سورة البقرة الآيات (106 – 110)
المقدمة
الحمد لله الذي أنزل القرآن هداية متجددة للأجيال المتعاقبة ، ومعجزة عقلية تدعو لطاعته ولإمتثال لأوامره وصلى الله على نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الطاهرين.
الحمد لله ذي القدرة المطلقة الذي أثنى على نفسه بقوله تعالى في أول آية من آيات هذا الجزء من التفسير وهو الثامن عشر من جهات:
الأولى : نسخ آيات من القرآن، بقوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ] والذي يدل بالدلالة التضمنية على أمور:
الأول : نزول آيات القرآن من الله عز وجل .
الثاني : تقسيم التنزيل إلى آيات ، وكل آية ذات شأن مستقل .
الثالث : عدم ترك موضوع من غير حكم ، بدليل تعقب الناسخ للمنسوخ ، ومن وجوه التكامل في أحكام القرآن وصيغ التخفيف عن المسلمين أن المسلمين يعلمون بالآية الكريمة إلى أن تأتي آية ناسخة ويعلمون بها ويبادرون للعمل بها.
الرابع : تأكيد شرف وعظمة كل من الآية الناسخة والمنسوخة بقوله تعالى [أَوْ مِثْلِهَا] فيكاد ينعدم الترجيح فيما بينهما مع التسليم بحصول النسخ بينهما.
الثانية : تفضل الله عز وجل بنزول آية ناسخة يبقى حكمها إلى يوم القيامة، وفيه منع للترديد ، وطرد للحيرة ، ودفع للشك ، وواقية من أهل الجدال والريب .
الثالثة : تفقه المسلمين في علوم التنزيل ومعرفة قانون فيه هو الناسخ والمنسوخ، وهل إنغلق هذا الباب بعد إنقطاع الوحي والتنزيل بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى , الجواب نعم، وهو المختار، وهو من الشواهد على قوله تعالى [مَا نَنسَخْ] وعجز الخلائق عن موضوع النسخ.
الرابعة : بيان صفة الجلال والشأن الرفيع للآية الناسخة (نأت بخير منها أو مثلها) وفيه بعث للشوق في النفوس لمعرفة الآيات الناسخة والمقارنة بينها وبين الآيات المنسوخة والحال والزمان وأسباب نزول كل منهما.
الخامسة : تأكيد حقيقة وهي إنتفاء التعارض بين الآية الناسخة والمنسوخة وهو من أعجاز القرآن والشواهد على عدم التعارض بين آياته الأخرى من باب الأولوية القطعية.
السادسة : تعدد موضوع النسخ لتبديل في الآيات ليشمل إلى جانب النسخ الإنشاء وترك الحكم بها رحمة بالمسلمين وجذباً للناس لمنازل الهداية والإيمان.
السابعة : مخاطبة النبي بقوله تعالى[أَلَمْ تَعْلَمْ] وفيه: إكرام خاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته يتوجه الخطاب والتعليم إلى المسلمين والمسلمات.
الثامنه : إختتام آية النسخ بقانون في الإرادة التكوينية أن الله عز وجل ذو القدرة اللامتناهية لبيان حقيقة وهي أن النسخ في الآيات أمر لا يقدر عليه غير الله عز وجل، وهل فيه شاهد على ما نذهب إليه من إنحصار نسخ الآية القرآنية بالقرآن وأن السنة النبوية لا تنسخ حكم الآية القرآنية، وكذا الإجماع من باب الأولوية، والجواب لا دليل عليه، ولكنه أمارة ودعوة للتدبر بعلم النسخ والتسليم به.
وهل يمكن تسمية هذا الجزء بجزء النسخ لعظمة موضوعه , الجواب لا، تفسير أربع آيات آخرى بعدها في ذات الجزء , وكل آية كنز وخزينة من العلوم قائمة بذاتها، إذ أختتم الجزء بالآية [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]([1]) وفيه بيان بأن أداء الصلاة ودفع الزكاة إلى مستحقيها قانون محكم لم يطرأ عليه النسخ في القرآن والذي يفيد أنه أمر ثابت إلى يوم القيامة رسماً وتلاوة وحكماً، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]([2]) فشمل الحفظ والعناية الإلهية ببقاء حكم الآية وجود أمة تعمل به لصيغة الأمر في الآية التي تدل على وجوب تحقق الإمتثال العام بصيغة الجمع في إقامة الصلاة وأداء الزكاة .
وتدل خاتمة الآية على الترغيب بهما ويدل عليه إختتام هذا السِفر من التفسير بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]([3]).
قوله تعالى[ ما نَنسَــخْ مِنْ آيــةٍ أَوْ نُنسِــهَـا نَـأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ] الآية 106.
القراءة والإعراب
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (او ننسأها) بحذف الضمة من الهمزة علامة الجزم، والقراءة المشهورة أو (ننسها) بحذف الياء للجزم, وبضم النون وكسر السين وهو المرسوم في المصاحف ويفيد معنى الترك، وهو المشهور والأرجح.
و قال أبو عبيدة معنى ننساها أي نمضيها فلا ننسخها قال طرفة :
أمون كالواح الأران نسأتها
على لا حب كأنه ظهر برجد([4]).
وفي قراءة سعد بن أبي وقاص (تنسها) بصيغة الخطاب، من النسيان وهو خلاف الذكر وقال القاسم بن ربيعة لسعد بن أبي وقاص: فإن سعيد بن المسيب يقرأ{أو ننسها}، فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على ابن المسيب، ولا على آل المسيب قال الله تعالى:[ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى]([5])، [وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ]([6])، وهذا معنى قول مجاهد وقتادة([7])، وروي عن سالم مولى أبي حذيفة (ننسكها) وفي قراءة سعد بن مالك (تنسها) بضم التاء.
وروي عن مجاهد أنه قال قراءة أبي (ما ننسخ من آية أو ننسك) وروي عن ابن عباس ما يفيد أن المراد من النسيان الترك, والأمر بترك العمل بالآية.
وقيل المراد من ننسها نتركها فلا نبدلها كما في قول أبي عبيدة أعلاه ومنهم من قرأ تنسأها على معنى التأخير، وقرئ : ما ننسخ من آية) وما نُنسخ ، بضم النون ، من أنسخ ، أو ننسأها . وقرىء:(ننسها وننسها بالتشديد ، و(تنسها) ، و(تنسها)، على خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وقرأ عبد الله: (ما ننسك من آية أو ننسخها) وقرأ حذيفة: ما ننسخ من آية أو ننسكها([8]).
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ننساها بفتح النون والسين وإثبات الهمزة، وحكي عن ابن عباس أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره : ما نبدل من حكم آية نأت بخير منها ، أي أنفع منها لكم ، أو مثلها . ثم قال : أو ننساها ، أي نؤخرها ، فلا ننسخها ولا نبدلها . وهذه الحكاية لا تصح عن ذلك الحبر ابن عباس ، إذ هي محيلة لنظم القرآن ([9])، ولكنا صحيحة ، والإشكال عليها ليس له سبب .
وعن أنس أن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة، قرأنا بهم وفيهم كتابا:”بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا”. ثم إن ذلك رفع)([10]).
ما: اسم شرط جازم في محل مفعول به مقدم النسخ.
ننسخ: فعل الشرط مجزوم، من آية: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لاسم الشرط، أو ننسها: أو: حرف عطف ، ننسها: معطوف على ننسخ والفاعل ضمير مستتر يعود لله عز وجل، الهاء: مفعول به.
نأت: جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة، بخير: جار ومجرور متعلقان بنأت.
منها: جار ومجرور متعلقان بخير لأنه اسم تفضيل، أو مثلها: عطف على بآية، ومثل : مضاف، والضمير الهاء مضاف اليه.
ألم: الهمزة للإستفهام التقريري، لم حرف نفي وقلب وجزم.
تعلم: فعل مضارع مجزوم بلم، ان الله: ان واسمها.
على كل شئ قدير: على كل: جار ومجرور متعلقان بقدير، وكل: مضاف، شئ: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة تحت آخره.
قدير: خبر إن، و(إن) وما في حيزها سدت مسد مفعول تعلم.
اللغة
النسخ لغة هو الإزالة والنقل والتغيير والإبطال موضوعاً أو محمولاً أو اعتباراً ، ومنه قوله تعالى [ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ]([11])، ومنه الحديث: (صوم رمضان نسخ كل صوم)([12])، أي أزاله وحل بديلاً له، ويقال نسخت الشمس الظل أي أبطلته وحلّ ضياؤها محله، ونسخ الشيء ينسخه نسخاً وإنتسخه وإستنسخه: إكتتبه عن كتاب حرف بحرف ، ومنه كيفية تصوير الكتاب الشائعة في هذا الزمان أي من غير إزالة ومحو للأصل والنسخة الأولى.
والنسخ في الإصطلاح تبديل أو رفع حكم كلي شرعاً بآخر يأتي به دليل معتبر لولاه لبقي ثابتاً مع تراخي الناسخ عنه لأجل إستيفاء أجله وأسبابه أوإنتفاء الملاك في جعله أو إنتقاله إلى غيره ، وتعلق المصلحة بأمر آخر مستحدث ومبين.
في سياق الآيات
بعد أن بينت الآية السابقة ما يتفضل به الله سبحانه من إنزال الآيات وتوالي البركات على المسلمين تعييناً وإختصاصاً جاءت هذه الآية لتخبر عن موضوع النسخ، والأرجح وبلحاظ وحدة الموضوع أو التداخل أو التقارب فان هذه الآية فضل ونعمة على المسلمين من الله عز وجل.
وقد أخبرت الآية السابقة عن نزول الخير على المسلمين من عند الله، وبغض فريق من الناس لنيل المسلمين النعم الإلهية، فهل النسخ في آيات القرآن من هذا الخير الجواب نعم، فانه خير عظيم وتخفيف عن المسلمين.
ومن خصائصه أنه رحمة بأجيال المسلمين إلى يوم القيامة لما فيه من التخفيف عنهم، وقد تبين الأمر في مسألة تحويل القبلة، قال تعالى [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا]([13])، وتؤكد الآية محل البحث نزول الخير وشآبيب الرحمة على المسلمين بقوله تعالى [نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا].
وفي الجمع بين هذه الآية والآية السابقة حث للمسلمين للتقيد بأحكام النسخ، وترك الإصرار على المنسوخ وعدم البقاء عليه، فيجب الإنتقال إلى الحكم الناسخ لتتجلى مصاديق حسن وإخلاص عبوديتهم لله تعالى.
وإذ أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] فان هذه الآية أختتمت بقوله تعالى [أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] وفيه توكيد لفضل الله ودعوة المسلمين والناس جميعاً إلى عدم اليأس أو القنوط من رحمة الله تعالى.
وتتضمن الآية الإنذار والتحذير لأولئك الذين يحسدون ويعتدون على المسلمين بغير حق، لأن الله عز وجل قادر على إنزال الذل والهوان بهم في الدنيا والآخرة.
وإذ جاءت الآية قبل السابقة بالأمر الإلهي للمسلمين [وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا] فان هذه الآية جاءت لتؤكد التخفيف عن المسلمين، ولزوم السمع والإمتثال لمضامين النسخ والتغيير في بعض الأحكام، وفيه درس لليهود والنصارى في النبوة، إذ أن بعثة النبي اللاحق توجب تصديقهم بها والإنتقال في العمل من شريعة النبي السابق الى النبي اللاحق.
وإذ جاء قوله تعالى قبل ثلاث آيات [وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا]، فقد جاءت هذه الآية بالنسخ الذي يؤكد إيمان وتقوى المسلمين بإستجابتهم للنسخ، وتلقيه بالقبول والرضا.
وجاءت الآية التالية لتكون شاهداً على قدرة الله تعالى على كل شئ، لأن الخلائق والأشياء كلها ملك له تعالى، وهي مستجيبة لأمره، وجاءت الآية بعد التالية في التحذير من سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المعجزات على سبيل البرهان الشخصي، وما لايأتيه فيه أمر إلهي، قال تعالى [أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ]([14]).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث التوكيد على حقيقة وهي أن تقييد ونسخ الأحكام أو تثبيتها إنما هو بأمر من الله تعالى وليس من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكل فرد منها هو خير من عند الله، فما يجري عليه النسخ فهو خير بطرفيه الناسخ والمنسوخ.
وما يبقى من الأحكام من غير تقييد فهو خير أيضاً في ذاته وثباته، وتلك آية تنفرد بها الشريعة الإسلامية، وشاهد على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([15]).
وتكرر لفظ(ألم تعلم) في هذه الآية والآية التالية، فجاء في آخر آية البحث وفي أول الآية التالية وهو متحد في جهة الخطاب إذ أن المقصود هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه آية في إكرامه وتأكيد لنبوته وما خصه الله عز وجل به من صيغ التعليم والتأديب، وبواسطته يتوجه الخطاب إلى أجيال المسلمين في الأزمنة المتعاقبة، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]([16])، بلحاظ أن إنتفاع أجيال المسلمين وإلى يوم القيامة من الخطاب الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس، ودعوة لهم جميعاً لدخول الإسلام والتدبر في آيات التنزيل والآيات الكونية , وكل من آيات القرآن والآيات الكونية حجة عقلية وحسية، وإن كان الشائع هو أن الأولى عقلية والثانية حسية، وإذ جاء موضوع آية البحث بنسخ بعض آيات القرآن وما فيه من الحكمة والتخفيف جاءت الآية التالية لبيان أن النسخ من بديع صنع الله في ملكه، وأنه سبحانه[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]([17]).
ويفيد الحمع بين آخر آية البحث وأول الآية التالية مسائل:
الأولى : تكون القراءة: ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير، ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض.
الثانية : من معاني الربوبية المطلقة لله عز وجل قدرته على كل شيء وملكه لكل شيء.
الثالثة : بين قدرة الله وملكه عموم وخصوص مطلق، إذ أن القدرة أعم لتعلقها بالموجود والمعدوم والحال والمستحدث، وجميع المقدورات، وهي مجردة عن الزمان والمكان والجهة.
الرابعة : يفيد الجمع بين الآيتين أن قدرة الله عز وجل شاملة للسموات والأرض، والتنزيل والنسخ من ملكه للسموات والأرض.
الخامسة : إن الله عز وجل لا يفعل إلا الأمر المحكم والمتقن والنافع وجاءت آية البحث للدلالة على النفع العظيم للمسلمين والناس بالنسخ وأحكامه، إذ أنه موضوع للتخفيف عنهم، وهل فيه تخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب نعم، وفيها نفي للحرج وترغيب بالإسلام وتيسير في أداء العبادات.
السادسة : إرادة العموم في صيغة الآية، وتقديرها: ألم تعلموا أن الله على كل شيء قدير، ألم تعلموا أن الله له ملك السموات والأرض.
السابعة : هل في الجمع بين الآيتين بشارة النصر للمسلمين وإتساع دولة الإسلام الجواب نعم، فهو سبحانه الذي أنزل ملائكة من ملكه في السماء لنصرة خليفته في ملكه في الأرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]([18]).
الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض.
الثاني : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير.
الثالث : ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير.
أسباب النزول
قال بعضهم الا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً وغداً يرجع عنه، فنزلت الآية([19]) وليس الأمر كما قال، فلم يحصل النسخ إلا بأفراد قليلة ومعدودة وظاهرة من الأحكام والأعم الأغلب منها ليست فيه نسخ.
إن ذكر أسباب النزول وتأييد بعض آيات القرآن لها كالحالة المتعارفة من بعضهم في عدم التصديق بالنبوة والتشكيك بالرسالة يجب ان لا يحول دون التحقيق والمناقشة في تلك الأسباب.
فقد تكون هناك أسباب غيرها أو على النقيض منها متحدة معها او منفردة تأتي تأديباً للمسلمين وإمضاءً لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوله.
خصوصاً وان هذه الآية تأسيس لقاعدة كلية وحكم تشريعي.
وأخرج البخاري عن أنس قال: لم يبق ممن صلى للقبلتين غيري.
وأخرج أبو داود في ناسخه وأبو يعلى والبيهقي في سننه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فلما نزلت هذه الآية{فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام} مر رجل من بني سلمة فناداهم وهم ركوع في صلاة الفجر نحو بيت المقدس ألا إنَّ القبلة قد حوّلت إلى الكعبة مرتين، فمالوا كما هم ركوع إلى الكعبة.
وأخرج مالك وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود في ناسخه والنسائي عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.
وأخرج الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن عثمان بن عبد الرحمن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام يصلي انتظر أمر الله في القبلة، وكان يفعل أشياء لم يؤمر بها ولم ينه عنها من فعل أهل الكتاب، فبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الظهر في مسجده، قد صلى ركعتين إذ نزل عليه جبريل، فأشار له أنْ صل إلى البيت وصلى جبريل إلى البيت)([20]).
إعجاز الآية
في الآية إخبار عن وجود النسخ في القرآن والأحكام ،وهو دليل على أن الشريعة الإسلامية سمحاء تقبل التغيير والتبدل في بعض الأحكام بقيد حصول التبديل من عند الله تعالى، فهو سبحانه الذي يثبت أو يبدل الحكم الشرعي ، قال تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ([21])، فنسبت الآية النسخ لله تعالى (ما ننسخ) في دلالة على الحصر وعدم حصول النسخ من غير الله تعالى.
ومن إعجاز الآية تقييدها ذات النسخ بأنه في الآيات في دلالة على أن النسخ هو آية من عند الله، والقرآن هو الجامع لكلام الله وآياته، مما يعني عدم حصول النسخ بعد نزول القرآن، فالناسخ موجود فيه، وهذا الحصر رحمة وتخفيف عن المسلمين، ومنع من الفرقة والتشتت في باب النسخ.
ومن إعجاز الآية تأهيل المسلمين للإنتقال إلى الحكم الجديد، الذي يعني تسليمهم بنزول الأحكام من عند الله، وأن الناسخ والمنسوخ منه تعالى، وفيه حجة على أهل الكتاب في لزوم الإنتقال إلى العمل بالشريعة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتبين الآية حقيقة وهي أن النسخ بين الآيات معجزة بالذات ولا يقدر عليها إلا الله عز وجل، ومن وجوه الإعجاز في النسخ:
الأول : التباين بين النسخ وبين التزاحم أو التعارض.
الثاني : بقاء الآية المنسوخة في القرآن.
الثالث : إرتقاء المسلمين إلى الجمع والتمييز بين الآية الناسخة والمنسوخة.
ومن الإعجاز في النسخ أنه شاهد على التكامل في الشريعة الإسلامية بتأكيد آية البحث بمجيء آية بدل الآية المنسوخة وفيه مسائل:
الأولى : فضل الله عز وجل في إنتفاء الحيرة والإرباك عند المسلمين أوان النسخ , فتدل آية البحث على إنعدام الفترة بين المنسوخ والناسخ.
الثانية : بديع صنع الله وعظيم قدرته بالتناسب بين الناسخ والمنسوخ لذا أختتمت الآية بقوله تعالى[أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]([22])، ليفيد معنى الخاتمة ثناء الله عز وجل على نفسه في النسخ بين الآيات.
الثالثة : التحدي بقانون النسخ في القرآن، وما فيه من وجوه الحكمة.
الرابعة : تأكيد وجود النسخ في القرآن، وأنه لم يقف عند حال الإمكان.
ترى لماذا لم تأت الآية بصيغة تبين أن الناسخ يحل بدل المنسوخ وأن صيرورة الآية منسوخة لا يُعلم إلا عندما تنزل الآية الناسخة، فلم تقل الآية: ننسخ الآية بمثلها أو خير منها، وبل ذكرت الآية نسخ الآية أولاً ثم الإتيان بالناسخ، وقد يقال فيه شاهد على نسخ ورفع التلاوة ولكنه لم يثبت لأن الآية تنفي وجود فترة بينهما.
والمراد من لغة الآية هو بيان موضوعية الآية المنسوخة وأنها تنزيل يتلى وأن العمل بها قبل بلوغ النسخ للمكلفين لا يضر بصحة عباداتهم ومعاملاتهم كما في صلاة أهل قباء على قول أنه: نزل قوله تعالى[فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]([23]) ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد بني سلمة وقد صلّى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر، فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وحوّل الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين، ووصل الخبر إلى أهل قباء في صلاة الصبح (ق) عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة)([24]).
أي أن صلاتهم للظهر والعصر والمغرب والعشاء ليوم نزول الآية صحيحة وإن كان النبي قد حوّل قبلته حينئذ.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “النسخ” ولم يرد لفظ (ننسخ) إلا في هذه الآية، ومع ورود مادة (النسخ) في أربع مرات في القرآن، فان هذه الآية هي الوحيدة التي تتحدث عن نسخ الآيات والأحكام مما يدل على ما لها من الخصوصية والموضوعية في حياة المسلمين العقائدية والشرعية.
الآية سلاح
تبين الآية ما في النسخ من المصلحة والنفع، وأسباب دفع المفسدة عن المسلمين والناس جميعاً، وهذه الآية قانون ثابت في الإرادة التكوينية يدل على عظيم قدرة الله ورحمته بالمسلمين والناس جميعاً.
وإذ أختتمت الآية السابقة بأن الله تعالى ذو الفضل العظيم، بينت هذه الآية مصداقاً من مصاديق الفضل الإلهي على المسلمين، وهو النسخ في الآيات، وتبديل بعض أحكامه.
لقد خلق الله الإنسان من ضعف وجعله كائناً محتاجاً، وجاء النسخ ليكون تخفيفاً عن المسلمين خاصة وسلاحاً ملازماً لأجيال المسلمين.
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالقرآن جامعاً للأحكام الشرعية، وكتاباً سالماً ومعصوماً من التحريف والتغيير والتبديل، ولكنه بذاته يتضمن التبديل الذي أنزله الله، ليجتمع في القرآن البدل والمبدل.
فجاءت هذه الآية للوقاية من القول بحصول تحريف وتغيير في القرآن أو أن هناك تضاداً بين الناسخ والمنسوخ ،وتلك آية يختص بها القرآن بأن يدافع الله عز وجل عنه، ويحفظه من أسباب الشك والريب بالإخبار عن أن المنسوخ من القرآن ، وآية عظمى في التنزيل، ودليل على عظيم قدرة الله.
وآية البحث من عمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]([25])، بلحاظ الذب عن القرآن، ووقايته من أهل الجدال والريب الذين يسعون دائبين في محاولة إيجاد تعارض بين آياته أو حصوله تزاحم في ميادين العمل بها، فجاءت آية البحث لتخبر عن الترتيب الرتبي بين الآيات في العمل بما فيه التيسير ودفع الحرج والمشقة من المسلمين.
بيان ما خص الله به المسلمين من فضل ورحمة وإعلام عن منهج في الشرائع السماوية يتعلق ببعض الأحكام، والملازمة بين الشرائع المتعاقبة وما يطرأ عليها من التبديل والتغيير وما فيه مضامين التخفيف، ولعل فيها إخباراً عن الإزالة والنقل والتبديل في بعض الآيات الكونية.
بحث كلامي
وفي قوله تعالى [مِنْ آيَةٍ] قال الرازي: كل المفسرين حملوه على الآية من القرآن غير أبي مسلم فانه حمل ذلك على التوراة والأنجيل([26]).
وهل يمكن أن يقال بوجه ثالث هو أن آية البحث أعم من هذا الحصر وإن إدعي إجماع المفسرين إلا من شذ، فالآية تتعلق بالمعجزات والبينات مطلقاً والأحكام الشرعية من مصاديقها وما يحتاجه الناس في دنياهم وآخرتهم بالإضافة الى آيات القرآن.
وقيل ورد في إنجيل يوحنا ما يدل على التوحيد وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك، أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته انا مجدتك على الارض العمل الذي اعطيتني لاعمل قد اكملته)([27]).
وفي القرآن تبيان لكل شيء، فأخبر الله تعالى عن مسألة كونية تكوينية تشريعية وان النسخ والإزالة والتبديل من سمات الحادث لإفتقاره إلى التغيير، فالنسخ شاهد على عظمة الباري ، وإنفراد واجب الوجود بالبقاء والأزلية والأبدية.
وتخبر الآية الكريمة عن عظمة الباري وأن قدرته وسلطانه على المخلوقات ليس إبتداءً فقط كما قال بعض فلاسفة اليونان، بل إستدامة أيضاً، فتتجدد الآيات لتكون مناسبة لزيادة الإيمان.
وذكر لفظ (الآية) مفرداً ومثنى وجمعاً ثلاثمائة وثمانين مرة وتشمل آيات القرآن والآيات الكونية وآيات الكتب السماوية المنزلة قبل القرآن، والقرآن ناسخ لما سبقه منها، وفيه أيضاً ناسخ ومنسوخ.
وقيل أن الآية قد تكون ناسخة ثم تكون منسوخة بآية أخرى، ولكن ذلك يندر إثباته وإن عذب القول به.
نعم النسخ في آيات القرآن أهم مصداق وموضوع وعلينا أن نتدبر الحكم والآيات في هذه الآية من عظيم قدرة الله وسعة رحمته، وسلطان مشيئته.
إن الآيات الكونية والأحكام السماوية تتجدد دائماً نحو الأحسن أو تتجدد بذات النوع وإن إختلف الجنس والماهية، إذ أن الإمكان قد يؤخذ بالنسبة الى الماهية نفسها لا بالقياس إلى الوجود، وإمكانها عبارة عن عدم ضرورة وجودها او عدمها بالقياس إلى ذاتها.
ومن سمات الحادث أن وجوده لا يتم بنفسه بل يحتاج فيه إلى غيره، وهو ينبئ عن وجود مخصوص، وبما أن إرادة الله في الأشياء مطلقة، ومن حكمته تعالى أنه لطيف، وهو سبحانه يأتي بالأحكام على نحو التدريج، وبما فيه التخفيف والتيسير.
وقد تناقش دعوى الإجماع عليه من المفسرين كبرى وصغرى، أما الكبرى فهي أن موضوع الآية مركب والجانب الأعظم منها يتعلق بعظمة الباري وقدرته ومشيئته.
وأما الصغرى فان دعوى الإجماع تحتاج إلى دليل، وتدل الآية على ان القرآن كلام الله وليس بقديم وانه من مصاديق القدرة الإلهية.
ولكن الأخبار الواردة تفيد في ظاهرها إرادة الآية من القرآن، وطرو النسخ على بعض أحكامها، وإن كان النسخ عاما في الآيات الكونية.
وفي قراءة ابن مسعود ما ننسك من آية أو ننسخها و به قرأ الأعمش([28])، إلى جانب ما تقدم من القراءات في باب القراءة والإعراب.
إن إرادة الآية من القرآن هو الأنسب والصحيح في المقام وفيه توكيد إعجاز القرآن، وإجتناب الخلاف في العمل بأحكامه وسننه، ويفيد الحصر الموضوعي للنسخ في المقام بآيات القرآن تفقه المسلمين في علوم القرآن، والإنتفاع الأمثل مما فيه من الأحكام والسنن، وتلقي النسخ بالقبول والإمتثال ومما يدل عليه مجيء الآية بصيغة المضارع في كل من(ننسخ) و(نأت) وتقديم النسخ على الإتيان بغيرها وتعلق النسخ بذات الآية المنسوخة.
ومن إعجاز القرآن أنه لم يسم الآية التالية بالناسخة لها، بل جاءت خيراً منها أو مثلها مما يدل على بقاء قدسية وشرف الآية المنسوخة، ولإحتمال التباين الموضوعي أو الحكمي بين الناسخ والمنسوخ، ولا عبرة بخلاف أبي مسلم ونحوه من رجال القرن الثاني في مقابل الإجماع والمتسالم بين المسلمين.
(واختلف العلماء في المحكم والمتشابه كليهما فقال فتادة والربيع والضحاك والسدي: المحكم: الناسخ الذي يُعمل له والمتشابه: المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به، هي رواية عطيه عن ابن عباس.
روى علي ابن أبي طلحة عنه قال: محكمات القرآن ناسخة، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمر به ويعمل به.
والمتشابها: منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله واقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به)([29]).
مفهوم الآية
تبين الآية عظيم قدرة الله تعالى على الإتيان بالآيات الباهرات وإبدالها بمثلها أو أحسن منها من جميع جهات الحسن والإعجاز والتكامل والشمول والإستيعاب، ويتجلى في مفهومها اللطف الإلهي والسعة في رحمته تعالى والتخفيف في الأحكام، ومنه لغة التدرج في التشريع كما أن النسخ جزء من فلسفة التنزيل وذكره هنا على نحو التعيين والخصوص مدخل لفهم علم الناسخ والمنسوخ، ومنع للإرباك، ودفع للريب والشك، وردع لأهل الضلالة والغواية.
فهذه الآية مدرسة مستقلة في العلوم القرآنية، وموضوع لتنزيه القرآن، وبيان فرائد الإعجاز فيه وصدق تنزيله من عند الله تعالى، والآية واقية سماوية بصيغة تبديل الحكم بحسب تغير الموضوع والحال والشأن فهو متعدد بلحاظ علم الله تعالى بتبدل الأسباب وإنقلاب الأحوال وعلمه تعالى بالحال والحكم الأنسب للناس أفراداً وطبائع مع تباين الأزمنة والأمكنة.
ويؤكد ذيل الآية هذه الحقيقة وأن النسخ شاهد قرآني على التنزيل فهو دليل عظيم قدرة وسلطان الله تعالى، وهو مدخل لدراسة عظيم القدرة الإلهية في الإعجاز الذاتي للقرآن، وأنه تنزيلاً وحروفاً وكلمات وآيات وأحكامًا ومغيبات وقصصاً من مصاديق القدرة الإلهية.
وفي الآية مسائل
الأولى: الإخبار عن حصول النسخ في القرآن.
الثانية: الثبات المطلق للآيات كتنزيل، وفيه دلالة على عظيم قدرة الله تعالى.
الثالثة: دعوة المسلمين للتوجه الى الله تعالى بالدعاء والتضرع والمسألة، للإنتفاع من آية النسخ والتبديل وما فيه من التخفيف ،وهو من عمومات قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ([30]).
الرابعة: ان النسخ بيد الله تعالى وحده.
الخامسة:في النسخ مصلحة ونفع للمسلمين.
السادسة: إنتفاء الترديد والحيرة عند المسلمين، فلا يكون النسخ إلا بآية جديدة وفيه طرد للشك والريب، وتصد لأهل الضلالة والخصومة، الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر، ويسعون للمكر والكيد بهم.
السابعة: إنعدام وجود فترة في النسخ وعدم تأخر الناسخ عن زمان العمل المنسوخ، بل يأتي متعقباً له.
الثامنة: جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية، لتكون قانوناً ثابتاً، وآية كونية، وإعجازاً قرآنياً مصاحباً للحياة الدنيا.
التاسعة: الآية دعوة للمسلمين لضبط مصاديق علم النسخ في القرآن وآياته ومعرفة التغيير والتبديل في الآيات الكونية.
العاشرة: إختتام الآية بالخطاب الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته الى المسلمين جميعاً، ويتضمن البشارة وبعث السكينة في النفوس ببيان عظيم قدرة الله تعالى، والإخبار عن عدم إستعصاء مسألة عليه.
الحادية عشرة: البشارة والوعد الكريم بأن النسخ لن يكون إلا بالمثل أو الآية الأحسن، مما يدل على أنه رحمة وتخفيف، وفيه دعوة لتلقي النسخ بالقبول.
الآية لطف
من أهل الكتاب من لا يقول بالنسخ، ووقف على شريعة النبي السابق كما في الذين وقفوا على شريعة موسى عليه السلام، فجاءت الآية لتؤكد النسخ وتبين أنه حق من عند الله، وهو خير محض، وفيه النفع والبركة للمسلمين والناس جميعاً.
ومن إعجاز الآية إخبارها عن كون المنسوخ آية ومعجزة أيضاً، فالمنسوخ ليس أدنى مرتبة في الماهية من الناسخ، بل يتحد في السنخية مع الناسخ.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، وبعث الله عز وجل الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لإعانة الناس للسلامة والتوفيق والأمن من الفتن والإفتتان فيها، وجاء النسخ في القرآن رحمة وعوناً للمسلمين في الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية، وأداء الفرائض والتقيد بالوظائف الشرعية، والنسخ من عمومات قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]([31]).
وذكر في باب النسخ أنه لما فرض الصيام في أول الإسلام شق عليهم، ورخص للذين يطيقون الصيام أي يتحملونه بمشقة بالإفطار والتطوع عن كل يوم إطعام مسكين بقوله تعالى[وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ]([32]).
وقيل نسختها[وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ]([33])، فأمروا بالصيام([34]) روي عن أبي ليلى، ولكن لـ(خير) اسم تفضيل.
وأخرج ابن جرير عن أبي ليلى: نبأ أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم المدينة أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوّعاً من غير فريضة.
ثم نزل صيام رمضان وكانوا قوماً لم يتعودوا الصيام فكان مشقة عليهم، فكان من لم يصم أطعم مسكيناً، ثم نزلت هذه الآية {فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} فكانت الرخصة للمريض والمسافر، وأمرنا بالصيام)([35]).
ليكون من مصاديق النسخ التدرج في الأحكام بما فيه التخفيف أو إتمام وعموم الحكم كما في التدرج في حرمة شرب الخمر، وكذا عقوبته وكذا في باب الإرث وإطعام الأبوين.
إفاضات الآية
تتضمن الآية الشهادة السماوية بأن كل ما في القرآن آيات من عند الله،وأن صيرورة الآية منسوخة، لايضر في جزئيتها من القرآن مادامت بين الدفتين.
وجاء القرآن رحمة بالمسلمين والناس جميعاً، وليس من حصر لمصاديق وأفراد الرحمة في القرآن، وموضوع النسخ من الرحمة الإلهية الباقية إلى يوم القيامة، ينزل نسخ في آية قرآنية لتبقى إفاضاته متجددة إلى يوم القيامة، والخير المحض صبغة القرآن الخالدة في الذات والعرض، فكل ما فيه خير ونفع دائم ومتصل، والآية القرآنية كالشجرة دائمة الثمر.
وقد ورد في وصف ثمار الجنة بإنها [لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ] ([36])، فما أن تقطع من الشجرة ثمرة حتى تحل بدلها أخرى.
وكذا بالنسبة لآيات القرآن المنسوخة مع زيادة، وهي أن الآية الناسخة قد تكون خيراً وأحسن من المنسوخة مع أن المنسوخة هي الأخرى نعمة وحسنة.
وتبعث الآية على عدم اليأس من رشحات فضل الله التي لا يمكن إحصاؤها، وليس لها حد تنتهي عنده كماً وكيفاً.
وتدعو الآية المسلمين للشكر لله عز وجل من وجوه:
الأول : نعمة النسخ في القرآن، ومجيء التخفيف والحكم الثابت الدائم قبل أن يستأثر الله برسوله الكريم.
الثاني : تعدد النسخ في القرآن.
الثالث : هداية الله عز وجل المسلمين لمعرفة الناسخ والمنسوخ من الآيات.
الرابع : صدق التقوى بالعمل بآيات القرآن حتى على فرض العمل بالمنسوخ مع عدم العلم بأنه حكم منسوخ , وتدعو الآية المسلمين والناس إلى تبديل العادات المذمومة بالأخلاق الحميدة، وتحث المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لجعل النفوس تنفر من الإصرار على الفعل القبيح.
الصلة بن أول وآخر الآية
بعد أن جاءت الآية السابقة بالإخبار عن كراهة وبغض الكفار لنزول الخير على المسلمين من عند الله، جاءت هذه الآية لتبين قانوناً في الإرادة التكوينية وهو وجود النسخ وتبديل الحكم في التنزيل، ومن بديع صنع الله تناسخ الأزمنة والقرون والأجيال المتعاقبة من الناس، فكل جيل يعمر الأرض بعد الجيل السابق، ولكن النسخ في القرآن أمرمختلف، لأنه منقطع وليس متصلاً لإنقطاع نزول القرآن بإنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، فالناسخ موجود في القرآن.
وتلك آية ورحمة بالمسلمين، ودعوة للتفقه في الدين، وبرزخ دون التفريط في الأحكام الشرعية.
ومن إعجاز الآية بيانها لموضوع وغايات ومنافع النسخ وأنه ليس تركاً ونسياناً بل تبديل وإقامة آية مقام آية أخرى، وفي الآية البديل رحمة بالمسلمين والناس جميعاً لأنها تتصف بالحسن الذاتي والغيري وأنها خير من الآية المنسوخة أو تكون مثلها.
وذكر المثلية إعجاز قرآني للإخبار عن قدسية وعظمة الآية المنسوخة، فهي إما أن تتساوى في الفضل والنفع العظيم مع الآية الناسخة، أو تكون الناسخة أرجح في الفضل ،وكل واحدة منهما رحمة ولطف من عند الله، وهو سبحانه العالم بأسباب جلب المصلحة ودفع المفسدة، والتخفيف عن المسلمين كما في نسخ القبلة ونزول الآيات القرآنية بتوجيه المسلمين إلى الكعبة بعد أن كانوا يستقبلون بيت المقدس في صلاتهم ،قال تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا] ([37]).
وجاءت الآية بذكر النسخ والنسيء، وعطف أحدهما على الآخر، ويدل هذا العطف على التباين والمغايرة بينهما، وتكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق فكل نسيء هو نسخ وليس العكس، لأن النسخ تبديل وإتيان آية وحكم آخر بدل الحكم في الآية المنسوخة، اما النسي فهو الترك، وأصل الكلمة، من التأخير وقيل منه تسمى العصا المنسأة لأنها ينسأ بها أي يؤخر ويزاح الشئ عن مكانه، وعلى هذا يكون من معاني النسي في المقام تأخير نزول الآية والله أعلم بالمصلحة.
وأخرج ابن الأنباري عن أبي ظبيان قال: قال لنا ابن عباس: أي القراءتين تعدون أول؟ قلنا: قراءة عبدالله وقراءتنا هي الأخيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان يعرض عليه جبريل القرآن كل سنة مرة في شهر رمضان، وأنه عرضه عليه في آخر سنة مرتين، فشهد منه عبدالله ما نسخ وما بدل)([38]).
وأستدل بهذه الآية على أن القرآن محدث وليس بقديم، لأنه من عالم الفعل ومصاديق القدرة الإلهية.
وجاء وسط الآية ليؤكد شرف وعظمة الآية القرآنية الناسخة والمنسوخة، وفيه حجة على قدسية آيات القرآن وتغشي صفة الكمال لجميع آيات القرآن النازلة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء المنسوخة أو الناسخة، من وجوه:
الأول: نزول الناسخ والمنسوخ من عند الله عز وجل فالله سبحانه ينسب النسخ في الآيات له سبحانه بقوله تعالى [مَا نَنسَخْ].
الثاني: قوله تعالى [ِخَيَْرٍ مِنْهَا] والذي يفيد بيان الحسن الذاتي لكل من الناسخ والمنسوخ، إلا أن التفضيل والترجيح وزيادة الحسن تكون للناسخ.
الثالث: قوله تعالى [أَوْ مِثْلِهَا] لإرادة المثلية والتشابه بين الناسخ والمنسوخ.
الرابع : شرف موضوع النسخ بنزوله في القرآن، وتعلقه بأحكام الشريعة الإسلامية.
الخامس: النسخ فضل عظيم من الله عز وجل على المسلمين لما فيه من التخفيف عنهم، ومضامين التيسير والتسهيل في أداء الفرائض والواجبات، ومعاني العفو والرأفة بهم.
ولما جاءت الآية السابقة بالإخبار عن حسد الكفار للمسلمين ، وكرههم لنزول الخير من عند الله على المسلمين، جاءت هذه الآية للدلالة على أن النسخ في الآيات خير محض، ورحمة من عند الله بالمسلمين.
لذا جاءت الآية للبيان، ومنع الشك والريب في آيات القرآن، وهي واقية من ظهور الحسد والبغضاء التي عند الكفار بلغة التشكيك والجدال في التزاحم بين الناسخ والمنسوخ، ومحاولة إيجاد التعارض بينهما، من غير إلتفات إلى قانون وأحكام النسخ.
فهذه الآية رحمة وخير محض وحرز للمسلمين، ودعوة لهم للتفقه في الدين، فقبل أن يقوم أهل الشك والريب والحسد بإيجاد وجوه للإختلاف بين آيتين يتعلق بهما موضوع النسخ يكون المسلمون قد أدركوا الصلة بينهما وهي صلة الناسخ والمنسوخ التي أخبر الله عنها في هذه الآية.
وبعد أن جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية إنتقلت إلى لغة الخطاب الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ألم تعلم)، ليتوجه الخطاب بواسطته إلى المسلمين والناس جميعاً، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ([39]).
ليكون النسخ باباً للهداية والرشاد، وسبيلاً للتفقه في الدين، ويدل ذكر عظم قدرة الله عز وجل في موضوع نسخ آيات القرآن وإختتام الآية به على موضوعية وأهمية النسخ وأحكامه، وأنه ليس بالأمر الهين، فلا ينحصر موضوعه بمجئ آية بدل آية أخرى بل يشمل نسخ الأحكام وتلقي المسلمين لموضوع وحكم النسخ والناسخ بالقبول، وتأهيلهم إلى الفصل بين الناسخ والمنسوخ، وعدم الخلط بينهما، وتعيين زمان نزول كل من الناسخ والمنسوخ بلحاظ كبرى كلية أن الناسخ لاحق في زمانه للمنسوخ.
التفسير الذاتي
ذكرت الآية السابقة حسد فريق أهل الكتاب والمشركين للمسلمين لما ينزل عليهم من الآيات ومضامين الوحي , ويدل بالدلالة التضمنية على تغشي الرحمة الإلهية للمسلمين، وأن نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة عظيمة فاز بها المسلمون وإستحقوا بها التفضيل من عند الله عز وجل.
وجاءت هذه الآية لبيان نعمة أخرى متفرعة عن نعمة التنزيل المذكورة في الآية السابقة، ويحتمل حسد هؤلاء في كمه وكيفيته وجوهاً:
الأول: الإكتفاء بحسدهم وبغضهم للمسلمين على نعمة التنزيل المذكورة في الآية السابقة بقوله تعالى[مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ] ([40]).
الثاني: صدور حسد وظهور غيض جديد بالنعمة الإضافية على المسلمين التي تتجلى بالنسخ في بعض القرآن والأحكام كالنسخ في قبلة المسلمين، وتبديلها بالتوجه إلى الكعبة بعد أن كانت إلى بيت المقدس.
الثالث: نقص أو زوال الحسد للمسلمين بسبب حصول النسخ في الآيات وهذا النقص على شعب:
الأولى: إقرار الكفار بأن التنزيل نعمة وخير محض من عند الله، وما كان من عند الله لا يصح الحسد والبغضاء بسببه.
الثانية: حصول الإرباك والشك بسبب هذا النسخ.
الثالثة: إنشغال الكفار عن الحسد لإهتمامهم بآية النسخ والتبديل.
كما في نزول الحروف المقطعة التي جاءت في بدايات بعض السور مثل[أَلَمْ] [كهيعص]([41])، فأنها نزلت لجذب إنتباه الكفار ومنعهم من المكاء والتصدية، وجعلهم يصغون لما بعدها من الآيات فيكون تدبرها على نحو قهري.
والصحيح هو الثاني أعلاه، والشعبة الثالثة من الوجه الثالث والتي تكون نوع واقية للمسلمين، وهي من الخير النازل عليهم من عند الله، للتخفيف من آثار حسد ومكر الكفار، وهو من عمومات قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ([42]).
وجاءت الآيات القليلة السابقة خطاباً للمسلمين في ذكر أفعال فريق من بني إسرائيل، والحسد الذي يملأ قلوب المشركين لما يرون من الخير النازل على المسلمين، فقد كان عدد كثير من الصحابة مستضعفين في قريش، وأصبحوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بها أعزة، وذوي شأن ومنزلة بالإضافة إلى إظهار المهاجرين والأنصار أسمى معاني الأخوة الإيمانية.
ووردت مـــادة(نسخ) في القرآن أربــــــع مرات، منها ما يخص تفضل الله عز وجل بمحو وإزالة أثر ما يلقيه الشيطان، وإخبار الله عز وجل للناس يوم القيامة بأن الملائكة كانوا يستنسخون ويكتبون أعمالهم في الدنيا، قال تعالى[إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ([43]).
ولم يرد موضوع نسخ وإبدال بعض الآيات إلا في هذه الآية، مما يدل على موضوعية هذه الآية وما فيها من الأحكام، وفيه إعجاز للقرآن يتجلى بإختصاص آية واحدة من عدة كلمات في موضوع عقائدي وفقهي، ويتعلق بقوانين وقواعد كلية في حياة المسلمين.
وفي الآية مسائل:
الأول: نسبت الآية النسخ إلى الله عز وجل، فلا يقدر عليه إلا هو سبحانه.
الثاني: ذكرت الآية وجهين في تبديل الآيات:
الأول: النسخ.
الثاني: الترك فقد تأتي آية بديلة لتحل محل الآية المنسوخة تدل على إستبدال الحكم بغيره، وقد يكون تركاً مؤقتاً أو دائماً لحكم الآية.
وكلا الأمرين تخفيف عن المسلمين، وفيه شاهد على رأفة ورحمة الله عز وجل بالمسلمين والمسلمات ليتلو المسلمون الآية المنسوخة في القرآن إلى يوم القيامة وفيه مسائل:
الأولى: إنه شاهد على رحمة الله عز وجل بهم.
الثانية: دعوة المسلمين والمسلمات للتقيد بالناسخ.
الثالثة: بيان التخفيف بذكر الناسخ والمنسوخ حجة.
الرابعة: إنه دعوة للشكر لله عز وجل على نعمة النسخ.
الخامسة: بيان حسن إيمان المسلمين والمسلمات الأوائل من وجوه:
الأول: إمتثالهم للمنسوخ والعمل بأحكامه.
الثاني: مبادرة الصحابة وأهل البيت للعمل بالناسخ حال نزوله.
الثالث: تلقي الناسخ بذات الرتبة من التصديق كما في تلقيهم للمنسوخ.
السادسة: تعدد وجوه الفضل الإلهي على المسلمين، فيأتي التخفيف من وجوه ثلاثة:
الأول: نسخ آية وحكم بغيره.
الثاني: ترك حكم جاءت به آية قرآنية أخرى، كما في آية الصدقة عند مناجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي وقع الحكم فيها تخفيفاً عن المسلمين قال تعالى[إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً] ([44])، ولم يعمل بها إلا الإمام علي عليه السلام وعليه الإجماع، وكان يذكرها لبيان فضل الله عز وجل عليه.
ومن إعجاز آيات القرآن بعث السكينة في نفوس المسلمين، والفزع والخوف في قلوب الكفار منطوقاً مفهوماً أو هما معاً، وجاءت هذه الآية بذات المعنى إذ أنها تبين مجيء البديل والحكم الناسخ لما يتم تبديله وتركه، وفيه مسائل:
الأولى: الحكم الناسخ دائم وثابت.
الثانية: تكامل معاني ومضامين القرآن.
الثالثة: دعوة العلماء إلى التحقيق في الصلة بين آيات القرآن بلحاظ إتحاد الحكم والموضوع وإحتمال وجود النسخ في آيتين من آياته.
الرابعة: دعوة المسلمين للتفقه في الدين، ومعرفة الأحكام.
الخامسة: توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على اللطف بهم في موضوع النسخ.
السادسة: وجود النسخ في أحكام الشريعة الإسلامية شاهد على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ([45])، وفيه دلالة على إرتقاء المسلمين في المعارف وعلوم الشريعة.
السابعة: جاء القرآن بآية النسخ مع ما تتضمنه من النفع والحبوة واللطف الإلهي ليكون حجة وخيراً وتخفيفاً، لأن ما يأتي من الله عز وجل ويتصف بأنه نفع وخير محض لا بد من الإقرار والتسليم به.
وكما جاء التبديل والترك في الآيات على وجهين، فإن الناسخ والبدل جاء على وجهين أيضاً، فأما أن يكون هو الأفضل والأحسن من المنسوخ، وأما أن يكون مثله وشبهه وفيه أمور:
الأول : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين.
الثاني : النسخ دليل على عظيم قدرة الله.
الثالث : في النسخ إظهار لسر من أسرار القرآن وما فيه من الإعجاز.
الرابع : إنتفاء التعارض والتزاحم بين آيات القرآن.
الخامس : نفي الحرج عن المسلمين في العمل بأحكام الشريعة.
ومن الشواهد على هذا الإعجاز أن الناسخ والمنسوخ في آيات معدودات، ومنه ما أختلف في ثبوت النسخ فيه، كي لا يظن بوجود تعارض بين آيتين.
فمن البديع في علم الناسخ والمنسوخ أن الأول في طول الثاني، وليس في عرضه، لذا أختتمت الآية بقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير] بأن النسخ وعلومه لا يقدر عليها إلا الله عز وجل بلحاظ إختصاصه في موضوعات معينة وأن النسخ لطف إضافي وتخفيف عن المسلمين، ليكون مدداً وعوناً لهم على أداء الفرائض إلى يوم القيامة، وعلماً ظاهراً يتحدى أهل الشك الريب، ويجذب الناس إلى الإسلام والتصديق بنزول القرآن من عند الله عز وجل.
وهل ينحصر النسخ بمصاديق الإرادة التشريعية أم يشمل الإرادة التكوينية، الجواب جاءت خاتمة الآية بتوكيد الإطلاق في قدرة الله وإفادة المعنى الأعم وإذا كان المقصود النسخ في الآيات الكونية أيضا فيمكن إستقراء الجواب بالتحقيق في الآيات التي يتغشاها موضوع النسخ والمعنى الأعم فهو شامل لهما.
ومن إعجاز الآية أن خاتمتها جاءت خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الإستفهام التقريري الذي يفيد التثبيت والتوكيد، وإبتدأت الآية التالية بذات الصيغة من الخطاب والإستفهام التقريري.
وأختتمت الآية بتوكيد النسخ وبيان علته والعلة التامة هي جميع ما يتوقف عليه وجود الشيء، فيلزم من وجودها وجود معلولها لإجتماع شرائط التأثير والإيجاد، فإن أثار بعض أهل الشك أسباب الريب وجادلوا في النسخ وتبديل الحكم بعد نزوله كما في القبلة وتحويلها إلى الكعبة جاءت خاتمة هذه الآية للإخبار عن وجود المقتضي وفقد المانع بأن الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة، ومن قدرته سبحانه في المقام أمور:
الأول:نزول الآية الناسخة.
الثاني: نسخ الآية التي يريد الله سبحانه وقف عمل المسلمين بها تخفيفاً عنهم.
الثالث: جعل الله عز وجل المسلمين يتلقون النسخ بالقبول والرضا.
الرابع: وقاية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من شر الأعداء وأهل الحسد والبغضاء، وما يثبرونه من الشك والريب بالتنزيل بسبب النسخ، قال تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ([46]).
الخامس: علم الله تعالى بأن الناسخ خير وأفضل من المنسوخ، وهذا التفضيل من عظيم قدرة الله عز وجل.
السادس: الآية من السكينة التي تفضل الله عز وجل بها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، لذا جاء بيان الإطلاق والعموم في قدرة الله عز وجل في ذات الآية التي تتضمن الإخبار عن النسخ وليس من كلمات أو آيات بينهما.
السابع: في الآية تثبيت لأقدام المسلمين في منازل الإيمان ودعوة لهم لنشر راية الإسلام وجذب الناس لسبل الهداية والإيمان.
الثامن: بيان قانون في آيات القرآن وهو أنها من رشحات قدرة الله.
التاسع: من مشيئة وقدرة الله التخفيف عن المسلمين، وإنزال البركات والإفاضات عليهم وتقريبهم إلى منازل العبادة والتقوى.
العاشر: إن النسخ سبب من أسباب إنتصار الإسلام وبقاء أحكامه إلى يوم القيامة، وقد أراد الله عز وجل للقرآن أن يبقى الكتاب السماوي الذي يعمل به الناس إلى يوم الدين، فجاء بالنسخ.
