معالم الايمان في تفسير القرآن – سورة البقرة – ج 19

 

 مفاهيم قرآنية


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدمة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين , الحمد لله الذي جعل القرآن كنزاً سماوياً ينهل منه الناس في الليل والنهار العلوم، ويأخذون منه الأحكام ويصدرون عنه ويتزودون للدنيا والآخرة من غير أن ينقص من ذخائره شئ، وهو من خصائص موجودات الجنة كما في قوله تعالى في ثمار الجنة[لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ]([1])، فلا ينقصها قطف المؤمنين لها، وليست ممنوعة عن أهل الجنان، وكذا كلام الله وآيات القرآن فليست ممنوعة عن أحد من العالمين فهي كالكلأ والماء فالناس فيها شرع سواء ببركة رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]([2]).

لقد تفضل الله سبحانه وجعل علوم القرآن متشعبة ومتعددة ، ودرره متصلة تنبسط على آياته وكلماته وحروفه كمصداق للإعجاز الذاتي ، وما يترشح عنه من الإعجاز الغيري، وعلومه وما يستنبط منه من العلوم والقوانين في إتساع وإنشطار دائم ، وتتداخل مع علم التفسير ليكون من عمومات قاعدة إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا، إذ تتجــلى الآيات الباهرات في كل علم من علوم القرآن لما فيها من المطالب الربانية وكنوز المعرفة، ويدرك الإنسان ذكراً كان أو أنثى الحاجة إلى إستقراء الضوابط الكلية من مسائلها، ويتضمن هذا الجزء وهو التاسع عشــر من معالم الإيمان ســياحة عقلــية ونقــلية في عدة موضوعات في علوم القرآن، منها إعجاز القرآن ذلك البحر الزاخر من العلوم الذي لا تنقضي مصاديقه فهي في تجدد مستمر.

وتضمن الجزء مقدمات في التفسير منها تحقيق في علم الحديث وبعض المباحث الأصولية وقراءة في فلسفة الصيام، وبحثاً كلامياً في الإسراء والمسائل المستقرأة منه وعلم تقسيم آيات الكتاب إلى مكي ومدني , قال تعالى[كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ]([3]).

 

إعجاز القرآن

هذا العنوان المبارك سور جامع ومسألة سيالة في جميع آيات القرآن، وينحل ويتفرع بعدد آيات القرآن البالغة 6236 آية، وعدد كلماته البالغة 77430، بالإضافة إلى اللامتناهي من الإعجاز في نظم آيات القرآن والصلة والتداخل الموضوعي والحكمي بينها، وتفسير وتأكيد بعضها لبعض([4]).

فصحيح ان الكلمة بذاتها من المفردات وليس من المركبات وفق الإصطلاح اللغوي إلا أن اعجازها يكمن في كونها كلام الله عز وجل وبذا تختلف بجهة الصدور وما في قراءتها من الأجر والثواب، وهي معجزة بلحاظ المعنى السياقي للآية ودلالات اختيارها دون غيرها، فمع وجود الترادف وكثرة أفراده في اللغة العربية فإنه لا يمكن إستبدال كلمة قرآنية بمرادفها من الكلمات الأخرى.

والإعجاز ملازم للقرآن منذ بداية نزوله يجري معه ويصاحبه من غير إنفكاك في بعض أفراد الزمان أو المكان، كما أنه من العلوم التوليدية التي تتفرع عنها عدة علوم وأبواب وشعب بحسب الجهة والإختصاص والأمور المستحدثة ومنها العلوم والصناعات الحديثة.

وإعجاز القرآن نعمة على الناس جميعاً وخير محض، ومن عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ([5]).

وهو علم يحتاج إليه الناس في كل زمان وان كانت هذه الحاجة من الكلي المشكك لأنها على مراتب متفاوتة وبحسب الزمان والمكان والحيثية والجهة.

وفي زمان العولمة والفضائيات يحتاج الناس جميعاً إلى علم إعجاز القرآن بحلته القديمة وبمباني جديدة مناسبة، فالمسلم يتخذه سلاحاً وآية وآلة للدعوة، وغير المسلم يفتقر إليه كعون وطريق للهــداية والرشــاد.

 وبين الفريقين عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء ان القرآن يبعث في نفوس الجميع الحكمة وأنوار الهداية ويساعد في تهذيبها، ومادة الإفتراق أن المســلم يتخذه سـلاحاً مركباًَ للإحتراز والدعوة وهو حجة له، وغير المســلم يحـتاج لتلقي المعارف الإلهية وليصبح حجة عليه، وعلى الناس بواسطته.

وإعجاز القرآن من العلوم التي بحث فيها العلماء وكتبوا فيه منهم الواسطي المتوفي سنة 306 هجرية، وأبو عيسى الرماني ت382، والقاضي ابو بكر الباقلاني ت 403، وهو مطبوع وممدوح، والفخر الرازي ت 606.

والبحوث في إعجاز القرآن قاصرة عن بلوغ كنهه لا لتقصير من الباحثين بل لوجود المانع الذاتي فنحن عاجزون عن معرفة وجوه إعجاز القرآن فهو كلام الله الذي جعله حجة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ] ([6])، ولتعدد مضامين آيات القرآن، والتي تتغشى الوقائع والحوادث من وجوه:

الأول: الإخبار التأريخي في قصص الأمم السالفة , قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]([7]).

الثاني: ورود المغيبات في القرآن، لذا جاء في بداية القرآن وصف المسلمين بأنهم متقون لأنهم يحملون صفات عقائدية حميدة منها أنهم يؤمنون بالغيب ، قال تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ  الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ] ([8]).

الثالث: ذكر معارك الإسلام الأولى على نحو البيان والتفصيل الذي يتضمن البرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وغلبة المسلمين وهم قلة على الكفار وعددهم كثير وكذا عدتهم ، ونزول الملائكة لنصرة المؤمنين ، قال تعالى[يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ([9]).

والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي السالم عن المعارضة، ولابد ان ينكشف للأبصـار والبصائر من غير لبس بانه يفوق قدرة البشر ويخترق الأسباب الطبيعية والظاهرية، ويجعل الأعناق تشرأب إلى عالم ما وراء الطبيعية وإلى الغيب وبديع صنع تعالى طوعاً او قهراًُ.

وإقتران المعجــزة بالتحــدي نوع دعوة الى الله عز وجل، ودليل على الصانع ووجوب العبادة فهي تتحدى الجاحــدين، والذين يدعـون الربوبية والذين ينكرون النبوات والرسالة السماوية.

ويطرد التحدي في المعجزة الإلهية الحسد من النفوس، ويحول دون الضغائن ويصرف الناس عن الكيد والبطش بالرسول، لذا تجد فرعون يبقى متحيراً مرتبكاً أمام موسى uوالآيات التي جاء بها من عند الله.

وعندما يرى إستجابة السحرة له فانه يتوعدهم ويهددهم ولم يتعرض إلى موسى uفالمعجزة حجاب ورحمة وعون وهي سلاح نوعي عام للنبي وأتباعه، فالإنسان مطلقاً ينشغل بالمعجزة وما فيها من التحدي ويتلقاها بعين البحث والتحقيق والإستنتاج.

ولابد ان تؤثر المعجزة في كل إنسان ولكن مقدار التأثير متفاوت وعلى مراتب فقد يحصل معها اليقين والتسليم، وقد يحصل الإيمان بها ولكن بمرتبة ودرجة أدنى من درجة اليقين ولكنه كاف للتسليم والإقرار بها.

وقد يدرك الإنسان أنها معجزة خصوصاً وأنها ظاهرة للجميع وهذا الإدراك قد لا يرقى إلى ترتب الأثر في النفس والإنصياع لما يصاحبها ويأتي به النبي والرسول سواء لقصور في ذات الإدراك أو لوجود الموانع في النفس من طغيان الشهوة وسيطرة الكدورات الظلمانية ونحوها.

ولكن الحجة شاملة للجميع، من آمن ومن لم يؤمن، ومن خصائص المعجزة أنها لا تتوجه إلى فريق من الناس دون غيرهم، فهي رسالة وبرهان يحمل صفة العموم وخارجة بالتخصص عن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم”([10]).

وهي بالأصل مناسبة لجميع المدارك لأن الإعجاز ظاهر بالفطرة والبيان المانع من الإشتباه، لأن المعجزة تأتي متحدية لجميع العقول، والإفهام للصغاروالكبار والذكور والإناث، وفيها عون على فضح الجاحد، وغلق للأسماع بوجهه فتراه لا يجد أذناً صاغية بل تراه في قرارة نفسه لا يغبطها ويشعر بالحسرة على الجحود والإنكار، وبذا تتحقق وظائف عرضية للإعجاز فهو تنبيه وحرز وتصد لأهل العناد وأقطاب الضلالة، وفي التنزيل[وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ]([11])وليس من حد لصيغ الإنذار في القرآن، ويمكن تقسيمها إلى أقسام:

الأول: الإنذار المستقرأ من اللفظ القرآني، ومن منافع الإعجاز البلاغي في القرآن أن الإنذارات الواردة فيه تنفذ إلى شغاف  القلوب، وترسخ في الوجود الذهني، لتكون صاحباً كريماً يلح على الإنسان بإجتناب الضلالة والفواحش.

الثاني: موضوعية الإنذار القرآني بلــحاظ نزولــه من عنـــــد الله عز وجل.

الثالث: تعيين مواضيع الإنذار القرآني، والزجر عن الكفر والجحود وفعل السيئات، والتخويف من العقاب الأخروي، وما ينتظر  الفاسقين والظالمين.

الرابع: مجيء البشارة مع الإنذار، لبيان إمكان التوبة والصلاح، والثواب العظيم الذي يفوز به المؤمنون.

الخامس: توكيد اللطف الإلهي بالناس جميعاً بنزول القرآن ، وكل إنذار في القرآن هو رحمة وفضل من عند الله عز وجل.

وتأتي سلامة المعجزة عن المعارضة  على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، فلو إجتمع الناس على أن يعارضوا المعجزة لما إستطاعوا مما يدل على إنفراد المعجزة بخصوصية غير موجودة على الأرض فهي سماوية المضمون ، أرضية المكان والمستقر، وفي سلامتها عن المعارضة تخفيف عن الناس وحث على التعجيل بالإيمان، وتيسير لطرقه، وإزالة للموانع الذاتية والخارجية.

لقد إقتضت الحكمة الإلهية أن تكون الموجودات على أحسن وجه وأتم كمال، ومن أهم أفرادها الإنسان الذي شرّفه الله تعالى بالخلافة في الأرض فلابد أن تكون مسؤوليته ووظيفته في نظام العالم وسلامته هي الأكبر، وفرائد الكمال لا تنتظم إلا بالعبادة فجاءت المعجزة مدخلاً ومقدمة وفضلاً منه تعالى[ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ([12]).

إنها مدد إلهي ليكون العالم خالياً من الشرور والمفاسد، لذا فان المعجزة باقية في الأرض لأن وظائفها مستديمة والبقاء لا ينطبق إلا على المعجزة العقلية فهو لا يشمل المعجزة الحسية التي تقتصر في الغالب على من رآها أو سمعها أو الشهادة على الشهادة أي المقربين ممن رآها سواء القرب العرضي أو الطولي أي الموجود من أهل بلد المعجــزة والقرب منهم أو أبنائهم الذين يأتون بعدهم.

وقد ذهبت بعض المذاهب الفاسدة إلى أمور:

الأول: القول بمبدأين مؤثرين في العالم وهما:

الأول: مبدأ الخير.

الثاني: مبدأ الشر.

ومن إعجاز القرآن نفي هذه المذاهب، سواء بمنطوق الآيات، ومجيئها بالنص على بطلانها ولزوم الإنقياد لله عز وجل، أو بالمفهوم والإخبار عن إنعدام الشريك، قال تعالى [لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]([13]).

وكل آية في القرآن تدل على التوحيد ووجوب عبادة الله عز وجل، قال سبحانه[لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] ([14]).

الثاني: منهم من ذهب إلى القول بان وجود الشر يدل على عدم التدبير من الحليم العالم ، وهذا القول نوع كفر وضلالة ، وفيه خطأ في المبنى وتجرأ أساسه العجز عن فقه فلسفة الإبتلاء في الحياة الدنيا.

الثالث: قال بعض الفلاسفة بأن الله عز وجل خلق العالم ثم تخلى عنه.

فجاءت المعجزة لتبطل هذه الأقوال الثلاثة وتدل على أن الله عز وجل لم يتخل عن العالم وأنه يتعاهده بالحفظ والرحمة، وأن المعجزة حرب على الشرور وطريق للقضاء عليها ، وبما يؤدي إلى الصلاح والثواب فان الآية تجعل كل إنسان يميز بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر لأنها عبارة عن قواعد إيمانية ثابتة لا يطرأ عليها الشك، ولا يتسرب إليها الوهم، وتمتلك القوة التي تزيح الغشاوة عن الأبصار والبصائر، وتدعو إلى الله عز وجل كما ان المعجزة ظاهرة تتصف بالتفرع والإنشـطار والتشعب وتخلق ملكة نفســية ثابتة بآيات الله عز وجل الكونية .

وبذا تكون للمعجزة وظائف غيرية، وهي التصدي للمقالات الباطلة وكشف زيف الآراء العقيمة وفضح أصحابها.

ويمكن تقسيم إعجاز القرآن تقسيماً عقلياً إستقرائياً إلى ثلاثة أقسام:

الأول :الإعجاز الذاتي: ويعنــي ان القرآن بذاتــه معجــز يخبر بآيــاتــه عن إعجازه ويمتلك الأهلية لإثبات هذا الإعجاز قبل ان تصل النوبة إلى توكيده بالشواهد والمصاديق الخارجية، والإستعانة بجهاد الأنبياء والصحابة والأئمة والمؤمنين وعلماء التفسير والتأويل، وتلك من خصــائص المعجزة لأنها تنزل متكاملة الذات والمضمون.

وصحيح أن الكمال لله وحده فهو واجب الوجود الذي لا يحتاج أبداً وأن كلام الله ليس ذات الله عز وجل إلا أنه سبحانه جعل كلامه ومعجـزته الخالدة غنياً عن غيره، لا يحتاج إلا إليه سبحانه والوسائط رحمة وفضل من الله وفي ذلك تخفيف ورحمة للمؤمنين، فلا يصل الجهاد إلى درجة إثبات المعجزة بل هــي ثابتــة بذاتها.

وقد نزل القرآن وسط قريش وبين القبائل العربية، وكانوا أهل فصاحة وبلغوا أعلى مراتب البلاغة، والتي تجلت في فرائد من الشعر تتصف بالتكامل البلاغي، وإجتماع المعاني، وجزالة الألفاظ، وكانوا ينجذبون إلى القصائد والخطب البليغة، ويحفظونها عن ظهر قلب.

 فلما جاء القرآن أقروا بإعجازه لما عندهم من الخزين والتراث الذي إتخذوا منه موضوعاً للمقارنة، وأدركوا من خلاله أن القرآن كلام الله.

قال تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ] ([15])، وفيه نفي للشك بالقرآن على نحو الإطلاق، وإنعدام التهمة في نزوله، مما يعني أن الذين يظهرون الشك والريب في القرآن يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم ضالون، وأنهم لم يتدبروا مفاهيم القرآن ومعانيها القدسية، ودلالات آياته التي تدل على نزوله من عند الله .

لذا إمتلأت نفوس الكفار بالخوف والرعب يوم بدر وسعى بعض كبار قريش لإجتناب القتال ، ولكن أبا جهل أصر على القتال فكان من بين القتلى يومئذ

ويأتين الجهاد والســعي المتواصــل من المؤمــنين لأمور ومنافع منها:

الأول: بيان معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإظهـارها.

الثاني: الحجة على الناس.

الثالث: الأجــر والثواب للذين يصدقون بنبوته.

الرابع: رســوخ الإيمان وإحياء الســـنة.

الخامس: ذكر المعجزة وعدم الغفــلــة عنها سلاح لإمــاتـة الباطل وواقية من الشر وأهله.

وهذا الشطر من الإعجاز نابـض بالحياة وكنــوزه مفتوحة، كلما أخذنا من خزائن علومه وأســراره نشـعر بان الباقي منها أكثر وكأنه يحثنا على النهــل المتصل.

ومن إعجــاز القرآن الذاتي ما فيه من علوم البلاغــة واللغة ،  التي جاءت بلغة التحدي والبرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،وأدركت العرب أن القرآن كلام الله المعجز. وفيه المغيبات وقصص الأنبياء والوحي وعجــز الناس عن الإتيــان بها وقصـورهم عن الإحاطة بمفاهيمها , قال تعالى[فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ]([16]).

الثاني : الإعجاز الغيري: وهو إعجاز الآيات الذي يتعلق بمواضيع ومصاديق خارجية قال تعالى[وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ]([17])، فمن إعجاز القرآن أنه يأخذ بأيدي الناس إلى منازل الإيمان، ثم يصعد بهم للإرتقاء وبلوغ الدرجات الرفيعة من التقوى والفلاح ومسائل هذا الوجه من الإعجاز القرآني متجددة ما حل الجديدان الليل والنهار.

ومن الإعجاز الغيري ما أحدثه القرآن في السياسة والإقتصاد والتركيبات الإجتماعية ، وما أسسه من القواعد الثابتة في المعتقدات والفلسفة الإلهية وتعاهده للمجتمعات والأخلاق الحميدة وغيرها من الوجوه التي سيأتي التعرض لها مفصلاً في تفسير آيات القرآن.

الثالث :الإعجاز الجامع للذاتي والغيري: أي الفرد الذي يتضمن الإعجاز الذاتي والغيري فيكون الموضوع الواحد جامعاً للإعجازين ولو تأملت كل وجه من وجوه القسمين المتقدمين لرأيته مركباً أيضاً.

ولكن هذا الإعجاز يصلح أن يكون قسيماً لهما ، وله قواعده وأحكامه , ولا يتعارض هذا التقسيم مع قواعد القسمة من الفصل والتباين وعدم التداخل بين الأقسام، لترشح مضامين إعجازية إضافية ودلالات باهرات من الجمع بين الإعجاز الذاتي والغيري ، وبهذا التقسيم تنفتح علينا أبواب من العلم والدراسات القرآنية والعلوم المتعلقة في ميادين  الحياة المختلفة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ([18]) .

وعلوم القرآن من اللامتناهي لأنها توليدية، كل علم يفتح ألف باب من العلم، وكل آية تدعو إلى الإستنباط والإستنتاج والسعي في مسالك العلم، وهو من مقدمات وعمومات قوله تعالى[لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ([19])، ومن عز المؤمنين إرتقاؤهم في ميادين العلم بالإقتباس من آيات القرآن، وإتخاذها سلاحاً في أمور الدين والدنيا.

 وهذا التقسيم لا يكون على سبيل الحتم والحصر بل أن كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة ينشطر إلى عدة أقسام وفروع بحسب اللحاظ والجهة والمتعلق.

ومن الإعجاز ان القرآن خالِ من لفظ المعجزة والإعجاز كما أنه خالِ من لفظ السيف في الوقت الذي سميت آية منه بآية السيف وقالوا انها ناسخة لأكثر من مائة آية وان لم نوافقهم على هذا القول ونسخ أكثر تلك الآيات بها.

ولم يذكر لفظ المعجزة في القرآن لأن كل آية منه معجزة بذاتها وعلم متكامل، ونهر متدفق من الأحكام ثم ان الإعجاز يرد في القرآن بألفاظ مختلفة تتضمن أموراً:

الأول : تحدي الكفار والمنافقين.

الثاني : إقامة الحجة والبرهان على صدق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآلــه وسلـم.

الثالث: توكيد تفضيل المسلمين، وقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ([20]) التي جاءت خطاباً لهم على نحو التعيين.

الرابع: إظهار الآيات وإثبات الخصوصية والمضامين التي ينفرد بها من وجوه العلم والكمالات والأسرار الملكوتية والصبغة السماوية.

 ونسبة القرآن إلى الباري عز وجل كلاماً ورسولاً وهادياً ورحمة مستديمة، فكل آية منه تحد وإظهار للإعجاز في باب البلاغة والفصاحة بل والأعم منهما، ولعله من أسباب عدم ذكر الإعجاز في القرآن صريحاً .

لأن كل آية مدرسة في الإعجاز تنزيلاً ووحياً وبلاغة ودلالة قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى  إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ([21])، ومنهم من إحتج بهذه الآية قال الزمخشري: بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء ، ويجاب بأنّ الله تعالى إذا سوّغ لهم الاجتهاد ، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحياً لا نطقاً عن الهوى([22]).

والخلاف صغروي بعد الإتفاق على الكبرى ، وهي أن كلام الأنبياء وحي.

والإعجاز القرآني أعم من أن ينحصر بموضوع معين، فقد حصره كثير من العلماء بباب دون آخر من وجوه العلم وجاء من بعدهم من يميل إلى هذا القول أو ذاك أو يكتفي بعرض الأقوال وبيان حجة ودليل كل منها، والحق أن كل واحد منها قاصر عن الإحاطة بوجوه الإعجاز القرآني.

ما ذكر في إعجاز القرآن

يتفق المسلمون جميعاً على إعجاز القرآن ولكنهم إختلفوا في موضوعه إذ أنه نزل للعرب أولاً وهم الفصحاء فكان حجة عليهم ودعوة لهم للإسلام لما يتصف به من الفصاحة والبلاغة، ووجوه الإعجاز هي:

الأول : الفصاحة والسلامة من العيوب، قاله الرازي.

الثاني : التأليف الخاص به، قاله الزملكاني.

الثالث : إخباره عن المغيبات قال تعالى[ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ] ([23]).

الرابع : حسن التأليف بأن إعتدلت مفرداته تركيباً ووزناً.

الخامس : نظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه.

والذي نذهب اليه هو صدق إجتماع هذه الوجوه في إعجاز القرآن بالإضافة إلى وجوه أخرى للإعجاز قد تفوقها موضوعاً وكماً وكيفاً، ومنها ما لم يتم إدراكه ومعرفته، فمن الأولى عدم حصر إعجاز القرآن في مورد أو نوع واحد أو أقسام ووجوه محدودة، بل يجب ان يبقى مفتوحاً تضاف إليه أبواب وعلوم جديدة لم يشر إليها المتقدمون أو أشاروا إليها ولكن ليس في مورد الإعجاز، أو ذكرت بإيجاز، وزمان العولمة يستلزم البيان والتفصيل.

مع السعي لإكتشاف وجوه جديدة للإعجاز من خلال العلوم المستحدثة والوقائع والأحداث التي تأتي مطابقة لعلوم القرآن أو تكون برهاناً ودليلاً على إعجازه.

إن إعجاز القرآن من أشرف العلوم وهو مدخل للإيمان والإقرار بنزوله من عند الله، ودعوة متجددة للإسلام أي نحتاج إلى تنقيح وتوسيع هذا العلم لنشر الإسلام وهو من عمومات قوله تعالى [ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ]([24]) خصوصاً وقد ورد في تفسير هذه الآية أن الحكمة النبوة، والموعظة الحسنة القرآن.

وإجماع المسلمين على أن القرآن معجز ببلاغته لأنه نزل للعرب إبتداءً وبين ظهرانيهم، ولكنه عالمي الرسالة فذكر العرب ووجه الإعجاز الخاص بهم جاء من باب المثال وليس الحصر، والحاجة الملحة الآنية وليس الأمر الوحيد الثابت.

 فالذي نجهله من إعجاز القرآن أكثر من الذي نعلمه، وعقول البشر لا ترقى إلى إدراك معشار إعجازه كموضوع وحكم ومصاديق، والمواضيع التي ذكرت لإعجازه متعددة في كنهها وأبعادها وحقيقتها، والإجماع على أن الفصاحة من إعجاز القرآن، ومن المباحث المتجددة مدى ومنتهى فصاحته وبلاغته.[ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]([25]).

وعلماء التفسير وعلى تعاقب الأجيال يثنون على تفسير الزمخشري  لما أظهره من بلاغة القرآن والحق معهم، ولكن الذي بينه منها قليل جداً وإن كان جهداً مباركاً، وكان الأجدر بمن جاء من بعده ممن يثني عليه أن يجتهد، ويسعى ويبين المزيد من علوم البلاغة للقرآن، ويستظهر جوانب جديدة في فصاحة وبلاغة القرآن ويضيف لبنة لصرح إعجاز القرآن، لأنه علم واسع ينبسط على كل كلمات القرآن وما لها من المعاني والدلالات.

ولا يمكن إستقراء العلوم البلاغية من غير إختصاص وإحاطة بعلوم البلاغة في اللغة العربية وإستحداث دراسات مقارنة في ذات اللغة العربية وبينها وبين اللغات الأخرى، وأثر البلاغة في النفوس ووقعها على الأسماع وفي ذات الكلام ومعانيه، وما يتفرع عن البلاغة القرآنية من العلوم والأحكام والدلالات.

 لذا نقترح تأسيس كلية خاصة بالبلاغة في بعض الجامعات في الأمصار العربية والإسلامية، وهذا التأسيس وحده ثورة في علوم اللغة من وجوه:

الأول: ما يحتاج من مناهج الدراسة ومستلزمات العمل اليومي.

الثاني: كونه مدرسة وإنتقالاً نوعياً في عالم البلاغة ومدخلاً للإبداع، وسبباً للإختصاص.

الثالث: إنه مناسبة لإعطاء مضامينه وقواعده الإستقلال والبحوث والدراسات الخاصة.

الرابع: تتاح معه الفرصة لوضع وتثبيت مصطلحات هذا العلم، وتدوين مواضيعه، وبيان تأريخه الذي يكشف عن إنبثاقه من خزائن القرآن .

الخامس : إنه شاهد على سعي العلماء في إظهار كنوز القرآن وإعلاء كلمة التوحيد، وتوكيد صدق نزول القرآن من عند الله، قال تعالى[وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ([26]).

السادس: إحراز الأجر والثواب لما فيه من الدفاع عن القرآن وإستنباط المسائل منه.

السابع : تنمية ملكة الفقاهة والفصاحة عند المسلمين.

وفي إعجاز القرآن مسائل ووجوه منها:

  1. القول بإن إعجاز القرآن في بلاغته يملي علينا إستظهار فنون البلاغة وإشاعة علومها وتأسيس قواعدها وإستنباط الضوابط والأحكام منها والسعي في دراستها وإستنتاج الحكم والعبر منها أي نحن بحاجة إلى تأسيس علم جديد للبلاغة ليكون هذا التأسيس مدخلاً للبحث في علوم القرآن البلاغية وما يتفرع عنها خصوصاً مع توظيف مستحدثات المسائل، والقدرات النوعية وتبادل الخبرات والمعلومات.
  2. القرآن هدى وداع إلى الله عز وجل، أي يستطيع القرآن وحده أن يهدي الناس للإسلام، وهذا من أسرار وحكمة بقائه محفوظاً من عند الله تعالى ، وقريباً من الناس جميعاً.
  3. يستطيع القرآن أن يهدي الناس إلى سبيل السلام وطرق الهداية، فالدعوة إلى الله عز وجل باقية حتماً وبوسائط سماوية وملكوتية.
  4. تصديق العرب بالقرآن والنبوة شاهد على إعجاز القرآن، فوظائف الإعجاز أعم زماناً ومكاناً وأشخاصاً، فتحديه قائم في كل زمان ومكان ومتوجه إلى كل جماعة وفرد وإن تباينت الجهات ويتجلى بالخطاب القرآني المستديم لأهل الشك والريب , قال تعالى[فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ]([27]) وفيه نكتةعقائدية، وهي الحث على الوقوف عند كل سورة بالذات لمعرفة ما لها من الخصوصية ومعاني الإعجاز.
  5. تحدي القرآن ذو عدة شعب وله وجوه مختلفة وهو في كل الأحوال رحمة للناس، وموضوع للهداية وإستنباط العلوم وإتخاذ العبر فلم يتوجه التحدي إلى أعداء الدين وأهل الضلالة وحدهم بل توجه أيضاً إلى المؤمنين ولكن بصفة المؤازر والوزير الذي يشد العضد، والبرهان المبارك الذي يرسخ الإيمان وينقل الإنسان إلى درجات اليقين.
  6. لقد تغشى إعجاز القرآن أفراد الزمان المتباينة والحال والمكان وكل ينظر إلى المعجزة من خلال واقعة أو بلحاظ أيام التنزيل ومجتمع مكة والمدينة وهو أمر صحيح إلا أن الإعجاز أعم زماناً ومكاناً وموضوعاً.
  7. إن القــرآن يمنع طرو الملل على قارئه، ويدفع السأم عن سامعه، وإن تكــررت القــراءة والسماع، وتلك خصوصية ينفرد بها القرآن.
  8. كثرة القراءة لا تزيده إلا حلاوة، وترديد كلماته وآياته يبعث في النفس الطمأنينة والرضا، قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الثناء على القرآن: لا يخلق على كثرة الترداد”([28]).

إستقلال كل سورة بإعجاز مخصوص لقوله تعالى في تحدي الكفار، وأهل الشك والريب، وكل سورة منه ذات علوم مستقلة وهي درجة عالية يرتقي فيها المسلم في سلم العلوم والمعرفة.

  • إنه رزق كريم ملأ آفاق الأرض، ونفذ إلى الجوانح والأركان من الإنسان.
  • فضح القرآن للكفار والمنافقين، وسوء ما يضمرون للإسلام، وهذا الفضح رحمة للناس جميعاً لما يتضمنه من التحذير والتنبيه والإنذار، وهو باب للتوبة والإنابة.
  • حفظه وتعاهده للديانات السماوية النصرانية واليهودية، ومنع التعدي عليهما، وإيجاد صيغ الإحترام بين الديانات والتوكيد على الإلتقاء بينها بسنن التوحيد وما لموضوعه من أهمية خاصة، ويعتبر هذا الحفظ في مفهومه فضحاً لمقولات الكفر والجحود.
  • تفسر آيات القرآن بعضهــا بعضــاًً فتجــد الآيـة تفســر اكثر من آية، وتارة يكون التفسير بين الآيتين أو أن الآية تفسرها أكثر من آية.
  • مع أن الإعجاز موضوع منبســط على كل آيات القرآن فقد أفردت في التفسير عنواناً مستقلاً للإعجاز في كل آية وسميته “إعجاز الآية”.

وفي البدايـــة خشيت عدم الموفقية في الأمر ليس في أصل المطلب والموضوع فالكبرى الكلية والمقتضي موجود، ولكن بســبب المانع الشخصي وعدم التوصل بفكري القاصــر إلى وجوه الإعجاز في الآية ولكن صار بفيض من الله علماً مستقلاً، وإشراقة من إشراقات هذا السِفر المبارك قال تعالى[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ] ([29])، وهو باب علمي تأسيسي ولابد أنه سيتسع في الأجيال اللاحقة.

  1. من إعجاز القرآن عدم إستيفاء هذه المجلدات الضخمة من كتب التفسير والدراسات لإعجاز القرآن وعلومه فهو المتناهي في عدد كلماته الذي يحيط باللامتناهي من العلوم .

ومن إعجازه الغيري أنك ترى كل من يطلع على شطر من كتب التفسير يشعر أن التفسير لم يستوف المطالب الملكوتية السامية في الآية القرآنية.

  1. إرتفاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكفاية القرآن كدستور ونظام حتى يوم القيامة، أي من إعجازه أهليته كمصدر ومنبع للأحكام على نحو مستقل ومستديم قال تعالى[وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّه]([30]).
  2. تثبيت القرآن لنبوة الأنبـياء الســابقين ومعرفة معجزاتهــم الحسية التي تأتي خطـــابـاً لمن حضــر أيام الوحي وإتـفق وجــوده مــع أيام نبي زمانه وتوكيدهــا وإقرارهــا، وملاحظــة حال هـذه النبوات فلو لم يأت بها القرآن ويثبتــها لم يحصل توثيق بعضها ومعرفتها، لعدم ذكـر الكثير منــها أو تفاصــيلها في غير القرآن، أو أن الكــتب التي ذكرت بها تعرضـت للضياع أو التحريف، وذكرها في القرآن برزخ دون إنكارها أو تحريفها أو التفريط بها كثروة عقائدية.
  3. ساهم ذكر قصص الأنبياء في القرآن في توثيق أخبار السنة النبوية لتحفظ وتتداولها الأجيال.
  4. أراد القرآن من قصص الأنبياء موعظة وعبرة ومدرسة وفي ذلك شواهد كثيرة من الآيات القرآنية كقوله تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ([31]).

والدراسات والأبحاث في قصص الأنبياء قاصرة عن اللحاق بالمنهــج الذي أراده الله عز وجل لها في المجتــمع وتهذيب النفوس وإصــلاح الحال، وهذا التقصــيــر منا لا يعــني ضياع هذه الفرص السماوية الكريمة بل التأجيل لها والتأخير لوجود الأصل ومضــامين هذه القصــص في القرآن تدعو العلماء للغوص في بحـــارهـــــا وإستخراج كنـــوزها، وســـيأتي من الأجيال الاحقة من يقوم بتوســعة مدرســـة قصص الأنبياء وإظـــهار ما لها من الوظـــائف العقائدية والأخلاقية والإجتماعية.

  1. عدم وصـول يــد التحــريف إلى القرآن، وإنفراده بالحفظ كامـــلاً مـــن غير تغيير او تبديـــل في ألفـــاظه وكلماته ومعانيه، وبذا ظل القرآن فوق الشبهات، وسليماًُ من الآفات، وممتلكاً للحصانة والمنعة الذاتية.
  2. إختلف العلماء في قدر المعجز من القرآن، والحق أن الإعجاز سور جامع ينبسط على كل آية من آيات القرآن فأن قلت أن التحدي فيه جاء بسورة منه أو بعشر سور كما في قوله تعالى[فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ] ([32]) والجواب من وجوه:

الأول: الإعجاز أعم من التحدي.

الثاني: السورة مركبة من الآيات فينبسط الإعجاز على الآيات.

الثالث: كل آية من القرآن نازلة من عند الله عز وجل.

  • قيل: إن هذا القرآن لو لم يكن بلسان قريش لما إجتمع له العرب البتة([33])، ولا ملازمة بين تصديق العرب للقرآن ولغة قريش فمقومات وأسباب تصديقهم أعم وأوسع، ولم تنحصر بلغة القرآن بل بإعجاز القرآن، ووجوهه المختلفة، وبالآيات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم،  وباللطف الإلهي الذي شمل كل مسلم بما فيهم غير العرب.

 وهناك لهجات في القرآن غير لغة قريش كلغة بني سعد بن بكر الذين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم  مسترضعاً فيهم، ولغات جشم بن بكر، وثقيف، وقيل إن تلك أفصح لغات العرب، وعن الواسطي: “في القرآن من أربعين لغة عربية منها قريش وهذيل وكنانة وخثعم والخزرج وأشعر ونمير وقيس عيلان وجرهم واليمن وأزد شنوءة وكندة وتميم وحمير ومدين ولخم وسعد العشيرة وحضرموت وسدوس والعمالقة وأنمار وغسان ومذحج وخزاعة وغطفان وسبأ وعمان وبنو حنيفة وثعلب وطي وعامر بن صعصعة وأوس ومزينة وثقيف وجذام وبلي وعذرة وهوازن والنمر واليمامة([34]).

  • مواجهة القرآن لما قيل فيه من أسباب الريب وتصديه لمحاولات النيل منه، وصيغ محاربته وفضحها [ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً]([35]).
  • ذكر القرآن لأقاويل المبطلين الذين حاربوا القرآن كما في الآية أعلاه من سورة الفرقان.

 وتوثيق أقوالهم من غير إحتراز من أضرار مثل هذه الأباطيل على الناس فهو لم يتجاهلها أو يتركها إعراضاً عنها بل ذكرها ليفضحها ويحذر الناس منها، ويبين عدم ملائمتها للواقع.

 لقد أرادوا بأقوالهم تلك إستدراج النفوس الضعيفة ومخاطبة النفوس الشهوانية وأهل الحسد والضلالة، فبيّنها القرآن للناس جميعاً ودعاهم إلى تحكيم عقولهم والإستدلال على نزوله من عند الله بالبرهان اللمي والإني، أي بالإستدلال من العلة إلى المعلول، وبالعكس.

  • كيفية الوحي وجه من وجوه الإعجاز القرآني , فقد كان النبي يتفصد عرقاً عند نزول القرآن عليه في اليوم الشديد البرودة ثم يخبر عن الآية أو الآيات التي أنزلت عليه، وكان ذلك سبباً في إسلام الكثير من الناس.
  • 25- أسباب النزول من إعجاز القرآن لأنه حضور سماوي لقضية في واقعة وترى فيه حلاً وموعظة وجواباً وحكماً، كما أن أسباب النزول ليست متعلق الآية القرآنية الوحيد لأن حكم الآية مستمر ومتصل إلى يوم القيامة.
  • التكامل في عقيدة وأحكام القرآن وإنعدام الثغرة أو التعارض بين موضوعات آياته وأحكامه وسننه.
  • إخبار القرآن عن الحوادث قبل أوانها، ومن الإعجاز ذكر الواقعة في القرآن عند حدوثها وما فيه من العبر والدروس والموعظة.
  • الآيات الكونية والعلمية شاهد على إعجاز القرآن.
  • دعوة القرآن إلى العلم والبحث والتحقيق وتحث أول آية نزلت من القرآن على طلب العلم[اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ([36]).
  • عدم معارضة الإكتشافات العلمية الجديدة مع القرآن وعلومه بل إنها شاهد على إعجازه ومصداق لآياته.
  • ملائمة القرآن لكل زمان ولمستحدثات المسائل، وما يطرأ من الإبتلاء الشخصي والنوعي، فالقرآن سلاح للدخول في نظام العولمة والتصدي للمفاسد العرضية التي تأتي معها [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ([37]).
  • أغني القرآن أم محتاج؟ الجواب إن كل موجود عدا الله محتاج له ســبحانه، والإحـتياج من صــفات الممكن، وكلام الله عز وجل غير الله فهو كضياء الشـمس بالنسبة لها وإن كان قياساً مع الفارق، نعم القرآن غير محتاج الى غيره تعالى في بقائه، ولكن هذا لا يلغي دور المسلمين في لزوم تعاهده وحفظه والعناية به من خلال التقيد باحكامه قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ([38]).
  • لقد أبقى القرآن النبوة بأحكامها وسننها ودلالالتها، فحفظ للأنبياء ذكرهم وإكرامهم وعظيم منزلتهم عند الله عز وجل.
  • إعجــاز القرآن في العلوم التي تضــمنها ســـواء ما تم إكتشــافه منها أو لم يتم بعد وفي مختلف الأبواب، لذا ترى الباحـــثين من المســـلمين يتصـــدون للعلوم الجـــديـــدة باســـتخراج الآيـة المناســبة لها من القرآن وهو أمر حسن، والأولى منه أن نستنبط من القرآن العلوم ونخبر عن إمكان الإكتشاف قبل حصوله، لتصبح الإكتشافات دليلاً على:

الأول: إخبار القرآن عن المغيبات.

الثاني: إحاطة علوم القرآن بالحوادث والوقائع ، ليكون من الشواهد على علم الله عز وجل بكل شيء ، قال تعالى[رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا] ([39]).

الثالث: إستقراء العلوم من القرآن لتكون مدخلاً للإيمان لما لها من شواهد وأخبار في القرآن.

الرابع: إقامة الحجة على الكفار.

الخامس: آيات القرآن والنبوة مصاديق لتحدي وقهر وتبكيت الكفار ، وتوكيد عجزهم عن الإتيان بسورة منه ، قال تعالى[فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ]([40]).

  • ينفرد القرآن في بلاغته من جهات منها تأليف الحروف ونسق الألفاظ وعذوبتها.
  • تعدد المعاني للآية القرآنية والمضامين القدسية والمواضيع لكل منها.
  • للآية القـــرآنيــة ظهــر وبطـن وحد ومطــلع كما ورد في الحديث([41])،مما يفتح الباب أمام الدراسات القرآنية على نحو انحلالي ومتشعب.
  • في علم الأصول مباحث مســتقلة لمداليل الألفاظ وظواهرها تسمى مباحث الألفاظ مما يتوصل به الى الحكم الشرعي بعلم تعبدي وهي الصغرى، اما الكبرى فهي الأمارات الظنية وتسمى مباحث الحجة ومنها حجية ظواهر الكتاب، والقرآن يحتوي على الكبرى والصغرى.

 هل حجية ظواهر القرآن من الإعجاز الذاتي أم الغيري، الجواب إنها منهما معاً، ومن الإعجاز الجامع لهما بحسب اللحاظ والموضوع والحيثية، فبالنظر من جهة البلاغة ونظم الكلمات وسياق الآيات فهو من الإعجاز الذاتي، ومن جهة ما يترتب عليها من الأثر فهو من الإعجاز الغيري، ليشتركا في ملأ الأرض بأنوار الهداية.

  • المعنى السياقي للآيات والروابط بين الكلمات ومعاني الآيات من بديع علوم القرآن وأسرار بلاغته وقد أسسنا مبحثاً في تفسير كل آية من هذا السفر إسمه في (سياق الآيات) لبيان صلة الآية بما سبقها ومما يتعقبها من الآيات.
  • يمكن استحداث علم جديد في الدراسات القرآنية وهو التفسير بالمفهوم أي المعنى المقابل للمنطوق وقد خصصنا عنواناً مستقلاً له في تفسير كل آية.
  • ما في القــرآن من التعريض وصــيغ الكنـاية والإشــارة علم مســـتقل تتفرع عــنه من أبواب من المعارف الإلهية ويفوق المعاني اللغوية والمقاصد الخاصة لها لأنها في القرآن مدرســة عقائدية واخلاقيــة وشـــاهد على الإعجــاز وعنوان لبقاء مفاهيمه غضـــة طرية وباعث للشوق والميل الى قراءته وتدبر معانيه.
  • بقاء القرآن كاملاً محفوظاً ومصدراً للأحكام والتشريعات ويمكن ان نطلق عليه الإعجاز التأريخي للقرآن وهذا وحده يستحق تأليف كتاب مستقل ويخصص لكل قرن ولكل بلاد فصل مستقل قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ([42]).
  • منزلة واثر القرآن في تثبيت الإسلام وانتصار المسلمين في الكتائب.
  • شهادة القرآن على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  فهو معجزته الخالدة.
  • معجزات الأنبياء الحسية إنقطعت بذاتها بإنقــراض أعصارهم ومعاصريهم فلم يشهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وفيها تثبيت وتوكيد لمعجزات الأنبياء مثل سفينة نوح وناقة صالح.
  • سمو آيات القرآن للعلوم وتفوقها على العلوم في كل زمان وليس في أيام التنزيل وحدها أي أن الإنسان وفي أي جيل يشعر بالوجدان أن علوم القرآن تفوق علوم عصره، ولا يمر زمان إلا وتظهر فيه آيات تدل على صدق القرآن وسماويته.
  • تقسم المعجزة الى قسمين:

الأول – المعجزة الحسية: وهي التي تدرك بالحواس كعصــا موسـى وناقة صالح، وقالوا ان المعجزات الحسية جاءت لقلة بصائر أهل زمانها، والأقوى انه لإقامة الحجة عليهم ولأن المعجزة الباقية هي القرآن وليس المعجزات السابقة، فالمعجزات الحسية للأنبياء السابقين شاهد على إعجاز القرآن وإنفراده بالمعجزات العقلية.

الثاني – المعجزة العقلية: وهي التي يدركها الإنسان بعقله ويتوصل الى مضامينها وما فيها من التحدي والبرهان بالبصيرة لا بالبصر ليعلم ان هذه المعجزة من عند الله تعالى ويعجز عن اتيانها البشر مجتمعين ومتفرقين، لذا ترى باب الدخول الى الجنة مفتوحاً يتسع أو يضيق بحسب إطلاع الناس على علوم وأسرار القرآن وإمتثالهم لما فيه من الأحكام.

  • إمتلاك القرآن للأهلية عن الدفاع عن نفسه وإثبات زيف الطعن الموجه إليه من قبل أهل الضلالة، ومن يتعمد التشويه، وهو يخاطب غير المسلمين بما يؤكد سماويته فمثلاً ظهر في العقود الماضية من السنين محاولات للمستشرقين وكتبوا عن القرآن.
  • بين الإعجاز والوحي عموم وخصوص مطلق، فكل وحي هو إعجاز، وليس كل إعجاز هو وحي، فمن الوحي ما هو ليس بقرآن وان كان أصل الوحي إعجازاً، لأنه خارق لقدرات البشر وكل آيات القرآن جاءت وحياً بواسطة جبرئيل عليه السلام من عند الله وهي حكمة وخير محض، قال تعالى[ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ]([43]).
  • مخاطبة القرآن للعقول والنفوس كل حسب مداركه، وكل أمة بما يناسبها ويصلح حالها، وتجد في القرآن قاعدة كلية وهي أن كل إنسان يجد حاجته، ومفتاح أموره في القرآن معلماً ومرشداً وهادياً.
  • ورود الجملة الخبرية بمعنى الإنشائية والأمر، سواء على نحو الوجوب أو الإستحباب وفق القرائن والآيات الأخرى.
  • 52- الإعجاز في خواتيم الآيات، وهذا علم جديد وكنز لم يكشف نقاب البحث والتحقــيق عنه بعد، مثل قوله تعالى [ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ]([44])، [ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ]([45])، فهذه الخواتيم وان تكررت في بعض آيات القرآن الا ان لكل منها معاني ومضامين قدسية تختلف بحسب وقوعها في الآية، ولكل منها دلالات خاصـة وفق السياق وتصلح لإستنباط القواعد وإستظهار السنن.
  • خلو القرآن من التقسيم والتعدد والتشتت مذاهب وفرقاً، وبذا يكون مانعاً دون زيادة الفرقة وأسباب الخصومة، وتعدد الإنشطارات، ومن يسعى إلى الفرقة يجد القرآن معرضاً عنه، ومن يجاهد في سبيل الوحدة الإسلامية يجد القرآن إماماً وقائداً ومحرضاً وعوناً له.
  • ملائمـة أحكام وآيات القرآن لكل زمان ومكان، وإتصال إعجازه مع كل ظاهـــرة غالبة، سواء كانت سيـاســية أو إجتـماعية أو إقتصادية.

فقد تطــغــى على بلد أو أكثر حالة معينــة تكون محط إهتمام الناس وتنال رضاهم وتســـتحوذ على توجــهاتهم وتتـراجع أمامهــا الظواهر الأخرى ولكن القرآن يبقى ملاذاً ومرجعاً للناس عامة، وللمسلمين خاصة ويحافــظ على منزلتــه عند الناس ولا تعارضــه او تزاحمه الظواهر والنظريات والفلســـفة المســـتحدثة والأمور الإبتلائية.

مثلاً ينشغل العالم اليوم بالعــولمــة والثورة المعــلومــاتيــة ولا تشـــعر بتعارض بينهــا وبين القــرآن إلا مــن خـــلال ما يطرأ عليها من التشويــه والمفاسد العرضيـة، ويبقى القرآن حــاجـــة في خضــم الأحداث والتطورات السريعة وموضـــوعاً وحكـماً لتنقيح العلوم.

  • يولي القرآن عناية بالنفــوس وخلجاتها، وتتجلى فيه نظـــرية الإسلام في الوسـط الأخلاقي، فالشجاعة متوسط قوة الغضب، وطرفاها التهور والجبن وهما مذمومان، والعفة تتوسط قوة الشهوة وطرفاها الشره والخمول، مع الثناء على أهل الإيمان والصلاح، قال تعالى[وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ([46]).
  • لقد أسس القرآن مدارس لا يستطيع علم النفس والمدارس الإجتمـــاعيـــة الحـــديثـة ادراك فلســــفتــهــا الأمـر الذي يلح على الباحثين بلزوم اســـتظهار الكنوز والمعارف القـــرآنيـة في باب الإجتمــاع واصـــلاح النفـــوس وازالـة الكدورات الظلمانية.
  • حالة الوئام والوفاق بين المسلمين ومنع الحــروب وحدوث المعارك بين الفصائل والأمصار الإسلامية، وحدوث بعضها انما يحصل بسبب ابتعاد احد الطرفين أو كليهما عن الإسلام واحكامه , قال تعالى[وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] ([47]).
  •  فضح القرآن لمن يتظاهر بالتقيد باحكامه كذباً وادعاءاً وكذا فضح وعدم تصديق الذي يتخذ الذرائع للتعدي على الآخرين وشن الحروب على جماعة المسلمين.
  • تنمية ملكة التقوى في النفس وجعلها تخشى الله عز وجل وتتجنب معاصيه.
  • خلق حالة من المراقبة الذاتية للنفس في الأفعال، وانماط السلوك، وصيغ التفكير وعدم الإكتفاء باجتناب المحرمات بل يجعل القرآن عند اهله ملكة الإبتعاد عن مقدماتها، والنفرة من القبيح، والحذر من الشبهات.
  • إيجاد سجايا إيمانية ثابتة عند الفرد، وفي المجتمعات بحيث تستهجن الجماعة أي فعل مغاير للإيمان.
  • تربية الأمة والأفراد وإعدادهم لحياة كريمة مرتكزة على الإيمان وأداء الفرائض ونبذ السيئات.
  • من النظــريات التي تبحث في تفســـير العــلاقـــة بين اللفـظ والمعنى وكيفية تبادر المعنى عند اطلاق اللفظ (نظرية التعهد)([48])، وحاصلها ان وضع اللفظ مرتكز على التباني النفسي الجامع للمتكلم والســامع في الإتيان بلفظ معين لإفادة معــنى مخصــوص، وكأنه تعهد عام تنشـــأ وتترشـــح عنه العلاقة الوضعية بين اللفظ والمعنى، فدلالة اللفظ حسب هذه النظرية تكون بالإلتزام والتعهد باظهار لفظ مخصوص لإرادة معنى معين دون غيره من المعاني.

 ومن إعجاز القرآن أنه يتخطى هذه النظــريــة وأمثالها لتعدد المعاني والمفاهيم للآية القرآنية، فلقد أراده الله عزوجل مفتاحاً للعلوم، ومعانيه لا تنحصر بالدلالة التصديقية بل تشمل الدلالة بالمفهوم ومعايير اللغة ومستحدثات المسائل وما يسمى بتداعي المعاني.

  • 64- إستغناء القرآن عن الآراء لذا وردت النصوص بالنهي عن التفسير بالرأي (وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من فسر القرآن برأيه فليتبوء مقعده من النار([49])، وعليه إجماع المسلمين، وهذا النهي في مفهومه يدل على اكتفاء القرآن بذاته في تفسير آياته او الرجوع الى السنة الشريفة.
  • 65-                  يمكن تأسيس علم جديد في الإعجاز بتقسيمه بلحاظ الزمان:

الأول : إعجاز القرآن قبل نزوله.

الثاني : إعجاز القرآن أيام التنزيل والنبوة.

الثالث : إعجازه في أيام التابعين وتابعي التابعين.

الرابع : إعجازه في الأزمان اللاحقة.

الخامس : في زمن الثورة الصناعية.

 السادس : للقرآن إعجاز متصل منبسط على كل الأزمنة.

السابع : إعجازه في أيام العولمة وتداخل الأمم.

الثامن : تأسيس القرآن لعلوم التأريخ.

التاسع : الإعجاز بالتتبع المكاني والأمصار المختلفة.

66-                الآيات القرآنية تفسر بعضها بعضاً ويثبت بعضها البعض الآخر.

67- تنظيم القرآن للحياة المعاشية والإجتماعية، مثلاً تنظيمه للوقت وبيانه لأحكام الشهور والسنين، ومنع النسيء والزيادة فيها، وقد ظلت آية النسيء حجة ووثيقة على قوة أثر وموضوعية القرآن في الوقائع والأحداث ، قال تعالى[عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ]([50]).

ومن الآيات الإعجازية في النظام الملكوتي أن كلاً من الحساب الشمسي والقمري لا يصح إلا بلحاظ إثني عشر شهراً لكل منهما.

68- منع القرآن الإختلاف والخصومة في المعاملات والنظم التشريعية فمثلاً تجد آيات الطلاق دقيقة في ضبطها للأحكام وكذا بالنسبة لأحكام النكاح وغيره.

69-      إيجاد القبول النفسي عند الناس لأحكام القرآن فلا تجد إعتراضاً أو تجرأ على التأويل الصحيح.

70-                 القرآن سماوي النشأة، عالمي الوظيفة، دائم الوجود في النشأة الأولى.

71-   إقترحنا تخصيص يوم باسم “اليوم العالمي للقرآن” يكون مناسبة لإظهار إعجاز القرآن وبيان مدارسه([51]).

72-      يذّكر القرآن بالآخرة ويحث على الإستعداد لها، وكان علي uإذا مّر بآية فيها ذكر الجنة فرح وإستبشر، وإذا مر بآية فيها ذكر النار بكى وحزن.

73- سميت الآية القرآنية آية لعجز البشر عن الإتيان بمثلها، ولما فيها من الإعجاز، أي ان الإصطلاح القرآني والإرادة التكوينية أعم وأكبر من المعنى اللغوي للفظ.

74-      علوم القرآن أعم وأوسع من علوم اللغة وقواعد النحو وأسس البلاغة فمثلاً علم البديع يبحث في محسنات الكلام اللفظية والمعنوية في العرض وليس ذات الكلام، والإعجاز القرآني يشمل الذات والعرض والمضمون.

في حديث حماد بن زيد عن عكرمة قال: جاء  الوليد بن المغيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال له إقرأ علي فقرأ عليه [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]([52]) فقال له أعد فأعاد، فقال: والله ان له لحلاوة، وأن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمعذق، وما يقول هذا بشر([53]).

وبذا يظهر الإقرار باعجاز القرآن ولكن الحسد والعناد والجحود وحب الرياسة وإغواء الشيطان وأعوانه أمور حالت دون ظهور هذا الإقرار في الأفعال كمبرز خارجي مستقر.

وذهب المفسرون إلى أن إقرار الوليد يدل على الإعجاز في فصاحة القرآن ولكنه أعم وأكثر ســعة وشمولاً فقد أشار بوصـــفه إلى علوم القرآن التوليـدية وما ينتظـــره وما يترشــح عنه في المستقبل.

 وحينما قالوا: ســـحر، شــعر، أسـاطير الأولين، ذهب المفســـرون وفي بــاب إعجاز القرآن إلى أن هذا من التحير والإنقطاع، وهو حرب وعناد لأن تحد القرآن كان كبيراً أحاط بالكفار وأسقط ما في أيديهم فلجأوا إلى الإفتراء الساذج.

75-      لم يكن العــرب كلهم مشركين فقد كان فيهم النصارى وكان بينهم اليهود، وربما تهود بعض الأفراد والجماعات من العرب لأن أمهاتهم من اليهود كما في كعب بن الأشرف.

والقرآن نزل بلغة العرب فلابد أن يحمل مع الفصاحة والبلاغة الإعجاز في العلوم والأديان والشرائع وهذا ظاهر بالدراســات المقارنة وبتأثيــره على الناس عموماً.

76-  تصدى القرآن للتحريف في الكتب السابقة ودعا الى حفظها وصيانتها، ونبه الى الأضرار الناجمة عن التحريف وهذه الدعوة من وجوه:

الأول: الإخبار عما طرأ على الكتب السابقة من التحريف، قال تعالى[يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ]([54]).

الثاني:إخفاء البشارات الواردة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية السابقة ، وفي التنزيل[َأتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ] ([55]).

الثالث: تصديق القرآن للتوراة والإنجيل أي لما ورد فيهما من أخبار الوحي.

77- قال جماعة من العلماء أن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات وأن العرب كلفت من ذلك ما لا يطاق، وبه وقع عجزها، ولكن التحدي وقع بكلام الله تعالى وهو المتكون من الألفاظ التي تصدر عن الباري عز وجل وتدل عليه، والكلام غير الذات.

