة للناس جميعاً للسعي وبذل الوسع للفوز برحمة الله إختصاصاً أو إشتراكاً مع الغير، وينحصر بالإقرار بالعبودية لله عز وجل إلهاً واحداً، والتصديق بالأنبياء السابق منهم واللاحق.

وورد لفظ (يختص) مرتين في القرآن، إذ جاءت خاتمة هذه الآية آية مستقلة بقوله تعالى[يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]([323])، ولا يعني إتحاد الموضوع وإن تشابهت الألفاظ، لموضوعية نظم الآيات وإحتواء كل آية لكنوز وخزائن خاصة بها، ولبيان السعة في فضل الله وإحسانه، وفوز المسلمين برحمة الله ونزول القرآن وما فيه من الذخائر والكنوز الخاصة والعامة، ومنها الوقاية من الأضرار التي قد تأتي من أهل الكيد والحسد والعداوة، ومن وجوه الوقاية في هذه الآية أمور:

الأول: فضح وكشف الحسد والبغضاء التي تضمرها طائفة من الناس للمسلمين.

الثاني: تعيين أولئك الذين لا يرجون الخير للمسلمين.

الثالث: دعوة المسلمين لتعاهد نعمة التنزيل التي خصهم الله عز وجل بها.

الرابع: بيان نعمة إضافية على المسلمين تتجلى بهدايتهم لسبل تعاهد النعمة والسلامة من الحسد والكيد.

الخامس: ذكر موضوع الأمن والسلامة من الحسد والبغضاء للمسلمين، وهو رحمة الله عز وجل بهم، فليس عند المسلمين قصور أو تقصير يؤدي إلى هذه البغضاء، وفيه حجة إضافية على عدوهم.

ومن إعجاز الآية تعدد مصاديق النعمة الإلهية على المسلمين في هذه الآية من وجوه:

الأول: نزول الخير على المسلمين.

الثاني: يأتي الخير من الله عز وجل.

الثالث: فوز المسلمين برحمة الله عز وجل على نحو الإختصاص.

الرابع: إختصاص المسلمين برحمة الله من فضل الله عز وجل.

الخامس: حث المسلمين على نيل المزيد من فضل الله عز وجل، فليس من حصر لوجوه الخير والرحمة الإلهية.

السادس: بيان قانون ثابت وهو أن خزائن فضل الله عز وجل لا تنفد، وفيه دعوة إلى أهل الحسد الذين لا يتمنون نزول الخير والرحمة للمسلمين أن يتوجهوا إلى الله عز وجل، ويتطلعوا إلى فضله، وزجر لهم عن الحسد.

السابع: تـــوكيد قانون وهو أن الحسد والعـــداوة لا تحـــجب فضل الله عز وجل عن الناس وأن الذين لا يرجون للمسلمين الخير لا يضرون إلا أنفسهم.

 وتدعو الآية المسلمين إلى النظر إلى الغد والمستقبل، وما يحملانه من الفضل والخير الإلهي عليهم، وفيه إشارة إلى أن النعم الإلهية ستستمر عليهم من غير إنقطاع لأن الله عز وجل إختصهم برحمته، وهو من خصائص(خير أمة أخرجت للناس) ([324])، بأن تكون النعم التي تنزل عليهم من الله وسيلة لجذب الناس لسبل الهداية والرشاد، وحجة متجددة عليهم إلى يوم القيامة.

لقد كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خيراً محضاً، ونعمة على الناس جميعاً إنتفع منها المسلمون الذين بادروا إلى دخول الإسلام وإمتثلوا لما في القرآن من الأوامر والنواهي، فتوالت عليهم النعم الإلهية، وتجلت معاني العز والشأن في أمور حياتهم.

 وبينما كانت الموازين الإجتماعية في الجزيرة ذات صبغة قبلية تتصف  بكثرة الخلافات والنزاع والغزو المتبادل لأسباب عصبية، ظهرت قوة عظيمة في الجزيرة هي قوة الإسلام، وأصبح المسلمون أمة متحدة مع التباين والنسبي والبلدي واللساني، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ([325])، وكان التآخي بين المهاجرين والأنصار مدرسة أخلاقية وعقائدية ووسيلة لجذب الناس للإسلام، وهو أمر لم يكن في النبوات السابقة وأتباع الأنبياء، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ([326])، مما أغاظ أعداء الإسلام، وآثار الحسد في نفوس كفار قريش فجاءت هذه الآية للوقاية والتحذير وكأنها تنبأ وتخبر عن الجيوش الكبيرة التي تجهزها قريش لقتال المسلمين.

الصلة بين أول وآخر الآية

إبتدأت الآية ببيان حالة نفسانية ورغبة ذات قبح ذات وعرضي وهذه الرغبة ليست عند المسلمين، ولا عند غيرهم على نحو العموم، بل عند فريق من الناس يجمعهم حسدهم للمسلمين، ومن إعجاز الآية انها جاءت  بتعيين الموضوع وأصحابه.

وفي الآية أطراف:

الطرف الأول: وهو على قسمين:

القسم الأول: فريق من أهل الكتاب مع بيان سور السالبة الكلية الجامع لهم وهو عدم ود الخير للمسلمين، وفي لغة التبعيض هذه تخفيف عن المسلمين، ودعوة الى عدم النفرة والريب بخصوص موضوع الآية، وعدم قدرة الخلائق عن رد فضل الله عمن يشاء.

القسم الثاني: المشركون، ومع إلتقاء القسمين في الموضوع والنية فان الآية ذكرت القسم الأول على نحو التبعيض، وذكرت القسم الثاني على نحو الإطلاق.

الطرف الثاني: ما يضمره الذين كفروا من الحسد والحنق على المسلمين، ولم تقل الآية “يريدون السوء بكم”  ولكنها ذكرت عدم رغبتهم بتوالي النعم على المسلمين، ليبقى المسلمون في حال من الفقر والضعف والقلة ونقص العدة، وعن الخير الذي نزل على المسلمين نصرهم مع ضعفهم وقلتهم، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]([327]).

وجاءت الآية بذكر عدم الود، ويتعلق الحساب بعالم الأقوال والأفعال، وعدم الود حالة نفسانية وشعور داخلي، فلماذا ذكرته، الجواب من وجوه:

الأول: جاءت الآية لإخبار المسلمين عن حال الذين كفروا.

الثاني: في الآية تحذير للمسلمين.

الثالث: الآية رحمة متجددة بالمسلمين، وحث لهم للشكر لله عز وجل بأداء الفرائض والسنن وهي من مصاديق الخير النازل بهم.

الرابع: في الآية تخويف للذين ذكرتهم بالذم بأن يجتنبوا إيذاء المسلمين، ومحاولة سلب النعم التي رزقهم الله تعالى.