الحادي عشر: من قدرة الله عز وجل في المقام تثبيت أحكام النسخ وعمل المسلمين بأحكامه وعدم التفريط به.
وقد ألفت مجلدات خاصة بالناسخ والمنسوخ وأسباب نزول الآيات الناسخة وأكثروا من التحقيق في نسخ القبلة، وتأريخه ومنهم من تتبع القرآن سورة سورة وما فيها من الناس أو المنسوخ، وذكر في سورة الحج أن فيها آيات ملكية ومدنية، وليلية ونهارية وسفرية وحضرية وقتالية وسلمية، وناسخة ومنسوخة.
وذكر أنها تضم من المنسوخ قوله تعالى(تحتوي من المنسوخ على ثلاث آيات: الآية الأولى: قوله تعالى: (وَما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ مِن رَسولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلّا إِذا تَمَنّى أَلقى الشَيطانُ في أُمنِيَّتِهِ) وذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بأصحابه بمكة، وقرأ بهم سورة والنجم، حتى انتهت قراءته إلى قوله: أَفَرَأَيتُم اللاتَ وَالعُزى. وَمَناتَ الثَالِثَةَ الأُخرى. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثى) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تلك الغرانيق العلى، وشفاعتهن ترتجى. فجاء جبريل عليه السلام وقال: ما هكذا نزلت عليك، فنسخها الله تعالى بقوله: (سَنُقرِئُك فَلا تَنسى))([47]).
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: تدل الآية على وجود النسخ في القرآن.
الثانية: النسخ رحمة وتخفيف عن المسلمين.
الثالثة: دعوة المسلمين للتفقه في علوم القرآن.
الرابعة: تؤسس الآية علماً مستقلاً هو علم الناسخ والمنسوخ،والذي صارت له موضوعية في علم التفسير والأحكام.
الخامسة: تبين الآية إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية، بالتمييز بين الناسخ والمنسوخ، وعدم الخلط بينهما في النص والتأويل والحكم.
السادسة: نسبة النسخ إلى الله عز وجل، وهو سبحانه الذي يقوم بالنسخ وهو أعلم بالمصلحة وجلبها، والمفسدة ودفعها.
السابعة: من عظيم قدرة الله عز وجل أنه يأتي بحكم ويجعله بديلاً لحكم أخر.
الثامنة: من وجوه تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم وجود النسخ في القرآن ومضامين الأحكام، وعملهم بالناسخ دون المنسوخ.
التاسعة: بيان قانون ثابت وهو إتصاف كل من الناسخ والمنسوخ بالحسن الذاتي مع رجحان وزيادة من الحسن في الناسخ لبيان سعة فضل الله عز وجل.
العاشرة: فتنة الذين جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين لايقولون بالنسخ،وزيادة غيظهم برؤيتهم المسلمين وهم يتلقون أحكام النسخ بالقبول والرضا والتسليم.
ومن مصاديق الخير في الآية الناسخة وجوه:
الأول: إنها رحمة بالمسلمين والمسلمات.
الثاني: الآية عون على أداء الفرائض والواجبات.
الثالث: من الخير في النسخ أنه تخفيف عن المسلمين.
الرابع: مجئ الحكم الثابت إلى يوم القيامة.
الخامس: تفقه المسلمين في أمور الحلال والحرام.
السادس: في النسخ القرآني دلالة على النسخ الأكبر وهو النسخ في الشرائع إذ جاء الإسلام وأحكامه ناسخاً للشرائع السماوية السابقة.
السابعة: توكيد طاعة المسلمين لله عز وجل، بحسن إمتثالهم في العمل بالناسخ بدل المنسوخ.
التفسير
تفسير قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ]
(ما) اسم شرط جاء هنا نكرة، ويصح مجيء شيء بدله، ومعناه أي شيء ننسخ من الآيات، فهو مفرد جاء بموقع الجمع، وما في النكرة من الإبهام يوحي بالتعدد والكثرة لولا انها جاءت إسماً للشرط، وهو دعوة للتفكر والتدبر وتتبع الآيات والنصوص التي تحدد مواقع النسخ.
وهذه الآية تأسيس لعلم من علوم القرآن يبقى محلاً للبحث وإستنباط الأحكام حتى يوم القيامة وهو علم الناسخ والمنسوخ، ولو أحصيت الدراسات التي أجريت بخصوصه لرأيتها معدودة وقليلة، والأقل منها النتائج التي أستنتجت والأحكام التي أستنبطت منه، كما أنها لم تكن متوافقة ومتحدة في الموضوع والنتيجة.
فمن الصعب تحصيل الإجماع أو الإتفاق، أو منع الخلاف في آية مخصوصة وأنها ناسخة أو منسوخة، لكن الكل متسالم على حصول النسخ في القرآن ولا عبرة بمن شذ من المتقدمين ممن ليس هو من الصحابة أو التابعين.
فمن مفاخر علم التفسير أن الأمة متفقة على حصول النسخ في القرآن، وباب العلم والتحقيق مفتوح في المصاديق والأفراد.
فيدل على النسخ الكتاب والسنة والإجماع، ومن أنكر وقوع النسخ قال باحتمال أن إنتهاء التكليف بالشرائع السابقة لشريعته صلى الله عليه وآله وسلم يكون من إنتهاء أجل وغاية تلك الشرائع وليس من نسخ الإسلام لها.
ويرد على الإشكال بجواز النسيان على الأمة بأن الأمر لا يختص بها بل أن حفظ القرآن موضوعاً وحكماً بلطف من الله، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]([48]).
والنزاع صغروي وواقع في المصاديق، وحتى على فرض إنتهاء أجل وغاية تلك الشرائع بالبعثة النبوية الشريفة، فانه من النسخ بالواسطة او النسخ المحدد أجله أصلاً، كما أن النسخ أعم وأوسع موضوعاً وحكماً ودلالة ويتعلق أيضاً بآيات القرآن وأحكامها بما هو مبين بالسنة النبوية الشريفة، جاءت هذه الآية صريحة به.
نعم يمكن القول ان هذه الآية تصلح تفسيراً لآية النسخ وإمكان حصوله لأنه من أفراد التبديل، وقد خصه الله عز وجل بلفظ أصبح له اصطلاحاً وهو “النسخ”.
ووظيفة علم التفسير تأكيد الثوابت القرآنية والعلوم التي تتضمنها الآيات، فالآية إخبار إلهي عن إمكان حصول النسخ بين الآيات على نحو التبديل أو رفع الحكم وحلول حكم آخر محله.
وتدل الآية على أن الباقي هو الله عز وجل، وكل شئ غيره يطرأ عليه التبديل والتغيير وفق المشيئة الإلهية وبما فيه النفع والخير للناس والخلائق جميعاً.
وتحتمل الآية وجهين:
الأول: الإمكان، وأن الآية تدل على قدرة الله عز وجل على النسخ من غير حصوله في آيات القرآن.
الثاني: الوقوع، وأن الآية إخبار عن وقوع النسخ في القرآن وإبدال بعض الأحكام بالتنزيل.
والصحيح هو الثاني، من وجوه:
الأول: الشواهد القرآنية كما في آية المناجاة وآية القبلة، قال تعالى [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا]([49]).
الثاني: مجئ السنة النبوية بما يدل على النسخ.
الثالث: يمكن تأسيس قاعدة كلية، وهي لو دار الأمر في الإخبار القرآني بين عالم الإمكان وعالم الوقوع، فالأرجح هو الثاني.
الرابع: بيان سر من أسرار التنزيل، وهو عدم قدرة أحد غير الله على النسخ والتبديل في آيات وأحكام القرآن.
وكل آية من القرآن معجزة من وجوه:
الأول : صدور الآية وإنفرادها بخصوصية وهي أنها كلام الله.
الثاني : واسطة نزول الآية وهي جبريل عليه السلام، قال وهب إن لحبرئيل عليه السلام إنّ لجبرئيل (عليه السلام) بين يدي الله سبحانه مقاماً ليس لأحد من الملائكة في القربة والفضيلة، وإنّ جبرئيل هو الذي يتلقّى الكلام فإذا ذكر الله عبداً بخير تلقّاه جبرئيل ثم لقّاه ميكائيل وحوله الملائكة المقرّبون حافّين من حول العرش، فإذا شاع ذلك في الملائكة المقرّبين صارت الصلاة على ذلك العبد من أهل السموات،
فإذا صلّت عليه ملائكة السموات هبطت عليه بالصلاة إلى ملائكة الأرض، وكان إبليس لعنه الله لا يحجب عن شيء من السموات، وكان يقف فيهنّ حيث ما أراد، ومن هنالك وصل إلى آدم حين أخرجه من الجنّة، فلم يزل على ذلك يصعد في السموات حتى رفع الله سبحانه عيسى ابن مريم فحجب من أربع، وكان يصعد في ثلاث، فلمّا بعث الله تعالى محمداً عليه السلام حجب من الثلاث الباقية)([50]).
الثالث : أوان نزول آيات القرآن بلحاظ أفراد الزمان الطولية، وما فيها من العلامات الدالة على دنو أوان الساعة.
وقال ابن عباس: كان بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أشراط الساعة. وأن جبرئيل لما مرَّ بأهل السماوات مبعوثاً إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم قالوا : الله أكبر قد قامت الساعة)([51]).
الرابع : نزول القرآن على صدر سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : سلامة القرآن من التبديل والنسخ والتغيير إلى يوم القيامة، وهو من عمومات قوله تعالى[فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]([52])، إذ أن هذه السلامة رحمة وخير محض.
فلماذا تنسخ بآية أخرى الجواب إنه من الحكمة الإلهية وبيان عظيم قدرة الله، والسعة في فضله على المسلمين.
وقال ابن حزم فهذه الآية تدل على جواز النسخ على الله تعالى شرعاً)([53]).
ومع قلة هذه الكلمات ففيها مسائل:
الأولى : قوله (جواز النسخ) والفعل يصدر من الله عز وجل وفيه، كأمر وليس الجواز وعدمه.
الثانية : مجيء حرف الإستعلاء(على) في غير محله، ولو قال من الله لصح.
الثالثة : التقييد بلفظ(شرعاً) أمر زائد فكل ما ينزل من الله عز وجل هو تأسيس للشريعة.
وقال بعد أن ذكر آية البحث: فالمراد بالنسخ الإزالة ونسخ الآية بإزالتها عن اللوح المحفوظ)([54]).
ولا دليل عليه ويدل على خلافه قوله تعالى[نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا] أي بالإتيان إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، قال تعالى[وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ]([55])، بالإضافة إلى حقيقة وهي وجود الآية المنسوخة في القرآن، وحتى على القول بنسخ التلاوة فأن هذا النسخ لم يأت على كل الآيات المنسوخة.
تفسير قوله تعالى [أَوْ نُنسِهَا]
الأول : يطرأ النسيان عند الإنسان بمعنى غياب الصورة عن المدركة والحافظة بعد حصولها بحيث يتعذر على الإنسان إستحضارها إلا بجهد لكي تعود من جديد، وهو ضد الحفظ وأعم من السهو الذي يعني غياب الصورة عن المدرك دون الحافظة بحيث يستطيع إستحضارها بأدنى تفكر لبقائها في الحافظة.
وبعض القراءات المتقدمة كقراءة عبدالله بن مسعود (ما ننسك) تدل في ظاهرها على هذا المعنى.
وقد نسب الى قتادة القول: “كانت الآية تنسخ بالآية وينسي الله نبيه من ذلك شيئاً” واشكل على هذا القول بتفصيل وهو أنه يجوز ذلك على الأمة بأن يؤمروا بترك قراءتها فينسوها على طول الأيام ولا يجوز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يؤدي إلى التنفير([56]) .
واذا ثبت ان المقصود في هذه الآية هو النسيان، أو أنه حدث فعلاً سواء أشار إليه القرآن بنص قطعي، والنص في الإصــطلاح هــو اللفـظ المفيد الذي لا يحتمل غير ما فهم منه أو بظاهــر اللفــظ فنســلم بــه ونقــف عنــده معظــمين لأنــه نوع إعجاز سواء كان الإنساء دفعياً ام تدريجياً وبتعاقب الأيام.
وليس من مانع على جوازه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن قلوب العباد بيد الله تعالى ولو حصل بمعجزة عامة أو خاصة فانه لا يؤدي إلى التنفير والآية تثبت إنتفاء النفرة أو الشك والريبة.
ولكننا نقول أن الخلاف في الكبرى وهل حصل مثل هذا النسيان؟ أي أننا نســلم بإمكــانه ولا مانع منه لأنه من الممكنات ولا ضرر في عواقبه، ولكنه ممتنع بلطف الله تعالى في الفعل والقابل ومصاديقه الخارجية مصدقة وغير ثابتة دلالة وسنداً، ومع الشــك فالأصــل العدم، وهل أنســي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الآيات، وردت أخبار في ذلك .
ولكن الآية تشير إلى حصول الترك من الله عز وجل وليس من النبي لقوله تعالى [نُنسِهَا].
الثاني : إن النسيان هنا بمعناه اللغوي وهو الترك، فيكون تفسير الآية الكريمة أن الله يأمر بترك العلم بها ،وإنتهاء أمد الحكم كما لو أصبح الموضوع معدوماً، ولتبدل المصالح والمفاسد بإختلاف الأحوال من غير تعارض مع ثبوت الحسن والقبح الذاتيين الذين لا يقبلان الإنقلاب لأن ما له مصلحة في ذاته لا يصبح ذا مفسدة في يوم آخر.
وعن الإمام الباقر uفي الآية: “الناسخ ما حُول وما ينسيها مثل الغيب الذي لم يكن بعد، قوله تعالى [ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]([57])، فيفعل الله ما يشاء ويحوّل ما يشاء كما في قوم يونس اذ تفضل عليهم بالرحمة والفضل.
ويحتمل قوله تعالى [نُنسِهَا] معان:
الأول: النسيان خلاف الذكر.
الثاني: الترك والإهمال.
الثالث: ترك الحكم بالآية.
الرابع: التأخير وهو على شعب:
الأولى: تأخير أحكام الآية بتقدم الناسخ عليها.
الثانية: تأخير التلاوة.
الثالثة: تأخير العمل بمضامين الآية.
الخامس: المراد من النسي في المقام هو الناسخ وأن الآية جامعة في ذكرها للمنسوخ من الآيات بقوله تعالى [مَا نَنسَخْ]، وللناسخ بقوله تعالى [أَوْ نُنسِهَا].
السادس: تثبيت وإقرار الآية، وعدم رفعها أو الإتيان ببدل عنها، وكأن قوله تعالى [َما نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا] يقسم آيات القرآن تقسيماً إستقرائياً إلى قسمين:
الأول: ما جرى فيه النسخ وهو على شعبتين:
الأولى: الآيات المنسوخة.
الثانية: الآيات الناسخة.
الثاني: الآيات الثابتة التي لا يطرأ على أحكامها نسخ أو تبديل.
وهذا التقسيم من أسرار القرآن، وشاهد على نزوله من عند الله، وهو من مصاديق التحدي فيه عقيدة وتشريفاً ولغة، وبلاغة ومنطوقاً ومفهوماً.
والنسخ في القرآن علم بذاته ، وعالم رحب يستلزم قراءة وتدبراً وتحقيقاً من القرآن والسنة، وهو مدرسة في إستنباط الأحكام، وإقتباس المواعظ والعبر، وشاهد على حب الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ([58]).
تفسير قوله تعالى [نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا]
أي بأفضل من تلك الآية في النفع وبيان الأحكام ونوع الإمتثال وبما يؤدي إلى صلاح النفوس ، والتمكين من أداء الفرائض بتخفيف وتيسير وما يؤدي إلى مراتب الكمال.
وفي الآية نكتة وهي أن الموضوع لا يترك من غير حكم وبيان، واللطف في النسخ مركب من الأفضلية في أثر الآية، ومن عدم ترك الموضوع بلا بيان.
والتفضيل لا يتعلق بماهية الآية لإشتراك الآيات بكونها كلام الله ولكن متعلقه إنتفاع الناس منها موضوعاً وكماً وكيفاً، أي أن النسخ خير لكم وللناس جميعاً ولتثبيت أركان الإسلام ودوام وإستمرار أحكامه، فالتفضيل هنا يحمل على الإطلاق في متعلقه إلا مع وجود ما يدل على التقييد وهو مفقود في المقام.
والآية وثيقة قرآنية تفيد القطع ، وعدم اللبس بأن النسخ من عند الله تعالى.
وسيأتي مزيد كلام في الجزء الثاني والأربعين بعد المائتين ، ومنه (التفسير بالتقدير ) وبيان معاني (خبر منها ) ووجوه الآية والحذف فيها ، وأن الآية منسوخة خبر للمسلمين والناس لتضمنها التخفيف في الأحكام .
ومادة (أتى) ونسبة الفعل فيها إلى الباري عز وجل منطوقاً او مفهوماً وردت في أكثر من مائتي آية كلها تدل على نزول الآيات من عند الله وليس من نبي او وصي، مما يكون آية من آيات الله، ويدل في المقام بظاهر اللفظ على النسخ الذاتي أي أن الآية تنسخ بآية قرآنية أخرى تعييناً، ويدل قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ]([59])، على أن مجـيء الرســول بآيــة وبإذنــه تعالى هـو غير إتيانها مباشرة من عنده تعالى، فتارة يتفضل الله سبحانه بالإتيان بالآية، وتارة يأذن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وســلم أو لأحد رسله الذين تقدموا عليه أن يأتي بآية.
والنسخ القرآني من الشطر الأول دون الثاني، بل أن الثاني أيضاً يشمله النسخ بمعناه الأعم، فالسنة تنسخ بالقرآن وتنسخ بالسنة أيضاً وهل من غربة القرآن في آخر الزمان ان يقال بتعدد وجوه نسخه من غيره كالإجماع والعرف، الجواب لا، لإتصاف القرآن بالعصمة الذاتية.
ويدل قوله تعالى [ نأت] دلالة صريحة على أن النسخ من الله تعالى بآية قرآنية أخرى إن تعلق النسخ بالآيات، وإن كان بالعلامات الكونية فلا ينكر أحد أنها منه تعالى ومن غير واسطة بشر في كيفية التغيير .
هذا على المعنى الأعم في مفهوم الآيات وأنه لا ينحصر بآيات القرآن فكل ما في الكون آية منه تعالى، وإن كان القدر المتيقن في موضوع النسخ في الآية هو آيات القرآن.
ويمكن تقسيم الخير في المقام إلى قسمين :
الأول : الخير الذاتي بين آيات القرآن ، فتكون الآية الناسخة بذاتها خيراً من الآية المنسوخة .
الثاني : الخير الغيري ، وهو أن الآية الناسخة خير للغير للمسلمين في أحكام الشريعة وللناس جميعاً .
الثالث : الخير المطلق لأصالة الإطلاق بتخفيض الخير من الآية البدل .
والمختار هو الثاني والثالث أعلاه .
ولكن كل آية من القرآن هي خير محض ، وهي كلام الله فالنسخ ليس سبباً للتفاضل الذاتي بينهما ،إنما النسبة بينهما التساوي من الخير .
ومن معاني الآية : تأتي بخير منها لكم ولأجيال المسلمين .
وسيأتي مزيد كلام في الجزء الثاني والأربعين بعد المائتين من هذا السِفر في قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة)
تفسير قوله تعالى [أَوْ مِثْلِهَا]
الضمير (ها) يعود الى الآية المنسوخة والمثلية هنا في الأثر والبركة ومضامين الرحمة.
فان قلت: إذا كانت مثلها فلماذا إذن النسخ ألا يكون من تحصيل ما هو حاصل، قلنا: إن المثلية في الأثر تحصل مع تغير الموضوع وتبدل المصالح والإلتقاء في الإعجاز وهو المطلوب.
فلو بقت الآية المنسوخة حال تغير الموضوع والمصالح لما أدت ذات الأثر والنفع اللذين كانا ينتجان عنها، ولكن بالنسخ والإنشاء والتشريع الأنسب تتحقق ذات الغايات والأسباب وبما يؤدي إلى الإرتقاء في منازل الإيمان، فتكون الآية المنسوخة ومضامين العمل فيها تمهيداً ومقدمة قرآنية للآية الناسخة.
وإستدل المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن ، فتأخر الناسخ عن المنسوخ دليل على حدوثه وعدم قدمه.
أما الشطر الآخر وهو المنسوخ فان ازالته ورفعه تدل على عدم قدمه، وهو إحتجاج لطيف لو تمت مقدماته وموضوعه الذي هو فتنة، لأن القديم هو الذي لا أول لوجوده ويعبر عنه بالأزلي ولا آخر لدوامه وهو الله تعالى، وتأخر النسخ قد يتعلق بالنزول من اللوح المحفوظ أو من السماء الدنيا وليس في أصل خلقه ووجوده، كما انه لا يصح على المبنى القائل بعدم نسخ التلاوة.
وجاءت الآية بوصف البدل والناسخ بالمثلية والشبيه بقوله تعالى(أو مثلها) فهل هو من تحصيل ما هو حاصل الجواب لا، وفيه بيان بأن الله عز وجل لا يترك أو ينسى موضوعاً، ولا يجعل مسألة كالمعلقة، فيأتي بالبديل المناسب، قال تعالى[ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]([60]).
بحث اعجازي
قوله تعالى [ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
بشارة وخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته إلى المسلمين والناس جميعاً إذ أن الخطابات القرآنية تفيد العمـوم إلا أن يدل دليل على التخصيص، ولعل التخصيص في بعض الخطابات بلحاظ الحيثيــة فاذا كان المخــاطب جـمــاعة أو فئة أو ملــة معينـة فان المسلمين وعموم الناس ينتفعون منه بحيثيات ووجــوه وصــيغ مختلفة، فقد يكون للمسلمين موعظة ولغيرهم إنذاراً.
إنها مدرسة مستقلة في التفسير لا تتعلق بتفكيك الخطاب وبيان سنخيته في الآيات أو الآية بذاتها، بل الى التفكيك والتعدد في الجهات التي يشملها الخطاب والتباين في أثره فيها بلحاظ الحاجة والنفــع والوظيفة وكيف أن الخطاب القرآني جامعة وباب علم تتفرع عنه علوم عديدة لاسيما وأن وظائفه لا تنحصر بالمخاطَب بل تشمل كل إنسان.
ومن الإعجاز أن قارئ القرآن حينما يمر على آية فيها خطاب مخصوص فانه يحسب نفسه مقصوداً به سواء بالمنطوق كآلة ووسيلة للتحذير أو بالمفهوم كدرس وعبرة , قال تعالى[فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ]([61]).
فالخطابات الخاصة لفريق من الناس مما تقدم مثلاً تذكرة وتقوية وعز للمؤمنين، وموضوع إعتبار وموعظة وتنبيه لغير المسلمين.
وقد يتغير نوع الأثر بتغير حال القارئ أو يجتمع أكثر من سبب في محل واحد، فمن صاحب أيام نزول القرآن، وبقى على نهج الجحود والعناد والإستكبار تكون الآية ذماً وإنذاراً ووعيداً له.
وهذه المدرسة جزء من علم نطلق عليه اسم “فلسفة الخطاب في القرآن” لاسيما وأن النسخ خطاب دلّ على إرتفاع حكم ثابت حال دون إستمراره خطاب لاحق رافع له وتتشعب من مدرسة الخطاب الدراسات والتحقيقات الخاصة بالموضوع مع شواهدها من الآيات وبلحاظ أمور:
1- قانون العلوم المستنبطة من الخطاب القرآني.
2- نوع الخطاب.
3- المخاطَب وتعدده.
4- صيغة الخطاب.
5- موضوع الخطاب.
6- مميزات الخطاب القرآني.
7- ما في الخطاب القرآني من الإعجاز سواء كان الإعجاز الذاتي أو الإعجاز الغيري.
8- منطوق ومفهوم الخطاب القرآني.
9- الملاك والمصلحة في الخطاب القرآني.
10- قانون المندوحة والسعة في الخطاب القرآني.
11- الغايات القريبة والبعيدة في خطابات القرآن.
12- الخطابات التي جاءت بصيغة الخبر ولكنها تدل على إنشاء الأمر.
13- قانون إنحلال الخطابات القرآنية.
14- صيّغ الإطلاق والعام المجموعي والإستغراقي في خطابات القرآن.
15- النسخ في الخطاب القرآني إن وجد.
16- الناسخ والمنسوخ في الخطاب القرآني.
17- الخطابات المكية والمدنية.
18- لماذا هذا الخطاب دون غيره.
19- وجوه وكيفية الإنتفاع من الخطاب.
20- عمومات وإطلاقات الخطاب القرآني.
21- من الذي إستفاد من الخطاب فقد يكون الخطاب لقوم ولكن الذين إنتفعوا وينتفعون منه غيرهم، أو هم وغيرهم.
22- إحصائية خطابات القرآن.
23- دراسة مقارنة في خطابات القرآن.
24- صيغ الخطاب في القرآن.
25- الخطاب التأديبي.
26- الخطاب التشريفي.
27- لغة التدرج في الخطابات أو الموضوعات التي إنعدمت في خطابها هذه الصيغة وجاءت مباشرة دفعية.
28- الخطابات الكونية والتكوينية.
29- الخطابات العبادية.
30- الخطابات التشريعية.
31- الخطابات في باب المعاملات.
32- خطابات بني إسرائيل.
33- خطاب أهل الكتاب عامة.
34- الخطاب الخاص بكل ملة.
35- خطابات الشكر منطوقاً ومفهوماً.
36- خطاب الأمم.
37- خطاب الأفراد.
38- خطاب المسلمين.
39- خطاب الخلائق والكائنات الاخرى.
40- خطاب [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ومن المقصود به , دراسة علمية وتأريخية وعقائدية.
41- تهذيب النفس في خطابات القرآن.
42- الخطاب الإستغراقي.
43- الخطاب الإستنكاري.
44- الخطاب الإستفهامي.
45- الخطابات التقريرية.
46- الخطاب الذي لازمته السنة.
47- الخطاب الذي عضدته السنة.
48- الخطاب الذي عضد السنة النبوية .
49- منزلة الخطابات في القرآن.
50- أثر الخطاب القرآني في تثبيت الإسلام.
51- الخطاب المتعلق بالحياة الدنيا.
52- الخطاب المتعلق بعالم البرزخ.
53- خطاب أهل البرزخ.
54- خطاب أهل الجنة.
55- خطاب أهل النار.
56- الخطاب المتعلق بالآخرة.
57- أثر الخطاب في تثبيت قلوب المؤمنين.
58- وظائف خطابات القرآن في محاربة الكفر.
59- الخطاب القرآني سلاح إيماني.
60- نصر الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
61- أثر الخطاب في فضح المنافقين والتصدي لكيدهم.
62- الخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو خاص وعام وفروعه.
63- الخطاب الذي يتعلق بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
64- خطاب النبي الذي يُراد به المؤمنون والأمة.
65- تأويل السنة للخطاب والعمل به.
66- الخطاب الموجه للأنبياء.
67- خطاب الأنبياء لقومهم.
68- خطاب الناس بعضهم لبعض كما جاء في التنزيل في قول بلقيس [ قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ]([62])، وخطاب ملك مصر [ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ]([63]).
69- خطاب الناس للأنبياء، ورد في التنزيل [ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ ]([64]).
70- الخطاب الجهادي.
71- خطابات الدعاء.
72- خطابات الإستجابة.
73- النسبة بين الخطاب والدعاء.
74- خطاب الجحود الذي وجهه الكافرون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في التنزيل [ وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ]([65])، المنافع والأضرار.
75- خطاب الجحود الذي وجهوه للأنبياء قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الدروس والعبر،وعن ابن عباس: أن نوحاً بعث في الألف الثاني ، وأن آدم لم يمت حتى ولد له نوح في آخر الألف الأول ، وكان قد فشت فيهم المعاصي ، وكثرت الجبابرة ، وعتوا عتوّاً كبيراً ، وكان نوح يدعوهم ليلاً ونهاراً ، سراً وعلانية ، صبوراً حليماً ولم يلق أحد من الأنبياء أشد مما لقي نوح ، فكانوا يدخلون عليه فيخنقونه ويضرب في المجالس ويطرد
وكان لا يدع على ما يصنع به أن يدعوهم ، ويقول : يا رب اغفر لقومي فانهم لا يعلمون ، فكان لا يزيدهم ذلك إلا فراراً منه ، حتى إنه ليكلم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه ويجعل أصابعه في أذنيه لكيلا يسمع شيئاً من كلامه ، فذلك قول الله[جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ]([66])
ثم قاموا من المجلس فاسرعوا المشي، وقالوا: امضوا فإنه كذاب، واشتد عليه البلاء، وكان ينتظر القرن بعد القرن ، والجيل بعد الجيل، فلا يأتي قرن إلا وهو أخبث من الأول وأعتى من الأول، ويقول الرجل منهم: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا ، فلم يزل هكذا مجنوناً، وكان الرجل منهم إذا أوصى عند الوفاة يقول لأولاده: احذروا هذا المجنون فإنه قد حدثني آبائي: إن هلاك الناس على يدي هذا، فكانوا كذلك يتوارثون الوصية بينهم، حتى إن كان الرجل ليحمل ولده على عاتقه، ثم يقف به وعليه فيقول : يا بني ان عشت ومت أنا فاحذروا هذا الشيخ ، فلما طال ذلك به وبهم [قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ]([67])([68]).
76- تأريخ الخطاب القرآني.
77- العموم الإستغراقي، والمجموعي، والبدلي في الخطاب القرآني دراسة مقارنة.
78- الخطاب الإلهي الموجه لآدم، وأخرج عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله أرأيت آدم أنبياً كان؟ قال : نعم . كان نبياً رسولاً كلمه الله قبلاً ، قال له[ يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ] ([69])([70]).
79- الخطاب الإلهي الموجه للملائكة وأقسامه.
80- الخطاب الصادر من الملائكة.
81- الخطاب لسان وسبيل للدعوة.
82- الخطاب في كيفية إقامة البرهان والإحتجاج كما في قوله تعالى [سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ]([71]).
83- خطاب النبي لله عز وجل , وفي التنزيل[وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا]([72]).
84- خطاب المؤمنين لله عز وجل وما فيه من صيّغ الدعاء والسؤال والتضرع والإلتجاء والشكوى والتقوى.
85- إعتبار قصد القربة في خطابات القرآن.
86– خطاب العبودية كما في قــولــه تعالى [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]([73]).
87– الخطاب بلغة الوصية.
88– خطاب الرزق وفي التنزيل حكاية عن موسى عليه السلام[رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ]([74]).
89– خطاب الدعاء.
90– خطاب التضرع.
91– خطاب الإلتجاء.
92– خطاب الإيمان.
93– خطاب الكفر الجحود والصدود.
94– الخطاب الذي يدل على الإحتياط كقوله تعالى [ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]([75])، وقوله تعالى [ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ]([76]).
95– خطاب التوكل.
96– الخطاب الذي لا يدل على الإحتياط بل على المبادرة.
97– الخطاب الدال على البراءة الشرعية وان جاء بصيغة الخبر كقوله تعالى [ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا]([77]).
98– خطابات التوحيد.
99– الخطاب رسول ودعوة إلى التوحيد، قال تعالى[أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا]([78]).
100– خطابات العقول.
101– خطابات الحكم.
102– خطابات النسخ , وأخرج عن قتادة ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ، فكان هذا كذا حتى نسخ، فأنزل الله{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} أي شرك {ويكون الدين لله} قال: حتى يقال: لا إله إلا الله)([79])، كما في كلام وجدل نمرود.
103- خطابات الطواغيت في القرآن.
104- خطابات الملوك.
105- لغة الاحتجاج في خطابات القرآن.
106- صيّغ الحوار في الخطاب القرآني.
107- الخطاب القرآني – قراءة أخلاقية.
108- الخطاب القرآني – قراءة سياسية وإجتماعية.
109- تأريخ الخطاب القرآني.
110– إنحلال الخطاب القرآني.
111– الخطاب القرآني فضل إلهي.
112-الجنة والنار في الخطاب القرآني.
113– حجية الخطاب وكيف انه برهان.
114– الاستدلال بالخطاب القرآني.
115– الحكمة في الخطاب القرآني.
116– الشيطان في الخطاب القرآني، قال تعالى[إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا]([80]).
117– الصدق في الخطاب القرآني.
118– الطاعة في الخطاب القرآني، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]([81]).
119– العدل في الخطاب القرآني.
120– الثواب والعقاب في الخطاب القرآني.
121– العلة والمعلول في الخطاب القرآني.
122- قانون السببية في الخطاب القرآني.
123– الخطاب القرآني طريق العلم والهداية.
124– دراسة مقارنة بين الخطاب العام والخاص في القرآن.
125– وظائف الاستفهام التقريري بالهمزة ونحوها في الخطاب القرآني.
126– المعجزة في الخطاب القرآني.
127– الحلال والحرام في الخطاب القرآني.
128– إعتبار الآيات الكونية في الخطاب القرآني.
129– الأحكام التكليفية الخمسة في الخطاب القرآني.
130– إنحلال خطابات القرآن في الأوامر والنواهي.
131– النص والأظهر والظاهر والمجمل في الخطاب القرآني.
132– التنكير والإطلاق في الخطاب كما لو جاء الخطاب الى غير معين، فيكون الكلام في ظاهره موجهاً لكل سامع أو إيراد الإنتفاع والإعتبار منه وهو كثير في الفقه والشعر كقوله:
وإذا المنيَّة أنْشَبت أظفارَها … ألفيتَ كلَّ تَمِيمة لا تَنْفع([82]).
133- خطابات الظالمين في القرآن.
134- خطابات أهل المعصية والجحود في القرآن.
135- الخطاب الذي يوثق إفتراء.
136- الخطاب الذي يتضمن الكذب والإدعاء بالباطل ولابد من الإستدلال لكل واحد أعلاه بشواهد من الآيات القرآنية.
137- خطابات الجزاء والثواب.
138 – خطابات الملائكة، قال تعالى[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]([83]).
بحث بلاغي
من وجوه الإستفهام (الإستفهام التقريري) أي حملك المخاطب على الإقرار بما جاء به أو إستقر عنده وتأتي الهمزة للدلالة عليه وأختلف في (هل) ومجيئها للتقرير والقائل بالإيجاب إستدل عليه بشواهد منها قوله تعالى[هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ]([84]).
وقد جعل بعضهم الإستفهام في هذه الآية من الإستفهام التقريري، وقال ابن عطية: ظاهره الإستفهام المحض([85])، ومنهم من جعله من الإنكاري أي ألم تعلم أيها المنكر للنسخ، ولعله راجع إلى الإختلاف في إستفهام التقرير هل هو فرع من الإستفهام الإنكاري ودخل على المنفي، ونفي النفي إثبات، أم أنه إثبات لأن ألف الإستفهام إذا دخل على(ليس) يكون إيجاباً كما في قوله تعالى[ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ]([86])، والأقوى أنها للإستفهام التقريري.
و تتضمن الآية المعنيين معاً منطوقاً ومفهوماً، لعمومات الخطاب القرآني، فهي تقرير وتثبيت لإيمان المسلمين، وتوبيخ وتنبيه لأهل الجحود.
بحث أصولي
يتعلق موضوع النسخ بالثابت الواقعي الحقيقي في مقابل الثابت الظاهري او ما يدل عليه الظهور اللفظي، فاذا ورد دليل يرفع الحكم الذي يدل عليه ظاهر الإطلاق أو العموم فان هذا الدليل لا يسمى ناسخاً، بل هو مقيد أو مخصص لأنه ليس برافع للحكم إلا على نحو الظهور أو المجاز فهو في حقيقته قرينة عليه وكاشف عن المراد الواقعي للشارع.
فالتخصيص ليس له تصرف في جانب الموضوع ولا المحمول لا واقعاً ولا تعبداً لأن التخصيص في الإصطلاح خروج بعض أفراد العام أو بعض أنواعه من تحت حكم العام أو محموله، وهو سلب النسبة بين محمول العام أي حكمه وبين موضوعه عن بعض أفراده.
والتخصيص يبقي العام في أفراده الأخرى وجاء من أول الأمر كاشفاً عن عدم إبقاء العام على عمومه سواء كان في الأحكام التكليفية الخمسة وهي الوجوب والإستحباب والحرمة والكراهة والإباحة ، والتي سُميت بالتكليفية لما فيها من كلفة ومشقة على المكلف، ولصدورها بداعي البعث أو الزجر أو الترخيص، أو كان في الأحكام الوضعية وهي المجعولة موضوعاً للحكم التكليفي كالمتفرع عن الملكية أو الزوجية.
وقد يلتقي النسخ مع التخصيص في موارد فمثلاً نسخ القبلة من بيت المقدس، فقد يتوجه المسلم إليه بالإستقبال في الصلاة عند الجهل بالقبلة أو حال الإضطرار، قال تعالى[فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]([87]).
والقرآن كلام الله ويقع تحــت قدرة اللـه تعالى , فالنسـخ ممكن الوقوع , ويدل بالإضافة إلى هذه الآية قوله تعالى [ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ]([88])، وقوله تعالى [ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا]، وصحيح انها لا تثبت بالضرورة حصول النسخ للفرق بين الإمكان وحدوث الفعل ووقوعه ولكن الآيات والسنة والأخبار تدل عليه.
وورد قول في باب النسخ وهو ان المرفوع في النسخ أما حكم ثابت أو ما لا ثبات له، والثابت يستحيل رفعه، أما الذي له ثبات فلا حاجة لرفعه لذا لابد أن يؤول النسخ بمعنى رفع مثل الحكم لا رفع عينه، او بمعنى إنتهاء مدة الحكم الذي جاءت به الآية.
ولكن كل موجود ممكن لا يأبى العدم وأنه في حال وجوده يحتاج إلى العلة إبتداء وإستدامة ، وكلما طالت أيامه وآنات وجوده إزداد إحتياجه إلى العلة، والماهية في حقيقتها لا تستلزم الوجود أوالعدم فنسبتها الى الوجود والعدم متساوية ولا بد من علة تخرجها من حد التساوي بما يتناسب وأصالة الماهية، والقائلون بأصالة الوجود قالوا بأن ملاك إحتياج المعلول إلى العلة هو كيفية وجوده.
فثبات الممكن أو عدمه متوقف على علته لفقره وللتعلق الذاتي ولأن رتبته في الوجود ضعيفة، والقرآن كتاب الله الباقي الى يوم القيامة بمشيئته تعالى وإرادته فاذا أخبر عن نسخ آية فلا يعني دوام الثبوت لها لأن رفعها ليس مستعصياً عليه، ولا صلة له بخلود القرآن لإختلاف الموضوع وفقدان تلك الآية صفة الخلود بالمشيئة الإلهية سواء كان في الحكم أو في التلاوة.
ومنهم من أشكل , وقال: إن المصلحة في ذاتها لا تنقلب إلى مفسدة وكذا العكس لذا يستحيل النسخ أو أنه مخالف للحكمة، ولكن النسخ لا يتعلق بالحسن والقبح الذاتيين المتميزين بالعقل وإنما يتعلق بالمصالح والمفاسد التي قد تختلف من زمان إلى زمان، ومن حال إلى حال وهو نوع تخفيف ورحمة ولا يتعلق النسخ بإنقلاب المصلحة إلى ضدها بل هو من عمومات تقديم الأهم على المهم والأصلح على الصالح.
وقال بعض الأصوليين يجوز أن يكون الحكم المنسوخ ذا مصلحة ثم زالت في الزمان الثاني فنسخ ، أو كان عنواناً حسناً إنطبق عليه ثم زال عنه العنوان في الزمن الثاني فنسخ.
وظاهر الآية الكريمة والرجوع إلى شواهد النسخ في القرآن لا يدل على زوال المصلحة في الآية المنسوخة ولكن الناسخ يكون أفضل سواء بسبب التخفيف الذي يتضمنه أو لزيادة الثواب أو الإرتقاء في منازل الإيمان والكمال.
والنسخ دليل على كون الحكم مؤقتاً وليس بثابت وإن كان في الظاهــر يفيد الثبــوت إذ أن النص اللاحق مقدم وحاكم على الظاهر توسعة وتضييقاً، وكاشف عن ملاك الأمر والإرادة الفعلية ويدل عليه أيضاً عمومات قوله تعالى [ يَمحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]([89]).
النسخ
يفيد النســخ ترجيــح الناســخ كما لو كان بعرض واحد مع دليل المنســوخ وتغييره بالتبديــل لإخراج تفصــيل العام وتقييد المطلق، وما يستفاد من القرائن فانها ليست من النسخ لا موضوعاً ولا حكماً وربما أستعمل عند المتقدمــين بالمعنــى الأعم فاطلق النسخ على تخصيص العام وتقييد المطلق إلا أن الإصطلاح إستقر فيما بعد على المعنــى الأول.
وهل بين الناسخ والمنسوخ نوع تعارض أوتزاحم، الجواب: إن المنسوخ ليس له أهلية معارضة الناسخ لموضوع البدلية فالطرف المستبدل مرجوح، والبدل هو الراجح.
وعلم الناسخ والمنسوخ علم شريف من علوم القرآن ولا أقول أنه لايستحق أفعل تفضيل وإنه من أشرفها، ولكن كل من تدبر القرآن وآياته يدرك أن علوم القرآن كلها بعرض واحد في مراتب الكمال لوحدة السنخية، والتباين جهتي وبلحاظ الحيثية، وهذا العلم معروف بإسمه وموضوعه عند المسلمين وبين المفسرين والباحثين ويستلزم الدراسة الواقعية وبالضبط وبيان أحكامه وإن أفردت له بعض الكتب ككتاب الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس، .
وتملي موضوعية على الباحثين دراسة موضوعه ذاتاً وما له من مصاديق وشمول غيره بالعرض والتبعية، وجعلها مدخلاً لإستنباط علوم القرآن وبيان أحكامه، لتكون هناك دراسات علمية جامعة في النسخ تتناول أيضاً النسخ بين الشرائع ونسخ الأحكام والآيات وحقيقة النسخ , وتتضمن وجوه التفسير والإستقراء والدراسات المقارنة في باب النسخ لتكون منهاجاً لأجيال المسلمين، وبياناً لعلم الناسخ والمنسوخ وتأريخه والأقوال المعتبرة فيه ومناقشتها مع عرض نماذج من النسخ ووجوهه.
فلو دخل قوم في الإسلام ففيه وجوه:
الأول: تتوجه الأحكام الشرعية لهم دفعة واحدة ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
الثاني: يكون الحكم معهم كما في بداية التشريع والتطبيق التدريجي للأحكام حسب تأخرها زماناً.
الثالث: يترك الأمر للحاكم الشرعي مطلقاً.
الرابع: التقييد كأن يكون الأصل تطبيق الأحكام الشرعية دفعة واحدة وهو الحق ، مع النظر في مراعاة بعض الأحوال الخاصة على نحو التخفيف ومراعاة وحدة الموضوع وهو حداثة العهد بالاسلام.
إن التعدد في كيفية المعاملة معهم من السعة في رحمة الله بهم وبالإمام، لقاعدة لاضرر ولا ضرار في الإسلام، وقاعدة نفي الحرج، مع أولوية وترجيح العمل بالناسخ إبتداءً.
إنه علم مستقل يحتاج إلى التخصص وبذل الوسع ليكون عوناً على الكشف عن أسرار القرآن وإستخراج الدروس بما ينفع في الوقائع المستحدثة والعلوم الجديدة وفي ذلك تثوير لعلوم القرآن وإستظهار لكنوزه.
ولقد ورد ذكر النسخ في أربـع آيات من القرآن، إثنتين منها تتعلق بالمعنى اللغوي للفظ، وواحدة فقط تتعلق بالمعنى الإصطلاحي في قوله تعالى [ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا] إذ يستظهر الإستبدال في محل او موضوع واحد وجوداً وعدماً، وجاء بلحاظ المنسوخ فقط في قوله تعالى [ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ]([90])، أي يزيله ويمحوه واثره بدليل ذيل الآية [ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ]، ولبيان المائز بين الطرفين وللدلالة بأن النسخ عون وسلاح.
والنسخ رحمة أنعم الله عز وجل بها على المسلمين وباب لمعرفة جهاد المسلمين ودلالة على موضوعية القدرة على الإمتثال للتكاليف على نحو الأفراد والجماعات ومناسبة لقبول الأحكام والتدرج فيها في سلم إرتقاء تأديبي سماوي مبارك ومشهود.
(وقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : أنه دخل يوما مسجد الجامع بالكوفة، فرأى فيه رجلا يعرف بعبد الرحمن بن داب، وكان صاحبا لأبي موسى الأشعري وقد تحلق عليه الناس يسألونه، وهو يخلط الأمر بالنهي، والإباحة بالحظر، فقال له علي عليه السلام : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟
قال: لا، قال: هلكت وأهلكت، أبو من أنت؟
فقال: أبو يحيى، فقال له علي عليه السلام : أنت أبو اعرفوني.
وأخذ أذنه ففتلها، فقال: لا تقصن في مسجدنا بعد.
وروي في معنى هذا الحديث عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس أنهما قالا لرجل آخر مثل قول أمير المؤمنين علي عليه السلام ، أو قريبا منه.
وقال حذيفة بن اليمان: لا يقصن على الناس إلا ثلاثة: أمير، أو: مأمور، ورجل عرف الناسخ والمنسوخ. والرابع: متكلف أحمق)([91]).
وكان العلماء يبدأون بعلم الناسخ والمنسوخ عند التحقيق في علوم القرآن للتسالم بينهم بأن الذي لا يعلم الناسخ والمنسوخ يكون علمه ناقصاً وللخشية من الخلط بالأمر والنهي والإباحة والحظر.
وليس كل سور القرآن فيها ناسخ ومنسوخ، ولقد أًحصيت ثلاث وأربعون سورة خالية من النسخ كالفاتحة ويوسف والرحمن والجمعة والفجر وما بعدها إلى آخر القرآن عدا التين والعصر والكافرون، كما أن هناك إختلافاً في بعض من مصاديق النسخ مما يؤثر على إدراج عدد من السور في أي من القسمين، ويمكن تقسيم سور القرآن الى خمسة أقسام:
الأول : سور فيها ناسخ ومنسوخ كسورة البقرة وآل عمران والنساء.
الثاني : سور فيها منسوخ فقط كالأنعام، وسورة هود.
الثالث : سور فيها ناسخ فقط كالفتح والمنافقون والطلاق.
الرابع : سور ليس فيها ناسخ ولا منسوخ كالفاتحة ويس وعمّ.
الخامس : سورة فيها المنسوخ وناسخه أي كلاهما في ذات السورة، ومنها سورة المائدة لأنها آخر سور القرآن نزولاً.
وقد لا يكون ذكر المصاديق تاماً ومتسالماً عليه عند الكل للإختلاف في تعلق النسخ ببعض الآيات، فقد يعتبر بعضهم آية معينة منسوخة وغيره لا يعدها كذلك ولكنه لا يضر في أصل التقسيم وموضوعيته.
والنسخ على نوعين من حيث موضوعيته:
الأول : نسخ بعض الأحكام الإسلامية اللاحقة للسابقة منها، ويمكن أن نطلق عليه إصطلاح النسخ الذاتي.
الثاني : نسخ الشريعة الإسلامية لما سبقها من الشرائع ويمكن تسميته بالنسخ الغيري.
وقد ترى فتوى تشير إلى ما ورد في بعض الشرائع السابقة في واقعة معينة وعدم كونه حجة على المسلمين.
ولا بأس بإفراد موضوع خاص ودراسة مستقلة لبحث هذا الموضوع وإحصاء مسائله وناسخه ومنسوخه وشواهده وأدلتها ، ومن الدراسات في باب الناسخ والمنسوخ مع أهميته العقائدية على وجوه منها:
الأول: الدراسات المجملة.
الثاني: التي جاءت مكتفية بعدد محدود من الشواهد.
الثالث: ذكرت شواهد لم يثبت أنها من الناسخ او المنسوخ.
والبحث عن مصاديق لهذا القسم من النسخ لا يعني التخلي عن كل ما ورد في القرآن مما يتعلق بالشرائع السابقة.
وإدعى فريق من أهل الكتاب إستحالة النسخ وظنوا أنه من البداء كالذي يرى الرأي ثم يبدو له، وانه يستلزم عدم حكمة الناسخ ولكنه سعة و رحمة الله وعظيم حكمته تعالى فقد لا يراد من الأمر البعث والزجر حقيقة بالإضافة إلى موضوعية القدرة في الإمتثال ووجوه الإمتحان وبيان العفو.
وعن الإمام علي عليه السلام قال: إن لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتم وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء ، نهى آدم عليه السلام وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء أن يأكلا ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت شهوتهما مشيئة الله تعالى ، وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ولوشاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئته([92]).
أما بالنسبة للنوع الأول من النسخ فلقد اجمع المسلمون على وقوعه في القرآن ونقل عن ابي مسلم الأصفهاني المتوفى سنة 322 هجرية انه قال بجواز النسخ ولكنه أنكر وقوعه، وهو قول مخالف للأخبار والأدلة فلا يعتد به.
ويقسم النسخ من جهة موضوعه وما يتعلق بماهية المنسوخ إلى:
الأول : نسخ الحكم وبقاء التلاوة: وهو المشهور لمفهوم النسخ والمتعارف بين العلماء، ولقد أُفردت له دراسات كثيرة تضمنت الآيات التي نَسَخت او نُسخت، وقد يكون البحث في المقام في بداياته ويحتاج إلى التنقيح، والقرآن يحث الجميع على السعي لسبر أغوار علومه ودرره.
فالمطلوب اولاً تتابع البحوث والدراسات وتشعبها وتفرعها وفق الحاجة العلمية والعملية وبما يؤدي إلى بيان حقائق قرآنية تتناسب كماً وكيفاً مع أهمية الموضوع، فمثلاً قد يقول شطر من العلماء بوقوع النسخ بين آيتين ولكن عند الدراسة والبحث في وجوه التأويل لكل منهما تجد بينهما عموماً وخصوصاً من وجه , وقد يقع النسخ في جانب من جوانب الآية المنسوخة ويكون صدر الآية في شيء ووسطها في شيء وآخرها في شيء آخر مما يملي علينا النظر في إمكان التخصيص والتقييد بينهما.
ولابد من ايجاد دراسة مستحدثة وهي ان تلك الآية المنسوخة في زمان بدايات الإسلام هل يمكن تطبيقها والعمل بها في زمان لاحق او بلد معين ولو الى حين ضمن رؤيا تحليلية للمستقبل العام للحياة في الأرض وإستنباطاً من الكبرى الكلية وهي أن القرآن هو المنهاج المتكامل للناس جميعاً وحتى يوم القيامة.
نضرب مثلاً لو ان بلدة ما من الكفار أصبح اهلها مسلمين وأرادوا تطبيق الإسلام بقواعده كاملة وأرسلوا إلى أية حاضرة علمية إسلامية يطلبون مرشدين وعلماء وائمة، وجاءهم من إستأنس فكره وعاش عمره بالإلتزام بالأحكام الشرعية في الفتوى والقول والفعل كعادة علماء الإسلام عامة وعلى إختلاف مذاهبهم والحمد لله، وعمل بوظيفته الشرعية في إقامة الحدود فجلد شارب الخمر مثلاً ثمانين جلدة وشرع تنفيذ أحكام الرجم والقصاص والديات من غير تدريج أو إبطاء أو إنذار.
ألا يُعد ذلك عليهم ثقيلاً الجواب نعم، وفيه تشديد وأذى، وهل يجب أو يجوز ان يكتفي بالتبليغ وحده عن الحكم لقاعدة نفي الحرج في الدين ولقبح التكليف بما لايطاق، وقد يكون التخفيف تهاوناً في الفتوى والحكم وتفريطاً قد يقتص بسببه من الحاكم يوم القيامة إلا إذا دل الدليل على التخفيف او العكس هو الصحيح وهناك شواهد في بداية الإسلام على عدم إقامة الحد على من لم يثبت علمه بحرمته ، فالتخفيف والتدرج في الحكم إبتداء ليس تفريطاً بل رحمة.