78- ذهب جماعة من المعتزلة منهم النظّام إلى القول بأن إعجاز القرآن بالصرفة أي أن الله عز وجل صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم عن التفكير بها، وكان مقدوراً لهم، ولكن الله جعل المعوقات والموانع الخارجية دون ذلك وبه قال السيد المرتضى.

ولكن القرآن ينطق بعجزهم مع بقاء قدرتهم [ قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ ]([56]).

والإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن بذاته ومجرداً، وأشكل الزركشي عليهم بقوله (فيلزم من القول بالصرفة زوال الإعجاز بزوال التحدي وخلو القرآن من الإعجاز وفي ذلك خرق لإجماع الأمة)([57]).

 ولكن النوبة لا تصل الى زوال التحدي وخرق الإجماع بل هو رأي في وجه ونوع الإعجاز مع التسليم والإقرار به.

وقال القاضي ابو بكر: وما يبطل القول بالصرفة انه لو كانت المعارضة ممكنة وانما منع منها بالصرفة لم يكن الكلام معجزاً.

وهو إستدلال لطيف ولكن الإعجاز باق حتى مع الصرفة ليصبح إعجازاً بالواسطة، باضافة فضل الله تعالى في تحصين كلامه ومنع الناس من التفكير بالمعارضة.

 لقد جعل الله الناس يدركون انهم لو اقدموا على المعارضة فانهم لا يحصدون الا الخزي والفشل السريع، كما أن القرآن ليس من السهل الممتنع بل انه معجز في ذاته من غير أن تصل النوبة إلى الواسطة .

ويمكن الرد على القول بالصرفة أن الله عز وجل تحداهم بالإتيان بسورة مثله وبعشر سور من مثله قال تعالى[فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ] ([58]) قال تعالى [ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ]([59]).

79-  يبين القرآن أن الدين وأحكام الشريعة حاجة إنسانية، ودواء للأدران والعلل والأمراض، وهو مصدر الكمالات الإنسانية فمن إعجازه أن الناس يشعرون بالحاجة إليه، وعدم الإستغناء عنه إماماً وحاكماً ودليلاً ومنبعاً للعلوم.

80-         من إعجاز القرآن أن سوره متباينة في الطول والقصر، وكذا آياته فمثلاً تجد آية الدْين([60]) تبلغ نحو خمســـة أضعاف سورة الكوثر، والتحدي جاء بصيغة السورة.

81-                 تكرار الآية له دلالات إضافية وإعتبارية، وأخرى تتعلق بالمعنى السياقي للآية.

82-      كل آية بمنزلة الرسول والملك النازل والإمام المصاحب وهي عقل إضافي للإنسان، ونفس متممة للنفس اللوامة، وواقية من الأمارة بالسوء.

83-              إنها طريق إلى المعارف الحقة الدائمة، وكل آية سلاح مسخر لكل واقعة.

84-                إعجاز القرآن نوع تحد، ووعد بإظهار نظريات العلوم المختلفة.

85-      ترى الآية أولها في موضوع ، وكلاً من وسطها وذيلها في موضوع أو شيء آخر مما يدل على تعدد معاني ومفاهيم الآية.

86-   من إعجاز القرآن فضله على العربية سواء في حفظها أو تنقيح علومها.

87- موضوعية وشأن البلاغة في القرآن لم يحل دون اهمية وموضوعية الوجوه الإعجازية الأخرى.

القـــرآن هو الحـــرز الملكـوتي الدائم للشــريعة، والمانع من حدوث الزيادة وإدخــال الحديث الموضـــوع فيها، وهو برزخ دون الكذابة ومنعـــهم من الإفتراء على النــبي صلى الله عليه وآله وســــلم، أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن ابن مسعود قال : لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، لتكذبوا بحق وتصدقوا بباطل . فإن كنتم سائليهم لا محالة فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه([61]) .

88-  قال الإمام جعفر الصـــادق عليه السلام: “قال رســـول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ان على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نور فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه”([62]).

89-    ربط الماضي بالحاضر والمستقبل وإستقراء الدروس والعبر التأريخية.

90-  عالمية النظرة القرآنية وإستيعاب مفاهيم القرآن للحضارات، فتجد العالمية في آياته متعلقة بالماضي كما في قوله تعالى[فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ]([63]).

أما في المستقبل فالقرآن يبشر بسلطة أهل الإيمان بالعدل، والإنصاف [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ] ([64]).

ليبين التداخل بين الماضي والمستقبل وإمكان حدوث الوعد واقعاً وعدم استحالته وكل آية منه مدرسة.

91- إخبار القرآن عن قدرة الإنسان على العلوم على نحو الإطلاق، قال تعالى [ وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ]([65]).

92-إظهار أسرار البلاغة وتثبيت قواعدها وجعلها مادة ووسيلة لإظهار إعجاز القرآن وإبراز علومه والكشف عن أسراره، فمن إعجازه أمور:

الأول: تنظيم القواعد العامة للغة وعلومها.

الثاني: معرفة اعجاز القرآن نفسه من خلال الدراسات المقارنة.

الثالث:تثبيت وتهذيب قواعد اللغة.

 الرابع: ترشح علوم مستحدثة من لغة القرآن.

93-  نشوء نظريات النحو والبلاغة التي أصبحت بالقرآن علماً مستقلاً له أصوله ومقاييسه، بعد ان كانت عبارة عن ضوابط متعارفة تبرز في أشعار العرب الجاهليين.

94- جعل القرآن الحاجة والفاقة إلى علوم وقواعد النحو والبلاغة متصلة ودائمة كنوع طريقة للغوص المبارك في بحار القرآن وإستخراج الدر واللآليء العلمية.

95-إثارة النفس ودفعها إلى الغايات النبيلة وتهذيب الوجدان.

96-           تنقيح الأقوال والألفاظ وإصلاح الألسن، ومنع الفاحش من القول، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ([66]).

97-    إتصاف اللفظ القرآني بطلاوة وعذوبة يدركها كل إنسان.

98-  تختلف بلاغة القرآن عن غيرها في الموضوع والرتبة والتحدي وهي بلاغة في حقيقة وصدق وليس في خيال وكذب، فالقرآن ليس بلاغة جميلة فقط او دلالة محدودة على المعنى، بل ان لغته آلة لتعدد المعاني وجزالتها وبيانها ليتذوق الناس في كل زمان الكلام الفصيح والألفاظ العذبة الجيدة التي جاء بها القرآن بأرقى صيغ النطق.

99-تناثرت علوم البلاغة في الشعر والمثل، والحكمة والنثر، ومنهم من قال إن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات وان العـــرب كلفـــت أكثر مما تطيــق فعجزت عن إدراكــه، والأقوى أن التحـــدي وقع بالكــلام الذي يدل على وجوب عبادة الله إلهاً وخالقاً ورباً خصوصـــاً وأن الإعجــاز لا يتم بالمجـــهــول الغائب عن الحس والوجدان.

فالإعجاز تم بذات القرآن الموجود بين ظهرانينا قال تعالى[أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ]([67]).

100-     إدعى قوم أن إبن المقفع عارض القرآن ولم تثبت هذه الدعوى، والأصل في عمل المسلم الصحة، وله الدرة واليتيمة كتابان احدهما يتضمن حكماً منقولة عن الحكماء وخالية من بديع اللفظ والمعنى، والآخر شيء في الديانات منسوخ من كتاب يزرجمهر في الحكمة.

101-     من وجوه إعجاز القرآن  ما فيه من المغيبات وفي كل آية بالدلالة التضمنية أو مفهوم المخالفة والمنطوق والمفهوم وفيه دلالة على صدق تنزيله من عند الله تعالى والغيب على وجوه:

الأول: توثيق قصص ما تقدم في الزمن الماضي والأمم السابقة، ولما ذكر الله عز وجل في القرآن قصة نوح ونجاته ومن معه، قال سبحانه[تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ] ([68]).

الثاني: إخبار القرآن عن الوقائع في الزمن المستقبل، وبشارات إنتصار الإسلام، وعلو كلمة التوحيد.

الثالث: مجيء آيات القرآن بتوكيد عالم الآخرة، وما فيه من الثواب والعقاب، وقد مدح الله عز وجل المسلمين بقوله[وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ] ([69]).

102- لقد أحاط الله بكل شيء علماً، ومنه علمه بتركيب كلمات القرآن وكونه جامعاً لكل العلوم والوقائع.

103- إنتهى السحر في زمن موسى إلى غايته، وكذا الطب في زمن عيسى، والفصاحة في زمن محمد، ومعجزة عيسى في الطب أبرع ما تكون في زمانها، وبما أن زمان محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا ينحصر بايام حياته وبعثته بل هو باق ببقاء الإسلام كديانة ناسخة وإلى يوم القيامة فلابد وأن إعجازه في كل هذه العلوم.

104- نضارة بلاغة القرآن وعدم تأثرها بشيوع اللهجات العامية الدارجة والمستوردة ، فكل إنسان يدرك خفايا التنزيل التي تدل عليها بلاغته.

وهو من عمومات حفظ الله عز وجل للقرآن، وعدم طرو التحريف عليه قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]([70]).

فمن وجوه حفظ الله للقرآن بقاؤه على ذات اللغة، وصيغ الفصاحة والبلاغة، وفيه حث للناس للإرتقاء إلى منازل العلم.

105- من إعجاز القرآن ما ظهر، ومنه ما دق وغمض، ومنه ما ظل معلقاً غير منجز لأن أوانه لم يحن بعد، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]([71]).

106- لم يتحد القرآن الناس عامة والعرب خاصة بالكلام القديم، بل بهذا النظم والحروف كلها ومتابعتها وإطرادها.

107-  من ضروب ودرجات في البلاغة منها:

الأول : البليغ الرصين الجزل.

الثاني : الفصيح القريب السهل.

الثالث : الجائز المطلق المرسل.

والقرآن جاء بأرقى مصاديق الوجوه الثلاثة.

  1. في القرآن توحيد الله وتنزيهه في صفاته بأفصح إسلوب وأبين معان.يات
  2.  إنه دعوة إلى طاعة الله، وفيه بيان لسبل عبادته من تحليل وتحريم وحظر وإباحة.
  3. فيه دعوة وإرشاد إلى الأخلاق الحميدة بأحسن إسلوب.

وقد جعل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أسوة للناس جميعاً في حسن السمت والسجايا الحميدة قال تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ([72])، وعن عائشة : أن سعيد بن هشام سألها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : كان خلقه القرآن([73]).

  1. لما عرف المشركون بديع نظم القرآن قالوا: شـــعر، ولما أحسـوا بالعجز عن الإتيان بمثله وعن فهمــه قالوا إنه ســحر، حسداً وبغياً لما رأوا سلطانه في النفوس ونفاذه إلى شغاف القلوب، لقد جاءهم الكتاب وما فيه من العلوم فتحيروا وجهلوا حقيقته، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر وجحد.
  2. بعض المعاني مترادفة ومتقاربة المعنى كالعلم والمعرفة، والشح والبخل، وعند أهل الإختصاص بينها عموم وخصوص من وجه، فلها وجوه للإلتقاء، وأخرى للإفتراق وتتضح السعة والتداخل والتباين في القرآن بعدم إمكان الإتيان بالرديف بديلاً.
  3. صنف أحد العلماء كتاباً فيمن مات بسماع آية من القرآن، مما يدل على إقرار النفوس بإنه كلام يفوق أوهام البشر.
  4. لما سمـــع جبير بن مطعم قراءة النبـــي صـــلى الله عليه وآله وســـلم للطور حتى إنتهـــى إلى قوله تعالى [ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ]([74]) قال: خشيت ان يدركنــي العذاب، وفي لفظ كاد قلبي  يطير فاســلم.

أي أن القرآن داع إلى الله وسلاح للهداية والرشاد.

  1. جمع القرآن بين صفتي الجزالة والعذوبة مع أنهما كالمتضادين، فالجزالة التي لا توجد الا بما يشوبها من القوة وبعض الوعورة، والعذوبة ما يضادها من السلاسة والسهولة.
  2. كون القرآن آخر الكتب يعني غناه عن غيره، فالكتب السابقة إحتاجت في تثبيتها وتوثيقها التفصيل والبيان عما فيها.

نعم جاءت الكتب السابقة بالبشارة به، وعندما قام جماعة من أهل الكتاب بتحريف البشارات بالتنزيل تجلت معاني الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن.

  1. قال القاضـــي أبو بكر في إعجاز القرآن ذهب عامة أصحابنا وهو قول أبي الحســن الأشعري في كتبه أن أقل ما يعــجـــز عنه من القرآن الســــورة قصيرة كانت أو طويلة أو ما كان بقدرها([75])، أي أن الآية بقدر سورة الكوثر تكون معجزة.

وهذا القول صـــحيح إلا أن إعجــــاز القرآن يشـمل كل كلمة في القرآن لما فيها من اعجاز بالذات وبالعرض وبالسياق والمعنى الإصطلاحي، كما أن إعجاز القرآن علم مستقل وفيض يترشح على كلماته وحروفه.

 وقال بعضهم أن كل سورة برأسها معجزة , وهو حق .

  1. الإعجاز أعم من أن ينحصر بزمان دون زمان بل هو متجدد موضوعاً وحكماً.
  2.  من إعجاز القرآن تصــديه لنعــتـه بأنه شـــعر وإبطاله لهذا القول قال تعالى[وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ] ([76])، فلو كان شــعراً لبادروا إلى معارضته.

       وأقل الشعر بيتان وإليه ذهب أكثر أهل الصناعة، وقالوا: ما كان على وزن بيتين، ولكن يختلف وزنهما وقافيتهما فليس بشعر، ونفي صفة الشعر عن القرآن يعني في دلالته الإلتزامية أنه ليس من صنع البشر وتأليفهم.

  1. تقدم علم التفســـير والتأويل على الصـــناعــة النحــوية لأنه أوســـع وأعـــــم منها مما يستلزم عدم حصر مفاهيم القرآن والدلالة النحوية للكلمة مثلاً [سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ]([77]).

و(كم) هنا خبرية، ولكنها تصلح أن تكون إستفهامية.

  1. من إعجاز القرآن تشريفه للأمة التي نزل عليها، وهم عموم المسلمين في أنحاء الأرض بإعتبار أنه معجزة عقلية، ومعجزات الأنبياء السابقين معجزات حسية، وقيل أن معجزات بني إسرائيل كانت حسية لقلة بصيرتهم، ولكنه للغالب في زمانهم، وقد ورد قوله تعالى في بني إسرائيل[اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]([78])، فلقد أراد الله عز وجل لآيات القرآن الخلود.
  2. الأولى للعلماء عدم تحديد مفاهيم إعجاز القرآن بل هو علم مفتوح إلى يوم القيامة، والذي نجهله منه أكثر من الذي نعلمه بكثير بل من إعجازه أن عقول البشر لا ترقى إلى إدراك معشار إعجازه كموضوع وحكم ومصاديق، ونعرف أن من إعجازه الفصاحة وهو علم قائم بذاته ، وفصاحة القرآن مدرسة لإستنباط المعارف.

ومن إعجازه إنبثاق العلوم منه لتلتقي مع مفاهيمه من غير تعارض بينها مع تحديه لها في كل زمان، وإعجازه علم توليدي إنشطاري يتجدد بالذات وبالعرض.

  1. ســلامة القرآن من التحريف وعجز أعدائه عن النفاذ إلى مضمونه وكلماته وآياته، وإمتناعه عن النقص أو الزيادة والتبديل والتغيير، ومن الآيات التي تدل على حفظ القرآن قوله تعالى[إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ] ([79]).
  2. صيانة علوم تفسير وتأويل القرآن، وخلوها من الخلل والإضافة والتحريف والتشويه.
  3. كيفية نزول الوحي وما كان يصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثناءه آية اعجازية، وكانت سبباً لإسلام أناس كثيرين، لما فيه من الآيات.
  4. في القرآن بيان للحوادث قبل وقوعها.
  5. حث القرآن على العلم والتحصـيل بذكر الآيـــات الكونية والعلمية دليل على إعجاز القرآن وإشارة إلى صدق نزوله من عند الله.
  6. تجدد إعجاز القرآن في كل زمان فهو الذي يتحدى النظريات الجديدة في الميادين المختلفة مع حضوره إماماً وفيصلاً في حال الشدة والرخاء والعلوم والدراسات والمشاريع.
  7. حاجة الناس جميعاً لكي ينهلوا منه وعدم حاجته للناس.
  8. علوم الحكم والقضاء المناسبة لكل الأزمنة كما في أحكام القصاص والمواريث وغيرها، قال تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ]([80]).
  9. خطابات القرآن آية إعجازية بالإضافة إلى ما فيها من تقسيم الناس تقسيماً إستقرائياً بصيغة ” يا أيها الناس” الشاملة للجميع من غير لحاظ للملة والجنس، و”يا أيها الذين آمنوا” التي تخص المسلمين والمسلمات على نحو العموم.
  10. خلود القرآن مما جعله شاهداً على الزمان والممالك وتأريخ الأمم.
  11. إقتباس النظريات الفكرية والإجتماعية والسياسية من قبسات أنوار القرآن.
  12. مدرسة قصص الأنبياء في القرآن وما فيها من العبرة والموعظة وقد جاءت سورة يوسف بكاملها في قصة نبي الله يوسف قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ([81])، وفيه شاهد على أن ما يأتي في القرآن وحي وتنزيل، وجزء من القرآن تصح قراءته في الصلاة، وفيه عبرة وموعظة، وهو مناسبة للهداية والرشاد.
  13. التكامل في أحكام القرآن وما جاء به من العقائد والمبادئ.
  14. الآيات الكونية الثابتة والمستجدة دليل على إعجاز القرآن، وإشارة وحث على العلم والتوجه العلمي.
  15. الرحمة العامة المتجددة التي جاء بها القرآن للناس جميعاً وبعضهم ينهل منها بصفة الرحيم، وهم أهل الإيمان.
  16. لقد حفظ القرآن النبوة وتعاهد أحكامها وسننها وأكد صدق الأنبياء السابقين.
  17. مع ما كان يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون من الأذى والجحود من أهل الكتاب فإن القرآن جاء بتوثيق التوراة والإنجيل توثيقاً سماوياً.
  18. لقد واجه القرآن حرباً عرضية بلجوء المشركين إلى أهل الكتاب للسؤال عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق نزول القرآن وآياته ، وقام بعض كبراء قريش بالرد سلبا ونفياً، وإستطاع القرآن أن يؤكد بذاته وإعجازه سماويته وأن يقاوم الإفتراء ومحاولات عدم تصديقه.
  19. مخاطبة القرآن للعقول ولكل أمة من الناس.
  20. في القرآن تهذيب للنفوس وإصلاح للمجتمعات وطرد للكدورات الظلمانية.
  21. في قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]([82]) ورد ان الحكمة هي النبوة وان الموعظة الحسنة هو القرآن، وآية القرآن باقية الى يوم القيامة.
  22. إعجاز القرآن علم تلتقي به كل العلوم ويتصل بها وتترشح إفاضاته عليها جميعاً من غير أن ينقص من خزائنه شيء.
  23. رد جمع من العلماء مقالة بعض المعتزلة بأن فصاحة القرآن غير معجزة أو أن إعجازه ليس في فصاحته، فبسطوا القول في فنون فصاحته ونظمه ووجه تأليف الكلام فيه فكان هذا الرد ثروة فكرية وعقائدية إلا أنه لا يدل على حصر إعجازه بفصاحته وبلاغته.
  24. من إعجاز القرآن الحروف المقطعة وتعدد وجوه الدلالة فيها وبقاء البحث والإستنباط والإستنتاج في علومها متصلاً، وتتجلى فيه بين الحين والآخر علوم جديدة، ومنها ما يتعلق بالإرتقاء العلمي المعاصر.
  25. إجراء دراسة مقارنة بين القرآن والكتب السماوية السابقة تظهر ما فيه من الإعجاز والمعارف الإلهية وما ينفرد به من العلوم والأسرار والخزائن.
  26. الإعجاز في خواتم الآيات فكل واحدة منها قاعدة كلية وحكم تتفرع عنه عدة أبواب ومسائل متشعبة.
  27. خلو القرآن من الطائفية والمذاهب، وبهذا يكون القرآن حرزاً وواقية لوحدة المسلمين، ويمنع من تطور التقسيم المذهبي وتحوله إلى حقيقة عقائدية.

وجاءت آيات القرآن بحث المسلمين على الإتحاد ، وهو أمر يفيد التمسك بالقرآن، وتضمنت مدحهم والثناء عليهم، قال تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ([83]).

  1. ملائمة القرآن لعصر العولمة وتداخل الحضارات والتقارب الفكري الحاصل فيه نوع إعجاز، ومقاومة وصمود وتحد، وتوكيد للبقاء فكيف وأنه يظهر للأمم والشعوب في هذا الزمان بأبهى حلة علمية.
  2. إهتمام القرآن بالتقوى ورقابة النفس والإحتراز من المفاسد العرضية.
  3. من الإعجاز إن القرآن مناسب لكل أمة وجيل وزمان، وهو حي غض طري.
  4. كان العرب يسمون السحر العضة أي البهت، مما يعني أنهم على درجة من الإرتقاء في التفكير والتحليل ومعرفة الأشياء بحقائقها، بينما جاء موسى uفي أيام أفتتن الناس فيها بالسحر والسحرة.

ومن إعجاز القرآن تأثيره على العرب وغيرهم ، وإنقيادهم أيام التنزيل وما بعدها لآياته، وما فيه من الأحكام.

  1. معاني القرآن ومضامينه متجددة وتوليدية ولا تقف عند حد أو منتهى معلوم.
  2. لقد قضى القرآن على العادات المذمومة وما يترتب عليه أثر سلبي وضرر نوعي وجاء بالقيم الحميدة والسنن الثابتة ، فمثلاً ورد القرآن بالنهي عن النسيء والزيادة في حساب الشهور قال تعالى[إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ] ([84]).

فانتهى النسيء واقعاً، ولم يبق له إلا الذكر والتوثيق في القرآن الذي يعني الإحتراز منه والحيلولة دون تجدده خصوصاً وإن تجدد القول به أكثر خطورة من السابق لأنه يأتي بصورة أعم وبإدعاء وتعليل، فجاءت الآية إحترازاً وتوضيحاً وزجراً عن النسيء وشبهه، ودعوة لتعاهد حساب الشهور وفق أحكام الشريعة.

  1. القرآن أفضل سلاح لمنع الإختلاف في الحكم والفرقة والعناد وإصرار كل فريق على ما يذهبون إليه وإستمرارهم في الذب عنه، لذا ترى النظم التشريعية الإسلامية متماسكة، فمثلاً تأتي آيات معدودات لتثبت سنن الطلاق إلى يوم القيامة ، وتمنع من ظلم المرأة والتعدي على حقوقها.
  2. لقد أخبر القرآن بأن العبادة هي علة خلق الإنسان، لذا إحتلت آيات الأحكام الأولوية في القرآن ودلالته، قال تعالى[مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]([85]).
  3. مناسبة آياته وأحكامه وموضوعاته لسنن العقلاء ونهجهم.
  4. القرآن شافع ومشفع إذ أنه يشفع لقارئه وأهله.
  5. سميت الآية القرآنية آية لعجز البشر عن الإتيان بمثلها، ولما فيها من الإعجاز، أي أن الإصطلاح القرآني أعم وأكبر من المعنى اللغوي للفظ.
  6. دراسة البديع الذي يبحث في محسنات الكلام اللفظية والمعنوية بالعرض وليس بالذات، والإعجاز القرآني يشمل الذات والعرض، وتوظيف علم البيان والمعاني في التفسير يظهر لك أسراراً ومنافع من القرآن.
  7. عدم التعارض بين القرآن وبين العلوم مطلقاً والإكتشافات الحديثة خاصة.
  8. سكون وخفوت الأصوات التي تعترض على أحكام القرآن أحياناً أو تدّعي وجود تعارض فيه، لأن القرآن يفضحها ويثبت بطلانها.
  9. من إعجــاز القرآن الذاتي بلاغته وما فيه من علوم اللغة والمغيبات وقصـــص الأنبياء وأنه كلام الله، ومن إعــجــازه الغيري إسلام الكثيرين بسماع آياته وما أحدثه في العقائد والإقتصاد والتركيبات الإجتماعية والمستوى الفكري العالمي وتثبيته لنبــوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوكيده لصدق نبوة الأنبياء السابقين وإصلاحه للنفوس وحفظه وتعاهده للأديان السماوية الأخرى.
  10. لقد بدأ نزول آيات القرآن بكلمة [ اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]([86]) مما يدل على حث القرآن على العلم، وإرتقاء الناس في مستويات العلم والمعرفة يجعلهم أكثر فهماً لحقائق الأشياء وصدق نزول القرآن من عند الله تعالى.
  11. لقد إدّعى بعضهم بأن بين العلم والدين خصومة وعداوة وعدم توافق وإختلاف متأصل، وكأن العلم رديف الكفر، ولكن القرآن فضح هذه الدعوى وأثبت بطلانها نظرياً وعملياً، وفي الوجود الذهني والمبرز الخارجي.
  12. من اعجاز القرآن انه دواء للبشرية، وتجتمع فيه صفات الكمال الإنساني وأسباب السمو والرفعة.
  13. كل آية بمنزلة الرسول والملك النازل والمصاحب.
  14. القرآن عقل إضافي للإنسان ، ونفس متممة ومصلحة للأمارة بالسوء.
  15. من إعجـــاز القرآن أنه يدعـــو على نحو مســتمر العلماء والباحثين في كل الإختصاصات كافة إلى تثوير العلم وإستخراج الكنوز من خزائنه وكل وفق حاجته ، فهو مأدبة السماء المتيسرة في كل زمان ومكان.
  16. خطـابات القرآن الإنحلالية وما فيها من الدروس والعبر والمواعظ.

وقد جاءت خطابات القرآن على وجوه منها:

الأول: الخطاب والنداء للناس[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ] ([87]) [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ] ([88]) [ َاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ] ([89]) .

الثاني: مجيء الخطابات للمسلمين خاصة بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]تسعين مرة .

الثالث: الخطابات الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ] ([90]).

الرابع : تضمن القرآن للخطاب الإلهي للملائكة ، كما في ألأمر بالسجود لآدم [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا] ([91]).

وكل صيغة من صيغ الخطاب القرآني حجة وبرهان على صدق نزوله من عند الله، ومدرسة للإصلاح والهداية.

  1. المضامين القدسية لبلاغة القرآن وما يتفرع عنها من الدروس العقائدية والمسائل والأبواب المختلفة، فالبلاغة في القرآن ليست مطلوبة بذاتها فقط بل هي وسيلة وآلة للموعظة.
  2. القرآن من جنس الحروف والأصوات وهي أعراض غير باقية وجعـله الله معجزة لأفراد الزمان الطولية المتصلة وإلى آخر الدهر.
  3. مع أن عدد كلمات القرآن تبلغ 77430 كلمة، وتشمل مواضيعه ميادين الحياة المختلفة، فإنه خال من التناقض أو التعارض أو التزاحم.
  4. قال الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم: أدبني ربي فاحسن تأديبي([92])، وآلة التأديب الأولى هي القرآن في منطوقه ومفهومه ودلالات ألفاظه فهــو مـــؤدب لكل مســـلم بل لكل إنسان ، وإن كان بمرتبة أقل بسبب عدم الإستعداد الذاتي عند غير المسلم.
  5. وجود المحكم والمتشابه في القرآن وما فيهما مجتمعين ومفترقين من الأسرار والدلالات والمسائل المتشعبة.
  6. إعجاز القرآن علم إنحلالي ينقسم بلحاظ الجهة فيتوجه الى الأفراد والجماعات كل بحسب إختصاصه.

 يتحدى القرآن العرب العرباء والمخضرمين بصيغ البلاغة والفصاحة بالفرائد التي تتضمنها كلماته وآياته.

والعالم في علمه والطبيب في علوم الطب والأبدان.

والفلكي في الفلك وفي مصاديق الإرادة الكونية والتكوينية.

العقلاء بالآيات وهكذا جميع المذاهب الفلسفية والكلامية في تحد مستمر ومتصل وإحتجاج دائم وظهور يثبت نزوله من عند الله عز وجل، ويملي على الناس الرجوع اليه.

  1. لقد عاش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين أهله وقومه ومجتمع مكة، ولم يأت بشعر أو نثر.

وعندما بلغ الأربعين من العمر جاء بالقرآن وحياً سماوياً وآية اعجازية تبهر العقول.

  1. قال الإمام علي uيصف القرآن في خطبة له: ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض، لقد أنزل الله عز وجل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلّمه مضامين آياته وقام بتعليمه للناس، قال تعالى [ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ]([93]).
  2. القرآن أمر خارق للعادة ونشأة المادة، ويتعدى الوظائف المتعارفة للعقل لما فيه من الدلالات على ما وراء الطبيعة.
  3. لم ينف القرآن القوانين العامة للعلة والمعلول أو أسباب الحوادث التأريخية بل أثبتها، وأظهر ما للمعجزة من وجوه غيبية خارقة وقاهرة.
  4. كما يثبت القرآن عالم ما بعد الموت فانه يبعث الأمل في قلب المسلم ويدعوه للعمل على الوقاية من أهوال القبر بجهد قليل , قال تعالى[فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]([94])، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: سورة ثلاثون آية تمنع من عذاب القبر عن صاحبها” أي سورة الملك.
  5. مع إعجاز القرآن فإن الله عز وجل لم يجعل الوصول إلى كنوزه متعذراً بل يسر وخفّف عن الأمة برسوله الكريم وسنته المباركة التي هي تفسير للقرآن وبأقوال الصحابة والأئمة والتابعين وجهادهم.

عن إبن مسعود قال: إن القرآن نزل على سبعة احرف ما منها حرف الا وله ظهر وبطن وان علياً عنده من الظاهر والباطن([95]).

  1. منع القرآن الفتنة والإختلاف وتعدد المذاهب والأقوال وحال دون الإجتهاد، وسيبقى عنوان وحدة المسلمين والمرجع الذي تعرف من خلاله صحة الأحاديث وضعفها والبرزخ دون التيه في الشبهات، وعن الصادق عليه السلام: “الوقوف عند الشبهة خير من الإقتحام في الهلكة ان على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه”([96]).
  2. القرآن خير وسيلة لترسيخ الإيمان في القلوب، وهو الرادع عن المعاصي والذنوب لذا حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على اقتران اسلام المرء بتعلمه القرآن.

وروى عبادة بن الصامت قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُشْغَلُ فَإِذَا قَدِمَ رَجُلٌ مُهَاجِرٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ دَفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ مِنَّا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ([97]).

  1. بقاء علم التفسير والدراسات فيه مفتوحة وتشرأب الأعناق للمزيد من الإستنباط فيه، ففي كل زمان ومكان يلاقى الكتاب الصادر في علوم القرآن بمزيد إهتمام وعناية من الجميع ولا أحد يقول إننا إكتفينا في باب مباحث القرآن، والكل يشعر بالحاجة إلى المزيد، وهو من مصاديق البركة في قوله تعالى[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ]([98]).
  2. ما يضفيه القرآن على حامله وأهله مطلقاً من الوقار والعز والهيبة والصلاح.
  3. حرص الأمة وأهل الحل والعقد فيها على تعاهد القرآن وحفظه وسلامة جميع نسخه من الآفات والتلف والضياع بالإضافة إلى الإجتهاد في طبعه وبذل الأموال في نشره.
  4. من إعجاز القرآن الذاتي أن التحديات والإفتراءات والدعاوى الزائفة في الوحي سرعان ما تفضح ويصيب أصحابها الخزي والخسران.

 فمسيلمة بن حبيب تنبأ باليمامة من بني حذيفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدما جاء مع وفد من قومه الى المدينة المنورة وأعلن إسلامه، ولكنه إرتد وأخذ يقوم بما يشبه الكهانة ويأتي بالسجع المتعارف عندهم.

فاخذ يتسجى بقطعة من القماش وبعدها يكشف رأسه فيتكلم بالسجع ومما قاله وهو يقسم ببعض الآيات الكونية: والليل الأدهم، والذئب الأسحم، ما جاء بنو أبي مسلم من محرم، وتسجى ثانية، وقال: والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس وكان يقول والشاء وألوانها وأعجبها السود وألبانها والشاة السوداء واللبن الأبيض إنه لعجب محض وقد حرم المذق فما لكم لا تجتمعون وكان يقول ضفدع بنت نقي ما تنقين أعلاك في الماء وأسفلك في الطين لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشا قوم يعتدون وكان يقول والمبديات زرعا والحاصدات حصدا والذاريات قمحا والطاحنات طحنا والخابزات خبزا والثاردات ثردا واللاقمات لقما إهالة وسمنا لقد فضلتم على أهل الوبر وما سبقكم أهل المدر ريفكم فامنعوه والمعتر فآووه والباغي فناوئوه وقالت سجاح بنت الحارث بن عقبان وكانت تتنبأ فاجتمع مسيلمة معها فقالت له ما أوحي إليك فقال ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى ما بين صفاق وحشا وقالت فما بعد ذلك  قال أوحي إلى إن الله خلق النساء أفواجا وجعل الرجال لهن أزواجا فنولج فيهن قعسا إيلاجا ثم نخرجها إذا شئنا إخراجا فينتجن لنا سخالا نتاجا فقالت أشهد أنك نبي([99]).

وصحيح أن كلماته هذه خالية من المضمون والدلالة وتفتقر الى قواعد البلاغة إلا أن مقدار التحدي يدرك بلحاظ أمور:

الأول : نصـــرة قومه له عصـــبية له وليس عن إيمان فقد كان بعضهم يقول له “والله إنك تعلـم وإنا لنعلم أنك من الكاذبين”.

 ومنهم من قال: كذاب ربيعة خير لنا من صادق مضر، وهو إعتراف ضمني بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكذب مسيلمة.

الثاني : إن القرآن حديث النزول ولم ينتشر بعد في الآفاق فقام أهل الجحود بالمكر والتضليل والدعوى الكاذبة للإرباك والفتنة وإثارة التعارض، وما قد ينتج عنه من التساقط أو إعراض الناس عن الأمرين المتعارضين معاً، ولكن هذا التحدي ساعد على تثبيت القرآن لأن المائز بينه وبين غيره كالمائز بين ضياء الشمس وظلام الليل.

الثالث : قيام مسيلمة بالقتال لفرض ما يدعيه ولمحاربة المسلمين وحاول الإنتفاع من إنتقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى ليقوم بالتعدي على المسلمين.

ولقد كان للقرآن سلطان وموضوعية في صدّه وغلبة المسلمين وهزيمة مسيلمة الكذاب والذين معه من قومه ومن تحالف عليه.

  1. ذكر أن أبا العلاء المعري عارض القرآن بكتابـه الفصول والغايات في مجاراة السور والآيات، ومما جاء فيه، أقسم بخالق الخيل، والعيس الواجفة بالرحيل، تطلب مواطن حليلٍ، والريح الهابة بليل، بين الشرط ومطالع سهيل، ان الكافر لطويل الويل([100]).

وذكر انه لما قيل له ان ليس عليه طلاوة القرآن، فقال حتى تصــقــله الألســـن في المحــاريب اربعمـائة ســنة وعند ذلك انظــر كيـــف يـكـون، أي المـــدة بين نزول القرآن وزمان المعري.

       ويناقش الخبر من وجوه:

الأول : انه مجرد حكاية ولم ترد بسند معتبر.

الثاني : لم يرد ان ابا العلاء المعري كان زنديقاً مع ان من ينعت بالزندقة ويقتل عليها ادنى كثيراً ممن يدعي كتابة القرآن.

الثالث : كان المعري عالماً واديباً مما يترشح عنه معرفته لإعجاز القرآن ومضامينه القدسية.

الرابع : عنوان كتابه الفصول والغايات في مجاراة السور والآيات لا يعني المعارضة بل بالعكس فهو يعني الإقرار الضمني بآيات القرآن، وهناك مؤلفات في امثال القرآن والآيات ترسل ارسال المثال كما في قوله تعالى [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]([101]) مع الشك في القصد والمعنى من تسمية كتابه فالأصل البراءة بالإضافة الى عمومات حمل عمل المسلم على الصحة.

الخامس : لو كان هذا الإعتقاد عند المعري لتكرر في كتبه وأقواله وليس على نحو اللحن وحده.

السادس : الخبر ضعيف سنداً بل يمكن جعله من الموضوعات بحسب الصناعة والقواعد الرجالية، وما فيه من الذم لا ينحصر بشخص المعري بل هو إساءة للقرآن والإسلام وإغراء لأهل الكدورات الظلمانية، فالأقوى أن هذا الخبر لا أصل له والأولى تركه وإهماله وإسقاطه.

السابع : إن المعري يسلم في هذا القول بأن حسرة وألم الكافر يطول، مما يدل بالدلالة التضمنية على الإنزجار الذاتي عن أسباب الكفر.

  1. لم ينحصر إقرار العرب بإعجاز القرآن بأيام التنزيل بل إنه أمر توليدي مستمر إذ أن إشراق آياته ينفذ إلى أعماق النفوس المستعدة، فيدرك حجيته ويذعن لحقيقة تنزيله الناس على اختلاف مشاربهم وأعمالهم، وينجذب إليه الكبار والصغار والرجال والنساء.

سمع الأصمعي فتاة من الأعراب خماسية او سداسية([102]) تنشد:

 أستغفر الله لذنبي كــــله.

 
 قتلت إنساناً بغير حـــــــله.

 
 مثل الغزال ناعم في دله.

 
إنتصف الليل ولم أصله([103]).

فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك، فقالت: ويحك أيعد هذا مع قوله تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ]([104]) فجمع في يآية واحدة بين امرين ونهيين وبشارتين.

  1. إن إقرار العرب الوثنيين بإعجاز القرآن والذي هو أمر ثابت بالتواتر والوجدان حجة ودليل على ما فيه من تجليات ربوبية قهرت النفوس وجعلتها صاغرة مذعنة.
  2. من اعجاز القرآن اهليته للريادة واثبات الحضور والحاجة اليه في كل زمان ومكان فهو إمام يقود إلى سبل الهداية والرشاد، قال تعالى  [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]([105]).
  3. توكيد العلوم الحديثة لإعجازه وانه يستطيع استيعابها لتكون انواراَ كاشفة لجانب من علومه واسراره، فالثورة المعلوماتية في هذا الزمان لا تخلو من التحدي لكل ما هو قديم ومتوارث، بينما تعتبر واسطة ومناسبة لإستظهار بعض كنوز القرآن وان كانت متخلفة وقاصرة عن الغور في اعماقه.
  4. يعتبر القرآن ثروة الإسلام وتركة النبوة والإنسانية ليتزود منه كل بحسب إختصاصه ومهنته، وليبقى قائداً للأفراد والجماعات ودليلاً وعوناً في حال الشدة والرخاء.

وفي خطبة للإمام علي uفي قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وخلف فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها إذ لم يتركوهم هملاً بغير طريق واضح، ولا علم قائم، كتاب ربكم فيكم، مبيناً حلاله وحرامه فرائضه وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه، وخاصه وعامه، وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده، ومحكمه ومتشابهه، مفسراً مجمله، ومبيناً غوامضه، بين مأخوذ ميثاق في علمه وموسع على العباد في جهله مبين مثبت في الكتاب فرضه، ومعلوم في السنة نسخه وواجب في السنة أخذه ومرخص في الكتاب تركه، بين واجب لوقته وزائل في مستقبله، ومباين في محارمه، من كبير اوعد عليه نيرانه أو صغير أرصد له غفرانه، وبين مقبول في ادناه، موسع في أقصاه([106]).

  1. قراءة القرآن في الدنيا تنفع العبد بعد موته، ونسخة المصحف التي يقرأ بها تنفعه على نحو متجدد، وقد ورد عن الإمام الصادق uانه قال: “ست خصال ينتفع بها المؤمن بعد موته: ولد صالح يســـتغفر له، ومصــحف يقــرأ به، وقليب يحفره، وغرس يغرســه، وصدقة ماء يجريه، وسنة حسنة يؤخذ بها بعده([107]).
  2. ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق عن كثرة الردّ، من قال به صدق؛ ومن عمل به رشد ، ومن إعتصم به هدي إلى صراط مستقيم([108]).

 وهذا الحديث يدل على اتصال الإعجاز الذاتي للقرآن وعدم انحصاره بزمان دون زمان، او حال دون آخر، وكما ان الناس يملون كثرة السؤال وإن كان لطلب الثواب، والله عز وجل يزيد عطاؤه مع كثرة السؤال، لتتجلى علوم القرآن وتتشعب مع كثرة الرد بخلاف الكتب والعلوم الأخرى، ويمكن حمل (الرد) الوارد في الحديث على المعنى الأعم فيشمل الدرس والتفسير والتأويل والرجوع اليه في التشريع والتنظيم والعلوم المختلفة، وفيه بشارة عدم الخوف أو الوجل على القرآن وعلومه.

  1. حفظ القرآن للغة العربية وتنقيحه لقواعدها، وتحصينها من المفردات التي جاءت دفعة واحدة بسبب دخول أمم مختلفة في الإسلام.
  2. معرفة أحوال البشر والطبائع وسنن الأمم السالفة وأطوار البشرية ومراحل وادوار الإرتقاء أو التخلف بلحاظ قصص الأنبياء في القرآن وما فيها من الدروس والعبر.
  3. المدد الإلهي في انتشار نسخ المصحف وطبعها وتعاهد المسلمين لها بالإضافة إلى النصوص التي أكدت على الثواب في وجود المصحف في البيت وتعاهده بالقراءة.

وذكر المسعودي انه رفع في عسكر معاوية في واقعة صفين نحو خمسمائة مصحف.

ولم يكن بين جمع عثمان للقرآن وارساله نسخة إلى الشام يوم صفين إلا نحو سبع سنوات مما يدل على الإقبال والتوجه العام عند عامة المسلمين إلى إستنساخ المصحف.

  1. هناك عدة مسائل تتعلق بإعجاز القرآن تستقرأ من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله الي، فارجو ان اكون أكثرهم تابعاً”([109]).
  2. 200-   القرآن هو معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
  3. 201-  القرآن أعظم إعجازاً من معجزات الأنبياء لأنه معجزة عقلية ومعجزات الأنبياء حسية، وهو الجامع للكتب السماوية ومحيط بالوقائع والأحداث دلالة وموعظة، ولأن حفظه من يد التحريف آية إعجازية أخرى.
  4. 202-  القرآن سبب كثرة أعداد المسلمين وهدايتهم، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]([110]).
  5. 203-             معجزة القرآن باقية إلى يوم القيامة موضوعاً وحكماً.
  6. 204-   موضوعية القرآن في دخول الناس الإسلام وتعاهد أحكامه.
  7. مجيء القرآن بقوانين ثابتة من الإرادة التكوينية والتشريعية، لبيان أن الله عز وجل هو الذي خلق السموات والأرض، وجعل الإنسان خليفة في الأرض، وأنه سبحانه لم يترك مخلوقاته بل تعاهدها بالإدامة وأسبابها كل إلى أجله وفق ذات القوانين , ويتضمن تفسيرنا هذا آلافاً من القوانين بفيض من الله.
  8. كفاية القرآن للحكمة بين الناس، وإستنباط القوانين التي تتضمن العدل والإنصاف، ومحاربة الظلم والجور قال تعالى [فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ]([111]).
  9. توكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقبول دعائه، وتجلي صدق النبوة الذي هو مقدمة للإنصات للقرآن وعن عروة بن الزبير :أنّ عتبة بن أبي لهب وكانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد الخروج إلى الشام ، فقال : لآتينّ محمداً فلأوذينه، فأتاه فقال: يا محمد، وهو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وردّ عليه ابنته وطلقها.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم سلط عليه كلباً من كلابك ، وكان أبو طالب حاضراً ، فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتبة إلى أبيه، فأخبره.

ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلاً، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إن هذه أرض مسبعة، فقال أبو لهب لأصحابه : أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة، فإني أخاف على ابني دعوة محمد، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم؛ وأحدقوا بعتبة.

فجاء الأسد يتشمم وجوههم ، حتى ضرب عتبة فقتله، وقال حسان بن ثابت:

مَنْ يَرْجِعُ الْعَامَ إِلى أَهْلِهِ

 فَمَا أَكِيلُ السَّبْعِ بِالرَّاجِعِ([112]).

  • مضاعفة الحسنات للمسلمين،  وبيان المنزلة العظيمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم القيامة.
  • دعوة القرآن للتدبر بآيات الآفاق وأسرار صنع السماوات والأرض والدلالات التي تؤكد أن الله هو خالقها، قال تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ].
  • بيان فضل الله على الناس بإرتقاء أهل العلم والمعرفة واليقين بين الناس، قال تعالى [يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ]([113]).
  • لقد جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار، وجاء القرآن بالبشارة والإنذار، وتنبيه الناس إلى ماهية الدنيا، وتوجه الخطاب التكليفي إلى الناس بصيغ التخفيف والرحمة، قال تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا]([114]).

***********

تعلم القرآن وتعليمه

الحمد لله الذي أنار الأرض بكلامه وجعله تبياناً لكل شيء ليكـون دليلاً للعمـل العبادي والمعاملاتي ولكي لا تكون للناس حجة.

وتعتبر قراءة القرآن تعاهداً يومياً له ولسوره وآياته وطريقـاً ومقـــدمـة مبـــاركـة وســـلاحاً في أكثر الأعمال التي يــؤديها بنو آدم من الأعمال، وفي عملية حســـابية ترى أنه لا شــيء أكثر ترديـداً على ألسنة أهل الأرض في هذا الزمان من ســـورة الفاتحة، قوة وعملاً فحتى مع الأخذ باللحاظ لعدد المقصرين والفاسقين الذين لايؤدون الفرائـض اليوم، فالملايــين من المسلمين يقرأون سورة الفاتحــة عدة مرات في كل يوم، وفي ذلك آيات وحكم منها:

الأولى : حفظ القرآن وعـدم ضياعه أو نســـيانه أو تـــركــه، مع الإقرار والتسليم بأن حفـــظ القرآن أمر تكــفلته الإرادة الإلهـــيــة، قــال تعالى [ إِنَّا نَحــْنُ نَزَّلْنَـا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون ]([115]) ولكن الحفظ أحياناً يكون بالوسائل والأسباب المسخرة والجنود، فيكون المؤمنون حفظة ليؤجروا ويثابوا على هذا الوظيفة.

الثانية : توكيد موضوعية القرآن في الحياة اليومية للمسلمين والمنافع الدنيوية والأخروية للحضور اليومي للقرآن في أعمال المكلفين أفراداً وجماعات.

لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء، ولكنه لم يخل بين العباد وبين الإبتلاء، فأنزل الكتب السماوية وبعث الأنبياء لهدايتهم إلى سبل الصلاح والوقاية من السيئات وجاء القرآن جامعاً للأحكام الشرعية، وإماماً يهدي الناس إلى الإيمان ليكون عوناً لهم في دار الإبتلاء والإمتحان، قال تعالى[إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ]([116]).

الثالثة : هناك قاعدة فقهية هي:”لا صلاة الا بفاتحة الكتاب” وهي في الأصـل قــول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.(2)

وشرعت الصلاة في مكة إذ لم تعهد صلاة في الإسلام من غير قراءة الفاتحة.

وقد ورد عن الإمام علي uأنه قال: نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش([117])، مما يعني وجود ملازمة بين الصلاة وقراءة الفاتحة كجزء منها.

الأول : التوكيد اليومي المتكرر على إكرام القرآن وإعلاء شأنه.

الثاني : الإشارة والتنبيه إلى موضوعية لغة القرآن في تاريخ الشعوب الإسلامية وعالميتها التي تدل بالعرض على عالمية القرآن ووظيفة كل المكلفين من الناس بقراءة القرآن في الصلاة بعربيته قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]([118]).

الثالث : الجهر في بعض الصــلوات وهي في الفرائض اليــوميـة أكثر من الإخـفاتية ســـواء كان في عدد الصـــلوات أو الركعات، إذ أنها ثلاث صلوات هي:

الأولى: صلاة الصبح وهي ركعتان.

الثانية: صلاة المغرب، وهي ثلاث ركعات.

الثالثة: صلاة العشاء، وهي أربع ركعات.

 ومجموع ركعاتها تسع ركعات، والصـــلاة الاخــفاتية وهي صلاتان:

الأولى: صلاة الظهر: وهي أربع ركعات.

الثانية: صلاة العصر، وهي أربع ركعات أيضاً.

ومجموع ركعاتهما ثمان ركعات.

 ولا يجوز العكس عمداً أي أداء الصلاة الجهرية إخفاتاً، او الإخفاتية جهراً.

 الرابع  : من لا يحسن القراءة يجب عليه التعلم وإن كان متمكناً من الائتمام لقبح تفويت التكليف المعلوم مع التمكن منه.

وهل يكون تعلم القرآن وتعليمه واجباً عينياً أم واجباً كفائياً الجواب إنه واجب كفائي وعليه الاجماع والنصوص التي تفيد إستحباب تعلم القرآن.

 ويمكن التفصيل بأن تعلم القرآن من أجل الصلاة واجب عيني لقاعدة الإشتغال ولأن وجوب المركب وهو الصلاة يلزم منه وجـوب الأجزاء، وإن تعلمه لغير ذلك واجب كفائي إلا أن ينحصر بأشخاص أو شخص فيكون الواجب بالنسبة إليه عينياً.

وفي الخبر عن الإمام الباقر u قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: ألا أخبركم بالفقــيه حقاً؟ من لم يقنــط الناس من رحــمة الله، ولم يؤمنهـــم من عذاب الله، ولم يؤيســـهم من روح الله، ولم يرخص في معاصي الله، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر”.

ووجوب التعلم نفسي عيني تعييني، والواجب النفسي هو الواجب لنفسه كفريضة الصيام لا لأجل واجب آخر، ويقابله الواجب الغيري الذي يترشح عليه الوجوب من غيره كالوضوء مقدمة للصلاة.

والواجب العيني يتعلق بكل مكلف ولا يسقط بفعل الغير كالصلاة اليوميــة.

 ويقابلـه الواجب الكفـائي الذي يتوجـه فيه التكليف إلى جميع المخاطبين، ولكنه يسقط بإتيانه من أحدهم كالصلاة على الميت ودفنه.

والواجب التعييني هو الواجب ليس له بديل في عرضه، أي ان العينية هنا تتعلق بالمكلف به، وليس بالمكلف كما في الواجب العيني والكفائي.

 ويقابله الواجب التخييري كخصال كفارة التخيير مثل إفطار يوم من شهر رمضان عن عمد، وهي إطعام ستين مسكينا أو عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين، والأصل يقتضي عدم السقوط بفعل شيء آخر.

وعلى هذا لو ترك التعلم مع قدرته عليه وصلى، فان صلاته تكون صحيحة بقراءة ما تعلمه بالقرآن أو التسبيح والذكر مقدار القراءة أي الفاتحة والسورة ولكنه يؤثم، أما صحة الصلاة فلقاعدة الميسور ونفي الحرج والإثم لترك الواجب بخلاف ما لو كان وجوب التعلم إرشادياً فلا إثم حينئذٍ.

ولقد إقترن تعلم القرآن بفترة النزول أي أننا يجب أن نستحدث ونخصص باباً للدراسة وهو تأريخ حفظ وتعلم القرآن فقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقبلون على حفظ القرآن وكانت صدورهم أناجيلهم، وكذا ذكروا في التوراة والإنجيل، سواء كان ذلك عن طريق الموهبة، أو الفطرة، أو لطبيعة المجتمع آنذاك وما يمتاز به من خصوصية في الحفظ، فلقد إعتادوا حفظ القصائد الطوال.

ولما جاء القرآن كان أولى وأحرى بالحفظ من وجوه كثيرة منها:

الأول: أن يحفظ لما يتصف به من الإعجاز.

الثاني: بسبب الإعانة والمدد الإلهي في حفظ القرآن.

الثالث: ما في لغة القرآن من صيغ البلاغة والفصاحة، التي تفوق كلام البشر كما تراه إلى الآن ظاهراً بالوجدان في تيسير حفظ القرآن لمن عزم عليه.

الرابع: إستدامة حاجة الناس عامة والمسلمين خاصة لآيات القرآن.

الخامس: وجوب قراءة القرآن في الصلاة اليومية.

السادس: الأجر والثواب في حفظ القرآن.

وفي هذا الزمان إذ تتشعب العلوم، وتتفرع الدراسات يمكن التساؤل حول كيفية وصيغ حفظ القرآن وأسباب توسيع رقعته وزيادة عدد الحفّاظ على نحو التخطيط والإعداد وتهيئة المناهج والمستلزمات المادية والمعنوية وحسن إختيار القائمين على التعليم وشروط الإختيار مع التخفيف في المناهج ومراعاة الفوارق والمؤهلات، وتكون فيها الدراسة على نوعين:

الاول: على نحو التخصص والإنفراد.

الثاني:دراسات إضافية لحفظ القرآن وتلاوته وتفسير مفرداته أثناء مدة من الزمن خاصة بالنسبة للشباب.

وفي الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام: “من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن إختلط القرآن بلحمه ودمه وجعله الله مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيجاً عنه يوم القيامة([119]).

مع بيان فلسفة تعلم القرآن وتعليمه والإكثار من قراءته، ومنافع التعلم الدنيوية، وما يترتب عليه من الآثار الحميدة في عالم البرزخ ويوم القيامة.

والقرآن هو الكنز والحرز والدليل وسبيل الهدى والرشاد، وفيه المناعة والتوفيق ونماء الملكة وإنقداح البصيرة، وهو وسيلة مباركة في السعي للسعادة الحقيقية وبلوغ منازل التقوى.

ويستحب لحامـل القرآن ملازمة الصفات الحسنة ومكارم الأخلاق أكثر من غيره، بل أنها تترشح على جوانحه إنطباقاً من القرآن وما يبعثه من أنوار الهداية وما يرسخه من السجايا والطباع والملكات الحميدة، إذ أن المواظبة على قراءة القرآن تنمي الفضيلة في النفس.

إن تعلم القرآن وتعليمه، حاجة أخلاقية وفقهية للتزود من العلوم وعدم الإكتفاء بالمسائل الشرعية الخاصة بهذا الباب وأيضاً عدم الوقوف عند الجهود الفردية والمبادرات الوقتية والمحدودة التي تبذل في باب تعلم القرآن.

 ولو أجرينا احصائية لحفظة القرآن لتبين قلة عددهم بالقياس الى مجموع الأمة ونسبتهم في العصور الأولى للإسلام، ويمكن إعتماد صيغ لحفظ شطر من القرآن والأجزاء الأخيرة منه ذات السوّر القصار كغاية بذاتها وطريق لحفظ مجموع القرآن، وفيه تعليم تدريجي وملائمة للحال والمقدرة الشخصية خصوصاً وأن القرآن نزل نجوماً، مع الإلتفات إلى الحرص على حفظه وعدم التفريط فيه وإن تخللت مراحل الحفظ أشهراً أو سنوات.

ومن فلسفة تعلم القرآن إستحباب التفكر في معانيه وأمثاله ووعده ووعيده والإتعاظ به وسؤال الجنة عند ذكر الجنة.

وتعلم وتعليمه من قبل البعض يسقط التكليف عن الآخرين، وليس عينياً وعليه الاجماع والنصوص. عن علي عليه السلام: “تعلموا القرآن فأنه ربيع القلوب، وإستشفوا بنوره فانه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فأنه أنفع القصص، وان العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزم وهو عند الله ألوم “([120]).

وهل وجوب التعلم نفسي أو مقدمي أو طريقي محض، الأقوى أنه طريقي محض لدرك الواقع، ولكنه في القرآن يكون نفسياً ايضاً لما فيه من الملاك على نحو الاستقلال، بالاضافة الى طريقيته فكما أنه مطلوب ويستحـب تعلمـه وتعليمـه عيناً لأنه تعظيم لشعائر الله وتعاهد لكتابه المجيد وإحياء للسنة، وما فيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقدمة وموضوع لإيجاد مقومات الشخصية الإيمانية وأسباب التسلح بالفضيلة وحمل أخلاق القرآن، وعن علي عليه السلام: “ان النبي صلى الله وعليه وآله وسلم قال: خياركم من تعلم القرآن وعلمه “([121]).