الخامس: تدعو الآية أهل الكتاب الذين لا يحبون السوء والضرر بالمسلمين الى عدم إتباع الذين يودون عدم وصول الخير الى المسلمين، وفيه تخفيف عن المسلمين، ودعوة للذين كفروا للكف عن إيذاء المسلمين، والإمتناع عن بغضهم وحسدهم، وفيها حث لهم للإقرار بان المسلمين نالوا النعم برحمة وفضل من الله، ومن أراد نيلها فعليه التوجه الى الله وطاعة أنبيائه.

الطرف الثالث: نزول الخير من الله تعالى على المسلمين، ولم تكتف الآية بالإخبار عن نزول الخير بل قيدته بانه من الله عز وجل، وفي هذا القيد مسائل:

الأولى: إقامة الحجة على الكفار، بان الفاعل هو الله تعالى.

الثانية: عجز الخلائق عن رد هذا الخير.

الثالثة: مجيء هذا الخير للمسلمين على نحو الخصوص، فمن النعم السماوية ما تصيب البر والفاجر، كما في آية الشمس والقمر، وتصريف الرياح والأمطار العامة، وجاءت هذه الآية للإخبار عن تعيين المسلمين بالنعمة.

الرابعة: إطلاق الحال وتخصيص المحل، فجاءت الآية بذكر الخير النازل على نحو الإطلاق من غير تعيين لوجوهه او مصاديقه أو أفراده، أما المحل فقد ذكرته الآية على نحو البيان والحصر وانهم المسلمون، إذ يتلقون النعم الإلهية على نحو الدوام والتتابع والتعاقب والإتصال.

الخامسة: جاء قيد النزول بقوله تعالى “ مِنْ رَبِّكُمْ ” فلم تكتفِ الآية بالإخبار عن نزول الخير، ولم تقل “من خير من الله”بل قالت “من خير من ربكم” وفيه مسألتان :

الأولى : بيان حقيقة وهي إخلاص المسلمين العبادة لله عز وجل، لأن الكاف في ربكم ضمير الجمع المخاطب.

الثانية : تدل الآية في مفهومها على تقسيم الخير النازل على وجوه:

الأول : الخير العام الذي ينزل على الناس بما هم عبيد لله.

الثاني : الخير الذي يخص أهل بلد أو ملة.

الثالث : ما يصيب أهل زمان دون غيرهم.

الرابع : ما ينزل للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة، فجاءت الآية بخصوص القسم الأخير، من غير أن تنفي الأقسام الأخرى.

الخامس : تتضمن الآية إكرام المسلمين، وبيان رحمة الله تعالى بهم على نحو الخصوص.

الطرف الرابع : قيد (من ربكم) وما يدل عليه من تفضيل المسلمين وانهم [خير أمة أخرجت للناس].

ويفيد الجمع بين قوله تعالى [مِنْ رَبِّكُمْ] في هذه الآية وبين الحقيقة المطلقة وهي أن الله تعالى رب الناس جميعاً والخلائق كلها دعوة المسلمين لإنتفاع عموم الناس من الخير النازل عليهم، ويتقوم هذا النفع بجذبهم إلى الإسلام، وإعانتهم في أمور الدين والدنيا بما يؤدي إلى صلاحهم وهدايتهم .

ولو قام المسلمون بمد يد المساعدة والعون الى أولئك الذين لا يرجون لهم الخير والتوفيق، فهل يكفوا عن حسد المسلمين، الجواب لا، لذا فان مصاديق الآية باقية ومستمرة وتدعو المسلمين للحذر والحيطة وتعاهد الخير النازل من السماء.

 وإذا كان قيد (من ربكم) يدل على تفضيل المسلمين، وان تقديم يد العون والمساعدة للكفار لمن يمنعهم من البقاء على حال الحسد للمسلمين، فما هي مصاديق إخراجهم للناس بخصوص هذه الآية ونزول الخير عليهم ، الجواب من وجوه:

الأول: المسلمون مرآة لصدق العبودية ووظائف الناس في عبادة الله رب العالمين.

الثاني: تجلي آثار نعمة الله على المسلمين في سمتهم وأخلاقهم وسيرتهم.

الثالث: الخير النازل على المسلمين ترغيب للناس بدخول الإسلام، فكل مسلم هو دعوة إلى الله تعالى بإنتمائه للإسلام وتصديقه بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الرابع: نزول الخير على المسلمين شاهد على الوحدانية والربوبية لله تعالى وانه لايقدر أحد على إنزال الخير إلا الله تعالى.

الخامس: تبين الآية ضعف ووهن الإنسان، وحاجته للخير النازل من عند الله تعالى، والمسلمون وما عندهم من النعم برزخ دون إستحواذ الحيرة واليأس على قلوب الناس، فمن شاء سبل التكامل الإنساني والتغلب على الضعف والنقص فليلحق بالمسلمين وينهل من الخير النازل من عند الله.

وورد هذا الجمع ورد ثلاث مرات في القرآن، إحداها هذه الآية، واثنتين في سورة البينة [لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ] ([328])، في دلالة على الناس جميعاً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة للإيمان بنبوته ونصرته، ويفيد الجمع بين الآيات مسائل:

الأولى: ان حسدهم للمسلمين، والحنق عليهم سبب للإثم، وطريق الى جهنم.

الثانية: ان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بأهل الكتاب والمشركين من قريش لما فيها من الدعوة إلى الله والصلاح.

الثالثة : إضرار الكفر بأهله.

وفي الآية وجوه:

الأول : لزوم تنزه أهل الكتاب عن الحسد مطلقاً ومن حسد المسلمين على نحو الخصوص للجامع المشترك بينهم في النبوة والكتاب.

الثاني : الأصل هو التباين بين أهل الكتاب وبين المشركين الذين هم عبدة الأوثان، وتتضمن الآية بمفهومها اللوم لفريق من أهل الكتاب لالتقائهم مع المشركين بخصوص الحسد للمسلمين.

الثالث : المسلمون أقرب لأهل الكتاب من المشركين، وما ينزل من خير على المسلمين ينتفع منه أهل الكتاب كما في تصديق القرآن لنبوة موسى وعيسى عليه السلام.

وتحث الآية المسلمين على أخذ الحيطة والحذر من أعدائهم، وقد يستلزم أحياناً كتمان النعم وعدم التجاهر بها أمام الأعداء الا مع وجود الراجح، والآية أعم إذ أنها تتعلق بالتنزيل وآيات القرآن وما فيها من الإعجاز الذي يؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

إن النعم الإلهية لا تتعلق برغبات البشر بل هي فضل من عندالله يؤتيها لأهل التقوى والصلاح والذين يحسنون الشكر عليها ويتعاهدونها بأداء الفرائض وإجتناب المعاصي لتبقى كلمة التوحيد في الأرض.