وقد يصح موضوع التدرج في حكم شرب الخمر مثلاً في بداية الإسلام في المقام ولو بحذف مراحله وإختصار مدته لاسيما وان الحكم قد لا يكون مؤقتاً بوقت، أو ينحصر ذلك بما اذا كان الموضوع مشابهاً لأيام النزول، وقيل ان المؤقت لا يصير منسوخاً وليس بتام ما دام غيره يتعلق بذات الموضوع فيمكن صدق اسم النسخ عليه، وقالوا إن النسخ يتعلق بما نزل وهو يحمل صفة الدوام والإطلاق الزماني غير المقيد بزمان أو مكان ولكنه على الظاهر، إذ أن موضوع النسخ أعم من الدائم والمؤقت.
وقد قام نفر من المفسرين بايراد وتعداد آيات كثيرة نسختها آية السيف، وليس في القرآن لفظ السيف، كما أثبت العلم الحديث والإبتكارات في باب الأسلحة وتعددها الإعجاز القرآني في عدم الإشارة الى السيف بالذات مع أنه السلاح الشخصي والحاسم في ميدان المعركة آنذاك وتوكيد القرآن على الجهاد، وتطور وكثرة الأسلحة .
وآية السيف هي قوله تعالى[فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُــوهُمْ وَخُــذُوهُمْ ]([93])، كذا ذكرها السيوطي([94])، وبه قال ابن كثير([95])، وهو الأرجح.
ومنهم من قال إن آية السيف هي قوله تعالى[قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ]([96]).
و عن ابن عباس انه قال: (سألت علي بن أبي طالب لم لم يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال : لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان)([97]).
وليس من نص على نعت آية معينة بانها آية السيف، ولعله عنوان تقع تحته المسميات التي تنطق بإتخاذ القتال وإستعمال السلاح وسيلة لنشر الإسلام وتثبيت أركانه، ولكن لفظ (آية) في قولهم آية السيف يفيد الحصر.
ومنهم من قال أن الآية أعلاه نسخت التي قبلها أي ان الآيتين اللتين سُميت كل واحدة منهما باسم آية السيف إحداهما نسخت الأخرى.
ويحتاج الكلام في هذا القسم من النسخ الى التحقيق والاستقراء والإستدلال لموضوعية بقاء التلاوة في القرآن ولعدم رفع الحكم إلا بدليل لاسيما وأن بعض المفسرين أكثر من ذكر المنسوخ فمثلاً جاء عن ابن عربي: ( كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار والتولي والإعراض والكف عنهم فهو منسوخ بآية السيف، وهي [ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ..] ([98])، الآية، نسخت مائة واربعاً وعشرين آية ثم نسخ آخرها أولها([99])، وهو بعيد.
الثاني : نسخ التلاوة دون الحكم: ويعني رفع الآية القرآنية أو شطر الآية وعدم بقائها فيما يتلى من القرآن مع بقاء حكمها، وإختلف العلماء في نسخ التلاوة هذا، فذهب شطر من العلماء منهم جماعة من المعتزلة إلى القول بعدم جواز هذا النسخ.
وعن السيوطي عن ابن أشته في المصاحف عن الليث بن سعد قال: أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد، وأن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده) ([100])، وآية الرجم هي: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم.
وروي عن ابن عباس ان عمر قال فيما قال وهو على المنبر: ان الله بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحق وانزل عليه الكتاب فكان مما انزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها، فلذا رجم رسول الله ورجمنا بعده، فأخشى ان طال بالناس زمان ان يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله والرجم في كتاب الله حق على من زنى اذا احصن من الرجال والنساء([101]).
وقوله (على المنبر) إشارة إلى أن هذا القول في أيام خلافته وجاء عمر بآية الرجم في أيام أبي بكر من أجل كتابتها في القرآن، مما يدل على اعتقاده بعدم رفعها ولكنها لم تكتب ليس لرفع التلاوة بل للإفتقار إلى شاهدين عليها كما كان معمولاً به من التعدد والإثنينية في الشهادة على الآية لكي تكتب.
ولم يقل في كلامه على المنبر ما يشير إلى رفعها بل يدل على العكس من ذلك نعم تلك قضية في واقعة وعدم ثبوتها لا يصلح للإستدلال على انكار موضوع نسخ التلاوة، فيقتضي التحقيق بحث المسألة من جهة الأصل والأخبار ومتابعة الأمثلة والآيات التي رفعت وموضوعها ، ويمكن أن يكون الحكم بالرجم بالسنة كما عليه الحديث أعلاه.
وقد روى نافع عن ابن عمر انه قال: لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله، وما يدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقول أخذت منه ما ظهر([102]).
وقد وردت بعض الأخبار ظاهرها لأول وهلة على نقص في القرآن ولكن لا نقص فيه. ونسب الطبرسي القول بتحريف القرآن الى الحشوية، وكذبه الآلوسي([103]).
وذكر بعضهم أن من القرآن قد نسخت تلاوته، وحملوا على ذلك ما ورد في الروايات أنه كان قرآناً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيحسن بنا ان نذكر جملة من هذه الروايات، لتبين ان الإلتزام بصحة هذه الروايات لا يعني القول بوقوع التحريف في القرآن.
وفي موضع آخر قال: وغير خفي ان القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف والإسقاط.
ولكن النسخ غير التحريف وان لم يكن هذا النوع من النسخ حادثاً فيمكن القول ان بينهما عموماً وخصوصاً من وجه، فالتحريف لغة هو التغيير والعدول بالشيء عن جهته كما في ذم الله تعالى لفريق غيروا في التنزيل[ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ] أي يذهبون به إلى غير مقاصده ومعانيه.
والنسخ لغة الإزالة والناسخ غير المنسوخ، والتالي منهما يحتل محل المتقدم ويكـون بديلاً له فهناك نوع مغايرة، والإثنينيــة ثابتـة فيهما كما في مباحث الأصول مثلاً في باب إجتماع الأمر والنهي مثلاً وإختلافه عن موضوع دلالة النهي على الفساد.
وأن الأول يتعلق الأمر فيه بعنوان والنهي بعنوان آخر، وقد ينطبقان على موضوع واحد كما في الصلاة في الأرض المغصــوبة.
والثاني أي دلالة النهي على الفساد يتعلق بموضوع واحد كما في العبادة الناقصة أو الفاقدة لجزء او شرط.
بينما التحريف فعل يقع على موضوع وآية واحدة، وهو مذموم وصادر من الإنسان موضوعاً ومحمولاً، والنسخ لا ينسب إلا إلى الله عز وجل فلا يمكن أن ننعت الذي يقول بالنسخ وبأي قسم من أقسامه بأنه محرف لاسيما بلحاظ النية والقصد، وهما أمران لهما موضوعية في الفتوى والحكم ولعمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ادرأوا الحدود بالشبهات) ([104]).
ولعل الذي يقول بالنسخ لا يقول بالتحريف بل ويتبرأ منه وهو الظاهر.
وهل كل قول بالتغيير ونسخ التلاوة هو تحريف، الجواب: لا ، ولم يقل به العلماء للفوارق بينهما ولقاعدة بطلان الإستدلال بطرو الإحتمال، وللتباين الموضوعي بين النسخ والتحريف بالإضافة إلى اختلاف المقاصد.
ومن خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([105])، أن المسلمين جميعاً يحرصون على إكرام القرآن وإظهار علومه ووحدة الأمة فيما يخص تلاوته وأحكامه وأوامره ونواهيه وحصر المقالات الباطلة بعد فرزها وتحليلها، ويقتضي الإنصاف وأدلة الاحتياط حصر المقالة الباطلة والرأي الخاطئ بصاحبه.
فالملاك هو قبول كل قول أو فعل ملاكه فيه تعظيم شعائر الله والكشف عن كنوز القرآن بغض النظر عن جهة الصدور، وما في الصدور من ضغائن وخلاف ليكون النفع أعم والبركة متغشية للوحي، ولعل هذا المنهج يصبح مدخلاً للإتحاد وتجسيداً عملياً عاماً لأخلاق القرآن.
إن نسخ التلاوة في حال ثبوته من الإعجاز والفضل الإلهي على المسلمين، ويكون على أقسام:
الأول: ما تكون السنة النبوية شاهداً على بقاء حكمه والعمل به.
الثاني: ما تكون تلاوة من آيات أخرى غير آيات الأحكام.
الثالث: إنعدام الدليل الذي يدل على بقاء العمل به، وهو المقصود بالوجه التالي.
الثالث : نسخ التلاوة والحكم: أي رفع الآية مع تلاوتها وكذلك رفع حكمها، وان الآية تقرأ في فترة من أيام النبوة وحكمها نافذ ومعمول به قبل ان يرفعا معاً، والقائلون به يأتون للمثال عليه بما قالته عائشة:(كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات فَنُسِخْنَ بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله سوسلم وهن فيما يقرأ من القرآن)([106]).
وفيه مسائل:
الأولى : مناقشة الكبرى وهي إختلاف علماء المسلمين في عدد الرضعات اللائي تنشر الحرمة.
قال الشافعي بكفاية خمس رضعات، وأحمد في رواية عنه، وقال مالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي، ونسب إلى علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس بكفاية رضعة واحدة فإذا حصل الرضاع قليله أو كثيره ثبت التحريم لقوله تعالى[وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ]([107])، وقد بينّا في البحث الفقهي في الدراسات العليا للحوزة أن الآية ظاهرة بتحقق صدق الأمومة على المرضعة، وقال أهل الظاهر بإشتراط ثلاث رضعات وإستدلوا بقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لا تحرم الإملاجة والإملاجتان)([108]).
وفي رواية أم الفضل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لاتحرم المصة ولا المصتان ولا الرضعة ولا الرضعتان)([109])، ولكن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، أي أن عدم نشر الحرمة بالرضعتين لا يدل على ثبوتها بالثلاثة خصوصاً مع ورود نصوص منها ما ورد عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إِلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ)([110]).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: لا يحرم من الرضاع إلا رضاع يوم وليلة أو خمس عشرة رضعة متواليات لا يفصل بينهن).
الثانية : قول عائشة وتوفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهن مما يقرأ من القرآن إشارة إلى النسخ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو بعيد.
الثالثة : إتفق المسلمون على عدم الأخذ بأخبار الآحاد في تثبيت آيات القرآن، لذا أنكر جماعة هذا النوع من النسخ وقالوا بأنه لا يصل إلى درجة القطع.
وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عمر قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال: إنها مما نسخ فألهوا عنها([111]).
لذا قيل بان هذا النوع من النسخ يكون بان ينسيهم الله إياه ولم يبق في الحافظة فلا يقدرون على تلاوته ويتعذر عليهم كتابته في المصحف.
والبحث في هذا النوع من النسخ ووجوه الدلالة وعدم الأخذ بخبر الواحد في تثبيت أصل الآية أعم من ان ينحصر بموضوع النسخ، بل يستلزم التحقيق في دلالة وسند كل حديث وما يرد من المدح او الجرح في رجاله، بالإضافة إلى التحقيق في دلالة الأحاديث وتحقيقها، والنزاع فيه صغروي بل وخارج عن موضوع الإبتلاء إذ أن المدار على ما بين الدفتين.
إن الإقرار بأصل النسخ وحصوله في القرآن في الجملة لا يعني إمضاء كل قول في النسخ والآيات المنسوخة والناسخة، بل يجب بحث كل آية على حدة لعمومات أدلة مناقشة الرواية دلالة وسنداً، واخضاعها إلى أحكام علم التفسير والبحث عما يعارضها من الأدلة والروايات.
فاذا قيل مثلاً ان هذه الآية منسوخة وكان زمان نزولها بعد الآية الناسخة أو التي ثبت العمل بها بعد القول بنسخها يمكن طرح هذا القول أو إثبات بطلان هذه القيود الزمانية والفعلية بالقرآن، وهذا لا يقلل من اهمية هذا العلم الشريف بعد الإقرار بحقيقته وموضوعيته في الحكم الشرعي.
أي إثبات عدم النسخ في كثير من المصاديق التي ذكرت له لا ينفي حقيقتـه ووجـوده، لأن نفي بعض المصاديق لا يؤثــر ســلباً على الباقــي منها أو عــلى أصــل الموضـوع، فمـثـلاً قـوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ]([112])، ذكر من ضمن الآيات التي نســختها آية الســيف لعله على تفسيرها بإرجاء العقوبة وإطلاق التفويض لله تعالى، وأنهم بحكم الإسلام يعرضون على السيف.
ولكن الآية أعم من ذلك وفيها وعيد للكفار ووعد للمؤمنين وهي قاعدة كلية بدلالة ما ورد (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان اذا قرأها قال: بلى وانا على ذلك من الشاهدين)([113]) .
ولا بد من الرجوع إلى قانون كلي في مباحث النسخ، وهو أن القرآن هو الذي بين الدفتين ليس فيه زيادة ولا نقيصة.
ومنهم من قسم الناسخ والمنسوخ إلى أقسام:
الأول : فرض نَسَخَ فرضاً ولا يجوز العمل بالأول، وآخر يجوز العمل بالأول كآية المصابرة.
الثاني : فرض نَسخَ ندباً كالقتال كان ندباً ثم صار فرضاً.
الثالث : ندب نَسخَ فرضاً كقيام الليل نســخ بالقــراءة في قـوله تعالى[فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ]([114])، حكاه السيوطي عن مكي، وهو تقسيم حسن في ظاهره ولكن يحتاج إلى إثباته موضوعا ووقوعا , وتتبع أمثلته في دراسات تحقيقية خاصة فقد لا يصدق المثال والشاهد على التقسيم المنسوب في بابه، وقد يكون دون إثبات شواهد كثيرة في النسخ خرط القتاد.
أي ان التسليم بوجود النسخ في القرآن لا يعني الإطلاق في قبول ما ذكر من الشواهد الكثيرة للنسخ، خصوصاً وان اغلب الشواهد لم يرد ذكرها عن المعصوم أو الصحابي.
ان الإهتمام بالناسخ والمنسوخ كعلم قرآني وإسلامي يجب أن يتقدم عليه في الأهمية ضبط الآيات غير المنسوخة والذب عنها وحياطتها بنوع عناية خاصة لاسيما في باب الأحكام والتثبت من النسخ في بعضها إذ أن مقتضى الشك في آية معينة هل هي منسوخة أو لا أصل البراءة وأصالة عدم النسخ.
ومن الاعجاز في النسخ هو حصوله ولكن موضوع المنسوخ يبقى على نحو القضية الشخصية او صرف الطبيعة كما في موضوع حرمة الجماع في ليلة الصيام سواء مطلقاً أم بالنسبة للذي نام أول الليل، فإن المنسوخ بقى أصله على نحو الإستحباب والإختيار وليس من آية منسوخة في المقام.
والإعتكاف مثلاً ليس بواجب بالأصل ولكن من إعتكف ليس له ان يجامع زوجته في أيام الإعتكاف ثلاثة كانت أو اكثر، أي تترشح الحرمة بالعرض سواء بنذر أو تطوع.
تأريخ السنة والنسخ
السنة بيان للقرآن وعليه إجماع المسلمين وهي المصدر الثاني للتشريع، فلابد من الرجوع إلى السنة واللجوء اليها وهذا يعني ضمناً لزوم معرفة السنة وعلومها كطريق لتمييز الناسخ والمنسوخ.
إن معرفة الحديث النبوي من جهة تأريخه وإقترانه بالآية الكريمة وتقدمه او تأخره عنها يساعد على فهم الناسخ والمنسوخ مع مراعاة شرائط علم الحديث الأخرى فمثلاً إذا تبين أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عمل بمضمون الآية المنسوخة بعد تأريخ نزول الآية الناسخة فانه دليل على عدم نسخها أو أنه بيان عن مفهوم آخر للنسخ وأنه كالحكومة التي تعني في الإصطلاح التوسعة أو التضييق للدليل المحكوم.
نعم لو أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن آية نسختها آية اخرى فهو بيان وحجة وإن كان علم تأريخ السنة أعم من أن تنحصر فوائده في باب الناسخ والمنسوخ.
وهل تنسخ السنة النبوية الآية القرآنية، إستدل بعضهم على الجواز بقوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]([115])،
وقال آخر بان السنة إذا كانت بأمر الله من طريق الوحي نسخت وان كانت باجتهاد فلا.
وقال الشافعي: حيث وقع نسخ القرآن بالسنة فمعها قرآن عاضد لها، وحيث وقع نسخ السنة بالقرآن معه سنة عاضدة له ليتبين توافق القرآن والسنة([116]).
وبالنسبة للقول الأول فان الوحي أعم من القرآن وإن النقاش في الكبرى وهي إمكانية وصلاحية وجوه الوحي الأخرى غير القرآن لنسخ القرآن، ويمكن الإستدلال بظاهر قوله تعالى [ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] ([117])، بحصر النسخ في القرآن إذ أن القرآن أفضل وجوه الوحي وأعلاها رتبة , ويتضمن قانوناً وهو نسخ القرآن بالقرآن بالإضافة إلى أحاديث العرض أي عرض السنة على القرآن.
أما بالنسبة للقول الثاني فإنه لا يختلف في ماهيته عن القول الأول إلا أن تساؤلاً يستحدث وهو ما هي أسس هذا التفصيل بين الوحي والإجتهاد، والأصل في السنة الوحي لعمومات الآييتين الكريمتين من سورة النجم أعلاه.
وبالنسبة للقول الثالث وهو قول الإمام الشافعي ففي ثبوت النسخ الذاتي بالقرآن كفاية والسنة تكون نافعة في التوثيق والإستشهاد والتطبيق، ولم يثبت أنها الأصل في النسخ.
والأقوى أن السنة لا تنسخ القرآن خصوصاً وان القرآن قطعي الصدور ، وأن السنة ظنية الصدور.
وقد جعل الله القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ([118])، فان قيل إن قوله تعالى [مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]([119])، دليل على جواز نسخ القرآن بالسنة، والجواب جاءت الآية أعلاه من سورة الحشر بخصوص القسمة والغنيمة والفئ، مما يأخذه المسلمون، وما ينهاهم عنه فيجب أن لا تتبعه نفوسهم.
نعم تفيد الآية المعنى الأعم كما ورد (وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أنه لقي رجلاً محرماً وعليه ثيابه فقال له : انزع عنك هذا فقال الرجل: اقرأ عليّ في هذا آية من كتاب الله . قال : نعم ، فقرأها عليه)([120])، لتكون السنة موافقة للقرآن، ومبينة لأحكامه بما يرفع الترديد واللبس، وليس ناسخة له , وقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعرض سنته على القرآن.
بحث أصولي
في علم الاصول مبحث مستقل اسمه هل الأمر بالأمر بالشيء أمر به أم لا؟ ويستشهد له مثلاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين) ([121])، مع ان الصلاة لا تجب على الصبيان في تلك السن، ولكن للتمرين وتنمية ملكة الطاعة في العبادات والخشوع من الصغر , قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]([122]).
فأمر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للأولياء بأن يأمروا غير البالغين من أبنائهم ومن لهم الولاية عليهم أمر لهؤلاء الصبيان ولكن بالواسطة وإن الواسطة لا تمنع من صدق توجه أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم وفيه وجهان:
الأول: تكون عباداتهم حينئذ مشروعة ويكون متعلق حديث الرفع حينئذ رفع الإلزام وما يترتب على المخالفة من عقاب، لدلالة الأمر بصلاتكم على كونها حينئذ مشروعة.
الثاني: أن أمر الأولياء للأولاد غير البالغين بالصلاة إنما للتمرين وجعل الصلاة عادة لهم.
ولا تعارض بين الوجهين، والله واسع كريم، فمع المشروعية يكون التمرين والإعتياد خصوصاً وأن الصلاة خير محض، وتترشح عنها منافع كثيرة.
وهل أمر الله عز وجل بالنسخ من أجل ان يتحقق الأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم به وليس له هناك غرض عام في وجود الناسخ وإتيانه في أفعال المكلفين بحيث لا يكون الأمر به ملزماً للجميع.
هذا ما لم يقل به أحد بخصوص السنة النبوية مطلقاً، فيقتضي ان الأمر الإلهي ناظر إلى طريقيته في إيجاد متعلقه وأن القصد منه وجود الشيء المأمور به والناسخ من المكلفين والمسلمين عامة.
وقد يكون هذا المثال الأصولي أجنبياً عن مسألتنا إذ أنه من القياس مع الفارق لأن الأمر النبوي جاء بواسطة الأولياء لضعف مدارك الصبيان وقصور عقولهم عن الإستجابة والإمتثال، وعدم توجه الخطاب التكليفي لهم، وقيل بعدم دلالة مجرد الأمر بالأمر بشيء على كونه أمراً بذلك وأنه يحتاج في الدلالة عليه إلى القرينة.
لقد جاء القرآن رسالة للناس جميعاً وتفيد خطاباته العموم والإستغراق إلا ما خرج بالدليل ولم تتعد فترة نزوله أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحياة الدنيا، وهو أيضاً الوعاء الزماني للسنة النبوية أي لم تتأخر السنة في زمان صدورها على نزول القرآن بحيث يحتمل البداء والمحو والتشريع في السنة بالنسخ للقرآن.
في رحاب الناسخ والمنسوخ
الأول : يفسر القرآن بعضه بعضاً وما أُجمل في موضع إستبان في موضع آخر، وما وردت الإشارة والكناية إليه في آية دلت عليه بوضوح آية اخرى، فهو باب كريم يساعد على دراسة الناسخ والمنسوخ من جهة المصاديق وتعدد الأمثلة ويبين مدى صحة الأقوال بخصوص نسخ آيات معينة.
الثاني : لابد من معرفة أصول الدين والأحكام الفقهية ولو في الجملة للإحاطة بما يجوز وما لا يجوز شرعاً في الناسخ والمنسوخ، وهي طريق لتفسير آيات القرآن وإستقراء الحكم، كما ان معرفة الأصول والأحكام عون على تحديد الناسخ والمنسوخ وسبيل إلى تعيين مدارك الأحكام.
الثالث : لا حجة في قول المجتهد والمفسر في النسخ ان لم يكن بدليل، لأن النسخ كمركب متكون من حكم مرفوع وحكم آخر جاء محله يحتاج في إثباته إلى نص وبسند معتبر او دليل من القرآن، فلا عبرة بالرأي لاسيما وان اقوالاً كثيرة بالنسخ تم ردها أو بالإمكان حصوله بالتحقيق.
الرابع : السعي والكسب والتحصيل في علم التفسير والنظر اليه بآفاق تتسع لعمومات وإطلاقات لم يثبت تخصيصها أو تغييره وتجنب القول بأن الآية منسوخة الا عند ثبوت الدليل، فمثلاً ذكر السيوطي قولاً نسبه إلى ابن عربي في قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ]([123]) إنها منسوخة بأمور:
الأول: قيل بآية المواريث.
الثاني: قيل بحديث: “ألا لا وصية لوارث”.
الثالث: قيل بالإجماع.
وكأن المقطوع به هو ان آية الوصية للوالدين والأقربين منسوخ حكمها وان بقيت تلاوتها مما يقتضي البحث عن الناسخ أو إيجاد ناسخ مناسب لها، وضعف مصدر القول بالنسخ على نحو مركب من جهة نسبته إلى القيل وعدم ذكر القائل، والتعدد والترديد فيه، ولكن ورد عن ابن سيرين عن ابن عباس: أنه قام يخطب الناس، فقرأ لهم سورة البقرة، فبين لهم منها فأتى على هذه الآية {إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين} فقال: نسخت هذه، ثم قرأ حتى أتى على هذه الآية{والذين يتوفون منكم} إلى قوله {غير إخراج} فقال: وهذه)([124]).
وقد نرجع إلى الكبرى وهي هل هذه الآية منسوخة، والاصل العدم وهو أصالة عدم النسخ خصوصاً مع عدم الدليل، وذكر الناسخ على نحو القول مع الترديد نوع تضعيف له، بالاضافة الى عدم التعارض بين الناسخ والمنسوخ ظاهراً .
ويمكن الجمع بين آية المواريث مثلاً والوصية، والإستدلال عليه بالسنة القولية والفعلية.
الخامس : هناك قول بجواز ان يكون الناسخ منسوخاً كما في قوله تعالى [ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]([125]) نسخه قوله تعالى [ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ]([126]) وهي آية السيف، ثم نسخت بقوله تعالى [ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]([127]) ولكن الآية الأخيرة مخصصة لآية السيف وليس ناسخة لها لإخراج أهل الذمة من أحكامها، ويشكل عليه من جهة أخرى أن القتال أعم من القتل، وأحياناً يكون بينهما عموم وخصوص من وجه فقد يقع القتال من غير قتل وقد يحصل العكس أي قتل بلا قتال، والقتال نوع مفاعلة ومحاربة، والقتل إتلاف للمقتول أي أن الفعل فيه يقع من طرف على الطرف الآخر.
السادس : وما ورد عن الإمام عليu في قوله لمن كان يفسر القرآن اتعرف الناسخ من المنسوخ؟ ظاهره انهما معاً في القرآن وبهذا يضعف القول بان الناسخ من غير القرآن والقول بنسخ التلاوة، وان كانت مناقشة الإستدلال بالقول قد تثبت ما هو أعم من ذلك أو لا يكلفه بما لا يطيق مما قيل برفعه ونحوه إذ أن الله لا يكلف العباد بما لا يطيقون.
السابع : ذكر السيوطي من أقسام النسخ نسخ المأمور به قبل امتثاله، وهو النسخ على الحقيقة كآية النجوى وهي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً]([128]).
ولكن آية النجوى تم العمل بها على نحو القضية الشخصية قبل أن ترد الرخصة برفعها، فقد ورد عن الإمام علي uانه قال: ان في كتاب الله لآية لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها احد بعدي [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ] الآية، كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكلما أردت أن أناجي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قدمت درهماً فنسختها الآية الأخرى [أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ]([129]) الآية، فقال عليه السلام: بي خفف الله عن هذه الأمــة ولم ينزل في أحد قبلي ولم ينزل في أحد بعدي([130]).
قال مجاهد وقتادة لما نهوا عن مناجاته صلوات الرحمن عليه حتى يتصدقوا لم يناجه إلا علي بن ابي طالبu قدم ديناراً فتصدق به ثم نزلت الرخصة)([131])، وهذا الإمتثال فيه نوع تنزيه لكل المسلمين بتحقق الإمتثال في الخارج وكأنه كفائي وليس فرض عين.
الثامن : من النسخ ما تعلق بالحكم واستشهد بنسخ التوجه إلى بيت المقدس باستقبال الكعبة الشريفة، وصحيح أن تعيين بيت المقــدس جهـة للقبلة من الأمور المنسوخة حكماً وتشريعاً فحصل النسخ بالموضوع في آية قرآنية، وليس من آية منسوخة تتعلق بالقبلة، فقوله تعالى[وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ منْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ …]([132]) توكيد لحصول النسخ واقعاً أي أن القبلة أوان نزول هذه الآية هي البيت الحرام وليس بيت المقدس، وان النســخ من مفهـــوم الآية الكــريمة وليس من منطــوقهـا، وتدل على حصول النسخ في موضوع القبلة بالآية القرآنية .
ومن إعجاز القرآن وأٍسباب منع الفرقة والخلاف في قادم الأيام عدم ذكر بيت المقدس كقبلة.
وفي أسباب النزول ذكر ان قوماً إرتدوا عن الإسلام لما حولت القبلة جهلاً منهم بما في التحويل من الحكمة والمقاصد السامية، وقال جماعة من المسلمين كيف بأعمالنا في قبلتنا السابقة ومن مات من إخواننا قبل التحويل كسعد بن زرارة والبراء بن معرور وكانا من النقباء فنزل قوله تعالى [ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ]([133]).
عن ابن عباس قال، لما وُجِّه رَسوله الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: كيف بمن ماتَ من إخواننا قبل ذلك، وهم يصلون نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله جل ثناؤه:”وما كانَ الله ليضيعَ إيمانكم([134]).
وأشير هنا إلى وجه آخر في تفسير هذه الآية بقدر تعلق الأمر بموضــوع النسخ ولأن المفسرين على إختلاف طبقاتهم رددوا موضـوع نسخ القبلة حتى صار وكأنه أبرز الوجوه الدالة على النســخ، والظاهــر أنه ليس من النســخ بالمعنــى الإصطــلاحي الدقيق إلا على القول بالمعنى الأعم للنسخ الشامل للكتاب ولما هو خارج الكتاب.
وكما يتعلق موضوع القبلة بالصلاة فهناك مصداق آخر بذات المعنى يتعلق بالصيام ولم يذكر كمثال في باب النسخ مع وحدة الموضوع في تنقيح المناط وان كان موضوع القبلة أكثر أهمية، الا انه لو كان النسخ يتعلق بمثل هذا الموضوع لبان وظهر , وورد على لسان الصحابة والأئمة والعلم عند الله.
وفي قوله تعالى [عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ]([135]) ورد ان النكاح في ليالي شهر رمضان كان محرماً وحصلت واقعة لأحد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم واعترف آخرون بإتيانهم لنسائهم كما قيل، فنزلت الآية.
ان الله عز وجل يذكر العلة والحكمة في التغيير والنسخ في الشريعة إعانة للناس على الهداية وإكراماً للمسلمين، وفيه مسائل:
الأولى : أكدت الآية النسخ في الشريعة وهناك فرق بين النسخ في الشريعة والنسخ في القرآن وإن إجتمعا أحياناً.
الثانية : إن الناسخ متلو والمنسوخ غير متلو، إنما الأصل أن يكون البحث والخلاف فيما لو كان الناسخ والمنسوخ معاً في القرآن.
الثالثة : منعت الآية إنكار وجود قبلة أخرى للمسلمين غير البيت الحرام، وحفظت لبيت المقدس منزلته الإسلامية، وكانت وثيقة سماوية وشاهداً على حق المسلمين فيه.
الرابعة : لم يكن تحديد القبلة إلا بأمر من الله تعالى سواء كان بخصوص البيت وإرادة الكعبة أو في القبلة السابقة، وانه ليس من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه دلالة وإخبار يومي متجدد بأن المسلمين ليس لهم إلا التسليم والإنقياد لأمر الله تعالى.
الخامسة : الآية عز وفخر للمسلمين وإثبات لأهليتهم لخلافة الأرض بحسن الامتثال وسرعة الإستجابة للأمر المولوي لما جاء بتغيير القبلة مع أهميتها في العبادة وأثر العادة في سلوك الناس وسيرتهم وترشح التردد والشك والإبطاء في الإمتثال بسببها فبادروا إلى التوجه الى القبلة الجديدة التي أمر الله، بل إن جماعة منهم توجهوا إلى القبلة الجديدة وهم في الصلاة فاستحق المسجد الخلود والتشريف باسم خاص وهو “مسجد القبلتين”.
السادسة : منعت الآية إجتهاد بعضهم وتجرأه بجواز إستقبال بيت المقدس لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توجه في صلاته إليه ويستقرأ النهي عن إستقبال بيت المقدس من الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام، وقد يقال إستدلالاً بان اثبات شيء لشيء لا يعني نفيه عن غيره أجنبي عن المقام لأن الآية صريحة بالأمر باستقبال البيت الحرام فرضاً وشرطاً في الصلاة، قال تعالى[وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]([136]).
ان النسخ في هذه الصورة ليس نسخاً لآية أخرى بل هو تثبيت لحكم ناسخ أي لم يذكر إلا الناسخ المقرون بالسنة المباركة، واخرج (عن ابن عباس أن أول ما نسخ من القرآن نسخ القبلة)([137]).
وأراد موضوع القبلة، فليس من آية فيها ذكر للقبلة المنسوخة إلا بعد الأمر بالقبلة الدائمة حتى يوم القيامة فيصح القول أن القرآن نسخ القبلة بآية قرآنية ولا ينسب المنسوخ إلا القرآن، وهو مفهوم القول المنسوب الى ابن عباس لتحديد مفاهيم وقواعد ثابتة وواضحة للنسخ او للتمييز بين أنواعه وحصر أهم الدراسات فيه بما إذا كان كل من الناسخ والمنسوخ من القرآن.
السابعة : لعل هذه المسألة تفتح باباً من العلم وهو ان وجود الناسخ يدل في مفهومه على المنسوخ بعد ثبوته في السنة والأخبار ومفهوم الآية الكريمة.
تأريخ النسخ
النسخ هو إرتفاع حكم كلي إستغراقي ثابت في أصل الشريعة بدليل شرعي دلّ على إرتفاعه أو إنتهائه ، وقيدناه بإرتفاع حكم لخروج أصل الإباحة فلا تعتبر منسوخة عند طرو حكم كما في تحريم لحم الخنزير، لأن الحكم لم يتعقب إباحة شرعية تكليفية بمعنى التخيير بين الحكم وأهله.
وقيدناه بالكلي لأن النسخ لا يشمل الجزئي، فالرخصة للمعذور والمضطر في بعض الأحكام ليست بنسخ، وقيدناه بالإستغراقي لشموله لجميع المكلفين قبل إنتهاء مدته ولأن الناسخ دليل كاشف عن تبدل الملاك والحكم على نحو الإطلاق بالنسبة للأفراد، ومنهم من عرّفه بأنه اعلام او بيان او خطاب عن إنتهاء حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه، والخلاف لفظي والمعنى واحد، كما أن النسخ يجري في الأحكام الشرعية التي تمتلك إمكانية عدم الجواز شرعاً ولا يصح النسخ في الأحكام العقلية.
لقد أجمع المسلمون على إمكان النسخ ، وهذا الإجماع فرع القرآن والسنة وتدل عليه الآية محل البحث وقوله تعالى [ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ]([138]) وقيل كيف يكون تشريع الحكم مع عدم وجود مصلحة فيه، وكيف يرفع اذا كانت المصلحة فيه لأنه خلاف الحكمة في التشريع، ويجاب عليه بأن للمصلحة مراتب متفاوتة ومتعددة بتعدد الأزمان والأحوال، وحكمة التشريع أعم من ان تتعلق بواجب المكلف فقد تشمل التخفيف ووجوه الرحمة والتيسير بعد الإمتحان والحكمة الإلهية الجارية في الخلق.
فقد يكون التكليف بأمر في زمان ماض من التكليف بما لا يُطاق في زمان لاحق أو بالعكس، والمشيئة الإلهية منزهة عن القبيح، والله سبحانه لا يكلف بما لا يطاق ، فقد لا يقدر العبد على فعل لإستحالته او للعجز عنه ولكنه أحياناً لا يقدر عليه بسبب إنشغاله وتوجهه إلى غيره، أو بسبب عدم العلم أو عدم الآلة.
ولقد كان الإسلام عقيدة ورئاسة عامة وأحكاماً وباب هداية وإرشاد للناس ، ولم يترك لهم إتيان الفرائض إتفاقاً أو عادة أو على نحو الإختيار، لذا لابد من ضبط موضوع النسخ لإعتباره في أداء التكاليف ، وللتفقه والتبصر بالحقائق ، وتحصيل المعارف الإلهية، والغوص في أسرار القرآن الأمر الذي يساعد على إستظهار علومه، وقد يأتي النسخ لزيادة الأجر والثواب، وتيسير الإمتثال وثبات الحكم إلى يوم القيامة، فالنسخ واقية من التحريف.
أركان النسخ
تساعد معرفة اركان النسخ في الكشف والبيان وذلك بذكر أركان النسخ من القواعد الكلية للنسخ وأحكامه وما يتألف منه الموضوع، والخروج بثمرات نافعة إذ أن مباحث النسخ لا تخلو من تداخل يحول دون الرؤية السليمة، بالإضافة إلى الإختلاف الذي قد لا يستند إلا إلى تحصيل إجمالي فقد تجد مباحث مطولة لعلماء كبار يصعب إثبات شواهد لها أو لشطر منها في القرآن.
نحن بحاجة إلى علم يبدأ من الشواهد والمصاديق لتتكون منه قاعدة كلية، لا ان توضع قاعدة كلية ثم يحصل البحث عن مصاديق لها مع المشقة والتكلف.
وأركان النسخ هي:
الأول : الناسخ.
الثاني : المنسوخ.
الثالث : موضوع النسخ.
الرابع :الحكم.
الخامس : الحكمة في النسخ.
الناسخ
وهو الكتاب أي ان آيات من القرآن تنسخ آيات سابقة لها، وعليه الإجماع ولا عبرة بمن شذ من المسلمين ولعل خلافه لفظي، وتدل الآية محل البحث على النسخ، والسنة تثبته تفسيراً وتأويلاً وفعلاً وتقريراً.
وقد بينا ما ذكر من أقسام النسخ في الكتاب من نسخ التلاوة دون الحكم، أو العكس، أو نسخهما معاً، ورد بعضها أو الإشكال عليه كما وقع الإختلاف في الكم والكيف في عدد الآيات المنسوخة والناسخة قلة وكثرة، بل أن بعضهم جعل من الآيات ما كانت ناسخة لغيرها ومنسوخة من غيرها، او ان نسخها ذاتي بأن ينسخ آخرها أولها..
ومن النسخ في هذا الباب قوله تعالى [ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ]([139]).
اما الآية المنسوخة فهي قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً]([140]).
وفي النسخ في المقام مسائل:
الأولى : إنه مدرسة في التخفيف.
الثانية : إنه وثيقة في التراخي عن شدة التكاليف وما يقابله من عند الله تعالى بالرحمة والعفو وتبديل الحكم رأفة وفضلاً، وهو درس لأولياء المسلمين بالتخفيف فيما يفرض من الحقوق المالية والضرائب عليهم كما تلاحظ مثلاً النسبة القليلة من مجموع المال في الزكاة ونحوها من الحقوق الشرعية، بل تراها محصورة في نصاب معين لا تجب إذا لم يبلغ الربح والفائض والناتج مقداره.
الثالثة : بيان إستعداد المسلمين للتضحية وإمتثالهم للأحكام الشرعية بإلتزامهم بالعبادات المالية وإخراج الحقوق من أموالهم.
الرابعة : للنسخ فوائد عقائدية تتعدى موضوعه ومناسبته.
الخامسة : فيه مناهج تربوية وأخلاقية وتشريعية تكون طريقاً ومادة للهداية والصلاح.
السادسة : في النسخ شهادة كريمة لمن عمل بحكم المنسوخ قبل رفعه.
السابعة : الامتثال للأمر الإلهي وإن كانت فيه مشقة حتى يأتي الله بأمره، فلا غرابة ان يُسمى الأمر او النهي الإلهي إلى المخاطَب ب “التكليف” لما في الفعل من الكلفة والمشقة ولأنه عبارة عن إلتزام بما يثقل على الطباع.
الثامنة : الإجتهاد في أداء العبادات والفرائض لأنها مطلوبة بذاتها ولبدليتها عن الصدقة ونحوها.
التاسعة : لعل من أسرار النسخ إمكان العمل بالصالحات المنسوخة على نحو الرخصة أو الإستحباب، أي أن الذي رفع هو الوجوب.
هل تنسخ السنة الكتاب؟
السنة لغة الطريقة والسيرة وتشمل الحسنة منها والسيئة، وفي الإصطلاح تنحصر بالحسن والمبارك وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله وتقريره، ومنهم من قيده بمقام التشريع ومن لم يقيده ربما قصد ذات المعنى، او أراد المعنى الأعم للسنة سواء كانت في مقام التشريع او لا، وقد تطلق على المندوب من الأفعال، او العبــادات كما في مســتحبات الصـلاة وقد تطلق على بعض الواجبات التي يرد دليلها من السنة النبوية الشريفة كما في الختان فيقال انه سنة.
اذ ان زمان وموضوع النسخ كان مصاحباً لأيام الوحي، وان قال بعضهم: “يجوز ان يكون النسخ مما أودعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الإمام لإخراجه في الوقت المناسب”، وهو قول بعيد كبرى وصغرى.
وقالوا: (ان نسخ الكتاب بالسنة المتواترة متفق على جوازه، وفي معالم الدين قال (ولا نعرف فيه من الأصحاب مخالفاً، قال: وأنكره شذوذ منهم، وهو ضعيف جداً لا يلتفت إليه)([141]).
ولكن عدم معرفة المخالف أعم من القول بالإيجاب، فالإتفاق لم يثبت وكثير من الفقهاء لم يتعرض له وهو أمارة ظاهرية على عدم القول به، وأنكر الزركشي ما اشتهر عن ظاهر لفظ الشافعي والرسالة وانكاره نسخ القرآن بالسنة مطلقاً، وقال ان مراده ان الكتاب والسنة لا يوجدان مختلفين إلا ومع أحدهما مثله ناسخ له، وكل من تكلم عن هذه المسألة لم يفهم مراده([142]).
والذي قال بجواز نسخ السنة للقرآن اما اكتفى بالقول من غير مثال وشاهد او جاء بشواهد أكثرها لا يتم النسخ فيهما مثل قوله تعالى [ قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]([143]).
وإنها منسوخة بالأحاديث المتواترة الناهية عن أكل كل ذي ناب من السباع والمسوخ وكل ذي مخلب من الطيور لأنها لم تكن محرمة في الآية، ويستشهد عدد من الأصوليين بهذا المثل وليس من راد عليهم.
أقول: لا نسخ في الآية فهذا الحديث لا دليل فيه على النسخ اذ لم يحلل حراماً ذكر في الآية، بل انه وسع التحريم فهو على نحو الحكومة، فتكون إضافة التحريم في ذي الناب من السنة كما في وجوب الختان مثلاً في السنة، ولا تعتبر التوسعة من النسخ.
فيقع هذا التحريم ضمن عمومات قوله تعالى [ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]([144]) إلا أن يقال أن الآية جاءت بذكر المحرمات حصراً فمفهومها يدل على جواز غيرها، ولكنه ليس من النسخ الإصطلاحي الذي هو الإبدال، ومنهم من فصّل في أقسام السنة من جهة نسخها للقرآن.
ودليل القائلين بجواز نسخ القرآن بالسنة أن النبي لا يشرع إلا عن وحي وإلهام منه تعالى فيكون حجة، ولكن النقاش في إثبات حصول النسخ بهذه الكيفية واثبات قبول القرآن للنسخ بغيره والأصل العدم.
روى السيوطي: (اراد عمر بن الخطاب أن يكتب السنن وإستشار فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأشار إليه عامتهم بذلك فلبث عمر بن الخطاب شهراً يستخير الله تعالى في ذلك شاكاً فيه.
ثم أصبح يوماً فقال: إني كنت فكرت لكم في كتابة السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت فاذا أناس من أهل الكتاب كتبوا مع كتاب الله كتباً فاكبوا عليها وتركوا كتاب الله، والله لا ألبس كتاب الله بشيء، فترك كتابة السنن)([145])، وهذا الحديث يدل ضمناً على ضعف وسند ودلالة الحديث الوارد بنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن كتابة سنته.
فلو كان هناك نهي من النبي عن كتابة سنته لما هم وعزم الخليفة عمر بن الخطاب على كتابتها ولذكره الصحابة بالنهي وعلته ولجعله علة تامة للإمتناع عن كتابتها.
ولما جاء عمر بن عبد العزيز إلى الحكم سنة 99 للهجرة كتب الى واليه في المدينة أبي بكر بن حزم أنظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فاني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً([146]).
ولم تدم خلافة عمر بن العزيز أكثر من سنتين ونصف السنة ومات وعمره أربعون سنة، وذكر أنه دس له السم، ولم يتم تدوين السنة إلا على نحو جهود شخصية وأوراق غير منتظمة محدودة حتى أيام المنصور العباسي.
والمشهور منهم فصل بين الحديث المتواتر وغير المتواتر، وقال إن الحديث المتواتر حجة قطعية يصلح للنسخ.
أما الحديث غير المتواتر سواء كان مشهوراً أو خبراً لواحد لا يفيد العلم فلا يصلحان للنسخ، ومنهم من جعلهما بمرتبة واحدة مع المتواتر إذا جاءت قرينة تؤهلهما لمرتبته.
والسؤال الذي نطرحه لماذا لا نرجع إلى نصوص وأخبار السنة النبوية الشريفة في هذه المسألة ذات الشأن والأهمية، هل ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يفيد منطوقاً أو مفهوماً أن سنته ناسخة القرآن؟ واذا لم يرد على لسان الصحابة والأئمة عليهم السلام ايضاً فلماذا يقال: الإجمــاع على جــواز نسخ الكتاب بالسنة؟
وهل ورد في السنة النبوية الشريفة ما يفيد عدم جواز نسخ الكتاب بالسنة؟ الجواب: نعم، ومن ذلك (قوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط)([147]).
إذن أخبار السنة عند المخالفة لا تصلح أن تكون بعرض واحد مع القرآن وقد لا يصدق عليها اسم السنة.
وأختلف في نسخ الإجماع للكتاب والقائل بعدم الجواز ذهب الى أن موضوع الإجماع غير متحقق إلا بعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وإنقطاع الوحي، وهو حسن، ولكن المسألة ذات الأولوية هي إمتناع القرآن عن النسخ بغيره من الإجماع ونحوه.
ومنهم من قال أنه مستقر حتى في أيام النبوة لأن الله عز وجل أمر باتباع المؤمنين وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر على أن أمته لا تجتمع على خطأ، وهذا القول مترشح من قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([148]).
ولكن السيرة تشهد بأن الإجماع كدليل لم يكن له شأن إلا بعد إنقطاع الوحي، ففي أيام النبوة لم يكن إلا مصدران للتشريع القرآن والسنة لذا فان الإجماع لا يصلح أن يكون ناسخاً للقرآن.
وعن السيد المرتضى ت (436) هجرية: (ان ما ثبت بالإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به).
(وعن الإمام الرازي ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به) ([149]).
أما القياس بنوعيه منصوص العلة ومستنبط العلة فلا يصلح للنسخ لأن حكم القياس لا يكون بعرض واحد مع الحكم الثابت بدليل شرعي.
وفي الآية الكريمة والإستدلال على أن النسخ لا يكون إلا بالقرآن، قيل بأن إثبات النسخ لله تعالى لا ينفي جوازه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وان إثبات شيء لشيء لا ينفي ما عداه، وهو صحيح ولكن إثبات الشيء الآخر يحتاج إلى دليل وإلا فيبقى الأصل في المقام وهو عدم النسخ.
وسنتعرض ان شاء الله للآيات المنسوخة والناسخ لها أثناء التفسير، من غير البناء على قاعدة كلية وهي عدم نسخ القرآن إلا بالقرآن، ولا مانع من ان تكون ثمرة للبحث، وربما يمكننا من أن نستل كتاباً مستقلاً عن النسخ من هذا التفسير ولا بأس بدراسة للشواهد القرآنية الناسخة والمنسوخة لتكون هذه الدراسة مقدمة لإيجاد قواعد كلية في النسخ، ووجوه النسخ في الآيات التي جعلت ناسخة أو منسوخة، أو ناسخة لغيرها ومنسوخة من غيرها، أو أن بعضها ناسخ للبعض الآخر كما قيل.
ومن أهم ركائز حصانة الشريعة الاسلامية خصوصاً في زمان تداخل الحضارات إثبات عدم نسخ القرآن إلا بالقرآن وبدليل قرآني مخصوص في كل شاهد من النسخ، ومع طرو إحتمال عدم النسخ يبطل الإستدلال فالأصل عدم النسخ.
نحن بحاجة إلى دراسة بحوث بيانية عن النسخ تتعرض لكل آية ناسخة أو منسوخة ودراستها دراسة مستقلة فيما يخص النسخ خاصة، فمن الأصوليين من يبحث في النسخ ووقوعه بالسنة وغيرها من غير أن يأتي بشاهد واحد، ومثل هذه الدراسة ستتيح للعلماء والمفسرين فرصة مباركة للبحث في النسخ برؤية أكثر وضوحاً وإشراقاً وتكون عوناً للخروج بمسائل أكثر نفعاً، بعيداً عن الإطالة في الكلام والإكثار من النقض والإبرام في قواعد عقلية لم يثبت لها ملاك شرعي في المقام وذلك لا يمنع من إستعراض أقوال العلماء الأعلام.
ليس المطلوب وضع قواعد كلية ذات مدارك عقلية مثلاً وتطبيقها على القرآن، إنما المطلوب أخذ كل آية على حدة ومناقشة النسخ فيها، ولعلك تجد حينئذ كثيراً من الأقوال في النسخ والآيات المنسوخة تحتاج إلى الدليل وربما لم تجد لبعضها مصداقاًً في الواقع، وعلى فرض انك لم تجده فإن هذه الطريقة تصير منهجاً سليماً وواقعياً، وفيه إدراك لعظيم المسؤولية عند القول في علوم القرآن.
ولا يصلح ناسخاً للقرآن إلا القرآن، أما السنة فهي وإن كانت بوحي من الله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]([150]) إلا أنها لا ترقى إلى منزلة كلام الله عز وجل الذي هو بين الدفتين والذي نزل به جبرئيل باللفظ، فضلاً عن أن تكون ناسخة له.
لقد جاءت السنة بياناً وتفسيراً وتطبيقاً لآيات القرآن، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في بعض الأخبار بعدم تدوين سنته ولم يقل بأن سنته ناسخة للقرآن، وعدم القول هذا في مفهومه بالنظر إلى وجهه الوجودي والظاهري أنه صلى الله عليه وآله وسلم يخبر على أن سنته ليست ناسخة للقرآن.
وحصر الكتابة بالقرآن أي أنهما ليسا بعرض واحد فلو كانت السنة ناسخة لما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم كتابتها، على فرض صحة القول بهذا الأمر ونسبته وشطر من القائلين بنسخ السنة للقرآن يقولون بهذا الحديث، وعلى فرض صحة القول بأن النبي أمر بعدم كتابة سنته فلا يعقل أن يأمر بالمنسوخ وينهى عن كتابة الناسخ لاسيما وأن النسخ لا يقع إلا في الأمر والنهي وأن ضم إليهما بعضهم الأخبار.
هذا مع عدم التعرض للسنة من حيث السند والإختلاف في رجاله في غالب الأحوال، وتعدد الأقوال في مفهوم الإجماع ، وكيفية وإمكان تحصيله في الآيات محل البحث.
هل أجمع الصحابة على نسخ السنة للكتاب، لعله لم يقل أحد منهم بمثل هذا النسخ، ترى في أية طبقة حصل هذا الإجماع، لقد وردت أخبار وروايات كثيرة بالتفسير عن نفر من الصحابة وهي محل عناية وإكرام المسلمين جميعاً، بلحاظ أنها ثروة علمية وكنز عقائدي متوارث والظاهر انه لم يرد عن أحد منهم بسند صحيح بأن آية نسخت بالسنة أو الإجماع أو القياس، وإن كان السند الصحيح وحده لا يكفي فلابد من صحة الحديث دلالة.
وقال الزمخشري: ونسخ الآية: إزالتها بإبدال أخرى مكانها وإنساخها: الأمر بنسخها، وهو أن يأمر جبريل عليه السلام بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها)([151])، ولو كان لبان، فلو حصل الإعلام من جبرئيل لقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخبار الأمة وتعيين الآيات الناسخة والمنسوخة، نعم جاء نسخ القبلة مثلاً بالنص القرآن الجلي، وهو أظهر من إعلام جبرئيل وما هو الدليل على أن الله عز وجل يأمر جبرئيل بأن يجعل الآية منسوخة، وأنه أعلم وأخبر عن كونها منسوخة وقد تكرر ثلاث مرات الأمر بالتوجه إلى الكعبة، بقوله تعالى[وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]([152])، [وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ]([153]).
وقيل من معاني هذا التكرار إنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره([154]).
وهناك مباحث وجدت فيما بعد من قبل علماء التفسير ومصنفي أصول الفقه وربما كان الكثير منها بعيداً عن عالم التفسير، ومع هذا فنحن مع الدليل لو ثبت نسخ القرآن بالسنة لا مانع منه ويكون ممكناً بشرط ان يحددوا لنا الآيات المنسوخة بالسنة والأحاديث النبوية المباركة التي نسختها وكيف أنها أصبحت بديلاً لها.
ومن الآيات الإعجازية في المقام ومما يهون الخطب تعدد الأقوال في النسخ، والتعدد في كثرة افراد الناسخ لم تضر القرآن شيئاً ولم يؤثر سلباً في علم التفسير والتأويل، بل هو باب من العلم لا زال مفتوحاً أثباتاً أو نفياً وهذا لا يمنع من كشف الحقائق وضرورة تعاهد علوم القرآن والتصدي لوجوه التحريف الخفي وغير المقصود بالتأويل الذي لا يستند إلى دليل شرعي معتبر.
والصحيح أن القرآن غير منسوخ بالسنة، نعم قد تأتي السنة مقيدة لإطلاقاته كما في قوله تعالى[وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا]([155]) إذ ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً)([156])، والدينار مثقال ذهب عيار ثماني عشرة حبة.
وعن ابن عباس: يقطع سارق القليل والكثير، ولو سرق دانق، قال: لأن الآية عامّة ليس خاصّة)([157]).
وقد ترى في القوانين الوضعية تشريع قانون ويستمر به العمل لفترة من الزمن وبعدها ينكشف لأهل الحل والعقد أن المنفعة والمصلحة تقتضي تبديله وتغيير بعض مواده سواء بسبب خطأ في التقدير أو عدم الإحاطة بمقتضيات المصلحة، ولكن هذا منفي في حق الباري عز وجل لأنه تعالى عالم بذاته وبكل ما يصلح ان يكون معلوماً بما في ذلك الجزئيات وتبدل أحوالها الذي لا يستلزم تغير العلم الذاتي، ولا عبرة بإعتراض بعض الحكماء، لأن هذا التغير لا يستلزم تغير علمه تعالى وإنما هو حاصل في المتعلق الإعتباري الذي ليس له تحقق في الخارج، وفي الإضافات لا في الذات ولا في الصفات الحقيقية.
لذا فان النسخ بمعناه الحقيقي لا يعني العدول في مباديء الحكم الشرعي ولكنه يتعلق بالحكم والكيف والمصلحة بحسب الزمان والحال من غير عدول عن ذات الغاية وموضوعها ومواطن الإرادة أو الكراهة، ولو حققت في مصاديق النسخ وجدتها متعلقة بظرف زماني تدريجي إنتقالي، أي كان للحكم المنسوخ أجل محدود يعلمه الله عز وجل قبل أن يشرعه وبسبب هذا التقدير فإن الإرادة محددة بحسب المصلحة والقواعد الشرعية الكلية رحمة من الله تعالى بالعباد.
ولقد سلمنا بحصول النسخ في الشرائع واحكامها وكيف ان شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت كاملة تامة غير ناقصة فلماذا لا يحتمل النسخ في القرآن إن ورد الدليل بخصوصه من القرآن ذاته لأن فيه تبياناً لكل شيء، وهل النسخ وبالقرآن من مصاديق التكامل في قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]([158]), الجواب نعم .
ولم يكن الحكم المنسوخ في ظاهره مقيدا بزمان وأجل معين إنما كان مجعولاً على نحو الفرد الطبيعي للتكليف وبعد ذلك يبطله الله سبحانه لعلمه بانه مرهون بزمان مخصوص، والإطلاق في الجعل لا يضر في موضوعه بعد إستحضار الكبرى الكلية وهي علم الله بالتغيير والنسخ منذ الأزل ، ولأن الله سبحانه [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ([159]).
وربما كان الإطلاق لمصلحة أخرى تتعلق بأفعال المكلفين وإلتزامهم بالحكم وإن كان محكوماً بالنسخ في علمه تعالى، ومن قدسية الحكم وعظيم شأنه في أوهام البشر أبديته وكفاية الطبيعة الصرفة لا بنحو الإستغراق والدوام أو كونه مقدمة وجودية للناسخ فيقع في حيز الطلب، وكأن الناسخ دون المنسوخ هو الذي يصلح لأن يكون حكماً عاماً أي على نحو العام المجموعي الإستغراقي لجميع الأفراد والمجتمعات، وفيه الإمتثال العام بأحكام الشريعة الإسلامية عند إستقرار الحكم وثبات أركان الدين وبزوغ شمس الحق ولواء التوحيد على عموم سطح الأرض.
النسخ والإعجاز
النسخ إنتهاء حكم شرعي الذي نظن حسب أوهامنا أنه مستمر وحلول حكم آخر بديلاً عنه، فهو يتكــون من خطابين أحدهما متأخر عن الآخر على نحو لو لم يرد لكان الأول ثابتاً بلحاظ المصلحة مع الإقرار بعدم اتصاف الله تعالى بالعجز الذي هو صفة وجودية تقابــل القدرة تقابل الضدين، والقدرة من صفات الله تعالى الثبوتية الذاتية وتتعلق بجميع المقدورات لأنها مجردة عن الزمان والمكان والجهة.
ومن وجوه إعجاز القرآن أنه يؤدي بطريقة أبلغ ويرتقي على أوهام البشر وطرقهم ويعجزهم عن المعارضة، كل آية إعجاز ولابد ان ذلك يشمل الآيات المنسوخة ولا ينحصر ما فيها من إعجاز بأيام العمل بها، بل هو باق بلحاظ جزئيتها من القرآن ومادتها وموضوعها.
وقد قسّمتُ اعجاز القرآن الى اعجاز ذاتي وغيري ، وكل منهما قابل للانشطار، فهل في النسخ اعجاز ذاتي أم غيري أم هما معاً، الجواب: هو الأخير فكل منهما متحقق في النسخ.
علينا أن نتلمس وجوه الإعجاز في علوم القرآن، ولا يحجب عنا الخلاف في المسائل والمصاديق ما هو أعظم وأكبر، إنه مدرسة وكنز من كنوز القرآن وباب علم تنفتح به آفاق ودراسات عديدة في العقيدة وعلم الإجتماع والأخلاق والطب والنفس والسياسة والقانون والميادين الأخرى، وهذا كله من الإعجاز الغيري للقرآن بما يؤديه النسخ من إصلاح وتغيير نحو الأفضل، ويكون مناسبة للإنقياد الأمثل للأحكام الشرعية والتدرج في منازله، وسبب عدم تقدم زمان الناسخ على وجوه منها:
الأول: وجود المانع الذي يحول دون مجئ الناسخ دفعة وفي بداية التشريع.
الثاني: فقدان الشرط الذي يكون كالمحل والوعاء للناسخ.
الثالث: ما جبلت عليه النفس الإنسانية من العادة ، والنفرة من الأمر المخالف لها، إذا جاء دفعة.
الرابع: التخفيف والفضل الإلهي.
الخامس: إدخار الثواب للفرد الأمثل وهو المسلم فيستحق الثواب في حال المنسوخ او الناسخ مع التماثل او التباين، فالمدار على العمل بكل منهما في أوان توجه الخطاب بالتكليفي به.
السادس: الإختبار والإمتحان، وكأن من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([160])، تلقي النسخ بالقبول.
السابع: إقامة الحجة ودعوة الناس للإتعاظ والإعتبار من المسلمين في النسخ.
الثامن: دعوة أهل الكتاب لدخول الإسلام، بتوكيد حقيقة النسخ في الشرائع والأحكام وعمل المسلمين بها من غير تردد أو ترديد.
ثم ان موضوع النسخ نفسه له وقت محدد، فبنزول الآيات الناسخة في القرآن إنتهى النسخ في الشرائع والأحكام فليس من ناسخ بعده وإلى يوم القيامة.
ومن مباحث الإعجاز في النسخ التي يصلح كل منها لدراسة مستقلة ويفتح آفاقاً من العلوم:
الأول : لماذا النسخ؟
الثاني : فلسفة النسخ.
الثالث : لو لم يحصل النسخ.
الرابع : الآثار والمصالح المترتبة على النسخ.
الخامس : الصلة والملازمة بين النسخ والمصلحة.
السادس : أدلة ترجيح الناسخ على المنسوخ.
السابع : أفضلية العامل بالناسخ على العامل بالمنسوخ.
الثامن : من كان مستعداً للعمل بالناسخ، ولكنه مات أثناء العمل بالمنسوخ.
التاسع : العامل بالمنسوخ الناكص عن العمل بالناسخ.
العاشر : تلقي وقبول المسلمين للنسخ.
الحادي عشر : الدلائل العقائدية لموضوع النسخ.
الثاني عشر : القول بعدم النسخ ورده وإبطاله.
الثالث عشر : مصاديق النسخ، وما فيها من الإعجاز.
الرابع عشر : التباين بين النسخ في القرآن، والنسخ في الشرائع الوضعية والقوانين.
الخامس عشر : الإعجاز الذاتي والغيري للنسخ.
ولما أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى[وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] إبتدأت هذه الآية بذكر النسخ، وفيه صغرى وكبرى.
أما الصغرى فهي أن النسخ في القرآن من فضل الله عز وجل على المسلمين، وأما الكبرى فهي مجيء مصداق للفضل الإلهي متعقب لذكره , وفيه علم جديد بتتبع مواضع ذكر الفضل الإلهي بالنص واللفظ وبيان مصاديق الفضل التي وردت قبله وبعده وإن كان هو في الآية ومصداقه في آية أخرى.
وهل خطاب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية من فضل الله , الجواب نعم وفيه دلالة على المسؤولية الرسالية التي يقوم بإعبائها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى من وجوه:
الأول : إختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإخبار الإلهي عن النسخ في الآيات.
الثاني : نيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة قبول النسخ في الآيات والفصل بين الناسخ والمنسوخ.
الثالث : اللطف الإلهي بالمسلمين لتقريبهم لمنازل العمل بالناسخ والمنسوخ.
الرابع : النسخ شاهد على نيل المسلمين لمرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([161])، بالتفقه في الدين، والعمل بالمنسوخ والإنتقال إلى العمل بالناسخ حال طروه والعلم به.
وتحتمل الآية بلحاظ حرف العطف (أو) وجوهاً:
الأول : نسخ الآية بخير منها.
الثاني : ترك ونسيان الآية بمثلها.
الثالث : نسخ الآية بمثلها.
الرابع : ترك الآية والمجيء بخير منها.
الخامس : نسخ الآية بخير منها ومثلها في ذات الموضوع.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وفضل الله بنعمة النسخ على المسلمين.
فإن قلت قد جاءت خاتمة آية البحث بالإخبار عن الإطلاق في قدرة الله عز وجل وأن النسخ من بديع قدرته تعالى، قال تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]([162])، والجواب لا مانع من كون النسخ من فضل الله وتعلق موضوعه بخاتمة الآية السابقة، وأنه من عظيم قدرة الله سبحانه وأنه مصداق وشاهد على سلطانه وقوته وقدرته على كل شيء.
بحث أصولي
لو كان الشيء يفتقر إلى شرط غير مقدور عليه فهل يصح الأمر به، المختار عدم الجواز بإعتبار أن الشرط من أجزاء علة وجوده، أي أن المكلف يتعذر عليه تحصيل ذلك ولأن القدرة لها موضوعية في المكلف به، ولأن الأحكام موضوعة على نحو القضية الحقيقية التي يؤخذ موضوعها بالذات ومن غير لحاظ للوجود الخارجي سواء كانت أفراده موجودة في الخارج أم غير موجودة، إذ كيف يمكن توجيه الخطاب إلى العاجز وغير القادر إلا إذا كان توجه الأمر على نحو القضية الخارجية أي القضية التي يحكم فيها بلحاظ أفرادها الموجودة فعلاً في الخارج ووجود بعض المصاديق للموضوع المأمور به ولو في بعض الأزمنة.
توضيح ذلك أن القضية الحقيقية عبارة عن ورود الحكم على عنوان عام موجود بمرتبة واحدة عند الجميع، فالأمر العبادي المتوجه الى المكلفين لا ينظر إلى خصوصياتهم وتفاصيل أحوالهم ودرجات إيمانهم والأحوال المحيطة بكل منهم بل يرى المصلحة والملاك في العنوان، أما في القضية الخارجية فيكون المناط في كل شخص مختلفاً بالكم او الكيف او المقدار عن الآخر، وإن حصل أن إلتقى أكثر من واحد فهو إتفاق أو إلتقاء في تلك المرتبة.
ومن هذا المبحث يتفرع النزاع هل في توجه الخطاب إلى الحاضرين أي المشافهين أو يشمل الغائبين بل والمعدومين، فبناء على القول بالقضية الحقيقية فان الحكم يشمل الجميع لأنه لم يوجه للأشخاص على نحو القضية الخارجية بل جاء على عنوان كلي كموضوع له، سواء كانت الجملة إنشائية حملية أو شرطية أو جملة خبرية، وأهل المنطق لا يطلقون القضية الحقيقية إلا على القضية الكلية دون الشخصية، ولأن المراد هو العنوان الكلي الوجودي مع جميع شروطه فإنه يشمل كل من ينطبق عليه العنوان.
ونسب إلى الأشاعرة عدم البأس في تكليف العاجز من إتيان شيء مع علم الآمر بإنتفاء شرطه وصحته، ومن رأفة الله تعالى عدم تكليف العبد بما لا يقدر عليه وما يكون شاقاً ويعجز المكلف عنه وإن كان بلحاظ الطبائع والبيئة وحداثة العهد بالإسلام وهذا وجه من وجوه فلسفة النسخ، قال تعالى [ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا]([163]).
ولقد أستدل بها في علم الأصول في باب البراءة في الشبهات الحكمية وعدم التكليف بغير ما وصل من التكليف، وإستشهد بها الإمام الصادق uحينما سُئل عن تكليف الناس بالمعرفة، قال: “على الله البيان”، وتلا الآية أعلاه.
عن قتادة في قوله [إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى] يقول : على الله البيان بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته([164]).
فالذي يبحث في موضوع النسخ الآن يجعل أمامه صورة المجتمع الإسلامي وتأريخ الصحابة وإخلاص المهاجرين والأنصار ومبادرتهم إلى إمتثال الحكم حال تشريعه ونزوله، بل المجتمع الأمثل المتقيد بالأحكام لاسيما وأنه يرى نفسه ودويرة عمله ومن يتصل به من الناس لأغراض الفتوى وما يتعلق بأحكام الدين، ومن يلتقي معه في صلاة الجمعة فيقيس بصلاح سريرته وما عليه المسلمون في صلاة الجماعة تلك الأحوال المتباينة.
وكان جهاد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مركباً وشاقاً وينحل إلى أقسام عديدة على رأسها التبليغ وتثبيت الناس على الإسلام وصدّ ومواجهة وجوه الإعتداء والتعدي المختلفة كماً وكيفاً وجهة صدور.
وأختلف في الأوامر هل هي متعلقة بالطبائع بحيث لا يكون للأفراد وما يتصفون به من خصوصيات أثر في المقام، أم أنها متعلقة بالافراد بلحاظ ما يمتازون به، والأمر بالشيء وصيغة إفعل لها في وجود المصداق الخارجي ركنان:
الأول: المادة.
الثاني: المخاطب.
لأن الآمر يطلب من المأمور المخاطب الإمتثال ووجود المادة وهو الذي تتعلق به المصلحة لا ماهيتها المجردة، والأحكام الشرعية مبنية على ايجاد المصلحة والنفع وطرد المفسدة، فالإرادة تكون بلحاظ الملاك والمنفعة وإتيان المأمور للفعل وتحققه في الخارج ليحصل الإمتثال.
والإختلاف في علم الأصول بأن الأوامر متعلقة بالطبائع أو الأفراد صغروي والموضوع أعم، فالذي نقوله ان تشريع الأحكام السماوية جاء بلحاظ الأمرين معاً بل وغيرهما من مستلزمات الفعل العبادي وما لا نستطيع درك كنهه لما فيه من سعة الرحمة والتخفيف ومنه ثمرات باب النسخ كهبة وفضل إلهي، وسر من أسرار القرآن.
بحث أصولي
دوران الأمر بين النسخ والتخصيص
لو لم نعلم هل هذه الآية ناسخة لآية أخرى في ذات الموضوع أم مخصصة لعمومها او مقيدة لاطلاقها فيقدم التخصيص والتقييد على النسخ لقلة حصول النسخ ولأنه يكون من باب القرينة على ذي القرينة ولعدم التفريط في مضامين الآية الأخرى وأصالة عدم النسخ، والأقسام في المقام من حيث زمان نزول الآيتين ثلاثة:
الأول : نزول الآيتين في زمان واحد.
الثاني : نزولهما في زمانين، وجاء الخاص بعد العام ولكن قبل العمل بالعام او المنسوخ كما قيل في آية النجوى وقد ذكرنا العمل بها قبل النسخ، أي أنها لا تصلح مثالاً لهذا القسم.
الثالث : نزولهما في زمانين، والخاص ورد بعد العمل بالعام، وهنا قد يقال بالنسخ، لأنه لو أخر الخاص عن العام حتى عمل به والمطلوب هو الخاص من غير سبب أو علة فأنه من تأخير البيان عن أوان الإمتثال وهو لا يصح، وإن كان في تأخير البيان عن وقت العمل أحياناً مصلحة ونفع واغراض أعم، منها حفظ النوع او التخفيف أو الإختبار وان عمل بالحكم الظاهري لأصالة البراءة وللتخفيف وللحكمة في تقديم الأهم على المهم وإن إستلزم ذلك تأخير العمل ببعض وجوه الحسن فترة محدودة ليس لها إعتبار في العمل بأحكام الشريعة إلا أنها شاهد فخر وعز ومعرفة، ثم قد يأتي حكم واقعي متباين مع تلك الأحكام الظاهرية مما يجعل تأخير البيان حسناً وممدوحاً لطرو عنوان آخر عليه، وقد اشتهر ما من عام إلا وقد خص.
والنسخ لا يكون الا بتوسط الوحي من قبل الله تعالى واجماع المسلمين على إنقطاع الوحي بإنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى . ولم يفوض النبي محمد نسخ القرآن لغيره من الصحابة أو الأئمة الذين يتبرأون من هذا القول .
ويمكن إستقراء تلك البراءة من سيرتهم والنصوص الواردة عنهم التي هي بيان للقرآن وتثبيت لآياته واقرار بعظمة الوحي ، ودعوة للعمل بأحكام ومضامين الآيات القرآنية. كما ويمكن إستظهار تنزيه القرآن ، وعدم طرو النسخ عليه من تقديس الأئمة والصحابة لآياته على نحو القطع وعدم الترديد بالحكم فيها.
بحث لغوي أصولي
من اسرار اللغة العربية وما يتفرع عن قواعدها ونظم الصيغ فيها ان الجملة الخبرية قد تفيد الوجوب ولغة الأمر ومع اختلافها في المباني مع الجملة الإنشائية فانها تلتقي معها اذا جاءت على نحو البعث او الزجر تكون حينئذ بحكم العقل حجة أي ان العقل يحكم بلزوم الانصياع مع افادة الوجوب او الندب والإستحباب مع وجود الترخيص، او يحكم بلزوم الترك اذا تضمنت الجملة الأخيرة إنشاء النهي أو الكراهة اذا كان الأمر بالكف عن الفعل لم يكن بصيغة القطع وانه يقتضي ترجيح الترك، وهو من مصاديق قاعدة دفع الضرر المحتمل فكيف اذا كان بالقرائن مقطوعا به، ولو حصل الشك في ورودها هل أنها للإخبار فقط ام للبعث والإنشاء، فالأصل عدم الوجوب والإنشاء.
ومثل هذه المباحث وان كانت جديدة على موضوع النسخ في كتب التفسير الا ان لها اعتباراً وموضوعية في البحث في الناسخ والمنسوخ، فقد تحمل جملة خبرية على البعث ولزوم الإمتثال من غير ترخيص بالترك وان كانت من حيث قواعد اللغة العامة وبعض القرائن لا تفيد ذلك، وكذا قد يحصل العكس لاسيما وان آية النسخ محل البحث مدنية وليست مكية أي جاءت في فترة تثبيت الأحكام الشرعية وفي زمن استقرار الإسلام وتوجه الناس لتلقي الأحكام بغية الإمتثال، بالإضافة إلى عمومات قاعدة قبح العقاب بلا بيان وقاعدة الإشتغال، فلابد من اتضاح حكم الناسخ والمنسوخ ومعرفة المكلفين لمصاديق كل منهما.
ولعل من اعجاز القرآن انك تجد علوم الناسخ والمنسوخ والى الآن في بداية الطريق ولم تستقرأ ما فيها من الكنوز ولم نتوصل الى مفاتيح اسرارها وخزائنها على نحو التعيين ولكنها تلح علينا وتدعونا لننهل من ذخائرها.
وحكي عن الفارابي كفاية الإمكان في اتصاف الموضوع بالعنوان في القضايا الموجهة، وعن الشيخ الرئيس اعتبار العقلية ووجود العنوان في احد الأزمنة الثلاثة فمثلاً كل كاتب متحرك الأصابع ويمكن ان يكون كاتباً وتصدر منه الكتابة في زمان هذا على رأي الفارابي، وعلى مبنى الشيخ فلابد من صدور وحصول الكتابة منه كذا في قوله بامكان النسخ.
************
قوله تعالى [ أَلَمْ تَعْلَــمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّــمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ] الآية 107.
الإعراب واللغة
الهمزة: للإستفهام التقريري،لم: أداة جزم، تعلم: فعل مضارع مجزوم، أن الله: حرف مشبه بالفعل وإسمها، له: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ملك السموات: مبتدأ مؤخر ومضاف اليه، والأرض: عطف على السموات.
وما: الواو عاطفة وقيل إستئنافية، ما: نافية، لكم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، من دون: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ولي , الله: اسم الجلالة مضاف إليه مجرور . من : حرف جر زائد، وولي اسم مجرور لفظاً مرفوع محلاً على أنه مبتدأ مؤخر.
ولا نصير: الواو: حرف عطف، لا: زائدة لتأكيد النفي، نصير: معطوف على ولي وتابع له في الجر.
و(دون) تقصير عن الغاية تكون ظرفاً وبمعنى عند وبمعنى قبل، وغير، وقدّام، وبمعنى خذ نحو دونكها أي خذها.
ومن اسماء الله تعالى (الولي) وهو المدبر لشؤون الخلائق القائم بها والكافي لها، قال سبحانه[وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ]([165])، والولي: الناصر والمعين الذي تجب طاعته.
والولي الذي هو أولى أي أحق، والنصير فعيل بمعنى فاعل وهو المعين بالحفظ والوقاية والإنتقام من الظالم، وقد يرد النصر بعنوان العطاء وهو من مصاديق المعونة.
في سياق الآيات
إبتدأت الآية بتقرير ثان لعظيم قدرة الله عز وجل، وتعرضت الآيات السابقة على نحو تدريجي وترتيبي لبيان حسد وبغض بعضهم للمؤمنين لما أنعم الله عليهم به من فضله المتمثل بالنبوة والقرآن وحسن الهداية والتوفيق، ثم جاء ذكر قاعدة كلية في موضوع النسخ وكأن ذكرها هنا يدل على العموم الإستغراقي لموضوعها.
وجاءت هذه الآية متضمنة لغة الإشتراك في الخطاب، فهو خاص وعام، شطرها الأول خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته إلى الأمة، والشطر الآخر عام للمسلمين ولابد من ملازمة بينهما، والآية تحث على إستقراء وجوه تلك الملازمة والتدبر بمعانيها وما فيها من الدروس والحكمة.
وجاءت الآية واقية من السؤال بالمحال، وما ليس فيه نفع خاص أو عام، ودعوة للتفقه في الدين وسؤال ما ينفع المسلمين في باب العبادات والمعاملات ويكون إرثاً مباركاً لأجيالهم المتعاقبة.
إذ ان إخبار الآية عن ملك الله للسماوات والأرض، وإنعدام الولي والنصير من دونه برزخ دون الإرتداد وأسباب الشك والريب.
لقد أختتمت الآية السابقة بخطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [ألم تعلم] وإبتدأت هذه الآية بذات الخطاب وهو من إعجاز نظم الآيات.
وجاءت خاتمة الآية السابقة بالإخبار عن عظيم قدرة الله، وأنه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة، وجاءت بداية هذه الآية بتوكيد ملكيته المطلقة وأن كل شيء في السماوات والأرض ملك لله عز وجل، ويفيد الجمع بينهما أن الله له القدرة والتصرف المطلق في ملكه.
وأن النسخ في آيات القرآن من بديع صنعه تعالى مما يدل على موضوعية النسخ وما لها من الشأن في عالم الأفعال والجزاء، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]([166]).
وقد يقول قائل بإنحصار تعلق بداية هذه الآية بخاتمة الآية السابقة وتقدير الآية[أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]([167])، وأن النسخ ليس له مدخلية في موضوع إطلاق ملك الله عز وجل.
والجواب من وجوه:
الأول : ترشح موضوع النسخ بين الآيات عن عظيم قدرة الله عز وجل، وهو ظاهر الآية السابقة.
الثاني : بيان قانون كلي مستديم، وهو لا يقدر على نسخ آيات من القرآن إلا الله عز وجل.
الثالث : ثبوت قانون كلي وهو الصلة والتداخل بين معاني الآية القرآنية.
الرابع : إرادة بيان حقيقة وهي أن النسخ بين آيات القرآن من أفراد إعجازه التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
إن تعقب الإخبار بإنقياد وإمتثال كل شيء لقدرة الله لموضوع نسخ القرآن شاهد على سلامة القرآن من التحريف والتغيير بلحاظ كبرى كلية وهي عدم ملائمة التغيير والنسخ من غير الله لآيات الله بجعل المعنى ناقصاً وغير تام.
موضوع الآية
الآية إخبار عن الوحدانية ونفي الشريك وحث للمسلمين على التمسك بمناهج الهداية.
والآية حرب على الكفر والجحود ومضامين الشرك والإلحاد وتدعو الناس إلى التسليم بالربوبية المطلقة له تعالى عن طريق العقل والحواس والتدبر بالآيات الكونية، وتنفي الآية في مفهومها ولاية غيره سبحانه وتحث على الإستعانة به سبحانه واللجوء إليه في حال الشدة والرخاء.
إعجاز الآية
تبين الآية حاجة الممكنات لله تعالى وتثبت ضرورة لجوء المسلمين له وتعذر الإستغناء عن الحاجة إليه سبحانه، كما أنها تساهم في طرد الغرور والجهالة، وفيها وقاية وحرز من التوجه لغير الله، وإضمحلال لإغواء الشيطان وتحد للنفوس الشقية التي أضلها الهوى.
وتتضمن الآية تأديب وإرشاد المسلمين مع بشارتهم بالأمن والسلامة في الدنيا والأخرة باللجوء اليه تعالى وحسن التوكل عليه.
ومن إعجاز الآية أنها جاءت بصيغة الإستفهام في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه يعلم علم اليقين أن ملك السماوات والأرض لله عز وجل، وفيه مسائل:
الأولى: دعوة المسلمين للتفقه في الدين .
الثانية: زيادة إيمان المسلمين، ومنع دبيب الشرك والضلالة إلى النفوس.
الثالثة: بيان حقيقة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبد لله يخاطبه سبحانه من مقام الربوبية، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إتخذني الله عبداً قبل ان يتخذني نبياً)([168]).
الرابعة: في الآية إنذار للكفار والمستهزئين بأحكام النسخ ومنع من الغفلة، عما له من الدلالات والمنافع على المسلمين والناس جميعاً.
ويمكن أن تسمية هذه الآية آية “ألم تعلم” وقد تكرر هذا اللفظ أربع مرات في القرآن وكانت إحداها في هذه الآية، والثانية في الآية السابقة.
الآية سلاح
مع دعوة الحق ونزول القرآن وإستجابة نفر ممن هدى الله عز وجل تحركت قوى الضلالة ومن هدد الإسلام مقامه ولأنهم كانوا خليطاً من مذاهب شتى بما في ذلك المشركون والكفار جاءت هذه الآية ســلاحاً وكمــالاً ونجــاة من الهاويـة لتكون المعــرفة بملكية الله تعالى المطلقة جناحاً للسياحة في عالم الملكوت بهوية الإيمان والتحصيل وفيها إستكمال للنفس ومعرفة تعين على الإخلاص، والآية جزء من منهج مبارك في تحديد ملامح المجتمع الإسلامي ووجوه التفكير السليم في مسائل الكون والنشأة والتكوين.
وفي الآية إقرار بأن كل شيء بيد الله عز وجل وإليه تؤول ملكيته وولايته، وهي درس عقائدي ودعوة للمسلمين في عدم الإلتفات إلى غير الله تعالى في الإستعانة والمهمات، الأمر الذي يعني بالدلالة الإلتزامية التوجه إلى العبادات وأداء الفرائض.
ويفيد الجمع بين أول وآخر الآية وخاتمة الآية السابقة أن المشيئة بيد الله عز وجل، وأن ملكية الله عز وجل تعني الإحاطة والولاية والتدبير.
ويحتمل قوله تعالى [أَلَمْ تَعْلَمْ] في المقصود منه وجوهاً:
الأول : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الظاهر صيغة الخطاب.
الثاني : المقصود الصحابة أيام التنزيل.
الثالث : صحيح أن الخطاب موجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن المقصود هم المسلمون والمسلمات إلى يوم القيامة.
الرابع : المراد توبيخ الكفار والمشركين.
الخامس : في الآية تأديب للمسلمين ومن معاني وتفسير قوله تعالى [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أدبني ربي فا حسن تأدبي)([169]).
السادس : تأكيد إخلاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العبودية لله عز وجل وأنه يعلم با طلاق ملك الله عز وجل وأنه ليس من شئ من الخلائق: إلا وهو ملك لله عز وجل.
السابع : تبعية ومحاكاة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإقرار بملكية الله لكل شئ.
ولا تعارض بين هذه الوجوه: وكلها من مصاديق الآية الكريمة لتكون الآية حرزاً ومادة للإحتجاج في باب النسخ ، وأنه من ملك الله عز وجل من جهات:
الأول : الموضوع الذي يتعلق به النسخ.
الثاني : الحكم المترتب على النسخ.
الثالث : العمل بأ حكام الآية المنسوخة قبل النسخ.
الرابع : إنتقال المسلمين للعمل با لآية الناسخة.
الخامس : سلامة المسلمين من جدال وشبهات الناس في موضوع النسخ، وفي التنزيل[سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا]([170]).
الآية لطف
جاءت هذه الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي لطف به وبالمسلمين والناس جميعاً، ودعوة للناس لمعرفة لغة الخطاب التي يكرم بها الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إذ وردت بصيغة الإستفهام التقريري (ألم تعلم) الجواب نعم إن النبي محمداً والمسلمين يعلمون أن الله له ملك السماوات والأرض لذا تراهم يجتهدون في طاعة الله ويسعون لمرضاته.
وفي الآية حث للمسلمين على التفقه في الدين، وإظهار معاني الإيمان وعدم الخشية من القوم الظالمين.
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في مكة، وهي مولده ومحل سكناه وأهله وعشيرته فآذاه الملأ من قريش وتلقى منهم شتى ضروب الأذى، فهاجر إلى الطائف، ثم إلى يثرب، وهذه الهجرة من الشواهد على علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان الله عز وجل له ملك السماوات والأرض وأنه وليه وناصره والمؤمنين على القوم الكافرين.
مفهوم الآية
بدأت الآية بالخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد المسلمون والناس جميعاً، ودعوتهم للإقرار بالعبودية لله الذي له ملك السماوات والأرض، وحثهم على التسليم بإنعدام الشريك للباري، فجاءت الآية بالإخبار عن ملكية الله المطلقة للسماوات والأرض وفيه شاهد على زوال حكم الظالمين والطواغيت وإنقضاء أيامهم.
وفي الآية دعوة للمسلمين للإنقطاع إلى العبادة ، والتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء والمسألة للنصر والظفر على الكافرين.
لقد جعل الله عز وجل الخلائق محتاجة إليه، لا تستطيع الإستغناء عن رحمته وفضله في وجودها وإستدامتها، وهو من مصاديق الملكية المطلقة لله عز وجل.
وفي الآية مسائل:
الأولى: توجه الخطاب في الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من مصاديق إمامته للناس وإصلاحه لوظائفها.
الثانية: دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للإجتهاد في الجهاد في سبيل الله.
الثالثة: إنقياد الخلائق كلها لله عز وجل وعجزها عن التخلف عن أمر الله، قال تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ]([171]).
الرابعة: بيان إتحاد الخلائق في الملكية لله تعالى، وتجلت معاني هذا الإتحاد بنزول الملائكة لنصرة المسلمين في معركة بدر وأحد، فلم تكن هناك ثمة مسافة بين السماء والأرض تستلزم وقتاً طويلاً لنزول الملائكة ووصولهم إلى المسلمين لنصرتهم في معركة بدر وأحد والخندق وغيرها.
الخامسة: إرشاد المسلمين للجوء إلى الله والإستغاثة به، وقد أنعم الله عز وجل عليهم بتلاوة سورة الفاتحة عدة مرات في اليوم [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ([172]) لتوكيد شهادتهم وإقرارهم بأنه لا ولي لهم إلا الله عز وجل.
السادسة: بيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوتها إلى ولاية الله وعدم الشرك به.
السابعة: تخلف الخلائق عن القدرة عن الولاية والنصرة للمسلمين، ولا يقدر على إعانتهم ونصرتهم الا الله عز وجل.
إفاضات الآية
من خصائص العلم بالشيء إيجاد الشوق إليه إلا مع القرينة على الخلاف، ويبعث العلم بملكية الله عز وجل للسماوات والأرض في نفس الإنسان الشوق لله عز وجل ورحمته وفضله ولقائه في الآخرة.
لقد جاءت الآية الكريمة لبعث الإنسان على الزهد في الدنيا، والإقرار بقانون ثابت وهو انه لا ملك له والخلائق فيها، فليس في السماء ملك مخصوص لملك من الملائكة مع عظيم خلقهم وبديع هيئاتهم وقدرتهم على التصور بصور وهيئات مختلفة، فهم ذاتهم مملوكون لله عز وجل لأنهم جزء من ملك السماوات.
وتدعو الآية إلى الإستعانة بأنوار الجلال، وطرد الشك والريب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو لم يأتِ إلا بالدعوة الى الله وتوكيد ملكيته لكل ما في الأرض والسماء، وحث الناس على الإيمان بالله تعالى ونبذ الشرك والضلالة.
لقد نزلت هذه الآية والشرك يستحوذ على عدد من بقاع الأرض، والمسلمون في حال ضعف وقلة، فجاءت خاتمة الآية دعوة لهم للتوكل على الله تعالى والصبر في طاعته، والسعي لنيل رضاه للفوز بنعمة ورحمة منه تعالى، وهو الذي له ملك السماوات والأرض.
ومما ينفرد به ملك الله عز وجل هو البهاء والحسن الذاتي، والنفع المتصل الدائم، فهو خير محض للذات المخلوق وغيره من الخلائق وأنه لم يأت عن سابق فكرة أو مقال قال تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]([173]).
ومن منافع ملك الله للإنسان أنه آيات للتدبر والإقرار بربوبيته تعالى وإنتفاء الشريك له سواء من جهة خلق الإنسان أو مصاحبة الحاجة له أو وقوفه بين يدي الله للحساب، وهل الإنسان يوم القيامة من عمومات وأفراد الملك الوارد في قوله تعالى[لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]([174])،الجواب نعم.
الصلة بين أول وآخر الآية
ورد قوله تعالى [أَلَمْ تَعْلَمْ] أربع مرات في القرآن، أحداها في هذه الآية، وأخرى في الآية السابقة، وواحدة في سورة المائدة، وواحدة في سورة الحج([175])، وكلها خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمراد المسلمون والناس جميعاً.
فمع أن الآية إبتدأت بصيغة الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانها أختتمت أيضاً بلغة الخطاب وصيغة التنبيه للناس جميعاً[وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ] لينتفع المسلمون منها، ويزدادوا إيماناً وتكون حجة على الكفار.
ومن الآيات أن هذه الخاتمة وما فيها من البيان والحجة لم تأت إلا بعد أن جاء إخبار الآية عن ملك الله تعالى للسموات والأرض، وهذا الملك مطلق يشمل العوالم الطولية المختلفة،فالشريك لله منعدم إبتداء وإستدامة الأمر الذي يملي على الناس الرجوع إلى الله عز وجل وعبادته، وإجتناب معصيته.
وفي الآية بشارة ظهور دولة الإسلام، وغلبة المسلمين فهو سبحانه أراد أن تبقى الأرض محلاً لعبادته وذكره، وتتجلى مصاديق العبادة بالفرائض والسنن التي جاء بها القرآن، وفي الإخبار عن ملك الله تعالى للسموات والأرض دعوة للمسلمين للجهاد والسياحة في الأرض طلباً لمرضاة الله، وحث للناس على الإيمان.
وهل في الآية بشارة نزول الملائكة لنصرة المسلمين في معارك الإسلام الأولى، الجواب نعم إذ نزل أهل السماء لنصرة المؤمنين وهم (أذلة) وضعفاء لدرء شر الكفار من قريش ومن زحف معهم الى المدينة لقتال المسلمين، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ([176]).
ويدل الجمع بين أول وآخر الآية على أن ملكية الله عز وجل للسموات والأرض تعني أن المشيئة فيها خالصة له وحده، لا يشاركه فيها أحد، فلذا ليس للناس من ولي غير الله، ونصرته سبحانه تكون عظيمة وحاسمة.
وجاء نزول ألف ملك لنصرة المسلمين في معركة بدر، مع أن مجموع عدد الكفار هو ألف، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ويكفي مَلك واحد للقضاء عليهم، ولكن الله عز وجل له ملك السماوات والأرض، فأنزل أهل السماوات لنصرة المؤمنين من أهل الأرض، وهو من مصاديق ولايته ونصرته تعالى لهم.
التفسير الذاتي
إبتدأت الآية الكريمة بذات الصيغة التي أختتمت بها الآية السابقة (ألم تعلم) ([177])، مع إتحاد الغاية إذ توجه الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد أعم فيشمل المسلمين والناس جميعاً وهذا العموم من أسرار الخطاب فيها لأنها جاءت لبيان قانون ثابت في الإرادة التكوينية والتشريعية.
وتتضمن الآية قانون بشارة نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه، وظهور دولة الإسلام، وهزيمة الكفر والكفار، وعندما زحفت قريش بخيلها وزهوها، والقبائل التي غررت بها لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنزل الله عز وجل آلافاً من الملائكة مدداً لنصرته والمؤمنين ودحر الكفر والكافرين قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ([178])، وجاءت بداية الآية نوع إحتجاج وبرهان، ليكون النسخ المذكور في الآية السابقة مصداقاً من كل من:
الأول:قدرة الله عز وجل على كل شيء.
الثاني: إنه من ملك الله عز وجل للسموات والأرض، فالله عز وجل ينزل القرآن من السماء إلى الأرض ليكون ضياء ونوراً وإماماً يقود المؤمنين إلى منازل الخلود في الجنة والنعيم الدائم.
الثالث: النسخ إمتحان وإبتلاء إستطاع المسلمون إجتيازه والتوفيق فيه وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ([179])، فلو سأل سائل كيف أن المسلمين خير أمة، الجواب إنهم عملوا بالناسخ حال نزوله وتركوا المنسوخ من غير تردد أو شك.
وذكرت الآية السموات بصيغة الجمع والتعدد، بينما ذكرت الأرض بلغة المفرد والإتحاد مع أنه ورد ما يدل على التعدد في الأرض، قال تعالى[اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ] ([180]) ، وتجمع الأرض على أراض، وأروض، وأرضون وليس في القرآن آية تدل على التعدد في الأرض إلا الآية أعلاه.
وورد فيها لفظ(مثلهن) الذي لم يرد في آية أخرى غيرها، (وقيل بين كل سمائين مسيرة خمسمائة عام، وغلظ كل سماء كذلك والأرض مثل السماوات)([181]).
ولم يرد هذا القول عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكر الزمخشري له بلفظ(قيل) يدل على تضعيفه، وليس عليه من دليل والإكتشافات العلمية تبين الحجم الطبيعي للأرض، ويحتمل ذكرها على نحو التعدد بالتشبيه بالسماوات السبع وجوهاً:
الأول: تعدد الأرضين، وهذه الأرض التي نعيش عليها واحدة منها.
الثاني: إرادة طبقات الأرض.
الثالث: وجود أكثر من أرض في الأزمنة السابقة ربما تعرضت للفناء والزوال.
الرابع: وجود أرضين ولكننا نظنها من الكواكب والأفلاك وسيأتي يوم يكتشف العلم وجود كواكب بذات خصائص الأرض، وإذا تم إكتشاف واحد أو أثنين منها فلا بد من المتابعة والتحقيق الفضائي لإيجاد المصداق الخارجي للفظ القرآني.
والأرجح هو الثاني والرابع.
وهل يحتمل إنتقال شطر من الناس إلى الأرضين الأخرى عند إكتشافها والطمع في إستثمار خيراتها، وصلاحيتها لسكن الإنسان ونفاد شطر من ثروات وكنوز أرضنا هذه الجواب نعم، ليكون من مصاديق آيات القرآن وإن الناس وأن سكنوا في أفلاك أخرى، ولكن تبقى الموضوعية والأهمية المستديمة لأرضنا هذه وسكن الناس فيها، وإنتفاعهم من خيراتها المتجددة.
ومن إعجاز القرآن أن ذكر تعدد الأرض جاء على نحو التمثيل والتشبيه بالسماوات السبع، بينما ورد ذكر الأرض بصيغة المفرد مائتين وثلاثاً وسبعين مرة في القرآن.
ومع أنه لم يرد في القرآن لفظ(ألم تعلم) إلا أربع مرات وكلها خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد جاء إثنان منها في خاتمة للآية السابقة وبداية لهذه الآية وهو من إعجاز نظم الآيات،وشاهد على أمور:
الأول:موضوعية النسخ في الشريعة الإسلامية.
الثاني: لزوم التقيد بأحكام النسخ.
الثالث: بيان منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله.
الرابع:توكيد تفضيل القرآن وإنفراده بعلم النسخ .
الخامس: النسخ آية ودلالة على عظيم قدرة الله في الأحكام ونزول الآيات وتعاقب الناسخ والمنسوخ، وعدم حصول تعارض في الآيات بسبب النسخ، بل أن الناسخ متمم للمنسوخ.
السادس: كل من الناسخ والمنسوخ شاهد على نزول الآخرمن عند الله عز وجل.
وإنتقلت الآية في خاتمتها لخطاب المسلمين، وبين الخطابين عموم وخصوص مطلق، وهل تتعلق خاتمة الآية بموضوع النسخ، الجواب نعم وان كان موضوعها أعم.
لقد جاءت الآيات القرآنية بالإخبار عن ولاية الله عز وجل للمسلمين، قال تعالى[اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]([182])، وجاء النسخ رحمة وضياءً وسبيلاً وعوناً للنجاة في النشأتين.
وورد قوله تعالى[وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ] في القرآن ثلاث مرات وقد يأتي بلغة الوعيد والتهديد([183])، وهو في الآية محل البحث وعد كريم للمسلمين، وإخبار عن كون النسخ رشحة ومصداق من مصاديق ولاية الله عز وجل للمؤمنين في الدنيا والآخرة وكما يأتي الناسخ متعقباً للمنسوخ، جاءت هذه الآية لبيان منافع وموضوعية النسخ وأنه من عند الله الذي له ملك السماوات والأرض.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن بتوجيه الخطاب له.
الثانية: مجيء القرآن بالحقائق الكونية، وأسرار الخليقة، وتوكيده للربوبية المطلقة لله عز وجل، وإقرار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالعبودية لله عز وجل.
الثالثة: إنقياد الخلائق لله عز وجل.
الرابعة: بيان عظيم قدرة وسلطان الله عز وجل.
الخامسة: تشريف المسلمين بأن جعل الله عز وجل ولايتهم ونصرتهم منه سبحانه.
بحث بلاغي
من أهم وجوه البلاغة الإيجاز والإطناب بل أن بعضهم حصر البلاغة فيهما إذ ان وظيفة البليغ الإجمال والإختصار أو الإكتفاء بالإشارة والتلميح في مواضعها، وحيث تجزي أقل الكلمات لإفادة المقصود، وكذلك من واجبه التبيين والتفصيل بألفاظ ومعان أكثر مما يستلزمه المقام.
وبين الإيجاز والإطناب واسطة قد تكون أقرب إلى أحدهما وملاكها التساوي بين اللفظ والمقصود لذا سميت هذه الواسطة بالمساواة، وترى الآيات القرآنية جامعة لهذه الوجوه من الإعجاز في وقت واحد وفيها تكثير للمعنى مع قليل اللفظ وهو المسمى بإيجاز القصر، ولا ينحصر حسنه بمضامين البلاغة بل أنه يحكي آيات الإعجاز.
فكل شطر من آية قرآنية يصلح ان يكون قاعدة كلية ومدرسة كلامية أو فلسفية أو موضوعاً يصلح أن يكون مصداقاً أو مسألة من مسائل أحد العلوم، وقد تكون من مسائل أكثر من علم أو من مسائل هذا العلم ومن مقدمات ذاك، ومبادئ آخر فالكلمة الواحدة فيه تجمع عدة عناوين من غير تعارض أو تداخل بينها، وهو نوع إعجاز ينفرد به القرآن.
ولقد قام بعض العلماء المتقدمين بالتصدي لتفسير بعض الآيات وأظهروا ما فيها من الإعجاز البلاغي، مثل قولــــه تعــالى [وقيل يا ارض ابلعي ماءك ..]([184])، ومع هذا فان المباحث البلاغية متأخرة رتبة وقاصرة عن درك جزء يسير من أسرار بلاغة القرآن وكيفية توظيفها في إستنباط الأحكام، وإستخراج الأدلة وإقامة البراهين.
وفي قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان]([185]) ورد عن ابن مسعود أنه قال: ما في القرآن آية أجمع للخير والشر من هذه الآية، وتابعه على ذلك الحسن البصري([186]).
وكل آية من القرآن لها أسرار بلاغية وإعجازية تشترك بها مع غيرها واخرى تنفرد بها، وذكر بعض الآيات من الصحابة والعلماء بالنعت المتميز الخاص جاء لتوكيد أهميتها، ويجب ان لا يحول دون دراسة وجوه البلاغة والفصاحة والإعجاز في كل آية على حدة.
فهذه الآية تفيد حصر الملك في الدارين وعلى نحو الإطلاق والدوام والعموم الإستغراقي الشامل لكل شيء بالله عز وجل، وجاء الحصر بشطر آية ويتكون من بضع كلمات مباركات وبمفهوم الآية الكريمة، ليكون مدرسة وموعظة للمسلمين وشاهداً دائماً وترجمة لواقع خارجي موجود.
والعلم إعتقاد الشيء على ما هو به، ويقتضي سكون النفس والأثر الحاصل عند العالم بما يكون مطابقاً للموجود في الخارج، لقد أراد الله عز وجل نفاذ ووصول الإيمان إلى النفوس عن بصيرة وإدراك فيعم التصورات مطلقاً والتصديقات اليقينية.
التفسير
قوله تعالى[أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]
السؤال التقريري بالهمزة في هذه الآية صيغة من صيغ الخطاب كما انه إثبات وتوكيد لحقيقة كلامية في علم التوحيد ونوع تحد لأفكار الضلالة وإبطال لها، وفي منطوقه إمضاء تقريري لتثبيت واقعي عقائدي موجود، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يعلمون ان الله عز وجل له ملك السماوات والأرض، لكنه أيضاً إستفهام إنكاري للكفار والجاحدين وتوبيخ لهم.
وقال الطبرسي: فلهذا خاطب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل الآي وإن كانت خطاباً للنبي عليه الصلاة فالمراد به أمته كقوله تعالى [ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلقْتُمْ النِّسَاءَ]([187])([188]).
ونسبته إلى القيل نوع تضعيف له بعد أن جاء القول الأول على نحو الإطلاق مما يدل على ميله للأول، والحق ان الخطاب موجه إلى الأمة بل إلى الناس جميعاً لأن القرآن نزل بلغة إياك اعني واسمعي يا جارة.
والإستشهاد بآية الطلاق [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ]([189]) قياس مع مع الفارق، فصحيح أن الخطاب فيها أيضاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن موضوع الآية متعلق بالجميع، فيستفاد منه خطاب الحكم، ومسؤولية القضاء، وصفة ومقام الولاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فخطابات القرآن لا تنتهي بانتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى بل هي باقية في ملاكاتها في كل زمان وتتعلق بكل مكلف إلا تلك التي تخص صفة إعتبارية زائدة فتنحصر بصاحبها، وعند تلبس المبدأ بالحال وقد يكون معدوماً في القرآن، وفي الآية دلالات:
الأولى : الإخبار عن حقيقة كونية وعقائدية ثابتة.
الثانية : الإطلاق في ملكه تعالى من غير حصر بمكان أو زمان.
الثالثة : تحدي الكافرين والجاحدين.
الرابعة : الآية بشارة للمؤمنين وعزّ لهم.
الخامسة : الآية باب للدعاء والتوجه إلى الله تعالى في السؤال وطلب الحاجة.
السادسة : طرد الخوف من نفوس والذي يهجم عليها بسبب سطوة الكفر ومن يحيط بهم من المشركين الذي يهددون المؤمنين في أرزاقهم وأسباب المعيشة.
السابعة : عز للمؤمنين في عدم اللجوء إلى الناس في تحقيق المطالب والحاجات الدنيوية، إذ ان موضوعها يؤثر سلباً أو إيجاباً فيما يتخذه الإنسان من المواقف أحياناً، والإيمان ليس على درجة واحدة فجاءت هذه الآية لتصرفهم جميعاً عما في أيدي الناس.
الثامنة : في الآية بشارة النصر ووراثة الأرض لأن جهاد المسلمين نوع طرد وإزاحة للمذاهب الباطلة عن وجه الأرض.
التاسعة : هي بشارة الفتح لأن الله عز وجل لابد وان يمكن عباده الصالحين في أرضه وملكه، قال تعالى [ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ ]([190]).
العاشرة : الآية إنذار للمؤمنين وتحذير، وهي توبيخ جهتي فيما يبدو من غيرهم من اللجوء والإستعانة بغير الله.
الحادية عشرة : الملكية في الآية على نحو الإطلاق والدوام والثبوت فليس من شريك أو ند لله تعالى، والعبادة يجب ان تكون خالصة له.
الثانية عشرة : من أسماء الله تعالى الولي وهو القائم بأمور الخلائق والمتصرف بأحوالهم وإليه تدبير شؤونهم، والنصير الناصر وهو المعين، فالآية إخبار عن عظيم مقام الربوبية وثناء على الذات المقدسة ولطف الهي.
الثالثة عشرة : في الآية رد على أولئك الذي قالوا بان الله عز وجل خلق السموات والأرض ثم تركها وشأنها، وهي إخبار الهي بان الملكية التامة للخالق عز وجل ، والأرض وما فيها باقية على ملكه خاضعة لمشيئته.
الرابعة عشرة : تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على حرمة عبادة غير الله عز وجل فما كان مملوكاً لا يستحق العبادة والإنقياد له.
الخامسة عشرة : إخبار عن عدم ملكية الناس للأعيان والأشياء، ولا يعني هذا ان الآية دعوة للتجرد عن الدنيا، ولكنها إخبار عن حقيقة الدنيا، وان زينتها زخرف عرضي زائل.
السادسة عشرة : حدوث السماوات والأرض، وكل حادث محتاج لأن الإحتياج ملازم للإمكان.
السابعة عشرة : المضامين والدلالات في تقديم السماوات وإقتران ملكيته تعالى للأرض معها وما لذلك من شأن وأهمية يدرك العباد من خلالها عظم خلق السموات.
الثامنة عشرة : بيان الآيات الكثيرة العظيمة المتولدة من حركات الأجرام وسير الكواكب وفق نظام بديع يتصف بالدقة والإعجاز، ومن الإعجاز فيه أنك ترى الشمس والقمر مثلاً يبدوان عندما يكونان في كبد السماء أي وسطها أصغر منه في الأفق، ومقتضى القياس الهندسي والبعد المكاني أنه في الأفق أبعد مما يكون في وسط السماء، وهو من بديع الخلق وعظيم قدرة الله عز وجل ليدل على وجود الصانع، ودوام الملكية وليدرك ذلك بالحواس من غير أعمال للفكر لأنه من البديهيات.
لذا ترى الإعرابي حينما سئل عن الدليل قال: البعرة تدل على البعير، والروث على الحمير، وآثار الأقدام على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج أما تدل على الصانع الحليم العليم القدير([191]).
التاسعة عشرة : الآية تقرير وإمضاء لما عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اليقين والإعتقاد الجازم والثابت بملكية الله تعالى المطلقة.
العشرون : الآية وعد كريم للمسلمين في الأمن والسلامة في الدنيا والآخرة وهو من عمومات قوله تعالى [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ].
قوله تعالى [ ومَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ]
بعد تثبيت وتوكيد ملك الله تعالى للسماوات والارض وما فيهن وما بينهن جاءت هذه الآية بلغة الجمع [ ومَا لَكُمْ ] وتحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولغة الجمع تفخيم وإكرام لشأنه صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : المقصود المسلمون في كل زمان ومكان.
الثالث : الخطاب للناس جميعاً فيكون تأديباً للمسلمين وزيادة لإيمانهم، وتوبيخاً للكافرين وزجراً لهم.
وظاهر الخطاب يصلح ان يكون موجهاً للناس وتؤيده أصالة الإطلاق والعموم الإستغراقي وأصالة التكليف المستقرأة من قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]([192])، ولكن وبلحاظ سياق الآيات خصوصاً الآية التالية فإنه موجه للمسلمين، أي ليس للمسلمين ولي أو ناصر ومعين غير الله عز وجل ولا تعارض بينهما.
وفي صيغة الخطاب نوع إكرام وتشريف فهي تدل بالدلالة التضمنية على إستعدادهم للسمع والقبول والإستجابة.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء وإختبار، ويواجه فيها الإنسان أسباب السرور والغبطة، وأسباب الضيق والحزن، فجاءت هذه الآية بشارة للمسلمين، ودعوة لهم للإستعانة بالله عز وجل والتقيد بأداء الفرائض والعبادات كوسيلة للتقرب إلى رحمته، ورجاء نواله، والتوجه إليه سبحانه بالدعاء والمسألة.
وهل في الآية إشارة إلى مايواجه المسلمين من الشدائد والمحن والهجوم من قبل جيوش الكفر الجواب نعم، فالآية تهيئة لأذهان المسلمين لتلك الأحوال وحث لهم للإنقطاع إلى الله والتوكل عليه، قال تعالى [حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ]([193]).
ومن الآيات أن الله عز وجل أعان المسلمين بمدد من السماء، ليكون شاهداً على الصلة والتداخل في ملك الله عز وجل فبعث ملائكة من السماء لنصرتهم يوم بدر وأحد.
وجاء نزول جبرئل المتكرر بالوحي على رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم دليلاً على إتحاد ملك الله عز وجل وإنتقال أهل السماء إلى الأرض، كما جاء الإسراء والمعراج دليلاً على إنتقال النبي في ملكوت السماء بفضل من الله عز وجل، قال تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا]([194]).
بحث كلامي
الآية خطاب للمسلمين بلغة الإخبار والوعيد والحث على الإلتجاء إلى الله والإستعانة به سبحانه، فهي نفي لولاية مطلقة لغير الله من الإنس والجن والملائكة وغيرهم فليس من مدبر لشؤونهم أو معين لهم سوى الله عز وجل، كي لا نطمع فيما عند غيره وكي نجتهد في عبادته وطاعته والسعي لمرضاته.
وهذه الآية دعوة للتوبة النصوح وإرشاد إلى الإخلاص ووثيقة تحث على الجهاد في سبيل الله، فهي نوع هداية للمسلمين في الأمور الدنيويــة والغايات الأخــروية لأنها تفيد حصر الإعانة به تعالى بعد ان بيّن صدرها قدرته المطلقة، وهي دعوة للتوجه والإنقطاع إليه، ومجمــوع الآية يفيد أنه الكـافي لعباده وأن اللجوء إليه تعالى نجاة وفوز.
وتدل الآية على أن الولاية المطلقة لله تعالى وتدل بالدلالة التضمنية على الوعد الكريم للمسلمين , ولا يتعارض معها قوله تعالى[النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ]([195])، ولا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر في خطبة الغدير: “ألست أولى بكم من أنفسكم قالوا: بلى فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه”.. الحديث([196])، لأن ولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشتقت من ولاية الله تعالى المطلقة وهو الخليفة في الأرض وفق ما يشاء الله سبحانه له من مراتب الولاية، بقدر الإذن مما يتناهى شدة وقوة، وكثرة وقلة، وكماً وكيفاً.
أي ان هذا الإطلاق في الولاية لا يمنع من وجود إشتقاق من ولايته المطلقة لمن يشاء من أنبيائه ورسله وملائكته ولا تضر بإطلاق ولايته تعالى، فهي ليست من باب المطلق والمقيد أو العام والخاص بل كالآلة والواسطة والأمر بالأمر بالشيء ونحوه، وهي بمنزلة الظل لبعض الأصل.
والآية كشف لحقيقة العبودية وتأديب في النظر إلى مقام الربوبية بعين الإخلاص ونبذ الشوائب، فمتى ما أدرك المسلم أن لا ولي له إلا الله أحسن السيرة والعمل وإمتلك الواقية العقائدية التي تيسر له تحدي ومواجهة سهام الضلالة، وإبقاء الوسواس والشك وروح التردد مصفدة في الأغلال عاجزة عن التأثير السلبي على إندفاع النفس في مسالك الإيمان.
والآية تجمع في الحجة بين البصر والبصيرة، بالحواس تدرك الشواهد الدالة على الربوبية وملكه تعالى للسماوات والأرض، وبالبصيرة والدلائل والبينات الباهرة يدرك إنعدام الشريك والمؤثر في الكون غيره تعالى لتظهر جلية الملازمة والتداخل بين عالم الصور وعالم المعاني وإشراقات الروح فيسيران متوازيين باتجاه واحد وهو رسوخ الإيمان وسلامة السيرة وحسن الإسلام.
وجاءت النصرة في الآية مقارنة للولاية، فالولاية في باب الإعتقاد والبدء، والنصرة تعني العون والمدد وهي آلة للسداد، أي ان الله عز وجل يغني المسلمين عن الحاجة إلى غيره، فكما ان الآية باب للهداية فهي أيضاً عز وبشــارة وتخفيــف.
إن نفي وجود ناصر للمسلمين غيره سـبحانه نوع إكرام وعز للمسلمين وفضل لا يشاركهم فيه غيرهم وتأييد لنهجهم وسنن الإسلام، قال تعالى [ وَاللَّهُ يؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ]([197]).
بحث كلامي آخر
معرفة ملكية الله تعالى لكل شيء مدخل للإقرار بالرق والعبودية وعدم التطلع والرجاء إلا منه وفيه إقرار بأن الله عز وجل خالق كل شيء، وما من شيء من الموجودات خرج أو يخرج عن ملك الله عز وجل لإفادة الإطلاق الزماني لملكيته المستغرق لأفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل.
ويتصف ملك الله عز وجل بالتجدد والسعة، قال تعالى[وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ] ([198])، والله هو الولي دائماً ويستحيل العدم السابق عليه فواجب الوجود ليس ممن لم يكن ثم كان، وكذا يستحيل عليه العدم اللاحق الذي يعني ان الشيء لا يكون ولا يبقى بعد ما كان، فهو سبحانه القديم الذي لا أول له فيحده ببداية، والأزلي الذي لا أول لوجوده المستمر في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي، والباقي الذي لا آخر له ولا نهاية لوجوده.
وقد ثبت في علم الكلام ان القِدم والأزلية والبقاء والأبدية ملازمة باللزوم القهري الإنطباقي لوجوب الوجود، للذات الإلهية، قال تعالى في الثناء على نفسه[هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]([199]).
وإدراك العبد لهذه الحقائق لطف من الله تعالى وعون على الهداية، ودرس في العز وسلاح يوجه إلى الذين يحاربون الإسلام ويحاولون إفزاع المؤمنين والتشكيك بمعتقداتهم.
بحث فلسفي
يسمى المعنى الموجب للصفة في غيره ويؤثر فيه نفياً أو إثباتاً علة فيأتي المعلول غير متخلف عنه في وجوده، والعلة ما يصدر عنها الشيء او يتوقف عليها والمعلول ما يحتاج إلى الشيء ويصدر عنه، فالعلة لا تكون نفس المعلول لأن المعلول يستتبع العلة ويترشح عن وجودها.
والكون والموجودات لابد لها من علة وموجد ومؤثر في خلقها وإستدامة وجودها وبديع نظامها، وقد تكون العلة فاعلية وهي خارجة عن المعلول الذي لا يسبقها بل يتخلف عنها لأن وجوده بها، وقد تكون العلة غاية لوجود الشيء فبفضله تعالى كان الخلق، والغاية عبادته تعالى.
وفي الحديث القدسي: “كنت كنزاً مخفياً فأردت أن اعرف([200]) ولعل هذا الحديث ضعيف دلالة ومنقطع سنداً ، والله عز وجل أسمى من أن يوصف بأنه كنز, إلا أن يكون للبيان وتقريب المعنى.
وفي رواية أن النبي عليه وآله وسلم أخبر أن داود عليه السلام قال: يا رب لماذا خلقت الخلق قال كنت كنزا مخفيا فاحببت ان اعرف فخلقت الخلق لأعرف)([201])، إنما تفضل الله عز وجل بخلق الخلائق لواسع رحمته وعظيم سلطانه وليفوزوا بالنعم والثواب، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]([202]).
وأخبرت آية البحث عن ملك الله المطلق للسموات والأرض مما يدل بالدلالة التضمنية على إنتفاء الشريك لإستحالة إجتماع المتناقضين، فما كان مملوكاً له لا يكون لغيره , وتعني ملكية الله في المقام الخلق والقدرة والإحاطة والعلم بالملك وتعاهده والحق فيه وسلبه عن الخليفة والتصرف فيه وحفظه وسلامته وإستدامة الرزق إلى الخلائق.
لذا فقوله تعالى[لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]([203])، بشارة وأمن وسكينة للناس جميعاً ودعوة لهم للشكر له سبحانه على ملكيته لهم وللخلائق وعز للمؤمنين لأنهم إختاروا عبادة الله عز وجل[الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ]([204]).
بحث فلسفي آخر
من إعجاز الآية تعدد وجوه العلم فيها وإنطباقه على مصاديق عديدة من غير تعارض بينها، فهو علم إجمالي أي حالة بسيطة إجمالية تتفرع عنها عدة علوم، فالآية مبدأ تفاصيل المركب وما فيه من مضامين العلوم القدسية الكونية والتكوينية الظاهرة منها والخفية، والعلم في هذه الآية مدخل ومقدمة لعلوم كثيرة.
وبلحاظ جهة نيل العلم والحصول عليه قسم العلم إلى قسمين، :
الأول: العلم الإضطراري، وهو الذي يدرك ببداهة العقول يعلمه الإنسان بنفسه وكأنه وظيفة قهرية للعقل.
الثاني: العلم الإستدلالي وهو الذي يدرك بالإكتساب وإتخاذ النظر والتفكر في الدليل طريقاً له، .
وكلا العلمين تشملهما الآية فبالعقل يدرك الإنسان ملكية الله تعالى للموجودات ولا يستطيع دفعه أو الشك في معلومه، لقد جعل الله العقل عند الإنسان طريقاً موصلة قهراً أو طوعاً إلى تحصيل ملكيته تعالى لكل الموجودات ولزوم الإقرار فهذا العلم حاصل فينا، وليس بارادتنا أو بقصد منا.
والقرآن مليء بالأمر بالنظر والتدبر والإعتبار والموعظة، وما فيه حث على الإستدلال، وبالإكتساب والتعلم والإختبار يدرك الإنسان هذه الحقيقة.
فالآية عون للمسلمين بما تحدثه في نفوسهم من الكسب النظري وتجعلهم مباشرين لأسبابه، وتساهم في إيجاد مفاهيم اليقين والإعتقاد الجازم بالربوبية وإطلاق قدرة الله تعالى ليستقر الإيمان في نفوسهم ويبرز على جوارحهم وأفعالهم بحيث لا ينهدم ولا يتخيلون خلافه.
بحث منطقي
اليقين هو الجزم الثابت المطابق للواقع الذي لا يحتمل النقيض في مقابل الظن، وقيدناه بالثابت ليخرج الجهل المركب، وهو الجزم غير المطابق للواقع والظن والتقليد القابل للزوال لأنه كالعرض والمعلول والتابع للغير، ثقة به.
والعلم بأسرار الملكوت وأقطار السماوات والأرض وعظيم سلطان الله تعالى قضية يقينية مطلقة وليست نسبية أو إضافية، وهي تنقسم إلى بديهية، ونظرية كسبية، والثانية أيضا تؤدي إلى الأولى، وقسمت البديهيات إلى أقسام ستة على نحو الإستقراء: وهي الأوليات، والمشاهدات، والتجريبات، والمتواترات، والحدسيات، والفطريات.
ولقد جاء المنطقيون بأمثلة شخصية وخارجية على كل منها ولكننا نستطيع ان نأتي بأمثلة تثبت كيفية توظيف هذه العلوم في تفسير القرآن والدلالة على آياته.
فالأوليات قضايا تمتلك مقومات التصديق بها من غير إستعانة بأسباب خارجة عن ذاتها، والعقل يحكم بها بمجرد تصور طرفيها بعد ان جعل الله عز وجل القدرة فيه على إستحضارهما، فكل ما في الكون آية ومصداق لملكه وعظيم سلطانه تعالى.
أما المشاهدات فهي القضايا التي يتخذ العقل الحس آلة وواسطة للحكم فيها لذا تسمى بالحسيات، ودائرة عملها ما على الأرض والمحسوس من السماء.
فجاءت هذه الآية لتؤكدها وتدعو إلى توظيف الحواس فيها لما في السماوات والأرض من آيات الإبداع والعظمة والإعجاز بل وتوظيف الوجدان والحس الباطن للوصول إلى ما يتعلق به من القضايا المتيقنة.
وفي الخبر عن محمد بن إسحاق قال: (ان عبد الله الديصاني سأل هشام بن الحكم فقال له: ألك رب؟ قال: بلى، قال: اقادر هو؟ قال: نعم قادر قاهر، قال: يقدر ان يدخل الدنيا كلها البيضة، لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ قال هشام: النظرة، قال له: قد انظرتك حولاً.
ثم خرج عنه فركب هشام من الكوفة إلى الصادق uفي المدينة المنورة فقال: يا ابن رسول الله أتاني الديصاني بمسألة ليس المعول فيها إلا على الله ثم عليك.
فقال له عليه السلام: عماذا سألك؟ فقال: كيت وكيت.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا هشام كم حواسك؟ قال: خمس، قال: أيها أصغر؟ قال: الناظر قال: وكم قدر الناظر؟ قال: مثل العدسة أو اقل منها، فقال له: يا هشام فانظر أمامك وفوقك واخبرني بما ترى، فقال: أرى سماءً وأرضا ودوراً وقصوراً وبراري وجبالاً وانهاراً.
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ان الذي قدر ان يدخل الذي تراه في العدسة أو اقل منها قادر ان يدخل الدنيا كلها في البيضة لا يصغر الدنيا ولا تكبر البيضة، فأكب هشام عليه وقبل يديه وقال: حسبي يا ابن رسول الله وإنصرف إلى منزله.
أما المجربات فهي القضايا التي يحكم بها العقل بلحاظ تكرارها، أي ان التكرار مقوم للإعتقاد بها والتأكد من وجودها أو عدمه، فالتجربة والبرهان يؤكدان بان الممكنات كلها ملك لله تعالى، وهي شاهد حاضر ومتجدد يؤكد عدم وجود شريك له.
أما المتواترات فهي القضايا التي يحكم بها العقل بسبب كثرة المخبرين وعدم تواطئهم على الكذب ويحصل الجزم بها ومنها النبوة ونزول القرآن، وكل منها جاء بتوكيد إنحصار الملك بالله تعالى، كما ان تعدد الآيات الكونية الظاهرة والخفية يفيد القطع بعائدية ملكيتها للباري عز وجل، وكل آية تعلن عن إتصافها الذاتي بالإمكان الذي يلازمه قهراً الحدوث والإحتياج.
أما الحدسيات وهي القضايا التي ينتقل فيها الذهن من المبادئ إلى المطالب ومبدأ الحكم فيها حدس قوي في النفس مما يطرد الشك ويحصل معه اليقين بمشاهدة القرائن.
أما الفطريات فهي التي تتضمن في قوامها قياساتها وان كانت وسطاً لها، أي أن العقل لا يحكم فيها إلا بالواسطة ولكن تلك الواسطة لا تعزب عنه عند تصور طرفيها.
فالعقل يحكم بأن الخمسة نصف العشرة لأنها تنقسم إلى قسمين كل منهما خمسة، فالقياس حاضر في الذهن من غير كسب ونظر، كذلك الموجودات والكائنات مما في السماوات والأرض فكونها ملك لله تعالى أمر يدخل في الفطريات إذ أنها لا تستطيع الوجود الذاتي من العدم وليست مؤهلة للبقاء، أي لا تمتلك بذاتها ديمومة البقاء وإستدامة الوجود إلا بقدرة الله تعالى فهو المالك لها.
إن الخوض والتدبر في الممكنات باب للهداية والإيمان بأصول الدين وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق”([205]).
فالإمكان والحدوث مجتمعين أو متفرقين طريق إلى معرفة عظيم سلطان الله تعالى، وتلك المعرفة إبتداءً وإستدامة، وجوداً وأثراً، موضوعاً وحكماً، إعتقاداً وفعلاً عز للمؤمنين وطرد للخوف من نفوسهم، وعقيدة ملازمة تعين على التقوى ونفي الشك والريبة في النبوة.
لقد قدّم الله عز وجل السماوات في الذكر في هذه الآية لعظيم جرمها ولأنها منزل الملائكة ولأن الإنسان يرى فيها الحركات المستديرة ذات النظام الدقيق، ويتطلع إلى ما ينزل منها من المطر وما تبعثه من الرحمة ويخشى ما يصدر عنها من عذاب، وهي آية ثابتة على نحو الدوام تلح على الانسان في كل حين وتدعوه للهداية والرشاد وإظهار الخشوع والخضوع والمسكنة لمقام الربوبية.
***********
قوله تعالى[ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ]الآية 108.
الإعراب واللغة
أم: عاطفة منقطعة بمعنى بل، وأم على نوعين منقطعة، ومتصلة.
والمنقطعة لا تكون إلا بعد كلام، وما بعدها ليس معطوفاً عليه بل هو منقطع عنه ومستأنف، مما يعني أن هذه الآية متصلة في موضوعها ولو على نحو الإجمال ومتعلقة بالآية التي قبلها.
والمتصلة التي لا يستغنى بما قبلها عما بعدها وبالعكس، وهي عاطفة وتسمى أيضاً المعادِلة لأنها تعادل الهمزة في إفادة معنى التسوية.
تريدون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعل، ان وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول لتريدون.
رسولكم: رسول مفعول به لتسألوا، وهو مضاف، والضمير (كم) مضاف إليه.
كما: الكاف حرف جر، وما مصدرية مؤولة وما بعدها مصدراً، سئل: فعل ماض.
موسى: نائب فاعل، من قبل: جار ومجرور متعلق بسئل.
ومن: الواو إستئنافية، مَن: اسم شرط جازم مبتدأ.
يتبدل: فعل الشرط، الكفر: مفعول به منصوب بالفتحة، بالإيمان: جار ومجرور متعلقان بيتبدل.
فقد: الفاء رابطة لجواب الشرط، قد: حرف تحقيق.
سواء السبيل: مفعول به، والجملة في محل جزم جواب الشرط، والسبيل: مضاف إليه.
في سياق الآيات
بعد بيان فلسفة النسخ وإثبات حقيقته وتوكيد عائدية جميع الممكنات لملك الله تعالى وعظيم سلطانه وحث المسلمين على حسن التوكل بنفي الولاية والنصرة عن غيره، جاءت هذه الآية لتحذير المسلمين وتنبيههم ومنعهم من إتباع السنن التي كانت عند الأمم السابقة في سؤال النبي بما لا يليق.
وتدل في مفهومها على الإرشاد إلى السؤال النافع قال تعالى [لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ] ([206]).
وفي إخبار الآية قبل السابقة بحصول النسخ وتبديل الحكم في القرآن مسائل:
الأولى: إنه برزخ دون أسئلة كثيرة من المسلمين وغير المسلمين.
الثانية: إنه مدرسة في التفقه في الدين.
الثالثة: فيها معرفة لعلوم القرآن.
الرابعة: إنه دعوة للتدبر في منافع النسخ وما فيه من النفع العظيم في أمور الدين والدنيا، وأسباب التخفيف عن المسلمين، وسماحة الشريعة وأحكامها.
الخامسة: فيه ترغيب للناس بدخول الإسلام.
ويفيد الجمع بين آية النسخ وهذه الآية تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء بدفاع الله عنه، ودعوة القرآن للمسلمين وغيرهم لإجتناب سؤاله المحال وما ليس فيه ثمرة والإعتبار من الأمم السابقة وسؤالها الأنبياء.
وفي الصلة بين الآية السابقة وهذه الآية مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : أم تريدون أن تسالوا رسولكم أن الله له ملك السموات والأرض.
الثاني : ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل.
الثالث : أم تريدون أن تسألوا رسولكم وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير.
الرابع : وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل.
الثانية : بيان عظيم منزلة النبي ، والدلالة على نصره لأن الله عز وجل الذي له ملك السموات والأرض هو الذي أرسله للناس جميعاً.
الثالثة : بعد أن أكدت الآية السابقة إنتفاء الولاية والنصرة من غير الله جاءت هذه الآية بالزجر عن سؤال المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما فيه إيذاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون آية إعجازية تتجلى بأن الله عز وجل جعل المسلمين أغنياء عن السؤال بالقرآن وآياته وبالوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق مجئ تسميته في الآية بالرسول ونسبته للمسلمين بقوله تعالى (رسولكم).
الرابعة : جاءت الآية السابقة بصيغة الخطاب وهي على شعبتين:
الأولى : توجه الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : الخطاب للمسلمين جميعاً.
أما آية البحث فابتدأت بصيغة الخطاب للمسلمي، ثم تضمنت قاعدة كلية وهي أن الإرتداد وترك الإيمان ضلالة وعمى.
وجاءت الآية التالية بصيغة الخطاب للمسلمين للإخبار عن حال الحسد الذي يأتيهم من بعض الفرق قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]([207]).
ويفيد الجمع بين الآيتين لزوم التخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يأتيه الأذى من المسلمين كما يؤذيه بعضهم بالحسد وتمني إرتداد بعض المسلمين.
وجاءت الآية التالية للإخبار عن رغبة وميل فريق من أهل الكتاب ضلالة المسلمين.
كما يفيد الجمع بين الآيتين تحذير المسلمين من السؤال الذي يكون سببه أو علته الغائية بعث الشك والريب بالنبوة أو التنزيل، وفيه دعوة للتوجه إلى العبادات وذكر الله وإظهار أحسن معاني الإنقياد لأوامر الله ورسوله.
أسباب النزول
الأول : روي عن ابن عباس قال: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرأه ، أو فجر لنا أنهاراً نتبعك ونصدقك ، فأنزل الله في ذلك([208]).
الثاني : عن الحسن أنه عني بذلك مشركي العرب وقد سألوا فقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً، وقال لولا انزل علينا الملائكة أو نرى ربنا([209]).
ونسب هذا القول أيضا إلى ابن عباس ومجاهد، وإنه خطاب لأهل مكة وإن عبد الله بن أمية أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رهط قريش فقال: يا محمد والله لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء بأن تصعد ولن نؤمن لرقيك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتاباً من الله إلى عبد الله بن أمية إن محمداُ رسول الله فاتبعوه.
وقال له بقية الرهط فان لم تستطع ذلك فائتنا بكتاب من عند الله جملة واحدة فيها الحلال والحرام والحدود والفرائض كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله فيها كل ذلك فنؤمن لك عند ذلك، فانزل الله تعالى الآية([210]).
الثالث : قال السدي: سألت العرب رسول الله صلى الله عليه وسلمان يأتيهم بالله فيروه جهرة([211]).
الرابع : سألت قريش محمداً ان يجعل لهم الصفا ذهباً، قال: نعم ولكن يكون لكم كالمائدة لقوم عيسى uفرجعوا) ([212]).
وتلك آية حسية مؤقتة، وربما قال بعضهم عند رؤيتها وبعدها أنه في الأصل كان ذهباً أو أنه تحول تلقائياً إلى الذهب أو شبه لهم ساعة الآية.
الخامس : قال أبو علي الجبائي: روى ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأله قوم أن يجعل لهم ذات انواط كما كان للمشركين ذات انواط وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها التمر وغيره من المأكولات كما سألوا موسى u[ اجعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ] ([213]).
بحث أصولي في أسباب النزول
هل من تزاحم او تعارض بين هذه الأقوال وما هو منشأ هذا التعارض، الجواب: إن القدر المتيقن هو تعدد الأقوال في أسباب النزول مع التقارب والتداخل في موضوعاتها اذ لا يصدق عليها أنها متعارضة وفق المعنى الإصطلاحي وهو إمكان وجود الأمرين ثبوتاً مع إجتماع شرائط كل منهما، كما يبحث في علم الفقه واصوله عند إشتباه الحجة بغيرها، ولا تعدد أو منافاة في الدليل مما يستلزم البحث والفحص.
أما في باب أسباب النزول فالتعدد ممكن فيها وإحتمال وجود أكثر من سبب للآية أمر غير مستبعد، وإذا كان ثمة تناف فلا يحصل بينها لتعدد حيثيات وجهات تأويل الآية، نعم قد تناقش مناسبة السبب لنزول الآية.
والمشهور ان الجمع مع إمكانه أولى من الطرح كما في مباحث علم الأصول، ومنهم من إدعى عليه الإجماع وهو الأولى بلحاظ أن كل خبر في المقام ثروة وتراث علمي للمسلمين.
وظاهر بعض هذه الأسباب إستقرائية من قبل التابعين من غير ان تكون مرفوعة.
والجمع هنا ممكن بعد عدم التعارض بين هذه الأسباب عند الأصوليين ويسمى بالجمع العرفي أو الجمع المقبول أو الدلالتي، وليس الجمع بين هذه الأسباب من الجمع التبرعي والتأويل الكيفي الذي لا يساعد عليه العرف، ولم يرد فيه دليل ولم تنصب عليه قرينة، كما انه لا علاقة له بالتعارض لخروجه عن باب التعارض بالتخصص وليس بالتخصيص، فليس من تعارض إلا على نحو الشبهة البدوية ويزول بالتحقيق بل مع إمكان حدوثه وأنه لا تنافي أو تكذيب بين تلك الأسباب ولكن النقاش في المقدمات وهي إثبات تلك الأسباب وصحتها من حيث السند.
فقد تجتمع عدة أسباب للنزول في آية واحدة، ومع إعتبار أسباب النزول هذه فان الخطاب إستغراقي يتعلق بكل صحابي، ويصلح ان ينطبق على كل مسلم حتى بعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، أي أن الخطاب يحمل عنوان العموم الأزماني والسريان بأفراده الطولية، كما أن ظاهره يشمل البدلية والفردية وتعلقه بكل الأفراد المخاطبين لاسيما أسباب النزول فانها لا تحصر مفهوم الآية في واقعة معينة بل انها مناسبة شريفة للنزول، والبيان والحجة، فلو لم تحدث تلك الوقائع والأسباب هل تنزل الآية؟
الجواب: نعم، ومن الآيات ما لم تكن لها أسباب للنزول، فلا موضوعية لأسباب النزول في حجية الآية الفعلية وإستظهار تعدد وجوه تفسيرها وإستنباط الأحكام منها إلا أن يرد الدليل على التخصيص، ولكنها نوع بيان.
وقد يرد إشكال على بعض أسباب النزول أعلاه، هل يتعلق بظاهر الآية والخطاب الذي فيها للمسلمين بدليل نسبة الرسول اليهم[أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ] وبدليل التشبيه في الآية.
فموسى سئل من قبل بني إسرائيل كما هو مقتضى آيات قرآنية كثيرة، لبيان فضل الله تعالى في إتعاظنا وإعتبارنا بمدرسة القرآن، إنها دروس مستقرأة وأحكام مستنبطة بلحاظ السبب المباشر للنزول أو على نحو الإطلاق.
ثم أن الفعل جاء هنا بصيغة المضارع فهي تنبيه وتحذير من وقوع المسلمين فيما قام به غيرهم من الأمم السالفة من تكرار سؤال المحال على النبي والطلب المستمر للمعجزات.
ويمكن مناقشة بعضها من جهة أخرى وهي تلك التي تنسب السؤال إلى قريش وإلى الكفار، فالآية مدنية وفيها ذكر لما حدث لليهود ومعهم وهم في المدينة.
ومال الفخر الرازي إلى القول (بان المراد في الآية هم اليهود لذكر اليهود في سياق الآية ولأن المؤمن بالرسول لايكاد يسأله فاذا سأله كان متبدلاً كفراً بالإيمان)([214]).
ولكن النهي ورد بخصوص نوع من الأسئلة بدليل إمضاء بعض أسئلة المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن، كما أن السؤال باب للمعرفة، وعن الإمام الصادق عليه السلام: “إنما هلك الناس بترك السؤال”.
ولغة التشبيه في الآية تدل بالدلالة التضمنية على التخصيص كما سيأتي.
تنقيح الأسباب
نطرح هنا باباً من العلم وهو تنقيح علم أسباب النزول ومصاديقه وفق الكتاب والسنة والمباحث النقلية والعقلية والأصولية بما يفيد من وجوه:
الأول: جعل أهمية وموضوعية أكثر لعلم أسباب النزول في علم التفسير والتأويل.
الثاني: التوسعة من دائرة الإنتفاع من علم أسباب النزول.
الثالث: يظهر ما له من ثمرات.
الرابع: يبين الأسرار والمضامين القدسية والدلالات الباهرات الكامنة في ثنايا هذا العلم.
الخامس: مدى حاجة المسلمين له في أيام التنزيل وما بعدها.
السادس: الوظائف المستحدثة لمثل هذا العلم في مباحث وعلوم القرآن.
ويتجلى هذا العلم بأمور:
الأول: إحصاء وجمع أسباب نزول كل آية على حدة مما ذكرت لنزولها أسباب.
الثاني: مناقشة كل سبب سنداً ودلالة وصدوراً وأشخاصاً وزماناً ومكاناً.
الثالث: عرضها منفردة ومتعددة على منطوق الآية وتفسيرها وتأويلها ومفهومها.
ويجب ألا يؤدي هذا التنقيح إلى التفريط ببعض ما ذكر من تلك الأسباب لأنها ثروة علمية، وتراث قرآني، وسعي وجهاد للطبقات الأولى من علماء الإسلام، وشاهد على عناية العلماء بعلوم القرآن والأحوال الخاصة لنزول كل آية، ولإحتمال وجود منافع وأسرار فيها خافية على أهل البحث والتحقيق في هذا الزمان أو زمان مخصوص.
إعجاز الآية
الآية إخبار غيبي عن سيرة كانت عند الأمم السابقة والتحذير منها، ففي الآية برهان عملي على إكتساب المسلمين للمعارف الإلهية بالإتعاظ من تلك الأمم والإعتبار من قصصها وتأريخها، وفيها فائدة كلية تتضمن البيان والتحذير من طرق الهاوية والخسران وإختيار الكفر بعد الإيمان.
وتمنع الآية المسلمين من التشديد على أنفسهم، كما في الرجوع إلى موسى عليه السلام بالسؤال عدة مرات عن أوصاف البقرة المراد ذبحها، وعن لونها وماهيتها ولو أنهم إكتفوا بذبح أي بقرة من غير تعيين وتقييد لأجزأتهم لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً] ([215]) بصيغة التنكير والإجمال ، فالآية محل البحث رحمة بالمسلمين وشاهد على تفضيلهم وهي من عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([216]).
فمن وجوه التفضيل أنهم لم يسألوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم المحال، ولا ما فيه التشديد على أنفسهم، وجاءت آيات القرآن عوناً لهم في إجتناب السؤال المكروه والخالي من النفع لأن القرآن تبيان لكل شيء ففيه غنى وكفاية لهم.
ويتعلق قوله تعالى [ام تريدون]بالهم والعزم على الفعل، وليس في الآية ما يدل على إرادة المسلمين سؤال النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بما يؤذيه، وهو من إعجاز الآية بان تتصدى للأمر القبيح قبل العزم عليه، وتكامل النية في إتيانه.
ومع أن موضوع الآية يتعلق بسؤال النبي أيام حياته وخطاب أهل البيت والصحابة إلا أن معنى الآية واقية لهم في الأزمنة اللاحقة، وتحذير للأجيال المتعاقبة للمسلمين من توجيه اللوم لهم لأنهم لم يسألوا عن المسائل المتجددة والتي هي من اللامتناهي.
وإذ منعت الآية عن السؤال بالمحال ونحوه فإنها تدل على وجود الجواب لكل ما يراد سؤاله في القرآن والسنة، وهو من أسرار إجتماع العلوم في القرآن قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]([217]).
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “أم تريدون” ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
وتتضمن لغة المضارع في الآية التأديب والتحذير والنهي الإرشادي وهو الذي يدل في مفهومه على مدح المسلمين في إجتناب النافلة من السؤال كما أن السنة والتأريخ تؤكد حسن سمتهم.
وإبتدأت الآية بصيغة الفعل المضارع ولغة الجمع ويدل عليهما قوله تعالى [تريدون] وهو خطاب موجه لعموم الصحابة، وفيه تأديب للمسلمين جميعاً في موضوع السؤال وماهيته، فصحيح أن موضوع الآية خاص بالسؤال الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، وقبل إنتقاله إلى الرفيق الأعلى إلا أن الآية تتضمن الزجر المتصل الى يوم القيامة عن السؤال بالمحال، والسؤال الذي فيه شك وريب وضلالة.
ويسعى بعض الكفار والفاسقين إلى النفاذ إلى منتديات المسلمين وخواطرهم بالسؤال بالمحال وأسباب الشك، فجاءت هذه الآية واقية منهم وسلاحاً لفضحهم ومادة لإحتراز المسلمين منهم.
فإذا قال بعضهم إسألوا رسولكم عن كذا وكذا فان المسلمين يرجعون إلى هذه الآية لتمحيص السؤال ومعرفة ما فيه من وجوه الخبث وبث روح الشك وأسباب إشغال المسلمين عن أهدافهم السامية، وغاياتهم الحميدة.
فمن إعجاز الآية القرآنية ان تأتي على وجوه:
الأول : الآية سلاح عام وخاص عند المسلمين.
الثاني : الآية حرز من أمراض الشك وضعف الإيمان، قال تعالى[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]([218]).
الثالث : كل آية قرآنية واقية من النفاق وأهله، وتبين الآية لزوم تعاهد الإيمان والمحافظة عليه لأن فيه النجاة والأمان، وتؤكد الملازمة بين الكفر والخسارة في الدنيا والآخرة.
بحث بلاغي
من وجوه البلاغة الإدماج ويعني تداخل مقاصد المتكلم، ودمج غرض أو أغراض في غرض أو بديع في بديع بحيث لا يكون الظاهر في الكلام إلا أحدهما، وقد يكون المدموج على نحو الإشارة مما يستلزم الامعان في دراسة الآيات القرآنية، فالخطاب في هذه الآية للمسلمين ولكن أدمج فيه توثيق وذم لما قام به بنو إسرائيل، والأذى الذي لاقاه موسى uمنهم لأنه ورد على نحو المثال والفرد المناسب للحجة في المقام.
لقد جاءت الآية بصيغة التشبيه الدال عليها الكاف في(كما سئل موسى) ومن القواعد الكلية في التشبيه معرفة المخاطَب بالمشبه به وجهة الشبه بين المشبه والمشبه به، لأن المحسوسات أقرب إلى الأذهان، ويدل موضوع التشبيه في الآية على تفقه المسلمين في الدين، ومعرفتهم لأحوال الأمم السابقة وإتعاظهم من قصص الأنبياء، قال تعالى[انَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]([219]).
ومن وجوه الإدماج الأخرى في الآية:
الأول: دعوة الناس لدخول الإسلام للتأديب الإلهي للمسلمين، وما فيه من النفع الخاص والعام.
الثاني: تهذيب اللسان، ومنع التعدي .
الثالث: الإنقطاع إلى العبادة، وعدم الإنشغال بالأسئلة التي تأتي عن الشك والريب أو تكون سبباً لهما.
الرابع: تذكير بني إسرائيل بما كان يلاقيه موسى من الأذى بكثرة السؤال.
الخامس : فضل الله عز وجل على بني إسرائيل في سؤال موسى في قصة كشف القاتل وإستجابته لهم بأمر الله بقوله[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً…]([220]).
السادس : توكيد صفة الرسالة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [رَسُولَكُمْ] وفيه إشارة إلى أنه بين ظهرانيهم يتنزل عليه الوحي والتنزيل، ولعل مايريدون السؤال عنه يأتي بعدئذ بقرآن أو سنة هي فرع من الوحي.
السابع: تعاهد الإيمان وأداء الفرائض، وإجتناب مقدمات الكفر والجحود.
مفهوم الآية
الآية تأديب للمسلمين ودعوة لهم لإجتناب كثرة السؤال وطلب المعجزات، وهذه الدعوة في مفهومها حث على إتيان الفرائض وتعلم أحكام الحلال والحرام والتوجه إلى ميادين الجهاد في سبيل الله تعالى والدفاع عن الإسلام فان الإنشغال بكثرة السؤال حاجز دون أداء الواجبات بالإضافة إلى إنتفاء الحاجة إليها لظهور الآيات البينات والدلالات الباهرات، الآية برزخ وحصانة من الإرتداد والضلالة، وغلبة الشك والريب وأضرارها الدنيوية والأخروية.
تدل الآية في مفهومها على أن المسلمين لم يسألوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أسئلة فيها أذى، لأنها تخبر عن العزم والهم وحال النية التي تسبق الفعل لتكون هذه الآية في مفهومها واقية من السؤال غير النافع، وتدل الآية على عظيم مقام النبوة، ولزوم إختيار الكلام والفعل المناسب مع النبي.
لذا جاءت الآية بوصف النبي “رسولكم” لبيان وظيفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه يأتي بالوحي والتنزيل من عند الله، ولزوم إصغاء وإنصات المسلمين له، فلا يختارون السؤال الذي فيه الأذى ومفاهيم الشك والريب، بل إن الله عز وجل أعلم بالمصلحة وسبل المفسدة، فينزل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما فيه نفع المسلمين والناس جميعاَ إلى يوم القيامة.
وتمنع الآية من الإرتداد والنكوص وتبين ما فيه من الضلالة، لتدل خاتمة الآية على لزوم تعاهد منازل الإيمان وعدم مغادرتها، لملازمة الرشاد والفلاح والنجاح الإيمان والهدى.
وفي الآية مسائل:
الأولى: تحذير المسلمين من السؤال الخالي من النفع.
الثانية: دعوة المسلمين الى الإنصات الى آيات القرآن والتدبر في معانيها ودلالاتها، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا]([221]).
الثالثة: توكيد حقيقة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله.
الرابعة: تدل الآية في مفهومها على أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ولا رسول من بعده، وفيه دعوة للناس جميعاً للتصديق بنبوته.
الخامسة: توثيق القرآن لقصص الأنبياء، وما كانوا يلاقونه من الأذى.
السادسة: تنمية ملكة الصبر عند المسلمين، لما في الزجر عن كثرة السؤال من التعليم والدعوة إلى الإنصات والكسب والتطلع إلى الوحي.
السابعة: إنذار أهل الكتاب الذين يصدون عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ تتجلى معاني الإيمان بالتصديق بنبوته.
لقد جاءت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إختباراً للذين إتبعوا الأنبياء السابقين، ومن صيغ التخفيف عنهم ومجئ الكتب السماوية السابقة بالبشارة بنبوته ولزوم تصديقه.
الثامنة: توكيد خسارة الذين يجحدون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد جاءت في هذه الآية كلمات لم تذكر في غيرها من آيات القرآن وهي:
الأولى: أم تريدون.
الثانية: تسألوا رسولكم.
الثالثة: يتبدل.
ومن الآيات أن لفظ رسولكم لم يرد في القرآن إلا مرتين، وجاء الآخر حكاية عن فرعون في قوله تعالى [إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ] ([222])، ويدل بالدلالة التضمنية على إقرار فرعون بأن موسى عليه السلام رسول من عند الله من وجوه:
الأول: نعت موسى عليه السلام بأنه رسول، وقد أخبر موسى بأنه رسول من رب العالمين.
الثاني: إقرار فرعون بان موسى مرسل من عند الله بقوله تعالى [أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ].
الثالث: إختصاص رسالة موسى عليه السلام ببني إسرائيل حجة في لزوم عدم محاربته.
الرابع: إدعاء فرعون ان موسى عليه السلام مجنون، للتنافي بين الرسالة من عند الله والجنون، وهو حجة على فرعون نفسه من جهات:
الأولى: ان موسى عليه السلام جاء بالمعجزات الباهرات ومنها آية العصا بحضرة فرعون وملئه قال تعالى [فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ] ([223]).
الثانية: يؤدي موسى عليه السلام وظيفة الرسالة والتبليغ ونقل الوحي، وآيات التنزيل.
الثالثة: لم يطلب موسى عليه السلام إلا الإيمان بالله عز وجل.
الرابعة: الشواهد والمعجزات التي تدل على ان موسى سيد العقلاء في زمانه وأنه نبي رسول، والأنبياء أصحاب الكمالات العقلية والأخلاقية.
الآية لطف
تتضمن الآية العناية بالمسلمين، وتأديبهم لما فيه خير الدنيا والآخرة، وفي الآية شاهد على تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم وأهل الملل بأن يجتنبوا سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما لا ينفعهم، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([224]).
وتبين الآية موضوعية سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم تنقيحه وجعله سبباً للهداية والرشد، فهو لا ينطق إلا عن الوحي والإخبار الملكوتي من الله عز وجل فلابد أن يكون السؤال وجوابه مدرسة للأجيال المتعاقبة من المسلمين خاصة، والناس عامة، ومن الآيات توثيق السنة النبوية القولية ومنها أجوبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأسئلة التي كانت توجه إليه لتكون مدرسة تقتبس منها المسائل، وتستنبط منها الدروس والعبر.
لذا جاء النهي عن الأسئلة التي كانت تؤذي موسى عليه السلام، ليدل خصوص النهي في مفهومه على جواز السؤال في أحكام الشريعة، وما فيه النفع الخاص والعام، والسؤال عن أصول وفروع الدين.
ومن معاني اللطف في الآية أمور:
الأول: إنتفاع المسلمين من قصص الأمم السابقة.
الثاني: الإتعاظ من سيرتها وسننها.
الثالث: إجتناب أسباب الضلالة والعناد.
الرابع: الدعوة لمعرفة المزيد من قصص الأمم الأخرى.
الخامس: توكيد حقيقة وهي تضمن القرآن لسنن الأمم السابقة وجهاد الأنبياء في سبيل الله.
السادس: تنزه المسلمين عن سؤال المحال.
السابع: لغة الإنذار والتحذير التي أختتمت بها الآية الكريمة والتي جاءت بصيغة الجملة الشرطية التي تفيد التنبيه لعامة الناس، وفيه شاهد على عموم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه مبعوث للناس جميعاً.
إفاضات الآية
من فضل الله عز وجل على المسلمين توجه الخطاب لهم على نحو التعيين، وتحتمل لغة الخطاب في الآية وجوهاً:
الأول: إرادة خصوص المؤمنين.
الثاني: عموم المسلمين، ومنهم المنافقون، وقال الجبائي والأصم بإرادة المسلمين.
الثالث: إرادة الناس جميعاً.
الرابع: خصوص قريش لأنهم سألوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل لهم جبل الصفا ذهباً.
والصحيح هو الثالث فالمقصود في الخطاب المسلمون بالأصالة ويلحق بهم اليهود الذين كانوا في المدينة وأهل الكتاب عامة، وغيرهم من الناس لأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجميع الناس رجالاً ونساءً.
وهذه الآية من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]([225])، فجاءت تأديباً للناس في كيفية التصرف مع مقام النبوة، بالحرص على التهذيب في كيفية خطاب خاتم النبيين وسيد المرسلين.
فمن إفاضات الآية الكريمة إخبارها الناس عن المنزلة الرفيعة التي يتبوأها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وإن لم يسألوا تلك الأسئلة، التي فيها أذى فهل يفوتهم أمر أو أمور، الجواب لا، لأن القرآن جاء جامعاً للأحكام الشرعية، وفيه تبيان كل شيء، ومع إبطاء وتريث الناس في السؤال يأتيهم الجواب بالمنطوق أو المفهوم ليقول الفرد والجماعة منهم: سبحان الله إني أردت أن أسأل بخصوص هذا الموضوع، فجاء الجواب زاجراً ومانعاً من السؤال الذي فيه أذى لأن الآية القرآنية معجزة قائمة.
وفي الآية تذكير لبني إسرائيل على سؤالهم لموسى، وقد ذكر القرآن تلك الأسئلة وهي أعم من أن تأتي بلفظ السؤال، فقد ترد بصيغة الطلب والقول، كما في قصة البقرة وردهم عليه [ُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ] ([226])، مع كفاية ذبحهم لأي بقرة كما تقدم ذكره في باب إعجاز الآية، وقولهم [يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ]([227]).
ويأتي طلب بعضهم من موسى من أسباب الشرك والضلالة مع أنه جاء بتثبيت دعائم التوحيد في الأرض وفي التنزيل [يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ]([228]).
والآية محل البحث مدرسة في الدعوة الى الإيمان، وإذ جاءت الآية قبل السابقة بالنسخ وتوكيده، فان هذه الآية تنسخ الكفر بالإيمان، وتجعل الإيمان ثابتاً في الأرض، وتبين حرمة الرجوع الى الكفر والإرتداد وتنهى عن البقاء على الكفر، فمن وجوه النسخ هداية الناس الى سبل الإيمان، ونبذهم للضلالة والغواية والجحود.
وفي الآية ترغيب للناس بدخول الإسلام ومنع التردد وغلبة الشك في دخوله، إذ ان إجتناب السؤال الخالي من النفع، والإكتفاء بالآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على حسن السمت، ورضا الإنسان بما يأتي من عند الله، وحينما يرى الناس إقبال المسلمين على العبادات وسبل الطاعات، وتنزههم عن السؤال بالمحال، فانهم يتدبرون في أسرار رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدخلون الإسلام ويتبعون نهج المسلمين الأوائل بتلقي التنزيل بالقبول والرضا وتلمس وجوه الإعجاز فيه.
الصفا ذهب
في الآية بيان لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما كان يلاقيه الأنبياء والرسل من قومهم من الأذى وكثرة السؤال، وطلب المعجزات في القضايا الشخصية، وكأن كل فرد وجماعة يعلقون إيمانهم على معجزة هم يختارونها كما في طلبهم أن يجعل جبل الصفا ذهباً.
ومن الإعجاز ان الله أنعم على أهل مكة بجعل جبل الصفا أغلى وأكثر نفعاً من الذهب لأهل مكة والمسلمين، إذ يدخل مكة ويصعد على جبل الصفا الملايين الكثيرة من المسلمين والمسلمات، ليدر عليهم الأموال والمكاسب، وتزدهر التجارات في مكة، ويتنعم مجاوروا البيت الحرام بالخير والرزق الكريم في موسم الحج ومناسكه التي أداها آدم وإبراهيم وموسى وجميع الأنبياء وكذا باقي أيام السنة التي هي وعاء زماني لأداء العمرة.
وتلك آية من آيات الله عز وجل فقد سألوا أن يكون جبل الصفا ذهباً لمرة واحدة، فجعله الله عز وجل نعمة وثروة متجددة كل يوم، وكل موسم من مواسم الحج، وتلك من بركات رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أهل مكة مع أنهم حاربوه وآذوه وأهل بيته والصحابة الأوائل.
ومن إعجاز نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الصفا صار أغلى من الذهب، وهو باب للرزق الكريم المتجدد، وكأنه في كل عام يكون ذهباً، ولو صار في زمن النبوة ذهباً لنهبوه وكان ثمنه قليلاً آنذاك، ولكن الصفا بقى شعيرة من شعائر الله يسعى عليه الملايين من وفد الحاج والمعتمرين كل عام، وهو من مضان الإستجابة إذ يتضرع المؤمنون من عنده إلى الله فينزل الخير والبركة، قال تعالى[إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ] ([229]).
وعندما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً إلى يثرب لحقوه بجيوش كبيرة لا قبل لأهل يثرب بها، لقتله ووأد الإسلام في مهده.
فجاء النصر الإلهي ونزول الملائكة لنصرة المؤمنين لينقطع المسلمون إلى العبادة والشكر لله عز وجل ولا يشغلهم السؤال عما لا يعنيهم وما ليس فيه رضا لله ورسوله، وتتجلى الحاجة إلى الشكر لله بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]([230]).
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية (أَم تُريدونَ أََن تَسئَلوا رَسُولَكُم) في عبد الله بن أبي كعب ورهط من قريش، قالوا: يا محمد اجعل لنا الصفا ذهباً، ووسع لنا أرض مكة، وفجر الأنهار خلالها تفجيراً نؤمن بك)([231]).
لقد سأل أهل مكة آية حسية ونفعاً عاجلاً فجاءهم النفع المستديم والثروة الدائمة، وهو من الشواهد على أن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية.
ومن مصاديق هذه الآية الكريمة مجئ الإستجابة على نحو دائم وبما فيه النفع لأهل مكة بقيد الإسلام والإيمان، فقد حجبت عنهم صيرورة جبل الصفا ذهباً لأمور:
الأول: إقامة قريش آنذاك على الكفر، وحجبهم عن أنفسهم النعم التي تأتي بواسطة المعجزة.
الثاني: الإسلام دين يخاطب العقول.
الثالث: تتصف معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدوام والبقاء.
الرابع: لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين.
الخامس: معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية، فالتدبر بمنافع الصفا مع بقائه على حاله آية وشاهد على صدق نبوته.
ومن الإعجاز ان نعمة صيرورة الصفا ذهباً لا تنحصر بالذهب والدينار والدرهم بل تشمل الأمور العقائدية والإرتقاء في مسالك الإيمان بأن يعلو المؤمن الصفا على مدار الساعة واليوم بالتكبير والتهليل والذكر، وليس من بقعة في الأرض يذكر فيها اسم الله بذات الكثرة والصدق والإخلاص كما في جبل الصفا، ليكون من الرزق الكريم والفضل العظيم على أهل مكة والناس أجمعين.
وهذه النعمة لا تتعلق بسؤال قريش “إجعل لنا الصفا ذهباً” بل هي خير محض، ورحمة من عند الله.
فجاءت هذه الآية للإخبار عن قانون ثابت وهو ان ما أعدّه الله عز وجل للمسلمين في الدنيا والآخرة أكبر وأعظم مما تحيط به أوهامهم ليتوجهوا إلى طاعة الله ورسوله على نحو الموجبة الكلية، وعدم الإصغاء لأهل الضلالة والحسد.
لقد أرادت قريش أن يتحول جبل الصفا ذهباً، ولو كان ذهباً لضاعت أجزاؤه وتبددت منافعه خلال سنوات خصوصاً مع رخص الذهب آنذاك ولجاء من ينكر هذه الآية، ومن ينسبها إلى السحر، ومن يعرض عنها ويسأل آية أخرى مثلها أو أكبر منها، فأنعم الله عليهم وعلى المسلمين بأن جعل الذهب نعمة دائمة وذهباً متجدداً، ولعادوا لسؤال أن يكون جبل المروة ذهباً وهكذا.
بالإضافة الى إستحالة سؤالهم وفق الحكم الشرعي لأن الصفا من الشعائر ويؤدى عليه منسك من مناسك الحج والعمرة، قال تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا]([232]).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بالإستفهام من المسلمين بحرف عطف منقطع بمعنى (بل) الذي يأتي بعد كلام تام في إشارة إلى أحكام النسخ في القرآن ولزوم الأخذ بالناسخ، والإعراض عما يقوله أهل الشك والريب كما في مسألة نسخ القبلة وتحويلهامن بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة، وما أثاره بعض أهل الحسد والعداوة من المدينة من الشك، بسبب عدم رضاهم تغيير القبلة وصرفها عن بيت المقدس[سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا] ([233]).
ومن الآيات أن يأتي التأديب في القرآن عاماً لكل المسلمين وإن كان الهم بالفعل أو صدوره من بعضهم لتوكيد حقيقة وهي أن المسلمين أخوة يأتي سبب نزول الآية في قضية شخصية فيكون صلاحاً وباب هداية لهم جميعاً.
وفي لغة الجمع في الآية نكتة عقائدية أخرى، وهي تعاون المسلمين ونصح بعضهم بعضاً بسؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما هو خير محض، وإجتناب السؤال المذموم بذاته وأثره، ليكون هذا النصح من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يستطيع المسلمون والمسلمات بلوغ هذه المرتبة إلا بتلاوة هذه الاية أو سماعها، والتدبر في معناها ومضامينها القدسية، وقد يخبر الصحابي أمه أو زوجته أو إبنته أو إبنه عن عزمه سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة، فيقومون بنهيه وزجره لتلاوتهم أو سماعهم هذه الآية الكريمة.
وتمنع الآية أجيال التابعين وتابعيهم من توجيه اللوم للصحابة في عدم سؤال المعجز والممتنع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من إعجاز القرآن بأن تكون الآية هداية للأجيال المتعاقبة من المسلمين وإن تباينت مقاماتهم، فوظيفة الصحابي عدم سؤال النبي بما يؤذيه، ووظيفة التابعي إمضاء فعل الصحابي بالتقيد بأحكام هذه الآية، وتكرر الفعل المضارع في الآية مرتين، أحدهما يتعلق بالآخر:
الأول: تريدون.
الثاني: تسئلوا.
وتقدير الجمع بينهما (تريدون سؤال) لتكون من وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول تريدون، لبيان التداخل والترابط بين الفعلين.
وفي نسبة الرسول إلى المسلمين والناس عامة (رسولكم) دعوة لإكرامه ونصرته والذب عنه، والتوجه إلى الله بالشكر على نعمة الرسالة وتلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآيات من عند الله، ومنها هذه الآية التي تجعل المسلمين قادرين على الفصل والتمييز بين السؤال المناسب، والسؤال الذي يجب إجتنابه وعدم توجيهه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتبين الآية ما كان يلاقيه الأنبياء من قومهم، وتدعو المسلمين للإرتقاء في سبل الهداية، وهل في الآية تحذير من الإنصات لأسئلة غير المسلمين التي يراد منها الجدال والخصومة، الجواب نعم، وهو من إعجاز الآية.
ثم إنتقلت الآية إلى بيان قانون ثابت وهو خسارة الذي يختار الكفر على الإيمان متحداً أو متعدداً.
ولا ينحصر الإنذار الوارد في خاتمة هذه الآية بالذي قد يرتد عن الإسلام، بل يشمل الكفار بالأصل، والذين يصرون على الإقامة على الكفر، بإعتبار أن الإسلام هو دين الفطرة.
وأن الكفر والجحود أمر مناف للفطرة وإدراك العقل، لذا جاءت خاتمة الآية بصيغة الجملة الشرطية لتحذير الناس من الكفر والضلالة.
ويفيد الجمع بين أول وآخر الآية التوكيد على قبح الإصرار على سؤال الممتنع ذاتاً، وتعليق الإيمان بالإجابة عليه من الجحود وهو أمر مناف للهداية والإيمان.
التفسير الذاتي
لقد جاءت الآيتان السابقتان في بيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نسخ بعض الآيات، وصيرورة بعض الآيات لاحقاً ناسخة، فمن شرائط النسخ أن يكون الناسخ لاحقاً ومتعقباً للمنسوخ، ومن الإعجاز أن تدل هذه الآيات في مفهومها على تثبيت النسخ، وبيان منافعه، ودعوة المسلمين للإكتفاء بالتنزيل لأن فيه[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ([234]).
وكما جاءت خاتمة الآية السابقة خطاباً للمسلمين فكذا هذه الآية فإنها خطاب للمسلمين، وبصيغة المضارع، وذكر أسباب نزولها تتعلق بأمور وأحوال مخصوصة لا يتعارض مع موضوعية لغة الخطاب فيها، وهل في الآية لوم للمسلمين الجواب لا، لأن التنبيه والتحذير ليس من اللوم والذم، ويدل على إنتفاء اللم في المقام.
وتدل الآية على تفضيل المسلمين، وإنتقالهم من سنن وسيرة الأمم السابقة، وتدعوهم لإكرام مقام النبوة، وهي شاهد على أن المسلمين(خير أمة أخرجت للناس)([235])، وفي الآية مناسبة للإصغاء لما يأتي به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله، وجاءت(أم) في بداية الآية بمعنى ألف الإستفهام كما في قوله تعالى[أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ] ([236]).
وقيل(فقوله أم تريدون تقديره بل أتريدون)([237]) ولكن النوية لا تصل إلى حرف الإضراب(بل) إذ أن أم في المقام أقرب للإستفهام ويمكن أن نطلق عليه إصطلاح الإستفهام التأديبي، ويتضمن في معناه الإرشاد والهداية، وهذه الآية من لطف الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وبرزخ دون الفتنة والإفتنان والإنشغال عن الوظائف العبادية والشرعية.
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً بالشريعة المتكاملة، وأحكام الحلال والحرام الباقية إلى يوم القيامة، فأراد الله عز وجل إزاحة الحواجز التي تمنع من تبليغه رسالته، وتلاوة الآيات التي نزلت عليهم وبما يجعلها باقية ثابتة في الأرض، لذا كان قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]([238])، من آخر آيات القرآن نزولاً.
وجاءت هذه الآية دعوة للمسلمين لإعانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ الأحكام والسنن وتعليم الفرائض والعبادات، والحيلولة دون إشغاله وإشغال أنفسهم بما لا تنفع معرفته، ولا يضر جهله، وإن أرادوا المعجزات الحسية، فإنه موضوع لا تنتهي أفراده، لوجوه:
الأول : كل شخص يريد آية مما يطرأ على ذهنه وتصوره.
الثاني : من الناس من لم يكتف بآية ومعجزة حسية، فما أن يطلب آية ومعجزة حتى يسأل غيرها.
الثالث : منهم من يعود بعد أيام ليسأل آية ودلالة أخرى.
فجاءت الآية لمنع هذا الإلحاح، وغلق باب الإيذاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه تخفيف عن المسلمين والناس جميعاً لأن سؤال الآية يستلزم الإجتهاد في طاعة الله، كما في المائدة ونزولها على قوم عيسى عليه السلام، ترى لماذا لم تقل الآية(الرسول) خصوصاً وأن الألف واللام في الرسول تفيد العهد وينصرف اللفظ لإرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والجواب من وجوه:
الأول: الإشارة إلى أن كثيرة السؤال الموجهة إلى موسى عليه السلام جاءت من قومه ومن آل فرعون.
الثاني: توكيد الصلة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرسل السابقين، وعن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وأجملها وترك فيها موضع هذه اللبنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه، ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة)([239]).
الثالث: دعوة المسلمين لإكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: حث المسلمين على الذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسلامته، ودفع الأعداء عنه.
الخامس: كأن الآية تقول للمسلمين في وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيكم الكفاية والغنى عن السؤال، لما في وجوده من نزول الوحي والتنزيل، وكل مرة ينزل فيها جبرئيل ويتلو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما ينزل عليه من القرآن هو آية وحجة وبرهان.
السادس: إن الله عز وجل بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً لكم، والرسول هو الذي ينقل الرسالة، ويخبر بها المرسل إليه، ومن مصاديق الرسالة المعجزة فما من رسول إلا ويأتي بالمعجزة من عند الله عز وجل، فليتدبروا فيما جاء به.
السابع: إن الله عز وجل هو الذي يبعث النبي والرسول، ويجعل معه ما يكفي لتصديقه من قبل الناس جميعهم على مختلف مشاربهم ومداركهم العقلية.
الثامن: ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية بصفة الرسالة توكيد لنبوته، ودعوة لإتباعه، والإنقياد لما جاء به من عند الله.
التاسع: الآية بيان لحقيقة وهي أن وظيفة الناس ليس سؤال الرسول بالمحالات بل تلقي ما يأتي به من عند الله عز وجل بالإستجابة.
العاشر: فيما يأتي به الرسول من الله عز وجل جواب لكثير من الأسئلة، التي يروم المسلمون توجيهها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ودفع لأسباب التردد والترديد، وواقية من الشك والريب لذا فليس في القرآن ما يدل على إرادة المسلمين من السؤال الإطمئنان، كما في أصحاب عيسى عليه السلام حينما سألوا المائدة[قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا] ([240]).
الحادي عشر: تدل نسبة الرسول إلى المسلمين على أنهم تلقوا رسالته بالتصديق، وأنهم لم يسألوا من مقام الشك وأسباب الريب، بل كانت أسئلتهم للتفقه في الدين وزيادة الإيمان كما يتجلى في مضامين قوله تعالى(يسألونك) والمتكرر في القرآن خمس عشرة مرة.
الثاني عشر: ورد بخصوص سؤال أهل الكتاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى[يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنْ السَّمَاءِ]([241]).
وجاءت الآية لمنع المسلمين من محاكاتهم في موضوع وماهية السؤال للنبي، وما فيه من الأذى والتشديد، وفي الآية دعوة للمسلمين للتفقه في المعارف الإلهية، وأحوال الأنبياء في الأمم السابقة.
ترى لماذا لم تأت الآية بصيغة النهي عن توجيه الأسئلة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإكثار منها، أو بيان وتعيين ماهية السؤال المنهي عنه، والجواب من وجوه:
الأول: جاءت الآية بلغة الجملة الخبرية لأن الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار.
الثاني: إكرام المسلمين بمجيء الآية بصيغة المضارع، وفيه شاهد على رحمة الله عز وجل ومنعهم من مثل هذا السؤال إن كانوا يهمون به.
الثالث: بيان تفضيل المسلمين، لأنهم لم يسألوا طلب المجال والإلحاح في كثرة الآيات وهو من خصائص (خير أمة أخرجت للناس)([242]).
الرابع: جاءت الآية من باب المثال والمصداق لقانون ثابت وهو أن الله عز وجل يمنع المسلمين من الزلل وأسباب الشبهات.
الخامس: فيه جذب لمنازل الإيمان، ودعوة للتفكر والتدبر في الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس: قد لا يلتفت بعض الناس لمضامين الجملة الخبرية وما تدل عليه في مفهومها من النهي فلا يلتفت إلى وظيفته، ومنهم من يأتيه النهي على نحو النص والتعيين الموضوعي فلا ينزجر، ولكن المسلمين يكتفون بالجملة الخبرية في المقام للإتعاظ والإمتثال.
السابع : إرادة التقييد والتعيين في موضوع السؤال المكروه بلغة التشبيه في الآية، والإعتبار من الأمم السابقة.
وجاءت صيغة الزجر عن السؤال مقيدة بقيد متصل ومنفصل، فأما المتصل فهو ما جاء في ذات الآية من لغة التشبيه في السؤال المنهي عنه، وهو سؤال بني إسرائيل لموسى وإلحاحهم عليه، وأما المنفصل فآيات وشواهد عديدة منها:
الأول: أسئلة كفار قريش للنبي محمد، وإرادتهم الجدال والإستهزاء.
الثاني: تحذير المسلمين من إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما فعل قوم موسى بلحاظ لغة التشريع قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا]([243]).
الثالث: ما ورد في ذم الذين سألوا موسى عليه السلام رؤية الله[لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ] ([244])، وفيه شاهد بأن الآية محل البحث واقية للمسلمين من السؤال الذي يتعقبه البلاء والعذاب.
الرابع: ما جاء في السنة النبوية فالحث على إجتناب كثرة السؤال وما فيه التشديد على النفس في العبادات والمعاملات.
ترى لماذا لم تقل الآية(كما سأل الذين من قبلكم موسى) خصوصاً وأن لغة الخطاب فيها موجهة للمسلمين، والجواب جاءت الآية لتأديب المسلمين في كيفية مخاطبة الرسول قال تعالى[لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا] ([245])، وتنقسم هذه الآية إلى قسمين بلحاظ لغة الخطاب، فجاء أول الآية خطاباً للمسلمين، وجاء القسم الثاني منها قاعدة وقانوناً ثابتاً منبسطاً على كل أفراد الزمان الطولية وهو أن الذي يختار الكفر والجحود بدل الإيمان والتصديق بالنبوة يكون في ضلالة وثنية، ويسوق نفسه إلى العذاب الأليم .
وفي خاتمة الآية نوع تحذير من سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المبني على الشك والريب، وهذا التحذير عام يشمل المسلمين وأهل الكتاب والمشركين.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: هداية المسلمين لسبل الرشاد.
الثانية: إرتقاء المسلمين في لغة الخطاب مع مقام النبوة.
الثالثة: منع التعدي في اللفظ مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاءت آيات تأديبية أخرى في هذا الباب تتضمن زجر المسلمين عن رفع أصواتهم على صوت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ]([246]).
الرابعة: جاء القرآن بالإخبار عن كيفية خطاب فريق من أهل الكتاب للنبي ولزوم تنزه المسلمين عن خطاب النبي بما لا يليق بشأنه، وعظيم منزلته إذ تقدم قبل أربع آيات، قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا]([247]).
الخامسة: دعوة المسلمين لتوثيق السنة النبوية ببيان موضوعية السؤال والجواب النبوي.
السادسة: ومن إعجاز القرآن أنه جاء بذكر عدد من أسئلة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرد الإلهي عليها بما يكون كافياً وافياً نافعاً للأجيال المتعاقبة، لبيان فضل الصحابة على عموم أجيال المسلمين من وجوه:
الأول: توجيههم السؤال للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: فوزهم برؤية وسماع كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: نزول القرآن في المواضيع التي سألوا فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: إمتثالهم للأمر الإلهي في هذه الآية، والنهي عن سؤال ما لا يجوز سؤاله، لأن ذكر أسئلتهم في القرآن إمضاء إلهي لها.
الخامس: تلقيهم الجواب القرآني بالقبول والرضا.
السادس: ذكرهم في القرآن بأنهم توجهوا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال والذي يدل بالدلالة التضمنية على تصديقهم بنبوته، ورجاء نزول الجواب من عند الله، سواء كان الجواب قرآنياً، أو وحياً من السنة النبوية.
السابعة: ذم الذين سألوا موسى عليه السلام بما لا يجوز،أو لسؤالهم الممتنع بالذات، وما فيه شائبة الكفر والجحود، وعدم التصديق بنبوته.
الثامنة: عدم جواز الإرتداد، لذا فإجماع علماء الإسلام على حرمة الإرتداد .
سواء كان المرتد فطرياً ولد لأبوين أو أحدهما مسلم، أو ملياً والذي كان كافراً وأسلم، ولا فرق فيه بين الذكر والأنثى لعموم الخطاب القرآني.
وجاءت الآية بصيغة المذكر[وَمَنْ يَتَبَدَّلْ] لتغليب المذكر على المؤنث وإلا فإن الحكم عام للرجال والنساء.
التاسعة: بيان الملازمة بين الكفر والضلالة، فمن يختار الكفر يضل عن الطريق الذي فيه السلامة في الدنيا والآخرة.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ]
نسبة الرسول إلى ضمير المخاطبين يدل على انه موجه للمسلمين فإن تلك الوقائع وان حصلت قد لا تصح اسباباً لنزول الآية، والجمع بينها وبين الآية جمع تبرعي، ويجوز أن المراد من ضمير المخاطبين هو الناس جميعاً وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أُرسل للناس كافة، وهي في محل إنذار وصريحة بالنهي عن التوجه بالسؤال إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ليس مطلق السؤال بل قيد النهي هنا (كما) فيتعلق بما يشبه سؤال بني اسرائيل لموسى عليه السلام، والمقصود بالرسول هنا هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا النهي لا يتعلق بما يقولون أحياناً مما يتضمن الشك والتردد وعدم الإيمان، نعم تلك الأسئلة تكون مقدمة للشك والكفر فلذا ورد النهي عنها وكأنها من باب حرمة المقدمة لحرمة ذيها.
ومن سؤال الناس لموسى ما تعلق بالمحال كما ورد في التنزيل [ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً]([248]) وورد أيضا [ قَالُوا يَامُوسَى اجعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ]([249]).
ان شمول الموضوع للمسلمين على نحو التحذير والتنبيه أمر حسن ونوع إكرام لهم وتزكية وإرتقاء على الأمم الأخرى، لاسيما وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم، وجاء التحذير بعد ان خسرت تلك الأمم منازل التفضيل، فالآية حث على حفظ المسلمين لمقامات الرفعة ووراثة الأرض.
ترى لماذا لم تقل الآية (ياايها الذين آمنوا) خصوصاً وإنها جاءت بذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة (رسولكم) والجواب من وجوه:
الأول: جاء قبل أربع آيات الخطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثاني: بين لغة الخطاب بصيغة الإيمان والخطاب في هذه الآية عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: النهي عن سؤال النبي بالمحال ونحوه.
الثاني: تعلق النهي بضرب من الأسئلة.
الثالث: إنحصار موضوع النهي من جهة السؤال بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما مادة الإفتراق، فهي من وجوه:
الأول: خطاب الذين آمنوا شامل لكل المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة، وهذا الخطاب محصور بالذين في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: الآية أعم فتشمل غير المسلمين كما يدل عليه التعدد الوارد في أسباب النزول، وعلى هذا المعنى يراد من معنى (رسولكم) أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث لجميع الناس قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ([250]).
ويحتمل موضوع الآية بلحاظ لغة الخطاب فيها وجوهاً:
الأول : إرادة الصحابة والقرن الموجود في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : المراد خصوص الذين تقون النبي محمداً ويجلسون معه ويستمعون إلى كلامه.
الثالث : المراد المسلمون جميعاً إلى يوم القيامة.
والصحيح هو الأخير، ولكن مع التباين الرتبي، فالخطاب متوجه للصحابة ومن عاصر أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالذات أما التابعون وتابعوا التابعين فالتبعية والإلحاق بمعنى البحث في ذات السؤال وما يترشح عنه الجدال وأسباب الخصومة وكثرة التردد على العلماء في المسألة الواحدة، وتلك آية في الإطلاق الزماني لموضوعات الآية القرآنية بأن يستحضر منطوقها وتتجلى منافعها ويتجدد موضوعها في كل زمان.
بالإضافة إلى حقيقة وهي معرفة أجيال المسلمين بتلقي الصحابة وأهل البيت مضامين وأحكام الآية القرآنية بالقبول والرضا والإمتثال الحسن.
قاعدة
يمكن تشريع قاعدة جديدة في علوم القرآن وهي إذا جاءت آية وتردد ظاهرها بين التوبيخ أو التقرير والتحذير للمسلمين فيؤخذ بالثاني، لأن القرآن في جملته إكرام للمسلمين وتشريف لهم، نعم من مضامين الإكرام التأديب والتنبيه ولفت الأنظار إلى ضرورة الإتعاظ والإعتبار الذي يدل على عناية ولطف بالمسلمين.
لقد سألوا موسى uأسئلة لإرادة المعجزات الحسية بحسب ما يشتهون وما تدلهم عليه أوهامهم من مواضيع التحدي، وإلا فان المعجزات الحسية كانت موجودة أيضا مثل عصا موسى وهي لم تنحصر بحادثة وواقعة معينة، وإنزال المن والسلوى معجزة حسية متجددة على نحو محدود زماناً ومكاناً قال تعالى في خطاب لبني إسرائيل[وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى]([251])، وهناك من المعجزات ما كان قضية شخصية وعلى نحو القضية في الواقعة مثل قصة البقرة وكيف أن موسى ضرب ببعضها المقتول ليخبر عن قاتله.
فالآية مدرسة في الإعجاز، وان الفضل الإلهي لا يأتي من حيث تختارون بل من حيث يشاء الله ويقضي وهو أعلم بالمصلحة لاسيما وان موضوع المعجزة موجود ومتكرر أي إن الآية لا تنهى عن السؤال مطلقاً ولا تنفي المعجزة والإستجابة، وفي الآية ذم لكثرة السؤال فهي أيضا من ضمن نظم الآيات التي بمجموعها تتعرض للسيرة والسلوك والأخطاء النوعية وقبح الإلحاح.
والذم هنا فرد من القاعدة الكلية التي ذكرها الإمام الصادق uفي القرآن بأنه نزل بلغة إياك أعني وإسمعي يا جارة التي تفيد تعدد وجوه المقاصد والغايات للآية الواحدة وبلحاظ وجوه المنطوق والمفهوم.
فالقرآن ينزل خطاباً والمراد به الأمة، وأصل هذه القاعدة مثل من أمثال العرب، وأول من قال ذلك سهل بن مالك الفزاري إذ انه خرج فمر ببعض أحياء طيء فسأل عن سيد الحي فقيل هو هارثة بن لام الطائي فأم رحله فلم يصبه شاهداً فقالت له أخته أنزل في الرحب والسعة فأكرمته والطفته ثم خرجت من خباء إلى خباء فرآها أجمل أهل زمانها فوقع في نفسه منها شيء فجعل لا يدري كيف يبعث لها برسالة يبين فيها رغبته في خطبتها فاتجه إلى الشعر وعالمه الرحب فجلس بفناء الخباء من حيث تسمعه وأنشد:
يا أخت خير البدو والغضارة | ||
كيف ترين في فتى فزارة | ||
أصبح يهوى حرة معطارة | ||
إياكِ اعني واسمعي يا جارة([252]). | ||
فلما سمعت قوله علمت انه إياها يعني فضرب مثلاً ولعل في شياعه توثيقاً لإكرام العرب للجار والمجير، والسعة في إكرامهم للضيف، وأنه أعم من الزاد إذا كانت مسألة تتعلق بالجار والمضيف فتأتي على نحو الكناية والتعريض مع إنها لم تخرج عن حدود الشريعة والعرف.
وتخرج الآية بعض الأسئلة بالتخصص فهي مقيدة للسؤال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلا فان آيات كثيرة وردت بلفظ يسألونك ومعها الجواب الإلهي.
سألوا عن قيام الساعة [ يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي]([253]) وسألوا عن الروح، وعن بعض الأحكام الشرعية، وعن الخمر، وعن النفقة، وعن الحيض، وعن اليتامى، وكيفية التصــرف معهم، وعن ســير الكواكب وعلـم الهيئة والأفلاك [ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ]([254]).
وعن التأريخ وأحوال الأمم وتقلب الأيام والدول [ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ]([255]) كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجيبهم لم يكن هناك ردع لهم أو نهي صريح أو ضمني عن السؤال.
ثم أن الأسئلة التي وردت في القرآن من باب المثال الأمثل وإلا فان أسئلتهم كثيرة ومتصلة ودائمة ومتعددة الأبواب وجهات الصدور والغايات وتدل على أهمية وإعتبار السنة النبوية الشريفة وما فيها من المعارف والعلوم والأخبار، وقول بعض الصحابة انهم كانوا ينتظرون الأعرابي يأتي فيسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليستفيدوا من سؤاله لا يعني إنعدام السؤال، بل يؤكده، ويدل على الرغبة بالسؤال ذي النفع العام.
وأيضا ورد عن الإمام علي uمبادرته لسؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإخبار النبي له إبتداء من غير سؤال، كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرتقي المنبر ليعظ ويخبر ويجيب.
ومدرسة المنبر النبوي تراث وجهاد وسنة ومنهاج ولا بأس بإعداد دراسات خاصة وتأليف بعض الكتب في المنبر النبوي وعلومه وتأريخه وتعدد موضوعاته وآثاره.
وفي الآية نكتة عقائدية وهي منع المسلمين عما يشغلهم عن جهادهم للكفار، وتعلمهم لأحكام دينهم وآداب الشريعة وما فيها من الفرائض والمندوبات.
انه زمن الرسالة والتنزيل وبداية التشريع، وفترة النبوة هي الوعاء الزماني المحصور الذي يطلع فيه الناس على التشريع إبتداء وتنزيلاً، فلابد ان تكون عندهم أسباب القبول والإستعداد للفهم والعمل وحسن الإستجابة وذلك لا يتم إلا بالإذن الواعية والإصغاء والإنصات وعدم التشتت في أمور جانبية علمها لا ينفع وجهلها لا يضر، فالآية إذن نوع تأديب وطريق محض لتلقي الأحكام، ومناسبة كريمة لنشر لواء التوحيد بعيداً عن الفرقة والخصومة.
ومن الأمور والإشكالات ما يزول ويتلاشى عند التحقيق والتمحيص، أي ان الشبهة فيها بدوية ولكن الإنشغال بالسؤال يجعل تلك الشبهات تبرز إلى السطح والمقدمة لعدم وجود واسطة وفاصلة زمانية بين طروها على البال وإظهارها بالسؤال كمبرز خارجي، أي مع التريث والنظر والتأمل تبدو على حقيقتها من الوهن والضعف ويتجلى الدليل لكشفها وبيانها.
ويحول حسن الإمتثال والإنصياع دون دوام بقائها في الذهن إذ تتبدد تلقائياً كما إن الشيطان يغادر مع وسوسته المؤمن الذي يعمل الصالحات ويجتنب الإنشغال بما فيه التردد والشك والريب.
ولا يعني هذا النهي أن الله تعالى يمنع من السؤال عن الآيات فتعدد قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ] في القرآن وذكر الجواب شاهد على الحث على السؤال الذي يترشح منه النفع العام، كما إن تلك الآيات موجودة على وجوه منها:
الأول : ما يدرك بالحواس وما يحكم به العقل من القضايا بواسطة الحواس الباطنة، والتي تسمى بالوجدانيات، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]([256]).
الثاني : ما رافق التنزيل، والقرآن هو معجزة عقلية دائمة ومناسبة لزمان النزول والمجتمع آنذاك ولكل زمان.
الثالث : ما كان جواباً لسؤالهم، ورداً وتحدياً لظنونهم، فهل تعلق المنع بالمصاديق المتكررة للسؤال، أي إن النهي لم يرد على أصل سؤال المعجزات والمحال ولكن على كثرة السؤال فيها، الجواب نعم، ولكنه أحد مصاديق الآية وفرد من أفرادها.
وفي الآية رحمــة بالمســلمــين، ففي قوله تعالى [ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]([257]).
بيان لنزول العقوبة عند سؤال أمر غير جائز، وبهذه الآية إستدل نفر من المتكلمين على إمتناع الرؤية بدلالة نزول العذاب، فلو كانت الرؤية أمراً جائزاً لما نزل عليهم البلاء، فقد يترتب على السؤال ضرر، والآية تبين لطف الله تعالى بالمسلمين فلا يبقون متحيرين في موضوع سؤال قوم موسى ما هو السؤال، أو انهم يصبحون مترددين في أي سؤال خشية أن يكون من المنهي عنه.
فقد بيّن القرآن نوع سؤال جماعة من بني إسرائيل لموسى الذي تعلق به توجيه اللوم إليهم ليخرج عن موضوع وحكم النهي بالتخصص السؤال الجائز وإلا فإن السؤال له إعتبار وموضوعية في الشريعة، فقد يكون سؤال بيان وتفصيل أو يكون طريقاً للإيمان.
وكثير من الآيات ذات السبب في النزول ترى السؤال هو سبب النزول ومن تلك الأسئلة ما خلد صاحبه بذكر سؤاله في القرآن أو في أحاديث السنة، ومنها ما كان سبباً للثواب بما فتحه من باب إنتفع منه المسلمون أو تفرعت عنه عدة علوم مما يعني إمضاء وتقريراً سماوياً للسؤال وموضوعه.
ففي الزجر عن سؤال مخصوص منفعة ومصلحة متشعبة للمسلمين على نحو العموم المجموعي والعموم الإستغراقي والإفرادي والزماني، ثم ان النهي يستبين مرة أخرى بقاعدة تفسير القرآن بالقرآن فقد ورد ذلك النهي مفصلاً بخصوص المسلمين، وهو قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ]([258]).
وتتضمن الآية في موضوعها جواز النسخ المتقدم لمنع الإشتغال بالبحث عن أسبابه وغاياته وأسراره التفصيلية [ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]([259]).
إن توالي الأحكام الشرعية والفرائض وتعدد النواهي وذلك التغيير العظيم في مجرى الحياة اليومية قد يسبب عند بعضهم توجهاً إلى الأسباب ورجاء التبعيض وإسقاط بعض الفرائض فجاءت هذه الآية منهاجاً وحاجزاً دون التردد الشخصي الذي يضر بالمبادئ والأمة في أجيالها المتعاقبة.
قوله تعالى [ وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ]
ذهب شطر من المفسرين إلى أن المقصود بسواء الطريق هنا وسطه وهو حسن، ولكن الموضوع والمحمول أعم من الوسط إذ أن طرفي الطريق يؤديان إلى الغاية نفسها فسواء هنا تدل على العدل والإستقامة والنهي عن الطريق المغاير، فبين الكفر والإيمان تضاد وتباين في الموضوع والغاية بل والمحمول يمتد ويتسع بإطراد ليتصل بالنتائج، إذ أن الإيمان يقود إلى الجنة، والكفر يدفع صاحبه إلى النار.
وتبين الآية هنا تدخل أسبابهما غالباً في التضاد والتباين، وهي رحمة تشمل أيضا الأصول الفكرية، ومداخل ومقدمات السيرة بما يؤثر سلباً أو إيجابا في تحديد مقام الإنسان في الآخرة أي أن النهي عن مثل تلك الأسئلة إنما هو لصالح المسلمين ومن أجلهم ولمنفعتهم الشخصية والنوعية، وأن الظفر بالجنة ونيل الحسنات لا يُنال إلا باجتناب السؤال في المحال ونحوه ليتدبر العقل كرسول دائم تلك الآيات المحسوسة والمعقولة وهي كثيرة جداً تبدأ من النفس والذات وليتفرغ الذهن لإستقبال الأحكام.
وقوله تعالى [ وَمَنْ يَتَبَدَّلْ ] قاعدة كلية كبرى لا ينحصر موضوعها بصدر الآية فقط.
نعم كثرة السؤال خصوصاً في المحال والتفاصيل والأسباب مما نهي عنه لإحتمال أن يؤدي إلى الضلالة والكفر إذ قد يلحق السائل الزيغ والريب نتيجة سؤاله الشخصي وطلبه المحال ويكون من الذين قال فيهم الله تعالى [ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ]([260]).
وجاءت الآية على نحو الإطلاق فليس كل من يسأل المحال ولم يجد الجواب يصبح كافراً فالسؤال بمفرده ليس كفراً، ولكنه قد يكون مقدمة للكفر وقد لا يكفر صاحبه بل ربما كفر غيره، أو يكفران معاً، او يجعلانه تركة، أي ان هذا الغير قد يكون مصاحباً ومن أهل زمان صاحب السؤال وقد يكون في زمان لاحق له أو متأخر عنه بعقود أو مئات من السنين.
وفي الآية نهي عن إتباع الذين يكثرون من السؤال لإثارة الشك والريب والإنصات لهم والآية التالية تدل عليه ضمناً وتبين فضل المسلمين على غيرهم من الأمم.
بحث فلسفي
النقيضان هما المتقابلان اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان وقد يكون أحدهما وجودياً والآخر عدمياً، وهما على قسمين أحدهما يتعلق بالمفردات كالناطق واللاناطق فانهما لا يصدقان معاً على شيء واحد ولا يكذبان عليه.
والآخر في المركبات وهو عبارة عن إختلاف قضيتين بالإيجاب والسلب، والإيمان والكفر قضية فردية وعامة وليس بينهما من واسطة، لذا ترى التنبيه والوعيد من الشرك الخفي ووجوه الرياء لما فيها من سلب لمضامين الإيمان، فالآية الكريمة دلت على التناقض وعدم الإلتقاء دائماً بين الإيمان والكفر، وحذرت من مغادرة منازل الإيمان.
ومن الإعجاز في أسرار الخلق أن الحياة الدنيا وعالم الأفعال مرآة لما في الآخرة من التناقض بين طرفي الجزاء تاماً فأما الخلود في النعيم الدائم، الذي يناله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأما اللبث في العذاب الأليم الذي ينال الكفار والجاحدين.
ويبعث قوله تعالى [مَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ] النفرة في النفوس من أسباب الضلالة والغواية، والميل عن جادة الحق، وتدعو الآية إلى السعي للنعيم الدائم بإجتناب السؤال بالمحال وضروب الشك والريب، وهذا الإجتناب مناسبة للتدبر في الآيات وأداء الفرائض والعبادات ونزول البركات، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]([261]).
***********
قوله تعالى[وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]الآية 109
الإعراب واللغة
ود: فعل ماض مبني على الفتح، كثير: فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره.
من أهل الكتاب: جار ومجرور صفة لكثير، الكتاب: مضاف اليه.
لو يردونكم: لو مصدرية وهي مؤولة مع ما بعدها بمصدر مفعول ود، يردونكم فعل وفاعل ومفعول به اول، من بعد: جار ومجرور، إيمانكم: إيمان: مضاف اليه، وهو مضاف، والكاف: مضاف اليه وكفاراً: مفعول به ثان لود ويجوز أن يكون حالاً، حسداً: مفعول لأجله منصوب عامله ود.
من عند أنفسهم: الجار والمجرور متعلقان بود أي أن تمنيهم إرتدادكم عن دينكم لم يكن إلا من عند انفسهم وسيأتي بيانه في التفسير.
ما تبين: ما: مصدرية، مؤولة مع الفعل بعدها بمصدر مضاف لبعد، والتقدير: من بعد تبيان، لهم: جار ومجرور متعلقان بتبين، الحق: فاعل مرفوع بالضمة.
فاعفوا: رابطة لجواب شرط مقدر، وقي هي الفصيحة، اعفوا: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو: فاعل، وقيل الاصل فاعفوو حُذفت الواو لإلتقاء الساكنين، واصفحوا: عطف على فاعفوا.
حتى يأتي الله بأمره: حتى حرف غاية، وجر، (ويأتي) فعل مضارع منصوب بان مضمرة بعد حتى، واسم الجلالة فاعل.
بأمره: الجار والمجرور متعلقان بيأتي، والهاء ضمير في محل جر مضاف اليه .
إن الله على كل شيء قدير: إن: حرف مشبه بالفعل للتوكيد، الله: لفظ الجلالة اسم منصوب، على كل: جار ومجرور متعلق بقدير، شيء: مضاف إليه مجرور، قدير: خبر إن مرفوع.
جملة ان الله جاءت على نحو التعليل.
ود تأتي بمعنى المحبة وبمعنى التمني لما فيه من الحب والميل النفسي، والحسد تمني زوال النعمة عن صاحبها وهو مذموم وخلافه الغبطة، وهي ارادة النعمة للنفس مثل التي يراها عند شخص آخر، وتعني في دلالتها الإلتزامية القبول النفسي لما عند الغير من النعمة، أي ان سبب حسنها مركب من إرادة النعمة للنفس وهو مدخل للدعاء والمسألة، وحب منفعة الغير.
والرد صرف الشيء عن وجهه، يقال رده عن وجهه يرده رداً ومرداً وترداداً: صرفه، والعفو التجاوز.
الصفح: الاعراض عن الشيء وأصله الإنحراف عنه، والأمر: الحادثة ويأتي بعنوان النفع، وفي الدعاء ليس لنا من الأمر إلا ما قضيت، وأمره نقيض نهاه.
في سياق الآيات
جاءت هذه الآية لتطلع المسلمين على ما يكمن في نفوس بعض الناس من خصلة الحسد ضمن آيات بينات من الإعجاز قد تقدم بيان بعضها ولا أقول شطر منها إحترازاً وتوقعاً لإستظهار اضعافها من قبل العلماء في المستقبل القريب او البعيد.
وفيها بيان لنوع ووهن الإساءة الموجهة للمسلمين في هذا الباب وهي أيضاً مدخل وتمهيد لما يجب على المسلمين فعله وما يحتل الأولوية في حياتهم وهو العبادة الخالصة لله عز وجل.
وإذ جاء قبل ثلاث آيات الإخبار من الله عز وجل عن حصول النسخ في القرآن جاءت هذه الآية للوقاية من الذين يحاولون إثارة الشك بالتنزيل بسبب موضوع النسخ والتبديل في الحكم، ليكون الجمع بين الآيتين درساً للمسلمين للتفقه في الدين، وسلاحاً للوقاية من أسباب الشك والوهن.
وجاءت الآية السابقة كتحذير للمسلمين من نهج الأمم السابقة في سؤال أنبيائهم الممتنع كما في السؤال لموسى عليه السلام أن يروا الله جهرة وهذا التحذير مركب من ذات السؤال، ومن الذين يسعون في إرتداد المسلمين.
ثم جاءت الآية التالية سلاحاً عملياً وواقية من السعي لنكوص المسلمين، إذ أنها أمرت المسلمين بالصلاة والزكاة، وهما مصداق الإيمان، والحرز العقائدي الذي تدرء به المكائد، وأسباب الحسد والبغضاء.
وتضمنت هذه الآية بالأمر للمسلمين بالعفو والصفح، ويحتمل وجوهاً:
الأول : الصفح عن الحسد وما يترشح عنه من مودة إرتدادهم.
الثاني : العفو عن الناس مطلقاً.
الثالث : العفو عن أهل الكتاب.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، فالعفو أمر ممدوح وفعل حسن وهو دعوة للناس لدخول الإسلام، قال تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]([262])، وجاءت الآية التالية بالأمر للمسلمين بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وتتجلى في الجمع بين الآيتين حقيقة قرآنية وهي أن العفو عن الناس مدخل كريم للإنشغال بالعبادات والتفقه في الدين.
وأختتمت هذه الآية بلغة الإطلاق في قدرة الله، وجاء قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]([263])، خاتمة قبل ثلاث آيات، وجاء في هذه الآية أيضاً.
ويحتمل المعنى وجوها:
الأول : التساوي في المعنى بلحاظ تبعيته للفظ.
الثاني : التباين بحسب مضامين الآية التي جاء هذا القانون خاتمة لها.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه، وإن هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة.
أسباب النزول
في الآية أقوال :
الأول : نزلت الآية في حيي بن أخطب وأخيه وهما من رؤساء يهود المدينة لما دخلا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وسئل حيي أ هو نبي؟ قال: هو هو، فقيل له فما له عندك، أي كيف ستتصرف أزاءه قال العداوة إلى الموت، روي ذلك عن إبن عباس([264]).
الثاني : نزلت في كعب بن الأشرف، عن الزهري.
الثالث : في جماعة من اليهود عن الحسن.
الرابع : روي ان فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: “ألم تروا ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وافضل ونحن أهدى منكم سبيلاً، فقال عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: شديد، قال: فإني قد عاهدت إني لا أكفر بمحمد ما عشت فقالت اليهود أما هذا فقد صبا،
وقال حذيفة وأما أنا فقد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واخبراه فقال: أصبتما خيراً وأفلحتما” فنزلت هذه الآية.
وتلك قضية في واقعة ولغة الخطاب في الآية نزلت بصيغة الجمع والعموم الإستغراقي، أي حتى على القول بان سبب النزول قد يكون خاصاً فان الآية تبقى عامة بالاضافة الى ان سياق هذه الآية أعم من مناسبة السبب الذي ذكر.
ولم يقصدوا بلفظ(إرجعوا إلى ديننا) العودة له فقد ثبت عدم إنتساب عمار وحذيفة إلى دين أهل الكتاب كما ان ايمانهما كان بمكة، وما تحملاه من الأذى في سبيل الله والثبات على الإسلام وطول العهد به وإختيار الهجرة أمور تجعل الكافر لا يطمع بهما وان ردهما عليه يكون أشد بالإضافة الى مناقشة ضعف السند وانقطاعه.
إعجاز الآية
في الآية مسائل:
الأولى : تتضمن الآية البشارة والتقييد بان أهل الكتاب والكفار لن يستطيعوا ان يكرهوكم على ترك منازل الإيمان ، وهذا الود قد لا يتجسد بمبرز خارجي وينحصر بالتمني والرغبة القلبية وقد لا يظهر في السلوك سواء على نحو قوي أو ضعيف.
الثانية : هذا التمني لن يضركم مطلقاً أو مع الإحتراز منه وإبطاله.
الثالثة : بما ان الحسد هو تمني زوال النعمة فأهل الكتاب يعلمون ان الإيمان نعمة لأنها موضوع حسدهم.
الرابعة : هذا الود والرغبة الضارة سجية وحالة موجودة عند بعضهم، أي أنه موضوع ذو إعتبار وأهمية، الأمر الذي يتطلب إلتفاتاً وحيطة من المؤمنين، وبهذا تكون الآية تحذيراً لهم.
الخامسة : الآية وقاء وحرز لما فيها من مضامين التنبيه.
السادسة : في الآية إعجاز بالإخبار عن الحالة النفسية والكيفية التي ينظر بها فر يق من الناس وفي تخوم الأرض للمسلمين فانهم يودون ان يردوهم عن إيمانهم، وان لا يلتزموا بمظاهر وآداب الإسلام فالمرأة ذات الحجاب يدعوها بعضهم لخلعه، والصائم يودون إفطاره وهكذا.
السابعة : في الآية إعجاز بالكشف عن وجه من وجوه حمل لفظ الكثرة على معناه الحقيقي، فهي إخبار عن إنتشار الإسلام وتداخل الأمم والشعوب في هذا الزمان.
الأصل حمل الآية على إطلاقها الزماني والمكاني إلا ان يرد دليل على التخصيص أو الإستثناء فنعمل بالقدر المتيقن منه، وهو مفقود وأسباب النزول ليست منه.
الثامنة : في الآية أيضا تحذير وبيان لخطورة الإرتداد وان الرجوع إلى الكفر فعل قبيح ومخالف لحكم العقل والإرتقاء، إذ أن الرد لغة صرف الشيء عن وجهه ورجعه.
التاسعة : في الآية بشارة عن فشل كفار قريش في سعيهم لإحباط حركة الإيمان ومحاولاتهم منع ورسوخ كلمة التوحيد في الأرض، ويدل ظاهرها على ان الإسلام فضل ونعمة منه تعالى وفي التنزيل [ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ]([265]).
العاشرة : في الآية تحذير من الإرتداد مطلقاً سواء كان بسبب كراهة الغير أو نزغ الشيطان مطلقاً او ما تسول به النفس، قال تعالى[وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]([266]) ويمكن ان تكون هذه الآية وجهاً من وجوه التفسير للركون الوارد في قوله تعالى [ وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ ]([267]).
الحادية عشرة : ان الله عز وجل يريد لنا الإيمان والهداية والصلاح.
الثانية عشرة : ان المشركين والكفار سوف لن يتركوا المؤمنين وشأنهم وارتقائهم في سلم الكمالات العقائدية لأنهم يحبون لهم الإدبار حسداً.
الثالثة عشرة : في الآية دعوة الى تدارك ارتداد الأفراد بل وتحصنهم من ذلك بفهم أسباب تلك الردة ومعرفة مدى تأثير غيرهم عليهم، والردة عن الإسلام الرجوع عنه، يقال ارتد فلان عن دينه إذا كفر بعد إسلامه.
الرابعة عشرة : تشير الآية إلى خطر خارجي ليس بذي تأثير كبير وحالة تواجه المؤمنين مما يدل على ان الله عز وجل يتعاهد المؤمنين ويمدهم ويقيهم ويبصّرهم.
الخامسة عشرة : تتعلق الآية بكيفية التعامل مع الآخرين، والصيغ المناسبة ونوع الصلة معهم.
السادسة عشرة : اذا كان أهل الكتاب هكذا يودون، إذن فما هو حال وفعل المشركين الذين يتصفون بالبغض والعداوة للإيمان والمؤمنين، أي ان الآية في مفهومها توصي بالحذر الشديد والمركب من غير أهل الكتاب من كفار قريش ونحوهم.
السابعة عشرة : الآية أرشاد إلى كيفية إقامة الحجة، وطريق البرهان والجدل معهم، قال تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]([268]).
الثامنة عشرة : معرفة علل أنماط سلوكهم وتصرفهم أزاء المسلمين لإحتمال ان هذا الحسد يبرز في أعمالهم.
التاسعة عشرة : الآية مناسبة لمنع خروج هذا الود على واجهة الأفعال، أي انها نوع تدارك لأن إظهار الشيء تنبيه عليه وعلة للحذر منه او سبب في منعه، وفيه نفع للمسلمين ولهم أيضاً بمنع تماديهم في إيذاء الإسلام والمؤمنين.
العشرون : لغة الجمع في خطاب المؤمنين، وتعيين مسألة ود أهل الكتاب يدل على عظم الأمر وخطورته وإنتشاره ووجوب إيجاد السبل العامة والثابتة والدائمة لمعالجته.
الحادية والعشرون : إستعراض بعض الشواهد التي تؤكد هذا الود وصدق الآية القرآنية سواء كان ذلك باستحضارها عند نزول الآية لاسيما وان الفعل(ودّ) جاء بصيغة الماضي او بدراستها فيما بعد ومن تلك الشواهد عداوة كفار قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع إقرار بعضهم بإنه نبي.
الثانية والعشرون : بالإضافة إلى الإحتراز تدعو الآية إلى معالجة اسباب هذا الود ودوافعه وما فيه من أضرار، وتبيّن علته مما كمن في بواطن النفوس من الحسد فالآية تدلنا على وجوه الإبتلاء وعللها.
الثالثة والعشرون : الآية قاعدة كلية ومبنى يعتمده المسلمون في حياتهم.
الرابعة والعشرون : تبين الآية رسوخ الإيمان كحقيقة في العقائد وان الإسلام أصبح كياناً قوياً، وقف أزاءه الآخرون موقفاً عاجزاً، وفي اللجوء الى الحسد وهن وارتباك إذ أنه سلاح العاجز، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]([269]).
الخامسة والعشرون : الآية تحذير للمسلمين من آفة الحسد، وفي السنة نصوص كثيرة في ذمه.
السادسة والعشرون : الآية ذم لخصلة الحسد، وهو قبيح وتنفر الناس وتنقبض نفوسهم منه.
السابعة والعشرون : لغة الجمع تدل على أن الحسد مذموم وليس من عقيدتهم.
الثامنة والعشرون : قد يكون الحسد مقدمة للنزاع من غير ان يحتاج إلى مفاعلة وتداخل في الأسباب من قبل الطرفين، فهو كالإيقاع يحصل من جهة واحدة فلذا حذرت الآية منه وهي دعوة للتهيئ للقتال، ودفع شروره.
وفي الآية إعجاز من وجوه:
الأول: كشف ما في صدور فريق من الناس أزاء المسلمين.
الثاني: إخبارالمسلمين بما يضمره الآخرون لهم من العداوة والبغضاء.
الثالث: تدل الآية أن المدار في الحب والبغض أصبح بعد البعثة النبوية على الإيمان أو عدمه، فالمؤمن أخو المؤمن، ويريد بعضهم للمؤمنين التخلف عن أداء وظائفهم العبادية.
الرابع: تعيين الآية للذين يرجون الخير للمسلمين على وجهين:
الأول: إنهم من أهل الكتاب والملل السابقة.
الثاني: هم الأكثر من أهل الكتاب.
وورد لفظ أكثر في القرآن ثلاثاً وثلاثين مرة، منها تسع عشرة مرة بلفظ (أكثر الناس) ولكن لم يرد لفظ (أكثر أهل الكتاب) إلا في هذه الآية والأصل أن يكون الأكثر منهم عوناً للمؤمنين في إيمانهم لتتضمن التوراة والإنجيل البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الآية تحذير من الجهالة قال تعالى[أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]([270])، وتمني الضرر والإرتداد للمسلمين إبتعاد عن العلم فجاءت الآية رحمة بالمسلمين وأهل الكتاب، قال تعالى[وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى]([271]).
الثلاثون : جاءت الآية بصيغة حرف الإمنتاع(لو) بقوله تعالى[لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا] وفيه شاهد على تعاهد المسلمين لطاعة الله والرسول .
وفي الآية دعوة للمسلمين للثبات على الإيمان وهذا الثبات فعل قائم بذاته وهو رشحة من رشحات الحذر والحيطة ممن يود زلزلة إيمانهم، وبعث الشك في نفوسهم، ومن مقدمات الثبات على الإيمان في المقام العلم بالنوايا القلبية لأعدائهم.
وهل تفيد الآية زجر الآخرين عن تمني إرتداد المسلمين الجواب نعم، ولا ينحصر موضوع الآية بزمان النزول نهي متجددة.
والآية حرب على آفة الحسد، وحث على نبذه والتخلص منه، وبيان حقيقة وهي أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تهذيب للأخلاق، وحرب على العادات والأخلاق المذمومة لتكون الآية من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]([272])، والآية دعوة لترك الحسد على الإيمان بلحاظ كبرى كلية وهي أن محاربة الإيمان تضر بأصحابها وتجعل نفوسهم في ضيق وحسرة، وهل يدخل الود بإرتداد المسلمين بمراتب الشرك كما في قول لقمان كما ورد في التنزيل[يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]([273]).
الجواب لا، والقدر المتيقن من آية البحث أن هذا الود وإرادة المكروه إنما هو من أسباب الحسد وغلبة الكدورة على النفس، وفيه إصلاح للتفوس، ودعوة للناس جميعاً لعدم الحسد على الإيمان خصوصاً وأن إيمان المسلمين باب لإستدامة الحياة وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]([274])، بتقريب أن مفهوم الآية ضرورة وجود أمة نعبد الله، وتكون علة ومادة لدوام الحياة الدنيا.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “ود كثير” لوجهين:
الأول: لم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
الثاني: ورد هذا اللفظ في بداية الآية.
وليس في الآية محل البحث ارتداد، بل هي تحذير وتنبيه وطرد للإرتداد وإحتراز من مقدماته وأسبابه.
وبالإضافة إلى ما قلناه من قاعدة كلية وهي ان الإعجاز موجود في كل آية وليس فقط على نحو صرف الوجود فقط بل التعدد، فان في كل آية تأديباً للمسلمين والناس وبهذا القول نفتتح مدرسة جديدة في عالم التفسير تكون مدخلاً وموضوعاً لدراسات مستحدثة في علوم القرآن واعجازه وأسرار ومضامين التأديب في الآية القرآنية، ومن اعجازها نسبة الحسد الى أشخاص دون مللهم.
الآية سلاح
ستبقى هذه الآية مدرسة ومنهجاً في مواجهة الحسد والكيد وهي إخبار عن سلوك ضار وقبيح، وفيها أيضاً بشارة سيادة الإسلام وعز المسلمين وأن الحسد ونحوه من صيغ المكر لن يضرهم، وفيها بيان لمعرفة سيرة هؤلاء وما في سرائرهم من كيد وغيلة، وفيها تنبيه مما يترجل إلى الخارج من أسباب الحسد وكيفية إحتراز وتصدي المسلمين له، كما تتضمن بشارة الفتح.
ومن إعجاز القرآن ذكره لقصص الأمم السابقة بما يكون عبرة وموعظة للمسلمين، وجاءت هذه الآية لبيان حال العداوة التي يضمرها فريق من أهل الكتاب للمسلمين، والأصل أنهم أقرب الناس للمسلمين للإلتقاء في الإنتساب للتنزيل، ولكن المسلمين يتصفون بالتقيد بالأحكام التي جاءت في القرآن والحرص على سلامته من التحريف.
لقد أنار الأرض ببعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضياء الإيمان، وملأ ما بين الخافقين، وأدرك الناس أن الإسلام دين الفطرة وسبيل النجاة، فخشى أهل الجاه والشأن من كفار قريش على مقاماتهم، وبذلوا الوسع في محاربة الإسلام وإنكار البشارات بنبوته والتي تضمنتها الكتب السماوية السابقة لصد الناس عن دخول الإسلام،ومحاولة إرتداد المسلمين، وإضعاف هممهم، وبعث الشك في نفوسهم، ليكون مقدمة لإنهزامهم أمام جيوش المشركين.
إذ أن الإرتداد الذي يطلبون وتذكره هذه الآية لا ينحصر بذات الإرتداد بل يشمل أسبابه ومقدماته، والسعي إليه بالوسائط وبطريقة غير مباشرة، وأن يجدوا المسلمين في حال من الشك والريب وضعف الإيمان، فلذا جاءت الآيات بلزوم تحلي المسلمين بالإيمان وصيغ التقوى لتكون واقية من كيدهم، وحرزاً من الإرتداد ومقدماته.
وكأن الآية تقول للمسلمين إحذروا إعانة بعض الناس للكفار للإجهاز عليكم كما حصلت بعض الشواهد أن ذهب نفر لتحريض قريش على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وندب قتلاهم في معركة بدر، فجاء المدد والعون في معركة أحد في قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ] ([275]).
ومن المصاديق والشواهد التي تدل على أن هذه الآية عون للمسلمين ما تتضمنه من الإخبار وقيام الحجة على الناس بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الإسلام هو دين الفطرة، والشريعة الباقية إلى يوم القيامة، لتكون هذه الحقيقة سلاحاً بيد المسلمين وحجة على الكافرين والفاسقين.
الآية لطف
تدل لغة الخطاب في الآية الكريمة على اللطف الإلهي بالمسلمين، وأنه سبحانه يتعاهد الإسلام وينصر المؤمنين، ومن وجوه النصرة إخبارهم بأسباب البغض والعداوة التي يضمرها لهم غيرهم من الناس، فقد يركن المسلمون إلى أهل الكتاب للجامع المشترك بينهم وهو الكتاب المنزل.
فجاءت هذه الآية لبيان حال فريق منهم، وما يسعون اليه من الضلالة وإشاعة الفحشاء والفساد في الأرض، وهذه الآية لطف بالناس جميعاً وليس المسلمين وحدهم، لأن المنع من إرتداد المسلمين باب لهداية الناس، لإستدامة الحياة على الأرض بتقريب أن العبادة علة خلق الإنسان، وهي لاتصح إلا بالإسلام ولا تتقوم إلا بالإيمان، والآية وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن الإنشاء من وجوه:
الأول: تحذير المسلمين من أهل الحسد والعداوة.
الثاني: لزوم تعاهد المسلمين لسنن الإيمان.
الثالث: دعوة أهل الكتاب إلى إجتناب حسد وبغض المسلمين.
الرابع: إنذار الذين يضمرون العداوة للمسلمين.
ومن إعجاز القرآن مجئ الآيات بالتحذير من أهل الحسد، ولزوم إجتناب إتخاذهم بطانة كما في قوله تعالى [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ([276])، والدعوة إلى عدم الركون اليهم أو إتخاذهم أولياء في آيات عديدة من القرآن، وحث المسلمين على الصبر والتقوى كسلاح لدفع أذا هم وشرهم قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]([277]).
مفهوم الآية
كشف الحقائق للمسلمين بواسطة التنزيل يعطيهم قوة ومنعة لم يحصل عليها غيرهم، وهو مقدمة ومادة للنصر والفوز والغلبة على الأعداء لإنفرادهم بهذا السلاح الذي له منافع عسكرية وعقائدية واجتماعية واخلاقية تقتضي مصلحة الإسلام والوظيفة العلمية دراستها بوجوهها المختلفة من أهل الإختصاص.
وفي الآية إنذار ومنع وبشارة، انذار لكفار قريش وغيرهم لإجتنــاب إيذاء المسلمين وإكراههم على الإرتداد ومنع من ظهور هذا الود على الجوارح والأفعال والتحريض على الإرتداد وإستغلال حداثة عهد المسلمين بالدين الجديد.
وبما ان معنى الحسد تمني زوال نعمة الغير فان الآية تدل في مفهومها على إقرار الناس بنعمة الإسلام وانهم يحسدون المسلم على حسن إختياره.
والآية حجة عليهم لأنها تخبر عن ظهور الآيات والبراهين ومعرفة صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي ان الحسد لم يكن عن جهل او غفلة.
وتتجلى في الآية مدرسة الصبر في الإسلام وهو علم الأخلاق الصغير مع التقيد بالأحكام الشرعية فمحبة الشر وحده لا تستحق العقوبة او الحد وان كانت قبيحة وموضوعها بغض الحق والإيمان.
لذا جاءت الآية بالدعوة السماوية الى العفو والصفح وعدم المؤاخذة على هذا الود البغيض، ومن مفاهيم الآية انها تمنع تمادي أهل الحسد في غيهم وتعديهم على الاسلام وبذل الوسع لاكراه المسلمين على ترك الاسلام ويتحصل هذا المنع من وجهين:
الأول: ما يسببه فضح القرآن للحسد من انحساره وعدم بروزه على السلوك.
الثاني: حذر المسلمين ورصدهم للأفعال التي تتولد عن الحسد ودفع آثارها.
وفي خاتمة الآية مواساة للمسلمين ودعوة لتلقي الإبتلاء بالثبات على الايمان، وأن الله تعالى جعل الدنيا دار إمتحان ليفوز المسلمون في الآخرة بالنعيم الدائم الذي لا يضر معه الحسد او المكر.
وبما أن الاسلام خير محض وإصلاح للمجتمعات وتهذيب للنفوس فإن الحاسدين يضرون أنفسهم وأهليهم، ويسعون إلى طغيان النفس البهيمية من حيث لا يعلمون.
وفي الآية مسائل:
الأولى: بيان ما يضمره بعضهم من الحسد والبغضاء للمسلمين.
الثانية: الإخبار عن ماهية حسدهم للمسلمين بالرغبة في إرتداد المسلمين عن الإسلام.
الثالثة: كثرة الأعداء والأخطار التي تحيط بالمسلمين.
الرابعة: ورود التقييد والتبعيض في مسألة فريق من الناس الإضرار بالإسلام والمسلمين، إذ ذكرت الآية لفظ (كثير) مما يدل على وجود شطر آخر أقل منهم على حال غير حالهم في المقام ويحتمل وجوهاً:
الأول: فريق من أهل الكتاب لا يريدون للمسلمين الإرتداد.
الثاني: إنهم يبغون للمسلمين الأشد من الإرتداد.
الثالث: يقوم الأقل بالسعي في إرتداد المسلمين وتهيئة مقدماته، وهو فعل أكبر وأشد من الود والكيفية النفسانية، إذ أن التحذير من ودهم الإضرار بالمسلمين لايعني عدم سعي فريق آخر منهم بالفعل للإضرار بالمسلمين.
والصحيح هو الأول، فجاءت الآية دعوة للمسلمين لعدم الحكم بالعموم بأنهم يرجون لهم الإرتداد والضلالة، وفيه آية أعجازية تدل على دقة الوصف وأسباب الإحتراز في القرآن، وفيه شاهد على تولي المسلمين لوظائف الإمامة في الأرض، وبشارة إستلامهم لوظائف الحكم والسلطنة والقضاء، ولزوم العدل والتحذير من الفتك بالناس، وفيه دعوة للرأفة بأهل الكتاب مع الحيطة واليقظة، لذا جاء فرض الجزية عليهم إحترازاً، ووسيلة لحفظ دمائهم، وبقائهم في ذمة الإسلام والمسلمين.
الخامسة: لزوم تعاهد المسلمين للإيمان، والحفاظ على أحكام الشريعة، وعدم التفريط بفرع من فروع الدين.
ومن إعجاز هذه الآيات أنهاجاءت خطابا عاماً ليكون إنحلالياً بوجهاً للمسلمين والمسلمات جميعاً، ولم يكن خاصاً بالحكام أو العلماء منهم، ليكون تعاهد الإيمان والتوقي من الحسد والتعدي ومحاولات بعث الشك والريب في النفوس واجباً عينياً على كل مسلم ومسلمة.
السادسة: جاءت الآية بالحرف لو بقوله تعالى [لَوْ يَرُدُّونَكُمْ] وهو حرف إمتناع لإمتناع أي أن المسلمين لن يرتدوا عن الإسلام كما أن مجئ الآية بصيغة المضارع شاهد على بقاء المسلمين في مقامات الإيمان عند نزولها، وأن الرغبة في الإرتداد تذهب هباء، ولا تضر المسلمين.
السابعة: تدل الآية بالدلالة التضمنية على مدح المسلمين والإخبار بأنهم مؤمنون قوله تعالى [يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ].
الثامنة: بيان حقيقة وهي أن الإيمان مرتبة رفيعة، ومن يصل إليها يجب أن يتعاهدها ويحرص عليها، ويكون حذراً من أهل الحسد والمكر.
التاسعة: تدعو الآية في مفهومها المسلمين إلى التعاون فيما بينهم للبقاء في منازل الإيمان وطرد النفرة، ودفع الكيد.
العاشرة: لقد جاءت الوقائع التأريخية بتوكيد عداوة الكفار والمشركين للمسلمين، كما في زحف قريش لقتال المسلمين ومحاولة الإجهاز على الإسلام في معركة بدر وأحد والأحزاب، وجاءت هذه الآية لتخبر عن عداوة أخرى تختلف موضوعاً وجهة، وتفيد معنى الرغبة بخسارة المسلمين، وتعرضهم للفرقة والخلاف والضعف.
الحادية عشرة: الكشف عن رغبة حصول الزلل عند المسلمين، ببعث المسلمين على الثبات في الدين، وتعاهد أحكام الشريعة، والوقاية من جدال وحسد أهل الريب والشك.
الثانية عشرة: إقامة الحجة على الذين يودون إرتداد بعض المسلمين بأن الحق إنكشف لهم، وتجلت لهم المعجزات التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة عشرة: بيان وظيفة المسلمين في الرد على ما يوده الكفار من إلحاق الضرر بالإسلام والمسلمين، ومن الآيات إتصاف هذه الوظيفة بالحسن الذاتي والعرضي، وفيها تأديب للمسلمين، وحجة على أهل الكتاب والناس أجمعين بأنهم محتاجون للمسلمين وأخلاقهم الحميدة التي تكون واقية من السيئات، ووسيلة للتنزه من الكدورات.
الرابعة عشرة: ذم خصلة الحسد، وبيان ضررها على صاحبها وعلى الناس.
الخامسة عشرة: يدل الأمر الإلهي للمسلمين بالعفو والمغفرة على عدم تضررهم من بغض الآخرين لهم، والحاجة إلى الجهاد بالحكمة والموعظة الحسنة.
السادسة عشرة: الآية بشارة الفتح،وسيادة أحكام الإسلام.
وصحيح أن الآية جاءت خطاباً للمسلمين إلا أنها تدل في مفهومها على لوم وتنبيه الحسد من وجوه:
الأول: بيان قبح حسدهم للمسلمين.
الثاني: الإخبار بأن الله عز وجل يخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عما يضمرون في أنفسهم، ولا ينحصر موضوع هذا الإخبار بأيام التنزيل والصحابة، بل هو خطاب موجه للمسلمين جميعاً، وهو من أسرار مجيء الآية بلفظ (كثير) مع أن أسباب النزول وردت بخصوص أفراد قليلين، ويدل عليهم ورود لفظ(أنفسهم) بصيغة جمع القلة فلم تقل الآية(نفوسهم).
الثالث: بعث اليأس في نفوس الذين يحسدون المسلمين من قريش بعدم حصول إرتداد عند المسلمين.
الرابع: حث أهل الحسد على التوبة والإنابة، وبيان رحمة الله عز وجل بأهل الكتاب مطلقاً إذ يأمر المسلمين بالعفو عنهم والتجاوز عن ذنوبهم، ومن الآيات أن العفو جاء بالعطف بالفاء (فاعفوا) الذي يدل على عدم تأخر العفو عن الذنب، كما يقال(جاء زيد فعمرو) أي ليس من فترة، ومدة بين مجيئهما، فتأمر الآية بالعفو على الحسد وبورود حرف الإمتناع(لو) الذي يدل على عدم تحقق ما يبغون، قال تعالى[وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ] ([278])، لبيان ما يلاقيه المسلمون من الأذى وتعدد جهات هذا الأذى، وكثرة وإتساع مصادره.
وهل العفو في الآية مطلق وشامل لكل تعد وبغي الجواب لا، إنما جاء العفو بخصوص الحسد والبغضاء ككيفية نفسانية، أما إذا ترجلت إلى الخارج فهي بحسب ذات الفعل وما يستحق، فحينما نقض بنو قريظة العهد الذي كان بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سار إليهم والمسلمون وفتحوا حصونهم، نعم تدل الآية بالدلالة التضمينية على إشاعة لغة العفو والتجاوز عن أهل الكتاب خاصة لخصوصية إتباعهم الكتاب.
وجاءت خاتمة الآية[أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] بشارة للمسلمين لظهورهم ونصرهم على قريش، وهذا النصر من مصاديق أمر الله عز وجل الذي ذكرته الآية.
والله هو القدير على إبدال ما في نفوس أهل الكتاب من الحسد بالمودة والغبطة، وعدم النفرة مما ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي والخير من السماء.
وتكون(حتى) على أربعة وجوه:
الأول: عاطفة.
الثاني: ناصبة.
الثالث: حرف إبتداء.
الرابع: أكثر إستعمالها بمعنى إنتهاء الغاية، وبه جاءت في الآية الكريمة.
مما يدل على أن العفو والصفح عن الكفار والجاحدين ليس من اللامتناهي، بل هو إلى حين، ولكن هذا الحين لا يعينه المسلمون أنفسهم بل يكون آية بينة من عند الله، ولا يعني أمر الله القتال دائماً، فقد يكون هدنة أو صلحاً أو زيادة في العفو.
(عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمّا قَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فِي السّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ أَوْ لِابن عَمّ لَهُ فَكَاتَبَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا ، وَكَانَتْ امرأة حُلْوَةً مُلّاحَةً لَا يَرَاهَا أَحَدٌ إلّا أَخَذَتْ بِنَفْسِهِ فَأَتَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ تَسْتَعِينُهُ فِي كِتَابَتِهَا ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ فَوَاَللّهِ مَا هُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَا رَأَيْتُ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ ، سَيّدِ قَوْمِهِ وَقَدْ أَصَابَنِي مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْك ، فَوَقَعْت فِي السّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ أَوْ لِابن عَمّ لَهُ فَكَاتَبْتُهُ عَلَى نَفْسِي ، فَجِئْتُك أَسْتَعِينُك عَلَى كِتَابَتِي،
قَالَ فَهَلْ لَك فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَتْ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ أَقْضِي عَنْك كِتَابَتك وَأَتَزَوّجُك ؛ قَالَتْ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ قَدْ فَعَلْت . قَالَتْ وَخَرَجَ الْخَبَرُ إلَى النّاسِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَدْ تَزَوّجَ جُوَيْرِيَةَ ابْنَةَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ ، فَقَالَ النّاسُ أَصْهَارُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ قَالَتْ فَلَقَدْ أُعْتِقَ بِتَزْوِيجِهِ إيّاهَا مِئَةُ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَمَا أَعْلَمُ امرأة كَانَتْ أَعْظَمَ عَلَى قَوْمِهَا بَرَكَةً مِنْهَا)([279]).
إفاضات الآية
تتضمن الآية الإخبار عن وجود أمم من الناس يسمون بأهل الكتاب وتحتمل هذه التسمية وجوهاً:
الأول: الله عز وجل هو الذي سماهم أهل الكتاب.
الثاني: هم أطلقوا هذا الاسم على انفسهم.
الثالث: المسلمون هم الذين نعتوهم بأهل الكتاب.
الرابع: إختار لهم عامة الناس هذا الاسم لأنهم يرجعون إلى كتاب سماوي.
والصحيح هو الأول، فان الله عز وجل هو الذي سماهم في القرآن أهل الكتاب لبيان المائز بينهم وبين الكفار، والتنبيه إلى موضوعية الكتاب في الأسماء مثلها له موضوعية في المسميات، وتدل هذه التسمية على نزول الكتب السماوية قبل القرآن، وهو من مصاديق إقرار المسلمين بالكتب السماوية السابقة، ويتضمن لفظ اهل الكتاب نوع تشريف لليهود والنصارى ودعوتهم للتصديق بالقرآن لأنه الكتاب الجامغ الأحكام الحلال والحرام.
وأخرج ابن أبي شبيبة وغيره قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا أبا القاسم تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ فقال: والذي نفسي بيده إن الرجل منهم ليؤتى قوّة مائة رجل منكم، في الأكل، والشرب والجماع، والشهوة، قال: فإن الذي يأكل ويشرب يكون له الحاجة، والجنة طاهرة ليس فيها قذر ولا أذى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حاجتهم عرق يفيض مثل ريح مسك، فإذا كان ذلك ضمر له بطنه)([280]).
وإبتدأت الآية بلفظ (الود) الذي يدل في ظاهره على الحسن الذاتي لأن أكثر أفراده في الرغبة الحميدة، ولكن هذه الآية تبين وجهاً قبيحاً من وجوه الود وهو الذي يتعلق بالرغبة في الضرر والأذى للمسلمين.
ومن إعجاز الآية بيان علة هذه الرغبة وهو الحسد الذي هو من الأخلاق المذمومة، ومن إعجاز الآية تقييد الحسد بأنه[مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ] لتنزيه الكتب السماوية من الحسد وما يترشح عنه من البغضاء ولعداوة للمسلمين، فقد يقول قائل أن فريق منهم يودون السوء للمسلمين مما يدل على أن هذا الود مترشح عن الكتب السابقة.
فجاءت هذه الآية لمنع هذا القول، والإخبار بأن أصل هذا الحسد هو غلبة النفس الشهوية والغضبية على كثير من أهل الكتاب وظهوره على سلوكهم وفي أقوالهم، وفيه تنزيه للكتب السماوية مطلقاً، وحجة على الناس في لزوم التخلص من الكدورات الظلمانية وأسباب العداوة مع المؤمنين.
وتبين الآية عظيم قدرة الله، وأن مقاليد الأمور بيده وأن العفو والصفح درس وموعظة ومناسبة للتوبة والإنابة إلى أن يأتي الفتح والنصر للمسلمين، وفيه شاهد على غلق باب الإرتداد، وبعث اليأس في قلوب أعداء الإسلام.
الصلة بين أول وآخر الآية
تؤكد هذه الآية أن القرآن إمام للمسلمين، وكل آية من آياته واقية وحصن لهم، وتارة تكون الآية واقية نفسية ببعث المسلم على فعل الخيرات، وأخرى بالإحتراز من الكفار وأهل العداوة.
وإبتدأت هذه الآية بالإخبار عن تمني فريق حرمان المسلمين من نعمة الهداية والإيمان، فإبتدأت بما لا يصلح أن يكون سبباً لزوال حال السكينة من نفوس المسلمين، إذ أنها ذكرت أمرين:
الأول : مجئ الآية بحرف الإمتناع (لو) أي لم ولن يحصل إرتداد عند المسلمين.
الثاني : موضوع الحسد والعداوة هو رغبة وتمني بعضهم لحوق الضرر بالمسلمين في أمور الدين والدنيا، وتمني إرتداد المسلمين كيفية نفسانية تضر بأصحابها، لوجوه:
الأول: ثبات المسلمين في منازل الإيمان، وتقيدهم بأحكام الشريعة.
الثاني: ترشح هذا التمني عن خصلة الحسد.
الثالث: إصابة الكفار باليأس لعدم حصول مصداق خارجي لتلك الأماني الخبيثة .
وتتضمن الآية في مفهومها اللوم على هذا التمني الذي هو خلاف الوظيفة العبادية لذا جاء ذكرهم بصفة أهل الكتاب حجة ودعوة للتقيد بأحكام التوراة والإنجيل، والرجوع إلى ما فيهما من البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وذكرت نسبة الذين يودون السوء للمسلمين في مقابل الذين لا يتمنون الإرتداد للمسلمين، ترى لماذا لا يتمنى هؤلاء الإرتداد للمسلمين، الجواب من وجوه:
الأول: إدراكهم أن الإسلام هو الدين الحق.
الثاني: معرفة حقيقة وهي أن الإرتداد الشخصي يضر الناس.
الثالث: بقاء الإسلام وأحكامه خير محض ونفع للناس جميعاً.
وجاءت الآية خطاباً للمسلمين، يتضمن التحذير والدعوة للتمسك بأحكام الإسلام وتعاهد أداء الفرائض وكونها شاهداً يومياً متجدداً على صدق الإيمان وإذا كان هؤلاء يرجون للمسلمين الإرتداد، فإنه يغيظهم دخول الناس للإسلام أفواجاً، وإستعداد المسلمين للدفاع عن الإسلام.
وذكرت الآية علة تمني الكفار زوال نعمة الإيمان وهو الحسد الذي إستولى على نفوسهم وجعلهم عاجزين عن رؤية منافع الإيمان، وإستحالة إرتداد المسلمين لظهور وتوالي المعجزات على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومعرفة أهل الكتاب بموافقة صفاته لما موجود في التوراة والإنجيل من البشارات بنبوته، وهذه الموافقة من عمومات قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ]، والأصل أن يكون بيان وتجلي آيات النبوة برزخاً دون الحسد، ومانعاً من إستحواذه على النفوس والإفعال، وسبباً للمبادرة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشد عضد المؤمنين.
ثم ذكرت الآية ما يجب على المسلمين أن يقابلوا به أهل الكتاب وهو العفو والصفح، وموضوع العفو أعم من ودهم وتمنيهم الإرتداد للمسلمين، لأن العفو والتجاوز عن الأذى من الأخلاق الحميدة والعفو مناسبة لإنقطاع المسلمين لعبادة الله.
لقد بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة، وأهلها كفار مشركين وسرعان ما أخذ الناس يدخلون الإسلام، وهاجر إلى مدينة يثرب ليجد بإنتظاره الأنصار من الأوس والخزرج، ويخوض المسلمون الدفاع ضد قريش التي زحفت للقضاء على الإسلام في السنة الثانية ثم الثالثة للهجرة في معركة بدر وأحد لينزل الملائكة لنفرة المؤمنين وتبقى دولة الإسلام قوية.
وتتجلى في الآية معاني الصبر والتقوى، التي يتحلى بها المسلمون، وفيها آية في القتال وكيفية ملاقاة الأعداء، بأن يجعل المسلمون صوب العدو الذي يزحف برجاله وعدته وخيله للإجهاز على دولة الإسلام.
وأختتمت الآية ببيان عظيم قدرة الله عز وجل بما يفيد بعث السكينة في نفوس المسلمين وحثهم على الإمتثال لأحكام هذه الآية وإظهار معاني الصبر والخشية من الله، وطاعته بالتقيد بآداب العفو والصفح عمن يتمنون لهم الإرتداد.
ومن الآيات أن هذه الآية شاهد على ثبات المسلمين على الإيمان، وإمتلاء نفوسهم بالسكينة والرضا والغبطة على التوفيق للهداية والإقبال بشوق على العبادات والطاعات وفعل الخيرات.
ومن إعجاز الآية أنها جاءت بأربعة أمور:
الأول: إخبار المسلمين بحسد وغيض فريق من الناس عن حسن حال المسلمين، وسلامتهم من كيد وبطش قريش، وإنتفاعهم الأمثل من وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم، ونزول القرآن والوحي عليه.
الثاني: حث المسلمين على الصبر وإظهار معاني الحلم على أهل الكتاب في حسدهم وبغضهم للمسلمين.
الثالث: الوعد الكريم للمسلمين بمجيء الفرج والنصر والغلبة والسلامة من الحسد والبغضاء.
الرابع: توكيد قانون دائم وهو قدرة الله عز وجل على كل شيء، وعدم إستعصاء مسألة عليه، وفيه ترغيب بالإيمان ودعوة للثبات عليه.
التفسير الذاتي
من إعجاز نظم القرآن مجيء آية بياناً لما في الآية السابقة من أوامر ونواهي وعدم إنحصار موضوعها بهذا البيان بل يكون أحد معانيها ومنه هذه الآيات فبعد أن جاءت الآية السابقة بنهي المسلمين عن طلب المعجزات الشخصية والمنع من قيام الأفراد بسؤال البراهين الحسية التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه جاء بالبراهين الحسية والعقلية العامة التي يستقرأ معها الناس عموماً صدق نبوته لما فيها من خرق للعادة وتحد وإثبات لعجز الإنسان عن الإتيان بمثلها، وجاءت الآية السابقة بقانون ثابت بخصوص سوء عاقبة من يكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ] ([281]).
جاءت هذه الآية لبيان إضمار الحسد للمسلمين ويدل بالدلالة التضمينية على علو شأن المسلمين وقوة شوكتهم، وإتساع رقعة الإسلام وإقبال الناس على القرآن والتدبر في آياته ومعانيه، فظهر الحسد على فريق من الناس، وتمنوا زوال النعم عن المؤمنين.
وإن قيل لماذا لم تذكر الآية المشركين من باب الأولوية القطعية لبغضهم للمؤمنين، وكما ورد ذكرهم في قوله تعالى[مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ] ([282]) والجواب أن الكفار أظهروا ما هو أشد من الحسد إذ زحفوا بالجيوش الكثيرة العدد والعدة على المدينة المنورة لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفريق من حوله من المؤمنين بأخذ المهاجرين وإذلال الأنصار، فكانت معركة بدر وأحد والخندق.
ومن الإعجاز في المقام أن معارك الإسلام الأولى جرت حول المدينة، وكان المسلمون في حال دفاع بوجه قريش ومن معها من أهل مكة والقبائل، ومعالم المدينتين باقية إلى يوم القيامة، وكذا الآيات التي توثق من السماء هذه الوقائع لتكون شاهداً بأن الإسلام دين الدفاع عن النفس والعرض والوطن، ولم يكن دين الهجوم والغزو، نعم جاءت كتائب فيما بعد كفرع ورشحة من رشحات الدفاع والحاجة إليه.
وهذه الآية هي الأخرى شاهد على أن الإسلام دين الدفاع ولكن بالحيطة واليقظة والحذر المقترن بالعفو والتجاوز عن الحسد.
فمن إعجاز الآية أنها جاءت دعوة المسلمين لعدم الإنتقام بسبب هذا الغيظ والحسد والكراهية لأنها حالة نفسانية غير مترجلة للخارج، وإذا كان المدار على عالم الأفعال فلماذا ذكرت الآية الحسد وأمرت المسلمين بالعفو والصفح والجواب من وجوه:
الأول: في الآية إشارة إلى قبح الحسد وأنه سبب للرد والإنتقام.
الثاني: ظهور الحسد على أفعال أهل الكتاب أزاء المسلمين.
الثالث: الآية أعم فالأمر بالعفو والصفح فيها لا ينحصر بالحسد بل يشمل التعدي والبغي الذي يأتي من الحسد، لذا قالت الآية بأن الحسد علة للود بلحوق الأذى بالمسلمين.
ويحتمل قوله تعالى [كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] وجهين:
الأول: إرادة أكثر أهل الكتاب.
الثاني: المقصود عدد ليس بالقليل منهم.
الثالث: إرادة المعنى الأعم المنبسط على أفراد الزمان الطولية وأمصار المسلمين، والبلدان التي يختلط ويعيش فيها المسلمون.
والصحيح هو الثاني ويدل عليه الجمع بين ما ورد في أسباب النزول، وقيل نزلت في كعب بن الأشرف، وهو ليس بيهودي بل من قبيلة طي، أمره اليهود وجعلوه بدل مالك بن الصيفي، إذ أن أم كعب يهودية، وإذ جاء التبعيض في الذين يريدون إرتداد المسلمين، فإن ذكر المسلمين جاء على نحو العموم الإستغراقي في الخطاب والموضوع فلا ينحصر الحسد بعدد مخصوص أو فئة معينة من المسلمين مما يعني أن المسلمين أمة واحدة في تلقي الحسد والأذى، الأمر الذي يملي عليهم التآخي والتآزر فيما بينهم، وبه جاءت آيات القرآن، فقال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ([283]) وقال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ([284]) .
وتدل الآية محل البحث على أن إخوة المسلمين الإيمانية حاجة ووقاية لهم من الكيد والإرتداد، وجاءت هذه الآية مدداً وتنمية للأخوة بين المسلمين وبرزخاً دون ترتب الأثر على حسد وكيد الكفار لهم.
وهل في الآية لوم لأهل الحسد الجواب نعم، فالآية وإن جاءت خطاباً وتحذيراً للمسلمين إلا أنها تدل في مفهومها على ذم الذين يحسدون المسلمين، وورود قوله تعالى(ود) مرتين في القرآن، كليهما في الرغبة في إيذاء المسلمين والمنع من تحقيقهم الإنتصار والغلبة.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: من منافع وغايات الآية الكريمة تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا.
الثانية: الدعوة إلى نبذ الحسد , وذمه .
الثالثة: عدم لحوق الضرر بالمسلمين بسبب آفة الحسد من غيرهم.
الرابعة: بعث الحذر والحيطة في نفوس المسلمين.
الخامسة: دعوة المسلمين للتمسك بأحكام الشريعة الإسلامية.
السادسة: بيان الحسن الذاتي والعرضي للعفو والتجاوز عن الآخرين.
السابعة: يأمر الله عز وجل المسلمين بالعفو والصفح، وهو الذي لايعجزه أعداء الإسلام.
الثامنة: جاءت الآية بحرف الإمتناع (لو) في قوله تعالى [لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ] أي أنهم لا يستطيعون زحزحة المسلمين عن الإيمان، وتدل على ثبات المسلمين في مراتب الإيمان لغة الخطاب في هذه الآية ومعاني إستدامتها وبقاؤها حية غضة طرية.
التاسعة: بيان الحاجة إلى تعاهد الإيمان، وأن الإمتحان ووجوه الإبتلاء لاتنحصر بإختيار الإسلام والإقلاع عن المعصية، بل لابد من التوقي من أهل الحسد وسوء نواياهم وإرادتهم للمسلمين الإرتداد.
التفسير
تفسير قولـه تعالى[وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْــلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا]
في نظم الآيات هنا نوع إعجاز، وهو عون على كشف دلالة الآية المتقدمة، أي قد نحتاج في تفسير الآية إلى الرجوع للآية التي بعدها مثلما نحتاج التي قبلها أو آيات أخرى وان كانت في سور أخرى، مكية كانت أو مدنية، لاسيما في باب المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ بل التفسير مطلقاً، فان الله عز وجل لم يجعل الناس متحيرين في باب العمل وكيفية إختيارالطرق والأسباب لإستنباط الحكم الشرعي.
وفي هذه الآية إشارة إلى ان تبدل الكفر بالإيمان لا يتعلق بالمؤمنين حتى على نحو التعليق وعالم الإمكان وان قصد الآخرون ذلك ورغبوا فيه، مع تفضل الله تعالى ببيان علة هذه المقاصد وما عند غير المسلمين من نوايا السوء وأسباب الحسد.
قوله تعالى [ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ]
يقال حسده يحسده حسداً، اذا تمنى زوال نعمة الغير وانتقالها اليه، واصل الحسد: القشر، حكى اللحياني عن العرب: حسدني الله ان كنت احسدك، وقال ابن منظور: هذا غريب([285]).
ولكنه على فرض ثبوته يحتمل وجهين:
الأول : انه مما تولد عن الكفر.
الثاني : حمله على التأويل وارادة وجه مناسب.
والأرجح هو الثاني فيكون معناه أزال الله نعمتي ان كنت حاسداً لك، او عاقبني الله على الحسد، والخبر على اجماله يدل على كراهة العرب للحسد وتصنيفه ضمن الأخلاق المذمومة.
أي ان الحسد مركب من زوال نعمة الغير ومن الرغبة والطمع بانتقالها الى الحاسد نفسه، ويمكن ان يتعلق الحسد بالشطر الأول فقط، أي زوال نعمة الغير، عندما لا يكون الحرص مستحوذاً على النفس، ولم يحل الكره والبغضاء بديلاً عنه.
وضد الحسد النصح وهو إرادة بقاء النعمة على اخيك لأنها سبيل للصلاح ، وأخرج ابن عدي عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟
قال: لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم.
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي عن جرير قال: بايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم)([286])، فتريد لأخيك المسلم ما تريده لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك أي ان الموضوع ما رزقك الله والمحمول ما تتمنى له، اما الغبطة فهي ان تتمنى لنفسك ما تراه عند غيرك، فيكون بين الحسد والغبطة عموم وخصوص من وجه، مادة الإلتقاء تمني النعمة للنفس، ومادة الإفتراق تمني زوالها عن الغير في الحسد، وتمني بقاءها عنده في الغبطة.
والغبْط هو تمني مثل حال المغبوط وما رزقه الله من النعمة، ولكن ابن منظور نسب هذا التعريف للغبط الى القيل وهو تضعيف له، وقال: (غَبَط الرجل يغبطه غبطاً وغبطة: حسده)([287]).
كما قال الأزهري: الغبط ضرب من الحسد وهو اخفى منه، واستشهد بالنبوي: (لما سئل صلى الله عليه وآله وسلم هل يضر الغبط: قال: نعم كما يضر الخبط)([288])، والخبط ضرب ورق الشجر حتى يتحات عنه ثم يستخلف من غير أن يضر بأصل الشجرة.
وورد عن ابن السكيت ما يدل على المعنى الشائع للغبط وانه في مقابل الحسد قال: (غبطت الرجل اغبطه غبطاً اذا اشتهيت ان يكون لك مثل ما له وان لا يزول عنه ما هو فيه، وخبط الورق لا يمنع من استخلافه بورق جديد اخضر).
ويحتمل معنيان للغبطة احدهما اذا كانت موضوعاً ومقصودة بذاتها فتدل على حسن الحال كما ورد في الحديث: (من يزرع خيراً يحصد غبطة)([289])، واذا وردت متعدية وتتضمن ارادة الغير فانها لا تخلو من ضرر وإن كان أدنى درجة من الحسد.
ومعنى الغبطة في الإصطلاح هو الأول، وقد ورد في الحديث القدسي: (المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون) ([290])، والأنبياء معصومون، بالإضافة الى حصول الغبطة في الدار الآخرة حيث يتجلى الصفاء والنقاء والأخلاق الحميدة.
وللغبطة موضوع ومادة وهي إطلاع الآخرين على النعمة مما يترتب عليه التحصن والتوقي ايضاً بالقرآن والأذكار والأدعية، للحيلولة دون غلبة الحسد والنفس الشهوية.
لقد ورد ذكر الحسد في القرآن خمس مرات وهو عدد غير قليل ويدل على خطورة واضرار الحسد، ووردت فريضة الصيام في خمس آيات في سورة البقرة ولا اتفاق وصدفة في القرآن، فهل ان الإلتقاء في العدد دليل على ان الصيام وقاء وحرز من الحسد، لا يبعد ذلك لأن العبادات تنقية للنفس وسبب في طرد الكدورات الظلمانية، وفيها ذم للحسد والحاسدين على نحو الإجمال ليكون أداء المكلف للعبادات برزخاً من آفة حسد الغير، وواقية حسد الناس فكأنه في أداء العبادات يكون لا حاسداً ولا محسوداً.
ولكن في هذه الآية وردت بإضافة الى فريق مما يعني بالأولوية ومفهوم الموافقة وجوده عند غيرهم من المشركين والكفار، وقد يكون قوله تعالى [ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا]([291])، تفسيراً لهذه الآية وانها هنا مبينة لموضوع الحسد وفاضحة للحاسد في نفس الوقت الذي تخبر المسلمين فيه انهم هم المحسودون.
والحسد آفة لا يرضى معها الحاسد إلا بزوال النعمة عن صاحبها مما يملي على المؤمنين وظائف عقائدية تتعلق بالحصانة الفكرية والإمتناع عن روح التشكيك والتردد، وهو يدل على التباين بين الذي عند المسلمين وما عند غيرهم، أي ان هذه الحالة من الحسد تنفي التكافئ والمساواة بين الحاسد والمحسود لأن المسلمين يُحسدون على ما عندهم لمرجح وعنصر تفضيل.
فهي إخبار عن انتهاء الصراع بين المسلمين وغيرهم لصالح المسلمين بالعز والفضل الإلهي، وبالذل والجزع والغم لغيرهم، وان لم تظهر عليهم إماراته جلية، ولكن القرآن يخبر عن تلك الكيفية النفسانية.
والآية دعوة للتريث من قبل المسلمين والتأمل والصبر وعدم إتخاذ مواقف عدائية بسبب هذا الحسد ليس لأن المسلمين آنذاك في بدايات الدعوة، بل لأن الفعل لم يتجسد في الخارج بما هو عدوان واعتداء، وكانت امامهم فرصة للتخلص من هذا الحسد وان كانت أسبابه من البغض والعداوة والحقد قد تسربت إلى نفوسهم.
وفي الآية نكتة وهي ان الحسد لا يأتي المسلمين من الكفار والمشركين فقط، فقد كانت قريش تحسد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أشد حسد، وعانى المسلمون منهم الشيء الكثير فربما ظن المسلمون بان أهل الكتاب يختلفون عن المشركين بما عندهم من الكتاب وأخبار أنبيائهم عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان لم يكونوا عوناً للمسلمين.
فمقتضى الحال ان لا يكونوا ضد الإسلام، فالآية تشير إلى وحدة المقاصد في اسباب الحسد ولكنها تنفي كونه سالبة كلية، فانت ترى أن بعضهم غالباً يحسد ما هو قريب منه والذي يلتقي معه في ذات المهنة او الدرس او في المنصب المشابه أو قربى ونحوها.
اما نفي الإطلاق منه فالمسلمون لا يحسدون غيرهم مع التشابه بالمقارنة مع الآخرين، فاذا كان بيننا وبين المشركين تناف وتنافر فان بيننا وبين أهل الكتاب عموماً وخصوصاً من وجه، ومادة الإلتقاء هي الكتاب المنزل والنبي المرسل عند كل فريق، ومن مادة الإفتراق رتبة الرسالة فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد الأنبياء والرسل، وكذا الفارق في الكتاب المنزل فالقرآن تبيان لكل شيء والجامع لأحكام الشرائع.
والمسلمون لا يحسدون أهل الكتاب على تلك النعمة ليس فقط لأسباب الترجيح التي يتصف بها المسلمون، او لأن ما عندهم هو ملك للمسلمين أيضاً كتراث وثروة التنزيل بل لأن أخلاق المسلمين آبية عن الحسد، فالإيمان يطرد الحسد من النفوس، وإضافة الحسد للنفس نوع ذم أي لخلوها من الإيمان تسربت اليها الإخلاق الرديئة.
وورد لفظ (الأنفس) بصيغة جمع القلة، مما يعني ان المقصود جماعة، ولكن صدر الآية ورد بلفظ (كثير)، فلا تعارض بين الأمرين، لأن لفظ الكثير ارجح في البيان والحجة، ويحمل جمع القلة على الإستهزاء والإستخفاف بضررهم وحسدهم، وفيه بشارة وسكينة للمسلمين.
وفي الآية إعجاز وهو الإخبار عن إستمرار هذا الحسد لبقاء اسبابه وأنها ليست عرضاً زائلاً، لذا جاء جمع القلة (انفسهم) تخفيفاً عن المسلمين، ولم تشر الآية إلى المشركين لا لأنهم لم يحسدوا المسلمين بل لأنهم فعلوا ما هو الأشد على المسلمين فقد أعلنوا الحرب على المسلمين وقتلوا وعذبوا نفراً منهم بسبب إسلامهم، بالإضافة إلى قياس الأولوية وما يسمى في علم الأصول بفحوى الخطاب كما يستدل بآية التأفيف [ فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ]([292]) على أولوية عدم شتم الوالدين او إيذائهما والإساءة اليهما.
والنفس هي الجوهر المتعلق بالإجسام تعلق التدبير والتصرف والذي يشير اليه الإنسان بقوله انا، وقيل هي اجزاء لطيفة سارية في الأعضاء، وتقسم النفس بلحاظ نوع المقاصد وما يترشح عنها من نوع الفعل الى:
الأولى : النفس الأمارة وهي القوة الغريزية التي تستجمع تلتقي الرذائل فيها، قال تعالى[إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ]([293]).
الثانية : والنفس البهيمية الشهوانية ذات الشهوات وحاجات الغرائز واللذات.
الثالثة : والنفس الحيوانية وهي الكمال الإبتدائي لذي الحياة والحس والحركة بالقوة.
الرابعة : والنفس السبعية الغضبية وبها الغضب والنجدة.
الخامسة : والنفس المطمئنة وهي التي لا يصدر منها ذنب أصلاً، وإعتقاداتها يقينية، قال تعالى[يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً]([294]).
وتقسم النفس أيضاً الى نامية وحسية وناطقة بلحاظ افعالها وكيفية طلبها لما تحتاجه.
والظاهر عدم إستقلال نوع من هذه النفوس، فالنفس الواحدة قد تكون أحياناً بهيمية وقد تكون من السبعية وقد تكون لوامة أحياناً أخرى تتباين في هيئة وكيفية أي منها، وقد تتداخل تلك الوجوه في النفس مع تفاوت في نسبة ومقدار كل منها بين الحين والآخر، او في نفس الوقت والموضوع لتكون النفس برزخاً بين تلك الاقسام، التي تكون أيضاً على مراتب في الشدة والضعف الا من عصم الله او نال علوماً مكتسبة إحترز بها.
لذا جاءت الآية بالإخبار عن ماهية النفوس وبنية الطبع وجبلة السجايا، وهي في مفهومها تأديب للمسلمين وإصلاح لنفوسهم.
وفي الآية تنزيه لأصل الأديان وهو نوع إعجاز بالفصل بين المنتمي والمنتمى اليه، بين الشخص والعقيدة، يتجسد خارجاً في مفهومه بحث المسلمين على عدم الإساءة للأديان الأخرى وان صدر الحسد ممن ينتمي لها.
وهذا الحسد ليس مما يقع فيه التزاحم لبلوغ المقاصد كما يحدث احياناً بين المتنافسين في موضوع واحد او للحصول على ما لا يتسع الجميع سواء كان مادياً او معنوياً، فالحسد آفة وداء ينم عن البغض وإرادة التشفي وإرجاع المحسود إلى مراتب التدني، فالآية تخبر أن الحاسدين لا يريدون مصلحتهم وأن الحسد من عند أنفسهم وليس عن موقف عقائدي، وارادوا إرجاعكم كفاراً وفي ذلك إضرار بالإسلام وبأهل الكتاب أنفسهم.
لقد كانت بعثته صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بأهل الكتاب وفي هذا دلالة ومصداق لعمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]([295]) الذي هو بيان لفضل الله تعالى بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أهل الكتاب بما هم أهل كتاب وملة سماوية، لقد كان الإسلام وقاء وحفظاً لديانتهم.
قالوا بان الحسد آفة العلم، وعندي ان العلم حاجز ومانع دون الحسد وانما الذين وصلوا إلى منازل العلم وتصدوا لمقاماته ليسوا من اهله او لم يكونوا مستحقين لتلك المنازل، فأخَذَ فاقد الأهلية ينظر الى غيره بما عنده من النقص، وينظر الى نفسه بما يظنه من أسباب الكمال أي جعل المكروه لغيره، والمحبوب لنفسه وان لم يكن في الأصل يحب الإدبار لغيره ولكنه جاء بالعرض وبالتزاحم والتنافس غير الجامع للشرائط على تلك المنازل.
وهذا القول منا لا يتعارض مع ما ورد في الخبر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ستة يدخلون النار قبل الحساب بستة: قيل يا رسول الله من هم؟ قال: الأمراء بالجور، والعرب بالعصبية، والدهاقين بالكبر، والتجار بالخيانة، واهل الرستاق بالجهالة، والعلماء بالحسد)([296])، والخبر تحذير وتخويف وتهذيب للنفوس.
واصل الكفر التغطية ومنه سمي الزارع كافراً لأنه اذا القى البذر كفره أي غطاه يقال كفرت الشيء اكفر كفراً سترته، والمراد منه المعنى الإصطلاحي من الجحود والشرك وما هو نقيض الإيمان.
والحسد آفة ملازمة للإنسانية، فهي موضوع إبتلاء وإمتحان يصاحب الإنسان ككائن إجتماعي ينفعل بما حوله أثراً وتأثيراً وتأثراً ويمنع من ظهور الإيمان، وهو في صراع مع الحسد في وجوده وبقائه في النفس وظهوره على الجوارح، والحسد أول معصية ظهرت، فقد حسد إبليس آدم واستكبر، وهو أي الحسد كان وراء أول سفك دم على وجه الأرض.
وهذه الآية تأديب ورحمة باهل الكتاب، ومقدمة وإرشاد الى التفكر بحقيقة الإسلام بعيداً عن الحسد بإعتبار انه حجاب يمنع من رؤية الواقع وغشاوة على البصيرة تحول دون التدبر بالآيات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما في الإسلام من الأحكام، وجاء التحذير من حسدهم للمسلمين على نحو الخطاب لموسىu وبواسطته لأمته وللنصارى.
فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: “قال الله عز وجل لموسى عليه السلام: يا ابن عمران لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضلي ولا تمدن عينيك إلى ذلك ولا تتبعه نفسك فان الحاسد ساخط لنعمي صاد لقسمي الذي قسمت بين عبادي، ومن يك كذلك فلست منه وليس مني”([297]).
والحديث وان ورد لبيان إخبار سماوي لأحد الأنبياء وفي باب التحذير من الحسد ، الا أننا أوردناه هنا لمناسبة المقام ولبيان ان الأخبار الواردة يمكن إرجاعها وإيجاد أصلها في القرآن، والمراد غير النبي موسى عليه السلام لأن الحديث تأديب للناس، وايضاً للإستدلال بان الأنبياء كانوا يمهدون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويحثون قومهم على اإتباعه بالنص والتصريح او بالإشارة والكناية ومنها دعوتهم لنبذ الحسد على نحو الإطلاق والعموم مما يعني النهي عن حسدهم للمسلمين.
بحث أخلاقي
الحسد من الشرور المركبة، فذات الفعل شر ولا يصدر إلا من النفس التي تحمل الرذيلة والخبث لأنها تدل بالدلالة التضمنية على إرادة الاضرار بالغير وعدم دوام نعمته وسعادته مع ان هذه السعادة طريق وسبب لطاعة الله تعالى والاتيان بالفرائض، ثم ان الاقرار بها نوع من الإيمان لأنها من فضله ولم تتم الا بمشيئته ورحمته.
والحسد من مصاديق شرور النفس السبعية والشهوية واغواء الشيطان وارادته الاضرار بالحاسد والمحسود ومحاولة لرفع النعمة من المحسود وانشغال الحاسد بها، لذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) ([298])، أي انه يجلب الأذى على صاحبه لما فيه من إرادة الشر بالغير وان لم يكن بفعل مباشر، فالجناية أعم من المباشرة والتسبيب، والحسد لا يصدق عليه جناية لعدم انبعاث فعل خارجي يكون سبباً او مباشرة، ولكنه قصد سوء يترتب عليه الأثر أحياناً قهراً وإنطباقاً، وهو مبغوض شرعاً وعرفاً وعقلاً.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دب اليكم داء الأمم من قبلكم، الحسد والبغضاء، والبغضة هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفس محمد بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام بينكم) ([299]).
ان الحسد يعكس سوء حال الحاسد اثناء تلبسه بالحسد ويظهر سماجة أخلاقه ودناءة نفسه، وما يترتب على الحسد من الإثم فيكون شراً نابتاً في وسط المجتمع، لذا قال تعالى [وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ]([300])، أي اثناء حسده وما يترتب عليه من الضرر.
وظاهر الآية أعم من إنحصار ترتب الأثر الضار على الحسد ساعة حصوله، فقد يأتي الضرر فيما بعد كمهلة وفترة جعلها الله للمحسود كي يتدارك الأمر، ويدفع الشر بالإستعاذة والصدقة ونحوهما، وإتيان الفرائض وقاء وحاجب من الحسد، فقد لا يلتفت الإنسان إلى الحسد والإحتراز منه لحسن توكله ولإنشغاله بذكر ربه.
فيدفع الله عز وجل الحسد عنه من حيث لا يعلم، والفرائض سلاح مركب يحول دون تسرب الحسد إلى النفس، ويمنع من تأثيره الخارجي وأذاه.
قوله تعالى [ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ ]
أي من بعد قيام الحجة بصدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد ان رأوا الآيات فقد يكون الإنسان معذوراً مع الجهل، وعدم التثبت ومجرد الدعوى أمر يحصل بين الناس في كل المجالات ولا يكون حجة على الغير، لذا وردت في باب القضاء قاعدة كلية تقول (البينة على من ادعى) وهي مقتبسة من الحديث النبوي، فكان القرآن هو البينة والشاهد على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو دليل عقلي ونقلي.
وخفّف الله عز وجل عن الناس وتفضل باعانتهم على النجاة والصلاح واللحوق بركب الإسلام بالآيات الباهرات فيما يتعلق بالحواس وغيرها، لاسيما وان الكتب السماوية الأخرى غير القرآن ليست بمعجزة في النظم والتأليف، كما ان القرآن جاء متحدياً في ذاته ومضمونه وعلى نحو الإطلاق والدوام.
والحق هنا له عدة معان فيمكن ان يراد به الواجب، ونقيض الباطل، وما ثبت وإستحق وكلها تصلح للمقام، فقد ظهر وإتضح لأهل الكتاب ما عليهم ان يفعلوه من الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان نبوته صدق وحق وأنها دعوى صادقة تبين لهم وتثبت رسالة الإسلام الذي أصبح حقيقة تشريعية وعقائدية راسخة تنتشر في المجتمعات وأنها جاءت من أجلهم وما فيه نفعهم.
ومن معاني الآية ان حسدهم هذا لن يضر المسلمين فتكون هنا بشارة أخرى في الآية ولو في هذه الحصة وهي علمهم بعدم أضرارهم بالمسلمين وذلك العلم تترتب عليه عدة مسائل ويؤثر سلباً في عملهم ضد المسلمين بل في بقاء وإتساع ذلك الود ويدل على هذا المعنى اطلاق قوله تعالى [ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا] والعفو اسقاط الذم والعقاب عن المستحق لهما، فالآية أمر تأديبي وتعليمي وإرشادي، والإعجاز فيه مركب أي تستطيع ان تستظهر وجوهاً إعجازية من قوله تعالى [فَاعْفُوا] منها:
الأول : إنه دعوة صريحة للتجاوز عن أهل الكتاب بسبب هذا الود الذي هو في الأصل بغض وعداوة واضرار، وصراحة هذه الدعوة لها موضوعية في المقام، وكأن العفو حاجة عقائدية.
الثاني : ان المسلمين في طور السيادة والأهلية للحكم، ولا يكون العفو الا من القادر عليه، ولا يمكن ان يكون المراد منه ابراء ذمة ونحوه لأصالة موضوعيته وحمل الكلام على ظاهره وللإنصراف.
الثالث : توكيد عدم إضرارهم بالمسلمين سواء بمحبتهم لعودتهم كفاراً او بما يترجل إلى الخارج بسبب هذا الود لبقاء المنازل التي يصدر منها العفو وإستدامة الأمر القرآني وشموله لوجوه ذلك الود.
الرابع : ما يدل عليه هذا الأمر بالدلالة التضمنية من أن العفو لن يضر المسلمين.
الخامس : ما فيه من مضامين سامية وهي عدم الإلتفات الى هذه الصغائر والتوجه الى ما هو أهم وأعظم وأكبر من مسؤوليات الإسلام.
السادس : التوصية بالعفو عنهم دلالة على وراثة المسلمين للأرض كما في إحتجاج أمير المؤمنين uبوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأنصار.
السابع : التحذير من آفة الحسد فان قابيل قتل اخاه هابيل حسداً، لذا جاء التنبيه والدعوة إلى التيقظ مع أن أهل الكتاب أقرب الناس للمسلمين.
قوله تعالى[وَاصْفَحُوا]
الصفح هو الإعراض عن الشيء والآية حث على إجتناب الرد المؤذي لهم وأخذهم بعين الرأفة والتسامح قال تعالى [ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ]([301]) والصفح والعفو ليسا من المترادف بل لكل منهما معنى مستقل وإجتماعهما في صيغة الأمر يدل على حالة مركبة تحصل من اجتماعهما، فالعفو وحده قد يكون غير مناسب وقد يكون فيه تفريط وتهاون.
ولعل في الآية معنى آخر وهو النظر اليهم وتأمل أفعالهم مع إلتزام صيغ العفو والمسامحة والحلم وفي حديث ملك الموت مع بني آدم: “وانا اتصفحهم في كل يوم خمس مرات”([302])، أي انظرهم وأتاملهم.
فهذه الآية وبلحاظ الملازمة والتكامل بين أفراد موضوعها أحسن وسلامة للمسلمين كقوله تعالى [ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]([303]) فلو كانت برداً فقط لجمد، وكما في قوله تعالى [ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا]([304]) حكاية عن مريم أي انها لم تسأل الموت فقط لأن الإنسان يبقى مذكوراً في أفعاله بعد الموت، ولكنها سألت ان تكون منسية مجهولة غير معروفة، في إعجاز واخبار عما يفتري عليها أهل الحسد والبغض وضرره على المحسود والعلم عند الله.
فالعفو لم يأت وحده وقد يكون فيه تفريط وإعانة على تماديهم في الحسد والغي ولكنه قيد بالصفح أي الرصد والإلتفات الإجمالي إلى أفعالهم.
والعفو هنا توكيد لقوة وعز المسلمين لأن العفو لا يصدر إلا من منازل القدرة كما أن فيه تأديباً للمسلمين في مسالك سنن الصلاح ومكارم الأخلاق بالإضافة إلى أن العفو والصفح مدخل لإسلام المعفو عنه وغيره خصوصاً وان هناك حالات في الصلات بين المسلم وغيره، تحدث قهراً وإنطباقاً أو عن قصد ومعاملة وجوار او نسب كما في الذي أسلم وامه نصرانية فما لبثت ان أسلمت لأن الإمام أوصاه بالرفق بها.
بحث أصولي
أختلف في علم الأصول في دلالة لفظ الأمر على الوجوب أو أنه للأعم منه فيشمل الطلب الندبي أو أنه مشترك اشتراكاً لفظياً بينهما او لمطلق الطلب من غير خصوصية للوجوب أو الإستحباب، والمشهور والمختار انه ظاهر في الوجوب إلا مع القرينة الصارفة إلى الإستحباب.
وإطلاق الأمر وبلغة الجمع يفيد كون الوجوب نفسياً عينياً تعينياً، لأن ما يقابل هذه الثلاثة من الوجوب الغيري والكفائي والتخييري يحتاج إلى مؤونة زائدة، ولا يحمل الأمر بالعفو والصفح على الاستحباب الذي يعني طلب الشيء مع الإذن في الترك، نعم قيد العفو والصفح من جهة الزمان والوقائع بأمر ومشيئة الله .
قوله تعالى[حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ]
هذه الآية من جوامع الكلم لتعدد مضامينها وملائمتها للوجوه المحتملة المتباينة فقد تنسخ حالة العفو او يستحدث الله أمراً آخر فينزل على الظالمين العذاب.
وأمر الله تعالى هنا إما أن يكون فعلاً حادثاً أو واقعاً جديداً.
ومن الأول ما تعرض له مشركوا قريش من الإنتقام ووجوه الذل والصغار.
ومن الثاني سيادة الإسلام, والآية بشارة ووعد بالنصر وتحث في دلالتها التضمنية على الصبر وعدم الخوف وتعني في مفهومها عدم فلاح أهل الحسد والضغائن والكيد، فهي وعيد وتهديد وإنذار لمن يؤذي المسلمين بالأولوية وفحوى الخطاب.
وتظهـر الآية إعجـاز القرآن وسعة فضل الله تعالى على المسلمين وبيان ما يتعرضون له من الإساءة بأدنى مراتبها وأصغر صورها وأقلها ضرراً وهو ما كمن في قلوب أعدائهم من حب الأذى لهم.
ويمكن القول ان المراد بأمر الله الأعم من الإنتقام منهم والنصر للمؤمنين، وقد يتعــدى من الإرادة التشــريعية إلى التكوينية ومنها نزول آيات القرآن الأخرى ، فالأمر رحمة مستحدثة لبني اسرائيل، وزيادة في فرص الإنابــة والتوبة والتدارك والإبتعاد عن العصبية والإنفعال وترك للرد بالجفاء والإعراض وان ادعوا كثرة القتل فيهم وهذا لم يثبت تأريخياً.
وأمر الله تعالى أعم من ان يكون متحداً أو دفعياً أو جهتياً أو في حيثية معينة، فقد يتفضل الله على بعض الاشخاص والجماعات بالهداية وقد يبتلي آخرين، ويأذن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في قتال الكفار والله واسع عليم كما في قتال كفار قريش إلى أن دخلوا الإسلام وهم صاغرون.
وفي الآية وجوه:
الأول : القتال والنفي لبني النضير عن ابن عباس([305]).
الثاني : بعلمه وحكمه فيهم، قاله ابن كيسان.
الثالث : أراد به يوم القيامة فيجازي الناس بأعمالهم.
ويمكن إضافة وجوه أخرى ومنها:
الأول : النصر والغلبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على الكفار.
الثاني : ظهور دولة الإسلام، وتخلف الحسد عن التأثير على المسلمين.
الثالث : رؤية الناس للمسلمين في ثباتهم في منازل الإيمان، فيترشح عنه اليأس والقنوط في قلوب أهل الحسد من إرتداد المسلمين.
وهل في عفو المسلمين عن أهل الكتاب ثواب وأجر، الجواب نعم.
قوله تعالى[إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
ان: حرف مشبه بالفعل تدخل على المبتدأ والخبر فتنصب الأول ويسمى إسمها، وترفع الثاني ويسمى خبرها وهو في الآية [ قَدِيرٌ]، وهو قول مدرسة البصرة لأن (أن) واخواتها حروف تشبه الفعل فتلحق به من حيث التأثير وترتيب الأثر من الرفع او النصب.
اما مدرســة الكوفــة في النحـو فقالت: لا أثر لهذه الحروف في رفع الخبر، بل هو باق على الأصل في رفعه لأنه خبر قبل ان تدخل عليه (أن)، والخبر مرفوع وكأن دخول (ان) من تحصيل ما هو حاصل والخلاف لفظي.
لو شاء الله سبحانه لما ود فريق لكم حال الكفر ولدخلوا في الإسلام وهو الذي يقدر على الإنتقام منهم والبطش بهم من غير امهال قال تعالى [ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ([306])، ولكنه باب للإمتحان وللإفتتان ومدرسة في الصبر والحلم ومناسبة لاظهار ما يعانيه المسلمون من أجل تثبيت راية التوحيد وأحكام السماء في الأرض، والآية بشارة وأمل في تحقيق ما وعد الله المؤمنين به من النصر والظفر والعز.
بحث منطقي
الإستقراء عبارة عن تتبع وإحصاء الأفراد والأمثلة الجزئية لأنواع متعددة من ذات الشيء الذي يرد الحكم عليه ويقوم العقل بتصفحها ليصل من خلالها إلى حكم كلي أو ظني كما إذا رأينا في بلد تعدد المساجد في محلاته وإرتفاع المنائر بين جدرانه فنحكم بأن أهله مسلمون، وقد يكون هذا المثال من الاستقراء الناقص ويسمى أيضاً بالإستقراء التقليدي.
وقيل أول من أشار اليه “فرنسيس بيكون” ولكنه ظاهر في مدرسة القرآن وتتبع الآيات في موضوعاتها، وكلما كثرت المقدمات كلما كثر إحتمال صدق النتيجة أي انه يفيد الظن الذي قد يكون معتبراً.
والنــوع الثانــي من الإستقراء هو الإستقراء التام الذي يلاحظ فيه جميع أفراد نوع معين بغية تحديد الصفات المشتركة بينها والحصــول على نتيجــة كلية ضرورية تفيد القطع وتكون حينئذ حجة، كما لو تتبعنــا الفرائـض والعبادات فوجدنا كل واحدة لا يؤتــى بها إلا مــع النية والقصـد فنحكم بأن العبادة لا تتقوم إلا بالنية.
وهذه الآيات تستقرأ حال أهل الحسد وفق منهج إستدلالي وبيان تجريبي حسي وكشف غيبي وإخبار سماوي يعين على الإنتقال من المقدمات إلى النتائج ويساهم في طرد الإستقراء الفطري الفردي او الجماعي الذي يبتنى على التعميم غير المدروس والذي يؤدي الى نتائج قد لا تفيد حتى الظن المعتبر.
فمدرسة القرآن تتضمن الإستقراء العلمي العقلي الذي يكون عوناً في فضح الذين يحسدون المسلمين وتحديد إنتمائهم بغية الحذر والحيطة منهم، وتمنع من الوهم والظن الخاطئ، وتدعو إلى الحكمة في كيفية التعامل معهم لأنها حجة عليهم، ووسيلة لجذبهم وغيرهم للإسلام.
**********
قوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] الآية 110.
الإعراب واللغة
وأقيموا الصلاة: الواو استئنافية، أقيموا: فعل أمر مبني على حذف النون، والفاعل الواو، والصلاة: مفعول به، واتوا الزكاة: عطف على وأقيموا الصلاة.
وما تقدموا: الواو استئنافية، ما: اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم، تقدموا: فعل شرط، الواو: فاعل، لأنفسكم: جار ومجرور، والمضير (الكاف) مضاف اليه، من خير: جار ومجرور في محل تمييز.
تجدوه: جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل، والهاء: مفعول به، عند الله: عند: ظرف متعلق بمحذوف حال، وهو مضاف، اسم الجلالة: مضاف اليه، ان الله: إن وإسمها، بما: جار ومجرور متعلقان ببصير، بصير: خبر إن وجملة إن وما بعدها مستأنفة وجاءت للتعليل.
إعجاز لغوي
هل الواو عاطفة، او استئنافية، يحتمل الوجهان بلحاظ التفسير وموضوعه، فالظاهر انها عاطفة واستئنافية وهذا مبحث شريف وجديد في عالم التفسير واللغة فيجب ان لا تنحصر علوم القرآن بالقواعد النحوية، لماذا هذا التفصيل الذي يفيد العزل والفصل والإسقاط للإحتمال الآخر، واللغة العربية اعم منه ومضامين القرآن أوسع وأكبر من أن تنحصر بدائرة إستقرائية من القواعد.
ومن إعجاز القرآن إعطاء الشمول والعموم لمعاني اللغة العربية فهذه المعاني للكلمة الواحدة لا تعني التعارض بينها بل الأصل فيها الجمع العرفي إلا أن يدل دليل أو أمارة أو قرينة معتبرة على خروج أحدها بالتخصص أو التخصيص.
وفي قراءة العين في (عند) ثلاث لغات وافصحها الكسر، والأصل في عند إستعماله فيما حضرك وأستعمل في المعاني فيقال عنده خير وعنده شر لأن المعاني ليس لها جهات، ويأتي بمعنى الفضل [ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ]([307])، أي من فضلك.
في سياق الآيات
من الإعجاز ان ترى النظم والترابط والملازمة بين هاتين الآيتين مع تباين في موضوع كل منهما فالآية المتقدمة تتعلق بما يجب فعله أزاء الحاسدين والمبغضين من أهل الكتاب، ومعها في ذات الوقت الإلتزام بأداء العبادات لاسيما وان العفو والصفح وان كانا أمرين وجوديين إلا أنهما لا يستلزمان أداء فعل يومي كما أنهما لا يتعارضان مع العبادات التي لا ترفع ولا تعلق ولا تسقط بحال.
جاء في آية [أَلَمْ تَعْلَمْ]([308])، الإخبار بأن الله عز وجل له ملك السماوات والأرض، جاءت هذه الآية لبيان وجوب إظهارمعاني العودية لله عز وجل، بأداء الفرائض والواجبات، والمبادرة إلى اللجوء اليه والإستعاذة به فليس من ناصر للمسلمين غيرالله عز وجل، لتكون العبادة حرزاً وواقية للمسلمين في الدنيا والآخرة.
وقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون شتى صنوف الأذى من الكفار في مكة المكرمة، فهاجروا إلى يثرب والتي أصبحت تسمى بعد هجرة النبي لها بالمدينة المنورة ليقيموا الصلاة فيها ويجتهدوا في التقديم لأنفسهم، ولكن الكفار لم يتركوهم وشأنهم بل ساروا في السنة الثانية للهجرة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بجيش كبير لا طاقة للمسلمين به عدداً أو عدة.
لتتجلى ولاية ونصرة الله للمسلمين الذين حرصوا على أداء الصلاة وإتيان الزكاة، إذ أنعم الله عز وجل على المسلمين بالنصر في معركة بدر مع قتلهم وحال الضعف التي هم فيها، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ([309]).
وإذ جاءت آية النسخ بالإخبار عن معاني التفضيل والخير في الناسخ جاءت هذه الآية لبيان إن إتيان المسلمين الصالحات مقدمة لنيلهم الدرجات الرفيعة في الآخرة، وأن النسخ عون لهم لفعل الخيرات، وبلوغ المقامات السامية.
وإذ جاءت آية [أَمْ تُرِيدُونَ]([310])، في نهي المسلمين عن الإلحاح في سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإيذائه كما أوذي موسى عليه السلام قال تعالى [لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ] ([311])، جاءت هذه الآية بالإنشغال عن كثرة السؤال وطلب المعجزات بأداء الوظائف العبادية، وإتخاذ الدنيا مزرعة للآخرة والتحلي بصفات الصلاح والتقوى رجاء الأجر والواب، وبعد أن أمرت هذه الآية المسلمين بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والتقديم لعالم الحساب والجزاء.
جاءت الآية التالية في بيان ما يقوله اليهود والنصارى بحصر دخول الجنة بهم، ليفيد الجمع بين الآيتين الحجة عليهم، وعدم دخول الشك الى نفوس المسلمين بسبب قولهم،لظهور بطلانه بإنشغال المسلمين بالعبادات وتوالي نزول آيات القرآن وما فيها من الإعجاز.
لذا جاءت الآية بعد التالية بقانون ثابت يبين السبيل إلى الجنة وهو الإنقطاع إلى الله، وإخلاص العبادة له، رجاء لفظ (إقيموا الصلاة) ثلاث مرات في سورة البقرة([312])، ليقترن فيكل مرة بقوله تعالى[وَآتُوا الزَّكَاةَ] لبيان الملازمة بين العبادات والتقرب إلى الله عز وجلبها على نحو العموم المجموعي.
إن إتيان الفرائض والواجبات برزخ دون الإرتداد الذي يسعى اليه بعضهم كما ذكرت الآية السابقة بالذات والعرض، فهو حصن ذاتي عند المسلمين، وباعث لليأس والقنوط عند الآخرين من إرتداد المسلمين، ومن إعجاز نظم الآيات إفادة الجمع بين هذه الآية والآية السابقة، أن إقامة المسلمين للصلاة وإتيانهم للزكاة سبب لغيظ الكفار، قال تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ([313]).
إعجاز الآية
تبين الآية موضــوعية العبــادة وعدم الإنشغال عنها بأذى الآخرين أو مواجهتهم مما يعني من باب الأولوية وفحوى الخطاب عدم جعل أمور المعاش والمشاغل اليومية سبباً لترك الإلتفات التام إلى لزوم أداء الفرائض.
فالآية تبين ضرورة الإلتزام بها في كل الأحوال لاســيما العبادة البدنية التي هي عمود الدين، والعبادة المالية التي هي قوام الإسلام وذكرهما معاً على نحو الإتحاد والإنضمام او المصاحبة يبين فلسفة الملازمة وعدم إمكان الفصل بينهما في جسد الإسلام النامي إبتداء وإستدامة.
ومن إعجاز الآية مجيؤها بصيغة الأمر التي تحمل على الوجوب بخصوص إقامة الصلاة وإتيان الزكاة، وإنحلال الأمر بعدد المكلفين من المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، وهو من إسرار مجئ الآية بلغة الجمع وحرمة الترك أو التفريط بأحداهما، فان قلت إن الصوم والحج من العبادات الواجبة فلماذا لم تذكرها الآية الكرمية، والجواب جاءت آيات أخرى بوجوب كل منهما.
ويدل على الإشارة اليها في هذه الآية قوله تعالى [وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ].
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية (وما تقدموا) ولم يردهذا اللفظ في القرآن إلا مرتين([314]).
الآية سلاح
تظهر الآية الأولوية في عمل المسلمين كأشخاص وجماعات وكيفية مواجهة أذى الآخرين، وتدعو الآية: إلى إستظهار الأسرار الغيبية ووجوه المنعة والحصانة بالإلتجاء إلى العبادة والمحافظة عليها.
في كل آية من آيات القرآن سلاح وعون ومدد للمسلمين والمسلمات في ذاتها ومضامينها وما فيها من الأوامر والنواهي وقد جاءت هذه الآية بالأمر بإداء الصلاة وإخراج الزكاة ليكون سبباً لسلامة المسلم ونماء أمواله، وصرف البلاء.
ومن الآيات تعدد أفراد وضروب السلاح في الآية الواحدة، وهو في المقام غير محدود بحد، إذ ذكرت الصلاة ثم الزكاة وجاءت الإطلاق في ذكر الخير وما يكتنز المسلمون لأنفسهم.
لقد أخبرت الآية السابقة عما يضمره الآخرون للمسلمين ووجود محاولات لإرتداد عدد من المسلمين،وبعث الشك في نفوسهم من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقيام بإنكار البشارات التي جاءت بنبوته.
وجاءت هذه الآية سلاحاً لإبطال تلك المحاولات، وفضحها ودعوة أهلها لدخول الإسلام، وفي الجمع بين هذه والآية السابقة بيان سلاح كل فريق فلا يملك الذين يريدون للمسلمين الإرتداد إلا الحسد والغيظ، أما المسلمون فيملكون كنوز العبادة وما يدخرون منها لليوم الآخر.
الآية لطف
الأمر بالصلاة والزكاة تكليف بدني ومالي، وأمر لبذل الجهد والإنفاق في سبيل الله، وهذا الأمر لا يتعلق بمدة من الزمان بل منبسط على أيام وحياة المكث كلها، فمن أسرار النظام العبادي عند المسلمين أن وجوب الصلاة يقترن مع طلوع الفجر من كل يوم.
وفيه دعوة سماوية لإستقبال اليوم بالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، وحث على إتصال العمل بالعبادة، ليتوجه الناس إلى اعمالهم وصنائعهم بعد الفراغ من الصلاة وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: بورك لأمتي في بكورها)([315]).
ثم جاء بعد الأمر ما يبعث على الغبطة والرضا، ويجعل الناس يتوجهون إلى العبادات بشوق ورغبة بنعت العبادات بأنها من الخير، والدعوة لإتيان الخيرات.
وذكرت الاية الخير بصيغة الإطلاق ومن غير تقييد بفعل مخصوص لندب الناس للصالحات، وجعلهم يتسابقون فيها، ويأتي قوله تعالى [أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] بشارة ووعداً للمؤمنين، وقد ياتي وعيداً وتخويفاً للكافرين بلحاظ مناسبة الموضوع والحكم.
وجاء في هذه الآية بشارة ووعداً لإقترانه بالعبادات وعمل الصالحات، وفيه إخبار بأن أعمال العباد حاضرة عند الله لا تخفى ولا تغيب عنه.
مفهوم الآية
بعد الأمر بالعفو والتجاوز عن اولئك الذين لا يريدون سيادة الإسلام وامتلاء النفوس بالحكمة والمعرفة الإلهية جاءت هذه الآية لتأمر المسلمين بالتوجه الى وظائفهم الشرعية وتحثهم على العبادات مما يعني في مفهومه لزوم عدم الإنشغال بالآخرين من أهل الحسد والكيد خصوصاً اذا كان هذا الحسد لا يضر المسلمين، ووصف الآية للصلاة والزكاة بأنهما من الخير المحض تنمية لحب العبادات في النفوس والشوق إلى أفعالها.
والآية إشراقة سماوية كريمة تطل على النفوس لتحثها على التقيد بالفرائض والإنقياد لما جاء به النبي وهي حصانة من الحسد ومحاولات إكراه بعض المسلمين على ترك الإسلام.
لذا ترى آية عقائدية ينفرد بها الإسلام وهي عدم تخلي المسلمين عن إنتمائهم ودينهم في اقسى الأحوال، ولا يزداد المسلم مع الفقر والحاجة إلا تمسكاً بدينه لأنه يدرك ما فيه من النجاة في الآخرة، وان الأذى في جنب الله باب للثواب وحسن الجزاء.
وتتضمن خاتمة الآية في مفهومها تعظيم مقام الربوبية وبعث الأمل والبشارة في نفوس المسلمين والفزع والخوف في قلوب الكافرين، فمتى ما أدرك المسلم أن الله عز وجل يعلم ويبصر ما يفعله فانه يحرص على الإلتزام بالفرائض حباً لله عز وجل وخشية منه ويتجنب التقصير الذي يفوت عليه الثواب.
لقد بينت آيات القرآن العلة الغائية لغلق الناس بقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ([316])، وجاءت هذه الآية لبيان كيفية العبادة، والأفعال إلتي يتقرب بها الناس إلى الله عز وجل، والتي فاز بها المسلمون بفضل الله عز وجل، ومنه الأمر بإتيان العبادات، فما جاء في هذه الآية من الأمر بالصلاة والزكاة فضل ورحمة من عندالله عز وجل بالمسلمين، وشاهد على تفضيلهم على الأمم الأخرى، ومن وجوه التفضيل عدم غلق هذا الباب الكريم لأداء العبادات على أي فرد أو جماعة من الناس.
ولم تبدأ هذه الآية بصيغة نداء أو خطاب خاص يدل على إرادة المسلمين مثل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]، ولكنه مستقرأ من القرائن في المقام وهي على وجوه:
الأول: القرائن في الآيات المجاورة:
الأولى: مجئ الآية قبل السابقة بصيغة الخطاب والتحذير من سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما سئل موسى من قبل .
الثانية: إخبار الآية السابقة، عن رغبة كثير من أهل الكتاب بإرتداد المسلمين، ومجيؤها بصيغة التحذير للمسلمين، والشهادة لهم بالإيمان بقوله تعالى [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا] ([317]).
الثالثة: مجئ الآية السابقة بالأمر إلى المسلمين بالعفو والصفح.
الرابعة: مجئ الآية التالية بصيغة الغائب [وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى]([318]).
الثاني: القرائن والدلالات الواردة في هذه الآية وهي:
الأولى: مجئ الآية بصيغة الأمر بأداء العبادات وعلى نحو الإطلاق، الذي ينصرف لإرادة المسلمين.
الثانية: الوعد الإلهي الكريم بالأجر والثواب على فعل الخير وهو أمر خاص بالمسلمين لأن الثواب يتقوم بقصد القربة الذي يأتي به المسلمون.
الثالثة : في صيغة الإطلاق في الآية نكتة عقائدية وهي إرادة أداء الناس جميعاً للصلاة وإتيانهم للزكاة والتقيد بالعبادات، وإظهار معاني الرأفة والإحسان ومحاربة الفقر والجوع.
وفي الآية مسائل:
الأولى:تتضمن الآية الكريمة أمرين كل واحد منهما عبادة وضرورة من ضرورات الدين:
الأول: إقامة الصلاة.
الثاني: إتيان زكاة الأموال.
الثانية: حث الناس على إتيان الخصال الحسنة ومصاديق الخير، ويدل في مفهومه على لزوم الإبتعاد عن الشر.
الثالثة: توكيد عالم الجزاء وما في الآخرة من الأجر والثواب على فعل الصالحات وعدم ضياع ما يفعله الإنسان.
الرابعة: بعث المسلمين والناس جميعاً لإتيان العبادات، وأعمال البر والإحسان بالإخبار عن علم الله سبحانه بما يفعله الناس سواء كان الفعل صغيراً أو كبيراً.
إفاضات الآية
في كل آية من آيات القرآن جذب ودعوة للعباد لمنازل الطاعة والإستجابة لله عز وجل، ويتجلى هذا الجذب في هذه الآية بأمور:
الأول: الخطاب التكليفي بإقامة الصلاة وأداء الزكاة.
الثاني: الإخبار عن حفظ وتوثيق الأعمال، فالإنسان يموت وتغادر روحه الجسد، ويبقى في عالم البرزخ جثة هامدة، ثم يبعث من جديد للحساب، أما الأعمال فهي محفوظة عند الله عز وجل لا تمحى ولا تنسى، نعم يحصل فيها تبديل وزيادة إذ أنها على قسمين:
الأول: الصالحات والخيرات.
الثاني: الذنوب والسيئات.
وتكون الزيادة في القسم الأول بمضاعفتها للمؤمنين فضلاً من الله عز وجل، لقد جعل الله عز وجل الصلاة ضياء ينير آفاق الأرض والسماء، وقوس الصعود الذي يقدمه العبد بين يديه طلباً لمرضاة الله ورجاء الأمن والسلامة يوم القيامة.
فجاءت هذه الآية عوناً للمسلم في الدنيا والآخرة بلحاظ ان أداء الصلاة وإخراج الزكاة وإيصالها إلى المستحقين باب للبركة ونزول الرحمة من عند الله.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بلغة الأمر وبصيغة الجمع (وأقيموا الصلاة) مما يدل على الحكم التكليفي الإستغراقي العام، وعدم إستثناء أحد من المكلفين من هذا الحكم لأنه مصداق العلة الغائية لخلق الإنسان بقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]([319]).
وفصلت الآية بين إقامة الصلاة وإتيان الزكاة بحرف العطف الواو، ويدل هذا الفصل على الملازمة بينهمالما فيه من عطف التالي على السابق في ذات الأمر مع التباين في الموضوع، وليكون العطف بينهما رحمة أخرى بالمسلمين لهدايتهم لسبل العبادات، وإمتثالهم للأوامر الإلهية من غير فصل بين العبادة البدنية والمالية.
وجاء قوله تعالى [وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ] وبلحاظ الصلة بينه وبين أول الآية وجوه:
الأول: إقامة الصلاة خيرمحض، وهل تنحصر صفة الخير وترتب الثواب على الصلاة إذا تقيد العبد بأدائها في جميع أيام حياته، أن الثواب يأتيه مع أداء كل فرض منها، الجواب هو الثاني، لتكون الصلاة يوم القيامة كالجبل من الحسنات الذي يسير بين يدي صاحبها فأفراد الخير في المقام إنحلالية بقدر أفراد الصلاة وكثرتها.
الثاني: إخراج زكاة الأموال واجب عيني على من إجتمعت شرائط الزكاة في ماله، وتدل على التضحية ومجاهدة النفس في سبيل الله، وإعانة الفقراء، وإصلاح المجتمعات، والمساهمة في منع الفواحش.
الثالث: تعدد وجوه الخير ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعبادات والصدقات المندوبة، وصلة الرحم، والعفو وإفشاء السلام وغيرها مما لاحصر له.
فالدنيا مزرعة الآخرة، وجاءت هذه الآية لحث الناس للتقديم للآخرة بالعمل الصالح، وجاءت الآية بصيغة الجمع، في تقديم الخير وفيه وجوه:
الأول: ما يؤديه المسلم من العبادة على نحو القضية الشخصية.
الثاني: ما تأتي الجماعة والأمة، إذ يترشح الفضل والثواب على الجماعة بفعل الفرد منها، وعلى الفرد بالعمل المشترك للجماعة لذا شرعت صلاة الجماعة لزيادة الأجر والثواب , ويكون ثواب أداء المسلم الصلاة جماعة خمسة وعشرين ضعفاً لأدائه لها منفرداً.
لقد جاءت هذه الآية دعوة لبني إسرائيل والناس جميعاً للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته، وتكون نصرته متعددة وفي الميادين المختلفة، فأداء الصلاة وفق ماجاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأحكام نصرة له، وكذا إتيان الزكاة، والخروج إلى ميادين القتال، في بدر وأحد وغيرها من معارك الإسلام وكل فرد منها خير محض يجده المسلمون عند الله كثواب وأجر يتجلى بدخول الجنة والخلود في النعيم.
وجاءت خاتمة الآية لبعث السكينة في نفوس المسلمين، وندبهم للإكثار من الطاعات، وإدراك حقيقة وهي إحاطة الله علماً بكل ما يفعلون وانه قريب منهم[ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ]([320])، وإذا أدرك العبد أن سيده يطلع على عمله فانه يجتهد في تحصيل رضاه، ويبذل الوسع في طاعته والمواظبة على إتيان ما أمره به , فكيف بالمؤمن يدرك أن الله ربه وخالقه يعلم به ويرى مكانه وأن الملائكة يكتبون ما يفعل، والصلاة أمرمتجدد كل يوم خمس مرات.
فجاءت هذه الآية من اللطف الإلهي بالمسلمين بالإخبار أن الله عز وجل معهم ويرى أعمالهم، ويسمع نجواهم، ويحفظ ما يؤدونه من الصلاة والزكاة ليفوزوا بالأجر والثواب، وهو من عمومات قوله تعالى[فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]([321]).
التفسير الذاتي
لما أختتمت الآية السابقة بأمر المسلمين بالعفو والصفح عن الذين يحسدون المسلمين، وتمتلأ نفوسهم غيظاً مما يرون من أسباب الفضل الإلهي عليهم جاءت هذه الآية بأمرالمسلمين بأداء الفرائض العبادية من الصلاة والزكاة، فهل من صلة موضوعية أو حكمية بين الأمرين، الجواب نعم من وجوه:
الأول: بعث الصبر والسكينة في نفوس المسلمين.
الثاني: قهر النفس الشهوية والغضبية، والإمتناع عن الإنتقام.
الثالث: جذب أهل الحسد لمنازل التوبة والإنابة، وتقريبهم من سبل الطاعة.
الرابع: إستثمار المسلمين للحياة الدنيا كمزرعة للآخرة.
الخامس: يريد أهل الحسد أن ينشغل المسلمون عن فرائضهم فجاءت الآية تصدياًَ لهذه النية والعزيمة.
السادس: بيان الموضوع الأهم في حياة المسلمين، وهو الوظائف العبادية، وأن إخبار الله عز وجل لهم عن عداوة فريق من الناس لهم يجب ألا يؤدي إلى تقصير المسلمين في عباداتهم وقيامهم بوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن هذا التقصير يبعث الفرح في قلوب الكفار، وهو من عمومات السيئة في قوله تعالى[وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا]([322]).
السابع: مع ثبات المسلمين في منازل الإيمان وأداء الفرائض يتعظ الناس ويقتدون بهم، ويميلون للإسلام، ويصغون للآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إن إطلاع المسلمين على ما يضمره أهل الحسد من فضل الله عز وجل عليهم وهو من علم الغيب، فأراد الله عز وجل أن لا تكون له آثار سلبية على المسلمين في عباداتهم، فدعتهم هذه الآية لتعاهد العبادة والفرائض.
وفيه شاهد على إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية، وأنهم يتلقون ما يستلزم منهم الحيطة والحذر بتعاهد الفرائض، والتقيد بأحكامها وسننها، وهو من الشواهد على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ([323])، لأن هذا التعليم والإرشاد من عمومات إخراج الله عز وجل المسلمين للناس، والوقاية من رغبة وطمع الكفار بإرتداد عدد من المسلمين.
وفيه شاهد بأن فضل الله عز وجل على المسلمين واقية من الإرتداد، وبرزخ دون تفريطهم بالفرائض والعبادات.
وإذا كان فريق من الناس يــــودون إرتداد عدد من المسلمين فــإن الله عــز وجل يمنع الإرتداد بأمر المسلمين بالفرائض وما فيها من العناء والتعب لذا سميت بالتكاليف، مما يبعث اليأس في قلوب الكفار، فحينما يرون المسلمين يؤدون الفرائض بشوق وقبول ورضا يدركون أن إرتداد المسلمين أمر ممتنع.
لقد أراد الله عز وجل أن تعمر الأرض بعبادته وهو سر خلق الناس وبثهم فيها، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ([324]) ، فجاءت هذه الآيات لتثبيت سنن العبادة في الأرض وتعاهدها وأهلها المواظبين عليها، وهي مدد سماوي للمسلمين وعون لهم في أداء الفرائض والسلامة من الكيد والحسد والبغضاء، ومما يبعث الفزع في قلوب أعداء الدين أن آيات الأحكام تأتي على نحو الإجمال، ولكن المسلمين في أجيالهم المتعاقبة يؤدونها بكيفية واحدة متشابهة(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي)([325]).
ومن الآيات أن الحسد والكيد لا يضر في أداء المسلمين صلواتهم، فإن قلت قد يقوم الكفار بالفتنة والتفريق بين المسلمين بخصوص أفعال الصلاة وجعلهم يختلفون فيها أو يظهرون هذا الخلاف مع أنه من السعة في الدين والمندوحة في الفعل العبادي، فالجواب من وجوه:
الأول: جاءت هذه الآيات لتحذير المسلمين من أسباب الفتنة التي يقوم بها أعداء الإسلام.
الثاني:من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ([326]) الحيطة والحذر من الخلاف والإختلاف، والتغلب عليه في حال حصوله.
الثالث: إنتفاء موضوع الفتنة والخلاف في العبادات، لـــوجود النصوص والأخبار التي تفيد السعــة في أداء الفعـــل، والبشرى بالقبول مـن عند الله عز وجل، وإذ جاء قبل خمس آيات كراهية فريق من الناس نزول الخير على المسلمين بقوله تعالى[مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ] ([327]) , جاءت هذه الآية لتبين أن الأمر بالصلاة والزكاة من الخير النازل من السماء، وأن أداءهما من الخير أيضاً، وتلك آية في الفضل الإلهي، فالله عز وجل ينزل الأمر بالعبادة والتكليف، ليمتثل المسلمون لأمره فيكون هذا الإمتثال من مصاديق الخير من وجوه:
الأول: حسن سمت وفعل المسلمين.
الثاني: إستجابة المسلمين للأمر الإلهي.
الثالث: الثواب العظيم الذي يتعقب أداء العبادة من الصلاة والزكاة والصوم.
الرابع: جعل المسلم والمسلمة قادرين على أداء العبادات البدنية والمالية، بإجتماع شرائط الصحة والمال وسلامة البدن من الآفات والأمراض، والمال من الضياع والتلف، وفيه دلالة على إمتلاء حياة المسلمين بالخير النازل والصاعد، والفعل والجزاء، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([328]).
وهذا الخير يملأ حياتهم سعادة وغبطة، ويجعلهم يتمسكون بسنن العبادات، ويشتاقون لأدائها، ويفرحون بفضل الله، ويرجون ثوابه، مما ينفي عنهم الإرتداد والصدود وأسباب الشك والريب.
وجاءت الآيات السابقة بالإخبار عن نزول جبرئيل بالقرآن كواسطة ملكوتية للتنزيل، وجاءت هذه الآية للإخبار عن وجود الخير والثواب عند الله عز وجل، فهو سبحانه الذي يحفظ للمسلمين وأعمالهم ويثيبهم عليها لذا أختتمت الآية ببيان عظيم قدرة الله.
ومن إعجاز الآية تقريب الثواب الإلهي، فمع أن الجزاء الحسن في الآخرة إلا أن الآية تجعله قريباً، وكأنه مصاحب للفعل العبادي والإمتثال لأمر الله عز وجل، ومنه مجيؤه متعقباً للأمر بالصلاة والزكاة، وفيه ترغيب بأدائهما، لذا ترى المؤمن يشتاق إلى أوان الصلاة كي يؤديها في وقت الفضيلة، ويحرص على أدائها جماعة مع أن الجماعة ليست بواجب بل هي مستحب مؤكد، وتملأ السكينة نفسه إذا أدى الزكاة، ودفعها إلى أهلها وكأنها أمانة شرعية بيده إلى حين خروجها إلى مستحقها.
ومن الآيات أن يرى البركة والنماء وحسن التوفيق حال الأداء.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: توجه الخطاب التكليفي إلى الناس بأداء الصلاة وإيتاء الزكاة.
الثانية: بيان وجوب الصلاة والزكاة وحرمة تركها معاً، أو ترك إحداهما.
الثالثة: كل من الصلاة والزكاة خير محض.
الرابعة: الإخبار السماوي عن حاجة الناس لأداء الصلاة والزكاة في الدنيا والآخرة.
الخامسة: بشارة الثواب العظيم لمن يؤدي الصلاة والزكاة.
السادسة: أن الله تعالى غير محتاج للناس وعباداتهم، ولكنهم محتاجون لهذه العبادات، ومن فضل الله عز وجل حفظها وتوثيقها وإدخارها لهم.
السابعة: توكيد عالم الجزاء، وفي الإخبار بأن الله عز وجل هو الذي يجازي على الحسنات والصالحات بشارة إضافية، لأنه هو الرحيم الذي يضاعف الحسنات، ومن رحمته أنه لم يذكر في هذه الآية فعل السيئات وحضورها يوم القيامة.
التفسير
تفسير قوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ]
الآية نوع تأديب للمسلمين، فالضغائن والحسد الموجه نحوهم يجب ان لا يشغلهم عن الفرائض كما ان الفرائض نفسها سبيل الى مواجهــة وجــوه الحســد والكيــد.
وتبيـن الآية أثر أداء الفرائض في تبدل وتلاشي أذى الآخرين، سواء كان بالصرفة ودفع البلاء بفضل الله تعالى بالمبرز الخارجي في الأفعال فاهل الحسد حينما يرون المسلمين مواظبين على عباداتهم قد لا يبقون على ذات الحال في الحسد فاما ان يتصرفوا بما يؤذي المسلمين ويخرج الحسد إلى الخارج بعداوة وخصومة أو أنهم ييأسون من المسلمين فلا يهموا بإيذائهم، وكلتا الصورتين مقدمتان لقوله تعالى [ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ]([329]).
وهذه هي المرة الثالثة التي يرد في القرآن على ترتيبه في المصحف قوله تعالى [ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ولكن ظاهر الخطاب فيما تقدم انه لبني اسرائيل , وان أفاد في مفهومه العموم في بيان نوع عمل المكلفين العبادي , لعمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]([330]).
أما في هذه الآية فهو خطاب للمسلمين وفيه أيضاً إعجاز ودلالة على ان المسلمين هم الذين حفظوا ويحفظون شعائر الله وإلتزموا بأدائها وإستحقوا تلقي خطابات التكليف بعد القصور والنكوص والتحريف من الأمم السالفة.
والآية نوع إستعانة بالله عز وجل من الحسد وأسبابه، كما في قوله تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]([331]).
والزكاة سبيل لإعانة فقراء المسلمين وصدّ ودفع الحسد عنهم، وفيها حث على إعطاء الأولوية في الأفعال الى العبادات، والآية تطرح للتحقيق مسألتين تتصفان بالإعجاز:
الأولى : ما هو نوع الملازمة بين العبادات وبين التصدي للحسد والعداوة.
الثانية : ما هو أثر الصلاة والزكاة مجتمعتين ومنفصلتين في تقوية شوكة الاسلام ومواجهة اعدائه واهل الحسد.
قوله تعالى[وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ من عند الله]
وعد وبشارة وتثبيت للمسلمين وبيان لحسن الجزاء (وقال الرازي: والأظهر ان المراد به التطوعات من الصلوات والزكوات)، والمراد به الصالحات مطلقاً وليس الفرائض والنوافل من الصلاة والصدقة وحدها، سواء كان وجوده يوم القيامة بهيئته او كيفية خاصة أو على نحو الجزاء والثواب.
ومن الخير الإلتزام بنوع السيرة مع أهل الكتاب من العفو والصفح عنهم وكما تقدم بيانه وعدم التعدي إلى غيره أي أن كشف رغائب الآخرين وخفايا صدورهم لا يعني الإندفاع ضدهم بأكثر من الوظيفة الشرعية وأسمى أسباب الهداية وأحسن وجوه السماحة، ففي الآيات أسرار ملكوتية إذ يتفضل الله عز وجل باخبار المسلمين بنوايا الآخرين ويأمرهم ويعلمهم كيفية التصرف معهم مما يدل على وراثتهم للأرض وأهليتهم بالقرآن والنبوة للخلافة فيها.
والعفو والصفح دليل القوة لأن العفو لا يأتي إلا من منازل الحق والعز والتسلط ولو على نحو اعتباري.
والآية باب مفتوح لعمل الصالحات وهي حث عليها ودعوة للإتيان بها على نحو الأفراد والجماعات والإستزادة منها، وفيها لطف إلهي وهو قبول القليل أيضاً وشموله بصفة الخير والحسن والنفع، وتدلنا الآية على نكتة عقائدية قد لا يلتفت إليها الإنسان في الحياة اليومية وهي ان بامكانه ينفع نفسه وذلك النفع يحتاجه كل يوم , ويكون إدخارا للنشأتين وهو من خصائص العبادة التي أمر الله بها , قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]([332]).
وقد يتوجه الإنسان إلى إصلاح بدنه وعلاج مرضه عندما يبتلى به ولكن هذه الآية تشير إلى أولوية وموضوعية إصلاح النفس سواء كان باجهادها في الأعمال العبادية، وما فيها من المشقة والصبر أو ببذل المال والإنفاق في سبيل الله.
وفي الآية تخفيف مركب عن المسلمين وتسلية لنفوسهم لما فيها من الإخبار عن العوض والجزاء والبشارة والوعد وبعث للطمأنينة في النفوس وعدم الوجل أو الخوف من هذا الحسد، وفيها أيضاً رأفة بأهل الكتاب ممن يحسد المسلمين بل مطلقاً بمنع المسلمين عن إيذائهم بسبب هذا الحسد ودعوتهم للإرفاق بهم.
وفي الآية تأديب للمسلمين وخلق كيفية نفسانية عندهم وهي اعتبار الآخرة واستحضار يوم الجزاء في اعمالهم اذ ان الإنسان يستعد للمستقبل ويتهيأ له وهي نعمة وفضل من الله تعالى بما فيها من الإخبار عن الجزاء كموضوع وكسبب ومقدمة لإقبال المسلمين على الإستزادة من الخيرات وفعل الصالحات ولا ينحصر الجزاء بالآخرة ويدل على الإطلاق قوله تعالى[حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ] نعم لعله مردد بين القريب والبعيد يقربه الإلتزام بالحكم الإلهي والإمتثال لأوامره تعالى.
فاذا لم يكن هناك حسد أو أنه لم يؤثر ولا يترجل الى الخارج في انماط السلوك فان للمسلمين وظائف ثابتة وهي اتيان الصالحات فرائض ومندوبات ولعل هذا الحسد ورد من باب المثال الأدنى رأفة بالمسلمين، والوقائع تشهد ان بعض القبائل أعانت كفار قريش وابدى تأييده لهم على المسلمين.
والآية دعوة لعدم غلق الباب في الصلة مع أهل الكتاب للإنتفاع منهم أو لنفعهم، وإن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة لا زالت طريقاً من طرق هدايتهم.
بحث كلامي
قوله تعالى [ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]
أجمع المسلمون بل المليون على ان الله تعالى مدرك يعلم بما يدرك ويسمع بما يبصر ويبصر بما يسمع، اذ أن الآلة الجسمانية ممتنعة بحقه تعالى، فهو لا يوصف بحال ولا يفتقر الى شيء، والإحتياج دلالة الإمكان، فالحواس من عالم الإمكان وتقتضي المادية، وهو سبحانه مجرد عن المادة، فالسمع والبصر والشم والذوق واللمس وظائف حسية جعلها الله عند الناس ليدركوا حوائجهم، وما نميز به بين الألوان غير الذي نفرق به بين الأصوات ونحسه من الأجناس، ولكن بصره سبحانه بأفعالنا انما هو إدراكه وعلمه بها وكذا علمه بالمسموعات.
وهذه الآية تدل على أنه تعالى مدرك وكل ما صح له وجب له لإستحالة إفتقاره إلى غيره سواء على القول بأن إدراكه تعالى هو علمه بما يبصر ويسمع كما نسب إلى الأشعرية، او بانه صفة زائدة على العلم كما ذهب اليه جماعة من المعتزلة وقال به السيد المرتضى، والنزاع صغروي بعد الاتفاق على انه تعالى أحاط بكل شيء علماً ولا تخفى عليه خافية.
والآية وان كانت بشارة إلا أنها ايضاً تدل بالدلالة التضمنية على شمول جميع الأفعال والأعمال فيدخل في مفهومها قهراً النهي عن المخالفة، والتكاسل عن الأفعال العبادية.
إن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مدخل لحفظ النفوس، وواقية تمنع الناس من التعدي، وهل الصلاة والزكاة مطلوبتان على تشريعهم أم على منهج الإسلام أم أنه يصح على أي الوجهين، أي ان أمرهم بالصلاة والزكاة يعني أمرهم بالإسلام وانه ورد من طلب الجزء وإرادة الكل وهل هو على نحو التعيين ام على التخيير والترديد أم على نحو الإطلاق.
لقد ورد في الآية ذكر اهم ركنين من اركان العبادات البدنية والمالية عند المسلمين.
واذا كان الطلب يتعلق بالصلاة والزكاة في دينهم ففيه نوع تعارض مع دعوتهم الى الإسلام وان لم يكن من التعارض فهو من التزاحم وحمل الدعوة الى الإسلام على الإرشاد والبعث الى الأحسن.
ولكن وبما ان الأمر بالإسلام والإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الحتم فلابد من حمل هذه الآية على الصلاة والزكاة كركنين في الإسلام والأمر بالإمتثال في الأفعال العقائدية والإنضمام الى صفوف المسلمين وأن الخير الذي يرجى هو إتيان الأعمال العبادية بالإمتثال والإنصياع للنبوة ومواثيقها خصوصاً وان العبادات لا تقبل إلا بشرط الإسلام وقصد القربة وإن كان الكفار مكلفين بالفروع كتكليفهم بالأصول وهو المشهور، ويمكن العثور على الجواب على هذه المسألة في الآية التالية لتبرز بوضوح موضوعية النظم واعجازه.
***********
الفهرس
الصفحة | الموضوع | الصفحة | الموضوع |
5 | المقدمة | ||
6 | قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] | ||
6 | القراءة والإعراب | 29 | التفسير الذاتي |
8 | اللغة | 37 | من غايات الآية |
9 | في سياق الآيات | 38 | التفسير |
13 | أسباب النزول | 38 | قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ] |
14 | إعجاز الآية | 42 | قوله تعالى[أَوْ نُنسِهَا] |
17 | الآية سلاح | 45 | قوله تعالى[ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا] |
18 | بحث كلامي | 47 | قوله تعالى [ أَوْ مِثْلِهَا] |
21 | مفهوم الآية | 48 | بحث اعجازي |
23 | الآية لطف | 58 | بحث بلاغي |
25 | إفاضات الآية | 59 | بحث أصولي |
26 | الصلة بين أول وآخر الآية | 62 | النسخ |
الفهرس
الصفحة | الموضوع | الصفحة | الموضوع |
78 | تأريخ السنة والنسخ | 113 | في سياق الآيات |
80 | بحث أصولي | 114 | موضوع الآية |
82 | في رحاب الناسخ والمنسوخ | 114 | إعجاز الآية |
88 | تأريخ النسخ | 116 | الآية سلاح |
90 | اركان النسخ | 118 | الآية لطف |
91 | الناسخ | 118 | مفهوم الآية |
92 | هل تنسخ السنة الكتاب | 120 | إفاضات ا لآية |
102 | النسخ والإعجاز | 121 | الصلة بين أول وآخر الآية |
106 | بحث أصولي | 123 | التفسير الذاتي |
109 | بحث أصولي (دوران الأمر بين النسخ والتخصيص ) | 126 | من غايات الآية |
110 | بحث لغوي أصولي | 126 | بحث بلاغي |
112 | قوله تعالى ( أَلَمْ تَعْلَــمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّــمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) | 129 | التفسير قوله تعالى [ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] |
112 | الإعراب واللغة | 132 | قوله تعالى [ ومَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ] |
الفهرس
الصفحة | الموضوع | الصفحة | الموضوع |
134 | بحث كلامي | 153 | الآية سلاح |
136 | بحث كلامي آخر | 154 | بحث بلاغي |
137 | بحث فلسفي | 155 | مفهوم الآية |
138 | بحث فلسفي آخر | 158 | الآية لطف |
139 | بحث منطقي | 160 | إفاضات الآية |
143 | قوله تعالى [ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ] | 162 | الصفا ذهب |
143 | الإعراب واللغة | 165 | الصلة بين أول وآخر الآية |
144 | في سياق الآيات | 167 | التفسير الذاتي |
146 | أسباب النزول | 174 | من غايات الآية |
148 | بحث أصولي في أسباب النزول | 176 | التفسير قوله تعالى [ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ] |
150 | تنقيح الأسباب | 178 | قاعدة |
151 | إعجاز الآية | 184 | قوله تعالى [ وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ] |
الفهرس
الصفحة | الموضوع | الصفحة | الموضوع |
259 | بحث فلسفي | 207 | إفاضات الآية |
187 | قوله تعالى [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] | 209 | الصلة بين أول وآخر الآية |
187 | الإعراب واللغة | 212 | التفسير الذاتي |
189 | في سياق الآيات | 215 | من غايات الآية |
191 | أسباب النزول | 216 | التفسير قوله تعالى [ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْــلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا] |
192 | إعجاز الآية | 216 | قوله تعالى [ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ] |
198 | الآية سلاح | 225 | بحث اخلاقي |
200 | الآية لطف | 226 | قوله تعالى [ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ] |
201 | مفهوم الآية | 228 | قوله تعالى [َاصْفَحُوا] |
الفهرس
الصفحة | الموضوع | الصفحة | الموضوع |
230 | بحث أصولي | 240 | مفهوم الآية |
232 | قوله تعالى [ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] | 243 | إفاضات الآية |
232 | بحث منطقي | 246 | التفسير الذاتي |
234 | قوله تعالى [ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] | 250 | من غايات الآية |
234 | الأعراب واللغة | 251 | التفسير قوله تعالى [ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] |
234 | إعجاز لغوي | 254 | بحث كلامي |
235 | في سياق الآيات | 256 | الفهرس |
237 | إعجاز الآية | ||
238 | الآية سلاح | ||
239 | الآية لطف | ||
244 | الصلة بين أول وآخر الآية |
([9])تفسير البحر المحيط 1/449.
([27])موسوعة الكتاب المقدس 4/313.
([34])أنظر الدر المنثور 1/358.
([47])الناسخ والمنسوخ لابن سلامة 1/20.
([53])الإحكام في أصول القرآن 1/286.
([54])الأحكام في أصول القرآن 1/287.
([85]) البرهان في علوم القرآن 2/345.
([94]) الأتقان في علوم القرآن 3/69.
([99]) الأتقان في علوم القرآن 3/69.
([100]) الإتقان في علوم القرآن1/68 .
([102]) الأتقان في علوم القرآن1/257 .
([111]) الإتقان في علوم القرآن 1/258.
([116]) الإتقان في علوم القرآن1/252 .
([137]) الإتقان في تفسير القرآن 1/256.
([141]) انظر معالم الدين في اوليات اصول الفقه 443.
([142]) البرهان في علوم القرآن 2/32.
([145] ) القاضي ابن البراج/ جواهر الفقه 5.
([146]) صحيح البخاري/ كتاب العلم 1/27.
([175])سورة المائدة 40/الحج 70.
([186]) الأتقان في علوم القرآن 1/291.
([231])أسباب نزول القرآن/الواحدي 1/10.
([252])المستقضى في أمثال العرب 1/450.
([279])السيرة لابن هشام 2/294.
([283]) سورة آل عمران 103 أنظر الجزء الخاص الذي جاء في تفسير هذه الآية .
([298]) تأريخ مدينة دمشق 54/170 .
([299]) تأريخ مدينة دمشق 24/449 .
([315]) المعجم الأوسط للطبراني 2/264.