أما بالنسبة لطالب العلم والقائمين بالوظائف الشرعية بين الناس فان وظيفتــهم مركبة وجــهدهم يجب أن يكون مضــاعفــاً تترشح منه العناوين الإنتزاعية والإعتبارية التي تمليها عليه مسؤوليته الدينية والروحية والإجتماعية والإخلاقية، كما في قوله تعالى[ يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ]([122]).

وقد إستدل بها الإمام علي بن الحسين uفي حق أهل البيت وأن الأجر لهم مضاعف وكذا الإثم والعقاب مضاعف للأولوية والنسبة والمنزلة، وطالب العلم وإمام المسجد تصدى لتحمل المسؤولية الشرعية فيترتب عليه مسؤوليات شرعية وإعتبارية إضافية تتمثل بإكرام القرآن دراسة وحفظاً وتدبراً، ويلحق به من إرتقى في سلم الكمالات ونال تحصيلاً علمياً أو تأهيلاً في مراتب المعرفة والمنزلة الإجتماعية.

والإنسان يحاسب يوم القيامة بلحاظ المعرفة ومقدار الفهم ومقتضى الحال ويجب أن يعي أحكام الشريعة بالدراسة ومواصلة التحصيل وهو أمر لا يتم بمعزل عن القرآن فهو السلاح والواقية والحرز.

نعم التعلم على قدر الإستطاعة ولقاعدة نفي الحرج في الدين وقاعدة الإمكـان، وبالنسبـة للحفظ يكون على مراحل كما لو حفظ الجزء الأخير من القرآن عم ومن ثم جزء(تبارك) خاصة بالنسبة للصبيان والشباب من البنين والبنات.

ويستحب التفكـر في معانـي القــرآن وأمثاله ووعده ووعيده وما فيه من الموعظة والعبرة، قال تعالى [ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ ]([123]). وسؤال الجنة والتعوذ من النار عند قراءة آياته.

نحن بحاجــة إلى علوم مستحدثة في فضل القرآن وبيان تعدد وجوه هذا العلم وفيه نوع إكرام وتعاهد للقرآن وإحياء لعلومه وإستظهار لكنوزه، ومن وجوه هذه المنهجية السعي المنظم لحفظ القرآن وإفراد باب في التفسير للفضل الذاتي والفضل الغيري للآية القرآنية.

وقد تتداخل أحياناً علوم إعجاز القرآن مع فضله، ولكن يمكن التفكيك بينها بلحاظ الموضوع وترتيب الأثر.

ومن فضل حفظ القـرآن وتعلمه إفاضــة البركات في البيت الذي يقرأ فيه، بينما يشكو إلى الله قرآن مهجور وإن كان وجود القرآن في البيت مصدراً للخير وواقية من الشر وحرزاً من الشياطين.

وأخرج البزار عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن البيت الذي يقرأ فيه القرآن يكثر خيره ، والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يقل خيره([124]).

ومنافعه في البيت مركبة ومتعددة، ففي صحيحة إبن القداح عن الإمام الصادق uقال أمير المؤمنين عليه السلام: “البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عز وجل تكثر بركته، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله عز وجل فيه تقل بركته، وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين”.

لقد جاءت السنة النبوية الشريفة بالحث على تزيين البيوت بقراءة القرآن، وهو واقية وسلاح،  وذكر في الحديث عن النبي صلى الله عليه وأله وسلم: “إجعلوا لبيوتكم نصيباً من القرآن، فإن البيت إذا قرأ فيه القرآن تيسر على أهله وكثر خيره، وكان سكانه في الزيادة، وإذا لم يقرأ فيه القرآن ضيق على أهله، وقل خيره وكان سكانه في نقصان”.

وورد أن القراءة في المصحف أفضل من القراءة عن ظهر قلب، لما فيه من الإكرام للقرآن والتفاؤل بكلماته وإتخاذه صاحباً وملازماً والإحتراز من الخطأ والسهو لأن الحواس التي تشترك في القراءة أكثر وللتنعم بالنظر إلى الكلمات القرآنية، فمع أنه يحرم لمسها على الجنب، فان النظر إليها فيه ثواب وأجر.

وقراءة القرآن مناسبـة للدعـاء بل هي دعاء ومسـألة وإلتجاء إلى الله سبحانه.

وقراءة القرآن إخبار وتوكيد للجزئية من مجتمع الإسلام، وفيها إعلان على التقارب الروحي بين المسلمين وأن مادة الإتصال هو القرآن.

ومن فضل الله على الناس أن القرآن كلام الله وكتابه وبه يستحق أن يولى عناية خاصة في حفظه وتعاهده كنعمة متجددة وسبيل للرزق.

والقرآن هو المصدر الأول للعلوم والتشريعات والقوانين، ولا بأس بإجــراء دراســـة مقارنة في باب القضـــاء لما يستنبط من القرآن وآياته وأحكامه في قوانين الدول غير الإسلامية كي يظهر أن الجميع يأخذون من القرآن أما مباشرة أو بالواسطة والمفهوم.

لقد جعل عز وجل القرآن مدرسة للأجيال المتعاقبة قال تعالى[إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ([125]).

وفي الآية شاهد على أن القرآن ضياء للسالكين،ووسيلة سماوية مباركة للرشاد.

*********


في علم الحديث

ينقسم الحديث إلى متواتر وآحاد، والتواتر لغة التعاقب والتتابع واحداً بعد آخــر، ومنه قوله تعالى [ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ]([126]).

وفي الإصطلاح هو خبر جماعة عن جماعة تحول كثرتهم دون إتفاقهـم وتواطئهـم على الكذب ويحصل بإخبارهم العلم وعليه إتفـاق العـقلاء إلا من خالف كالسمنية والبراهمة في أقوال رد عليها العلماء.

والقائلون بحصول الخبر المتواتر وتحقق العلم به إختلفوا والمشهور أن ذلك العلم ضروري، وقال أبو الحسن البصري وأبو القاسم الكعبي والغزالي إنه نظري.

وقال السيد المرتضى إن أخبار البلدان والوقائع والملوك وهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومغازيه ونحوها يجوز أن يكون العلم بها ضرورة، والعلم بأحكام الشريعة ومعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحوها يثبت بالإستدلال.

وذكرت بعض الشرائط التي تجعل الخبر المتواتر يفيد العلم منها ما قاله السيد المرتضى وهو عدم سبق شبهة أو تقليد عند السامع يوجب إعتقاده نفي الخبر ومدلوله وتبعه على ذلك المحققون، وقالوا به يندفع إحتجاج المشركين، وغيرهم في محاولة نفي معجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كإنشقاق القمر وتكليم بعض الجمادات له.

أقول: إن وجـود الشـبهة لا يمنع من صدق تحقق العلم إذ يكفي في تحققـه حصـوله عـرفاً وواقعـاً أي أن إمتناع نفر عن قبوله لأمر مخالـف للسجايـا والتكـوين الإنسـاني لا يمنـع من صـدق حصول العلم به، فيكفي أن يكون العلم على نحو الموجبة الجزئية العقلائية، ومنهــا أي شـرائط إفــادة الخبر المتواتـر العلم أن لا يكون السامع عالماً بمدلول الخبر إضطراراً كمن لو أخبر عما شاهده لسبق العلم على الخبر.

ومنها ما يتعلق بناقلـي الخبر كأن يكون عددهم من الكثرة بحيث يمنع من تواطئهم على الكذب، وقد أختلف في عددهم في كل طبقــة إختلافاً كثيراً، فقال القاضي أبو بكر أن يكــونوا أكثر من أربعة، وعن الأصطخــري أن أقله عشـرة لأنه أقل جمع الكثرة، وعن جماعة أنه إثنا عشر بعدد نقباء بني إسرائيل لقوله تعالى [وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ]([127])، لأنه بهذا العدد يحصل العلم بخبرهم.

وعن بعضهم أن أقله عشرون لقوله تعالى [ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ]([128])، والآية لا تتعلق بالإخبار وتحقق العلم به انما تتعلق بالقتال وأسباب النصر، وعن جماعة أقله أربعون، لقوله تعالى [ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ إتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ]([129]) فهي نزلت في الأربعين.

ومنهم من قال سبعين لقوله تعالى [ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا ]([130])، وكأن هناك نوع ملازمة بين العدد وحصول العلم بإخبارهم عما يرون من المعجزات، وعن جمع أن أقلـه ثلاثمائـة وبضعـة عشـر عــدد أهـل بدر وليحصل للمشركين العلم بما يخـبرونهم من معجـزات الرســول صلى الله عليه وآله وسلم.

ولا ملازمة بين العدد والإخبار، وعلى فرض مناسبة الآيات للمقام فإنه يدل على تعدد المطــلوب وأهلية كل فــرد منها لتحصيل العلم، ويكون أيضـــاً من دوران الأمــر بين الأقل والأكثر وأن الإجــزاء يتحصــــل بالأقل، فهم ممـــن يخبر عن الآية أو عن صـــدق الرســـالة عن علم لا عن ظن غير معتبر يحتمل غيره.

وإن يتعلق إخبارهم بالمحسوس أو بالمعقول، وإن تلتقي الوسائط والطبقات والطرفان في ذلك.

والمراد بالطرفين الطبقة الأولى التي سمعت أو شاهدت مدلول الخبر والطبقة الأخيرة الناقلة إلى المخبر أخيراً أو الوسائط، ومنهم من إشترط الإسلام والعدالة في المخبر، وأن لا يضمهم معه مصر واحد، وأن يكونوا مختلفين في النسب .

وينقسم الحديث المتواتر إلى قسمين:

      الأول: لفظي وهو الذي نقله المخبرون بلفظ واحد، وينقسم الى شعبتين:

الأولى: تواتر تمام الحديث مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: “انما الأعمال بالنيات”([131])،على القول بتواتره.

الثانية: تواتر لفظ بعض الحديث مثل “من كنت مولاه فعلي مولاه” ولفظ “إني تارك فيكم الثقلين”([132]).

الثاني: معنوي وهو الذي نقلوه بالفاظ متعددة مثل حديث الإسراء الذي نقله ستة وعشرون صحابياً.

أما القسم الثاني من الحديث فهو خبر الواحد وعرفوه بأنه الذي لا ينتهي إلى حد التواتر وله أقسام منها:

المستفيض: وهو الخبر الذي يكون عدد رواته في كل طبقة إثنين أو ثلاثة ولا يصل إلى حد التواتر، وأختلف في موضوعية وقيد إتحاد لفظ الجميع أو عدمه، ومنهم من قسم خبر الواحد إلى لفظي ومعنوي كالمتواتر وقد يسمى أيضاً بالمشهور.

والمراد من الخبر المشهور أنه من خبر آحاد في الأصل ثم إشتهر بين الرواة والعلماء في القرن الثاني أو الثالث الهجري وأخذ يرويه جماعة لا يتصور تواطؤهم على الكذب.

ولو إشتهر الحديث في القرن الرابع أو الخامس أو السادس وما بعدهما فلا موضوعية لهذا الإشتهار.

وقيل المشهور ما تلقته العلماء بالقبول ويسمى الخبر المشهور مستفيضاً، يقال إستفاض الخبر أي شاع، وخبر مستفيض أي منتشر بين الناس، وهو ملحق بخبر الاحد من جهة حكمه، بإفادته اليقين إذا تلقته الأمة بالقبول وقال بعض أصحاب الشافعي إلى أنه ملحق بخبر الواحد فلا يفيد إلا الظن، وقيل يفيد الطمأنينة أي أدنى مرتبة من اليقين الذي يترشح عن المتواتر.

ويمكن جعل الخبر الذي يطلق عليه العــزيز من المســـتفيض، لأن العــزيز هو ما يرويه إثنان أو أكثر ســـمي عـــزيزاً لقلــة وجـــوده أو لقـــوته بسبب مجيئه بطريق آخر.

من المتواتر المعنوي ينجس الماء القليل بالملاقاة إذا كان الماء أقل من كر فأنه ينفعل بملاقاة النجاسة، ومنه أوان صلاة الظهر عند زوال الشمس ومنه أوان صلاة الظهر عندما تميل الشمس عن كبد.

وليس من المتواتر المعنوي لما كان متبايناً في معناه فإنه يفيد التعارض وقد يكون حكمه التساقط ولو شهد جماعة كثيرة برؤية الهلال وإختلفوا في جهة فتحة الهلال وفي وقته وحجمه كما لو قال بعضهم رأيته كبيراً وهو لا يزال عالياً، وقال الآخر رأيته صغيراً وهو يشرف على الغياب فلا يؤخذ بشهادتهم، وهذا المثال ليس من المتواتر بمعناه الإصطلاحي.

وأختلف في الخبر المستفيض تعريفاً ورتبة على وجوه:

الأول : أنه من أخبار الآحاد، وبه قال ابن الحاجب.

الثاني : لا فرق بين المستفيض والمتواتر، وأنه المتواتر بمعنى واحد([133]).

الثالث : التوقف في المستفيض.

الرابع : أنه برزخ ورتبة متوسطة بين المتواتر والآحاد(ضَابِطُهُ أَنْ يَنْقُلَهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ يَرْبُو عَلَى الْآحَادِ ، وَيَنْحَطُّ عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ)([134]).

الخامس : المستفيض ما تلقته الأمة بالقبول أي من غير إعتبار لعدد الرواة.

السادس : ما إشتهر عند أئمة الحديث، ولم ينكروه.

السابع : أنه الشائع بين الناس، وقد صدر عن أصل ليخرج الشائع لا عن أصل، قاله الزركشي.

الثامن : ما كان مخبره أكثر من واحد لم يصل إلى حد التواتر.

التاسع :المستفيض أعلى رتبة من المتواتر، وكل منهما يفيد العلم.

العاشر : ما إنفرد به عشرة فصاعداً، ما لم يصل حد التواتر ولابد من لحاظ الإستفاضة في الطرق إلا على نحو الخصوص، وينقسم المستفيض إلى مرسل ومسند، وقيل من النقل المستفيض الأذان والإقامة ومناسك الحج ولكنها من المتواتر في كل يوم وعام وليس في طبقة فقط وعدم وجوب الزكاة في الخضروات.

أقسام الخبر الواحد

تعددت أقسام الخبر الواحد، وقد يتداخل المتقاربان منها، وأختلف فيه على وجوه:

الأول : يفيد الظن.

الثاني : أنه يفيد العلم اليقيني مع وجود القرينة كالنظّام.

الثالث : من أطلق وإنه يفيد العلم حتى وإن لم تكن في البين قرينة، وكل قول فيه دليل([135]).

وأهم أقسام الخبر الواحد أربعة وهي:

الصحيح: وهو ما إتصل سنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعصوم بنقل المؤمن العدل عن مثله في جمع الطبقات المتعددة، فبالإتصال يخرج مقطوع السند، وبقيد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج المرسل، ومنهم من قسم الصحيح إلى ثلاثة أقسام:

الأول: أعلى.

الثاني: أوسط.

الثالث: أدنى.

 والأول ما إتصف جميع رواته بالصحة بالعلم أو بشهادة عدلين.

 والأوسط ما دل فيه الظن على إتصاف جميع رواته بالعدل.

 والأدنى بإعتماد الظن الإجتهادي.

الحسن: وهو ما إتصل سنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعصوم بمؤمن ممدوح ولم يرد نص بعدالته، ولم يعارض مدحه بذم سواء كان ذلك في جميع رواته أو في طبقة منهم، والباقي من رجال الصحيح لأن الحديث في سنده يتبع أخس الطبقات.

الموثق: وهو ما نص على توثيق راويه بغض النظر عن الفرقة والمذهب الذي ينتمي إليه، والحسن أقوى من الموثق على الأظهر، ومنهم من قال بقوة الموثق لأن المدار على الظن بالصدور.

وكل من الصحيح والحسن والموثق يقسم إلى أعلى وأوسط وأدنى.

الضعيف: وهو الذي يكون في طريقه مجروح، أو مجهول حال، ومنهم من جعله أعم من ذلك وإنه يشمل الذي لم يدخل في الأقسام الثلاثة أعلاه وما يتفرع عنها فيكون حينئذ ما دون الضعيف كالموضوع، ولكن الفرق بينهما ليس بالقليل، إذ أن الضعيف يحتمل الصدق والصحة، ويعمل به المشهور في المستحبات، ويعمل المشهور بما جبرته الشهرة منه مطلقاً بينما لا موضوع للموضوع قال تعالى[إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا]([136]).

وعلم الرجال باب ينفرد به المسلمون وفيه تنقيح للأخبار وحفظ وثائقي للحوادث بأمانة ونزاهة فهو حجة على الناس، ويكفي في ناقل وراوي الحديث أن يكون ثقة عند السامع سواء كان من أبناء ملته أو من غيرها.

والمتتبع لكتب الحديث والتأريخ الإسلامي يجد روح الورع والحرص على عدم الغلو أو المبالغة وإجتناب ما ليس بصحيح مما يكون مدرسة دائمة للأجيال في الإطلاع على حقبة النبوة وما فيها من المعجزات والحوادث التي تعد شاهداً كريماً على صدق الرسالة، وهو نبراس يدل على مصادر المعارف الإسلامية وطرق تلقيها وأسباب المنعة والحصانة والحيطة التي تلازم الحديث من حين صدوره وحتى وصوله إلى الناس في كل زمان، سواء بصيغ التدوين والكتابة، أو بكيفية الأخذ، والسماع من مشايخ الرواية والإجازة.

وستظل القواعد الرجالية ومصاديقها الجزئية إشعاعاً فكرياً مباركاً مترشحاً من مدرسة القرآن وتأديب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين، وميداناً علمياً يبين حالة الإرتقاء والضبط وموضوعيتها في التأريخ الاسلامي، وهي رادع عقائدي وأخلاقي يحول دون التجرأ والكذب والإفتراء في النقل والرواية.

قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ([137]) ليكون علم الدراية والرجال حرزاً وواقية للسنة النبوية، ووثيقة في تفسير القرآن، وشاهداً على وجود أمة من المسلمين في كل زمان تتعاهد الأحاديث الشريفة والأحكام الشرعية، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([138]).

لا يشترط التعدد في كل طبقة في الخبر، فيكفي الواحد إذا إستوفى شروطه، والكتاب والسنة على قبول خبر الواحد إلا أن يثبت خلافه أو تكون به علة أو في متنه أو سنده ضعف.

ونسب إلى الشواذ القول بإشتراط العدد، وقال به أبو علي الجبائي وبعض المعتزلة إذ يقولون(إن الخبر لا يقبل إذا رواه العدل الواحد إلا إذا إنضم إليه عدل آخر أو عضدته موافقته لظاهر الكتاب أو ظاهر خبر آحاد أو يكون منتشراً بين الصحابة أو عمل به بعضهم.

إشترط بعض الحنفية للعمل بخبر الآحاد أن لا يخالف القياس وأكثر المتقدمين منهم لم يقل به.

والذين جعلوا القياس أصلاً منهم قسموا الرواة إلى قسمين:

الأول : أصحاب الإجتهاد والفقه والضبط كالخلفاء الأربعة  الراشدين وابن مسعود، والعبادلة، وزيد بن ثابت فهؤلاء يقبل الحنفية حديثهم ويكون حجة مقدمة على القياس.

الثاني : الصحابي الذي يعرف بالرواية ولم يعرف بالفقه والإجتهاد والفتيا فهولاء إن جاء حديثهم مخالفاً للقياس إختلف الحنفية في قبوله.

وإستدلوا بالتواتر على بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آحاد الناس إلى الأمصار والقبائل (قال ابن حزم بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معاذ إلى الجند وجهات من اليمن، وأبا موسى إلى جهة أخرى.. وأبا عبيدة إلى نجران، وعلياً قاضياً إلى اليمن، وكل من هؤلاء مضى إلى جهة ما معلماً لهم شرائع الإسلام. وكذلك بعث أميراً إلى كل جهة أسلمت… معلماً لهم دينهم ومعلماً لهم القرآن ومفتياً لهم في أحكام دينهم وقاضياً فيما وقع بينهم وناقلاً إليهم ما يلزمهم عن الله تعالى ورسوله، وهم مأمورون بقبول ما يخبرونهم به عن نبيهم صلى الله عليه وسلم. وبعثة هؤلاء المذكورين مشهورة بنقل التواتر من كافر ومؤمن لا يشك فيها أحد)([139]).

وقيل الدليل على قبول خبر الواحد في كتاب الله أكثر من أن يحصى، ومنه :

الأول : قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]([140])، وذكرت الآية التبيين كعلة لمجيء الفاسق بالخبر، وترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعليّة، وأنه لو كان الخبر من أخبار الآحاد مانعاً من القبول لم يكن لهذا التعليل فائدة، وهذه الآية هي أشهر دليل على قبول خبر الواحد في مفهومها.

وترد عليه بأنها لا تدل على قبول خبر الواحد العدل مع قولنا بقبوله , والرد من جهات :

الأولى : إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فالتبين في خبر الفاسق في الآية الكريمة ليس برزخاً ومانعاً من التبين في غيره من أخبار الثقة.

الثانية : لم تكّذب الآية الفاسق في خبره، فليس من تناف وتضاد بين الفسق والخبر الصحيح على نحو السالبة الكلية، فقد يصدق الفاسق، ومن أمثال العرب(إِذا سمعت بسُرى القَيْنِ فإِنه مُصْبِحٌ وهو سَعدُ القَين قال أَبو عبيد يضرب للرجل يعرف بالكذب حتى يُرَدُّ صِدْقُه قال الأَصمعي وأَصله أَن القَيْنَ بالبادية ينتقل في مياههم فيقيم بالموضع أَياماً فيَكْسُدُ عليه عمَله فيقول لأَهل الماء إِني راحل عنكم الليلة وإِن لم يُرِدْ ذلك ولكنه يُشِيعُه ليَسْتعمِله من يريد استعماله فكَثُر ذلك من قوله حتى صار لا يُصَدَّق)([141]).

الثالثة : طلبت الآية البيان وتبين صدق الناقل للخبر من كذبه قبل العمل بمقتضى قوله، ومنهم من إستدل بهذه الآية بعدم حجية الخبر الواحد، قال الشيخ الطوسي : وفي الآية دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم ولا العمل، لأن المعنى إن جاءكم فاسق بالخبر الذي لا تأمنون أن يكون كذباً فتوقفوا فيه، وهذا التعليل موجود في خبر العدل، لأن العدل على الظاهر يجوز أن يكون كاذباً في خبره فالامان غير حاصل في العمل بخبره. وفى الناس من استدل به على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان راويه عدلا، من حيث انه اوجب تعالى التوقف في خبر الفاسق، فدل على أن خبر العدل لا يجب التوقف فيه. وهذا الذي ذكروه غير صحيح، لانه استدلال بدليل الخطاب ودليل الخطاب ليس بدليل عند جمهور العلماء. ولو كان صحيحا فليست الآية بأن يستدل بدليلها على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا بأولى من ان يستدل بتعليلها في دفع الامان من أن يصاب بجهالة إذا عمل بها على ان خبر العدل مثله، على أنه لا يجب العمل بخبر الواحد، وإن كان راويه عدلا.

فان قيل: هذا يؤدي إلى أن لا فائدة في إيجاب التوقف في خبر الفاسق إذا كان خبر العدل مثله في الفائدة. قلنا: والقول بوجوب العمل بخبر الواحد يوجب أنه لا فائدة في تعليل الآية في خبرالفاسق الذي يشاركه العدل فيه، فاذا تقابلا سقط الاستدلال بها على كل حال وبقي الاصل في انه لا يجوز العمل بخبر الواحد إلا بدليل)([142]).

وعن ابن عباس وقتادة وابن أبي يعلي: نزلت الآية في الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صدقات بني المصطلق([143])، خرجوا يتلقونه فرحاً به وإكراماً له، فظن أنهم هموا بقتله، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنهم منعوا صدقاتهم.

وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقبل ويسمع خبر العيون والجواسيس، (وفي الحديث: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث عيناً من خزاعة يتخبر له قريش أي يتعرف له أحوالهم).

وقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهادة الأعرابي في الهلال، وقد يقال بأنه يقبل هذه الأخبار بالعلم اللدني والوحي ، الجواب ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله : أني أحكم بينكم بالبينات والأيمان).

وأن الآية جاءت للزجر عن إستعمال بناء عقلائي متعارف عند المسلمين.

ولا تكون الآية دليلاً مستقلاً على خبر الواحد، فأما الآية الأولى فإن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، وأن التبين يصح حتى مع غير الفاسق، وليس فيه إشارة إلى الإتحاد والتعدد، إنما يتقوم الدليل إذا كان خاصاً بذات الموضوع وهو خبر العدل الثقة بالمنطوق وليس المفهوم على الأرجح.

الثاني : [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]([144]).

وتدل الآية على تفقه طائفة وهم الجماعة , والطائفة من الشيء: القطعة منه، وقوله تعالى[وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]([145])، والإستدلال بالآية للقول بأن لفظ الطائفة يطلق على الواحد فما فوقه، ولكن إستعماله في الواحد خلاف الظاهر والمتبادر من اللفظ المتعدد في الأمر المتحد , وهو من علامات الحقيقة، وكذا هو خلاف المنصرف في الأذهان من المراد من الذين يجب أن يتفقهوا ويعلموا الأحكام، فلابد من الرجوع إلى الكتاب الكريم والصدور عنه وهو شاهد على سلامته من التحريف، وأن السنة لا تنسخه.

وفي رواية عبد الله بن أبي يعفور قال: سألت أبي عبد الله عليه السلام عن إختلاف الحديث يرويه من نثق به، ومنهم من لا نثق به، قال: إذا ورد عليكم حديث، فوجدتم له شاهداً من كتاب الله عز وجل، أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلا فالذي جاءكم به أولى به).

الثالث : منه قوله تعالى[فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]([146])، وقيل لو لم يكن القبول واجباً لما كان السؤال واجباً)([147]) .

 ولكن الآية جاءت بصيغة الجمع مما يدل على إحتمال إرادة المتعدد في السائل والمسؤول خصوصاً وهو الظاهر، وإذا ورد الإحتمال بطل الإستدلال.

الرابع : قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ]([148])، وتقريب الإستدلال أن(من أخبر عن الرسول بما سمعه فقد قام بالقسط وشهد لله، وكان ذلك واجباً عليه.

ولكن جاءت الآية بصيغة الأمر وليس الإخبار عن فعل لإرادة القيام بالعدل وبيان الأحكام الشرعية.

الخامس : قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى]([149])، وأن الله عز وجل أوعد على إخفاء الهدى فيجب على من سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إظهار وإعلان ما سمعه، ولكن الآية لا تدل على قبول خبر الواحد بدليل مجيئها بصيغة الجمع وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يبلغ أصحابه ويخبرهم ويصعد المنبر.

السادس : العقل هو مستند خبر الواحد، وبه قال أحمد بن حنبل وابن شريح وأبو الحسن البصري والصيرفي وزاد أحمد : إن خبر الواحد يفيد بنفسه العلم، وحكاه ابن حزم في كتاب الأحكام عن داود الظاهري وغيره.

ومن الإعجاز في أحكام الشريعة الإسلامية عدم التوقف على خبر الواحد، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام بطرق متعددة قال: أيها الناس ما جاءكم عني فوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف القرآن فلم أقله)([150]).

ويمكن تقسيم خبر الواحد تقسيماً إستقرائياً مستحدثاً وهو:

الأول : خبر الواحد في الموضوعات والوقائع.

الثاني : خبر الواحد في الأحكام.

الثالث : خبر الواحد في الوقائع والأحكام ويتجلى الفارق بين القسمين أعلاه أن خبر الواحد في الأحكام ليس مستقلاً بذاته بل يعرض على الكتاب والسنة، أي ليس مجرداً قائماً بذاته، بخلاف الخبر الواحد الموضوعات.

وينسخ الخبر المتواتر خبر الواحد، وهل يصح العكس بأن ينسخ خبر الواحد المتواتر، الجواب لا مانع له بقيود.

الأول : صحة سند ورجال الخبر.

الثاني : تأخر خبر الواحد على المتواتر.

الثالث : موافقة خبر الواحد للكتاب والمدار على الشواهد والمصاديق، ولا بأس من إحصاء أخبار الأحاد التي تنسخ الخبر المتواتر وموضوعاتها

الإنفتاح والإنسداد

ينقسم العلم بلحاظ بقاء بابه مفتوحاً أو مغلقاً يمكن الوصول اليه إلى قسمين:

الأول: الضروريات والبديهيات من أحكام العقائد كوجوب معرفة الباري عز وجل ومعرفة أوصافه والتصديق بالنبوة والإقرار بالمعاد وبعض الأحوال فيه، والعلم فيها لا يزال بابـه مفتوحاً، وتدل عليه أدلة عقلية كثيرة ظاهرة للوجدان، وسمعية قطعية الصدور تلزم العلم بها بالإضافة إلى الملازمة بينها كما أن بعضها يشد ويوثق البعض الآخر.

ولم يقل أحد بإنغلاقه بل إن العلماء فيه إنفتاحيون وحتى في باب الفقه والتقليد إنه لا تقليد في الضروريات كوجوب الصلاة والحج والصوم، ولا في اليقينيات إذا ما تم للمكلف اليقين الذي يعني الإعتقاد الجازم المطابق للواقع لاسيما وأن التقليد طريق لدرك الواقع.

الثاني: الأحكام الشـرعية الفرعية من التكليفية والوضعية، والواقعية والظاهرية وقد تعددت فيها الأقوال وهي:

أولاً: إمكان الوصول إليها علماً وأن الطريق إليها حقيقي منجعل وهو العلم أي عدم الإلتفـات إلى الظن فالحكم واحد لأن القرآن والسنة بينا الأحكام بما يجعل الأمة تنتفع منه على إختلاف الأزمنة والأجيال، وهناك من الأخبار ما هو متواتر ويكون حجة، وما هو مستفيض ويكون قسماً من أقسام الخبر الواحد، ولو جُعل قسيماً له لكان حسناً، ويقول الأكثر بحجية خبر الواحد سواء في كل الأحكام أو في جلها، والقائل بإنفتاح باب العلم السيد المرتضى وجماعة من القدماء.

ثانياً: التفصيل بين باب العلم وباب العلمي في الوصول إلى الأحكام الشرعية الفرعية، وهذا القول هو المشهور، والعلمي يتعلق بالطرق الموصلة إلى العلم، ويطلق عليها العلمي، للعلم باعتبارها وجعلها وإمضائها كادلة من قبل الشارع أو العقل توصل إلى معظم الأحكام وتفيد الحجية والإثبات.

والمعــروف أن الشـبهات الموضـوعيـة مطلقـاً لا صـلــة لها بعلـم الأصول، فالفقيه والعامي بمنزلة واحدة في الشبهة الموضوعية، وعلم الأصول يتناول الكليات التي يصح الإعتذار منها في الشريعة ومنها الإجماع بقسميه المحصل الذي حصله الفقيه، والمنقول أي المنقول اليه، وقالوا إن باب العلمي مفتوح إلى يوم القيامـة وخبر الثقـة والعدل منه.

الثالث: دعوى الإنسداد أي ليس من طريق إلى الواقع لا علماً ولا علمياً ويسمى قائله بالإنسدادي نسبة إلى دعوى إنسداد باب العلم بالأحكام الشرعية الفرعية، والذي يذهب للإنسداد لم يبق متحيراً في مقام العمل لأنه لابد من التكليف فقال بدليل عقلي أطلق عليه إسم دليل الإنسداد، وهذا الدليل ليس له ذكر في كتب المتقدمين وإنما هو إصطلاح ورد عند متأخري المتأخرين، وإستحداث الإصطلاح على وجهين:

الأول: ان يكون له أصل في الشريعة، والإصطلاح لفظ يأتي  لتمييزه، اي أن الإصطلاح مستحدث دون المعنون والمصطلح عليه.

الثاني: ان يكون العنوان والمعنون كل منهما مستحدث، والغالب هو الأول.

والقائلون بالإنســداد وضعـوا له مقدمات منها العلم الإجمالي بوجود أحكام واقعية كثيرة في الشرع وقد إنسد باب العلم والعلمي للكثير منها ولا يمكن إهمالها أو ترك الإمتثال فيها لأنه تقصير وتضييع.

وقالوا بحجيـة الظـن وإختلفـوا في حجيتـه، هل هـي عقليـة أم شـرعية، أي هل يحكم العقل بلـزوم العمـل طبـق الظـن لتعـذر القطـع من غـير أن يكـون جعـل من الشـارع أو أنه يفيد حجيته شرعاً وأن الشارع جعل الظن حجة وأمضى حجيته في باب تعذر القطع وأمر به مثل خبر العدل والثقة على القول المشهور بحجيتهما وإن لم تكن هناك ملازمة بين الظن وبينهما، أو أن الظن من الكلي المشكك الذي هو على مراتب متفاوتة ، ومنه الظن المعتبر في نوعه وموضوعه كما في قوله تعالى[الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] (1).

وقد وردت آيات عديدة في ذم الظن قال تعالى[إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ] ([151]).

وعلى فرض تمامية مقدمات دليل الإنسداد فهل يكون الظن معتبراً من جهة الشرع وما يعبر عنه بالكشف، أو يكون معتبراً من جهة العقل الذي يحكم بكفاية الإمتثال الظني ما لم يثبت ردع الشارع عنه.

وهذا المبحث أصولي ويكون صغروياً في علوم القرآن بل إن القرآن يضّيق دائرته ويحول دون إتساع الخلاف بخصوصه لأن باب العلم في القرآن إنفتاحي وكذلك باب العلمي.

لقد تفضل الله سبحانه على المؤمنين، وطرد عنهم التردد والحيرة والإفتتان وأسباب الشك فما من واقعة إلا ولها حكم، إن رجوع أرباب العلوم إلى القرآن سبيل مبارك للتخلص من الخلاف وإختصار لطرق بلوغ الغايات السامية.

وباب لدرء الخلاف والفرقة، وفيه غلق لمقدمات وأسباب الفتنة والشقاق، وهو آلة سماوية كريمة لتنمية ملكة الإستنباط عند المحقق والعالم والذي يغوص في بحار أنواره لتواجهه غرره ودرره متلألئة لتبقى خزائن القرآن علة لإنفتاح ميادين العلوم المختلفة، والعقل يحكم بحجية أحكام القرآن لأن الله عز وجل جعله حجة دائمة وأمر الناس بالأخذ بأوامره وإجتناب نواهيه بعيداً عن الشك والوهم أو ترجيح المرجوح على الراجح أو الإحتياط المخالف للإحتياط وما فيه تشديد على النفس.

القرآن والعقل

القرآن ما كان لفظه ومعناه من عند الله بوحي جلي، المنقول إلينا بين دفتي المصاحف تواتراً، وهو آخر الكتب السماوية المنزلة ولكنه تقدم عليها رتبة وشأناً وموضوعاً وأثراً وأتباعاً وجنوداً فهو الإمام في الدنيا والآخرة، وكانت له موضوعية خاصة في تثبيت عقيدة التوحيـد في الأرض، وفي تعاهـد الفرائـض العباديـة وذلك من مصاديق الإعجاز الغيري للقرآن وليثبت بالواقع والوجدان علوه رتبة على الكتب السماوية الأخرى، ولتظهر الآثار الموضوعية لكلام الله عز وجل في الأرض، أي أن كلامه تعالى له وظائف عقائدية متجددة.

عن الإمام الصادق عليه السلام: “لقد تجلى الله لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون”.

وحاول القائلون بعدم التسليم إلا بالمحسوسات الجحود ونقول ان المحسوسات هي دليل إثبات وجود الصانع أيضاً فقوله تعالى [ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ](1) نوع تحد، وهل القرآن حجة عقلية أم حسية.

الأنبياء السابقون جاءوا بحجج حسية كعصا موسى وناقة صالح، والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم جاء بحجة عقلية هي القرآن دلالة على رسوخه وثبوته والمستوى الراقي الذي نزل فيه، والقرآن كلام يعجزهم ويذعنون له صاغرين مسلّمين أنه ليس كلاماً للبشر.

وعجزوا عن الإتيان ببعضه فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، وحاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إن إختار شطر منهم الحرب على الإسلام مع إقرارهم بالعجز وهم أهل فصاحة وبلاغة.

وكما أن القرآن حجة عقلية فقد جاء بحجج حسية، والحجة العقلية أشرف من الحسية، فهو معجزة جامعة فاذ ينفرد القرآن بالحجج العقلية فانه يلتقي مع معجزات الأنبياء بالحسية وفي القرآن تبيان كل شيء , ومن وجوه التحدي القرآني في باب القتال قوله تعالى[وَلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الأَدْبَارَ]([152]).

وجاء القرآن للناس جميعاً، وفيه حفظ للآيات التي جاء بها الأنبياء وتوثيق لها وقد خلـق الله الناس متفاوتـين في المـدارك والعلـوم والإحساس والقرائح والطباع، وهذا التفاوت نوع تخفيف، وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس كافة رحمة العالمين [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ](1).

ومن القواعد الكلامية كل ما عند الأنبياء من الآيات عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فما كان عند الأنبياء من الحجج الحسية لابد أن يكون عنده بالذات أو النوع والمحسوسات وحدها كافية كحجة على إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي هنا على نوعين سابقة عامة وحاضرة خاصة، فالسابقة أن الأنبياء السابقين دلوا أممهم على إتبــاعه صــلى الله عــــليه وآله وســــلم، وليس المراد من الحسيات في المقام المصطلح الكلامي وهو المدرك بالمشاهدة الظاهرة أو الباطنة إنما هي التي تدرك بالحواس سواء مما في السماء أو في الأرض وما بينهما والتي تتجسد بالهداية التكوينية والتشريعية.

أما الخاصة من الآيات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل نبع الماء من بين أصابعه، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل في مناسبات منها عند نزول قوله تعالى [ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ]([153])، وتسبيح الحصى في كفه، وكلام الذراع المسموم، وحنين وسلام الشجر، وملازمة النصر والفتح له، على نحو إعجازي ظاهر ونحوها كثير مما يحكم بها العقل بمعاونة الحس الظاهر، أو قل بواسطة الحس، والنزاع في المقام صغروي، إذ أن المدار هو هذا الإنسان وإحساسه وإن أختلف في تعريفه على وجوه:

الأول : هو هذا الحي الناطق.

الثاني : الشخص المرئي المدرك.

الثالث : إنه الجسد، عن بعض المعتزلة.

الرابع : إنه الروح كما عن النظّام.

الخامس : هو هذا الجسم الذي هو أعراض مجتمعة عن إبن الراوندي.

السادس : إنه الأخلاط الأربعة.

السابع : إنه عين من الأعيان لا يجوز عليه الإنقسام.

الثامن : هو شيء واحد في الحقيقة.

ونريد تعريفاً يتعلق أو يتضمن الإشارة إلى أصل الخلقة والتكوين، المعرف حينما يعرف الإنسان هو أيضاً جزء منه.

والأولى ظهور مسحة الشكر والإقرار بالنعمة، وتكون صفة ملازمة للتعريفات الإسلامية للحقائق والكليات والمفاهيم، ونعمة الخلق وإستدامة الحياة موجودة في تعريف الذات مثلاً يقال.

هو الناطق الذي نفخ الله فيه من روحه، وهو الذي ميزه الله بالعقل.

إذ أن الجسم مطلقاً مركب وهو على أقسام:

الأول: إن كان على هيئته لم يطرأ عليه النمو فهو من الجماد.

الثاني : ما كان ينمو ولكنه خال من الحس، فهو النبات، ولا عبرة بما ذكر من إحساسات النباتات لعدم الإعتبار بها عند العقلاء.

الثالث :        إن كان عنده حس ولكنه يفتقر إلى النطق فهو الحيوان.

الرابع : ان كان حسّاساً وناطقاً فهو الإنسان.

فالإنسان فرد الممكن، والعقل آلة العبودية يعرف به العبد وظائفه وواجباته وما له من الحقوق.

الغاية لا تدخل بالمغيى مثلاً، المرافق في آية الوضوء من جنس واحد فتدخل مع الجزء المغسول من اليد وإذا كانت من غير جنسه لا تدخل[فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ]([154]).

والعقل عنوان الإكرام الإلهي للخلافة في الأرض والمتولي للعبادة فيها وما تعنيه من دوام الحياة والبركة عليها، وهل ميز الإنسان بالعقل فقط، بل بغير العقل من صفات التشريف. الجواب هو الثاني بحاجة إلى دراسات منها:

الأول : خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم.

الثاني : النفخ فيه من روحه، وخلقه الأنعام.

الثالث : الفارق في الحواس وأجهزة البدن.

الرابع : النطق وموضوعيته ومنافعه.

الخامس : خلق آدم في الجنة.

السادس : في مراحل الولادة.

السابع : أهلية الإنسان للنبوة وللإستجابة لها، وهل هي فرع العقل أم أعم من العقل.

الثامن : عدد الأنبياء، وهل هو كثير أم قليل، وما هي وظائف النبوة

شطر من الأصوليين جعل العقل دليلاً رابعاً، وشطر آخر منهم أضاف القياس وهو في إصطلاح الأصوليين كالتمثيل عند المناطقة، ويعني إثبات الحكم في جزئي لثبوته في جزئي آخر مشابه له كما في ثبوت أن النبيذ مشابه للخمر في جهة السكرية، وحكم الخمر الحرمة، فإذن النبيذ حرام للإشتراك والتقاء جهة الإسكار.

وفي تعريف العقل وجوه :

الأول : هو الجوهر البسيط المحيط بجميع الأشياء المبروزة فيه والحاكم عليها والقاضي بينها.

الثاني : هو قوة التمييز.

الثالث : قوة يفصل بها بين حقائق ومعلومات.

الرابع : المفارق للأجسام المدرك للكليات بذاته والجزئيات بالآلة.

الخامس : منهم من عرّفه بأنه جسم لطيف نوراني هو آلة العلم.

السادس : إنه الخلق الذي أكرمه الله، وأكرم الإنسان عندما جعله فيه حين خلقه وهو الرسول الدائم عند الإنسان.

أكثر العلماء المتقدمين ومشهور علماء المسلمين لم يذكر الدليل العقلي، ولكن النصوص والوجدان يدلان على إستقراء توظيف العقل لإثبات نزول القرآن من عند الله تعالى.

فالمفيد مثلاً المتوفي سنة 413 هـ لم يذكر الدليل العقلي بل ذكر أصول الأحكام ثلاثة الكتاب والسنة النبوية وأقوال الأئمة وجعل العقل طريقاً للوصول إلى هذه الأصول الثلاثة وقال عنه: هو سبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الأخبار.

وحذا الشيخ الطوسي المتوفي سنة 460 هـ في كتابه العدة حذوه، وقال بدليل العقل، ابن ادريس ت 598 هـ وقال: اذا فقدت الثلاثة يعني الكتاب والسنة والإجماع فالمعتمد عند المحققين التمسك بدليل العقل فيها أي انه جعله بالمرتبة الثانية ويرد عند فقد الدليل، ولكن النقاش في الكبرى، وهي أن الدليل القرآني لا يفقد أبداً لأن الله عز وجل جعله جامعاً مانعاً، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]([155]).

ثم ليؤتي بالأمثلة العملية التي يدعى فيها فقد الأدلة الثلاثة كي يبحث إمكان إستنباط أحكامها من الكتاب والسنة.

والمصـدر الأول في التشريع هو القرآن والسنة مبينة له، أما الإجماع فهو الكاشف عن السنة وعدم ثبوت الردع عن العقل، لذا عرف علم أصول الفقه بأنه ما يقع نتائج بحثه في طريق معرفة الوظيفة الشرعية.

ومنهم من زهد بدليل العقل وربما إتخذ العقل طريقاً للتزهيد بالعقل فيلزم الدور، أو أنه ذكر أدلة قابلة للمناقشة.

بحث اصولي

من القواعد الأصولية قاعدة التحسين والتقبيح العقليين فقد إختلف الأصوليون هل يحكم العقل بان للأفعال حسناً وقبحاً او أنه ليس مؤهلاً للحكومة ولم تكن له تلك الوظيفة، وذكر ان حكم العقل هو إدراكه وليس له بعث وزجر، وإن حكمه هو ادراكه وأنه يدرك إستحقاق فاعل الحسن المدح، وفاعل القبيح الذم فعنده حكم مستقل من جهتين:

الاولى: يستطيع العقل إدراك الحسن والقبح الذاتيين للأفعال وهذه المسألة تدل بدلالتها الإلتزامية على أن للأفعال ماهية ذاتية مستقلة من غير أن يترشح عليها حكم الشرع.

الثانية: إن فاعل الحسن يمدح، وإن فاعل القبح يستحق الذم عقلاً والأولى من الإدراك والثانية من الحكم.

 ونفى الأشاعرة هاتين الجهتين للعقل وقال بها المعتزلة يقال عقل يعقل عقلاً وعقل فهو عاقل من قوم عقلاء، وضد العقل: الحمقْ.

 روي عن علي عليه السلام، أنه قال: خلق الله العقل من نور مكنون مخزون من سابق علمه، فجعل العلم نفسه، والفهم روحه ، والزهد رأسه، والحياء عينه، والحكمة لسانه، والخير سمعه ، والرأفة قلبه، والرحمة همه، والصبر بطنه، ثم قيل له تكلم ، فقال: الحمد لله الذي ليس له ند ولا ضد ولا مثل ولا عدل، الذي ذل كل شيء لعزته فقال الرب : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعز عليّ منك([156]).

ومدار التكليف على العقل ووظيفته العلم بالفرائض والنواهي والتمييز بين الحق والباطل، وهو جوهر مجرد قائم بذاته ومفارق في فعله، مجرد عن المادة ومحله الرأس، وقيل إنه قوة في القلب تقتضي التمييز.

لقد جعل الله عز وجل العقل رسولاً دائماً عند الإنسان وآلة للعلم حتى على قول بعض الفلاسفة أنه مادة وطبيعة، وكما أن وظيفة البصر التمييز بين المرئيات، والسمع التفريق بين المسموعات كذلك القوة العاقلة تميز بين المدركات بما فيها المحسوسات، وقيل العقل يستقل بالحكم من غير الرجوع إلى الشرع إبتداء في حسن الأشياء وقبحها.

أما الأشاعرة فقد أنكروا إتصاف الأشياء بالحسن والقبح عند العقل، بل المناط على حكم الشارع فما حسنّه الشارع فهو حسن شرعاً وعقلاً وما قبحه فهو قبيح، ولو عكس الأمر وجعل الشارع الحسن قبيحاً لأصبح كذلك ولتحول الوجوب إلى الحرمة بالإضافة الى ظاهر القول بالجبر والإضطرار، وأن المجبور ليس عنده فعل يتصف بالحسن أو القبح.

 والمعتزلة يقولون: يجب على الله تعالى أن لا يعذب قبل الإنذار وقيام الحجة وبنوه على قاعدة الحسن والقبح العقليين، وأئمتنا يثبتون ذلك لكنهم لا يجعلونه مناط الحكم كما زعم المعتزلة)([157])، ولكن لا بد من تنزيه كتب الكلام عن عبارة: يجب على الله تعالى وإختيار لفظ مناسب لمقام الربوبية، فالله سبحانه هو الذي شرّع الوجوب.

والحسن والقبح له وجوه:

 الأول: الكمال والنقص فيقال العلم والكرم حسنان، والجهل والبخل قبيحان لأن الأولين لهما صفة كمال، والأخيرين لهما صفة نقص.

الثاني: ملائمة النفس ومنافرتها ويقعان بذلك وصفاً للأفعال.

الثالث: المدح والذم.

والأخير هو محل النزاع، فالأشاعرة قالوا بعدم إستقلال العقل دون الشرع.

 وتتفرع عن هذه المسألة قاعدة أخرى وهي قاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع وهي مركبة من أمرين يستحق كل منهما أن يكون موضوعاً مستقلاً خصوصاً وأنه إتفق على القسم الأول منهما وهو تبعية حكم العقل للشرع، وإختلفوا في الثاني، وهو تبعية حكم الشرع لحكم العقل.

الأول: ما يحكم به الشرع يحكم به العقل.

الثاني: ما يحكم به العقل يحكم به الشرع.

اما الأول فلأن الشارع سيد العقلاء فاذا حكم بوجوب أمر فلابد ان فيه نفعاً ومصلحة، واذا حكم الشرع بحرمة شيء فلابد ان فيه مفسدة يدركها العقل فحينئذ يحكم العقل بمقتضـى ذلك المــلاك، ولأن الله تفضل وجعل العقل رسولاً باطنياً كالمرآة لأحكام التنزيل قال تعالى[قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ([158]).

 أما ما يحكم به العقل ويدرك حسنه أو قبحه فهل يحكم الشرع طبقاً له لأنه سـيد العقلاء ولعدم التعارض بين حكم الشرع وحكم العقــل لأن العقل شرع داخلي فليس بين حكميهما تعارض فيلتزم بالإطلاق بان ما حكم به أحدهما يحكم به الآخر وإطلاق إصطلاح سيد العقلاء على الشرع لا يخلو من التكلف ولم يرد في نص.

لقد أنكر مشهور علماء المسلمين تلك الملازمة لأن وجود الحسن والقبح في الفعل أعم من ملازمة حكم الشرع لحكم العقل لأن ملاكات الأفعال لا يعلمها إلا الله عز وجل وهي من باب المقتضي وليس من العلة التامة التي تحتاج إلى جانب المقتضي فقد المانع فقد يرى العقل الملاك ولكن الشارع ينظر إلى فقدان شرط أو وجود مانع او حكم ثانوي له الحكومة كقاعدة لا ضرر ولا ضرار.

وإستشهد أيضاً بأفعال الصبي فهو يدرك المصالح في الأفعال كإنقاذ الغريق، والصدق في الكلام، وقبح الكذب ومع هذا فان الشارع لم يلزمه إيجاباً وتحريماً ويشكل عليه بان يلزمه بقدر عقله فيعزر في بعض الأفعال القبيحة والمنهي عنها ويؤدب أو يوبخ، ومن ذلك الأحكام الواجبة والمحرمة في بدء التشريع أو إسلام قوم بحيث لو جاءت الأحكام على نحو دفعي للزمت النفرة والحرج.

وهناك كبرى كلية وهي أن إدراك العقل متخلف رتبة عن حكم الشرع، بالإضافة إلى إنقياد العقل للشرع، فلا يكون معه بعرض واحد بحيث تكون حاكمية لكل منهما، فالحاكم هو الشرع والعقل تابع له.

وللحكم بإستحالة التكليف بلا بيان حكم الشارع بالبراءة أو مسألة ترك الضد مقدمة للضد الواجب فإذا كان تركه واجباً ففعله حرام كما قالوا، مثلاً الحكم بترك الصلاة لإنقاذ غريق وإزالة النجاسة عن المسجد.

هذه الأمور من حقيقة واقعية يدركها العقل النظري وهو قوة تقبل ماهيات الأمور الكلية، وهي من الأوليات أي القضايا التي يصدق بها العقل لذاتها أي بدون سبب خارج عن ذاتها مثل “النقيضان لا يجتمعان”، والكل أعظم من الجزء.

أو الفطريات التي قياساتها معها فالعقل لا يصدق بها بمجرد تصور طرفيها كالأوليات، بل لابد لها من وسط ولكنه يستلزم الطلب والفكر.

والحق أن النزاع في حجية العقل بين القائلين وبين غير القائلين به نزاع صغروي لأن المدار على حكم الشرع، وقد خفّف الله عن العلماء وجعل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]([159])، والأصول العملية مثلاً كأصالة الإشتغال والبراءة يستدل عليها وبها لتوكيد النص من القرآن أو السنة.

وإنقسم الفلاسفة الغربيون في التصورات إلى قسمين:

الأول : العقل يدرك بذاته مجموعة من المفاهيم من دون أن يحتاج إلى الحس، كقول ديكارت بالنسبة لمفهوم الله عز وجل، والنفس من الأمور غير المادية، أو تلك التي يستلزم إدراكها بالحواس كالطول والعرض.

الثاني : إن ذهن الإنسان صفحة بيضاء والإتصال بالموجودات الخارجية يتم بواسطة الحس، ويؤدي إلى ظهور الخطوط والصور فيه، إبيقور قال بأن العقل خال من أي شيء إلا ما كان مقطوعاً به في الحس.

ويمكن القول بأن العقل وبعد إقراره بالنبوة يجب أن ينقاد إلى أحكامها وهذا ما لا يختلف في إثنان، والعقل طريق مبارك دائم لإثبات وجود الصانع وعون على الهداية.

ويمكن بيان ذلك بذكر الوجهين من خلال النصوص:

الأول: ما ورد عنه uبالنهــي عن حصر طريق الشريعة بالعقل كما في قوله عليه السلام: ان دين الله لا يصاب بالعقول) والمراد منه توظيف العقل لفهم الأحكام ومنع ضلالة الافهام.

الثاني: اعتبار العقل طريقاً لفهم الشريعة .

الصيام… نظرة قرآنية

قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ](1).

لشهر رمضان فضائل وخصوصيات كثيرة نأخذ منها ما يتعلق بموضوعنا وهو موسوعة فقهية وأخلاقية وإجتماعية وعقائدية وتربوية وإنسانية ولغوية وعبادية، وهو الوعاء الزماني لنزول القرآن بل هو وعاء لنزول الكتب السماوية الأخرى، وسيأتي بيان إن شاء الله([160]).

قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (نزلت التوراة في ست مضين من شهر رمضان، ونزل الأنجيل في اثني عشر مضت من شهر رمضان، ونزل الزبور في ثماني عشر مضت من شهر رمضان، ونزل الفرقان في ليلة القدر).

عن قتادة(إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) : ليلة القدر، ونزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان، ونزلت التوراة لستّ ليال مضت من رمضان، ونزل الزَّبور لستّ عشرة مضت من رمضان، ونزل الإنجيل لثمان عشرة مضت من رمضان، ونزل الفُرقَان لأربع وعشرين مضت من رمضان([161]).

إن نزول القرآن مناسبة كريمة لتشريف الأرض، ولكن موضوعنا يتعلق بما للنزول من آثار متصلة إلى زماننا هذا تنعكس بأعمال مخصوصة نؤديها، أو بأمور تنزل من السماء لخصوص أن القرآن نزل في شهر رمضان. وأن تلك البركة بقت متصلة وأن أسراراً إلهية تتعلق بهذا الشهر الكريم تخصه دون غيره من الشهور لنزول القرآن فيه وهناك مسائل:

الأول : الصيام مثلاً إنحصر وجوبه بشهر رمضان لمناسبة نزول القرآن.

الثاني : أسباب نزول آيات الصيام.

الثالث : أم لأسباب أخرى.

الرابع : كان النزول جزء علة لجعل هذه الفريضة في شهر رمضان.

    الخامس : جاء أوان النزول بسبب القدسية الخاصة لهذا الشهر بفريضة الصيام .

   وكل هذه الأمور من مصاديق تفضيل شهر رمضان من بين الشهور ، وما جعل الله عز وجل له من الخصوصية، وهو من وجوه إكرام المسلمين ودرجتهم الرفيعة بين الأمم، قال تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([162]).

وإستقبال الشهر بالقرآن تلاوة وحفظاَ وتفسيراً من خصال الإيمان، وبه جاء الخبر، والظاهر في الإصطلاح هو ان اللفظ ليس نصاً ولكنه يحتمل خلاف الظاهر، فالأصل حينئذ ان يحمل الكلام على الظاهر فيه، والعقلاء لا يعتنون باحتمال الغفلة أو الخطأ وهو مما أستثني من موارد الأخذ بالظن، فالإستقبال بالقرآن يعني التلاوة ولكن الكلام في إطلاقه يؤخذ على الأكثر وبلحاظ النصوص والأخبار منها التعلم والحفظ والتدبر وطلبة العلم يستقبلونه بالتفسير والفهم والمذاكرة رجاء رحمته تعالى ولكي يصدق التلبس بطلب العلم علامة في إستقبال الشهر الكريم.