وأختتمت الآية بقاعدة كلية في الإرادة التكوينية وهي أن الله عز وجل هو ذو الفضل العظيم على الناس جميعاً، وأن كل فرد وجماعة ينزل عليها خير عظيم من عند الله وتفضل سبحانه فإختص المسلمين بإفراد ومصاديق من النعم.

وهذا الإختصاص باب مفتوح للناس جميعاً لينالوا ذات النعم بدخول الإسلام.

 وفي الآية دعوة للمسلمين للمواظبة على العبادات والتوجه الى الله تعالى بالدعاء وسؤال زيادة وتوالي النعم عليهم، فان حسد الكافرين لن يكون مانعاً دون توالي وزيادة النعم وليبقوا في حسرة وغيظ، قال تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ]([329]).

من غايات الآية

في الآية مسائل:

الأولى: تتضمن الآية إكرام المسلمين في لغة الخطاب وموضوعه.

الثانية: إخبار المسلمين عن أحوال الأمم الأخرى.

الثالثة: ملازمة الحسد للكفر والجحود، فالكافر يحسد من حيث يحجب عن نفسه بالكفر ذات النعم التي يحسد عليها والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.

الرابعة: في الآية ترغيب للناس في دخول الإسلام من وجوه:

الأول: الآية بشارة توالي النعم على المسلمين.

الثاني: حث أهل الكتاب على التخلص من الحسد، ولم تذكر الآية وجوهاً أخرى من الحسد منها:

الأول: حسد المشركين بعضهم لبعض.

الثاني: حسد الذين كفروا من أهل الكتاب لإخوانهم من عموم أهل الكتاب.

الثاني : حسد المشركين لأهل الكتاب.

الثالث : وجوه الحسد بين التابع والمتبوع من المشركين.

والآية لا تنفي وجود الحسد بين الناس، ولكنها جاءت بخصوص الخير النازل من عند الله في إشارة الى أنه خاص بالمسلمين مع إنتفاء موضوعه عند أهل الملل الأخرى، لذا فهي إكرام وثناء على المسلمين .

ومن غاياتها بيان فضل المسلمين على الأمم الأخرى ، وبعث الحسرة في نفوس الذين تخلفوا عن الإسلام.

الخامسة: جاءت مادة (ود) فيما يخص ما يوده الكفار لحال المسلمين ثمان مرات وكلها ذات مضمون واحد وهو بغض الكفار لنزول الخير على المسلمين، وان كانت على قسمين:

الأول: صيغة النفي التي تضمنتها بداية هذه الآية [مَا يَوَدُّ] أي لا يود ولا يرجو.

الثاني: ما يتمناه مشركوا قريش للمسلمين من الأذى والضرر.

 وجاءت فيه سبع آيات تتعلق بالعقيدة والسلم والخصومة والقتال منها قوله تعالى [وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ]([330])، [وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ]([331]).

 وفي خطاب تعليم وتحذير للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين قال تعالى [فَلاَ تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ]([332]).

السادسة: تدعو الآية أهل الكتاب الى عدم محاكاة الكفار في حسد المسلمين والحنق عليهم، ومن إعجازها أنها جاءت بذكر أهل الكتاب على نحو التبعيض، وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة.

 وفيه إعجاز يتجلى بتغير وتبدل نسبة أهل الحسد من بين عموم أهل الكتاب بلحاظ التباين الزماني والمكاني ونوع النعمة التي تنزل على المسلمين، وأسباب الهداية .

 وهل من أثر للعولمة والتداخل الحضاري ووسائل الإتصال والإعلام التي توفر أسباب معرفة أحوال الأمم والأفراد فيما بينهم، الجواب نعم.

 فان العولمة والتداخل سبب لمعرفة الناس بالنعم المستديمة والمستحدثة التي ينعم الله تعالى بها على المسلمين، وإزدياد الحسد عليهم، ومحاولة أهل الحسد التعاون بينهم لإيذاء المسلمين ومنعهم من الإنتفاع الأمثل من الخير والنعم النازلة عليهم والتعدي على ثغورهم بذرائع تكشف الأيام في تعاقبها وهنها وعدم شرعيتها .

وتؤكد ان الأصل في هذا التعدي هو عدم الود للخير النازل على المسلمين، ليكون الإستصحاب القهقري في التأريخ والوقائع مؤكداً لإعجاز الآية، وشاهداً على صدقها وصحة مضامينها، وتلك خصوصية ينفرد بها القرآن من بين الكتب السماوية.

السابعة: الإخبار عن توالي النعم الإلهية على المسلمين مجتمعين ومتفرقين، فصحيح ان الآية جاءت بصيغة الجمع الا انها تشمل النعم الفردية التي ترد على المسلمين، وحسد الكفار لذوي النعم والمقامات والجاه من المسلمين، وما قد يترشح عن هذا الحسد من الكيد والمكر.

الثامنة: تحذر الآية من إثارة الفتنة بين المسلمين ، للحرمان من النعم الإلهية وبث روح الفرقة والإختلاف فيما بينهم حسداً لهم، وتظاهر فريق من الناس بنصرة وتأييد فريق أو طائفة من المسلمين على الأخرى والغرض سلب وزوال النعم عن المسلمين، ودبيب الضعف والوهن بين صفوفهم لأن المواجهة والخصومة المستمرة تضعف الطائفتين والمسلمين عموماً ، لا سيما وان أحكام الشريعة الإسلامية خالية من أسباب الفرقة والخلاف، قال تعالى[ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]([333]).

التاسعة: تدعو الآية المسلمين إلى عدم التفريط بالنعم الإلهية، وتحثهم على تعاهدها والحيلولة دون ضياعها.

العاشرة: تبعث الآية الأمل والرضا والسكينة في قلوب المسلمين، لما فيها من توكيد لتفضيلهم على الناس جميعاً.

الحادية عشرة: في الآية تحذير للمسلمين، وتنمية لملكة التوقي من الأعداء.

الثانية عشرة: توكيد الفضل الإلهي، وان الله سبحانه يرزق بغير حساب.

التفسير

تفسير قوله تعالى [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ ]

بعد ان بيّن الله عز وجل ما اقدم عليه الكفار من الجحود واقترفوه من المعاصي واصرارهم على عدم اتباع الأنبياء.

ولا تتعلق الآية بالتواطئ على العدوان انما جاءت لتخبر المسلمين بما في نعمة التنزيل واكرام المسلمين من نتائج وآثار نفسية عند الكفار، نعم يمكن ان يقال ان تلك النتائج برزت الى الخارج بالبغي والإشتراك في محاولات الإنقضاض على الإسلام والمسلمين، وفي الآية مسائل:

الأولى : إخبار المسلمين عما يختلج في قلوب الكفار والمشركين من الحسد والبغضاء لهم وللإسلام.

الثانية : فضح الكفار فيما يدور في منتدياتهم.

الثالثة : بيان اتصال حالة الحسد عندهم.

الرابعة : توبيخهم على ما في هذا الحسد من تعد وتطاول.

الخامسة : ان علة ذلك الحسد والكراهية ما يتلقاه المسلمون من وجوه الكرامة واسباب الكمال من عند الله تعالى.

السادسة : رغبة الكفار والمشركين وتمنيهم بحصر التنزيل والنبوة بهم وان لا يشاركهم المسلمون بهذه النعمة , وعن ابن عباس في قوله تعالى{لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} قال: يعنون أشرف من محمد، الوليد بن المغيرة من أهل مكة، ومسعود بن عمرو الثقفي من أهل الطائف)([334]).

السابعة : درجة الإرتقاء والكمال عند المسلمين بما ورثوه من التنزيل وبلوغهم منزلة تلقي المعارف بعد ان عجز الآخرون عن حفظه وبالعمل به.

الثامنة :     تنبيه المسلمين لما يحمله فريق من الناس من مشاعر عدم الود نحوهم , وتأكيد فضل الله بالمودة الراجحة والظاهرة التي جعلها لهم, قال تعال[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]([335]).

التاسعة : منع المسلمين من ود الكفار والمشركين.

العاشرة : تحذير المسلمين من الركون اليهم والإطمئنان الى جانبهم.

الحادية عشرة : إن يستعد المسلمون لما يحتمل ان يفرزه الحسد وعدم الود من وجوه العدوان والبغي وهو الذي حصل وتكرر وظهر بصيغ متعددة.

الثانية عشرة : الآية دعوة للمسلمين لليقظة والحيطة من المكر والكيد والدسائس فهي سلاح عقائدي ووثيقة فكرية تساهم في ارتقاء المسلمين في باب التصدي للحرب النفسية وفي فهم نوايا العدو وما يضمر من الشر، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ]([336]).

الثالثة عشرة : بيان لعظيم فضل الله تعالى على المسلمين وما أفردهم الله به من تمام النعمة.

الرابعة عشرة : أهمية نزول القرآن وعظيم منزلته في مراتب النعم أي ان تنزيل القرآن نعمة عظيمة انفرد بها المسلمون، لينتفع الناس منها ومن وجوه هذا النفع التنزه من جاثوم الحسد للمسلمين الذي يمنع من التدبر في المعجزات النبوية.

الخامسة عشرة : حث المسلمين على حفظ وتعاهد هذه النعمة.

السادسة عشرة : دعوة المسلمين وعلى تعاقب اجيالهم إلى البحث والتحقيق في عظيم ما رزقهم الله عز وجل، ودراسة وتعداد وجوه وموارد النعم التي خصهم الله عز وجل بها من بين الأمم.

السابعة عشرة : ورود لفظ التنزيل بصيغة المضارع يدل على تتابعه والبشارة باتصاله وعدم انقطاعه.

الثامنة عشرة : أهلية المسلمين لدوام التنزيل.

التاسعة عشرة : في الآية بشارة توالي وتعدد النعم على المسلمين.

قوله تعالى [أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ]

الخير اسم جامع للحسن وهو من أمهات عناوين الاحسان، وهو خلاف الشر، وقد يرد بمعنى الحال او بمعنى الصلاح، او يأتي بمعنى الشهادتين، وقد يعني العمل الصالح كما في الحديث عن الإمام علي عليه السلام(انه سُئل عن الخير ما هو؟ فقال: ليس الخير ان يكثر مالك وولدك، ولكن الخير ان يكثر عملك وان يعظم حلمك وان تباهي الناس بعبادة ربك، فأن أحسنت حمدت الله، وان أسأت استغفرت الله)([337]).

وتتعلق الآية بالخير النازل وليس بالخير الصاعد، نعم يمكن ان يحتسب الخير الصاعد في موضوع الآية والمقصود بها بذكر السبب وارادة المُسبَبَ، ويكون حينئذ الخير الوارد في الآية مركباً من:

الأول : الخير النازل من عند الله تعالى والذي ورد صريحاً في الآية الكريمة وله مصاديق عديدة.

الثاني : وجوه العمل الصالح الصادر من المسلمين.

الثالث : الخير والاكرام في الحياة الآخرة وما أعده الله للمسلمين يوم القيامة من النعيم والفضل.

ومع أن ظاهر الآية يفيد إرادة ما ينزل من السماء من القرآن والوح إلا أنه أعم في دلالته وموضوعه فيشمل مصاديق كثيرة منها على سبيل المثال وليس الحصر:

الأول : الأوامر الإلهية بأداء العبادات كالصلاة والزكاة والصوم، لذا فان قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]([338])، هو خير محض ونعمة من عند الله.

الثاني: النواهي عن المعاصي والسيئات، فمن مصاديق التكامل في الشريعة الإسلامية، النهي الذي يفيد الحرمة في الفواحش والذنوب الكبائر والصغائر.

 و قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار([339]).

الثالث: فتح باب التوبة للمسلمين والمسلمات، وموضوعية الإستغفار في محو الذنوب ونزول الرزق، فحتى لو تأخر نزول الخير فإن الإستغفار سلاح للتعجيل بنزوله ، وهو خير ونعمة مصاحبة للإنسان ، وورد حكاية على لسان نوح لقومه [اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا]([340]).

الرابع : توالي نزول آيات القرآن، قال تعالى[هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ]([341])، وكل آية من القرآن خير محض من وجوه:

الأول : الإذن الإلهي بنزول الآية القرآنية.

الثاني : سبب نزول الآية، وإقتران موضوعه بتفسيرها وتأويلها , قال تعالى[قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا]([342]).

الثالث : مجيء جبرئيل بالآية القرآنية.

الرابع : تلاوة المسلمين للآية القرآنية.

الخامس : الناسخ والمنسوخ في القرآن، ومصاحبة التخفيف عن المسلمين للتنزيل.

السادس : دخول الناس في الإسلام بتعاقب نزول آيات القرآن، قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]([343]).

السابع : توالي نزول آيات القرآن وتعدد موضوعات الآية الواحدة.

الثامن : صبغة الإعجاز التي تتصف بها كل آية نازلة من عند الله، ووقوف العرب الفصحاء عاجزين أمام مضامينها القدسية.

التاسع : تعاهد المسلمين لسلاح الدعاء ورجاء نزول النعم المستحدثة من الله مما يكون في الوجود الذهني وعالم التصور، ومما يفوقه وكل فرد منها من عمومات خاتمة الآية[وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ].

الخامس : الرزق الكريم.

السادس : نزول المطر والغيث من السماء.

السابع : من وجوه الخير أداء المسلمين والمسلمات للفرائض وإعانتهم عليها، ومجئ الثواب متعقباً لها، ليكون أداء الفرائض من الخير، والثواب من الخير العظيم.

تفسير قوله تعالى [وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ]

آية إعجازية فيها وعد وعهد وبيان فضله تعالى ورد قرآني صريح على ما تحمله صدور المشركين من الضغائن.

وفيها ذم ولوم لهم على خطأ مستندهم وما بنوا عليه حسدهم، اذ ان التنزيل وموضوعه لا يتعلق بالقابل ومن ينزل عليه، فالمدار والإختيار والملاك فيه مشيئته وارادته ولطفه تعالى فهو الذي يصيب برحمته من يشاء وهو المعطي الوهاب.

ومسألة استحقاق الصالحين لفضله تعالى تأتي بالمرتبة الثانية فليس لكم ولا لغيركم موضوعية في النبوة والتنزيل هو سبحانه الذي تفضل بها ولا يمكن ردها أو محوها وازالتها، وفي هذه الحقيقة الإلهية تخفيف عن المسلمين ومنع للغرور او التطاول على الآخرين بهذه الحصة، ولكن التفاخر بالتقوى والصلاح لا تتعرض له الآية بل تدعو في مفهومها اليه.

وورد عن الإمام علي عليه السلام: (ان المراد برحمته هنا النبوة)([344])، أي نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الإمام علي عليه السلام و به قال الحسن و أبو علي و الرماني وغيرهم.

انه الفرد الأمثل الذي تتفرع منه ابواب من مصاديق للرحمة لاسيما وان الآية جاءت بصيغة المضارع للذين آمنوا من المسلمين، والله عز وجل هو الرحمن الرحيم، وبصفة الرحمن يرزق الخلائق جميعها في الدنيا وينال من رحمته البر والفاجر، فلابد ان الرحمة في هذه الآية خاصة وفضل ولطف منه تعالى , ومع أن الآية خصت وعينت الجهة التي تأتيها رحمة الله فإنها لم تحد أو تقيد مصاديق الرحمة في المقام التي هي من اللامتناهي.

بحث منطقي

اليقين هو الاعتقاد الجازم الممتنع الزوال والمطابق للواقع.

ومنهم من قسم اليقين الى اليقين بالمعنى الأعم وهو مطلق الاعتقاد الجازم، واليقين بالمعنى الأخص وهو الاعتقاد.

واليقين بالمعنى الأعم على هذا التفصيل يدخل به الجهل المركب وهو الجزم بما لا يطابق الواقع ولكنه ليس من أقسام اليقين بل نقيضه لغة وعرفاً واصطلاحاً، وهو شبهة بدوية تزول بأدنى تحقيق، ومن شرائط اليقين الثبوت.

وتنقسم القضية اليقينية الى قسمين:

الأول : بديهية وهي التي يحكم بها العقل لذاته باستحضار وتصور طرفيها المحكوم عليه والمحكوم به كما في قولك “الكل أعظم من الجزء” من غير حاجة الى سبب خارجي.

الثاني : الضروريات وهي بالاحساس.

والنظريات التي تكون بالكسب والاستدلال.

ومنهم من قسم البديهيات وهي أمهات اليقينيات استقراء الى أوليات ومشاهدات وتسمى محسوسات، وتجريبيات ومتواترات وحدسيات وفطريات، ولكل منها تعريف.

فأين يكون الإخبار الإلهي منها بعد التسليم الجواب أنه من اليقينيات ولا يأتي عن تقليد، بل وهو أرقى مصاديق اليقين مما يقتضي ادخاله في دراسات هذا الباب على نحو مستقل والاجتهاد بالاتيان بآيات قرانية لأنواع البديهيات تكون شاهداً ومثالاً مباركاً وآلة وعوناً في علوم التفسير والقرآن هو الفيصل في معرفة القضايا وسنخيتها، قال تعالى[وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ]([345]).

فالإخبار الإلهي بحسد الكفار للمسلمين على ما أنعم الله عز وجل به من اليقينيات، ويعتبر هذا الحسد وموضوعه قبل نزول الآية من المحسوسات التي يحكم بها العقل بواسطة الحس بشطري قضاياه المتيقنة الحسية التي تدرك بالحواس الخمس، والوجدانيات التي تدرك بالحس الباطن.

وهو من التجريبيات التي يتيقن منها العقل بتوالي وتكرر الحصول واعتماد القياس الإستثنائي او الإقتراني، وهو ايضاً من الظنيات، ولكن بعد نزول الآية والإخبار الإلهي يصبح الموضوع من اليقين بأعلى مراتبه [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]([346]).

ولا تكون الحسيات والتجريبيات الا شواهد ومصاديق للآية الكريمة لتبدل وظيفة العقل، فبدل ان يستحصل العبد أطراف القضية ويستعين بالأسباب للحصول على نتيجة، تأتي الآية الكريمة لتخفف عنه وتساعده وتجعل وظيفته التسليم والإقرار والإمتثال وفيه ترغيب بتلاوة آيات القرآن والصدور عنها.

وتلك آية اعجازية في القرآن يجب دراستها ليس في باب المنطق فقط بل في علوم الفلسفة والكلام والعقائد.

تفسير قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]

[ذُو]: أي صاحب.

و [الْفَضْلِ]: الزيادة والسعة، وفي الاصطلاح هو كثرة الثواب المستحق على وجه التعظيم والتبجيل.

فالله سبحانه تفضل على المسلمين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالقرآن والهداية والتوفيق وفضّلهم بذلك على الناس أجمعين، ويرزقهم في الآخرة الثواب الجزيل، فالآية بشارة الخلود في النعيم، وهي في اطلاقها دعوة لكل الناس لينهلوا من فضله ولعله ينحصر في الحياة الدنيا بالإسلام فكراً ومنهجاً، وفي مفهومها تحث الآية على تلمس السبل التي تدنيهم من رحمته واقربها الإسلام لإمتناع الحواجز التي تحجب الإنسان عن دخوله، ولأنه المتيقن من موارد نزول الرحمة والبركة.

والآية في منطوقها بشارة لأهل الإيمان، وفي مفهومها انذار وحجة على الذين كفروا، هي قاعدة كلية ورحمة وبشارة ووعد كريم، ولا ينحصر فضله تعالى في عالم الآخرة بل يشمل الحياة الدنيا، فهو الذي يتعاهد عباده ويرزقهم من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون، وقد وصف فضله تعالى بالعظيم في دلالة على انفراده سبحانه بمراتب الفضل السامية والكيفيات التي تعجز عن درك معرفتها الخلائق جميعها.

وبعد أن ذكرت الآية الله عز وجل بصفة الربوبية (ينزل عليكم من خير من ربكم) ، الرب من أمهات الأسماء الحسنى ويدل مجيؤه هنا على رأفة الله عز وجل بالمسلمين وإنتفاعهم والناس جميعاً الخير النازل عليهم، قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ([347]).

وجاءت الآية بذكر أفراد النعم الخاصة على المسلمين وأختتمت الآية بقانون أن الفضل العظيم بيد الله وهو الذي ينعم على العباد ، ولم تقل الآية (وعند الله الفضل العظيم ) وان كان هذا المعنى صحيحاً ولكن الآية تبين حقيقة وهي أن الله لابد وأن يمنح ويهب الفضل العظيم وأن ما عنده أعظم من هذا الفضل وخزائنه سبحانه من اللامتناهي والذي يتصف بخصوصية وهي عدم النقصان بالمنح والعطاء.

وتقدير خاتمة الآية على وجوه :

الأول : والله ذو الفضل العظيم على المسلمين .

الثاني : والله ذو الفضل العظيم الذي لا ينقطع ولا تستطيع الخلائق حجبه عن الناس.

الثالث : بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لينتفع الناس من الفضل الإلهي.

الرابع : تفتح كنوز وذخائر الفضل العظيم للمؤمنين، وينزل الخير عليهم وإن لم يود الكفار هذا النزول .

الخامس : نزول المغفرة على المسلمين، ومحو ذنوبهم من الفضل العظيم.

السادس : فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة بالنبوة والعصمة والسلامة من الكيد والمكر، قال تعالى[وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ]([348]).

السابع : فضل الله عز وجل على الناس بدفعهم عن منازل الحسد وكراهية نزول النعمة على المؤمنين، ومنه هذه الآية التي تبعث في مفهومها النفرة في النفوس من كراهية نزول الخير على المؤمنين.

الثامن : مصاحبة الفضل الإلهي للحفظ والأمن من الحسد والمكر والقتل بالذي يأتيه الخير والفضل الإلهي، قال تعالى[وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ]([349]).

التاسع : منع المسلمين من الإفتتان بالنعم، والإنشغال بها عن العبادة والشكر لله عز وجل قال تعالى[فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ]([350]).

العاشر : والله ذو الفضل العظيم في الآخرة بالعفو والمغفرة والشفاعة ودخول المؤمنين الجنة،  قال تعالى[وَإِنْ  تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ]([351]).

الحادي عشر :  والله ذو الفضل العظيم الذي لقن المسلمين الحمد له وهداهم إلى عبادته ، وأمرهم بالتقوى والخشية منه، لتكون طريقاً للفوز بفضل الله سبحانه، وتلك آية في بديع صنعه وإتصال الخير النازل منه، بأن يتفضل بالنعم على الناس، ويجعلها طريقاً لنعم أخرى.

***********

الفهرس

الصفحةالموضوعالصفحةالموضوع
5المقدمة21إفاضات الآية
6قوله تعالى [وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]23الصلة بين أول وآخر الآية
6الإعراب واللغة28التفسير الذاتي
8في سياق الآيات35من غايات الآية
11بحث عقادي37التفسير قوله تعالى [وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]
14إعجاز الآية40قوله تعالى [ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ]
15الآية سلاح43بحث كلامي
16أسباب النزول44قوله تعالى [ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ]
16مفهوم الآية48قوله تعالى [ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ]
19الآية لطف50قوله تعالى[كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ

الفهرس

الصفحةالموضوعالصفحةالموضوع
52بحث عقائدي67مفهوم الآية
53قوله تعالى [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]73افاضات الآية
60أسباب النزول75الصلة بين أول وآخر الآية
62في سياق الآيات77الآية لطف
64إعجاز الآية79التفسير الذاتي 
66الآية سلاح89التفسير قوله تعالى [ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ]

الفهرس

الصفحةالموضوعالصفحةالموضوع
104بحث بلاغي148قوله تعالى [ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ]
108قوله تعالى [ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا]149قوله تعالى [ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ]
110قوله تعالى [ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ]151قوله تعالى [ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ]
112السحر وماهيته153بحث كلامي
118مواجهة الأنبياء للسحر154قوله تعالى [ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ  ولاَ يَنفَعُهُمْ]
120بحث كلامي157قوله تعالى [ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ]
122بحث اعجازي159قوله تعالى [ وَلَبِئْسَ مَا شَروْا  بِهِ  أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]
124بحث فقهي162بحث بلاغي
130قوله تعالى[وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوت163قوله تعالى [ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلمُونَ]
143قوله تعالى [وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ]163الإعراب واللغة

الفهرس

الصفحةالموضوعالصفحةالموضوع
164في سياق الآيات188أسباب النزول
166إعجاز الآية190في سياق الآيات
167الآية سلاح191موضوع النزول
168موضوع النزول192إعجاز الآية
170مفهوم الآية194الآية سلاح
171الآية لطف195مفهوم الآية
172إفاضات الآية196الآية لطف
174الصلة بين أول وآخر الآية198إفاضات الآية
176التفسير الذاتي199التفسير الذاتي
177من غايات الآية209من غايات الآية
178التفسير قوله تعالى [وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا]213الصلة بين أول وآخر الآية
182قوله تعالى [لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ]223التفسير
184قوله تعالى [ لَوْ كَانُوا يَعْلمُونَ]223قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا]
187قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ224قانون سدّ الذرائع
187الإعراب واللغة224بحث كلامي
  231قوله تعالى [وَاسْمَعُوا]


الفهرس

الصفحةالموضوعالصفحةالموضوع
232قوله تعالى [وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ]248التفسير الذاتي
234مناسبة الآية256الصلة بين أول وآخر الآية
235قوله تعالى [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]261من غايات الآية
235الإعراب واللغة264التفسير الذاتي
236في سياق الآيات264التفسير
238إعجاز الآية264قوله تعالى [ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ]
240الآية سلاح267قوله تعالى [أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ]
243مفهوم الآية269قوله تعالى [وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ]
246الآية لطف270بحث منطقي
247إفاضات الآية272قوله تعالى[وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

([1])سورة الأنعام 5.

([2])سورة الفتح 27.

([3])الآية 101.

([4])سورة يونس 39.

([5])الآية 105.

([6])الآية 105.

([7]) مجمع البيان 1/169.

([8]) سورة التوبة 25.

([9]) سورة النساء 28.

([10])سورة البقرة 100.

([11])سورة المائدة 67.

([12])الكشف والبيان 7/464.

([13])سورة آل عمران 61.

([14]) سورة البقرة 243.

([15]) سورة آل عمران 110.

([16]) سورة آل عمران 81.

([17]) سورة البقرة 41.

([18]) سورة الأعراف 158.

([19]) سورة آل عمران 110.

([20])سورة سبأ 28.

([21])مسند أبي يعلي الموصلي 8/162.

([22])أنظر دلائل النبوة للبيهق1/260، الأيام النظرة 1/122.

([23])سورة البقرة 213.

([24]) سورة الذاريات 56.

([25]) سورة الأعراف 158.

([26])سورة الطلاق 11.

([27]) سورة البقرة 97.

([28])سورة البقرة 122.

([29])سورة الإسراء 9.

([30]) سورة آل عمران 81.

([31]) سورة الأنعام 92.

([32]) سورة الأحقاف 30.

([33])  الكشاف3/526.

([34]) أنظر الكشاف3/527.

([35]) سورة النحل 125 .

([36]) مجمع البيان 1/169 .

([37]) سورة آل عمران 23.

([38]) مجمع البيان1/424.

([39]) سورة التوبة 36.

 ([40]) مجمع البيان 1/319.

([41])سورة آل عمران 110.

([42]) سورة سبأ 28.

([43]) سورة سبأ 10.

([44])سورة آل عمران 81.

([45])سورة النساء 122.

([46])الآية 99.

([47])سورة آل عمران 123.

([48]) مفاتيح الغيب 3/202.

([49]) سورة الانفال 75.

(3) سورة التوبة 36.

([51]) سورة التوبة 36.

([52]) سورة التوبة 33.

([53])سورة البقرة 45.

([54]) سورة النمل 42.

([55]) مجمع البيان 1/169.

([56])سورة المائدة 3.

([57])سورة أنظر الصحاح في اللغة 1/357.

([58])تفسير مقاتل 4/102.

([59])الصحاح في اللغة 2/33.

([60])سورة النساء 91.

([61])تاج العروس 1/1462.

([62])البحار 59/77.

([63]) مجمع البيان 1/158.

([64])الدر المنثور 1/177.

([65])الدر المنثور 1/177.

([66])سورة النمل 40.

([67])سورة البقرة 255.

([68])أنظر مجمع البيان 2/209.

([69])سورة فاطر 6.

([70])سورة النساء 76.

([71])الآية 101.

([72])الدر المنثور 1/177.

([73])سورة الحج 38.

([74])سورة الرعد 39.

([75]) سورة يوسف 3.

([76])سورة النساء 54.

([77])الدر المنثور 3/146.

([78])الدر المنثور 3/146.

([79])سورة طه 66.

([80]) مجمع البيان 1/327.

([81]) سورة الأنعام 112.

([82]) سورة الأنبياء 82.

([83])سورة الأعراف 117.

([84]) سورة الجن 11.

([85])سورة النور 20.

([86])سورة النور 21.

([87])مسند أحمد 33/14.

([88])سورة غافر 60.

([89])السيوطي/جمع الجوامع 1/20506.

([90])سورة الأنعام 112.

([91])سورة الأنبياء 107.

([92])سورة الأنبياء 79.

([93])المعجم الأوسط للطبراني 2/428.

([94])سورة البقرة 98.

([95]) سورة الرعد 30.

([96]) سورة الأنعام 112.

([97]) سورة التحريم 6.

([98]) أنظر مجمع البيان 1/ 174 .

([99]) الوسائل 25/ أبواب آداب .

([100]) سورة النساء 130.

([101]) سورة النساء 29.

([102]) الكشاف1/ 569 .

([103])سورة الأنبياء 107.

([104])سورة الزمر 23.

([105])الدر المنثور 1/15.

 ([106])سورة طه 66.

 ([107])سورة يونس 80.

([108])البحار 56/323.

([109]) تفسير ابن كثير2/358.

([110]) سورة النساء 1.

([111]) سورة الزوم 21.

([112]) سورة النحل 29.

([113]) سورة آل عمران 104.

([114])سورة الأنعام 121.

([115]) سورة الاحزاب 30.

([116])تفسير الرازي 1/75.

([117])سورة الأنعام 89.

([118])أنظر تفسير الثعالبي 1/56 .

([119]) سورة الأنبياء 82.

([120]) سورة ص 37.

([121]) سورة الانعام 112.

([122])البحار 10/169.

([123]) سورة الأنبياء 107.

([124])سورة النحل 89.

([125]) العهد القديم الملوك الأول 415.

([126]) العهد القديم 423.

([127]) انظر كتاب التجلي والشهود في الاسراء والمعراج للمؤلف.

([128]) سورة الإسراء 47.

([129]) تفسير البرهان 4/1232.

([130])  مفاتيح الغيب  2/454.

  ([131]) انظر مفاتيح الغيب 3/204.

([132])سورة الأنعام 112.

([133])سورة المجادلة 8.

([134])الكشف والبيان 12/168.

([135])تفسير ابن أبي حاتم 1/262.

([136]) سورة طه 5.

([137]) انظر البرهان في علوم القرآن 2/82.

([138])سورة ص 35.

([139])تفسير البغوي 7/95.

([140])الدر المنثور 8/411.

([141])سورة البقرة 47.

([142])الدر المنثور 1/98.

([143])الدر المنثور 6/224.

([144])الدر المنثور 2/146.

([145]) سورة الانعام 112.

([146]) سورة طه 66.

([147]) عن الحدود والحقائق للمرتضى 162.

([148])الحجة 3/14.

([149]) الطبرسي مجمع البيان 1/569.

([150]) انظر رحلة ابن بطوطة 364.

([151]) سورة الاعراف 116.

([152])الإمتاع والمؤانسة 1/183.

([153])البحار 73/343.

([154])البحار 1/127.

([155])البحار 37/210.

([156]) سورة الجن 11.

([157])سورة العلق 5.

([158])سورة طه 66-67.

([159])سورة طه 69.

([160])سورة طه 18.

([161])السنن الكبرى للبيهقي 8/136.

([162])الدر المنثور 7/81.

([163])معرفة السنن والآثار للبيهقي 13/269.

([164])السنن الكبرى للبيهقي 6/13.

([165])الموطأ 1/239.

([166])سورة آل عمران 84.

([167])البحار 76/210 .

([168])تفسير الرازي 2/249.

([169]) سورة الرعد 39.

([170])تفسير الرازي 11/243.

([171])تفسير القرطبي 2/41.

([172]) تفسير القرطبي 2/41.

([173]) سورة النحل 68.

([174]) سورة الإسراء 95.

([175])سورة البقرة 30.

([176]) مفاتيح الغيب / الرازي 3/213.

([177]) سورة يوسف 2.

([178])  اسلم كعب الأحبار في السنة السادسة عشرة للهجرة بعد انتقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى بخمس سنين، وقيل قام بادخال إسرائيليات في التفسير والتأريخ الإسلامي، خصوصاً ما يتعلق بأمور الخلق والنشأة والتكوين وقصص الأنبياء.

([179]) مفاتيح الغيب / الرازي 3/213.

([180]) سورة البقرة 30.

([181]) تفسير البرهان 1/295.

([182]) سفر شعيا 852.

([183])سورة الصف 6.

([184])سورة يوسف 3.

([185]) تفسير القرطبي.

([186])معجم البلدان1/22.

([187])سورة الروم 2-3.

 ([188]) سورة الجاثية 24.

 ([189]) سورة النمل 14.

 ([190]) سورة ابراهيم 7.

 ([191]) سورة البقرة 85.

 ([192]) سورة الممتحنة 4.

 ([193]) مجمع البيان 1/288

([194])سورة آل عمران 96.

([195])سورة الكهف 110.

([196])سورة الروم 21.

([197])البحار 17/259.

([198]) سورة النساء 130.

([199]) مفاتيح الغيب 3/221.

([200])سورة هود 57.

([201]) الكافي  كتاب التوحيد باب الخير والشر 1/154.

([202]) الكافي  كتاب التوحيد باب ان لا يكون شيء 1/149.

([203]) الجامع الصغير 1/124.

([204]) سورة الأعراف 159.

([205])السنن الكبرى للنسائي 4/444.

([206])تهذيب الآثار للطبراني 2/359.

([207]) سورة التوبة 9.

([208]) سورة يوسف 20.

([209]) سورة يوسف 21.

([210]) حروف المعاني 3.

([211]) مفاتح الغيب 3/222.

([212]) سورة العنكبوت 64.

([213])الدر المنثور 1/88.

([214]) سورة يس 60 .

([215])الدر المنثور 3/375.

([216])تفسير اللباب لابن عادل 13/39.

([217]) سورة البقرة 99.

([218]) سورة الزمر 9 .

([219])سورة الحجرات 7.

([220]) سورة آل عمران 110.

([221]) سورة الذاريات 56.

([222]) سورة الأعراف 56.

([223])سورة طه 114.

([224])سورة الطلاق 2-3.

([225]) سورة القصص 60.

([226])حلية الأولياء 3/19.

([227]) سورة آل عمران 110.

([228])سورة الأنعام 120.

([229]) سورة البقرة 30.

([230]) سورة المائدة 60.

([231]) سورة البقرة 197 .

([232]) سورة الحشر 7.

([233])التوبة لابن أبي الدنيا 1/107.

([234]) سورة البقرة 25.

([235]) سورة الطلاق2.

([236]) سورة البقرة 110 .

([237]) سورة الشورى 36.

([238])الدر المنثور 1/193.

([239])سورة الشعراء 102.

([240]) سورة المائدة 89 .

([241]) سورة آل عمران 104.

([242]) سورة الأنعام 160 .

([243]) سورة إبراهيم 22.

([244])سورة الحشر 7.

([245])سورة الزمر 26.

([246])الدر المنثور 7/409.

([247])   سعد بن معاذ بن النعمان الأنصاري: كان طويلاً عظيم الجسم ورئيس الأوس وحامل لوائهم يوم بدر وشهد اُحداً، جرح يوم الخندق ومات من اثر جرحه وعمره سبع وثلاثون سنة ودفن بالبقيع، وحزن عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

([248]) مفاتيح الغيب 3/224.

([249])سورة لقمان 12.

([250])سورة آل عمران 110.

([251]) سورة النور 63.

([252]) سورة الأنبياء 69.

([253]) سورة التحريم 10 .

([254])سورة العنكبووت 46.

([255]) سورة آل عمران 110 .

([256])سنن الترمذي 7/471.

([257]) سورة النجم 3-4.

 ([258])سورة المجادلة 12

 ([259])سورة النجم3-4.

 ([260])الكشاف4/76.

([261]) الكشاف 4/76.

([262])الدر المنثور 2/309.

([263])سورة آل عمران 110.

([264]) سورة الأحزاب 70.

([265])تفسير الرازي 2/454.

([266]) سورة الدخان43-44.

([267]) الكشاف 3/506 .

([268]) الكشاف 3/506 .

([269]) ن.م.ص.

([270]) سورة النساء 46.

([271]) سورة فاطر 24.

([272]) سورة الحشر 7.

([273])سورة التوبة 105.

 ([274])سورة النور 63.

 ([275])سورة الحجرات 4.

 ([276])سورة النساء 114.

([277])الكشاف 1/26.

 ([278])سورة الحجرات 36.

 ([279])سورة المنافقون 8.

([280])سورة ن 4.

([281]) سورة الصف 5.

([282]) سورة آل عمران 110.

([283]) أنظر سورة البقرة الآيات67-73 .

([284]) سورة آل عمران 111.

([285]) سورة القيامة 16.

([286])مجمع البيان10/75.

([287]) سورة المائدة 3.

([288]) سورة الحج 32.

([289])سورة الحشر 23.

([290])سورة الحج 65.

([291])الدر المنثور 9/271.

([292]) مفاتيح الغيب2/260، الدر المنثور 1/194.

([293]) الدر المنثور 1/195.

([294]) التبيان في تفسير القرآن1/388.

([295]) تفسير الصافي 1/62 طبعة حجرية.

([296])تفسير الرازي2/260 .

([297]) سورة النحل 125 .

([298]) سورة البقرة 13.

([299]) تفسير الكشاف 1/117 .

([300]) سورة البقرة 93 .

([301]) سورة التغابن 16 .

([302])سورة النور 63.

([303]) سورة المجادلة 4.

([304])الآية 104.

([305])الآية 106.

([306])سورة النحل 2.

 ([307])سورة الأنفال 60 .

([308])السيرة النبوية لابن كثير 1/215.

([309]) سورة المائدة 82.

 ([310])سورة يونس 107 .

([311])سورة النساء 174.

([312]) سورة آل عمران 110.

([313]) سورة الأسراء 20.

([314]) سورة آل عمران 110.

([315]) سورة النحل 89.

([316]) سورة آل عمران 111.

([317]) سورة المائدة 83.

([318]) أنظر الكشاف 1/638 .

([319]) سورة البقرة 97.

([320]) سورة آل عمران 119.

([321]) سورة آل عمران 125.

([322]) أنظر الجزء الذي جاء خاصاً في تفسير هذه الآية.

([323]) سورة البقرة 105.

([324]) سورة آل عمران 110.

([325]) سورة الحجرات 10.

([326]) سورة آل عمران 110.

([327])سورة آل عمران 123.

 ([328])سورة البينة 1 .

 ([329])سورة آل عمران 119.

 ([330])سورة آل عمران 69 .

 ([331])سورة النساء 102 .

 ([332])سورة ن 9 .

([333])سورة الأنفال 46.

([334])الدر المنثور 9/94.

([335])سورة مريم 96.

([336])سورة النساء 71.

([337])البحار 6/38.

([338]) سورة البقرة 43.

([339]) مجمع البيان2/353.

([340]) سورة هود 52.

([341])سورة الحديد 9.

([342])سورة المجادلة 1.

([343])سورة النصر 1-2.

([344]) مجمع البيان 1/307 .

([345])سورة الأنفال 7.

([346]) سورة النساء 121.

([347])سورة الإسراء 20.

([348])سورة النساء 113.

([349])سورة غافر 5.

([350])سورة البقرة 64.

([351])سورة آل عمران 179.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn