سورة البقرة الآيات (120- 126)
المقدمة
الحمد لله الذي جعل الحمد فاتحة كتابه، وطريق الوصول إليه، وآخر دعاء أحبائه في دار النعيم، قال تعالى[وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الحمد لله جعل المسلمين بالقرآن ينظرون بعيون عقولهم، ويهتدون إلى سبل رشادهم، وصل الله على محمد الذي إصطفاه لرسالته للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
وهذا هو الجزء الثاني والعشرون من معالم الإيمان بحلته البهية الجديدة ويتناول تفسير سبع آيات وهي(120-126) سورة البقرة في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً.
وتتضمن هذه الآية خطاباً بالأصل الكتاب، وذكراً لقصة إبراهيم إذ ذكر إسمه في ثلاث آيات متتاليات منها( )، ووتعلق بإمامته وعمارته البيت الحرام ودعوة الناس للحج، وإتخاذه مناسبة ووسلية للأمن يوم القيامة لأن أداء المناسك مصداق الإيمان وشاهد على التقوى.
بعد ذكر أهل الكتاب جاءت الآيات بذكر جهاد إبراهيم ولما قال تعالى[إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا]( )، جاءت بعدها إثنتا عشرة آية تتضمن وجوهاً ومصاديق من إمامته وإخلاصه في كل التوحيد والتباين والتضاد بين الإقتداء به وخفة العقل، قال تعالى[وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ]( )، لتكون إمامته رحمة للمسلمين بإمتثالهم لما فيها من الأحكام وشاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وترغيباً للناس بلزوم إتباع نهجه القويم، قال تعالى[وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ]( ).
إن كل آية من القرآن مدرسة عقائدية، وسياحة في عالم الملكوت، وغنى للنفس وذخيرة ليوم المعاد في تلاوته وتدبرها وبالإسناد عن الزهري عن سالم عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار)( ).
قوله تعالى [ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَـاءَكَ مِـنْ الْعِـلْـمِ مَا لَـكَ مِنْ اللَّهِ مِـنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِــيرٍ] الآية 120.
الإعراب واللغة
الواو: استئنافية، لن: حرف نفي ينصب الفعل المضارع ويخلصه للإستقبال، ترضى: فعل مضارع منصوب بلن.
عنك: جار ومجرور متعلقان بترضى
اليهود: فاعل مرفوع بالضمة، ولا النصارى: عطف على اليهود.
حتى: حرف غاية وجر، تتبع: فعل مضارع منصوب بان مضمرة وجوباً بعد حتى,
ملتهم: مفعول به، والفاعل مستتر تقديره انت.
قل: فعل أمر مبني على السكون.
ان: حرف مشبه بالفعل.
هدى: اسم ان، وهو مضاف، اسم الجلالة: مضاف اليه، والجملة في محل نصب مقول القول.
هو الهدى: مبتدأ وخبر.
ولئن: الواو استئنافية واللام موطئة للقسم، ان: حرف شرط جازم.
اتبعت: فعل ماضِ مبني على السكون في محل جزم فعل شرط، التاء: فاعل.
اهواءهم: مفعول به، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم.
بعد: ظرف، الذي: اسم موصول في محل جر بالإضافة.
جاءك من العلم: جاء فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر يعود للوحي والتنزيل، والضمير الكاف في محل مفعول به، والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول.
من العلم: جار ومجرور، في محل نصب حال.
ما لك: ما: نافية، لك: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، من الله: جار ومجرور متعلقان بولي.
من ولي: من حرف جر زائد، ولي: مجرور لفظاً مرفوع محلاً لأنه مبتدأ مؤخر.
ولا نصير: عطف على ولي.
الرضا: الإختيار والإقتناع بالشيء والقبول به، وفي حديث علي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اما ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى،
الملة: الشريعة التي يجتمع عليها وما ينتحله الإنسان من العقيدة، والملة: والديانة والنحلة والشريعة نظائر، نعم قد تكون الشريعة اخص.
واهواء: جمع هوى وهو مصدر هويه اذا احبـه واشتهاه، ويطلق على ما هو محمود وما هو مذموم، الا انه غلب على المذموم وما يؤدي الى الخسران في الدنيا والآخرة.
بحث نحوي
جاءت حتى في الآية [حَتَّى تَتَّبِعَ] لنصب الفعل (بأن) مضمرة بعدها والتقدير (حتى أن تتبع) وعن سيبويه والخليل أن حتى لا تنصب لأنها تأتي جارة حتى في نحو قوله [حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ]( )، ولا يعرف في العربية حرف يعمل في اسم يعمل في فعل، ولاحرف جار يكون ناصباً للفعل فصار مثل اللام في قولك ماكان زيد ليضربك، في أنها جارة والناصب ليضربك أن المضمرة) ( ).
ولكن هذا التعليل غير كاف لإمكان تعدد معنى حتى بحسب موقعها من الجملة والإعراب، فتأتي جارة مع الاسم كما في قوله تعالى [فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ] ( )، وتكون بمعنى إلى، وتكون ناصبة للفعل، ويمكن إعتبار أصالة الظاهر التي في الأصول وتطبيقها في الصناعة النحوية وأن الأصل في الكلام عدم وجود مضمر إلا مع القرينة التي تدل عليه.
فلماذا لا يقال ان حتى حرف جر، ولكنها إذا جاءت قبل الفعل فانها تنصبه لأنها في هذه الصورة تكون غير حتى الجارة، وهذا التباين في معنى الحروف والكلمات وأثرها فيما بعدها من خصائص اللغة العربية، وهو دليل على فصاحة العرب قبل الإسلام.
وأن القرآن نزل على أساطين في اللغة فاعترفوا بإعجاز لغته، وأقروا بأنه نازل من عند الله، وكانت لغته وما فيها من الدرر من إسباب إسلام الكثيرين، وواقية من أهل الخصومة والعناد وجعلهم ينشغلون بالتدبر في آيات القرآن، وهو من علل مجئ فاتحة بعض سور القرآن بالحروف المقطعة لكي يصغوا لها فتترى عليهم آيات القرآن وتنفذ إلى شغاف القلوب، وتجعل أرباب اللغة يقفون متحيرين مندهشين أمام إعجاز القرآن.
وهل القول بوجود (أن) مضمرة بعد حتى طريق للخروج من الحيرة التي صار عليها بعض النحويين في تفسير إجتماع جر (حتى) للاسم ونصبها للفعل.
وكذا بالنسبة للام ولكن الشواهد عديدة في اللغة تدل على تعدد وظيفة الحرف بحسب مضامين الكلام، وهل من مانع من القول أن حتى حرف جر للإسم، وأداة نصب للفعل فهي إذا دخلت على الاسم تجره أما إذا دخلت على الفعل فانها تنصب.
والقول بأنه لايعرف في العربية حرف يعمل في اسم يعمل في فعل منقوض بحتى نفسها وبغيرها سواء إتحد المعنى في الحالتين، أن تعدد وتباين كما في حتى (وقال الأزهري في حتى: تكون غاية معناها إلى مع الأسماء، وإذ كانت مع الأفعال فمعناها إلى أن) ( ).
وقال الزجاج: حتى: تكون عاطفة، وناصبة، وجارة بمعنى إنتهاء الغاية كقولك سار الناس حتى زيد( )، أي أنه ظاهراً ينسب النصب إلى حرف مضمر.
بحث بلاغي
من إعجاز هذه الآيات ما فيها من الإستطراد وهو من وجوه علم البديع وعبارة عن الخروج بالكلام من الغرض الذي هو فيه إلى غرض آخر لمناسبة بينهما ثم يعود إلى إتمام موضوع الكلام الأول، كما ان العـودة إلى الكلام غير المسلمين وما يريدون، والمبنى الذي يتعاملون به مع الإسلام يدل على أثره واهميته وما فيه من الأضرار، فتفضل الله سبحانه بالتنبيه والإشارة الى موضوعه ليكون درساً للمسلمين جميعاً، ولا غرابة ان ترى ما في السنة من نصوص تتعلـق بحرمة الإرتداد وكيف انه لا يجوز الرجوع عن الإسلام.
موضوع الآية
لقد أراد شطر من أهل الكتاب في المدينة الهدنة والإمهال ليتدبروا أمرهم ويتأكدوا من امر النبوة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يمهلهم من اجل ان يهتدوا ويتبعوه لاسيما وان الآيات تترا وتتعاقب فكشفت هذه الآية الغايات التي وراء طلب الإمهال والهدنة وما فيها من وجوه التعارض والتناقض مع أحكام الرسالة والنبوة.
ويتعلق موضوع الآية ايضاً بحلقة من اهم حلقات الدعوة فهي تجدد كيفية التعامل مع الديانات الموجودة آنذاك وموقفها ازاء الإسلام، والأصل والمتبادر هو العون والمساعدة منهم، او ترك الإسلام وشأنه في اثبات حقيقة وجوده وصدق مبادئه ونزول أحكامه، ولكن العكس هو الذي حصل من بعضهم فلعلهم كانوا اكثر فجاءت هذه الآية للتنبيه والتحذير ولتكون من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
ومن أشـد ما يواجـه البشـرية وينـذر بالشـؤم والهلاك ان يتخـذ فضـل الله تعالى مناسـبة وسـبباً لمواجهة نعمـة عامـة مستحدثـة لاسيما مع عـدم التعـارض بينهما، أي بين هـذه النعمـة العـامـة المستديمـة وبين النعمـة الخاصة، فمثل تلك المحاولة لا ترجع على صاحبها الا بالضرر والخسران.
وذكرت الآية فريقين:
الأول : فريق من أهل الكتاب.
الثاني : نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وموضوع الآية أعم ، فان الثابت في السيرة والتأريخ أن قريشاً ومع كونهم على الشرك كانوا يعذبون المسلمين بشتى صنوف العذاب لإكراههم على ترك الإسلام، إذ كانوا لايرضون على الناس إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويقومون بتحذير الناس من دعوته إلى الله.
وقوله تعالى[قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ] خطاب متوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأصالة وإلى المسلمين بالإلحاق والتبعية، لتكون الآية مدداً لكل مسلم ومسلمة ومادة للتفقه في الدين.
في سياق الآيات
جاءت هذه الآية معطوفة على الآية السابقة، وتتضمن إتحاد جهة الخطاب التشريفي، وتوجهه لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أعم في موضوعها اذ تشمل المسلمين والتنبيه في عدم رضا فريق من الناس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعنهم جميعاً، الا ان يتبعوا، ومن الآيات ان موضوع الرضا يتعلق بالملة وإتباعها، أما التحذير والإنذار فيتعلق باتباع الهوى ولزوم الحيطة والحذر من أهوائهم.
وتتضمن الآية التالية مدحاً لأهل الكتاب الذين يتلون الكتاب حق تلاوته ويقرون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن إعجاز القرآن أن تتضمن الآية السابقة جواباً على مضامين هذه الآية، كما تصلح أن تكون مقدمة للإحتراز والإحتجاج، فان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله فلا يتبع ملة أحد من الملل السابقة.
وفي صلة هذه الآية والآية السابقة[إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا…]( ) مسائل:
الأولى : مجيء الآيتين بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه إكرام وتشريف له.
الثانية : جاءت الآية السابقة شهادة سماوية برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمّا الآية محل البحث فتتضمن الإخبار عن رغائب طائفة من أهل الكتاب في عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما عندهم.
الثالثة : بيان التنافي بين دعوة أهل الكتاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لملتهم وبين أمر الله عز وجل بالوظائف الرسالية العامة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : الرد عليهم بأن الله بعث النبي محمداً لبشاراتهم وإنذارهم فيجب أن لا تضيع هذه الفرصة، ومن الآيات في رحمة الله أن هذه الفرصة مستديمة على نحو القضية الشخصية والنوعية.
أما الشخصية فتجدد هذه الرحمة والفرصة كل يوم من أيام عمره، وأما النوعية فهي باقية إلى يوم القيامة، وتدل عليه الآية السابقة وما فيها من صيغة العموم وتقديرها: إنا أرسلناك بشيراً ونذيراً للناس جميعاً.
وتحتمل آية البحث بلحاظ الآية السابقة وجوهاً:
الأول : إنها من آيات الإنذار، وعمومات قوله تعالى في وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الآية السابقة(ونذيراً).
الثاني : إنها من آيات البشارة.
الثالث : هي من الفرد الجامع ففيها البشارة والإنذار.
الرابع : ليس في آية البحث بشارة أو إنذار، وبإستثناء الوجه الرابع فإن الوجوه الأخرى كلها صحيحة، فهي إنذار لأهل الأهواء.
الخامسة : لما أخبرت الآية السابقة عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وماهية هذه الرسالة بأنها بشارة وإنذار في أمور الدنيا والآخرة جاءت هذه الآية ببيان قانون ثابت يتجلى بقوله تعالى[إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى]( ) ليفيد الجمع بينهما أن هدى الله برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وصلة هذه الآية بالآية بعد التالية[اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ..]( )، ومن نعم الله على بني إسرائيل في المقام وجوه:
الأول : من نعم الله عز وجل على بني إسرائيل كثرة الأنبياء الذين بعثهم من بين ظهرانيهم النهي.
الثاني : منها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها النعمة العظمى والرحمة للناس.
الثالث : هدى الله عز وجل هو نعمة على بني إسرائيل والناس جميعاً، ولولا هذا الهدى لما نجى بنو إسرائيل من فرعون وبطشه، خصوصاً وأن نجاتهم كانت بمعجزة وآية وهي صيرورة ممر خاص من تحت ماء البحر ليعبروا فيه، وتكررت شواهد له في هذا الزمان ولكن بالعلم والعمل والإنفاق وهو إنشاء أنفاق وسكك حديد لمرور المركبات البرية تحث ماء البحر.
الرابع : من نعمة الله على بني إسرائيل أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بشير ونذير لهم وللناس وجاء بالهدى والصلاح.
الخامس : ومن نعمة الله في المقام مجيء القرآن بالزجر عن إتباع الأهواء.
السادس : عدم إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لملتهم.
السابع : مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعلم وأحكام الشريعة المتكاملة التي هي من مصاديق العلم.
الثامن : بعث النفرة في نفوسهم والناس جميعاً من الهوى وإتباعه لقبحه الذاتي ولأنه ضد للعلم والإيمان.
إعجاز الآية
وفيه وجوه:
الأول : تدل الآية على حاجة الناس الى الإسلام والى اظهار الإستعداد لتلقي الأوامر الإلهية بالقبول والإمتثال، أي ان الذين يرثون الأرض ليسوا اهل الشك والتردد بل اهل القبول والإنصياع حين ظهور الآيات.
الثاني : تساهم الآية في تغيير مسار عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسـلمين ازاء شطر من أهل الكتاب فبعد الطمع في اسلامهم وما فيه نوع ركون لهم واطمئنان بهم لأنهم أتباع الأنبياء، جاءت هذه الآية لتبين الغايات عند طائفة منهم وموضوعية الأهواء في مواقفهم ازاء النبوة.
الثالث : فضحهم ونفي زعمهم بأن دينهم هو الهدى بل نسبت الآية اقوالهم ورغائبهم الى الهوى.
الرابع : تفصـل الآية بين اليهودية والنصـرانية كشــريعتين من السـماء وبين بعض الأشخاص الذين يعتنقونهما والأهواء التي تتحكم في سلوك بعضهم.
الخامس : تعلق الفضح والذم والتنبيه باهوائهم دون الديانة أي ان هذه الآية لم تخرج عن المسار العام لإكرام القرآن للديانة اليهودية والنصرانية.
السادس : لو لم يأت الفضح بالقرآن لما استطعنا ان نفصل بسهولة بين الإنتماء الديني والهوى، فقد نظن ان القول الصادر منهم هو باسم الدين والعقيدة.
السابع : تخبر الآية عن هوى يمتلكهم انعدم تأثيره في الحال، أي من اعجاز هذه الآية انها سلاح وعون للمسلمين في محاربة الأهواء وعدم التأثر بها.
الثامن : تنمية ملكة التمييز بين الهدى والهوى، وبين الحق والباطل.
التاسع : بيان لعدو يهدد الاسلام وهو الهوى متلبس برداء الدين والشريعة مما يجعله اكثر خطراً وتهديداً لا تغتر به الا النفوس الضعيفة ويستدرج به حديثوا العهد بالإسلام والمترددون، فجـاءت هـذه الآيـة حاجـة ومانعـاً من تأثـيره على هـؤلاء وغيرهم.
العاشر : بقاء اثر الآية مستديماً بنفرة المسلمين من اهل الأهواء والفصل بينها وبين الإنتماء الديني فكانت حرزاً والى يوم القيامة لحفظ المسلمين في عقيدتهم وانتمائهم ومنع تأثير الآخرين عليهم باسم الدين والملة.
الحادي عشر : حث المسلم على الثبات على دينه حال الفقر والمسكنة ومع عزة وغنى عن الغير، لأن المدار على الهدى والعلم وليس على الأهواء وان صاحَبها زخرفُ الدنيا وتوشحت بالباطل ذي الزينة الخادعة، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني عشر : شمــول مــوضــوع الآيــة ومنطـوقهـا للمستقبـل بلحـاظ وجــود [ لَنْ] في بدايتها وفيه اعجاز واخبار غيبي.
الثالث عشر : ما تتصف به الآية من الوضوح والبيان والنص الذي لا يقبل الاحتمال، وهو حاجة وحجة وحاجز دون الشك والترديد في فهم واقعهم الفكري وما هم عليه.
الرابع عشر : التناقض بين الهوى والزيف الذي ساد وطغى عند شطر منهم، وبين الهدى والرشد والايمان الذي جاء به الاسلام.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “لن ترضى” وهذا اللفظ تفتتح الآية به، ولم يرد في آية أخرى غيرها، ولم يرد لفظ (ولن ترضى) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
لقد جاءت الآية بصيغة النفي والمضارع والجمع “لن ترضى عنك” وبينت ان أهل الكتاب يريدون من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إتباع ملتهم، وتدعو الآية المسلمين الى أخذ العلم من القرآن والسنة النبوية، والإرتقاء في المعارف الإلهية والإستعانة بالله عز وجل، وتبعث في نفوسهم العز والرضا بما رزقهم الله عز وجل، وان الأهم هو رضا الله تعالى، وعليه يكون الثواب يوم القيامة.
وتدل الآية على ان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرب على الهوى ، وفيها دعوة للتمسك بالعلم والحجة والبرهان.
ويتجلى في الآية سلاح البرهان ، وسلطانه في دفع المكر وما يترشح عنه من الضرر من عممومات قوله تعالى[ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
لقد أخبرت آية البحث عن حقيقة ونوايا لفريق من أهل الكتاب وبينت كيفية الرد عليهم التي تنحصر بالقول والكلام [قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى]( ) ليس في هذه الآيات بعث على قتالهم أو أخذ الحائطة منهم، بل جاء الأمر برد بسيط غير مركب، يتكون من قول واحد تتجلى فيه معاني العبودية والخضوع لله عز وجل ونسبة الهدى والهداية منه سبحانه ، وهو من عممومات قوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
وتبين الآية حاجة أهل الملل المختلفة إلى حكم الإسلام وآيات القرآن وما فيها من بيان سبل الفلاح، كما في الأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى].
ومن الشواهد على تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة التمييز بين أهل الكتاب والمشركين الذي جاءت به هذه الآية باختصاص اليهود والنصارى بتلاوة الكتاب المنزل من السماء.
ومن إعجاز الآية أنها لم تقل يتلون التوراة والإنجيل بل جاءت بلفظ الكتاب وهو سور جامع للكتب السماوية المنزلة وفيه إشارة إلى وجوه الإلتقاء والإتحاد بين التوراة والإنجيل والقرآن، وأن الكتاب واحد، لأن تلاوة الكتاب ذاتها شئ وطريق إلى الهدى والصلاح فلا يصج، رمي الذي يقرأه بأنه ليس على شئ في دينه على نحو السالبة الكلية.
الآية لطف
تتضمن الآية حث للمسلمين على التقيد بأحكام وسنن الإسلام، وعدم إعطاء الأولوية لرضا غير الله عز وجل، وفيها لطف بأهل الكتاب بلزوم ادراك وظائف النبوة والرجوع الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنهل من علوم القرآن وآياته الإعجازية.
وتضمنت خاتمة الآية لغة التحذير والتنبيه والإخبار بان مقاليد الأمور بيد الله تعالى، وتدل على قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأداء رسالته على أتم وجه، وعصمته من إتباع الأهواء.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير ، أصاب أرضاً فكانت منها بقية قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)( ).
ولا يخلو عدم رضا أهل الكتاب من الأذى وأسباب العناء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدلالته في مفهومه على إعراضهم عن الدعوة إلى الإسلام.
وتبين الآية تعدد وجوه ومصاديق جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في مرضاة الله، وتمسكهم بعرى الهدى، والعصمة من إتباع الأهواء وورد لفظ (هدى الله) ست مرات في القرآن، إثنتين في سورة آل عمران وواحدة في كل من سورة النساء، المائدة , الأنعام على نحو التوالي والتعاقب بينها.
عن الحكم بن عمير صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كونوا في الدنيا أضيافا واتخذوا المساجد بيوتا وعودوا قلوبكم الرقة وأكثروا التفكر والبكاء ولا تختلفن بكم الأهواء تبنون ما لا تسكنون وتجمعون مالا تأكلون وتأملون ما لا تدركون)( ). وتبين الآية أموراً:
الأول : التباين والتضاد بين الهدى والهوى.
الثاني : الملازمة بين العلم والهدى.
الثالث : العلم فضل من الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وهو واقية من الهوى.
ومن إعجاز القرآن أن العلم هو الذي جاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، بينما الهوى يستلزم السعي له وإتباعه، ليتجلى لطف الله عز وجل في المقام من وجوه:
الأول : دعوة لترك الناس المراء والجدال، وإجتناب أصحاب الأهواء.
الثاني : جذب الناس لمنازل الإيمان بالعلم الذي آتاه الله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : مصاحبة العلم للوجود الإنساني في الأرض ببقاء القرآن سالماً من المعارضة، وأمة تتعاهد العلم الذي أنزله الله نعمة على أهل الأرض وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
مفهوم الآية
تبين الآية جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصبره وما يلاقيه من العناء، فقد بعثه الله للناس كافة ولكن شطراً منهم ومن اقربهم الى الإسلام يريدون العكس وهو اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لملتهم أي انهم لا يريدون اتباع القرآن وما فيه من الأحكام والفرائض، وتقتضي وظيفتهم الإيمان بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم والتسليم بما يأتي به من عند الله كما ان رضاهم غير كافِ فما يجب عليهم هو الإسلام، وهو الطريق الوحيد الذي يستطيعون به احراز رضا الله ورسوله ورضا انفسهم وهو لا يتعارض مع الآيات التي تبين قرب ومودة أهل الكتاب للمسملين قال تعالى[وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى]( ).
وتعلم الآية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بواسطته كيفية الإحتجاج والرد وابطال دعواهم وخطأ ما هم عليه بان المدار على الهدى والفعل واختيار الإيمان وحسن الإمتثال لأوامر الله تعالى.
ومن مفاهيم الآية حث المسلمين واهل الكتاب ومن خلالهم الناس جميعاً بعدم التفريط بنزول القرآن وببعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كما تبين الآية اسباب العنت والجفاء مع رسالته صلى الله عليه وآله وسلم واتباعهم للنفس الشهوية والغضبية وعدم تحكيم العقل مع انه لا يدعو الا الى الهدى والرشاد والإيمان بالنبوة وما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وان آيات نبوته عقلية وحسية، والعقلية باقية الى يوم القيامة بل انها وثقت الآيات الحسية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللإنبياء السابقين.
وتحذر الآية المسلمين من الإنصات لأهل الشك ومن مفاهيم خطاب الوعيد، والتحذير الوارد في الآية [َلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ] منع المسلمين من الإلحاح على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بارضاء اليهود والنصارى والتوكيد على اهميتهم ولزوم الوفاق معهم والإستماع لما يطلبون، وتبين الآية اموراً:
الأول: موضوعية الهوى لا تقود الا الى الضلالة.
الثاني: المنعة والقوة للمسلمين وكشف حقيقة جحود شطر من الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واسبابه الكامنة باتباع الهوى.
الثالث: ان الله عز وجل رزق الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم علماً يستغني به عن غيره من الناس وفيه بشارات انتصار الإسلام وغلبته وعدم الحاجة للآخرين فلا برزخ ولا وسط بين الإيمان والكفر، كما ان الهدى مادة وعنوان الإيمان، واتباع الهوى مادة وسبب الكفر.
وتدل الآية على إنحسار سلطان وأثر قريش والكفار على المسلمين ، وأنه لم تستطيع جهة إكراههم على ترك الإسلام والتعدي عليهم ، فمع أن أهل الكتاب أتباع أنبياء فانهم إكتفوا بعدم الرضا بين المسلمين إلا با تباع ملتهم ونهجهم كالتوجه إل القبلة وأحكام الشرائع الفرعية لقد أخذ النبي محمد صلى الله علية وآله وسلم والمسلمون الصبر والثبات في مواجهة مشركي قريش وأذاهم ونزلت سورة الكافرون وفيها[لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ).
وفيه مقدمة لمواجهة التحديات الفكرية التي توجه للمسلمين لمحاولة إرتداد بعضهم وإذ زحفت قريش بخليها وخيلائها على المدينة حينما أبى المسلمون الأوائل الإتصات لها فان أهل الكتاب يهود المدينة ونصارى نجران لم يجهزوا الجيوش الكبيرة لقتال المسلمين كما حصل في بدر وأحد والخندق ، وهو من عممومات قوله تعالى[وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى]( ).
افاضات الآية
تتجلى في الآية معاني الإصطفاء والتشريف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان الله عز وجل اختار له وللمسلمين سبل الهداية والرشاد وجعلهم أغنياء بما آتاهم من التنزيل، ليكون جذبة الله عز وجل للعباد، ويقابله المسلمون بالشكر الذي يتمثل بالعبودية المحضة لله تعالى، وتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من عند الله.
وتبين الآية جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في مواجهة جدال واحتجاج اهل الكتاب وسعيهم لإتباع المسلمين لما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام، فجاءت الآية بالمباهلة الأحمدية ومقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحضرة الأوحدية.
وعن يزيد بن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة، وعمرو بن مسلمٍ إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصينٌ: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسمعت حديثه، وخرجت معه، وصليت خلفه: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا ابن أخي والله لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما حدثتكم فاقبلوا، ومالا فلا تكلفونيه.
ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فينا خطيباً بماءٍ يدعى خماً بين مكة والمدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ، وذكر، ثم قال: أما بعد: ألا أيها الناس، فإنما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به
فحث على كتاب الله، ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي فقال له حصينٌ: ومن أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم ؟ قال: هم آل علي، وآل عقيلٍ، وآل جعفر، وآل عباسٍ قال: كل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال: نعم)( ).
ومن هدى الله الصلاة والفرائض الأخرى لما فيها من الصلاح ومصاديق طاعة الله عز وجل، وهو الفيصل في رضا الله عز وجل، فما خالف رضاه الله عز وجل فلا يعتد بأمره.
لذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبين في سنته القولية والفعلية موضوعية الصلاة في الإنتماء للإسلام وأنها مصداق الهدى والواقية من إتباع الهوى، وعن طارق بن أثيم قال: كان الرجل إذا أسلم علمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم اغفر لي وأرحمني وعافني وأرزقني)( ).
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين بأداء الفرائض الواقية من أسباب الشك والريب، وعن ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى)( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
مع أن الآية السابقة تؤكد أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله، وأن الله بعثه بالحق والآيات الباهرات التي تكفي للحجة والرهان، جاءت هذه الآية لتخبر عن رد طائفة من الناس لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام، ولهم مجتمعين ومتفرقين أهمية خاصة في المقام، لأنهم أهل كتاب جاءهم الأنبياء من قبل، كما أن المشركين ينظرون إليهم، وما يقولون بالدعوة الإسلامية بلحاظ أنهم أهل كتاب ويعرفون أخبار النبوة.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يؤخر الإقرار بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام إلى حين إعتراف اليهود والنصارى بنبوته بل كان يتلو آيات الله، ويبلغ الآيات حال نزولها وفيها التسليم بالنبوات كلها، وجعل الإيمان بها شرط من شروط الإسلام، وتلك آية في صدق نبوته ونزول القرآن.
وإبتدأت الآية بحرف النفي للمستقبل (لن) وقد يقال بأن عدداً كثيراً منهم أسلموا وأحسنوا إسلامهم، فهل من تعارض في المقام،الجواب لا من وجوه:
الأول: إن الذين أسلموا يخرجون من مضامين هذه الآية بالتخصيص، إذ أصبحوا مسلمين.
الثاني: المراد في الآية شطر من كبراء القوم الذين أصروا على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: يبين موضوع الآية تعيين جهة القول، وموضوعية إتباع الهوى، وتنزه دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الهوى والميل إلى أهله.
ومن إعجاز الآية أنها جمعت بين فريق من أهل الكتاب وإلتقاءهم في الجفاء والصدود عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذات الكيفية الواحدة وبلحاظ أن الآية من السبر والتقسيم، وتفيد التفكيك في القصد والأصل في الآية هو: لن ترضى عنك اليهود حتى تتبع ملتهم، ولن ترضى عنك النصارى حتى تتبع ملتهم.
إن إتباعهم معاً أمر متعذر بالأصل للتباين بينهما، لعدم إمكان حصول إتباع احد الفريقين متناقضين كما يطلب من شخص أن يسير في طريقين وإتجاهين في وقت واحد، وعلى فرض إتباع اليهود فان النصارى لا يرضون، ويقولون إتبع من ليس هو على شئ.
ولو إتبع النصارى لقالت اليهود إتبع من ليس هم على شئ، ويطعنون من جديد محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لذا وصفت الآية إصرار أهل الكتاب وتقييد رضاهم عن النبي بإتباعهم بانه هوى وميل عن جادة الحق والرشاد، لأن طريق الهدى ظاهر ومعلوم ويتجلى بإتباع التنزيل وما في القرآن من أحكام الحلال والحرام.
وجاءت الآية بلغة التحذير والإنذار من إتباع أهل الكتاب لأن العلم الذي أتاه الله عز وجل للنبي كاف للإحتراز من دعوتهم وإجتناب الهوى وأسباب الضلالة.
ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن العلم مصاحب له ويأتيه على نحو التجدد بالتنزيل وملازمة الوحي له قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( )، وفيه دلالة على التنافي بين العلم والهوى، وأن ما يقوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخال من الهوى وإتباعه، لذا فان الآية وان جاءت بصفة التحذير والإنذار إلا أنها تتضمن عصمة وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من إتباع رغبة بعض أهل الكتاب في إتباعهم ومن الأهواء مطلقاً.
لتبعث الآية اليأس في نفوس أهل الكتاب ويدركون أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لن يهاونهم، وفيه دعوة إضافية لأهل الكتاب والناس جميعاً، فالمشركون الذين ينظرون بماذا يقابل أهل الكتاب رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدركون أنه لامهادنة معهم وأن شريعة الإسلام ناسخة للشرائع الأخرى، وأن وظيفة الناس هي دخول الإسلام من غير قيد أو شرط وفيه الهدى والسلامة في النشأتين.
وتبين الآية التباين والتضاد بين أمور:
الأول : الهداية وإتباع الهوى.
الثاني :العلم والهوى.
الثالث : الإيمان بالرسالة والصدود عنها .
الرابع : ولاية ونصرة الله وإنعدام الناصر غيره , وتؤكد آيات القرآن إنقياد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته لأوامر الله عز وجل، قال تعالى[قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
التفسير الذاتي
تبين الآية العناية التي يوليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الكتاب، ومن إعجاز الآية أنها ذكرتهم على نحو التفصيل [وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى] مما يدل على موضوعية وشأن كل فريق منهم، وإن الإنشغال بأحدهما لا يمنع من الإلتفات للآخر، وما يريده وكيفية كسب رضاه، وتحصيل تصديقه بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالآية لم تأت إبتداء وتحذيراً متقدماً زماناً على الفعل، بل جاءت بعد بذل الوسع.
وفيه شاهد على تفضيل أهل الكتاب على غيرهم من أهل الملل والنحل بلحاظ أن النبي لايفعل ولا يقول إلا ما يأمره الله عز وجل، قال سبحانه [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
وبينت الآية المرتبة والكيفية التي يرضى بها أهل الكتاب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي متعذرة لأنها مناقضة للوظائف التي بعثه الله عز وجل بها ومنها ماجاء في الآية السابقة بأنه بشير ونذير من عند الله عزوجل.
إن الناس يسعون لطلب رضا الله ورسوله، ويتلقون البشارات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإنبعاث لفعل الصالحات، والسعي لإقتناء الحسنات، وبعض الناس يقفون في مواضعهم لا يرضون إلا بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم في نهجهم وفعلهم، ولم يكن المقصود هو شخص النبي وحده بل المراد أحكام الإسلام، والمسلمون في كيفية عباداتهم ومعاملاتهم.
وجاءت الآية السابقة بالإخبار عن أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالحق والهدى من عند الله عز وجل وأنه لا يفعل إلا ما يأمره الله عز وجل به، وجاءت الآية بخبر وأمر ونهي ثم خبر.
أما الخبر فهو بيان حال فريق من أهل الكتاب , وما يضمرونه أزاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما الأمر فهو قوله تعالى [قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى] وما فيه من البيان واللجوء إلى الله عز وجل، وفيه دليل بأن تفويض الأمور إلى الله عز وجل حجة وبرهان وواقية من الميل عن الحق والهدى.
وأما النهي فهو قوله تعالى [وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ] وما يدل في دلالته التضمنية على الزجر عن إتباع الهوى ولزوم الحيطة والحذر من أهل الأماني التي لا تبتنى على أصل وكما إبتدأت الآية بخبر من عند الله فان خاتمتها تضمنت خبراً وشهادة سماوية بأن الله عزوجل تفضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول القرآن وما فيه من الأحكام والأوامر والنواهي بما يكون فيه غنى عن الملل والشرائع الأخرى، وهناك فرق كبير بين تصديق الشرائع الأخرى وبين العمل بها.
إذ أن التصديق بها لا يتعارض مع نسخها، بل هو من مصاديق النسخ والدلائل عليه، إذ تعرف موارد النسخ بطرفيه الناسخ والمنسوخ، وتبعث الآية السكينة في قلوب المسلمين،وتمنع من الإفتتان بما يقوله أهل الكتاب، وهي برزخ دون الإستجابة إلى ما يريدون مما يتعارض وآيات القرآن والأوامر الإلهية، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
ومن إعجاز الآية أنها ذكرت متضادين مما ينافي أحدهما الآخر ولا يجتمعان لما يرجع إلى ذاتهما،وهما:
الأول: الهوى.
الثاني: العلم الذي جاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله.
وتضمنت الآية في مفهومها توكيد العلم ولزوم الأخذ به بقوة، وعدم التفريط بأي حكم من أحكام القرآن ومضامين التنزيل،وأراد الله لها البقاء في الأرض.
فجاءت هذه الآية لحث أجيال المسلمين المتعاقبة وإلى يوم القيامة على تعاهد أحكام القرآن والسنة، والتقيد بها، والفخر والإعتزاز بها، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأنها تتخذ جادة العلم واليقين، وتتنزه عن الهوى، وتمتنع عن إتباعه، وفي الآية مسائل:
الأولى: تدعو الآية المسلمين إلى حفظ آيات القرآن، والتدبر فيها.
الثانية: تحث الآية على السعي الدؤوب في تفسير القرآن، وإستنباط المسائل، وإستخراج الدرر والذخائر العلمية منه.
الثالثة: الآية خطاب للناس جميعاً بأن من أراد العلم فليقرأ القرآن ويصغي لآياته، ويطيع ما فيه من الأوامر.
الرابعة:تدعو الآية إلى إتّباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه الإمام الذي جاءه العلم من عند الله عز وجل.
الخامسة: تفيد الألف واللام في (العلم) العهد،وأن العلم الذي يحتاجه الناس في أمور الدين والدنيا أنزله الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو شاهد على تفضيله على الأنبياء الآخرين، وتفضيل القرآن على الكتب السماوية السابقة.
ترى لماذا جاء لفظ(ملة) بصيغة المفرد مع أنه المقصود هو التعدد والجواب أن الآية وإن جاءت بصيغة السبر والتقسيم والمراد أن كل فريق يريد ملته إلا أن إتحاد لفظ الملة يدل على مسائل:
الأولى: التشابه في إتباع خلاف التنزيل وآيات القرآن.
الثانية: التضاد مع ملة الإسلام.
الثالثة: لابد من البقاء على الإسلام، ومصاحبة العلم له.
الرابعة: مع أن كل فريق يذم الفريق الآخر إلا أنهم يريدون من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرجوع إليهم.
وتبين الآية إكرام ملة اليهود والنصارى بالتحذير من إتباع أهوائهم فلم تقل الآية (لئن إتبعت ملتهم) بل ذكرت الأهواء، لأن التوراة والإنجيل يبشران ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء الأنبياء السابقون بالدعوة لإتّباعه.
ودين اليهودية والنصرانية خاليان من دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لملتهم، بل العكس هو الصحيح إذ أنهما يتضمنان البشارة بنبوته، لذا جاءت الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالثبات على الإسلام، والذي يتضمن في مفهومه دعوة الناس لإتباعه ونبذ الهوى.
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، وأعان الناس في موارد الإبتلاء فيها بجنود وأسباب ظاهرة وباطنة، وخاصة وعامة، ومنها العقل ومصاحبة العلم.
وجاءت هذه الآية لتبين أن من أفراد العلم ما هو هبة ونازل من السماء، وهو أشرف وأسمى ضروب العلم، وقد تفضل به الله عزوجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون قريباً ومباحاً للناس جميعاً،وبإمكانهم إكتسابه وتعلمه والإنتفاع منه بدخول الإسلام، والتقيد بما فيه من الفرائض والواجبات.
ومع أن بداية الآية جاءت بخصوص ما يضمره ويريده فريق من أهل الكتاب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، فان النهي تعلق بإتباع أهوائهم، وبين الهوى وما يرضيهم عموم وخصوص مطلق، لأن إتباع الهوى أعم،ويقود إلى أوسع وأكبر من إتباع الملة، ومن الأهواء تحريف التنزيل وتعطيل الأحكام، والتسامح والتفريط بالفرائض والسنن.
وجاءت آيات عديدة بنهي وتحذير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من إتباع أهوائهم، وقال تعالى [وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ] ( ).
وجاءت الآية التالية في مدح الذين يتلون التوراة والإنجيل، ويتدبرون في آياتها وما فيها من الأحكام والسنن، ليفيد الجمع بينها وبين هذه الآية أن أهل الأهواء فريق منهم وليس كلهم.
ولقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة وآتاه الآيات والمعجزات العقلية والحسية التي تدل على صدق نبوته، لذا فانه يبذل الوسع ليرضى الله عز وجل في دعوته ونبوته، وكذا جميع الأنبياء في جهادهم إذ تحملوا شتى صنوف الأذى من أجل نيل مرضاة الله عز وجل، والفوز برحمته وليكونوا أسوة للمؤمنين من أتباعهم , وفي سليمان ورد في التنزيل [وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ]( ) وينحصر رضا الله عز وجل في إتباع التنزيل وإقامة شعائر الله، والتنزه من التحريف في التنزيل وفي الأحكام والسنن، قال تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
وقد جاءت آيات القرآن بالثناء على المسلمين وأن الله عز وجل رضي الله عنهم وقد ورد قوله تعالى في أهل بيعة الرضوان مثلاً [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ] ( )، وهي في السنة السادسة عند التوجه إلى العمرة في الطريق إلى مكة، وقبل وصول وفد قريش وإبرام صلح الحديبية فقد بايعه المسلمون على الموت دونه، وعلى أن لايفروا، وكان جابر بن عبدالله يقول: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يُبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لانفر( )، ولأنه فقد بصره في آخر السنين الأخيرة من عمره كان يقول (لو كنت أبصر لأريتكم مكانها) ( )، وفيه إشارة إلى العناية بالأماكن التي شهدها رسول الله، ومعالم النبوة، والأماكن التي تقترن بنزول الآيات والوقائع.
وذكر أن عدد المسلمين الذين بايعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ الف وأربعمائة، وقيل أنهم ألف وخمسمائة وخمسةوعشرون، ولما تمت البيعة (قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم اليوم خير أهل الأرض) ( )، وفيه مصداق عملي حاضر وتأسيس لمصاديق قول الله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وتبين الآية مسؤوليات الإمامة العامة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ لا ينحصر موضوعها بالعقائد بل يشمل الأحكام , قال تعالى [وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ]( )، والآية وإن جاءت خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنها خطاب للمسلمين عامة، وتحذير لهم من ولاية أهل الكتاب , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ] ( ).
وإذ قيل قد جاءت آية بمدح النصارى بقوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى]( )، والجواب من وجوه:
الأول: عدم التعارض بين المودة، وعدم الرضا إلا بإتباع الأهواء.
الثاني: تبينت هذه المودة بعد جهاد المسلمين وصبرهم في جنب الله، وعدم إتباعهم الأهواء وأسباب الغواية ، خصوصاً وأن الآية أعلاه من سورة المائدة التي هي آخر سورالقرآن نزولاً، أما سورة البقرة فقد نزلت قبلها.
الثالث: جاءت الآية أعلاه بوصف حال النصارى، أما الآية محل البحث فهي خطاب تحذير وإنذار للمؤمنين.
الرابع : يفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث أن عدداً وطائفة منهم هي التي تريد من المسلم إتباع الهوى.
من غايات الآية
تبين الآية حال الناس أيام البعثة النبوية ووجود أهل الكتاب وإتصال أخبار النبوة بهم، وكان اليهود في المدينة المنورة يلتقون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويسألونه عن نبوته ويطلعون على آيات القرآن وما فيها من الإعجاز، وجاءت الاية بذكر اليهود والنصارى على نحو التعيين وحديث مباهلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأهل بيته مع وفد نصارى نجران ثابت كتاباًَ وسنة وإجماعاً قال تعالى [فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( )، فجاءت الآية لتجديد الدعوة الى الله والإخبار عن صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإختيار طريق الإسلام والتقيد بأحكامه وسننه، وتبين الآية حاجة الناس الى العلوم التي جاء بها القرآن.
وتفيد لآية بالدلالة التضمنية بأن هدى الله هو القرآن والإستجابة بما فيه من الأوامر والنواهي، والإمتثال لأحكامه وسننه.
ويدل عليه قوله تعالى[ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).وتبين الآية حقيقة وهي أن الله عز وجل تفضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعلم , ويتجلى هذا العلم بديانة الإسلام وأحكام الشريعة التي تتغشى أمور الدين والدنيا , قال تعالى[وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
التفسير
قوله تعالى [ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُـودُ وَلاَ النَّصَـارَى حَتَّى تَتَّبِـعَ مِلَّتَهُمْ]
افتتاح الآية الكريمة بـ[لَنْ] وجعل ظرف موضوعها الزماني مستقبل الأيام والقادم من السنين كشف لأنماط سلوكهم وتحذير منهم، وتتضمن الآية العذر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإعراض عنهم وتركهم، ولعلها مقدمة وإشارة الى محاربتهم او ارغامهم على دخول الإسلام او الرضا بحكمه ودفع الجزية، وهذه الآية لها دلالات عديدة على نحو الواقع العقائدي والاجتماعي خصوصاً اذا نظرنا للخطاب فيها بمنظار العموم والاطلاق.
ومن الآيات ان الذي يسلم يثبت ويفتخر بإسلامه مما يعني انه يقابل منهم بعدم الرضا الذي قد يتجسـد بأفعال أو عداوة في الخارج وان كانت الآية في ظاهرها تدل على نفي الآثار والأضرار الناجمة عن عدم الرضا هذا، وقد تراه يبرز في هذا الزمان على الصعيد السياسي او العسكري او الإعلامي، فحينما ينعته الله عز وجل بالهوى في مقابل العلم كصفة للإسلام فأنه يعني ضعف أثره وزوال سلطانه.
وتفيد الآية الإنذار والوعيد من اتباع أقوالهم فيما يتعلق بالدين وأحكام الشريعة، وتنهى الآية المسلمين عن الإنقياد اليهم او التواطئ معهم، فظاهر الآية يدل على نوع معارضة بين العلم والتنزيل الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين أهواء هؤلاء، وتخبر عن اللبس الناتج عن هذه الأهواء بالضلالة والخطأ في فهم حقيقة الهدى وترتيب الحكم على هذا الخطأ.
و(لن) تدخل على الفعل المضارع وتخلصه للإستقبال، فالآية ناظرة الى المستقبل أي انها تدل على ما يبيت بعضهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وهذا من اهم افراد اعجاز هذه الآية، انها اخبـار عن حقيقـة عقائدية ونية مبيتة ازاء المسـلمين تتقوم بالإعراض، أي أن الآيات والمعجزات لن تؤدي الى هدايتهم للإسلام فقد حصروا الصلة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة واحدة وهي ان يكون مع نبوته وآياته منتمياً لهم، انما هو الخاتم الكريم للسلسلة الذهبية المباركة للأنبياء.
لقد عملوا عن غرور وجهل بالإستصحاب في غير محله وبعد طرو الحجـة، فكما كـان الأنبيـاء من بني اسرائيـل على ملـة موسـى كذلـك رغب ونظر بعضهم الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتسرب اليهم ذات الوهـم فكمـا كان انبيـاء مـن بعـد موسى على ملته فربما ارادوا ان يكون الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في نظرهم على نهج عيسـى وتابعـاً لـه، حينئـذ يصدقونـه ويتبعونـه على انـه نـبي على ملتهـم، وهو نـوع صدود واستكبار وعدم فهم لمسائل النبوة وفلسفة الرسالة ووجوه الفرق بين النبي والرسول وقد خفّف الله عنهم بأن بشرهم عيسى برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بعده[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( )، وفيه آية فهو لم يخبر عنه بصفة النبوة بل الرسالة وبصيغة البشارة التي تدل بالدلالة التضمنية على لزوم الإتباع.
ومع هذا بالغ اقوام في منازل الأنبياء وقاربوا بها الربوبية فجاء الإسلام ليتصدى الى تلك المبالغة بنفس الصيغ الجهادية والتربوية التي رسخها في اكرام الأنبياء ومعرفـة حقيقـة ارتقائهم على البشر منزلة وعلماً وكرامة، وقد تصدى النبي صـلى الله عليه وآله وسلم لمنـع الغلو في الإسلام وكانت سنة مباركة تعاهدها الأئمة وجميع خلفاء المسلمين.
عن صهيب: (ان معاذاً لما قدم من اليمن سجد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا معاذ ما هذا؟ قال: ان اليهود تسجد لعظمائها وعلمائها ورأيت النصارى تسجد لقسسها وبطارقتها قلت ما هذا؟ قالوا: تحيـة الأنبياء، فقال عليه السلام: كذبوا على انبيائهم واستمر الصحابة والأئمة عليهم السلام في التصدي لذلك الغلو فعن الثوري عن سماك بن هاني قال: دخل الجاثليق على علي بن ابي طالب فاراد ان يسجد له، فقال له علي: اسجد لله ولا تسجد لي)( ).
إن الأمر والمشيئة له تعالى يبعث بالرسالة والنبوة من شاء من خلقه وفق ما يريد سبحانه انما وظيفة الخلق هي الإستجابة والإمتثال خصوصاً وان النبوة نوع امتحان واختبار وان كانت في الأصل رحمة فقد يؤمن الوثني ايماناً تاماً ويحسن اسلامه وقد يبقى من هو أقرب متردداً يجعل ما رزقه الله تعالى في السابق عائقاً وسبباً للتردد، قال تعالى[إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ]( ).
إنها مدرسة الإيمان التي تتجسد بالتسـليم والخضوع لأوامر الله تعالى فلا غرابة ان يمثل السجود ركناً في الصلاة التي هي عمود الدين ليتأدب المسلمون ويعتادوا الإنقياد والخضوع وحسن الطاعة دائماً لله ورسوله فسجود الصلاة عنوان جـوارحي وبدني في سـاعة محـدودة للمؤمن ونفسه المسلمة التي تكون دائمة في سجودها وخشوعها لله تعالى فليس المدار على الاسم والعنوان بل المسمى والمعنون مما يكون سليماً وصحيحاً بالإمتثال لأوامر الله تعالى.
لقد ذكرت الآية طائفتين من أهل الكتاب، وتحتمل وجوها:
الأول: إنحصار الشرط الوارد في الآية بإتباع ملتهم باليهود والنصارى، ولا تطلب الطوائف والفرق الأخرى مثل هذا الشرط من النبي.
الثاني: الآية أعم، وجاء ذكر فريق من أهل الكتاب من باب المثال والفرد الأهم، وليس الحصر، وإلا فان فرقاً وطوائف أخرى تريد من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إتباع مللهم.
الثالث: التفصيل فان الفرق والطوائف الأخرى ترضى بإمضاء شطر من سننهم، وفي سبب نزول {قل يا أيها الكافرون} ذكر أنها نزلت في رهط من قريش منهم الحرث بن قيس السهمي والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب بن أسد وأميّة بن خلف قالوا : يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك ونشركك في أمرنا كلّه تعبد آلهتنا سنة ونعبد ألهك سنة فأن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وأن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه، فقال: معاذ الله أن أشرك به غيره
قالوا: فأستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد الهك فقال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي فانزل الله سبحانه:{قل يا أيها الكافرون} الى آخر السورة فغدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم قرأها عليهم حتى فرغ من السورة، فيئسوا عنه عند ذلك وآذوه وآذوا أصحابه)( ).
إن حصر الآية بقول فريق من أهل الكتاب شاهد على إنتصار الإسلام وإنحسار الشرك في الجزيرة، وإن الكفار الوثنيين يئسوا من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول سورة الكافرين والتي نزلت قبل الهجرة النبوية المباركة إلى مكة، ومن الآيات جهاده لم يتأخر عن تلاوتها على الكافرين فحالما نزلت عليه قام وتلاها في الصباح وفي البيت الحرام وأمام الملأ من قريش وفيه مسائل:
الأولى : تقطع تلاوتها الترديد.
الثانية : في الآية دعوة صريحة لدخول الإسلام وأنه لا برزخ بين الإسلام والشرك.
الثالثة : السورة سلاح ودعوة الناس جميعاً إلى الإسلام، ولزوم تخليهم عن مفاهيم الشرك والضلالة.
الرابعة : التوبيخ لكفار قريش بتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للسورة في المسجد الحرام، وفيه آية بأن إشراقة التنزيل أطلت على البيت والأرض، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ).
ويحتمل عدم الرضا هنا وجوها:
الأول: يريد بعض يهود المدينة أن يتبع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ماجاء به موسى عليه السلام من الشريعة، وما عندهم منها مما طرأ عليه التحريف .
الثاني: لا يرضى فريق من نصارى نجران إلا أن يقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعمل بشريعة عيسى وما عندهم من الأحكام.
الثالث: يريد فريق من أهل الكتاب ملة جامعة لما في التوراة والإنجيل وما يعملون به من الأحكام، كما لو إختاروا التخفيف الوارد في الشريعتين.
الرابع: المراد الإمهال.
الخامس: إرادة بعض الشروط لدخولهم الإسلام، وتحقيق ما يرضيهم.
والصحيح هو الأول والثاني ، ولأن الآية جاءت صريحة بنفي رضاهم إلا بقيدين:
الأول: إتباعهم وليس موافقتهم ومهادنتهم وإمهالهم.
الثاني: إنحصار الإتباع بما هم عليه من الملة والشريعة والدين.
فجاءت الآية حرزاً وواقية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وبياناً لما كان يلاقيه من الأذى في سبيل الله، وأن نسخ الشرائع ليس أمراً سهلاً بل جهاد مستقل يستلزم الصبر والإحتجاج ولغة الحجة والدليل.
ويحتمل إتباع الملة في المقام وجوهاً منها:
الأول : الإنتماء إلى ديانة اليهودية.
الثاني : الإنتماء إلى ديانة النصرانية.
الثالث : إرادتهم إعلان إتباع نهج موسى وعيسى عليهما السلام.
قوله تعالى [ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ]
ان اختيار الطريق الصحيح وتعيين التابـع من المتبوع انما يتحدد ويعـين من السمـاء مـن عنـد الله تعـالى، ليس للعبـد ان يختار او ان يصر عـلى مبـدأ معـين، فكــمـا كـان النسـخ في الأحكــام كـان النسـخ او مـا هـو قـريـب منـه في الإنتمـاء الديـني لأنه حكـم عيـني تعـييـني، والآيـة نــوع هدايـة وارشـاد للمسلمـين وقطـع للكافـرين، فلم يعرض عنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويرضـى بما عنـده فحسـب، بل توجه لهم القـــرآن بالبيـان والدعـــوة الى الهدايـة وفصـل الخطـاب، وتفويـض الهدايـة موضوعاً وحلولاً في النفوس الى الله.
أي ان صيغ الإحتجاج معهم لا زالت قائمة ولم يغلق الباب بوجوههـم بل ظلـت الدعوة الى الإسلام والى التدبر بآيات القرآن قائمة، فهم كباقي الناس والدعوة لهم لم تكن ابتداءاً فقط بل انها مســتديمـة الا ان يعـرضـوا وينـأوا بانفـسهـم ويصـمـوا آذانهم، ولكـن الآيـة صححـت الصلـة ونوع التصرف ازاءهم كما ان فضحهم وما يبيتون عون لهم على دخول الإسلام.
وفي قوله تعالى[ هُدَى اللَّهِ ] وجوه:
الأول : دين الله الذي يرضاه هو الهدى أي الدين الذي انت عليه، عن ابن عباس.
الثاني : هدى الله يعني القرآن الذي يهدي الى الجنة.
الثالث : دين الله وهو الإسلام.
الرابع : دلالة الله هي الدلالة وهدى الله هو الحق.
الخامس : الذي عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه.
ولا تعارض بين هذه الأقوال، كما ان الآية الكريمة تدل عليها بالدلالة التضمنية والالتزامية وهي اعم من هذه الأقوال موضوعاً واعجازاً وغايات، والآية وعد بالنصر قال تعالى [ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ]( ).
ولوجود كلمة [ قُلْ ] في الآية دلالات فانها تعني عدم انحصار موضـوع الآيـة فظاهرهـا العـموم، وان لغة الخطاب وصيغ التبليغ مع اهل الكتـاب اختلفـت انقباضـاً بعد انبسـاط وانـذاراً وتحذيـراً بعـد امهال.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تنامي قوة الإسلام بسرعة في المدينة المنورة وتوليه مسؤوليات الحكم والقضاء بين أهلها على إختلاف مشاربهم، فكان اليهود يأتون له للخصومة فيما بينهم، والسبب في قوة المسلمين هو فضل الله عز وجل كما في قوله تعالى[فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ومن التقوى في المقام مواجهة أهل الكتاب بصيغ الجدال ولغة الإحتجاج وعدم مواجهتهم بالسيف وأسباب الأذى والضرر فيدافع المسلمون عن أنفسهم وأهليهم في معركة بدر وأحد والخندق بوجه صناديد قريش الكفار الزاحفين على المدينة، أما حين الرد على أهل الكتاب فيأتي الأمر من الله بأن تكون سنخية الرد مشابهة، لقولهم وفعلهم , وفيه دلالة بأن الحق مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتتجلى منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الأنبياء أن الله يأمره أن يرد على أهل الكتب والمشركين بما ينمي ملكة الجدال المقرون بالبيان.
وتحتمل الجهة التي يتوجه لها خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل) وجوهاً:
الأول : إرادة أهل الكتاب.
الثاني : خصوص فريق من أهل الكتاب الذين لا يرضون عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا إتباع ملتهم.
الثالث : المشركون والكفار.
الرابع : المقصود المسلمون في تأديب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم وتعليمهم أحكام الشريعة.
الخامس : الناس جميعاً.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، لعموم الحكم ودلالة النص وعدم إنحصار مضامين الآية بسبب النزول.
ترى لماذا لم تقل الآية(أن الهدى هو هدى الله) الجواب يفيد القول أعلاه التعدد والكثرة لمصاديق الهدى وأن الإختيار والإجتباء منها لهدى الله، ولكن ليس من هدى إلا الهدى الذي يتفضل به الله، لذا جاءت آية البحث معجزة بصيغة الحصر والتعيين في موضوع وحكم الهدى بأنه ليس من هدى إلا الهدى الذي يأمر به الله والنهج القويم الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل.
قوله تعالى [وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ]
العلم صورة الشيء المجردة عن مادته، وكل صورة مجردة عن المواد فهي موجودة بوجود عقلي، ولا شـر فيه ولا آفـة ونحوها مما يعتبر من لوازم الاجسام فيكون كمالاً لذاته منزهاً عن المادة وعلائقها.
والآية تشريف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيان للتضاد بين الإسـلام وما يتبناه هؤلاء من الآراء والأقوال، وتوبيخ ولوم لهم، واغراء للمؤمنين بهم فهؤلاء لا يستحقون ان يصغى اليهم لأن الهوى واتباعه امر مذموم تنفر منه النفوس وتستقبحه العقول، وتبين بوضوح ان هؤلاء لم يستندوا في اقوالهم الى دين أهل الكتاب وان تحركوا بالأسماء والصفات التي تنسب اليهما انما كان كلامهم هوى لا يؤدي الا الى التهلكة والتردي قال تعالى [ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ ]( ) يعني اتخذ دينه هواه من غير رجوع الى ائمة الهدى واحكام الإسلام.
فالآية عون وتخفيف لما فيها من التفكيك بين الدين السماوي مطلقاً وبين الهوى، وصـحيح انهم لم يريدوا الا اتباع دين اليهودية او النصرانية الا ان الهوى تعلق بموضـوع هذا الإتباع فليس الأهواء هي دين اليهودية والنصـرانية، بل هـي رغبتهم بإتباعهم.
ولما كان إتباعهم لا يخلو من الهوى وفيه تعنت وجحود وترك الناسخ والرجوع الى المنسوخ حذرت منه الآية الكريمة، والآيـة السابقـة أخبرت بان النـبي صلـى الله عليـه وآله وسلـم مرسـل مـن عند الله تعالى، اذن لا يمكـن ان يكون المسلـم يهوديـاً أو نصـرانيـاً، فتلك الرغبة منهم مناقضة لدعوى الإسلام وأحكام القرآن النازلة من السماء.
والأهواء هنا تهدد الإسلام ولابد ان اهواء المشركين اشد ضرراً وخطـراً، والآية لم تتعرض الى المنعـة والقوة اللتين كان اليهود والنصارى يتصفون بها، وسطوة دولة الروم والضعف الذي عليه المسلمون في بداية الدعوة، وهو نوع تجاهل ونفي لإعتبار هذه الأسباب فان الموضوع في هذه الآية هو الهداية والإيمان سواء إنتصر المؤمن في الدنيا، او عاش في مسكنة وعوز وابتلاء.
ومن فضل الله على الناس أنه لم يتركهم وشأنهم في مصارعة النفس الشهوية والغضبية، فآتى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم العلم والتنزيل وجعله قريباً للناس في متناول أيديهم، وتفضل بترغيبهم به بالمعجزة والبرهان والبيان.
ومن الآيات مصاحبة الإنذار للعلم، الإنذار على الإعراض عنه وتركه، وهل يرفع العلم الذي آتاه الله النبي بمغادرته إلى الرفيق الأعلى، الجواب لا، فهو باق إلى يوم القيامة، وإذا أنعم الله عز وجل على الناس بنعمة فإنه أكرم من أن يرفعها.
قوله تعالى [مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ٍ]
صيغة تحذير وتخويف موجهة في ظاهرها الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الأمة والناس هم المقصودون أي لا احد يحفظكم من عقابه ولا معين أو ناصر يدفع عنكم عذابه، وبما ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم منزه عن الخطأ فان الوعيد بيان وتأديب للمسلمين بأن لا يركنوا الى الذين ظلموا في اهوائهم وضلالتهم.
وتبعث الآية اليأس والقنوط في قلوب الكافرين والجاحدين واهل الهوى، ليعلموا ان المسلم لا يتزحزح عن دينه ولا تؤثر به الأهواء، ونعت القرآن لأحلامهم بالهوى تضعيف له ودعوة للإستهزاء والسخرية بها. إن إستحضار الواقع العقائدي والإجتماعي انذاك يساعد على بلورة مفاهيم تلك الآية، فقد كان المجتمع منقسماً الى وثنيين متمثلين بقبائل عربية ذات شأن كقريش وباهل كتاب منهم النصارى يتباهون بدولة الروم واليهود الذين يبالغون بما عندهم.
فبين المسلمين والوثنيين تباين، ولكن النسبة بين المسلمين وبين اهل الكتاب هي العموم والخصوص من وجه وهناك نوع التقاء بجنس الكتاب السماوي، فجاءت هذه الآية لتحذر من الأهواء وممن يسعون الى الضلالة والغواية.
وذيل هذه الآية نوع حرز ووقاية للمؤمنين لأن الإسلام يرتكز على العلم والإيمان وفيه حث على الانقطاع الى الله عز وجل.
قوله تعالى[الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ] الآية 121
الإعراب واللغة
الذين: مبتدأ.
آتيناهم: فعل وفاعل ومفعول به، الكتاب: مفعول به ثانِ، وجملة آتيناهم لا محل لها لأنها صلة الموصول.
يتلونه: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، الواو: فاعل
الهاء: مفعول به، والجملة خبر الذين.
وجملة يتلونه: في موضع خبر.
ويلاحظ في صدر هذه الآية خلوه من الواو كحرف عطف او استئناف وكأنه اشارة الى ان الآية قاعدة عقائدية كلية.
حق تلاوته: حق: مفعول مطلق، تلاوته: مضاف اليه، وهو مضاف، والهاء: مضاف اليه.
أولئك: اسم اشارة مبتدأ.
يؤمنون به: الجملة خبر اولئك.
ومن: الواو عاطفة، من: اسم شرط جازم مبتدأ.
يكفر: فعل الشرط، فاولئك: الفاء رابطة لجواب الشرط واسم الإشارة: مبتدأ، هم: مبتدأ ثان، الخاسرون: خبر مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم.
والتلاوة: متابعة القراءة، وسُمي القارئ تالياً لأنه يتابع قراءته ويتبع بعضها ببعض.
(اولاء) اسم اشارة للجمع ممدودة كانت او مقصورة، واكثر ما تستعمل للعاقل، وقد تلحقها (ها) التنبيه فتكون للقرب (هؤلاء)، وقد تلحقها الكاف فتأتي اشارة للبعد كما في هذه الآية، للدلالة على بعد وتردي منزلة الذين يكفرون بالكتاب وضعف تأثيرهم وعدم الالتفات الى جحودهم.
في سياق الآيات
الآيـة في مـدح الذيـن قرأوا الكتاب ويتلونه ويعملون به، وإرادة المعنى الأعم للكتاب الشامل للتوراة والإنجيل والقرآن، وجاءت الآية التالية بلغة التذكير بنعمة تعالى وهو المنان [ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ]( )، نعـم هـو مـدح لأولئك الذين انتقلوا الى الإسلام لمعرفتهم باوصاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتبهم.
ففيها لطف ضمن نظم التوبيخ وهذا اللطف مركب من مدح الذين أسلمـوا ومن حث الباقين على محاكاتهم واتباعهم، وترغيب لهم في الاستماع الى الآيات وان كانت تتضمـن الانـذار والتحذيـر، انها مدرسة القرآن وما فيها من الاسرار والكنوز والاعجاز والرأفة والرحمة والتخفيف.
وفي الصلة بين هذه الآية والآية التالية مسائل:
الأولى : بنو إسرائيل من الذين يتلون الكتاب.
الثانية : تلاوة الكتاب والتنزيل نعمة عظيمة يجب أن يذكرها بنو إسرائيل ويتدبر بها الناس جميعاً.
الثالثة : من مصاديق التفضيل على العالمين تلاوة الكتاب والتنزيل.
الرابعة : تلاوة الكتب السماوية السابقة طريق ومناسبة للإقرار بنزول القرآن، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ]( ).
الخامسة : من مواضيع التذكير بالنعمة الدعوة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ]( ).
السادسة : جاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية، أمّا آية البحث فوردت بصيغة الخطاب[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي]( )، وبين الذين أوتوا الكتاب وبني إسرائيل عموم وخصوص مطلق لأن الذين أوتوا الكتاب عنوان أعم.
أسباب النزول
تقدم ان اسبـاب النزول علم مستقل من علوم القرآن ويعين على فهم موضوع الآية ولا يعني الحصر بها وقد تعددت الأقوال في أسباب نزول الآية ولكن بعضها لم يرفع ، وقد يكون استقراء من الحوادث، وقد لا تكون هناك ملازمة زمانية او مطابقة والتقاء بين الحـدث ونـزول الآيـة، وان كانـت الملازمـة الزمانيـة اعـم مـن الدلالة على ان الحدث سبب لنزول تلك الآية فقد يكون من باب الإتفاق هذا اذا صح الخبر بحصول الحدث والواقعة أوان نزول الآية، فليس كل حـادثة نـزل فـيهـا بالخصـوص قـرآن، ولا كل آية يتعلق نزولها بحادثة وسبب معين , وكل آيـة مـن القـرآن أعم من أسباب النزول من حيث المعنى والمضمون والتفسير والتأويل.
ومما ذكر في أسباب نزول هذه الآية:
الأول : إنها نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن ابي طالب من الحبشة وهم اربعون رجلاً، اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام ومنهم بحيرا، وهو المروي عن ابن عباس( )، وحكى أبو حيان: أن الأربعين كلهم من الحبشة منهم إثنان وثلاثون من كبارهم وثمانية كانوا ملاحين)( ).
الثاني : هم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وشعبة بن عمرو وتمام بن يهودا واسد واسيد ابني كعب وابن يامين وابن صوريا، وهو المروي عن الضحاك.
الثالث : هم اصحاب محمد، عن قتادة وعكرمة.
وهذا التعدد في اسباب النزول يترشح على ما يؤمنون به هل هو التوراة ام الأنجيل .وإن كان القول الثالث يدل على انه القرآن.
ان ذكر اسباب النزول امر حسن وذو اعتبار في دراسة الآية ولكنه يعتبر طريقاً لمعرفة مضمونها والغايات الإعجازية فيها وليس تفسيراً لها فوظيفتها ومدلولاتها باقية الى يوم القيامة.
فتعرض المفسرين لاسباب النزول بالتفصيل يجب ان لا يحول دون البحث عن المضامين السامية في تفسير الآية وتأويلها، بالإضافة الى امكان دراسة ما ذكر من الأسباب على نحو التحقيق والمقارنة والمناقشة والنظر لها من خلال موضوع الآية ومضمونها ومفهوم التلاوة وعائدية الضمير في (به) مما يعني ان الآية أعم مما ذكر في أسباب النزول.
ووجهـا التلاوة من القراءة والاتباع نوع بيان وطريق، وتستلزم قواعد التفسير استظهار المضامين والدلالات على مفهوم ومنطوق كل منهما.
إعجاز الآية
في الآية حث على تلاوة القرآن وعدم تضييعه لأنه جامع للأحكام الشرعية وهو الإمام الهادي، اما الكتب السماوية الأخرى السابقة له في النزول فانها مقدمة وعون ومقدمة وبشارة لإثبات صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسبيل الى اتباعه والعمل بما جاء في القرآن , وفي الآية مسائل :
الأول : تظهر الآية ان الكتاب تفضل انعم به سبحانه على الأمة وعلى اتباع الرسالة وليس على النبي وحده وهذا يعني بالدلالة التضمنية المسؤولية الشرعية على اهل الملة باتباع القرآن وعلى المسلمين خاصة بحفظه وتعاهده، فصحيح انه نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الآية تظهر ان النزول كان للامة كلها ومن أجل الناس جميعاً، وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ ومنذر وواسطة كريمة بين السماء والأرض الى جانب مسؤوليات النبوة الأخرى، قال تعالى[إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
الثاني : الملازمة بين التلاوة والإيمان مما يعني الحث على تلاوة القرآن والمواظبة عليها وهي نوع طريقية الى الإيمان بالقرآن، وتلاحظ في المقام موضوعية الصلاة والقراءة فيها فهي تعاهد للقرآن وارتقاء للنفس في مسالك الإيمان.
الثالث : موضوعية التلاوة في الدين الإسـلامي وفي حفظ الكتب السماوية فقد لاقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون الأذى من الكفار، ومن وجوه موضوعية تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يجهر بالقرآن في الأشهر الحرم في المسجد الحرام للإنتفاع من الهدنة الزمانية في هذه الأشهر وعدم القتل فيها فاتجهوا الى المكر في ايذائه واخذوا بالتصفير والمكاء اثناء قراءته للقران [وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً]( )، والمكاء الصفير والتصفيق واثـارة الصـخب كي لا يسمع الناس كلام الحق وتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن.
الرابع : تقود تلاوة التوراة والإنجيل انطباقاً وبالنتيجة الى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن الكتب السماوية جاءت بذكره واوصافه وضرورة اتباعه , وفي تسمية بعض الأنبياء باولي العزم في قوله تعالى [ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ ]( ) وجوه عبادية وجهادية ومنها ما عهد اليهم في البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاجمع عزمهم على الإقرار بنبوته.
الخامس : الذيـن اقترحـوا تبديـل القـرآن او بعضـه سـواء لتضمنـه الـذم لهـم او لفضحـه لسـوء اعتقادهـم كما في مشركـي قريش، وهذه الآيـة ابطـال لاقتراحهم وتيئيس لهم لموضوعية التلاوة في امر ثـابت قطعـاً هـو الوحـي مـن عنـد الله الذي لـيس مـن كلام البشر.
السادس : في الآية اعجاز ان تلاوة القرآن مرقاة في سلم الكمالات وانها تقود الى اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من اشرف الأعمال في الأرض.
السابع : ان الكفر بالكتاب والجحود به يؤدي الى الخسارة.
الثامن : جاء الإيمان في الآية متعقباً للتلاوة ولعله مترتب عليها على نحو الموجبة الكلية او الجزئية مما يعني ثبوت الإعجاز لمن يقرأ الآيات ويتلوها ويتدبرها.
التاسع : الآية دعوة للتلاوة وان هناك نوع ملازمة بين اتيان الكتاب وتلاوته فهي حث على تعاهد القرآن بالتلاوة والتقيد بما جاءت به الكتب السماوية.
العاشر : التلاوة فرد الايمان ودلالة عليه فهي مبرز خارجي ومصداق من مصاديق الإيمان.
الحادي عشر : يمكن استقراء أهمية سجود التلاوة في سور عزائم السجود كسورة السجدة، فصلت، النجم، العلق، ومنهم من جعل سجود القرآن في أربع عشرة آية منها ثلاثة في المفصل، ومنهم من جعل إحدى عشرة سجدة، وقال أحمد إنها خمس عشرة ، بإضافة السجدة في آخر الآية من سورة الحج، وإختلفوا في سجود سورة ص[فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ]( )، هل هي سجدة تلاوة أم سجدة شكر، وإختار الشافعي الثاني( ).
الثاني عشر : جعلت الآية برزخاً بين التلاوة وبين الكفر والخسران، فالخسـران ليس ملازمـاً لعـدم التـلاوة ولكنه ملازم للكفر بالكتاب السماوي.
قال تعالى[وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا]( )، والعزم هنا بمعناه اللغوي وهو ثبات الإرادة ودوامها، ويقال عزمت عزماً بالضم وعزيمة اذا اردت فعل الشيء وقطعت عليه.
وقد تحمل الآيـة مدحـاً أي لم نجـد لـه عزمـاً على اتيان المعصيـة، مع النسيان للعهد لأنه معصوم بالنبوة وسنخية العهد الذي تترشح عنه ملكة التوقي من الذنوب والمعاصي , وسـواء كان بعنـوان المـدح او الذم فانه لا يتعارض مع عموم عصمة الأنبياء والظاهر انها تتعلق بفعله في الجنـة عند الإقـتراب مـن الشجـرة ونسيانـه للنهـي، أي كان في زمان ما قبـل التكليـف وسقـط ذات الأكل من الشجرة عـن أهلية الإحتجاج به في موضوع العصمة.
الثالث عشر : قيدت الآية التلاوة بحقها وتمامها وفهمها والعمل بها فليس كل تلاوة تدل على الإيمان.
ويمكن تسمية هذه الآية آية (يتلونه) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
لقد أنعم الله عز وجل على الناس ببعث الأنبياء والكتب السماوية التي لا تنزل إلا على الأنبياء، ومن خصائص النبوة عدم كتمان النبي لما ينزل عليه وأن تعرض بسببه للأذى والتعذيب ليبقى التنزيل ثروة وكنزاً سماوياً في متناول الناس جميعاً وليتعاهده أصحابه وأتباعه من بعده، فينتقل النبي إلى الرفيق الأعلى ولكن كتابه باق ضياء يهدي الناس إلى سبل الرشاد.
وقد طرأ التحريف على الكتب السماوية السابقة، فأنعم الله عز وجل على الناس مرة أخرى، بالقرآن كتاباً [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ]( )، وجعل كل آية فيه ذات إعجاز خاص، ودعوة للإسلام والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت هذه الآية سلاحاً لحفظ التنزيل، بتلاوته بتدبر وتفقه، وهذه التلاوة طريق لحفظ القرآن من النسيان والضياع، ومنع من وصول يد التحريف إليه، وهل قراءة المسلمين للقرآن في الصلاة اليومية من التلاوة الممدوحة في هذه الآية الجواب نعم، وفيه شاهد بأن مصداق الآية القرآنية بأق مع الإسلام.
الآية لطف
لقد أراد الله عز وجل للناس العمل بطاعته وإجتناب معصيته،وهو القوي العزيز الذي بيده مقاليد الأمور، فقربهم إلى سبل الطاعة بأسباب الرشاد العامة والخاصة، ومنها تنزيل الكتاب من السماء على الأنبياء.
فالكتاب لطف وخير محض للناس جميعاً، ولكن الذين ينتفعون منه هم أهل الإيمان، ومن الآيات فيه أن الذين يصدون عنه يخسرون الدنيا والآخرة، وجاء نعتهم في خاتمة هذه الآية بأنهم (هم الخاسرون) وفيه شاهد على عموم اللطف الإلهي بتنزيل الكتاب، فالإنسان والجماعة والطائفة ليسوا مخيرين بين الإيمان بالكتاب أو الكفر به.
وليس من برزخ بين الأمرين، بل لابد من الإيمان والتصديق بالتنزيل، فجاءت هذه الآية عوناً للناس لتصديق به، والسلامة من الخسران في النشأتين.
وهل يدخل في اللطف الوارد في هذه الآية الوعيد في خاتمتها، الجواب نعم، لأنه زجر عن الصدود والإعراض عن الكتاب، وحجة على الناس في سوء عاقبة الكفر بالتنزيل.
مفهوم الآية
في الآية تقسيم للناس على اساس تلاوة الكتاب مما يدل على موضوعية التلاوة في العقائد واحكام الشرائع ومن الإعجاز في الآية ان التلاوة لم تذكر مجردة بل جاءت بخصوصية وشرط وهو “حق التلاوة” مما يعني في مفهومه التوكيد على الإعتبار والإتعاظ من التلاوة وتوظيفها في أفعال الجوارح، ولكن ما هي الصلة بين التلاوة والإيمان في الآية هل التلاوة سبب للإيمان، أم العكس ام ان احدهما يؤدي الى الآخر الجواب هو الأخير وان التلاوة عنوان كاشف عن الإيمان وتؤدي الى زيادة الإيمان والهداية.
وفي الآية مسائل:
الأولى : الآية دعوة لأهل الكتاب لتلاوة القرآن.
الثانية : تدبر آياته واكتشاف وجوه الإلتقاء بين الكتب السماوية التوراة والإنجيل، قال تعالى[أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ]( ).
الثالثة : معرفة صدق نزول القرآن من عند الله.
الرابعة : ذم وتوبيخ وانذار للذين يكفرون بالقرآن ونزوله من عند الله تعالى.
الخامسة :الآية في معناها الأعم ذم للكافرين الذين لا يؤمنون بالكتب المنزلة من عند الله تعالى.
واذ تذكر الآية فريقين فان هناك غيرهم لم تذكره الآية كما سيأتي في تفسيرها ولكن عدم الذكر هذا لا يعني خروجهم عن موضوع الآية بل انها جاءت لبيان طرفي الإيمان والكفر ولزوم تسليم الناس مطلقاً بالقرآن كتاباً نازلاً من عنده تعالى وكأن الكفر في المقام على مراتب تشكيكية متباينة.
لذا جاء الوعيد بالخسارة ملازماً للكفر وعنوان استحقاق للإعراض عن القرآن كما ان الخسارة جاءت مطلقة وهي اعم من ان تنحصر بعالم الحساب بل تشمل عالم البرزخ والحياة الدنيا، فمن مفاهيم الآية الدعوة الى استحداث باب من العلم ووراثة قرآنية خاصة يتعلق مضمونها بخسارة الجاحدين لرسالته صلى الله عليه وآله وسلم الذين يعرضون عن آيات القرآن واحكامه، ويأبون الإمتثال لأمر الله تعالى بالرجوع الى القرآن وتلاوته، ووجوه تلك الخسارة العقائدية والتأريخية والمالية والإجتماعية والنفسية، وآثارها واضرارها المتعددة في النشأتين.
وفي الآية مسائل:
الأولى: إخبار القرآن عن نزول الكتاب من السماء وتوارثه من قبل أتباع الأنبياء.
الثانية: وجود أمة تتلو الكتاب المنزل، قال تعالى[مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ]( ).
الثالثة: جاءت الآية بصيغة الجمع مما يدل على الكرة والتعدد في تلاوة الكتاب.
الرابعة: بيان وجود مراتب للتلاوة، وجاءت الآية لمدح الذين يتلونه من غير تحريف ولا تغيير في النص والتأويل، لتكون تلاوة الكتب السابقة طريقاً للتسليم بنزول القرآن.
الخامسة: ترشح الإيمان عن التلاوة، وترشح التلاوة الحقة عن الإيمان.
السادسة: الإنذار والتحذير للذين يجحدون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن، وعدم إنحصار الأمر بالتحذير بل يشمل بيان قانون ثابت وهو ملازمة الخسارة للكفر والجحود بالنبوة.
إفاضات الآية
في الآية إخبار عن عن أحوال طوائف من الناس، ومع أن الكتاب ينزل على الأنبياء إلا أن الآية وصفت مجئ الكتاب بأنه لأممهم وأتباعهم، وفيه دعوة لأهل الكتاب لتعاهد وحفظ التنزيل من التحريف والضياع، ويحتمل هذا التعاهد وجهين:
الأول: حفظ وتعاهد كل أهل ملة لكتابهم، فيحفظ اليهود التوراة، ويحفظ النصارى الإنجيل.
الثاني: حفظ وتعاهد أهل الكتاب للتنزيل مطلقاً.
والصحيح هو الثاني، إذ تقع على المليين حفظ التنزيل وسنامه آيات ورسم القرآن، لتكون مسؤولية تعاهد القرآن وظيفة كل من أمن بالكتاب السماوي لوجوه:
الأول: وحدة الموضوع تنقيح المناط.
الثاني: جاءت الكتب السماوية السابقة بالبشارة بالقرآن.
الثالث: القرآن جامع للتنزيل وأحكام الحلال والحرام.
الرابع: لزوم إتباع القرآن، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ] ( ).
وفي الآية دعوة لترتبط كلمات وألفاظ القرآن عند قراءته لتكون التلاوة نوع طريق لفهم مضامينه، وشاهداً على إكرام التنزيل، والتمييز بينه وبين غيره من الكتب بصيغة القراءة، ومصداقاً خارجياً للتباني النفسي على العمل بآياته.
وقد ذكرت الآية الذين يتلون الكتاب حق تلاوته، فهل هناك مدد وفيض من عند الله لإعانة الناس على هذه التلاوة وإتخاذها بلغة للمقاصد الحميدة، الجواب نعم، ومنه هذه الآية التي تدل بالدلالة التضمنية على مدح أهل التلاوة الحقة وتحث عليها، وتجذب أهل الكتاب إلى التنزيل، وتجعلهم يتدبرون بآيات القرآن التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بالاسم الموصول للجمع (الذين) للإشارة إلى أهل الكتاب، وفي الآية تشريف ومدح لهم من وجوه:
الأول: الإخبار عن مجئ الكتاب لهم، مع أن التوراة والإنجيل لم ينزلا إلا على موسى وعيسى عليهما السلام، ولكن الآية أثنت على أتباعهم وكأنهم هم الذين آتاهم الله الكتاب.
الثاني: تلاوتهم للكتاب.
الثالث: وصف تلاوتهم بأنها حق التلاوة أي بالتدبر في معاني الآيات ومضامين الكتاب، وأخبار الجنة والنار، وما فيه من لغة البشارة والإنذار.
وفي هذه التلاوة حجة عليهم لما في الكتاب من صفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إتباعه ونصرته، قال تعالى[الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ]( )، وفي الجمع في الآية أعلاه والآية التي بعدها في النفس السورة وهي سورة الأعراف بين صفات ثلاثة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي:
الأولى:صفة الرسول.
الثانية: النبي وأن الله عز وجل هو الذي بعثه نبياً.
الثالثة: أن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أمي لا يكتب.
وفي هذا الجمع وذكره في آيتين متعاقبتين شاهد على أن أمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة له، وصفة له مذكورة في الكتب السابقة لبيان أنه لم يقرأ كتب أهل الكتاب كما أنه نشأ فبيئة مكة وليس فيها مدارس وكنائس لأهل الكتاب، ولاعبرة في المقام بسفرة له إلى الشام إلتقى فيها مع أحد الرهبان.
وقد جاءت الاية بأن أهل الكتاب [يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ] ( )، وتترشح هذه المعرفة من تلاوتهم للتوراة والإنجيل، لتكون تلك التلاوة نوعطريق للإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديقه وإتباعه.
وتبين الآية الملازمة بين تلاوة الكتاب وبين الإيمان، وفيه دعوة للناس للتفقه في الدين، والتدبر في آيات القرآن، لأنها طريق ومادة للإيمان، وهي حاجة للناس في النشأتين قد تفضل الله عز وجل وجعله كالمائدة القريبة منهم، ينهلون منها، ويتزودون منها للعبادات والمعاملات لتكون ذات العبادات والمعاملات زاداً للآخرة، وسبباً في رسوخ الإيمان.
وفي الآية وعيد وإنذار من الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتكذيب بنزول القرآن من عند الله عز وجل بالخسارة المطلقة تشمل حجب منافع الدنيا، والحرمان من الجزاء الحسن في الآخرة، وتشمل الإقامة بالعذاب الأليم عقوبة على الجحود والكفر لو لم تقل الآية [أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ] لقيل بعدم الملازمة بين تلاوة الكتاب حق تلاوته وبين الإيمان به، وأنه قد يتلون الكتاب ولكن يكفرون به.
ولكن أراد الله عز وجل لهذه الآية أن تكون مدحاً للذين يتدبرون في الكتاب السماوي المنزل، ويعملون بسننه وما فيه من البشارات إذ أنه يقود للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء للبشارات الواردة في التوراة والإنجيل بخصوص نبوته، أو لأن ما في القرآن تصديق للتوراة والإنجيل، أو الآيات التي يتجلى فيها إعجاز القرآن وأنه تفصيل وبيان للكتاب كله، وشاهد على التنزيل بالصدق، قال تعالى[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ]( ).
التفسير الذاتي
جاءت الآية السابقة بذكر فريق من أهل الكتاب، وجاءت هذه الآية بصفة إتيانهم الكتاب، وقيد التلاوة له وهو نوع إكرام وتشريف وتذكير لهم بوظائفهم، من وجوه:
الأول: ما في الكتاب من التوراة والإنجيل من أحكام وسنن.
الثاني: تدعو الكتب السماوية المنزلة إلى السعي إلى الجنة، والوقاية من أسباب دخول النار، وهذه الدعوة واقية من الهوى وإتباعه.
الثالث: لابد من تلاوة الكتاب والتدبر في معانيه ومضامينه ومقاصده.
الرابع: جاءت الكتب السماوية السابقة بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والآية وثيقة سماوية تؤكد نزول الكتاب من عند الله عز وجل من قبل ووجود أمة تتلوه.
وجاءت آيات عديدة تفيد ذكر أفراد الكتاب، قال تعالى[وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ]( )، وكما جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتصديق التوراة والإنجيل فان عيسى جاء بالتصديق بالتوراة , قال تعالى حكاية عنه [ ومُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ]( )، ليأتي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق بها معاً، وليس من كتاب بعد القرآن مصدق له، مما يدل على أن القرآن بذاته مصدق لتنزيله،وهو نوع تفضيل له على الكتب السماوية السابقة من وجوه:
الأول: تصديق الكتب السماوية السابقة له.
الثاني: تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة.
الثالث: تصديق القرآن لذاته، وعدم وجود كتاب بعده مصدق به، وبالقرآن يقف تسلسل التصديق.
وجاءت هذه الآية بما هو أعم من التصديق إذ تخبر عن تلاوة أهل الكتاب للكتاب وفيه شاهد بأن الله عز وجل إذا أنزل نعمة سماوية فان أمة من الناس تتعاهد هذه النعمة، والكتاب من أعظم النعم، وفي مدح التوراة قال تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ] ( )، ويدل في مفهومه على الثناء والمدح للذين يتلونه من أهل الكتاب، وفيه حث للمسلمين على إكرام الذين يتلون الكتاب ويعملون بأحكامه، ويقرون بما فيه من البشارات، ويؤمنون ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها حق، وجاءت الآية بقيدين:
الأول: تلاوة الكتاب.
الثاني: حق التلاوة.
أي التلاوة الخالية من التحريف، والتي تكون مقدمة ومرآة للعمل، بحيث يعملون بحلاله، ويجتنبون ما نهى عنه، وأختتمت الآية بذم الذين يكفرون بالكتاب، ونبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مع إنذارهم ونعتهم بأنهم خاسرون، وهذا النعت نوع ذم لهم، والمراد من قوله تعالى[وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ]وجهان:
الأول: إرادة فريق من أهل الكتاب.
الثاني: الكفار الذين يجحدون بالكتب السماوية.
وتبين الآية جهاد المؤمنين من الأمم السابقة في حفظ الكتاب والتنزيل وتعاهده،ووراثة المسلمين لهم بتلاوة القرآن، ترى لماذا ورد لفظ(حق تلاوته)، بخصوص أهل الكتاب ولم تذكر المسلمين بأنهم يتلون القرآن حق تلاوته الجواب من وجوه:
الأول: جاءت بعض الآيات بذم فريق من أهل الكتاب [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ] ( )، وجاءت قبل آيات آية تبين الفرقة والخلاف بين بعض فرق أهل الكتاب مع تلاوتهم الكتاب( ) فجاءت هذه الآية لتبين موضوع جهة المدح وأنهم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته.
الثاني: يتقيد المسلمون بالقرآن وأحكامه، ويعملون بأوامره، وينتهون عما نهى عنه، وهو من مصاديق تمام التلاوة.
الثالث: تتصف آيات القرآن بخصوصية وهي أن تلاوتها تكون بتدبير.
ولقد قسمت آيات القرآن الناس تقسيماً عقائدياً إلى ثلاثة أقسام:
الأول: المسلمون.
الثاني: أهل الكتاب.
الثالث: المشركون.
وبينما يكون بين المسلمين والمشركين تضاد وتناف، فان هناك جامعاً مشتركاً بين المسلمين وأهلالكتاب وهو نزول الكتاب من عند الله ولزوم إتباعه وتصديقه، وجاءت هذه الآية بذكر الجامع المشترك وهو الكتاب السماوي المنزل من السماء من غير تعيين له، وفيه آية إعجازية في لغة الإجمال والتفصيل التي يتضمنها القرآن، والأصل في لفظ ( الكتاب) الذي يتلى هو الشمول لكل كتاب نازل من السماء إلا مع القرينة الصارفة التي تفيد التعيين والحصر.
وقد ورد وصف اليهود والنصارى في القرآن بأنهم يتلون الكتاب،إلا أن هذه الآية جاءت بتقييد التلاوة بأنها حق التلاوة، ومع ورود مادة (تلى) في آيات كثيرة من القرآن إلا أنه لم يرد لفظ(يتلونه) ولفظ (تلاوته) إلا في هذه الآية الكريمة، لتكون هذه الآية آية (حق تلاوة الكتاب).
لقد بعث الله عز وجل الأنبياء بالآيات وقاموا بتلاوة الكتاب كلاً على قومه، وإتبعهم المؤمنون بتلاوته ليكون تركه سماوية كريمة بين أهل الأرض، ودعوة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوة آيات القرآن، وهو من مصاديق التصديق المتبادل والمتداخل بين الكتب السماوية المنزلة.
فتؤدي تلاوة الكتب السماوية بتدبر إلى الإيمان بأن القرآن كتاب نازل من عند الله، وجاءت خاتمة الآية لذم الكافرين مطلقاً ونعتهم بأنهم الخاسرون، وفيه دعوة للناس جميعاً للتدبر بآيات التنزيل.
التفسير
قوله تعالى [ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ]
لقد كان التوحيد ملازماً لوجود الإنسان في الأرض وأول ما بدأ هذا الوجود بالنـبي فكـان آدم ابـو البشر نبياً ثم توالت سلسلة الأنبياء المباركة تترا في الأرض رحمة وفضلاً، لذا يمكن تقسيم الرسـل تقسيمـاً استقرائيـاً بان منهـم من كانـت عنده شريعـة مبتدأة كنبي الله آدم عليه السلام، وشريعة ناسخـة كالرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم من كانت شريعته ناسخة ومنسوخة، ناسخة لما قبلها ومنسوخة مما بعدها، والإيمان بالنبوة يكون على مراتب ووجوه:
الأول : الإيمان بنبي تلك الملة والشريعة من غير حاجة الى الإيمان بالأنبياء الآخرين، لأن الإيمان بواحد منهم يعني الإيمان بموضوع النبوة والرسالة من عند الله فهو على نحو تعدد المطلوب أي على نحو العموم البدلي مثل قولك صم أي يوم شئت او اكرم أي عالم فاي ونحوهـا من ادوات العموم البدلي، وهذا خلاف احكام الشرائع لعدم امكان تفكيك الإيمان بالأنبياء.
الثاني : الايمان بكل الانبياء على نحو الإستيعاب الشمولي وهو المسمى بالعام الإستغراقي مثل قولك اكرم كل عالم مع فرض انشاء وجوب مستقل لكل فرد.
الثالث : الإيمان بالأنبياء على نحو العموم المجموعي فيترتب حكم واحد على الجميع وكما في ضرورات الدين فمنكر ضرورة من ضرورات الدين يعد كافراً إذا كان الإنكار يتعلق بالتوحيد والرسالة.
الرابع : الإيمان على نحو المرتبة والدرجـة، ففي اصل النبوة يكون على نحو العموم المجموعي وعلى مراتب من حيث الإتبـاع، فلا يكفي ان يؤمن بنبوة التالي مع البقاء على الملة السابقة بل لابد من العدول الى الرسول التالي وملته في النية والعمل والإتباع وهذه هي الغاية الأساسية من التلاوة، اذ ان التلاوة بمعنى المتابعة قد تتعلق بالقول او بالعمل او بهما معاً، وكل منهما على مراتب كمراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب وباللسان وباليد ودرجات كل واحدة منها، فمن القول النصيحة ومنه الزجر ومنه التوبيخ بل ومنه الحث والتشجيع على نبذ المنكر والدعوة الى المعروف، واتباع الأنبياء من اهم مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالتلاوة ضرب من الشكر.
والآية نوع مدح وإكرام للمواظبين على التلاوة، بالإضافة الى ما يترشـح عن المقـام مـن الاطـلاق في صفـة ونعـت الكتـاب، ان الإنتمـاء الى الدين السمـاوي وحـده فرد امتياز عن باقي الناس، فلا غرابة ان يقسم الأسلام الناس من حيث الأحكام والمعاملة الى مشرك كافر وكتابـي، وبينمـا وصـف الكافـر غـير الكتـابي بالنجاسـة باجمـاع المسلمين اختلف في نجاسة الكتابي مثلاً ونسب الى مشهور علماء الإسلام القول بنجاستـه والمختـار عـدم نجاستـه، وفي الزواج من الكتابية ونحوه، والتمايز في موضوع الجزية وقبولها من الكتابي دون غيره دلالات في المقام.
والكتـاب اسم جنـس، وهو لغـة المحصـور بين دفتـين وما يكتب فيه، وفي الإصطـلاح هـو ما انـزل مـن السمـاء، ويـرد اسماً خاصاً للقرآن.
وفي سبب التسمية بالكتاب وجوه:
الأول : إنه من اللوح المحفوظ.
الثاني : ثبوت الكتاب نزولاً وتلاوة.
الثالث : حجة الكتاب على العالمين.
الرابع : لأن احكامه فرض وانه لازم كما في قولك قضى القاضي بالنفقة أي أمر بها وأصبحت لازمة.
الخامس : إنصراف الذهن عند ورود لفظ الكتاب إلى التنزيل , والتبادر من علامات الحقيقة.
الضمير في [ يَتْلُونَهُ ] يعود لمذكور سابق وهو هنا الكتاب، والآية نوع اخبار ومدح، وهل يمكن حملها على الأمر وانها جاءت بصيغته، الجواب انها ارشاد وحث على تلاوة القرآن ايضاً من غير ان يتعارض ذلك مع المضمون الخبري لها.
وقد جـاءت الآيات ايضاً بتلاوة اهل الكتاب للإنجيل والتوراة، ولكن مع تنبيه لمن لم ينتفع من تلك التلاوة، قال تعالى[أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( ) وحق التلاوة يعني حقيقتها الجامعة لأوصافها ودلالات الكمال فيها إذ أنها مطلوبة بذاتها وهي نوع طريق، ومن معانيها:
الأول : إنها تعني التدبر والعمل بما فيها من السنن لما في الكتاب السماوي من احكام شرعية تشمل جوانب الحياة كافة العبادات منها والمعاملات.
الثاني : الإقرار بانه كتاب نازل من السماء ولزوم تعاهده وحفظه.
الثالث : عدم تحريف الكتاب عن مواضعه وتلك من اهم وجوه التلاوة الحقة خصوصاً في المقام فانها دعوة للإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إن العناية بقواعد التجويد واحكام القراءة جزء من التلاوة الحقة ولكن يجب ان لا يكون في تعلمها واتباعها مشقة على عامة الناس او الذي يتلو الكتاب لأن الشريعة مبنية في قواعدها على الإمتنان والتخفيف، كما انه يجـب ان لا يبتعد كثيرا عما يكفي لبيان الحرف وهيئته وعربيته والمتعارف في نطقه فالإهتمام المتواصل بالعلوم ومواصلة التحقيق يجب ان لا يؤدي الى التشديد في احكامها وكثرة الإحتياطات فيها.
وظاهر الآية ان المراد بالتـلاوة ليس المتابعة انما هو القراءة وقد لا تجد في بعض كتب اللغة ما يدل على ان التلاوة في الأصل تدل على القراءة بتدبر وتفكر بدليل ذكر الإيمان به، والمتابعة فرد الإيمان ومصداقه، اما اتباع محكمه والإيمان بمتشـابهه ونحوه مما ذكـره الرازي مثلاً في تفسير الآية فتدل عليه آيات اخرى.
ان قيد [ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ] مدح وثناء على اولئك التالين والعاملين بمضامين التلاوة، وذم لمن لا تتعدى التلاوة لسانه.
ان التكثير في مضامين واحتمالات الآية امر حسن، وهو حاجة ايمانية بشرط صحة الاصل وعدم خطأ المستند، مع وجود وإمكان وجوه اخرى لها ولكن التعدد والتوسع فيها يجب ان يكون مستنبطاً من الآية ومعانيها ودلالاتها التضمنية والالتزامية والمطابقية.
فكأن الآية تقسم أهل الكتاب بلحاظ موقفهم منه ومن تلاوته الى:
الأول : الذين يتلون الكتاب السماوي حق تلاوته.
الثاني : الذين يتلونه تلاوة غير كاملة سواء تعلق عدم الكمال بكيفية اخراج الحروف ام بقلة التدبر أم التبعيض , قال تعالى[أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ]( ) اما حق التلاوة ففيه مراتب من الفضل والكمال في الكم والكيف والعمل.
الثالث : المراتب التشكيكية بين صرف الطبيعة من التلاوة وحق التلاوة.
الرابع : الذين لا يتلونه حق تلاوته ولا يكفرون به.
الخامس : الذين يكفرون به.
والقسمان الثالث والرابع لم تذكرهما الآية الكريمة، فهل سكتت عنهما في هذا المقام ام انها الحقتهم بالذين كفروا أم انها تشير اليهم في مفهومها، وهل نحكم على كل من لا يتلو الكتاب حق تلاوته بانه كافر، الجواب لا، وان كان الكفر ايضاً على مراتب.
وتعيـين نـوع الكفـر في الآيـة يمكـن ان يستقـرأ من ذيلهـا وذلـك بنعتهـم بالخسـران، أي الكفـر الذي يـؤدي الى الخسران وهو الذي تشمله الآية اذ ان المدار على العمل، فالتلاوة وان كان لها استحباب نفسـي فقـد يترشـح عليهـا الوجـوب من غـيرهـا كـما لو كانت واجبـاً غـير ركـني في الصـلاة بلحـاظ الجزئـية منها وانما هي والقراءة سبيل رشـاد وطـريق للإيمـان فمن يعمل بالكتاب وبما فيه لا يصدق عليه انه كفر به.
أي من اعجاز الآية ان الذم فيها لم يتعد الى كل من لا يتلو ويقرأ الكتاب منهم، فقـد يكون أميـاً وقد يكون قد حيل بينه وبين الكتاب او لم ير الا المحرف منه كما هو حـال الكثير منهم في ايام البعثة النبوية فالمدار حينئذ على الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد جعل الله لهم عوناً وهو ما في القرآن من اعجاز بالاضافة الى المعجزات الحسية والعقلية الأخرى.
قوله تعالى [أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ]
(اولئك) اسم اشـارة للبعيد وقد يراد منه التعظيم او التحقير، والمراد هنا هو التعظـيم لبيان ارتـفاع منزلة المشار اليه وعلو مكانته، فالآيـة مدح وثناء لأهل الإيمان والذين توصلوا الى الهدى بتلاوة الكتاب، أي انهم استحقوا الثناء على الإيمان وعلى توظيفهم لمقدماته والإنتفاع منها، والآية حجة على غيرهم لأنها جاءت باثبات الحجية للتلاوة وكفايتها كبرهان ودليل على صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، سواء كانت تلاوة التوراة والأنجيل وما فيهما من البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، او تلاوة القرآن وحجته الذاتية والإعجاز المنبسط على كل آياته وسوره.
والآية تبين أنه تعالى يعلم بوجود من يصدّق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويستجيب لدعوته، أي انه سبحانه هيئ اسباب ظهور الإسلام وعلو شأنه، فالآيـة في دلالتها الإلتزامـية خزي للجاحدين ولمن لا يهتدي الى التلاوة الحقة وينتفع منها، كما انها تثبت الملازمة بين التلاوة الحقة وبين الإيمان بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم وعدم امكان التفكيك بينهما.
والضمير في [بِهِ] يحتمل وجوهاً:
الأول : يعود الى الكتب السماوية المنزلة كالتوراة والإنجيل.
الثاني : إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : إلى القرآن.
والأقوى انه يعود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسياق الآيات ولقرينة آخر الآية الذي يتعلق بالكفر به، كما ان الكفر والجحود بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم يعني كفراً بالتوراة والإنجيل بالواسطة، وكفراً بالقرآن لأنه نازل على صدره من عند الله تعالى.
فمفهوم الآية ان تلاوة التوراة والإنجيل والكتب السماوية مطلقاً تقود الى الإسلام والى الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فاهل الكتاب ان قرأوا التوراة والإنجيل قراءة خالية من التحريف وسوء التأويل فانها تؤدي بهم الى الإيمان، وإذا انصتوا الى القرآن وتدبروا آياته وتتبعوا ما فيها من الأحكام وامهات المعارف الإلهية ودقيق الأحكام لآمنوا به صلى الله عليه وآله وسلم، باعتبار ان وجود الكتاب السماوي عندهم وانتسابهم إلى الكتاب عون وركيزة لفهم فلسفة التشريع، قال تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ]( ).
وتحتمل الصلة بين تلاوة الكتاب حق تلاوته والإيمان به، وجوهاً:
الأول : الإيمان رشحة من رشحات التلاوة.
الثاني : كل من التلاوة والإيمان بعرض واحد.
الثالث : التلاوة الحقة فرع الإيمان بالكتاب.
الرابع : عدم الملازمة بين التلاوة الحقة والإيمان بالكتاب.
الخامس : قد يؤمن الإنسان بالتنزيل ولكنه لا يتلوه ولا يتدبر في معانيه، أي أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق فالإيمان بالكتاب هو الأعم.
وبإستثناء الوجه الرابع أعلاه فإن الوجوه الأخرى كلها من مصاديق الآية الكريمة، وفيه بيان لتعدد فضل الله عز وجل على الناس عامة وأهل الكتاب خاصة وهو من مصاديق قوله تعالى خطاباً لبني إسرائيل في الآية التالية[اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
بإعتبار أن كلاً من أفراد ومضامين هذه الآية نعمة وفضل على بني إسرائيل وهي:
الأول : نزول الكتاب.
الثاني : تلاوة الكتاب.
الثالث : التفقه في الدين بالتلاوة والحرص على العمل بسننها بقوله تعالى[يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ].
الرابع : الإيمان بالتنزيل مطلقاً، فتلاوتها الكتاب السماوي السابق دعوة وحجة ونوع طريق للتصديق بالكتاب أو الكتب اللاحقة له، وكذا بالنسبة لتلاوة الكتاب اللاحق فأنه مناسبة وحجة للتصديق بالكتب السابقة، قال تعالى في وصف القرآن[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ]( ).
وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يمثل القرآن يوم القيامة رجلاً فيؤتى الرجل قد حمله فخالف أمره ، فيقف له خصماً فيقول: يا رب حملته إياي فبئس حاملي تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: فشأنك، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار، ويؤتى بالرجل الصالح قد كان حمله وحفظ أمره، فيتمثل له خصماً دونه
فيقول: يا رب حملته إياي فحفظ حدودي، وعمل بفرائضي، واجتنب معصيتي، واتبع طاعتي، فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال له : شأنك به، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الاستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر)( ).
ولم تأت الآية بحرف العطف الواو، فلم تقل(الذين آتيناهم الكتاب ويتلونه حق تلاوته) ليتضمن المعنى تقييد الإيمان والتصديق بالقرآن بشرطين متلازمين في المقام:
الأول : إتيان الكتاب وأن الذي يتلو القرآن هو من أهل الكتاب.
الثاني : تلاوته للكتب السابقة كالتوراة والإنجيل حق التلاوة، ومنها تتبع الأصل وإجتناب التحريف.
قوله تعالى [وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ ]
هل يعود الضمير في (به) الى الكتاب الوارد ذكـره سابقاً، ام الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته، الأقوى هو الثاني لأن الآية في مقام الوعيد والإنذار وتتعلق بالمسألة الإبتلائية، وجاءت لإقامة الحجة بالإضافة الى المعنى السياقي.
والخسران مرتبط بالكفر، وتلك قاعدة شرعية ثابتة في كل زمان والمراد بالخسران دخول النار والعذاب الشديد في الآخرة، ولا يمنع ان تكون بعض مصاديق الخسران في الدنيا، فمن الكفار من يقتل في كفره وينخـرم عمره على غير الهدى أي لم يعـد يتنعم بطيبات الدنيا، ولم يترك فيها كفرصـة للتدارك واحتمـال الإيمان والهداية ولو شاء الله لرحمه باطالة العمر وبالهداية ايضاً.
وخاتمة الآية انذار يشمل كل من يجحد بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من الآيات ولا ينحصر بوصف او قيد دون آخر، كي لا يتبرأ المشركون ويقولون انهم لم يعلموا كنه القرآن لعدم وجود كتاب عندهم، وفيها وعيد وتخويف من شدة العذاب الذي ينتظر الكافرين مطلقاً.
بحث فقهي
يجب في صلاة الصبح والركعتين الأوليتين من سائر الفرائض قراءة سورة الفاتحة وعليه الاجماع والسنة النبوية الفعلية والنصوص الصحيحة السند مع قراءة سورة وما لا يقل عن ثلاث آيات بعدها، الا عند الضرورة والمرض فيجوز الاكتفاء بقراءة الفاتحة.
والقراءة ليست ركناً في الصلاة بمعنى أنه لو تركها المكلف وتذكر بعد الدخول في الركوع صحت صلاته، ومن لا يحسن القراءة يجب عليه التعلم وان كان متمكناً من الإئتمام مثلما يجب عليه تعلم سائر اجزاء الصلاة.
والاولى عدم جواز اخذ الاجرة على تعليم سورة الفاتحة والسورة، والمشهور عدم جواز أخذ الاجرة على الواجب مطلقاً، واستدل عليه بأمور قابلة للمناقشة كالإجماع وانه من أكل المال بالباطل، وعدم وصـول عوض منه الى المستأجر.
وان الواجب عمل خالص لله عز وجل فكيف تؤخذ عليه الاجرة، ويشكل عليه بأن الواجب هو تعلم المكلف القراءة وليس تعليم الغير له القراءة ولم يثبت بأن تعليم الواجب واجب تعبـدي، أي ان الوجـوب يتعلـق بالمكلف المتعلم وليس بالذي يعلمه، ولو كان تعلمهما لأغراض أخرى فيجوز أخذ الاجرة بلا اشكال، كما يجوز اخذها على تعليم المستحبات.
واذا قرأ كلمة ولم يدر مدى صحتها لا يجوز ان يأتي بها كيفما كان بل لابد من التعلم، نعم لو كان يظنها على وجهين وجاء بواحد بظن صحته مع العزم على الإعادة عند الخطأ صح.
بحث عرفاني
من أهم افراد الإبتلاء في الدنيا نفس الانسان ذاته وفعلها المركب، فهـي أمّـارة بالسـوء، وقد تكون نزواتها مشغلة وحاجباً عن توجهه لمجاهدة أسـباب الإفتتان الأخـرى، فيبقى يصارع ما يترشـح عنها من الهوى والشك ويحاول كسر سورتها ويصطبر عليها ويحصن اقواله وافعاله من الزيغ لتبقى روحه متعلقة بالمبدأ الفياض ومرتبطة بعالم الملكوت عبر وشـائج نورانيـة تخترق جميـع الحجب الظلمـانية بحسن تلاوة الكتاب الكريم وما ينبعث من آياته من مشارق الكمال والجلال فيرى ثمار الجنة متدلية تدعوه، وقصورها تدنو منه وانهارها تقدم له المركب الفاره.
والقرآن مبعث كل سعادة فلابد ان تنجذب اليه والى تلاوته العقول بالملكة، والنفوس التي سعت إلى إستكمال تحصيلها بالإذعان والتسليم فهي بالضرورة تأبى ان تكون في الآخرة في منازل الخيبة والخسران بل تتبع مساقط غيث النبوة لتدخر الهدى والإيمان ليوم البقاء البدني والروحاني وما يحتاجه حينئذ من زاد الصالحات، قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
والتلاوة من فروع مدرسة الصبر والرضا، وأمارة على الصلاح وسبيل إلى تنزيه الذات وهي من مصاديق قوله تعالى في وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(ويزكيهم)( ) بتقريب أي يزكي المسلمين بتلاوة آيات القرآن , وهي سياحة القلوب في أرائج الجنان، ولجوء إلى العالم العلوي وإستعاذة بالله من شرور العالم السفلي .
وفي الحديث: ما قال أحد اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك , عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو أستأثرت به في علم الغيوب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدل مكان همه فرحاً وسروراً)( ).
قوله تعالى[ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ] الآية 122.
الإعراب
يا بني اسرائيل: يا: حرف نداء، بني: منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، اسرائيل: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الفتحة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.
اذكـروا: فعـل امـر مبـني على حـذف النون، الواو: فاعل، نعمـتي مفعول به وهو مضاف، والياء: ضمير متصل في محل جر مضاف إليه، التي: اسم موصول مبني في محل نصب صفة لنعمتي، أنعمت: فعل ماض وفاعله، عليكم: جار ومجرور متعلق بأنعمت.
وأني: ان وما بعدها عطف على نعمتي أي وتفضيلي اياكم على عالمي زمانكم.
فضلتكم: فعل وفاعل ومفعول به، على العالمين: جار ومجرور متعلقان بفضلتكم.
في سياق الآيات
هذة الآية أعم من الآيات السابقة وان كانت لا تخرج عن سياقها وموضوعاتها، وهي تذكير بما أنعم الله عز وجل به على بني اسرائيل المقرون بالتنبيه.
لما جاءت الآية السابقة بالإخبار عن تنزيل الكتاب السماوي جاءت هذه الآية لتذكير بني إسرائيل بالنعم الإلهية مطلقاً،لتكون منها نعمة نزول التوراة والإنجيل، وهذا التذكير مقدمة لتلاوتها حق التلاوة، وتلك آية في القرآن أن تكون الآية اللاحقة عوناً على الإمتثال لما في الآية السابقة، وهذا الإمتثال وتلاوة الكتاب حق التلاوة مناسبة لإستحضار بني إسرائيل للنعم الإلهية عليهم، وليجتمعا معاً في إصلاح النفوس والهداية إلى سبل الإيمان والوقاية من الخسارة في النشأتين التي جاءت خاتمة الآية السابقة بذكرها.
وإبتدأت الآية التالية بحرف العطف (واتقوا يوماً) لإفادة المغايرة والتعدد بين ذكر النعم وبين الخشية من اليوم الآخر، وما فيه من أهوال الحساب والجزاء.
لقد أراد الله عز وجل أن يذكر بنو إسرائيل النعم كيلا يشترطوا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إتباع ملتهم وطريقتهم، لأن ذكر النعم طريق للهداية، وحرز من إتباع الهوى وأسباب الضلالة.
وفي صلة هذه الآية بالآية السابقة[الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ….]( )، مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته يا بني إسرائيل إذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم.
الثاني : أولئك يؤمنون به يا بني إسرائيل إذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم.
الثالث : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته وأني فضلتكم على العالمين.
الرابع : ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون وأني فضلتكم على العالمين.
الثانية : جاءت الآية السابقة ببيان صفة أهل الكتاب الذين يتلون التنزيل ويتدبرون معانيه من غير تحريف أو كتمان، وتضمنت هذه الآية تذكير بني إسرائيل بالنعم، ليفيد الجمع بينهما حثهم على حسن تلاوة الكتاب.
الثالثة : لما كان القرآن هو الكتاب الجامع للأحكام وأن أهل الكتاب يتلون الكتاب بشرائط التلاوة وإن بني إسرائيل هم أمة فضلهم الله عز وجل فالأولى أن يتعاهدوا التلاوة الحقة للكتاب، ويمنعوا من تحريفه وتبديل معانيه ليكون الأصل والواجب وفق القياس الإقتراني كالآتي:
الكبرى : الذين آتيناهم الكتاب يتلون القرآن جق تلاوته.
الصغرى : بنو إسرائيل ممن آتاهم الكتاب.
النتيجة : بنو إسرائيل يتلون القرآن حق تلاوته.
الرابعة : حث بني إسرائيل على تعاهد منازل التفضيل بتلاوة الكتاب والتنزيل مع العمل بمضامينه القدسية، لأن الذي يترك التلاوة التامة يخسر دنياه وآخرته.
من نعم الله على بني إسرائيل بلحاظ الجمع بين الآيتين وجوه:
الأول : نعمة نزول الكتاب لهم، لأن بني إسرائيل من أهل الكتاب.
الثاني : تلاوة بني إسرائيل للكتاب.
الثالث : بعثة أنبياء كثيرين من بني إسرائيل.
الرابع : توارث أهل الكتاب للتوراة والإنجيل.
الخامس : نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن وهذه النعمة متشعبة وأفرادها متعددة منها هذه الآية والآية السابقة , وكل واحدة منهما تتضمن نعماً كثيرة على بني إسرائيل.
وفي الصلة بين هذه الآية والآية التالية مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : يا بني إسرائيل إذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً.
الثاني : يا بني إسرائيل إني فضلتكم على العالمين وإتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً).
الثالث : يا بني إسرائيل إتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً.
الرابع : يا بني إسرائيل إتقوا يوماً لا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة.
الثانية : يفيد الجمع بين الآيتين أن النعمة على الناس طريق للتوقي من عذاب النار , فمعها يكون التدبر والإتعاظ والسعي لعمل الصالحات.
الثالثة : قد ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب ومن الشكر على النعم والتفضيل الإستعداد لليوم الآخر بما ينجي الفرد والجماعة من عذاب النار.
إعجاز تكرار الآية
مما تختلف فيه هذه الآية عن الآية السـابعة والأربعـين المتقدمة المشابهة لها في اللفظ والكلمات هو موضوع سياق الآيات حيث تستلهم دروس منه ومن مناسبة الآية، فهي هنا تحذير من التصدي لرسالة الإسلام، والآية السابعة والأربعون جاءت في سياق دعوتهم الى الهدى والإيمان، في الآية الأربعين كانت الآيات بصدد ما على بني اسرائيل عمله والوفاء بالعهد وأداء الفرائض بقوله تعالى[وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ]( ).
وفي الآية السابعة والأربعين بيان مفصل لنعمته تعالى، اما هنا فقد جاءت ضمن بيان لزوم نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي تفسير العسكري في قوله تعالى [ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ] أي فعلت باسلافكم، فضلتهم دينا ودنيا( ).
بحث رجالي
يتضمن تفسير العسكري تفسيراً لسورة الفاتحة وآيات متقطعة من سورة البقرة الى الآية الثانية والثمانين بعد المائتين منها التي هي اطول آيات القرآن [ وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا.. ]( )، ولابد ان نقف عنده سنداً فان نسبة التفسير الى الإمام تستهوي النفوس وقد تحول دون النظر الى السند لاسيما وانه التفسير الوحيد المنسوب الى احد الأئمة عليهم السلام، واسم الإمام يكون واقية وحرزاً لحفظ التفسير وليس هو كالحديث فيهون رميه بالضعف انما هو كتاب وفي التفسير مع اعتبار قاعدة التسامح بادلة السنن وعمل المشهور بالحديث الضعيف سنداً فيما يتعلق بالمواعظ والحكم ونحوها.
ولم يؤلفه ويدونه الإمام بل قام بتأليفه اثنان هما ابو يعقـوب يوسـف بن محـمد بن زيـاد، وابو الحسـن علـي بن محمـد بن سيار حسب رواية الصدوق، وذكر ان الذي املاه عليهما الإمام ابو محمد الحسـن بن علـي العسكـري عليه السـلام، وان امـلاءه استـمر سبع سنين، وكانـا يختلفـان الـيه ويكتـبان ما يتسـع وقت الإمام لإملائه.
وكانا من ابناء الأغنياء، ولكن الأمير الداعي الى الحق امام الزيدية باستراباد حجز اموال ابويهما فخرج الوالدان الى العراق باهليهما واتيا سامراء ورحب بهما الإمام ودعا لهما بالخير والفرج وبعد ان جاءهم البشير برفع الحجز استأذنا للخروج، فاشار عليهما ان يخلفا ولديهما لطلب العلم، فالتزما بالحضور عنده يختلفان اليه في سبع سنين.
والذي روى عنهما هو ابو الحسـن محمد بن القاسم الخطيب المعروف بالمفسـر الإسترابادي وهو طريق أبي جعفر الصدوق الى هذا التفسير ولم تثبت وثاقته الى جانب جهالة حال ابي يعقوب وابي الحسن راويي التفسير، فمصدر هذا التفسير ثلاثة مجاهيل.
وقال ابن الغضائري: محمد بن القاسم المفسر الإسترابادي ضعيف، كذاب روي عنه ابو جعفر تفسيراً يرويه عن رجلين مجهولين، والتفسير موضوع عن سهل الديباجي عن ابيه باحاديث من هذه المناكير.
نعم ابن الغضائري لا يؤخـذ دائماً بتجريحه لكثرة ذمـه وتجريحه وقلما سلم منه احد، ولكن من المتأخرين من ضعفه ايضاً كالعلامـة الحلي وغيره، واكثار الصدوق من الرواية عنه لم يكن في كتاب الفقيه، وهذا التفسير المنسوبة روايته الى الإمام العسكري فيه من المناكير والموضوعات مما يصعب معها نسبته للإمام .
والأمر ليس ببالغ الصعوبة لأحاديث العرض على القرآن ولامكان التفكيك بين الأحاديث، إذ ان ضعف سند التفسير او القول بانه موضوع على نحو الإجمال لا يمنع من صحة بعضها دلالة كما في الفقه فاننا نفكك بين اوصال الحديث الواحد يؤخذ مثلاً بصدره ويترك آخره بحسب الأدلة والقرائن من غير ان يأكل بعضه بعضاً، ان اهميته ككتاب يملي علينا عناية خاصة بتحقيقه ولكن ذلك لا يعني امضاء ما فيه او التغاضي عن ضعف سنده وموضوعيته في حجية ما جاء فيه من الاخبار.
تكررت ألفاظ آية البحث فيما سبق والمفسرون لم يقفوا عندها هنا كثيراً لهذا السبب فالرازي مثلاً قال في تفسيرها والآية التالية: “قد تقدم تفسيرهما في الآيتين المتقدمتين”( )، إشارة إلى الآية الأربعين والسابعة والأربعين من سورة البقرة.
والظاهر ان تكرار الآية له دلالات ولا يعني الإتحاد في التفسير والغايات فالمعنى متعدد وإن تحد اللفظ، والإطلاق اعم من الحقيقة و المجاز وهناك فرق بينهما ففي الآية السـابعة والأربعين تفصيل اكثر مما قبلها وهي ايضاً مطابقة في النص لهذه الآية، لذا اقول من اعجاز الآية انها جاءت مكررة وتقدم مثلها ولكنها مستقلة في تفسيرها واعجازها وايضاً ان التكرار نفسه في القرآن هو نوع إعجاز وفيه كشف لشطر من اسرار القرآن كما ان وجود الآية وموضوعها بلحاظ الآيات التي تقدمتها ايضاً فيه اعجاز ويؤكد اهمية موضوعها وحجيته.
ويمكن تسمية الآية بآية (فضلتكم) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية، والآية المشابهة لها بذات الكلمات( ).
الآية سلاح
الآية تأديب للمسلمين في حثهم على شكر الله تعالى واجتناب ما سار عليه من سبقهم من الذين انعم الله عليهم، والذين فضلهم الله في هذا الزمان هم المسلمون واذا تغير الموضوع تبدل الحكم.
فالقرآن جاء متعقباً ناسخاً لما قبله، والتفضيل يدور مدار الناسخ وليس المنسوخ كما انها تبين سبب التحول من حيث المنزلة والمقام من الأفضل والفاضل الى المفضول والمأمور والتابع من غير تغيير للأصل وهو اتباع الحق وعليه المدار في أحكام السماء، ومع هـذا فالباب لم يغلق بوجوههم فبامكانهم دخول الإسلام.
وهذا مما اختص به الاسلام ويمكن استحضار القاعدة الفقهية “لا ضرر ولا ضرار في الاسلام” والنظر اليها على المعنى الأعم لاسيما وان أصلها قول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن كان في داره نخلة لغيره يؤذيه بسببها فأمر صاحب الدار بقلعها.
ففي العقائد والمقامات الاجتماعية لم يضر الاسلام أحداً، باعتـناق الاسـلام يبقون على منازلهم وأموالهم وحقوقهم، بل ان الشواهد التأريخية تبين ان الذين أسلموا منهم احتلوا مقامات رفيعة أكبر بكثير مما كانوا عليه بلحاظ عظمة الاسلام وسعة دائرة حكمه وسلطانه.
وهذا قانون جار في الناس منذ هبوط آدم إلى الأرض ولو آمن فرعون بنبوة موسى عليه السلام لبقي في عرشه وسلطانه ولما هلك هو وجنوده , قال تعالى[فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
والآية عون لكشف التقصير لتداركه، وفيها تأديب للمسلمين بالحفاظ على ما انعم الله عز وجل به عليهم، وتلك المحافظة لا تنحصر منافعها بالمسلمين أنفسهم بل تشمل الناس جميعاً فهي باب لتوالي النعم ودرء الفتن ودفع البلاء والآفات المهلكة.
الأية لطف
لقد جاءت الآية السابقة بلغة الغائب، وتعلق موضوعها بأهل الكتاب، وجاءت الآيتان اللتان قبلها خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أما هذه الآية فجاءت خطاباً خاصاً ببني إسرائيل، وأخبرت عن تفضيلهم على العالمين، ومن وجوه التفضيل واللطف هذه الآية الكريمة من وجوه:
الأول: إبتداء الآية بذكر بني إسرائيل على نحو التعيين والاسم ليكون ذكرهم من أكثر أمم الأرض ذكراً في القرآن، وهو رسالة سماوية للناس جميعاً، والله يعلم أنه يصل إلى أصقاع الأرض ويتلوه المسلمون في كل بلد ومصر من أمصار الأرض، ومع هذا تفضل وخص بني إسرائيل بالذكر والخطابوالشهادة السماوية لهم في الكتاب الخالد والمهيمن على الكتب كلها أن الله سبحانه فضلهم على العالمين.
الثاني: إذا أنعم الله عز وجل على الناس نعمة فانه سبحانه أكرم من أن يرفعها، وجاءت هذه الآية لتوكيد نعمة تفضيل بني إسرائيل من وجوه:
الأول: ذكرهم في الآية الكريمة.
الثاني: مجئ الآية بصيغة الخطاب لبني إسرائيل.
الثالث: جعل خصوصية وشأن لبني إسرائيل بين الأمم.
الرابع: دعوة بني إسرائيل لذكر نعمة الله، لأن هذا الذكر إصلاح وسبيل هداية ورشاد.
الخامس: التذكير بنعمة الله نوع تفضيل، وإلا فإن الله عز وجل ذو فضل على الناس جميعاً , قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
مفهوم الآية
ما في الآية من اللوم وجه من وجوه اللطف الإلهي للمخاطب وغيره، فهو انحلالي بلحاظ المنطوق والمفهوم، ونعم الله عز وجل ظاهرة على الناس جميعاً، وان ذكر النعم الخاصة لا يقلل من شأن واهمية النعم النوعية العامة على الجنس البشري ومنهم بنو اسرائيل، ومن اسرار الإرادة التكوينية ان تجد نعماً خاصة على كل ملة وكل امة وشعب لذا تجد نعماً عامة، ونعماً ينفرد بها قوم او جماعة او اهل بلد او صناعة دون غيرهم، فذكر بني اسرائيل جاء من باب المثال الأهم والأظهر الذي تتجلى به النعم الخاصة وقابل بعضهم الأنبياء بالتكذيب مع إنفرادهم بالتفضيل على اهل زمانهم .
ومن مفاهيم الآية مدح المسلمين واستحضارهم نعم الله تعالى بالتقيد باداء الفرائض والمسارعة الى الخيرات وحسن الإمتثال لأحكام النبوة.
وتبين الآية ان الذكرى واستحضار النعمة لم يطلبا لذاتهما المجردة بل هما وسيلة ومناسبة للصلاح والإنابة والإيمان بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية مسائل:
الأولى: مجئ لغة الخطاب في الآية خاصة ببني إسرائيل.
الثانية : دعوة الناس جميعاً للإعتبار والإتعاظ.
الثالثة: حث الناس على شكر الله عز وجل على النعم.
الرابعة: لزوم شكر الله عز وجل على النعم.
الخامسة: إستحضار النعم مانع من الحسد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، فبنو إسرائيل هم الأمة التي إمتازت من بين الأمم بأكثر عدد من الأنبياء.
السادسة : بيان فضل الله في تشريف وإكرام بني إسرائيل بتفضيلهم على أهل زمانهم.
إفاضات الآية
من إسرار القرآن أن يأتي أمر متحد في القرآن، ولكنه يتضمن الوعد والوعيد،والبشارة والإنذار،فدعوة بني إسرائيل لذكر نعم الله مناسبة لإقرارهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووعد بإتصال النعم بالإيمان، وإنذار من الكفر بنبوته لأنه من الجحود بالنعم.
ومن نعم الله عليهم مجئ التوراة والإنجيل بالبشارة بنبوته، وهذه البشارة حرز من الإصرار على طلب إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لملتهم، والعمل وفق الأهواء، وهي تخفيف عنهم في إختيار الإسلام، ويتضمن الأمر بذكر نعم الله عز وجل التخويف من الجحود بتلك النعم.
وقد جاءت الآية السابقة بمدح الذين يتلون الكتاب حق تلاوته لأن هذه التلاوة من الوسائل التي تذكر بالنعم والتدبر فيها، لأن الكتاب بذاته نعمة كما أنه يتضمن ذكراً وتذكيراً بالنعم، وكل منهما برزخ دون إستحواذ النفس الشهوية والغضبية، فأراد الله عز وجل لبني إسرائيل الإحتراز من إتباع الهوى، فبعث لهم وللناس جميعاً النبي محمداً ليدعوهم إلى الإسلام الذي يتضمن إستحضار النعم.
الصلة بين أول وآخر الآية
تتصف هذه الآية بأمور:
الأول: أنها خطاب لبني إسرائيل من أولها إلى آخرها.
الثاني: إتحاد موضوع الآية وهو التذكير بنعم الله على بني إسرائيل، فمع أن نعم الله عز وجل تترى على الناس جميعاً، فانه سبحانه خص بني إسرائيل بهذه الآية تشريفاً لهم، وفيها دعوة للتدبر، وزجر عن الجحود بنعمة النبوة.
الثالث: الآية حجة على بني إسرائيل، ودعوة لهم للشكر لله عز وجل بالتصديق بالنبوة.
الرابع: جاءت الآية والإسلام يزداد قوة، ودائرة حكمه تتسع بسرعة بين القبائل والأمصار، والناس يدخلون فيه أفواجاً، والمعجزات تترى على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والكفر يخسر في الجزيرة، ويتضاءل العداء وأسباب المواجهة لجيوش المقاتلين الذين يظهرون أبهى معاني الأخلاق الحسنة والشوق إلى الشهادة حباً لله عز وجل وللقائه برداء الإيمان والتقوى.
فتأتي هذه الآية لتدعو إلى عدم تضييع هذه النعمة، وإلى إجتناب الإصرار على الكفر بالنبوة، وقد دخل جماعات من بني إسرائيل في الإسلام، كما بذلت جهود معهم لدخول الإسلام، وذكرهم بعضهم بالبشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وظهوره على الدين كله.
وكأن هذه الآية الكريمة توثيق سماوي لتلك الوقائع التأريخية، فلما إنصرف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من معركة الخندق بعد أن كفاهم الله شر الأحزاب في السنة الخامسة للهجرة ورجع هو والمسلمون إلى المدينة ووضعوا السلاح نزل جبرئيل ليخبر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأن الملائكة لم يضعوا السلاح بعد وقال: إن الله عز وجل يأمرك يامحمد بالمسير إلى بني قريظة، فاني عامد إليهم فزلزل بهم، فسار لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلون، وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، فقام فيهم كعب بن أسد فقال لهم من بين ما قال: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنْ الْأَمْرِ مَا تَرَوْنَ ، وَإِنّي عَارِضٌ عَلَيْكُمْ خِلَالًا ثَلَاثًا ، فَخُذُوا أَيّهَا شِئْتُمْ قَالُوا : وَمَا هِيَ ؟ قَالَ نُتَابِعُ هَذَا الرّجُلَ وَنُصَدّقُهُ فَوَاَللّهِ لَقَدْ تَبَيّنَ لَكُمْ أَنّهُ لَنَبِيّ مُرْسَلٌ وَأَنّهُ لَلّذِي تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ فَتَأْمَنُونَ عَلَى دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ وَنِسَائِكُمْ . قَالُوا : لَا نُفَارِقُ حُكْمَ التّوْرَاةِ أَبَدًا ، وَلَا نَسْتَبْدِلُ بِهِ غَيْرَهُ) ( ) .
وفيه توكيد بأن التذكير بالنعم مقدمة للهداية والإيمان وأن الله عز وجل أنعم على بني إسرائيل بالكتاب السماوي ليكون مقدمة وعوناً لهم لدخول الإسلام، وإجتناب التردد والإصرار على الكفر والجحود، فمن الآيات في الرواية السابقة أن بني إسرائيل لم ينكروا على كعب قوله، وهو أحد رؤسائهم البارزين، وكانت مدة الحصار لبني قريظة آية من آيات النبوة، ونعمة إضافية على بني إسرائيل، فلم يفاجئهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال ولم يدخل حصونهم عنوة، بل أعطاهم مندوحة وسعة من الوقت للتدبر والتفكر وإستحضار نعم الله عليهم والإنصات إلى لغة العقل والحكمة، وجاء هذا الحصار شاهداً بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم ولن يتبع أهواءهم، ومع كثرة النعم على بني إسرائيل فانهم ملزمون بوجوب عدم محاربة الإسلام، والكيد له ونقض العهود.
وجاءت خاتمة الآية بالإخبار عن تفضيل بني إسرائيل على غيرهم من الأمم وأهل الملل وفيه بلحاظ الصلة بين كلمات الآية وجهان:
الأول: تفضيل بني إسرائيل بالنعمة التي ذكرتها الآية بلحاظ أنها اسم جنس يشمل مارزقهم الله عز وجل على نحو العموم الإستغراقي.
الثاني: ورد التفضيل في الآية الكريمة كنعمة مستقلة.
والصحيح هو الثاني، فهو من عطف الخاص على العام، وفيه بيان لنعمة التفضيل ، ترى لماذا هذا البيان، الجواب من وجوه:
الأول: موضوع الآية هو التذكير بنعم الله عز وجل.
الثاني: جاء ذكر التفضيل من باب الفرد الجلي، والمثال الظاهر.
الثالث: توكيد أهمية نعمة التفضيل، وما له من الموضوعية.
الرابع: إنفراد بني إسرائيل بنعمة التفضيل إلى أن جاء الإسلام.
فانتقل التفضيل ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسلمين من غير أن يغادر بني إسرائيل بل يشملهم والناس جميعاً بدخول الإسلام والإلتحاق بـ[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
لأن التفضيل بعد البعثة النبوية المباركة منحصر بالنطق بالشهادتين وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليبقى تفضيل الذين دخلوا الإسلام من بني إسرائيل من وجوه:
الأول: إنتفاعهم من تفضيل خاص ومؤقت إلى التفضيل العام الدائم.
الثاني:تصديقهم بما ورد في التوراة والإنجيل من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: صيرورتهم أسوة للناس في المبادرة إلى دخول الإسلام.
الرابع: تجلي المصداق العملي لما ورد في الآية السابقة بقوله تعالى [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ]( )، وإستبانة النفع العام من التلاوة بتدبر ما فيها من الإقرار بالبشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: الإقتداء بالمهاجرين والأنصار الذين بادروا إلى دخول الإسلام، وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجهاد وعدم الفرار كما في بيعة الرضوان، وأظهروا أًدق معاني الصبر والتقوى بالدفاع في معركة بدر وأحد والخندق.
التفسير الذاتي
جاءت نفس كلمات هذه الآية في آية سابقة من القرآن( )، ومن كنوز القرآن أن كلاً من الآيتين تتكون من ذات الكلمات من غير زيادة أو نقيصة، أوتقديم أو تأخير في حروفها وكلماتها، ويتجلى المائز الموضوعي بلحاظ نظم الآيات بالإضافة إلى الدلالات العقائدية للتكرار بهذا النحو، وإختصاصه ببني إسرائيل، ومجيئه بآيات القرآن منها:
الأولى: تحذير بني إسرائيل من الإصرار على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: بيان النعم العظيمة التي تفضل الله عز وجل بها على بني إسرائيل من بين المليين خاصة.
الثالثة: ذكر بني إسرائيل على نحو التعيين وبلغة الخطاب.
الرابعة: الإشارة إلى قرب الفتح الإسلامي، وظهور دولة الإسلام، وغلبة المسلمين على غيرهم.
وجاءت آية أخرى بذات الخطاب وحث بني إسرائيل على ذكر نعمة الله عز وجل، ولكنها لم تذكر التفضيل( )، بلحاظ أن تفضيل بني إسرائيل من جنس النعم العظيمة التي أنعم الله تعالى بها عليهم، وقد جاء لفظ (أذكروا) تسعاً وعشرين مرة في القرآن منها ما هو عام وخاص، ومن الأول قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] ( ).
بينما جاءت آيات كثيرة خطاباً للمسلمين بذكر الله كما في قوله تعالى [فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ]( )، وفي بيان الأحكام الشرعية ومناسك الحج وفضل الله عليهم في إصلاح قلوبهم وإستدامة الأخوة الإيمانية ورد قوله تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ]( ).
إن الحث على ذكر النعمة خطاب عام، وجاء في القرآن موجهاً للمسلمين، كما جاء على لسان الأنبياء، وورد على لسان موسى عليه السلام في خطاب لبني إسرائيل[ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا]( ).
وفيه بيان لمصاديق تفضيل بني إسرائيل، فالى جانب كثرة الأنبياء، وصيرورتهم ملوكاً بعد هلاك فرعون، ودحر الجبابرة، صار عند بني إسرائيل الأموال والخدم وشيدوا البيوت، وأصبحوا لايحتاجون تكلف الأعمال، وبذل الجهد لتوفير لقمة العيش، لذا(قيل الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار، وقيل من له بيت وخدم)( )، وهذا لا يتعارض مع المعنى الاعم للآية وإرادة الملك بمعنى الإستيلاء العام لأنه ثابت لملوكهم بعد موسى عليه السلام لتكون كالبشارة لهم، ودعوة لأجيالهم بإستقبال الملك بالشكر لله عز وجل وتعاهد الوظائف الشرعية، والتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي قوله تعالى في ذات الآية أعلاه [وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ]بيان لتفضيلهم على أهل زمانهم ومجئ الآيات لهم ومنها:
الأول : فلق البحر وعبورهم من اليابسة بين جبلين طارئين متزلزلين من الماء.
الثاني : إغراق فرعون هو وجنوده.
الثالث: النيل من آل فرعون وقتلهم الأبناء من بني إسرائيل كما ورد في التنزيل حكاية عن موسى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ]( ).
الرابع: تضليل بني إسرائيل بالغمام.
الخامس: إنزال المن والسلوى.
السادس:نزول التوراة على موسى عليه السلام.
السابع: نعمة البنوة للأنبياء بالإنتساب وتباهي بني إسرائيل بين الأمم وأهل الملل والنحل بهذه النسبة ، ومن النعم الإلهية عليهم قيام المشركين من العرب بإستشارتهم وسؤالهم عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدقها، بإعتبارهم أهل كتاب، فجاءت الآية بلزوم الخشية من يوم القيامة، بالإخبار عن البشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل، وعن بعثته ووجوب إتباعه ونصرته.
ومن الآيات أن الله عز وجل يرزق النعمة ثم يدعو للشكر عليها وعدم الغرور والغفلة عن الوظائف العبادية، فيجب أن لا يجعل الإنسان ما يأتيه من النعم معارضاً لما خلق من أجله، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، فيجب أن تكون النعم الإلهية طريقاً وعوناً على العبادة، والمبادرة إلى الإيمان.
الثامن: تحذير الآية لبني إسرائيل من أهوال يوم القيامة، وما فيه من الحساب والفزع الشديد، وإكتفاء الآية بذكره بالصفات والوقائع دليل على معرفتهم له ولما ينتظر الناس فيه من الأهوال، ومنها أنه لا إجزاء غيري فيه، فكل إنسان يومئذ مشغول بنفسه، ويرجو نجاته ولأن الإجزاء يحصل بالعمل الصالح وليس بالنفوس والفداء، وهذه المعرفة من نعم الله التي ذكرتها الآية السابقة [اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ] ( )،ولعل الآية تشير إلى أمر مذكور في التوراة والإنجيل وهو عدم إجزاء عمل شخص عن آخر، كما ورد عن التوراة قوله تعالى[وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ]( ).
وبعد الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإخبار عن حال أهل الكتاب، جاءت هذه الآية بالخطاب لبني إسرائيل على نحو التعيين والمقرون بالتذكير بالنعم، وهو من المنّ الإلهي على الناس عامة، وعليهم خاصة، إذ أن تفضيلهم رحمة بهم وبأهل زمانهم وهو مناسبة وسبب لتثبيت دعائم الدين في الأرض، إلى أن جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكان التفضيل للمسلمين، قال تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ومن وجوه خروج المسلمين للناس تلاوتهم هذه الآية وما فيها من تذكير بني إسرائيل بالنعم، وكأن الذي يذكّر بالنعمة أولى بالتفضيل من المذكَر بها، خصوصاً وأن هذا التذكير جاء على نحو الإستدامة تلاوة وموضوعاً وحكماً، وفيه دعوة للمسلمين لإستحضار نعم الله عز وجل عليهم، وهذا التذكير من الأمر بالمعروف ويقتضي الأصل والحكم أن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يتقيد به، وفي هذا التذكير مسائل:
الأولى: إقرار المسلمين بالنعم الإلهية.
الثانية: إنه شاهد على أنهم لا يحسدون الناس على ما آتاهم الله.
الثالثة: تفقه المسلمين وإرتقاؤهم في المعارف الإلهية، وإدراكهم تفضيل بعض المسلمين على أهل زمانهم.
الرابعة: معرفة موضوعية وعلة كثرة الأنبياء عند بني إسرائيل فهو سبب للتفضيل، ولتعاهد هذا التفضيل والمحافظة عليه.
وقد تحملوا الأذى في سبيل الله،وإجتهدوا في جعل بني إسرائيل يشكرون الله على نعمة التفضيل وقاموا بالبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن بعثه الله عز وجل، فقام المسلمون بنصرته ووراثة الأنبياء بتذكير بني إسرائيل بذكر نعمة الله عز وجل عليهم.
التفسير
قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ]
والخطاب في الآية من خطابات النوع، وهو أخص من خطابات الجنس التي ترد بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] ويرد في القرآن خطاب المدح بـ[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] مما يدل على التفضيل بلحاظ الإيمان وصدق العبودية.
بعد أن أختتمت الآية السابقة بالوعيد والإخبار عن خسارة الذين يجحدون بنزول الآيات والبراهين والدلالات من الله عز وجل بقوله تعالى[أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ]( )، إبتدأت هذه الآية بالخطاب بصيغة النداء إلى أمة من الموحدين وأبناء الأنبياء وهم بنو إسرائيل , وفيه غاية الإكرام والتشريف لهم، ويدل بالدلالة التضمنية على دعوتهم على نحو الخصوص إلى الإسلام، مع تغشي الدعوات العامة للناس لهم، ليكون في توجه المتعدد من الدعوة لهم مسائل:
الأولى : الإكرام الإضافي لبني إسرائيل.
الثانية : بيان منزلة بني إسرائيل بين أهل الأرض وهو من عمومات قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
الثالثة : التنبيه والإنذار من التخلف عن التصديق بنزول القرآن من عند الله.
الرابعة : تأكيد ورود نعم خاصة على بني إسرائيل فجاء النداء للتعيين والبيان.
الخامسة : تأكيد أثر إسلام بني إسرائيل ولحوق شطر من الناس بهم بدخول الإسلام، ولو تخلفوا عن الإسلام فهل يتخلف ذات الشطر أيضاً الجواب لا، من وجوه:
الأول : نعمة الله على الناس بالعقل والتمييز بين الحق والباطل.
الثاني : التنزيل حق في ذاته وموضوعه وهو نازل من الحق، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ]( ).
الثالث : مصاحبة المعجزات لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتعظ الناس ويستغنوا عن الواسطة للتصديق برسالته.
الرابع : تجدد إعجاز آيات القرآن زماناً ومكاناً وموضوعاً.
الخامس : تجلى الإعجاز في شريعة الني محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتكاملها وإحاطتها بالوقائع والأحداث، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( ).
بحث تأريـخي
الآية خطاب انحلالي الى ذرية يعقوب ويشمـل بلحاظ العقيدة من تبعهم والتحق بالديانة اليهودية، وفيه اعجاز ان آيات التفضيـل كانـت خاصة بذرية يعقوب وهو اسرائيل اذ لم يكن مع موسـى أتباع غيرهم من الناس، والظاهر أن التفضيل كـان منحصـراً بهم ولا يشمل الذين التحقوا باليهودية ممن كانت أمه يهودية ودان باليهودية، فمالك بن الأشرف من كبرائهم ولكنه عربي من قبيلة طي ولكن أمه يهودية.
فالتعيين في الخطـاب ببني اسـرائيل يخـرج بالتخصيص اليهود من غيرهـم ويحصـر التفضيـل بهـم، وفيـه دلالـة علـى ان التفضيل لم يكـن مستمـراً وينصــرف إلى أيـام بعثـة موســى يـوم لم يكـن معهم غيرهم، ولكن هذا لا يمنـع من توجه الخطاب لغيرهم مـع قلتهـم لأنهـم جميعـاً يتباهـون ويفتخرون بفضل اللـه تعـالى ونعمـه الـتي انعـم بهـا عليهـم ويعتبرون انها جاءت بلحاظ ملتهم لاتمام الحجة عليهـم وان جـاءت بلحاظ النسب والفضل على الأنبياء وذراري الأنبياء.
قوله تعالى [اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ]
يأتي الذكـر بمعنى استحضار الشـيء وحفظه وجريه على اللسان وهو نقيض النسيان، مما يعني ان الآيـة في ظاهرها تتعلق بأمور كانت في الماضي فالتفضيل ليس في زمـان نزول القرآن بل فيما سبق من الأيام، ومن وجوه التفضيل الآيـات التي خصـوا بها تعاقب الأنبياء عليهم ومن بين ظهرانيهم.
ان نسبة جماعة كثيرة من الأنبياء والرسل الى بني اسرائيل ذو دلالات عظيمة في منازل التشريف والإكرام والحجية وما يحتاج معه الى الشكر والثناء ووجوه الصلاح، والآية في دلالتها التضمنية دعوة الى الإيمان والهداية وتخويف وانذار لبني اسرائيل فالتذكير جاء مع عرض مساوئهم وقبائحهم.
وذكر النعمة يكون من حيث الغاية والمقصد على وجوه:
الأول : أنه مطلوب بذاته.
الثاني : إنه مقدمة ومدخل لغيره.
الثالث : إرادة الجامع للأمرين أعلاه.
والآية جاءت بالجامع لهما، وما يترشح عن الذكرى واستحضار النعم، ومن اسمائه تعالى (المنان) وهو الذي ينعم على الناس من غير فخر والمعطي ابتداءً، فتذكير بني اسرائيل بالنعم دعوة لهم للإيمان والهداية، بلحاظ انه حجة وموضوع يتجلى الشكر عليه باتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ويحتمل تذكر النعمة في المقام وجوهاً:
الأول: إستحضار النعمة في الوجود الذهني، وجعلها حاضرة في البال.
الثاني: ذكر بني إسرائيل لنعم الله عليهم في مجسالهم ومنتدياتهم.
الثالث: ذكر نعم الله عند تلقي الدعوة للإسلام بلحاظ أنها نعمة وأن الإستجابة لها شكر للنعم الإلهية.
الرابع: إتخاذ مضامين هذه الآية أمراً بالتذكر، وإستحضار النعم عند سماع تلاوتها.
الخامس: الإحتراز والإستعداد ليوم القيامة كما جاءت الآية التالية بصيغة العطف[وَاتَّقُوا يَوْمًا]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق ودلالات ومنافع الآية الكريمة، بالإضافة إلى منافع كبيرة تترشح عن تذكر النعم منها:
الأول: توثيق النعم، وعدم نسيانها.
الثاني: منع التحريف الذي يطرأ على الكتب السماية لأنها نعمة بالذات، وتتضمن شطراً من النعم الإلهية.
الثالث: الإنصات إلى الآيات القرآنية.
الرابع: إدراك مصاديق من إعجاز القرآن، وصدق نزوله من عند الله.
إن القرآن يتحدى بني إسرائيل بذكرهم وما خصهم الله من النعم على نحو التعيين ومن وجوه التحدي مجئ الآية بصيغة الجمع والخطاب لعموم بني إسرائيل، وان تلك النعم شملتهم جميعاً، وجاءت للآباء وترشحت على الأبناء ليكون الشكر عليها التسليم بالتنزيل.
قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]
تدل الآية على صدق نزول القرآن من عند الله تعالى، فالناس جميعاً مدعون إلى الإسلام، والقرآن يبين التفضيل لقوم اصروا على الجحود والإعراض عنه، لم ينظر إلى إتباع بعض الناس لهم، أي يقول غيرهم ما دام اولئك الذي يشهد القرآن بتفضيلهم وان نعمـه عز وجل توالـت عليهم لا يدخلون الإسـلام فمن باب اولى ان لا ندخله، وان صدر مثل هذا من بعض مشركي قريش ولكنه حجة على اهله وكان عقابه سريعاً بالنصر عليهم ودحرهم وخزيهم لحجة البرهان والمعجزات التي جرت على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالآية شاهد ووثيقة وحجة وإنذار، كما ان نعمه تعالى منبسطة على الناس جميعاً ولكن بني اسرائيل اتتهم نعم عامة وخاصة بالإضافة الى تفضيلهم على اهل زمانهم وليس مطلقاً.
والواو في[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ] تفيد التغاير ليكون التذكير بالتفضيل نوع نعمة مستقلة وتترشح منه نعم عديدة وهو من عطف الخاص على العام ايضاً، ولكن التفضيل له دلالات اعتبارية على مدى الوجود الإنساني في الأرض، كما ان فيه اشارة الى تفضيل المسلمين بالقرآن ولا تعارض بينهما انما هو بلحاظ الزمان.
والآية مدرسة للمسلمين في الحفاظ على عقيدتهم وعلى النعم التي عندهم واستذكار تلك النعم ليكون هذا الإستذكار طريقاً للإمتثال الحسن للأوامر الإلهية، وهل اصبحت تلك النعم والتفضيل من توابع الغابرين وانها غادرت بني اسرائيل كلاً او بعضاً ليختص المسلمون بالنعم، الجواب ان الله عز وجل اذا انعم نعمة فانه اكرم من ان يرفعها، وقد لا يكون الناس اهلاً للحفاظ عليها فتبقى قريبة منهـم لينالها من يستحقها ويتعاهدها بالشكر.
وجاء التفضيل والإكرام للمسلمين بعنوان النطق بالشهادتين والإيمان بالجوارح والأركان وهو باب مفتوح يتسع لكل انسان بغض النظر عن قوميته وانتمائه وملته السابقة فليس بين بني اسرائيل وبين دوام التفضيل وديمومته لهم في دنياهم وآخرتهم إلا دخـول الإسلام، نعم هذا التفضيل اصبح اعم وشمل غيرهم معهم بحكمة منه تعالى في الخلق، ولأسباب حفظ التوحيد بعد الخلل والتقصير منهم، وذلك الشمول والتعدد لا ينقص من ثوابهـم او منازل تفضيلهم وفعلاً فقد أسلم جماعة من أهل الكتاب وحسن اسلامهم وكانوا من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولابد ان اعقابهم بين المسلمين موجودة من غير تمييز، والتفضيل يكون في اشياء مخصوصة، لقد جعل الله القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) فيمكن استقراء تلك النعم من القرآن.
بالإضافة الى حقيقة وهي ان تلك النعم وذلك التفضيل لم يكن بمرتبة واحدة عند بني اسرائيل وعند المسلمين لأنها من الأمور المشككة ذات المراتب المتعددة، والنعم عند المسلمين وتفضيلهم أكبر واكثر بكثير فقد شرفهم الله بالإسلام وبالقرآن ووقايته من التحريف وبدوام شريعتهم حتى يوم القيامة، لذا ورد قوله تعالى خطابا لهم[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وهل في الآية دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتفضيل بني إسرائيل أم أنهم كباقي الأمم والنحل في دخولهم الإسلام، الجواب أنه لا تعارض بين الأمرين، مع تساوي المسلمين في الحقوق والواجبات .
وفي قوله[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ]( )، قال مقاتل : لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلالا حتى علا ظهر الكعبة و أذن فقال عتاب بن أسيد الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم و قال الحرث بن هشام أ ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا و قال سهيل بن عمرو أن يرد الله شيئا يغيره لغيره و قال أبو سفيان إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبره به رب السماوات فأتى جبرائيل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بما قالوا فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسألهم عما قالوا فأقروا به و نزلت الآية و زجرهم عن التفاخر بالأنساب و الإزدراء بالفقر و التكاثر بالأموال)( ).
وتضمنت الآيات القرآنية تفضيل بني إسرائيل بدخول الإسلام، وحثهم على الإنتفاع من النعم كطريق وشاهد حاضر على وجوب إتباعهم وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن النعم البشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل بنبوته،ولزوم نصرته عند بعثته ومن وجوه التفضيل لبني إسرائيل قبول الجزية منهم وجواز بقائهم على ملتهم من بين الناس إلى جانب العهود والعقود التي عقدها معهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولغة الإحتجاج والبرهان معهم.
قوله تعالى[وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ] الآية 123.
القراءة
قرأ قتادة: (ولا يَقبل منها شفاعة) أي لا يقبل الله عز وجل منها، وقراءة ابن كثير وأهل البصرة بالياء والبناء للمجهول، كما مرسوم في المصاحف(والباقون بالتاء)( )، وقد تقدم معنى القـبول والشفاعة.
واتقوا يوماً: واتقوا: الواو: حرف عطف، اتقوا: فعل أمر مبني على حذف النون، الواو: فاعل.
يوماً: مفعول به، بتقديرحذف مضاف، أي إرادة ما فيه من الحساب والعذاب.
لا تجزي: لا: نافية، تجزي: فعل مضارع مرفوع.
نفس: فاعل مرفوع، عن نفس: جار ومجرور متعلقان بتجزي
شيئاً : مفعول به.
ولا يقبل منها: عطف على ما تقدم.
عدل: نائب فاعل.
ولا تنفعها شفاعة: عطف على ما تقدم.
ولا هم ينصرون: عطف على ما تقدم، هم: مبتدأ.
ينصرون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون ونائب فاعل ، وجملة ينصرون خبر.
والعدل: النصـرة والمعونـة والفديـة والبدل، كما في قوله تعالى [ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ]( )، والمراد باليوم يوم القيامة.
والنفس لها عدة معان:
الأول : الهواء.
الثاني : الماء.
الثالث : الروح.
الرابع : ذات الشيء.
الخامس : الدم السائل.
السادس : النفس الذي في الهواء.
السابع : الهوى وميل الطبع.
الثامن : مجموع الأخلاط الأربعة.
التاسع : النفس الناطقة أي صورة الإنسان.
العاشر : الجوهر المتعلق بالأجسام تعلق التدبير والتصرف.
تأتي التقوى بمعنى الخشية والهيبة والتنزه عن المعاصي، واصل الشفاعة في اللغة مأخوذ من الشفع الذي هو نقيض الوتر، فكأن صاحب الحاجة صار بالشفيع شفعاً سأل الغير ان ينفعه او ان يدفع عنه مضرة فلابد ان يكون الشفيع اعلى رتبة منه واقرب منزلة لأجل طلبه.
أن طلب اسقاط العقاب عن مستحقه يدل على أنهم أقـروا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما رأوا الآيات واستيقنتها انفسهم، ولكنهم جحدوا بها على امل الشفاعة، شفاعة آبائهم وهم اولاد الأنبياء، فجاءت هذه الآية بقطع الطريق على كل من لا يدخل الإسلام باخبارها ان القريب الى الله تعالى لن يشفع لكم إلا بقيد الإيمان، قال تعالى[وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى]( ).
وتظهر في الآية لغة التحذير لما في يوم القيامة من اهوال ولضرورة اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
سياق الآيات
إبتدأت الآية بحرف العطف (الواو) مما يدل على إتصال موضوعها بما قبلها، وجاءت واو الجماعة في (واتقوا) لبيان إتحاد لغة الخطاب فيها مع صيغة النداء في الآية السابقة [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ] والتي تدعوهم لإستحضار نعم الله عز وجل عليهم، وهل من ملازمة بين إستحضار النعم وبين الخشية من يوم القيامة، الجواب نعم لوجوه:
الأول: هذا الإستحضار طريق للإيمان بنزول القرآن من الله عز وجل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: إنه واقية من الجحود والضلالة.
الثالث: إنه مانع من الإنقطاع للدنيا وزينتها.
الرابع: التدبر بالنعم والإقرار بها نوع طريق للإستعداد لليوم الآخر.
قد يظن الإنسان أن ما عنده من المال والشأن كسبه بيده وجهده، وأنه باق له، فجاءت هذه الآية والآية السابقة لتؤكدا بأن النعم التي عند الفرد والجماعة والأمة هي من الله عز وجل، إبتداء وإستدامة، ويفيد قيد الإستدامة هنا الإشارة إلى بقائها، وزيادتها بالشكر لله، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
وجاءت خاتمة الآية السابقة ببيان حقيقة تفضيل الله عز وجل لبني إسرائيل على أهل زمانهم، لتأتي هذه الآية لمنع الغرور والزهو، والزجر عن الإنشغال بالدنيا ومباهجها عن ذكر الله واليوم الأخر.
لقد إنتقلت آيات القرآن من موضوع النعم والتفضيل إلى لزوم الخشية من الله عز وجل بيان عدم التفكيك بينها، بإعتبار ان النعم طريق للإقرار بالربوبية وأن الله عز وجل بيده مقاليد الأمور، وهو وحده الذي ينعم على الناس جميعاً، وعلى أمة منهم على نحو الخصوص، كما في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وجاءت الآية قبل السابقة فيمدح الذين يتلون الكتاب حق تلاوته مع ذم الذين يكفرون بالكتاب والتنزيل، ويفيد الجمع بين الآيتين الحاجة للتذكير بيوم القيامة ولزوم الإستعداد له بالتلاوة الحقة، كما أن التدبر بآيات التنزيل طريق لأخذ الحائطة ليوم القيامة، بالإضافة إلى تضمن الكتب السماوية كلها، ومنها التوراة والإنجيل أحكام الحشر والحساب وأنه لا تجزي فيه نفس عن غيرها.
وجاءت الآية التالية في بلوغ إبراهيم عليه السلام مرتبة الإمامة بعد الإمتحان والإبتلاء لتخبر عن عدم الملازمة بين البنوة وبين المنزلة الرفيعة، ونيل الشفاعة إذ سأل إبراهيم الإمامة لبعض ولده، فجاء الجواب ليدل بالدلالة التضمنية على إستجابة الله عز وجل لإبراهيم في دعوته، وبعث أنبياء من ذريته، ولزوم إتباع ذريته للأنبياء والتصديق بالتنزيل، وكذا عموم الناس كما في قوله تعالى في خطاب له[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
وفيه إنذار للظالمين منهم الذين يجحدون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لا تنالهم شفاعة وأن كانت تلك الإمامة مناسبة كريمة للشفاعة فانها تتعلق بالذين يؤمنون بها، ويصدقون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا ورد عنه أنه قال (إدخرت شفاعتي لأهل الكبائر من ذريتي)( ).
إعجاز الآية
ان الأخبار عن تفضيل وبداية حقيقة جديدة قائمة على العمل هو نوع اعجاز، فلو لم يكن القرآن من عند الله عز وجل لما اخبر عن ذلك وبما يؤيده من الشواهد والأدلة الحسية، ولا ينحصر الخطاب في الآية الكريمة ببني إسرائيل بل يشمل غيرهم، وإذا ورد التحذير لبني إسـرائيل فهو من بـاب المثال الأهم لأنهم إعتمدوا على الشفاعـة فامتنعوا عن الإستجابـة للحق، لذا يلحـق بهم من لم يقل بالشفاعة او ليس عنده من آبائه من يشفع له.
ومن الإعجاز الإخبار عن أحكام يوم القيامة، وموضوعية وإعتبار الفعل الشخصي في الحساب.
والآية الكريمة من الشواهد على الرحمة الإلهية النازلة في القرآن للناس جميعاً ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى : تفضيل أمة من الأمم على غيرهم ليس برزخاً دون الإنذار وتوجه الوعيد إليهم.
الثانية : تقوى الله قانون ثابت يتغشى الناس جميعاً.
الثالثة : بيان أهوال يوم القيامة بتعدد المواطن التي لا يصاحب فيها الإنسان إلا عمله، ويفتقر معها إلى العون والمدد والنصرة.
الرابعة : الآية طرد للغفلة ومنع من الجهالة ببيان تفاصيل وأحكام يوم القيامة.
ولم تقل الآية لم تجزي أنفسكم بل جاءت بصيغة التنكير لإرادة العموم وأن عدم الإجزاء بفعل الغير حكم عام، قال تعالى[كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ]( ).
ويمكن تسمية الآية بآية (ولايقبل منها عدل) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
في الآية اخبار عن يوم القيامة وأهواله وهو أيضاً فضل على بني إسرائيل كي لا يفاجئوا ويعتذروا بالجهالة وعدم العلم، فالقرآن يعينهم بفضح زيف ما يظنون وخطأ أوهامهم وفيها بالدلالة التضمنية تأديب للمسلمين فلا يكفـي مجرد التلفظ بالشهادتين بل لابد من العمل بالجوارح معه والإخلاص في العبادة.
إن مخاطبة بني إسرائيل بالتحذير نوع عناية خاصة وهو دلالة على أن الله عز وجل قد أنهى ما لهم من التفضيل بالحجة والبينة وبما كسبت أيديهم وهذا لا يمنع من عموم التحذير.
ولا تمنع لغة الخطاب الخاصة من إرادة العموم وتحذير الناس جميعاً، لأن القرآن نزل بلغة إيام أعني وأسمعي ياجارة، لتزول الحواجز وينعدم البرزخ بين دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنجاة يوم القيامة وبين الناس جميعاً سواء كانوا من أهل كتاب أوغيرهم، فتشملهم لغة التحذير الواردة في هذه الآية .
وفي خطاب موجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد في التنزيل[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( )، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَة وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً)( ).
تتضمن الآية ترغيب الإنسان باختيار الإسلام رجاء الفوز بفضل الله واللحاق بابراهيم في منزلته الرفيعة التي شرّفه الله عز وجل بها.
لقد أكدّت الآية بأن إبراهيم فاز بالإصطفاء والمرتبة العالية في الدنيا والآخرة، ويحتمل الذي يتبعه وجوهاً :
الأول : الفوز بذات المرتبة من الإصطفاء والإجتباء.
الثاني : نيل مرتبة أدنى من مراتب الإصطفاء والإختيار.
الثالث : القدر المتيقن من الآية هو أن الإصطفاء خاص بابراهيم، ولا يتعدي إلى الذين يتبعونه إلا بالدليل.
الجواب موضوع الإصطفاء هو النبوة، قال تعالى[اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ]( )، ولقد تفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببعثه بالسماحة مع ذات الحنيفية لقوله:بعثت بالحنيفية السمحة( ).
والآية سلاح وموضوع للإحتجاج والدعوة إلى التوحيد، وفي التنزيل[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا]( ).
وتدل الآية في مفهومها على لزوم إنتهاج التوحيد من جهات :
الأولى : الذم والتوبيخ لمن يخطأ ويضل عن صراط الهدى، ويعرض عن ملة إبراهيم ودعوته إلى الله ومحاربة الشرك والضلالة.
الثانية : الشهادة لإبراهيم بأنه على النهج القويم بالإنذار والتبكيت لمن يترك ملته.
الثالثة : الدفاع عن إبراهيم والإخبار بأن الله ناصره وبيان قبح العزوف والإعراض عن سنته ونهجه، ووصف الذي يمتنع عن إتباعه بالسفاهة وخفة العقل.
الرابعة : بيان عظيم منزلة إبراهيم في الدنيا والآخرة، والذي يدل في مفهومه على ترغيب الناس بدخول الإسلام الذي يتضمن خصال ملة إبراهيم الحنيفية لقوله تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا]( ).
الآية لطف
من وجوه تفضيل بني إسرائيل على العالمين والذي جاء في خاتمة الآية السابقة[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، وجوه:
الأول: تحذير بني إسرائيل من يوم القيامة.
الثاني: مجئ هذا التحذير بالكتاب الباقي إلى يوم القيامة والذي لا تصل إليه يد التحريف وهو القرآن.
الثالث: توالي بعثة الأنبياء من بينهم.
الرابع: كثرة آيات القرآن التي جاءت خطاباً لهم.
وهل يحق لبني إسرائيل الكلام عن تفضيل الله لهم، الجواب نعم، لعمومات قوله تعالى[أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]( )، والقرآن نفسه أخبر عن هذا التفضيل، وهو حجة في لزوم تعاهده ومقابلته بالشكر لله عز وجل بدخول الإسلام، وإتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن الله عز وجل هو المنان الذي يّمن على عباده بالنعم.
ومنه مجئ الإنذار فان من اللطف الإلهي بالناس، وباب لذا جاءت الآية بصيغة التذكير [لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ] لتكون دلالاتها ونفعها للناس كافة.
مفهوم الآية
الإنذار والتخويف من يوم القيامة وأهواله مدرسة قرآنية تتضمن التأديب والتحذير والتنبيه من غير أن ينحصر موضوعها بطائفة معينة فالناس جميعهم مخاطبون بهذه الآية بما في ذلك اهل الإيمان مع التباين في نوع الخطاب منطوقاً ومفهوماً، فالتوبيخ لفرقة من الناس درس للمسلمين بلزوم إستحضار الآخرة وعدم التفريط في الواجبات والفرائض وعدم الإتكال على النسب والحسب، ونحوهما لأن الآية تؤكد قاعدة كلية من نواميس الآخرة وهي عدم إنتفاع الإنسان إلا من عمله، قال تعالى[وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى]( )، والتذكير والإشارة إلى هذه الحقيقة من أهم الحجج على الناس مطلقاً وهي مناسبة لتنمية ملكة التقوى والخوف من الله تعالى , واستحضار عالم الآخرة.
وتبين الآية الخيبة والخسران لأولئك الذين يجحدون بآيات الله عز وجل، فلا واقية او حصانة يومئذ الا بالعمل الصالح في الدنيا لأنها مزرعة الآخرة.
وفي الآية مسائل:
الأولى: توجه الخطاب إلى بني إسرائيل على نحوالعموم الإستغراقي الشامل لكل فرد منهم، وهل يشمل الذي أصبحوا مسلمين منهم الجواب لا، لتغير الموضوع، ولأن المسلم يخشى اليوم الآخر فبادر إلى الإسلام وأداء الوظائف العبادية، وفعل الصالحات، قال تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
الثانية: توكيد أصل المعاد، ولزوم التسليم به، وأنه حق.
الثالثة: الإستعداد ليوم القيامة.
الرابعة: إقامة الحجة على الناس، في بيان أهوال اليوم الآخر وسبل النجاة فيه والتي تنحصر بالإيمان وعمل الصالحات..
الخامسة: توجه الإنذار والتحذير من يوم القيامة إلى بني إسرائيل وإرادة الناس جميعاً بلحاظ مجئ الآية بصيغة التنكير [لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ]والتي تدل على العموم، بالإضافة إلى آيات أخرى تتضمن الإطلاق في لغة الخطاب وإرادة الناس جميعاً في التحذير من عالم الحساب والجزاء، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ] ( ).
السادسة: النفي التام لمجئ الإجزاء من الغير للظالمين فلا يحتسب يوم القيامة عمل إنسان لغيره، ولا يضاف لحسناته من حسنات غيره، كرماً وجوداً من الآخرين، فكل عبد محتاج إلى حسناته، وإن أراد أن يعطي منها فانه لايؤذن له لأن الآخرة دار حساب وجزاء من غير أن يتعارض الأمر مع الشفاعة حيث يأذن الله عز وجل.
السابعة : إنعدام العوض والبدل يوم القيامة، ومن وجوه التخفيف في الشريعة الإسلامية أحكام الكفارات وهو باب واسع للتدارك والإنابة وفق قواعد خالية من الترديد.
الثامنة : عدم نفع الشفاعة للذين يموتون على الكفر والجحود، وفي وقت نفت الآية إجزاء الغير جاءت بالحصر في موضوع نفي الشفاعة، وانه خاص بعدم الإنتفاع منها، فلم تقل الآية(ولا تقبل شفاعة) فحتى لو كانت هناك شفاعة فانها لا تنفع الكفار، وقد ورد إستثناء بقبول الشفاعة، ولكن مقيدة بالإذن الإلهي , وهذا الإذن على وجهين:
الأول : لزوم الإذن لمن يشفع لغيره، فليس لعبد يوم القيامة الشفاعة للغير إلا بعد أن يأذن له الله عز وجل، قال تعالى[مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ]( ).
الثاني : الإنتفاع من شفاعة الغير، قال تعالى [فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ]( )، وهذا الإطلاق في موارد الإذن الإلهي في موضوع الشفاعة من عمومات عائدية الملك والتصرف يوم القيامة لله عز وجل قال تعالى سبحانه [الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ]( ).
لذا فمن وجوه تفضيل بني إسرائيل مجئ الخطاب والإنذار في الآية لهم بالاسم والتعيين مع إرادة الناس جميعاً فيه، وفي الجمع بين بني إسرائيل والناس في المقام مصداق من مصاديق تفضيلهم أي أن النعمة تأتي لهم على نحو الخصوص لينتفع منها الناس جميعاً، وحتى النعم التي جاءت لهم خاصة كإنفلاق البحر، والمن والسلوى وجريان الماء من الحجر بضرب موسى عليه السلام له فان الناس جميعاً منه ينتفعون من وجوه:
الأول: تعاهد كلمة التوحيد في الأرض.
الثاني: جذب الناس للإيمان، ودخول الإسلام للنيل من النعم الإلهية.
الثالث: إقامة الحجة على بني إسرائيل.
التاسعة: حجب النصر عن الذين يجحدون بالآيات، فان قلت جاءت خاتمة الآية مطلقة من غير أن يدل سياق الآية على تعيين الذين لا ينصرون وأنهم الكفار خاصة.
والجواب إن عدم النصرة ورد بخصوص الكفار وفي آيات عديدة قال تعالى[وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ]( )، وجاء القرآن بالبشارة والوعد الكريم بنصر الله للمؤمنين في الدنيا والآخرة قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
إفاضات الآية
لقد جعل الله عز وجل القرآن وسيلة سماوية لجذب الناس للهداية والإيمان، وسبيلاً مباركاً للإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن خصائص نبوته التذكير بالآخرة وتوكيد أنها حق وأمر حتم.
ومن الآيات في خلق الناس حضور الموت معهم إذ يخطف بعضهم في اليوم والليلة، ولا يستطيعون صده أو منعه أو تأجيل زيارته، وكأنه مقدمة ومثال في الدنيا، ويفيد ما جاء في هذه الآية من التذكير بعدم وجود بدل وفداء في الآخرة (ولا يقبل منها عدل)، بأن من يأتي أجله لا يستبدل بغيره من أولاده أوعبيده أو أعدائه.
لقد أراد الله لبني إسرائيل أن لا ينشغلوا بالنعم عن ذكر الله والتدبر في آيات الله، فحثتهم الآية السابقة على ذكر النعمة، وجاءت هذه الآية لتأمرهم بالخشية من أهوال يوم القيامة لتكون الآيتان معاً سبباً لطرد الغفلة عنهم، ومقدمة للإسلام وكشفاً للتحريف وبرزخاً دون تأثيره وموضوعيته.
والآية سياحة في عالم الآخرة، وأهوال الحساب تدعو إلى الإعتبار وبعث الفزع في نفوسهم بما يؤدي إلى الإحتراز منها بالإيمان والعمل الصالح، وإن تخلف المخاطبون في الآية عن مضامينها وما فيها من لغة التحذير والوعيد فان المسلمين هم الذين ينتفعون منها أفضل وأبهى إنتفاع، من وجوه:
الأول : الخشية من يوم القيامة.
الثاني : الإنبعاث نحو الصالحات، والحرص على أداء الواجبات العبادية.
الثالث : إمتلاء نفوس المسلمين بالغبطة والسعادة لإدراكهم أنهم يمتثلون لمضامين هذه الآية وهو من عمومات قوله تعالى [فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وفيه نكتة كلامية وهي أن الله عز وجل هو الذي يمد المسلمين بأسباب اللطف والعون ليصبحوا في حال من الأمن وعدم الخوف والفزع، إذ تأتي الآيات بتحذير ووعيد أهل الكتاب وغيرهم فيتعظ المسلمون منها، ويظهرون التقيد بآداب وسنن هذا التحذير، ويحرصون على الإحتراز من أهوال يوم القيامة.
لقد أراد الله عز وجل أن تكون الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، وجنة تتباهى بالعبادات وتتلألأ منها أنوار الصالحات، وما تبعثه من أضواء المحبة والود بين الناس في الله ولله ومن الله.
فجاءت هذه الآية للتخويف من أهوال يوم القيامة والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على التحذير من الصدود عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربته، لأنه لم يأت إلا لبعث الحياة في الدنيا بفعل الصالحات.
الصلة بين أول وآخر الآية
بدأت الآية بصيغة الجمع ولغة الأمر لبني إسرائيل كافة، وموضوع هذا الأمر هو الخشية والإحتراز (وأتقوا) إلا أنه يفيد الأمر بالصالحات والنهي عن المحرمات، فلا تأتي تقوى يوم القيامة إلا بالعمل الدؤوب في دار الدنيا التي جعلها الله عز وجل دار عمل، أما الآخرة فهي دار حساب.
فجاءت هذه الآية لتجعل الدنيا دار إنذار وتخويف وإخبار عن أحوال عالم الآخرة والإستعداد لها بإعتبارها دار الخلود , قال تعالى [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( ).
ووصفت الآية يوم القيامة بأنه (يوم) لما فيه من الوقائع وعالم الحساب وللإشارة بأنه أمر وجودي مستقل غير إرتباطي، ليس فيه سكينة وفتور، بل كله حساب وجزاء، فذكرت الآية يوم القيامة بما يطرد اللبس والترديد، ويمنع من الغفلة عنه وعن أسباب الإستعداد له، وتبين الآية قوانين كلية خاصة بيوم القيامة وهي:
الأول: هناك فرق بين عدم الإجزاء عن الغير، وبين عدم إجزاء الغير عن الذات، وجاءت الآية بخصوص الثاني، لبعث اليأس في نفوس بني إسرائيل عن الإتكال على النسب والنبوة للأنبياء، فلا يأتي الإنسان يوم القيامة إلا بعمله، فلم تخاطب الآية الكريمة الأنبياء والأولياء والصالحين بأنكم لا تجزون عن غيركم من أتباعكم، بل جاءت الآية بلغة التحذير للذين يتخذون من النسب سبباً للصدود عن التكليف بالتصديق بالنبوة، والله عز وجل جعل هذا النسب عندهم رحمة ونعمة وهو من عمومات قوله تعالى في الآية السابقة[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( ).
فلا يجوز إتخاذهذه النعمة للكفران بنعمة عامة وحاجة في الدنيا والأخرة وهي التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله، إذ جعل الله عز وجل العمل بأحكامه وسننه أعظم النعم وواقية من فزع يوم القيامة وما فيه من الشدائد.
الثاني: البيان والتفصيل وكثرة التذكير بيوم القيامة بخطاب لبني إسرائيل في القرآن نعمة عظيمة عليهم.
الثالث: جاء عدم الإجزاء في الآية مطلقاً ويستقرأ الإطلاق من لغة التنكير وذكر النفس وإرادة ذات وماهية الإنسان، وفيه نكتة عقائدية وهي شمول عدم الإجزاء لموضوع النسب الذي يتفاخر به بنو إسرائيل، فلو ذكرت الآية عالم الأعمال، لقالوا نحن نرجو شفاعة النسب وصيرورة نسبتنا إلى الأنبياء من بني إسرائيل واقية من عذاب يوم القيامة، فجاءت الآية بذكر النفوس لتدخل الأعمال فيها.
الرابع: جاءت الآية بذكر عدم الإجزاء على نحو الإطلاق فيما كبر أو دق من الإشياء، ويدل عليه لفظ (شيئاً) الوارد في الآية، وهو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه.
الخامس: إنتفاء الفدية والبدل يوم يالقيامة، فان قيل أليس الحسنات واقية من السيئات يوم القيامة، الجواب نعم، ولكنها ليس من الفدية والعوض، بل هي من الجزاء والثواب، وجاء الوعد الإلهي الكريم به قال الله عز وجل[إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]( ).
السادس: غلق باب الشفاعة على الكافرين الذين لم يتقوا يوم القيامة ولم يستعدوا له بالإيمان والعمل الصالح، ويدل عليه عطف خاتمة الآية بقوله تعالى[وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ]( )، والتي جاءت بصيغة الجمع والغائب والنفي التام، فليس من نصرة يوم القيامة للكفار والمشركين والذين يجحدون بالنبوة.
والصلة بين أول وخاتمة الآية تتضمن التوكيد على التحذير من الغفلة وبعث بني إسرائيل والناس على الخشية يوم القيامة، وإجتناب الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التفسير الذاتي
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء وإختبار، ولم يترك الإنسان يواجه الإبتلاء في الدنيا بمفرده وأن رزقه العقل وجعله زاجراً عن المعاصي ومدركاً لحسن الصالحات، وقبح السيئات.
فتفضل وأنعم على الناس جميعاً ببعثة الأنبياء، وأنزل معهم الكتب التي هي شاهد سماوي على صدق نبوتهم، وسبيل هدى إلى النجاة في النشأتين، إذ تضمنت هذه الكتب تحذيراً وإنذاراً من أهوال يوم القيامة، ومنه هذه الآية التي جاءت بصيغة الأمر العام بلغة التحذير والوعيد (وأتقوا) ولم ينحصر موضوع التحذير من يوم القيامة في القرآن ببني إسرائيل.
إبتدأت الآية بلغة الأمر التي تتضمن التحذير من أمور ووقائع من عالم الغيب، وهذا الأمر دليل على أن بني إسرائيل يقرون بيوم القيامة، وأن الأنبياء السابقين جاءوا ببيان ما فيه من الحساب، وهذا البيان من وجوه تفضيل بني إسرائيل على العالمين، لأنه مرتبة في التفقه في أحكام الشريعة، وباعث على إصلاح النفس والأمة، والتسابق لفعل الصالحات ومنها التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي جاء يذكرهم باليوم الآخر وعدم الإجزاء من الغير فيه.
ويتعذر البدل والفدية يومئذ عن الإيمان بنبوته، فلا برزخ ووسط فأما الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأما العذاب ليس للإنسان أن يجعل نسبه وعمله السابق للبعثة بدلاً وعوضاً عن الإيمان بنبوته، وليس من شفاعة لموضوع التخلف عن نبوته، فلا يشفع الأنبياء السابقون لمن قابل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصدود والجحود.
فمن مصاديق ومضامين الآية التحذير من الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتقديرالآية بهذا الخصوص:
الأول:إتقوا يوماً تسألون فيه عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: يوم لا تجزي نفس آمنت برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن نفس لم تؤمن بها.
الثالث: من يجحد بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يقبل منه عوض أو فدية.
الرابع: لا تنفع الذي يجحد بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم شفاعة غيره لوجوب التصديق به وتجلي معجزات نبوته العقلية والحسية، قال تعالى[فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ]( ).
وهذا من وجوه ومصاديق الآية وإلا فان معنى الآية أعم لذا جاءت بالتحذير من يوم القيامة بالذات وما فيه من الحساب والمواطن كالحوض والميزان والصراط، وجاء القرآن بالتحذير من النار وعذابها، قال تعالى [فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ]( ).
وبين الآية أعلاه والآية محل البحث عموم وخصوص مطلق، لأن الحذر والتوقي من النار من عمومات التوقي من يوم القيامة وما فيها من مواطن الحساب والجزاء.
من غايات الاية
في الآية مسائل:
الأولى: بيان مصاديق تفضيل بني إسرائيل من وجوه:
الأول: توجه الخطاب الإلهي لهم على نحو التعيين.
الثاني: التشريف، بإختصاصهم بالخطاب في آية من آيات الكتاب السماوي الخالد إلى يوم القيامة.
الثالث: مجئ الخطاب بصيغة التحذير والإنذار.
وقد جاءت ذات الصيغة لخطاب الناس جميعاً، وللمسلمين على نحو التعيين، نعم هناك إختلاف بالمعنى من الخطاب للمسلمين نوع تشريف وحث على التقيد بأحكام الشريعة كما في قوله تعالى[وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ]( )، ويتضمن هذا الخطاب اللطف بالتذكير بأن يوم القيامة مناسبة للقاء الله عز وجل، وليس وعيداً بعدم قبول الفدية والشفاعة، ومع هذا فإن خطاب الإنذار الوارد في الآية محل البحث نوع تفضيل لبني إسرائيل، ويفيد الجمع بين مضامين الخطاب في الآيتين أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بموضوع ومضامين التفضيل بلغة الخطاب وما فيه من اللطف والإكرام.
الرابع: مجئ خطاب الإنذار على لسان المسلمين بتلاوته في القرآن، وقراءتهم لهم في الصلاة وفيه تحذير إضافي، فان تعرضت الكتب السماوية السابقة للتحريف، جاء الإنذار الخالي من التحريف على لسان المسلمين، فلا يكون لبني إسرائيل فيه يد، ولا يستطيع أحد تحريفه، لذا جاءت الآية بالبيان والموضوع، لتبقى تلاوة المسلمين للآية، وقيامهم بإنذار بني إسرائيل بالتنزيل الخالي من التحريف نوع رحمة ولطف بهم وهو من مصاديق تفضيل المسلمين وبيان لنيلهم منزلة الإخراج للناس في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ليحذروا أهل الكتاب وغيرهم من الغفلة عن يوم القيامة، ويدعوهم للإستعداد لما فيه من المواطن والحساب بالإيمان وعمل الصالحات.
الثانية: إنذار الناس جميعاً من أهوال يوم القيامة، فالخطاب وأن جاء لبني إسرائيل إلى أن موضوعه عام وشامل للناس.
الثالثة: حث الناس على تذكر الموت الذي هو أمر وجودي قال تعالى [خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ]( )، أي أن الموت أمر مخلوق وليس عدمياً، هو إنتقال من عالم العمل، إلى عالم الحساب والجزاء.
الرابعة: وردت في وصف يوم القيامة أمور تبعث على السكينة والغبطة منها البشارات بالجنة، وإنتفاء الخوف والحزن، وأسباب العطش والعسر، قال تعالى في وصف وخطاب المؤمنين [ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ]( ).
الخامسة: تذكير القرآن لبني إسرائيل بما موجود في التوراة من أخبار يوم القيامة، ونفي الشفاعة للذين يتخلفون عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكلما جاءت البشارات بها في التوراة والإنجيل فلابد أن الإنذارات وردت فيها لمن تخلف عن إتباعه ونصرته عند بعثته.
السادسة: بيان مصداق الأهوال يوم القيامة بأن يجتمع عدم الإجزاء عن الغير، وإمتناع البدل والفدية، وإنغلاق باب الشفاعة على أهل الصدود والعناد مرة واحدة، وفيه وعيد وإنذار، ودعوة للإسلام وإجتناب الكفر بالبرهان الإني، وهو الإستدلال من المعلول إلى العلة.
السابعة: لقد جاءت آيات الأنبياء السابقين حسية،ومنهاعصا موسى عليه السلام، وإبراء عيسى عليه السلام للأكمه والأبرص، فجاءت آية القرآن العقلية لتؤكد الوقائع الحسية من عالم الغيب وقوانين اليوم الآخر وتثبيت البشارات والإنذارات التي جاء بها الأنبياء السابقون، إذ يلتقي جميع الأنبياء بالإخبار عن يوم القيامة ولزوم إتقائه والخشية منه ومما فيه من الأهوال.
الثامنة: لقد جاءت الآية السابقة وهذه الآية شبهاً للآيتين السابعة والأربعين والثامنة والأربعين من سورة البقرة،، فالآية السابقة تشبه في كلماتها ونصها الآية السابعة والأربعين، وهذه الآية تشبه الآية الثامنة والأربعين، في موضوعها ولغة الخطاب ما عدا تقديم وتأخير ببعض كلماتها، بتقديم موضوع الشفاعة وأنه لا تقبل، وفي هذه الآية عدم إنتفاعها من الشفاعة، وفيه آية في نظم الآيات، والتوكيد على بني إسرائيل بلزوم الخشية من يوم القيامة، فاذا سأل جماعة كيف تتحق الخشية والنجاة من أهوال يوم القيامة، يأتيهم الجواب بالمبادرة لدخول الإسلام وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما جاء به من عند الله عز وجل.
وفي لغة الخطاب لبني إسرائيل فيهذه الآية دعوة لعامتهم والمستضعفين منهم لعدم الإنصات إلى كبرائهم الذين يدعونهم للصدود عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم التدبر في الآيات التي جاء بها، ومن وجوه تفضيل بني إسرائيل أن جاءت معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية مصدقة لما ورد في الكتب السماوية السابقة من البشارة به، لتكون واقية من التحريف، وحثاً على محاربته.
التاسعة: يرى الناس موضوعية العدد والعدة في الدفاع والمعارك في الحياة الدنيا، وجاءت هذه الآية لتخبر عن إنعدام أثرها في الآخرة وان النصرة يوم القيامة لا تكون إلا للمؤمنين بالجزاء الحسن،فحينما يمنع الإجزاء والفدية والشفاعة عن الكفار يوم القيامة، لايستطيعون اللجوء إلى من ينصرهم ويقيهم ويمدهم، فليس من يجير يومئذ إلا الله عز وجل، وقد تفضل بدعوتهم في هذه الآية للإحتراز وأخذ الحائطة ليوم الدين بالهداية والإيمان.
ولم يرد لفظ (تجزي) ومضمون جزاء نفس أخرى إلا في هذه الآية، والآية الثامنة والأربعين من سورة البقرة، وكلاهما خطاب لبني إسرائيل ويتعلقان بعالم الحساب يوم والجزاء، وكذا لفظ (العدل) بمعنى البدل والعوض، وفيه توكيد للإنذار وتحذير بني إسرائيل والناس من التخلف عن الإيمان، والإعراض عن آيات التذكير بيوم القيامة، قال تعالى[فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى]( ).
التفسير
قوله تعالى [ وَاتَّقُوا يَوْمًا ]
من الاعجاز انحلال الخطاب القـرآني وحملـه لمفاهيم متعددة فهو وان كان تحذيراً الا انه مدرسة في العقائد، فالآية تحث على التحامي والاحتراز والوقاية من النار يوم القيامة، وهي دعوة لإيجاد هيئة وحالة نفسانية ملاكها الاستعداد للامتثال للاوامر الإلهية والآيات الباهرات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتحـذر الآية من يوم القيامـة وما فيـه من الحسـاب وشـدة العذاب و[يَوْمًا ] جاء في الآية مفعولاً به وليس ظرفاً، أي ان موضوعه وحده يكفي للتحذير.
وفي الآية طرد لتوهم الإنتفاع في مقامات الآخرة من الغير وجاء على نحو العمـوم كقاعـدة كلية لما في لغة التنكـير من الإطلاق، ولتعميـم الفائدة وبقائها مستديمة كإنذار دائم وعبرة.
وجاءت التقوى في القرآن لمعان عديدة اهمها خشية الله عز وجل وطاعته والمجاهدة فيه واجتناب جميع المعاصي، وفي المقام حث على التوقي من اهوال يوم القيامة، وتعني ايضاً تقوى الله عز وجل واجتناب معاصيه ولكن بالواسطة وبالبرهان الإني وهو الإستدلال من المعلول على العلة كما تقدم، فما دام الحساب يوم القيامة على الأعمال، والعقاب فيه على الذنوب والفواحش في الحياة الدنيا فلابد من الإحتراز والوقاية من العقاب بالتقوى والصلاح والحرص على اداء الفرائض والصالحات ودخول الإسلام والإيمان والتصديق بالآيات، الا ان الآيات في مفهومها حث على إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى [ لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ]
الآية تنبيه وتذكرة وانذار ببيان كيفية الحساب يوم القيامة، ونفي للإتكال على اعمال ومنزلة الآباء من الأنبياء والصالحين، أي ان الآية اصلاح لهم في الدنيا بمنعهم من التمادي في الذنوب والإصرار على الجحود امـلاً بنيلهم للمنزلة والرفعة في الآخرة لما سيكون عليه آباؤهم من الصالحين من المقام الحسن والدرجة الرفيعة.
فالآية رحمة وفضل على بني اسرائيل بحثهم على النجاة يوم القيامة ورفع الوهم باللجوء إلى أعمال الآباء وصلاحهم، وحث لهم على عمل الصالحات واتيان الفرائض التي جاء بها القرآن، ومتى ما ادرك الإنسان انعدام وسائل النجاة وانحصارها في سبيل واحد فانه يلجأ اليه ويجتهد في السعي بمسالكه.
قوله تعالى [وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ]
أي لا جزية ولا عـوض، وورد عن النـبي صلى الله عليه وآلـه وسلم ان العدل المذكور هو الفدية، انها تمنع الظن بان الفداء يوم القيامة يصلح للتكـفير انما هو في الدنيا لأنه فرد العمل، وفي الآخرة حساب بلا عمل، والأعمال الحسنة لا تقبل الا بالإسلام سواء على القول بان الكفار مكلفون بالفروع وهو المشهور والمختار او انهم غير مكلفين بها.
وقد ورد في الآية الثامنة والاربعين [ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ]( )، والقبول أخص من الإجزاء، لأن الإجزاء يحصل بالامتثال ومطابقة الفعل المأتي به للمأمور به، وتبرء الذمة من الأمر التكليفي، اما القبول فهو ما يترتب عليه الثواب والرضا بالفعل.
ومن اعجازها انها اعلان لانتهاء التفضيل بلحاظ الوصف والإنتماء فانها تتضمن قواعد وامراً باختيار التفضيل بطريق جديد مبارك غير الذي هم عليه، أنه طريق الإسلام فتفضيلهم يمكن ان يحافظوا عليه بحسن الإمتثال وان اصبح اعم وشاركهم فيه غيرهم رحمة وسعة في وجوه حفظ لواء التوحيد.
قوله تعالى [وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ]
أكدت السنة النبوية الشفاعة وثبوتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبيٌّ من الأنبياء ما صدقت وإن من الأنبياء نبياً ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد)( ) .
وفي الحديث بشارة اتساع الإسلام وانه سيكون الأكثر انتمـاء وشيوعاً بين الناس فخرجت شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم بالتخصص وليس بالتخصيص من جنس الشفاعة التي لا تنفع والواردة في الآية.
فالآية لا تنفي الشفاعة مطلقاً بل انها محجوبة عن الذين لا يؤمنـون بالرسالـة، وعدم الانتفـاع منها ليس لعدم وجود المقتضي العام بل لوجود المانع في المتلقي بعدم استجابته لدعوة الحق، فكما لا يغفر الله لمن يشرك به ويغفر ما دون الشرك من المعاصي لمن يشاء فأن الذي لا يتبع الرسول لا تناله الشفاعة، ويدل على ذلك لغة الخطاب كقرينة مقالية، بالإضافة الى الآيات التي تنص على وجود الشفاعة ككرامة مدخرة وباب رحمة للمؤمنين.
وتبعث الآية الخوف في النفوس، وتدعو إلى التفكر والتدبر وتحث الإنسان على الإستعداد لعالم الآخرة، وفي التنزيل[وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ] ( )، ليكون هذا الخوف والتفكر مقدمة وطريقاً للسعادة الأخروية.
قوله تعالى [وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ]
أي ليس لهم معين أو ناصـر يذب عنهم لأن الملك لله، إنها تحذير لبني إسـرائيل ونوع رحمة وحكـم عدل في يـوم القيامة جـاء القرآن منذراً به، والآية رحمة لهم بانذارهم ومنعهم من الإصرار على الاستكبار والامتناع عن قبول الحق وما فيه من الإضرار بالنفس ومنع انتفاعها من الشفاعة.
ويتعلق موضوع الآية بالحياة الآخرة وغياب الناصر وجاء عدم النصرة في الحياة الدنيا ولكنه خاص بالذين يحاربون الإسلام ويحاولون الصد عن سبيل الله، قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ]( )، لذا ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إِنَّكُمْ تَلْقَوْنَ عَدُوَّكُمْ غَدًا فَلْيَكُنْ شِعَارُكُمْ حَم لاَ يُنْصَرُونَ)( ).
قوله تعالى [وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] الآية 124.
القراءة
قرأ ابن عامر(إبراهام) والباقون إبراهيم وقرأ حمزة وحفص (عهدي) بارسـال الياء والباقـون بفتحها، وحفص ليس من القـراء السبعة إنما أخذ قراءته عن عاصم.
وفي إبراهيم خمس لغات إبراهيم وإبراهام وإبراهَم وإبراهِم وإبَرَهَم، وقيل علة هذا التعدد إن العرب حينما ينطقون بالأعجمي يتسامحون في حروفه وترتيبها.
وقيل(إن العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه وتلعبت بحروفه فتغيرها( ).
ولكنهم يتصرفون بوضع الألفاظ أزاء المعاني بحكمة وإتزان وما يناسب قواعد الصرف واللسان العربي.
إنه نوع تنقيح لغوي وعدم قبول اللفظ على رأس، ولعل العرب يخضعونه لبعض أوزان اللغة مما يدل على المشاركة العامة في أحكام الألفاظ وتصريفها وكيفية نطقها وفق القواعد والأصول كمظهر من مظاهر الرقي اللغوي الذي جاء القرآن متحدياً لها.
وإبراهيم كلمة عربية وقيل كلمة سريانية , وفي العبرية إبرهام معناها الأب الرحيم فهو الأب الرحيم للأمم من بعده ومنه دعاؤه لبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو رحمة للعالمين.
وفي التنزيل حكاية عن إبراهيم [وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ]( ).
وجاء الفاعل(ربه) متأخراً عن المفعول، وهو مقدم في المعنى على المنصوب، والتقدير: وإذا إبتلى ربه إبراهيم.
وفي قراءة ابن مسعود ( لا ينال عهدي الظالمون).
الإعراب واللغة
وإذ: الواو إستئنافية وعاطفة، إذ: ظرف لما مضى من الزمان في محل نصب لفعل محذوف تقديره أذكر، ومنهم من قال إن [ وَإِذْ ] في كل الآيات المصدرة بها هي حرف تحقيق.
إبتلى: فعل ماض، إبراهيم: مفعول به مقدم، ربه: فاعل مؤخر ، والضمير مضاف إليه.
وجملة إبتلى في محل جر باضافة الظرف إليها.
بكلمات: جار ومجرور متعلقان بابتلى.
فاتمهن: الفاء: حرف عطف، أتمهن: فعل ماضِ، وفاعل، ومفعول به، قال: فعل ماضِ، الفاعل ضمير مستتر تقديره هو.
اني: إن وإسمها، جاعلك: خبر إن، والكاف، مفعول أول لجاعلك، وهو من إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله.
للناس: جار ومجرور، متعلقان بجاعلك.
إماماً: مفعول جاعلك الثاني.
قال: فعل ماض، والفاعل: ضمير مستتر تقديره هو.
ومن ذريتي: الواو: حرف عطف، من ذريتي: جار ومجرور، عطف على الكاف وتقدير المسألة، وجاعل بعض ذريتي.
قال: فعل ماض، لا: نافية، ينال: فعل مضارع، عهدي: فاعل، والياء في محل مضاف إليه.
الظالمين: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم وجملة(لا ينال…) في محل نصب مقول القول.
الإبتلاء: الإختبار والإمتحان، والكلمات جمع كلمة، قال تعالى [بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ] ( )،لأنه وجد بأمر الله تعالى من دون أب.
الكلام: الأصوات المتقطعة وفق نظام مفهوم لدى السامع وبما يفيد المعاني، وفيه نوع مفاعلـة هي آية مركبة في عالم التكوين إذ أنها عبارة عن جسم لطيف وما يسمى الآن بالذبذبات الصوتية يصدر من أعضاء مخصوصة من المتكلم عن قصد وتمييز ليخترق الهواء ويشارك في نقله حتى يصل إلى حاسة السمع عند المخاطَب والسامع مطلقاً التي تشكل ظاهرها على نحو مفروش ثم ليصـل إلى الفكـر العقلي فيحلل ذلك النظم ويجمعه ويفهم معناه.
الذرية: الأولاد، من الذر أو الإلقاء والتفريق، ومادة جعل من أفعال الشروع الدالة على افتتاح العمل وهي كثيرة أشهرها جعل وأنشأ وقام وأخذ، والجعل بمعنى الإيجاد.
والإمام في أصل اللغة هو المقدم سواء كان مستحقاً للتقديم أو لم يكن مستحقاً، وفي الإصطلاح هو الذي له الولاية وهو حجة الله على الخلق.
قد يطـلق الإمام على من يقتفى أثره في الباطل، ولكن مع التقييد والقرينة كما في قوله تعالى في فرعون وجنوده[وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ]( ).
والعهد: الوصـية والأمانـة، وقد يعـني مواثيق النبوة كما في قوله تعالى[ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ]( ).
وورد في حرف عبد الله [لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِونَ] لان الفعل المتعدي على ثلاثة وجوه:
الأول: صيرورة الفاعل مفعولاً به، والمفعول به فاعلاً، أكرم زيد عمرو، فان المفعول به يصح ان يكون فاعلاً بلحاظ تغيير المعنى.
الثاني : ما لا يجوز فيه صيرورة المفعول به فاعلاً، نحو صام المسلم شهر رمضان.
الثالث: ما يصح إسناده إلى الفاعل وإلى المفعول به بلحاظ المعنى نحو ينال، كما في هذه الآية.
وما مرسوم في المصاحف هو الصحيح باعتبار أن الآية رحمة ، والعهد فضل من عند الله كما يتجلى سياق الآية وصيغة الدعاء والإستجابة فيها.
بحث بلاغي
من وجوه البلاغة (التكميل) ويسمى ايضاً بالإحتراس وهو نوع من انواع الأطناب بالزيادة والإتيان بكلام متعقب لكلام آخر ويدفع ما يحتمله من وهم وما هو مخالف للمقصود فيؤتى بكلام إحتراساً ودفعاً للوهم.
وهذا الوهم هو تعرض إبراهيم للإبتلاء عقوبة أو نحوها فجاءت الجملة الوسطى وما بعدها لتؤكد أن إبتلاء ابراهيم كان رحمة وإرتقاء في سلم الكمالات والرفعة.
ولما كانت هذه الآية شاهداً في باب المراجعة وهو من أبواب بدائع القرآن ويعني حكاية المتكلم لما جرى بينه وبين محاور آخر غيره بأوجز عبارة وأعدل سبك وأعذب ألفاظ فان هذه الآية تجمع بين الخبر والإستخبار وحسن الإمتثال والبشارة والدعاء والإستجابة على نحو الموجبة الجزئية، والمدح والذم منطوقاً ومفهوماً، المدح بالوعد لمن آمن واتقى من ذرية إبراهيم، والذم بالوعيد للظالم منهم.
في سياق الآيات
بعد ان جاءت الآيات المتقدمة بذم فريق من بني إسرائيل، وبيان قبائح أفعالهم جاءت هذه الآية لإظهار فضيلة إبراهيم عليه السلام الذي يفتخر بنو إسرائيل بالإنتساب إليه، إنه الشخص الذي يرجع إليه نسب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وموسى وعيسى عليهما السلام وإعتبار ذلك في مسألة النبوة والفضل والإكرام ولتأتي الآيات التالية لتبين ما ترشح على المسلمين من سيرته من المنافع العظيمة.
والآية أيضاً ذم للظالمين بثبوت عدم أهليتهم للإمامة بظلمهم لأنفسهم وللغير وبذلك لا تخرج هذه الآية عن المضامين التي جاءت بها الآيات المتقدمة، كما أنها مدخل لتوضيح مناهج العمل العبادي التي وضعها إبراهيم عليه السلام كما تبينه الآيات التالية.
إن مجرد ذكر قصة إبتلاء إبراهيم عليه السلام في نظم هذه الآيات له غايات كريمة تتعلق بإقامة الحجة عليهم.
لقد تقدمت آيات تتضمن الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين، وذكرت آيات أخرى موسى عليه السلام وبني إسرائيل، وهذه أول آية يذكر فيها اسم إبراهيم عليه السلام، وجاءت بعدها ثمان آيات كلها في قصة إبراهيم عليه السلام لتكون مدرسة مستقلة في النبوة وشاهد على تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء السابقين، ومجيئهم بالبشارة بنبوته ويتصف إبراهيم بأنه كان يدعو الله عز وجل لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي قوله تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ]( ) وورد عن الإمام علي عليه السلام أنه كان دعاءً).
وجاء قبل آيتين قوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( ) والصلة بينها وبين هذه الآية من وجوه:
الأول: إسرائيل هو ابن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، وهذا النسب نعمة وتفضيل.
الثاني: بعثة إبراهيم نعمة متقدمة على بني إسرائيل، فمن تركتها وإرثها لبني إسرائيل عقيدة التوحيد.
الثالث: الإتعاظ والإعتبار بسنة إبراهيم.
الرابع: لزوم تلقي ما أنزل الله على إبراهيم من الصحف بالقبول والتصديق قال تعالى[صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى]( ) .
الخامس: التدبر في الكلمات التي إبتلى الله عز وجل بها إبراهيم والإنتفاع منها.
السادس: الإحتراز من الظلم وأسباب حجب الإمامة وفقدان التفضيل للإنذار الوارد في خاتمة الآية[لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ].
السابع:دعاء إبراهيم لذريته بالإمامة.
الثامن:الفخر والإنذار بنيل الأب مرتبة الإمامة.
ولما جاءت الآية قبل السابقة بالأمر لبني إسرائيل بذكر نعمة فأن نبوة إبراهيم وما فيها من الدعاء لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة على بني إسرائيل يجب أن يذكروها، ويتجلى المصداق الواقعي لذكرها بتصديق وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشكر الله عز وجل على الإستجابة لدعاء إبراهيم ببعثته وتلاوته آيات القرآن كما في قوله تعالى[يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ] ( ).
وجاءت الآية السابقة خطاباً لبني إسرائيل وإخباراً عن عدم الإجزاء عن الغير يوم القيامة، وإنعدام الشفاعة في عالم الحساب، ويفيد الجمع بين بينها وبين هذه الآية عدم إنتفاع الظالمين من البنوة والنسبة لإبراهيم، وجاءت الآية التالية بذكر أمور:
الأول: بناء البيت الحرام ليلجأ إليه الناس.
الثاني: مقام إبراهيم والأمر بإتخاذه مصلى.
الثالث: ذكر إسماعيل، وعهد الله إليه مع إبراهيم، وإسماعيل من ذرية الله عز وجل لإبراهيم في ذريته، وإشتراك إسماعيل في تلقي العهد من عند الله وإمتثاله له) ( )،وقد جاء في خطاب لبني إسرائيل [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ] ( )، وجاءت الآية بعد التالية بدعاء وسؤال آخر لإبراهيم يتعلق بمكة وأن تكون بلداً آمناً يأتي الرزق الكريم فيه لأهل الإيمان،، وحينما سأل الرزق سأل بالمعنى الأعم (وأرزق أهله) ليأتي الرزق إلى ذريته وغيرهم بلحاظ البيت الحرام والإيمان، وسعة فضل الله عز وجل.
ومع سؤال إبراهيم الإمامة لذريته بعد أن نالها بفضل من الله، سأل الله عز وجل البقاء على الإسلام، هو وإبنه النبي إسماعيل، وأن يكون الإسلام صبغة وعقيدة شطر من ذريتهما، بقوله تعالى [رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ]( ).
وبين الإمامة والإسلام عموم وخصوص مطلق، فكل إمام هو مسلم وليس العكس، فالإمامة رئاسة في أمور الدين والدنيا لاينالها إلا من إمتحن الله قلبه بالإيمان وأظهر على مراتب التقوى، وورد لفظ الذرية في الآية محل البحث وإرادة ذرية إبراهيم(ذريتي) وجاء في الآية أعلاه بلفظ التعدد في السائل مع الإتحاد في موضوع السؤال وإرادة ذرية إبراهيم بواسطة إسماعيل، وبين ذريتهما عموم وخصوص مطلق.
فكل ذرية إسماعيل من ذرية إبراهيم وليس العكس، لأن من ذرية إبراهيم بواسطة إسحاق كما في يعقوب وأولاده.
إعجاز الآية
للآية دلالات في باب العقيدة وبيان عظيم منزلة الإمامة، ومن إعجازها أنها تشير إلى خطأ في الإعتقاد عند بعضهم فقد ظنوا أن الإنتساب بالبنوة لإبراهيم كاف في نيل مراتب اليقين.
ومن إعجاز الآية إن إمامة إبراهيم عليه السلام كانت للناس وصحيح أنها محمولة في ظاهرها على أهل زمانه ولكن القرائن تدل على المعنى الأعم بالإضافة إلى عمومات الرسالة، وتعتبر نبوة وسنة إبراهيم عليه السلام موضوع إلتقاء مبارك ونسب وأصل متحد لعدد من الملل مع الإختلاف والتباين بينها.
ومن إعجازها أنها تجعل المدار على الإيمان لا على الإنتساب وحده، وفيها إشارة إلى أن الله عز وجل يبتلي أولياءه ويمتحنهم ولكنها تعني في دلالتها الإلتزامية على الوعد بنصـر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعز المسلمين ورفعتهم بالتوفيق في الإختبار.
وتبين الآية ماهية الحياة الدنيا، وأنها دار إمتحان وإختبار، وفي هذا الإبتلاء مسائل:
الأولى: إنه يشمل الناس جميعاً على نحو العموم الإستغراقي.
الثانية: الإبتلاء رحمة وباب للإرتقاء في منازل التقوى.
الثالثة: لم تأت الإمامة إلا عن إبتلاء وتمحيص، وتوفيق والآية دعوة للصلاح، وتحذير وإنذار من الظلم والتعدي وإخبار بأن الظلم يحجب النعم،ويحول دون بلوغ المراتب الرفيعة.
الرابعة: الآية دعوة لجميع ذرية إبراهيم بتهذيب النفوس وإصلاح الأفعال، وإجتناب الظلم والتعدي.
ومن إعجاز الآية أمور:
الأول: إخبار الآية عن إتمام إبراهيم للكلمات.
الثاني: عدم ذكر الكلمات على نحو التعيين، ولا يعني هذا خفائها ولكن آيات القرآن الأخرى تبين تلك الكلمات، ومالا قاه إبراهيم عليه السلام في جهاده في سبيل الله، وحمله لواء التوحيد بين الناس ومواحيته للطواغيت بمفرده ودعوتهم لعبادة الله.
الثالث: نيل إبراهيم مرتبة الإمام بعد التوفيق في الإمتحان، لبيان كرم وفضل الله وعدم تخلف الجزاء عن الإبتلاء والنجاح فيه.
الرابع: مبادرة إبراهيم للدعاء من منزلة الإمامة لتثبيتها في ذريته وفي الأرض، وتتقوم الإمامة بالثبات على التوحيد، والإخلاص في عبادة الله وفي دعاء إبراهيم ورد قوله تعالى[وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الخامس: إختتام الآية بإخراج الظالمين بالتخصيص من الأهلية للإمامة والعهد.
ويمكن تسمية الآية بآية “وإذ إبتلى”ولم يرد لفظ (إبتلى) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، ويمكن أن نسميها آية”الإمامة”.
الآية سلاح
في الآية تأديب لبني إسرائيل وتذكير وموعظة لغيرهم من الناس بعرض الصورة المشرقة للإنسان الحائز على الكمالات الإنسانية وكيف أنها ترتكز على مرضاة الله والإنقياد لأوامره والإمتثال لحكمه، فيمكن أن يطلق على هذه الآية (مدرسة إبراهيم).
فكمـا أتم إبراهيـم الكلمات وأحسن الوفاء كذلك يجب على المسلمـين لينالـوا الوراثة في الأرض ويحفظوا في أولادهم، وهي فضـح لمن يتصل نسباً بابراهيم ولم يفعل فعله، ولا يقتدي به ويقتفي آثاره المباركة، ويصر على الظلم لذا فانها تمنع الإغترار بهم وبدعواهم.
والآية تأديب للمسلمين، وفيها إشارة إلى إمتحانهم وإختبارهم بالصبر والجهاد في سبيل الله تعالى.
وتحث الآية على أداء الوظائف العبادية بإعتبارها موضوع الإبتلاء والإختبار في الحياة الدنيا، ومن فضل الله عز وجل على المسلمين أن جعلها عز وجل سهلة وجلية لا تقبل الترديد، كما في الصلاة وأحكامها.
وتطرد الآية الغفلة والجهالة عن المسلمين، وتجعلهم في حال إستعداد وتهيئ لقبول المناسك وأداء الفرائض، وتلقي الأوامر وبذل الوسع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلحاظ وجوبها، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
وتدعو الآية إلى المواظبة في العمل، والإجتهاد في السعي في سبيل الله، وهجران التكاسل والتهاون، وتدعو إلى إتمام الوظائف العبادية وأدائها على أتم وجه، وفيه حث على تعاهد الصلاة والفرائض العبادية، ومنه قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي)( )،ومن وجوه محاكاته في صلاته والإمتثال لأمره في أدائها الحرص على أدائها على نحو التمام والكمال بأركانها وفروعها.
ومما تمتاز به الإمامة أنها رحمة للناس جميعا وواقية من الخصومة والإقتتال .
بحث تأريخي
تفتخر كـثير من الأمم والملل بانتمائها إلى إبراهيم عليه السلام نسباً او عقيدة أو سنة فجاء ذكره في القرآن إكراماً له وبياناً لسنته، ودعوة للعمل بها، قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
ومن الآيات أن موسى عليه السلام ذُكر في القرآن نحو ضعف ما ذكر ابراهيـم تقريباً، وأن أمة موسى أكثر الأمم ذكراً في القرآن، ليكون ذكر ابراهيم هنا موعظة لبني اسرائيل وحجة عليهم، ويدل بالدلالة الإلتزامية على الدعوة إلى الإسلام.
فإبراهيم عليه السلام ذكر في القرآن تسـعاً وستين مرة في ثلاث وستين آية مما يدل على عظيم منزلته، وبين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم خمسمائة وستون سنة وقيل ستمائة، وبين موسى وعيسى ألف سنة وبينهما ألف وسبعمائة نبي وقيل بين عيسى ومحمد أربعة أنبياء ثلاثة من بني اسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسي .
وقيل ولد إبراهيم في أور الكلدانيين سنة 1996 قبل ميلاد عيسى عليه السلام، وإنتقل مع والده إلى أرض كنعان، وأقاموا بحوران، ثم خرج منها لقحط أصابها فتوجه إلى مصر، وتوفى سنة 1773 قبل ميلاد المسيح..
ومن الآيات في قصة إبراهيم عليه السلام كثرة سياحته في الأرض في سبيل الله، وتعدد مواطن سكنه، وتجد شواهد عديدة في العراق والشام والحجاز تنسب إليه، وأنه كان يسكن فيها بالإضافة إلى ذهابه إلى مصر بقصة معروفة، ومنها جاء بهاجر أمة لزوجته سارة لتكون فيما بعد زوجته وأم إسماعيل، وأسكنها عند البيت كما ورد في التنزيل [إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّم]( )،مما يدل على أن سكناه وسكن بعض ذريته في موطن آخر، وذكر أن الأرض كانت تطوى له.
ومن الإعجاز القرآني ذكر قصة إبراهيم في بنائه للبيت الحرام،مع أنه موجود من أيام آدم عليه السلام لذا جاءت الآية بلغة رفع القواعد وإشتراك إسماعيل في بنائه [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ] ( )، وفيه أمران:
الأول: ان سؤال إبراهيم لنيل بعض ذريته الإمامة لتعاهد الإيمان وحفظ كلمة التوحيد، وجذب الناس لسبل الهداية.
الثاني: إن مرتبة الإمامة جهاد وسعي في سبيل الله.
الثالث: من خصائص الإمامة إقتران الفعل العبادي بالتضرع والمسكنة إلى الله عز وجل.
الرابع: إعانة إبراهيم لذريته لبلوغ منازل الرئاسة العامة، وإصلاحهم لإمامة الناس بخدمة الشريعة، وتهيئة مقدمات العبادة
بحث أخلاقي
لإبراهيم عليه السلام أثر عظيم في تراث التوحيد في الأرض وسنن الشرائع السماوية القائمة ويعتز المسلمون وأهل الكتاب باتصالهم به، ويعتز ويتباهى الكثيرون بإبراهيم عليه السلام أباً ونبياً، وفي الدعاء عن الإمام الصادق عليه السلام: “اللهم صل على أمنا حواء المطهرة من الرجس المصفاة من الدنس”( )، أي من باب أولى ان يكون إبراهيم عليه السلام أباً لمن ينتمي اليه بالنسب لأنه أقرب منها.
وإجتمعت في إبراهيم عليه السلام وجوه الكمال التي يتصف بها الرسل اولوا العزم وهو الحائز على التوفيق في الإختبار ولقد بعث إلى قوم يعبدون الكواكب ويظنون أنها المدبرة لهذا العالم ومنها يأتي الخير والشر والسعادة والنحوسـة وهم الكلدانيون وإتصفوا بانهم مهرة بالسحر وفنونه.
وفي مباحث العرفان أن حب العبد لله لذاته، أما حب ثوابه فانها درجة أدنى لأن اللذة محبوبة لذاتها وكذا الكمال لذاته، وباستثناء حبه تعالى فكل شيء يحب من أجل شيء فيلزم التسلسل، فحب المال للأكل، وحب الأولاد لمفهوم البقاء ولابد ان تنتهي السلسلة.
والفطن والبصير المتتبع يدرك ان تلك السلسلة تنتهي بالباري عز وجل الذي يتصف فعله بالإبداع والتأسيس المحض والإختراع لذا جاء قبل آيات الثناء عليه في صنعه[بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
لقد سخّر إبراهيم نفسه للشريعة وتثبيت راية التوحيد فهو الذي دعا علانية إلى عبادة الله تعالى، ورفع قواعد البيت الحرام بعد الطوفان وإتخذ الرايات في الدعوة إلى الله وأكرمه الله بأن إتخذه خليلاً.
مفهوم الآية
تبين الآية عظيم فضل الله تعالى على الأنبياء، فبعد بيان فضله على بني إسرائيل عامة جاء ذكر فضله تعالى على نبيه إبراهيم الذي تفرعت منه الديانات وكان إسرائيل وهو يعقوب من ذريته لأنه ابن إسحاق بن إبراهيم، فهذه الآية تذكير بفضل الله تعالى على بني إسرائيل ولكن بذكر الخاص وإرادة العام ولأن النبوة إفاضة سماوية وبركة تتغشى الناس جميعاً.
وتبين الآية معالم الإبتلاء والإمتحان الإلهي وما فيه من المنافع والدرجات الرفيعة، والغايات السامية، ومن مفاهيم هذا الإبتلاء الإشارة إلى الإختبار ببعثة نبي آخر الزمان محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوتهم للإيمان به.
كما أن إخبار الآية عن إتمام إبراهيم عليه السلام للكلمات حث لهم على التسليم بما أنزل الله وما تضمنته الكتب السماوية السابقة من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد تعاهد تلك البشارات وعدم تحريفها، لأن وجود الآيات عند ملة أو أمة من أهم وجوه الإبتلاء والإمتحان لذا فان حفظ المسلمين لآيات القرآن وخلوه من التحريف ووراثته من أيام البعثة النبوية الشريفة وإلى يومنا هذا جيلاً بعد جيل وتعاهده من عموم المسلمين يداً بيد دليل على التوفيق في الإبتلاء وأهليتهم لوراثة إبراهيم والأنبياء في إتمام الكلمات التي أبتلي بها.
والظاهر أن المراد من قيد عدم الظلم إنما هو على نحو العلية والتأثير وليس الكشف والدلالة بمعنى أن العصمة والتنزه من الظلم والتعدي يستلزم الإرادة وملكة التقوى والعفة لتكون ذرية إبراهيم هي المبادرة إلى الإسلام والإلتزام باحكامه.
وخاتمة الآية بيان لفلسفة الإمامة في الأرض وشرائطها ومستلزماتها وكيفية السعي إليها ومعرفة الخارجين عنها بالتخصص أي غير المؤهلين للإمامة والفاقدين لشروطها فقد جاء الشرط بسيطاً واضحاً وهو أن يكون الإمام ليس بظالم فمتى ما ظلم نفسه أو غيره و أساء في دينه ومعتقده فهو ليس بإمام.
فجعلت الآية الإمامة على وجهين:
الأول: المعنى العام وهو الرياسة والزعامة (قال ابن سيده : الإمام ما أئتم به من رئيس وغيره والجمع أئمة) ( ).
الثاني: المعنى الإصطلاحي وهو الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا.
ومن مفاهيم هذا الشرط وموضوعيته الدعوة إلى إصلاح وتهذيب النفس والتخلص من الكدورات الظلمانية وأسباب الجحود وغشاوة الضلالة.
وتبين الآية عظيم منزلة آل إبراهيم عامة وأهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الآية تخرج الذين ظلموا أنفسهم من ذرية إبراهيم من التفضيل والإكرام الخاص بأعظم نعمة على الناس وهي الإمامة.
وتقييد الإمامة بعدم الظلم مدح وتنزيه لآل إبراهيم ولأهل بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحث لذرية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في كل زمان على التقوى والصلاح وأداء الفرائض، ودعوة لبني إسرائيل للتقيد بأحكام التوحيد.
وفي الآية مسائل:
الأولى: إن الله عز وجل يبتلي الأنبياء للإرتقاء في منازل الرسالة، وبين الرسول والنبي عموم وخصوص مطلق، فكل رسول هو نبي وليس العكس(قال النبي صلى الله عليه وسلم : أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل)( ).
الثانية: يحتمل الإبتلاء بلحاظ الآية وجوهاً:
الأول: إنحصار الإبتلاء بإبراهيم، وهو القدر المتيقن من الآية.
الثاني: جاء ذكر إبتلاء إبراهيم عليه السلام من باب المثال، والمراد إبتلاء الأنبياء جميعاً بالكلمات، وإتمامهم لهن.
الثالث: إرادة عموم الناس , وأن كل انسان يبتلى بالكلمات بلحاظ أنها جزء من الإبتلاء العام في الحياة الدنيا.
والأقوى هو الثاني، إذ لا دليل على أصالة الإطلاق وإرادة العموم كما في الوجه الثالث أعلاه، ولأن الآية ذكرت الظالمين من ذرية إبراهيم بصيغة الذم والحجب عن نيل العهد الإلهي.
وقد يقال إن العهد غير الكلمات والجواب جاءت الآية بذكر إبراهيم على نحو التعيين وإقامة الكلمات , ويحتمل الإبتلاء بالكلمات وجهين:
الأول: قبل أن يبلغ إبراهيم عليه السلام مرتبة النبوة وتلقي الوحي.
الثاني: بعد نيل إبراهيم لمرتبة النبوة.
الثالث: تعدد زمان الإبتلاء وكثرة أفراده، وتغشيها لحال ما قبل نيله مرتبة النبوة وما بعده.
والأظهر هو الثاني والثالث إلا على القول بأن الإبتلاء مقدمة لنيل مرتبة النبوة، لتكون الإمامة أعظم منزلة من تلقي الوحي، لأنها رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا، وقد فاز بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الواقع وعالم التصديق الخارجي، فكان نبياً رسولاً وقائداً وإماماً حال السلم والحرب، وهو من الشواهد على تفضيله على الأنبياء،ليكون هذا المصداق شاهداً على أنه أتم الكلمات، وفيه إستجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام الوارد في هذه الآية بسؤال الإمامة في ذريته، وسؤاله الوارد في قوله تعالى[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ] ( ).
الثالثة: يحتمل الإبتلاء بلحاظ جهة الصدور وجوهاً:
الأول: إنه من الله عز وجل إلى إبراهيم عليه السلام من غير واسطة.
الثاني: جاء الإبتلاء بالوحي وبواسطة الملائكة.
الثالث: الإبتلاء وصية وعهد من الأنبياء السابقين إلى إبراهيم.
الرابع: لم يكن الإبتلاء أمراً ظاهراً معلوماً بل هو جزء من أمور الحياة الدنيا، ومصاديق العبادة فيها من غير تعيين وتحديد لتلك الكلمات، بل هي جزء من كلمات ومسائل إبتلائية عديدة، قام إبراهيم عليه السلام بالإمتثال لما فيها.
والصحيح هو الثاني، فالإبتلاء جاء بواسطة الوحي والأمر التكليفي قال تعالى[وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ] ( ).
الرابعة: في الآية تشريف وإكرام لإبراهيم عليه السلام من وجوه:
الأول: ذكره على نحو التعيين في هذه الآية.
الثاني: بيان قصة إبتلائه.
الثالث: صلاح وتوفيق إبراهيم في الإمتثال للأوامر الإلهية لقوله تعالى[فَأَتَمَّهُنَّ] وهو من المصاديق على تضمن القرآن لأحسن القصص، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( ).
الرابع: عدم وجود فترة بين إبتلاء إبراهيم بالكلمات وإتمامه لهن لقوله تعالى[فَأَتَمَّهُنَّ] الذي يفيد التعقيب، كما يقال: جاء زيد فعمرو، أي ليس بين مجيئهما فترة ووقت معتد به، وفيه ثناء على إبراهيم.
الخامس: إكرام إبراهيم عليه السلام، والتسليم بنبوته والأنبياء الآخرين.
السادس: دعوة المسلمين للإقتداء بإبراهيم عليه السلام، بالسعي في مسالك الطاعة والإمتثال للأوامر الإلهية، وإجتناب ما نهى الله عز وجل عنه.
السابعة: بيان فناء الأنبياء في مرضاة الله عز وجل،ومبادرتهم للإمتثال لأوامره.
فلم تقل الآية(إذ إبتلى إبراهيم ربه بكلمات ليتخذه إماماً) أو لأتخذك إماماً، بل جاء الإبتلاء مطلقاً من غير تقييد بوعد أو عهد، فبادر إبراهيم عليه السلام للإمتثال طاعة وحباً لله عز وجل، وفيه آية وحجة ودعوة للناس للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامنة: كما يتعقب الإمتثال الكلمات، بقول تعالى[فَأَتَمَّهُنَّ] كذلك ينعم الله عز وجل على العبد بالثواب من غير وجود فترة بين الإمتثال والثواب مع إنبساط الثواب على النشأتين.
التاسعة: لغة التنكير في (كلمات) لا تمنع من حصرها بعدد محدود وقدر معين بينما يكون نفعها وأثرها مطلقاً وغير محدود سواء في الكم أو الكيفية أو أفراد الزمان المقدرة وغير المقدرة.
العاشرة: جاءت إمامة إبراهيم للناس عامة من غير إستثناء، وما عند الأنبياء السابقين هو عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل على أنه إمام للناس جميعاً مع المائز الذي يختص به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو إستمرار إمامته إلى يوم القيامة، وعدم إنحصارها بزمان النبوة والتنزيل، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ).
الحادية عشرة:الآية شاهد على أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لأنهم صدقّوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنقادوا لإمامته، إذ أن وجود الإمام يدل على وجود المأموم.
ولفظ الناس يدل على التعدد في المأموم، وتتصف نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآية وهي أنه أكثر أتباعاً من الأنبياء الآخرين وأمته أعظم وأكثر الأمم.
الثانية عشرة: تدل الآية على العموم في الأحكام التكليفية، وشمولها للناس جميعاً فلم تقل الآية (جاعلك للمؤمنين إماماً) بل جاءت بلغة العموم، وفيه شاهد على أمور:
الأول: الإمامة نعمة على الناس.
الثاني: إن الله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم والعموم.
الثالث: مجئ الإمامة لإبراهيم بالصبر والتقوى وبذل الوسع في مرضاة الله عز وجل، وقد فاز المسلمون ببلوغ مراتب الصبر والتقوى.
الثالثة عشرة: بيان القبح الذاتي والعرضي للظلم، وما يسببه من الضرر لأهله.
الرابعة عشرة: في الآية إنذار من الظلم، وإخبار عن الحرمان من العهد وما فيه من الإكرام لمن يختار الظلم، ويظهر الظلم في قوله وفعله.
الخامسة عشرة: بيان عظيم منزلة ذرية إبراهيم الذين تقيدوا بأحكام الشريعة، وسنن التوحيد.
الآية لطف
تبين الآية أن الإمامة خير محض، وانها وسيلة مباركة لجذب الناس لسبل الهداية، وهي حجة على الناس والإمامة لطف من الله عز وجل لهداية الناس وإصلاحهم للإيمان والخشية من الله عز وجل، لتكون الحجة على الناس من وجوه:
الأول : بعث الأنبياء والرسل.
الثاني : تنزيل الكتب السماوية من السماء.
الثالث : الإمامة للناس جميعاً،وقد يبعث النبي لقريته،أوقومه أو بلدته، ولكن الإمامة جاءت في هذه الآية للناس جميعاً، لتكون حجة، ومن إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً أن نبوته عامة ورحمة للناس، قال تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
الرابع: نعمة العقل عند الإنسان كحجة ذاتية تدعوه للإقرار بالعبودية لله عز وجل.
الخامس: الآيات الكونية غير المتناهية التي تطل على الناس، وهي على وجوه:
الأول: الآيات الثابتة كالسماء والأرض.
الثاني:الآيات الدائمة والمتجددة كالشمس والقمر والنجوم.
الثالث: الآيات في ذات الناس ومجتمعاتهم، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
الرابع: الآيات الشخصية، والبراهين الخاصة التي تكون كالضياء المبارك بين الله والعبد لجذبه لمنازل الإيمان، وتكون كاشفاً لقبح المعصية ولزوم النفرة منها.
ولا ينحصر اللطف في هذه الآية بإمامة إبراهيم بل يشمل أموراً:
الأول: دعاء إبراهيم أن تكون الإمامة في ذريته وفيه رحمة بأهل الأرض بأن تكون الإمامة مصاحبة لهم كعون وسبب سماوي لجذب الناس للهداية والإيمان.
الثاني: إستجابة الله عز وجل لدعاء إبراهيم في ذريته الصالحة.
ولم تذكر الآية قيد الصلاح في الذرية، ولكنه ظاهر بمفهوم خاتمة الآية من حجب الإمامة عن الظالمين، إذ أنه يدل على نيل المؤمنين لها، ويحتمل نيل الذرية الصالحة لمرتبة الإمامة وجوهاً:
الأول: لابد من الإختيار والإمتحان بالكلمات التي إمتحن الله عزوجل بها إبراهيم عليه السلام، وكأن إبراهيم عليه السلام علم أن الإمامة نعمة متجددة على الأتقياء من أهل الأرض فسألها لأولاده من بعده.
الثاني: عدم إختبار الذرية بكلمات من عند الله، لأن إمامتهم جاءت إستجابة لدعاء إبراهيم،، والله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم.
الثالث: إمتحان الله لذرية إبراهيم بكلمات غير الكلمات التي إمتحن بها إبراهيم عليه السلام تخفيفاً، ولمقام دعاء إبراهيم وإستجابة الله عز وجل له، ولأن الله عز وجل هو الرؤوف الرحيم.
الرابع: موضوع إستجابة الدعاء في الآية ليس الإمامة بل العهد، وهو أعم من الإمامة.
والصحيح هو الأول والرابع، وكأن هناك ملازمة بين الإمامة والإمتحان بذات الكلمات.
إفاضات الآية
لقد خلق الله عز وجل الناس لعبادته، وإعمار الأرض بذكره، وجاءت هذه الآية للإخبارعن الإمامة كوسيلة مباركة لجذب الناس لمسالك الإيمان، وبرزخ دون الوقوع في الهلكات، وإشراقة عقائدية تطل على الناس من منازل الرئاسة لمنع إتباع الهوى، وهي حرب على أقطاب الضلالة.
ومن بديع صنع الله إختيار الرئاسات بين الناس بصيغة الإيمان، وبعد الإمتحان والإرتقاء في منازل التقوى وبلوغ درجات اليقين، وإبتلاء إبراهيم بالكلمات رحمة من الله عز وجل به وبالناس جميعاً.
وقدمت الآية المفعول وأخرت الفاعل بقوله تعالى[ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ] وفيه إشارة إلى الرحمة والرأفة الإلهية في الإبتلاء موضوعاً وكلمات وأثراً، وفيه دلالة على إعانة الله عز وجل لإبراهيم في التوفيق في تلقي وإتمام الكلمات، وليكون هذا الإبتلاء نعمة وفيه السعي في دروبه لذة السعي والإجتهاد في طاعة الله والفوز بمرضاته.
فلم تقل الآية (وإذ إبتلى الله إبراهيم) بل ذكرت الآية صدور الإبتلاء من مقام الربوبية.
وتبعث الآية الشوق في نفس المؤمن لتلقي الإبتلاء والسعي للنجاح فيه، والحرص على إتمام الوظيفة العبادية، مع الإقرار بأن هذا الإبتلاء لطف ورحمة من عند الله، ومدخل لنيل المراتب العالية لقوله تعالى بعد توفيق إبراهيم في الإبتلاء[إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا].
وهل تشمل الآية ومضامين الإبتلاء النساء الجواب نعم، كما في قوله تعالى[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( )، وجاء الخطاب التكليفي في العبادات شاملاً للرجال والنساء، وأن كان هنالك إختصاص في موضوع النبوة والإمامة.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدات الآية بإمتحان الله عز وجل لإبراهيم، ويحتمل هذا الإمتحان وجوهاً:
الأول: إكرام وتشريف إبراهيم.
الثاني: بيان إستعداد إبراهيم للإمتحان.
الثالث: دعوة المؤمنين للإقتداء بإبراهيم في تلقي الإبتلاء بالقبول والرضا، والإجتهاد في التوفيق فيه.
الرابع: أراد الله عز وجل بيان حسن إنصياع وطاعة إبراهيم لله عز وجل.
الخامس: إنعدام الحواجز والبرزخ بين الله عز وجل وبين أوليائه.
السادس: حاجة الناس للإمامة والزعامة الصالحة التي تقودهم إلى سبل الخير والفلاح.
لقد جعل الله عز وجل الحاجة ملازمة لعالم الإمكان، والإنسان من الممكنات فهو محتاج، ومن رحمة الله عز وجل به عدم تركه في تيه وضلالة وعاجزاً عن إدراك وظائفه التي خلق من أجلها، إذ تفضل الله عز وجل وجعل للناس إماماً.
التفسير الذاتي
هذه الآية هي آية الإمامة لما فيها من إصلاح وإعداد لإبراهيم لمقام الإمامة بعد الإمتحان والإبتلاء، وقد ورد في مدح المؤمنين قوله تعالى [وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا]( )، والمراد الجمع أئمة تذكر لغة المفرد لإرادة الجنس والسنخية الواحدة التي يقتدى بها.
وعن محمد بن كعب : ليس شيء أقرّ لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله( ).
وقد ورد لفظ (مقام إبراهيم) مرتين في القرآن، قال تعالى [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ]( )، ويفيد الجمع بين الآيتين وجوهاً:
الأول: إن مقام إبراهيم آية من عند الله عز وجل.
الثاني: بيان قرب آيات الله من المؤمنين.
الثالث: المنزلة والشأن الثواب العظيم المترشح عن الصلاة في مقام إبراهيم.
الرابع: موضوعية مقام إبراهيم في تحصيل الأمن لأنه مكان خاص بالعبادة والدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، والصلاة ذاتها أمن، وباعث على الأمن.
الخامس: جعل الله عز وجل آية في المقام مكان آمن إعانة للمسلمين في العمل بأحكام هذه الآية إذ أن الأمر الإلهي (إتخذوا) يدل على بقاء المقام إلى يوم القيامة بفضل وعناية من عند الله.
التفسير
قوله تعالى[ وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ]
الآية بيان لنعمة عظيمة خاصة وعامة، خاصة لإبراهيم عليه السلام وعامة للناس جميعاً، وسميت النعمة ابتلاء لما فيها من الإختبار والإمتحان والنفع العظـيم وما سـيؤول إليه أمـر الناس فيها، اذ ان الإمامـة ابتـلاء للناس جميعـاً، يفـوز من يؤمن بها، ويبتلى ويخسر من يكفر بها ويجحدها كالخلافة بالنسبة لآدم عليه السلام انها قضية شخصية له ولكنها ابتلاء للناس جميعاً، والأصـل في الدنيا انهـا دار ابتلاء وامتحان.
يعتـبر تعرض الآية لإبراهيم عليه السلام مسألة ذات أهمية عامة فكما خصه الله عز وجل بالابتلاء والإجتباء فان موضوعه مسألة إختبار عند المسلمـين وكـل من يحيـط بهـم في بدايـة الدعـوة فهـو جـد النـبي صـلى الله عليه وآلـه وسلـم والذي دعـا لـه وهيـئ لـه من اسباب النبوة ومن فرائض الاسلام، ولم تستوف مسألة وجود البيت قبل النبي محمد صـلى الله عليه وآله وسلـم حقها، وما لها من الأثر في استجابـة المسلمـين لفريضـة الحج والفرائض الأخرى، بل وما له من نفع في بدايات الدعوة واتصـال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقبائل والجماعات أثناء موسم الحج.
كان الجميع معترفاً بفضل ابراهيم ويدعي الوصل به ومحاولة محاكاته او الاعتزاز باظهار الانتساب له فحتى المشركين من قريش كانوا يتباهون بأنهم وُلده وان ذلك يؤهلهم لسدانة البيت الحرام.
واليهود اولاده، والنصارى يفتخرون بانتساب عيسى عليه السلام إليه من طرف مريم، فأراد الله عز وجل ان يرفع الوهم وينقح صِلاتُهم مع ابراهيم لتكون مبنية على موضوع تشريفه واسبابه، فمثلما افردتم ابراهيم عليه السلام من بين ما لكم من الآباء من الأب الصلبي الى آدم عليه السلام فلابد ان تلتفتوا الى علة تفضيله وبماذا وكيف انفرد بهذه المنزلة الرفيعة في تأريخ الأديان.
ومع هذا التشريف افتتحت الآية بابتلاء ابراهيم عليه السلام، لا لصـرف النظـر عن الغلـو فيه ولكـن لمنع الافتخار به بغير الإيمان والتقوى، ولبيـان ان المنازل الرفيعة لا تنال بالوراثة او النسب بل بالعمل والصبر.
وهـذا مـن اعجـاز القـرآن أي الإحـتجـاج علـى اهـل العنـاد والجحـود بـذات الأمـر الـذي اتخــذوه ذريعـة لإمتناعهـم وصــدودهم عن الإسلام.
لذا تتضمن هذه الآية قصة من أشرف قصص القرآن فهي تحكي امتحان نبي واختباره لتدل بالدلالة التضمنية على ان الأنبياء نالوا تلك المنازل العالية بالإسـتحقاق والجهاد وانهم لم ينجوا من البلاء بل تعرضوا لاشد صـنوفه واكثرها صعوبة وامتحاناً سواء كان ذلك بالإختبار او بالأذى من الناس في دعوتهم الى الله، ثم بيّن سبحانه ان التوفيق وحسن الإمتثال في اشــق الأعمال باب يؤذن من خلاله للعبد بان يسأل الله ويطلب الحاجات العظام بعد استعداده للتضحية وخوضه غمار بحار الجهاد.
ويحتمل أوان دعاء إبراهيم وجوهاً:
الأول: قبل أن يولد له إبنه الأول.
الثاني: عندما جاءت الملائكة تنقل البشرى بالوعد لإبراهيم [وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى]( ).
الثالث: بعد أن ولد له إسماعيل من زوجته هاجر
الرابع: بعد أن ولد له إسماعيل، وبعد أن ولد له إسحاق من سارة.
ومن خصال الأنبياء الإلحاح بالدعاء فلا مانع من تعدده قبل وبعد رزق الله عز وجل إبراهيم ولديه إسماعيل وإسحاق لظاهر الآية الذي يدل على وجود الذرية وعلى نحو متعدد لمقام حرف الجر (من) فجاء الإيجاب من عند الله عزوجل بإستثناء الظالمين[لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]وفيه بشارة أخرى وهي كثرة نسل وذرية إبراهيم وتعاقبها، وبيان أن الله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، فصحيح أن البشارة جاءت بإسحاق إلا أنها أعم وتشمل ذرية إسماعيل وإسحاق معاً والله واسع كريم.
قوله تعالى [بِكَلِمَاتٍ]
الكلمات الواردة في الآية ذكرت فيها وجوه:
الأولى : ما رآه ابراهيـم عليه السلام في نومه من ذبح ولـده اسماعيل عليه السلام فاتمها ابراهيم وعزم عليها وسلم لأمر الله فلما عزم قال الله ثوابـاً له لما صـدق وعمل بما أمره[إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا]( ) وهو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام.
الثانية : سنن الطهارة وهي عشرة اشياء خمس منها في الرأس وخمسة منها في البدن، فأما التي في الرأس فأخذ الشارب واعفاء اللحى وطمّ الشعر والسواك والخلال، وأما التي في البدن فحلق الشعر من البدن والختان وتقليم الاظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء، وقيل هي الحنيفية، والأنسب انها مصاديق الحنيفية الظاهرة، وهذه فريضة في شرعه كما عن ابن عباس.
وكان العرب يطلقون اسم “الحنيف” على من كان على دين ابراهيم عليه السلام كعنوان للاستقامة وقبول الحق. والابتلاء بهذه الكلمات بلحاظ موضوعها وهو تطهير البدن لتكون دعوة للناس خاصة من يتبع وينتسب الى إبراهيم عليه السلام إن يحرص على النظافة ويجتنب التلطخ بالدماء ودنس الذنوب التي تمنع الانسان من الارتقاء في عالم الملكوت ورؤية الآيات التي جـاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلك التي تحرم الإنسان من البصيرة التي تؤهله لادراك الحقائق والمعارف الإلهية وتكون في الآخرة حاجباً دون دخول الجنة.
الثالثة : الابتلاء في الدين وتحصيل العلم الكسبي بالاستدلال والنظر في الكواكب والشمس والقمر وما إحتج به إبراهيم عليه السلام على الكفار والمشركين بما في ذلك ملك زمانه.
الرابعة : الإلقاء في النار والصبر على الأذى في جنب الله.
الخامسة : انفراده بين قومه برفع لواء التوحيد والثبات على الإيمان من غير ان تثبط عزيمته بسبب وحشة الطريق وطول المسير.
السادسة : التكاليف العسيرة خصوصاً وان الانفراد يزيد من شدتها.
السابعة : بناء البيت وأداء مناسك الحج وسكن ولده وزوجه في تلك البقعة النائية.
الثامنة : بالاسـناد عـن المفضـل بـن عمـر قـال سـألت الإمـام الصادق عليه السلام: “عن قول الله عز وجل [وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ] ما هذه الكلمات، قال: هي الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام فتاب عليه وهو انه قال: يا رب أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين الا تبت عليّ فتاب عليه انه هو التواب الرحيم”…الحديث.
التاسعة : ان الله عز وجل ابتلى ابراهيم بثلاثين خصـلة من شرائع الاسلام ولأول مرة، أي ليس من أحد قبله ابتلي بها فوفى بهن، وهي عشر آيات في سورة التوبة [التائبون العابدون..]( ) الى آخرها، وعشر في سورة الأحزاب [إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ… ]( ) الى آخرها، وعشر في سورة المؤمنين [ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ… ] الى قوله تعالى[أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ ]( ).
العاشرة : إن الله تعالى أمره بمناسك الحج. وهو المروي عن ابن عباس ايضاً.
الحادية عشرة : ورد عن الإمام الصادق: “ان إبراهيم أول من قاتل في سبيل الله، وأول من أخرج الخمس، وأول من اتخذ النعلين، وأول من اتخذ الرايات.
ولا مانع من ان يكون ذلك من الكلمات التي ابتلي بها لما في الجهاد في سبيل الله من العناء والمشقة والصبر.
الثانية عشرة : انه أول من كُلف بالطاعات الفعلية والشرعية، عن أبي علي الجبائي.
الثالثة عشرة : اعتزاله الناس طاعة لله وبغضاً وازدراء لما هم عليه من الشرك [ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ]( ).
الرابعة عشرة : الكلمات هي الإمامة، قاله مجاهد.
ولا مانع من اجتماع هذه الوجوه وهي مصاديق متداخلة تبين ان منزلة إبراهيم عليه السلام جاءت بعد التكليف والإبتلاء وتحمل المشاق جهاداً في سبيل الله تعالى، لاسيما ان لغة الجمع في ( كلمات ) تفيد في ظاهرها التعدد ذكرت هنا على نحو الإجمال، ويستقرأ منها حصولها في افراد زمانية طولية على نحو التعاقب، ثم ان الإبتلاء مركب من التلقي ومن حسن الإمتثال، وفي الآيات الأخرى التي تتعلق بقصة إبراهيم والسنة النبوية الشريفة بيان وتفصيل لها.
ان ذكر ابراهيم في القرآن يبين ما تحمله في سبيل الله وكيف ان خاتمة جهاده كانت النجاة والظفر، نظر الى الكواكب والشمس والقمر فازداد ايماناً بالله واعلن الوحدانية واظهر الشجاعة بكسر الأصنام مع اقامة الحجة عليهم، كان آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر[إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ]( ) بالإضافة الى محنته وابتلائه في إبنه وصبره على معاملة زوجه سارة معه.
كل عمل وجهاد من إبراهيم عليه السلام ودعوة للإقتداء به فكيف بمن يقول انه ابن إبراهيم ومن نسله ولا يقتدي به، في التوراة في خطابهم لعيسى: اتكون انت اعظم من ابينا ابراهيم الذي مات والأنبياء ايضاً ماتـوا؟ الى ان قـال لهم: وكم تشــوق ابوكـم ابراهيـم ان يـرى يومـي فـرآه وابتهج، وقال: قبل ان يكون ابراهيم انا كائن( ) فأتمهن أي اوفى بهن.
وفي الكلمات التي إبتلى الله بها إبراهيم ورد عن ابن عباس: هي عشر من سنن الإسلام: خمس في الرأس، قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وفي الجسد، تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان ونتف الإبط، وغسل أثر البول والغائط بالماء، أو هي عشر: ست في الإنسان، حلق العانة والختان، ونتف الإبط، وتقليم الإظفار، وقص الشارب، وغسل الجمعة، وأربع في المشاعر: الطواف والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة، أو مناسك الحج خاصة، أو الكواكب، والقمر، والشمس؛ والنار والهجرة والختان، ابتُلي بهن فصبر، أو ما قال الرسول صلى الله وآله عليه وسلم: ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله{الذي وفى}؟
أنه كان يقول كلما أصبح وأمسى{فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} إلى قوله تعالى{تُظْهِرُونَ}، أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما{وَفَّيَ}؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: وفيَّ عمل يومه أربع ركعات في النهار، أو قاله له ربه: إني مبتليك، قال: أتجعلني للناس إماماً، قال: نعم: قال: ومن ذريتي قال: لا ينال عهدي الظالمين، قال: تجعل البيت مثابة للناس قال: نعم، قال: وأمنا قال: نعم، قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك.
قال: وترينا مناسكنا وتتوب علينا قال: نعم، قال: وتجعل هذا البيت آمناً، قال: نعم، قال: وترزق أهله من الثمرات، قال: نعم، فهذه الكلمات التي أبتُلى بها. {إمَاماً} متبوعاً{ عَهْدِى} النبوة، أو الإمامة، أو دين الله، أو الأمان، أو الثواب، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمة، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه)( ).
قوله تعالى [فَأَتَمَّهُنَّ]
فيها أربع كلمات، الفاء حرف عطف، أتم: فعل , والفاعل ضمير مستتر و(هن) مفعول به، واختلف في الضمير المستتر هل يعود للباري عز وجل أم لإبراهيم عليه السلام، ولا بأس من بحث المسألة بلحاظ اللغة والنحو ايضاً فالفاء لها معان منها:
الأول: حرف عطف يدل على الترتيب والتعقيب مع وحدة السنخية والاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه تقول: صليت الظهر فالعصر، ويفيد هنا الترتيب المعنوي أي ان ما بعدها يأتي بعد الذي قبلها من حيث الرتبة الزمانية.
الثاني: ان يكون ما قبلها علة لما بعدها وتسمى بالسببية وتكون (ان) مضمرة بعدها، وهي مع العطف تدل على التعقيب ولكن من غير إشراك للمعطوف مع المعطوف عليه.
وعلى المعنى الأول يعود الضمير المستكن في [ فَأَتَمَّهُنَّ ] الى إبراهيم عليه السـلام، أي انه وفى وامتثـل لم أُمر به على أتم وجه من غير تقصير او تفريط او تردد.
أمـا علـى المعنـى الثانـي فـان الضـمير عائـد للبـاري عز وجـل، أي انـه تعالى أوجـب لـه الإمامـة لم ينقـص منهـا، لأن الكلمـات هي الإمامة.
والأرجح هو الأول أي ان الضمير يعود لإبراهيم فهو الذي أتم الكلمات التي امتحن بها فاستحق منه تعالى الجزاء والثواب في المنزلة والمقام الشخصي وفي الذرية، لبيان عظيم جزائه بعد اخلاصه وعدم تراخيه عن حسن التأدية وتمام الإمتثال. وبالنسبة للثاني فانه تعالى لا يعطي الا التام والأوفى.
قوله تعالى [ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ]
غاية التشريف والاكرام بعد العناء والصبر والتوفيق في الإختبار، جاءته الخلعة الملكوتيـة قبل ان يغادر الدنيا مع انها منبسـطة على الدارين، ولابد ان الإمامة هنا تعني الأهلية لتدبير شؤون الناس وانقيادهم له وإقامة الحدود ومحاربة الكافرين والعمل بأحكام الشريعة من غير ان يكون تبعاً لنبي من قبله بل انه صاحب شريعة.
وتبين الآية ان الإمامة نعمة عظيمة لا تنال الا بالمجاهدة الشديدة والفضل الإلهي وانها رحمة للناس ايضاً، اذ ان النعمة لا تنحصر بصاحبها فقط بل بالناس كمأمومين ومنقادين ومقتدين بافعاله واقواله مما ترى شطراً منه الى اليوم هو باق إلى يوم القيامة.
وبين النبوة والإمامة عموم وخصوص من وجه فقد يكون نبياً وهو ليس بامام وكذا العكس نعم فيما يخص الآية الكريمة اجتمعت النبوة والإمامة التي جاءت بعدها مما يدل على عظيم شرفها، ومنهم من جعل الإمامة ملازمة للنبوة وما تتصف فيه من الإكرام والتشريف.
وعن الصادق عليه السلام: “ان الله عز وجـل اتخذ ابراهيم عبداً قبل ان يتخذه نبياً وان الله تعالى اتخذه نبياً قبل ان يتخذه رسولاً وان الله اتخذه رسـولاً قبل ان يتخذه اماماً فلما جمع له الأشياء[قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ].
وتدل الآية على ان الإمامة لا تنال الا بالنص وانه ليس للناس ان ينالوهـا وان ادعوهـا او سعـوا اليهـا، فقد يكـون الإنسـان كامـلاً في منـازل التقـوى ولكنـه ليس بامام، وقالوا إمكان الإمامة بغـير النص مع التسـليم بأن النص طـريق للإمـامـة، وتبقى الإمامة المقترنة بالنبوة ذات خصوصية تتجلى بالوحي والتنزيل , والمعـروف ان ابراهيـم لم يرزق الولد الا بعد تقدمه في العمر , خصوصاً في اسحاق الذي رزقه الله من سـارة .
والتوبة كافية وماحية للذنوب مطلقاً بدلالة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “الإسلام يجب ما قبله”( ).
وهذا الخبر على فرض ضعف سنده منجبر بالشهـرة بين عموم المسلمين وبدلالة بعض الأحكام عليه، ولكـن الأمـر اجنـبي عن موضـوع التوبـة والإسـتغفـار فانه لا يتعـلق بالمحـو وعدم الإثبـات بل بالأهليـة واللياقـة لأعلى المراتب في سلم الرئاسة الدينية.
وعلى القول الذي عليه الإجماع بان القرآن له بطون فهل يصح حمل لفظ امام على عدة معان متداخلة منها الإقتداء به على الحق والهدى ، وانه من المشترك اللفظي الذي يستعمل في عدة معاني مع تعدد الدال والمدلول وبلحاظ الأمر الخارجي او الإعتباري مما يكون ممكناً في المحاورات , لتكون الإمامة رحمة بأهل الأرض , أراد الله لها أن تبقى بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنته الشريفة.
إن الكلام ظاهر في الحقيقة الشرعية والمعنى الإصطلاحي والقرائن مثل تشريف إبراهيم بالإمامة للناس وان الظالمين محجوبون عنها وانها نوع اكرام وثواب للأنبياء وأتباعهم فلا تصل النوبة الى المجاز والعموم او الى الإشارات والرموز.
وأخبرت الآية بأن إمامة إبراهيم للناس، وفي الألف واللام في(الناس) وجوه:
الأول : إرادة أهل زمان إبراهيم.
الثاني : أهل بيت إبراهيم قال تعالى[رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ]( ).
الثالث : الذين حول إبراهيم.
الرابع : إرادة المؤمنين في زمانه.
الخامس : عموم الناس من أهل زمانه.
السادس : أهل زمان إبراهيم وغيرهم ممن بعدهم.
والصحيح هو الخامس والسادس الأخير , ويمكن تأسيس قاعدة في اللغة أنه لو تردد الأمر في الألف واللام هل هي للجنس الإستغراقي أم العهد، فالصحيح هو الأول إلا مع القرينة الصارفة إلى العهد، نعم قد يكون الألف واللام في القرآن أعم فيتضمن في المقام وجوهاً:
الأول : إرادة الجنس والإستغراقي.
الثاني : المقصود العهد.
الثالث : الجامع للجنس والعهد.
الرابع : إرادة معنى آخر غير العهد والإستغراق، كما لو كان فرد متعدد من أحدهما أو منهما معاً غيرهما، وفي المقام يصح أن يقال أن إبراهيم إمام للناس من غير زمانه، وهو الذي يدل عليه منطوق آيات القرآن، قال تعالى[قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا]( ).
بحث بلاغي
من وجوه البديع (المراجعة) وهن ان يحكي المتكلم محاورة جرت بينه وبين غيره وهذه المحاورة نوع مراجعة بينهما ويحكيها بايجاز غير مخل، وبسبك حسن، والفاظ عذبة.
ومنها قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا]
فقد جمعت الآية على ايجازها بينات ودلالات منها :
الأولى : الإمتحان والإختبار للإرتقاء في مقامات النبوة.
الثانية : الإخبار عن الفضل الإلهي بعلو رتبة إبراهيم .
الثالثة : الوعد الكريم في الدنيا.
الرابعة : الوعد والوعيد، والبشارة لمن يمتثل للأوامر الإلهية، والوعيد لمن يفعل المعاصي من الظالمين.
قوله تعالى [قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ]
الكلام لإبراهيم عليه السلام أي انها معطوفـة على الكاف، فقـد سأل اتصال فضل الله تعالى أي انه لم يسـأل مسـألة جديدة، فقد أنعم الله عز وجل بالإمامة على نحو القضية الشخصية فأراد إبراهيم ان تكون على نحو القضـية الجزئية الموجبة لأن التبعيض بحرف الجر ( من ) كالسور لها.
وهذا السؤال والتوسل هو نعمة من حيث الاذن به كما يدل على أهلية إبراهيم عليه السلام للإمامة لما في السؤال من العناية بأمور الأمة وإضطلاعه النبي الإمام بمسؤوليات حفظ الشريعة والسعي الحثيث والمتشعب في تعاهد كلمة التوحيد في الارض.
لقد أرادها ابراهيم لأولاده في بطونهم اللاحقة ولكن الآية تعني انه سأل حصرها بهم، لذا فأن تخصيصهم بالمسألة لا يعني انه سألها بما غرس في النفس من حب الولد لأمرين:
الأولى : ان الإمامة حاجة للناس، وفرع الإرادة التكوينية والتشريعية.
الثانية : انه سأل الإمامة لذريته من خلال اشتراكهم معه في الامتحان والاختبار، كما في قوله تعالى [ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ]( ).
فالآيات التالية تدل على اعداد إبراهيم عليه السلام لأولاده في تحمل مسئوليات الإمامة لاسيما وان طريقها الجهاد والصبر والتكليف بالمشاق، كما تظهر الآية ان سؤاله هذا كان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ…]( ) الآية.
وقيل ان هذا من إبراهيم عليه السلام على نحو الاستخبار ليعرف هل تصيب الإمامة بعض ولده، وهو خلاف الظاهر ومضامين الدعاء بالاضافة الى ما كان لإبراهيم عليه السلام من الخلة ودرجة القرب من عالم الملكوت, ولكنه دعاء ومسألة[إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
بحث كلامي
كـلام الله تعـالى حـروف منظومة واصوات مقطعة او هو عرض يخلقه الله سبحانه في الأجسام على وجه يكون مسموعاً ويفهمه المخاطب.
ومن صفات الله تعالى انه متكلم فكلامه صفة قائمة بذاته سبحانه ليست بحروف ولا صوت، وقيل انه متكلم بمعنى انه يخلق في ذات النبي القدرة على سماع صوت منظوم من غير ان يكون لهذا الصوت وجود خارجي، والحق انه أعم من ذلك.
وذهب الكرامية الى ان كلامه تعالى حادث وادعوا انه قائم بذاته، ولكن الحوادث لا تجوز على واجـب الوجـود لأن التغير علامة الإمكان، أما المعتزلة فذهبوا الى انه أصوات وحروف خلقها الله في بعض ملائكته او بعض انبيائه.
ونسب الى الاشاعرة انهم قالوا الكلام صفة قائمة بذاته تعالى ولكنهم قالوا بالمعنى أي ان الكلام غير العلم والإرادة وغيرها من الصفات وما دام معنى واحداً فهو ليس بأمر ولا نهي ولا خبر ولا انشاء ونحوه من الصيغ والألفاظ، وان كلامه تعالى صفة أزلية تجلت بالقرآن، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ومعنى انه متكلم انه فعل الكلام فالكلام كالضياء بالنسبة للشمس، وهو قائم بغيره والله عز وجل قـادر على كل شـيء يخلق الاصوات حيث يشاء وبما يدل على المراد، وقد صدر الكلام بأمره تعالى من الشجرة فوعاه موسـى عليه السلام، والكلام ليس من الصفات الذاتية بل هو من صفات الافعال.
ومن اقسام تلبس الموضوع بالمحمول ما تلبس به في الماضي وانقضى تلبسه عنه كالمحال على المعاش بعد ان غادر المهنة، وهذا الفرد من اقسام المشتق هو الذي اختلف فيه والأنسب أنه مجاز، وعن جماعة ان الإطلاق فيه حقيقي والنزاع صغروي، اذ ان القائل بالحقيقة في الأخير قال بكفاية صرف وجود التلبس وان صار في حال الإنقضاء ولم يعتبر الزمان في البحث.
وقد اتفق الأصوليون على ان معنى المشـتق بسـيط لحاظاً واعتباراً وان إنحل بالدقة العقلية، كقولك قاض عرض حل في محل، ولا اعتبار للدقة العقلية هنا، اما موضـوع الإمامة فهو مركـب ومتعدد الوجوه ثم انه حكـم الهي يتعـلق باعلـى مراتب الأنظـمة التكوينية والكونية فلا معنى لإخضاعه لقواعد لم تثبت كليتها وعموماتها ولمبحث أصولي مختلف فيه.
وهو أجنبي عن موضـوع التوبـة، فالتوبة عنوان لرفع العقاب لا ان يعطي اهلية للتائب، وهو رفع للمانع وليس ايجاداً للمقتضي ايضاً والا كان من باب أولى ان ينالها من لم يذنب اصلاً فيكون هو الأكثر أهلية لإتصافه بالطاعة والإلتزام من أول عمره إلى آخر حياته، الا ان يقال بان التوبة كافيـة بفضله تعالى للأهلية للإمامة وحصول المحو وهو امر غير مسـتبعـد في عالم الامكــان لأن فضل الله تعـالى ليس لـه حد منظور.
وفي الآية نكتة وهي بلوغ إبراهيم عليه السلام لأعلى مراتب القرب من الباري عز وجـل بحيث تعدى في سـؤاله الى غيره، وهذا السؤال نوع شفاعة، أي يمكن ان نســتنتج منه مسـألة وهي إمكان نيل الدرجات العليا في الدنيا بالشفاعة وان موضوع الشفاعة لم ينحصر بالآخرة، وهذا من اعجاز الآية المكنون، كما يدل عليه دعاء ابراهيم عليه السلام لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعض الشواهد القرآنية منها[ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ]( ) وفيه تأديب وتعليم لنا بالتعميم في الدعاء ليشمل المعدوم.
والآية تدل على موضوعية الإمامة وعظيم نفعها ويلاحظ هنا عدم لحاظ الإنحصار الزماني فالزمان منصرم وليست من وحدة اعتبارية ملحوظة اذ ان الإمامة جاءت هنا بصيغة اسم المصدر لأنه ورد باعتباره موجوداً من غير ان تلحظ جهة الحدوث.
اما المصدر فهو الذي يدل على الحـدث بلحاظ الحدثيـة مع قطع النظر عن اضـافته الى الفاعل، والمصادر خارجة عن محل النزاع في المشتق لعدم حملها على الذات وكذا الأفعال، والمعروف ان الفعل الماضي مشـتق من المصـدر والمضارع من الماضي، واسم الفاعل والمفعول من المضارع، والتثنية والجمع من المفرد وان لم يثبت دليل بعضها او فيه خلاف.
والآية تدل على حاجة الناس الى الإمامة في امور الدين والدنيا كما وتبين في ظاهرها أن الإمامة لا تأتي بواسطة الإختيار من الناس انها امر يرجع الى الباري عز وجل مما يدل على اهميته. ونسب الرازي الى أهل التحقيق ان المراد من الإمام ههنا النبي واستدل عليه بوجوه أي بينهما عموم وخصوص مطلق وتداخل.
والإمامة خلق وتعليم وتنزه قال رجل لعلي بن الحسين عليه السلام أجلس حتى نتناظر في الدين فقال: يا هذا انا بصير بديني مكشوف على هداي فان كنت جاهلاً بدينك فاذهب فاطلبه ما لي وللمماراة، وان الشيطان يوسوس للرجل ويناجيه ويقول: ناظر الناس لئلا يظنوا بك العجز والجهل( ).
وتبين الآية عظيم نفع الدعاء والمسألة، وعن الإمام الصادق عليه السلام: إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون، وعنه عليه السلام: ان هذا العلم عليه قفل ومفتاحه المسألة.
فالآية حث على المسألة والاشتغال بالدعاء.
وتدل الآية على عظيم الثواب عند الإخلاص في العبادة وتعديه الى الغير من المتعلقين والحفظ في الذرية قال تعالى[وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ]( ) يعني الإمامة جعلها الله في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتجلت بالآيات الباهرات التي جاء بها.
قوله تعالى [قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]
قاعـدة كلية في المعـارف الإلهية وهي ان الظالم لا يتولى حمل الإمامة لعدم الأهلية وما يؤدي اليه ذلك من خلل في وجوه الامتثال العام.
والظلم هو التعدي وتجاوز الحد وهو من الأمـور المشكـكة وله مراتب متفاوتة ولكن الآية جاءت على نحو الإطلاق في بيان وذم ضرره وبما ان الإنسان معرض للخطأ والزلل فلابد ان الآية تشير ضمناً الى العصمة وجاء القرآن والكتب السـماوية ببيان قبح الظـلم، اما هذه الآية فبينت الآثار السلبية له في الحياة الدنيـا باعتـباره مانعـاً من نيل مراتب التقوى.
انهـا توثـق حقيقة وهي ان الظلم يحجب الإنسان عن تلمس دروب الهداية والرشـاد لنفسه فيكون بالضرورة عاجزاً عن ايجادها لغيره وهي ارشاد الى نبذ الظلم، ومنصب الإمامة رفع للظلم فكيف يتولاه الظالم.
ويتضمن الجواب الإلهي بابراهيم فلم تقل الآية أن أولاد إبراهيم منهم من يكون ظالماً،ومتخلفاً عن منازل الإمامة والعهد، بل ذكرت قانوناً ثابتاً في الإرادة التكوينية، ويفيد القبح الذاتي والعرضي للظلم، وحجب صاحبه عن منازل الرفعة والشأن.
وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على التحذير من الجحود بالنعم، ومن التوكل على منزلة الأباء وشفاعتهم والذي جاءت به الآية السابقة.
ولم يسأل إبراهيم الإمامة لكل ذريته، بل سألها لبعضهم لقيد حرف التبعيض (من) في قوله تعالى [مِنْ ذُرِّيَّتِي] فلماذا جاء الجواب بقانون ثابت، مع أن الشواهد تدل على تحقيق دعاء إبراهيم ونيل بعض أولاده وذريته مرتبة الإمامة والتي تتوجت ببلوغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مراتب الكمالات الإنسانية، والرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا، وختم النبوات، والجواب من وجوه:
الأول: الإخبار عن وجود ظالمين لأنفسهم في ذرية إبراهيم، وهم الذين جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكأن الآية تقول: إستجيبت دعوتك، وسينال بعض ذريتك الإمامة، ولكن من ذريتك من يظلم نفسه بالجحود بها، ولعل في الآية إشارة إلى حصول الإنقسام في ذرية إبراهيم وفي ذرية إبراهيم وإسحاق , قال تعالى [وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث والإشارة إلى الظالمين تحذير الذين يجحدون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي خاتمة الآية إنذار لذرية إبراهيم من التخلف عن إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن إمامته بدعاء أبيهم إبراهيم، وهومن مصاديق ما جاء في الآية السابقة [وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ]( )، لأن الله عز وجل أقام عليه الحجة بلزوم نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه إمام الناس جميعاً بدعاء أبيهم إبراهيم.
الثاني: الإنذار من محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وهل من تداخل موضوعي بين إمامة إبراهيم وقوله تعالى[ ْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا]( )، الجواب نعم، فالأصل أن تتلقى وتلتقي ذرية إبراهيم في كلمة التوحيد، ونبذ الشرك الذي هو أقبح أفراد الظلم.
الثالث: دعوة بني إسرائيل لبيان البشارات التي جاءت مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية.
الرابع: الحث على تلاوة الكتاب والتدبر بآياته، وهو مرآة الإمامة.
الخامس:التحذير من الظلم مطلقاً.
السادس: عدم الإتكال على البنوة للأنبياء، ولابد من الإستعداد ليوم القيامة بالإيمان والعمل الصالح.
ورد في كتاب البصائر عن الباقرين عليهما السلام: المرسلون على أربع طبقات، فنبي تنبأ في نفسه لا يعدو غيرها ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ويعاين الملك وقد أرسل إلى طائفة قلوا أو كثروا كما في قوله تعإلى[وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ]( )وقال: يزيدون ثلاثين الفاً. ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل أولي العزم، وقد كان إبراهيم نبياً وليس بامام حتى قال: [إِني جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ]( ).
قوله تعالى[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] الآية 125.
الإعراب واللغة
وإذ: الواو: حرف عطف، إذ: ظرف لما مضى من الزمان، وقيل حرف تحقيق.
جعلنا: فعل وفاعل، البيت: مفعول أول، للناس: جار ومجرور.
مثابة: مفعول ثان لجعلنا.
وأمناً: الواو: حرف عطف، أمنا: معطوف على مثابة.
واتخذوا: الواو: حرف عطف، إتخذوا: فعل أمر مبني على حذف النون، الواو: فاعل، من مقام: جار ومجرور متعلقان باتخذوا.
إبراهيم: مضاف إليه مجرور بالفتحة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة كما قيل.
مصلى: مفعول إتخذوا.
وعهدنا: الواو: حرف عطف، عهدنا: فعل وفاعل.
إلى ابراهيم: متعلق بعهدنا.
وإسماعيل:عطف على إبراهيم، وفيه لغة أخرى وهي اللام والنون أي “إسماعين”، وهي لغة بني أسد( ).
أن طهرا: أن مصدرية، طهرا: فعل أمر مبني على حذف النون.
ألف الإثنين: فاعل، والمصدر المؤول في موضع نصب بنزع الخافض.
بيتي: مفعول به مضاف، الياء: مضاف اليه.
للطائفين: جار ومجرور، متعلقان بطهرا.
والعاكفين والركع السجود: عطف على الطائفين، ويجوز أن يكون السجود نعتا للركّع.
ومن الإعجاز أن لا يأتي حرف عطف بين الركع وبين السجود، وفيه إشارة إلى إتحادهما وانها يدلان على ماهية واحدة هي الصلاة، وأنهما عمل عبادي في أيام ابراهيم بلحاظ المعنى الأعم للآية وهو من مصاديق ملة إبراهيم، قال تعالى[بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا]( ).
وفيه دلالة بأن عمل إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت مقدمة لعمارة المسلمين له، وهو من المصاديق العملية لدعوة إبراهيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الأنبياء مع الدعاء يعملون ويجاهدون كما في نوح عليه السلام فمع الدعاء والإنذار كان يصنع السفينة.
وثاب الرجل يثوب ثوباً وثواباً رجع بعد ذهابه، وتاب وثاب وأناب بمعنى واحد في الجملة، وثاب الناس إجتمعوا وجاءوا، ويطلق على الماء المجتمع في الحوض ونحوه وقال ابن منظور: وإنما قيل للمنزل مثابة لأن أهله يتصرفون في أمورهم ثم يتوبون إليه، والجمع المثاب.
وأنشد الشافعي بيت أبي طالب:
مثابا لافثاء القبائل كلها … تخب إليه اليعملات الذوامل( ).
الذوامل من الإبل جع ذاملة المعينة، والذميل ضرب وسير الإبل وهو السير اللين، وأقل منه العَنق وأسرع منه الرسيم.
ويقال طاف بالبيت واطاف عليه أي دار حوله.
وقال أبو خراش:
تطيف عليه الطير وهو مُلًحَّبُ
خلاف البيوت عند محتمل( )
والطواف بالبيت: الدوران حوله، وعكف على الشيء يعكف عكفاً وعكوفاً: أقبل عليه مواظباً لا يصرف عنه وجهه، والعكوف: الإقامة في المسجد، والإعتكاف: الإحتباس، وكأنه حبس نفسه في المسجد والإقامة على العبادة.
بحث بلاغي إعجازي
في الآية إنتقال من لغة الغائب إلى الخطاب، ومن خطاب الجماعة الحاضرة إلى ذكر الخطاب بالماضي بلغة الاخبار الذي يتضمن الإنشاء وبما يسمى في البلاغة بالإلتفات، ومن فوائـده عـذوبة الكلام ومنع السمع من السأم، وترك السياق والطريقة الواحدة لما قد تبعثه في النفس من الضجر، وعدم المتابعة.
أما في القرآن فالأمر أعم من إحاطة أحكام البلاغة به إنما الإلتفات وجه من وجوه الإعجاز القرآني بل له دلالات عقائدية في كل حالة، وهو مناسبة لإستنباط المسائل ووجوه الحكمة بالإضافة إلى الإعجاز البلاغي فالإهتمام بالبلاغة يجب أن لا يحول دون الفهم التام للآية وإستظهار المعاني الأعم من القواعد البلاغية.
في سياق الآيات
جاءت الآية السابقة بالفصل في تحديد الصـفات والأهلية لمقـام الإمامة إنتقلت هـذه الآية لبيان عظيم ما رزق الله المسلمين من جهة المقام والموضـع ومن بيان الأنبياء للمسلمين كيفية عباداتهم ومناسكهم، وفيها بيان بأن إبراهيم أقرب للمسلمين إن تعاهد منسـكاً يلتزم علـى الدوام فحافظ عليه المسلمون بافتخار وحسن امتثال وهذه هي الآية الثانية التي تتحدث عن إبراهيم عليه السلام، ولكنها ذكرت البيت الحرام وهو موضوع هذه الآية، وذكر فيها إبراهيم مرتين لبيان وظائفه العقائدية وسنن الإمامة ومنها في المقام:
الأول: بيان موضوعية مقامه في مناسك الحج، وخلود ذكره بين أجيال المسلمين.
الثاني: الأمر الإلهي إلى إبراهيم وإسماعيل بتهيئة وتطهير البيت لإستقبال وفد الحاج والمعتمرين.
وجاءت هذه الآية التي تبين وظائف إبراهيم عليه السلام متعقبة لآية إتخاذه إماماً وفيه دلالة على تجلي المصداق الخارجي للفضل الإلهي، وحضور الشاهد على المرتبة التي ينعم بها الله عز وجل على من يشاء من عباده الصالحين، وهو من أسرار ورود صيغة العموم والجنس في الألف واللام في قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا]( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين بخصوص ذرية إبراهيم دعوتهم لتعاهد أحكام الإمامة وأعباء تطهير البيت الحرام، وجاء ذكر إسماعيل للدلالة على قبول ودعوة إبراهيم لنيل ذريته مرتبة الإمامة، وليس من فترة ومدة بين أمور ثلاثة:
الأول: دعاء إبراهيم(ومن ذريتي) المذكور في الآية السابقة.
الثاني: إستجابة الله عز وجل لإبراهيم.
الثالث: المصداق الخارجي لإستجابة الدعوة بإشتراك إسماعيل في العهد الإلهي لإبراهيم بتطهير البيت، وفي الآية نكتة عقائدية من وجوه:
الأول: إبتدأت ذرية إبراهيم عليه السلام بالصالح المؤهل للإمامة وليس الظالم.
الثاني: المسؤوليات العظيمة لإبراهيم وإسماعيل في تطهير البيت وتعدد الذين يعمرون البيت الحرام صفة ومصدايق وأفراداً.
وإبتدأت الآية السابقة بذكر إبراهيم وتتصف بدايتها بأنها كلام ودعاء لإبراهيم عليه السلام لبيان حقيقة.
وبعد أن سأل إبراهيم بقاء الإمامة في ذريته، وجاءت الآية السابقة بالأمر بتعاهد البيت الحرام وذكرت أن الذين يعمرون البيت الحرام على ثلاثة أقسام:
الأول: الذين يطوفون به الطواف الواجب والمستحب، وفي أيام الحج وباقي أيام السنة، قال تعالى[الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ] ( ).
الثاني: الذين يعتكفون في المسجد الحرام.
الثالث:المصلون الذين يؤدون الصلاة الواجبة سواء صلاة الفريضة أو الطواف أو ما وجب بالعرض كالنذر واليمين، أو صلاة النافلة، فجاء دعاء إبراهيم لمكة وأهلها ومن يدخلها حاجاً أو معتمراً أو زائراً، لبيان حقيقة وهي من خصائص الإمامة الدعاء للناس، والرأفة بهم، وقد تقدم أن معنى اسم إبراهيم هو الأب الرحيم .
وجاء الدعاء مقيداً بالإيمان بالله ويوم الحساب وفيه دلالة على أن رحمة الله عز وجل أعظم وأكبر إذ أنه سبحانه يرزق الناس، البر والفاجر، أما الجزاء والحساب والعقاب ففي يوم القيامة.
وإذ ذكرت هذه الآية فضل الله عز وجل في جعل البيت الحرام أمناً ومقاماً كريماً فانه جاء بعد آيتين قوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ]( )، لبيان جهاد إبراهيم في سبيل الله، وإمامته للناس بتعاهد سنن العبادة في الأرض وعمارة المسجد الحرام، ومع مجيء الآية السابقة بنيل إبراهيم عليه السلام مرتبة الإمامة، فقد جاءت الآية أعلاه ببذل إبراهيم وإبنه إسماعيل الوسع في طاعة الله وتثبيت معالم الدين.
[وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ…….]( )
الصلة بين هذه الآية والآية السابقة، وفيها مسائل:
الأولى: إتحاد جهة الخطاب في الآيتين، إذ تتوجه كل واحدة منهما إلى المسلمين والمسلمات بأجيالهم المتعاقبة.
الثانية: في الآيتين مجتمعتين ومتفرقتين تأديب للمسلمين، وإرشاد لهم لسبل الرشاد والنجاح.
الثالثة: بين الآيتين عموم وخصوص من وجه من جهة الموضوع، فمادة الإلتقاء هي السعي في سبيل الله، ومادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول: أن آية البحث تتضمن الأمر بالإنفاق والبذل في سبيل الله، أما آية السياق فتتضمن الأمر بالجهاد والدفاع في الشهر الحرام.
الثاني: ورد الإنفاق على نحو الإطلاق من غير تقييد، أما الدفاع في الشهر الحرام فمقيد بتعدي الكفار وإبتدائهم القتال فيه.
الثالث: عدم حصر الإنفاق في زمان مخصوص، أما آية السياق فجاءت بخصوص القتال في الشهر الحرام على نحو الحصر والتعيين، وورد لفظ الشهر الحرام بصيغة المفرد لإرادة اسم الجنس منه والمراد الأشهر الحرم وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة، وشهر رجب، وهل تنحصر بسنة واحدة كسنة النزول.
الجواب لا، بل المراد تجدد الأشهر الحرم في كل سنة، ومن منافع هذا الإطلاق الزماني أمور:
الأول: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الثاني: صيرورة المسلمين في حال من اليقظة والفطنة، قال تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( ).
الثالث: تفويت الفرصة على الكفار بمباغتة المسلمين في الشهر الحرام لأنهم لا يقاتلون فيه.
الرابع: بيان عظيم منزلة المسلمين في الجهاد في سبيل الله، وعدم ركونهم إلى الدعة والراحة، فأيديهم دائماً على السلاح، ويبادرون إلى الحضور في ميادين المعركة وإستباق العدو في تعديه.
الرابعة: من مصاديق الثناء الذي تفضل الله عز وجل به على المسلمين بقوله[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أنهم يجمعون بين الإنفاق والقتال في سبيل الله حتى في الشهر الحرام، وهو جزء علة للقوة والمنعة، ومن أسباب النصر والظفر على الكفار، فإن قلت جاء النصر من عند الله كما في قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
والجواب هذا صحيح، ولكن إستعداد المسلمين للقتال، وبذلهم الوسع في سبيل الله ويثيبهم الله عز وجل عليه كما في قوله تعالى في قيد التقوى الذي تنزل الملائكة لنصرة المسلمين [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الخامسة: بيان قانون ثابت وهو إن اعتداء كفار قريش على المسلمين يقابله بأمرين:
الأول: الدفاع والصبر.
الثاني: إنفاق الأموال في سبيل الله، قال تعالى[فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً]( ).
السادسة: عدم التعارض بين الإنفاق والقتال، فيقوم بهما المسلمون في وقت واحد، مع قصد القربة إلى الله سواء في الإنفاق أو القتال، فيتعدد الفعل الصالح والجهادي من المسلمين مع إتحاد الغاية والقصد وهو مرضاة الله وحبه، وطاعته.
السابعة: كل من الآيتين من عمومات قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، فالله عز وجل هو الذي أمر المسلمين بالإنفاق في سبيله وهو الذي قال برد الإعتداء والأذى القادم من الكفار بمثله، وحث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين على الإنفاق والبذل ورغبهم فيه، وعن عطاء قال: كان لرجل من الأنصار نخلة، وكان له جار، فكان يسقط من بلحها في دار جاره، فكان صبيانه يتناولون، فشكا ذلك الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له النبي عليه السلام بعنيها بنخلة في الجنة،
فأبى قال : فخرج، فلقيه أبو الدحداح، فقال : هل لك أن تبيعها بجبس؟ يعني حائطاً له، فقال : هي لك، قال : فأتى النبي عليه السلام،
فقال : يا رسول الله اشترها منّي بنخلة في الجنة، قال : نعم، قال : هي لك، فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم جار الأنصاري، فأخدها، فأنزل الله سبحانه وتعالى {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} إلى قوله : {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} أبو الدحداح والأنصاري صاحب النخلة)( ).
الثامنة: تقدير الجمع بين الآيتين: وأنفقوا في سبيل الله وأعلموا أن الله مع المتقين) بلحاظ أن الإنفاق والبذل قربة إلى الله عز وجل من أبهى مصاديق التقوى، والشواهد على اليقين لأن المسلم يبذل فيهما أعز ما يملك طاعة وقربة إلى الله عز وجل.
التاسعة: يفيد الجمع بين الآيتين أعلاه البشارة بالتوفيق والفلاح لأن خاتمة آية السياق (إن الله مع المتقين) وعد كريم من الله.
صلة[وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ]، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إن التفريط وعدم رد إعتداء الكفار في الشهر الحرام من التهلكة فالكفار[لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلاَ ذِمَّةً]( ).
الثانية: تقدير الجمع بين الآيتين: الشهر الحرام بالشهر الحرام ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) أي تقيدوا بأحكام الآية أعلاه بالرد بالمثل على الكفار وفي الشهر الحرام، وعدم تأخير الرد إلى ما بعد الأشهر الحرم، لأن هذا التأخير يجعل الكفار يتمادون في غيهم، ويظهرون الفجور والفساد.
ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاء الرد من الله متضمناً الحجة والبرهان بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وهذا الرد من عمومات قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
بلحاظ أن حجة الله تعالى أعم من أن تختص بالناس وفي الحياة الدنيا بل تشمل ما قبلها وما بعدها وعلى أهل السماء والأرض، فجاء أمر الله عز وجل للمسلمين بالإنفاق و في الشهر الحرام للقضاء على الفساد، ومنع سفك الدماء بغير حق.
الثالثة: الإعتداء على الكفار رداً على إعتدائهم ليس بالأمر السهل أو الهين، إذ أنه يستلزم المبادرة إلى القتال، والصبر على حر السيف، والمرابطة والمطاولة في القتال، فلماذا أمر الله عز وجل به المسلمين.
الجواب من وجوه:
الأول: ترك الرد تهلكة وتعرض للضرر والأذى.
الثاني: لقد أراد الله للمسلمين العز والأمن والسلامة من تعدد وتوالي إعتداءات الكفار.
الثالث: أبى الله عز وجل إلا أن يظهر دولة الإسلام، قال تعالى في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم[لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( )، ومن وجوه إمتلاء الكفار بالحنق والغيض قيام المسلمين بالرد على إعتداءاتهم.
الرابعة: إمتثال المسلمين لأمر الله عز وجل بالإنفاق والقتال في سبيله في آن واحد حجة على الكفار، وبيان المائز بين المسلمين وبينهم، فالمسلمون يعملون بأمر الله وبصيغ الإتحاد في مرضاة الله، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الخامسة : يسعى المسلمون لإكتناز الصالحات، ويأملون الفوز.
السادسة : لقد ثبت في علم الفلسفة أن الله غني غير محتاج، وأن الأوامر والنواهي الإلهية لخير ومنفعة الناس أنفسهم، فهم المحتاجون للإمتثال والأوامر الإلهية، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فالأمر والخطاب للمسلمين برد الإعتداء بقوله تعالى[فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ]( )، فيه منفعة من وجوه:
الأول: كف أيدي الكفار عن المسلمين.
الثاني: زيادة قوة ومنعة المسلمين،لتكون هذه القوة دعوة إضافية للإسلام , وواقية من شر الأعداء .
الثالث: تأكيد قدرة المسلمين على الرد، وتجلي المصاديق العملية لهذه القدرة بالرد السريع من المسلمين على أي إعتداء من الكفار.
وهل يصح إعتماد هذه الآية في التعدي بين المسلمين دولاً وفرقاً ومذاهب وجماعات، الجواب لا، فإن الآية خاصة بالرد على الكفار والمشركين على نحو الحصر والتعيين من وجوه:
الأول: توجه الخطاب في الآية إلى المسلمين والمسلمات جميعاً من غير إستثناء.
الثاني: وجوب تآزر وتعاضد المسلمين في رد تعدي الكفار وإن جاء على فرقة أو فريق منهم، وتقدير الآية: فمن إعتدى على بعضكم فأعتدوا جميعكم عليه، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)( ).
الثالث: موضوعية قانون كلي في لغة الخطاب في القرآن بتوجهه إلى المسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي.
الرابع: جاءت آيات القرآن بكيفية تدارك الخصومة والقتال بين المسلمين قال تعالى[وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا]( ).
السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين أن تخلف المسلمين عن الإمتثال لأمر الله برد التعدي بمثله طريق إلى التهلكة، وسبب لإلحاق الضرر بالمسلمين، وهو أمر مدرك بالفعل والتجربة والوجدان، فمتى ما سكت المسلمون عن رد تعدي الكفار، فأنهم يتمادون في غيهم ويعيدون التعدي والجور والظلم للمسلمين، فإن قلت إن رد التعدي بمثله فيه تهلكة أيضاً بإنفاق للحرب، وتعطيل للأعمال والمكاسب وإستشهاد عدد من المسلمين.
والجواب من وجوه:
الأول: إن هذه الأمور فيها عوض وبدل لأنها في سبيل الله.
الثاني: فوز الشهداء بالمرتبة العالية، قال تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
الثالث: الدفاع عن الملة والنفس والمال والعرض واجب بالذات والعرض.
الرابع: رد الإعتداء إمتثال لأمر الله عز وجل[إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الخامس: لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لإصلاح الأرض ومنع الفساد إلى يوم القيامة وهو من عمومات رده تعالى على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عندما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض.
ومن علمه تعالى أن[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ترد التعدي بمثله، وتمنع الكافرين من الطغيان والإستكبار ونشر أسباب الفساد والقتل بغير حق وهو الموضوع الذي إحتج به الملائكة على خلاف الإنسان، كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
الثامنة: تقدير الجمع بين الآيتين: وإتقوا الله ولا تلقوا بإيديكم إلى التهلكة) بإعتبار أن إستحضار الخشية من الله في عالم الأقوال والأفعال سلامة من الهلكة، وفيه بيان للمائز بين المسلمين وغيرهم، بإحراز المسلمين لأسباب النجاة من المهالك، وإتخاذ التقوى مفازة منها، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
التاسعة: تأكيد حقيقة وهي تقوى الله مجلبة للنجاح، وأمن من الهلكة والخسارة.
العاشرة: من وجوه تفسير قوله تعالى(ولا تلقوا بإيديكم إلى التهلكة) (عن البراء بن عازب: أنه عنى به لا تركبوا المعاصي باليأس من المغفرة)( ).
وفيه تأكيد للزوم التقيد بآداب وأحكام تقوى الله، وإجتناب معصيته ليكون نوع تكامل بين الآيتين وصيرورة تقوى الله ملكة عند المسلمين متحدين ومتفرقين، ومن معاني الإتحاد في المقام القرارات العامة التي تتخذ لطرد أسباب الفسوق والهلكة ودفع تعدي الكفار والتفرقة، وإحتراز كل مسلم من المعصية ومن التخلف عن المشاركة في رد تعدي الكفار.
وهل تشمل المثلية في قوله تعالى(بمثل ما عتدى عليكم) طريقة وكيفية الرد، الجواب لا، من وجوه:
الأول: القدر المتيقن هو في ذات الفعل.
الثاني: إرادة إزاحة ومحو الأثر المرتب على التعدي.
الثالث: تتقوم كيفية الرد بقدرات المسلمين وما عندهم من الأسباب.
الرابع: المثلية في الطريقة والكيفية تجعل العدو يحترز ويستعد لها، بينما تتطلب الحرب المباغتة والحيلة، وعن الإمام علي عليه السلام: إن الحرب خدعة وأنا عند أصحابي صدوق فأردت أن أطمع أصحابي في قولي كي لا يفشلوا ولا يفروا فافهم فإنك تنتفع بها بعد إنشاء الله تعالى)( ).
الخامس : رد المسلمين على الإعتداء مقيد بالقواعد الشرعية والضوابط التي يتضمنها الكتاب والسنة كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوصي أمراء السرايا بأحكام وآداب عامة في القتال، ومن منافعه دعوة الناس للتوبة والإنابة ومعرفة مكارم الأخلاق التي يتصف بها المسلمون.
السادس : لا تعارض بين رد التعدي وعدم التعدي فالمسلمون يردون التعدي ولكنهم منزهون من التعدي.
وهل تستلزم الغيلة في الرد السرعة، والفورية، الجواب نعم مع القدرة والإمكان لمقام الفاء في(فاعتدوا عليه) التي تنفي التراخي والإبطاء في الرد، ويكون التأخير بلحاظ تهيئة أسباب الرد وصيغ النجاح فيه.
ولا تتعارض معه لغة الإنذار والتحذير والتخويف التي تتخذ مقدمة وأمراً سابقاً لرد التعدي مع الفورية وإن إتخاذ الإنذار مدة وفترة ليست قصيرة، وتدخل وسطاء وطرف ثالث في الموضوع، والملاك هو رد التعدي وعدم ترتب أثر وضعي عليه من إحتلال لبعض ثغور المسلمين، أو إستحواذ للكفار على أموال وثروات المسلمين.
الحادية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأعلموا أنه الله مع المتقين) وفيه دلالة بأن الإحتراز من التهلكة والضرر الفادح من التقوى , وأن الله عز وجل يمد المسلمين بأسباب الوقاية من الهلكات، قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الثانية عشرة: لقد أبى الله عز وجل إلا العزة والمنعة للمسلمين،لتستديم نعمة البيت الحرام وكونه مثابة للناس وواقية من الهلكة .
ومن مصاديق العز الإمتناع عن الخسارة والتهلكة فيجب على المسلمين التعاضد والتعاون في عمارة البيت وسبل التقوى من أجل السلامة من الهزيمة والهلكة، سواء كان المراد من الهلكة ترك الإنفاق في سبيل الله، أو إرتكاب المعاصي والسيئات، أو الإسراف في الإنفاق، أو إقتحام المعارك من غير إستعداد أو معرفة بقدرات وعدة العدو.
إعجاز الآية
الآية إخبار عن دوام عمـارة البيت الحـرام بما في ذلك زمـان ما قبل الإسلام أن تلك العمارة بمشيئة منه تعالى لحكمة في الخلق، ومن الإعجاز ان الله عز وجل يخبر عن تفضله بتحديد بقعة مباركة لتكون حرماً له وملجأ للخائف.
فالأرض لم تترك وشأنها، والعبادة لا تنحصر بالبدن من غير تخصيص بالمحل، بل تشمل أيضاً موضعاً محدداً من الأرض ليكون محور عبادة بدنية جماعية متجددة كل سنة في آية إعجازية وسفر روحاني ووفود إلى الرحمن، وإتخاذه مناسبة لتلقي الرحمة والمغفرة في تلك المواقف وأثناء أداء المناسك بخشوع وخضوع وإنقطاع إلى الباري عز وجل، وهو فرصـة كريمـة لتطهير القلوب والأبدان وللإسـتغفار مع إعـلان صـريح للعبوديـة والذل لمقـام الربوبيـة، فلا غـرابة أن يسـمى الحج بالحشر الأصغر لما فيه من الدروس والتذكير بالحشر الأكبر يوم القيامة.
وإبتدأت الآية بالإخبار عن تعيين وظيفة البيت من عند الله عز وجل بقوله تعالى[وَإِذْ جَعَلْنَا] وفيه مسائل:
الأولى : بشارة إستدامة البيت الحرام.
الثانية : البيت الحرام رحمة ورأفة وخير محض.
الثالثة : عموم النفع من البيت الحرام لذا لم تقل الآية مثابة للمسلمين، بل قالت[مَثَابَةً لِلنَّاسِ].
الرابعة :الأمر الإلهي للمسلمين للإنتفاع من البيت الحرام بالعبادة والصلاة.
الخامسة : في الآية دعوة للمسلمين لحفظ البيت الحرام بقوله تعالى [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ] ليكون هذا التعاهد شاهداً على جهاد المسلمين في حفظ المناسك وأحكام الشريعة، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادسة : الإخبارعن كثرة عمار البيت الحرام، ومن زمان إبراهيم وإسماعيل، وفيه وجوه:
الأول: وفود الناس إبتداء إلى البيت حالما نادى إبراهيم بالحج بقوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ]( ).
الثاني: الحج فريضة ومنسك يؤديه الناس منذ أيام آدم عليه السلام.
الثالث: إرادة القابل من الأيام، ومجئ وفد الحاج وكثرة الذين يطوفون بالبيت الحرام ويعمرونه.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الإعجاز في هذه الآية.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية (وإذجعلنا) ومع ورود لفظ (جعلنا)سبعين مرة في القرآن لم يرد هذا اللفظ إلا في هذه الآية الكريمة. وكذا لم يرد لفظ (مثابة) ولفظ (اتخذوا) ولفظ مصلى إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
لقد خلق الله عز وجل الإنسان ليكون خليفة في الأرض،والبيت الحرام من أسرار ومصاديق الخلافة في الأرض، وشاهد على وظائف الخليفة التي تتلجى بعبادة الله عز وجل، وإخبار عن تعيين موضع خاص للعبادة يأتي له الناس من كل حدب ومكان، مع أن الأرض كلها مسجد قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً( ).
وعندما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاء الرد من عند الله[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل أن يجعل البيت الحرام ليرجع إليه الناس ويستغفرون بالفعل والقول، ولتكون المقدمة العقلية للحج بقطع المسافة مناسبة لنيل الأجر والثواب، والإستغفار والهروب من سجن الدنيا إلى نعيم الجنان.
والآية دعوة سماوية لتعاهد طهارة وقدسية البيت الحرام، وحث على بقائه مفتوحاً يستقبل الذين يأتون إليه طاعة لله، ومن إسرار البيت الحرام أن جعله الله عزوجل أمناً وسلاماً وملجأ للخائف.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى:إن الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء وإختبار.
الثانية: عموم الإبتلاء في الدنيا وعدم إستثناء الأنبياء منه، مما يدل على شموله للمؤمنين والصالحين رجالاً ونساءً من باب الأولوية.
الثالثة:بيان أن الإبتلاء بالكلمات رحمة من عند الله، وهذه الرحمة على وجوه:
الأول:إنها رحمة بابراهيم.
الثاني:الكلمات رحمة بذرية إبراهيم مطلقاً، وبالمؤمنين منهم خاصة.
الثالث: إنها رحمة بالناس جميعاً لأن إمامة إبراهيم رئاسة في الخير والصلاح، قال ابن منظور:الإِمامُ: كل من ائتَمَّ به قومٌ كانوا على الصراط المستقيم أَو كانوا ضالِّين( ).
وجاء قيد جعل إبراهيم إماماً من عند الله بقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلُكَ] إفادة أنه إمام هدى ورشاد، ويقود من إتبعه وإقتدى به إلى الأمن والسلامة والنجاة في النشأتين.
الرابعة:بعث حب الأنبياء في قلوب المسلمين، وبيان كيفية إنتقاعهم من الإبتلاء وثمراته من أجل نشر مفاهيم الصلاح، وتثبيت معاني التوحيد في الأرض، وجعل الذرية تتوارث الإيمان.
الخامسة:تعدد وجوه وأفراد الإبتلاء، وأنه لم يكن بكلمة واحدة بل بكلمات متعددات، وكل كلمة هي مدرسة في الإمتحان والإختبار.
السادسة:الإبتلاء مناسبة ووسيلة للإرتقاء في منازل العلم والمعرفة.
السابعة:إجتهاد إبراهيم في الإبتلاء وإتمامه وأدائه الأمانة وإخلاصه في العهد.
الثامنة: بيان الجزاء العاجل من عند الله على الإبتلاء، إذ نال إبراهيم أشرف المنازل بالإمامة والرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا.
التاسعة: لزوم إتباع إبراهيم في دعوته للتوحيد وطاعة الله، قال تعالى[وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ]( ).
العاشرة: التحذير من الإعراض عن الحنيفية التي جاء بها إبراهيم قال تعالى[وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ]( ).
الحادية عشرة: العموم الإستغراقي لإمامة إبراهيم للناس، وعدم حصرها في ذريته وهو من فضل الله عز وجل عليه وعلى الناس، وفي الآية شاهد على لزوم عدم حصول الفرقة بين المسلمين لأن إتحاد الإمام والنبوة بترشح عنه بالإنطباق والملازمة الأخوة في المأموم.
الثانية عشرة: بعد أن أخبر الله عز وجل بأنه متخذ إماماً للناس لم تذكر الآية شكر إبراهيم على هذه النعمة، بل ذكرت سؤاله بصيرورة الإمامة في ذريته وفيه وجوه:
الأول: إن إبراهيم شكر الله عز وجل، وان لم تذكره الآية.
الثاني: شكر إبراهيم لله عز وجل هو سؤاله بقاء الإمامة في ذريته.
الثالث: يتجلى شكر إبراهيم في جهاده في سبيل الله، ومحاربته أقطاب الشرك والضلالة.
الرابع:من وجوه شكر إبراهيم لله خضوعه وخشوعه لله قال تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]( ).
الثالثة عشرة: بيان إستجابة الله عز وجل لدعاء إبراهيم بحجب عهد وميثاق الله عز وجل عن الظالمين من ولده، وفيه دعوة لذرية إبراهيم لإخلاص العبادة والتحلي بسنن الإيمان، وإجتناب الظلم والجور والتعدي.
ومن أسرار خلق الله عز وجل للكائنات ظهور أخبار في إمكان الحياة البشرية في بعض الكواكب، وليس من ملازمة بين الأرض وسكن الإنسان فيها وهو من الآيات في خلق آدم في الجنة ومكثه فيها آنا ما , قال تعالى[وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ]( )، ليكون هذا السكن مقدمة لإنتقال شطر من ذريته إلى الكواكب في السماء .
وقال عدد من المفسرين: إن الأرض سبع طبقات وقيل أنها منبسطة تفرق بينها البحار، وما يسمى بالقارات وقد وردت الإشارة لمضمون الآية في الحديث، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من اقتطع شبرا من الارض ظلما طوقه الله يوم القيامة من سبع ارضين)( )، وقيل أن المماثلة في بديع الخلق.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى[وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ]( ) سيد السموات السماء التي فيها العرش ، وسيد الأرضين التي نحن عليها)( ).
وتجلت في هذا الزمان علوم تقنية تتعلق بالفضاء وصلاح بعض الكواكب لسكن الإنسان وإحتمال وجود ثروات بكر فيها وظهور إعلانات للإقامة في بعضها دون عودة أو رجوع إلى الأرض، ليكون العلم مصداقاً لآيات القرآن وبيان حقيقة وهي أن من أسرار وعلوم القرآن ما تتكشف وتتبين مع تعاقب الأزمنة.
الرابعة عشرة: روى أبو صالح عن ابن عباس: أنها سبع أرضين ليس بعضها فوق بعض يفرق بينهن البحار و يظل جميعهن السماء( ).
الخامسة عشرة:يحتمل أن تظهر العلوم تبايناً في هذه الأرض التي نحن علينا بحيث يكون تقسيمها إلى سبعة أقسام، وان هذا التقسيم الأصل ولكن لم تصله عقول الرجال، كما نرى السماء وكأنها واحدة، ولكنها من طبقات.
السادسة عشرة:لم يقل أحد بأن المراد من المثلية في المقام الكيفية، وان الأرض مثل السماء في كيفيتها، بل المراد التساوي والمثلية في العدد، للتباين في الكيفية.
مفهوم الآية
بعد بيان التفضيل العام لبني إسرائيل على أهل زمانهم ثم التفضيل الخاص لإبراهيم وذريته الذين هم على نهجه، جاءت هذه الآية لتثبت تفضيل البيت الحرام على باقي أنحاء وبقع الأرض، وهذا التفضيل له مفاهيم عديدة منها:
الأولى : الإشارة إلى قدسية البيت الحرام وعظيم منزلته في السماء.
الثانية : البركات الخاصة بالبيت الحرام والإفاضات التي تشع أنوارها على الأرض وأهلها.
الثالثة : الحث على تعاهد البيت وقدسيته لذا ترى أحكاماً خاصة ينفرد بها الذي يلجأ الى البيت الحرام فمن أحدث ما يوجب تعزيراً أو حداً أو قصاصاً ولجأ إلى البيت الحرام أو الحرم مطلقاً فلا يقبض عليه فيه، بل يضيق عليه في المطعم والمشرب والمعاشرة حتى يخرج , وعليه الإجماع إلا أن تكون جنايته في البيت أو الحرم فيقام عليه الحد في الحرم لأنه اراد هتك حرمته.
الرابعة : الإخبار عما يترشح عن البيت من الأمان والسكينة، قال تعالى [وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ً] ( ).
الخامسة : تنمية ملكة تقديس البيت الحرام عند المسلمين , ومن مفاهيم الآية إخبارهم عن شرف القبلة التي يتوجهون إليها وإستحقاقها للإكرام وهذا الأمر ظاهر في حياة المسلمين فلم يسأل أحد منهم على مرور مئات المسلمين لماذا نتوجه للبيت الحرام دون غيره، فكل مسلم يدرك أن البيت الحرام أشرف بقعة في الأرض، وأما ذكر مقام ابراهيم ففيه وجوه:
الأول : تعيين مقام إبراهيم موضعاً للصلاة داخل المسجد الحرام، وبيان موضوعية الجهاد ولزومه لحفظ البيت الحرام.
الثاني : دعوة المسلمين إلى التمسك بإبوة إبراهيم، والصلة العقائدية معه فقد وضع القواعد من البيت الحرام ليكون أمانة بيد المسلمين ليتعاهدوه بالحج والصلاة والنسك.
الثالث : فيه طي لمئات وآلاف السنين التي تفصل بين اليوم والمدة التي اتخذ ابراهيم هذا المقام مصلى وبين ساعة دخول المسلم للبيت الحرام والتي هي على وجوه منها.
الأول: أداء فريضة الحج.
الثاني: أداء مناسك العمرة.
الثالث:أداء الصلاة اليومية سواء من الحاج أو المعتمر أو المجاور، وتؤدى في البيت الحرام.
الرابع: دخول المجاور للبيت.
الخامس: زيارة المقيم في مكة للبيت الحرام.
السادس: أداء الطواف الواجب بالذات أو العرض.
السابع: الطواف المستحب بالبيت.
الثامن: أداء الصلاة المندوبة.
التاسع: الإعتكاف في البيت الحرام.
العاشر:دخول الكعبة للدعاء والمسألة لأنه من المواضع التي ترجى فيها الإستجابة.
الحادي عشر: النظر إلى الكعبة لأن النظر إليها عبادة، وعن الباقرعليه السلام قال : اما النظر اليها عبادة وما خلق الله بقعة من الارض احب اليه منها ثم اهوى بيده إلى الكعبة ولا أكرم عليه منها.
الثاني عشر: اللجوء إلى البيت، والإستجابة للدعاء فيه.
الثالث عشر: زيارة البيت الحرام.
الرابع عشر : توكيد موضوعية الصلاة حتى أثناء أداء فريضة الحج، بمعنى أن إتيان فريضة لا يتعارض مع أداء فريضة أخرى وأن الصلاة تمتاز عن غيرها من الفرائض باستدامتها وتداخلها مع أوقات وزمان الفرائض الأخرى دون أن تزاحم بينها سواء بالنسبة للصلاة اليومية أو على مدار السنة كما في وجوب الصيام في شهر رمضان دون غيره من الشهور، وفي جميع ايامه ولياليه صلاة , وهو من أنسب الأوقات لأداء الصلاة والإكثار من النوافل في لياليه وأيامه.
الخامس عشر : من مفاهيم الآية الإخبار عن مواضع تكون مظان الإستجابة ومحل الثواب الإضافي.
السادس عشر : اكرام القرآن للأنبياء وحفظ آثارهم، فمن اعجاز الآية انها متقدمة زماناً عن الإهتمام الذي اخذ يبديه العالم للآثار منذ بضعة قرون، وترى الجهود تبذل لحفظها والتراث , ولكنها لم تسلم من التلف والإعتداء والنهب واسباب السرقة والفقدان بينما حفظ المسلمون مقام ابراهيم وبما فيه الثواب والأجر وليس الحفظ المجرد لذاته.
السابع عشر : تحث الآية على حفظ آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى الآن يعرف المسلمون محل ولادته صلى الله عليه وآله وسلم ومقاماته المباركة ومواقع كتائبه، كما انهم يشتركون جميعاً بتعاهد مسجده الشريف وقبره الطاهر.
الثامن عشر : جاء الخطاب بصيغة الجمع مع ان مقام ابراهيم لا يتسع إلا لشخص واحد مما يعني المناوبة والمتابعة في الصلاة فيه وحوله الأقرب فالأقرب.
التاسع عشر : في هذا الزمان شيد بناء على مقام إبراهيم لا يخالف ظاهر الآية، لأنه حكم ضرورة لمنع التزاحم والتدافع والنزاع للصلاة فيه , مع الحفاظ على ذات المعلم والبقعة .
وتتجلى آية اعجازية وهي موافقة ظاهر القرآن والإنتفاع الأحسن من الإرتقاء العلمي والثورة الصناعية لمنفعة المؤمنين وتحقيق الآمال العرفانية واثبات اهلية القرآن لكل زمان فطوبى للمسلمين .
والخطاب في الآية انحلالي موجه الى جميع المسلمين ومن لا يستطيع الوصول الى البيت الحرام واداء فريضة الحج او العمرة يشمله الخطاب ايضاً لوجود المقتضي الا ان المانع يحول دون تحققه وعليه بالدعاء لإدراك هذه الفضيلة وبذل الوسع من اجل التشرف بالصلاة بهذه البقعة المباركة.
العشرون : تدل الاية بالدلالة التضمنية على التوكيد على السعي لأداء فريضة الحج وفريضة الصلاة معاً.
ومن مفاهيم قوله تعالى [وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ] ان طهارة البيت عهد إلهي تكفله الأنبياء وان عمارة المسجد الحرام وراثة للأنبياء وفي الآية دعوة الى القائمين على البيت الحرام في كل زمان ببذل الوسع والإجتهاد في تنزيه البيت واظهاره بابهى حلة تدل على التقديس والجلال وعظيم منزلته في السماء وعند المسلمين ولا تنحصر الدعوة بهم بل هي رسالة سماوية لجميع المسلمين كل بحسب موقعه ومنزلته ووفق عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراتبه المتيسرة.
وفي الآية اكرام لوفد الحاج وزوار البيت الحرام وحث على تهيئة افضل الوسائل والأسباب لأدائهم للمناسك الا ان الطهارة هنا تحتمل وجوها:
الأولى : الطهارة الخارجية والخلو من الأقذار والنجاسات.
الثانية : الطهارة المعنوية وعدم دخول المشرك.
الثالثة : منع اسباب الإنشغال بالدنيا عن عمار المسجد الحرام.
الرابعة : ان الطهارة وردت من باب المثال الأهم والأولى وان الآية اعم في معناها وتتعلق بتعاهد البيت الحرام وحفظه وتيسير وصول جميع المسلمين له وقد اقترحت في بيان خاص انشاءسكة حديدية تربط البيت الحرام بكل عواصم العالم الإسلامي كما مبين ادناه( ).
الاول : منع الإختلاف المذهب واسباب الفتنة والإفتتان والبدع والأصنام والتماثيل واتباع الهوى فيما يؤدى في البيت الحرام من غير ان يتعارض ذلك مع اكرام الحجاج وعمار المسجد مطلقاً، أي ان المنع ينحصر بالخطأ وبأفضل وسائل الإكرام وبذا تتجلى آية في العقيدة الإسلامية وهي استمرار العمل بأحكام القرآن من غير ان يكون هناك تعارض او تزاحم في باب التطبيق والعمل.
الثاني :تؤكد الآية على اهمية الإعتكاف واللبث المتواصل في المسجد الحرام وتهيئة اسبابه وترك حق الإختيار للمسلم بالإعتكاف فيه وفق الميسور وعدم تعطيل مضمون هذه الآية، وقد كان المسلمون يولون عناية للإعتكاف يؤدونه كعبادة وسنة.
الثالث : لم تذكر الآية المصلين بصفة الصلاة او الركوع، بل ذكرتهم على نحو التعدد وبحال الركوع والسجود ولابد لهذا التعدد من معاني واسرار منها ان الركوع خاص بالصلاة والسجود اعم فهو احد الواجبات الركنية في الصلاة كما يؤتى به شكراً لله او عند سجدة التلاوة او اثناء الدعاء، وتدل الآية على انه محبوب بذاته وعلى نحو مستقل وليس جزء من الصلاة فقط، وطهارة البيت وتقديسه سبب للسجود وهو عنوان الإنقطاع الى الله تعالى خصوصاً في اشرف بقعة في الأرض.
الرابع : اشتراك اثنين من الأنبياء واحدهما رسول من اولي العزم الخمسة في تطهير البيت الحرام يدل على انفراده بعناية سماوية خاصة, وأن حفظه واكرامه وتطهيره مسؤولية المسلمين جميعاً، وهذا الإشتراك المبارك دعوة لتظافر الجهود واشتراك الدول والمؤسسات في مشاريع اعمار البيت الحرام وقد اقام الله عز وجل الحجة علينا وجعل فيما حوله اكبر ثروة نفطية في العالم.
وفي الآية مسائل:
الأولى: إن الله عز وجل رؤوف بالناس، بأن جعل الإنسان خليفة في الأرض [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، وجعل بيتاً خاصاً به، يأوى إليه الناس جميعاً، فان قلت ان المشركين بالله لا يجوز لهم دخول البيت لقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]( )، فكيف تأتي الآية بالإخبار بأن البيت مثابة (للناس)وإرادة عموم الناس،والجواب من وجوه:
الأول: إن الله عز وجل إذا أنعم على أهل الأرض فانه ينعم بالأوفى والأتم والأعم.
الثاني:الدنيا دار رحمة بالناس جميعاً،ولكن شطراً من الناس يحجبون عن أنفسهم معاني الرحمة.
الثالث: ليس بين الإنسان والإنتفاع من نعمة البيت وعمارته واللجوء إليه إلا النطق بالشهادتين.
الرابع: الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار، لتبقى هذه الآية الكريمة دعوة للناس جميعاً للإنتفاع من البيت الحرام والفوز بالثواب العظيم من عمارته وحجه.
الخامس: البيت الحرام وكونه مثابة للناس دعوة سماوية وأرضية للناس جميعاً لدخول الإسلام، وتلك آية في جعل البيت للناس من قبل الله عز وجل نفسه، ليكون البيت الحرام عضداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين في الدعوة إلى الله ودخول الإسلام وأداء الفرائض والسنن.
ويحتمل البيت وكونه مثابة للناس وجوهاً:
الأول: الأمر الإلهي ببناء البيت.
الثاني: رفع قواعد البيت، كما في قوله تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ] ( ).
الثالث: إرادة موضع البيت الحرام.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة وفيه آية من فضل الله عز وجل في البيت الحرام ومنافعه العظيمة والأسرار التي جعلها الله عزوجل فيه، وما يترشح على النفوس من هيبته وإكرامه، والتقيد بأحكامه، والإنجذاب إليه.
الثانية: بيان وتعيين وظائف البيت الحرام، ومنها أنه يرجع الناس إليه بشوق ورغبة, وأمن وسلام.
الثالثة: الأمر للمسلمين بإتخاذ مقام إبراهيم مصلى، ويدل في مفهومه على الدعوة لزيارة وعمارة البيت الحرام.
الرابعة: تعاهد الصلاة والحرص على أدائها إلى يوم القيامة، لبقاء هذه الآية ومضامينها إلى يوم القيامة، فمن إعجاز الآية أنها جاءت بذكر مقام إبراهيم وهو موضع من أرض البيت المباركة.
الخامسة: العهد الإلهي إلى إبراهيم وإسماعيل بالقيام بتطهير وتهيئة البيت الحرام، مما يدل على أن وظيفتها لاتنحصر برفع القواعد من البيت فعلاً وزماناً وأثراً،بل هو مستمر ومتصل على نحو يومي متجدد.
ومن الآيات أن جاء الأمر لهما بالقيام بخدمة البيت الحرام ، وعدم تفويض الأمر إلى الأعوان والأتباع، مما يدل على شرف البيت، وعظيم مسؤولية تطهيره، وأنه من مصاديق الإمامة وإصلاح النفوس، وتهيئة أسباب نيل المسلمين الأجر والثواب.
السادسة: تعدد أصناف وأفراد الذين يعمرون البيت الحرام، مما يستلزم بذل الوسع من إبراهيم وإسماعيل وعدم الفتور في العمل، ليكون الإجتهاد في السعي في سبيل الله من خصائص الإمامة.
الآية لطف
جاءت فلسفة هبوط الإنسان إلى الأرض رحمة به، ومقدمة لنزول البركات السماوية والأرضية، والزمانية والمكانية، والبرية والبحرية، وليس من حصر لأفراد النعم والخيرات التي ينفضل الله عز وجل بها على الناس لطفاً بهم ومنها البيت الحرام الذي هو وسيلة لتقريبهم إلى منازل الطاعة، وإعانتهم على أدائها، وحرب على الشرك والضلالة، فمع وجود البيت الحرام قام بعض الطواغيت قبل البعثة ببناء بيت ليحجه الناس، فكانت عاقبته الخزي والخسران.
فجاءت هذه الآية وأحكامها بتعاهد البيت لتثبيت قواعد إكرام وعمارة البيت الحرام في النفوس، ومن فلسفة هبوط آدم صيرورة مكان آمن يأوى إليه الناس، ويكون فيه تعاهد لكل من:
الأول: عبادة الله عز وجل، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الثاني: عمارة البيت الحرام التي تتقوم بالطواف والصلاة والذكر، ومن اللطف الإلهي في المقام ما ورد بأن النظر إلى الكعبة عبادة.
الثالث: حفظ أهل الإيمان والصلاح.
الرابع:منع الفتن والتقليل من سفك الدماء، فحينما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
جاءت هذه الآية لمنع تكرار سفك الدماء وكثرة الفتن، لأن الرجوع إلى البيت درء للفتنة، وكذا اللجوء إليه والإستغاثة به.
وتظهر الآية وظيفة مركبة من وظائف الإمامة وهي خدمة البيت الحرام وعماره في آن واحد، وكل فرد منهما هو خدمة وعناية بالآخر، فتطهير البيت خدمة لعماره، وخدمة عماره تعاهد للبيت وقدسيته، وهما معاً خدمة للدين ودعوة للناس جميعاً للإنتفاع الأمثل من البيت الحرام، فلا غرابة أن تأتي الآية السابقة وموضوع الإمامة بلفظ العموم وإرادة الناس جميعاً [لِلنَّاسِ إِمَامًا]وكذا بالنسبة للبيت وانه [مَثَابَةً لِلنَّاسِ] جميعاً ليكون دعوة متجددة للهداية والإيمان، وبرزخاً دون الخوف والفزع المستديم من غير الله، فالخشية من الله عز وجل في كل بقعة من الأرض، وهو سبحانه جعل مكاناً آمناً للناس،لا يفزع فيه الخائف.
ومن اللطف أن هذا الأمن من وجوه:
الأول: ذات البيت آمن وسلام.
الثاني: تبعث مجاورة البيت السكينة في النفوس.
الثالث:دخول البيت مناسبة لذكر الله، والنظر إليه عبادة، مما يبعث السكينة والأمن في النفوس على نحو الإنطباق.
الرابع: زجر الناس عن التعدي على الذي يلجأ إلى البيت، وبه وردت النصوص والأخبار،وهذه النصوص تفسير لمضامين هذه الآية.
الخامس: هيئة عمار المسجد أمن وسلام لمن يدخل إليه إذ يجد الناس بين قائم وراكع وساجد،وطائف في البيت ومستغفر.
السادس:وظائف العبد عند دخوله البيت، ومنزلة البيت في النفس تدفعه لأداء وظائفه العبادية،فيكون هذا الأداء أمناً، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
إن أمرالله عز وجل بجعل البيت أمناً يعني تحصيل مصاديق الأمن على نحو واقعي مستديم.
إفاضات الآية
لقدجعل الله عز وجل الأرض مقاماً وسكناً للناس ودار إمتحان وإبتلاء، ومن فلسفة الإمتحان في الأرض المدد الإلهي للناس فيها، فتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء وأنزل الكتب من السماء وجعل في الأرض بيتاً له،وتعاهده بجعل إبراهيم إماماً للناس ثم أمره بالعناية بالبيت، ليدرك الناس منزلة وشأن البيت، ومن الإفاضات في الآية مجئ منافع البيت على نحو متعدد، فقوله تعالى[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]يتضمن مسائل:
الأولى:إن تعيين البيت من عند الله عز وجل، فهو الذي إختار موضعه وجعله في أرض جرداء[بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ] ( )، لإختبار وإمتحان الناس.
الثانية: تفيد الألف واللام في (البيت) العهد، فانه البيت الوحيد في الأرض الذي إختصه الله عز وجل لنفسه إذ ذكرت الآية البيت مرة أخرى بلفظ (بيتي) ونسبته إلى الله عز وجل، وفيه تثبيت لملكية الله عز وجل للبيت وإختصاصه به وحرمة التعدي عليه والتصرف فيه بغير مرضاة الله.
وقد جاءت الآية ببيان وظائف ومنافع البيت من وجوه:
الأول: إنه مثابة للناس، وموضوعاً ليرجعوا إليه، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وجاءت هذه الآية لتفسر ذاتها بذاتها.
الثاني: تبين الآية الإطلاق والعظمة في قدرة الله عز وجل، إذ يدل جعل البيت أمناً على أن الله عز وجل قاهر للظالمين والطواغيت، وجاعل حدوداً لا يستطيعون تجاوزها والتعدي عليها، فان قلت قد يستبيح الظالم البيت، الجواب من وجوه:
الأول: لا تضر الحادثة الشخصية في القانون الثابت وصحته.
الثاني: إن الله ذو البطش الشديد، وهو الذي ينتقم من الذي يعتدي على البيت الحرام، وجاءت قصة أصحاب الفيل درساً وإنذاراً للظالمين، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الثالث: هذه الآية دعوة للمسلمين لتعاهد صفة الأمن والسلام للبيت الحرام.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت هذه الآية بالحرف(إذ) الذي إبتدأت الآية السابقة به، وهو ظرف لما مضى من الزمن متعلق بإذكروا محذوفاً، لتكون الآية برهاناً لتقرير إمامة إبراهيم للناس، والفضل الإلهي على الناس بالإمامة وبالبيت الحرام ليعضد كل واحد منهما الآخر، ويعملا معاً في إصلاح الناس والمجتمعات، وتثبيت معالم التوحيد في الأرض، ويفيد الجمع بين الآيتين تذكير الناس بأمور:
الأول: جعل الله عز وجل للناس إماماً.
الثاني: عدم إنحصار الإمامة بشخص إبراهيم، بل هي متجددة في ذريته.
الثالث: جعل الله عز وجل البيت الحرام ليحجوا ويثوبوا إليه.
الرابع: البيت الحرام أمن وأمان للناس.
ففي آيتين من القرآن يتفضل الله عز وجل على الناس بأسباب الهداية والتقوى بالإمامة من بين البشر، وبيت لله عز وجل في الأرض يطوف به المسلمــون ويظهــرون المصداق العملي لإيمانهم وخشوعهم وخضوعهم لله عز وجل بعبادة بدنية مالية، فهم يبذلون الأموال من أجل الوصول إلى البيت الحرام ويتحملون المخاطر والأذى في الأراضي الوعرة والصحراء القاحلة، ويجتهدون في أداء المناسك في عبادة تختص بكونها مالية بدنية، والآية دعوة للناس جميعاً لقصد البيت الحرام.
وجاء قوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]مقيداً لهذه الدعوة بخصوص الحج فقد تتهيأ الفرصة للمكلف أن يؤدي مناسك العمرة وفي غير أيام الحج كما يحصل في هذا الزمان، لتكون هذه الآية دعوة متجددة للناس في كل آن بالرجوع إلى البيت، لذا فإن من إعجاز الآية ذكرها للطواف والركوع والسجود وهي أفعال عبادية تؤدى من كل من:
الأول: الذي أحرم للحج.
الثاني: الذي أحرم للعمرة.
الثالث: المجاور للبيت الحرام.
الرابع: أهل مكة.
الخامس: الذي يدخل مكة زائراً.
السادس: الذي حل إحرامه.
إذ أن الطواف على قسمين منه ما هو واجب وركن في الحج والعمرة، ومنه ما هو مستحب ومندوب، وهو محبوب في كل آن، وقد يأتي الوجوب بالعرض كما في النذر واليمين والعهد، وبلحاظ صيغة الجملة تنقسم الآية إلى أقسام:
الأول: الجملة الخبرية بجعل البيت مثابة وأمناً، وما فيها من البشارة وبيان الفضل الإلهي.
الثاني: الجملة الإنشائية بالأمر إلى المسلمين بتطهير البيت.
الثالث: الإخبار عن الأمر الإلهي لإبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت الحرام لعمار المسجد الحرام.
وإذ جاءت الآيات السابقة بالإخبار عن تفضيل بني إسرائيل على العالمين، فقد جاءت هذه الآية لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين وتفضيلهم فإن قيل إن إبراهيم أبو اليهود والعرب ومن ذريته أنبياء بني إسرائيل، والجواب من وجوه:
الأول: جاءت الآية بذكر إسماعيل وهو جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجد بني إسرائيل هو إسحاق أخو إسماعيل.
الثاني: إختص المسلمون بأداء فريضة الحج.
الثالث: توجه الخطاب الإلهي إلى المسلمين بإتخاذ مقام إبراهيم مصلى، وتحتمل الصلة بين مقام إبراهيم والمثوبة والأمن في البيت وجوهاً:
الأول: إتخاذ المقام مصلى فرع ومصداق من المثوبة والأمن.
الثاني: الإستقلال لكل فرد منهما.
الثالث: إنه مقدمة للمثوبة والأمن.
الرابع: الصلاة ذاتها أمن.
الخامس: في إتخاذ المقام مصلى دعوة للناس لحج وعمارة البيت الحرام.
وبإستثناء الوجه الثاني أعلاه فلا تعارض بين الوجوه الأخرى، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وجمعت الآية ثلاثة أصناف من المؤمنين الذين يعمرون البيت الحرام وهم:
الأول: الذين يطوفون بالكعبة.
الثاني: الذين يعتكفون بالبيت.
الثالث: الذين يؤدون الصلاة(وقال سعيد بن جبير أن الطائفين هم الطارئون على مكة من الآفاق و العاكفين هم المقيمون فيها ) ( ) ويتضمن تطهير البيت أمرين:
الأول: إزاحة الأصنام التي كان المشركون يعلقونها على البيت وتطهيره من الفرث والدم.
الثاني: العناية بالبيت ونظافته، وجعله مكاناً طاهراً صالحاً لإستقبال وفد الحاج، إن طهارة البيت تبعث الشوق في النفوس على زيارته، وتجعل الذي يأتي من الآفاق يدرك أن سدنته والقائمين على خدمته يولونه عناية وإكراماً وإهتماماً، وهو فرع توارث التسليم بأنه بيت الله الحرام.
وتتضمن هذه الآية تأسيساً لسدانة وتولية البيت الحرام، وأنها شرف عظيم لإشتراك إثنين من الأنبياء بالقيام بها، وفيه شاهد على ما تستلزمه من الجهد والعناء، بالإضافة إلى أن التطهير وظيفة يومية متصلة، ومجئ تطهير البيت بصيغة العهد إلى إبراهيم وإسماعيل شاهد على موضوعية تطهير البيت الحرام، وأنه مسؤولية عظيمة وفرع الإمامة لأنه مقدمة للصلاح، ووسيلة لهداية الناس، ومناسبة لنيل الثواب العظيم.
ترى لماذا قدمت الآية الطائفين، فيه وجوه:
الأول: الطواف بالبيت مقدم على صلاته.
الثاني: حاجة الطائفين إلى نظافة وطهارة المطاف مع سعته، في الوقت الذي يأخذ المصلي فيه مكاناً مستقراً وصغيراً.
الثالث: تؤذي النجاسة والقذارة في المطاف الطائفين، وتسبب الضرر لهم.
الرابع: إرادة بيان حكم شرعي، وهو قرب المطاف من الكعبة أما الركوع والسجود وأفعال الصلاة فأنها تؤدى عن قرب وبعد، قال تعالى[وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى]( ).
الخامس: بيان موضوعية الطواف في المناسك وضروب العبادة التي تؤدى في البيت الحرام.
السادس: توكيد أهمية فريضة الحج إذ أن الطواف ركن فيه وفي العمرة.
السابع: لزوم إكرام وفد الحاج بإستقبالهم بطهارة المطاف والبيت الحرام، وهذه الطهارة بأمر من الله عز وجل وفعل النبي الإمام إبراهيم عليه السلام، وتجلي معاني بقاء الإمامة في ذريته بتعاهد طهارة البيت وتهيئته لوفد الحاج.
الثامن: نزاهة وطهارة البيت والمطاف من الأصنام وأسباب الشرك.
التاسع: المنع من مزاحمة الطائفين سواء في وضع بناء أو حجة أو حفر بئر أو جلوس، وقدمت الآية الراكعين على الساجدين لتقديم الركوع على السجود ولأنه ركن في الصلاة.
التفسير الذاتي
هذه أول آية في نظم القرآن يذكر فيها اسم (البيت) مع إرادة البيت الحرام، وإختصت آيتان من القرآن بذكر البيت على نحو متكرر، كل آية منهما ذكرته مرتين وبلفظ (البيت) و(بيتي) فورد في سورة الحج [وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( )، والنسبة بين الآيتين عموم وخصوص مطلق، لأن إنشاء البيت في طول جعله، ولأن الآية أعلاه جاءت بالأمر لإبراهيم بتطهير البيت بينما جاءت الآية محل البحث بالأمر إلى إبراهيم وإسماعيل معاً لتطهيره (وطهرا) ويفيد الجمع بينها أموراً:
الأول: قيام إبراهيم بمفرده بتطهير البيت.
الثاني: قيام إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت.
الثالث: تولي إسماعيل مسؤولية تطهير البيت، سواء عند غياب إبراهيم وذهابه إلى الشام، أو بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى.
لقد جعل الله عز وجل الحاجة ملازمة لعالم الإمكان، ومنه الإنسان، إذ تصاحبه الحاجة ومنها الحاجة للأمن والسلامة، وتلك الحاجة من وجوه الإبتلاء، وقد تكون من ذات الإنسان أي أن بعض الناس يفزع ويخيف غيره، فجعل الله عز وجل البيت أمناً للخائف والمستجير.
ومن إعجاز الآية أنها لم تقل(مثوبة وأمناً للناس) بل جاءت بتقييد المثوبة بأنها للناس، أما الأمن فذكرته على نحو الإطلاق من غير تقييد، وتلك آية إعجازية لها دلالات خاصة في المقام منها:
الأول: إرادة العموم وشمول غير الإنسان بالأمن، لذا ورد الحكم الشرعي بحرمة الصيد عند الإحرام قال تعالى[وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا]( ).
الثاني: يتصف البيت بأنه آمن بذاته وموضوعه.
الثالث: يبعث البيت معاني الأمن في ربوع الأرض.
الرابع: البيت الحرام آمن من الزلازل والصواعق والآفات الأرضية التي تأتي في ربوع الأرض.
الخامس: يأتي الأمن في البيت الحرام بالواسطة أيضاً من جهات:
الأولى: أداء فريضة الحج، وما تبعثه من السكينة في النفوس والصلاح في المجتمعات فيخرج نفر من إحدى القرى والبلدان للحج، فيكون خروجهم هذا درساً في التقوى والصلاح بين أهل القرية والبلد، فمن لم يخرج معهم للحج لعدم الإستطاعة أو لغيره فإنه يشتاق للبيت، ويتدبر في الغايات والمقاصد السامية في إنشائه، ودلالاته على بديع صنع الله في الأرض وأنه دعاء ومحل للآيات الباهرات، قال سبحانه[فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا] ( ).
الثانية: التوجه إلى البيت الحرام في الصلاة، وإتخاذه قبلة وأماناً ورحمة، وموضوعاً للأخوة الإيمانية بين المسلمين، ومن عمومات قوله تعالى[إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ]( ) والتقدير ألف بين قلوبكم بالإلتقاء والإشتراك في التوجه إلى قبلة واحدة وهي البيت الحرام.
الثالثة: توجه المسلمين إلى البيت الحرام في الصلاة، وإدراك المسلمين لوجوب أداء فريضة الحج من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، ويأتي الأمن والأمان مع الأخوة من جهات:
الأولى: نبذ الفرقة والخلافات وطرد الكدورات الظلمانية.
الثانية: أداء الصلاة جماعة وما فيها من الصلة ومعاني المودة.
الثالثة: الإشتراك بتعاهد الصلاة، وجعل الحافظة عليها وعلى القبلة من الوظائف العامة للمسلمين.
ولم يرد لفظ(أمناً) في القرآن إلا مرتين، فقد قال تعالى[وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا] ( )في بشارة للذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن يؤمن سربهم ويطرد عنهم الخوف من الكفار.
وكان المسلمون قبل الهجرة يتلقون الأذى والعذاب من كفار قريش مع أنهم مجاورون للبيت الحرام، ولم تمر الأيام والليالي حتى دخل المسلمون مكة فاتحين ليتغشى الأمن والسلام ربوع الحجاز وتنتشر كلمة التوحيد(قال الزمخشري: ولما هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه ، حتى قال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ” لا تغبرون إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس معه حديدة) ( ).
ولم يرد لفظ(إتخذوا) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، وفيه شاهد على إنفراد المسلمين بمسؤولية عظيمة وهي تعاهد البيت الحرام، وهذا التعاهد ليس مجملاً بل مبيناًَ وظاهراً بإقامة الصلاة، وجعل مقام إبراهيم الذي هو في البيت الحرام موضعاً للصلاة عند الحج والعمرة، وفي الرواتب اليومية، وهو من وجوه الأمن في البيت بأن تكون في البيت بقعة مباركة يتعاقب ويتزاحم المؤمنون في الصلاة فيها ليلاً ونهاراً، والإجماع على أنه لا صلاة واجبة عند مقام إبراهيم غير صلاة الطواف.
ولم يرد لفظ (للطائفين) إلا في آيتين من القرآن وبذات المعنى، إذ ورد في سورة الحج خطاباً لإبراهيم[وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: البيت الحرام هبة وحبوة ولطف من الله عز وجل إلى الناس جميعاً.
الثانية: تعيين موضوع البيت الحرام من عند الله عز وجل.
الثالثة: دعوة المسلمين لتعاهد مقام إبراهيم بما جعل له من الموضوعية في صلاة الطواف.
الرابعة: بيان إكرام الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام بأن خصه بمقام في البيت الحرام، وفيه دعوة للناس للإقتداء به كإمام للناس جميعاً، وكأن الصلاة في مقام إبراهيم عهد لإتباعه في نهجه وسنته.
الخامسة: بيان أن البيت الحرام نعمة من عند الله عز وجل.
السادسة: ذكر منافع عظيمة للبيت الحرام وهي:
الأول: إنه الموضع المبارك الذي يرجع ويثيب إليه الناس.
الثاني: يتجدد به أداء فريضة الحج.
الثالث: البيت الحرام أمن وسلامة لمن لجأ وأوى إليه، ولمن جاوره.
الرابع: وجود مقام إبراهيم في البيت الحرام.
الخامس: توجيه الأمر الإلهي إلى المسلمين بأداء صلاة الطواف عند مقام إبراهيم.
السادس: تطهير البيت الحرام لعماره.
السابع: قيام إبراهيم عليه السلام وهو رسول من الخمسة أولي العزم بتطهير البيت لعماره، ومعه إبنه نبي الله إسماعيل.
الثامن: بشارة عمارة البيت الحرام وكثرة الوافدين إليه.
التاسع: قد يكون الطائف هو نفسه العاكف والراكع الساجد، ومع هذا جاءت الآية بصيغة التعدد.
العاشر: ترغيب المسلمين بزيارة البيت الحرام.
الحادي عشر: دعوة المسلمين للإجتهاد بالعبادة عند الوفود على البيت الحرام.
الثاني عشر: الدعوة السماوية لإكرام الطائفين وتهيئة مقدمات أداء الطواف على الوجه الشرعي بذكر الطائفين على نحو التعيين، وتقديم ذكرهم على الركع والسجود.
الثالث عشر: في الآية حث على تعاهد مقام إبراهيم بالصلاة فيه، وأداء فريضة الحج والعمرة، والعناية بنظافته وطهارته.
التفسير
قوله تعالى [ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً ]
ورد ذكـر (البيـت) في القـرآن بصيغـة المفـرد ثمـان وعشريـن مـرة، منها خمس عشـرة مـرة في خصـوص البيـت الحرام، كما انه لم يرد معرفـاً بالألـف والـلام الا بخصـوص البيـت باسـتثناء آيتـين في اهـل البيـت على نحو الإضافة، وفي البيت المعمور على القول بانه غير البيت الحرام.
انه نوع تشريف واكرام ان تأتي اللام العهدية في القرآن بخصوص البيت الحرام ولا تحتاج الى القرائن لمعرفة انه المراد من الآية، وان كانت القرائن تؤكد ذلك وانه القدر المتيقن والمتبادر في القـرآن دون الجنس مع حداثة العهد بالإسـلام واحكامه ومن التشريف نسبة البيت له تعالى، وفيه بيان للمنافع والثمرات من جهاد ابراهيم وعبرة بأن العمل العبادي لابد وان يبقى أثره في الأبناء بتعاهد منه تعالى.
واختلف الإشاعرة والمعتزلة في ماهية الإثابة هنا، فقال الرازي: اما على قولنا ففعل العبد مخلوق لله تعالى، فهذه الآية حجة على قولنا في هذه المسألة، واما على قول المعتزلة فمعناه انه تعالى القى تعظيمه في القلوب ليصير ذلك داعياً لهم الى العود اليه مرة اخرى.
والظاهر ان الآية تفيد أيضاً ما هو أعم من هذين القولين وهو ان المثـابة هنـا الإجتمـاع والسـعي والمجـيء، وذيـل الآيـة يدل عليه وهو تفسير لصدرها فلا حاجة الى الذهاب الى مبحث الإلجاء او التأويل بالواسـطة، فـقـد جـاءت الآية لتؤكـد شـرف البيـت وتخـبر عما له من المزايا وما ينفـرد به من المنزلة في العبادة وعند الناس , وتلفت النظر الى الوظائف التي يمكن ان تؤدى فيه ومن خلاله وان الله عز وجل فرض الحج على الناس اعماراً لبيته ودواماً لشريعته في الأرض وباباً لنزول الرحمة على اهلها، ودراساتنا لا زالت قاصرة عن بيان مضامين فلسفة الحج وبما يتناسب مع روح العصر وحاجاته وأبعاد نظرية العولمة ونحوها.
لقد أراد الله عز وجل تعاهد المسلمين للبيت الحرام بالعمارة والذكر والعبادة والطواف، يرجعون إليه في كل سنة لأداء الحج في زمن مخصوص، ويأتون للعمرة في أيام السنة كلها، وتدل الآية على أن الله عز وجل غني عن العالمين وأن هذا التعاهد لنفع الناس أنفسهم لقوله تعالى[مَثَابَةً لِلنَّاسِ] ولم يرد لفظ مثابة في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، وإذا أعطى الله عز وجل فانه يعطي بالأوفى والأتم والمتعدد، لذا تفضل الله عز وجل بنعمة البيت ومن وجوه النعمة فيه:
الأول: الإمتثال للأمر الإلهي قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( )، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة)( ).
الثاني: البيت أمن وملجأ وموضع للإستغاثة.
الثالث: البيت موضع مبارك للإجتماع العام في مرضاة الله عز وجل، وفي قصة يوسف عليه السلام أنه غاب عن أبيه عشرين عاماً، وفي التنزيل[يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ]( )، وجاء الحج مناسبة للتعارف وتوثيق أواصر الأخوة الإيمانية بين المسلمين، ومعرفة أحوالهم، والإلتقاء بين أهل الأمصار، ومعرفة الغائب والمفقود في كل سنة فيجتمع المسلمون من مشارق ومغارب الأرض، ولو لم يحضر المفقود بشخصه إذ تتم بواسطة الرسائل.
الرابع : إتقان الفرائض وأحكام الصلاة، والتفقه في أمور الدين.
الخامس : نيل المنافع الدنيوية والتوسعة في الرزق، والمنسأة في الأجل.
السادس :الفوز بمرتبة تعاهد وعمارة البيت الحرام.
السابع : الثواب العظيم الذي يترشح عن أداء الحج.
قوله تعالى [ لِلنَّاسِ]
الآية بشارة ووعد كريم وهبة سماوية تبعث الأمل في النفوس وتطرد اليأس والقنوط وفيها اخبار عن خيوط من الصلة بين عالم الملكوت وعالم العبادة في الأرض , وفيها ترغيب بالإسلام خصوصاً مع العلم بعدم جواز دخول البيت لغير المسلمين.
والناس اكثر من بني آدم باضـافة آدم وحواء فهما من الناس وليس من بني آدم، والآية تثبت ان آدم حج البيت الحرام ليس بالإستصحاب القهري بل بالإخبار باعتبار ان القرآن فيه اخبار الماضين واحوال المستقبل ويؤكده ما ذكر في النصوص بهذا الخصوص.
قوله تعالى [وَأَمْنًا]
تقييد مبارك للإثابة والإجتماع بما يتضمنه ويترشح عنه من الأمن والسلامة والأمان اذ ان الإجتماع قد يكون على خير وقد يكون مقدمة للشر والمناجاة والتشاور، وكل يحث غيره على سلك دروبه وبيان امكانه، والإجتماع في البيت رحمة وامان لأنه عبادة خالصة لله تعالى.
ولا ينحصر الأمن في الآية بمن يأتي البيت وهو أعم لأن الأمن يشمل البيت الحرام وليس الكعبة وحدها والا لتعدى بعضهم على مقام البيت بحجـة القدر المتيقـن من النص وانه خـاص بالكعبـة، ويدل على شموله للبيت تسميته بالبيت الحرام وهو حجـة تحـول دون افـراغ الآية من تأثـيرها الواقعي، فكان البيت هو الأمان وهو محل الطواف واجتماع الناس وقد وردت النصوص باسـتحباب تجـديد نيـة العـودة الى مكـة مـرة اخـرى فانها نسيئة في الأجل.
والأمن في البيت مركب بما يبعث دخوله من الطمأنينة والسكينة والأمن على النفس وبتعظيم العرب والمسلمين له اذ انهم لا يتعرضون لمن فيه، ومن احكامه ان من التجأ اليه لا يقام عليه الحد فيه بل يضيق عليه في الطعـام والشـراب والبيع والشراء حتى يخرج منه الا ان يحدث فيه ما يوجب الحد فيقام عليه لأنه تعدى على حرمته، والحد هنا عقاب وتأديب وهو ايضاً اكرام وتحصين للبيت، وقيل ان المراد من البيت في المقام الكعبة المشرفة وانه من اطلاق الكل على الجزء، ولكن النص ظاهر في البيت ولا دليل على صرفه الى الكعبة وان كانت اخص واكثر قدسية.
والآية بشارة الإسلام وان بدايات الدعوة الإسلامية تكون في البيت الحرام، وظاهر الآية والوجدان ونظم الآيات الاخرى يؤكد ذلك، وفيها دلالة على انتصار الإسلام وعزته والأمان للمؤمنين كما ان ورود اللفظ بصفة الناس وليس المسلمين يدل على عموم بركاته مثلما يشمل الأمن الحيوانات ايضاً بل والنبات فلا يقطع حشيشه ولا يرام الصيد فيه، فالظبي مثلاً لا يمس ان دخل في الحرم .
وفي الحديث: كل شيء ينبت في الحرم فهو حرام على الناس اجمعين( ).
وعن الصادق في الآية: من دخل الحرم من الناس مستجيراً به فهو آمن من سخط الله عز وجل ومن دخله من الوحش والطير كان آمنـاً من ان يهاج او يؤذى حتى يخرج من الحرم، وقد حــدد ابراهيـم الخليل حدود الحرم بالمنار القديمة وكانـت قريـش في الجاهليــة تعـرفهـا لأنهـم ســكـان الحـرم، بل ان حـدوده معينـة منـذ أيام آدم وان الخليل وضع انصابها بدلالــة مـن جبرئيـل عليـه السـلام، وقـد أقـرها النـبي صـلى الله عليه وآلـه وسلم.
وفي الخبر انه كتب مع ابن مِـربَع الأنصاري الى قريش: (أن قِروّا على مشــاعركم فانكـم على إرثِ حـرم لا يحـل صـيده ولا يُقطـع شـجره، وما كـان وراء المنـار فهو من الحـِلّ يحِلّ صيده اذا لم يكن صائده مُحرماً).
وحدود الحرم دون المواقيت التي هي من الحلّ والحرم من جانب مكة الشرقي أكثر من الغربي لأن اشراق نور الحجر كان أكثر الى جانب المشرق.
ونصب أعلام عند أطراف الحرم من جميع الجهات وهي ثابتة منذ أيام إبراهيم عليه السلام إذ دله جبرئيل عليها ثم جددها قصي جد النبي فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم تميم بن أسيد الخزاعي عام الفتح فجددها، لبيان مسألة وهي أن تثبيت وتعاهد حدود الحرم من وظائف المسلمين وولاة الأمر منهم.
وهذه الأعلام عبارة عن أحجار بإرتفاع متر على جانبي الطريق إلى جانب لوحات معلقة وحدود وهي:
الأول : من جهة الشمال التنعيم وبينه وبين مكة 6 كيلو مترات.
الثاني : من جهة الجنوب أضاه بينها وبين مكة 12 كيلومترا.
الثالث : من جهة الشرق الجعرانة بينها وبين مكة 16 كيلو مترا.
الرابع : من جهة الشمال الشرقي وادي نخلة بينه وبين مكة 14 كيلو مترا.
الخامس : من جهة الغرب الشميسي بينها وبين مكة 15 كيلو مترا.
وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها)( )، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: المدينة حرم ما بين عير إلى ثور)( ).
وقد ورد أن المسافة بينهما إثنا عشر ميلاً، وعن الإمام الباقر عليه السلام أن الحرم بريد في بريد وعير جبل عند الميقات، وثور جبل عند أحد يبعد عنه خمسين متراً ولونه يقرب إلى الحمرة وجبل ثور كبير ومستطيل وحوله مزارع ورمال وسباخ.
ولعل في الآية نوع دلالة على اهلية البيت بأن يكون قبلة للمسلمين والحكمة من اتخاذه قبلة كي يساهم الجميع في المحافظة عليه وتقديسه الى جانب كونه موضوع اداء فريضة الحج.
لقد شارك الأنبياء في حفظ قبلة المسلمين وتعاهدها الى حين مجيء الإسلام مما يظهر وجهاً من وجوه تبشير الأنبياء السابقين بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ويكون مصداقاً لقوله: (إنا دعوة أبي إبراهيم)( ).
وفي الآية دلالة على ان ابراهيم كان اقرب للمسلمين في مناسكهم وعباداتهم.
قوله تعالى[ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ]
أمر لتعاهد فعل ابراهيم وحسن امتثاله , وعنوان للعهد على مواصلة وحفظ ما قام به باشرف الأعمال وهو الصلاة، وفي التهذيب عن الصادق ليس لأحد ان يصلي ركعتي طواف الفريضة الا خلف المقام لقوله تعالى [ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ] ان صليتها في غيره فعليك اعادة الصلاة.
لقد إنتقلـت الآيـة الى الخطـاب وبلغـة الجمع في خطاب انحلالي موجه لكل مسلم وهو من ذكر الجزء وارادة الكل، فمن مقاصد الآية الشريفة التوكيد على اداء فريضة الحج ولزوم التقيد بمناسكه واحكامه.
يدل الأمر في الآية على صيغة الوجوب(وإتخذوا) إلا مع القرينة الصارفة عنه، ولما طاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية وصل ركعتين خلف المقام.
ومن العلماء من ذهب إلى القول بأن ركعتي الطواف سنة، وقال الإمام الشافعي: إن صلاة ركعتي الطواف جائزة في أوقات النهي بلا كراهة.
وإستدل على عدم الوجوب بحدث طلحة بن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإِسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة فقال: هل علي غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوّع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل علي غيره؟ قال: لا، إلا أن تطوّع وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوّع)( ).
وفي الرد على الإستلال بهذا الحديث وجوه :
الأول : جاء هذا الحديث بخصوص المقيم في بلده وليس الحاج.
الثاني : يدل قوله تعالى(إلا أن تطوع) على أن صلاة الطواف خارجة بالتخصص، لأنها ليست من التطوع الذي هو بإختيار المكلف كما يدل عليه الحديث وهل يمكن القول بأنها مرتبة وسط بين الوجوب والإستحباب الجواب لا.
الثالث : ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: خذوا عني مناسككم)( )، وقد صلى خلف المقام .
الرابع : الأصل في الخطاب أن يكون متوجهاً إلى المسلمين والمسلمات جميعاً بعرض واحد، كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، ولكن القدر المتيقن من آية البحث هم حجاج وعمار البيت الحرام , ترى لماذا جاءت الآية بصيغة العموم [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( )، الجواب فيه مسائل:
الأولى : بيان حقيقة وهي عدم التعارض بين إرادة عموم المسلمين والمسلمات ووفد الحاج في الخطاب القرآني , وكأنه من المشترك المعنوي.
الثانية : في الآية نكتة عقائدية وهي إنابة وفد الحاج في الموسم لكل المسلمين والمسلمات للسعي في مقدمات الحج ، فصحيح أن تحصيل مقدمة الواجب ليس بواجب إلا أن لا يمنع من البعث والندب إليها.
الثالثة : يتوجه الخطاب التكليفي بالحج للمسلم عند إجتماع شرائط الإستطاعة لقوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، إلا أن تهيئة أسباب الإستطاعة وبذل الوسع لتهيئة وتوفير الزاد والراحلة ليس بواجب .
الرابعة : الحث على إتخاذ مقام إبراهيم مصلى تذكير بالحج وفيه آية إعجازية وقانون ثابت في القرآن يمكن أن تؤلف فيه المجلدات وإسمه(تذكير الآية القرآنية بأختها والعمل بها) فيأتي الوجوب في آية ليذكر بلزوم إجتناب أمر نهى الله عنه في آية أخرى وكذا العكس.
الخامسة : تذكير المسلمين وهم في أمصارهم بجهاد إبراهيم وقيامه برفع قواعد البيت.
السادسة : بيان حقيقة وهي أن الله عز وجل يحفظ للمسلم سعيه في مناسك الحج في الدنيا والآخرة، وليس من حصر لهذه الحقيقة منها الذكر الحسن لأهل التقوى بين الناس أيام حياتهم وبعد مماتهم.
السابعة : تأكيد وجوب الصلاة وملازمتها للمسلم، وأنها الفعل المبارك الجامع بينه وبين إبراهيم، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الثامنة : لزوم حرص المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على البيت الحرام وعمارته وحفظ وتعاهد الآيات التي فيه.
التاسعة : تفقه المسلمين في الدين، ومعرفة أحكام الصلاة ومضان الإستجابة، والأماكن المباركة للصلاة.
العاشرة : إلتقاء حجاج البيت الحرام في السنوات المتعاقبة بأداء مناسك الحج ومنها الصلاة في مقام إبراهيم.
الحادية عشرة : شوق الذي يتهيأ للحج لأداء الصلاة في المقام، قال تعالى[الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ]( ).
الثانية عشرة : إقتباس المسلمين بعضهم من بعض شرائط وأركان الصلاة عند المقام، ويتوارث أهل مكة الصلاة في البيت بأدائها كل يوم عند المقام من يوم الفتح , فيأتي المسلمون من الأمصار الأخرى فيأخذون ويتعلمون منهم، ويكون مادة للإحتجاج , وهو من عمومات كل من:
الأول : قوله تعالى[كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ) فكأن كل حاج يتعلم الصلاة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند المقام.
الثاني : من عمومات[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( )، ويكون التفقه والرجوع هنا بالمعنى الأعم.
الثالث : من مصاديق دعاء إبراهيم والأمن في مكة.
الرابع : إنه وضع البيت للناس وتعلم وضبط الصلاة فيه .
وكان رسول الله يؤخر الوفود التي تأتي إلى المدينة لدخول الإسلام حتى يتعلموا أركان وآداب الصلاة.
الثالثة عشرة : الترغيب بحج التطوع لأن قوله تعالى[وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى]( )، أمر لفعل حاضر أو في المستقبل، فمن حج البيت حجة الإسلام لا ينقطع هذا الخطاب عنه، ولا يخرج عما فيه من الأمر بالتخصص أو التخصيص بل يتجدد الأمر له مما يدل على أن الحج المندوب أعلى رتبة من المعنى الإصطلاحي للندب كواحد من أفراد الحكم التكليفي وخطاب الشرع المتعلق بسنخية أفعال الناس إقتضاءً أو تخييراً , وهي على أقسام:
الأول : الواجب: وهو ما يجب على المكلف إتيانه ويؤثم على تركه.
الثاني : المندوب: وهو أدنى مرتبة من الواجب ويأتي الثواب لفاعله، ولا يؤثم أو يعاقب على تركه.
الثالث : المباح: وفيه مندوحة وسعة ويكون المكلف مخيراً بين إتيانه أو تركه.
الرابع : المكروه: وهو الذي يثاب فاعله، ولكن لو تركه فلا إثم عليه.
الخامس : وهو الفعل القبيح المنهي عنه الذي يجب على المكلف تركه، ويؤثم إن جاء به .
وزاد الحنفية فيها وجعلوها سبعة بالتفصيل في القسم الأول والرابع، إذ قسموا الواجب إلى قسمين:
الأول : ما ثبت بطريق قطعي وسموه الفرض.
الثاني : ما ثبت بطريق ظني وسموه الواجب.
وشطروا المكروه إلى قسمين:
الأول : المكروه كراهة تحريم وهو الذي ورد فيه تحريم ونهي ولكن بدليل ظني لم يصل إلى مرتبة القطع، ويستدلون عليه بأكل ذوات المخلب من السباع أو الطير( ).
الثاني : المكروه كراهة تنزيه، وهو ذاته المذكور في القسم الرابع أعلاه.
وحجة الإسلام من أبهى وأظهر أفراد القسم الأول، وحج التطوع من القسم الثاني، وجاءت آية البحث والأمر بإتخاذ مقام إبراهيم مصلى بتأكيد الوجوب في الأول، والإستحباب في الثاني.
الرابعة عشرة : الترغيب بالصلاة اليومية ومطلق الصلاة وعدم الزهد فيها.
الخامسة عشرة : بيان نعمة وفضل من الله على وفد الحاج وهو أنهم يصلون في البيت الحرام بحصة إضافية بالإمتثال المتعدد لأمر الله بالصلاة، إذ ينفرد المقام بخصوصية وهي الجمع بين الإمتثال للأمر بالصلاة والإمتثال لأدائها في البقعة المباركة ضمن مناسك الحج , إذ إنفرد مقام إبراهيم بخصوصية في القرآن وهي أداء الصلاة فيه، فلم تذكر بقعة أخرى للصلاة فيها ولو على نحو الإستحباب .
ليكون من إعجاز آية البحث أن الخطاب القرآني يتوجه للملايين من المسلمين في الصلاة في موضع بخصوص لا يتجاوز بضعة أمتار، وقد يقال أنه أمر مستحيل في الواقع , ولكنه برهان ومصداق عملي متجدد في كل عام لتكون صلاة وفود الحاج في مقام إبراهيم من عمومات قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )، من وجوه:
الأول : إنه من وضع البيت الحرام للناس، بلحاظ أن أداء ملايين المسلمين للصلاة في هذه البقعة المباركة في أيام معدودات دعوة للناس للإسلام، وحجة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على إستجابة الله عز وجل لدعاء إبراهيم في البيت الحرام ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : من معاني وضع البيت للناس صلاتهم في مقام إبراهيم.
الثالث : يتضمن قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]( )، فدخول البيت لابد وأن يتضمن الصلاة في مقام إبراهيم، ولا تصح إلا من المسلم الذي يأتي بالشهادتين، ويؤديها بقصد القربة إلى الله.
الرابع : تقدير الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ليتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.
الخامس : حينما وضع الله عز وجل البيت للناس فانه تفضل وضمن الأمن والسلامة فيه، وبه جاءت آية البحث بقوله تعالى[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( ).
السادس : وضع البيت للناس مناسبة للثواب والفوز بالجزاء الحسن في الآخرة .
السابع : من مصاديق الأخوة بين المسلمين وعمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، أداؤهم الصلاة جماعة وفرادا في المقام وسعيهم له، فمن لم يستطع أن يحج البيت فانه يشتاق لهذه البقعة المباركة التي تكون لهم طبيعياً كلياً.
السادسة عشرة : في آية البحث حذف والتقدير[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى]( ).
السابعة عشرة : أن المقام والصلاة فيه (معاذ يصدرون عنه ويثوبون إليه. ويقال ان فلانا لمثابة، أي ياتيه الناس للرغبة ويرجعون إليه مرة بعد اخرى( ).
فيرجع وفد الحاج إلى بلدانهم بالفوز بالصلة العبادية والمكانية مع إبراهيم عليه السلام ومع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء حيث الصلاة في ذات البقعة المباركة التي صلوا فيها
الثامنة عشرة : طرد الغلو بالأنبياء والأولياء، فالكل وقف بين يدي الله مستبشراً بالصلاة في هذا الموضع، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ]( )، أي وضع لتعاهد الناس للعبودية لله عز وجل والعصمة من الشرك وعبادة الطواغيت والغلو بالأنبياء.
التاسعة عشرة : لو أجريت إحصائية سنوية أو على مدى السنين المتعاقبة فليس من موضع وبقعة مباركة إجتمع فيها الناس مثل مقام إبراهيم.
وفيه آية إضافية أن هذا الإجتماع عبادي محض وأن[وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا] ( )، إذ تساوي الناس في مقام إبراهيم فكل واحد منهم يؤدي الصلاة إمتثالاً لأمر الله.
العشرون : من مصاديق بركة البيت في قوله تعالى[مُبَارَكًا] قيام المسلمين بالصلاة فيه، جماعة وفراداً، وجوباً وندباً.
الحادية والعشرون : ترغيب المسلمين بالحج والعمرة، والفوز بشرف الإمتثال لأمر الله بالصلاة عند مقام إبراهيم.
الثانية والعشرون : بيان الصلة بين إبراهيم وكل مسلم وإلى يوم القيامة وهي الصلاة في ذات المقام، وهو من مصاديق وراثة المسلمين لسنن النبوة، ومن عمومات قوله تعالى[أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ]( ).
الثالثة والعشرون : صلاة المسلمين في مقام إبراهيم مجتمعين ومتفرقين في المقام من الشكر لله عز وجل على صيرورة البيت موضع إجتماع عبادي مبارك وأمناً للناس، وهو المستقرأ من نظم آية البحث[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى]( ) .
ومن الإعجاز في الآية أن الله عز وجل جعل البيت مباركاً وأمناً من غير حاجة أو موضوعية للصلاة فيه , فهذه الصلاة نفع وخير محض للعباد أنفسهم، قال تعالى[غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
الرابعة والعشرون : تأكيد قدسية المقام، وعن ابن عمر: إن المقام ياقوتة من ياقوت الجنة محي نوره، ولولا ذلك لأضاء ما بين السماء والأرض، والركن مثل ذلك)( ).
الخامسة والعشرون: لا ينحصر موضوع الصلاة في المقام بوفد الحاج فيشمل أهل مكة والمقيمين فيها .
لتدل الآية على عمارة المسجد الحرام بصلاة الجماعة وهو المستقرأ من صيغة (إتخذوا) ولو كانت الجماعة قليلة و ودار الأمر بين أن تصل الفريضة عند المقام أو في موضع آخر من البيت الحرام , فالأول هو الأصح وهو من أسرار آية البحث.
السادسة والعشرون : صيرورة مقام إبراهيم من الوسائط المباركة لحفظ الصلاة بشرائطها وأركانها.
السابعة والعشرون : بيان وتعيين موضع مبارك للنسك والدعاء، وعن الحسن البصري قال: ما أعلم بلداً يصلى فيه حيث أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم إلا بمكة قال الله{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} ويقال: يستجاب الدعاء بمكة في خمسة عشر عند الملتزم ، وتحت الميزاب، وعند الركن اليماني، وعلى الصفا، وعلى المروة، وبين الصفا والمروة، وبين الركن والمقام، وفي جوف الكعبة، وبمنى، وبجمع، وبعرفات، وعند الجمرات الثلاث)( ).
الثامنة والعشرون : الثواب العظيم للإمتثال لأمر الله عز وجل بالصلاة في المقام فكأن في الآية حذفا ويتعلق بالثواب والتقدير: إتخذوا من مقام إبراهيم مصلى والجزاء على الله.
التاسعة والعشرون : بيان مصداق لإمتثال الناس لدعوة إبراهيم في قوله تعالى[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ]( ).
الثلاثون : إظهار دليل متجدد لدعاء وبشارة إبراهيم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى[وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ]( )، فهذه الصلاة علم من الكتاب ومن معاني الحكمة، وتطهير النفوس وعالم الأفعال.
الخامس : إحتمال وجود تقدير في السؤال وهو: هل عليّ غيرها في اليوم والليلة، ولو قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأعرابي عليك صلاة ركعتي الطواف فماذا يكون رد الأعرابي.
السادس : إستقراء تأكيد الوجوب من صلاة النبي ركعتي الطواف عند المقام , وعمومات قوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي)( ).
السابع : الوجوب هو الأصل وهو الأنسب والموافق للإحتياط .
فجاءت الآية للترغيب فيه وعدم التفريط بتلك الأسباب عند إجتماعها، كما لو بذل لك شخص مؤونة ونفقة الحج فيتحقق وجوبه عليك لصدق الإستطاعة حينئذ سواء كان البذل بنية التمليك أو لا، جاء عن نذر أو يمين أو تطوعاً.
(يصدق البذل إذا قال “حج وعلي نفقتك ونفقة عيالك” بل ولو قال “علي إتمام نفقة حجك” كما لو كان عند الذي يروم الحج ما يكفي لنصف نفقة الحج، أو أعطاه مبلغاً يجعله مستطيعاً للحج باضافته إلى ما عنده، أو أعطاه نفقة الحج وكان عند عياله ما يكفيهم ولو بالقوة، أو كان أبوه أو بعض أبنائه يعمل بما يكفي للنفقة اليومية للعائلة)( ) وقد أفردنا باباً خاصاً للحج البذلي في رسالتنا العملية(مناسك الحج).
بحث فقهي
تجب الصلاة ركعتين بعد الطواف الواجب، ووجوبهما نفسي وليس غيرياً أي غير مترشح عن الطواف وعليه مذهب أهل البيت وأبو حنيفة والشافعي في أحد قولين عنه، وأحمد في رواية عنه ويدل عليه قوله تعالى[مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى]( ).
وهي كصلاة الصبح ويستحب قراءة سورة التوحيد بعد الفاتحة في الركعة الأولى، والكافرون بعدها في الثانية أو بالعكس، ويتخير بين الجهر والإخفات، والأحوط اتيانها بعد الفراغ من الطواف من غير تراخ وتوان، وان أخر صحت ايضاً.
ويجب ان تؤدى الصلاة خلف مقام ابراهيم وعليه نصوص مستفيضة وبعضها يفيد إعادة الصلاة ان أُديت في مكان آخر ولو بالحجر مع عدم الزحام ، ويكون المقام كالإمـام أي المكلف يكون خلفه ولكن ليس بعيداً عنه بعداً فاحشاً بحيث لا يصح انه عنده.
هذا كله مع الإمكان ولو تعذر عليه ذلك وكان فيه مشقة بسبب الزحام ونحـوه وضيق الوقت، فيصليهما حيثما تمكن من المسجد مع مراعاة الأقرب فالأقرب.
ولو فاتته صلاة الطواف نسياناً ونحوه فيجب عليه الرجوع خلف المقام ان كان ممكناً كما لو كان قد خرج من مكة ولم يبتعد عنها كثيراً وتيسرت واسطة النقل، وان تعذر أداهما في الحرم مع الإمكان واذا كان فيه مشقة فينيب عنه من يصلي عنه في المقام، او يصليهما حيث يشاء.
وتكون هذه الصلاة مستحبة في حال الطواف المندوب وعليه النصوص والاجماع، ويجـوز اتيانهـا في أي موضع من المسجد بل والبلد، والأولى اتيانهـا في مقام ابراهيم ايضاً لعمومات الآية الكريمة ولأن القيود التي تذكر في المستحبات تكون على نحو الأولوية والأفضلية وليس القيدية الحقيقية.
بحث روائي
ورد عن الإمام الصادق وعن ابن عباس رضي الله عنه مع إختلاف في بعض الألفاظ: (لما أتى ابراهيم باسماعيل وهاجر فوضعهما في مكة واتت على ذلك مدة ونزلها الجرهميون وتزوج اسماعيل امرأة منهم، وماتت هاجر واستأذن ابراهيم سارة ان يأتي هاجر فاذنت له وشرطت عليه ان لا ينزل، فقـدم ابراهيـم وقد ماتت هاجر فذهب الى بيت اسماعيل فقال لأمرأته اين صاحبك؟ قالت ليس هنا ذهب يتصـيد، وكان اسماعـيل يخرج من الحرم فيصيد ثم يرجع، فقال ابراهيم: هل عندك ضـيافة؟ قالت ليس عنـدي شـيء وما عنـدي احد، فقـال لها ابراهيـم اذا جـاء زوجـك فاقـرئيـه السـلام وقـولي له فليغـير عتبة بابه.
وذهب ابراهيم فجاء اسماعيل فوجد ريح ابيه، فقال لأمرأته: هل جاءك احد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخفة بشأنه، قال فما قال لك؟ قالت: قال لي اقرئي زوجك السلام وقولي له فليغير عتبة بابه فطلّقها وتزوج اخرى.
فلبث ابراهيم ما شاء الله ان يلبث ثم استأذن سارة ان يزور اسماعيل فاذنت له واشترطت عليه ان لا ينزل، فجاء ابراهيم حتى انتهى الى باب اسماعيـل فقال لأمـرأته اين صاحبك؟ قالت ذهب يتصـيد وهو يجيء الآن ان شاء الله فانزل يرحمك الله، قال لها: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم، فجـاءت باللبن واللحم فدعا لهما بالبركة، فلو جاءت يومئذ بخبز او بر او شعير او تمر لكانت اكثر ارض الله براً وشعيراً وتمراً.
فقالت له انزل حتى اغسل رأسـك فلم ينزل، فجاءت بالمقام فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فبقي اثر قدمه عليه، فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولت المقام الى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي اثر قدمه عليه، فقال لها: اذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي له قد استقامت عتبة بابك، فلما جاء اسماعيل وجد ريح ابيه، فقال لأمرأته: هل جاءك احد؟ قالت: نعم شيخ احسن الناس وجهاً واطيبهم ريحاً فقال لي كذا وكذا، وقلت له كذا وغسلت رأسه وهذا موضع قدميه على المقام، فقال اسماعيل لها ذاك ابراهيم عليه السلام.
ويستقرأ من الحديث في خصوص ريح النبي، وما ورد في كتب الحـديث ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان تشم منه رائحة طيبة عن بعد، ولعله ريح النبوة الملكوتي وان بدا ظاهراً انه من الطيب المتعارف والمسك المستعمل.
في علم الحديث
علي بن ابراهيم المتوفي سنة 329 للهجـرة ينسب له هذا التفسير وقيل ليس من صنعه وانما هو تلفيـق من املاءاتـه على تلميـذه ابي الفضل العباس بن محمد العلوي وشطر من تفسير ابي الجارود ضمه اليها ابو الفضل واكمله بروايات من عنده.
وابو الجارود المتوفي سنة 150 للهجرة هو رأس الجارودية وكان مكفوفاً، وقيل أن الصـادق ذمه، وروي تفسيره عنه ابو سهل كثير بن عياش القطان واليه ينتهي طريق الشيخ والنجاشي الى تفسيره.
ووضع ابو الفضل هذا مقدمة للتفسير وضمنها مختصراً من روايات منسوبة الى امير المؤمنين في صنوف آي القرآن، وذكر ابو الفضل في التفسير ما رواه الشيخ القمي باسناده عن الصادق من تفسير القرآن، وما رواه ابو الجارود عن الإمام الباقر عليه السلام، واكمله بما رواه عن سائر مشايخه.
فهذا التفسير جامع لها، ونسـبته الى علـي بن ابراهيـم لكثرة الروايـات المأخـوذة عنه او اكراماً من ابي الفضل لأستاذه او لأنه المعروف والأشهر، وقيل انه ادخـل في تفسـيره ما يـرد عن الزيديـة لترويـج التفـسير بينهـم لإحتمـال انه سكن طبرستان وكان اهلها آنذاك من الزيدية.
والتفسير يبدأ بقوله حدثني ابو الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر قال حدثنا ابو الحسن بن ابراهيم، والذي يقول حدثني مجهول آخر او مبهم غير معروف، وابو الفضل العباس العلوي ايضاً مجهول ولم يذكره احد من اصحاب التراجم بمدح او ذم، نعم ورد ذكره بانه من اعقاب حمزة بن الإمام موسى بن جعفر فهو مهمل في علم الرجال.
وبذا يكون طريق هذا التفسير مجهولاً ولا بأس بالعناية بشطر من اخباره وان كانت آحاداً لم تبلغ حد التواتر اللفظي او المعنوي، فلا يمكن طرحها واسـقاطها من رأس لاسـيما وانها مشـهورة ، ولم ينعدم النظير في نسبته وسنده في المعارف وابواب المواعظ والمندوبات والأخبار .
مع موضوعية حديث العرض على القرآن , فما خالف القرآن فلا يؤخذ به .
قوله تعالى [وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طهِّرَا بَيْتِي]
الأمر والوصية والعهد من الله تعالى على نوعين عام وخاص، ومن العام قوله تعالى [ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ ]( ).
والخاص في هذه الآية ان العهد بالمعنى الأخص ورد في السنة ايضاً كما في حديث علي عليه السلام: عهد الي النبي الأمي أي أوصى، وان كان مفهوم العهد في هذه الآية يحمل على الأعم وان اختصاص الخطاب على نحـو التشـريف وبيـان ميثاق النبـوة وانعدام الوسائط البشرية لا على نحو القيدية الحقيقية.
والعهد هنا الإلزام والتولية والآية تدل على اهليـة ابراهيم واسماعيل لهذه المسؤولية العظيمة واسـتحقاقهما لتحمل الأمانة بمســؤوليـة وتشـريـف، وتـدل علـى وجـود البيت قبل ابراهيم وان قامـا ببنائه، فالتطهير موضـوع لاحـق ومتعقب للإنشـاء، ويفيد إخبـار الآيـة عن البيـت علـى نحـو العهدية أنه كان معهوداً عندهما.
ويتضمن الأمر بتطهير البيت تنزيهه من الشرك والدنس وعبادة الأوثان والمعاصي وهو جزء من جهاد ابراهيم واسماعيل.
ويحتمل قوله تعالى [وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] وجوهاً :
الأول : إرادة الذين في زمان إبراهيم عليه السلام .
الثاني : المقصود المعنى الأعم وأن الأمر الإلهي إلى إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت بشارة إستجابة الله عز وجل لهما في دعائهما ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمة الإسلام [وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً] ( )
الثالث : المقصود خصوص الركع السجود الذين يؤدون الصلاة في البيت الحرام وهو القدر المتيقن من الآية.
الرابع : مطلق الركع السجود في جميع بقاع وأمصار الأرض بلحاظ أن البيت قبلة لهم لتكون القبلة مهيأة لهم وقد طهرها الأنبياء من دنس الذنوب وأسباب الشرك والصحيح هو الثاني والرابع.
لإصالة الإطلاق وإرادة توجه كل مسلم في صلاته إلى قبلة طاهرة نقية ليكون معاني قوله تعالى [ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ] ( ) .
أن المسلمين يتوجهون إلى قبلة قد تعاهد طهرها ونقاءها إثنان من كبار الأنبياء وفيه أن أمر نسخ القبلة ليس بجديد وأن النبي يقلب وجهه في السماء لأن إبراهيم وإسماعيل طهرا البيت الحرام ليستقبله المسلمون، فكلما يتخذ المسلمون الوضوء والطهارة مقدمة وشرطاً للصلاة فان الله قد تفضل وطهر لهم البيت الحرام بواسطة الأنبياء وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
بحث قرآني
قيل في علم التفسير في قوله تعالى [ أَنْ طَهِّرَا بَيتِي] (ان ظاهره الكعبـة وباطـنـه القلـب، وان العــالم يتجـاوز الى القلـب بطـريق الإعتبـار عند قـوم والأولى عند آخـرين، ومن باطنـه الحـاق سائر المساجد به).
وعلى القول بأن للقـرآن ظهراً وبطـناً , فهو من اعجاز القرآن واسراره وذخائره المكنونة، ولكن ذكر بعض المصاديق للتأويل والباطن يحتاج الى دليل.
فالقدر المتيقن ان الآية نزلت بالبيت تنزيهاً له واخباراً عن اهميته واعتباره في الشريعة والمناسك، واظهار ما للآية من باطن لا يكون بالتجاوز فلابد من برهان , وهناك نصوص تتعلق بالمساجد الأخرى وتطهير القلب وصفاء النية وما يدريك لعل باطن الآية يتعلق بالبيت الحرام نفـسه ومصـاديق تطهيره ومقدماته وكيفيته واثره في النفوس والعبادات واداء المناسك , لذا يمكن تشريع قانون بخصوص باطن الآية يتقوم بوجوه:
الأول : يتقوم الباطن بأنه فرع من ظاهر الآية الكريمة.
الثاني : يتعلق المعنى بظاهرها ودلالاته قال تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( )، فجعل موضوعية للفظ القرآني ولغة التفاهم والتخاطب والتبادر إلى الذهن منه.
الثالث : عدم ميل الباطن عن الظاهر.
الرابع : عدم خروج الباطن عن الحق والهدى ونص آيات القرآن والسنة فهو من عمومات تفسير القرآن بالقرآن فما يذكر من معنى للآية القرآنية لابد وأن يكون جلياً ظاهراً في منطوق آية أخرى.
الخامس : لا يجوز الإنشغال بالسياحة في الباطن وترك الظاهر، ولا يصح إعطاء الأولوية للباطن المخترع والمستحدث الذي ليس فيه كتاب أو سنة وعلى فرض أنه مقتبس من الكتاب والسنة فإن هذا الإقتباس يتعلق به بالذات وليس لكونه تأويلاً باطنياً لآية لها ظاهر جلي لا يترك بأي حال من الأحوال.
السادس : المدار في أحكام ودلالات الآية القرآنية على ظاهر ومنطوق الآية القرآنية، وليس من حجة للباطن فإن قلت قد يكون هذا الباطن من السنة، الجواب يحتمل حينئذ وجهين:
الأول : إنه تأويل للآية القرآنية، فهو من الظاهر.
الثاني : جاء الحديث مستقلاً فلا تصل النوبة للتأويل بالباطن.
السابع : إذا كان القول بالتفسير بالباطن باباً لفرقة المسلمين وبث روح الخلاف بينهم فلابد من طرحه وتركه، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
وتترشح مفاهيم التقوى على القلوب من البيت بالواسطة وعلى المجتمعات من باب أولى بدليل النهي عن الرفث والفسوق والجدال في الحج وما في التقيد بهذا النهي من تهذيب للنفوس واصلاح للمجتمعات.
قوله تعالى [ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]
تدل الآية على تعدد وجوه العبادة في البيت الحرام مما لم يكن في غيره، فالركوع والسجود يكون في المساجد وغيرها اما الإعتكاف فيكون في بعض المساجد، والطواف لا يكون الا في البيت الحرام، فهو من مختصات البيت الحرام.
وفيه نكتة اعجازية وهي ان الصلاة انبثقت من البيت الحرام، وكذا عند البعثة النبويـة، فكان ابراهيم ممهداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته الأمر الذي يعتبر دعوة لبني اسرائيل لاتباعه.
ومتعلق التطهير في الآية للأصناف الثلاثة يحتمل وجوها :
الأول : الذين في زمان ابراهيم واسماعيل.
الثاني : الذين من بعدهما.
الثالث : عموم المسلمين.
الرابع : الوجوه الثلاثة أعلاه مجتمعة.
وظاهر الآية الإعـداد والتهيئة للمعنى الأعم بدليل بقاء معالم التطهير الى زماننا، ولم يرد الأمر بتطهير البيت في القرآن الا لإبراهيم واسماعيل في هذه الآية، وورد ايضاً في سـورة الحج أمرا وخطابا الى ابراهيم على نحو الإنفراد [ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ]( ).
ولا تعارض بينهما ومقتضى الجمع ان الإشتراك في تلقي العهد والأصالة لكل منهما فاسماعيل لم يكن العهد له على نحو عرضي تابع وان توجه لإبراهيم على نحو الإبتداء والنصيب الأوفر للأبوة ولأنه رسول من أولي العزم.
وبلحاظ الجمع بين الآيتين يحمل الأمر له بأنه لإسماعيل ايضاً بالواسطة وان الأمر للنبي قد ينحل الى أكثر من نبي، وهذه الآيـة تبين ان وظائف الرسول من أولي العزم اكبر من غيره ولو من جهة التأسيس والتشريع والإمضاء، والا فان خطاب التطهير ينحل بعدد المكلفين، الا ان الكفار منعوا عن انفسهم تحمل هذه المسؤولية بارادتهم واختيارهم.
وأخرج البيهقي في الشعب عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس بخمسمائة صلاة)( ).
والطواف بالبيت نهج الملائكة قبل آدم بالفي عام، والصلاة في المسجد الحرام تمتاز بخصوصـية وهي الثواب الجزيل فهي تعدل مائة ألف صلاة، ثم مسجد النبي عشرة آلاف، ثم مسجد الأقصى والكوفة وفي كل منهما ألف صلاة، ثم المسجد الجامع في البلد وفيه مائة صلاة، ثم مسجد القبيلة وفيه
تعدل الصلاة خمساً وعشرين، ثم مسجد السوق وفيه تعدل اثنتي عشرة صلاة.
بحث فقهي في الإعتكاف
الاعتكاف لغة هو الإحتباس اذ ان مادة العكوف تدل على الحبس واللزوم يقال عكفه يعكفه عكفاً: حبسه، وقد يرد بمعنى اللبث المتطاول وفي الإصطلاح هو اللبث في المسجد بقصد العبادة ويدل على رجحانه قوله تعالى[أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ].
وأما السنة فقد وردت نصوص مستفيضة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها: “اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجتين وعمرتين”( )، بالاضافة الى اجماع المسلمين في الفتوى والعمل.
ويدرك العقل محبوبية الالتجاء الى دار المحبوب وانتظار افاضاته، ويكفي قصد التعبد بنفس اللبث، وله مطلوبية في ذاته اذ ان الانقطاع عن الدنيا والكف عن مشاغلها بقصـد التقرب الى الله عز وجل أمر وجودي ذو اعتبار، وعند الشك في الزائد فالمرجع أصالة البراءة.
ولا يصح الإعتكاف الا من مكلف مسلم ويشترط فيه النية وقصد القربة واذا كان مندوباً ومضى منه يومان وجب الثالث على الأقوى ويشترط فيه الصوم ولا يصح ان يكون اقل من ثلاثة ايام , وقال مالك لا يعتكف أقل من يوم وليلة.
ومن حيث المكان فهو لا يصح الا في مسـجد جامـع أي المسجد الذي يجتمع فيه معظم اهل البلد وقد يطلق عليه نعت المسجد الأعظم، وعلى قول ان الإعتكاف لا يصح الا في المساجد الأربعة البيت الحرام والمسجد النبوي ومسجد الكوفة ومسجد البصرة، ومنهم من جعل بدل الأخير مسجد المدائن لأن الضابط هنا كل مسجد جمع فيه نبي او امام جماعة، ومنهم من قيده بالجمعة دون الجماعة، ولكن قاعـدة نفي الحرج بخلافه، الى جانب عمومات القواعد الإمتنانية والتسهيلية.
وقال مالك : لا اعتكاف إلا في مساجد الجمعات ولا يعتكف أقل من يوم وليلة، وقال جماعة: لا إعتكاف إلى في مسجد نبي.
وروي عن عائشة أنه يعتكف في غير مسجد( ).
والإعتكاف في بداية تشريعه كان في البيت الحرام، والآية تدل على ان زمانه سابق ومتقدم على عهد الإسلام وبذا فان المسلمين يتعاهدون عبادة امر الله عز وجل الأنبياء السابقين بها وبتهيئة اسبابها ومقدماتها للمسلمين، لذا ورد عن الإمام الصادق في الآية قال: (ينبغي للعبد ان لا يدخل مكة الا وهو طاهر قد غسل عرقه والأذى وتطهر)( )، وهو محمـول على الإستحباب ومرتبة متقدمة من مراتب التطهير تتعلق بالطهارة الظاهرية كانعكاس واتمام للطهارة المعنوية من دنس الذنوب.
انها النعمة المتجددة في كل عام والاعلان ذو الصبغة العالمية بمبادئ التوحيد ووثيقة تأمين لحفظ الأرض وأهلها لمدة عام من آفات الهلاك، وباب فتحه الله تعالى لإزالة الحجب بين الباري وقلوب عباده وسبيل لإزاحة تلك الغشاوة التي ترشحت من المعاصي والذنوب اذ ان الحج توبة وورود على المحبوب.
انه الموضع الذي يظهر فيه للحس والوجدان عظيم كبريائه وجلاله تعالى، يرفع الناس ومنهم الملوك والسلاطين أصواتهم بالتلبية بروح الذل والخضوع والإستكانة وبلباس الرق وهم مستبشرون ويتدافعون لتقبيل الحجر الأسود مع هدية الأنعام تقرباً وقرباناً وطاعة، واشتراك النفس والجوارح برجم الشيطان بالجمار والتقيد التام بأداء المناسك.
قوله تعالى[وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] الآية 126.
القراءة الإعراب
قرأ ابن عامر فأمتعه بسكون الميم والباقون بفتح الميم وتشديد التاء.
(وروي عن ابن عباس في الشواذ فأمتعه قليلاً بصيغة الدعاء من إبراهيم عليه السلام) ( ).
وإذ: الواو حرف عطف وإستئناف.
إذ: ظرف لما مضى من الزمان في محل نصب بفعل محذوف تقديره: إذكر.
قال: فعل ماض مبني على الفتح.
إبراهيم: فاعل مرفوع بالضمة.
رب: منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على الباء، محـذوف منه حـرف النـداء جـوازاً كمـا في قـوله تعـالى[رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ]( )، نعم لا يجوز حـذف حرف النداء مع المندوب والضمير والمستغاث والمنادى البعيد مما يعني هنا أن رحمة الله قريب من دعوة إبراهيم، وإبراهيم يعلم أن دعوته مسموعة.
اجعل: فعل طلب، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت.
هذا: اسم إشارة، مفعول به أول.
بلدا: مفعول به ثانِ.
آمناً: صفة لبلدا منصوب مثله.
ارزق أهله: عطف على أجعل، أهله: مفعول به مضاف.
الهاء: مضاف اليه.
من الثمرات: جار ومجرور، متعلقان بارزق.
من: اسم موصول، بدل من أهله.
آمن: فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر، والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول.
منهم: جار ومجرور، متعلقان بمحذوف حال.
بالله: جار ومجرور، متعلقان بآمن.
واليوم: معطوف على اسم الجلالة، الآخر: صفة.
قال: فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، يعود إلى الله تعالى، ومن: الواو: حرف عطف.
من: اسم موصول، معطوف على “من” الأولى.
كفر: فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر والجملة لا محل لها لأنها صلة.
الفاء في امتعه رابطة للجواب أي أنها واقعة في جواب الشرط لأن اسم الموصول (من) تضمن معنى الشرط، وقيل الفاء عاطفة.
أمتعه: فعل مضارع، وفاعل مستتر ومفعول به.
قليلا: مفعول مطلق، ثم: حرف عطف يفيد الترتيب والتراخي.
أضطره: عطف على أمتعه.
إلى عذاب النار: جار ومجرور، وعذاب مضاف، النار: مضاف اليه.
وبئس: الواو إستئنافية، بئس: فعل ماض جامد يفيد الذم.
المصير: فاعل بئس ومتعلق الذم محذوف تقديره مصيره.
(البلدة والبلد كل موضع او قطعة مستجيزة عامرة او غير عامرة) ( )، والجمع البلدان ويأتي البلد بعنوان جنس المكان كالعـراق والشام، والبلدة الجزء المخصـص منه كبغداد ودمشق، وقد يراد من البلد مكـة خاصـة تفخيماً لها كالنجم للثريا.
وورد لفظ (ربَّ) في القرآن سـبعاً وسـتين مرة بصيغة الدعاء والسؤال والمنادى، وجاء على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء والولي والمؤمن وغيرهم بل حتى على لسان ابليس [ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( ) والرب من أمهات الأسماء الحسنى واعظمها واقربها إلى العباد وأشوقها الى النفوس مطلقاً.
والإضطرار: هو الإحتياج الى الشيء واصله اضتر على وزن افتعل، فجعلت التاء طاء لأن التاء لا يحسن لفظها مع الضاد.
في سياق الآيات
الآية ذات موضوع مركب فقد جاءت بمفهومها ومضامينها في بناء ابراهيم العقائدي في التهيئة والتوطئة للإسلام مثلما جاءت الآية السابقة في بيان العمل الذي قام به إبراهيم في جهاده ببناء البيت الحرام.
والصلة بين هذه الآية والآيات المجاورة على شعبتين:
الشعبة الأولى: الصلة بين هذه الآية والآيات السابقة، وهي على وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية وآية(فضلتكم)( )، وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه خطاباً لبني إسرائيل ودعوتهم لذكر نعمة الله عليهم، وهذا الذكر على نحو الوجوب، وجاءت هذه الآية لبيان نعمة الله عز وجل من وجوه:
الأول: نعمة الله على الناس عموماً بالأمن والأمان في مكة المكرمة.
الثاني: مجيء الرزق الكريم والطيبات إلى أهل مكة.
الثالث: توالي النعم على المسلمين، وفيه مسائل ثلاثة:
الأولى: ترغيب بني إسرائيل بالإسلام.
الثانية: بيان تفضيل المسلمين بالرزق الكريم.
الثالثة: تفضيل المسلمين بأداء فريضة الحج، وعمارة البيت الذي إختصه الله عز وجل لنفسه.
الثانية: الإنذار والوعيد للمشركين وأهل الجحود، وفيه حث لليهود أيام البعثة النبوية المباركة بعدم الميل والتواطئ مع مشركي قريش وأن ظهرت النعم على قريش لأن عاقبتها إلى الخسران المبين.
الثالثة: بيان تفضيل المسلمين بالإسلام، وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية[لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ]( ) وفيها مسائل:
الأولى: ذكرت الآيتان يوم القيامة، وقد ذكرته الآية أعلاه على نحو التحذير والإنذار، أما هذه الآية فقد ذكرته مرتين:
الأولى: لزوم الإيمان بيوم الحساب، وهو ملازم للإيمان بالله عز وجل.
الثانية: العذاب الأليم للكفار والجاحدين.
الثانية: موضوعية الدعاء في الصلاح وبعث الأمن في البلدان وبيان حقيقة وهي أن الدعاء من تقوى الله والخشية من الحساب الأخروي، إذ إبتدأت الآية أعلاه بقوله تعالى[وَاتَّقُوا يَوْمًا] وإبتدأت هذه الآية بسؤال ودعاء إبراهيم عليه السلام.
الثالثة: إلتقاء بني إسرائيل والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في النسب لإبراهيم عليه السلام.
الرابعة: بيان تفضيل المسلمين بدعاء إبراهيم عليه السلام لهم بالأمن والنعم والثروة والثمرات.
الخامسة: دعوة الناس إلى عدم الإفتتان بالدنيا وما فيها من النعم، وأنها متاع قليل، مما يدل في مفهومه على لزوم الإستعداد لعالم الحساب والجزاء قال تعالى[وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ] ( ).
الثالث: الصلة بين آية(وإذ إبتلى) ( )وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: لم ينقطع إبراهيم عن الدعاء بعد الإبتلاء والإمتحان ونيل مرتبة الإمامة وهي من أشرف المقامات، بل إتخذها وسيلة للإجتهاد بالدعاء.
الثانية: بيان أهلية إبراهيم للإمامة فأنه لم يسأل الأمن لنفسه أو بخصوص زمانه أو ذريته بل سأله لمجاوري البيت الحرام بما يساعد على إستدامة عمارته التي هي من مصاديق العبادة في الأرض، وذات أثر وموضوعية في تثبيتها وتجديدها.
الثالثة: إن إبتلاء إبــراهيم بالكلمــات شاهد على إقراره بالعبودية لله عز وجل وطاعته لأوامره، فجاء الدعاء في هذه الآية من تسليمه بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل، وأن الأمن ودفع أسباب الخوف ومقدمات الفزع لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
وتتجلى الدلالات الباهرات في إستجابة هذا الدعاء في كل زمان، وكانت القبائل العربية حول مكة تتقاتل ويغير بعضها على بعض، ومجاوروا البيت في أمن وبسطة من العيش، فأن قلت إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أوذي وأصحابه في مكة مع أنه أشرف الناس، والجواب من وجوه:
الأول: إنقطاع هذا الأذى بهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه.
الثاني: قيام كفار قريش بالزحف على المدينة المنورة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعرضهم للهزيمة القاسية التي إقترنت بالخزي والخسارة الفادحة.
الثالث: لم تمر إلا ثمان سنوات على هجرة النبي من مكة حتى دخلها فاتحاً ليسود الأمن فيها إلى يوم القيامة مقترناً بصلاح أهلها.
الرابع: من مصاديق الأمن في المقام الإنتقام من الظالمين الذين يبثون الخوف والفزع في مكة.
الرابعة: من إمامة إبراهيم عليه السلام للناس بقاء بركات ومصاديق دعائه بالأمن في مكة المكرمة.
الخامسة: الدعاء بالأمن في مكة هو للناس جميعاً لأن الله عز وجل جعل البيت[مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( ).
السادسة: جاءت آية (إذ إبتلى) بحجب الإمامة عن الظالمين، وجاءت الآية محل البحث بالوعيد بالعذاب الأليم للكافرين.
الرابع: الصلة بين الآية السابقة آية [وَإِذْ جَعَلْنَا]( ) وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: بين هذه الآية والآية السابقة عموم وخصوص مطلق، فموضوع هذه الآية مكة ومنها البيت الحرام، وموضوع الآية السابقة البيت الحرام فأمن مكة يدل بالدلالة التضمنية على توكيد أمن البيت الذي ذكرته الآية السابقة.
الثانية: لقد جعل الله عز وجل البيت الحرام أمناً وسلاماً، وجاءت هذه الآية بسؤال إبراهيم الأمن في مكة، وفيه نكتة عقائدية وهي من خصائص الإمامة الإقتباس والنهل من الفضل الإلهي بسؤال السعة والتعدد والإجتهاد فيه ، وهذا القانون وإن جاء بخصوص إبراهيم إلا أنه ورد من باب التأديب والتعليم والإرشاد للمسلمين في سؤال الحوائج والمندوحة فيه وفيها.
الثالثة: أمن مكة مقدمة ونوع شرط لمجيء الناس للحج والعمرة، وعمارة البيت الحرام، فحينما جعل الله عز وجل البيت (مثابة للناس) جاءت هذه الآية للتخفيف عنهم، وعدم التكليف بما لا يطاق.
الرابعة: ذكرت الآية السابقة إنقطاع عمار البيت الحرام للعبادة والدعاء والصلاة، فهم بين طائف وراكع وساجد، فجاءت هذه الآية لنشر الأمن حواليهم، وإستمرار إجتهادهم في طاعة الله، وحجب الفزع والخوف عنهم.
الخامسة: للبيت وظائف ومنافع عظيمة للناس جميعاً، ومنها ما ورد في الآية السابقة[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( )، ترى هل إقترن الأمن في البيت بدعاء إبراهيم كما في هذه الآية أم أن الآية السابقة تؤكد سبق الأمن في البيت لزمان ودعاء إبراهيم , الجواب هو الثاني ليأتي دعاء إبراهيم توكيداً لنعمة الأمن في البيت، وفيه نكتة عقائدية وهي أن من وظائف المسلمين أمورا :
الأول: الدعاء يجعل البيت الحرام آمناً وهو من مصاديق إتباعهم لإبراهيم عليه السلام.
الثاني: تعاهد الأمن في البيت الحرام وفي مكة وما حولها وعدم الإعتداء فيه والإجماع على أن من جنى جناية ودخل البيت يكون في أمن إلى أن يخرج منه.
الثالث: تلاوة آيات القرآن التي تتضمن الإخبار عن الأمن في البيت الحرام.
وجاءت الآية السابقة بتفضل الله بجعل البيت آمناً، أما دعاء إبراهيم في هذه الآية فجاء لعموم البلد وهو مكة، وبينهما عموم وخصوص مطلق، وقد يرد أحدهما والمراد منه الآخر.
إن الأمن في مكة مرآة ومثال للأمن في البلاد الإسلامية بسيادة أحكام الحنيفية السمحاء، ليكون الأمن الذي سأله إبراهيم رشحة من رشحات العمل بأحكام وسنن الإسلام وتنزه المسلمين عن الظلم، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الشعبة الثانية: الصلة بين هذه الآية والآيات التالية , وهي على وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية والآية التالية[ وَإِذْ يَرْفَعُ] ( )، وفيها مسائل:
الأولى: الملازمة والتداخل بين دعاء إبراهيم للأمن في مكة وبين بنائه للبيت الحرام.
الثانية: مع الأمن والأمان في مكة تستديم عمارة البيت الحرام.
الثالثة: إن الله عز وجل يسمع الدعاء ويقبل الفعل الصالح من المؤمنين.
فجاءت الآية السابقة بسؤال الأمن لمكة، وجاءت هذه الآية في بناء إبراهيم وإسماعيل البيت الحرام وسؤال الله عز وجل أن يتقبله.
الرابعة: التباين في موضوع خاتمة الآيتين جاءت خاتمة هذه الآية بالإنذار والوعيد للكفار، بينما جاءت خاتمة الآية التالية بالتضرع والثناء على الله عز وجل والإقرار بفضله وإحسانه وعظيم قدرته.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية[أمة مسلمة]( ) وفيها مسائل:
الأولى: حرص الأنبياء على إستقرار الإيمان في نفوسهم.
الثانية: فزع ونفرة الأنبياء من الكفر وأهله.
الثالثة: بيان المنزلة الرفيعة للمناسك وأن الأمن مقدمة لأداء الوظائف العبادية.
الرابعة: أختتمت هذه الآية بالوعيد للكفار، وجاءت خاتمة الآية أعلاه بالثناء على الله عز وجل بصفاته وأسمائه الحسنى وأنه هو التواب الرحيم، ويفيد الجمع بين الآيتين حث الناس على التوبة والإنابة، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا]( ).
الخامسة: جاءت هذه الآية بدعاء إبراهيم مع أن الآية السابقة ذكرته وإسماعيل.
وجاءت آية(ربنا وأبعث) بدعاء مشترك لإبراهيم وإسماعيل في أمة من ذريتهما تتعاهد الإيمان وعمارة المسجد الحرام، وتبذل الوسع في نشر الأمن في البيت الحرام ومكة المكرمة، ومن أفراد هذا الأمن إقامتها الصلاة جماعة وفراداً , والطواف الواجب والمستحب بالبيت الحرام , وجعل الناس يقتدون بهم.
الثالث: الصلة بين هذه الآية وآية [رَبَّنَا وَابْعَثْ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: الأمن والأمان في مكة وعاء ومناسبة كريمة لنشر مبادئ الإسلام.
الثانية: لقد سأل إبراهيم وإسماعيل الأمن والواقية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: تأتي نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بلد فيه خيرات وثمرات وبركات ليدل التصديق بنبوته على إرادة قصد القربة والطاعة لله، فلم يلتحق به الذين يريدون نهب الأموال، وقد آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من له أموال طائلة، وكثير من أصحابه تركوا أملاكهم وأموالهم في مكة ليعيشوا حالة عوز في المدينة المنورة المنورة قبل أن يفتح الله على المسلمين.
الرابعة: لما سأل إبراهيم الثمرات والطيبات لمجاوري البيت من أهل الإيمان، جاءت هذه الآية لسؤال بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفقه أهل مكة بأمور الدين ليكون نوع شكر لله عز وجل على نعمة الأمن والخير والثمرات.
الخامسة: أختتمت الآية محل البحث بالوعيد للكفار، وأختتمت الآية أعلاه بالمدح والثناء على الله عز وجل , وذكرت إسمين من أسمائه الحسنى [إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]، وفيه إنذار إضافي للكفار، ودعوة للناس جميعاً للإنابة والإيمان والفوز بأداء مناسك الحج.
موضوع الآية
تتعلق الآية بمكة شرّفها الله إنشاء وتمصيراً وإستدامة وحال أهلها على مرّ الزمان ومعالم تثبيت ركن العبادة في الأرض وان العبادة لا تنحصر بالجوارح، فمن خواص الحج انه عبادة بدنية مالية.
وتبين الآية نكتة عقائدية وهي أن منزلة الإمامة تتضمن العلم بأحوال الأمم وما يصلح الناس، فجاء سؤال إبراهيم بأمرين هما:
الأول: الأمن والسلام.
الثاني: العافية والرزق الكريم , ليكونا وعاء ومناسبة للتفقه في الدين، ونشر مبادئ الإسلام.
وقد إنتفع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أموال خديجة في نشر الإسلام والوقاية من كيد ومكر قريش إذ كانت لها تجارة مع الشام وسخرت أموالها في دعوة النبي إلى الله وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما نفعني مال قط ما نفعني مال خديجة)( ).
لقد أراد الله عز وجل للمؤمنين إتخاذ الأموال سلاحاً للثبات على الإيمان، ووسيلة لإكتناز الصالحات والفوز بالجنان يوم القيامة، وقد يظن الكفار أن النعم التي عندهم من جهودهم وسعيهم وكسبهم، فيصابون بالغرور والطغيان ويتخذونها آلة لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
فجاءت هذه الآية لزجرهم عن الطغيان، وطرد الغفلة عنهم وعن الناس، ومنع الناس من الإفتتان بكفار قريش وسطوتهم وأموالهم لأنها بالأصل جاءت بدعاء الأنبياء، ورشحات البيت الحرام وجواره , وهي إلى زوال مع سوء العاقبة الذي ينتظر الكفار وهو وإن كان يتعلق بعالم الآخرة إلا أنه يجعل النفوس تنفر من الكفار، ولا تصغي إلى أسباب الشك والريب والإفتراء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
وجاءت الآية بتقسيم أهل مكة إلى قسمين:
الأول: المؤمنون.
الثاني: الكفار.
وبينت وجوب الإيمان بالله عز وجل والإقرار بيوم القيامة , ولم تذكر الآية موضوع الكفر، ويدل عليه التضاد مع الإيمان أي أن الكفار هم الذين يكفرون بالله واليوم الآخر.
إعجاز الآية
من إعجاز الآية أن موضوعها يشمل الإمتداد الزماني منذ بعثة ابراهيـم إلى يومنا هـذا،وما بعده إلى يوم القيامة , إنها تتحدى الموانع الطبيعية والمجعولة، ومن إعجازها ان ذكر البلد لم يكن على نحو النعت والإخبار بل على نحو الدعاء أي سأل الله عز وجل أن يصبح المكان بلداً.
وتقييده بالأمن له دلالات أيضاً وأن إبراهيم يعلم أنه سيكون حول البيت بلد وقاطنون , وفي هذه الآية تتجلى مضامين الإعجاز الغيري ظاهرة للعيان, محسوسة بالوجدان على توالي السنين وآنات الزمان.
لقد جعل الله عز وجل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) فجاء بالتفصيل في قصة إبراهيم ودعائه لمكة وأهلها مما يدل على منزلتها عند الأنبياء وفي التأريخ، لقد أسكن إبراهيم زوجته هاجر وولده إسماعيل في مكة وهي قاحلة جرداء وسط جبال خالية من الزراعة والثمار إمتثالاً وطاعة وقربة إلى الله كما في قوله تعالى[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ]( ) .
فجاءت هذه الآية لسؤال الثمرات من غير تقييد بزرع بذات البلــد فمن خصــائص الإمامــة التي فاز بها إبراهيم إدراك أن الله عز وجل واسع كريم، وبيده مقاليد الأمور ,وهو على كل شئ قدير ؟
فسأل إبراهيم الأمن للبلد وأهله وأن يرزق الله عز وجل أهله الطيبات، ترى لماذا تعلق الأمن بالبلد والجواب ليكون الأمن دائماً متجدداً مصاحباً للإيمان وإن تغير الناس، أو حل مجاورون جدد للبيت الحرام.
وتبين الآية حقيقة وهي أن النعم الإضافية تستلزم الشكر وعدم الكفر والصدود، وفي المائدة التي نزلت على أصحاب عيسى قال سبحانه[إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا] ( ).
وفي قوله تعالى[فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً] شاهد على التباين في الإنتفاع من الرزق الإلهي، فالمؤمنون ينتفعون منه هم وذراريهم، وفي دينهم ودنياهم ، ويكون سبباً لطول أعمارهم وجلب المنفعة ودفع المفسدة وأسباب الفتنة، أما الكفار فأنهم لا ينتفعون من الرزق إلا على نحو المتاع الزائل، ولمدة ليست بالطويلة، وتكون الثمرات والرزق الكريم مادة وزاداً للآخرة بالنسبة للمؤمن لأنه يستعين بها على طاعة الله عز وجل، ويقوم بالشكر له سبحانه على كل نعمة مستديمة أو مستحدثة، ويخرج من أمواله الصدقات الواجبة والمستحبة، وتكون موضوعاً ووسيلة لإستدامة الأمن في البلاد، أما الكافر فقد يجعل المال للظلم والتعدي.
فلذا جاءت هذه الآية بإنذاره والإخبار عن نزول العقوبة به , ومنعه من الإضرار بالأمن.
ومن إعجاز الآية أنها تتضمن مع دعاء إبراهيم عليه السلام تفضل الله عز وجل بالرد عليه، بما يفيد التبعيض في العاقبة مما يدل بالدلالة التضمنية على الإستجابة والقبول فجاء الدعاء لأهل الإيمان من مجاوري البيت الحرام، وأخرج الرد الإلهي الذين كفروا وجحدوا بالتخصيص والعرض من الثواب الحسن، مما يدل على شمولهم بنعمة الأمان بفضل الله ورحمته، وترشح الخير والبركة على مجاوري البيت الحرام إلا أن الكفار يحملون أوزار جحودهم بهذه النعمة بالعقاب الأليم يوم القيامة.
ومن إعجاز الآية أنها ذكرت ما ينتظر الكفار من العذاب الأليم، ولم تذكر الثواب الذي أعده الله للمؤمنين لدلالة الإيمان بالله واليوم الآخر الذي ذكرته الآية على الثواب في الآخرة، وكأن الثواب يترتب على الإيمان ترتب المعلول على علته، وعدم تخلفه عنها، فإن قلت لابد مع الإيمان من العمل الصالح قال تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ] ( )
فالآية تتضمن نكتة عقائدية وهي أن الملازمة بين الإيمان بالله واليوم الآخر تجعل الإنسان يعمل الصالحات ويكتنز الحسنات، ويجتهد في طاعة الله.
ومن إعجاز الآية سؤال الثمرات لأهل مكة مع أنها وما حولها أرض جدب، مما يدل على إرادة هذه الأزمنة من وجوه:
الأول: وجود وسائط نقل سريعة تنقل الفواكه والثمار.
الثاني: إيجاد درجة برودة تحفظ الثمار والفواكه حين نقلها وخزنها.
الثالث: إصلاح أرض مكة وما حولها، وجعلها مملوءة بالبساتين والأشجار المثمرة، وهو أمر لم يتحقق بعد على نحو الإتساع ولكن الآية بشارة حصوله، وهذا أمر يدرك بالوجدان لتهيئة أسبابه ومستلزماته.
الرابع: من رأفة إبراهيم بالناس الدعاء بما يسير حركة التجارة بين البلدان.
وكما جاء قبل آيتين إستثناء الظالمين من الإمامة، فقد جاءت هذه الآية بالإنذار والوعيد للكافرين، ولكنهم لم يستثنوا من الرزق الكريم لأمور:
الأول: إن الله عز وجل واسع كريم، وهو الذي يرزق البر والفاجر.
الثاني: الدنيا دار لرحمة الله بالناس جميعاً.
الثالث: جاءت الآية بسؤال الأمن في البلد الحرام، والسعة في الرزق وشموله لأهله من أسباب ورشحات الأمن فيه.
الرابع: تبين الآية الفضل الإلهي العظيم على أهل مكة لمجاورتهم للبيت الحرام، ليكون هذا الفضل حجة إضافية على الكفار والجاحدين.
ويفيد الجمع بين أول وآخر الآية أن الأمن في الدنيا ترغيب بالأمن في الآخرة، وحث على إجتناب الحرمان منه وفقدانه، للتناقض والتنافي بين الأمن والعذاب.
الآية سلاح
تعتبر الآية بشارة في حال مكة وما ينتظرها من المكانة المتزايدة والمحسوسة والمدركة بالعلم الحصولي والتجربة، فكلما تتقارب البلدان والمجتمعات وأسباب الإعلام يتسع صدى مكة وأثرها وتأثيرها وتزداد عزاً بالبيت الحرام وأداء المسلمين لمناسك الحج.
ويشمل الدعاء السلامة مما يضر بالأمن والأمان إبتداء وإستدامة وعرضاً، فقد يسبب الحسد لأهل مكة، والبغض للإسلام والتعدي وتجهيز الجيوش للإنتقام والفتك بأهل مكة وحجاج البيت فجاءت الآية شاملة للوقاية من القوم الظالمين , ومن مصاديق إستجابة دعاء إبراهيم ما أصاب إبرهة وجنوده, قال تعالى[أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ]( ) .
وتبين الآية أن الدعاء سلاح الأنبياء، وأن الله عز وجل يحفظ لهم دعاءهم بدليل ذكر دعاء إبراهيم هذا في القرآن، وهو الوثيقة السماوية الباقية إلى يوم القيامة، مع تفضل الله عز وجل بإستثناء الكفار من بركات الدعاء.
وتترشح سمة وصفة السلاح في الآية من وجوه:
الأول: دعاء إبراهيم عليه السلام للأمن في مكة وما حولها.
الثاني: صدور الدعاء من منزلة الإمامة والرئاسة العامة للناس.
الثالث: الرزق الكريم لأهل مكة، وما فيه من العون والسلامة من الفقر والآفات.
الرابع: الإنذار والوعيد للكفار.
الخامس: عدم إفتتان المسلمين بالكفار وما في أيديهم من الأموال والخيرات لأنها متاع قليل، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا] ( ).
مفهوم الآية
الآية الكريمة بشارة ورحمة دائمة وإفاضة سماوية، وسكينة تتغشى أشرف بقعة في الأرض ليتلقى المسلمون هذه النعمة بالقبول والرضا والإقبال على أداء المناسك وإستدامة تقديس البيت الحرام.
والآية تبين ان الأمن والسلام من أهم أسباب إتيان الفرائض، وتحقيق الرغائب، واستقرار الحياة المدنية، وعمارة البلد.
وتظهر الآية الملازمة بين الأمن واداء الحج وهو امر ظاهر بالوجدان.
ويمكن إعتبار دعاء ابراهيم هذا من القواعد العقائدية التي وضعها للبيت الحرام ومقدمات عمارة البيت بأن عمل على إشاعة الأمن لتيسير أداء الحج، وعلم أن الأمن لا يتم الا بقدرته وقوته تعالى بسبب دوام الصراع بين الحق والباطل وغلبة الهوى وأقطاب الشر في أحيان ليست بالقليلة، كما أن قدوم الحاج من مختلف الأمصار طاعة لله عز وجل سبب لقهر الشيطان جنوده ومناسبة لمنع غلبة النفس الشهوية والغضبية وتعدي الكافرين.
وهذا الدعاء من ابراهيم هل جاء ابتداء من عنده وحباً للبيت وحرصاً على عمارته ومعرفته بضرورة الأمن للحاج والمجاورين للبيت الحرام ام انه جاء بوحي وإلهام من الله تعالى.
الأقوى هو الثاني وأن الله عز وجل تفضل على المسلمين بدعاء الأنبياء لهم وللبيت الحرام لتكون الآية الكريمة فضلاً منه تعالى على المسلمين عامة والحجاج والمعتمرين واهل مكة والمجاورين للبيت خاصة.
ومجئ الآية على نحو التنكير (بلداً) شاهد على خلو المكان من السكان وأن إبراهيم سأل الله عز وجل أن يقوم مصر وعمارة حول البيت لأن البلد أفضل أسباب عمارة البيت وتعاهده وتوفير حاجات الحجاج، وقيام أهل البلد أنفسهم بعمارته.
وكأن في الآية حذفاً والتقدير “رب إجعل هذا الموضع بلد آمناً” أي أن إبراهيم سأل الله أن يكون حول البيت بلد ثم قيد السؤال بسؤال آخر وهو أن يكون البلد آمناً، ليكون أهل مكة سدنة البيت، وسبباً في منعه وحياطته ويذبون عنه ولا يكونون آلة في الإساءة إليه.
وبعد سؤال الأمن جاء طلب الرزق لأهله ليكون إفاضة من إفاضات البيت الحرام ومائزاً يتصف به جواره ليكون من أحسن مصاديق الجوار ولكن ليس من الإنسان بل إن حسن الجوار من البيت الحرام إلى الناس من حوله لتؤكد الآية والشواهد التأريخية إلى يومنا هذا البركات التي يختص بها البيت الحرام وعظيم المنافع التي تترشح منه على أهل مكة وما حولها، وقيد إبراهيم دعاءه بإختصاص المؤمنين بالرزق الكريم فجاءت الإستجابة الإلهية بالمعنى الأعم والشامل كما ترى النصوص الواردة باكرام الضيف على نحو الإطلاق من غير تقييد وحصر الإكرام بالضيف المؤمن فيكفي التلبس بالضيافة وآدابها، كذلك بالنسبة لأهل مكة فيكفي الجوار لتنزل الخيرات ومصاديق الرزق الكريم من غير أن يسقط الحساب عن الكافرين لاحقاً.
وفي الآية إعجاز بتقسيم الرزق إلى قسمين :
الأول : رزق كريم .
الثاني : متاع قليل .
وهما متحدان في الدنيا بحسب الظاهر ورغد العيش والحياة الأسرية ولكن هذا الإتحاد لم يمنع من أصل التقسيم وظهوره جلياً في الآخرة باستمرار النعمة للمؤمنين كما في قوله تعالى [كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ]( ).
وهذا الرزق لا يكون للكافرين الا متاعاً في الدنيا وموضوعاً للحساب ووبالاً وعذاباً في الآخرة , وتقييد المتاع بانه قليل لابد له من دلالات منها:
الأولى : إن قلته بلحاظ الحياة الدنيا فهي دار زوال وإنقضاء.
الثانية : إنتفاع الكافرين من الرزق قليل ومحدود.
الثالثة : ملازمة المصاعب والمشاق لما يرد على الكافرين والجاحدين من الرزق سواء بالإبتلاء أو المرض أو الإرتباك.
الرابعة : عدم إتصال الرزق عند الكافر، فتجده في حالة جيدة ثم لا يلبث أن يصبح فقيراً وقد تنقطع النعمة عنده ولا تصل إلى أبنائه.
الخامسة : الآية بشارة وإخبار عن عدم إستدامة الكفر في مكة والجزيرة , ولأن قلة المتاع عنوان الزوال.
السادسة : تبعث الآية الغبطة والأمل في قلوب المسلمين وتدعوهم للثبات ومواصلة الجهاد وتخبرهم بضعف ووهن عدوهم، فلا غرابة أن ينتصر المسلمون في بدر مع أنها أول معارك الإسلام، وعددهم لا يبلغ ثلث عدد المشركين بالإضافة إلى الفارق في العدة وقوة شوكة الكافرين , قال تعالى[لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
السابعة : إن رزق المؤمنين باب ومقدمة للثواب باستعمالهم له في مرضاة الله فيستحق صفة الدوام.
ومن أسماء الله الحسنى (الرحمن) وهو الذي يرزق المؤمن والكافر في الدنيا , وهو سبحانه القادر على ان يرزق المؤمنين والمسلمين من مجاوري البيت الحرام دون غيرهم من أهل مكة ولكنه سبحانه أفاض بالرزق على الجميع إكراماً للبيت الحرام ولأن الحياة الدنيا دار إبتلاء وإفتتان.
ومن الشواهد على التقسيم الإلهي للرزق الوارد في الآية ما لاقاه أقطاب الشرك من قريش إذ لحقهم الخزي والذل يوم بدر وأحد وفتح مكة.
وبعض أقطاب الكفر قتل في بدر كأبي جهل.
ويقال: إضطر الى الشيء أي الجئ اليه، فالآية تخبر عن اخذ الكافر يوم القيامة على أشد وأقسى حال وأنه لا طريق له إلا دخول النار لغلقه لباب التوبة على نفسه وعدم أهليته لقبول الشفاعة ولأن الذنب عند البيت الحرام وفي الحرم مضاعف إثمه وعقابه.
ومن مفاهيم الآية أن من كفر من أهل الحرم يحاول يوم القيامة التشبث والتوسل بجواره للبيت ويرجو الرحمة به استصحاباً منه للنعم الإضافية الخاصة بهذا الجوار ولكن أمانيه وأحلامه تذهب سدى، ويكره على دخول النار قال تعالى[ادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).
وإختتام الآية بقوله تعالى “وبئس المصير” توكيد لسوء العذاب الذي يلاقيه كافر الحرم وإخبار عن إستحقاقه له لأنه لم ينتفع من البركات التي تترشح من البيت الحرام.
الآية لطف
لقد أنعم الله عز وجل على إبراهيم عليه السلام بالإمامة لطفاً منه تعالى به وبذريته وأهل مكة والناس جميعاً، وهذا اللطف أعم من أن ينحصر بالحياة الدنيا فيشمل الدار الآخرة، واللبث الدائم في النعيم لأهل الإيمان والتقوى، إذ تتجلى من مضامين هذه الآية مفاهيم حميدة تقود الناس نحو سبل الهداية، وتمنع من الضلالة والشرك، وتبين الإفاضات التي تترشح على أهل مكة من نعمة الإمامة والتي هي خير محض.
ومن وجوه اللطف الإلهي في الآية حصول التجارات بين البلدان، وما فيها من أسباب المعيشة، وكثرة المكاسب، وعدم كساد الحبوب والفواكه ومطلق البضائع، وبلحاظ التجارة مع أهل البيت الحرام وما فيه من الأمن تكون التجارة على وجوه:
الأول : دعوة للناس للهداية والإيمان.
الثاني : نشر لواء التوحيد.
الثالث : طرد للغفلة من الناس.
الرابع : فيها واقية من الإصرار على الكفر والجحود، وفي الحديث نعمتان مجهولتان، الصحة والأمان).
فجاءت هذه الآية لسؤال الأمرين معاً، ودعوة الناس للإلتفات إلى كل نعمة منهما، وما يترشح عن إجتماعهما من الآثار الحميدة.
إفاضات الآية
قد ينشغل الإنسان بالأسباب المادية، وأحكام العلة والمعلول في الوقائــع والحوادث، فجاءت هذه الآية لتؤكد أن الأمن العام أمر بيد الله عز وجل، فجاءت بصيغة الدعاء من مقامات النبوة والإمامة مما يدل على حاجة الناس للأمن في البيت الحرام ومكة المكرمة، لتكون مكة نواة وقاعدة للأمن ولينتشر منها في ربوع الأرض، وتقتبس الأمم والشعوب والبلدان منها أنظمة الأمن وأسباب العدل، وصيغ الإيمان، لأن العدل والإيمان من أسباب وعلل الأمن.
وتبين الآية حقيقة من مفاهيم الإمامة وهي ثقة الإمام المطلقة بفضل الله, وقد وصفها القرآن[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ]( )، مما يدل بالأولوية على وجود الثمرات والخيرات في بلدان أخرى، وتنّعم الناس بالعيش الرغيد، إذ أن الثمرات لا تخرج من بلد أهله في جوع وعوز، فلابد أن يكون في الثمار فيض وزيادة بحيث يصدر الزائد عن الحاجة، أو أن أهل البلدان الأخرى يجتهدون في الزراعة والبستنة لجلب الثمار إلى مكة وغيرها من الأمصار.
فدعاء إبراهيم وإن جاء في ظاهره لأهل مكة إلا أنه دعاء وسؤال لرحمة الناس كافة، فكلما يعمر أهل مكة ووفد الحاج البيت الحرام، فإن الناس يعمرون ويصلحون الأرض ليكون هذا الإعمار عوناً ومادة الإستدامة في عمارة البيت الحرام.
وتبعث الآية الشوق في نفوس المؤمنين للقاء الله، ونيل الثواب يوم القيامة للملازمة بين الإيمان والرزق الكريم في موضع الجدب، وتنفر نفوسهم من الكفر والجحود لسوء عاقبته، وما ينتظر صاحبه من العذاب الأليم على نحو القهر والإنطباق، لقوله تعالى(فاضطره) فلا يقدر الكافر على النجاة من العذاب يوم القيامة.
لقد أرادت الآية من الناس الإيمان بالله والتصديق باليوم الآخر لتنزل عليهم البركات، وتكتب لهم الحسنات، وتمحى عنهم السيئات.
الصلة بين أول وآخر الآية
تبدأ الآية بذكر دعاء إبراهيم بصيغة القول(وإذ قال إبراهيم) في دلالة على لزوم إعلان الدعاء، وعدم كفاية النية والعزم في الدعاء فلابد من الكلام والمناجاة مع أن الله عز وجل [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]ولكن الدعاء عمل وقول يترجل في الخارج بالسؤال.
وجاء السؤال باسم الإشارة للقريب(هذا) وفيه دلالة على أن إبراهيم دعــا الله وهــو في مكة، وفيه دلالة على عظيم منزلة مكـــة بين البلدان، وقد ورد في الخبر (ثم دحيت الأرض من تحت البيت)( ).
وهذا التعدد شاهد على موضوعية مكة بين البلدان، وأهمية الأمن فيها، وإذ دعا إبراهيم عليه لمكة بالأمن والأمان فهل دعا لها رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذات الدعاء.
الجواب نعم، وإنه إجتهد في تثبيت الأمن في مكة إلى يوم القيامة، فإذا كان الكفر والشرك هو الغالب في زمان إبراهيم فإن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاهد في سبيل الله هو وأصحابه وأهل بيته إلى أن دخل مكة فاتحاً ليدخل أهلها في الإسلام، فإن قلت أحكام الآية القرآنية باقية إلى يوم القيامة وقوله تعالى[وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً] شاهد على وجود كفار، والجواب نعم، إلا أن الآية أعم من أن تنحصر بأهل مكة، وكذا بالنسبة لتعدد وجوه الكفر، وتقدير الآية(ومن كفر من الناس) لوجوه:
الأول: أصالة الإطلاق.
الثاني: مجيء آيات كثيرة بذم الكفر وإنذار الكفار مطلقاً من غير تعيين لأهل بلد مخصوص.
الثالث: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة على الناس، وسبيل للتوبة والإنابة وجاء دعاء إبراهيم عليه السلام مقيداً بالإيمان لبيان وظائف الإمامة بجعل الأولوية للإيمان والتقوى والصلاح.
وجاء التقييد على نحو الإستدراك، فلم تقل الآية(وأرزق من آمن بالله واليوم الآخر من أهله من الثمرات) بل قدمت أهل البلد وموضوع السؤال وفيه مسائل:
الأولى: جاء ذكر الرزق متعقباً للأمن في البلد.
الثانية: الأصل في أهل البلد الإسلام، وهو دين الفطرة.
الثالثة: في السؤال نوع سعة.
الرابعة: منع دبيب اليأس والقنوط لنفوس أهل مكة، فلم تقدم الآية التقييد والشرط بل قدمت الإطلاق ثم تعقبته بالماهية بشرط لا.
الخامسة: الآية ترغيب بالإيمان، فعندما يسمع الإنسان الدعاء ونيل الثمرات يحرص على أن ينال منها، فيأتي الدعاء بما يكون كالقيد الإحترازي، وهو سبيل الرجاء.
السادسة: تبعث الآية الشوق في النفوس لمضامينها، وتجعل الناس يصغون إليها، ويتدبرون ما فيها من الأسرار والخزائن.
السابعة: يتجلى الإعجاز البلاغي في نظم الآية والبديع الذي فيها.
الثامنة: يكشف نظم الآية عن حقيقة وهي مصاحبة الفقاهة في الدين للإمامة.
التاسعة: تظهر الآية حسن العبودية المصاحب للإمامة، والدقة في السؤال ومنع إتخاذ الكفار الرزق الكريم سبباً للعتو والغرور والطغيان.
وذكرت الآية بالإيمان بالله عز وجل لوجوب الإقرار بالعبودية والخضوع له سبحانه، وتؤكد الآية لزوم التصديق بيوم القيامة وفيه مسائل:
الأولى: إرادة حتمية البعث والنشور.
الثانية: ليس من عالم بعد يوم القيامة.
الثالثة: إرادة الإيمان بما يجري فيه من الجزاء.
الرابعة: الإقرار بأن الجنة حق، والنار حق.
الخامسة: ليبعث الإيمان باليوم الآخر على تعاهد العبادات، والإستعداد لعالم الحساب، والسعي للفوز بالثواب، والإحتراز من مقدمات وأسباب العذاب في الآخرة.
التفسير الذاتي
بعد أن جاءت الآية قبل السابقة بذكر إمامة إبراهيم للناس جاءت الآية السابقة بذكر وظيفته وإسماعيل عليه السلام في تطهير البيت الحرام، وجاءت هذه الآية لبيان وظيفة من وظائف الإمامة وهي إنقطاع إبراهيم للدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، وفيه شاهد بأن إبراهيم عليه السلام كان يتخذ من الدعاء سلاحاً لتثبيت مبادئ التوحيد في الأرض، وجذب الناس للهداية، ومن أسباب الهداية الأمن والرزق الكريم.
لقد جاءت الآية السابقة بالإخبار عن جعل البيت الحرام أمناً وملاذاً، فجاءت هذه الآية بسؤال إبراهيم المعنى الأعم وأن تكون مكة كلها بلداً آمناً ليعم الأمن مجاوري البيت الحرام وليس عماره وحدهم، فكلما سأل إبراهيم عليه السلام في مسألة الإمامة شمولها لذريته من بعده فأنه سأل الأمن للبلد كله ليأوى إليه الخائف والطريد، ولتترشح بركات البيت على الذين يجاورونه بالأمن والسلامة من الآفات والصواعق والزلازل، والحروب قال تعالى[أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ]( ).
ويتجلى في الآية إجتهاد إبراهيم في الدعاء وتعدد وجوه المسألة لإدراكه أن الله عز وجل واسع كريم وأن خزائنه لا تنفد، لقد سأل إبراهيم عليه السلام الرزق الكريم لأهل مكة، إذ أن البيت يجذب أهل لإيمان لجواره وهو في أرض جدباء قاحلة، وتؤدي كثرة السكان إلى الفاقة والفقر وشيوع الفتن والفزع والخوف، فسأل إبراهيم الخير والرزق الكريم للذين يجاورون البيت، ليكون هذا الرزق وسيلة لحفظ البيت وبقائه أمناً ووقايته وأهله من التعدي والظلم.
لقد أراد إبراهيم لأهل مكة تعاهد فريضة الحج وعمارة المسجد الحرام، وعدم صد الناس عن الحج ونهب أموالهم وتنزههم عن الفساد، وهذه الآية من المصاديق العملية للرد الإلهي على الملائكة حينما قالوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، فإن الله عز وجل ينعم على مجاوري البيت الحرام بالخير والثمرات ليمتنعوا عن الفساد، ويدرءوا أسبابه ومقدماته، ويقوموا بالإصلاح بين القبائل، وقد يقال أن مع الحج يأتي الرزق الكريم , وهذا صحيح ولكن مضامين الآية أعم إذ أنها سؤال لإستدامة أداء الحج وكأنه مقدمة لسبب الرزق وتهيئة له، بالإضافة إلى أن سؤال إبراهيم أعم لأنه سأل الثمرات والزراعات.
وهل في الآية بشارة إستصلاح الأراضي الزراعية في مكة الجواب نعم وإن كانت مصاديق الإستجابة تتحقق بجلب مقدماته ومستلزماته من الأماكن والبلدان الأخرى، وليس من تعارض بين الأمرين.
ترى ما المراد من البلد الذي تأتيه الثمار فيه وجوه:
الأول: إرادة مكة المكرمة.
الثاني: الآية أعم بلحاظ الزمان وأحوال السلطنة، فقد تشمل أهل البلد والدولة التي تكون مكة جزءً منها.
الثالث: بقاء حكم البلد ثابتاً وأن المراد به مكة على نحو التعيين، ويترشح الخير على الأمصار الأخرى المشتركة معها في وحدة الدولة والحكم.
والصحيح هو الأول، ويلحق به القرى والمدن والإمصار التابعة لها والملحق بها، ومن أسماء مكة أم القرى قال تعالى[لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
ترى لماذا قيد إبراهيم الرزق بأهل الإيمان الجواب إن توكيد لنفرته من الظالمين والكافرين وفيه توكيد لما ورد في الآية السابقة بأن دعاءه لبقاء الإمامة في ذريته ليس لحب الولد بالذات بل لحب الإيمان وجعل ذريته يفوزون به، فلما علم في الآية السابقة أن الله عز وجل يحجب الإمامة والعهد من الظالمين من ذريته جاءت هذه الآية بسؤال إبراهيم الخير والرزق الكريم لأهل الإيمان والتقوى من الناس جميعاً وليس من ذريته فحسب، إذ أن الآية تحتمل وجوهاً:
الأول: سؤال الثمرات لذرية إبراهيم الذين يجاورون البيت الحرام.
الثاني: إرادة الذين جاوروا البيت الحرام مطلقاً.
الثالث: تقييد الجواب بصبغة الإيمان.
الرابع: إرادة ذرية إبراهيم من ولده إسماعيل في مكة وولده إسحاق في الشام.
والصحيح هو الثالث، فجاء الدعاء وسؤال الرزق الكريم بقيدين:
الأول: جوار البيت.
الثاني: الإيمان، ولا يعني هذا أن إبراهيم لم يدع لذريته بالرزق الكريم فأن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
وورد قوله تعالى(هذا البلد) أربع مرات كلها في مكة المكرمة، بالإضافة إلى ما ورد في هذه الآية بصيغة النصب[اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا] وتكرر هذا اللفظ في آيتين متتاليتين بقوله تعالى[لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ* وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ]( ) إذ جاءت جملة إعتراضية بين القسم والمقسم عليه وكيف أن إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة لها شأن عظيم، وقيل في ذم قريش أنهم يحرمون قتل الصيد، وتعضيد الشجر، ويستحلون إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتله مع أنه سبب لنزول البركة في البلد لتجتمع أسباب لنزول البركة منها:
الأول: البيت الحرام.
الثاني: مقام إبراهيم.
الثالث: كثرة عمار البيت الحرام.
الرابع: سؤال إبراهيم بنزول الخير وكثرة الثمرات في مكة.
الخامس: حلول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة، وتفيد الآية البشارة بعودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة وفتحها وهو صاحب الشأن والحكم فيها، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم إنّ الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة ، لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلاّ ساعة من نهار ، فلا يعضد شجرها ، ولا يختلي خلاها ، ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلاّ لمنشد، فقال العباس: يا رسول الله ، إلا الإذخر فإنه لقيوننا( ) وقبورنا وبيوتنا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: إلاّ الإذخر) ( ).
والآيتان أعلاه من سورة البلد وهي مكية، وسورة البقرة مدنية، وكأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هاجر من مكة وعنده البشارة بالعودة إليها فاتحاً، ولم تفتح لأحد من قبله، وقد قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، وقتل مقيس بن صبابة وغيرهما، قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَدِمَ مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ مِنْ مَكّةَ مُسْلِمًا، فِيمَا يَظْهَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ جِئْتُك مُسْلِمًا ، وَجِئْتُك أَطُلُبُ دِيَةَ أَخِي ، قُتِلَ خَطَأً.
فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِدِيَةِ أَخِيهِ هِشَامِ بْنِ صُبَابَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَيْرَ كَثِيرٍ ثُمّ عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ثُمّ خَرَجَ إلَى مَكّةَ مُرْتَدّا( ).
ولم يرد لفظ (أمتعه) في القرآن إلا في هذه الآية، مع إرادة الجنس منه، وللبيت الحرام ودعاء إبراهيم ورفعه القواعد من البيت هو وإسماعيل، وتطهير البيت لعمارته والدعاء له، تبين الشأن العظيم الذي لمكة المكرمة وان كان هذا الشأن سابقاً في زمانه.
ولكن فضل الله عظيم ومنه زيادة الشأن والمنزلة لتكون مادة للأمن والأمان، وبرزخاً دون الفساد، وإطلاق صفة الأهل على من جاور البيت الحرام وأنهم أهله شاهد على كفاية العزم والنية وإبتداء السكن في جوار البيت في صدق الجوار والإنتساب إلى البيت للمتنعم بالثمرات والخيرات التي ترد على مكة.
وقد ورد في بيت المقدس قوله تعالى[الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] ( )، في دلالة على أن الثمرات تجلب إلى البيت الحرام، وتخرج من كنوز الأرض، ولا مانع من صيرورة الزراعة حوله كالزراعة التي هي حول بيت المقدس.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: الآية توثيق لما قاله إبراهيم وصيغ وموضوعات الدعاء التي كان يتوجه بها إلى الله عز وجل.
الثانية: ترشح الإجتهاد في الدعاء عن مقام الإمامة.
الثالثة: بيان الإرتقاء في المعارف الذي بلغه إبراهيم عليه السلام بمنزلة الإمامة بحيث يدعو الله عز وجل لما فيه نفع الخاص والعام، ومن الآيات التداخل في أفراد هذا النفع، فسأل إبراهيم عليه السلام الأمن في بلد مخصوص، ولا يحتمل نسبة معتد بها من مساحة الأرض وكذا بالنسبة لأهله من بين مجموع السكان المعمورة.
ومع هذا فأن أثره على الأمصار وفي النفوس أكثر من أن يحصى مع التعدد في مصاديقه وميادينه، وهي مسألة إعجازية في سكان الأرض، وموضوعية البيت الحرام وأهله في نشر مفاهيم الصلاح.
الرابعة: إرشاد المسلمين لصيغ الدعاء، وحثهم على الإجتهاد فيه.
الخامسة: بيان قانون ثابت في الإرادة التكوينية وهو أن الدعاء بلغة لتحقيق المقاصد التي تتصف بالدوام والإستدامة والتي تختص بجيل من الناس دون غيره، فتأتي منافع الدعاء المتحد على نحو متعدد ومتجدد، وهو من الشواهد على أن الله عز وجل يعطي الكثير بالقليل.
السادسة: التعيين والوضوح في السؤال والدعاء.
السابعة: منزلة البيت الحرام في أحكام الإمامة.
الثامنة: إجتهاد إبراهيم عليه السلام في التهيئة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: التضرع إلى الله ببعثته وقربها كما في قوله تعالى[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ] ( ).
الثاني: سؤال الأمن في مكة مولد الرسول ومحل بعثته وموضع حج المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
الثالث: سؤال الخير والرزق الكريم لأهل مكة، ومن الآيات أن السؤال جاء على نحو التعيين بالثمار والفواكه مع أن مكة أرض جدب، وفيه بشارة الزراعة حول مكة وكثرة الإستيراد لها التي تعني كثرة المعتمرين والحجاج، وإتخاذ موسم الحج لأغراض التبادل التجاري، كما في سوق عكاظ وغيره.
الرابع: سؤال قبول الأعمال (ربنا تقبل منا)( )، ليرث إسماعيل من إبراهيم السؤال والتضرع ورجاء القبول، فمن خصائص الإمامة بيان سر عقائدي وهو تعقب سؤال قبول العمل لأدائه وفعله، فمع منزلة إبراهيم ونيله مرتبة الإمامة ومع نيله درجة النبوة التي هي أسمى الدرجات، وأفضل فقد قاما بسؤال الله عز وجل قبول أعمالهما، وفيه درس وموعظة للمسلمين، وتعليم لكيفية وموضوع المسألة وعدم الإكتفاء بأداء الفرائض مع أنه مسقط للتكليف.
الخامس: وصية إبراهيم لأبنائه بتعاهد مبادئ الإسلام.
التاسعة: بيان موضوعية الإيمان بيوم القيامة، وإقترانه بالإيمان بالله عز وجل.
العاشرة: يفتح التصديق بعالم الآخرة، والجنة والنار أبواب الرزق ومن حيث لا يحتسب الإنسان، فلا يتوقع أهل مكة وصول الثمرات إلى بلادهم لكن الله ذو الفضل العظيم، هو الذي رزق إبراهيم الإمامة ليدعو للناس، فيستجيب له سبحانه، وهو شاهد بأن الله عز وجل غير محتاج للإمامة وما يترشح عنها بل هي لمنفعة إبراهيم والمؤمنين والناس جميعاً.
الحادية عشرة: إقتران الإستجابة بالإنذار، والوعد للمؤمنين والوعيد للكفار والظالمين.
الثانية عشرة: تحذير الكفار من الغرور والإستكبار.
التفسير
قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ]
تبين الآية موضع اهتمام إبراهيم ومحط دعوته ونقل الرازي قول القاضي وهو: (في هذه الآيات تقديم وتأخير لأن قوله [رَبِّ اجْعَلْ هَذا بَلَدًا آمِنًا] لا يمكن الا بعد دخول البلد في الوجود والذي ذكره من بعد وهو قوله [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ ]( ) وان كان متأخراً في التلاوة فهو متقدم في المعنى)( ).
والأقوى أن النوبة لا تصـل إلى القول بالتقـديم والتأخير فـ(هذا) اسم اشارة يعود الى الموضع والوادي كما في قوله تعالى[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ]( ) وأن بعض القبائل جاءت لتسكن بجواره كجرهم بعد نبوع ماء زمزم، وان كان الماء نفسه حصانة وحفظاً وآية على الأسرار السماوية في البيت وموضعه وكأنهم يشربون ببركات البيت.
وهذا التأويل ينعكس على مضامين التفسير الأخرى، فمنهم من يقول ان الآية تتضمن دعاء ابراهيم للمؤمنين من سكان مكة، والظاهر أنه دعاءه متقدم لهم أي ان اهل مكة يختلفون عن غيرهم بأن دعاء النبي لهم وللمسلمين جاء سابقاً لوجودهم كمجتمع ومكة كبلد معمور، وورود آية أخرى في قوله تعالى [ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ]( ) لا يعني تقييداً للإطلاق، فهو على وجوه:
الأول: يحمل على التعدد في الدعاء.
الثاني: على معرفة إبراهيم لصيرورته بلداً.
الثالث: بلحاظ وجـود إسماعيل وأمه.
الرابع: قدسية البيت الحرام.
الخامس: التعليق أو تكرار الدعاء، مرة قبل وجود البلد، وأخرى بعد سكنه من قبل بعض القبائل العربية.
ورفع القواعد أخص من البلد، فقد يكون البلد موجوداً، للتغاير بين البلد والبيت ولكن الأخبار والنصوص وصريح الآية القرآنية أعلاه بخلافه لأن الناس تبع الكلأ والماء وهناك نوع ملازمة بين وجود المجتمعات في موضع ما وبين الزراعة فيه، ثم أن رفع القواعد لا يعني حداثة البيت.
ولقـد سـأل إبراهيم الأمن قبل الرزق ولهذا التقديم دلالات منها:
الأولى : يعم الأمن القاطنين حول البيت والقاصدين له للنسك , وأن البيت موضع العبادة الذي يؤمه الناس من جميع بقاع الأرض، فالأمن يحتاجه كل قادم.
الثانية : في قوله تعالى [ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ]( ) وجوه:
الأول: إستجابة دعوة إبراهيم عليه السلام.
الثاني: هنـاك نـوع ملازمـة بين وجـود البيــت الحـرام والأمـن.
الثالث: إن الله عـز وجل حينما أمر بحج بيته الحرام كفل للحجاج الأمن والأمان.
ولاتعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الفضل الإلهي وتعدد أسبابه وصيغه.
الرابع : إعتبار قاعدة تقديم الأهم على المهم خصوصاً وأن المقام يتعلق بالعبادة التي تحتاج الى الأمن واستدامة السلامة.
الخامس : رأفة إبراهيم بأهل الإيمان وبذريته خاصة الذي ينعكس بحرصه على إلتزامهم بأحكام الشريعة وأدائهم للمناسك، ومن ذلك أنه خصهم بسؤال الإمامة من بعده كما تقدم، فقدم ما يعينهم على التوفيق والفوز في الدارين بتهيئة أسباب العبادة ومقدماتها، وطرد ما يكون عائقاً وحاجزاً عن أداء المناسك.
السادس: لعل في رفع القواعد إستجابة لدعوة ابراهيم وأن عمارة البيت وأداء المناسك سبيل إلى بقاء الإمامة في ذرية إبراهيم عليه السلام.
السابع : كما يكون الأمن مقدمة وسبيلاً لإتيان الفرائض وأداء الحج فان إتيانها وحسن الإمتثال في أدائها يكون مدخلاً وسبباً للرزق الكريم، وهو ايضاً عون على العبادة لذا حرص إبراهيم على ذكره وسؤاله، كما لم تكن النار على إبراهيم برداً فقط وكانت برداً وسـلاماً، سأل إبراهيم بلسان المعرفة الإلهية أن يكون حول البيت بلداً وأمناً، مع الرزق الكريم لأهله وعماره .
ومن الأمن سلامة آباء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحين ولادته وحفظه في سني صباه وشبابه وأيام البعثة الأولى حيث كان في مكة مع قلة الناصر.
الثامن : ظاهر الآية الإطلاق الزماني فلم ينحصر الأمن بزمان الإسلام بل يشمل ما قبله وهو مستديم ومستمر إلى يوم القيامة فما قصد جبارٌ البيت الحرام بسوء إلا أهلكه الله كما في قصة أصحاب الفيل.
وطرح الرازي سؤالاً وهو إليس أن الحجاج حارب ابن الزبير وخـرب الكعبـة وقصـد اهلهـا بكـل سوء وتم له ذلك، وأجاب بانه لم يكن مقصوده تخريب الكعبة لذاتها، بل كان مقصوده شيئاً آخر.
ولكن سؤال الأمن في الآية أعم فلابد من بيان القاعدة الكلية وهـي من يقصـده بسـوء يقصـمه الله عـز وجل فيجعله عبرة لغيره وأن الحوادث الشخصية لاتضر في أصل القاعدة، وان الآية جاءت على نحو التعبد والإنذار، بل حتى على إرادة الإخبـار فيكفي في صحته الإجمال وتحقق الأمن عرفاً ولا يضر بصدقه قضية في حادثة، ولعل تلك الحادثة كانت سبيلاً الى ترسيخ الأمن والأمان فيه الذي أصـبح أمـراً متعاهداً يتعـاهده المسلمون جميعاً وجزء علة في اختصاص الحجاج بالنصيب الأوفر من الذم من بين آلاف الولاة وإلى الآن، وتلك الحوادث الشـاذة النـادرة لم تغـير من أصـل الأمـن فيـه، وشعـور أهـله بالأمن والأمان.
ويمكـن أن نـرى الأمـن فيه بنهـج الحسـين عندما إختار مغادرته وعـدم البقاء فيه عند الخروج على يزيـد بن معـاوية مما يـدل على تعـاهد اهل البيت والمسلمين لحرمته، وهنـاك أسـرار إلهيـة في فلسفة هجـرة النبي صـلى الله عليـه وآله وسـلم من مكـة ومواصلـة الفتـح والخروج في كتائب من المدينـة، وكثـرة إقامـة الحـدود فيها مع ثقته بالنصر للنبوة وللرسالة.
التاسع : دعوة الناس لأداء فريضة الحج والعمرة فان الأمن من اهم أسباب القصد والعزم على الحج.
العاشر: فيها اخبار عما تمتاز به البقعة التي إختارها الله عز وجل بيتاً له من دون بقاع الأرض الأخرى، فمع الإختيار يكون الإصطفاء والتفضيل.
الحادي عشر : آية أرضية للناس جميعاً ليتيقنوا من وجود آية حسية مستديمة في الأرض وهي إنفراد بقعة منها بما لا يكون لغيرها من الأمن والخير فالسماء أنزلت آيتها وهو القرآن والبشر بينهم النبي والأرض فيها بقعة مشرفة مباركة وكل ذلك مصاديق سماوية مباركة وعون ودعوة للإيمان والهداية والعبادة مما يدل على عموم فضل الله تعالى على الناس في عباداتهم.
الثاني عشر : إختبار السلاطين وأهل السطوة باكرامها فمن حرّمها وصانها فقد عظم حرمة الله ومن أكـرم زوار البيت وضـيوف الرحمن فقد صان البيت وحفظ حرمته، قال تعالى[وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
الثالث عشر : آية وحجة على بني إسرائيل في هجرانهم لأشرف بقعة في الأرض دعوة لهم للإسلام فعند نزول الآيات يكونون على مفترق الطريق أما بقاؤهم على عناوين التفضيل بدخول الإسلام وما فيه من الإفاضات الإضافية والاعتبارية، أو انتهاء هذا التفضيل.
الرابع عشر : إلقاء السكينة على المؤمنين بوجود موضع آمن في ديار المسلمين يترشح الأمان منه على بلدانهم الأخرى.
الخامس عشر : تفشي الأمان وإنتشاره إلى بلدان العالم الإسلامي الاخرى لثبوت إمكانه وتحقق حصوله في مكة، وحمل وفد الحاج صورة الأمان والإيمان التي تتغشى مكة.
السادس عشر : جعل الأمن حقيقة دائمة في مكة لا تتأثر بالأحوال السياسية والإقتصادية وغيرها، فلا غرابة أن يؤكد القرآن هذا بقوله تعالى [ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ]( )، وفيها إشارة لاستجابة دعوة إبراهيم عليه السلام.
السابع عشر : بث اليأس في نفوس بني إسرائيل من التعدي على الإسلام أو الإضرا بالمسلمين مع وجود امان لهم في بعض بلدانهم يكون ملاذاً لهم ومصدر إنطلاق عقائدي وجهادي وبركات البيت من عمومات صرف الضرر الفادح عن المسلمين ويدل عليه قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الثامن عشر : الآثـار الخاصـة لدعـوة ابراهيـم من مثل حفظ ولده اسماعيل وأمه هاجر خاصة وأنه تركهما في ذلك المكان الجدب بين الهضاب.
التاسع عشر :الآية مناسبة للتوجه إلى العبادة والإنشغال بذكر الله في البيت الحرام وعدم إنشغال اهله بالدفاع وحفظ الثغور ونحوها.
العشرون : كثرة الحجاج والمعتمرين هو نوع أمان وسكينة، بالاضافة إلى أن موضوع المجيء إلى مكة سياحة إيمانية وهو واجب تعبدي روحاني يخلع معه الانسان رداء الدنيا.
الواحد والعشرون : الآية تخفيف عن المسلمين وعن حكام المسلمين بسهولة وتيسير أمن مكة والبيت الحرام، وتعاهد قوافل الحجاج، أي الجهود والقدرات التي تحتاجها ليست بالكثيرة للعناية الإلهية وصروف ضروب البلاء.
الثاني والعشرون : الآية إخبار بان الله عز وجل سيقيض من يوفر الأمن للبيت بالأسباب فلا غرابة أن تجد المسلمين جماعات وأفراداً وحكاماً يتعاهدون أمنه، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الثالث والعشرون : الأمـن أعم من المتعلق بالبشر وعدوانهم بل يشمل سؤال السلامة من الآفات الأرضية والسماوية كالخسف والزلزلة والصاعقة.
الرابع والعشرون : يشمل الدعاء الأمـن من القحـط وهو أعم من السؤال برزق أهله من الثمرات، فمع تفشي القحط تكون المغادرة للمكان وهجرانه.
الخامس والعشرون : ورد الأمن على نحو الإطلاق، وجاء الرزق على نحو الخصوص وخرج منه غير المؤمن بالتخصص أي لم تشمله دعوة إبراهيم لتقييد الرزق بالإيمان.
السادس والعشرون : الآية بشارة ولادة وحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن الدعوة توليدية تترشح على آباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى ولادته وحفظه، فالآية سر من أسرار النبوة وفيها إخبار عن تطلع الأنبياء إلى زمانه فإبراهيم سأل الأمن في مكة لتهيئة الإسباب حتى بعثته وخروجه، فلا غرابة ان يعلم بنو اسـرائيل ظهور نبي آخر زمان من مكة لمعرفتهم بدعوة إبراهيم والأخبار المتوارثة عن الأنبياء وجاء في دعاء إبراهيم [وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ]( ).
السابع والعشرون : إنه أمن وسلام وحفظ لجنس الحيوان والنبات فالدراسات والجمعيات المؤلفة في هذا الزمان لحفظ الحيوان والنبات جاءت متأخرة كثيراً عـن هذه الآيـة وتشريع أحكام الحـرم وإعتبار قلع ما ينبت في الحرم من غير فرق بين الرطب واليابس من تروك الإحرام، بالإضافة إلى حرمة صيد البر فيه فالوحش والطير يكونان آمنين فيه.
الثامن والعشرون : من الأمن عدم وصول دعوات الضلالة إلى مكة، نعم الجاهلية ضلالة ولكنها لم تستطع الصمود بوجه الإسلام ولم تكن أمراً مستفحلاً قادراً على مواجهة الإسلام أو منع إنتشاره بل كانت متزلزلة ومؤقتة.
التاسع والعشرون : من الأمن بقاء الحنيفية في مكة وبعض مناسك الحج وتعاهد البيت الحرام حتى ظهور الإسلام.
الثلاثون : من الآيات ان أمن مكة لم ينحصر بأهلها بل شمل المسلمين في جميع أقطار الأرض وذلك بتفضـل الله تعـالى بجعل البيت الحرام قبلة للمسلمين وهو أمان لهم .
الواحد والثلاثون : ينعكس الأمن في مكة ايجابياً على نفوس المسلمين جميعاً ومما يعرفه كل مسلم ذكراً او انثى صغيراً أو كبيراً، إذ ان الكعبة قبلة المسلمين وصارت وكأنها جزء في كيانه حتى أنها تذكر في تلقين الموتى.
الثاني والثلاثون : لم ينحصـر الأمـن في مكـة بأهلهـا أو الأحياء من الناس مطلقاً بـل يشـمل عالم الـبرزخ، فكما ان البيت قبلة من تخوم الأرض إلى السـماء فانه ايضاً أمان لأهل القبور في عالم البرزخ لمن دفـن فيها، فهي من اشرف الأمكنة التي يستحب الدفن فيها ويجوز النقـل اليهـا، ومكـة أرجـح وأفضـل من سـائر مواضعه، وفي بعض الأخبار أن الدفن في الحرم يوجب الأمن من الفزع الأكبر وفي بعضها استحباب نقل الميت من عرفات إلى مكة المعظمة بلحاظ أن عرفات ليس من الحرم بخلاف منى التي هي داخل الحرم.
الثالث والثلاثون : سؤال الأمن في الآية لإمكان بث الدعوة الإسلامية وعدم تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأوائل إلى القتل كما تعرض بعض الأنبياء للقتل من قبل.
الرابع والثلاثون : الأمن أعم من أن ينحصر بعدم الخوف والأذى للنظر الى دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإستجابة لها بالمنظار الأوفى، فمن الأمن ان البيت الحـرام عنوان وحدة المسلمين ومادة التقائهم العقائدي والروحي والجسدي كل عام، فهو محل ومناسـبة وسـبب كـريم لنزع رداء الخصومة والبغضاء وحائل دون سفك الدماء، وفي التأريخ الإسلامي شواهد كثيرة تبين موضوعية البيت الحرام في الإصلاح بين المسلمين وتدارك الفتن ونبذ الفرقة.
الخامس والثلاثون : قال اليهـود بعـدم نسـخ شـريعـة موسـى وقالوا ببطلان النسخ لأن المنسوخ إن كان ذا مصلحة فلا يصح النهي عنه وان كان قبيحـاً فلماذا أمر به، وغاب عنهم أن الأحكام مبنية على المصالح وهي متغـيرة إلى جانب اللطف وأهلية العبـاد للتكـليف ومقـداره كما في الصيام لم يواظب عليه إلا الأنبياء والمسلمون ففي قوله تعالى [ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ]( )، ورد في رواية أن كتابته وفرضه على الأنبياء وقال النصارى أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث إلى العرب، ولكن العقل والوجدان والشواهد تكذبهم فالآية أمان من تعديهم.
وأختلف في أوان حرمة مكة هل كانت محرمة قبل ابراهيم ام انهـا أصـبحت محرمة بدعائه، وعن النـبي محمـد صـلى الله عليه وآله وســلم يــوم فتــح مكــة قال: (إنّ الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلاّ ساعة من نهار) ( ).
وفي حرمة مكة وبلحاظ زمانها ذكر المفسرون أقوالاً ثلاثة:
الأولى : كانت محرمة ابداً أي منذ ايام آدم وان ابراهيم اكد التحريم بهذا الدعاء.
الثانية : إنما صارت حرماً آمناً بدعاء ابراهيم وقبله كانت كسائر البلدان، وأستدل عليه بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن إبراهيم حرّم مكة وأني حرمت المدينة.
الثالثة : إن مكة كانت حراماً قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراماً بعد الدعوة.
وكل هذه الأقـوال يمكن الإسـتدلال عليها بالنصوص مع عـدم وجود معارضة بينها من حيث التطبيق وعدم الحاجة إلى إسقاط بعضها وعدم وصول النوبة إلى الجمع العـرفي بينها، وهنا تبـدو موضـوعية التنكير في البلد وهو أن دعوة إبراهيم تعلقت بأحداث البلد وسؤال إنشائه، وهو لا يتعارض مع حرمة البيت، وكان بلداً على نحو التعليق والإقتضاء وحاجة الناس والموضع الذي إراده الله تعالى فيه، وإستدل القائلون بالقول الأول بقوله تعالى [ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ]( ).
ويمكن الإسـتدلال به أيضـاً على بيـان إقرار وتسليم ومعرفة إبراهيم بحرمة البيت ولكنه سأل وجود بلد حـوله وان يكون آمناً، فالمغايرة ظاهرة بين البيت وبين البلد وهنا نكتة تلاحظ في أدعية إبراهيم.
فلا بأس في المقام من تأليف كتاب إسمه (ادعية الأنبياء في القرآن) او كتب يتعرض بعضها لأدعية نبي من الأنبياء، ومنها أدعية إبراهيم عليه السلام، فابراهيم لم يسـأل وجود بلد فحسـب، اذ ما هي الفوائد الإيمانية من وجود البلد اذا كان الغالب عليه الشر والفسوق ومظاهر القتل بل ســأل البلد وتقييده ووصـفه بالأمن وان يرزق اهله من الثمرات ليكون سبيلاً لحفظ ذريته وميثاق النبوة والحضور الإنساني الدائم حول البيت، فوجود البلد والمجتمعات الثابتة المستقرة حول البيت سبيل لحفظه.
ان الموضوع الأساسي في دعوة إبراهيم هو النبوة وتعاهدها، فابراهيم من أولي العزم ومن كبار الأنبياء بما جاهد وضحى وسخر نفسه لكي يحل على المعمورة هذا اليوم المبارك بولادة سـيد الكائنات، وينبعث شـعاع نور الإسـلام إلى مشـارق الأرض ومغاربها لتبرز إلى الخارج إستجابة دعوته بابهى آية وأتم كمال إنساني وبذا ساهم وسعى إبراهيم في جعلنا مسلمين وبقى علينا حفظ الإسـلام بأحكامه وقبلته ومناسـكه، فلا غـرابة أن يطلق عليه القرآن صفة الأب للمسلمين وكيف أن أسباب النسب تترتب على الانتساب للاسلام ولو على نحو المجاز , قال تعالى[مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ] ( ).
وفي الآية حذف وتقديره:
الأول : واجعل هذا بلداً آمنا لأهله.
الثاني : بلداً آمنا لعمار البيت.
الثالث : بلداً آمنا لوفد الحاج من البلدان البعيدة [يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( )، فحينما أمر الله سبحانه إبراهيم بالنداء بالحج وأخبره بأن الناس يأتون وهم في حال إجهاد وعناء وتعب لا قدرة عندهم على مواجهة التعدي في حال صدوره من أهل مكة ومن حولها وهم في حال من التنظيم والعدة والفتوة سأل إبراهيم الله الأمن للبيت وعماره.
الرابع : بلداً آمناً للبيت نفسه بأن لا يعتدى عليه ولا يتعرض للعدم، وتتجلى الإستجابة لدعاء إبراهيم هذا بسلامة البيت من إبرهة الحبشي وجيوشه الجواب ، وحينما دخل عبد المطلب على إبرهة الحبشي بعد أن أخبر بأنه سيد قريش أجله واكرمه إذ كان عبد المطلب رجلاً عظيماً وسيماً، ونزل أبرهة عن سريره، وجلس معه على البساط، وقال لترجمانه: قل له: حاجتك؟ فقال للترجمان: إن حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي. فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زَهِدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه، لا تكلمني فيه؟! فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه. قال: ما كان ليمتنع مني! قال: أنت وذاك.
ويقال: إنه ذهب مع عبد المطلب جماعة من أشراف العرب فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عن البيت، فأبى عليهم، ورد أبرهة على عبد المطلب إبله، ورجع عبد المطلب إلى قريش فأمرهم بالخروج من مكة، والتحصن في رءوس الجبال، تخوفا عليهم من معرة الجيش. ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة( ).
وفي الصباح وجه أصحاب أبرهة الفيل نحو البلد الحرام فألقى نفسه إلى الأرض فضربوه فلم يقم،فوجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل كذلك، ووجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل كذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فسقط إلى الأرض.
وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طير منها ثلاثة أحجار تحملها، حجر في منقاره وحجران في رجليه.
فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحداً منهم إلا هلك، ليس كلهم أصابت، وأرسل الله سيلاً ألقاهم في البحر وخرج من سلم مع أبرهة هارباً يبتدرون الطريق الذي جاءوا منه( ).
في جسده، وعاد ومن نجا معه إلى صنعاء وهو مثل الفرخ ليموت فيها، وفي صباح اليوم التالي نزل عبد المطلب من الجبال إلى مكة ومعه أبو مسعود الثقفي لينظرا ماذا فعل جيش إبرهه فرأيا القوم هلك، فجمع كل منهما ذهباً كثيراً، وجوهراً وحفر حفرة، بعدها نادى عبد المطلب بالناس فنزلوا واصابوا مما فضل غنائم كثيرة، وبقي عبد المطلب في غنى وسعة مما جمع إلى أن مات، أما ابرهة فانه أصيب.
ترى هل يتعارض هلاك ابرهة وأصحابه مع معاني الأمن في مكة كما في هذه الآية والآية السابقة[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( )، الجواب لا، لأن هلاكهم لإستدامة الأمن ومن مصاديقه فقد جاءوا بقصد التعدي ولإبدال الأمن بالخّوف، قال تعالى[وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ]( ).
وألقت طريفة الكاهنة إلى عمرو بن عامر الذي يقال له مزيقيا بن ماء السماء وكانت قد رأت في كهانتها أن سد مأرب سيخرب وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين فباع عمرو بن عامر أمواله وسار هو وقومه حتى انتهوا إلى مكة فأقاموا بمكة وما حولها فأصابتهم الحمى وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمى فدعوا طريفة فشكوا إليها الذي أصابهم فقالت لهم قد أصابني الذي تشكون وهو مفرق بيننا قالوا فما تأمرين قالت من كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان المشيد فكانت أزد عمان ثم قالت من كان منكم ذا جلد وقسر وصبر على أزمات الدهر فعليه بالأراك من بطن مر فكانت خزاعة ثم قالت من كان منكم يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل فكانت الأوس والخزرج ثم قالت من كان منكم يريد الخمر الخمير والملك والتأمير ويلبس الديباج والحرير فليلحق ببصرى وغوير وهما من أرض الشام فكان الذين سكنوها من آل جفنة من غسان، ثم قالت من كان منكم يريد الثياب الرقاق والخيل العتاق وكنوز الأرزاق والدم المهراق فليلحق بأرض العراق فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش ومن كان بالحيرة وآل محرق( ).
بحث بلاغي
في علم البلاغة وفي باب المتشابه بلحاظ الأفراد تكون هذه الآية في المتشابه بالتعريف والتنكير وما ورد في سورة ابراهيم [ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا]( ) للإشارة الى قوله تعالى [ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ]( ) ويكون (بلداً) في هذه الآية مفعولاً ثانياً، وآمناً صفته.
اما في سورة ابراهيم فان (البلد) مفعول اول
ولكن الإختلاف لا ينحصر بالجانب البلاغي الذي يعتبر بعض مظاهر الإعجاز في الآيتين، فكل منهما له دلالات إضافية تختلف عن دلالات الأخرى كما بيناه.
وهل من إختلاف بين الآيتين؟ الجواب لا، للتباين في الإعتبـار والجهة ولإمكان الجمع بينهما، بل أن الجمع بينهما آية أخرى ولا تصل النوبة للقول بأن إحداهما تنسخ الأخرى وان كانت سورة إبراهيم مكية وسورة البقرة مدنية، ففي سورة البقرة تعلق الدعاء بالمكان وسؤال جعله بلداً آمناً وفي سورة إبراهيم توكيد وتتميم بعد جعله بلداً مما يدل على سرعة إستجابة الله تعالى في صدق اسم البلد عليه وما قيضه من الأسباب كبئر زمزم وإجتماع بعض القبائل حوله.
قوله تعالى [وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ]
الهاء في [ أَهْلَهُ ] تعود إلى البلد كما هو المتعارف ولكن على ما نذهب ويحتمل أيضاً عودتها للموضع موضع البيت، فيكون هناك إحتمال آخر وهو ان اهـل البيت الحرام لا ينحصرون بالقاطنـين بمكــة بل يشمل المسلمين جميعاً، وظاهر النصوص على الأول والمتعارف أي أن المــراد أهـل مكة، فقد ورد عن الباقر عليه السـلام: (ان الثمـرات تحمل إليهم من الآفاق)، وعن الصادق عليه السلام: (هي ثمرات القلوب) ( )، أي حببهم الى الناس ليثوبوا اليهـم، والقـرآن يفسر بعضه بعضاً، قال تعالى [ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ]( ).
والثمر حمل الشجر وأنواع المال، والولد يطلق عليه ثمرة، وفي الحديث: (إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم. فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده، فيقولون: نعم)( )، لأن الولد نتـاج الأب، والثمر نتـاج الشـجر، لـذا قد يأتي الثمـر بعنـوان النسـل ولابد ان المراد منه النسـل الصالح وهو بشـارة النبـوة والإمامـة من نسـل إسماعيل التي تجلت مباركة بخاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم، ولفظ الثمرات ورد في القرآن ست عشرة مرة.
ودعاء إبراهيم في هذه الآية ورد على نحو التبعيض بدلالة حرف الجر (من)، بينما وردت الآية الكريمة أعـلاه من سـورة القصص على نحـو الإطـلاق وعـدم التقييد، أي أن فضـل الله تعـالى يفوق الدعـوة تـلك وأن البيت وأهله تتغشاهم الرحمة الإلهية بما يتجاوز اوهام البشر ومضمون السـؤال، فالدعوة كانت منبعاً للبركة التي تستلزم الشكر بالقول والفعل.
وعن الصادق قال : إن ابراهيم كان نازلاً في بادية الشام فلما ولد له من هاجـر إسماعيل إغتمت سارة من ذلك غماً شديداً لأنه لم يكن له منها ولد فكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمه فشكا ذلك ابراهيم إلى الله عز وجل فأوحى الله اليه إنما مثل المرأة مثل الضلع المعوج إن تركته إستمتعت به وإن رمت أن تقيمه كسرته وقد قال قائل في ذلك:
هي الضلع العوجاء لست تقيمها
الا ان تقيم الضلوع إنكسارها( ).
ثم أمره ان يخرج اسماعيل وأمه عنها فقال أي رب إلى أي مكان قال الى حرمي وأمني وأول بقعة خلقتها من أرضي وهي مكة وانزل عليه جبرئيل بالبراق فحمـل هاجر وإسماعيل وإبراهيم، فكان إبراهيم لا يمر بموضع حسـن فيه شـجر ونخـل وزرع إلا قـال يا جبرئيل إلى ها هنا، إلى ها هنا، فيقول جبرئيل لا إمض، لا إمض، حتى وافى مكة فوضعه في موضع البيت وقد كان ابراهيم عاهد سارة ان لا ينزل حتى يرجع إليها.
فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر فالقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها فاستظلت تحته، فلما سرحهم إبراهيم ووضعهم واراد الإنصراف عنهم الى سارة قالت له هاجر: لم تدعنا في هذا الموضع الذي ليس فيه انيس ولا ماء ولا زرع؟ فقال ابراهيم: ربي الذي أمرني ان أضعكم في هذا المكان، ثم إنصرف عنهم فلما بلغ كدى وهو جبل بذي طوى التفت إليهم ابراهيم فقال[ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]( ).
ثم مضى وبقيت هاجر فلما إرتفع النهار عطش إسماعيل فقامت هاجر في الوادي حتى صارت في موضع السعي فنادت هل في الوادي من أنيس فغـاب عنها إسماعيل فصـعدت على الصفا ولمـع لها السراب في الوادي وظنت أنه ماء فنزلت في بطـن الوادي وسعت فلما بلغت المروة غاب عنها إسمـاعيل ثم لمع لها السراب في ناحية الصـفا فنظرت إلى إسماعيل حتى فعلت ذلك سبع مرات فلما كان الشـوط السـابع وهي على المروة نظرت الى إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه فعدت حتى جمعت حوله رملاً وانه كان سائلاً فزمته بما جعلت حوله فلذلك سميت زمزم.
وكانت جُرْهُم( ) نازلة بذي المجاز وعرفات فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير والوحش على الماء فنظرت جرهم إلى تعكف الطير على ذلك المكان فاتبعوها حتى نظروا إلى امرأة وصبي نزلوا في ذلك الموضع قد إستظلوا بشجرة قد ظهر لهم الماء، فقال لها جرهم: من أنت وما شأنك وشأن هذا الصبي؟ قالت أنا أم ولد إبراهيم خليل الرحمن وهذا إبنه أمره الله أن ينزلنا ها هنا، فقالوا لها أتأذنين ان نكون بالقرب منكم فقالت حتى أسأل إبراهيم قال فزارهما ابراهيم يوم الثالث فقالت له هاجر يا خليل الله إن ها هنا قوماً من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتى يكونوا بالقرب منا أفتأذن لهم في ذلك فقال إبراهيم نعم فأذنت هاجر لجرهم فنزلوا بالقرب منهم وضربوا خيامهم وأنست هاجر وإسماعيل بهم.
فلما زارهم إبراهيم في المرة الثانية ونظر الى كثرة الناس حولهم سر بذلك سروراً شديداً فلما تحرك إسماعيل وكانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كل واحد منهم شـاة او شاتين كانت هاجر وإسماعيل يعيشان بها.
فلما بلغ مبلغ الرجال أمر الله تعالى إبراهيم ان يبني البيت فقال يارب في أي بقعة قال في البقعة التي أنزلت عـلى آدم القبة فاضاءت الحرم قال ولم تزل القبة التي انزلها الله على آدم قائمة حتى كان أيام الطوفان في زمن نوح فلما غرقت الدنيا رفع الله تلك القبـة وغرقت الدنيا ولم تغرق مكة فسمي البيت العتيق لأنه اعتق من الغرق فلما أمر الله عز وجل إبراهيم أن يبني البيت لم يدر في أي مكان يبنيه فبعث الله جبرائيل فخـط له موضع البيت وأنزل عليه القواعد من الجنة وكان الحجر الذي أنزله الله على آدم أشد بياضاً من الثلج فلما مسته أيدي الكفار إسودّ.
قال فبنى إبراهيم البيت ونقل إسماعيل الحجر من ذي طوى فرفعه في السماء تسعة أذرع ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم ووضعه في موضعه الذي هو فيه وجعل له بابين باباً إلى المشرق، وباباً إلى المغرب فالباب الذي الى المغرب يسمى المستجار ثم القى عليه الشيح والإذخر، وعلقت هاجر على بابه كساء كان معها فكانوا يكونون تحته فلما بناه وفرغ حج إبراهيم وإسماعيل ونزل عليهما جبرئيل يوم التروية لثمان خلت من ذي الحجـة فقال يا إبراهيم قم فارتو من الماء لأنه لم يكن بمنى وعرفات ماء فسميت التروية لذلك ثم أخرجه إلى منى فبات بها ففعل به ما فعل بآدم، فقال إبراهيم لما فرغ من بناء البيت [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ]( ).
وجاء في القرآن الإخبار بأن إبراهيم أسكن من ذريته عند البيت الحرام وفي التنزيل حكاية منه[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ] ( ).
وفيه شاهد على أن البيت سابق لسكن إسماعيل فيه، وأن رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت كما في الآية التالية لم يكن إنشاء وتأسيساً للبيت، وتبين الآية علة إسكان إبراهيم لذريته في مكة وهي إقامتهم للصلاة والإبتعاد عن زينة وزخرف الدنيا، وأسباب إغواء الشيطان، لتحجب الصلاة البلاء، أما الكفر فإنه ماحق للنعم والثمرات.
فأراد الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ذرية إبراهيم عند البيت إستدامة الزراعة والتجارة، لتجتمع في الحرم أصناف الفواكه والثمار، وإجتماع الفواكه لمواسم مختلفة في آن واحد، فتجد الفاكهة الخريفية والربيعية والصيفية في آن واحد، لتكون هبة من عند الله لسكان الحرم، وبشارة لوفد الحاج وعمار البيت بفواكه وثمار الجنة.
ولما قالت الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) في الإحتجاج على جعل الإنسان خليفة في الأرض، جاءت هذه الآية كمصداق لقول الله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]ورداً عملياً من حياة الإنسان في الأرض على إحتجاج الملائكة من وجوه:
الأول: البلد الآمن في الأرض واقية من الإتساع المكاني للفساد.
الثاني: وجود بلد من في الأرض حرب على الفساد في الأرض، وشاهد على عدم إتساعه.
الثالث: الملازمة بين الأمن والإيمان.
الرابع: جهاد المسلمين لنشر الأمن في الأرض، وإجتناب القتل ظلماً وبغير حق.
الخامس: سؤال الأنبياء الأمن لأهل الأرض، وفضل الله عز وجل في الإستجابة لأدعيتهم.
السادس: إقتران الرزق الكريم بالإيمان بالله والإقرار بيوم القيامة لقوله تعالى[مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ].
السابع: الوعيد والتخويف للظالمين والكافرين، ما فيه من الزجر عن الفساد وإشاعة القتل في الأرض.
الثامن: لما جاءت الآية السابقة بالأمر الإلهي إلى إبراهيم لتطهير البيت الحرام لأفواج العباد والزهاد من عمار البيت الحرام جاءت هذه الآية لبسط الأمن في الحرم ليكون واقية لعمار البيت وسبباً في إستدامة العبادة في الأرض، ومقدمة كريمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم تعرضه للقتل من قبل الكفار كما قتل أنبياء كثيرون من قبله.
التاسع: دعاء إسماعيل لذريته.
العاشر: سؤالهما لذريتهما.
الحادي عشر: دعاؤهم لأهل الحرم.
الثاني عشر: سؤالهما لعمار البيت الحرام.
الثالث عشر: دعاؤهما لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والذي يتضمن بالدلالة التضمنية الدعاء للناس جميعاً، لما فيها من الصلاح وأسباب الهداية قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) ومع نيل إبراهيم مرتبة النبوة والإمامة فأنه سأل قبول أعماله فهل يعني هذا عدم الملازمة بين النبوة والقبول الجواب لا، لأن الله عز وجل هو الرحيم بعباده وهو الذي يجعل الأنبياء في منازل رفيعة في الآخرة لذا قال سبحانه في إبراهيم[وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ]( ).
ومن خصائص القرآن تفضل الله عز وجل بجعله[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، فجاءت هذه الآية الكريمة بذكر مضامين الأدعية التي كان إبراهيم يجتهد في سؤالها، وفيه دعوة للناس لإقتفاء أثره بذات الدعاء، وتعاهد المصاديق الخارجية لتلك الأدعية، وتحتمل أدعية إبراهيم في المقام وجهين:
الأول: أنها من باب الحصر والتعيين.
الثاني: جاءت هذه الآيات لذكر الأفراد الأهم من دعاء إبراهيم، وما يتجلى فيه أسرار وإشراقات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والصحيح هو الثاني، وفيه شاهد على أهمية وموضوعية نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تأريخ الإنسانية وصلاح الأرض، وهو من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة، حينما[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، لأن دعاء إبراهيم من مقامات النبوة وإمامة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتضمن في دلالاته إصلاح الأرض ومنع الفساد فيها ببعثته المباركة والشواهد عليه أكثر من أن تحصى منها ما إستبان بعد بعثته وهداية الناس للإسلام وإنحسار الكفر والضلالة، ومنها ما لم يظهر للعيان ولكنه يدركه بالعقول والتدبر إذ أن الإيمان ودولته برزخ دون الظلم والتعدي والجحود.
ويفيد معنى أهل البيت الحرام في الآية وجوهاً:
الأول : إرادة مجاوري البيت الحرام.
الثاني : المراد ذرية إبراهيم عليه السلام لقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي]( ).
الثالث : المراد خصوص المسلمين الذين يصدقون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : إرادة الذين يزورون البيت للحج والعمرة لقوله تعالى في الآية السابقة خطاباً لإبراهيم وإسماعيل[أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ].
الخامس : المسلمون والمسلمات جميعاً، لأن الحج مقيد بالإستطاعة قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، فمن لا يقدر ولا يستطيع الحج يسقط عنه، ولكن دعاء إبراهيم يتغشاه ويشمله ليكون هذا الدعاء مقدمة ومناسبة لحجه للبيت الحرام، وهو من أسرار تثبيت دعوة إبراهيم هذه في القرآن.
ترى لماذا سأل إبراهيم الرزق الكريم لأهل البيت، الجواب من وجوه:
الأول : إكراماً للبيت الحرام وجواره.
الثاني : فيه ترغيب للناس بمجاورة البيت الحرام وعمارته، وإحاطته بالدور والأسواق.
الثالث : هل الرزق الكريم من مصاديق بركة البيت الحرام فإن أنعم الله عز وجل وجعل ما حول بيت القدس مباركاً بقوله تعالى[الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] بذات البيت الحرام ومن مصاديق البركة فيه الحسية الظاهرة الرزق الكريم لأهله، قال تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )، الجواب نعم، ولكن سؤال ودعوة إبراهيم أمر آخر إضافي يتعلق بالمجاورين وليس ذات البيت، لتأتيهم البركة على نحو متعدد من وجوه:
الأول : رشحات البيت المبارك.
الثاني : جوار البيت الحرام.
الثالث : ذرية إبراهيم.
الرابع : صبغة الإيمان
الآية نعمة
البيت الحرام آية ونعمة من عند الله عز وجل على الناس جميعاً، وليس من حصر لمصاديق هذه النعمة وما يترشح عنها من المنافع الظاهرة والباطنة، والعاجلة والآجلة، والدنيوية والأخروية، وجاءت هذه الآية لبيان بعض تلك النعم.
ويمكن إستقراء قاعدة كلية من القرآن وهي كل آية نعمة أو نعم متعددة، وهي في المقام على وجوه:
الأول: نعمة دعاء إبراهيم لأهل مكة.
الثاني: إحاطة مكة بالأمن والأمان.
الثالث: من مصاديق الأمن السلامة من الزلازل والخسف ونحوها.
الرابع: جلب الثمرات والطيبات لمكة، وفيه مسائل:
الأولى: سلامة أهل مكة من الحزن والكآبة لعدم وجود الثمار والزراعات في بلادهم.
الثانية: منع أهل مكة من الهجرة إلى البلاد الأخرى طمعاً بالثمار والفواكه ومنافع الأنهار، لذا ترى الناس يرغبون بسكن مكة، ولا يرغب أهلها بالإنتقال في الإقامة والسكن في غيرها.
الثالثة: تثبيت نعمة الأمن في مكة، فمتى ما كان مجاوروا البيت في بسطة من العيش فأنهم يبتعدون عن السطو والنهب والسرقة، وتراهم يحرصون على حسن المعاملة والبيع والشراء ويجتنبون الحسد والتحاسد فيما بينهم، وتلك خصال أخلاقية ظاهرة في أهل مكة في كل زمان، وحتى قبل الإسلام كانت هناك شواهد تدل على هذه الصفات منها تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصادق الأمين.
وفيه دليل على موضوعية الأمانة وإكرام أهل مكة لصاحبها، وإن كانت صفة الصدق والأمانة من أمارات ومقدمات النبوة، وكان أحدهم في الجاهلية يرى قاتل أبيه في الحرم فلا يثأر منه تعظيماً للحرم مع أن الحرم أوسع وأعم من مكة والبيت الحرام، وهو من عمومات[رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا]( ).
الرابعة: إيجاد وإستدامة التجارة بين البلدان، وقد جاء في تجارة مكة قوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) وكانت لقريش رحلتان: أحداهما إلى اليمن وتكون في الشتاء لأنها بلاد حامية، والثانية إلى الشام وتكون في فصل الصيف لأنها بلاد باردة، وتحرص قريش على تآلف وإتصال هذه الرحلات والتجارة وبلحاظ مجيء سورة قريش بعد سورة الفيل ووجود لام التعليل في(لإيلاف) والتعدية[فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ] (وهما في مصحف أبيّ سورة واحدة بلا فصل، وعن عمر أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب وقرأ في الأولى والتين) ( ).
وورد عن الإمام الصادق عليه السلام جمعهما في القراءة في الصلاة وفي المسألة(370) من كتاب الصلاة من رسالتي العملية(الحجة): الأقوى إتحاد سورتي الفيل وقريش، وكذا سورتي الضحى والإنشراح مرتبتين في حال القراءة مع الفصل بالبسملة بينهما، يكون المعنى أن الله عز وجل إنتقم من أصحاب الفيل وهذا الإنتقام نعمة على قريش كي تتآلف رحلاتها وتوكيد لأمن مكة وأهلها وكانت قريش تعيش على التجارة لأن مكة واد جديب ولم يكونوا أصحاب ضرر ولا زرع , وقريش ولد النضر بن كنانة وقال الطبرسي: (فكل من ولده النضر فهو قرشي، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي)( ).
وإشتقاق اسم قريش على وجوه:
الأول : من القرش وهو الذي يقرش لعياله أي يكتسب لهم.
الثاني : جاء إسمهم من تصغير القرش وهو دابة كبيرة معروفة تعيش في البحر(تعبث بالسفن ولاتطاق إلا بالنار) ( )
الثالث : عن معاوية أنه سأل ابن عباس: بم سميت قريش: قال بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل، وتعلوا ولا تعلى وأنشد قول الجمحي:
و قريش هي التي تسكن البحر بها سميت قريش قريشا( ).
وجاء قوله تعالى في سورة قريش[الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ) مصداقاً تاريخاً وشاهداً حاضراًَ في الوجود الذهني للأجيال على إستجابة الله عز وجل لدعاء إبراهيم، وجاء التنكير في الجوع والخوف لبيان شدتهما وأن الله عز وجل أذهب عن قريش ما أصابهم من فقر وعوز أكلوا معه الجيف والعظام المحرقة، وآمنهم من الخوف من إبرهة وجيش الحبشة، وآمنهم من الجذام والأمراض والأوبئة.
فمن الآيات في مكة أنه مع مجيء الناس للحج من كل حدب ومكان، ومنهم حاملوا الجراثيم والمرضى الذين يأتون للبيت الحرام وعمارته طلباً للشفاء والأمن فأن الأوبئة والعدوى وعدم وجود مصحات وتلقيح ووقاية في الأزمنة السابقة، ومع هذا لم تنتقل الأمراض في مكة وهو من عمومات الأمن فيها.
إستجابة دعاء النبي
الدعاء سفر روحي يصعد به العبد إلى عالم الملكوت، وينقطع عن الدنيا، والأنبياء سادة الدنيا في الآخرة، وهم أئمة الدعاء وقادة الناس في سبل ومسالكه، وكل سنّة وسيرة لنبي من الأنبياء مدرسة في الدعاء ومكارم الأخلاق، ودعوة للناس للإقتداء بهم، والنهل من كنوز الدعاء، وجلب المنافع ودفع المفاسد بالدعاء والمسألة، وقد وصف الله عز وجل القرآن بقوله تعالى[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ومن وجوه البيان فيه أدعية الأنبياء ومنها أدعية إبراهيم عليه السلام التي جاءت بصفة النبوة والإمامة مجتمعتين ليفوز المسلمون بنعمة النبي الرسول الإمام محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإذ جاءت أدعية بعض الأنبياء في ذم قومهم لما واجهوهم به من الجحود والصدود وجاء على لسان نوح عليه السلام فيمن عصاه من قومه[وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً]( ).
وجاءت الآية التالية لبيان العقوبة والبلاء العظيم الذي حلّ بهم بقوله تعالى[مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا]( )، وجاءت أدعية إبراهيم في هذه الآيات رحمة تتعلق بوجوه:
الأول: الرحمة للناس جميعاً بنيل إبراهيم مرتبة الإمامة للناس، وإظهاره الدعوة إلى الله عز وجل، كما يأتي دعاؤه للناس بالواسطة بسؤاله بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي عامة وشاملة للأجيال المتعاقبة من الناس، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الثاني: الصالحون من ذريته، بسؤال وراثتهم الإمامة.
الثالث: لما جاءت الآية السابقة بالأمر الإلهي إلى إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت الحرام للذين يطوفون به ويقيمون الصلاة فيه، جاءت هذه الآية بسؤال إبراهيم أن تكون مكة بلداً آمناً ليؤدي عمار المسجد الحرام مناسكهم بسلام وأمن وإنقطاع إلى الله عز وجل.
الرابع: الدعاء لأهل مكة بالرزق الكريم، وتقييده بالمؤمنين منهم.
الخامس: الدعاء المبارك ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وحواليها.
السادس: سؤال وظائف الإمامة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في التنزيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ]( ).
السابع: الدعاء لأهل مكة والعرب ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بينهم وإنقاذهم من الضلالة والشرك.
ومن الإعجاز في أدعية الأنبياء تحقق الإستجابة من عند الله بأبهى صورها، وهو شاهد على مقاماتهم وعلو شأنهم عند الله سبحانه، وفيه دعوة للمسلمين للإجتهاد بالدعاء والتضرع والمسألة في المسألة الكبيرة والصغيرة .
وفي الحديث القدسي(يا موسى سلني عن ملح قدرك وعلف شاتك)( ).
ويدل بمفهوم الموافقة وفحوى الخطاب على سؤال الحوائج الأهم من باب الأولوية القطعية، وعدم الغفلة عن الحاجة في آنات الليل والنهار، لكثرة وتداخل حاجات الإنسان وملازمتها له إذ أنه من عالم الإمكان، وكل كائن ممكن محتاج، فيأتي الدعاء لقضاء حاجات الإنسان متحداً ومتعدداً، وللذات والغير لذا ورد في الحديث القدسي(ادعني بلسان لم تعصني به)( ).
وستبقى مدرسة دعاء الأنبياء في القرآن ضياء تشع أنواره على القلوب المنكسرة، وسبيلاً لبلوغ المقاصد، وبلغة لتحقيق الغايات الحميدة.
وقال الفخر الرازي: إن دعاء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكون إلا بعد الإذن، لاحتمال أن لا تكون الإجابة مصلحة، فحينئذ تصير دعوته مردودة، وذلك نقصان في منصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هكذا قاله المتكلمون)( ).
ولا دليل على هذا التقييد، والأصل عموم الإطلاق في الدعاء بقوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، وشموله للأنبياء من باب الأولوية القطعية , خصوصا وأنهم إتخذوا الدعاء سلاحا , وقول الرازي (هكذا قاله المتكلمون) نوع إستدراك وتوقف في المسألة.
قوله تعالى [مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ]
تقييد وتخصـيص في الدعـاء بأن المؤمن هو الذي يسـتحق الرزق الذي ينال بفضـل من الله تعالى وبالدعـاء لكي تكون النعم عـوناً على الهداية وباباً لنزول البركة وعمارة الأرض والمسجد الحرام، فابراهيم يخشى بطش الله تعالى في الأقوام الذين سبقوا ظهور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والفتنة التي تصيب الذين ظلموا والكفار اذا ما أوتوا النعمة قد يجعلونها آلة وعوناً على الصد عن البيت الحرام.
لقد تقدمت دعوة إبراهيم لذريته بالإمامة وإخبار الله عز وجل بخروج الظالمين منها بقوله تعالى[قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]( )، فجاءت دعوته بالرزق الكريم لخصوص المؤمنين من ذريته وفيه بيان لموضوعية الإيمان في نزول الرزق الكرم والفضل العظيم من عند الله، فالإيمان قوام صرح الحياة الدنيا وإستدامة توارث الإنسان فيها، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، لقد ذكر إبراهيم أهل مكة أولاً ثم إختص المؤمنين منهم، وقيل هذا الإختصاص على نحو البدلية والتقدير: وإرزق المؤمنين من أهله).
ولكنه أعم من البدلية، فقد جاء الدعاء أولاً على نحو الإطلاق برزق أهل البيت الحرام كلهم من الثمرات سواء مما كان من فوق الأرض كالتفاح والرمان والتمر والأعناب أم مما تحت الأرض كالنفط والمعادن النفيسة ثم خص إبراهيم منهم المؤمنين بالله واليوم الآخر ويحتمل وجوهاً:
الأول : التدارك من إبراهيم.
الثاني : البدلية.
الثالث : مجيء الخاص بعد العام.
الرابع : علم إبراهيم بأن الله عز وجل يرزق أهل البيت كلهم رحمة وفضلاً منه فسأل إبراهيم الزيادة في الرزق لخصوص المؤمنين.
الخامس : إرادة المعنى الأعم لأهل البيت الحرام ليشمل المجاورين ووفد الحاج وعمار البيت.
السادس : وجود حذف في الآية، ويحتمل مسائل:
الأولى : وإرزق أهله من الثمرات وخصّ منهم أهل الإيمان .
الثانية : وإرزق أهله من الثمرات وأجعلهم جميعاً ممن آمن بالله واليوم الآخر أي أن السؤال والدعاء مركب ومتعدد فلم يسأل لهم الرزق وحده بل سأل لهم الإيمان ليكون من مصاديق ما جاء في أول هذه الآية[اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا] أن يكون الإيمان لأهل ومجاوري البيت من الأمن وأن يتغشى الأمن أهله في الآخرة ويكون من عمومات قوله تعالى[وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الثالثة : وإرزق أهله من الثمرات وزد وبارك على من آمن منهم بالله واليوم الآخر.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة، لتكون من الشواهد على الكنوز الكامنة في البيت ومجاورته ولزوم التقيد بالإيمان.
لقد جاء دعاء إبراهيم في هذه الآية على وجوه:
الأول : عام بتغشي الأمن مكة كلها، وهل يشمل الدعاء التوسعة الجديدة أم أنه خاص بما حول البيت من البيوت، الجواب هو الأول، وهو من الشواهد على ما نذهب إليه من إعتبار التوسعة الجديدة في مكة جزءً منها بخصوص أحكام الصلاة والإحرام والتلبية.
الثاني : الدعاء الخاص بالرزق بالطيبات للمؤمنين من سكنة البيت، لتكون النعم والرزق الكريم مقدمة وسبباً لبقائهم على الإيمان، ويكون الفقر زاجراً عن الكفر والصدود.
الثالث : الدعاء بالإيمان بالله واليوم الآخر لذريته وأهل مكة وهو الذي يدل عليه مفهوم الآية الكريمة[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] وورد لفظ(أهل) في القرآن أربعاً وخمسين مرة، ولفظ أهله سبعاً وعشرين مرة، جاءت إثنتان بخصوص البيت الحرام أحداهما آية البحث والأخرى قوله تعالى[وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ]( ).
وقد أصاب المهاجرين المرض والحمى عند خروجهم من مكة إلى المدينة حتى رفعت الحمى من المدينة بفضل الله بدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقال المفسرون والمراد من أهل المسجد الحرام هم المسلمون، ولكن معنى الآية أعم ولا يختص لفظ أهل المسجد الحرام بالمسلمين لأن إخراج أهله منه خلاف قوله تعالى[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( ).
وممكن القول أن بين معنى(أهله) في الآيتين عموماً وخصوصاً مطلقاً، فجاءت آية البحث لإرادة أهل مكة [اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ]( )، فالمراد من الضمير (الهاء) هو البلد أي مكة أما قوله تعالى[ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ]( )، فان الهاء في (أهله) تعود للمسجد الحرام وهم المسلمون لظاهر قرينة الإسلام والتقوى في النسبة إلى المسجد الحرام قال تعالى[وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ]( )، ليكون على هذا المعنى تقدير آية البحث [وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ]، وليخرج من الدعاء الذين كفروا وعبدة الأصنام، ويدخل في الدعاء عمار المسجد الحرام ممن يأتون من الأمصار الأخرى للحج والعمرة والإقامة، وهو المستقرأ مما ورد في الآية السابقة[أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( )، فقد سال إبراهيم لهؤلاء الرزق الكريم وأن لايختص به المؤمنون من ذرية إبراهيم وأهل مكة وحدهم.
لقد تجلى التباين في الدعاء، فقد سأل إبراهيم الإمامة لذريته، أما الرزق الكريم والطيبات فقد سألهما للمؤمنين لتكون الدنيا دار بهجة لهم، وسبباً للإنقياد للنبوة، وتصبح هذه الثمرات والطيبات آية وحجة متجددة في لزوم إكرام البيت وأهل التقوى والصلاح.
وذكر إبراهيم الإيمان باليوم الآخر على نحو التعيين بعد الإيمان بالله عز وجل، إن التصديق باليوم الآخر من شرائط الإيمان وسبيل لتعاهد البيت الحرام وتسخير الرزق الكريم في مرضاة الله.
قوله تعالى [ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ]
الآية تدل بمفهومها وبدلالتها الإلتزامية على إستجابة دعوة إبراهيم في المؤمنين اما الذين كـفروا فانهم قد يشـتركون في النعـم مع المؤمنين على سبيل الإفتتان والإستدراج لحكمته تعالى في الخلق ولعمومات الإبتلاء في الدنيا ولكن ذلك لن يكون طويلاً، أما لأن أيامهم في الدنيا قصيرة أو للإرجاء لحين خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيستأصل الكفر في مكة وينزل القرآن بابعادهم عنها بقوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا.]( ).
وتحتمل الآية بلحاظ متعلق الآية وجوهاً:
الأول : من كفر من أهل البلد الحرام.
الثاني : من كفر بحج وعمارة البيت الحرام ، قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : من وظلم كفر من ذرية إبراهيم لما ورد في التنزيل[وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]( ).
الرابع : الذي أشرك بالله واتخذ الأصنام في البيت الحرام.
الخامس : الذي يكفر بالنعم والرزق الكريم والثمرات.
السادس : الذي لا يقابل نعمة الأمن بالبيت والرزق الكريم بالشكر لله.
السابع : الذي يجحد بالنعم الخاصة التي تصيبه بسبب نسبته لإبراهيم بالنبوة وجواره للبيت الحرام.
ترى ما هي النسبة بين ذرية إسماعيل وقريش الجواب هي العموم والخصوص المطلق إذ أن قريشاً من أولاد النضر بن كنانة، وأولاد كنانة من غير النضر ليسوا من قريش، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نحن بنو النضر كنانة لَا نَقْفُو أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا( )، أي لا نقذف ولا نسب أمنا في نسبها.
وعن أنس خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار ، وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرهما ، فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهد الجاهلية ، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم ، حتى انتهيت إلى أبي وأمي ، فأنا خيركم نفساً وخيركم أباً( ).
قوله تعالى [ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]
أي يساق الى جهنم عن كره منه ولكن بما استحقه من العذاب والعقاب فيكون تمتعه بتلك النعم وبالاً عليه وفتنة، والآية انذار لبني اسرائيل في ضمن السياق اذ ان الكفر هنا أعم ويشمل الكفر بالرسالة والبيت الحرام كنعمة دائمة وفضل إلهي يستحق الشكر بحسن الإمتثال.
فالحج ضرورة من ضرورات الدين ، والآية حجة وخطاب الى اهل الكتاب بان تشــريع الحج من ايام ابراهيم الذي تنتسبون اليه وترجون شفاعته يوم القيامة وقد جاهد في تثبيته واستدامته، والآية تدل على تبرئه من الكفار وعدم استحقاقهم لنيل الشفاعة والمغفرة.