لا أقول هذا بأن إشتراط الظن الفعلي بالوفاق هو شرط وقوام لحجية الظواهر وأننا نفهم من الظاهر هذا، بل يكفي الظن النوعي أي لغالب الناس وعامتهم وأن المراد هو القراءة والتلاوة ونصوص أخرى تفيد ذلك، فلا نقول بهذا الشرط الذي يسبب الحرج والإرباك وتعدد الفهم لمضمون لفظي واحد، أي كل واحد يفهم المراد من إستقبال الشهر بالقرآن معنى وحينئذ لا يكون حجة إلا على ما فهم منه، بل أننا مع كفاية الفهم النوعي والمعنى المتكون من اللفظ عند أهل المحاورة، وله عند أهل العلم مفهوم إضافي زائد ودلالات إعتبارية تتناسب والمسؤولية الأخلاقية.

هذا التشريف لأوان نزول القرآن وما يدل عليه وجود القرآن ونزوله وعظمته من مضامين ودلالات يظهر بجلاء إعتباره وموضوعيته وأنه السبيل إلى النجاة في الدنيا والآخرة، وفيه مسائل:

الأول : إن الصيام ملازم لأوان النزول وانه شكر لله عز وجل على نزول القرآن، وأفضل الشكر ما إتفق مع أيام نزول القرآن، ان الشكر فيه فعلي وقصدي بواجب أصلي تعييني مضيق ويتفرع عنه الإستحباب المؤكد لقراءة القرآن في أيامه، وهذا الشكر ليس فقط نتيجة وأثراً لنزول القرآن بل هو سبب وعلة لثواب مستحدث، وهو باب لدخول الجنة لذا ورد في الحديث (الصيام جنة من النار)([163])، أي واقية وحرز وأمن منها.

الثاني : في الصيام حفظ وتعاهد للقرآن وأحكامه ومناسبة لقراءته وتفسيره.

الثالث :        خصوصية وأسرار ملكوتية لشهر رمضان بالذات كانت هي السبب في نزول القرآن فيه، بل والكتب السماوية الأخرى وإستحق أن يصومه المسلمون وأن يرى ملائكة السماء إستحقاق الإنسان لخلافة الأرض بمعرفة وصيام هذا الشهر الكريم.

الرابع : لشــهـر رمضـان قدسية إضافية بالعـرض، وهي أن القــرآن نزل فيه فامتاز عن الأشهر الأخرى فأصبح مناسبة كريمة للصيام.

الخامس : في كل أيام أشهر السنة نعم متصلة، ولكن شهر رمضان إمتاز بنعمتين إحداهما نازلة والأخرى صاعدة.

السادس : لابد من تخصيص شهر للصيام من بين الشهور لا على سبيل التعيين المسبق، بل أن فضيلته إكتسبها كونه وعاءً للصيام وأن النزول والصيام إجتمعا فيه إتفاقاً، إذ أن الصوم عبادة وسنة معروفة عند المليين والأمم التي مضت في العهود القديمة والغابرة،  ويدل عليه قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ](1).

وان ورد في خبر حفص بن غيـاث عــن الصادق uانه قال: (انما فرض الله صوم شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم ففضل به هذه الأمة وجعل صيامه فريضة على رسول الله وعلى أمته) وحفص مع ضعـفه ادعى الشيخ الطوسي الإجماع على العمل بروايته وله كتاب وقال جماعة انه معتمد، وانه نقل خبراً للرشيد في جواز المسابقة بالطير وسموه كذاباً، ويحمل صفات الشيوع في الخبر ربما لغرابته، وحفص بن غياث ين طلقٍ النَّخعيّ، أبو عمر القاضي أحد الأعلام. مولده سنة سبع عشرة ومائة، وتوفي سنة أربع وتسعين ومائة. ولي قضاء الجانب الشرقيّ ببغداد. ثم بعث على قضاء الكوفة. كان يقول: من لم يأكل من طعامي لا أحدثَّه. وإذا كان له يوم ضيافة لا يبقى رأس في الروَّاسين. روى له الجامعة، ومات سنة ست، وقيل خمس وتسعين([164])، وتولى قضاء بغداد أيضاً, روى عن إسماعيل بن أبي خالد وأشعث بن سوار وجعفر الصادق وخالد الحذاء وعاصم الأحول وعنه ابن راهويه وأبو خيثمة زهير بن حرب وأبو بكر بن أبي شيبة وقتيبة بن سعيد وأبو كريب سئل ابن معين: أيهما أحفظ ابن أدريس أو حفص بن غياث؟ فقال كان ابن إدريس حافظاً وكان حفص بن غياث صاحب حديث له معرفة. وقال العجلي: ثقة مأمون فقيه. وقال يحيى بن سعيد: أوثق أصحاب الأعمش حفص بن غياث وكان يقول لأن يدخل الرجل أصبعه في عينه فيقتلعها فيرمي بها خير له من أن يكون قاضياً وكان يقول: ختم القضاء بحفص بن غياث ومات يوم مات ولم يخلف درهماً وخلف عليه تسعمائة درهماً دينا ([165]).

وعن الصادق uايضاُ ان الخطاب يشمل المنافقين والضلال. وورد عن عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن خيثمة قال : ما تقرأون في القرآن [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فإنه في التوراة يا أيها المساكين ([166]).

 وليس هو الاتفاق أو الصدفة بل هو من الإتحاد في الأحكام السماوية والكتب المنزلة، والجمع بين الإطلاق والتقييد، والعموم والخصوص ووحدة التنزيل في الكتب السماوية وإشتراكها بالحجية والدعوة الى الإسلام.

السابع : وهل نزول القرآن في شهر رمضان وعلم المسلمين به سبب وجزء علة لحرص المسلمين على حفظ فريضة الصيام الجواب نعم، وهو توكيد عبادي منهم ومراجعة سنوية لتعاهدهم له، ولآياته، وأحكامه ومنها فريضة الصيام.

الثامن : ان هذا الشهر مناسبة كريمة وفضل من الله تعالى في التخفيف عن الناس وفي دعوتهم إلى العبادة المضاعفة كما وكيفاً ونوعاً كما في خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المروية عن الرضا uوفيه ايضاً: (ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غير من الشهور) ([167]).

التاسع : في الحديث (لكل شـيء ربيــع وربيع القرآن هو شهر رمضان) ([168])، والحديث يبين أهمية قراءة القرآن في شهر رمضان وحث على تدارسه والتذاكر فيه، وقراءة القرآن ليست مجردة بل مقرونة بالاعتبار والتدبر. لو كان الفضل في شهر رمضان يتعلق فقط بأيامه وساعات نهاره، فلماذا المضاعفة في الثواب على العبادة والدعاء في لياليه.

العاشر : يظهر لنا التحقيق أن لفريضة الصيام موضوعية في حفظ القرآن وفوائد الصوم متعددة وتتعلق بالعبادة والإبتلاء والصحة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (صوموا تصحوا) ([169])، وإن كانت أبواب النفع وثمار الصوم لا تنحصر بالدنيا بل تشمل الآخرة ومن أبواب الجنة باب يسمى الريان يدخل منه الصائمون.

الحادي عشر : شهر رمضان الذي نزل في شأنه القرآن، أي في فرض صيامه كما يقـال نــزل في فــلان أو في مناسبة كذا قرآن، وهل المراد من القرآن آيات منه أم المعنى الأعم، الظاهر هو الثاني الذي يدل على نوع ملازمة بينهما بلحاظ ذكره بالخصوص.

ونزول القرآن منجماً وليس جملة واحدة لا يعني وجود الظن بالخلاف الذي إعتبر البعض نفيه وعدمه كي يؤخذ بالظاهر.

قال الضحاك: قوله تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ]([170]) أي الذي أنزل صومه في القرآن قال سفيان بن عيينه: معناه أنزل في فضله القرآن، أي أن القرآن جاء ببيان فضل شهر رمضان لا أنه أوان نزول القرآن، وهذا التأويل خلاف الظاهر وبسبب ما ثبت ان القرآن نزل منجماً على مدى عشرين أو ثلاث وعشرين سنة.

إن التوسـع والإكثار الكـمي والكـيفـي في دراسـة علـوم القـرآن يـؤدي بالقصـد والإنطبـاق إلى توالـي القسـمة.

ومن الإعجـاز الغيـري للقـرآن أنك تجد فريضة الصيام وما لها من أهمية في بناء الإسلام شريعة وعقيدة وكياناً إجتماعياً وأخلاقياً وإقتصادياً، تجدها مبينة في خمس آيات فقط من آيات القرآن البالغ عددها 6236 ( ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون) آية.

وموضوع البحث هو جزء آية من هذه الآيات الخمسة، حيث تتغشى الأرض به بهجة إيمانية والتفات تفصيلي يشترك به أفراد كل بيت من بيوت المسلمين لأوان إطلالة الهلال، ويتكرر ذلك مرتين في السنة بلحاظ ما في دخوله من العبادة، والصوم في بدايته، وتحديد اليوم الأول منه ونهايته وبداية الفطر به ومن الآيات أن الفعل في الوقتين متناقض.

 الأول: صيام وامساك عن الأكل والشرب والمفطرات الأخرى طيلة ساعات النهار.

 الثاني: إجتياز مبارك لإمتحان الصوم وإنطواء أيامه وسعادة العبد بالتوفيق لأداء الفريضة.

وهكذا البركة الإلهية تدخل على المتناقضين فتخالف القواعد الفلسفية والنواميس الأرضية وتجعلهما يلتقيان في ملاك السعادة والفرح بفضل الله.

والشـهر هـو جـزء من إثني عشر جزء من السنة وهو في الإصطلاح الشرعي المدة الزمنية المحصورة بين هلالين، ويجمع في القلة على أشهر وفي الكثرة على شهور، وسمي شهراً لإشتهاره وظهوره بالهلال وإطلاع أهل الأرض ومعرفتهم بأوانه، و شهر رمضان هو الشهر التاسع من الشهور القمرية وهو الشهر الوحيد الذي ورد إسـمه في القـرآن مما يـدل علـى قدسية خاصة لهذا الشهر لم تترشح من الصيام فقط بل لنزول القرآن قسط فيها بدليل أن ذكر إسم شـهر رمضان ورد في خصوص التنزيل، وكذا شمل التشريف ليلة من لياليه هي ليلـة القـدر بنزول الملائكـة والإفاضات السماوية الخاصة بها.

والقرآن خير محض ورحمة لأهل الأرض ، وليس المسلمون وحدهم هم الذين إنتفعوا وإستفادوا وإستثمروا تلك الرحمة، بل ان الناس جميعاً إستفادوا منها ، ولكن بمراتب مشككة متفاوتة،وهذه الإستفادة مركبة ومتوارثة ومتجددة ، بمعتى أن ما يجنيه السابق من بركة وعلوم القرآن يبقى تركة كريمة للاحق ليضاف لها ما يتجدد منها .

وصحيح ان قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا](1)، يتعلق بالرسالة وعموم خطاباتها للمشافهين وغيرهم عرضاُ وطولاً أي للناس أيام النزول ولجميع الأجيال المتعاقبة من أهل الأرض وعمارها، ولكن إنتفاع الناس وعلى اختلاف مللهم من الإسلام بلحاظ الآثار الواقعية والظاهرية للقرآن والشريعة الإسلامية في النظام العالمي الفكري والأخلاقي والتربوي وإستقراره وكيفية وطرق المعاملة بينهم أكثر من أن يحصى.

إنه دعوة للعلماء والباحثين الإسلاميين في داخل العالم الإسلامي وخارجه لتلمس آثار القرآن وما إقتبسه الآخرون مللاً وأمماً وأحزاباً وجمعيات وقبائل من القرآن وبيانها بالبحث والإحصائيات ونحوها من لغة العلم الحديث وان كانت العلوم ليست كلها مبتدأة بالقرآن بل جاءت الكتب السماوية الأخرى بشطر منها، ولكن الأمم التي جاءها رسلها بالآيات والبينات والأحكام ضيعت شطراً تلك العلوم، أما المسلمون فقد حفظوها وتعاهـدوها والفرائض ومنها الصيام بدليل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](2) أي انه فريضة مكتوبة على من سبق أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المليين.

إن مجرد حفظ هذه الفريضة بعد أن تركتها أهل الملل الأخرى بعد زيادة ونقيصة فيها، يعتبر أهلية لوراثة الأرض ودليلاً على التوفيق الإلهي، والآن وفي شهر رمضان يسأل التلامذة غير المسلمين التلامذة المسلمين في بعض بلاد الغرب وباستغراب: لماذا أنتم ممتنعون عن الأكل والشرب؟ ليتحصل من ذلك إطار عالمي لفلسفة الصيام ونفاذها وقهرها بالوجدان العالمي للغرائز والرغبات الشخصية للنفس الشهوانية وطلبها للغذاء وشوقها للذات الحسية والبهيمية، وما يتجسد فيها من أعمال الإرادة وقوة وصدق الإمتثال في أبهى صوره ومضامينه القدسية وأهليتهم لحمل راية التوحيد وان الإسلام هو الديانة الباقية إلى يوم القيامة وهو من عمومات قوله تعالى[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ] ([171]).

وهو شاهد على تعاهد أجيال المسلمين المتعاقبة للفرائض العبادية كما جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الشواهد على أنهم[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ([172]) .

والهلال ظاهرة كونية مباركة ويبين وظيفة التحديد الدقيق لأوان الصوم ومدته لإحراز الإمتثال الأكمل للأمر الإلهي، والإرتباط بعالم الكون وأسرار الغيب، بهذا الواجب العبادي الأصلي والعيني أي على كل مكلف جامع لشرائط أدائه ولا يسقط بفعل غيره، والتعييني لأن الطلـب تعلـق به بالذات، وليس له من فعل يكون عدلاً له أو في عرضه يقوم مقامه، والمضيق لأن وعاءه الزماني مخصوص ومحدد وهو شهر رمضان.

لقد ساهم الهلال بمنع التحريف والتغيير والتبديل في فريضة الصيام عند المسلمين بخلاف الأمم الأخرى، فقد ذكر أن أهل الكتاب فرض عليهم صوم شهر رمضان ومنهم من تركه إلى صوم يوم من السنة وقالوا إنه اليوم الذي أغرق فيه فرعون، ومنهم زادوا فيه يوماً بعد يوم إحتياطاً حتى بلغوا فيه خمسين يوماً فصادف أيام الحر والقيظ، وشق عليهم أداؤه، فنقلوه إلى زمن نزول الشمس برج الحمل وهو فصل الربيع الذي يلي الشتاء.

وسمي الهلال هلالاً لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه كما عن عدد من كتب اللغة([173]).

أقول: لعل سبب التسمية أنه علامة بداية الشهر وغرته كما يقال إستهلت السماء عند أول مطرها.

وفي الحديث الصبي “اذا ولد لم يورث ولم يرث حتى يستهل صارخاُ”، والإستهلال هنا عنوان الولادة وبداية الخروج الى الدنيا ولا مانع من احتمال الجمع بين الأمرين علة لتسمية الهلال وجمع الهلال أهـلة وبلغة الجمع ورد ذكره في القرآن دون المفرد، قال تعالى [يسألونك عن الأهـلة قل هي مواقيت للناس والحج]([174])، ويسمى القمر لليلتين او ثلاث من أول الشهر القمري هلالاً، ومنهم من خص تسمية الهلال بأول ليلة.

وقال الأصمعي أنه يسمى هلالاً حتى يحجر، وتحجيره أن يستدير بخطة دقيقة ولكن هذه التسمية أعم من أن تنحصر بليلة واحدة أو أكثر للتباين في هيئة الهلال من شهر لآخر.

والأقوى أنه يسمى هلالاً لليلتين أيضاً وعليه الأكثر([175])،ثم لايسمى هلالاً إلا أن يطل في الشهر التالي لتبيان ضوئه في الليلة الثالثة، والنزاع صغروي وعرفي، والإجماع على تسميته هلالاً في الليلة الأولى، وهو القدر المتيقن شرعاً في الجملة.

وسمي القمر قمراً لبياضه يقال ليلة قمراء أي مضيئة، وقال أبو علي الطبرسي: إسم القمر عند العرب الزبرقان([176]).

 أقول: ورد في القرآن وفي سبعة وعشرين موضعاً منه باسم القمر والقرآن نزل عربياً وبلغة العرب ولإفهامهم مقاصد الفاظه ومن خلالهم لأمم الأرض كافة، وكان الأولى على فرض ثبوت هذه التسمية ان يقال كما يسمي العرب القمر أيضاً بالزبرقان مع ذكر دليله من بيت شعر جاهلي أو نحوه.

وتتجلى موضوعية الهـلال ورؤيته ظاهـرة بقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ…]([177])، فيساهم الهلال بالتحديد الدقيق لأوان الصوم ومدته لإحراز الإمتثال الأكمل للأمر الإلهي بهذا الواجـب العبـادي الأصلي.

والعيني أي على كل مكلف جامع لشــرائط ادائه، ولا يســقط بفعــل غيـره.

 والتعييني لأن الطلب تعلق به بالـذات وليـس له من فعــل يكون عدلاً له وفي عــرضه يقوم مقامــه.

والمضيق لأن وعاءه الزماني مخصوص ومحدد وهو شهر رمضان.

وقد يذهب البعض إلى القول بأن الآية تتعلق بالحاضر وهو الشاهد بلحاظ إقامته وعدم سفره ولكنه لا يتعارض مع المعنى الأعم للآية لاسيما وان تسمية الشهر جاءت إطلاقاً للكل على الجزء، ولأن الهلال عنوان للشهر وبدايته، لذا نستدل بهذه الآية على جواز الإكتفاء بنية واحدة للشهر ولما ورد في السنة الفعلية والتقريرية والنصوص المستفيضة منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته”([178]).

حكـي عن بعـض الأحــداث انه راود جـارية عن نفسها فقالت ألا تستحي؟ فقال: ممن؟ وما يرانا إلا الكواكب، فقالت وأين مكوكبها.

لقد سخّر الله عز وجل ما في السموات والأرض للإنسان ليوظفـها في عباداتـه ومعاملاته بل وإكتشافاته العلمية وما يترشح عنها من آفاق مستحدثة، والآيات الكونية على قسمين:

الأول: منها ما لم يلتفـت الإنسـان بعد الى الإستفادة منها ومن فائدتها بل ومعرفتها، وقد يكون لها شأن كبير في مستقبل الحياة البشرية في الأحقاب اللاحقة.

الثاني:  ما إنتفع منه عبر الأجيال والعصور المتقدمة وهذا أيضاً على شعبتين:

الأولى: ما إهتدى الإنسان إليها وإلى توظيفها بالرسالات السماوية وبعث الأنبياء.

الثانية: ما اهتدى اليها والى منافعها بالتجربة والوجدان والإنطباق والواقع.

وقد يجتمع الأمران والأغراض المتعددة والمتباينة في آية كونية واحدة كما في القمر ذلك الكوكب المعروف الذي يدور حول الأرض في فلك إهليجي.

وسيبقى القمر آية وسراً من الأسرار التي جعلها الله ظاهرة وملازمة للحياة، ودرساً وحجة وبرهاناً وشاهداً ومناسبة للتدبر والتفكر، وزاجراً عن المعصية، وداعياً الى الله تعالى وباباً للإبتلاء والإفتتان فلقد إتخذه بعض الأقوام إلهاً وتغنى بحبه العشاق , قال تعالى[لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ]([179]).

لقد إبتلـى الله القمـر بالزيادة والنقصان فيخرج بدراً الليلة الرابعـة عشـر والخامسـة عشـر من كـل شهر قمري لأن الجانب المستنير منه مواجـه لنا، وفي الليالي التاليـة يأخذ القمر في التـأخـر في الطلوع من أوان المغـرب شـيئاً فشـيئاً وتقـل تدريجيــاً سـعة نوره إلى أن يكــون الجانـب المظلـم منه مواجهـاً لنا، وهـو الذي يســمى بالمحــاق أو تحــت الشعــاع، ثم يخرج بعد ذلك الهلال من تحت الشعـاع ضــعيفاً من جهــة المغـرب، وهو الذي يطلق عليه ولادة لتبدأ إمكانية رؤيته.

والقمر بهذا التغير يدل على أنه من عالم الإمكان، والإحتياج ملازم له، فهو محتاج إلى المؤثر مفتقر في وجوده وإستدامته إلى غيره مبتلى بالنقص المفاجئ والخسوف مما يدل على عدم أهليته لإفاضة الوجود أو العدم لذاته، ينقلب من حال إلى حال، والطبيعيون يعتمدون طريق النظر إلى طبيعة الحركة فيقولون لا شك في وجود محرك يحركه غير ذاته وهو واجب الوجود.

أما المتكلمون فينظرون إلى حدوث العالم وما فيه من الكواكب بحركتهـا، بغيبتهـا وأفولها بأنها أمور تستلزم الصانع الفاعل المختار، وهم يقتفـون نهــج إبراهيـم الخليــل uالذي إستدل بالأفول والغيبة والنقص على الحدوث، وعدم القدرة على الإيجاد والخلق ومعاني الربوبية.

وفي التنزيل [ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ]([180]).

وجاء الإسلام بتسخير القمر في الفرائض والمستحبات والمعاملات بإسقاط المقدمات والإستدلال، نعم الإسلام إنتفع من تجربة ابراهيم uوقصص الأنبياء، وذكرها الله في القرآن تثبيتاً وتوكيداً لها وموعظة وعبرة ودرساً، وان الذي يشاهده الناس عند الأفول معزولاً غائباً لا يصلح للربوبية، وهو متحرك.

وكل متحرك حادث، وكل حادث محتاج.

كما يدل توظيف القمر بهيئة الهلال وغيرها على الرقي الفكري عند العرب آنذاك بالقياس إلى المجتمعات التي بعث بها الأنبياء الآخرون كإبراهيم عليه السلام، فلم يجعل العرب الوثنيون القمر إلهاً ونحوه وإلا لإحتاج تسخيره في أعمالنا إلى مقدمات ووسائط، كما أنه يدل على أفضلية النبي محمد صلى اله عليه وآله وسلم على غيره من الأنبياء فإبراهيم uومع انه من الرسل الخمسة أولي العزم إكتفى بنفي الربوبية عن القمر، وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن من عند الله وفيه بيان حقيقة القمر والهلال وموضوعيته في تنظيم عباداتنا ومعاملاتنا، وما يعنيه ذلك من مضامين الرقي والآيات الإعجازية.

إن إعتماد المسلمين للظواهر الكونية الفلكية في العبادات على نحو ثابت وإلى يوم القيامة دليل على أنهم[ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([181]).

وموضوع الهلال يتجدد كل عام فالصيام فريضة ومن عالم الأمر وهو بسيط يرتبط إبتداء وإنتهاء لمدته بالهلال وهو من عالم الخلق الذي يتصف بالتضاد والتغير مما يعني وبالدلالة التضمنية إحتمال الإختلاف في الإجتهاد والرؤية، وفيه إنتقال من عالم المعقول ومفاهيم العبودية والإمتثال إلى المحسوس، بل فيه مشاهدة لعالم الربوبية بالحس والإدراك والوجدان.

إنه نوع تفكر بما سخّر الله عز وجل من الكائنات، وملازمة شاهدة على تداخل وإنسجام المخلوقات وما يحتله الإنسان من مراتب الشرف بينها بإنها مسخرة له وبصفة العبودية والطاعة، لذا جاء ذكر النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإسراء والإرتقاء في عالم الملكوت بصفة العبودية، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً]([182])، إنها مدرسة عقائدية وإجتماعية وسياسية وأخلاقية تأخذ في هذا الزمان منحى جديداً ذا أثر للنضوج الفكري عند الناس.

وتداخل المجتمعات وتقارب الثقافات والإتصال المبارك بين المسلمين تخف معه وطأة وهيمنة الإنتماء المذهبي، وتلك أسباب مجتمعة ومتفرقة ذات نفع، ومن أفراده أن الناس يريدون الإتفاق على حكم الهلال بين أبناء البلد الواحد أو البلاد الإسلامية والمسلـمين جميعـاً، يريدونهـا تظاهـرة إسلاميـة تشع منها معاني البهجة والسعادة الإيمانية.

ويساعدهم هذا التداخل الإعلامي بين أقطـار الأرض وقـد يسبب لهم ظهور الإختلاف إحراجاً، والفقهاء لا يقفون بوجه هذه الرغبة وبالإمكان الإستجابة ذات العموم الإستغراقي لها وإن كانت من المحسنات والأسباب العرفية والأدبية.

 ويمكن تلمس قواعد وأحكام الإتحاد في الحكم والتقارب ضمن الشريعة الإسلامية خصوصاً وأن جمعاً من القدمــاء والمتــأخــرين قــالوا بــوحدة الحكــم مع إختلاف الأفق وهو المختار كما بينته في كتبي الفقهية.

ولا دليل على إعتبار الظاهرة الكونية في ولادة الهلال ورؤيته تملي علينا هذا الإختلاف وإبتداء نقول ان هذا الخلاف لا ضير فيه وكل من أطرافه على صواب في حكمه إذا إستند إلى أسس شرعية، ولكن وحدة حكم الهلال مدخل إلى مفاهيم الإتحاد بين المسلمين والإلتقاء في الأحكام ولا تتعارض احكام الشريعة الإسلامية وما ورد في القرآن والسنة بخصوص الهلال.

ومن فضل الله تعالى حصر الصوم في شهر قمري معين دون الشهور الأخرى وإلا لكان الإختلاف عظيماً وآثاره السلبية جسيمة على الأمة والأفراد، أي ان الهلال ساهم بمنع الخلاف والفرقة في أداء هذه الفريضة والركن العبادي في حياة المسلمين بالمبادرة الجماعية على نحو المصر والبلد أو الأعم منهما لصيام اليوم التالي لرؤيته، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]([183]).

 ويبقى الإختلاف في تحديد ليلة الرؤية إختلافاً صغروياً مشروعاً وقد يكون سبباً للإئتلاف بما هو أكبر وأعظم كالإلتزام الأعم والأكثر بفريضة الصيام وأحكام الشريعة. والإختلاف في رؤية وثبوت الهلال يرجع إلى سببين:

الأول: مبنى شرعي.

الثاني: كوني طبيعي.

وكل فريق يستند إلى دليل وحجة شرعية وحكم مستنبط، ومن اللطيف في المقام أن القائل بوحدة الحكم مع إختلاف الأفق إستدل بقوله تعالى [ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ]([184])، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم “صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته”.

وكذا القائل بان لكل بلد رؤيته بتقريب وإستحضار لقوله تعالى [ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ]([185]) لعدم التمكن من تبليغ المسلمين من الأقطار الأخرى وإن اصبح هذا التعليل معدوماً في هذا الزمان بسبب ما فيه من سرعة الإتصالات والمواصلات.

وقد يُرى الهلال في بلد وتتعذر رؤيته في بلد آخر وان كان قد ولد ولكن لم يمكن رؤيته اذ المدار على رؤية العين المجردة، فلا عبرة بالتنجيم وإن أخذت أجهزة الرصد الفلكية المتطورة والحديثة تحدد وبدقة ساعة ولادة الهلال ومدى إمكان رؤيته، اذ أنه لا يتعدى الطريقية المحضة، والأدلة تحصر الثبوت بالرؤية البصرية.

وقد يخرج الهلال في بعض الشهور كبيراً لمرور وقت على ولادته او لتمام الشهر السابق، إذ أن الشهر القمري تارة يكون ثلاثين يوماً وأخرى تسعة وعشرين، ولا تكون الأشهر الكاملة اكثر من سبعة، والأشهر الناقصة تكون خمسة أو ستة كما في علم الهيئة ويؤكده ويثبته الواقع والحساب، وكما يخرج كبيراً قد يكون مطوقاً بالنور في جميع أطرافه، ولا عبرة به أي يعتبر لليلة واحدة وان كان كبيراً أو مطوقاً إذا لم تثبت رؤيته في الليلة السابقة.

إن إرتباط فريضة عبادية بدنية بكوكب القمر ورؤيته هلالاً يملي علينا طرح الأسئلة وإستنباط الدروس، ومنها أن هذه الملازمة وتتبع القمر في سيره دعوة للتفكر في الإنتفاع الأعم والأفضل من القمر والكواكب والتدبر بخلق الله عز وجل.

ترى هل كان للإسلام وما للقمر من موضوعية في عبادات المسلمين ومعاملاتهم من أثر وأسباب في صعود الإنسان إلى القمر، أرجو أن يفتح باب للدراسة الموضوعية والتحقيق في هذا الأمر للإنصاف وإظهار الحقائق.

إن مجرد تسخير المسلمين لهذا الكوكب في عباداتهم وحسابهم وأوقاتهم أمر ذو أهمية في هذا الباب فكيف والقرآن ذكر القمر في سبعة وعشرين موضعاً، وللمسلمين باع كبير في علم الهيئة والفلك، وهناك قول بأن ما يحدث في الأرض يُرى في السماء لوجود ملازمة بين ما يحدث في العالم السفلي وما يقرأ في العالم العلوي بالإضافة إلى حديث الإسراء وعروج النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء.

ولم يرد الهلال بلغة المفرد في القرآن بل ورد بلغة الجمع، قال تعالى [ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ] ([186]) مما يدل على ان فلسـفة الهلال تتعدى موضوع الصيام وشهر رمضان فهي تشمل الحج والمعاملات، كعدة المتوفى عنها زوجها والديون ومطلق الآجال، ولا تنحصر بالمسلمين بل تشمل الناس جميعاً واعتبـاره كـل شهـر دعـوة للبحـث في عالـم السـماء وعلوم الكواكب وحث على التدبر  في خلق السماوات والأرض، قال تعالى في الثناء على نفسه[بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ([187]).

طرق ثبوت الهلال ومرتكزاتها الأصولية

لم يستكشـف الناس بعـد أسـرار إعتمـاد الهـلال دون غيره من الظواهر الكونية ونحوها لبدء فريضة الصوم وما وفره على المسلمين شأن وموضوعية الهلال بالذات من الجهود والسعي والإحصاء وأبعـاد ومضــامين تـعــدد وجوه الإجتهاد في موضوع الهلال وما يتجدد منه كل سنة وحصر إهتمامنا في بيان الفتاوى المستنبطة والمتبعة، فلقد أولى التنزيل عناية خاصة للهلال، وجعلـه مدركــاً وملجاً وحاكماً ودليلاً وفصلاً.

وقد يحصل الإختلاف في أوان عيد الفطر في أمصار العالم الإسـلامي، وذلك الإختـلاف يتعـلق بالمبنى والإجتهاد ولكنه يزداد في أثره وتأثيره ويتسع في ذاته بسبب العلوم الجديدة ووسائل الإتصال السريعة الحديثة ورغبة المسلمين في جعل العيد مناسبة للوحدة الإسلامية وان كانت أموراً إعتبارية لا مدخلية لها في الفتوى ودليل الحكم الشرعي.

ولقاعدة تقديم الأهم على المهم وقاعدة لا ضرر ولا ضرار وقاعدة نفي الحرج في الدين ولقواعد الشريعة المبنية على الإمتنان ولإبقاء الإسلام في علو ورفعة ولخلو الشريعة الإسلامية من أســباب التعارض والإختلاف فالأولى بالعلماء والمؤسسات الإسلامية في أوربا وأمريكا ومطلق بلاد الغرب مثلاً الإتفاق على قواعد ثابتة عندهم تناسب الجميع وتصلح للحكم في موضوع الهلال ولا تخرج عن القواعد الكلية المستبطة في هذا الباب كما لو إتفقوا على موضوعية الرؤية الخاصة ببلادهم مجتمعة أو متفرقة، أو أن يضيفوا إليها ثبوت الرؤية عند بعض المرجعيات الإسلامية ولكن بلحاظ إتمام العدة أي لو إختلفت رؤية الهلال في أول الشهر وإعتمدوا الرؤية المتقدمة فإنهم يكتفون بإعتبار الشهر الجديد بإتمام ثلاثين يوماً على ما إعتمدوا إن لم تثبت الرؤية في ليلة الشك لأن الشهر القمري لا ينقص عن تسعة وعشرين يوماً ولا يزيد على ثلاثين ولعمومات قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فأن غم عليكم الشهر فأكملوا العدة)([188]).

ومن القواعد الأصولية المعروفة تبدل الحكم عند تغير الموضوع، ومسؤولية العلماء في أوربا تحتم عليهم النظر إلى مصلحة المسلمين ووحدتهم، وصحة عباداتهم، وتنزيه الإسلام من الأقاويل المحتملة، والحفاظ على قدسية فريضة الصيام، وصدق العيد ولو بالتجرد عن بعض الإرتباطات المذهبية والجهتية في موضوع الهلال ونحوه والإستقلال بحكم الهلال بشرط الإجتماع على حكم شرعي واحد وضابطة معينة في رؤية الهلال، وعلى إيجاد صيغ من التعاون والتسامح معهم بل مطلقاً في هذا الموضوع تعظيماً لشعائر الله ومساهمة في تثبيت قلوب المؤمنين ونشر لواء الإسلام بدرء الفرقة والشبهات وان كانت بدوية وعرضية سريعة الزوال والله يهدي إلى سواء السبيل ليكون إتخاذهم الحكم بالهلال مرآة لعز الإسلام، وتكامل شريعته، ودعوة للهداية وبرزخاً من الشماتة ، ومنعاً للكدورات الظلمانية.

************

 

ليلة القدر

الحمد لله الذي جعل عندنا أعياداً تجسد مضامين عبادية وأهم تلك الأعيـاد والتـي يجتمـع فيها المسـلمون ومن أهمها عيـد الفطر وعيد الأضحى.

هذه الأعياد تتعـلق بالمسلـمين بلحاظ أعمالهم وصلاحهم وتقواهم فهي عنوان الصلاح وأداء الأعمال تكون نتيجة مباركة للأعياد، عيد الفطر مثلاً يدل على الغبطة والسعادة بأداء فريضة الصيام، وهو عنوان فرح متعقـب للعبـادة ونموذج دنيوي للفرح الأخروي بأداء فريضـة الصيام.

 أبى الله عز وجل إلا ان يبين بعض الجزاء في الدنيا، إذ ليس من دليل على إنحصار الجزاء بتمامه في الآخرة، فمن الجزاء دفع البلاء وفتح أبواب الرزق وما يغمر النفس من الرضا والغبطـة بالتوفيـق للصـالحات ورجاء الحفظ إلى قابل، بل والتطلع إلى دوام نعمته تعالى بالإعانة على حسن الأداء في مستقبل السنين والأيام.

ولكن من المناسبات ما لا يتعلق بالأعمال والأفعال، منها ما هو كوني، وما في الكون مسخر للإنسان، قال تعالى [ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ](1).

فإذن ليلـة القـدر وما فيها من البركات إنما هي مسخرة ومعدّة لبني الإنسـان فعليه أن يكرمهـا وأن ينتفـع منهـا، إنها مناسبة كريمة ومنـة سماويـة وهبـة ورحمـة إلهيـة لا تحـدث إلا مرة واحدة في السنة، ليس هذا فقط بل أن أوانها لم يعرف على وجه الدقة والتحديد، وعدم المعرفة تلك مركبة من إجمال النصوص والإختلاف في رؤية الهـلال، فالظـاهر أنها ليلة واحدة في جميع أرجاء الأرض وبها إستدل أحد العلماء على وحدة حكم الهلال مع اختــلاف الأفـق، ولكن لا ملازمة بين ليلة القدر وليلة العيد(1).

ونطرح هنا عدة إطروحات وتساؤلات في المعرفة الإلهية:

الأول : هل تختص ليلة القدر بأهل السماء؟ الجواب لا,لمناسبة نزول نعمةالقرآن والملائكة فيها.

الثاني : إنها عيد مشترك لأهل السماء والأرض؟ الجواب نعم.

الثالث : إنها ليست عيداً إلا أنها مناسبة للدعاء والإستغفار والسلام، الجواب لا تعارض بين العيد والصبر والدعاء.

الرابع : هل تعتبر ليلة القدر سراً من أسرار الكون بلحاظ نزول الملائكة إلى الأرض وما يقومون به ليلتها من السلام والتسليم، الجواب نعم، وفيه دعوة للناس للتسليم بالعبودية لله عز وجل ولزوم الإنتفاع من ليلة القدر للنشأتين.

الخامس : تعتبر ليلة القدر ذخيرة من ذخائر القرآن بإخباره عن فضل ليلة القدر، وأنها خير من ألف شهر؟

السادس : إنها من درر وإفاضات شهر رمضان لما إتصف وإمتاز وإنفرد به بوجود هذه الليلة فيه وضمنه.

السابع : هي كنز من كنوز نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي إمتازت بهذه العطية والنحلة على المسلمين، لاسيما وأنها باقية تتجدد في كل سنة إلى يوم القيامة ولم تنحصر بأيام النبوة.

عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله ليلة القدر هي شيء تكون على عهد الأنبياء ينزل فيها فإذا قبضوا رفعت قال لا بل هي إلى يوم القيامة([189]).

الثامن : فيها بركة إضافية ملازمة ومصاحبة لفريضة الصيام.

وليلة القدر عنوان جامع للوجوه المتقدمة المباركة أعلاه من غير تعارض بينها بحسب اللحاظ الخاص بذلك الوجه، وفيها تتجلى أنوار من الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية على حقائق الأشياء.

ولم تذكر في القرآن ليلة مخصوصة إلا ليلة القدر، وورد ذكرها في القرآن ثلاث مرات في سورة واحدة مع قصر تلك السورة، التي جاءت بإسمها.

 ومجموع آيات السورة لموضوعها، وفيه دلالات ومعاني ومضامين قدسية تتعلق بعظمة وأهمية وشرف تلك الليلة الذي يترشح شطر منه بسبب نزول القرآن فيها.

نعم ورد ذكر ليلـة معينــة بقوله تعالى [ إِنَّا أَنزَلْنَـاهُ فِي لَيْلَةـٍ مُبَارَكـَةٍ ](1)، وفيه إشارة إلى ليلة القدر، وهذه الآية تتعلق بتنزيل القـرآن بدليـل أن القـرآن يفسـر بعضه بعضاً [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ]([190]) وتدل على النصوص وقد تقدم بعضها، ومن خصائص ليلة القدر أنها ذات فضل مستمر ومتجدد في كل عام وإلى يوم القيامة.

************

الإسراء …نظرة قرآنية

[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] ([191]).

الآية مكية وسورة الإسراء كلها مكية الا قوله تعالى [وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا]([192]) فانهن مدنيات نزلن حين جاء وفد ثقيف.

وتسمى هذه السورة ايضاً سورة بني اسرائيل عند أهل البيت وعند كثير من المفسرين، وتسمى سورة سبحان بلحاظ إفتتاحها بتنزيه وتقديس مقام الربوبية.

اللغة

يقال سبحت الله تسبيحاً: أي نزهته تنزيها، وفي التهذيب، سبحت الله تسبيحاً وسبحاناً بمعنى واحد، فالمصدر تسبيح، والإسم سبحان يقوم مقام المصدر.

عن إبن شميل: رأيت في المنام كأن إنساناً فسر لي سبحان الله فقال أما ترى الفرس يسبح في سرعته، وقال: سبحان الله السرعة إليه والخفة في طاعته)([193]).

ولكن علوم القرآن وأسرار كلماته ومضامينها القدسـية أعم وأدق من أن تؤخذ من أخبار عن منام، وفي اللغة وعلم التفسير والتأويل مندوحة وسعة وغنى عن اللجوء إلى توثيق منامات قد تبتعد في بيانها عن الإحاطة بجلالة المعنى القدسي المبارك للفظ القرآني بالإضافة إلى إنعدام التثبت من صحة المنام، ومن ثم الوصول إلى تحديد القسم الذي تنتمي إليه من أقسام الرؤيا وهل هي صادقة أم لا، وهو بكل الأحوال ليس بحجة في المقام.

ومن جلالة علوم القرآن وأحكام الشريعة أنها خالية من المنامات وشأنها في الحجية، نعم رؤيا الأنبياء وحي، بالإضافة إلى ما وثقه القرآن من الرؤى في قوله تعالى في سورة يوسف[وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ…]([194]).

وعن الأزهري: قيل إن العرب تقول: سبحان من كذا إذا تعجبت منه وزعم أن قول الأعشى في معنى البراءة أيضاً:

أَقُولُ لمَّا جَاءَنِي فَخْرُه

                          سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ([195]).

وسبحان معرفة لأنه علم للبراءة كما تقول شتان إسم علم للتفرق ولو كان نكرة لإنصرف، وقد إجتمع فيه الإلف والنون مثل عمران وعثمان مما يمنع من صرفه، ولا يضر بأصل القاعدة وروده منوناً نكرة في بيت شعر كما في قول أمية.

سبحانه ثم سبحانا يعود وله
 
 
 
 وقبلنا سبحّ الجودي والحمد([196]).
م

ويقال سبح الرجل” أي قال سبحان الله، وفي التنزيل [ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ]([197])، وأختلف في سبحان هل هو مصدر سبح أم سبح بالتشديد، والأقوى هو الثاني.

ومن صفات الله تعالى ( السبوح، القدوس ) وهو المنزه عن كل نقص وسوء، والقدوس المبارك، وقيل ليس في كلام العرب بناء على فعول بضم أوله غير هذين الإسمين الجليلين.

وسبحات وجه الله: أنواره وعظمته وذكر في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن لله سبعين حجاباً من النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك البصر([198]).

ويبين هذا الحديث موضوعية وأثر حديث الإسراء في سلم الأفضلية والإكرام لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين، وقد ورد لفظ [سُبْحَانَ] في القرآن إحدى وخمسين مرة، وهي مدرسة في تقديسه وتعظيمه ودفع الوهم والضلالة عن النفوس ودعوة للجوء إلى التوحيد والتقديس المطلق لمقام الربوبية لذا فان ورود لفظ [سُبْحَانَ] في بداية آية الإسراء وسورته له دلالات تستحق الدراسة والإستنباط بلحاظ موضوع الإسراء والنبوة مطلقاً.

وقصا المكان قصواً من باب قصى: أصبح بعيداً، والشاة القاصية أي المنفردة، يقال قصي المكان يقصو قصواً: بعد، والقاصي: البعيد، والقصوى مؤنث الأقصى وهو الأبعد.

والبركة: النماء والحسن والإفاضة والزيادة.

أسرى: يقال سريت سرى وأسريت: إذا سرت ليلاً، قال لبيد

فبات وأسرى القوم آخر ليلهم
 
 
 
 وما كان وقافا بغير معصر

 

وفي التنزيل [وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ]([199]) أي ان الليل يمضى وينقضي، كأنه يسير في ذاته وهو من الإعجاز البلاغي بإطلاق صفة الحال على المحل، والإسراء خاص بالليل، والسير يختص بالنهار او يشمله والليل.

والعبد: هو الإنسان مطلقاً حراً او رقاً، ذكراً او أنثى، كبيراً أو صغيراً، ويرد العبد بمعنى المملوك ويعرف بالقرينة والإنسان عبد الله لأنه مربوب ومخلوق لله، ويقال للمسلمين: عباد الله، والعابد هو الموحد، وقال إبن منظور: عَبَدَ الله يعبده عبادة ومعبدة: (تأله له)([200]).

والظاهر ان المعنى أعم وان عبده أي خضع له وذل له وأطاعه، والبركة: النفع والنماء والزيادة.

حول الشيء: جانبه الذي يمكن أن يحول إليه، لذا سمي العام حولاً بلحاظ الدوران وعودة الشهور والأيام.

والآيات: جمع آية وهي العلامة والدلالة، لنريه: اللام للتعليل ونريه: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة، والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن ويعود لله عز وجل، والهاء مفعول به يعود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

بعبده: إظهار لمنافع العبودية وآدابها ودرس في الإيمان، قال بعضهم لما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنا بك كان الجـواب له: ان كنت بي فانا لك.

فان الياء واللام متعاقبان فعرج إلى المحل الرفيع والمقام العالي، حيث إنقطعت عنده علوم غيره من ولد آدم وصار في مكان الدنو والإقتراب يناجي رب العزة والجبروت فضلاً من الله ورحمة على نبيه وعلينا معشر المسلمين.

عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: إتخذني الله عبداً قبل أن يتخذني نبياً، وإذا رزقه الله تعالى الإسراء به وفضله بصفة الكرم والإحسان وقابله بالبر واللطف والهبات فانه مأمور بالرأفة بالناس وحسن الخلق قال تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ([201]).

وأن يزداد بهم رحمة وبراً وليقوم بأعباء الرسالة مستعداً لتحمل الأذى، صابراً في جنب الله بما رأى من عظيم ملكه وواسع سلطانه وجبروته.

وفي الإسراء دروس لمعرفة وجوه الفلاح لأولئك الذين يختارون دين الإسلام ولزوم إكرامهم وإعانتهم بإظهار وجوه السماحة في الشريعة وبيان البشارات وأسباب الحث والترغيب، وبمقدار من الحرص على هداية الناس والعزيمة والصبر.

عن عكرمة في المرسل قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء جبرئيل فقال لي يا محمد إن ربك يقرئك السلام وهذا ملك الجبال قد أرسله الله اليك وامره ان لا يفعل شيئاً إلا بإمرك.

فقال ملك الجبال: إن الله امرني أن لا أفعل شيئاً إلا بأمرك إن شئت دمدمت عليهم الجبال وان شئت رميتهم بالحصباء وإن شئت خسفت بهم الأرض.

قال يا ملك الجبال فاني أأنى بهم لعله أن يخرج منهم ذرية يقولوا لا إله إلا الله.

فقال ملك الجبال: أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم ([202]).

من المسجد الحرام: لقد كان الإسراء من نفس المسجد الحرام ذكره الحسن وقتادة، وفي بعض الروايات التي تقول بأن الإسراء كان من بيت أم هاني أخت الإمام علي عليه السلام ذكر أن النبي اخذ أولاً إلى البيت الحرام وركب من هناك، وقالوا إن مكة والحرم كلها مسجد.

إلى المسجد الأقصى: هو بيت المقدس وإنما قال تعالى الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ولأنه لم يكن وراءه مسجد، وفيها تنبيه وتوكيد وإعلان لأهمية آية الإسراء في مواجهة المشركين وبيان لبعض منافع الإسلام وحقائقه.

ومن خصائص المسجد الأقصى كثرة شجر الزيتون وإحاطته به وفي قوله تعالى [شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ]([203]) قيل هي شجرة الزيتون لما فيها من المنافع المتعددة فبالإضافة إلى طيب ثمرها ووفرته فان دهنها يستعمل للعلاج والإسراج، وحطبها يوقد به، وذكر أنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان وأن سبعين نبياً باركوا فيها منهم إبراهيم عليه السلام.

لنريه من آياتنا: لبيان أن الإسلام دين يخاطب العقول وينفذ إلى أعماق النفس الإنسانية بالدليل الروحي الحي، والبرهان المنطقي ليعرض على العقول نظام الخلق وآياته، وبعضاً مما صنع الجبار، لتكون آية الإسراء نقطة تحول وإرتقاء للفت الأنظار نحو السماء وآياتها وبشارة متقدمة في زمانها لنتائج البحوث العلمية المستفيضة منذ القرن الماضي والتي أسفرت عن كشف بعض الأسرار المادية للكون، ولتثبيت قلوب المسلمين فلا يغزوها إرتياب مع تقدم وإتساع تلك الإكتشافات، وقد قال الله تعالى [ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ] ([204]).

وقد سئل الصادق عليه السلام: لماذا عرج الله بنبيه إلى السماء ومنها الى سدرة المنتهى ومنها إلى حجب النور وناجاه هناك والله لا يوصف بمكان؟ فقال: إن الله لا يوصف بمكان، ولا يجري عليه زمان، ولكن الله عز وجل أراد أن يشرف به ملائكته، وسكان سماواته، ويكرمهم بمشاهدته ويريه من عجائب عظمته وما يخبر به بعد هبوطه وليس ذلك على ما يقوله “المشبهون” سبحان الله وتعالى عما يصفون.

ومكان (من) في قوله تعالى [مِنْ آيَاتِنَا] على وجوه:

الأول: إرادة بعض الآيات.

الثاني: يحضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه البقعة المباركة.

الثالث: العروج بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء.

الرابع: منها أن أراه الله الأنبياء وصلى بهم.

الخامس: العجائب والعبر والبينات التي أخبر الناس بها.

وفي سياق الآيات جاءت الآية متصدرة لسورة الإسراء مما يدل على اهميتها وأثر موضوعها في الحجية والبيان والإعتبار كما أن تسمية السورة بإسمها يعني تسالم المسلمين على حصول الإسراء كسبب ونتيجة وعلى أهميته في تأريخ الإسلام كمعجزة ونعمة ارضية سماوية.

 وبعد هذه الآية تأتي آية أخرى تتعلق بنبوة موسى عليه السلام،وفيه مسائل:

الأولى: إنتقلت الآية الثانية إلى موضوع آخر، ويمكن أن نطلق عليه الإلتفات الموضوعي لمجيئها في رسالة موسى عليه السلام وموضوعها وهو هداية بني إسرائيل.

الثانية: إنه من الإلتفات البلاغي فبعد صيغة الغيبة، وقوله تعالى [إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]([205]) جاءت الآية التالية بصيغة الحضور والخطاب.

الثالثة: ان عطف الآية على آية الإسراء بالواو (وآتينا) يفتح الباب للدراسة المقارنة ولبيان عظيم فضل الله تعالى على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بآية الإسراء.

وأنه زيادة في السمو والشرف في مراتب النبوة، وتفضيل المسلمين على الملل الأخرى، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ([206]).

ومن إعجاز الآية على المنهجية التي شرعنا وهي في كل آية إعجاز، ونتعرض لما في هذه الآية من الإعجاز خصوصاً وأنه ينطبق عليها بوضوح التقسيم الإستقرائي الذي ذكرناه للإعجاز وهو الإعجاز الذاتي والإعجاز الغيري للقرآن.

فمن إعجاز هذه الآية أن أسرارها وعلومها باقية إلى يوم القيامة، تدعو الناس جميعاً للبحث العلمي والإستقراء الفلسفي والسياحة في عالم الملكوت ، وآفاق السموات وتمنع من الغرور والتجبر والعتو بالصعود في السماوات بواسطة الإرتقاء العلمي الحديث.

وتبين الآية نسبة فعل الإسراء وأنه فضل من عند الله تعالى وإبتداءه ونهايته والغاية منه ضمن تقديس وتعظيم الله سبحانه، ومن إعجازها الذاتي إبتداؤها بتنزيهه وتعظيمه تعالى وإختتامها بصفاته الحسنى.

 والآية تتحدى الناس بفعل خارق للعادة والأسباب مما لم يدركه العقل البشري والإرتقاء العلمي والتقني.

وتعتبر الآية وموضوعها عزاً ومعجزة وإكليلاً مباركاً يعلو هامات المسلمين، وتظهر ما تمتاز به النبوة الكريمة لسيد الرسل محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما يمكن تلمس منافع واقعة الإسراء وآيته في الميادين الفقهية والعقائدية والإجتماعية والعسكرية للمسلمين.

وقوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى]

سبحان: منصوب على المصدر والمعنى أسبح لله تسبيحاً.

وهي كلمة تنزيه وتقديس لله عز إسمه تتضمن إرشاد العقول إلى كيفية تعظيمه سبحانه، ولبيان عظيم قدرة الله والوثوق به، وطرد ما لا يليق به من الصفات، ليفوز من آمن به، وتوكل عليه وأخلص العبادة له.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال عمر : قد علمنا سبحان الله ، ولا إلَه إلا الله ، فما الحمد؟ قال علي : كلمة رضيها الله لنفسه ، وأحب أن تقال([207]) .

حدثنا أبو كريب ، وأبو السائب ، وخلاد بن أسلم قالوا، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا قابوس، عن أبيه: أن ابن الكوّاء سأل عليًّا عليه السلام  عن “سبحان الله” ، قال: كلمة رضيها الله لنفسه([208]).

والظاهر أن لكلمة (سبحان) معاني إضافية تتعلق بالقرائن ومناسبة المقام لابد من الكشف عنها وبيانها، ومن معانيها في الآية التوكيد بأن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء بأمر الله تعالى وإرادته، فهو سبحانه الذي قضى بالإسراء لنبيه وفي ذلك مدخل للتسليم به وعدم التردد في قبول موضوعه، ولكي لا يكون هناك ذم ولا حرج على أولئك الذين يؤمنون بالإسراء إيماناً عفوياً، والتسليم به لأنه نص سماوي وآية جاءت في القرآن وبلغة النص الذي يفيد القطع والجزم بالإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وهو لا يمنع من التحري والبحث العلمي والإستقصاء الموضوعي ذي صبغة الصلاح ليزداد المسلمون هدى وإيماناً وبصيرة.

إن الله عز وجل يثني على نفسه في القرآن، ويبين بديع صنعه وتأتي مضامين التنزيه لمقام الربوبية في حديث الإسراء آية كونية وشرعية عظيمة وهو أمر يتضح لك من خلال تفاصيل ووقائع الإسراء وهو من عمومات ملك السموات والأرض لله وتسخيرها للإنسان قال تعالى[خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ] ([209]).

إن ورود عناوين التنزيه لله تعالى في مقدمة آية الإسراء برزخ وحائل دون التأويل الخاطئ لموضوع الإسراء وأوانه وغاياته ، والله عز وجل هو الفاعل المختار والواهب المنان.

لقد كان الإسراء من العلوم والمعارف التي خصّ بها الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الأمة المرحومة، قال تعالى [وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]([210])، والإسراء مدرسة أخلاقية وتشريعية وإجتماعية وهو من مصاديق قول محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أدبني ربي فاحسن تأديبي([211]).

كما كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم أرنا الأشياء كما هي) ([212])، وقد أنعم عليه سبحانه بأن أطلعه على أحوال السماء وأسرار الكون.

والإسراء لا يحصل إلا في الليل، فالآية تحدد أوان الإسراء وأنه حصل في الليل ولكن لماذا في الليل وليس في النهار، وهل هما بمرتبة عرضية واحدة، أي سواء كان الإسراء في الليل أو النهار فهو واحد أم أن الأمر مختلف.

 الاقوى هو الأخير وهناك خصوصية لليل في حصول الإسراء والله واسع كريم ولو جاء الإسراء في النهار لكانت الآيات ذاتها بفضله تعالى.

 ومن الآيات في حصول الإسراء في الليل.

الأول : إن الليل مناسبة للمناجاة والتسبيح.

الثاني : قال تعالى [فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ]([213]) أي أن ظلام الليل وما يتغشى الأرض من السكون يجعل العبد يتوجه إلى عالم الغيب والملكوت- الو

الثالث : حصول الإسراء في الليل بإخبار القرآن دعوة للمسلمين للتدبر في الآيات الآفاقية وأسرار السماوات.

الرابع : تنفي الآية الوحشة عن قلب المؤمن في ظلمة الليل الحالكة أي شديدة السواد، وتجعله ينتقل مع عالم الإسراء وعلومه المكنونة ويسيح فكره في عالم السماوات شكراً لله وإقراراً ببديع صنعه وعظيم فضله على المسلمين بالإسراء.

الخامس : يعيش المؤمن في الليل إسراء روحياً يحاكي به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يتأسى به في العبادات وأعمال البر والصلاح.

وبالإسناد عن محمد بن على بن أبي طالب عن أبيه(أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام من الليل أستاك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول أن في خلق السماوات والأرض إلى قوله فقنا عذاب النار) .

وقد إشتهرت الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما نزلت هذه الآيات , قال : ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل ما فيها) ([214]) .

   وفيه دعوة للمسلمين للسياحة أثناء الليل وسكونه في عالم الملكوت والتدبر في خلق السماوات وما فيها من بديع الصنع والشواهد على عظمة قدرة الله، والفزع إلى الصلاة والإستغفار.

السادس : حصول الإسراء في الليل دعوة سماوية للاجتهاد في العبادة ساعات الليل البهيم([215]).

السابع : عبادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنقطاعه إلى الله تعالى مستمر في الليل والنهار.

الثامن : النبوة جهاد متصل في جميع آنات الليل والنهار.

التاسع : أبواب الكسب العلمي والموهبة لا تنحصر بساعات النهار.

العاشر : في ساعات الليل وفترات السكون إفاضات من الفضل الإلهي مما لم تدركه عقول البشر.

الحادي عشر : إشراقة الإيمان متجددة، وتطل على الناس بآية كونية سماوية.

الثاني عشر : رحمة الله تعالى تتنزل في أية ساعة من ساعات الليل والنهار من غير حصر بوقت محدد.

الثالث عشر : الناس في سكينة، و يخلدون الى النوم، و النبي منتقل إلى السماء في إكرام وتشريف خاصين وعمل جهادي متصل.

الرابع عشر : يأتي الوحي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بين الناس، وأما الإسراء فانه إحتاج إلى إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببدنه فأخذه الملائكة حينما إنفرد عن الناس.

الخامس عشر : ساعات الليل أكثر مناسبة للنجوى، ورؤية الآيات، ونفاذ البصيرة.

السادس عشر : في ظلمة الليل ووسط مجتمعات الكفر والشرك ينبثق صوت الاسلام بصعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء.

السابع عشر : النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس وحيداً في الدنيا، وغير مستوحش من إعراض الكفار وصدود مشركي قريش،وأبواب السماء مفتحة له وهو عنوان المدد الملكوتي ومقدمة لنزول الملائكة لنصره وتثبيت رسالته كما حصل في معركة بدر قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ([216]).

ومن وجوه تفضيل النبي صلى الله عليه وآله على الأنبياء الآخرين ان موسى uوهو من الرسل أولي العـزم بُعث إلى بني إسرائيل وكان يخاف من فرعون، والنبي محمد صلى الله عليه وآله واجه كبراء قريش وأهل مكة، وفي التنزيل [قُلْ يَا أَيُّهَـــا الْكَافِــرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُــدُونَ]([217]).

الثامن عشر : إنه إستقبال للنهار وللجهاد العلني في سبيل الله عزوجل، وكأن الليل عنوان الدعوة السرية في بداية البعثه النبوية.

التاسع عشر : الإعداد للإمامة والرياسة العامة في أمور الدين والدنيا يجري في الليل والنهار،في الليل يكون الإنقطاع إلى الله، وفي النهار الجهاد والدعوة إلى الله عز وجل.

العشرون : وعن الإمام علي u“عند الصباح يحمد القوم السُرى” أي المسير بالليل وقطع المسافة بدل بقاء القوم في نفس المكان، وفيه حث على الكسب وإستثمار الفرص، وبيان موضوعية السعي في الليل وإستشهد الإمام به لبيان التزود للآخرة، والتحلي بالصبر في الحياة الدنيا إذ قال في خطبة له (و الله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها و لقد قال لي قائل ألا تنبذها ، فقلت أعزب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى)([218]).

الواحد والعشرون : الإسراء مقدمة جهادية لمعرفة الأحكام الشرعية وتبليغها إلى الناس كافة.

الثاني والعشرون : إن الليل والنهار من خلق الله تعالى ومستجيبان لامره وهما جزء من سلطانه تعالى، وجعل كلاً منهما آية من آياته ومناسبة كريمة لإحتواء أعظم الآيات وأدق الاسرار.

الثالث والعشرون : تحث الآية على عدم إستغلال الليل في معصية الله والفواحش، فقد شرّف الله الليل بأن جعله وعاءً زمانياً لأعظم آية جامعة وهي الإسراء والمعراج إلى السماء.

الرابع والعشرون : تبين الآية التشريف والتفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين بخصوص الإسراء في الليل وإن كان موضوع الإسراء تشريفاً ظاهراً ومستديماً، والتفضيل في الآية بلحاظ ماورد في نبي الله موسى، قال تعالى [فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ]([219]) فكان إسراء موسى uفي الأرض مقروناً بوجل وخوف ورجاء النجاة، وإسراء النبي صلى الله وعليه وآله إلى السماء بتكريم وعز وتحصيل للمعارف.

الخامس والعشرون : لقد أخلص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عبادته وانقطاعه لله تعالى، وجاء مدحه في القرآن بقوله تعالى[ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ ]([220]).

السادس والعشرون : لقد جاءت نعمة الإسراء دفعة واحدة، بينما ورد في موسى u[ووَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعشْرٍ]([221]) ولم يكن عروجاً إلى السماء.

السابع والعشرون : ذكر الليل جاء مطلقاً وعلى نحو التنكير ويعنى أنه في شطر وجزء من الليل، فالتنكير يدل على التبعيض والجزئية والإخبار بأن الإسراء لم يستوعب تمام الليل لبيان الإعجاز، ولمسيرة شهر كامل مع الأسباب والرواحل فتم الإسراء بجزء من الليل من غير آلة ووسيلة ظاهرة، بالإضافة إلى دفع وهم وسد الطريق أمام الذي يدّعي في صباح ليلة الإسراء أنه قد رأى النبي أول الليل مثلاً، لذا ترى المشركين لم يحتجوا بذلك لمحاولة نفي حصول الإسراء، كما تؤكد النصوص والروايات حصول الإسراء في جزء وشطر من الليل، وأسشهد بقراءة عبد الله بن مسعود وحذيفة (من الليل) بدلاً من (ليلاً).

ونسبة الإسراء بالنبي إلى الله تعالى، فيها مسائل:

الأول : إنها حجة قرآنية.

الثاني : تثبيت للمعجزة وشهادة قرآنية على أنها تمت بأمر الله وبفضله تعالى.

الثالث : قطع الشك والريب في آية الإسراء.

الرابع : منع التساؤل المرتكز على المادة والأسباب الظاهرية فحسب.

الخامس : بلوغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة الإسراء به في السماوات رحمة ودعوة للتوجه الى الله تعالى في سؤال ما هو خارق للعادة ومفارق للأسباب والقدرة الشخصية، فقد يحصل تعارض بين آمال الإنسان وبين قدراته فغالباً ما تتخلف القدرات والإمكانيات عن الآمال والطموحات.

   فتأتي نسبة الإسراء إلى الله تعالى لبيان بديع قدرته، وعظيم إحسانه وبعث آمال المؤمن في الحياة، وجعل نفسه مستبشرة مطمئنة.

السادس : في هذه التسمية المباركة بشارة التوفيق وتحقيق الأماني.

السابع  : تشجع نسبة الإسراء إلى الله عز وجل على الطموحات السائغة شرعاً.

الثامن : فيها دروس في التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته الشريفة فما يفعله إنما هو من الله تعالى وبأمره.

التاسع : قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]([222]) فكذا قوله وفعله وسنته صلى الله عليه وآله وسلم الفعلية لا تصدر إلا من الله تعالى، والإسراء صادر بالأولوية بإذنه تعالى لما فيه من الإعجاز والأمر الخارق.

العاشر : تشريف وأمان للمسلمين إذ أن إكرام الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على نحو القضية الشخصية ينحل ليشمل عموم المسلمين، وفي جميع الأزمنة.

الحادي عشر : هذه التسمية موضوع للإحتجاج ويفتخر بان موسى كليم الله، الأمر الذي ثبته القرآن ولم ينكره، ولكنه بين ما إنفرد به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الخصائص والمعجزات.

الثاني عشر : الإخبار عن الواقع على نحو الصدق والحق، لأن الله عز وجل هو الذي أسرى بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يستطيع أحد من الخلائق الإنتقال والسياحة في عالم السماء إلا بأمر الله.

الثالث عشر : تمنع الآية من الحسد وإزدياد وتيرة العداوة والبغضاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فان الكفار والمنافقين ينشغلون بأمر الله تعالى ومشيئته في الإسراء وتنصرف أبصارهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن نسبة الإسراء إليه تعالى تجعل موضوع الإسراء بالنبي آية من عند الله وليس إسراء النبي بالذات، وكأن الإسراء معلول لعلة وهي بعث وأمر الله الأكيــد بالإســراء ومســبب لســـبب وهو إرادته ومشيئته.

 وقوله تعالى [ليلاً] يفيد أن الإسراء- رواحاً ومجيئاً- كان في ليلة واحدة قبل ان يطلع فجرها مما يعدل مسيرة شهر، وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام.

 فالعلة في الإسراء ليست مادية وهي العلة الداخلية التي يكون المعلول معها بالقوة، بل هو من العلة الفاعلية الخارجة عن قدرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لذا ورد قوله تعالى [بِعَبْدِهِ] لنفي القدرة على الإسراء عن غير الله عز وجل فهو وحده سبحانه القادر عليها قال تعالى[لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]([223]).

قوله تعالى[بِعَبْدِهِ]([224])

الآية تتعلق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع المسلمين، وقال جماعة من أهل العرفان أنها تدل على شرف العبودية أي الإخلاص في العبادة وإرتقائها وعلوها على النبوة، وأن الله تعالى لم يقل أسرى بنبيه.

 ولكن هذا الإستدلال في تفضيل العبودية على النبوة، لا دليل عليه لثبوت شرف مقام النبوة وأنها تفضيل وصفة تكريم زائدة، ونخشى من يأتي ويقول أن العبد بإخلاصه وصلاحه خير من النبي، وأن في آخر الزمان رجالاً أشرف وأعظم من الأنبياء ويلبس القول لباس العرفان أو يأتي ببعض وجوه المقارنة مما يحتاج إلى تنقيح يحول دون إستغلاله، فليس من صفة أفضل من النبوة التي تمثل أعلى مراتب الكمال الإنساني ولموضوعية الوحي، قال تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]([225]).

 نعم يمكن أن تستقرأ إطروحات جديدة من هذه الآية وغيرها في ذكر صفة العبودية دون النبوة من غير أن تتعارض مع أفضلية وشرف النبوة التي تنفرد بخصوصية تشريف، وهي تلقي النبي الوحي من الله عز وجل من غير واسطة من البشر منها :

الأول : إن الإسراء تشريف حدث في أيام التكليف والعبودية لبيان خصوصية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما شرّفه الله به من دون العباد فان رؤيته للأنبياء في السماء تشريف بعد الموت للأنبياء بل ولغير الأنبياء من الأولياء ولكنه في حياة التكليف إختص وإنفرد به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يلتقي أحد من البشر بالأنبياء مجتمعين إلا هو.

الثاني : دراسة الصلة بين سجود الملائكة لآدم عليه السلام، ورفض إبليس للسجود،وبعد أن إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض، جاء الرد الإلهي[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ([226]) ليصعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ملكوت السماوات، وهو لا زال في الدنيا، وخلافة الأرض، تشريفاً له، وليتلقاه الملائكة بالحفاوة والإستبشار والبشارة.

الثالث : إنه إخبار إعجازي لما يحصل في هذا الزمان من الصعود الى السماء، والإرتقاء السريع بالسياحة في بعض أرجائها كما أنه نوع تحد سابق في أوانه.

الرابع : إرادة المعنى الأعم والحث على التقوى والصلاح، وأن العبودية والإخلاص في العبادة يفتح أبواباً في طهارة النفس وصفاء السريرة والعلوم التي تأتي هبة او إكتساباً.

الخامس : ما وصل إليه العلماء بعد نحو ألف وأربعمائة سنة من حادثة الإسراء المباركة وبعد جهود متصلة وأموال طائلة أنفقت وتنفق في الصعود في السماء ، لم يبلغ معشار ما حاز شرفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعجاز للإخبار بأن الجديد المستحدث موجود عند أشرف المخلوقات وبواسطته عند أوليائه والمؤمنين.

ولكن حصتنا منه العبادات وأحكامها ومعرفة أحوال الآخرة والتسليم بحصول الإسراء وتلقي المعارف الإلهية بالواسطة وعبر السنة القولية والفعلية، فقد شرعت بعض أحكام الصلاة والأذان عند عروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء.

السادس : الإسراء حث للناس على طلب العلم والسعي في الإرتقاء إلى السماء وأفلاكها وإخبار عن حصوله بالكسب والتحصيل، وردع عن إصابتهم بالغرور فيما سيبلغون من سياحة في السماء لأنها محدودة وجزئية بالقياس إلى آية الإسراء، فالعروج إلى السماء بمسيرة خمسين ألف سنة تم في شطر من ليلة إذ لم تكن ثمة مسافة.

السابع : في دراسة مقارنة من خلال قوله تعالى [ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ]([227]) يظهر لك التفضيل والتشريف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعروج إلى السماء في شطر من ليلة وكأنها أقل من المسافة الشرعية التي يترتب فيها على المسافر حكم القصر في صلاته والإفطار.

الثامن : معصية إبليس بعد تشريفه وإرتقائه إلى السماء وطرده منها ثم صعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء طائعاً خاضعاً بصفة العبودية التي تعني الإنقياد التام والخضوع توثيق سماوي وبيان لشرف الإنسان وأهليته لوراثة الأرض.

التاسع : أراد الله عز وجل أن يرى الملائكة أهلية الفرد الكامل من البشر للتشريف والإكرام الخاص، وإستحقاقه للسجود إليه يوم خلق الله آدم.

 وفيه أيضاً دعوة للناس للصلاح والتأسي والسعي ونيل الدرجات السامية بالتقوى وملكة الإيمان، خصوصاً وأن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لأنه يحمل نور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في الخبر.

العاشر : مما هو ثابت في علم الكلام أن ما ناله الأنبياء من المقامات والآيات الإعجازية هو عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه منتهى الكمالات الإنسانية، وفي الإسراء آية إعجازية أخرى وهي أن الذي سوف يناله الناس فيما بعد بالعلم والكسب والتحصيل من إرتقاء وسياحة محدودة في عالم السماء حصل عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضل منه تعالى، وفيه دعوة للعلم الكسبي في هذا الباب، وإظهار معاني العبودية لله والإقرار ببديع صنعه قال تعالى[خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا]([228]) .

الحادي عشر : ورد في كلام بعض العرفاء: النبي برزخ بين الخالق والمخلوق)، ولكن لا مرتبة وسط بين الخالق والمخلوق، بين واجب الوجود والممكنات، نعم النبوة مرتبة تعني الرفعة والكمال الإنساني تولد بصفة تشريفية زائدة هي ايضاً بفضل وارادة من الله تعالى ومن غير مغادرة لمنازل الامكان.

الثاني عشر : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إتخذني الله عبداً قبل ان يتخذني نبياً([229]).

 ليبين مقام العبودية وأهليته وإعتباره في حياة الناس.

 وفي الحديث “الصلاة معراج المؤمن”([230])، إنها معراج مجازاً وان العبد يرتقي بها في السماء لتكون نعمة الإسراء عند المسلمين عامة،  حاضرة إجمالاً في الوجود الذهني ساعة الإنقطاع إلى الله.

الثالث عشر : إن الإسراء رأفة ولطف إلهي وإحسان خاص وعام، خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعام للمسلمين والناس والملائكة.

الرابع عشر : إنه مدخل ليقوم النبي بأعباء النبوة والرسالة بعد ما رأى من عظيم الآيات، وسعة ملك الله سبحانه وجبروته وقوته.

الخامس عشر : الآية لا تدل على أفضلية صفة العبودية على النبوة وإن كان الإسراء معجزة إلا أنه لا يعني إنفراد وإستقلال صفة العبودية عند النبي، بل العكس هو الصواب، أي أن الإسراء بصفة العبودية يدل على تفضيل النبوة وأنها تتضمن أسراراً وهبات عظيمة.

وقد تفضل الله عز وجل بالوحي وتنزيل الآيات الباهرات قال سبحانه[فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى] ([231])، وقيل أوحي إليه، أنّ الجنة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك([232]).

وفي سورة الفاتحة التي يقرآها المسلمون كل يوم في فرائض الصلاة ورد قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]([233]) فقدمت العبادة والاقرار بالعبودية على الاستعانة وكأنه مقدمة للحاجة بلسان الذل والخضوع.

كما ان المسلمين يأتون بالشهادتين في الصلاة وتتضمن الإقرار بالتوحيد والتصديق بالنبوة فقدمت صفة العبودية في حال الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والشهادة بنبوته، وفيه بيان لموضوعية صفة العبودية وما يترشح عنها من الفضل والشرف والعز، لقد بالغ اقوام في منازل الانبياء وقاربوا بها الربوبية، فجاء الاسلام ليتصدى الى تلك المبالغة بنفس الصيغ الجهادية والتربوية التي رسخها في اكرام الانبياء، ومعرفة حقيقة ارتقائهم على البشر منزلة وعلماً وكرامة.

وعن صهيب أن معاذاً لما قدم من اليمن سجد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا معاذ ما هذا قال : إن اليهود تسجد لعظمائها وعلمائها ورأيت النصارى تسجد لقسسها وبطارقتها قلت : ما هذا قالوا : تحية الأنبياء فقال عليه السلام كذبوا على أنبيائهم([234]).

وبذا تظهر الحاجة للإسلام في منع الغلو في الدين وفضح التحريف.

واستمر الصحابة والائمة عليهم السلام في التصدي لصيّغ الغلو وأماراته ليتجه الناس الى التوحيد والاخلاص في العبادة.

فعن الثوري  سماك بن هاني قال: دخل الجاثليق([235]) على علي بن ابي طالب فاراد ان يسجد له.

فقال له علي: اسجد لله ولا تسجد لي([236]).

ولما رأى النصارى الآيات من عيسى باحيائه الموتى وابرائه الاكمه والابرص جرده بعضهم من صـــفة العبودية واتخــذوه معبوداً لـذا ورد في التنزيل [ لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ]([237]).

وعن الإمام محمد الباقر uقال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس وعنده جبرئيل، إذ نظر جبرئيل نحو السماء فامتقع لونه حتى صار كأنه الكركمة.

ثم لاذ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى حيث نظر جبرئيل فاذا شيء قد ملأ ما بين الخافقين مقبلاً حتى كان كقاب من الأرض، ثم قال: يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إني رسول الله إليك أخبرك أن تكون ملكاً أحب إليك أو تكون عبداً رسولاً.

 فألتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى جبرئيل وقد رجع إليه لونه فقال جبرئيل: بل كن عبداً ورسولاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل أكن عبداً رسولاً فرفع الملك رجله اليمنى فوضعها في كبد سماء الدنيا، ثم رفع الأخرى فوضعها في الثانية، ثم رفع اليمنى فوضعها في الثالثة، ثم إنتهى إلى السماء السابعة، بعد كل سماء خطوة وكلما ارتفع صغر حتى صار آخر ذلك مثل الصرد.

 فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبرئيل وقال: لقد رأيتك ذعراً وما رأيته شيئاً كان أذعرني، من تغيير لونك.

 فقال: يا نبي الله لا تلمني أتدري من هذا، قال: لا قال إسرافيل حاجب الرب فلم يزل من مكانه منذ خلق الله السماوات والأرض فلما رأيته منحطاً ظننت أنه جاء بقيام الساعة، فكان الذي رأيت من تغيير لوني لذلك، فلما رأيت ما إصطفاك الله به رجع لوني ونفسي، أو ما رأيته كلما إرتفع صغر اذ ليس شيء يدنو من الرب إلا يصغر لعظمته.

إن هذا حاجب الرب وأقرب لله منه.

واللوح بين عينيه من ياقوتة حمراء، اذا تكلم الرب تبارك وتعالى بالوحي ضرب اللوح جبينه فنظر فيه ثم القاه الينا فنسعى به في السموات والأرض([238]).

ولا بد أن إختيار صفة العبودية هنا أعظم نفعاً وأجرا،ً فاختارها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بمشورة جبرئيل، فلا غرابة ان يرزقه الله عزوجل الإسراء بصفة العبودية مع ملازمتها لشرف الرسالة.

 فذكر صفة العبودية في آية الإسراء يلازمها انطباقاً ذكر الرسالة، ليكونا معا حقيقة خارجية واحدة إتصف بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليكون مؤهلاً لأعلى الدرجات في السماء.

ان العروج بصفة العبودية دلالة على الإرتقاء النوعي الإنساني بالإسراء وتخلصه من الكدورات الظلمانية بالإسلام وإنتقاله من حضيض البهيمية إلى عالم الإفاضة الملكية، وقد قسم أهل العرفان قوة النفس الى قسمين:

الأول: القوة النظرية وتعني إستعدادها لقبول صور الموجودات الغيبية وتسعى هذه القوة في مسالك المعرفة وأشرف مصاديقها بلوغ منازل التوحيد وشهادة ان لا اله الا الله.

الثاني: القوة العملية وتتضمن قابلية التصرف المادي فيما حولها، وإرتقاؤها في مزاولة الصالحات وتعاهد مناسك العبادة.

تفسير قوله تعالى [مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ].

من: حرف جر اصلي له عدة معان منها انه ابتداء للغاية، وهي على قسمين:

الأول: زمانية كقوله تعالى [ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ]([239]).

الثاني: مكانية كما في هذه الآية الكريمة.

فالآية الكريمة تدل على إبتداء الإسراء من البيت الحرام، وفيه مسائل:

الأولى : ورد لفظ [الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ] في القرآن أربع عشرة مرة، تتعلق بتعيينه قبلة للمسلمين وبجهاد المسلمين للوصول إليه وأداء مناسك الحج ومحاولات المشركين صد المسلمين عنه، وذكر الإسراء ضمن مواضيع المسجد الحرام يدل على موضوعيته في الإحتجاج على الكفار خصوصاً وانه حصل قبل الهجرة النبوية الشريفة.

الثانية : تبين الآية شرف هذا الموضع المبارك وأنه أم الأرض لذا فان النصوص وردت بدحو الأرض أي إنبساطها وتسويتها من تحت الكعبة وهو متأخر عن خلق السماء , قال تعالى[وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا]([240]).

الثالثة : جاء وصف الحرام للمسجد لما له من الحرمة والمنعة والتنزيه والاحكام الخاصة، فيحرم فيه ما لم يحرم في غيره من المساجد، من وجوه:

الأول: إنه مسجد وتشمله أحكام المسجدية.

الثاني: ام لعنوانه الخاص وأنه البيت الحرام واحكامه التي يشترك معه فيها المسجد النبوي كعدم جواز إجتياز ومرور الجنب والحائض فيهما.

الثالث:  أحكامه الخاصة التي ينفرد بها مثل الطواف والإعتمار.

الرابع: عدم إخراج اللاجئ إليه وإن كان جانياً.

الرابعة : قد يرد إسم المسجد الحرام ويراد منه مطلق الحرم سمي به جملة الحرم تسمية للشىء بأشرف أجزائه وأهمها كما في قوله تعالى [ فَكُّ رَقَبَةٍ ]([241]) والمراد تحرير العبد.

 إن ذكر المسجد الحرام بالخصوص كمنطلق وموضع لبدء الإسراء دلالة قرآنية على شرف الإسراء وعظمته حتى على فرض أن الإسراء حصل من بيت أم هانئ كما هو المشهور، أي أن الأمر ليس من إطلاق الجزء وإرادة الكل فحسب بل من إضفاء قدسية وحرمة البيت الحرام على معجزة الإسراء وإن بدأت من خارج المسجد الحرام.

ووقع الأختلاف بين الفقهاء في حرمة دخول الكافر إلى المسجد الحرام، فقال مالك بالحرمة، ونقل عن أبي حنيفة الجواز، وقالت الامامية والإمام الشافعي بعدم جواز دخوله الحرم لعمومات قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]([242]) وقيل قد يكون المراد من المسجد الحرام الحرم لقوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ([243]).

وإنما أسري به من بيت خديجة أو بيت أم هانئ ، وتحتمل الآية وجهين:

الأول: إرادة المسجد فقط.

الثاني: المقصود من البيت الحرم كله، وبيت خديحة هو الذي ولدت به فاطمة زهراء عليها السلام([244]).

الخامسة : إن مبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيت أم هانئ أعم من بدء الإسراء من بيتها، وان اخرجه الملكان من البيت، خصوصا وأن بيوت قريش عامة كانت قريبة من البيت الحرام، فالبيت الذي ولد فيه النبي محمد صلى الله وعليه وآله وسلم مجاور للمسجد الحرام، والبيوت محيطة بالمسجد الحرام، ولم يكن البيت بالسعة التي عليها هو اليوم.

السادسة : إن بدء الإسراء من المسجد الحرام توكيد للأهمية العقائدية للمسجد الحرام فهو قبلة المسلمين يتوجهون له في صلاتهم كل يوم، وهو مطاف الحج والعمرة، فقلب كل مسلم يشتاق للمسجد الحرام.

 وإنطلاق الإسراء من المسجد الحرام يؤكد أن موضوع الإسراء يهم كل مسلم لذا ترى أنه تضمن تشريعات وأحكاماً عندما عرج بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء، وفي موضع بداية الإسراء وجوه:

الأول : من المسجد الحرام.

الثاني : من بيت ام هانئ.

الثالث : من بيت خديجة.

الرابع : من الحرم وان مكة والحرم كلها مسجد.

ولا تعارض بين هذه الوجوه ويمكن الجمع بينها بأن النبي إنتقل من بيت خديجة الى بيت ام هانئ ومنه اخذه جبرئيل الى المسجد الحرام للإسراء به بالإضافة إلى حمل الكلام العربي على ظاهره أي أن الآية صريحة بحصول الإسراء من مسجد الحرام، وهذا التعدد والإختلاف بمنطلق الإسراء وبدايته يجب الا يكون حائلاً دون المواعظ والدروس والعبر ووجوه الحكمة في حصول الإسراء من المسجد الحرام بالذات.

 علينا ان نتلمس مضامين الفضل الالهي والمزايا التي ينفرد بها البيت الحرام وحصول الإسراء منه كمكرمة إضافية وتشريف إعتبارى للمسجد وعماره، أي أن الإسراء نعمة وفضل إلهي على كل من:

الأول:النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه توكيد لتشريفه من بين أهل الأرض، وتفضيله على الأنبياء والرسل.

الثاني: الإسراء فضل على المسلمين جميعاً، لما فيه من العلوم ومصاديق الوحي والمنزلة الرفيعة التي بلغها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء، وهو مناسبة للإتعاظ والعز والفخر قال تعالى [لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]([245]).

الثالث: الناس جميعاً لما في الإسراء من أسباب الهداية والرشاد.

الرابع: البيت الحرام لبيان قربه من السماء، وطهارته وشرف بقعته ، ونزول الملائكة اليه.

تفسير قوله تعالى [إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى]

إلى: حرف جر له سبعة معان منها إنتهاء الغاية وهو ينقسم الى قسمين:

الأول : إنتهاء الغاية الزمانية كما في قوله تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ]([246]).

الثاني : إنتهاء الغاية المكانية كما في هذه الآية الكريمة.

فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنتهى به الإسراء إلى المسجد الأقصى، والمراد به بيت المقدس وعليه إجماع علماء المسلمين والمفسرين.

ويستحب الصلاة في المسجد الأقصى، وفي الخبر عن علي u : صلاة في بيت المقدس تعدل ألف صلاة).

وأخرج الواسطي، عن كعب في بيت المقدس: اليوم فيه كألف يوم، والشهر فيه كألف شهر ، والسنة فيه كألف سنة ، ومن مات فيه فكأنما مات في السماء الدنيا) ([247]).

وورد عن مسائل إبن سلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اخبرني عن موضع الباب الذي فتح من السماء فنزلت منه الملائكة بالرحمة على بني اسرائيل أي موضع هو ؟ قال: مقابل الصخرة التي ببيت المقدس ومعراج الأنبياء والأولياء والملائكة المقربين.

ولقد شرّف الله المسجد الأقصى ويسمى أيضاً بيت المقدس بنزول آية فيه وفي قوله تعالى [وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا…]([248]) فقد ذكر أنها نزلت في بيت المقدس ليلة الإسراء(وقيل إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جمع الأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس فأمهم وقيل له: سلهم فلم يشكك ولم يسأل) ([249]).

وكما يستعمل لفظ الأقصى بمعنى البعيد فإنه يستعمل بمعنى الإنفراد يقال الشاة القاصية أي المنفردة عن القطيع البعيدة عنه، لذا ورد أن الشيطان كالذئب يأخذ القاصية والشاذة أي أنه يتسلط على المبتعد عن الجماعة.

وقيل أنه سمي الأقصى لبعده عن التدنيس والأقذار.

وقد وردت أخبار ونصوص عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخبر فيها عن فتح المسلمين للمسجد الأقصى والشام وإنهما جزء من الكيان الإسلامي.

وهل تدل الآية على دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد الاقصى أم أنه وصل إليه، قال الرازي “ليس في اللفظ دلالة عليه([250]).

 والظاهر أن الآية الكريمة تدل على دخوله صلى الله عليه وآله وسلم المسجد لحمل الكلام على ظاهره ولدخول الغاية في المغيى في حال وحدة الجنس، هذا بالإضافة إلى النصوص البيانية والأخبار، وتسمي مدينة بيت المقدس إيلياء، وقال الفرزدق:

وَبَيْتَانِ: بَيْتُ اللَّهِ نَحْنُ وُلاَتُهُ

وَبَيْتٌ، بِأَعْلى إيلياءَ، مُشرَّفُ([251])

ولقد ذكر الله عز وجل بيت المقدس عدة مرات في القرآن بلفظ القرية والأرض المقدسة والأرض المباركة وسكنه الكنعانيون قبل أكثر من خمسة آلاف سنة قادمين من الجزيرة العربية وقبل اليهودية والنصرانية وقبل ابراهيم uوأسسوا فيها حضارة ومدنية، وشرّفه الله بعدد غير قليل من الأنبياء والرسل وإحتل منزلة عظيمة في التأريخ الإنساني.

وقد كان لذكره في حديث الإسراء حث للمسلمين على فتحه وتعاهده كحاضرة إسلامية، وجعل إحتلال الغير لها أمراً مؤقتاً متزلزلاً غير مستقر وباباً لوحدة المسلمين وتصعيد صيغ الجهاد، ولقد شرّف الله بيت المقدس وجعله  ثالث الحرمين وأولى القبلتين، وعقدت فيه حلقات الدرس وبرز في أروقته علماء كثيرون فقال الغزالي (450-505) للهجرة أنه كان في المسجد الأقصى ثلاثمائة وستون مدرساً.

وإلى الآن يسمى الجدار الغربي للمسجد الأقصى بحائط البراق نسبة إلى البراق وهو مركوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه ربطه في ذات المكان ليلة الإسراء ولا عبرة بالتسمية الأخرى التي أطلقت عليه وهي حائط المبكى، وليس فيها تعارض مع تسمتيه حائط البراق الذي هو كالناسخ لما قبله.

قوله تعالى [الَّذِي بَارَكْنَا حوْلَهُ].

الذي باركنا حوله: جعله الله مقر الأنبياء ومهبط الملائكة مطهراً من الشرك، وهو أقرب موضع من الأرض إلى السماء ولأن صخرة بيت المقدس تقابل باب السماء، وقيل لا ينزل ملك من السماء إلى الأرض إلا على الصخرة، ولا يصعد ملك إلى السماء إلا من الصخرة، وفيه محاريب الأنبياء وآثارهم فقد كان متعبداً للأنبياء ومقاماً لهم.

 كما جعل الله الخير والنماء في الأشجار والثمار والنبات والأمن والخصب حواليه، لذلك لا يحتاج من بناحيته إلى أن يجلب البر من موضع آخر وتنال البركة المطيفين به ليجمع الله فيه بركات الدين والدنيا.

عن مكحول أن ميمونة سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيت المقدس قال: نعم المسكن بيت المقدس، ومن صلى فيه صلاة بألف صلاة فيما سواه وقالت فمن لم يطق ذلك، قال فليهد اليه زيتاً([252]).

تفسير قوله تعالى [لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا]

إكرام وتشريف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لتفضل الله سبحانه بإطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الآيات.

وصحيح أن (من) تفيد التبعيض إلا أنه لا يعني القلة، ولو قلنا أنه يفيد الكثرة لكان هو الأصح، فكل آية هي عالم وجامعة وخزينة تنفتح على كنوز عديدة، كما يتعلق موضوع الآيات بالإسراء كآية من آيات الله تعالى، وهو نفسه أي موضوع الإسراء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ونقله وانتقاله ينحل الى عدة آيات عظيمة لذا فان ما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات أكبر وأعظم مما رآه ابراهيم في قوله تعالى [وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ]([253]) والآيات التي رآها النبي أوسع وأعم وتشمل تكاليف شرعية واجتماعاً بالأنبياء السابقين وغير ذلك مما ورد في حديث الإسراء.

وهذه الرؤية هل كانت خاصة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أم انتفعت منها الأمة، الجواب هو الأخير ، وإنتفع منها الناس جميعاً، فكما أن القرآن نزل على صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلقاه المسلمون بالواسطة وكأنه أنزل عليهم مع الإقرار والتسليم والرضا بأنه أنزل إليهم لتقويم سلوكهم ولهدايتهم إلى سبل الرشاد وطرق الجنة والنعيم الخالد، كذلك فان الآيات التي تفضل الله سبحانه باراءتها للنبي صلى الله وعليه وآله وسلم إنما هي أيضاً للمسلمين لينتفعوا منها.

فالآية الكريمة تحث على التدبر في حديث الإسراء وأسراره وكيف أنه هبة خاصة وعامة، إنه باب من أبواب السماء فتحه الله لأشرف خلقه دلالة على إستحقاق الإنسان لخلافة الأرض.

 والإسراء عيد عالمي ومنطلق للعلوم الفلكية والكونية وفق نظريات المعرفة الإلهية.

تفسير قوله تعالى [إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]

إن الله يبصر أذى قريش ومكرهم وعداءهم للإسلام وجحودهم الآيات فلقد أحاط علمه بجميع الخلائق دقيقها وجليلها، يسمع دعاء عبده المؤمن ويبصر مكانه، ويستجيب له بعظيم قدرته وإحسانه ورحمته التي فتح منها باباً فيه فضل على عباده المؤمنين.

فهو سبحانه السميع لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأقواله، ولما يتلقاه من المشركين، والبصير بأفعاله وما يلاقيه من أذى المشركين.

والله السميع والبصير بردود الفعل لخصوص الإسراء، فالآية تدل على إستمرار تعاهد الله لإفاضات آية الإسراء وموضوعها وتثبيتها في الأرض وتهيئة الأسباب لإستخراج العلوم منها، وهو الذي يبصر ويسمع مضامين إيمان المسلمين بالإسراء وينزل عليهم البركات.

الإسراء ونزول القرآن

النزول: الحلول، ونزله وأنزله بمعنى، ومنهم من فرق بين نزلت وأنزلت والأخير للتكثير، وقد يكون النزول للكل والدفعة، والتنزيل للتدريج والتعدد، والنزول والصعود من صفات الأجسام وأيضاً الحركة والسكون، لمناسبته الأجزاء والمراحل.

ومن علوم القرآن معرفة المكي والمدني، وأن ما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعد الهجرة النبوية المباركة فهو مدني على المشهور من وجوه التقسيم وهو علم شريف يساعد على معرفة الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، ويكون عوناً على الإستنباط والتحليل والإستنتاج في بعض المسائل والعلوم.

 ومن هذا العلم تعدد التقسيم مثل:

الأول: ما نزل من القرآن في بيت المقدس.

الثاني: ما نزل في الطائف.

الثالث: ما نزل في السفر او في الحضر.

الرابع: ما نزل في الليل او النهار.

الخامس: ما نزل في الشتاء او الصيف.

السادس: الآيات التي نزلت بين السماء والارض.

وما نزل في الإسراء يمكن أن نفرد له إصطلاحاً خاصاً وهو مكي سماوي، وبالإضافة إلى العلوم المستنبطة من هذا العلم فان هذا التقسيم نوع تشريف وإكرام، وفي تفسير علي ابراهيم عن هشام عن الصادق uان هذه الآيات مشافهة الله تعالى لنبيه ليلة أسري به إلى السماء، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما إنتهيت إلى محل سدرة المنتهى، فاذا الورقة منها تظل أمة من الأمم، فكنت من ربي كقاب قوسين أو أدنى، كما حكى الله عز وجل، فناداني ربي تعالى: [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ]([254]) .

فقلت أنا مجيباً عني وعن أمتي [وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ] ([255]).

 فقال الله [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ]([256]) فقلت: [رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا] ([257]).

 وقال الله: لا اؤاخذك، فقلت [رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا]([258]) فقال الله لا احملك.

 فقلت [رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ([259]) فقال الله: قد أعطيتك ذلك لك ولأمتك.

 فقال الأمام الصادق عليه السلام: ما وفد إلى الله تعالى أحد أكرم من رسول الله حيث سأل لأمته هذه الخصال([260]).

لقد كان الإسراء بالجسم والروح، والإسراء هو إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس بآية من عند الله عز وجل أما المعراج فهو صعوده إلى السموات وفي ذات ليلة الإسراء، الإسراء والمعراج للنبي محمد بجسده وروحه وفي عالم اليقظة والحقيقة.

ومن الفلاسفة من أنكر أن تكون للسماوات أبواب لأنها لا تقبل الخرق والإلتئام، وعلم الهيئة ورحلات الفضاء في هذا الزمان تدحض هذا الإنكار .

وفي حديث الإسراء: ثم إني رفعت إلى سدرة المنتهى فتغشاها فكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى ونزل على كل ورقة ملك من الملائكة ثم إن الله أمرني بأمره وفرض علي خمسين صلاة وقال : لك بكل حسنة عشر وإذا هممت بالحسنة فلم تعملها كتبت لك حسنة فإذا عملتها كتبت لك عشرا وإذا هممت بالسيئة فلم تعملها لم يكتب عليك شيء فإن عملتها كتبت عليك سيئة .

ثم دفعت إلى موسى فقال : بم أمرك ربك ؟ قلت : بخمسين صلاة قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا يطيقون ذلك فرجعت إلى ربي فقلت : يا رب خفف عن أمتي فإنها أضعف الأمم فوضع عني عشرا فما زلت أختلف بين موسى وبين ربي حتى جعلها خمسا فناداني ملك : عندها تمت فريضتي وخففت عن عبادي فأعطيتهم بكل حسنة عشر أمثالها ثم رجعت إلى موسى فقال : بم أمرت ؟ قلت : بخمس صلوات : قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييته .

ثم أصبح بمكة يخبرهم العجائب : إني رأيت البارحة بيت المقدس وعرج بي إلى السماء ثم رأيت كذا وكذا فقال أبو جهل : ألا تعجبون مما يقول محمد ؟ قال : فأخبرته بعير لقريش لما كانت في مصعدي رأيتها في مكان كذا وكذا وإنها نفرت فلما رجعت رأيتها عند العقبة وأخبرتهم بكل رجل وبعيره كذا ومتاعه كذا فقال رجل : أنا أعلم الناس ببيت المقدس فكيف بناؤه وكيف هيئته وكيف قربه من الجبل ؟ فرفع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيت المقدس فنظر إليه فقال : بناؤه كذا وهيئته كذا وقربه من الجبل كذا فقال: صدقت ([261]).

الإسراء والوحي

الوحي لغة: هو الإشارة والكتابة والرسالة وكل ما ألقيته إلى غيرك والإلهام، وهو إعلام في خفاء، ولذلك سمي الإلهام وحياً، ولكن الوحي من الكليات المشككة فهو يقع على مسميات متعددة ذات معنى واحد، ومنها ما يكون الوحي ظاهراً للرسول، وهو مصدر وحى إليه، والأصل فعول مثل فلوس، يقال الوحا الوحا أي بسرعة وهو منصوب بفعل مضمر، وموت وحي أي سريع لفظاً ومعنى.

وهو في الإصطلاح وعلم الكلام تعليم والقاء الله عز وجل للأنبياء ما يتعلق بأمور الدين بواسطة الملائكة من غير واسطة بشر.

وبين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق، فكل قرآن وحي وليس كل وحي قرآناً، وأول ما بدء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو في غار حراء.

فيتحنث فيه وهو التعبد في الليالي ذوات العدد، (لعل العدد هنا الإحصاء والحصر)، قبل ان ينزع إلى أهله ويرجع إلى خديجة ويتزود لمثلها ، وقد ورد ذات اللفظ(ذوات العدد) بخصوص نزول سور القرآن وكتابتها .

وعن ابن عباس: قال : قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن (عمدتم) إلى الأنفال، وهي من المثاني،  وإلى براءة وهي من المَئين،  فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال ([262]). حتى جاء الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما انا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني، فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية ثم ارسلني فقال: [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]([263]).

لقد إجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإعتزال عن الناس في غار حراء فجاء الإسراء فضلا وثناءً ولتحصل المشـاهدة للآيات الكونية مقرونة بالأحكام الشرعية، ولم يكن إعتكاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غار حراء فعلاً شخصياً ورياضة روحية وإشتغالاً بالتسبيح والنسك وحده، بل كان مقدمة لتلقي النبوة وتهيأة نفسية وروحية وبدنية لنزول القرآن خصوصاً مع شدة وطأته وكأنه قراءة قلبية للآيات.

وقد يحصل أهل التقوى على الكشف، وأهل الوصل على ما يسمى بالإلهام وهو حس ذاتي ووجدان نفسي وتوظيف للاشعور او الحاسة السادسة ولا يرقى إلى الوحي بمعناه الإصطلاحي ويكون من العلم الكسبي وليس الوهبي.

لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرون ما يصيبه من الكرب وأن جبينه يتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد ساعة نزول الوحي في آية وجزء فلسفة الرسالة ومشقة تحملها، لذا فمن مستلزمات الوحي إمتلاك شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للكمالات الإنسانية كمقدمة عقائدية وإجتماعية ومصدر توفيق ومدخل لتصديق الناس وإستماعهم لـه، فمن لا يكون صادقاً مع الناس في سيرته ومعاملاته وكلامه لا يصدقه الناس بدعوى النبوة.

قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ([264]).

والوحي من عالم الأمر وهو عنوان القدرة الإلهية وتجسيد مبارك لإتصال نفخ الروح في آدم u باسمى معانيه فهو غير منحصر بالأصوات والحروف والألفاظ أو المعاني والأعراض، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]([265])، في رد الله عز وجل على الملائكة حينما إستفهموا عن جعل خليفة في الأرض[يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ([266]).

فمن علم الله عز وجل الوحي إلى الأنبياء، ونزول القرآن، والإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتثبيت أحكام الشريعة، ومنع أهل الضلالة والمفسدين من الإستيلاء على منازل السلطان والحكم في الأرض على نحو مستديم.

فالإسراء يظهر الجانب العملي المبارك للوحي، ومرحلة متقدمة منه ليرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الآيات من غير واسطة، فجبرئيل uهو الواسطة والملك الموكل بالنزول بالوحي على الأنبياء عامة وبالنزول بآيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة.

وأخرج البخاري ومسلم والبيهقي، عن عائشة: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يأتيك الوحي قال: أحيانا يأتيني الملك في مثل صلصلة الجرس، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ، وهو أشده علي وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول([267]).

 وتلك حالة أي رؤية الملك يختص بها الرسول دون النبي، وأراد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن ينفرد بحالة تشريفية خاصة لم ولن ينالها إنسان وهي السياحة والإرتقاء في عالم السماء، وبالإسراء تعددت أسباب الفيض الإلهي وشعاب رحمته وروابط جوده وسبل المعرفة الإلهية والشهود العياني والقلبي، إنه كمال النبوة ومن الصفات التي تكون مؤهلات للنبوة ومن خصالها العصمة من الزلل والمعصية لأن القلوب لا تنجذب إلى صاحب المعصية وأن يكون النبي أفضل أهل زمانه بجميع الفضائل والمحاسن والكمالات ، وأن يكون أميناً، ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان بن حرب عن صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال له: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لاَ . فَقَالَ هِرَقْلُ : أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبَ لِيَكْذِبَ عَلَى اللهِ ([268]).

وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسمى “الصادق الأمين”، وان يكون شجاعاً لا تاخذه في الله لومة لائم، ونحوها من الاخلاق والصفات الحميدة.

لذا فان إخباره عن الإسراء حق وصدق وكما يصح ان نستدل بالبرهان اللمي أي من العلة على المعلول، كذلك يمكن ان نستدل بالبرهان الإني أي من المعلول إلى العلة، فإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإسراء دليل على صدقه في الأخبار عن النبوة لأن حديث الإسراء يتضمن أسراراً لا يمكن للإنسان أن يطلع عليها بقدرته الشخصية بل التسخيرية لبعض المحكومات فقد بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم منازل لم يطأها أحد غيره .

وأخرج مسلم عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى ، فأعطي ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئاً من أمته المقحمات([269]).

وقال السيوطي: في كيفية الوحي ان يكلمه الله اما في اليقظة كما في ليلة الإسراء) ([270])، أي ان الوحي ليلة الإسراء اتصف بخصوصية التكليم من غير واسطة وفي حال اليقظة وليس وحي منام فكما كان موسى uكليم الله فكذلك الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلّمه الله ليلة الإسراء.

وفي الخبر عن الإمام الصادق عن أبيه عن جده أمير المؤمنين عليه السلام: “أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذته نعسة وهو على منبره فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة يردون الناس على أعقابهم القهقرى فأستوى رسول الله صلى الله عليه وآله جالساً والحزن يعرف في وجهه فأتاه جبرئيل u بهذه الآية[وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا]([271]).

وفي تفسير ابن كثير وأما “الشجرة الملعونة”، فهي شجرة الزقوم، كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه رأى الجنة والنار، ورأى شجرة الزقوم، فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل لعنه الله “بقوله” هاتوا لنا تمرًا وزبدًا، وجعل يأكل هذا بهذا ويقول: تَزَقَّموا، فلا نعلم الزقوم غير هذا([272]).

وذكر أن الآية نزلت في ملك بني أمية، وعن إبن عباس: الشجرة بنو أمية يعني الحكم بن أبي العاص قال ورأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره فقص رؤياه على أبي بكر وعمر وقد خلا في بيته معهما فلما تفرقوا سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحكم يخبر برؤيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاشتد ذلك عليه ، واتهم عمر في إفشاء سره، ثم ظهر أن الحكم كان يتسمع إليهم فنفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم([273]).

ولا مانع من تعدد وجوه تأويل الآية وتفسير رؤيا النبوة التي هي بمنزلة الوحي، والآية وان كانت مكية وليس عنده صلى الله عليه وآله وسلم منبر فيها، إلا أنه لا يمنع من الرؤيا وما فيها من الإخبار والبشارة عن منبره في المدينة وسلطان دولة الإسلام.

بحث كلامي

من مباحث علم الكلام والفلسفة نفي الرؤية عنه تعالى كحقيقة ثابتة مترشحة عن وجوب وجوده تعالى، وإمتناع رؤيته تعالى ثابتة بالنقل والوجدان والعقل وأكثر العقلاء على إستحالة رؤيته في الدنيا، وعليه عامة المسلمين ولا عبرة بمن شذ، فهو تعالى ليس بجسم فالجسم له طول وعرض وعمق والله تعالى منزه عن التشبيه، وهو في كل مكان أي عالم بما في كل مكان محيط بالأشياء جميعاً وهي مستجيبة لقدرته، وليس في جهة دون أخرى.

 وقال الكرامية وهم فرقة من المجسمة في القرن الثالث الهجري لم يبق لها اثر، انه سبحانه في جهة ثم إختلفوا في بيانها وتحديدها، فالهيصية قالوا بانه فوق العرش في جهة لا نهاية لها وبينه وبين العرش بعد غير متناه، والعابدية منهم على ان بينهما بعداً متناهياً، ومنهم من قال إنه تعالى على العرش بلا فصل.

 ولعلهم إستدلوا بظاهر بعض الآيات والنصوص، مثل قوله تعالى [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعرْشِ اسْتَوَى]([274]) وقوله تعالى [يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ]([275]).

وقوله تعالى [وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ]([276]) ولكن مع ثبوت إمتناع الجسمية والجهتية ولواحقهما عنه تعالى بالأدلة النقلية والعقلية فلابد من تأويل هذه الآيات، فاستواؤه على العرش في الآية أعلاه يعني الحكم والملك، والفوقية تعني العلو والسلطان والرفعة ومقام الربوبية ولزوم خضوعهم لها من منازل الذل والعبودية فهو سبحانه ليس في جهة ولا في محل لأنه مستغن عنهما، و الإفتقار الى الجهة والمحل من علامات الإمكان، فكل ممكن حادث.

ونسب إلى الأشاعرة القول بأن الله تعالى مع تجرده تجوز رؤيته ولكن الرؤية منتفية عنه ضرورة، أي لا يمكن للمخلوقات أن تراه لإنتفاء الجهة والحيز عنه سبحانه، وإحتجوا بان سؤال موسى uللرؤية يدل على إمكان الرؤية، ولو كانت الرؤية ممتنعة لما قام موسى وهو كليم الله بسؤال الرؤية، الجواب إن سؤال موسى uلإقامة الحجة على قومه وللبيان ولا يصح الإستدلال بالسؤال وحده بل لابد من الرجوع إلى نوع الإجابة، وموضوعها وهو الأهم في المسألة، فقد علّق الله سبحانه الرؤية في سؤال موسى uعلى إستقرار الجبل.

كما أستدل بانه موجود وكل موجود يرى مع نفيهم للتجسيم، وواجب الوجود يختلف عن الموجودات الأخرى فهو ليس كالأشياء، وإستدلوا بقوله تعالى [إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ]([277]).

 ولكن النظر هنا مطلق ويشمل النظر إلى آياته وعظيم صنعه وواسع رحمته التي تتجلى يوم القيامة بابهى صورها وإنبساطها وشمولها للخلائق.

ومنه النظر بالعقل والبصيرة والعين ، والبصر حال حركته وليس على إستقراره مطلقاً (عن الشعبي قال لقي ابن عباس كعباً بعرفة فسأله عن شيء فكبّر حتى جاوبته الجبال، فقال إبن عباس: إنا بنو هاشم نزعم أن نقول إن محمداً قد رأى ربه مرتين، فقال كعب: أن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين.

قال مسروق: فدخلت على عائشة فقلت: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد تكلمت بشيء قفَّ([278]) له شعري قلت: رويداً ثم قرأت [ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ]([279]) قالت: أين يذهب بك؟ إنما هو جبريل، من أخبرك أن محمداً رأى ربه أو كتم شيئاً مما أمر به أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ]([280]) فقد أعظم الفرية([281]) ولكنه رأى جبريل، لم يره في صورته إلا مرتين: مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في جياد([282]) له ستمائة جناح قد سدَّ الأفق([283]).

قوله [ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ]([284]) قيل كيف يجوز ان يكون كليم الله موسى بن عمران أنه لا يعلم أن الله تعالى لا يرى حتى يسأله هذا السؤال، وأجاب عنه الامام الرضا uان موسى uعلم ان الله تعالى جل أن يرى بالأبصار ولكنه لما كلمه وقربه نجيآ رجع إلى قومه وأخبرهم أن الله تعالى كلمه وقربه وناجاه قالوا لن مؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت وكان القوم سبعمائة الف رجل فإختار منهم سبعة آلاف ثم إختار منهم سبعمائة ثم إختار منهم سبعين رجلاً ثم خرج بهم إلى طور سيناء فاقامهم في سفح الجبل وصعد إلى الطور وسأل الله إن يكلمه ويسمعهم كلامه.

 وكلم الله تعالى، وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال، ومن وراء وأمام لأن الله أحدثه في الشجرة ثم جعله منبعثاً منها حتى أنهم سمعوه من جميع الوجوه فقال لن نؤمن لك بان هذا كلام الله حتى نرى الله جهرة فلما قالوا هذا القول العظيم بعث الله عليهم صاعقة فإخذتهم بظلمهم فماتوا.

 فقال موسى عليه السلام: يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت اليهم وقالوا انك ذهبت بهم وقتلتهم لانك لم تكن صادقاً فيما إدعيت من مناجاة الله إياك فأحياهم الله وبعثهم معه.

 فقالوا إن سألت الله أن يريك تنظر إليه لأجابك ثم تخبرنا كيف هو وتعرفه حق معرفته فقال موسى uيا قوم ان الله لا يرى بالأبصار ولا كيفية له وإنما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه.

 فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله، فقال موسى uرب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بمصالحهم فأوحى الله إليه ياموسى سلني ماسألوا فلن أؤاخذك بجهلهم فعند ذلك قال موسى[قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ ]([285]).

أما بالنسبة للرؤية يوم القيامة فقد إختلف المتكلمون فيها فالاشاعرة أثبتوها لقوله تعالى [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ]([286]).

ومنهم من قال إن معنى الرؤية هو أن ينكشف لعباده المؤمنين في الآخرة إنكشاف البدر المرئي، مع نفى الرؤية التي بمعنى الإنطباع أو خروج الشعاع انما هي حالة تنتج عن رؤية الشيء والعلم به وقال الرازي: ان الرؤية بالإرادة لا بقدرة العبد، وقال أيضاً في الرؤية (والمسألة مختلف فيها بين الصحابة في الوقوع و إختلاف الوقوع مما ينبئ عن الإتفاق على الجواز)([287])، والإختلاف حاصل في ماهية الرؤية وهل تتعلق بالذات المقدسة ام بآياته تعالى وقد وردت نصوص في المقام منها ما ورد عن ابي ذر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نور أنى أراه) ([288])، بالإضافة إلى إطلاقات الآيات القرآنية كما في قوله تعالى [ لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ]([289]).

والظاهر ان مشهور المتكلمين يفرق بين الرؤية في الإسراء، والرؤية في الآخرة، ويقول برؤية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لآيات ربه في الإسراء.

ونفى المعتزلة الرؤية وقالوا إن النظر أعم من الرؤية وانه يعني تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته.

وهذا النزاع صغروي وهو ليس محلاً للإبتلاء ولا يترتب عليه أثر شرعي أو وضعي، ونواميس يوم القيامة تتعدى أوهام البشر، فلذا ترى بعض العلماء يترك التأويل في المقام، ويتبع إطلاق الكتاب والسنة ولا يخوض في تأويله.

والذات الإلهية واحدة وتبدل العوالم لا يغير لوازم المجرد الضرورية أو يزيحها عنه، ليس من حصر أو حد لآيات الله وبديع صنعه وعظيم عفوه ورحمته يوم القيامة، والناس تنظر وتنتظر المزيد من الفضل الإلهي وما ينشره سبحانه من رحمته.

 وأخرج أحمد ومسلم عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لله مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق ، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأُخر تسع وتسعون إلى يوم القيامة([290]).

وأخرج ابن أبي شيبة عن سلمان موقوفاً وابن مردويه عن سلمان قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السموات والأرض، كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض ، فأهبط منها رحمة إلى الأرض، فيها تراحم الخلائق ، وبها تعطف الوالدة على ولدها، وبها يشرب الطير والوحوش من الماء ، وبها تعيش الخلائق، فإذا كان يوم القيامة انتزعها من خلقه ثم أفاضها على المتقين، وزاد تسعاً وتسعين رحمة، ثم قرأ [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ]([291]) ([292]).

 روى الصدوق في كتاب التوحيد عن عاصم بن حميد قال: ذاكرت الإمام الصادق uفيما يروون من الرؤية فقال: الشمس جزء من سبعين جزء من نور الستر فان كانوا صادقين فليملأوا عيونهم من الشمس ليس دونها حجاب.

وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال : الشمس جزء من سبعين جزءاً من نور الكرسي ، والكرسي جزء من سبعين جزءاً من نور العرش ([293]).

لقد كان الإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جسداً وروحاً هبة سماوية للذين قالوا بالرؤية في الآخرة والذين نفوا حصولها فهي رؤية قلبية وعروج بروح المسلم ونظرة تلبية وباب للمعرفة ودعوة للتضرع الى الله عز وجل والتوجه بالرجاء الى فضل الله تعالى وشكر وثناء، وقد جاء عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: اعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك)([294]).

 وهذا التشبيه للرؤية هو الذي يترشح عن حديث الإسراء ويلح على أولي البصائر ويدعوهم لاستحضاره والإيمان به والتدبر في معانيه.

هل الجنة والنار مخلوقتان

الجنة والنار محل ثواب الله وعذاب يوم القيامة، والجنة – بالفتح – هي البستان من النخل والشجر وأصلها من الستر لكثرة نعيمها وتكاثف أوراقها والتفاف أغصانها.

والأقوى أن الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن وهو قول أكثر المتكلمين وعلماء المسلمين، وقال الأقل بأنهما لم يخلقا بعد.

ومن أظهر وجوه الإستدلال على خلقهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل الجنة ورأى النار حين عرج به إلى السماء، وبه إستدل على خلقهما، وإختلف المعتزلة فيما بينهم في موضوع خلق الجنة والنار، وجرياً على عادة العلماء والباحثين في ذكر الأقوال المختلفة في كونهما مخلوقتين ام لا، قام السيد الشريف الرضي المتوفي سنة 406 هجرية بذكر أدلة الفريقين وإختار القول بعدم خلقهما.

 والقائل بخلقهما احتج بآيات منها قوله تعالى بخصوص الجنة [أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]([295])، وقوله تعالى بخصوص النار[ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ]([296]) [ يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ]([297]).

 ويمكن ان يناقش هذا الإستدلال مع اننا نقول بخلقهما، فصيغة الماضي أعم من اثبات المدعى، فقد ترد ويراد منها القطع والحكم والإخبار، وفي جنة آدم ورد قول عن الإمام الصادق uانها من جنات الدنيا، والقائل بانها ليست مخلوقة إحتج بآيات منها قوله تعالى [ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ]([298]) فلو كانت الجنة مخلوقة الآن لوجب هلاكها، وأجيب ان المراد دوام المأكول بالنوع والمراد من الهلاك الخروج من الإنتفاع أو يتعلق بأفراد عالم الدنيا.

ويمكن ان نضيف للجواب وجهاً آخر وهو خروج الجنة والنار بالتخصص من موضوع الآية، فالمراد من الهلاك هلاك الخلائق الحية من الملائكة والناس والجن ونحوها.

وربما يستدل على خلقهما ووجودهما فعلاً بقوله تعالى [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ]([299]) وهو إستدلال لطيف، ورد بان المراد هي النار البرزخية وانه لا يصح الإستدلال بها.

اقول: هذا التقسيم للجنة وللنار أي جنة أخروية وبرزخية وكذا بالنسبة للنار وان كان إستقرائياً يحتاج إلى دليل، وهو مفقود في المقام، وأن الآية تظهر لنا وظائف أخرى للنار غير التي تكون يوم القيامة، فتعدد العنوان والوظيفة وزمانها لا يعني تعدد المعنون.

والآية حجة في خلق النار وإبطال للقول بان خلق الجنة والنار الآن عبث فلهما وظائف عديدة قبل يوم الحساب، وحتى مع عدم الوظيفة، فلا عبث في فعل الله تعالى لأنه حكيم منزه عن اللهو والعبث والقبيح، وأستدل على إرادة البرزخية بقوله تعالى في الآية [وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ]([300])، وانه لا يصح لنا الإستدلال بلفظ الجنة والنار على الإطلاق بل لابد من إمعان النظر ليعلم ما هو المراد منها، وما ورد في ذيل الآية لا يدل على تقسيم النار ووجود النار البرزخية في مقابل النار في الآخرة، إنما يبين مراتب العذاب وتحقق دخول الكفار النار يوم القيامة، أي هناك وظائف برزخية للنار وليست ناراً برزخية.

وقد ورد عن عكرمة([301])، عن إبن عباس انه قال: قدم يهوديان فسألا أمير المؤمنين uفقالا: أين تكون الجنة؟ واين تكون النار؟ قال: أما الجنة ففي السماء، وأما النار ففي الأرض قالا: فما السبعة؟ قال: سبعة أبواب النار متطابقات، قالا: فما الثمانية؟ قال: ثمانية ابواب الجنة.

ولكن يمكن النظر للحديث وفق قاعدة التسامح بادلة السنن بالإضافة لما ورد بطرق أخرى وأخبار عديدة تفيد خلقهما ذكرها المجلسي في بحار الأنوار في باب: الجنة ونعيمها من كتاب العدل والمعاد.

وقال: وأما مكانهما فقد عرفت ان الأخبار تدل على أن الجنة فوق السماوات السبع، والنار في الأرض السابعة وعليه أكثر المسلمين)، ولعل نسبة هذا القول لأكثر المسلمين بلحاظ موضعهما لم تثبت خصوصاً وقد ورد وصف وبيان الجنة بقوله تعالى [عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]([302]).

إن الجنة والنار خلق وعالم مستقل من خلق الله عز وجل ينظر الى موضوع مكانهما وفق الكبرى الكلية وهي انه تعالى لا تستعصي عليه مسألة.

وأستدل عقلاً على عدم خلقهما بان خلقهما قبل يوم الجزاء عبث لا يليق بالحكيم كما في شرح المقاصد ويمكن أن يناقش من وجوه:

الأول : الوظائف العملية للمخلوقات أعم من أن تنحصر بزمان معين فقوله تعالى [يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا]([303]) يدل على وجود وظائف للنار في عالم البرزخ المصاحب لأيام الحياة الدنيا مع التباين في موضوعه وأنه خاص بمن مات من الناس.

الثاني : من  منافع وجودهما دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجنة، وإطلاعه على النار في المعراج.

الثالث : قوة التأثير والإنفعال في آيات البشارة بالجنة، والتخويف من النار.

الرابع : الأحكام والإعتبارات المتعلقة بالملائكة ووظائفهم الخاصة بأهل الأرض.

الخامس : عالم الخلق والتداخل بين عناصره أعم من أن تحيط به عقول البشر، كما أن الله سبحانه لا يسئل عما يفعل لمقام الربوبية          ولأنه الحكيم، ويمتنع القبيح عليه سبحانه.

السادس : روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بالف عام، فهم كل يوم يزدادون قوة الى قوتهم، ومالك هو رئيسهم.

وأخرج ابن مردويه والضياء المقدسي في صفة النار عن أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :  والذي نفسي بيده لقد خلقت زبانية جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا من قبضوا عليه بالنواصي والأقدام([304]).

السابع : ان خلق الجنة والنار مدرسة للناس وإنذار وحجة، فالناس إذا علموا بخلق الجنة والنار يكونون أكثر سعياً وإجتهاداً للوصول إلى الجنة وأكثر حذراً وخشية من دخول النار.

الثامن : في حديث الإسراء ورد الإخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوجود من يعذب في النار أوان الإسراء.

التاسع : ليس من مانع من إعداد الثواب والعقاب قبل الإستحقاق، كتهيئة الهدية للمتسابقين، أو احضار الجعالة للعامل، أو آلة العقاب للمذنب.

العاشر : خلق الجنة يفيد القطع بيوم القيامة وحتمية الحساب، وفيه منع للتردد والشك والريب.

الحادي عشر : تعتبر النصوص في المقام تبياناً وتفسيراً وإخباراً يترشح عنها العلم بخلقهما فلا معنى للتأويل وفق نواميس العقل الذي يتخلف عن ادراك فلسفة الخلق واسرار الموجودات والحكمة الإلهية في المخلوقات او المعارف في الإرادة التكوينية والتشريعية.

الثاني عشر : يساهم خلقهما في الصلاح والإصلاح والموعظة والإعتبار وترسيخ أحكام الدين وتهذيب النفوس وصلاح الأخلاق وتعاهد القيم.

وفي الخبر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرئيل قال: اطلعت في النار فرأيت وادياً في جهنم يغلي فقلت: يا مالك لمن هذا؟ فقال لثلاثة: المحتكرين، والمدمنين الخمر، والقوادين([305]).

والظاهر ان هذه الرؤية ليست في الإسراء إنما إخبار من جبرئيل لحالة موجودة لذا ترى الشريعة تؤكد على حرمة كل واحدة من هذه الثلاثة.

والأحتكار: حبس الطعام إنتظاراً به الغلاء مع حاجة الناس له وهو حرام، ويتحقق الإحتكار في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والدهن وما يحتاج إليه الناس من الطعام ولو كان هناك طعام غير هذه الخمسة يحتاج إليه الناس عرفاً فتشمله أدلة الإحتكار، كما في بعض البلدان يكون الغذاء الرئيسي فيها الرز أو الذرة ونحوها، والمحتكر يجبر من قبل الحاكم على البيع، ولا يعين له السعر، بل يكفي إخراج بضاعته إلى السوق وله ان يبيع بما شاء، نعم لو أجحف يجبر على تخفيض السعر من دون تسعير عليه، ويصدق عنوان الإحتكار في الخصب بمرور أربعين يوماً على حاجة الناس للطعام مع وجوده عند المحتكر، أما في الشدة والغلاء في ثلاثة ايام، وقد تختلف المدة بحسب الحاجة فتكون في مراتب القحط والابتلاء ساعات معدودات.

وقد جاءت الأخبار بالنهي عن الإحتكار، وبذل أولوا الأمر وأهل الحل والعقد في العالم الإسلامي الوسع في الحد منه واجتناب مقدماته.

وعن علي uفي كتابه إلى مالك الأشتر: فامنع من الإحتكار فان رسول الله صلى الله عليه وآله منع منه([306]).

  1. من رآهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعذبون في النار كما في بعض الأخبار بغض النظر عن ضعف سندها فيه عدة وجوه:

الأول : إنهم من المسلمين.

الثاني : من الملل الأخرى والأمم السابقة.

الثالث : إنهم من الأجناس السابقة لخلق آدم.

وعن محمد بن علي الباقر عليه السلام أنه قال: قد إنقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر)([307]).

الرابع : المعنى الأعم الشامل للوجوه الثلاثة المتقدمة.

الخامس : انه من عذاب البرزخ وليس من عذاب النار الذي يكون بعد النشور والحساب يوم القيامة.

السادس : انه على التمثيل أي انه يحصل للأجسام المثالية التي تتلبس فيها الأرواح قبل النشور وعودتها إلى الأجسام الأصلية.

الأقوى هو الخامس وأنه من عذاب البرزخ جاء للإعتبار والإتعاظ ولتمامية مدرسة الإسراء والمعراج وتحصيل غاياتها، وأنهم ليسوا من المسلمين بل من الأمم السابقة من ذرية آدم.

الإيمان بالمعراج

يعتبر المعراج من غرر المعجزات التي إنفرد بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحاز شرفها المسلمون جميعاً، وهو مدرسة تترشح عنها دروس وعبر ومواعظ بل وأحكام شرعية لذا وردت نصوص تؤكد على لزوم الإيمان بالمعراج، (وفي الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام: انه نهى عن انكار اربعة اشياء: المعراج، والمساءلة في القبر، وخلق الجنة والنار، والشفاعة.

وهل المراد الإيمان بها على نحو العموم الإستغراقي أم العموم البدلي الأقوى هو الأول أي يلزم الإيمان بكل واحد منها مستقلاً وعدم انكار أي منها.

 وثلاثة من أفراد الحديث تتعلق بمستقبل الإنسان وعالم ما بعد الموت، والمعراج وحده يتعلق بما مضى كمعجزة نبوية مما يدل على موضوعية المعراج في دائرة عقيدة التوحيد والإيمان بالمعاد.

 والمراد من المعراج هو صعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء ليلة الإسراء، والسنة بيان للقرآن فصحيح أن الآية تعلقت بالإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلا أن السنة توسع حديث الإسراء وتخبر عن تفاصيله، وتبين أنه يتكون من معراجين.

وليس من فصل بين الإسراء والمعراج من حيث الفعل وزمانه فقد بدأ المعراج من المسجد الأقصى بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في محاريب الأنبياء في المسجد الأقصى، والظاهر أن من نواميس النبوة والقواعد الكونية حصول المعراج إلى السماء من المسجد الأقصى، وكذا الهبوط سواء كان للنبي او الملك الا ان يشاء الله عز وجل.

 وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرب من الله سبحانه حتى سمع صرير قلمه وأنه إستجار ربه للحضور عنده، فقرب منه الى حد لم يبق بينه وبين ربه إلا قاب قوسين ولعلهم رجعوا إلى قوله تعالى [ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى]([308]).

وقد يراد قرب الدرجة , وإلا فقد ثبت في علم الصفات السلبية للخالق تعالى وما يجب أن يسلب عنه، أنه تعالى ليس في محل لأن المحل مقرون بالمادة والإفتقار إلى الحلول فيه، والله غني غير محتاج خلافاً للنسطورية مثلاً من النصارى الذين قالوا إنه حل في المسيح.

 كما أنه ليس في جهة يشار اليها باليد والحس ويسعى إليها عن قصد، فهو سبحانه في كل مكان أي بمعنى أنه مدبر وعالم بما يحصل في كل مكان، موجود فيه لأن الأشياء جميعاً مستجيبة له فهو سبحانه ليس في مكان، وكل مكان حاضر عنده، وإرتقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى سدرة المنتهى تشريف له ببلوغه المواضع التي لا يرقى إليها الملائكة المقربون.

 وسئل الإمام الصادق عليه السلام: وكم عرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: مرتين([309])، ويحتمل التعدد هنا أمرين:

  1.  المعنى الظاهري وهو تكرار المعراج.
  2. إنه مركب من الإسراء إلى المسجد الأقصى، والعروج الى السماء، فكل منها معراج.

ومنهم من أوصل مراحل المعراج إلى خمس:

الأول : من مكة إلى بيت المقدس.

الثاني : من بيت المقدس إلى سماء الدنيا.

الثالث : من السماء الدنيا إلى السماء السابعة.

الرابع : من السماء السابعة إلى سدرة المنتهى.

الخامس : من سدرة المنتهى إلى قاب قوسين.

الإسراء والهبوط

لقد بلغت الكمالات الإنسانية غايتها بالنبي محمد صلى الله عليه واله وسلم فهو سيد البشر، ومن صفات الله تعالى الثبوتية انه عالم، عالم بكل شيء، يعلم الحوادث والجزئيات قبل حدوثها بعلمه الازلي، وتغير المعلومات لا يعني أبداً تغير ذاته، لإن التغير في الإضافات وهي أمور اعتبارية لا أثر لها في العلم الذاتي.

ولقد وردت نصوص كثيرة تؤكد اقرار آدم uبمنزلة النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم مع سمو مرتبة آدم،وفوزه بالنفخ فيه من روح الله قال تعالى [فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا] ([310]).

 أخرج الطبراني في المعجم الصغير والحاكم وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل وابن عساكر عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه ، رفع رأسه إلى السماء فقال : أسألك بحق محمد إلا غفرت لي؟ فأوحى الله إليه : ومن محمد؟ فقال : تبارك اسمك . لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فعلمت أنه ليس أحد أعظم عندك قدراً ممن جعلت إسمه مع إسمك . فأوحى الله إليه : يا آدم انه آخر النبين من ذريتك ، ولولا هو ما خلقتك. ([311]).

وسيبقى موضوع هبوط آدم إلى الأرض نعمة متصلة عليه وعلى ذريته، وصحيح أن الهبوط بالقياس والمقارنة مع سكن الجنة حرمان وخسارة، إلا أن النظر إلى وجود آدم في الأرض بشكل مستقل بعيداً عن المقارنة يظهر رحمة الله تعالى في إكرام آدم وذريته وبداية الخلافة في الأرض وعمارتها بالعبادة والذكر، إلى جانب تهيئة أسباب الرزق فيها.

ولقد شرّف الله الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بآية من القرآن تدل على إلتقاء المسلمين على محبته قال تعالى [ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ..]([312]) الآية، إنه غاية التشريف والإكرام، ويتصل تفضيل النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم بالآخرة حيث الدرجة الرفيعة والمقام الموعود الذي ينعم الله عز وجل به عليه دون غيره.

وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة”([313])، إنه إخبار وبشارة وعنوان العز والرفعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين عامة اذ يلتقون بعرض واحد مع الأنبياء في الإنضمام للواء الحمد والنبوة.

ولعل في حديث الإسراء والتقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأنبياء الذين سبقوه مناسبة لتجديد ميثاق الأنبياء وعهدهم للإقرار بتقدمه في منازل العز والفخر ومراتب السمو.

وأفضلية النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم على الأنبياء مطلقاً وآدم uخاصة في باب المعجزة معروفة وظاهرة وكانت بياناً لدوام الإكرام وتمام الحجة، ففي الخرايج عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام ان يهودياً سأل الإمام علي uعن معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقابل معجزات الأنبياء فقال: هذا آدم أسجد الله له ملائكته فهل فعل بمحمد شيئاً مثل هذا؟ فقال علي عليه السلام: لقد كان ذلك ولكن أسجد الله لآدم ملائكته لم يكن سجود طاعة، أو إنهم عبدوا آدم من دون الله عز وجل، ولكن اعترافاً لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له، ومحمد uأعطي ما هو افضل من هذا، ان الله جل جلاله صلى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها، وتعبد المؤمنين بالصلاة عليه فهذا زيادة له يا يهودي([314]).

لقد اجمع المسلمون على أفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على آدم، وفي القرآن والسنة شواهد كثيرة ومصاديق تؤكد سيادته صلى الله عليه وآله وسلم.

وآدم uالذي جعله الله عز وجل خليفة في الأرض، إتخذ له خاتماً. وكان نقشه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذا الخاتم هبط معه من الجنة .

وفيه دلالات منها أن أبا البشر يدعو لسيد النبيين ويبشر برسالته، ويجعل موضوعها زينة له ووساماً، قال تعالى [ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ] ([315]).

لقد كان هبوط الإنسان للأرض مناسبة للإبتلاء والإمتحان والإختبار فجاء الإسراء بالإتجاه المعاكس للهبوط وكأنه عنوان رضاه تعالى على الإنسان وثبوت أهليته لخلافة الأرض، وهو بشارة دخول الجنة فهو الرزق الإلهي العاجل والإفاضة النورانية التي تبعث في الأرض السكينة والأمل والإعلان عن الصلة الوثيقة بين السماء والأرض، انه سفر روحي يصعد بالعبد إلى عالم الملكوت.

ويجتمع هذا الحدث مع أكل آدم uمن الشجرة ليظهر إستحقاق الإنسان للخلافة، والتوفيق الذي تغشاه للتمسك بأحكام الشريعة على الأرض وهو عنوان الغبطة والسعادة بنيل الدرجات العلى والإعانة على الإطلاع على اسرار السماء، والمعراج حجة تدل على تعلق روح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسماء، وأنه منقطع عن الدنيا، وفيه بيان لتعدد وجوه الفضل الإلهي في كيفية تلقي الوحي.

المعراج والملائكة

الملائكة: جمع ملك وأصله مالك، تركت الهمزة لكثرة الاستعمال، واكثر اللغويين على أنه مشتق من الألوكة، وهي الرسالة لأنها تولك في الفم وتنقل بعناية لسانية زائدة وتحتاج الى بيان، ولا يعني هذا أن الملائكة جميعهم رسل، بل هو إسم جنس جاءت الصفة لتلبس كثير منهم بالرسالة لقوله تعالى [ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسلاً وَمِنْ النَّاسِ. ]([316]).

والملائكة أجسام نورانية لطيفة وهو المشهور، لها أو لبعضها القدرة على تغيير أشكالها وهيئاتها بصور مختلفة، وهي دائبة على الطاعة ومسكنها السماوات، ولكنها قد تنزل إلى الأرض لأمر ما، كما في نزول جبرئيل uالمتكرر، وظهوره للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحياناً بصورة دحية الكلبي.

ومن وظائفهم العبادية وطاعتهم أنهم رسل لله أمناء، فهم يقومون بتبليغ الأنبياء بالوحي من غير تحريف أو سهو أو غفلة، وعن الامام جعفر الصادق uعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من شيء أكثر من الملائكة…([317]) الحديث.

وقيل أن الملائكة والجن والشياطين متحدون في النوع ومختلفون بالأفعال.

فالملائكة لا يفعلون إلا الخير.

والجن منهم من يفعل الخير ومنهم من يفعل الشر.

أما الشياطين فلا يفعلون إلا الشر.

والملائكة مع عظيم خلقهم فانهم لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، فغذاؤهم التسبيح ونسيم العرش لأنهم دائبون على العبادة منقطعون اليه تعالى، سائحون في آفاق آياته.

لقد كان الإسراء مناسبة كريمة لترى الملائكة فضل الله تعالى على بني آدم واكرامه للإنسان وبلوغ النبوة اعلى مراتبها وأسمى درجاتها وفيه بالدلالة التضمنية إخبار عن إستقرار عقيدة التوحيد وبدء مرحلة تغشي الإسلام الأرض ونيل الأهلية للإرتقاء في الإسلام.

وإختلف علماء الإسلام في أفضلية الملائكة على الأنبياء أو العكس، والأكثر قالوا بافضلية الأنبياء على الملائكة لأن الله عز وجل أمر الملائكة بالسجود لآدم.

 وقال المعتزلة بأن الملائكة العلوية أفضل، ولكل ادلته وإحتجاجه في مباحث كلامية وما يتعلق بالمقام ان القائل بافضلية النبي على الملك جاء في الإستدلال بأمرين:

الأول: ما روي بأن جبرئيل uأخذ بركاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى أركبه البراق ليلة المعراج ولما وصل إلى بعض المقامات تخلف عنه جبرئيل وقال: لو دنوت انملة لأحترقت([318])، أي ان جبرئيل يتعذر عليه التقدم إلى الموضع الذي بلغه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وأخذ جبرئيل uبركابه صلى الله عليه وآله وسلم من الوجوه التي إحتج بها على أفضلية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على آدم الذي أسجد الله له الملائكة وأنه تعالى صلى بنفسه على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمر الملائكة والمؤمنين أن يصلوا عليه والأمر بالسجود تأديباً، وأن السجود كان لأجل نور محمد الذي في جبهته والصلاة دائمة على النبي، وليس مرة واحدة كالسجود، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم:  كنت نبياً وآدم بين الماء والطين ([319]).

ورد القائل بأفضلية الملائكة بأنه خبر واحد، والمشهور على حجية خبر الواحد إذا كان معتبراً سنداً، وخبر الواحد هو الخبر الذي إتحد طريق سنده ولم يحصل منه القطع بثبوت مؤداه في قبال الخبر المتواتر الذي يرويه جماعة عن جماعة مع إمتناع تواطئهم على الكذب مما يفيد العلم.

هذا بالإضافة إلى قاعدة التسامح في أدلة السنن وعدم معارضة الحديث للكتاب والسنة لأن المقصود بالمعراج هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثاني: روي انه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ان لي وزيرين في السماء، وأشار الى جبرئيل وميكائيل([320])، وأشكل على الحديث سنداً وثبوتاً.

وهذا الحديث بيان للحديث الأول وان جبرئيل uتخلف عن منازل القرب التي تشرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوصول إليها، وأن الوزير أدنى رتبة ممن إستوزره،أو صار عنده وزير.

إن الحضور الملائكي في الإسراء بدأ من أول ساعاته فجبرئيل وميكائيل هما اللذان قاما باعداد الرحلة وتهيئة أسبابها، وفي الخبر المشهور عند المسلمين، والشهرة جابرة لضعف السند: أن جبرئيل اخذ بركاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى أركبه البراق ليلة المعراج.

وذكر أن جبرئيل نزل على الأنبياء على تباين في عدد المرات على وجوه:

الأول: إبراهيم uخمسين مرة.

الثاني: نزل على موسى uاربعمائة مرة.

الثالث: نزل على عيسى عشر مرات.

الرابع: نزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم أربعة وعشرين ألف مرة.

 وملائكة السماوات هم رسل الله تعالى إلى الأنبياء وكل ملك أمة في التسبيح والإجتهاد في الطاعة والإنقطاع إلى الذكر , قال تعالى [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ]([321]).

 ومن الملائكة حملة العرش وهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم لأن العرش أحاط بكل شيء من الخلائق، (وعن ميسرة: ورؤوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم وهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة، وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء السادسة، وهكذا إلى سماء الدنيا ولا يعني هذا أنهم مراتب في الطاعة والإمتثال بل ان القرب من العرش يترشح منه فزع أشد.

وليس للملائكة قوى شهوية أو بهيمية تطلب الغذاء وتشتاق إلى اللذات الحسية، وليس لهم نفس سبعية تجنح إلى الغضب والترفع بل إنهم منقطعون إلى التسبيح فلا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون.

وقال شطر كبير من الفلاسفة أن الملائكة ذوات مجردة ليست من الماديات، وقال المسلمون منهم أنها جواهر مجردة، أما المتكلمون منهم فقالوا بأنها أجسام لطيفة.

وغذاؤهم التسبيح ويعيشون بنسيم العرش، ومن ينقطع الى الله عز وجل ويسخر نفسه لطاعته فان الله عز وجل أعدّ له مقاماً حسناً ويرزقه رزقاً كريماً.

وتلك قاعدة كلية جارية في الخلائق على نحو العموم الإستغراقي.

لقد كان الإسراء عيداً للملائكة ومناسبة كريمة ليروا الثواب العاجل للإسلام المتمثل بعروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء وهو من أهل الدنيا وفي بدايات البعثة النبوية ليكون الإسراء مدداً وتوفيقاً وهداية ورشاداً للمسلمين عامة.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أقرب الخلق إلى الله جبريل وميكائيل وإسرافيل وهم منه مسيرة خمسين ألف سنة([322]).

فهو من أقرب الملائكة إلى الله، وذكر أنه من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم ولا صفتهم الا الله رب العالمين.

ان منزلة جبرئيل لا يختلف فيها اثنان من المليين، ويمثل عند المسلمين مقاماً سامياً فهو الواسطة الكريمة الذي نزل بالقرآن على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي (قال: ان الله تبارك وتعالى اختار من كل شيء أربعة، اختار من الملائكة جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت.

وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة بن خالد أن رجلاً قال : يا رسول الله أي الخلق أكرم على الله عز وجل، قال: لا أدري، فجاءه جبريل عليه السلام فقال: يا جبريل أي الخلق أكرم على الله، قال: لا أدري، فعرج جبريل ثم هبط، فقال: أكرم الخلق على الله جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، فأمَّا جبريل فصاحب الحرب وصاحب المرسلين، وأما ميكائيل فصاحب كل قطرة تسقط وكل ورقة تنبت وكل ورقة تسقط، وأما ملك الموت فهو موكل بقبض كل روح عبد في بر أو بحر، وأما إسرافيل فأمين الله بينه وبينهم([323]).

لقد أمر الله جبرئيل ليدمر مدائن لوط بعد شيوع الفاحشة بينهم وقال مخبراً عن قوته لما سأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها حملت المدائن من الأرضين السفلى الى السماء حتى سمع اهل السماء صياح ديكتهم، بريشة واحدة من جناحي انتظر امر ربي إلى الصبح، ومع هذا تراه uيتخلف عن الموضع الذي بلغه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السماء السابعة ولا يتقدمه في الصلاة ويبالغ في اكرامه وفي ذلك دعوة للناس جميعاً للإنقياد لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتباعه خصوصاً وان الله عز وجل قد زكى قوله وفعله ونسبه اليه بالواسطة قال تعالى [ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ]([324]).

وإذ بعث الله عز وجل جبرئيل وحده لهلاك قوم لوط ودمار ما يملكون، فانه سبحانه أنزل آلافاً من الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر وأحد ، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]([325])، وفيه مسائل:

الأولى: تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء.

الثانية: إنه من الشواهد على العناية الإلهية بالمسلمين.

الثالث:في كثرة عدد الملائكة الذين نزلوا لنصرة النبي والمؤمنين يوم بدر وأحد شاهد على منزلة النبي محمد عند الله، ومن مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ([326]).

الرابع: في المقارنة  في المقام إنذار للكفارمن التعدي على المسلمين وثغورهم، ودعوة للناس لدخول الإسلام.

وفي محاورة اليهود مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له ابن صوريا خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك و اتبعتك أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك قال جبريل، قال ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة و الحرب و ميكائيل ينزل باليسر و الرخاء فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك([327]).

وكان جبرئيل عند مجيئه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتمثل بصورة الصحابي دِحية الكلبي الذي كان جميلاً حسن الهيئة وبدا له مرتين بصورته الحقيقية وله ستمائة جناح ينتشر منها اللؤلؤ والياقوت، أو أن يأتيه بمثال يسمع الصوت ويرى الضوء.

ومنهم من إستدل على أفضلية الملائكة بقوله تعالى [وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ]([328]) فدخول الملائكة بالسلام والتحية والإكرام دليل على تقدمهم رتبة وشرفاً، والإستدلال غير تام وقد يكون العكس خلافه لأن أهل الجنة وصلوا إلى منازلها الرفيعة بعد الإمتحان والإختبار فجاء الملائكة معترفين بفضلهم وإستحقاقهم.

المعراج في القرآن

في حديث التلبية في الحج “لبيك ذا المعارج لبيك” والمعارج جمع معراج وهو المصــعد والمرقى، يقال: عرج يعرج عروجاً: صعد وإرتقى، قال تعالى [وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى]([329])،وأخرج عن ابن مسعود قال : لما أسريَ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج من الأرواح فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها { إذ يغشى السدرة ما يغشى } قال : فراش من ذهب قال : وأعطي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئاً من أمته المقحمات([330]).

ولقد كان لجبرئيل نزلات عديدة، ونزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها نزلتان كانتا بصورته الحقيقية وأنه بسط جناحيه وقد ستر الجانب الشرقي وسده وقد تقدم أن جبرئيل نزل على النبي أربعاً وعشرين ألف مرة.

وأختلف في المرئي في الآية أعلاه والظاهر أنه جبرئيل خصوصاً وان النزول والصعود من صفات الأجسام والمخلوقات والله منزه عن الحركة والسكون فالمعنى اللغوي للكلمة قرينة تنفي تعلق الرؤية بالباري تعالى في الإسراء وفي غيره بالإضافة إلى النصوص، والرؤية عند سدرة المنتهى لأن الظرف يعود للرائي كما يقال: أين رأيته.

 (والمنتهى) أي ذروة العلم والمعرفة التي تبلغها الخلائق مما يؤكد فضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وترجيحه على غيره من الأنبياء، والوصول إلى شجرة المنتهى درجة تفضيل لا تنال إلا بفضل الله تعالى فهو إرتقاء وصعود في سلم الكمالات ووسام عز على جبين كل مسلم وعنوان فخر لكل إنسان فقد حل الصعود والإرتقاء محل الهبوط، وأصبحت الحياة على الأرض قريبة من السماء.

إن قول الله تعالى [مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى]([331]) منع للتردد والشك والريبة في قبول حديث المعراج وتوكيد على توظيف البصر والبصير ة في الإسراء وانه صلى الله عليه وآله وسلم لم يغش عليه كما أصاب موسى uالصعقة، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يلتفت ولم يطلب شيئاً وراء السدرة وهو الأمر الذي يؤكده قوله تعالى [ وَمَا طَغَى ]([332]) وفيه تزكية له وبيان لأهليته للمعراج.

لقد ختمت آيات المعراج في سورة النجم بقوله تعالى [لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ]([333]) وهو توكيد لعدم رؤيته للباري عز وجل لإستحالتها وأن رؤية تلك الآيات الكبرى فضل عظيم لم ينله احد قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

 وهي دعوة للمسلمين والناس جميعاً إلى تلمس وقائع الإسراء وما حصل منها والوقوف عند كل آية دراسة وتحقيقاً وحفظاً ومناسبة لإستنباط الأحكام والمسائل وقيل أن المراد من بعض الآيات هنا (جبرئيل) ولكن الحصر بهذا المعنى حاجز وبرزخ دون إستثمار نعمة الإسراء في ميادين الفقه والأخلاق والإجتماع والتأريخ.

 وبما أن السنة النبوية الشريفة بيان وتفسير للقرآن فان الآيات التي رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم تؤكدها وتدل عليها السنة النبوية الشريفة ابتداء من مجئ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام للإسراء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وركوب البراق خصوصاً فانه رأى جبرئيل بهيئته وأجنحته على الأرض.

فالآية مطلقة ومجملة، والبيان والتفصيل ورد في السنة الفعلية والقولية والتقريرية فلا غرابة أن يكرر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث الإسراء في مناسبات متعددة للإعتبار والإتعاظ والإنتفاع، خصوصاً وأن تفضل الله تعالى برؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم الآيات ليست أمراً مطلوباً بذاته فحسب فاليقين قد ملأ قلبه.

فتلك الرؤية مقدمة وسبب لتثبيت لواء التوحيد في الأرض وعبارة عن تصديقات وشواهد تؤدي إلى صلاح الأمة.

وهي نكتة ووجه من وجوه الإسراء والمعراج يجب الوقوف عندها وإن لم يشر إليها لذا يجب ان يكون الإحتفال السنوي بالإسراء مدرسة وفرصة لإستظهار الأحكام والدروس والعبر من الإسراء، تشارك فيها الأمة ومؤسساتها المختلفة ولا يضر الإختلاف في تأريخ الإسراء سواء على القول بأنه وقع لثلاث ليالي بقين من شهر رمضان أو أنه وقع في اليوم السادس عشر منه أو في السابع والعشرين من شهر رجب.

وفي قوله تعالى [وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ]([334]) وورد في الآية عن إبن عباس أنه: لما أسري بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى المسجد الأقصى بعث الله له آدم وجميع المرسلين من ولده، فاذن جبريل ثم أقام فقال: يا محمد تقدم فصل بهم، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة، قال له جبرئيل عليه السلام: واسأل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا أسأل لأني لست شاكاً فيه([335]).

 وتعتبر الآية أعلاه سماوية النزول في مقابل الأرضي منه، وقال الرازي: (فهنا سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الأنبياء الذين كانوا قبله ممتنع، فكان المراد منه أنظر في هذه المسألة بعقلك وتدبر فيها بفهمك والله اعلم).

 وقال الرازي في معنى تأويل الآية: واسأل مؤمني أهل الكتاب أي أهل التوراة والإنجيل فانهم سيخبرونك انه لم يرد في دين أحد من الأنبياء عبادة الأصنام([336]).

والجواب عليه من وجوه:

الأول: الكلام العربي يحمل على ظاهره ولا ينتقل إلى المجاز إلا مع القرينة او تعذر الظاهر، ووردت الآية بسؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للرسل والأنبياء السابقين.

الثاني: ورود النصوص التي تدل على حصول اللقاء بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء في الإسراء والمعراج وهو أمر مشهور عند عموم المسلمين وفي كل زمان ومكان.

الثالث: هناك قاعدة قرآنية وهي أن الآية قد يكون صدرها في شيء ووسطها في شيء وآخرها في شيء وأمر آخر.

 فسؤاله صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء أعم من نفي الشرك، خصوصاً وأنه على يقين من ربه.

الرابع: السؤال مناسبة كريمة للإخبار عن أحوال الدنيا والحساب في عالم البرزخ.

الخامس: أراد الله عز وجل بيان منافع عظيمة من الإسراء، ومنها إخبار الأنبياء للمسلمين بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن عالم الآخرة، والمنزلة الرفيعة التي أعدّها الله لهم.

السادس: لقد بقى سؤال النبي محمد صلى إلى الأنبياء وثيقة وتراثاً عند المسلمين، وهو من المصاديق على أن المسلمين ورثة الأنبياء، وتلك منزلة لم تنلها أمة غيرهم، وفيه شاهد على أنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ([337]).

السابع: إنه دليل على أن القرآن فيه تبيان لكل شئ وفيه الإخبار عن عالم السماء ، قال تعالى [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ]([338])، وبيان حال المؤمنين بعد الموت، وسيلة مباركة لبعث الشوق في نفوسهم للقاء الله.

وفي الآية دلالة على تضمن الإسراء لأمور وأحكام أعم مما شاهده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوقائع والمشاهد لأن السؤال لا ينحصر بحال الإسراء بل هو أعم ويشمل الماضي والحاضر والمستقبل، وأحوال الناس والملك وغيرها.

وتدل على فضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسؤاله وإنتفاعه من الأنبياء وما واجههم في جهادهم، وكذا الإستماع لهم في نصائحهم واقوالهم لذا إقترح موسى uعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرجع للسؤال بتخفيف الصلاة عن المسلمين لينتفعوا منهم في شؤون الدين والدنيا ، وجاء في الآية التي سبقتها، [وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْألُونَ]([339]).

الإسراء والعلم

من الإعجاز القرآني إحاطة كلمات القرآن بالعلوم الحديثة إخباراً أو إشارة أوتحريضاً على البحث العلمي والتحقيق، ومن الآيات ان لا ترى تعارضاً بين القرآن والتطور العلمي الحديث مع ما فيه من المخترعات السريعة المذهلة ولا ينحصر الأمر بعدم التعارض فحسب وإن كان حجة تدل على سماوية القرآن، فهناك توافق والتقاء بينهما يعتبر إعلاناً متجدداً.

 وقد تكون آية اعجازية ترى لها ما يشبهها في بعض الجوانب في هذا الزمان ولكن من غير إعجاز بل بالتحصيل والسعي العلمي والإجتهاد لعدم إجتماع شرائط المعجزة فيها، فهي في هذا الزمان ليست أمراً خارقاً للعادة أو سالماً عن المعارضة أو مقروناً بالتحدي، ولكنه مصداق لفضل الله تعالى، والكبرى الكلية وهي ان الله عز وجل إذا أنزل نعمة فإنه أكرم من أن يرفعها، أي تأتي النعمة معجزة وكرامة، ثم يأتي المدد والإعانة الإلهية وما حصل عند الناس من علم مع بقاء المعجزة على حالها لإختلاف الموضوع وتبعية الحكم للموضوع قهراً.

فمن فضل الله تعالى على مريم عليها السلام إحضار فاكهة الصيف لها في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، كما قال تعالى [كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]([340]).

فجاءت الآن الزراعة المغطاة والنقل السريع للفاكهة والخضر، ووسائل الخزن والتجميد الحديثة كفضل نوعي على الناس يستحق الشكر لله تعالى، والكل يعلم انه ليس بمعجزة ولم يؤثر على اصل المعجزة لمريم عليها السلام.

ولم يرق إلى معشارها فان حديث الإسراء معجزة أراد الله عز وجل أن يحصل شطر منها بالعلم والتحصيل من غير ان يؤثر على أصل الإعجاز في الإسراء، وهو حجة دائمة تحول دون غرور الإنسان وزهوه فالعلوم الآن تنتقل بسرعة وترتقي في عالم السماء الدنيا ولا يزداد الناس معها إلا إقراراً بالتوحيد والرسالات، وهذا من الإعجاز المتجدد للقرآن وللآيات التي رزق الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من الإسراء ونحوه.

الإسراء والعلوم المعاصرة

لقد رافق الإسراء فرح وغبطة عمت السماء وسكانها من الملائكة مع نفر قليل من المؤمنين والمؤمنات في الأرض وواجهها بالرفض والسخرية الملأ من قريش وأصحاب الحل والعقد في مكة بلد الوحي والتنزيل والبيت الحرام الذي جعله الله أمناً ورحمة للناس ولابد من صلة بين هذا الجعل وبين الإسراء، ويأبى الله إلا ان يتم كلماته، فأصبحت ذكرى الإسراء عيداً عالمياً يعم أرجاء الأرض بمباهج ومواعظ وتكون التطورات العلمية الحديثة مناسبة لإستقراء الدروس من الإسراء وإثباتاً لحقيقته.

 فسياحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عالم الملكوت بالإعجاز فتحت آفاق العلم في أسرار السماء لما فيها من الحث على الإرتقاء والسعي للصعود في السماء والبحث في أسرار الفضاء.

وحديث الإسراء دليل على الحفظ الإلهي لرسالة الإسلام وتعباهد السماء لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن، فوسط الجحود والكفر والأمية والبدائية ووعثاء السفر ومشقة الطريق يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإخبار إعجازي وإعلان عن قطعه لمسيرة شهر بشطر ليلة واحدة من غير تردد أو تخوف من أقطاب الضلالة.

والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة المطابق للدعوى والمقرون بالتحدي السالم من المعارضة، وقد عدّ بعض علماء الإسلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ألف معجزة، الإسراء واحدة منها ولها خصوصية وموضوعية وتكشف عن أسرار متجددة في كل زمان.

وهل يدخل صعود الإنسان إلى القمر والكواكب الأخرى في المعجزة، العقلاء جميعاً يتفقون على النفي، ويقرون بوجود فوارق وتناف بينهما، إذ أن غزو الفضاء تم بالأسباب المادية والعلوم وسلسلة من الدراسات والمقدمات والإبتكارات وليس فيه خرق للأسباب المتعارفة في هذا الزمان والمستويات التي وصل اليها العلم.

لقد ظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث عن مواضيع الإسراء قال صلى الله عليه وآله وسلم حاكياً عن رب العزة من آذى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)([341]).

مما يدل على حرمة المؤمن والتحذير من إيذائه كما في أبناء ليلة الإسراء ومن على سبع سماوات، والحديث يبين المضامين الأخلاقية والعقائدية لحديث الإسراء.

تأريـخ الإسراء

كثيرة هي الدلالات التي جاء بها القرآن ظاهرة وباطنة لا يدرك دلالاتها إلا أهل البحث والعلم لما فيها من إشارات الإستنباط وأسباب البحث وبما يؤدي إلى تقوية الصلاة بين الدين والعلم ليعملا معاً على توجيه الناس نحو عبادة الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك آية الإسراء وحديثه وما ورد فيه من الوقائع التي أيدها العلم الحديث.

وذكر الراحلة التي ركبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أهمية التمسك بالأسباب مع ان ذلك لا يتنافى مع قدرته تعالى على الإسراء بعبده من غير وسيلة فتطوى له الأرض فيجد نفسه على باب المسجد الأقصى.

وكل صفة له كانت ذات معنى أثبت العلم الحديث صحتها والحاجة إليها فمثلاً قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم له جناحان يحفزانه من خلفه دلالة علمية وبرهان يوضح قوة الدفع كما تدفع المحركات النفاثة- اليوم- الطائرة إلى الأمام، وحتى إسمها (البراق) يعني سرعة الحركة وشدة بريقه ولابد أن سرعته تفوق سرعة الضوء التي يقدرها العلماء بثلثمائة ألف كيلو متر في الثانية.

 وقد اثبت العلماء أخيراً أن أمواج الجاذبية مثلاً تقطع المسافات دون ان تستغرق أي وقت يذكر.

 أما تاريخ الإسراء والمعراج وأوانه المبارك فقد اختلف فيه على أقوال:

الأول : في السنة الثانية للبعثة، عن إبن عباس.

الثاني : في السنة الثالثة.

الثالث : في السنة الخامسة.

الرابع : في السنة السادسة.

الخامس: قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر.

 وقيل غير ذلك، إن ولادة فاطمة الزهراء عليها السلام مدخل كريم لتحديد تأريخ ولادة الإسراء لما رواه الصادق uوأبو سعيد الخدري وأيضاً عن عائشة التي قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أسري بي إلى السماء أدخلت الجنة فوقعتُ على شجرة من أشجار الجنة لم أر في الجنة أحسن منها ولا أبيض ورقاً ولا أطيب ثمرة فتناولت من ثمرتها فأكلتها فصارت نطفة في صلبي فلما هبطت الى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة عليها السلام فإذا إشتقت إلى ريح الجنة شممت ريح فاطمة([342]).

لقد جعل الله عز وجل من ولادة الزهراء عليها السلام وصحبتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وثيقة أرضية وتكوينية على صحة واقعة الإسراء وشاهداً مصاحباً لحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أكل من ثمار الجنة ليلة الإسراء فكانت ولادتها كما في الرواية.

وعن إبن عباس وأبي سعيد الخدري وعن عائشة: “وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا إشتاق الى ريح الجنة شمّ ريح فاطمة”([343]).

وفيه إعجاز آخر وهو أن الله عز وجل أراد لنعمة الإسراء ان تكون باقية في الأرض بشخص فاطمة وسيرتها وسمو منزلتها، فقد نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السماء بأحكام الصلاة وبهدية شخصية كريمة هي الزهراء لتصبح وكأنها أم أبيها.

لقد كانت ولادة الزهراء عليها السلام آية تكوينية وعنواناً للصلة بين دار الإختبار ومنازل البقاء لبيان التوفيق في العمل.

هكذا تتجسد البركة وتنزل على أهل الأرض سحائب اليمن بولادة فاطمة الزهراء فتشرق ربوع الأرض مبتهجة بهذا النور الذي أراد الله له أن يكون مبعثاً للإيمان والعز والفضيلة، وفخراً متجدداً على الدوام لعموم المسلمين، فاتصال رحمته تعالى وحضورها في جميع جوانب الكيانات الأساسية للبناء العام لمجتمعاتهم وهياكل أسسها، إذ تفضل الله تعالى بجعل الجوهر الأساسي لشخص الزهراء من موجودات الجنة ليكون نبراساً للفضيلة وفيضاً ملكوتياً مباركاً.

 فقد جاء عن القطان عن السكري عن الجوهري عن ابن عمارة عن ابيه عن جابر عن أبي جعفر الإمام الباقر uعن جابر بن عبد الله قال: “قيل يا رسول الله إنك تلثم فاطمة وتلتزمها وتدنيها منك وتفعل بها ما لا تفعله بأحد من بناتك؟ فقال: ان جبرئيل uأتاني بتفاحة من تفاح الجنة فاكلتها فتحولت ماء في صلبي ثم واقعت خديجة فحملت بفاطمة فأنا أشم منها رائحة الجنة”([344])، فالرواية خالية من التحديد الزماني والموقع المكاني لتلك الأكلة المباركة.

إنها عناية سماوية وبداية مباركة لنشأة الزهراء السامية وتحث على التدبر والتريث الفكري للتأمل وإستنباط الدروس الموضوعية والحكمية الكريمة في المقام ووجوه المنافع فيها سواء تلك التي تتعلق بشخصية الزهراء عليها السلام، أو بأهل البيت خاصة أو ما يهم عمو م المسلمين والمسلمات وما يرتبط مباشرة بأولئك الذين عاصروا الزهراء وشاهدوا تلك الحياة القدسية التي كانت تنبعث منها أنوار الزهد والتقوى لتملأ جوانحهم وأركان حياتهم، إذ لم تكن كرامة التكوين محجوزة في ذلك القدر ومراحل الولادة، فالله واسع كريم يأبى إلا أن تكون رحمته متصلة دائمة تتغشى في بقائها ما هو خارج دائرة الحدوث وإن كانت ذات أفق رحب.

لقد أراد الله عز وجل لولادة الزهراء أن تبقى مناراً للأجيال وفخراً للإسلام كما يمكن جعل هذا الإكرام عنصراً في أسباب التفضيل على من تقدمت في زمانها ممن إصطفى الله كمريم بنت عمران عليها السلام.

وذكر أنها ولدت في آخر جزء من ليلة الجمعة، وهي من أفضل الساعات وفيها يستجاب الدعاء.

وكما أختلف في تأريخ الإسراء أختلف في سنة ولادة الزهراء فقد ذكرت بعض الروايات أنها ولدت سنة خمس من المبعث ففي الخبر عن الباقر u قال : “ولدت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخمس سنين وتوفيت ولها ثماني عشرة سنة وخمسة وسبعون يوماً”([345]).

ولا غرابة ان يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ساعة مغادرته الدنيا للزهراء وبعد أن رآها تبكي: أبشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي فانك أول من يلحق بي من أهل بيتي([346]).

وكأن البلاء الذي يصيببها مركب من فقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنقطاع موضوع الوحي بعد فقد شخصه الكريم وهو عنوان الصلة بين الأرض والسماء، وبه تجتمع خصائص نشأتها المباركة، وكان إخباره لها باللحوق به بشارة وسكينة ونوع مواساة ولعله من مضامين حديث البضعة وأن الحديث فيه إخبار عن سرعة لحوقها به صلى الله عليه وآله وسلم عند إنقطاعه إلى الرفيق الأعلى ونيلها أعلى المقامات.

لقد خص النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزهراء عليها السلام بحديث قرب أجله وفيه إكرام لها ونوع مواساة ودعوة للإستعداد للآخرة والتزود من الدنيا بالصالحات، فقد روى البخاري بسنده عن عائشة انها قالت: “ان كنا ازواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنده جميعاً لم تغادر منا واحدة، فاقبلت فاطمة سلام الله عليها تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

فلما رآها رحب بها ، وقال: مرحباً بابنتي ثم أجلسها عن يمينه او عن شماله ثم سارها فبكت بكاء شديداً، فلما رأى حزنها سارها الثانية، فاذا هي تضحك فقلت لها: انا من بين نسائه خصك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسر من بيننا ثم انت تبكين.

 فلما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سألتها عما سارها قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سره.

 فلما توفي قلت لها: عزمت عليك لما أخبرتني؟ قالت: أما الآن فنعم، فاخبرتني.

 قالت: أما حين سارني في الأمر الأول، فانه أخبرني ان جبرئيل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وانه قد عارضه به العام مرتين ولا أرى الأجل إلا قد إقترب إلي وأصبري فاني نعم السلف أنا لك، قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية، قال: يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين او سيدة نساء هذه الأمة”([347]).

ولقد وردت في الإسراء أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر عن جم غفير من الصحابة كالإمام علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وبريدة وحذيفة بن اليمان وصهيب وجابر بن عبد الله وسهل بن سعد وأبي بن كعب وأبي ذر وأبي الحمراء وأبي الدرداء وعروة وعائشة وأم سلمة وأم هاني وأسماء بنت أبي بكر كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم([348]).

إن تواتر الحديث يبين أهمية حديث الإسراء وما فيه من عبر وعظات يجب أن تنتفع منها الإنسانية ولتغدو باب هدى ورحمة وسعي للفوز بدار النعيم ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقيت ابراهيم ليلة اسري بي فقال يا محمد إقرأ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غرسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله واكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله([349]).

إنها بشارة مركبة، إذ تدل بالدلالة التضمنية على أن الجنة مستقر المسلمين، ويمكن إعتبارها مصداقاً لقوله تعالى [ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ ]([350]).

الإسراء عقلاً

العقل جوهر مجرد قائم بذاته ومفارق للأجسام، وإختلف الأصوليون هل للعقل حكم مستقل بحسن الشئ أو قبحه أو لا، وأسست على هذا القول قاعدة تسمى قاعدة التحسين والتقبيح العقلين وتقدم ذكرها وان كانت من مسائل علم الكلام ولكنها بحسب اللحاظ مما يقع في طريق الحكم الشرعي.

والعقل يدرك لزوم الإمتثال أو الإمتناع، وأن المطيع يستحق المدح والثناء بخلاف العاصي وفاعل القبيح فانه يستحق الذم عقلاً.

وقيل أن الاشاعرة نفوا الأمرين أي قاعدة الحسن والقبح العقليين وهي من الادراك، والثاني إدراك العقل لمدح فاعل الحسن وأن فاعل القبيح يستحق الذم وهو من الحكم، والإجماع على الإقرار بمعرفة موضوعية العقل في الإدراك والتكليف والعلم بالفرائض والنواهي.

وتعتبر نعمة العقل من أعظم النعم على الإنسان وفيها حجة على الإنسان بلزوم توظيفها أحسن توظيف في ترسيخ الأحكام الشرعية والعمل بالسنن وإتيان الصالحات .

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أول ما خلق الله تعالى العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر([351]).

لقد جعل الله عزوجل العقل رسولاً دائماً وهو يلح بقبول الإسراء بالجسد للكبرى، وهي أن القرآن كتاب نازل من عند الله تعالى وأنه حق، والصغرى وهي أن القرآن جاء بالإسراء ببيان واضح يدل في الظاهر على حصوله بالجسد بالإضافة الى النصوص التي تدل ضمن سياقها ومضامينها على حصوله بالجسد وإلتقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأنبياء الآخرين.

واستدل بعضهم في موضوع الإسراء وانه بالروح باستبعاد وصعود الجسم الكثيف وأن صعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجسمه ممتنع عقلاً، ويناقش من وجوه:

الأول : الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل، وإذ كانت هذه الملازمة مأخوذة من دليل عقلي فهي ملازمة عقلية، وفي علم الأصول مباحث مستقلة لها تثبت الكبريات العقلية التي ترد في مقدمات الحكم الشرعي وإثباته.

الثاني : العقل لا يمتنع عن قبول صعود الجسم الكثيف لأن الصعود والإسراء لم يحصل بالأسباب العادية بل بالإعجاز والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي السالم من المعارضة، فالإسراء بشخص النبي صلى الله وعليه وآله وسلم الشريف وبدنه معجزة تفوق التصديق العقلي، وليس للعقل إلا التسليم بالتنزيل، وهذا التسليم من التكليف، ومن الشكر لله على نعمة العقل والإسراء.

الثالث : أظهر الارتقاء العلمي في هذا الزمان إمكان صعود الجسم الكثيف في الفضاء وانه غير ممتنع عقلاً مع تحقق أسبابه المادية.

وبذا يكون التطور التقني عوناً على إثبات الحقائق القرآنية ويكون فضحاً لأولئك الذين أشكلوا على علوم القرآن، وهذا وجه من وجوه الإعجاز القرآني، وهذه الحقائق مقدمة وطريق يفتح آفاق العلم، وتتمثل صيغ الإشكال التي ذكرها بعضهم بثلاثة وجوه:

الأول : إن صعود الجرم الثقيل إلى السماوات غير معقول.

الثاني : إن الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة.

الثالث : إن الصعود إلى السماوات يوجب إنخراق الأفلاك.

وبالنسبة للأول والثاني فان العلم الحديث هو أدنى بمراتب من الإعجاز، وموضوع مستقل يختلف عن الإعجاز الذي له مميزات خارقة لعقول البشر ويأتي بلحاظ العلم الحديث أيضاً فقد صعدت الطائرات والمركبات الفضائية في عالم السماء.

إن صعود أهل العلوم الحديثة في طبقات السماء وإلى الكواكب لا يصل بهم الا حيث يأذن الله، ثم يتوقف العلم وقدرة البشر بخلاف إرتقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السماوات العلى، اما الثالث فان السماء والكواكب مخلوقات مستجيبة لأمر الله تعالى.

إسراء الأنبياء

قيل إن إدريس هو أول الأنبياء من أولاد آدم الذي عرج به إلى السماء، وهو أول نبي خط بالقلم، وأول من نظر في النجوم، وعلم الحساب بتعريف سماوي، وكان رجلاً صالحاً يرفع له من العمل ما يرفع لأهل الأرض، فاستأذن الملك الذي كان يصعد إليه عمله ربه في زيارته فأذن له، وحمله الملك على جناحه فصعد به إلى السماء وقيل ان ملك الموت هو الذي زاره، وأراه النار ثم أدخله الجنة بأمر الله ثم قال له أخرج لنرجع فقال [وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ]([352]) فلا أخرج منها، فقال الله سبحانه للملك دعه يلبث فيها.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر وعبد الوهاب، عن عوف، عن أسامة: أن إبراهيم خليل الرّحمن حدَّث نفسه أنه أرحمُ الخلق، وأن الله رفعه حتى أشرفَ على أهل الأرض، فأبصر أعمالهم. فلما رآهم يعملون بالمعاصي قال: اللهم دمِّر عليهم! فقال له ربه: أنا أرحم بعبادي منك، اهبطْ، فلعلهم أن يتوبوا إليّ ويُراجِعوا ([353]).

ومع دلالة الحديث على مكانة ابراهيم بين الأنبياء وعلى جهاده في سبيل الله وسعيه للصلاح، فانه في مفهومه وبلحاظ المقارنة مع إسراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم تتضح بجلاء وجوه الرأفة والرحمة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتي أدت إلى هداية الناس فما أخبر عنه الله تعالى في هذا الحديث “فلعلهم يتوبوا او يرجعوا أو أستخرج من صلبهم ولداً صالحاً” فان الشطر الأخير تحقق بإتباع الناس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهدايتهم بالإسلام.

أما سليمان فان الله سخر له الرياح لتنقله إلى الأماكن البعيدة في ساعات قليلة وعندما تشتد تنتقل به إلى حيث يريد في لحظات معدودات ولقد أحضر وزيره آصف بن برخيا بما آتاه الله من علم عرش ملكة سبأ من اليمن إلى بلاد الشام بأقل من لمح البصر سواء بطي الأرض او بخسف الأرض بينه وبين سرير بلقيس فتناوله بيده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين كما في الخبر، أو أنه مد بصره ثم مد يده فاذا هو ممثل بين يديه وقال بيده هكذا فاذا هو بعرش أميرة سبأ [ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ]([354]).

ولم يكن سليمان uيعجز عن إحضاره بنفسه وبدون الإستعانة بآصف وغيره، ولكنه أراد أن يري جنوده العلوم التي عند آصف لكي يدركوا أنه الحجة من بعده لتبقى كلمة التوحيد وسيادتها، ولمنع الفرقة والإنشقاق كما بيّن داود uامامة سليمان لبني إسرائيل.

ولم يكن عند آصف الا حرفاً واحداً من الاسم الأعظم فتكلم به وأحضر العرش.

وعند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اثنان وسبعون حرفاً منه، وتجد شواهد هذا في القرآن فالآية الكريمة تقول [قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ]([355]) بينما قال تعالى في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم [كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ]([356])، وفي بعض الروايات انه الإمام علي عليه السلام.

ويشير القرآن إلى معراج مستمر للسيد المسيح [وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ]([357])، وتقول المسيحية بقيامة المسيح بعد مضي ثلاثة أيام على وفاته كما في إنجيل مرقص وإنجيل لوقا.

ولما دخل دحية الكلبي([358])، على قيصر مبعوثاً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه كتاب معنون من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم ويدعوه للإسلام جمع الأساقفة والبطارقة وأرسل يبتغي قوماً يسألهم مما يدل على العناية الفائقة التي أولاها لكتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إما للأخبار التي وردت في كتبهم عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو لما تناقله الناس عن معجزاته وإزدياد عدد المسلمين وإنتصارهم في معارك الإسلام الأول بدر وأحد والخندق لأن دحية وفد على قيصر رسولاً من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سنة ست للهجرة.

ومن الآيات في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الحسرة تصاحب وتطارد أعداءه فبعد أن كان أبو سفيان يجهز الجيوش الكبيرة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإذ ا هو خلال أشهر يرى مبعوثه في قصر قيصر يدعوه للإسلام، ويرسل رجال القصر على شهود من غير تعيين بشخص أو جماعة فيؤتى بأبي سفيان وأصحابه لأنهم من قوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

فيأتي أبو سفيان بحجة وشاهد يريد منه الإنتقاص من النبي ونبوته، وهو حديث الإسراء، فيكون الرد تصديق الإسراء من حاشية قيصر وكبار رجاله بالآية الحسية والدليل العملي.

فجمع له أبو سفيان وأصحابه فقال اخبرني عن هذا الرجل الذي بعث فيكم فلم يأن ان يصغر أمره، يقول أبو سفيان حتى ذكرت قوله ليلة أسري به قلت: ايها الملك أنا أخبرك عنه خبراً تعرف انه قد كذب قال: وما هو قلت: انه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيليا ورجع الينا في تلك الليلة قبل الصباح قال وبطريق ايليا عند رأس قيصر.

قال البطريق: قد علمت تلك الليلة فنظر إليه قيصر فقال: ما علمت بهذا قال: إني كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني فاستعنت عليه عمالي ومن يحضرني كلهم فعالجته فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول به جبلاً فدعوت الناجرة فنظروا اليه فقالوا: سقط عليه النجاف والبنيان فلا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى فرجعت وتركته مفتوحاً.

فلما أصبحت غدوت فإذا الحجر الذي من زاوية الباب مثقوب وإذا فيه اثر مربط الدابة فقلت لأصحابي ما حبس هذا الباب الليلة الا على نبي فقد صلى الليلة في مسجدنا([359]).

لقد إختار الله لنبيه كرامة الإسراء وكذلك أكابر الأنبياء والأولى والأنفع هو التسليم بقدرة الله عز وجل وحق النبوة عنده، إذ أن أكثر أرباب الملل والنحل يقرون بوجود إبليس وأنه يقوم بالوسوسة في قلوب بني آدم وتمكنه من الحركة بسرعة ليحضر هنا وهناك.

لقد إجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة الى الإسلام مع كثرة ما لاقاه من مشركي قريش والكفار عموماً من الأذى حتى قال: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)([360]).

 أي بالإمكان معرفة الأذى الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة طرق:

الأول: إخبار الأنبياء السابقين.

الثاني: السيرة والوقائع التأريخية.

الثالث: إخبار النبي صلى الله عليه وأله وسلم.

ولابد من معرفة الدروس والخصائص التي يتصف بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الأنبياء السابقين سواء فيما وصل إليه مما لم يبلغه غيره من رسول او ملك مقرب او في آية الإسراء ذاتها، وعن الإمام جعفر الصادق: إن جبرئيل إحتمله حتى انتهى به الى مكان من السماء ثم تركه وقال له ما وطأ نبي قط مكانك”([361]).

وحينما يكون الحديث عن صعود الأنبياء السابقين لم يقل أحد إنه بالروح فلماذا عند الحديث عن سيدهم وخاتمهم وأعظمهم منزلة عند الله يقول بعضهم اننا لا نؤمن إلا بالمحسوس وأن الإسراء كان بالروح، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوتي ما أعطي للأنبياء السابقين وهم صعدوا إلى السماء بالجسد والروح، فتكون النتيجة وفق القياس الإقتراني أنه صلى الله عليه وآله وسلم صعد بالجسد والروح من باب الأولوية قال تعالى [وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]([362]).

بحث عرفاني

للإسراء أبعاد روحية ووجدانية وسلوكية، إنه عنوان تطهير للذات، وإزالة للكدورات وتصفية للقلب و تجريد للباطن، وطرد لمادية الطبيعة وسيطرة النفس الشهوانية والحيوانية والدرن المترشح عن حالة التعامل اليومي، وفيه تخليص من طاعة الهوى واغواء الشيطان.

والإسراء عنوان محبة الله عزوجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودرجة هذه المحبة، وفيه دعوة للناس للإرتقاء عن حضيض الحيوانية وهموم البشرية ليصبح سموا وصعودا في مدارك العقل وسلم الكمالات بملاك المعرفة والإخلاص، وتشريفاً للإنسانية بسيادة العلم وهياكل التقوى، وإنذاراً للناس جميعاً بقرب يوم الحساب، والإنذار هو الإخبار مع التخويف.

إنه حلقة الإتصال والتداخل بين الإنسان وعالم الملكوت وتدل على فتح ابواب التقارب بين الإنسان والملك بميادين المعرفة، وفي الإسراء إرتفاع للحجب عن القلوب وتهذيب للنفوس، وتحد وإذابة للمشاق الجسمانية وغلبة لآثار الملكوت على النفس الإنسانية، وطرد للغفلات ومنع لسيطرتها إو إحتلالها بقعة في وقت وعمل المسلم.

والإسراء إشعاع ينفذ إلى القلوب وينور بواطن المسلم بأنوار الهداية ويمكن إعتباره حضوراً سماوياً في المجتمع الإسلامي يدفع الأفراد إلى الحق ويحول دون التردي في هاوية الضلالة والشرك، وهو توكيد على قرب عالم الآخرة وسياحة الروح في السماء، قال تعالى [يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا] ([363])، ليأتي عروج النبي في السماء شاهداً على إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجديداً لسكن آدم في الجنة، وهو كالوعد والمثال في سكن المؤمنين الجنة.

وسيبقى الإسراء درساً حياً ومستديما في بعث المحبة الإيمانية وإستغراقها لجميع المسلمين لأنه تزكية لهم وثناء عليهم وإعانة على أدائهم الفرائض والمناسك لما فيه من الصفاء والتقوى، وطرد لظلمة الدنيا وحاجز دون اللذة وشوائب المشاغل والحاجات الجسمية.

إنه من عالم العقل والفكر ومدخل لإنتفاء الجهالة وأثر الشيطان، إذ يشعر المسلم بحصة له في السماء ويتلقى منها الأحكام الشرعية والأخلاقية مباشرة ومن غير واسطة كعنوان لعز المسلمين وإكرامهم، وحفاوة أهل السماء بهم وبنبيهم وبأحكامهم.

إنه رياضة في سماء المعرفة الإلهية، ومدرسة جامعة في الأذكار والأوراد وهو يوم الأهلية، أهلية الإنسان للإرتقاء في سلم الملكوت بسلطان الاخلاص لله عز وجل، وفوز المسلمين بكنوز المعرفة إذ أن آثار العبادة تنعكس على القلب.

 وفي الإسراء عنوان إضافي وهو وجود منافع وآثار لأفعال الجوارح في إتساع المعارف الإنسانية وكيف أنها تنور القلوب وتصلح النفوس.

 فأي شرف أعظم من الإرتقاء في عالم الملكوت للنزول بثروة وتجارة لن تبور، وأحكام في العبادات من أجل تكميل النفوس، وتهذيبها مع معرفة للحق وتعظيمه وتوحيده.

وهو قوة روحية تبعث أنوارها في أركان البدن، لقد أراد الله عز وجل للإسراء أن يصبح تصفية للروح ودرءً لوساوس الشيطان والهواجس النفسانية فلا غرابة أن يتلقى فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم احكام الصلاة ويلتقي بالملائكة والأنبياء، ويرى ما يواجه الكفار والمجرمين من وجوه العذاب.

إنه تجريد عن جهات الجسم والمكان في الدنيا وحوداث الزمان فلقد أراد الله للمسلم أن يسمع كلامه سماعاً قلبياً روحياً وأن يشعر بقربه من الحضرة الإلهية لذا ترى نفسك وأنت تقرأ القرآن تحس بإرتقائك في عالم المعرفة وتسمو في مراتب النفس وكمالات الروح وكأن قلبك قد تعلق بموضوع التنزيل.

فهو اسراء بالواسطة أي بقراءة كلام الله يصبح الإنسان من ضمن دائرة إشعاع أنوار الحضرة الإلهية، ولا يرى في الوجود إلا هو سبحانه ويغلب سلطان العقيدة والإيمان على النفس وتنطلق سائمة في مواطن الآخرة وكأنها تستقر بالجنة حينما يمر على آية من آياتها، ويخاف ويحزن ويضطرب عندما يقرأ آية تجسد أهوال النار وكأنه واردها.

وفي الإسراء خلق لحال الإستعداد والتلقي للعلوم لتكون مضامينه وأحكامه وما نزل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المعارف والعلوم والأحكام قوة في العقيدة وكمالاً في النفس والمؤسسات الإسلامية وطلباً للصعود والإرتقاء العقائدي، وطرداً للجهل والوحشة والضعف.

إن الإسراء عنوان محبة للمعشوق وسعي للعكوف على باب رحمته وورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “تخلقوا بأخلاق الله تعالى”([364])، ليبقى الإنسان في جوار حضرة الكمال والجلال متخلصاً من سنخ الظلمات، وحب المال والشهوات وما يؤدي إلى الإمتناع الإنطباقي عن تلقي رحمة الله.

 لقد كان الإسراء عنوان فخر وعز للمؤمنين، ومدرسة عرفانية مستقلة تفيض بسعادات ذات مراتب ووجوه متعددة وتبحث عن الكمالات النفسانية وهو حرز وواقية للمؤمن.

وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: إذا هم العبد بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، وإذا هم بسيئة ثم عملها كتبت له سيئة.

وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يروي عن ربه ، من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة إلى أضعاب كثيرة ، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله ، ولا يهلك على الله إلا هالك ([365])،وعن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يروي عن ربه، عز وجل، قال: “أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر”. لم يخرجوه([366]).

الإسراء وبيت المقدس

من إعجاز القرآن الغيري مصاديق عديدة منبسطة على كل زمان، ومنها المعاني الموضوعية لآياته الإعجازية إذ نجد المسألة الإبتلائية التي تهم كل مسلم بل وكل انسان موجودة في القرآن ومذكورة بما يصلح للبحث والدراسة والإستنباط والإستنتاج لتتأكد حقيقة ثابتة وهي كون القرآن [ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]([367]).

والإعجاز في بيت المقدس مركب، لما تعلق به من آيات في القرآن ولما له من منزلة عند المسلمين تجسدت بجعله القبلة الأولى لهم مع أن بداية البعثة النبوية والتنزيل بأشرف بقعة وهي مكة وإسـتمر إتخاذه قبلة لمدة سبعة عشر شهراً من حين هجرة النبي والمسلمين الى المدينة، وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل ذلك إذا صلى في مكة جعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس.

وأختلف في التوجه إلى بيت القدس هل كان فرضـاً لا يصح غيره أم كان على نحو التخيير، وعن إبن عباس أنه كان فرضاً محققاً بلا تخيير وعنه أيضاً أن أمر القبلة أول ما نسخ في القرآن ولكن النسخ في الإصطلاح يعني وجود الناسخ والمنسوخ في القرآن كآية منه تعالى.

وصـحيح أن قوله تعالى [ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]([368])، يدل في مفهومه على النسخ كفعل وهو ثابت عن طريق الإخبار والســيرة.

ومن الإعجاز ان القرآن خلد بيت المقدس كموضع عرج النبي منه إلى السماء في دلالة على موضوعية له في معراج الأنبياء، ومهبط الملائكة بعد أن صلى فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

أن الإسراء إلى بيت المقدس بجسد وروح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم العروج به إلى السماء يعطي منزلة وشأناً إضافياً لبيت المقدس في إتصال الأرض بالسماء وعالم الأمر، والمسلمون هم حملة لواء التوحيد وورثة الأرض بالإضافة إلى أهميته واعتباره في عباداتهم بان كان القبلة الأولى.

لقد أخبر القرآن عن إحاطة بيت المقدس بالبركة السماوية الأولى وأخبر عن إحاطة بيت المقدس بالبركة السماوية بقوله تعالى [الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] ([369])، وفي الخبر ان البركة تتعلق بالثمار والأشجار فاهله لا يحتاجون الى ان يجلب لهم من بلاد أخرى.

ومن أفراد البركة كونه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة، وإن البركة بمصداقها الأهم تكون بالمسلمين وبشعائر الإسلام وإقامة الجمعة والجماعة في كل وقت، وفي هذا إخبار عن دوام وجود المسلمين والإسلام فيه بيسر كما حصـل في المرة الأولى.

 فالآية بشارة لنا في فتحه ومن البركة المحبة والإستقرار والهداية التي يجب ان تكون في بقاعه كما أن في الآية مواساة للمسلمين وتخفيفاً لما يتعرض له بيت المقدس، ومن الأذى والحجب أحياناً من الوصول إليه، خصوصاً وأن حديث الأسراء في مفهومه دعوة لزيارته، والمواساة تجمع هنا مع البشارة بالفتح كما في قوله تعالى [فإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً]([370]).

القرآن معنا في السراء والضراء، والكاف للتشبيه فمن أراد أن يرى صورة الفتح وحساباته فليرجع الى اول دخول للمسلمين إلى بيت المقدس ودخول المسجد يعني فتح المدينة ودخول البلد كما أشار بالمسجد الحرام إلى الحرم ومعناه وليستولوا على البلد لأنه لا يمكنهم دخول المسجد إلا بعد الإستيلاء، ولعل ما ذكروه قياس مع الفارق فمكة كان يحكمها الكفار من قريش والمؤمنون هاجروا منها.

أما بيت المقدس فالإخبار الإلهي عن نشر البركة حوله بالمسلمين والشعائر الإسلامية والوجود الإسلامي موجود فيه إبتداء وإستدامة قال تعالى في الإسراء [ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ]([371])، وفيه نوع تخفيف عن المسلمين ومدد ومقدمة للنصر.

إن التوكيد القرآني على ما لبيت المقدس من الشأن آية اعجازية حالت دون الإفتراء وإدعاء قلة إهتمام المسلمين به، فقد أولاه المســــلمون عناية خاصة في جهادهم ومناسكهم لذا ترى السعي المتصل له فتحاً وعمارة وزيارة وسكناً منذ القرن الأول الهجري، ثم قام عبد الملك بن مروان في القرن الثاني ببناء قبة الصخرة، وصحيح أن ذلك تم عندما سيطر عبد الله بن الزبير على مكة والبيت الحرام إلا أنه لا يمنع من الدلالة عناية المسلمين به، وفيه يقول الفرزدق:

وبَيْتانِ بَيْتُ الله نَحن وُلاتُه

                                وبَيْتٌ بأَعْلى إِيلِياءَ مُشَرَّف([372]).

ونسب الى الزهري انه لما قتل الحسين u لم يبق ببيت المقدس حصاة إلا وجد تحتها دم عبيط([373])، وبذل المسلمون جهوداً كبيرة وأنفقوا أموالا كثيرة لبناء وعمارة المسجد الأقصى لما حدث زلزال كبير عام 424 هجري , ولا يزال قسم من بنائه ذاك قائماً ويتعاهده المسلمون .

ومن الأخبار أن المهدي ينزل ببيت المقدس ويصلي فيه، والعرب ممن سبقوا غيرهم في سكن هذه البلاد وباسمهم سميت فلسطين- بكسر الفاء ثم فتح اللام- ومن الإخطاء الشائعة ان الناس تقرأها بكسر اللام، قال إبن منظور:(فلسطين الكوة المعروفة فيما بين الأردن وديار مصر، حماها الله) ([374]).

وأختلف في تسميتها على أقوال:

الأول : نسبة إلى فلسطين بن سام بن ار بن سام بن نوح.

الثاني : بإسم فلسطين بن كلثوم من ولد فلان بن نوح.

الثالث : بإسم فلسطين بن كسلوخين بن صدقيا بن كنعان بن حام بن نوح.

الرابع : إن شعباً من شعوب البحر المتوسط يسمى بالفلسطينيين العرب هاجر اليها.

وقدر بعضهم هجرة هذه القبائل من جزيرة العرب الى هذه الأصقاع وإلى أرض الشام خاصة بالمدة المحصورة بين (3500-2500) قبل الميلاد وكانوا عبارة عن قبائل أشباه رحل، إن هذه الهجرة تدل على أن البلاد ذات أهمية جغرافية وأنها ذات حضارة عريقة كجزء من البركة التي جعلها الله حول المسجد الأقصى لا على نحو الإستصحاب القهقري لما قبل أيام نزول القرآن بل لأن نعم الله تعالى متصلة، وأن ذلك السكن والبركة موجودان قبل أن يخلق بنو اسرائيل إذ أن التوراة تجعل ولادة أبناء يعقوب وهم أسباط أسرائيل الإثنا عشر نحو سنة الف وثمانمائة قبل الميلاد.

ومن البركات توالي بعثة الأنبياء في تلك البقع المباركة وشيوع الإيمان ومضامين التوحيد فيها.

وفي معركة بدر حيث كان المشركون نحو ثلاثة أضعاف المسلمين وأكثر عدة، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي uاعطني قبضة من حصا الوادي فناوله كفاً من حصى عليه تراب، فرمى به في وجوه القوم، وقال شاهت الوجوه وكانت بداية هزيمة المشركين وفزعهم، ونزل قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكنَّ اللَّهَ رَمَى]([375]).

الإسراء بالبدن

هل حصل الإسراء بالبدن وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسري به فعلاً وواقعاً وإنتقل شخصه الكريم إلى المسجد الأقصى وهو ظاهر الآية الكريمة وظواهر القرآن حجة.

وإجماع علماء المسلمين على حصول الإسراء بالجسد والروح، وليس بالروح فقط ولا عبرة بالشاذ والنادر.

ولكن القول بأن الإسراء بالروح وحدها ليس بالجديد فقد نسب إلى عائشة ومعاوية وحذيفة وروي عنه انه قال: ذلك رؤيا، وأنه ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما أسري بروحه.

وقال به بعض المعتزلة وهذه النسبة تحتاج الى تحقيق رجالي، فنحن مثلاً نستدل على تفضله تعالى بجعل الجوهر الأساسي لشخص الزهراء من موجودات الجنة ليكون نبراساً للفضيلة وفيضاً ملكوتياً مباركاً، ودليلاً على تشريفه تعالى لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته، الأمر الذي يدل بالدلالة التضمنية وبحسب النصوص بأن الإسراء حدث بالجسد والروح.

فقد روي عن أبي سعيد الخدري وابن عباس والإمام جعفر الصادق uوعن عائشة أيضاً أنها قالت: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أسري بي إلى السماء أدخلت الجنة فوقعت على شجرة من أشجار الجنة لا أحسن منها ولا أبيض ورقاً ولا أطيب ثمرة فتناولت من ثمرتها فأكلتها فصارت نطفة في صلبي، فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة عليها السلام ، فاذا إشتقت الى ريح الجنة شممت ريح فاطمة”، أي ان عائشة تقول بان الإسراء حصل بالروح والجسد، أما بالنسبة لحذيفة فهذا الاسم على الظاهر يقصد به حذيفة بن اليمان وإن ذكر أكثر من واحد بإسم حذيفة وأنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعضهم مجهول.

وحذيفة بن اليمان نسبة إلى اليمن لأن جده جردة أصاب دماً في قومه فهرب إلى المدينة فحالف بني عبد الأشهل، فسماه قومه باليمان لأنه من اليمن حالف الأنصار وهم في المدينة، وقيل أن اليمان مأخوذ من اليمين وهو الحلف والأول أنسب.

وتوفى والياً في المدائن بعد بيعة الإمام علي uبأربعين يوماً وجلالة قدره ووثاقته وورعه عليه الإتفاق والإجماع، وكان يعرف المنافقين بأعيانهم وأشخاصهم، عرفهم ليلة العقبة لما أرادوا ينفروا ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منصرفهم من تبوك، وكان حذيفة تلك الليلة قد أخذ بزمام الناقة يقودها، وعمار من خلف الناقة يسوقها.

وروي أن عدد أصحاب العقبة إثنا عشر وأختلف هل هم من الأنصار كما عليه الجمهور، أم هم من الأنصار والمهاجرين .

وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه عن حذيفة  قال: إن الناس كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر كيما أعرفه فأتقيه([376]).

وفي هذا الخبر دلالة على السعة والعلم عند الصحابة وإنتقال علوم القرآن والسنة أو شطر منها للمسلمين بواسطتهم وبسعيهم،

روى عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان كان مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد فأخطأ المسلمون وظنوا أن أباه اليمان واحد من الكفار ، فأخذوه وضربوه بأسيافهم وحذيفة يقول : إنه أبي فلم يفهموا قوله إلا بعد أن قتلوه ، فقال حذيفة : يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، فلما سمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذلك إزداد وقع حذيفة عنده([377]).

وفي أسد الغابة أنه شهد حذيفة الحرب بنهاوند فلما قتل النعمان بن مقرن أمير ذلك الجيش أخذ الراية وكان فتح همدان والري والدينور على يده، كما شهد فتح الجزيرة ونزل نصيبين وتزوج فيها.

وإن ثبت القول عنه بأن الإسراء بالروح فقط فان الجواد قد يكبو والصارم قد ينبو والعصمة لمن سدده الله عز وجل وعصمه، لأن مثل هذا القول خلاف الدلائل والواقع ولكن إثبات هذا الحديث ونسبته لهذا الصحابي الجليل بعيد كما يمكن أن يناقش القول دلالة وتأريخياً.

وقال الرازي: (أختلف في كيفية الإسراء، فالاكثرون من طوائف المسلمين إتفقوا على أنه اسري بجسد رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم، والأقلون قالوا: إنه ما أسري إلا بروحه)([378]).

ولكن هذا التفصيل ليس بتام من وجوه:

الأول : أن الإجماع على حصول الإسراء بالبدن والروح ولا عبرة بمن شذ.

الثاني : نسبة القول بالخلاف إلى الاقلين في مقابل الأكثرين يحتاج إلى ذكر المصاديق.

الثالث : نسبة الإسراء بالروح إلى ثلاثة من الصحابة لم يثبت كما تقدم.

ومنهم من قال: إن الإجماع الضروري للمسلمين على عروجه بجسمه الشريف وأن الذي يقول أن معراجه روحاني، وأن من أنكر معراجه الجسماني ملحد وخارج عن الدين.

 ولكن لا تصل النوبة إلى التكفير والرمي بالإلحاد من وجوه:

الأول: وجود الإسلام الحكمي عند القائل بالإسراء بالروح.

الثاني: الذهاب إلى القول بالإسراء بالروح عن قول ينسب إلى بعض الصحابة أو شبهة أو ظن .

الثالث: على المسلمين أن يتنزهوا من رمي بعضهم بعضاً بالكفر او الفسوق لقول أو رأي أو شبهة لا تتعلق بضـرورات الدين .

الرابع: موضوعية الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  التي هي سور الموجبة الكلية الشامل لجميع المسلمين، فهي ثابتة حصـل الإسراء ام لم يحصل.

 وعلى هذا التسليم والإقرار من عامة المسلمين وهو كاف للوصف بالإسلام وحلية المناكح وحقن الدماء.

وقيل أن الأخبار الدالة على الإسراء بالروح والبدن لا تحصى ولا إعتبار لشبهات المتكلمين والحكماء، ومن أنكر المعراج الجسماني لإمتناع الخرق والإلتيام في السماوات فقد رد على الله والرسول وهو على حد الشرك.

ولكن القول بعدم حصول الإسراء الجسماني لا يصدق عليه أنه رد على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يصل إلى الشرك، ومن اعجاز القرآن وعلومه أنه يفسر بعضه بعضاً، فتجد الآية تفسر غيرها وغيرها تفسرها سواء ذات الآية المفسرة ومن نفس السورة أو سورة أخرى.

 وفي ذلك حجة وتخفيف لقطعية صدور القرآن عن الله تعالى ولخلوه من التحريف ولأن يد التحريف لم ولن تصل إليه، ويمكن الاستشهاد من القرآن على حصول الإسراء بالبدن، قال تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى]([379]) ولا شك أن المراد هنا مجموع الروح والجسد.

وورد في سورة الجن [وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يدْعُوهُ]([380]) والقيام والدعاء حاصل بالبدن والأركان من الجوارح والتلفظ باللسان.

إن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “اتخذني الله عبداً قبل ان يتخذني نبياً([381])، يؤكد الإسراء بالبدن وأنه إعداد وتأهيل للنبوة في بداياتها ومقدمة للامامة التي تعني الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا وظهرت آثاره المباركة في التبليغ وفي حسن إستجابة المسلمين، ويمكن مناقشة القول بأن الإسراء حصل بالروح فقط من وجوه:

الأول : لم يترتب على هذا القول أثر في النقل والإستدلال من قبل التابعين وتابعي التابعين.

 وعن حذيفة أنه قال ذلك رؤيا . وأنه ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنما أسري بروحه([382]).

 ولكن الرؤيا اعم من حصول الإسراء وإن كانت إسراء روحياً، كما أن ذكر الآية في القرآن وهي من غرر الآيات وتدل على رجحان وأفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يناسبه دعوى وتفسير الرؤيا، والأصل حمل الكلام على الحقيقة واليقظة وعدم الإنتقال إلى المجاز إلا مع القرينة الصارفة وهي معدومة في المقام، أي أن الإسراء يحمل على حقيقته وهو حصوله بالجسد والروح معاً.

الثاني : يمكن مناقشة دعوى النسبة إلى ثلاثة من الصحابة سندا فهي كلاً أو بعضاَ دعوى ضعيفة بالإرسال والإنقطاع ولم ترد في الكتب المعتبرة المسندة عند عموم المسلمين، فليست بحجة كما أنها قاصرة عن معارضة الأدلة والظاهر والنصوص.

الثالث : لو قلت بصحة النسبة إلى هؤلاء الصحابة فان حديثهم لا يرقى إلى معارضة الأخبار المتواترة عن الإسراء بالروح والجسد منطوقاً ومفهوماً، خصوصاً وأنه ورد عن عائشة ما يدل على حصول الإسراء بالجسد والروح معاً.

الرابع :كثر في باب المواعظ والأخبار أحاديث القصاص والوعاظ اذ كانوا يجلسون بعد الصلاة يتحدثون بالأخبار الضعيفة والمرسلة وربما الموضوعة فلابد من الرجوع إلى الأسانيد والكتب المعتبرة، وهو الأمر الذي بذل فيه العلماء جهوداً عظيمة فقاموا بتنقيح الأحاديث وبيان الصحيح من الضعيف مع إسقاط الموضوع.

الخامس : القول بحصول الإسراء بالروح ذهب إليه بعض المعتزلة ولعله لإعتمادهم مباحث عقلية صرفة والإعجاز أعم وأوسع.

السادس : الجسم هو جوهر كل مادة، ومعنى البدن هو ذلك الجسم المتحرك بالإرادة.

السابع : العقل هو مناط التكليف، إذ يحصل بواسطته العلم بالواجبات ولزومها وتحديد الضروريات ومعرفة المستحبات، وهو قوة التمييز بين الحق والباطل، وعند الفلاسفة هو جوهر بسيط أو أنه مادة وطبيعة، وعرف بأنه جسم لطيف محله الرأس، والإسراء فعل شارك فيه العقل والروح والبدن على نحو الإجتماع بدليل إطلاق لفظ العبد الشامل لجميع أجزاء البدن على نحو السور الجامع لها والكيان المتكامل.

الثامن : إن حصول الإسراء بالبدن او الروح فقط فرع مترشح عن موضوع الإسراء الأساسي وهو مركب من أمرين.

 الاول: قدرة الله تعالى على جميع المقدورات.

 الثاني: الإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم روحاً وجسداً فضل من الله عز وجل عليه وعلى المسلمين.

 وهو رسالة سماوية للناس جميعاً للإقرار بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة للإسلام.

  المكــــي والمدنـــي

القسمة هي التجزئة والتفريق إلى أقسام متباينة بلحاظ معين، وكل فرد من الإقسام يسمى قسماً بالنسبة إلى المقسم، (وقسيماً) بالنسبة للأفراد الأخرى، وتدخل القسمة في كل شئ من المخلوقات لأنها أمور مركبة، ومحتاجة إلى أجزائها، لذا فان القسمة من أسرار الخلق والحاجة إلى الله عز وجل فهو سبحانه بسيط غير مركب.

ومن صيغ القسمة وجهان:

الأول: القسمة الطبيعية وهي قسمة الشئ إلى أجزائه كقسمة الإنسان إلى البدن والروح، وقسمة الماء إلى أوكسجين وهيدروجين.

الثاني: القسمة المنطقية وهي قسمة الكلي إلى أجزائه، والجنس إلى أفراده، كقسمة الكلمة إلى اسم وفعل وحرف.

ولابد أن تكون القسمة جامعة مانعة، أي جامعة لكل ما يمكن أن يدخل القسم، ومانعة من دخول غير أقسامه فيه، وجاء تقسيم سور القرآن إلى مكية ومدنية من جهات:

الأولى: أنه من القسمة الثنائية، وطريقة الترديد بينها، بحيث لا يكون هناك قسم ثالث، ولايجتمعان في آية واحدة، ويستوفيان آيات القرآن كلها.

الثانية: القسمة التفصيلية الإستغراقية، والتي تأتي على نحو التتبع ومراعاة قواعد وأسس خاصة، ولا تمنع من فرض قسم آخر، وليس من حد لقسمة آيات وسور القرآن بحسب اللحاظ والقواعد الخاصة بها.

وهو علم شــريف يبين زمان ومكان نــزول الآيات القرآنية وترتيب ما نزل في مكة وما نزل في المدينة، إن مــعرفة وتقسيـــم المكي والمدني من الآيات والســور دليل على إلتفـات المسلمين إلى أهمية تفاصيل نزول القرآن ومراحل نزول الآيات وما يترتب على ذلك من أحكام وإعتبارات يحتاج التفصيل فيها إلى الإستقراء والبحث والتقصي وفيه مسائل:

الأولى : هذا العلم شاهد على ضبط الصــحابة لموضـوع الآيات القرآنية وما يتعـلق بها وأنهــم أولوا القرآن الإهتمام الخاص وإحتاجوا في تفســيره إلى معرفة وقت نزول الآية وكانوا يحرصون على معــرفة زمان نزول الآية بالتتبع المســـتمر لنزول الآيات فيحفظون زمانها مع حفظـها وتعلمها وتفسيرها، إنه نــوع توثيق ووعي للمسؤولية وإدراك لموضوعية أوان النزول في تفسير الآية وأحكامها وقد وردت النصوص عن أمير  المؤمنين uبمعرفته لزمان نزولها، بل ورد ذلك عن الصحابة كعبد الله بن مسعود وإهتم به إبن عباس أيضاً.

 لقد كان نفر من الصحابة يأخذون القرآن من فم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويولون عناية بتفاصيل النزول.

الثانية : يدل على إقـــرار المسلمين بصــدق النزول وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يخــفي أو يؤخر أو يقدم شـيئاً إلا بأمر من الله تعالى.

الثالثة : يساعد هذا التقسيم على صحة التأويل والتفسير.

الرابعة : وهل التقسيم بالمكي والمدني فرض عين على كل مسلم او هو كفائي أو مستحب، الأقوى هو الأخير إذ ليس من دليل على وجوبه ولكنه طريق لمعرفة الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، وعون على التفسير والتأويل، إنه موضوع للبحث والتحقيق إعتنى به الصحابة والتابعون وأصبح كنزاً وثروة قرآنية عظيمة تتفرع عنها عدة أبواب من العلوم.

وتقسيم المكي والمدني ليس جديداً بل هو معروف منذ صدر الإسلام مما ساعد على تمام الضبط والدقة فيه ويدل على الحاجة إليه في علوم القرآن، ولكن مصطلح المكي والمدني يبتنى على إعتبارات ثلاثة بينها بلحاظ المصداق عموم وخصوص من وجه:

الأول: إعتبار تأريخ الهجرة في التقسيم وهو ان المكي ما نزل بمكة قبل هجرة النبي وأن لم يكن نزوله في مكة، أما المدني فهو ما كان نزوله بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وان كان نازلاً في مكة، وما كان في طريق الهجرة قبل الوصول إلى المدينة وهو مكي أي لا واسطة بينهما.

فمثلاً سورة يوسف كلها نزلت بمكة، وسورة آل عمران كلها نزلت بالمدينة.

وهناك سور كانت آياتها مكية ومدنية أي أن بعض آياتها نزلت بمكة وبعضها بالمدينة، ولا يقال أنها مكية مدنية، إنما ينظر إلى الغالب عليها، فسورة الأنعام مكية لأنها نزلت بمكة إلا بضع آيات نزلت بعد الهجرة وما غلب عليها المدني سميت مدنية كسورة التوبة فقد نزلت بالمدينة إلا بعض منها نزل بمكة، فلقد بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأربعين سنة من عمره فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة ثم أمر بالهجرة، فهاجر إلى المدينة وبقي عشر سنين واستأثر به الله عز وجل وهو إبن ثلاث وستين.

الثاني: إن المكي ما هو خطاب لأهل مكة، والمدني ما هو خطاب لأهل المدينة، أي أن هذا التقسيم بلحاظ المخاطب.

ويشكل عليه في الكبرى من وجوه:

الأول : ان القرآن لم يكن خطاباً لأهل بلد دون غيرهم إنما كان خطاباً للناس جميعاً.

الثاني : الأصل عدم الحصر إلا أن يرد دليل عليه وهو مفقود في المقام غير ملائم لعظمة القرآن، ووظيفته في هداية الناس جميعاً، والأصل في الخطابات القرآنية ارادة العموم.

الثالث : فيه تحديد وتقييد للنفع الشرعي والعلمي من هذا التقسيم.

الثالث: إن المكي ما نزل بمكة سواء كان ذلك قبل الهجرة أو بعدها، والمدني ما نزل بالمدينة وإن إتفق ما نزل فيها بعد الهجرة أي إعتبار مكان النزول وحده.

ويدخل في مكة أطرافها وقراها وما يلحق بها من الأمكنة كمنى وعرفة، ويدخل في المدينة أطرافها كبدر واحد.

ويشكل عليه أيضاً بأن حق الضبط والمدار فيه مكان النزول دون الإلتفات إلى موضوع الآيات وزمانها مع أولوية ذلك في علم التفسير والبحوث التي تخص الآيات.

لابد من ثمرة لهذا التقسيم إذ أن القسمة التي عرفت بانها تجزئة الشيء إلى أنواعه أو تحليله إلى عناصره، تنقسم الى قسمة طبيعية، وأخرى منطقية، والأولى تحليل الشيء إلى اجزائه التي يتألف منها، فالأسرة تتكون من أب وأم وأولاد.

والقسمة المنطقية تعني تحليل الشيء الى مصاديقه التي ينطبق عليها مثل دروس المنهج وقسمتها الى فقه واصول وتفسير ولغة واخلاق ونحوها.

وقسمة الآيات هنا قسمة منطقية ولابد فيها من فرض أساس واحد للتقسيم، ومساواة مصاديق الأقسام مع مصاديق المقسم.

 لذا يؤاخذ على القولين الثاني والثالث بأن المكي خطاب لأهل مكة والمدني خطاب لأهل المدينة.

 والثالث وهو المكي ما نزل بمكة سواء قبل الهجرة أو بعدها إن كلاً منهما ينطبق على كل مصاديق المقسم وهو آيات القرآن جميعها، فمن الآيات ما ليس بخطاب لأهل مكة والمدينة ويكون عاماً كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ]([383])،ومنها ما لم ينزل بمكة ولا بالمدينة.

وفيهما أيضاً إحتمال بالتداخل في التقسيم ومن شرائط القسمة المنطقية عدم التداخل بين الأنواع.

وأسلوب التقسيم على صورتين:

الأولى:الطريقة الثنائية.

الثانية: الطريقة التفصيلية.

 وقسمة المكي والمدني هي ثنائية.

 ومن المنطقيين من حصر هذه الطريقة بالترديد بين الإثبات والنفي، ولكنها أعم من ذلك وإن أمكن إيجاده بلحاظ صفة ما في موضوع القسمة.

أما القسمة الثانية فهي الطريقة التفصيلية، وهي ظاهرة من عنوانها بقسمة الشيء إلى جميع أقسامه تفصيلاً.

وإعتماد القسمة التفصيلية للإحاطة بموضوع القسمة بالمدني والمكي سواء كان باضافة أماكن جديدة أو مصاديق أخرى، أو تقسيم المكي قسمة أخرى مثلاً أن يكون منه ما هو خطاب لأهل مكة ومنه ما كان خطاباً لغيرهم، ومنه ما كان وعيداً أو بشارة.

وتقسيم المدني وشطره أيضاً وفق قواعد كلية أمر ممكن وفيه نوع توسعة في الدراسات العلمية ومباحث القرآن، وللباحثين أن لا يقفوا على هذا التقسيم ولهم أن ينظروا له من جوانب أخرى إذا كانت هناك فوائد للتقسيم الجديد ولابد من أساس يقوم عليه التقسيم ، ولا يخرج عن شرائط القسمة، وأن يكون أساسا واحدا إلا بلحاظ آخر فيختلف الموضوع.

ويمكن البحث بتداخل التقسيمات الثلاثة المتقدمة والتقريب بينها مع الملاك المنفعة وإستظهار علوم القرآن والأسرار والدلالات في أوان ومكان نزوله الآية او السورة.

والسعي في هذا الباب يفتح آفاقاً من العلم ويتعلق بالفرع، أما الأصل فهو الأدلة النقلية الواردة في موضوع النزول.

    و ذهب الباقلاني على ما حكاه عنه الزركشي والسيوطي بانه لا يقصر معرفة المكي والمدني على السماع أي أنه يدعو إلى الإجتهاد في هذا الباب.

ولعله يريد التوسع في فروع هذا العلم لكي يكون طريقاً للعلوم وابوابها المستحدثة والتي تساعد على دراسة أوفى لآيات القرآن ومن المهم إيجاد الخصائص لكل من السور والآيات المكية والمدنية أي ما تنفرد به الآية المكية او المدنية.

فمثلاً يشيار إلى كلمة (كلا) وأنها وردت في القرآن ثلاثاً وثلاثين مرة في خمس عشرة سورة كلها مكية، وفي النصف الأخير من سور القرآن، وأنها لم ترد في سورة مدنية.

وإتصفت السور المكية بصيغة الإنذار والوعيد وورد فيها التهديد والتعنيف.

وما نزلت كلا بيثرب فاعلمن

                                 ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى([384]).

    ومن السور ما أتفق على نزولها في مكة او بالمدينة ومنها ما أختلف فيه، وقيل أتفق على السور التي نزلت في المدينة وانها عشرون سورة والمختلف فيه إثنتا عشرة سورة وما عدا ذلك مكي، أي إثنتان وثمانون سورة مكية، ونظم أبو الحسن بن الحصار في كتاب الناسخ والمنسوخ شعراً في الباب:

يا سائلي عن كتاب الله مجتهداً

 وعن ترتيب ما يتلى من السور

وكيف جاء بها المختار من مضر

 صلى الإله على المختار من مضر

وما تقدم منها قبــــــــــل هجرته

وما تأخـــــــــــر في بدو وفي حضـر

ليعلم النسخ والتخصيـــــــــص مجتهد

يؤيد الحكم بالتاريخ والنظر([385]).

وعن إبن عباس أنه قال: سألت ابي بن كعب عما نزل من القرآن بالمدينة فقال: نزل بها سبع وعشرون سورة، وسائرها بمكة.

ليكون من وجوه معرفة المكي من المدني حفظ الصحابة وتوثيقهم لهذا العلم، ولم يرد قول من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتحديد مفهوم هذا الإصطلاح، ولكنه مستقرأ من النصوص، والحاجة اليه دائمة وظاهرة، ومنهم من إستند إلى سبب النزول وقد لا يكون تاماً ومطلقاً.

منافع تقسيم الآيات لإلى المكي والمدني

تدخل القسمة في كل الأمور والأعمال والمعنى، وتتضمن معاني التخفيف والتيسير، ومنع الحرج، وتتقوم بلحاظ الثمرة والنفع منها، فترى التقسيم في علم النحو يخفف عن الدارسين، وتستقرأ منه علوم اللغة، فتقسم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، ويقسم الفعل إلى ماضي ومضارع وأمر، ولكل فعل حكمه في البناء والإعراب.

لكل علم من علوم القرآن منافع عديدة بلحاظ أنه باب لعلوم وحقائق عديدة وسعي وإجتهاد في علوم القرآن، ومن فوائد هذا العلم وجوه:

الأول : معرفة الناسخ من المنسوخ بلحاظ أوان النزول.

الثاني : تعيين المخصص، عند من يقول بتأخر المخصص.

اذ ان العام والخاص المنفصل لهما أحكام متباينة بلحاظ أمور :

الأول: تأريخ كل منهما والعلم بهما.

الثاني: أحدهما.

الثالث: عدم العلم بتأريخ أي منهما.

الثالث : عزل وإخراج بعض الأحاديث الموضوعة مثلاً ما زعم بعضهم ان اهل الصُفّة أوحى لهم الله في الباطن ما اوحى الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج، فصار اهل الصُفّة بمنزلته وهو بعيد وخلاف أصول الدين ,قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] ([386]) ان الإسراء كان في مكة.

وان الصفة لم تكن الا بالمدينة، والصفّة سقيفة شمالي المسجد النبوي ينزل بها الغرباء والذين ليس لهم أهل ولا أصحاب ينزلون عندهم حتى يتبين لهم مكان ومأوى.

ومقاماتهم مختلفة وممن نزل بها سعد بن أبي وقاص كما نزل بها ابو هريرة وله في ذلك احاديث

وفي قوله عز وجل [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ] قال الفراء هم أَهل صُفَّةِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا لا عشائر لهم فكانوا يلتمسون الفضل في النهار ويأْوون إِلى المسجد([387])، والآية أعم موضوعاً وحكماً كما تقدم في تفسيرها.

الرابع : قد يعرف بالمكي والمدني أن الراوي يروي حديثاً لم يكن حاضراً لوقائعه كما روى واقعة حدثت في مكة وإسلامه كان في المدينة.

الخامس : ما ورد في سورة الفاتحة من أنها نزلت مرتين، وإن كان الأقوى انها نزلت مرة واحدة وفي مكة.

السادس : معرفة الصبغة التي تغلب على كل من السور المكية والمدنية، واستنباط الدروس منها، فالسور المكية تتضمن في الغالب الإنذار والوعيد ، والسور المدنية تتضمن الأحكام الشرعية.

السابع : معرفة جهاد المسلمين ومراحل تطوره.

الثامن : ليس للآيات المكية خصائص تختلف عن خصائص السور المدنية بل إنها غالبة أي سمات تغلب في السور المكية وتقل في المدنية، أو تغلب في المدنية وتقل في المكية، ولكن أهمية هذه القسمة لا تنحصر بذلك بل تتعلق بموضوع الآية نفسها إذا كانت مكية أو مدنية في موضوع الناسخ والمنسوخ أو المخصص المنفصل مثلاً.

التاسع : دراسة خصائص السور المكية والمدنية من جهة الموضوع والنظم، ومن جهة الاسلوب والمضمون.

العاشر : مع أن السور المكية إثنتان وثمانون سورة، والمدنية عشرون والمختلف فيها إثنتا عشرة سورة على نحو التقريب الا ان مقدار المكي أكثر من نصف القرآن بقليل.

كان موضوع السور المكية بيان احكام التوحيد، والآيات الكونية العامة الدالة عليه وذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة بلغة المثل لتكون موعظة وعبرة مناسبة للتدبر والإهتداء وصرف او تقليل العداء الشديد للإسلام، فسورة يوسف وهود مثلاً مكيتان.

الحادي عشر : هل يمكن ترتيب سور القرآن على تأريخ نزولها كما كان قرآن علي uكما قيل ليكون موضوعاً للدراسة، وليس للقرآن إلا ترتيب وجمع واحد وهو المتعارف عند المسلمين والترتيب المختص في زمان السور وان خالف الترتيب في القرآن لا يتعارض معه.

 ولكن هل لأحد القول بكتابة مصحف حسب تأريخ النزول، الجواب لا، لأنه خروج عن المتعارف عند الأمة كما أن مصدر القول بان قرآن علي uعلى التنزيل إنما هو رواية، ويحمل على نسخة جمعها للتوثيق والبيان وإشتهر عنه أنه كتب عدة نسخ من المصحف، والمصحف الذي بين ايدينا تداوله حصراً  الصحابة والمسلمون في ايام خلافته u وهناك نصوص تفيد أن القرآن على التأليف والجمع المرسوم في المصاحف من أيام النبوة.

الثاني عشر : من القرآن ما هو ليس بمكي ولا مدني ومنه جامع لهما بعضه مكي وبعضه مدني.

الثالث عشر : المجتمع المخاطب في مكة مجتمع وثني في الأغلب وتظهر فيه خصال الشرك، وواجه الإسلام بالجحود وعذبت قريش المؤمنين ولاقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذى شديداً حتى قال صلى الله عليه وسلم: (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)([388]).

فجاءت قصص الأنبياء مثلاً لتبين لهم مصير أولئك الذين حاربوا الأنبياء وقتلوهم وما ينتظرهم من الخزي وقصة تحالفهم وإتفاقهم على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحمله وأصحابه وأهل بيته على الهجرة إلى يثرب خفية.

ولم تنزل فريضة الصيام وفريضة الزكاة إلا في المدينة وفي السنة الثانية من الهجرة، ولعل من أسبابها عدم تقبل المجتمع المكي للتكاليف الشرعية التي يرونها شديدة.

الرابع عشر : لقد واجه المؤمنون أشد صنوف التعذيب في مكة وهذا يعني صعوبة تحملها، ووجود الكثير من الأشخاص الذين يؤمنون بالله وبرسوله بعدما وضعت أمامهم الحواجز والموانع، فلا غرابة إذن أن تكون هذه الآيات المكية عوناً للمؤمنين في جهادهم وصبرهم ودعوة لهم للتحمل ومواجهة الأذى والإضطهاد وبايمان ليكون آية ومدرسة وعبرة لأجيال المسلمين وباب هداية وحجة على الكافرين.

والآيات التي جاء بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة للناس للتدبر في الإسلام فربما أسلم بعض كبار الكفار ومشركي قريش بسبب صبر وتحمل المؤمنين الأذى وفيه شواهد من التأريخ الإسلامي في أيام النبوة.

الخامس عشر : إن السور المكية مقدمة وتمهيد للسور المدنية لما فيها من تهيئة الأذهان لنزول آيات الأحكام أي ان الآيات والسور المدنية لم تنزل إلا على مجتمع قادر على الإلتزام بمضامينها وإحتاج ذلك إلى جهاد طويل وصبر من المسلمين فكانت الآيات المكية ومواضيعها عوناً ورافداً منه.

 أما السور المدنية فجاءت متضمنة آيات التشريع والأحكام وقواعد السنن الأخلاقية والسياسية والإجتماعية إلى جانب موضوعات السور المكية سواء بالمنطوق او بالمفهوم والدلالة الإلتزامية.

السادس عشر : وجاءت السور المدنية بذم المنافقين واليهود وما يكيدونه للإسلام، ولم يكن ذكراً لوقائع تأريخية إنما كان بياناً لتركيبتهم النفسية وما يحملونه من إعتقادات أزاء الدين والناس وأنفسهم.

السابع عشر : السور المدنية ليست خالية من آيات الوعيد والتخويف وذم الشرك ولكن الفارق بين المكي والمدني بالحكم وليس بالكيف وعلى نحو الغالب في المضمون، وترسيخ المجتمع وتثبيت أحكام الشرائع أيضاً يحتاج إلى نبذ الشرك، وكان الشرك موجوداً حتى في أيام نزول السور المدنية، لذا فان كل آية من آيات القرآن تصلح لكل زمان.

الثامن عشر : جاءت سورة الحجرات قبل (ق) في ترتيب السور فالأولى مدنية، والثانية مكية، وجاءت احداهما بعد الأخرى في ترتيب القرآن، وان كان عدد آيات سورة الحجرات ثمان عشرة آية وعدد آيات سورة ق وهي مكية خمساً وأربعون آية، مما يدل على ان ترتيب سور القرآن ليس على النزول.

وهل هو توقيفي أو لا الجواب انه توقيفي تم بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبلسان الوحي.

التاسع عشر : في سورة الحجرات تأسيس لضوابط المجتمع الإسلامي وإصلاح للنفوس وتهذيب لها وبيان صيغ إكرام المسلم والصلات الطيبة بين المسلمين، منها [ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ] ([389])،     [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ ] ([390])،           [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ] ([391])،[ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ] ([392]).

إن النداء (يا أيها الناس) لم ينزل في مكة فقط بل في المدينة أيضاً، فالقول الشائع والمروي عن علقمة عن عبد الله مرسلاً ما كان في القرآن [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] أو [يَابَنِي آدَمَ]  فهو مكي وما كان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فهو مدني ليس تام وان كان هو الغالب وقد إتفق على أن سورة النساء مدنية وأولها [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ ] وسورة البقرة مدنية وفيها[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ]([393]) والحج مكية وفيها[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ] ([394])، وفي (ق) وهي مكية تتجلى مضامين الوعيد والإنذار ضمن مفاهيم الدعوة الى الإسلام وتلك الدعوة أمر جامع ومسألة سيالة على كل ازمنة وأماكن نزول القرآن [ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ] ([395])، [ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍوَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ] ([396]).

العشرون : لقد عالج القرآن مشكلات زمانه باسلوب مناسب ظهر واضحاً بالإختلاف بين المكي والمدني لا كما زعم بعض المستشرقين أن البيئة أثرت في صياغة القرآن وأن القرآن من وحي البيئة، وغاب عنهم أن هذا الإختلاف في الإسلوب إنما هو نوع إعجاز قرآني ويتجلى ببيان مضامينه ومفاهيمه بالتحقيق العلمي والإستدلال السليم.

الحادي والعشرون : لم ينزل القرآن لقوم دون قوم ولا بلد دون بلد، ولذا أشكلنا على القول بإن المكي إنما هو خطاب لأهل مكة والمدني خطاب لأهل المدينة.

 والقرآن نزل خطاباً وحكماً لكل أهل الأرض وفي كل زمان، ولكن بيئة مكة والمدينة وما لاقاه الإسلام فيهما إنما هو نموذج مصغر لما يواجه الإسلام في الأمكنة والأزمنة المختلفة، ونوع الأسلوب وصيغ الإنشاء لا يتعلق بالبيئة فقط بل يشمل الأشخاص والمجتمعات وتباين الموضوعات.

الثاني والعشرون : تحمل آيات القرآن في ترتيبها طابع الإعجاز في إرتقاء الدعوة الإسلامية وسعة آفاق الحاجات.

الثالث والعشرون : لقد كان هذا الترتيب ضرورياً لمنفعة المسلمين ومن آياته أنه من أسباب نصر المسلمين وهداية لهم في سيرتهم وأعمالهم ومناهجهم التشريعية السماوية، وكشف الأعداء والمنافقين، والإحتراز من مكرهم.

الرابع والعشرون : منهم من ذكر الفوارق بين المكي والمدني فإلى جانب السماعي هناك القياسي والإجتهادي وقد لا يصلح الإجتهاد والقياس هنا لورود ما يدل على الخلاف، والسماعي ما علمنا وسمعنا بنزوله باحدهما أي بمكة أو المدينة.

الخامس والعشرون : القياسي على أقسام منها كل سورة ورد فيها[ يَاأَيُّهَا النَّاسُ ] ([397])([398])([399])([400])([401])، فهي مكية، أو ورود “كلا” ثلاثاً وثلاثين مرة في خمس عشرة سورة كلها مكية لأن السور المكية فيها الوعيد والإنذار وقد ذكرت وجوه أخرى في القسم منها:.

الأول:إن كل ما فيها قصة آدم وابليس سوى البقرة فهي مكية.

الثاني: وكذا كل سورة فيها قصص الأنبياء والعبرة من الأمم السابقة فهي مكية.

الثالث: كل سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنية.

الرابع:كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مكية وإستثنى بعضهم سورة العنكبوت.

الخامس: كل سورة فيها سجدة فهي مكية وان النصف الأخير من القرآن اغلبه نزل في مكة.

وهذا القياس مبنى ومرتكز للعلوم، والأولى اخذ كل سورة ودراستها بلحاظ التنزيل ولابد أن تكون هذه الدراسة إنحلالية بعدد آيات السورة لأن بعض سور القرآن تكون مدنية ولكنها تتضمن آيات مكية او بالعكس .

وعن إبن مسعود : نزل المفصل في مكة فمكثنا حججاً نقرؤه ولا ينزل غيره) ([402])، وسمي المفصل لكثرة ما يقع فيه من فصول التسمية بين السور أو لقصر سوره، وأختلف في أوله من سورة محمد أو من سورة(ق) أو من سورة الفتح.

 وورد في الخبر المفصل ثمان وستون سورة.

السادس والعشرون : والخطابات في السور المدنية للمؤمنين الذين آمنوا ببعثة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تحمل التحذير من المنافقين، والدعوة إلى عدم الإنخداع باباطيلهم، وهي عون للمسلمين وشد لعضدهم وإمتلاكهم القواعد الفكرية التي تساعد على التقدم والإرتقاء في مراتب الإيمان.

 ومن المختلف فيه بين المكي والمدني سورة الأنعام ولكن الإختلاف فيها محدود يتعلق بآيتين أو ثلاثة وقد ورد أنها نزلت جملة واحدة فورد في حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أنزلت علي الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد([403]).

وهناك نصوص في المقام جاءت لبيان فضل سورة الأنعام وليس لمكان نزولها.

وروي عن إبن عباس أنها مكية إلا ست آيات [ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ…]([404])، وفي رواية أخرى عن إبن عباس ثلاث آيات[ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ] ([405]).

وهناك تقسيمات أخرى للنزول بحسب الموضوع والحيثية منها:

الأول : الحضري والسفري أي السور التي أنزلت في الحضر والسور التي أنزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في حال السفر.

الثاني : النهاري والليلي أي السور التي كان أوان نزولها في النهار والسور التي نزل بها جبرئيل uفي الليل، الصيفي والشتائي.

الثالث : الفراشي واليومي والمقصود من اليوم هو النهار.

والفراش ليس النوم لأن القرآن كله نزل باليقظة، وإن كان شطر من وحي بعض الأنبياء في النوم، ورؤيا الأنبياء وحي، كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الستة الأشهر الأولى من النبوة كان لا يرى رؤيا إلاجاءت كفلق الصبح.

 فما قيل أن سورة الكوثر من النومي  ليس بصحيح , وقال أنس بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاء ثم رفع رأسه مبتسما فقلت ما أضحكك يا رسول الله قال أنزلت علي آنفا سورة فقرأ سورة الكوثر ثم قال أتدرون ما الكوثر قلنا الله و رسوله أعلم قال فإنه نهر وعدنيه عليه ربي خيرا كثيرا هو حوضي ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء فيختلج القرن منهم فأقول يا رب إنهم من أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك أورده مسلم في الصحيح([406]).

 فالإغفاءة أعم من النوم وقد يقصد منها الحالة التي تعتري النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول الوحي فالمراد من الفراشي ما كان ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بفراشه بلحاظ اليقظة سواء قبل النوم أو بعده أو بالإستيقاظ منه لإستقبال الوحي والتنزيل في دلالة على إتصال الوحي وعدم إنقطاعه.

الرابع : أرضي وسماوي، والقرآن نزل بين مكة والمدينة إلا ما ورد في كتيبة تبوك أو القدس على خلاف فيه ووردت نصوص أن آخر سورة البقرة [ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ] ([407])، نزلت في السماء ليلة المعراج وفيه خبر، عن عبد الله بن مسعود.

سياق الآيات المناسبة بين الآيات

جاءت آيات القرآن البالغة 6336 وكل آية معجزة في ذاتها ومعجزة مع غيرها لما بينها من التداخل والترابط بعضها يفسر بعضاً، وبعضها يعضد ويوثق ويثبت نزول بعضها الآخر من عند الله تعالى، بالإضافة إلى الإعجاز الخاص بعدم التعارض والتزاحم والنفرة بينها سواء في المواضيع أو الأحكام أو المفاهيم، وهذا علم مستقل يستحق أن يفرد بالتصنيف والتحقيق، ويكون مناسبة لإستنباط الآيات الإعجازية منه وقد أسسنا مبحثاً في كل آية إسمه (في سياق الآيات) يبين المناسبة بين الآيات المتجاورات تصل أجزاء هذا العلم إلى أكثر من ثلاثة ملايين جزءّ وصدرت ثمانية من أصل خمسين جزء ستصدر في صلة الآية(110) من سورة آل عمران بالآيات السابقة لها، وعلى العلماء في الأجيال السابقة إتمامه.

 وقد اعتنى به بعض العلماء وذكر السيوطي في الإتقان أن أبا جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الأندلسي النحوي الحافظ المتوفي سنة 807 الف كتاباً في هذه الباب اسمه في مناسبات الآي وهو (البرهان في مناسبة ترغيب سور القرآن).

ويبحث علم المناسبة بين الآيات الصلة بينها وقوع الرابط خاصاً كان أو عاماً، عقلياً أو شرعياً أو حسياً، والقوانين العقلية كالعلة والمعلول، والسبب والمسبب.

 ومن غرر القرآن الترابط والتلائم بين آياته ومن أسراره الترغيب في التدبر بهذا الترابط ووجود المناسبة , والصلة بينها منطوقاً وموضوعاً فكل آية تنطق بمضمون الآية الأخرى.

قال القاضي ابو بكر بن العربي فى سراج المريدين ارتباط آى القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعانى منتظمة المبانى علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة ثم فتح الله عز و جل لنا فيه فلما لم نجد له حملة ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه([408]).

ولا نقول أن العلماء أعرضوا عن هذا العلم تماماً، بل أن قارئ القرآن يلتفت إلى هذا العلم طوعاً وقهراً لحسن التأليف والبناء والحكم ومناسبة الموضوع وللوجود الذهني للآية السابقة عند قراءة اللاحقة نعم هذا لا يعني وجود الترابط التام بين كل آية والآية التي تجاورها، فقد تكون المناسبة بينهما جهتية وجزئية، ولكن التدبر سياق الآيات وعلم المناسبة بينها في التفسير والتحقيق يظهر لك وجوهاً من الإرتباط والتداخل لم تكن معلومة بمعنى أن جعل موضوعية وخصوصية لهذا العلم في التفسير والتأويل عون على إستخراج كنوزه وخزائنه، وموضوعه خاص لا يتعلق بذات الآية بل بالمناسبة، ويمكن أن يؤسس على نحو تفصيلي جديد من وجوه:

الأول : المناسبة بين الآية والآيات التي تجاورها.

الثاني :الترابط والصلة بين الآية وآيات السورة التي تكون جزء منها.

الثالث : الصلة بينها وبين آيات القرآن.

الرابع : الصلة مطلقاً أي الوجودة في السور الأخرى.

الخامس : المناسبة بين صدر الآية وخاتمتها ومواضيعها كما في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ]([409]).

السادس : المناسبة بين السور ذاتها.

السابع : وجوه المناسبة والربط بين خاتمة الآية وفاتحة التي بعدها، وخاتمة السورة وفاتحة ما بعدها، فمثلاً بعد ختم سورة الفاتحة بنوع الصراط المستقيم جاءت فاتحة سورة البقرة بالإرشاد إلى الكتاب وهو القرآن وإذ أختتمت سورة البقرة بالدعاء بالنصر على الأعداء[أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ([410])، جاءت فاتحة آل عمران ببيان عظيم جبروت وسلطان وقوة الله وبديع حكمته في تدبير شؤون الخلائق بقوله تعالى [الم * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ] ([411]).

وجاءت خاتمة آل عمران بالأمر بالخشية من الله , قال تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]([412])، وجاءت فاتحة سورة النساء بالأمر بالتقوى وعلى نحو الإطلاق بإرادة الناس جميعاً [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ] ([413]).

وبينما جاءت خاتمة سورة النساء ببيان أحكام الإرشاد والتحذير من الخطأ والتعدي، قال تعالى [فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ([414]).

جاءت فاتحة سورة المائدة بالأمر بالتقيد بالعفو وأحكام المعاملات بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]([415])، وأختتمت سورة المائدة بقوله تعالى [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]([416]).

جاءت بداية سورة الأنعام متعلقة بذات الموضوع وبيان عظيم قدرة الله تعالى وسعة سلطانه وبصيغ الثناء بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ] ([417])، وهكذا بالنسبة لسور القرآن الأخرى وأختتمت سورة الإسراء بالتسبيح والحمد لله تعالى وكذا جاءت سورة الكهف بالحمد لله.

 ففي خاتمة سورة طه تجد التحدي والتمايز والتنافي بين الإيمان والكفر، قال تعالى [قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى] ([418]).

وجاءت فاتحة سورة الأنبياء بعدها مباشرة بقوله تعالى [اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ] ([419]).

وقد أسسنا في تفسيرنا علماً خاصاً لخواتيم الآيات ويمكن هنا أن ينظر للمناسبة والترابط بينها وكذا المناسبة والترابط بين فواتيح السور وعددها مائة وأربع عشرة سورة، بمعنى أن هذا العلم ينقسم إلى أقسام:

الأول: المناسبة بين فواتح السور.

الثاني: المناسبة بين خاتمة السورة وفاتحة السورة التي تليها.

الثالث: المناسبة بين خواتيم السور.

الرابع: المناسبة بين فاتحة وخاتمة السورة الواحدة.

فترى سورة الأسراء مثلاً تفتتح بالتسبيح لله تعالى، وحديث الإسراء المعجزة الخارقة والتشريف العظيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأختتمت بالتسبيح أيضاً الذي يعني التنزيه المطلق لمقام الربوبية.

ويمكن وضع قواعد إستقرائية للروابط بين الآيات القرآنية المتجاورة أهمها:

الأول : التوكيد، أي أن الآية تؤكد مضامين الآية السابقة أو اللاحقة لها.

الثاني : التفسير والبيان، فقد تكون الآية تفسيراً للآية السابقة.

الثالث : العطف كما يظهر أحياناً بوحدة الموضوع أو بحرف عطف يربط بين الآيتين.

الرابع : الأشباه والنظائر.

الخامس : الإستطراد.

السادس : التضاد بحسب التباين الموضوعي كما في آية الرحمة وآية العذاب، وآية الوعد وآية الوعيد، والرغبة والرهبة , قال تعالى[إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]([420]).

ومن علوم البلاغة والمحسنات المعنوية حسن الإبتداء وحسن الإنتهاء، والأول أن يجعل المتكلم أول كلامه سهلاً ذا مفهوم واضح وباسلوب مناسب ينجذب له السامع ويميل للإصغاء إليه، ومن حسن الإفتتاح أن يكون مقدمة للمقصود أو أنه إشارة لطيفة للموضوع من غير أن تصل إلى التصريح، وتسمى براعة إستهلال كما في قول يوسف الذي ورد في التنزيل [هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ] ([421]).

 أما حسن الإنتهاء ويسمى حسن الختام فهو جعل آخر الكلام عذباً رقيقاً وكأنه توديع لطيف للموضوع وإخبار جميل عن إفادة تمام المعنى لتبقى عذوبته في الأسماع، ولمنع حصول الضجر عند الإنتهاء وللشوق لما بعده.

أما في القرآن فالأمر مختلف لصبغة الإعجاز التي تشمل إبتداء الآية وخاتمتها، ولوجود دلالات وبمضامين عقائدية وأسرار قرآنية في فاتحة الآية وخاتمتها، نعم تتجلى في القرآن أجمل صيغ الإبتداء والإنتهاء التي تجعل الأسماع تشتاق إلى الإنصات للآيات.

خواتيم السور

وهي كنوز علمية مدخرة، وثروة قرآنية متشعبة تنفتح منها آفاق من العلم فهي قواعد كلية جاءت كثمرة ونتيجة وسور جامع لآيات القرآن، وتتألف من ألفاظ عذبة تقرع الأسماع بلطف معلنة إنتهاء السورة وداعية إلى فهم معانيها والتدبر في دلالاتها ومضامينها القدسية وتجعل القارئ يغادر السورة وهو مشتاق لقراءتها من جديد ولم يشعر بالملل او التعب من التلاوة وما يقترن بها طوعاً وقهراً وانطباقاً من التدبر والتفكر والإستحضار الذهني للوقائع والأحداث وعالم الآخرة وتأريخ الأمم السالفة ونحوها بلحاظ آيات السورة وموضوعاتها.

وخواتيم السور آلة مباركة لتيسير الإنتقال إلى السورة التالية وهي إعلان عن الإنتهاء عن سورة من سور القرآن وما يعنيه هذا الإنتهاء من إحراز للأجر والثواب.

 وتتصف خواتيم السور بصفة الدعاء والوصية او التحميد والثناء عليه تعالى وما يجعل النفس تقبل بشوق على الصالحات أو تنزجر عن السيئات وتنفر من المعاصي.

كما في الدعاء الذي جاء في آخر سورة البقرة وما ورد في فضله (وعن ابن المنكدر رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: في آخر سورة البقرة آيات انهن قرآن وانهن دعاء وانهن يرضين الرحمن).

و في تفسير الكلبي بإسناده ذكره عن ابن عباس قال بينا رسول الله إذ سمع نقيضاً يعني صوتا فرفع رأسه فإذا باب من السماء قد فتح فنزل عليه ملك و قال إن الله يبشرك بنورين لم يعطهما نبيا قبلك فاتحة الكتاب و خواتيم سورة البقرة لا يقرأهما أحد إلا أعطيته حاجته ([422]).

ويأتي الدعاء فيها بصيغة التضرع والخشوع والمسكنة وإعلان الفاقة والحاجة وحتمية الرجوع إلى الله تعالى [رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ([423])، ويتجلى التدرج في السؤال طمعاً برحمته تعالى وعظيم إحسانه وكرمه فيأتي سؤال العفو والنفرة على نحو الإطلاق أي مع الذنب والخطأ، إن الله سبحانه يلقن المسلمين صيغ الدعاء والنهج القويم للنجاة يوم الدين، وكأن الآية وعد كريم بالإستجابة والعفو عن المسلمين الذين يتلون القرآن.

وكذا جاء الدعاء في سورة الفاتحة التي هي أكثر سور القرآن قراءة على الإطلاق لوجوب قراءتها في الصلاة اليومية على كل مسلم ومسلمة ويتضمن الدعاء في خاتمتها الإلتجاء إلى الله تعالى إحترازاً من أسباب الضلالة وأرباب الكفر.

وجاءت خاتمة سورة آل عمران بالوصية السماوية بالصبر والتحمل في حال الشدائد طلباً للنصر والفوز في النشأتين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]([424])، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن أفضل الأعمال فقال: إسباغ الوضوء في السبرات ونقل الأقدام إلى الجماعات وإنتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط([425]).

لتبين لنا السنة النبوية الشريفة ملاك الثواب في التفسير الأعم لمضامين الآية القدسية والمصاديق المتعددة للفعل العبادي ووجوهه المتكثرة والمتباينة قوة وضعفاً، وليكون بميسور كل مسلم ومسلمة وفي كل زمان إستثمار العمل العبادي الوارد في هذه الآية كل حسب إستطاعته ومقدرته وشأنه وليشمل الرجال والنساء بلحاظ الفرائض اليومية والخطابات التكليفية الموجهة لكل مسلم ومسلمة في سن البلوغ.

وجاءت خاتمة سورة النساء ببيان أحكام الفرائض لموضوعيتها وأهميتها في الإسلام، وقد ورد في عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: تعلموا الفرائض وعلموا الناس فان العلم سينقضى وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما([426])، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ وَهُوَ يُنْسَى وَهُوَ أَوَّلُ شَىْءٍ يُنْتَزَعُ مِنْ أُمَّتِى([427])، والفرائض هي علم المقدرات والحصص من الزكاة والميراث والسهام التي تقسم بحسبها التركة، وحصة كل وريث.

وإستفتاح آخر آية من سورة النساء بالإخبار عن سؤال المسلمين[يَسْتَفْتُونَكَ] يبين موضوعية وأهمية المواريث وهي مسألة فطرية وما من أمة إلا ولها قواعد ونظام للمواريث فأخبر القرآن بان نظام المسلمين في هذا الباب سماوي من عند الله تعالى ليس فيه سلطان للبشر، قال تعالى [يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ] ([428]).

وجاءت خاتمة سورة المائدة ببيان عظيم الجزاء الذي يلقاه المسلمون يوم القيامة مع التعظيم لمقام الربوبية وليس من الضروري الوقوف في مبحث خواتيم السور عند الآية الأخيرة من السورة بل يمكن الجمع بين آيتين أو أكثر في الخاتمة خصوصاً في السور الطوال والمثاني.

وختمت سورة النعام بالوعد والوعيد والتخويف[إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]([429]).

في تحذير للناس ودعوة لهم للإصلاح والتماس طرق الهداية بدخول الإسلام.

وجاء وصف العقاب بالسرعة وإمكان غزو العذاب والإبتلاء للإنسان الذي يرتكب المعاصي سواء بتعقب المعصية بالعقاب الدنيوي كالمرض والخزي وأسباب الأذى، أو أن السرعة عبارة عن كتابة التخلية بين الذنب وبين عذاب البرزخ حال دخوله القبر.

بينما جاء عنوان المغفرة والرحمة بذكر إسمين من اسماء الله تعالى للإخبار عن إستدامة الرحمة وإنبساطها على كل الأزمنة والعوالم وإنتفاع الناس منها وإن باب المغفرة مفتوح وهكذا خواتيم السور الأخرى كما نبينه في أجزاء التفسير إن شاء الله.

خواتيم الآيات

أسسنا في تفسيرنا علماً جديداً هو (إعجاز الآية) وخصصنا مبحثاً مستقلاً في تفسيرها لما فيها من اعجاز ودلالات عقائدية وفرائد علمية فقد اسسنا علما جديداً اسمه (الصلة بين أول وآخر الآية) يبحث في التداخل الموضوعي لمضامين كل آية من آيات القرآن والتي يكون فيها صدر وخاتمة أو صدر ووسط وخاتمة مع بيان المعنى السياقي والصلة.

وهذا العلم أعم كثيراً من خواتيم السور وفيه نكات وأسرار ومطالب ربانية يمكن إستقراؤه إن لم يكن اليوم فغداً من قبل العلماء ورجال الفكر والمعرفة ولم يصنف في بابه على نحو مستقل مع أهميته، ويجلوا بأنوار الكلمة القرآنية الغشاوة وهو روضة تدهش فروعها الأذهان وفيه إشارة إلى وجود علوم كلية في القرآن لم تستقرأ بعد.

والعلوم المستقرأة من خواتيم السور لا تنحصر بها بالذات بل تشمل  السياق والترابط والملازمة والمناسبة بينها وبين فاتحة ذات السورة وفاتحة السورة التي تليها.

فمع أن عدد آيات سورة المؤمنين مائة وسبع عشرة آية فان إفتتاحها بقوله تعالى[قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ] ([430])، وخاتمتها وردت بقوله تعالى [إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ] ([431])، وكأنهما من المتضادين، وأختتمت بذكر المغفرة والرحمة بصيغة الدعاء المطلق واللجوء إلى الله سبحانه.

وجاء إفتتاح سورة الحج بأمر الناس بتقوى الله، أما خاتمتها فأكدت على العبادات والجهاد والدعوة إلى الإعتصام بالله عز وجل [فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] ([432])، لبيان أن التقوى طريق النجاة وهو السبيل الوحيد للخلاص من عذاب النار وبيان مصاديقها من الصلاة والصوم ونحوها.

وهناك علم يجب ان يبحث وهو المناسبة والصلات بين فاتحة السورة وخاتمتها وإسمها، سواء كان الاسم متحداً أو متعدداً، وعلى القول بان الاسم غير المسمى او انه ذات المسمى، والأرجح الأول الا إن هذا لا يمنع من وجود إعتبار عقائدي ودلالات خاصة للإسم.

فسورة المؤمنون مثلاً إخبار وبشارة على رجحان كفتهم يوم القيامة وان الخسارة في العاقبة تلحق بالكافرين وأن العزة دائماً لأهل الإيمان، وجاءت خاتمة سورة الأسراء التي تسبق الكهف [وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ]([433]).

وفي سورة الكهف جاءت فاتحة السورة بالشكر لله تعالى على نعمة الرسالة وتنزيل القرآن وأختتمت بالخشوع لله تعالى والأقرار بالعبودية وان النبي عبد لله عز وجل اختصه الله سبحانه بالوحي [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ]([434]).

وجاءت فاتحة سورة مريم بذكر زكريا واسباب الرحمة النازلة مع نبوته ودعائه وأختتمت بنزول العذاب والإستئصال للكافرين.

فان سورة طه التي جاءت بعدها أفتتحت بالخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[طه]وفيه إشارات إلى بقاء الإسلام واحياء ذكره بإستدامة الأذان.

 إن مبحث فواتح وخواتيم السور يبين حقيقة ثابتة وهي التداخل والترابط بين آيات القرآن وأن بعضها يعضد البعض الآخر ويشير إلى حسنه وجماله ويثبت موضوعه ويؤكد حقيقته القرآنية ويظهر وحدة الماهية في المعارف الإلهية والمعارف القدسية وتترشح فيه قواعد كلية للعلوم الإسلامية، وتتجلى بأنواره علوم من أسرار نزوله من عند الله عز وجل.

جمع القرآن

مباحث جمع القرآن علم مستقل له عذوبة وفيه طراوة ويجذب إليه النفوس لما فيه من أسرار تأريخية ووثائقية وعقائدية وجهادية، ويدل على حرص المسلمين على تعاهد القرآن كما يدل على فضل الله تعالى بحفظ القرآن والإعجاز الذاتي والغيري للقرآن في حفظ آياته ومنع يد التحريف من الوصول إليه رسماً وتلاوة وآيات، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ([435])، ان القرآن مائدة السماء الدائمة التي أراد الله عز وجل لها أن تكون في متناول كل إنسان لتطرد عنه أسباب ومقدمات الضلالة.

ومع أهمية مباحث جمع القرآن في توثيق آياته وتوكيد نزولها من عند الله فان الناس تلقوه بإعتباره من المسلمات والبديهيات ، ولم يجعل أحد هذا الأمر من وجوه الطعن بالقرآن مع كثرة أعداء الإسلام.

فالمتسالم عند الناس ان جمع القرآن تم بصورة صحيحة وان يد التحريف والزيادة لم تطرأ عليه وأن المنافقين والكفار عجزوا عن التلاعب بآياته ولم يفكروا بالإضافة له أو تغيير بعض آياته بل أنهم فشلوا حتى في موارد تفسيره ولم يتجرأوا على تفسيره في غير الحق والمناهج القويمة والموارد التي أنزل فيها، فمن باب الأولوية القطعية عدم الوصول إلى آياته، مع أنه كان محاطاً بعناية المسلمين من أيام الصحابة.

فمع تعدد سوره وآياته فان المسلمين كانوا يحفظونه، وسياق وترغيب آياته متواتر ومحفوظ عندهم ولكن هذا لم يمنع من البحث عن أوان جمع القرآن أي أنه مبحث صغروي بعد التسليم على صدق آياته وعدم سقوط بعض منها ولا عبرة بالقول الشاذ النادر:

والوجوه في جمعه ثلاث:

الأول : جمع القرآن في أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الثاني : جمع في عهد أبي بكر.

الثالث :جمع في حكم عثمان.

وعن مسروق عن عائشة عن فاطمة – عليها السلام – أسر إلى النبى – صلى الله عليه وآله وسلم، أن جبريل كان يعارضنى بالقرآن كل سنة، وإنه عارضنى العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلى([436]).

وهذه المعارضة أي بالدراسة والمعارضة هنا بمعنى المقابلة ومنه عارضت الكتاب أي قابلته وعارضته بمثل ما صنع أي أتيت بمثل ما أتى.

وفي الحديث إشارة إلى جمع القرآن إلا أنه لا يدل على وجوده في مصحف مخصوص إلا بقرينة إضافية (قال ابن عباس قلت لعثمان ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهى من المثانى وإلى براءة وهى من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم قال عثمان كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يأتي عليه الزمان وتنزل عليه السور وكان إذا نزل عليه شىء دعا بعض من كان يكتبه فقال ضعوا هذه الآيات فى السورة التى يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل من المدينة وكانت براءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ثم كتبت فثبت أن القرآن كان على هذا التأليف والجمع فى زمن النبى صلى الله عليه وآله و سلم([437]).

مما يدل على أن ترتيب السور كان توقيفياً ومن أيام الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حتى على القول بتأخر كتابة القرآن عن أيام الوحي والتنزيل.

وقد روى البخاري عن زيد بن ثابت قال أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فاذا عمر بن الخطاب عند فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال إن القتل قد أستحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن . قلت لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ؟

قال عمر هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر .

 قال زيد قال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فتتبع القرآن فاجمعه .

 فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن .

قلت كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله ؟ قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ] ([438])، حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر([439]).

ولم يقم زيد بن ثابت بجمع القرآن بمفرده بل إشترك معه الصحابة وكان الجمع بمرأى ومسمع ومشاركة منهم يتدخلون اذا كانت حاجة لتدخلهم فكان عمل زيد يصدر عن الجميع ولم يكن أحد منهم محجوباً عن المشاركة والتدخل وكانوا يستظهرون الآيات إن جاء بها أحدهم ويقرون فعله وشهادته.

 وعن خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ لَمَّا نَسَخْنَا الصُّحُفَ فِى الْمَصَاحِفِ فَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الأَحْزَابِ ، كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وآله وسلم – يَقْرَؤُهَا ، لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلاَّ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِىِّ ، الَّذِى جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وآله وسلم – شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ ([440]).

وقد جمع الإمام علي عليه السلام القرآن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة  , ومدة خلافة عمر بن الخطاب استمرت نحو اثنتي عشرة سنة(11-23) للهجرة (632-644) ميلادية، ومن المستبعد أنها خالية من مشروع جمع القرآن والإلتفات إليه خصوصاً أنه في أيامه فتح الشام والعراق، والقدس والمدائن وبعض نواحي الجزيرة، ودون الدواوين ووضع التأريخ الهجري فيحتمل العمل بخصوص جمع القرآن وجوهاً:

الأول : إعتمد في زمانه على المصحف الذي جمع في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الثاني : قام بجمع القرآن في أيامه.

الثالث : لم يكن في زمانه مصحف يجتمع عليه المسلمون، وإنتظروا حتى زمان عثمان بن عفان.

أما الوجه الثالث فهو بعيد لحاجة المسلمين اليومية للقرآن ولو لم يكن المصحف موجوداً لتساءل الصحابة والمسلمون القادمون من الأمصار وحديثوا العهد بالإسلام والغزاة والولاة الذين ذهبوا إلى الأمصار التي أفتتحت او أنشئت بصبغة إسلامية.

 أما بالنسبة للوجه الثاني فلم يكن هناك ما يدل على إبتداء جمع القرآن في مصحف أيام عمر بن الخطاب بل أن النصوص والأخبار وردت بجمعه قبل ايام خلافته نعم هناك نصوص وردت بقيامه بجمعه فقد (أخرج ابن أبي داود من طريق الحسن أن عمر سأل عن آية من كتاب الله فقيل: كانت مع فلان، قتل يوم اليمامة، فقال: انا لله وأمر بجمع القرآن، فكان اول من جمعه في المصحف) ([441])، والحديث منقطع.

إن قدم وسبق زمان جمع القرآن معجزة وعون لكل مسلم ومسلمة وشهادة تأريخية، ووثيقة خالدة تؤكد حفظه وتعاهده وأنه نزل ليكون مجموعاً بين دفتين، وان كان تأخر جمعه في حال ثبوته لا يضر في هذه الحقيقة لأنه كان مجموعاً محفوظاً في صدور الصحابة لأسباب:

الأول : يتصف العرب بقوة الحافظة وحسن الذاكرة.

الثاني : أثر وموضوعية خصلة الإيمان والتقوى عند المسلمين وما يترشح عنه من السعي في علوم القرآن ودراسة وفهم آياته، والتدبر في معانيها ومضامينها القدسية.

الثالث : شوق الصحابة إلى آيات القرآن ومتابعتهم لنزولها وكان بعضهم يسأل بعضاً هل نزل اليوم على النبي قرآن، وهذه آية إعجازية غيرية للقرآن ان يجعل الله عز وجل قادة المسلمين من الصحابة يولون عناية خاصة لنزول القرآن بالتتبع والملاحظة، وهذا السؤال ليس مجرداً بل هو مقدمة للعلم بموضوع الآية وبلاغتها وأحكامها ودلالاتها العقائدية ومضامينها.

لقد أيقن المسلمون بأن النازل من القرآن هبة سماوية من عند الله تعالى للناس جميعاً وهم الواسطة بين الرسول وبين الناس في التبليغ والمعرفة فهم حملة القرآن، حملوه بصدورهم ونقلوه بأفواههم وفهموه بمداركهم وعقولهم، وكانت صدورهم أناجيل واوعية لسور القرآن، يتعاهدون السورة والآية منطوقاً ولفظاً ليأتي رسم الحروف والكلمات مطابقاً للفظ.

وقد إستمرت كتابة القرآن من غير تنقيط ولم يضر في كلمات الآيات ونطقه وموضوعه ولم يحصل أي خلط أو إشتباه أو ترديد في كلماته بإحتمال ان يقرأ الحرف مثلاً باء  : ياء أو تاء أو نوناً أو ثاء , أي أن الرسم القرآني يحتمل أحياناً خمسة وجوه.

ومع تأخير التنقيط نحو مائة سنة فانه لم يؤثر سلباً ولم يؤد إلى الإرباك او الخلاف والخصومة وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ([442])، ولإتفاق المسلمين على قراءته وحفظهم لآياته كما أن الصحابة أيام النزول أكثر حفظاً وإنقطاعاً إلى القرآن وقدرة على الحفظ بالفطرة وكانوا يتصفون بالنباهة والفطنة.

 بدليل أنهم بادروا إلى دخول الإسلام والجهاد في سبيل الله تعالى حينما رأوا الآيات العقلية فادراكهم للأسرار القدسية لآيات القرآن من بين الأسباب التي ساهمت في الحرص النوعي والشخصي على حفظ آيات القرآن.

 وهناك نصوص من السنة النبوية الشريفة تبين حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين على حفظ القرآن وقراءته في البيوت وتعاهد الورد اليومي في قراءته، (وعن علي عليه السلام ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ([443]).

 وعن أنس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا بني لا تغفل عن قراءة القرآن اذا أصبحت واذا امسيت فان القرآن يحيي القلب الميت وينهي عن الفحشاء والمنكر).

وحديث الثقلين المشهور عند جميع فرق المسلمين وبطرقهم المختلفة: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وأهل بيتي وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ([444]).

فالحديث يؤكد في ظاهره وجود القرآن بهيئة المصحف والكتاب المجموع بين دفتين وقد ورد عن الصحابة أنهم كانوا يحفظون عشر آيات من القرآن ولا يجاوزوهن إلى غيرهن حتى يعلموا تفسيرها ومضامينها فهذا التعلم يساعد في ترسيخ اللفظ في الأذهان، ويمنع من التحريف، ويقلل من إحتمال النسيان من وجوه:

الأول : يأتي الحفظ من قبل الجماعة وليس الفرد.

الثاني : التعلم يمنع من الشك اللاحق باحتمال إرادة كلمة أخرى بدل اللفظ القرآني، فالتعليم ترسيخ لكلمات القرآن في الصدور.

الثالث : فيه دلالة على إشتراك المسلمين في تدارس القرآن وتعاهده وحفظه ولم يمكن هناك إحتمال لضياع بعض آياته أو سقوط بعض كلماته.

وقيام المسلمين بتعلم ودراسة القرآن لابد وان يكون مقروناً بالقراءة والكتابة وتدل عليه الأخبار التي وردت بان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إتخذ جماعة من الصحابة ليكونوا كتاباً للوحي.

وعندما ينزل عليه وحي ولم يكن معه واحد منهم كان يرسل عليهم في الحال ليكتبوا ما نزل عليه، فلم يترك الكتابة إلى حين حضور كتاب الوحي وهذه المسألة تؤكد توثيق الآيات وكتابتها حال نزولها وإن لم تكن السور كلها مجموعة بين دفتين.

وهناك اخبار كثيرة ذكرت بان الصحابة كانوا يكتبون القرآن أجمعه في العُسب وهو جريد النخل إذا نزع عنه خوصه، واللخاف وواحدتها لخفة وهي الحجارة البيضاء العريضة الرقيقة.

**********

الفهرس

الصفحةالموضوعالصفحةالموضوع
3المقدمة130اللغة
5إعجاز القرآن147قوله تعالى[بِعَبْدِهِ]
17ما ذكر في إعجاز القرآن155تفسير قوله تعالى [ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]
67تعلم القرآن وتعليمه159تفسير قوله تعالى [ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى]
77في علم الحديث161تفسير قوله تعالى [ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا]
83أقسام الخبر الواحد163تفسير قوله تعالى [ إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ]
92الإنفتاح والإنسداد165الإسراء ونزول القرآن
95القرآن والعقل168الإسراء والوحي
101بحث أصولي171بحث كلامي
106الصيام نظرة قرآنية174بحث كلامي
124طرق ثبوت الهلال ومرتكزاتها الأصولية180هل الجنة والنار مخلوقتان
126ليلة القدر187الإيمان بالمعراج
129الإسراء ..نظرة قرآنية189الإسراء والهبوط

الفهرس

الصفحةالموضوعالصفحةالموضوع
193المعراج والملائكة260خواتيم السور
200المعراج في القرآن264خواتيم الآيات
205الإسراء والعلم266جمع القرآن
206الإسراء والعلوم المعاصرة274              الفهرس
208تأريخ الإسراء  
214الإسراء عقلاً  
216         إسراء الأنبياء  
222بحث عرفاني  
225الإسراء وبيت المقدس  
230الإسراء بالبدن  
237المكي والمدني  
243منافع تقسيم الآيات لإلى المكي والمدني  
254سياق الآيات المناسبة بين الآيات  

([1]) سورة الواقعة 33.

([2]) سورة الأنبياء 107.

([3]) سورة فصلت 3.

([4]) صدرت إلى الآن ثمانية أجزاء من هذا التفسير في صلة آية[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] بالآيات السابقة لها.

 ([5])سورة إبراهيم 34.

 ([6])سورة الروم 58.

 ([7])سورة يوسف 3.

 ([8])سورة البقرة 2-3.

 ([9])سورة آل عمران 124.

 ([10])مجمع البيان6/188.

 ([11])سورة الأنعام 19.

 ([12])سورة الذاريات56 .

 ([13])سورة الشورى12 .

 ([14])سورة الحديد 5.

 ([15])سورة البقرة 2.

([16]) سورة الأسراء 89.

 ([17])سورة البقرة 2.

 ([18])سورة العلق 5.

 ([19])سورة المنافقون8.

 ([20])سورة العلق 5.

 ([21])سورة النجم 3-4.

 ([22])الكشاف6/437.

 ([23])سورة آل عمران 44.

(1) سورة النحل 125.

 ([25])سورة يوسف 2.

 ([26])سورة الحج 32.

 ([27])سورة البقرة 23 .

 ([28])لسان العرب 13/480.

 ([29])سورة التوبة 105.

 ([30])سورة المائدة 49.

[31])) سورة يوسف 111.

([32]) سورة البقرة 23.

([33]) مصطفى الرافعي / إعجاز القرآن 62.

([34]) مناهل العرفان 1/181.

([35]) سورة الفرقان 6.

 ([36])سورة العلق1.

([37]) سورة الأنبياء 107.

([38]) سورة المدثر 31.

 ([39])سورة غافر7.

 ([40])سورة البقرة23.

 ([41])انظر تفسير حقي 16/202.

 ([42])سورة الحجر9.

 ([43])سورة الأسراء 39.

([44]) سورة الأنبياء 107.

([45]) سورة الأنبياء 107.

 ([46])سورة الحشر9.

([47]) سورة الأنفال 46.

 ([48]) أنظر كتابنا معراج الأصول، تقريرات بحثنا الخارج في علم الأصول .

 ([49]) مفاتيح الغيب4/117 .

 ([50])سورة التوبة 36.

(1) بيان اليوم العالمي للقرآن:

الحمد لله الذي جعل آيات القرآن مصدراً دائماً للضياء المحض ومنبعاً للمعارف المستفيضة، وخزائن علمية لا تنفد كنوزها ومأدبة سماوية ينهل منها الناس على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ليبقى القرآن وما فيه من الإشراقات الغيبية حاجة مستديمة وملازمة لأهل الأرض خصوصاً وان الإنسان ممكن وكل ممكن محتاج.

وفي أيام العـولمة وتقـارب الأمم وتداخـل الأفكـار طوعـاً وقهراً اقترح تخصيص يوم باسم “اليوم العالمي للقرآن” تقدم فيه النشاطات والدراسات الخاصة بالقرآن وتقام فيه المعارض والفعاليات المناسبة، مع السعي لتثبيت هذا اليوم في المنظمات والمؤسسات العالمية والوطنية مثلما جرى تخصيص ايام للمواضيع المختلفة، بل بالأولوية لما في القرآن من إسباب السمو والرفعة، وصفات الكمال الإنساني، وإعجاز ذاتي وغيري وجامع لهما، وإفاضات  كلية مشككة تترشح على الإنسانية جمعاء وعلى المسلمين بصورة خاصة، والأولى أن يطلق هذا العنوان التشريفي على اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك، وقيل فيه اول نزول الوحي في السنة الحادية والأربعين من عمر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه وقعت معركة بدر ونزل قوله تعالى [ إِنْ كُنتمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ  يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ].

و(الفرقان) من اشهر اسماء القرآن بعد اسم القرآن، ولعلهما مرجع جميع اسمائه كما ترجع صفات الله عز وجل مع كثرتها  الى معاني الجلال والجمال،  وفي المعنى الأعم لالتقاء الجمعين ومفهومه اشارة الى تقارب الحضارات في هذا الزمان، وظواهرمستقبلية غيبية، ومقدمة لصيغ الحوار والتداخل والتزاحم بين الأديان والأمم، ومواجهة نوعية للمفاسد العرضية وأسباب التحدي لعالم الفضائيات والتكنولوجيا، واستثمار مبارك لها ومساهمة في تهذيب النفوس، واكرام وتعاهد للقرآن.

وربما كان ورود [ يَوْمَ الْفُرْقَانِ] في الآية الكريمة اعلاه دعوةً لتخصيص هذا اليوم وخطـاباً انحـلالياً لكل المؤمـنين، لذا اعـرض بين أيديكـم هذا الاقتراح ليكون يوم القرآن عيداً يتجلى فيه الإرتقاء إلى عالم الملكوت، والسعي النوعي لبلوغ أشرف المقامات. [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ].

(1) سورة النحل 90.

 ([53])انظر مجمع البيان6/170 .

 ([54])سورة النساء 46.

 ([55])سورة البقرة76.

(1) سورة الإسراء 88.

(2) الزركشي / البرهان في تفسير القرآن 2/94.

(1) سورة البقرة 23.

(2) سورة الإسراء 88.

(3) سورة البقرة الآية 282 وجاء جزء كامل من هذا السفر في تفسيرها.

 ([61])الدر المنثور 8/43 .

([62]) بحار الأنوار 2/227.

(1) سورة البقرة 213.

(2) سورة النور 55.

(1) سورة البقرة 31.

 ([66])سورة الأسراء 9.

 ([67])سورة النساء82.

 ([68])سورة النحل 89.

 ([69])سورة البقرة 4.

 ([70])سورة الحجر 9.

 ([71])سورة هود49.

 ([72])سورة ن 4.

 ([73])الكشاف 7/115 .

(1) سورة الطور 7.

 ([75])البرهان في علوم القرآن 2/108 .

(1) سورة يس 69.

(1) سورة البقرة 211.

([78]) سورة البقرة 47.

(1) سورة هود 57.

(1) سورة النساء 105.

 ([81])سورة  يوسف 3.

(1) سورة النحل 125.

 ([83])سورة العلق 5.

 ([84])سورة التوبة37.

 ([85])سورة الذاريات 56.

 ([86])سورة العلق 1.

 ([87])سورة البقرة 21.

 ([88])سورة النساء 170.

 ([89])سورةالحج 1.

 ([90])سورةالأنفال 65.

 ([91])سورة الإسراء61.

 ([92])مفاتيح الغيب14/396 .

(1) سورة النحل 44.

([94]) سورة البقرة 197 .

 ([95])مجمع البيان 1/23 .

([96]) الوسائل 15/250.

([97]) مسند أحمد 46/249.

([98]) سورة ص 29.

([99]) إعجاز القرآن 1/157.

([100]) الفصول والغايات 1/76.

(1) سورة البقرة 216.

([102]) يقال فتاة خماسية أي ان طولها يبلغ خمسة أشبار وكذا يقال غلام خماسي، ولا يقال سباعي لأنه إذا بلغ سبعة اشبار صار رجلاً.

 ([103])تفسير القرطبي13/224 .

(1) سورة القصص 7.

 ([105])سورة الإسراء9 .

 ([106])ابن أبي الحديد/ شرح نهج البلاغة 13/7 .

 ([107]) الكشاف 1/306 .

 ([108])الكشاف 1/306.

(1) صحيح مسلم 1/93.

([110]) سورة الأسراء 9.

([111]) سورة الحج45.

 ([112])الكشاف6/437 .

 ([113])سورة المجادلة 11.

 ([114])سورة الطلاق 7 .

([115]) سورة الحجر 9.

 ([116])سورة الزمر 41.

([117]) الكشف والبيان 6/110.

([118]) سورة سبأ 28.

([119]) بحار الأنوار 7/305.

 ([120])ابن أبي الحديد/ شرح نهج البلاغة38/1 .

 ([121])مفاتيح الغيب 11/415 .

([122]) سورة الأحزاب 30.

([123]) سورة يوسف 111.

 ([124])الدر المنثور 2/207.

 ([125])سورة الزخرف 3.

(1) سورة المؤمنون 44.

([127]) سورة المائدة 12.

([128]) سورة الأنفال 65.

([129]) سورة الأنفال 64.

([130]) سورة الأعراف 155.

 ([131]) مفاتيح الغيب 2/287 .

 ([132])مفاتيح الغيب 4/326 .

([133])الزركشي/ البحر المحيط 5/265.

([134])الزركشي/ البحر المحيط 5/265.

([135])أنظر الآمدي/ الأحكام 2/31.

 ([136])سورة الحجرات 6.

 ([137])سورة الحشر7.

 ([138])سورة آل عمران 110.

([139])الأنوار الكاشفة 1/67.

([140]) سورة الحجرات 6.

([141])لسان العرب 12/350.

([142])التبيان 9/332.

([143])بنو المصطلق -بضم الميم وسكون الصاد وفتح الطاء وكسر اللام- بطن من خزاعة من الأزد القحطانية، ومنهم جويرية بنت الحارث زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

([144]) سورة التوبة 122.

([145]) سورة النور 2.

([146])سورة النحل 43.

([147])كشف الأسرار 4/283.

([148])سورة النساء 135.

([149])سورة البقرة 159.

([150])البحار 2/242.

(1) سورة البقرة 46.

 (2)سورة الأنعام 116.

(1) سورة فصلت 53.

([152])سورة الفتح 22.

(1) سورة الأنبياء 107.

 

([153]) سورة الشعراء 214.

([154]) سورة المائدة 6.

 ([155])سورة النحل 89.

 ([156]) مفاتيح الغيب1/260 .

([157])تفسير الآلوسي 6/29.

 ([158])سورة الحديد 17.

([159]) سورة النحل89.

(1) سورة البقرة 183.

([160]) أنظر الجزء الخاص بتفسير آيات الصيام 183-184 .

 ([161])تفسير الطبري 22/7 .

 ([162])سورة آل عمران 110.

 ([163])الدر المنثور 1/363 .

(1) سورة البقرة 185.

([164]) الوافي بالوفيات 4/204.

([165]) طبقات الحفاظ 1/23.

 ([166]) الدر المنثور 1/194 .

([167]) الوسائل 10/ 24.

([168]) الوسائل 3/150.

 ([169])الدر المنثور 1/365.

([170]) سورة البقرة 185.

(1) سورة سبأ 28.

(2) سورة البقرة 183.

([171]) سورة التوبة 105.

 ([172])سورة آل عمران 110 .

([173]) انظر تهذيب اللغة 2/325 لسان العرب 11/701 تاج العروس 1/759.

(2) سورة البقرة 189.

([175]) انظر ابن سيدة/المحكم والمحيط الأعظم 2/136.

 ([176]) مجمع البيان 2/21.

(1) سورة البقرة 185.

 ([178]) الدر المنثور 1/388.

([179]) سورة فصلت 37.

([180]) سورة الأنعام 77.

 ([181])سورة آل عمران 110.

([182]) سورة الإسراء 1.

 ([183])سورة آل عمران 103.

([184]) سورة البقرة 185.

([185]) سورة البقرة 286.

([186]) سورة البقرة 189.

([187]) سورة البقرة 117.

 ([188])الدر المنثور 1/388 .

(1) سورة الجاثية 13.

(1) انظر كتابنا الهلال ورؤيته 34.

([189]) مجمع البيان 10/360.

(1) سورة الدخان 3.

([190]) سورة القدر 1.

 ([191])سورة الأسراء 1.

([192]) سورة الاسراء 76 – 80.

([193]) لسان العرب 2/471.

([194]) سورة يوسف 43.

 ([195])تفسير الطبري1/474 .

 ([196])تفسير القرطبي1/37.

([197]) سورة النور 41.

 ([198])مفاتيح الغيب1/252.

([199]) سورة الفجر 4.

([200]) لسان العرب 3/273.

([201]) سورة ن 4.

 ([202])الدر المنثور 5/201 .

([203]) سورة النور 35.

 ([204]) سورة الرحمن 33.

([205]) سورة الإسراء 1.

 ([206])سورة آل عمران 110 .

 ([207]) الدر المنثور1/1 .

 ([208])تفسير الطبري15/31 .

 ([209])سورة البقرة 29.

([210]) سورة النساء 113.

 ([211])مفاتيح الغيب14/396 .

([212]) مفاتيح الغيب 10/116.

([213]) سورة الأنعام 76.

 ([214])مجمع البيان1/554.

([215]) البهيم: أي الذي لا يخالط لونه شىء سواه، ومنه الأسود البهيم.

([216]) سورة آل عمران 124.

([217]) سورة الكافرون 1 – 2.

 ([218]) مجمع البيان9/132.

([219]) سورة الدخان 23.

([220]) سورة المزمل 20.

([221]) سورة الاعراف 142.

([222]) سورة النجم 3 – 4.

 ([223])سورة الشورى 12.

 ([224])سورة الإسراء 1 .

([225]) سورة الكهف.

 ([226])سورة البقرة30.

([227]) سورة المعارج 4.

 ([228])سورة لقمان 10.

 ([229])تأريخ مدينة دمشق4/76.

 ([230])مفاتيح الغيب 1/243.

 ([231])سورة النجم 10.

 ([232]) الكشاف 4/29 .

([233]) سورة الفاتحة 5.

 ([234])مفاتيح الغيب1/494 .

([235])الجاثليق: بفتح التاء، هو رئيس النصارى في بلاد الإسلام، ولغتهم السريانية.

([236])تفسير الرازي 2/112.

([237]) سورة النساء 172.

([238]) بحار الأنوار 56/251.

 ([239])سورة البقرة 187 .

([240]) سورة النازعات 30.

([241]) سورة البلد 13.

([242]) سورة براءة 28.

([243]) سورة الأسراء 1.

([244]) وهو في هذا الزمان مكتبة مكة العامة.

 ([245])سورة المنافقون8.

([246]) سورة الاسراء 78.

 ([247]) الدر المنثور 6/230 .

([248]) سورة الزخرف 45.

([249])الكشاف3/ 490.

([250]) مفاتيح الغيب 20/ 147.

([251]) جمهرة أشعار العرب 1/90.

 ([252]) الدر المنثور 4/161.

([253]) سورة الانعام 75.

([254]) سورة البقرة 285.

([255]) سورة البقرة 285.

([256]) سورة البقرة 286.

([257]) سورة البقرة 286.

([258]) سورة البقرة 286.

([259]) سورة البقرة 286.

([260]) بحار الأنوار 18/329.

([261]) الدر المنثور 6/194.

([262]) الكشف والبيان 6/79.

([263]) سورة العلق 1 – 5.

 ([264])سورة ن 4.

 ([265])سورة البقرة 30.

 ([266])سورة البقرة 30.

 ([267])الدر المنثور 9/83 .

([268]) أيسر التفاسير 1/138.

([269]) الدر المنثور 2/272.

 ([270])الإتقان في علوم القرآن 1/50.

([271]) سورة الإسراء 60.

 ([272]) تفسير ابن كثير5/92 .

 ([273])مفاتيح الغيب10/82 .

([274]) سورة طه 5.

([275]) سورة النحل 50.

([276]) سورة الانعام 18.

([277]) سورة القيامة 23.

([278]) قفّ : أي قام من الفزع لما حصل عندها من عظمته تعالى وهيبته.

([279]) سورةالنجم 18.

([280]) سورة لقمان 34.

([281]) أي الكذب.

([282]) موضع في اسفل مكة و اصبح مجاوراً للبيت الحرام بعد التوسعة فيه.

([283]) صحيح الترمذي 5/367.

([284]) سورة الاعراف 143.

([285]) سورة الاعراف 143.

([286]) سورة القيامة 22 – 23.

([287]) مفاتيح الغيب 28/290.

([288]) تفسير ابن كثير 7/449.

([289]) سورة الانعام 103.

 ([290])الدر المنثور4/337.

 ([291]) الدر المنثور4/337.

 ([292])سورة الأعراف156 .

 ([293])الدر المنثور 2/162 .

 ([294])مفاتيح الغيب 5/274.

([295]) سورة آل عمران 133.

([296]) سورة آل عمران 131.

([297]) سورة البقرة 35.

([298]) سورة القصص 88.

([299]) سورة المؤمن 46.

([300]) سورة الروم 12.

([301]) هو ابو عبد الله القرشي، مولاهم، بربري الأصل، كان لحصين بن أبي الحر العنبري فوهبه لابن عباس، وذكر انه كان يرى رأي الخوارج وانه أباضي، وكان يكذب على ابن عباس وقد أدبه على ذلك علي بي عبد الله بن عباس، قال أحمد بن حنبل: مضطرب الحديث وعن الربيع قال: قال الشافعي وهو يعني مالك بن أنس سئ الرأي في عكرمة قال لا أرى لأحد أن يقبل حديثه، توفي عكرمة سنة أربع ومائة وكانت الأمراء تكرمه، وقال عكرمة طلب العلم أربعين سنة)العبر في خبر من غبر1/23.

 ([302])سورة آل عمران 133 .

([303]) سورة المؤمن 46.

 ([304])الدر المنثور9/364.

([305]) الوسائل 17/412 عن كتاب ورام بن أبي فراس.

 ([306])نهج البلاغة 3/74.

 ([307])مفاتيح الغيب 9/302.

 ([308])سورة النجم 8-9 .

([309]) التحصين لابن طاووس 1/11.

 ([310])سورة التحريم 12.

 ([311])الدر المنثور1/91.

([312]) سورة الاحزاب 56.

 ([313])مفاتيح الغيب3/432 .

([314]) الجزائري / قصص الانبياء 39.

(1) سورة الأحزاب 40.

([316]) سورة الحج 75.

([317]) بحار الأنوار 56/175

 ([318])مفاتيح الغيب2/18 .

 ([319])مفاتيح الغيب 3/432 .

 ([320])أنظر مفاتيح الغيب 2/18 .

([321]) سورة التحريم 6.

 ([322])الدر المنثور 1/174 .

 ([323])سورة الدر المنثور 1/174 .

([324]) سورة النجم 3 – 4.

 ([325])سورة آل عمران 124 .

 ([326])سورة العلق 5.

 ([327])مجمع البيان1/288.

([328]) سورة الرعد 23 – 24.

([329]) سورة النجم 13 – 14.

([330]) الدر المنثور 9/321.

([331]) سورة النجم 17.

([332]) سورة النجم 17.

([333]) سورة النجم 18.

([334]) سورة الزخرف 45.

 ([335])مفاتيح الغيب13/479 .

([336]) مفاتيح الغيب 27/216.

 ([337])سورة العلق 5.

 ([338])سورة الأنعام 38 .

([339]) سورة الزخرف 44.

([340]) سورة آل عمران 37.

 ([341])مفاتيح الغيب10/171 .

([342]) الدر المنثور 4/153.

([343]) انظر الدر المنثور 4/153.

([344]) علل الشرائع 1/183.

([345]) بحار الانوار 10/5 طبعة حجرية.

([346]) بحار الأنوار 28/41.

([347]) صحيح البخاري 7/142.

([348]) تفسير ابن كثير 3/24.

 ([349]) الدر المنثور 4/153.

([350]) سورة الحج 78.

 ([351])مفاتيح الغيب15/39.

([352]) سورة الحجر 48.

 ([353])تفسير الطبري 11/473.

([354]) سورة النمل 40.

([355]) سورة النمل 40.

 ([356])سورة الرعد 43.

([357]) سورة النساء 157.

([358])الدحية – بكسر الدال – رئيس الجند، وبه سمي دحية بن خليفة الكلبي صحابي شهد احداً وما بعدها، وكان جبرئيل uيأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم احياناً في صورة دحية، وارسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى قيصر رسولاً سنة ست في الهدنة. .

([359]) الدر المنثور 4/149-152.

 ([360])مفاتيح الغيب 2/454.

 ([361])مجمع البيان 6/194.

 ([362])سورة الأنعام 75 .

 ([363])سورة سبأ 2 .

 ([364])مفاتيح الغيب 4/7.

 ([365])الدر المنثور 4/179.

 ([366])تفسير ابن كثير 6/367.

 ([367])سورة النحل89 .

 ([368])سورة البقرة 144 .

 ([369])سورة الأسراء 1.

([370]) سورة الأسراء 5.

 ([371])سورة الأسراء1.

 ([372])لسان العرب 11/40 .

([373]) بحار الأنوار 45/205 .

 ([374]) لسان العرب 13/325.

([375]) سورة الأنفال 17.

 ([376])الدر المنثور9/180 .

 ([377])مفاتيح الغيب 5/329 .

([378]) مفاتيح الغيب 20/147.

([379]) سورة التين 9 – 10.

([380]) سورة الجن 19.

([381]) تأريخ دمشق 4/76.

 ([382])مفاتيح الغيب 9/494.

 ([383])سورة البقرة 21 .

 ([384])الإتقان في علوم القرآن1/17.

 ([385])الإتقان في علوم القرآن1/10.

([386]) سورة الأسراء 1.

 ([387])لسان العرب5/60 .

 ([388])مفاتيح الغيب 2/454.

([389]) سورة الحجرات 2.

([390]) سورة الحجرات 6.

([391]) سورة الحجرات 11.

([392])سورة الحجرات 13.

([393]) سورة التغابن 2.

 ([394])سورة الحج 77.

([395]) سورة ق 24.

([396]) سورة ق 31.

 ([397])أنظر سورة البقرة 21 .

 ([398])أنظر سورة النساء 1 .

 ([399])أنظر سورة الأعراف157.

 ([400])أنظر سورة يونس22.

 ([401])أنظر سورة الحج 1 .

 ([402])الإتقان في علوم القرآن 1/17 .

([403]) مجمع البيان 4/2.

 ([404])سورة الزمر 66 .

([405]) سورة الأنعام 151.

 ([406])صحيح مسلم 1/300،مجمع البيان10/411 .

([407]) سورة البقرة 258.

([408])البرهان في علوم القرآن1/36.

([409])سورة البقرة189.

([410])سورة البقرة286.

([411])سورة آل عمران1-2.

([412])سورة آل عمران 130.

([413])سورة النساء 1.

([414])سورة النساء 176 .

([415])سورة المائدة 1.

([416])سورة المائدة120.

([417])الأنعام1.

([418])سورة طه135.

([419])سورة الأنبياء1.

([420]) سورة فاطر 24.

([421])سورة يوسف89.

([422])مجمع البيان2/205.

([423])سورة البقرة286.

([424])سورة آل عمران200.

([425])مجمع البيان2/431.

([426])البيهقي/السنن الكبرى6/208.

([427])سنن ابن ماجه8/313.

([428])سورة النساء176.

([429])سورة الأنعام165.

([430])سورة المؤمنون1.

([431])سورة المؤمنون117.

([432])سورة الحج78.

([433]).الأسراء111

([434])سورة الكهف 110.

([435])سورةالحجر9.

([436])صحيح البخاري16/481.

([437])البرهان في علوم القرآن 1/234-235.

([438])سورة التوبة128.

([439])صحيح البخاري16/467.

([440])صحيح البخاري16/25.

([441])الإتقان في علوم القرآن1/67.

([442])سورةالحجر9.

([443]) سنن الترمذي 5/175.

([444])معجم ابن عساكر 1/494.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn