(127- 133)
المقدمة
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا آية على عظيم قدرته وإقترانها ببديع صنعه والموجود أشرف من المعدوم وهو خير شاهد على القدرة والحكمة والفعل، وتفضل وجعل في الدنيا موضعاً آمناً هو البيت الحرام ليكون مثالاً ونواة للأمن في الآخرة، وشاهداً على تفضله برزق الناس الأمن وإن إجتمعوا وكثروا لقوله تعالى[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]([1]).
ومن أسرار ورود الآية أعلاه بلفظ الناس هو إرادة العموم في سنخية الأمن في الدنيا والآخرة، وأن شطراً من الناس يحجبون بأيديهم الأمن عن أنفسهم، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
لقد إبتدأت هذه الآية ببيان جهاد إبراهيم عليه السلام بإعادة بناء البيت ومن الإعجاز في قوله تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ]([2])، بلحاظ قانون الأمن في الأرض وإستدامته قبل وبعد أيام إبراهيم وجوه:
الأول : دلالة الآية على أن آثار وبقايا البيت ظاهرة للعيان، أي أن الأجيال السابقة كانت تتعاهده وتعلم به.
الثاني : لم يتمم إبراهيم البيت ولكنه رفع قواعده في دلالة على أن إتمام فريضة الحج وعمارة البيت ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أسرار الآية الثالثة التي يتضمنها هذا الجزء من التفسير[ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ]([3])، وهو الذي تدل عليه الآيات والشواهد.
لقد إقترن رفع الشاخص المبارك بالإسلام والإنقياد لأمر الله لما ورد حكاية عن إبراهيم وإسماعيل[رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ]([4])، لبيان أن الأهم هو الإسلام، وبينه وبين بناء وتعاهد وعمارة البيت عموم وخصوص مطلق، فالجهاد والعمل في مرضاة الله ليس برزخاً دون أي فرد من مصاديق طاعة الله، ومنها خمس مرات في اليوم يقف فيها المسلم والمسلمة بين يدي الله عز وجل على نحو الوجوب العيني.
وتضمن هذا الجزء تفسير سبع آيات من سورة البقرة(127-133) في سِفر مبارك وعلوم مستحدثة مستقرأة من آيات القرآن وفيها إستظهار لجزء يسير من كنوزها وذخائرها لم يشهد لها التأريخ مثيلاً.
وبدأت بذكر إبراهيم وجاءت كل واحد منها بالثناء عليه، وذكر في أربع منها بالإسم، وأختتمت بتعاهد وتوارث ملته، وتضمنت هذه الآيات في منطوقها ومفهومها مدح المسلمين والثناء عليهم بدعاء إبراهيم لهم وتطلعه إلى أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعاهدهم لنهج إبراهيم والأنبياء السابقين وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]([5]).
قوله تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ] الآية 127.
الإعراب واللغة
وإذ: الواو عاطفة على ما سـبق، إذ: ظـرف لما مضـى من الزمـان وهو مضـاف، يرفع إبراهيـم: فعـل وفاعـل، والجملـة في محل جـر مضاف اليه بإضافة الظرف اليها، القواعد: مفعول به.
من البيت: جار ومجرور في موضع نصب على الحال، وهذا من أسرار اللغة العربية وما يميزها عن غيرها من اللغات ويساعد على إستظهار أبواب من التفسير، من جهات:
الأولى: الوظيفـة الظاهريـة للكلمة.
الثانية: المعنى المتبادر من اللفظ، وهو من علامات الحقيقة.
الثالثة: ما يدل عليه اللفظ بالدلالة التضمنية وهي دلالة اللفظ على جزء المعنى الذي وضع له.
الرابعة: مفهوم اللفظ بالدلالة الالتزامية وهي دلالة اللفظ على معنى رديف ومقارن للمعنى الذي وضع له يستتبعه ويلازمه وإن كان خارجاً عنه.
الخامسة: المعاني التي تنتزع منها أو بلحاظ محلها في الكلام وبالإشتراك مع غيرها، ويساهم في تحري مضامين أخرى في التفسير أو وجوه التأويل.
إسماعيل: معطوف على إبراهيم.
ربنا: منادى مضـاف محـذوف منـه حرف النداء بتقدير قول محذوف أي يقولان ربنا، والضمير في محل جر مضاف إليه.
تقبل: فعل طلب معناه الدعاء، منا: جار ومجرور متعلقان بتقبل، إنك: إن وإسمها.
أنت: ضمير متصل لا محل له من الإعراب، السميع العليم: خبران لإن.
ومن أسماء الله تعالى (الرافع) وهو الذي يرفع المؤمن في الدارين، والرفع ضد الوضع، والقواعد: الأسس، والقاعدة أصل الأس، وفي التنزيل [فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ]([6]) وقيل القواعد أساطين البناء التي تعمده.
وإسماعيل بن إبراهيـم نبي من الأنبـياء ويرجـع إليه نسـب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكر هذا الاسم في القرآن إثنتي عشرة مرة، وقيل إن أسماء إبراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى هي بالعبرانية والسريانية إبروهم، إشموئيل وميشا وإيشو، وقيل إنها إبرهما وإبراهام ويشمعيل ومشه ويشوع، فعربتها العرب، وفي حديث هاجر: (فتلك أمكم يا بني ماء السماء)([7])، أي العرب لأنهم يعيشون على السيح بماء المطر ويتبعون مساقطه في الرعي.
وقالت اليهود: إسماعيل من عبارة عبرية تعني الإله يسمع إلى أب الأمة الكبيرة) ([8])، قال اليهود: تسمية إسحاق من صحف العبرية بمعنى ضحك، لما جاء في العهد القديم أن إبراهيم وسارة ضحكا حينما أخبرهما ملاك الرب بأنهم سيرزقان طفلاً في شيخوختهما.
قيل معنى إسماعيل بالعبرية: إسمع الله أي أن الله إستجاب دعوة إبراهيم ورزقه ولداً، ودعاء أمه هاجر وذكر أنه معرب من يشمعيل بالعبرانية أي الذي يسمع له الله.
في سياق الآيات
وظيفة هذه الآية مركبة فبلحاظ ذم شطر من أهل الكتاب تبين أن إهتمام إبراهيم كان متوجهاً إلى البيت الحرام وإعداد قبلة المسلمين والدعاء لهم، ويدل عليه أيضاً إبتـداء الآية بقوله تعالى [وَإِذْ] المفيد للعطف ولإتصال الخبر ووحدة موضوعه وتعلقه بما تقدم من الكلام.
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة وهي على شعبتين:
الأولى: صلة هذه الآية بالآيات السابقة إذ جاءت هذه الآيات لذكر وتعداد مناقب إبراهيم عليه السلام وجهاده في سبيل الله وتأسيسه لقواعد الشريعة الحنيفية التي بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للعمل بمضامينها وإتمامها، وهذه الصلة على وجوه:
الأول: صلة هذه الآية بالآية السابقة وفيها مسائل:
الأولى: كأن النسبة بين الآيتين هي العموم والخصوص المطلق فتتعلق الآية السابقة بالبلدة وهي مكة كما في قوله تعالى[وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ]([9])، وأخذه صفة الأمن من وجود البيت الحرام فيه ودعاء إبراهيم ولأنه مبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: تكرر اسم إبراهيم في الآيتين، وفيه تشريف وإكرام له، وقد دعا القرآن لإتباع إبراهيم عليه السلام , قال تعالى[قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا]([10])، فتكرر اسم إبراهيم في هذه الآيات لبيان سنته التي يتبعها المسلمون.
الثالثة: ذكرت الآيات السابقة إبراهيم بمفرده وجهاده في سبيل الله، وجاءت هذه الآية بذكر إسماعيل معه في بناء قواعد البيت، وفيه إشارة إلى وراثة إسماعيل وذريته لعمارة البيت الحرام، وهو من إعجاز القرآن فقد حافظت قريش وغيرها من ذراري إسماعيل على عمارة البيت حتى مرهم في حال كفر وضلالة وشرك إلى أن بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من ذريته لتحفظ أمته البيت إلى يوم القيامة فإن قلت إن موضوع ذرية إسماعيل يخزم بأن المسلمين من ذراري مختلفة وليس كلهم من ذرية إسماعيل وإبراهيم، والجواب من وجوه:
الأول: هذا التعدد والإختلاف في النسب بين المسلمين من آيات الله في إكرام إبراهيم وإسماعيل.
الثاني: المدار على النبوة وأن المسلمين أنصار وأتباع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: يعمل المسلمون وإلى يوم القيامة بسنة النبي محمد صلى الله عليه السلام.
الرابع: جاءت آيات القرآن بإكرام المسلمين بنسبتهم إلى إبراهيم، قال تعالى[مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ]([11]).
الرابعة: لما سأل إبراهيم الله عز وجل الأمن لمكة فانه قام ببناء البيت ليقترن العمل بالدعاء في ذات الموضوع، لأن بناء البيت وعمارته أمن بالذات والأثر، وسبب لإنجذاب النفوس إلى العبادة والتقيد بسنن التقوى، وهناك ملازمة بين التقوى والأمن، فحيثما وجدت التقوى كانت السكينة والأمن.
الخامسة: لما جاءت الآية السابقة بسؤال إبراهيم أن يجعل مكة بلداً آمناً جاءت هذه الآية لتتضمن مصداقاً لإستجابةالدعاء والأمن في مكة ببناء البيت الحرام.
الثاني: صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]([12])، وفيها مسائل:
الأولى: ورد اسم إبراهيم في آية البحث مرة واحدة، بينما ورد في آية السياق مرتين إحداهما بخصوص مقامه في البيت وورد ذكر(البيت) في الآيتين لبيان منزلة البيت ولزوم تعاهده.
الثانية: ورد ذكر(البيت) بالتعريف بلام العهد لبيان أنه البيت الوحيد المعلوم، وقد أخبرت الآيات بإضافته لله عز وجل كما في قوله تعالى[وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]([13]).
وليس في القرآن لفظ(بيت الله) ولا (بيوت الله) ولا لفظ(بيوتي) مع أن المساجد بيوت الله، وفيه إكرام البيت الحرام على نحو التعيين ليفيض على مكة والمساجد كلها، وكأنها فروع له وإن كانت مقدسات قائمة بذاتها.
وورد لفظ(البيت) في القرآن تسع عشرة مرة منها ثلاث عشرة مرة في البيت الحرام وهي مدرسة قصة إنشاء وعمارة البيت وإظهار شأنه في أحكام العبادات، ومن أسرار مجيء البيت بلام العهد الإخبار على أن الناس فيه شرع سواء أي ليس من تفضيل فيه لبعضهم على بعض ويدل عليه صيغة العموم في وصفه وإنشائه وأنه رحمة للناس قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]([14]).
ولكن الكفار حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار، بالإضافة إلى حقيقة وهي أن الكفر عرض معرض للزوال ومع قبح الكفر وأضراره على الذات والغير وفي الدنيا والآخرة، فإن زواله بالنطق بالشهادتين ومن دون مقدمات أو إستئذان من العلماء أو السلاطين، وبهذا النطق المبارك تزول الموانع بين الإنسان وحقه وواجبه في أداء الحج، قال تعالى[وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ]([15]).
الثالثة: أخبرت آية السياق بأن البيت مثابة أي يثوب ويرجع إليه الناس كل سنة فلابد أن ترفع قواعده وصرحه، وجاءت آية البحث بالإخبار عن قيام نبي من الرسل الخمسة أولي العزم برفع قواعد البيت.
الرابعة: ذكر كل من آية البحث والسياق إسماعيل، وقد ذكر إبراهيم ومنها آيتا البحث والسياق، ومن الآيات الخمسة الأخرى ما كانت على لسان إبراهيم منها[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ]([16]).
الخامسة: ذكرت آية السياق بأن البيت(مثابة للناس) فهل يدخل آدم ونوح وإبراهيم في عموم الناس الذين تشملهم الآية أم أن القدر المتيقن منها هم الناس في أيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب هو الأول، وتلك آية في إكرام الإنسان، فعندماجعل الله عز وجل آدم خليفة في الأرض إحتج الملائكة لعظيم منزلة الخلافة، فجاءت آية السياق لتخبر بالمدد من الله عز وجل للناس، ومنه صيرورة البيت الحرام منسكاً وملاذاً وذخراً للناس جميعاً، وأول الناس إنتفع منه آدم إذ طاف وحواء به وآوى إليه، ولجأ إليه إبراهيم وجعل زوجته وإبنه عنده في لجوء إلى البيت كما ورد في التنزيل[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ]([17]).
السادسة: تبين آية السياق النفع العام لجهاد إبراهيم في رفع القواعد البيت بأن صار مقامه مصلى للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة وهو من الثواب العاجل لإبراهيم وإكرامه في الدنيا، وهو من عمومات قوله تعالى[وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا]([18]).
الثالث : صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]([19])، وفيه مسائل:
الأولى: إبتدأت الآيات الأربعة هذه 124-127 كلها بظرف الزمن الماضي(إذ) وفيه دلالة على أنها من القصص التي يذكرها القرآن، وتوثقها آياته، وهي من قصص الأنبياء إذ ورد اسم إبراهيم في كل آية منها، وهو عمومات قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]([20]).
وتكرر اسم إبراهيم خمس مرات في الآيات التسعة التي بعدها وجاءت الآيات الأربعة الأخرى بخصوص إبراهيم ودعائه وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ]([21]).
الثانية: من معاني تكرار اسم إبراهيم عليه السلام أمور:
الأول: بيان منزلة إبراهيم وأنه إمام للموحدين.
الثاني: ذكر قصة إبراهيم عليه السلام الجهادية.
الثالث: دعوة المسلمين للإقتداء به سنته.
الرابع: الإشارة إلى وجوه التشابه التي تجمع بين سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإبراهيم عليه السلام.
الخامس: إبطال كلام أرباب الشك وإفحام أهل الجدال في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنته القولية والفعلية لأنه يأتي بما جاء به إبراهيم عليه السلام من سنن التوحيد ومعالم.
الثالثة : وراثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمقام الإمامة.
الرابعة : نبوة إبراهيم عليه السلام سابقة لليهودية والنصرانية، وقد جاء دعاء إبراهيم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً مع بيان صفات النبي من تلاوة الآيات وتعليم الحكمة ويطهرهم من دنس الذنوب بهدايتهم إلى سنن الإسلام , وفي التنزيل[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ]([22]).
الخامسة : إتباع الهوى من الظلم الذي ذكرته آية السياق بقوله تعالى[قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]([23]).
الثانية: صلة هذه الآية بالآيات التالية لها، وفيها وجوه:
الأول: صلة هذه الآية بالآية التالية[رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ]([24])، وفيها مسائل:
الأولى: جاءت آية البحث بأمرين:
الأول: رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت.
الثاني: التوجه بالدعاء وسؤال قبول عملهما، وقيل إن الله تعالى مدّ لإبراهيم وإسماعيل بسبعة أملاك يعينونهما على بناء البيت فلمّا فرغا من بنائه قالا:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ} أي تقبل منّا بناءنا البيت)([25]).
أما آية السياق فجاءت كلها دعاء ومسألة، لتكون إستمراراً لدعاء إبراهيم لنفسه ولإبنه وللمسلمين(عَنِ ابن زَيْدٍ في الآية، قَالَ:”لَمْ يذكر الله بالإسلام والإيمان غير هذه الأمة، ذكرت بهما جميعاً، ولم يسمع بأمة ذكرت بالإسلام والإيمان غيرها)([26]).
الثانية: سأل إبراهيم إسماعيل في آية البحث قبول عملهما ثم سألا في آية السياق الإنقياد لأوامر الله والتسليم بحكمه، والإذعان لأوامره، والإخلاص في عبادته.
الثالثة: تقدير الجمع بين الآيتين: ربنا تقبل منا وأجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك.
الرابعة: جاء دعاء إبراهيم وإسماعيل في آية البحث لهما بالذات، أما في آية السياق فقد جاء دعاؤهما أعم وشاملاً للذرية.
الخامسة: من وجوه الصلة بين آية البحث والسياق أن إبراهيم وإسماعيل يرفق قواعد البيت لتقوم ذريتهما بتعاهده بالحج والعمارة والعمرة والنسك.
السادسة: أختتمت آية البحث بإسمين من أسماء الله عز وجل (السميع العليم) وأختتمت آية السياق بإسمين آخرين من أسماء الله سبحانه(التواب الرحيم) وكل من هذه الأسماء جاءت حكاية عن إبراهيم وإسماعيل وجزء من دعائهما.
السابعة: بعد العمل والجهاد في سبيل الله ودعاء قبول العمل كما في آية البحث، جاءت آية السياق متعقبة لها بسؤال متعدد من وجوه:
الأول: سؤال جعل إبراهيم وإسماعيل مسلمين منقادين لأمر الله، (ووردت قراءة(مسلمين) بكسر الميم وإرادة صيغة الجمع على قراءة)([27]).
الثاني: السؤال للذرية بالإسلام والإنقياد لأوامر الله، وجاء السؤال بلغة التبعيض لإفادة (من ذريتنا) لإرادة أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن قلت الظاهر أن ذرية إسماعيل كلهم صاروا مسلمين خصوصاً بعد فتح مكة .
الجواب المراد من التبعيض في المقام أعم من إرادة الأفراد العرضية بل المقصود الأجيال المتعاقبة ليفيد الجمع بينه وبين الآية التالية له[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ] بيان حقيقة وهي دخول ذرية إبراهيم وإسماعيل كلها في الإسلام، ويكون من تفسير قوله تعالى(ومن ذريتنا) أن الذرية تكون على مراتب:
الأولى: مؤمنون وكفار، وهو ما قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: جميع الذرية مؤمنون وهو بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : التباين العددي والنوعي في الذرية بعد البعثة المباركة.
الثالث: إرادة أهل مكة ليكون في إسلامهم تعاهد للبيت الحرام والأمن فيه لذا ورد قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]([28]).
الرابع: المقصود جميع ذرية إبراهيم من أولاد إسماعيل وإسحاق لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، ويدل على عموم الذرية في المقام قوله تعالى[أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]([29]).
والصحيح هو الرابع خصوصاً وإن قوله تعالى(ومن ذريتنا) إنحلالي ينبسط إلى شعبتين:
الأولى: ذرية إبراهيم مطلقاً.
الثانية: ذرية إسماعيل، فيدخل بنو إسرائيل في ذرية إبراهيم، لذا ترى كثيراً من آيات القرآن جاءت خطاباً لبني إسرائيل وأهل الكتاب عامة , وحثاً لهم لإتباع ملة إبراهيم، ودخول الإسلام، قال تعالى[قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا]([30]).
ومن خصائص هذا المعنى أنه دعوة للناس جميعاً للإنقياد لأوامر الله ودخول الإسلام، فإذا تعاهدت ذرية إبراهيم الإسلام وشعائر الله ومناسك الحج فأنه دعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام وإتباعهم في سبل الحق والهدى.
الثامنة: بعد أن كان إبراهيم وإسماعيل أمة مسلمة سألا الله أن تكون من ذريتهما أمة مسلمة لتتوارث ذرية الأنبياء الإسلام وتلك آية في الخلق، قال تعالى[ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]([31])، وإبراهيم عليه السلام وحده أمة في الإيمان والصلاح والتقوى، قال تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]([32]).
الثاني: صلة هذه الآية بقوله تعالى[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو….]([33])، وفيها مسائل:
الأولى: جاءت آية البحث بخصوص جهاد إبراهيم وإسماعيل في رفع وإعلاء صرح التوحيد في الأرض ودلالة البيت الحرام عليه، أما هذه الآية فجاءت في دعاء إبراهيم وإسماعيل لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته.
الثانية: في الجمع بين الآيتين نكتة عقائدية وهي بعد الجهاد في سبيل الله تأتي المسألة والدعاء وهذا الدعاء أعم من أن ينحصر بالذات والزمان الحال.
الثالثة: لما كان إبراهيم عليه السلام هو وإسماعيل يرفعان قواعد البيت الحرام توجها بالدعاء وبالنسبة للرسول الذي يدعو له إبراهيم وإسماعيل, وهناك وجوه:
الأول: إنه يقوم برفع قواعد البيت أيضاً.
الثاني: رفعت قواعد البيت من قبل إبراهيم وإسماعيل ولن يرفعا مرة أخرى فهما ظاهران إلى يوم القيامة.
الثالث: لا ملازمة بين الرسالة ورفع قواعد البيت.
الجواب جاءت آية السياق بينّة في مواضيعها ومضامينها القدسية إنه[يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ]، ولكن هذه المضامين لا تمنع من قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برفع قواعد البيت لأن إبراهيم إنما رفعها بصفة النبوة والرسالة، ولقد رفع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذات البيت وشأنه بين أهله إلى يوم القيامة وصارت قلوب المسلمين تصبو إليه وأبصارهم تطمع أن تكتحل بالنظر إليه، قال تعالى[فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ]([34]).
الرابعة: ورد لفظ(ربنا) في آية البحث والآيتين التاليتين، وفيه وجوه:
الأول: إتحاد الدعاء في مجلس واحد، وتكرار لفظ ربنا للتضرع وإظهار معاني العبودية لله، ورجاء الإستجابة.
الثاني: التباين الموضوعي في الدعاء، ليفصل بينها بقول ربنا.
الثالث: تعدد المجلس والموضوع، وجاء القرآن لبيان سعي إبراهيم في الدعاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذريته وللمسلمين والمسلمات جميعاً.
الرابع: إجتماع الوجه الأول والثالث أعلاه، ويدل على الإجتماع مجيء حرف العطف (الواو) في قوله تعالى(ربنا وأجعلنا)([35]) (ربنا وابعث)([36]) وعلى نحو التعدد والدعاء سلاح الأنبياء ومجيء كل موضوع في آية مستقلة، والتباين الموضوعي.
الخامسة: أختتمت آية البحث بإسمين من أسماء الله (السميع العليم) وأختتمت آية السياق بإسمين من أسماء الله (العزيز الحكيم) وفيه ثناء على الله عز وجل في ثنايا دعاء إبراهيم وإسماعيل وتوسل لقبول الدعاء، والإستجابة في المسألة خصوصاً وأنها لا تنحصر بالقضية الشخصية.
الثالث: صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ……]([37])، وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين أن ملة إبراهيم تتضمن أموراً:
الأول: عمارة البيت الحرام.
الثاني: تعظيم شعائر الله.
الثالث: التوجه بالدعاء والمسألة إلى الله عز وجل.
الرابع: الثناء على الله لإختتام الآية بقوله تعالى[إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ].
الخامس: جعل الأبناء يشتركون مع الآباء في أداء المناسك والطاعات، إذ تفيد آية البحث أن إسماعيل لم يقف عند مرتبة إتباع ومحاكاة إبراهيم أو تولي ذات الوظيفة العبادية بعد وفاة إبراهيم، بل إنه قام بالإشتراك مع إبراهيم في بناء البيت، وقيل أن إسماعيل كان صغيراً عند بناء البيت، ولكن القرائن والأدلة تفيد خلافه من وجوه:
الأول: إكرام إسماعيل بذكر قيامه برفع البيت مع إبراهيم.
الثاني: قيام إسماعيل بالدعاء مع إبراهيم.
الثالث: يسأل إسماعيل الإيمان لذريته، وهو دعاء يصدر عادة في حال البلوغ.
الرابع: مقامات النبوة التي تجعل النبي في حال من التقوى واليقين حتى في حال صغره وقبل النبوة.
الثانية: جاء ذكر إبراهيم وبناءه وإسماعيل للبيت الحرام دعوة لذريتهما والمسلمين جميعاً لبناء وعمارة المساجد، وجاءت السنة النبوية بالحث عليه وبيان الأجر العظيم على بناء المسجد وإن كان صغيراً.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ بَنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ)([38])، وقد ورد هذا الحديث بطرق وأسانيد متعددة وهو من المتواتر ليكون من معاني ومضامين رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت الحرام إمامة ذريتهما والمسلمين إلى الجنة، وهدايتهم إلى طرقها، فإن قلت إنما ورد دعاء إبراهيم لهما بخصوص الذرية، فكيف يدخل المسلمون في معاني الآية , والجواب من وجوه:
الأول: إنما سأل إبراهيم وإسماعيل الإسلام للذرية ليقتدي بهم الناس.
الثاني: لقد أرادا أن تكون ذريتهما من عموم المسلمين، فإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
الثالث: من وجوه تأويل الذرية أن المراد هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيشمل أمته بالدعاء لذا ورد في الآية السابقة لآية السياق[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ]([39]).
الرابع: إنما وردت النصوص بخصوص الذي يبني مسجداً، وترتب الثواب على هذا العمل المبارك سواء كان الذي قام به من ذرية إبراهيم وإسماعيل أو من غيرها.
الثالثة: أخبرت آية السياق عن إصطفاء وإجتباء الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام، ومن مصاديق هذا الإصطفاء تشرفه برفع قواعد البيت خصوصاً وإن هذا الرفع تم بأمر ولطف من الله عز وجل، وتوجيه وتعضيد من جبرئيل(وأخرج الديلمي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت…} قال جاءت سحابة على تربيع البيت لها رأس تتكلم، ارتفاع البيت على تربيعي فرفعاه على تربيعها)([40]).
الرابعة: يفيد الجمع بين بناء إبراهيم للبيت وبين خاتمة آية السياق الثواب العظيم لإبراهيم على جهاده في سبيل الله ورفعه قواعد البيت ومحاربته للكفر والضلالة.
بحث بلاغي إعجازي
يلاحظ في الآية نقل الكلام من صيغة الى أخرى بلحاظ جهة الخطاب، وفيه إضفاء طلاوة على الكلام وحفظ للسمع من الملل، والنفس من السأم في الإستماع للفرق بين السمع والإستماع، ولأن الإستماع تشترك فيه جوارح أخرى، بالإضافة إلى جارحة السمع ولما تميل النفوس إليه من الرغبة في الإنتقال وعدم الإستقرار على حالة واحدة.
وفيه نكت وفنون بلاغية بعد ان تحدثت الآية عن رفع ابراهيم القواعد توجهت إلى لغة الخطاب والدعاء [رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا].
وبعد العمل جاء القول، وبعد الإمتثال ورد السؤال، وهو سبحانه القائل[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]([41])، وكما يحب الإنسان أن تكون له ذرية تعقبه فإن إبراهيم وإسماعيل سألا ما هو أعظم وهو قبول العمل لما في هذا القبول من الثواب والرزق الكريم في الدنيا والآخرة.
ليفيد معنى الإلتفات ووجوه البلاغة الأخرى بلحاظ هذا الفن وغيره في القرآن ويتضمن دلالات تفوق وتتعدى القواعد البلاغية، فمن ذلك العبرة والدروس بأن الفعل العبادي يستلزم إختتامه وتعقبه بالدعاء رجاء القبول لأن الأداء وإن كان صحيحاً عند العبد ولكن القبول أمر يعود لله تعالى، كما يحتمل ان يكون الدعاء باباً لإتمام الناقص من الأفعال.
فلا غرابة مثلاً أن تأتي النصـوص بالتوكيـد الإستحبابي على التعقيب بعد الصلاة بالتسبيح ونحوه، ولعل الأسرار الربانية في البلاغة القرآنية وفهم العرب وإدراكهم لوجود مضامين غيبية وإعجازية في الآيات هو الذي دعاهم إلى الإسلام والإذعان للقرآن لاسيما وأن البلاغة من الكلي التشكيكي، أي الذي ينطبق على مصاديقه بدرجات متفاوتة كالنور ومنه نور الشمس ونور المصباح والشمعة وغيرها، فقد يقدر إنسان على ما لا يقدر عليه جماعة من قومه ولكن له حد لا تتعداه قدرات البشر، فجاء القرآن خارج ذلك الحد من جهة البلاغة وغيرها من وجوه الإعجاز.
إعجاز الآية
كأن إبراهيـم في هذه الآيـة يدعـو أهل الكتاب إلى الإسلام، ولا غرابة أن يكون معنى اسم إبراهيم بالعربية هو الأب الرحيم فمن رأفته بأبنائه مطلقاً وبالناس أن يهيء ويجدد لهم البيت الحرام وأن يستقبلهم ويسبقهم بالإسلام بتوكيد الآية التالية.
فالآية تبين أن دعائم الإسـلام وضع لبنتها الأنبياء السابقون، وأنه لابد وأن يبقى بفضل الله تعالى فابوكم وقدوتكم وطريقكم وشفيعكم إلى الجنة إختار الإسلام فما بالكم تتخلفون عنه.
ومن الإعجاز الغيري في هذه الآيـة وجـود البيت قبـل الإسلام وتعاهد العرب له في الطواف وبعض المناسك، والقدسية الخاصة التي يحرص الجميع على منحها له والشرف الذي يترشح منه على مجاوريه والقائمين بخدمته وإعداده من قبل الإنبياء.
وفي الآية إعجاز باعتبارها إعلاناً عن وثوقهما ببقاء المناسك من بعدهما بل أن الدعوة تدل بالدلالة التضمنية على التعاهد المسبق لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
من وجوه مجيء لفظ (البيت) بصيغة العهد أنه معلوم للمسلمين والمسلمات، وللناس جميعاً، فهو لا يخفى على جماعة أو طائفة أو أهل مصر ما من أمصار الأرض، وهو من أفراد الحجة في لفظ (الناس) في قوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]([42])، ولبيان حقيقة وهي إنفراده بخصائص، وهي:
الأولى: ليس من بيت مثله في الأرض.
الثانية: هو البيت الوحيد للناس جميعاً.
الثالثة: ليس من بيت يشبهه يلازم وجود الإنسان على الأرض وهو مستمر مع إستدامة الحياة الإنسانية.
الرابعة : تأكيد موضوعية البيت الحرام في مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]([43]).
الخامسة : هو البيت الذي قام ببناء قواعده إثنان من الأنبياء أحدهما رسول من الخمسة أولي العزم.
ومن أسرار مجيء الآية بالفعل المضارع(يرفع) إستدامة وبقاء هذه القواعد لذا ترى أن البيت يتجدد بناؤه وعمارته، ولكن القواعد ذاتها تبقى على حالها من غير تبديل أو تغيير، وكأن الزمان وتفاعلات الأرض لم تأت عليها، لتكون قواعد البيت موجودة بذاتها كما حفظ الله عز وجل مقام إبراهيم وفيه شاهد على بقاء سنن الحنيفية ثابتة في الأرض وفوقها في صرح مبارك منها لتشع أنوارها على ربوع الأرض كلها، ويتجلى هذا الإشعاع والإنفعال، بإنجذاب الناس للبيت والحرص على أداء المناسك، قال تعالى[فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ]([44]).
ومن الإعجاز بلفظ (القواعد من البيت) أن الروايات والأخبار وظاهر الآيات تؤكد بناء الجدران أيضاً، وبعث المؤمنين للبناء في صرح التوحيد، وعدم مغادرة الدنيا إلا بتركة من الذكر وفعل الخير.
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”)([45]).
ويمكن تسمية هذه الآية الكريمة آية(وإذ يرفع) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية.
وورد لفظ(يرفع) مرتين أحدهما يتعلق بالآخرة وعظيم الثواب فيها بقوله تعالى(يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)([46])، وكأن فيه إشارة إلى الثواب العظيم يوم القيامة لعمارة البيت الحرام وأنه من الشواهد على إقتران الإيمان بالعلم والعمل.
الآية سلاح
الأول : مضامين الآية درس لبني اسـرائيل في بيـان مسـاعي إبراهيم u وغيره من الأنبياء في حفظ وإتيان ذات العبادات التي جاء بها الإسلام.
الثاني : الآية مدد ومؤازر للمسلمين بان أفعالهم العبادية مرتبطة في أصولها بأعظم الأنبياء السابقين وبالذات النبي الذي يفتخر وينتسب إليه بنو إسرائيل.
الثالث : في الآية نوع إكرام للبيت الحرام لما تضفيه عليه من قدسية ضاربة في جذور التأريخ.
الرابع : تمنع الآية من الغرر والنقص في الإهتمام بشعائر البيت، وتحول دون الكفر بمناسكه.
الخامس : من معاني الآية تأييد ونصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من الأحكام.
السادس : في الآية تثبيت لمناسك الحج، وإن كان المشركون يأتون بشطر منها فقد يدب الشك في بعض النفوس لماذا يفعل المسلمون ما فعله المشركون، فهذه الآيات تبين ان تلك المناسك موروثة من الأنبياء وهي من تركة النبوة، والمشركون أخذوها من الأنبياء ولكنهم حرّفوا فيها، فجاء الإسلام ليعيد لها وجهها المشرق كتكليف عبادي وكما في نزول قوله تعالى [ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا]([47])، فقد قال المسلمون كيف نفعل ما يفعله أهل الجاهلية من الطواف بهما.
مفهوم الآية
تبين الآية تظافر جهود الأنبياء لتأسيس أسباب أداء المسلمين لمناسك الحج، ويدل إشتراك الأنبياء في رفع القواعد على شرف البيت وأهمية مناسبة رفع قواعده، وأن الأنبياء لم ينحصر عملهم بالتبليغ والإنذار بل يتضمن الجهد البدني الشاق، وهو مقدمة لفريضة الحج التي هي فريضة بدنية مالية، وإذا لم يكن آنذاك إنفاق في شراء مواد البناء فان عملهما له قيمة مالية، ورفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت أما أن يكون بمباشرة شخصية وأنهما قاما بالفعل بالذات أو أنهما إستعانا بغيرهما وجلبا العمال.
ظاهر الآية والأخبار يدلان على مباشرتهما للبناء تشرفاً وإكراماً للبيت ولحاجة الناس إليه كما أن بناء البيت الحرام يدخل ضمن وظائف النبوة باعتباره سبيلاً للهداية والإيمان، ووسيلة لأداء المسلمين الحج، ولقد شارك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين في بناء مسجده المبارك بالمدينة المنورة.
بالإسناد عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد أعانه عليه أصحابه وهو معهم: يتناول اللبن حتى اغبر صدره، فقال: ابنوه عريشا كعريش موسى قال: فقلت للحسن: ما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يده بلغ العريش يعني السقف)([48]).
واللبن معروف وهو الآجر , وإذا كان محروقاً بالنار فهو بلغة أهل الشام القرميد، وبلسان أهل مصر(الطوب) وجاء قوله تعالى[فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ]([49])، قيل(لسخافة لفظ الطوب وما رادفه)([50])، ولكن دلالات اللفظ القرآني ومجيئه دون غيره أعم، وفي عدم ورود لفظ الطوب في المقام أمور:
الأول: لفظ(الطوب) قبطية.
الثاني: لا دليل على سخافة لفظ(الطوب) ولو تنزلنا وقلنا بسخافته بالذات، فإن الحسن يترشح عنه من التنزيل وموضوع القصة وما فيها من المواعظ والعبر.
الثالث: ذكر لفظ الطين لأن قول فرعون جاء بعنوان التحدي وإرادة الكثرة والعلو في بناء الصرح ، وكأنه يقول له خذ من الأموال وإستعمل من العمال ما تريد وأمامك التراب والماء وابن أعلى بناء.
الرابع: إرادة السرعة في البناء والإنجاز.
ومن إعجاز القرآن وجود الإهرامات شاهداً على قدرة آل فرعون على هذا البناء.
والآية دعوة لبذل الجهد البدني في سبيل الله وتعظيم شعائره والبحث عن وسائل تنمية ملكة الإيمان، وهي دعوة لمعرفة فلسفة بناء المسجد في الإسلام بناء قليل يبارك الله عز وجل فيه فتهوى إليه النفوس، وتحرص الأمة على قدسيته وهو البيت الحرام، ولم تبنه الآلاف من العمال كما في الإهرامات وقصور الطواغيت بل بناه شخصان رزقهما الله النبوة ليدل على أن عملهما بأمر ووحي من الله.
وختم الآية بالثناء عليه تعالى عنوان الوثوق من الجزاء الحسن وانه تعالى لا يضيع عمل المحسنين، وفيه تأديب للمسلمين ومنع من الغرور والمن والإعتداد بالعمل الصالح أو الركون إليه وحده، فلابد من اللجوء إلى الله تعالى لسؤال قبوله والتفضل بالثواب عليه.
لقد أتصف إبراهيم عليه السلام بالجهاد في سبيل الله بين قوم كافرين، فاحتج على نمرود وهو من أعتى طواغيت الأرض على مرّ التأريخ، وهيء له ناراً فأنقذه الله عز وجل وجاء القرآن ليخلد هذه الواقعة بقوله تعالى[قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]([51]).
وليكون إماماً يقتدي به المسلمون في جهادهم في سبيل الله وصبرهم(وأخرج أبو داود وابن ماجه عن أبي أمامة الباهلي قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أكثر خطبته حديثاً حدثناه عن الدجال وحذرناه، فكان من قوله أن قال: إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال، وإن الله لم يبعث نبياً إلا حذر من الدجال، وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة، فإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج لكل مسلم، وإن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، وأنه يخرج من خلة بين الشام والعراق، فيعيث يميناً ويعيث شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا، وإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي.
إنه يبدأ فيقول: أنا نبي ولا نبي بعدي ، ثم يثني فيقول: أنا ربكم ولا ترون ربكم حتى تموتوا، وإنه أعور وإن ربكم عز وجل ليس بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، وإن من فتنته أن معه جنة وناراً، فناره جنة وجنته نار، فمن ابتلي بناره فليستعن بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه برداً وسلاماً كما كانت النار على إبراهيم، وإن من فتنته أن يقول لأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول له: نعم فيمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه فيقولان: يا بني اتبعه فإنه ربك وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فيقتلها ينشرها بالمنشار حتى يلقى شقتين، ثم يقول: انظروا إلى عبدي هذا فإني أبعثه الآن ، ثم يزعم أن له رباً غيري فيبعثه الله فيقول له الخبيث: من ربك؟ فيقول: ربي الله وأنت عدوّ الله الدجال، والله ما كنت أشد بصيرة بك مني اليوم.
وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا يبقى لهم سائمة إلا هلكت، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه وأمده خواصر وأدره ضروعاً، وأنه لا يبقى من الأرض شيء إلا وطئه وظهر عليه إلا مكة والمدينة، فإنه لا يأتيها من نقب من نقابها إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلته حتى ينزل عند الظريب الأحمر عند منقطع السبخة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، فتنقي الخبث منها كما ينقي الكير خبث الحديد، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص .
فقالت أم شريك بنت أبي العسكر: يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال: هم قليل، وجلهم ببيت المقدس ، وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي الصبح إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح، فرجع ذلك الإمام يمشي القهقرى ليتقدم عيسى يصلي، فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول له تقدم فصل فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم، فإذا انصرف قال عيسى: أقيموا الباب، فيفتح ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى وساج، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هارباً، ويقول عيسى : إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها، فيدركه عند باب لدّ الشرقي فيقتله، فيهزم الله اليهود فلا يبقى شيء ما خلق الله يتوارى به يهودي إلا أنطق الله الشيء، لا حجر ولا شجر ولا دابة ولا حائط إلا الغرقدة، فإنها من شجرهم لا تنطق إلا قالت: يا عبد الله المسلم هذا يهودي فتعال فاقتله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن أيامه أربعون سنة، السنة كنصف السنة، والسنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وآخر أيامه كالشررة، يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بها الآخر حتى يمسي، فقيل له: يا رسول الله كيف نصلي في تلك الأيام القصار؟ قال: تقدرون فيها للصلاة كما تقدرون في هذه الأيام الطوال ثم صلوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليكونن عيسى ابن مريم في أمتي حكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً، يدق الصليب، ويذبح الخنزير، ويضع الجزية ، ويترك الصدقة، فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض، وتنزع حمة كل ذات حمة، حتى يدخل الوليد يده في في الحية فلا تضره، وينفر الوليد الأسد فلا يضره، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من المسلم كما يملأ الإناء من الأناء، وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض كثاثور الفضة، تنبت نباتها كعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب يشبعهم ، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال، ويكون الفرس بالدريهمات.
قيل: يا رسول الله وما يرخص الفرس؟ قال: لا يركب لحرب أبداً قيل له: فما يغلي الثور؟ قال: لحرث الأرض كلها وإن قبل خرج الدجال ثلاث شداد، يصيب الناس فيها جوع شديد، يأمر الله السماء أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض أن تحبس ثلث نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض فتحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء، فلا تبقي ذات ظلف إلا هلكت إلا ما شاء الله قيل: فما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال: التهليل، والتكبير، والتسبيح، والتحميد، ويجري ذلك عليهم مجرى الطعام)([52]).
وفي الآية مسائل:
الأولى: بيان ماهية تركة وميراث الأنبياء، وأنه بناء صرح التوحيد في الأرض.
الثانية: إخبار المسلمين عن حقيقة وهي وجود بيت واحد للناس جميعاً في الأرض هو البيت الحرام.
الثالثة: إتصال سنخية الإيمان مع تعاقب الأجيال.
الرابعة: السابق من الأنبياء والمؤمنين يبني لنفسه ولزمانه والأزمنة اللاحقة لذا جاءت الآية بلفظ(القواعد) وفيه حث للمسلمين لتعاهد بناء الكعبة وعمارة البيت الحرام والتوسعة فيه ليستوعب حجاج بيت الله الحرام فإبراهيم عليه السلام رفع قواعد البيت الحرام ثم دعا الناس لحج البيت بقوله تعالى[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ]([53])، وجاءت رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلزوم أداء كل مكلف ومكلفة الحج إن توفرت عندهما الإستطاعة بقوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]([54]).
وتجلى تفضيله على الأنبياء بإمتثال أمته وتعاهدها لمناسك الحج وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([55]).
وقد وردت في باب الفقه مسائل في تعيين الإستطاعة بأدنى مراتبها وقد حجّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ وَقَطِيفَةٍ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ لاَ تُسَاوِي ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حِجَّةٌ لاَ رِيَاءَ فِيهَا وَلاَ سُمْعَةَ)([56])، وقد ذكرت في رسالتي العملية(مناسك الحج) مسائل في الإستطاعة منها:
- يمكن تقسيم الإستطاعة بلحاظ النصوص والإستقراء العقلي إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما يحتاج إليه في طريق الحج من الزاد وأجرة الإقامة والنفقات الضرورية الأخرى بحسب حاله من القوة والضعف، والشأن والرفعة.
الثاني: تخلية السرب وعدم المنع والصد من سلطان أو غيره، وسعة الوقت لقطع المسافة.
الثالث: صحة البدن وعدم الإصابة بمرض مانع من أداء مناسك الحج.
- المراد بالراحلة الواردة بالنصوص في هذا الزمان السيارة أو الطائرة أو السفينة التي يتخذها آلة للوصول إلى البيت الحرام بما يناسب حاله وشأنه، وإن لم يتيسر إلا ما هو أدنى من شأنه فالأولى له التواضع وإحراز أداء الفريضة، كما لو كان من شأنه ركوب الطائرة ولم يتيسر له إلا سيارة النقل (الباص).
- إذا لم يكن عنده الزاد أو أجرة النقل ولكنه كسوب وبإمكانه الذهاب للحج أجيراً كطباخ أو حلاق أو سائق سيارة ونحوها مما يكون مناسباً لمهنته في الحضر ولا يعد إنتقاصاً من شأنه وجب عليه أداء الفريضة بهذه الطريقة.
- غلاء الأسعار وإرتفاع الرسوم في سنة الإستطاعة لا يمنع من وجوب الفريضة ولا يعتبر علة تامة لتأخيرها إذا كان قادراً على الأداء، وكذا لو توقف الحج على بيع بعض أملاكه بأقل من ثمن المثل، كما لو كانت عنده دار زائدة عن الحاجة والمؤونة وقيمتها ألف دينار ولو إنتظر إلى ما بعد موسم الحج باعها بألف وخمسمائة دينار.
- الأولى ملائمة واسطة النقل للمقام الإجتماعي، وكذا بالنسبة للحال والقرب والبعد كالسيارة والباخرة والطائرة، بحيث لا تكون فيها مشقة عليه أو منافاة لشأنه، وإن كانت الأخبار مطلقة والتواضع في طريق الحج يزيد الإنسان رفعة ويرفعه درجة ، وورد في بعض اخبار وجوب الحج “ولو على حمار أجدع مقطوع الذنب”([57])، والأجدع مقطوع الأذن.
- على الحكومات الإسلامية تيسير صرف جوازات الحج وإجراءات الوصول إلى البيت الحرام وعدم تأخير الحاج في المطارات والمنافذ البرية، ومراجعة الإستعدادات كل عام ودراستها وتحسينها.
- يستحب الإقتصار على اللوازم والحاجات والتسهيل على النفس في الحج وكان الإمام علي عليه السلام اذا إنقطع ركابه في طريق مكة يشده بخوصة ليهون الحج على نفسه)([58]).
الخامسة: من مصاديق قوله تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]([59])، إتخاذ سيرة وسنن الأنبياء منهاجاً للمسلمين وأئمتهم وعلمائهم خصوصاً وأن الآية أعلاه وردت في قصة يوسف عليه السلام ليكون من معاني العبرة في المقام عمارة البيت وتهيئة أسباب الأمن والسلامة والضيافة لوفد الحاج، وإصلاح الطرق المؤدية للبيت وعموم المقدمات العقلية للوصول إليه.
السادسة: من مفاهيم آية البحث تغشي العمل العبادي بالدعاء إبتداءً وإنتهاءً، وإتخاذه وسيلة لسؤال مطلق الحاجات وكأن أبواب السماء تفتح للعبد عند إمتثاله للأوامر الإلهية وتدعوه للمسألة للذات والغير.
السابعة: في الآية بيان لآداب المسألة والدعاء بلحاظ أن الأنبياء أسوة وأئمة قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]([60]).
فمع أن عمل إبراهيم وإسماعيل جهاد في سبيل الله وتعظيم لشعائره فأنهما سألا الله عز وجل قبول العمل.
التفسير
قوله تعالى[إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ]
الآيـة وثيقـة بان البيت كان موجـوداً قبل إبراهيم إنما قام إبراهيم uببناء قواعده المتهدمة وتجديدها وانشائها، وبما ان القرآن يفسر بعضه بعضاً وان السنة بيان للقـرآن فلابد من البحث عما يدل عليه في السنة وهناك نصوص كثيرة تثبت أن البيت موجود منذ ايام آدم، ولا غرابة في ذلك ويمكن أن يستدل عليه وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: العبادة ملازمة لوجود الإنسان في الأرض.
الصغرى: البيت عنوان العبادة.
النتيجة: البيت الحرام ملازم لوجود الإنسان في الأرض.
ويؤكـده ما ورد في النصـوص أن آدم حـج من أرض الهند إلى الكعبة أربعين حجة على رجليه.
وبالإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان موضع البيت في زمن آدم شبرا واكثر علما فكانت الملائكة تحجه قبل آدم ثم حج آدم فاستقبلته الملائكة فقالوا يا آدم من اين جئت قال حججت البيت فقالوا قد حجتها الملائكة قبلك)([61]).
وعن ابن إسحاق قال: حدثني ثقة من أهل المدينة، عن عروة بن الزبير، أنه قال: ما من نبي إلا وقد حج البيت، إلا ما كان من هود وصالح ولقد حجه نوح، فلما كان في الأرض ما كان من الغرق، أصاب البيت ما أصاب الأرض، وكان البيت ربوة حمراء، فبعث الله تعالى هودا، فتشاغل بأمر قومه حتى قبضه الله تعالى إليه، فلم يحجه حتى مات، ثم بعث الله صالحا، فتشاغل بأمر قومه حتى قبضه الله تعالى إليه، فلم يحجه حتى مات، فلما بوأ الله تعالى لإبراهيم عليه السلام حجه، لم يبق نبي بعده إلا حجه)([62]).
والحديث ضعيف سنداً كما أنه لم يرفع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيه من إستثناء(هود وصالح) من الحج يحتاج إلى دليل خصوصاً وإن الأمر بالحج جاء عاماً قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]([63])، فإن قلت إن تشاغل هود وصالح بقومهما سبب لسقوط الإستطاعة، أو أن هناك أسباباً أخرى لعدم إحرازها والجواب إن أداء الحج من التشاغل بالقوم ودرس عقائدي عملي لهم، والأنبياء أحرص الناس على أداء المستحبات والمندوبات وأولى الناس بالواجبات.
وفي هذه الآية مسائل:
الأولى: تأريخ البيت الحرام.
الثانية: ذكر الأنبياء الذين قاموا ببنائه.
الثالثة: الموضوعية العقائدية والتأريخية لبناء البيت الحرام.
الرابعة: تعيين موضع البيت من عند الله عز وجل، إنما قام إبراهيم وإسماعيل برفع قواعده.
إن يوم رفع قواعد البيت عيد لأجيال المسلمين والمليين المتعاقبة، فجاءت هذه الآية لبعث البهجة والسرور في نفوس المسلمين لهذا اليوم والفعل المباركين، وليكون دعوة لهم لإكرام إبراهيم وإسماعيل في نبوتهما وجهادهما في سبيل الله، وتوطئة لإستمرار فريضة الحج وإكرام المسلمين والناس جميعاً للبيت الحرام، وهو من عمومات قوله تعالى[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]([64]).
وذكرت الآية القواعد بالتبعيض من البيت بقوله تعالى(من البيت) لإفادة موضوعية القواعد في بناء البيت، وجزئيتها منها.
وإذ تتضمن هذه الآيات الإخبار عن نيل إبراهيم عليه السلام مرتبة الإمام فأن هذه الآية تبين وظيفة من وظائف الإمامة بإعتبارها رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا.
بينما جاءت هذه الآيات بصيغة الفعل الماضي[إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ] ([65])، و[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ]([66])، جاءت آية البحث بصيغة المضارع[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ]([67])، لتشبيه الفعل الماضي بالحال والمستقبل وفيه وجوه:
الأول: الإخبار عن الصلة بين بناء الكعبة في هذه الأزمنة وبين بنائها في أيام إبراهيم عليه السلام.
الثاني: كأن قيام بناء الكعبة الآن من ذات البناء الذي وضعه إبراهيم.
الثالث: صرح الكعبة ملازم للوجود الإنساني في الأرض , وبناء إبراهيم مستمر ودائم.
الرابع: دعوة المسلمين لتعاهد بناء إبراهيم للكعبة.
الخامس: إقامة الحجة على أهل الملل الأخرى الذين يرجعون إلى إبراهيم نسباً وملة بأن هذه الكعبة بناؤه ولابد من الحفاظ عليها.
السادس: الإخبار عن حقيقة وهي طرو أسباب الكفر في الأرض لم يؤثر سلباً في بناء البيت الذي رفعه إبراهيم وإسماعيل.
السابع: تأكيد حقيقة وهي أن المناسك التي جاء بها إبراهيم مستمرة في الأرض لم يستطع الطواغيت وأرباب الشرك القضاء عليها.
الثامن: دعوة المسلمين للتدبر في جهاد إبراهيم وإسماعيل وكيف أنهما قاما ببناء البيت الحرام ودعيا الناس لحجه وعمارته، وأن هذه الدعوة باقية إلى يوم القيامة، ولكن بقاؤها بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن وحفظ المسلمين له رسماً وتلاوة وعملاً، ومنه قوله تعالى[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]([68]).
وإذ جاءت الثلاثة السابقة بذكر إبراهيم عليه السلام على نحو الخصوص، فإن آية البحث ذكرت معه إسماعيل ولكن هذا الذكر جاء بالعطف بعد بيان المفعول والمتعلق وفيه وجهان:
الأول: إنه من صيغ العطف والبيان، والتساوي بين المعطوف والمعطوف عليه.
الثاني: إرادة بيان مقام إبراهيم على نحو التعيين.
الثالث: تأكيد موضوعية الوحي لإبراهيم في بناء البيت.
الرابع: إمتاز إبراهيم في المقام بالأمر وإختيار موضع البيت، وكأن إسماعيل مساعد له.
الخامس: الفصل بالمفعول به للإعتناء بذكره.
وبإستثناء الوجه الأول فإن الوجوه الثلاثة الأخرى من معاني ودلالات الآية الكريمة، فمن أسرار اللغة العربية تقديم المتعلق على المعطوف للإشارة للتباين بين المعطوف والمعطوف عليه، ولبيان موضوعية المتعلق كما هو الحال في جهاد إبراهيم ببناء البيت وأن إسماعيل عليه السلام كان مؤازراً له، وهو لا يتعارض مع الأصل وهو إتحاد المعطوف عليه والمعطوف في الحكم، فمن خصائص العطف التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى الفعل والحكم.
ومن مصاديق التفاوت بين درجة المتعاطفين وعدم مجيئهما متجاورين، قوله تعالى[شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]([69])، وإسماعيل هو نبي من أنبياء الله، وهو الابن البكر لإبراهيم عليه السلام وأمه هاجر القبطية، وإليه يرجع نسب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولد في أرض الكنعانيين بين قادت وبارد.
والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس لما هو فوقه، وتدل صيغة الجمع على أن كل ساف من البناء يكون قاعدة لما هو فوقه والأصل حينئذ أن كل بناء يكون أرفع وأعلى من المنخفض، ولكن الآية وصفت الجميع بأنها قواعد مع أن البيت واحد مما يدل على عظمة البيت وسعته، وقد ذكر لفظ القواعد في ذم الكفار وبيان بطش الله عز وجل بهم، قال تعالى[قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ]([70]).
ويفيد الجمع بين الآيتين أن قواعد الإيمان ثابتة راسخة وأن أسس الكفر تذهب وتضمحل، وأن ما يشيده المؤمنون باق وما يبنيه الكفار من العروش إلى زوال، ومن الإعجاز في تأكيد الآية رفع القواعد مع أنها إذا رفعت كانت جداراً لبيان حقيقة وهي وجود البيت وقواعده قبل إبراهيم، وكما أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت بخصوص بناء حج البيت بتشريع جديد كذا إبراهيم عليه السلام لأن وجود البيت سابق لزمانه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان البيت قبل هبوط آدم ياقوتة من يواقيت الجنة، وكان له بابان من زمرد أخضر، باب شرقي وباب غربي، وفيه قناديل من الجنة، والبيت المعمور الذي في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه إلى يوم القيامة حذاء الكعبة الحرام، وأن الله عز وجل لما أهبط آدم إلى موضع الكعبة وهو مثل الفلك من شدة رعدته، وأنزل عليه الحجر الأسود وهو يتلألأ كأنه بيضاء فأخذه آدم فضمه إليه استئناساً، ثم أخذ الله من بني آدم ميثاقهم فجعله في الحجر الأسود
ثم أنزل على آدم العصا، ثم قال: يا آدم تخط فتخطى فإذا هو بأرض الهند، فمكث هناك ما شاء الله ثم استوحش إلى البيت، فقيل له: احجج يا آدم فأقبل يتخطى، فصار كل موضع قدم قرية وما بين ذلك مفازة حتى قدم مكة، فلقيته الملائكة فقالوا: بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام قال: فما كنتم تقولون حوله؟
قالوا: كنا نقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وكان آدم إذا طاف بالبيت قال هؤلاء الكلمات، وكان آدم يطوف سبعة أسابيع بالنهار قال آدم: يا رب اجعل لهذا البيت عماراً يعمرونه من ذريتي، فأوحى الله تعالى أني معمره نبياً من ذريتك اسمه إبراهيم، اتخذه خليلاً أقضي على يديه عمارته، وأنيط له سقايته، وأريه حله وحرمه ومواقفه، واعلمه مشاعره ومناسكه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن آدم سأل ربه فقال: يا رب أسألك من حج هذا البيت من ذريتي لا يشرك بك شيئاً أن تلحقه بي في الجنة فقال الله تعالى: يا آدم من مات في الحرم لا يشرك بي شيئاً بعثته آمنا يوم القيامة)([71]).
وهل يحتمل منطوق الآية أن إسماعيل رفع قواعد البيت بعد إنتقال إبراهيم إلى الرفيق الأعلى الجواب لا من وجوه:
الأول: لم يعطف اسم إسماعيل على إبراهيم في الآية بما يفيد التراخي مثل حرف العطف(ثم) بل جاءت بحرف العطف(الواو) الذي يفيد الشريك.
الثاني: ورود النصوص والأخبار التي تدل على قيام إسماعيل بمساعدة إسماعيل لإبراهيم في بناء البيت ومنها ما ورد بخصوص مقام إبراهيم.
الثالث : إجتماع إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت تركة ودعوة لذريتهما الإسلام والإنقياد للأوامر الإلهية كي تتضاعف الذرية أضعافاً كثيرة ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي يدل عليه الواقع، فلو أجريت إحصائية بين ذرية إسماعيل وإسحاق لرأيت أن ذرية إسماعيل أكثر بكثير من ذرية إسرائيل وأصبحوا مسلمين.
لذا فإن لدعاء إبراهيم وإسماعيل والتبعيض فيه دلالات إعجازية لما فيه من العلم بكثرة وإنشطار الذرية إلى شعوب وقبائل ببركات بناء البيت ورفع قواعده وبين الشعب والقبيلة عموم وخصوص مطلق، فالشعوب أعم قال تعالى[وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا]([72]).
والقبلية هي التي ترجع إلى جد واحد، والشعب أعم وهو النسب الأبعد وسمي شعباً لأن القبائل تتشعب منه مثل مضر ، ربيعة، أنمار، إياد وهي العرب المستعربة وحمير وسبأ والأزد من قحطان، ومن حضر كنانة وقيس وتميم، ويكون التقسيم والترتيب على الوجه اللآتي:
الأول: القبيلة: مثل كنانة.
الثاني: العمارة- بكسر العين- وهي فرع من القبيلة مثل قريش من كنانة، وتجمع العمارة على عمائر وعمارات.
الثالث: البطن وهو فرع من العمارة ويجمع على بطون وأبطن مثل قصي من قريش وقيل مثل بني عبد المناف، وبني مخزوم.
الرابع: الفخذ وهو فرع من البطن مثل بني هاشم وبني أمية.
الخامس: الفصيلة: وهي تحت الفخذ، مثل بني أبي طالب، وبني العباس(قال النووي في تحرير التنبيه: وزاد بعضهم”العشيرة قبل الفصيلة، قال الجوهري: وعشيرة الرجل: رهطه الأدنون)([73])، ويرجع العرب إلى ولد ثلاثة رجال: عدنان، وقحطان، وقضاعة.
وأختلف في لفظ العاربة والمستعربة من العرب على وجوه منها العاربة هي عاد، وثمود وطَسم وجرهم الأولى، ونحوهم ممن كان في زمن عاد.
أما المستعربة فهم بنو قحطان بن عابر بن شامخ بن أد بن سالم بن نوح عليه السلام، لأن لغة عابر كانت سريانية أو عبرانية وتعلم بنو قحطان العربية من العاربة ممن كان في زمانهم , وتعلم بنو إسماعيل العربية من جرهم من بني قحطان حينما رأوا الطير تحوم حول زمزم وعلموا هناك ماءَ فنزلوا على هاجر وإسماعيل، وإلى هذا القول ذهب ابن إسحاق والطبري وقال المؤيد صاحب حماه وجماعة أن بني قحطان هم العاربة، وبنو إسماعيل فقط هم المستعربة.
ومع التعدد والإختلاف بين رجال النسب والتأريخ فأنهم يؤكدون على موضوعية إسماعيل في إنساب العرب وثبوت معاني العربية شعباً ولغة ومجتمعاً وأمصاراً وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً].
وقال الخليل: وكل جيل من الناس هم أمة على حِدة)([74])، كما يعرف الجيل بانه الأمة من الناس)([75]).
ولكن المراد من لفظ أمة في الآية هو الجماعة ذات ملة التوحيد والموجودة في كل جيل وقرن بلحاظ ماهية الدعاء إذ أنه ذكر الذرية، وذرية إبراهيم وإسماعيل موجودة في كل زمان وهي في تكاثر لسنة الله في الخلق ولأن الإيمان سبب إضافي للنماء والكثرة في الذرية، وهذا من أسرار دعاء الأنبياء.
ومن معاني لام العهد في(البيت) أن إبراهيم لم يبتدع مكان البيت، ولم يجتهد في تعيينه، بل كان على بينة من مكانه ولم يشك فيه، وهذه البينة بفضل الله والوحي لذا وردت الروايات المستفيضة بأن جبرئيل هو الذي حدد له مكانه، وكذا بالنسبة لرفع القواعد فانها كانت ظاهرة له وأنها بنيت قبله.
قال ابن عباس: حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أيام الطوفان فرفعه الله إلى السماء الرابعة، وهو البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، وبعث الله جبريل حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له، من الغرق فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم عليه السلام ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم بعد ما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت يذكر فيه ويعبد فسأل الله أن يبين له موضعه.
فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت وهي ريح خجوج لها رأسان تشبه الحية، والخجوج من الرياح هي الشديدة السريعة الهبوب وقيل : هي المتلوية في هبوبها، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فتبعها إبراهيم، حتى أتت موضع البيت فتطوقت عليه كتطويق الحجفة
وقال ابن عباس: بعث الله سبحانه وتعالى سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير، وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وقفت على موضع البيت، ونودي منها يا إبراهيم ابن على قدر ظلها لا تزد ولا تنقص وقيل: إن الريح كنست له ما حول الكعبة حتى ظهر له أساس البيت الأول فذلك قوله تعالى:{وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت})([76]).
وقيل أن البيت أنزل مع آدم من الجنة (عن أبي قلابة، عن عبد الله بن عمرو قال: لما أهبط الله آدم من الجنة قال: إني مهبط معك -أو منزل – معك بيتا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي. فلما كان زمن الطوفان رفع.
فكانت الأنبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه، حتى بوأه الله إبراهيم، وأعلمه مكانه، فبناه من خمسة أجبل: من”حراء” و”ثبير” و”لبنان” و”جبل الطور” و”جبل الخمر”([77]))([78]).
وهل المراد من [تَقَبَّلْ مِنَّا] خصوص جهاد وعمل إبراهيم وإسماعيل لبناء البيت الحرام ، أم المراد المعنى الأعم .
الجواب هو الثاني ويمكن تأسيس قانون وهو لو دار الأمر بين الإطلاق والتقييد في موضوع دعاء الأنبياء فالأصل هو الإطلاق خاصة في أمور الخير وجني الصالحات وإرادة الثواب وتدل عليه لغة العموم في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]([79])، ليبقى ومن إعجاز القرآن الغيري بقاء دعاء إبراهيم وإسماعيل في صيغته وموضوعه ونفعه في الأرض إلى يوم القيامة ، وهل تلاوة المسلم له دعاء وسؤال ورجاء لقبول عمله وعمل المسلمين الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ([80]) بأن يأتي القرآن بقصص الأنبياء ومنه أدعيتهم فيتلوها المسلمون فيكتبها الله عز وجل لهم دعاء ويأجرهم عليها (عن ابن عباس قال: جعل إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان :”ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم”. فلما ارتفع البنيان، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر، فهو”مقام إبراهيم”)([81]).
وسيأتي مزيد بيان في تفسير قوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ([82])([83]).
آدم ومناسك الحج
روى أبو جعفر عن وهب بن منبه([84]) أن آدم دعا ربه فقال يارب أما لأرضك هذه عامر يسبحك ويقدسك فيها غيري، فقال الله اني سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدي ويقدسني، وسأجعل فيها بيوتاً ترفع لذكري يسبحني فيها خلقي ويذكر فيها اسمي، وسأجعل من تلك البيوت بيتاً أختصه بكرامتي وأوثره باسمي فاسميه بيتي وعليه وضعت جلالتي وخصصته لعظمتي وانا مع ذلك في كل شيء أجعل ذلك البيت حرماً آمناً، يحرم بحرمته من حوله ومن تحته ومن فوقه.
فمن حرمه بحرمتي أستوجب كرامتي، ومن أخـاف اهله فقد ابـاح حرمتي، وإستحق سخطي، وأجعله بيتاً مباركاً يأتيه بنوك شعثاً غبراً على كل ضامر، من كل فج عميق، يرجّون بالتلبية رجيجاً، ويعجّون بالتكبير عجيجاً، من اعتمده لا يريد غيره ووفد الي وزارني واستضاف بي اسعفته لحاجته وحق على الكريم أن يكرم وفده واضيافه، تعمره يا آدم ما دمت حياً، ثم تعمـره الأمم والقـرون والأنبيـاء من ولدك، أمة بعد أمة، وقرناً بعد قرن، قال ثم أمر آدم أن يأتي إلى البيت الحرام الذي أهبط له إلى الأرض فيطوف به.
كما كان يرى الملائكة تطوف حول العرش وكان البيت حينئذ من درة أو ياقوتـة فلما أغـرق الله تعالى قوم نوح رفعه فبقي أسـاسه فبـوأه الله لإبراهيم فبناه([85]).
إن قيام آدم uببناء البيت الحرام وأداءه الحج لسنوات عديدة باب فخر للمسلمين في محافظتهم وتعاهدهم لفريضة الحج التي هي وباجماع المسلمين من أركان الدين.
ومن مناسك الحج الأساسية الطواف بالبيت الحرام وهو أحد أركان الحج اذ يبطل بتركه عمداً.
ان موضوع البيت الحرام وفريضة الحج لا ينحصر في الجانب العبادي فقط بل هو أعم موضوعاً وحكماً، ويمكن تلمس الدروس الأخلاقية والإجتماعية والنفسية والسياسية فيه، من وجوه:
الأول: إنه مناسبة لإجتماع المسلمين.
الثاني: فيه تجديد وإحياء لمعالم الدين.
الثالث: في الحج تعظيم لشعائر الله بروح الإلفة والمحبة والتقوى.
الرابع: إنه سبيل مبارك للتوبة والإنابة.
الخامس: فيه تهذيب للأخلاق، وإصلاح للمنطق واللسان، قال تعالى[الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ([86]).
عن الإمام موسى جعفر عليه السلام: إن آدم uلما أهبط من الجنة هبط على أبي قبيس، والناس يقولون بالهند فشـكى إلى ربه عز وجل الوحشة، وأنه لا يسمع ما كان يسمع في الجنة، فاهبط الله عز وجل ياقوتة حمراء فوضعت في موضـع البيت، فكان يطـوف بها آدم uوكـان يبلغ ضـوؤها الأعـلام، فعمـلت الأعلام على ضوئها فجعله الله عز وجل حرمه.
وحد منى من العقبة إلى وادي محسر، وسمّي منى لوجوه:
الأول: ورد عن ابن عباس أن جبرئيل لما أراد أن يفارق آدم uقال له: تمًّنَ، قال: أتمنى الجنة فسُميت بذلك لأمنية آدم([87]).
الثاني: قال جبرئيل عندها لإبراهيم عليه السلام تمن على ربك ما شئت، فتمنى أن يجعل الله مكان ولده إسماعيل كبشاً يأمره بذبحه فداء له، فاعطاه الله مناه.
الثالث: سمي منى للدماء التي تمنى به أي تراق يوم النحر.
الرابع: التسمية دعوة للتمني والرجاء والمسألة فيه.
الخامس: تقول العرب لكل مكان يجتمع فيه الناس منى.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وأسباب هذه التسمية إذ أنها تتضمن البشارة والوعد الكريم بالإستجابة بالجنة ودفع البلاء، وفيها إخبار عن إتصال ودوام عطاء وفضل الله تعالى.
ولقد أعطـى آدم uدرساً للأجيال بما كان يفعله من إجلال وتقديس وإلتفات إلى أهمية تعظيم البيت الحرام في الواقع اليومي.
عن الثمـالي قال: سمعـت علـي بن الحسـين uيحدث رجـلاً من قريش قال: (لما تاب الله على آدم واقع حواء، ولم يكن غشـيها منذ خلقـت الا في الأرض وذلك بعدمـا تاب الله عليـه، وكان آدم يعظم الحـرم وإذا أراد ان يغشى حواء خرج من الحرم وأخرجهـا معـه، وغشيها في الحل ثم يغتسلان، ثم يرجع إلى فناء البيت..)([88]) الحديث.
ومن الوجوه التي ذكرت علة في الاستدلال على الوقوف بالمشعر الحرام بعد طلوع الفجر في يوم النحر ضمن مناسك الحج، ما ورد في الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام: (لِمَ سُمي الأبطح أبطحاً؟ قال: لأن آدم uأُمر ان ينبطح في بطحاء جمع، فانبطح حتى انفجر الصبح، ثم أُمر ان يصعد جبل جمع، وأمره اذا طلعت الشمس ان يعترف بذنبه، ففعل ذلك، فأرسل الله ناراً من السماء فقبضت قربان آدم([89]).
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أول بقعة وضعت في الأرض موضع البيت ثم مدت منها الأرض وان اول جبل وضعه الله تعالى على وجه الأرض ابو قبيس ثم مدت منه الجبال، وفي تفسير قوله تعالى [ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ]([90]) ان الناس الزموا بمتابعة الأنبياء وهو العهد.
فالناس مأمـورون بتعاهـد بناء البيت وبنيتـه وتجديـدها والحـفاظ عليها وفيه دعوة لتهذيب النفوس لإتيان العبادة مع قصد القربة، إذ أن للرفع معنى آخر وهو معنوي.
من تأريخ بناء البيت
هذه الآية بيان ووثيقة تأريخية تمنع أهل الملل الأخرى من الحسد للمسلمين وأهل الديار المقدسة، فلم يأت الإسلام بأمر جديد مبتدع، والبيت من أهم شعائر الله توارث الأنبياء إكرامه بأن قاموا بأنفسهم ببنائه ولعله ليس من بناء في الأرض تولى الأنبياء بناءه لحين إتمامه غيره، فلا غرابة أن تتحير وتختلف قريش عند بناء البيت فيمن يضع الحجر الأسود في موضعه إلى أن قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوضعه.
وأخرج عن سعيد بن جبير: سلوني يا معشر الشباب فإني قد أوشكت أن أذهب من بين أظهركم، فأكثر الناس مسألته فقال له رجل: أصلحك الله أرأيت المقام أهو كما نتحدث؟ قال: وماذا كنت تتحدث؟ قال: كنا نقول أن إبراهيم حين جاء عرضت عليه امرأة اسماعيل النزول فأبى أن ينزل، فجاءت بهذا الحجر فقال: ليس كذلك .
فقال سعيد بن جبير: قال ابن عباس: إن أوّل من اتخذ المناطق من النساء أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنس ولا شيء؟ قالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليهما.
قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم قالت: إذاً لا يضيعنا، ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه قال[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]([91]) وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإِنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينهما.
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه، تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت صوتاً أيضاً فقالت: قد أسمعت أن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك موضع زمزم، فَنَحَت بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تخوضه بيدها وتغرف من الماء في سقائها وهي تفور بعدما تغرف قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً فشربت وأرضعت ولدها.
فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن ههنا بيتاً لله عز وجل يبنيه هذا الغلام وأبوه، وأن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كذا، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على الماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء…! فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا قال: وأم إسماعيل عند الماء فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس.
فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلمّا أدرك زوجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل زوجته عنه…! فقالت: خرج يبتغي لنا ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بشر نحن في ضيق وشدة وشكت إليه قال: إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه.
وتقدم في الجزء السابق كيف طلق إسماعيل زوجته بإيحاء من إبراهيم ليتزوج أخرى([92]).
ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً تحت دوحة قريباً من زمزم، فما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الولد بالوالد والوالد بالولد، ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال: فاصنع ما أمرك قال: وتعينني…؟ قال: وأعينك… قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال: فعند ذلك رفع القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني واسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم)([93]).
بحث بلاغي
من الحذف في القرآن حذف القول مثل (قال) او (قلنا) او (قالوا)، واختلف هل حذف الفعل أولى أم التصريح به، المشهور قال بأولوية الحذف وخالف ابن يعيش.
والحق انه ليس من قاعدة كلية ثابتة، فكل بحسب القرائن والسياق والمعاني والغايات والمقاصد، فحيث ما ورد الفعل في القرآن فهو أولى من الحذف، ومتى ما ورد الحذف فهو الأنسب ولابد ان له دلالات إضافية.
وفي الآيـة حـذف (يقـولان) فالتـقديـر: يقــولان ربنــا، وعليه قـراءة عبد الله.
ولكن الإضمار في الآية أعم من أن ينحصر بالصناعة النحوية والبلاغة وكذا في باقي مواضعه من القرآن، فالدعاء ورد على نحو الإطلاق، ومن غير تقييـد بالقائل متحداً كان أو متعدداً، ليصبح هذا الدعاء ملكاً وعوناً لعموم المسلمين، فكل من قرأ الآية ينال نصـيباً من الثواب والإستجابة، بل إن إطلاقه وبهذه الصيغة يجعل القارئ ينسب الدعاء إلى نفسه من حيث يعلم أو لا يعلم فضلاً من الله تعالى.
إنها لغة في تقريب الآيات إلى النفوس وتحبيب القرآن للناس وتشويقهم إلى قراءته، ونيل عظـيم الثواب باللجـوء إلى آيـاته، ولتصبح الآية مدرسة في التأديب والإعداد والإصلاح.
قوله تعالى [ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ]
دعاء وتضرع ورجاء لقبول العمل، أي ان فعلهما كان خالصاً لوجه الله تعالى [ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ]([94]) وللأمر المولوي الخاص برفع القواعد من البيت بعد تحديد موضعه بفضله تعالى[وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا]([95]) فتوجه إبراهيم وإسمـاعيل إلى الله عز وجل تضرعاً ورجـاء قبول عملهما ونفياً للشرك مطلقاً بما في ذلك مراتب الرياء وهو في ظاهره إخبار عن حسن الإمتثال وأن المأتي به مطابق للمأمور به، بدليل صدر الآية بالإخبار عن رفع ابراهيمu القواعد من البيت، فالشرك هو الآفة المهلكة للأفراد والجماعات وهو مانع من قبول العبادات وليس عدمه شرطاً في الفعل العبادي.
إنه إفاضة من مدرسة النبوة فبعد الجهاد في سبيل الله والتضحية تأتي مرحلة التوسل للقبول، وفيها نفي للغرور وإبتعاد عن الزهو، لقد كان إبراهيم uيعلم من خلال الآيات القرآنية، وتجلي ووضوح الأمر الإلهي، وما يلازمه من بيان الحكمة فيه ما لعمله من عظيم الشأن في مستقبل العبادة في الأرض التي لابد وان تبقى، فجاء الإمتثال ورجاء القبول قربة إلى الله.
والضمير (نا) في [ تَقَبَّلْ مِنَّا ] هل يخص إبراهيم وإسماعيل، أم يشمل أبناءهما وحجاج البيت الحرام، وعلى القول بعموم الدعاء فهو آية مباركة في سبق أفعال المسلمين بدعاء الأنبياء لهم بالقبول، وهو نوع واقية وطرد لما قد يرافق الحج من الرياء، وتدارك لما قد يحتمل فيه من نقص وتخلف عن تمام المناسك، وفي التنزيل [رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا]([96]).
والآية دعوة لحجاج بيت الله الحرام للإكثار من الدعاء لقبول أعمالهم، وجاء الدعاء من باب المثال والدلالة فهو يعني الإلتزام بالأحكام الشرعية وتعاهد العبادات حتى بعد الحج.
وينحل الدعاء من جهة إتحاد وتعدد صدوره إلى وجوه:
الأول: تضرع إبراهيم بأن يتقبل الله عز وجل عمله.
الثاني: سؤال إسماعيل قبول عمله.
الثالث: سؤال إبراهيم قبول عمله وعمل ولده إسماعيل .
الرابع: سؤال إسماعيل لقبول عمل أبيه إبراهيم عليه السلام.
الخامس: سؤال إبراهيم وإسماعيل معاً قبول عملهما على نحو الإشتراك وعدم التفريق.
ويحتمل سؤال القبول في موضوعه وجوهاً:
الأول: إرادة قبول رفع قواعد البيت الحرام.
الثاني: تطهير البيت الحرام وإعداده[لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ].
الثالث: طواف إبراهيم وإسماعيل بالبيت الحرام، فجاءت الآية أعلاه لإفادة اللازم والدلالة على الملزوم، إذ أن إبراهيم وإسماعيل أول من قاما بالطواف بالبيت وعمارته بالصلاة.
الرابع: أدعية إبراهيم وإسماعيل مجتمعين , وهي من جهة المتعلق على أقسام:
الأول: دعاء كل منهما لنفسه.
الثاني: دعاء كل منهما للآخر.
الثالث: الدعاء المشترك لهما معاً.
الرابع: دعاء إبراهيم لذريته بالإمامة والصلاح.
يبين القرآن حقيقة وهي أن البيت الحرام بني وأقيمت قواعده على ذكر الله بدعاء وتضرع إبراهيم وإسماعيل، ليكون قيام ملايين المسلمين بالتلبية كل عام في البيت الحرام (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) مصداقاً للذكر وشاهداً على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([97])، بلحاظ أن التلبية في البيت الحرام حرب على الشرك في أنحاء الأرض كلها، وأنها إزاحة دفعية وتدريجية لمفاهيم الشرك وهو من أسرار قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ]([98]).
إن ثناء إبراهيم واسماعيل على الله عز وجل باسم(العليم) تضرع وتوسل إلى الله لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصلاح أمته، وعمارتهم البيت الحرام، وفي هذه العمارة تثبيت لدعائم الدين ومعالم الإيمان في الأرض.
وتبين الآية حقيقة وهي أن عمل وجهاد الأنبياء لاينحصر في مقاصده وغاياته بزمانهم ومن حولهم من الناس بل إنهم يعملون للأجيال القادمة أيضاَ ولو بالدعاء والسؤال إلى أن بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فصارت أمته وارثة لعلوم الأنبياء وحاملة للواء التوحيد إلى يوم القيامة.
ترى ما الذي سأل إبراهيم وإسماعيل قبوله، فيه وجوه:
الأول : رفع قواعد البيت الحرام.
الثاني : المناسك والعبادات.
الثالث : الدعاء والمسألة.
الرابع : الجهاد في سبيل وتعظيم شعائره.
وكل هذه الوجوه من مصاديق الآية الكريمة.
وفي الآية حذف وتقديره:
الأول : ربنا تقبل منا رفع بناء البيت الحرام.
الثاني : تقبل منا مناسكنا.
الثالث : تقبل منا إنقطاعنا إليك وإخلاص عبادتنا لك.
الرابع : تقبل منا دعاءنا.
الخامس : تقبل منا صبرنا في مرضاتك.
قوله تعالى [إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]
ورد لفظ(السميع العليم) تسعاً وعشرين مرة في القرآن وورد مرة بصيغة النصب بقوله تعالى[وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا]([99])، إنه ثناء وحمد لله عز وجل يدل في حقيقته على التصاغر أمام عظيم فضله وإحسانه، والإقرار بأن الأمور كلها بيده سبحانه ورجاء إستجابته قبول العمل والثواب عليه ومضاعفة أجره.
وأخرج البيهقي في شعب الإِيمان عن أبي جعفر قال: كان علي بن حسين يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ختم القرآن حمد الله بمحامده وهو قائم، ثم يقول: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، لا إله إلا الله، وكذب العادلون بالله، وضلوا ضلالاً بعيداً، لا إله إلا الله، وكذب المشركون بالله من العرب والمجوس واليهود والنصارى والصابئين ومن دعا لله ولداً أو صاحبة أو نداً أو شبيهاً أو مثلاً أو سمياً أو عدلاً، فأنت ربنا أعظم من أن تتخذ شريكاً فيما خلقت،
والحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً الله الله الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب إلى قوله إلا كذباً الحمد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض الآيتين: الحمد لله فاطر السموات والأرض الآيتين، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، آلله خير أما يشركون بل الله خير وأبقى وأحكم وأكرم وأعظم مما يشركون، فالحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون، صدق الله وبلغت رسله، وأنا على ذلك من الشاهدين
اللهم صلّ على جميع الملائكة والمرسلين وارحم عبادك المؤمنين من أهل السموات والأرضين، واختم لنا بخير، وافتح لنا بخير، وبارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بالآيات والذكر الحكيم . ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم)([100]).
بحث كلامي
الآية شاهد قرآني على علم الله تعالى بكل صغيرة وكبيرة وإحاطته بأفعال العباد ومنها المسموعات والمبصرات وعليه إجماع المسلمين بل المليين وبغض النظر عن الخلاف في نسبة السمع للذات المقدسة، اذ قال الأشاعرة وجماعة من المعتزلة بانه صفة زائدة على العلم، فمن المسلمـات انه تعالى لم يكن يسمع ويبصـر ويدرك بآلة كما هو حال البشر فهذا ممتنـع عليه، فحتى القائل بالصفة الزائدة ينفي الآلة عنه تعالى لتجرده من اللوازم المادية كالإذن والعين ولإتصافه بالكمالات الوجودية التي تحكي نفي النقص والجسمية عنه تعالى مما لا يصلح ان يطلق على الذات المقدسة.
وقد إختلف في الفلسفة وعلم الكلام باعتبار السميع والبصير من الصفات الذاتية أم من الصفات الفعلية بحسب وجوه تعريف كل منهما وهي:
الأول : إذا دل مفهوم الصفة على وجود ومتعلق له خـارج الذات فهـي من الصفات الفعلية وإلا فهي من صفات الذات.
الثاني : ان يكون الملاك واللحاظ في التقسيم هو ان صفات الفعل ما يجوز ان يوصف الذات بضدها كالرحمة والغضب، وصفات الذات هي ما لا يجوز ان يوصف بضدها.
الثالث : ان كل ما يقع عليه القدرة فهو صفة الفعل، وما لا يقع عليه فهو صفة الذات.
والمشهور ان السميع والبصير من الصفات الذاتية.
ويمكن القول بانعدام الخلاف في الأصـل إلا ما تعلق بالمبنى، فالأشياء جميعاً حاضرة عنده تعالى قبل وأثناء وبعد حصولها ومستجيبة لأمره، وجاء دعاء إبراهيم وإسماعيل على نحو الإطلاق والتسليم مع التنزيه لمقام الربوبية، ومن منازل الإخبات والعبودية.
بحث أصولي
الواجب هو كل فعل تعلق به البعث الأكيد او ترك جاء به الدليل، ويقسم بلحاظ ماهيته ومتعلقه إلى تقسيمات منها تقسيمه إلى التوصلي والتعبدي، والأول هو ما يحصل غرضه بتحققه في الخارج سواء جاء به المكلف بداعي أمر المولى أو بسبب آخر.
أما الثاني فهو الذي لا يتحقق الغرض منه ولا تترتب عليه المصلحة إلا باتيانه قربة الى الله كالصلاة والحج والعبادات الأخرى ويسمى بالتعبدي وله شرائط منها:
الأول: الإتيان بقصد الأمر.
الثاني: نية التقرب إلى الآمر.
الثالث: الفعل العبادي في ذاته حسن وذو مصلحة.
الرابع: لأن الآمـر يسـتحق أن يطاع ولا يعصـى.
الخامس: رجاء الثواب والطمع بفضل الله تعالى والخوف من عذابه وعقابه عند المخالفة.
السادس: الإتيان به عنواناً للشكر لنعمه سبحانه وقد يكفي بعضها في وجوب الإمتثال.
وهل كان بناء البيت توصلياً كما يدل عليه ظاهر المقدمات العقلية الموصلة إلى العبادة كبناء المسجد وقطع المسافة لأداء فريضة الحج كما في غسل الثوب فيحصل الغرض بمجرد غسله.
الجواب لا، انما هو فعل تعبدي لأنه جاء عن أمر مولوي ولأنه مقدمة شخصية لواجب عام، والوجوب يترشح على المقدمة من وجوب ذيها.
ولم يكن النبي يعصي الله عز وجل في الصغيرة فضلاً عن الكبيرة فلابد وأن يبني إبراهيم uالبيت، أي أن الآية تتضمن إشارات لبني إسرائيل بان إبراهيم ما كان له أن يتخلف عن بناء البيت وما كان عن أمره، ومن الإعجاز الغيري انك لم تسمع منهم أيام نزول القرآن طعناً بهذه الحقيقة مع أنها حجة عليهم وهي من مفاخر فريضة الحج في الإسلام.
لقد إشترك إسماعيل مع إبراهيم في بناء البيت وفيه فضل عظيم على ذريته والمسلمين، والذي خالف المشهور وظاهر الآية وقال بعدم إشتراكه يرجع إلى أمرين:
الأول: القراءة بالوقوف على البيت واعتبار الواو في واسماعيل إستئنافية أي إن إسماعيل إشترك مع إبراهيم في الدعاء دون رفع البيت، ومنهم من جعل (الواو) في واسماعيل للحال، وأعرب إسماعيل مبتدأ والخبر مضمر وتقديره: وإسماعيل يقول: ربنا تقبل منا، فيكون إبراهيم مختصاً بالبناء ، وإسماعيل مختصاً بالدعاء([101])، وهو بعيد.
الثاني: ان إسماعيل كان وقت بناء البيت صغيراً لا يقوى على المشـاركة في البناء وما يستلزمه من القدرة والجهد وما يسببه من العناء وان ابراهيم لما بنى البيت خرج وخلّف اسماعيل وهاجر وقالا: الى من تكلنا؟ فقال إبراهيم: الى ربي فعطش اسماعيل فلم ير شيئاً من الماء فناداهما جبريل u وفحص الأرض باصبعه فنبعت زمزم([102])، وروي عن ابن عباس أن إسماعيل طفل صغير حين ذلك، كان يناوله الحجارة، وروي عن علي عليه السلام: أن إسماعيل كان إذ ذاك طفلاً صغيراً ، ولا يصح ذلك عن عليّ([103]).
اما القراءة فالأصل فيها عدم الوقف كما ان ذيل الآية يجعل القول بالوقف مرجوحاً، فسؤال القبول بقوله تعالى [ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ] يدل على وجود فعل صادر منهما يرجوان قبوله، وقرينة الحال تقتضي تعلقه برفع القواعد من البيت وفي الآية تقديم وتأخير وتقديرها:وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت، وفي اسماء زمزم ركضة جبرئيل وحفيرة اسماعيل([104]) .
أما ما يتعلق بالأمر الثاني فان الصغر والكبر من الأمور التشكيكية وكذا المشاركة في البناء فهي تصدق على المسمى والمستطاع منها.
وذهب بعضهم الى وصف مشاركة إسماعيل بأنها رفع الحجر والطـين لإبراهـيـم uوتهيئـة الآلات والأدوات، وســواء كـانت مشـاركة تامـة او جزئيـة في أفعـال البناء فان عنوان المشاركة يصـدق عليهـا وليصبح إعداد الآلات مقدمة وإشارة إلى التهيئة لمناسك المسلمين، ثم ان الروايـة المذكـورة وردت في بداية نزول هاجر واسماعيل البيت.
ويقال إن إبراهيم كان يبني البيت وإسماعيل يعينه، والملائكة يناولون الحجر من إسماعيل، وكانوا ينقلون الحجر من خمسة أجبل : طور سيناء وطور زيتاء والجودي ولبنان وحراء؛ فلما فرغا من البناء ، قالا { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا }([105]).
وعن مجاهد قال: الْقَوَاعِدُ فِي الأَرْضِ السَّابِعَةِ([106]).
ولكن آية البحث تدل على ان قواعد البيت وما يتصل بها من البناء كانت ظاهرة لإبراهيم, وفي هذا الظهور نكتة وهي تأكيد عدم إنقطاع الناس فترة عن حج البيت، لذا ورد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الآية قال: رَفَعَ الْقَوَاعِدَ الَّتِي كَانَتْ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ قَبْلَ ذَلِكَ) ([107]).
فالأقـوى مشـاركة إسماعيل في بنـاء البيت لظاهـر الآيـة ولأن الأصـل في الواو العطف، وللحجة وكفاية صرف الوجود ومسمى العمل، وورود الأخبار.
بحث اصولي آخر
فائدة: ينقسم الكلام إلى مجمل ومبين، والمجمل هو اللفظ الذي ليس له ظهور بالفعل ولو كان بسبب ما فيه من إضمار أو إبهام ومنه المجمل بالذات كأوائل السور القرآنية مثل الم، كهيعص.
ومنه المشترك اللفظي الذي لا يخلو من القرينة على تعيين بعض معانيه كقوله تعالى [ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ]([108]) هل القرء هو الحيض ام الطهر المتخلل بين حيضتين.
ومنه المشترك المعنوي ومنه العام والمخصص بمجمل، والمطلق المقيد أيضاً، وأما المبين فهو ما كانت دلالته ظاهرة في مقصود معين لا يقبل الترديد، واحتمال المجاز وهو على قسمين:
الأول: النص وهو الظاهر في دلالته بحيث لا يقبل التأويل عرفاً.
الثاني: من المبين الظاهر في معنى ولكنه أدنى مرتبة من النص لإحتمال تأويله إذا وجدت القرينة الصارفة.
وقد يجعل الظاهر قسيماً للنص وعند القسمة والتفريق بينهما بلحاظ دقة البيان والأثر ومقتضى الصناعة الأصولية والكلامية.
واللفظ أما أن يكون مجملاً أو مبيناً، ولكن من أسرار القرآن أنك تجد ذات اللفظ يحمل المعنيين معاً.
فالآية نص صريح في بناء قواعد البيت وأسـسـه الظاهـرة، وهي مجملة في تمام بنائه وسقفه، فلا غـرابة ان تجد المفسرين يختلفون بماهية القواعد، وهل هي تجديد لأسس البيت أم أنها إستحداث لها، فيجب أن لا نقف عنـد مبـادئ الألفاظ لأن علوم القـرآن تتعـدى أوهـام البشر مما يملي علينا عدم تقييدها بقواعد محددة، ولا نفعل بها كما زمت هاجر ماء زمزم حينما إنفجرت .
وعن ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم يرحم الله أم اسماعيل لو تركت زمزم ، أو قال، لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً فشربت وأرضعت ولدها ([109])،نعم في الوقوف عند مبادئ الألفاظ حجة وعلم، ويجب أن نجتهد بتثوير علوم القرآن خارج حدود القواعد النحوية وغيرها ولكن بالبينة والحجة والبرهان والدليل إذ أنها أعم من أن تحيط بها تلك القواعد.
وقد وردت النصوص بان آدم uهو الذي بني البيت بتوجيه جبرئيل عليه السلام.
وهذا الإختلاف يجب ان لا يحجب البصائر عن التماس النكت العقائدية في الآية الكريمة وكذا ما يتعلق بالآيات القرآنية الأخرى، ففي هذه الآية مثلاً نكتة وهي أن أثنين من الأنبياء بل من الرسل واحدهما وهو إبراهيم من الرسل الخمسة أولي العزم قاما برفع القواعد من البيت، مما يدل على عظيم منزلة البيت واعتباره في الحياة العامة للناس خصوصاً وانه كان موجوداً قبلهما أي انه ميراث الأنبياء وإن الله عز وجل حينما جعله[أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ]([110])، تفضل بالوحي للأنبياء ببنائه وعمارته وإن مناسك الحج بينّها رسول الله عليه وآله وسلم بالتنزيل والوحي، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]([111]).
وكما حفظ المسلمون الصيام كفريضة تعاهدها الأنبياء بعد ان كتبت عليهم، فانهم حفظوا وصانوا البيت الحرام والتزموا بأحكام الحج بما يعتبر مفخرة للجنس البشري والتوظيف السليم للعقل الانساني.
قوله تعالى[رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]الآية 128.
القراءة
قرأ ابن عباس(مسلمين) بصيغة الجمع لإرادة هاجر معهما([112])،
قرأ ابن كثير (ارنا) باسكان الراء كل القرآن وبه قرأ ابن عامر، والقراءة المشهورة المدونة في المصاحف بكسر الراء.
والإسلام: الإنقياد، وهو في الشريعة إظهار الخضوع والإلتزام بأحكام الشريعة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقبولها، ومن معاني الآية الجمع بين المعنيين اللغوي والإصطلاحي في هذا الزمان، فهي اعلان منهما للإنقياد لله تعالى بلغة الخضوع والخشوع.
وهل يمكن اعتبار الإسلام هنا بمعناه الإصطلاحي المتعارف الآن وهو الإتيان بالشهادتين والإيمان بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولو على نحو الإجمال للتبشير بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، الجواب نعم.
ولغة الدعاء ظاهرة في الآية وموضوعها رجاء إحتساب الأجر لهم من مثل ما يكتب للمسلمين بعد ان هيئ لهم ابراهيم وإسماعيل البيت ومناسك الحج، ولأن أعمال الأنبياء العبادية تتصف بالتكامل كما ورد في النص، ومنها بعض أخبار الحج وأدائه من قبل إبراهيم عليه السلام.
الإعراب واللغة
ربنا: منادى مضاف، الضمير “نا”: مضاف اليه.
واجعلنا: عطف على الآية السابقة، مسلمين: مفعول به ثان.
لك: جار ومجرور.
ومن ذريتنا: الواو عاطفة، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف دل عليه ما تقدمه أي واجعل من ذريتنا.
أمة: مفعول به اول للفعل المحذوف ومن ذريتنا في محل مفعول ثانِ.
مسلمة: صفة، لك: جار ومجرور وهو صفة ثانية للأمة.
وأرنا: يتكون من:
الأول : حرف عطف.
الثاني : فعل طلب وسؤال مبني على حذف حرف العلة.
الثالث : الفاعل مستتر تقديره انت.
الرابع : الضمير المتصل (نا) في محل نصب مفعول به أول.
مناسكنا مفعول به ثان، والضمير في محل مضاف إليه.
وتب علينا: عطف على ما تقدم.
إنك: إن وإسمها، أنت: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ، التواب: خبر أول، الرحيم: خبر ثانِ.
والذرية من ذر الله الخلق في الأرض أي نشرهم وهو اسم يجمع نسل الإنسان من ذكر وانثى، وذرية الرجـل: ولده، وأصله من الذر بمعنى التفريق لأنهم يتفرقون في سعة من رحمته تعالى.
( والأمة: القرن من الناس) ([113])، وكل قوم نسبوا إلى نبي فهم أمته، وكل جيـل من الناس هم أمـة على حـدة. والأمة: الرجل الذي لا نظير له، وقوله(إن ابراهيم كان أمة) أي إماماً([114]).
والنسك بسكون السين او بضمها: العبادة والطاعة وما يتقرب به الى الله تعالى، والنسك:الذبيحة يقال من صنع كذا فعليه نسّك أي دم يهرقه بمكة)([115]).
ولكن معنى المناسك في الآية أعم وتشمل العبادة والفرائض والطاعات والمناسك: مواضع العبادة ومصاديقها.
في سياق الآيات
تتعلق الآيات بمرحلة من أهم مراحل عمارة البيت الحرام، وتشريع الحج وما بذله إبراهيم وإسماعيل عليهما السـلام في سـبيل تهيئة مقدمات حسن الإمتثال ولوزام الطاعة في منسك الحج، فقد مرت سـنوات قبل بعثة النـبي محمد صـلى الله عليه وآله وسـلم لا يكترث الناس فيها بالمناسـك كثيراً، او انهم لا يـؤدون منها الا الأقل مما يؤثر سلباً على عمارة البيت ولزوم تعاهده في كل زمان، فمنهم من يكتفي بالحج ومنهم من يأتي به محرفاً ممتزجاً مع عادات جاهلية تنم عن الوثنية، بالإضافة الى الإنحصار المكاني والشخصي.
فأداء الحج يقتصر على قريش وبعض القبائل وما قارب مكة من الأمصار، لذا يمكن اعتبار رفع القواعد من البيت تثبيتاً لقواعد المناسـك واستيعاب اداء الأدنى والأقل ممن يأتي بعدهما قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أما بعد البعثة النبوية المباركة فترى كل مسلم يحرص ويتمنى ان يساهم في اعمار البيت الحرام، فكانت ثورة المناسك ومرحلة الأداء الأمثل للفرائض.
تلك الحالة لم تكن مستديمة في الفترة بين ابراهيم uوبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا كماً ولا كيفاً كما ان الآية لا تخرج عن سياق الموضوع الأساسي المتقدم وهو ذكر قبائح اهل الكتاب ولكنه هنا على نحو التذكير بما يجب فعله والتوبيخ بالمفهوم، أي ببيان سيرة الأنبياء الذين يفتخر ويعتز بهم اهل الكتاب ويسلمون بنبوتهم كابراهيم عليه السلام.
وصلة هذه الآية بالآيات المجاورة لها على شعبتين:
الأولى: صلة الآية بالآيات السابقة، وفيها وجوه:
الأول: صلة هذه الآية بالآية السابقة[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ….]([116])، وفيها مسائل:
الأولى: بين الآيتين بلحاظ الموضوع عموم وخصوص مطلق فجاءت الآية السابقة بأمرين:
الأول: الإخبار عن تشييد وبناء البيت الحرام.
الثاني: ذكر إبراهيم وإسماعيل بالاسم وأنهما هما اللذان قاما برفع قواعد البيت.
الثالث: دعاء إبراهيم وإسماعيل لقبول عملهما.
الرابع: الثناء والمدحة لله عز وجل وتأكيد حقيقة وهي أن الجهد والجهاد في بناء البيت إنما هو فضل من الله عز وجل فكأن الثناء في المقام شكراً له سبحانه على هذه النعمة العظيمة.
أما آية البحث فقد إتصلت بالآية السابقة بالدعاء والمسألة.
الثانية: النسبة بين الدعاء في آية البحث والآية السابقة هي العموم والخصوص المطلق، فإذا جاءت الآية السابقة بدعاء إبراهيم وإسماعيل بقبول بنائهما للبيت وجعله في ميزان حسناتهما وإثابتها عليه جاءت هذه الآية بالدعاء لأنفسهما وذريتهما، وسألا بيان الفرائض والتوبة والمغفرة.
الثالثة: الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل إذ ورد لفظ(ربنا) في الآيتين، وفيه شاهد على صدق عبودية إبراهيم وإنقطاعه إلى الله، ليبقى الإخلاص تركة إلى إسماعيل، ومن خصائص هذه التركة الشركة فيها بين المورث والوارث وفي حياة المورث من غير أن ينقص من نصيب أحدهما شيء أي فعل عبادي يصدر من الوارث يأتي الثواب منه للإثنين معاً سواء فعله في حياة المورث أو بعدها.
وهل هذا الحكم خاص بالأنبياء الجواب لا، فهو عام للمسلمين والمسلمات لتتصف تركة الإيمان بعدم القسمة والتجزئة، بل هي تنشطر في طرف الكثرة والتعدد والزيادة.
الثاني: صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا]([117])، وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت الآيات الأربعة السابقة لها بظرف الزمن الماضي(إذ) بينما إبتدأت آية البحث بالنداء من منازل العبودية إلى مقامات الربوبية المطلقة(ربنا) ولا بد من دلالات عقائدية منها أمور:
الأول: إن جهاد سعي إبراهيم في بناء البيت لتهيئته للمسلمين لأن هذه الآية إنتقلت إلى ذكر الذرية(ومن ذريتنا).
الثاني: بعد العمل والجهاد جاءت المسألة وبيان الحاجة، وفيه شاهد بأن عمل الإنسان في الصالحات لا يكفي لنجاته فيحتاج الدعاء والمواظبة على العبادة.
الثالث: لقد أراد إبراهيم تهيئة المحل وهو البيت وسأل الأمن في مكة ودعا بالرزق لأهلها ثم سأل الإيمان للذرية ليكون شكراً لله عز وجل على الإستجابة للدعاء والرزق الكريم.
الثانية: تضمنت آية البحث دعاء إبراهيم وإسماعيل على نحو الإشتراك رجاء القبول، بينما جاءت آية السياق بدعاء إبراهيم وحده، وفي الجمع بين الآيتين نكتة عقائدية من وجوه:
الأول: يتولد عن إنقطاع الأب للدعاء والمسألة إقتفاء الابن له في نهجه وصلاحه.
الثاني: إن الله عز وجل يرزق الأب المؤمن الثواب العاجل برؤية الصلاح في ولده.
الثالث: مشاركة الابن الأب في دعائه وعباداته لذا ورد في آية البحث (وأرنا مناسكنا).
الثالثة: بين الآيتين عموم وخصوص من وجوه.
فمادة الإلتقاء الدعاء للغير، وجاءت آية السياق بدعاء إبراهيم لأهل مكة، أما آية البحث فجاءت بدعاء إبراهيم وإسماعيل لذريتهما، وأهل مكة منهم من ذرية إبراهيم وإسماعيل ومنهم من غيرها كجرهم، ووجود الذرية لا ينحصر بالسكن في مكة.
الرابعة: تضمنت آية البحث مسائل من دعاء إبراهيم وإسماعيل على نحو التعيين، أما آية السياق فتضمنت جواباً من الله عز وجل.
الخامسة: جاء الرد والإستجابة التي تفضل الله عز وجل بها بالتفصيل، فالرزق من الله عز وجل عام للبر والفاجر، وهو من مصاديق الخلافة في الأرض ويدل عليه إحتجاج الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]([118])، ولم يحتجوا على أصل خلافة الإنسان للأرض، بل جاء إحتجاجهم بخصوص الكفار الظالمين، ولم يسألوا التضييق عليهم في الرزق، ليكون من إعجاز القرآن التطابق في معاني ودلالات الآيات وعدم وجود تزاحم أو تعارض بينها.
الخامس: أختتمت آية السياق بالوعيد للكفار، بسوء العاقبة وشدة العذاب، وأختتمت آية البحث بالثناء على الله عز وجل وبما يتضمن رجاء العفو والتوبة منه تعالى.
الثالث: صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى]([119])، وفيها مسائل:
الأولى: تتضمن آية البحث الدعاء والمسألة من إبراهيم وإسماعيل إلى الله عز وجل، بينما تضمنت آية السياق أموراً:
الأول: الإخبار من الله عن منزلة ووظائف البيت الحرام.
الثاني: وجود مقام إبراهيم وأفراده بالذكر.
الثالث: الأمر الإلهي للمسلمين والمسلمات بإتخاذ مقام إبراهيم محلاً وموضعاً للصلاة.
الرابع: التأكيد على موضوعية الصلاة، وموضوعية صلاة المسلمين على نحو الخصوص لأنها من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([120])، فيتجلى التفضيل ومصداق(خير أمة) بأمور بلحاظ الجمع بين الآيتين:
الأول: تجلي مصاديق إستجابة الله لدعاء إبراهيم وإسماعيل بوجود أمة مسلمة تؤدي الصلاة وتحج البيت الحرام.
الثاني: مقام إبراهيم عنوان الصلة بين إبراهيم وإسماعيل وبين المسلمين، وتقوم هذه الصلة بالعبادة وأداء مناسك الحج.
الثالث: بيان خصال الأمة المسلمين التي دعا لها إبراهيم وإسماعيل إذ يقوم أفرادها بالطواف والإعتكاف بالبيت.
الرابع: تعاهد ذرية إبراهيم للبيت الحرام بالركوع والسجود.
الخامس: لما سأل إبراهيم وإسماعيل الله عز وجل رؤية المناسك جاءت آية السياق لتخبر عن تعاهد المسلمين للبيت الحرام وزيادة من فضله وهي إتخاذ المسلمين لمقام إبراهيم محلاً للصلاة، لبيان التكامل في شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقيد المسلمين بآداب مناسك الحج مصداق من خروجهم للناس الذي تذكره الآية أعلاه من سورة آل عمران.
الثانية: ذكرت آية البحث دعاء إبراهيم وإسماعيل وذكرت آية السياق أمر الله إلى إبراهيم وإسماعيل بإصلاح وعمارة البيت للمؤمنين، وتطهيره من الإمتناع وأسباب الرجس.
الثالثة: في قوله تعالى[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ] سبق وجود البيت على زمان إبراهيم بلحاظ إفادة الألف واللام في(للناس) الجنس والإستغراق وشموله لآدم وحواء، وتؤكده الأخبار التي تفيد أن آدم حج البيت.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين أن إبراهيم كان قواماً دعاءً مجاهداً في سبيل الله، مستجاب الدعوة.
وأخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قال لرجل عنده: أدن مني أحدثك عن الأنبياء المذكورين في كتاب الله أحدثك عن آدم كان حراثاً، وعن نوح كان نجاراً، وعن إدريس كان خياطاً، وعن داود كان زراداً، وعن موسى كان راعياً، وعن إبراهيم كان زراعاً عظيم الضيافة، وعن شعيب كان راعياً، وعن لوط كان زراعاً، وعن صالح كان تاجراً، وعن سليمان كان ولي الملك، ويصوم من الشهر ستّة أيام في أوله، وثلاثة في وسطه، وثلاثة في آخره، وكان له تسعمائة سرية، وثلاثمائة مهرية، وأحدثك عن ابن العذراء البتول عيسى إنه كان لا يخبىء شيئاً لغد، ويقول: الذي غداني سوف يعشيني والذي عشاني سوف يغدّيني، يعبد الله ليلته كلها، وهو بالنهار يسبح ويصوم الدهر ويقوم الليل كله)([121]).
الشعبة الثانية: صلة هذه بالآيات التالية، وفيها وجوه:
الأول: صلة هذه الآية بالآية التالية[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ……]([122])، وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت كل من الآيتين بنداء الدعاء والمسألة(ربنا) وفيه إظهار للعبودية لله، وإعلان عن التنزه عن الشرك والضلالة.
الثانية: إبتدأت آية البحث بدعاء إبراهيم وإسماعيل للذات، أما آية السياق فجاءت كلها بالدعاء والمسألة للذرية والمسلمين، وقدّما الذرية لتكون ظهيراً ونصيراً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حينما خرج للناس في نبوته، وقد خبر إبراهيم وإسماعيل الناس،إذ أن إسماعيل كان وحيداً بين جرهم وغيرهم، وأدركا موضوعية الأخوان والأبناء والعشيرة في التأييد والنصرة، ولم يسألاها لنفسيهما بل سألاها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت من مقدمات هذه النصرة الجواب نعم، لأن البيت موضوع هداية، وسبب لتعاهد الحنيفية في الأجيال المتعاقبة من ذرية إبراهيم، ومناسبة يومية متكررة لحفظ نسل إبراهيم وما يترتب على هذا الحفظ من التآخي والتعاضد والإنصات لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]([123])، لمّا نزلت{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً، الرجل منهم يأكل المسنّة ويشرب العس،
فأمر عليّاً برِجْل شاة فأدمها ثم قال: ادنُوا باسم الله فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا، ثم دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم : اشربوا باسم الله، فشرب القوم حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما يسحركم به الرجل، فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ فلم يتكلّم.
ثمَّ دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ثم أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بني عبد المطلب إنّي أنا النذير إليكم من الله سبحانه والبشير لما يجيء به أحد منكم، جئتكم بالدنيا والآخرة فأسلموا وأطيعوني تهتدوا، ومَن يواخيني ويؤازرني ويكون وليّي ووصيي بعدي، وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟ فسكت القوم، وأعاد ذلك ثلاثاً كلّ ذلك يسكت القوم، ويقول علي: أنا فقال: أنت فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أُمِّر عليك)([124]).
الثانية: جاءت آية البحث بسؤال أمة مسلمة وجاءت آية السياق بسؤال بعثة رسول من الذرية مما يدل على أن الأمة المسلمة تتبع الرسول، وأن وظائفه أعم بلحاظ أنه رسول للناس جميعاً، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]([125]).
الثالثة: بيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وآله وسلم من وجوه:
الأول: سأل إبراهيم وإسماعيل الله عز وجل أن يكونا مسلمين منقادين إلى الله، وسألا الرسالة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أعظم منزلة ينالها ابن آدم.
الثاني: سؤال تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات الله على ذرية إبراهيم والناس، وفيه شاهد على تضمن آيات القرآن الإعجاز الذاتي والغيري، أما الذاتي فنسبة الآيات إلى الله، وأما الغيري فهو تلقي المسلمين الآيات وتعلمهم الأحكام من الرسول وما فيه من تهذيب النفوس وإصلاح عالم الأفعال.
الثالث: تزكية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وإمامته للأمة في سبل الهداية، والسلامة من مفاهيم الشرك والضلالة.
الرابع: لقد أراد إبراهيم وإسماعيل تكامل الشريعة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه دعوة للناس جميعاً لإتباعه، ويتجلى مصداق الإستجابة بقوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]([126]).
الثالثة: في آية البحث سأل إبراهيم وإسماعيل الله عز وجل أن يكون شطر من ذريتهما مسلمين، أما في آية السياق فقد سألا أموراً:
الأول: بعثة الرسول في الذرية.
الثاني: تلاوة الرسول آيات الله، ويدل بالدلالة التضمنية على مسائل:
الأولى: سؤال نزول الآيات من عند الله وعدم إختصاص النبي بها بل يقرأها على الأمة ويخبر الناس بها، ومن الإختصاص في المقام وما ورد في التنزيل بخصوص إبراهيم وإسماعيل[قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى]([127]).
الثانية: تجلي وظهور نزول الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعيسى فقط وإن كانت رؤيا الأنبياء وحي، وهو المستقرأ من رد إسماعيل وأنه إعتبر هذه الرؤيا أمراً من الله عز وجل[قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ]([128]).
الثالث: إنقياد الناس للنبي محمد صلى الله وآله وسلم وهو الذي يدل عليه بالدلالة التضمنية أيضاً قوله تعالى[وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]([129]).
الرابع: إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس وقيادته للناس في سبيل الهداية والصلاح.
الرابع: لقد تجلت أسرار ومنافع دعاء إبراهيم وإسماعيل للذرية وبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم وقيامهم بالذود والدفاع عنه، كما في كفالة أبي طالب ونصرته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وموضوعية النسب والرحم في دفع الضرر عنه.
(لمّا مات أبو طالب خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحده إلى الطائف يلتمس ثقيف النصرة، والمنعة له من قومه، فروى محمّد بن أحمد عن يزيد بن زياد عن محمّد بن كعب القرظي، قال: لمّا انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحده إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم أخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، بنو عمر بن عمير، عندهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم، فدعاهم إلى الله تعالى وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام،والقيام معه على من خالفه من قومه.
فقال أحدهم، هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله تعالى أرسلك،وقال الآخر: أما وجد الله أحد يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أُكلّمك كلمة أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أُكلّمك فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقال لهم: إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموه وكره رسول الله أن يبلغ قومه عنه فيديرهم عليه ذلك، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم، وعبيدهم يسبّونه، ويصيحون به، حتّى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة، وشيبة ابني ربيعة، هما فيه، ورجع عنه سفهاء ثقيف.
ولقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة من بني جمح، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك؟ فلمّا اطمئن رسول الله، قال: اللَّهم إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس، أرحم الراحمين أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدوَ ملّكته أمري. إن لم يكن بك عليَّ غضب، فلا أُبالي، ولكن عافيتك هي أوسع، وأعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، ويحلّ عليَّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، لا حول ولا قوّة إلاّ بك.
فلمّا رأى أبناء ربيعة ما لقي تحرّكت له رحمهما، فدعوا غلاماً لهما نصرانياً، يقال له: عداس فقالا له: خذ قطفاً من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق، ثمّ اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عداس ثمّ أقبل به حتّى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا وضع رسول الله يده، قال: بسم الله، ثمّ أكل، فنظر عداس إلى وجهه، ثمّ قال: والله إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة قال له رسول الله: ومن أي أهل البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ قال: أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى.
فقال له رسول الله: من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى قال له: وما يدريك ما يونس بن متّى؟ قال له رسول الله: ذاك أخي، كان نبيّاً وأنا نبيّ فأكبّ عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبّل رأسه، ويديه، ورجليه قال: فيقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه، أما غلامك فقد أفسده عليك. فلمّا جاءهم عداس، قالا له: ويلك يا عداس ما لكَ تقبّل رأس هذا الرجل، ويديه، ورجليه؟
قال: يا سيديّ ما في الأرض خيرٌ من هذا، لقد خبّرني بأمر ما يعلمه إلاّ نبي فقال: ويحك يا عداس لا يصرفنّك عن دينك، فإنّ دينك خيرٌ من دينه ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعاً إلى مكّة حتّى يئس من خير ثقيف)([130]).
الثاني: صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ….]([131])، وفيها مسائل:
الأولى: تبين آية البحث أن الدعاء من ملة إبراهيم وإسماعيل، وهو باب لقضاء الحوائج، وسبيل للهداية والرشاد لذا ذكرت آية السياق حقيقة وهي أن تركه سفاهة ويقال سفه الرجل فهو سفيه، وهم سفهاء، والسفاهة حمل النفس على أمر خطأ.
الثانية: تبين آية البحث دعاء إبراهيم وإسماعيل، أما آية السياق فتذكر قانوناً كلياً وهو أن الإعراض عن ملة إبراهيم الحنيفية ضلالة تؤدي بالنفس إلى الهلكة.
الثالثة: الثناء على إبراهيم لجهاده في رفع قواعد البيت وإجتهاده بالدعاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الرابعة: إن دعاء إبراهيم وإسماعيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته من إصطفائه وإجتبائه في الدنيا، وفيه دلالة بأن الدعاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته إصطفاء وتشريف وإكرام، فلقد أراد إبراهيم عليه السلام نيل المرتبة الرفيعة في الدنيا والآخرة وتتجلى رشحاته وبركات دعائه عليه بأن يقتفي المسلمون أثره في حج البيت وتعاهد مناسكه.
الخامسة: يفيد الجمع بين الآيتين ترغيب المسلمين بالعمل بالحنيفية وأداء مناسك الحج للإلتحاق بإبراهيم في قوله تعالى[قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا]([132])، وجاء التقييد بالحنيفية في ملة إبراهيم لمنع اللبس والتبديل، وفيه شاهد على إنقطاع التحريف في الكتب السماوية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن القرآن جاء بالحق ومنه بيان وتفاصيل ملة إبراهيم وإستقامته في الدين وإخلاصه العبادة لله وهو الذي يدل عليه قوله تعالى في آية السياق[قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ]([133]).
وكأن إبراهيم سأل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتبين لأجيال الناس سلامة نهجه وإخلاصه العبادة لله عز وجل.
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين منع الغلو بالأنبياء، وتأكيد حقيقة وهي أن إمامة إبراهيم للناس في المبادرة إلى الإسلام.
الثالث: صلة آية البحث بقوله تعالى[إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ]([134])، وفيها مسائل:
الأولى: دعوة المسلمين للإقتداء بإبراهيم عليه السلام في إخلاصه العبادة لله، منزهاً من الشرك وأسباب الضلالة، ولا يرجو غير الله، لذا جاءت آية البحث بدعائه وإبنه إسماعيل لبلوغ مرتبة الإسلام والإنقياد لله عز وجل.
الثانية: يحتمل التقدم والتأخر الزماني في نزول الآيتين وجوهاً:
الأول: سبق نزول آية البحث من جهات:
الأولى: تقدم آية البحث في نظم القرآن.
الثانية: سؤال إبراهيم وإسماعيل من الله بلوغ مرتبة الإيمان والإنقياد إليه تعالى.
الثالثة: إستغفار إبراهيم بالثناء على الله بأنه التواب الرحيم.
الثاني: سبق نزول آية السياق(إذ قال له ربه أسلم) من جهات:
الأولى: إبتداء الآية بالظرف(إذ) الذي يدل على إرادة الفعل الماضي.
الثانية : جاء الدعاء في آية البحث(ربنا وإجعلنا مسلمين لك) وتضمنت آية السياق أمر الله لإبراهيم بالإسلام وإمتثاله للأمر.
الثالثة: إختصت آية السياق بالإخبار عن إسلام إبراهيم ووجوب عدم الإعراض عنها( إن عبد الله بن سلام دعا ابنى أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام، فقال لهما: ألستما تعلمان أن الله عز وجل قال لموسى: إنى باعث نبياً من ذرية إسماعيل يقال له: أحمد، يحيد أمته عن النار، وأنه ملعون من كذب بأحمد النبي، وملعون من لم يتبع دينه؟ فأسلم سلمة، وأبى مهاجر، ورغب عن الإسلام ، فأنزل الله عز وجل:{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ}، يعنى الإسلام، ثم استثنى{إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}، يعنى إلا من خسر نفسه من أهل الكتاب{وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا وَإِنَّهُ}، يعنى إبراهيم، يعنى اخترناه بالنبوة والرسالة فى الدنيا{وَإِنَّهُ}{فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين})([135]).
الثالث: يفيد الجمع بين الآيتين أن الدعاء للذات والذرية من الحنيفية ومن خصال إبراهيم الحميدة، التي تركها إرثاً كريماً لذريته والمسلمين جميعاً.
الرابع: بيان حقيقة وهي أن الإسلام لا يقف عند التسليم والإنقياد لأمر الله بل لابد من أداء الفرائض والسنن.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر الله ثلاث مرات بعد التسليم من الصلاة، ثم يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)([136]).
بحث بلاغي
يظهر في الآية الكريمة ما يسمى في علم البلاغة بالإدماج أي إدماج غرض في غرض، وبديع في بـديع، فصحيح أنه لم يظهـر الا سـؤال التوبة وإدمجت بها طاعة العبد ومسكنته وتسليمه، فالأمر حقيقة إعلان الإخلاص في العبادة والصـدق في العبودية ورجـاء رحمته تعالى على نحو الإشتراك في التضرع والتداخل في المسألة.
كما يلاحظ في الآية باب (التفويـت) من علم البديع وهو الإتيان بمعاني شتى من الفنون كل في جملة متوسـطة أو طويلـة منفصلة عن الأخرى مع تساوي الجمل في الزنة، وإن كانت بلاغة القـرآن تتعـدى فنون الألفاظ لتشمل مراعاة المعاني مع جزالة الألفاظ، وأكثر فنون البلاغة مسـتوحاة من القـرآن .
ففي هـذه الآية ترى حسن النسق ايضاً وهو العطف بين الكلمات المتصلات اتصالاً والتحاماً لطيفاً وجزيلاً، بحيث أن كل جملة لو إستقلت وحالهـا لكانت لفظـاً تاماً وذات معنى غير ناقص، فالآية بدأت بالدعاء [رَبَّنَا] وهو الأعم والأشمل في الأسماء الحسنى إذ يتوجه تطلع الناس إلى مقام الربوبية على درجات متفاوتة، شدة وضعفاً في حال الرخاء والعسر.
والآيات القرآنية التي تتضمن دعاء الأنبياء ومناجاتهم للباري عز وجل بهذه الصفة تشير إلى تمام التعلق بجلالته وعظمته، فبعد إنجاز العمل الجهادي المركـب الذي أمر به من رفع القواعد من البيت الذي هو مقدمة لعمل عبادي عيني وغيري مستديم توجها إلى العبادة بافتتاحها بالدعاء ورجاء التفضل بالإعانة على حسن الإمتثال والتوفيق لأدائها والمواظبة عليها، إذ أن الإسلام لا يصدق إلا على العقيدة المستقرة.
لقد أرادا إظهار وتوكيد الحاجة المطلقة الدائمة إلى فضله سبحانه، ومع عصمة الأنبياء وتنزههم عن الآثام وإقتراف الذنوب سواء كانت الكبائـر أو الصغـائر تبرز حقيـقة تؤكـدهـا الآيـة التاليـة وهـي أن الدعـاء لا ينحصر بهما بل هو مقدمة لأهلية ذريتهما والمسلمين لبعث رسول منهم وفيهم.
إعجاز الآية
من الإعجاز ان ترى العمل الفردي لإبراهيم وإسماعيل كيف عمّ الأرض في عبادة محببة للنفوس وفريضة ثابتة في اعظم الأديان وابقاها وما ينتظر فريضة الحج من الإهتمام العالمي المتزايد يفوق حد التصور وهو من أسرار النبوة والإفاضات التي تترشح عن سنة وسيرة النبي وفي عيسى ورد قوله تعالى[وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت] ([137])، وما تراه الآن في موسم الحج وكثرة وتدافع وفد الحاج تراه في أيام من العمرة في وقت أحقاب لاحقة.
ومثل هذا الحضور والإجتماع في موسم الحج قد لا يتصور عند اجيال سابقة فلا غرابة ان يتوجه إبراهيم وإسماعيل بسؤال جعلهما مسلمين، وهذا السؤال إعجاز آخر تتفرع عنه عدة مسائل وكذا ظهور وتحسس بركات دعائهما في هذا الزمان وكل زمان.
لقد جعل الله عز وجل الإنتماء للإسلام سوراً جامعاً لخصال الحسن، وبرزخاً مانعاً من الرذائل والعادات المذمومة، (عن الحارث الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من دعا بدعوى الجاهلية، فإنه من جثاء جهنم قال رجل : يا رسول الله ، وإن صام وصلى؟ قال: نعم فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين والمؤمنين عباد الله)([138]).
ويمكن تسمية هذه الآية آية ( وإجعلنا مسلمين)، ولم يرد لفظ(مسلِمين) بصـيغة التثنية في القرآن إلا في هذه الآية، في دعــاء وتضرع وسؤال موجه لله عز وجل، وورد بصيغة الجمع في الثناء على المؤمنين[وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا]([139]).
الآية سلاح
الآية إكرام للبيت الحرام وتشريف بذكر الذي ساهم بمناسكه واحياء شعائره والأمل من خلال الدعاء الذي تغشى المسلمين من الأنبياء السابقين، وفيها عز للمسلمين وحـث على السعي لمنازل الرفعة والرقي في الدارين بتعاهد مناسك الحج والفرائض مطلقاً.
قال السدي:[ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ] يعنيان العرب ([140]).
ترى لماذا قيدت الآية إسلامهما بأنه لله عز وجل الجواب إنه مرتبة زائدة على الإسلام كالإيمان، فبعد أن رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت طاعة لله وإظهاراً لحسن إسلامهما وإختتام بناء صرح البيت بالدعاء والتوسل ورجاء القبول والثناء على الله عز وجل[رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]([141])، وصدور هذا الفعل والثناء من مقامات الإيمان سألا الله أن يكونا مسلمين له أي منقادين مطيعين لأوامرك وحكمك اللهم ولم يحصر الدعاء بنفسيهما بل أشركا معهما المسلمين والمسلمات.
لقد إبتدأت الآية بالتضرع والمسكنة والإنقياد إلى الله تعالى من قبل إبراهيم وإسماعيل بدعائهما (ربنا) وما يدل عليه من التنزه من مفاهيم الشرك ومع هذا كان سؤالهما هو[وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ] وتلك آية في الفناء في مرضاة الله، وعشق مقامات العبودية والحرص على لزوم عدم مغادرتها، فبعد بناء البيت بمعاني الهدى والجهاد ورجاء القبول من عند الله سألا الإسلام لإرادة إستدامة الإيمان وعدم مغادرة منازل التقوى.
لقد أرادا التوفيق من الله للإمتناع عن الإفتتان خصوصاً وأنهما في زمان شرك وضلالة وإبراهيم عليه السلام حديث عهد من النجاة من قوم نمرود ونجاته من الحطب والنار التي أرادوا حرقة بها.
(وأخرج عبد بن حميد عن سليمان بن صرد وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن إبراهيم لما أرادوا أن يلقوه في النار، جعلوا يجمعون له الحطب فجعلت المرأة العجوز تحمل على ظهرها، فيقال لها: أين تريدين؟ فتقول: أذهب إلى هذا الذي يذكر آلهتنا . فلما ذهب به ليطرح في النار{قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} فلما طرح في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل فقال الله: {يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} فقال أبو لوط وكان عمه إن النار لم تحرقه من أجل قرابته مني فأرسل الله عنقاً من النار فأحرقته)([142]).
وتبعث الآية معاني الفخر والعز والرضا في نفوس المسلمين لنيلهم مرتبة الإسلام والإنقياد لله تعالى وهو من مصاديق قوله [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]([143])، إذ يفتخر الأنبياء بمنزلة ودرجة الإسلام والفوز بها، ويسألان الله عز وجل الثبات عليها، إن سؤال إبراهيم وإسماعيل الإسلام بعد بلوغ مرتبة النبوة لا يدل على أن الإسلام أعلى مرتبة بل النبوة وهي أشرف مرتبة بين الخلائق كلها .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إتخذني الله عبداً قبل أن يتخذني نبياً)([144]).
وتبين الآية الإلتقاء بين الأنبياء وعامة المسلمين بالإسلام والإنقياد إلى الله عز وجل وأن هذا الإنقياد نعمة عظيمة تستحق السؤال والدعاء وفي التنزيل[قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ]([145])، أي بالنبوة والإسلام والحكمة والإنقطاع إلى الدعاء، فكانت آية البحث بذاتها من المنّ الإلهي على كل من إبراهيم وإسماعيل والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات من ذريتهم ومن الناس جميعاً.
مفهوم الآية
ان توسل وتضرع الأنبياء لنيل درجة الإسلام دليل على رفعتها وما فيها من العز والشرف والإرتقاء فالآية تبين ان صفة (مسلم) نعمة عظيمة بذل تدعو إلى الوسع والتضرع وحسن المسألة والإستعانة به تعالى لبلوغ مرتبتها كما انها تبين جانباً من مفاهيم الإسلام وهو الإنقياد الحسن للأمر الإلهي والتزام الإمتثال لأحكام التنزيل، وفيه حجة على غير المسلم ودعوة للجميع للمبادرة الى الإسلام والإنصياع لأحكام النبوة.
ولم ينس الأنبياء السؤال للذرية والدعاء لتثبيت البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ذريتنا) وقد تقدم في آية الإمامة ان ابراهيم uسأل الإمامة لذريته بقوله (ومن ذريتي) وهنا جاء السؤال باسلام الذرية ليواظبوا على أداء مناسك الحج، وليكونوا اتباعاً وانصاراً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته.
ولفظ (امة) يدل على الكثرة والتعدد والتعاقب في الذرية وهو اعجاز وكأن ابراهيم واسماعيل عليهما السلام اطلعا على احوال الأمم وكثرة وابناء محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبني اسرائيل الذين هم من ذرية ابراهيم uدون اسماعيل.
وتبين الآية شرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحيازته لدعاء ابراهيم واسماعيل عليهما السلام معاً وفي آية واحدة وتلك خصوصية ينفرد بها فلم يرد دعاء اشترك فيه نبيان يتعلق بنبي آخر الا في هذه الآية ومصداق ذريتهما معاً هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أمة في الصلاح والهداية والخير المحض.
وقوله تعالى [وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا]
يدل في مفهومه على أن مناسك الحج جاءت لإبراهيم uبالوحي وعن طريق الملائكة فما نؤديه من الطواف والسعي والوقوف بعرفة والهدي والمبيت في منى إنما هو تنزيل.
وسؤال الأنبياء التوبة من الله عز وجل آية تأديبية تحث المسلمين على الإستغفار والإنابة وحجة على الكافرين خصوصاً الذين يتباهون بالنسب الى ابراهيم كبني اسرائيل بلزوم التوبة واتباع النبوة.
وفي ختم الآية بقوله تعالى [وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ] أمور:
الأول: ترغيب الناس جميعاً باللجوء الى التوبة.
الثاني: الوثوق برحمة الله تعالى.
الثالث: درء اليأس والقنوط عن النفوس الخاطئة.
الرابع: التوسل بالله تعالى بصفة الرحمة رجاء قبول مطلق الدعاء الوارد في الآية الكريمة وليس فقط سؤال التوبة والمغفرة، وفيه لجوء اليه تعالى مما ورد في الآية قبل السابقة من العذاب الشديد للكافر بقوله تعالى[قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]([146]).
سواء كان الدعاء الوارد في هذه الآيات مرتباً ترتيباً زمانياً بصورة مطابقة لترتيب هذه الآيات او لعموم خشية الأنبياء والمؤمنين من العذاب الشديد واليم النار والتجائهم الى الله عز وجل للنجاة منها.
وتبين الآية الإنقطاع الى الله تعالى بالدعاء والتضرع كما انها تؤكد حرص الأنبياء على ابنائهم وذرياتهم، وهذا الحرص على شعبتين:
الأولى: تولي اعدادهم مباشرة والتأكد من سلامة دينهم.
الثانية: الدعاء لهم بالهداية والصلاح والإسلام.
مباشرة الإعداد محصورة بالأبناء الصلبيين او هم واولادهم دون الأجيال اللاحقة من الذرية التي لا تدرك الأب وتأتي بعد وفاته فهؤلاء لا سلطان أو تأثير للأب عليهم إلا بالدعاء والوصية، وبالنسبة للشعبة الأولى تجلى الإعداد في اسماعيل uفقد أشركه إبراهيم uمعه في جهاده وتلقى معه دروس الصبر.
وبالنسبة للثانية جاء الدعاء صريحاً ويتضمن شمول الابن الصلبي بالدعاء، إذ أن دعاءهما إنحلالي أي أن ابراهيم uيقول ومن ذريتي أمة مسلمة لك، وكذا إسماعيل يقول ومن ذريتي فيدخل إسماعيل في دعاء ابراهيم uلأنه من ذريته.
والآية وموضوع الدعاء مدرسة في باب الدعاء وإعتباره (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء، وعن أنس بن مالك قال: أن الدعاء مخ العبادة)([147])، إن بلوغ مرتبة الإيمان والنعمة الإلهية بحسن السمت والهداية لا يحولان دون المواظبة على الدعاء الإلحاح في المسألة ورجاء الإستجابة.
الآية لطف
لقد خلق الله الإنسان لعبادته المقرونة بالإمتحان والإبتلاء، وجعل له طريقاً للنجاة والتوفيق وهو الدعاء وليس من طريق أوسع وأسرع من الدعاء إذ أنه يصل ما بين الأرض والسماء حين صدوره ليس ثمة وقت قصير أو طويل .
ويجتهد العلماء في إيجاد ما هو أسرع من الصوت، والدعاء هو الأسرع من كل شيء فحالما يظهر العبد حاجته تصل إلى الله، قال تعالى[قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ]([148]).
وتدل آية البحث على سماع الله عز وجل لدعاء إبراهيم وإسماعيل والإستجابة له وأن من معاني صفة (السميع) لله عز وجل أن كل ما يستحق لا يغادره ولا يفارقه.
ومن اللطف الإلهي في الآية الكريمة حب الأنبياء للإسلام ورجاء عدم هجران منازله، وفي قوله تعالى[وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى] ورد في حديث أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ألا أخبركم لم سمّى الله إبراهيم خليله الذي وفى لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى {سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون})([149]).
وتكرر حرف العطف الواو في الآية أربع مرات ليتخلل ثنايا الدعاء ويكون كالفاصلة والعلامة الدالة على تعدد المسألة والتسليم بعظيم قدرة الله، والثقة بالإستجابة من إحسانه وجوده، وجاءت ثلاث مسائل للنفس والذات، وواحدة للذرية إلا أنه لا يمنع من شمول الذرية بذات الفقرات وسائل الدعاء الأخرى ولم يكن تكرار الدعاء للذرية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من تحصيل ما هو حاصل لتعدد الموضوع، فقد سألا في هذه الآية إنقيادهما والذرية للأوامر الإلهية ليكون من ضمنها دعوة الناس للإقرار بالنعم والنهل من الفيض الإلهي.
إفاضات الآية
الآية درس وموعظة للمسلمين والناس جميعاً برجاء وسؤال الأنبياء الإسلام والبقاء عليه وعدم مغادرة منازله كيلا يضرهم الذين من حولهم من أهل الشرك والضلالة، ولأن البقاء الفردي على الإسلام دعوة للجماعة والطائفة لدخوله لأنه حق وواجب جلي تتلقاه القلوب بالقبول، وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله حين نزلت هذه الآية { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } : إذا أدخل الله النورَ القلبَ انشرحَ وانفسحَ . قالوا : فهل لذلك من آية يعرف بها؟ قال : الإِنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والإِستعداد للموت قبل نزول الموت([150]).
لقد تضمن القرآن دعوة إبراهيم وإسماعيل لتبقى بلفظها وموضوعها ومصاديق الإستجابة لها حية غضة إلى يوم القيامة، في كل يوم تكون هناك شواهد لذات المسألة والإستجابة، فان قلت كيف تكون شواهد متجددة لذات المسألة وقد إنقضى زمان صاحبي الدعوة قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والجواب من وجوه:
الأول : تلاوة المسلمين لآية البحث ومضامين دعاء إبراهيم وإسماعيل.
الثاني : كأن المسلم والمسلمة في تلاوتهما لآية البحث يؤمنان على دعاء إبراهيم وإسماعيل ويقولان (آمين).
الثالث : وجود أمة عظيمة من المسلمين مصداق متجدد لدعوة إبراهيم وإسماعيل.
الرابع : توجه المسلمين بالشكر لله على نعمة الإسلام.
وتبعث الآية على سكون النفس إلى الإسلام والرغبة فيه ، فمن أسرار دعاء إبراهيم وإسماعيل جذب الناس إلى التدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وترغيب الناس بالتوبة ولزوم السعي إليها , وطرد النفرة من دخول الإسلام
وسئل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أرأيت أعمالنا هذه أشيء قد فرغ منه أم أمر يستأنفه؟ فقال : بل شيء قد فرغ منه . فقالوا : ففيم العمل إذن؟ قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له)([151]).
لقد أظهر إبراهيم وإسماعيل الإنكسار والخشية والرجوع المطلق إلى الله عز وجل، وإرتحلا إلى الدعاء وهو أعظم المقامات وأحسن القربات، والزاد النافع في الدنيا والآخرة.
لقد أخبر إبراهيم وإسماعيل عن إستدامة حاجتهما وذريتهما والناس إلى رحمة الله ولطفه وإحسانه، فسألا من فضله حدوث النبوة الخاتمة في ذريتهما، فجاء الفضل الإلهي بنبوة محمد صلى الله عيه وآله وسلم وبما هو أعم من مسألتهما إذ أنه مبعوث للناس جميعاً كما ورد في التنزيل[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]([152])، وتلك آية في بديع صنع الله من غير أن يتعارض هذا العموم مع دعوة إبراهيم وإسماعيل.
لقد أظهر إبراهيم وإسماعيل الخضوع والخشوع والذل لله عز وجل، وتجلت المسكنة في ماهية المسألة , وحب البقاء على الإسلام الذي هو نعمة عظيمة على العباد، وفيه ترغيب للناس بالإسلام، ودعوة للإقتداء بسنتهما ومعاني الحنيفية .
وفي قوله تعالى[إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]([153]) قال ابن عباس : نزلت في جندب بن زهير العامري، وذلك أنه قال للنبّي صلى الله عليه وآله وسلم إنّي أعمل لله، فإذا اطّلع عليه سرنّي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تعالى طيّب لا يقبل إلاّ الطيب ولا يقبل ما شورك فيه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال أنس : قال رجل : يا نبي الله، إنّي أُحب الجهاد في سبيل الله، وأُحب أن يُرى مكاني، فأنزل الله: {قُلِ} يا محمد: {إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}: خلق آدمي مثلكم قال ابن عباس: علّم الله رسوله التواضع لئلا يزهو على خلقه)([154]).
ومن أسرار تعلم النبي التواضع المنع من غلو الناس فيه، والحرب على الشرك والضلالة، فإذا كان النبي متواضعاً منقاداً لله عز وجل فمن باب الأولوية أن يكون غيره من الناس وإن كان سلطاناً متواضعاً لا يرضى بالغلو فيه، ومن الآيات في المقام أن حج بيت الله الحرام كل عام سلامة وواقية من الغلو والإستكبار والغرور والطغيان , ويتضمن الحج أفعالاً تؤكد بالقول والفعل عبودية وذل وإنقياد وفد الحاج مجتمعين ومتفرقين لله عز وجل.
عن الإمام الباقر عليه السلام: أما إن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله قالوا: يا رسول الله نخاف علينا النفاق، فقال: ولم تخافون ذلك؟ قالوا: إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كأننا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الاولاد ورأينا العيال والاهل يكاد أن نحول عن الحالة التي كنا عليها عندك، حتى كأنا لم نكن على شئ، أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه واله: كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا، والله لو تدوموا على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء ولولا أنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقا حتى يذنبوا ثم يستغفروا الله فيغفر لهم، إن المؤمن مفتن تواب، أما سمعت قول الله عزوجل: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]([155]) وقال: [وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ]”([156])([157]).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بنداء الدعاء واللجوء والإستجارة(ربنا) ليعلم الابن إسماعيل وغيره من الناس أن إبراهيم خليل الله يشاركهم في الدعاء وهو وإياهم بمرتبة واحدة في العبودية لله عز وجل وأن من مصاديق شكره لله تعالى إذ أنجاه من نمرود والقوم الظالمين أن قام ببناء قواعد البيت الحرام وترك لإبنه وذريته سلاح الدعاء وسؤال الحاجات من الله عز وجل، ولم يكتف إبراهيم وإسماعيل بصيرورة الدعاء تركة بل جاءا به على نحو الشركة فليست هي شركة في عمل وصناعة بل في القربة إلى الله، قال تعالى[يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ]([158]).
ومن الإعجاز في الآية الجمع بين القول والعمل في السعي في مرضاة الله فبعد أن رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت سألا الله أن يقبل منهما العمل
بعد النداء والدعاء بقول (ربنا) جاء السؤال والطلب يتقدمه حرف العطف الواو (واجعلنا) ترى لماذا لم تقل الآية (ربنا إجعلنا) الجواب من وجوه :
الأول : إتصال الدعاء مع السؤال في الآية السابقة.
الثاني : العطف على قول (ربنا تقبل منا) في الآية السابقة.
الثالث : التسليم والغبطة بأن الله عز وجل يعطي المتعدد والكثير في آن واحد، لذا لم يكتف إبراهيم وإسماعيل بمسألة واحدة.
الرابع : تضمن الدعاء في الآية السابقة رجاء قبول العمل أما هذه الآية فجاءت بسؤال مراتب من التقوى.
الخامس : الإلتفات إلى النعم العظيمة التي يتفضل بها الله تعالى في آن واحد، وتشمل الماضي والحاضر والمستقبل , قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]([159])، ومما يتعلق بالماضي سؤال التوبة والعفو، وبالحاضر قبول العمل وبناء البيت كما في الآية السابقة، وجاءت هذه الآية بالدعاء للحاضر والمستقبل.
الحاضر لإبراهيم وإسماعيل بالإنقياد التام لله، والمستقبل لهما ولذريتهما بالتقوى.
وفي الآية درس للمسلمين والناس جميعاً بأن يتجلى حب الأبناء والذرية بأمور:
الأول : إشراك الاب للابن معه في المناسك والأفعال العبادية.
الثاني : تحبيب طاعة الله للابن.
الثالث : تنمية ملكة التقوى عند الابن وتعليمه آداب الدعاء، وإعانته في إختيار مضامينه.
الرابع :يشب الابن على حقيقة وهي التساوي بينه وبين أبيه والناس في العبودية لله عز وجل والحاجة إلى طاعته والإنقياد له.
وفي قصة لقمان في القرآن مدرسة في تعليم الأبناء وإصلاحهم لأمور الدين والدنيا، وفي التنزيل حكاية عنه[يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ]([160])، وتحتمل النسبة بين مضامين الآية أعلاه والدعاء في آية البحث وجوهاً:
الأول : التساوي وأن الإسلام والإنقياد لأوامر الله يتجلى بما ورد في الآية أعلاه.
الثاني :نسبة العموم والخصوص من وجه، وأن هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
الثالث :بينهما عموم وخصوص مطلق، وهو على شعبتين :
الأولى : الإنقياد لله أعم من إقامة الصلاة والأمر والنهي في طاعة الله.
الثانية : ما أوصى به لقمان إبنه في الآية أعلاه هو الأعم مما ورد في دعاء إبراهيم وإسماعيل.
الرابع : نسبة التباين الموضوعي بين الآيتين.
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثالث أعلاه ودعاء إبراهيم وإسماعيل هو الأعم لشموله للعقيدة والفرائض والعبادات.
وبلحاظ التساوي في السؤال للذات والذرية وأنهما بعرض واحد فان إبراهيم وإسماعيل سألا ثبات الذرية في منازل التقوى فهما لا يرضيان للذرية أن يكون إيمانهما متزلزلاً فسألا الله عز وجل أن يجعله ثابتاً بلطفه وإحسانه ومدده لهم، ومنه نزول الملائكة يوم بدر وأحد والخندق وبخصوص يوم أحد ورد قوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]([161])، وفي واقعة الأحزاب ورد قوله تعالى[هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا]([162]).
ثم سأل إبراهيم وإسماعيل فضل الله برؤية المناسك فتجلت الإستجابة بنزول جبرئيل ليعلم إبراهيم المناسك وأخرج عن مجاهد قال: قال إبراهيم عليه السلام : رب أرنا مناسكنا . فاتاه جبريل فأتى به البيت فقال : ارفع القواعد . فرفع القواعد وأتم البنيان ، ثم أخذ بيده فأخرجه ، فانطلق به إلى الصفا قال : هذا من شعائر الله ، ثم انطلق به إلى المروة فقال : وهذا من شعائر الله.
ثم انطلق به نحو منى ، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة فقال: كبر وارمه. فكبر ورماه، ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى، فلما حاذى به جبريل وإبراهيم قال له : كبر وارمه. فكبر ورمى، فذهب إبليس حتى أتى الجمرة القصوى، فقال له جبريل: كبر وارمه. فكبر ورمى، فذهب إبليس وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئاً فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام ، فقال : هذا المشعر الحرام، ثم ذهب حتى أتى به عرفات قال : قد عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاث مرات . قال : نعم . قال : فأذن في الناس بالحج . قال : وكيف أؤذن؟ قال : قل يا أيها الناس أجيبوا ربكم ثلاث مرات ، فأجاب العباد لبيك اللهم ربنا لبيك ، فمن أجاب إبراهيم يومئذ من الخلق فهو حاج([163]).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، ومن وجوه النجاة من الإمتحان فيها اللجوء إلى الله والإستجارة به، وسؤال الإنقياد له سبحانه[وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ] من وجوه التوفيق في الإختيار، ليأتي بعده السؤال برؤية المناسك كمصداق الإسلام لله بالقول والعمل، ليكون من عطف الخاص على العام، والمصداق العملي على الكلي الطبيعي([164])، والمراد من المناسك هنا وجوه:
الأول : مناسك وأفعال الحج.
الثاني :مناسك الذبائح التي تنسك وتذبح لله عز وجل، وهذا قول مجاهد وعطاء([165]).
الثالث :ضروب العبادة وأوقات الفرائض.
وإذ سأل إبراهيم وإسماعيل الله عز وجل رؤية المناسك فقد تفضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهبط عليه جبرئيل وأنزل القرآن لبيان العبادات والفرائض والمناسك على نحو التفصيل، وفيه شاهد على تفضيله على الأنبياء.
وأختتمت الآية بسؤال التوبة والثناء على الله عز وجل بانه هو الذي يتوب على العباد وهو الرحيم الذي يرزقهم وينعم عليهم، لقد سأل إبراهيم وإسماعيل العفو عن الزلة، والتجاوز عن الذنب، وفيه موعظة للمسلمين بالإكثار من الإستغفار ورجاء التوبة وما يترشح عنها من الفضل الإلهي.
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان حقيقة وهي وجود أمة من الموحدين في كل زمان يعبدون الله ويكفرون بالطاغوت.
الثانية : تفشي الشرك والضلالة لا يمنع من وجود النبي والأنبياء الذين يدعون إلى الله عز وجل، فمع دولة نمرود فان إبراهيم يقيم شعائر الله هو وأسرته بعيداً عن بطشه, [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ]([166]).
الثالثة : تعليم آداب الدعاء والإبتداء بالمدحة والإقرار بعظيم مقام الربوبية (ربنا) وإختتام الدعاء بالثناء على الله عز وجل وإظهار التسليم بفضله وإحسانه، إذ جاءت آية البحث كلها حكاية عنه وتوثيقاً لدعاء إبراهيم وإسماعيل وأختتمت بالشكر لله المقرون بالمدح[إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ].
الرابعة : بيان حاجة الإنسان لملكة الإنقياد إلى الله عز وجل وصيرورتها نوع طريق للمبادرة لأداء الفرائض والمناسك وموضوعاَ لإستدامة ذكر الله، وواقية من الزلل والخطأ.
الخامسة :دعاء إبراهيم وإسماعيل للمسلمين، ودعوتهما الأبناء بالدعاء وحسن التأديب ووراثة مبادئ الإسلام وهي من أظهر معاني الإنقياد لله، ومن الإعجاز في آية البحث أنها تتضمن معاني تعليم وتلقين الأبناء بمحاكاة ومشاركة إسماعيل لإبراهيم في بناء البيت والدعاء للمسلمين، وإظهار الشوق لتعلم المناسك وتعاهدها بالأداء.
السادسة : تأكيد إمامة إبراهيم للناس في أمور الدين والدنيا ودعاؤه لنفسه وذريته، وبيان حقيقة وهي أن النبي والإمام يحتاج إلى الدعاء ويلجأ اليه.
السابعة : دعوة المسلمين إلى عدم التردد في سؤال التوبة، ومن خصائص الأنبياء اللجوء إلى الإستغفار وسؤال التوبة ورجاء العفة والرحمة والفضل من الله عز وجل، فسؤال التوبة ذاته طاعة وإنقياد إلى الله وتصاغر بحضرة الربوبية وأعلان للتقصير وإقرار بيوم الحساب، قال تعالى[وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]([167]).
الثامنة : مجئ وتعاقب هذه الآيات بدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام دلالات منها:
الأولى : بيان موضوعية الدعاء في حياة الأنبياء ولزوم التعلم والإقتداء بهم، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ]([168]).
الثانية : الإنتفاع من الدعاء في أمور الدين والدنيا، وبما فيه خير الذات والغير والذرية.
الثالثة : اللجوء إلى الدعاء لتحقيق الرغائب والأمن من الشر والأذى.
الرابعة : دعوة المسلمين للإلحاح في الدعاء واليقين بأن الله عز وجل لايخيب العبد ولا يعيد يديه صفراً فلابد وأن يعطيه ويرزقه في ذات موضوع الدعاء أو في غيره.
التفسير
قوله تعالى [رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ]
الجعل اذا تعدى الى مفعول واحد كان ظاهره الخلق والإيجاد، اما اذا تعدى إلى مفعولين كان ظاهره الحكم وتصيير الشيء على حال دون حال وإثبات صفة له، ويقسم الجعل الى قسمين الأول جعل بسيط ويسمى جعلاً إبداعياً، والثاني جعل مركب وهو الجعل المؤلف والإختراعي.
والجعل هنا يتعدى إلى مفعولين والإسلام في مناسبة الحال هو الإنقياد والخضوع ويبرز في أبهى معانيه بأداء فريضة الحج، وتعاهد مناسكه فبعد اكمال بناء البيت جاء الدعاء.
إن الإنصياع والإنقياد في الإمتثال في الأعمال العبادية ورفع القواعد من البيت يدل على الإسلام والإيمان فلماذا سؤال الجعل بعد ثبوت الصفة، انه طلب دوامها وايضاً سؤال الإسلام كعنـوان إنتزاعي بأداء المناسك فلا يجوز ترك ضرورة من الدين عن عمد .
وتبين الآية شمول احكام الإسلام للميادين المختلفة، وإلا فمن المسلمات أن ابراهيم واسماعيل مسلمان فلا يكون السؤال تحصيلاً لما هو حاصل، والآية ليست متروكة الظاهر كما قيل، بل هي انذار وتنبيه وارشاد للناس جميعاً فلا يعني الإسلام الإتيان بالشهادتين فقط ولا يجب ان يركن المسلم لأدائه بعض الفرائض العبادية دون بعض او الى التسليم بالقلب بالتوحيد والنبوة، بل لابد من الالتزام بأداء الفرائض وهو معنى التسليم والانقياد.
وسؤال الجعل لا يعني ايجاد الفعل عند العبد من غير ان تكون له قدرة على دفعه او الإمتناع عنه او السعي لحصوله وما يسمى بالجبر فالدعاء سؤال ورجاء وأمل ولا يعني ان العبد لا تكون له ارادة او اختيار فيه، بل ان مجرد السؤال سعي واختيار لقد سألا الإنقياد عن ارادة وادراك الى الله تعالى والإخلاص في العبادة في تأديب للمسلمين بالصدق والإنقطاع الى الله تعالى في فريضة الحج وبيان اهمية الإخلاص واليقين وترك الرياء في مناسك الحج.
ان وجود الجار والمجرور (لك) وتعلقهما بالإسلام يعني انه الإنقياد والخضوع للباري عز وجل في بيان موضوعية عدم الإنشغال اثناء مناسك الحج بغير الله تعالى واعتبار الإنقطاع له على نحو الإطلاق والدوام لنيل مراتب الثواب، وما تشريع تروك الإحرام ومكروهاته الا مصداقاً من مصاديق تمام الإنقطاع الى الله تعالى بعيداً عن الدنيا وزخرفها.
فتروك الإحرام تصل الى اربعة وعشرين تركاً منها صيد الحيوان البري، والإستمتاع بالنساء مطلقاً، والطيب في اللباس والفراش وغيرهما، ولبس المخيط للرجال، والنظر في المرآة للزينة، وازالة شعر البدن بالحلق او القص ونحوها، وتغطية الرجل رأسه، والتظليل في حال السير اختياراً، والحجامة، وقلع الضرس المفضي الى الدم، وتقليم الأظفار كلاً او بعضاً، ولبس ما يسمى سلاحاً عرفا،ً ثم جعلت عليها الكفارات بمراتب.
لقد توجه ابراهيم واسماعيل عليهما السلام بالدعاء لما يتعلق بافعالهما وما يتوقف على اختيارهما، وفيه وجوه :
الأول : خشية الإفتتان.
الثاني : البلوى وفتنة الظالمين.
الثالث : إدراك عجز الإنسان وعدم استغنائه عن الباري عز وجل.
الرابع : سؤال المدد والتوفيق.
الخامس : إظهار النية والقصد في الإخلاص في العبادة لتأتي الإعانة السماوية في الفعل العبادي واستدامته.
السادس : نفي الغرور عن النفس وسلب القدرة عنها، واظهار الذل والإنقياد للباري عز وجل، وان ما عند الإنسان من الهداية انما هو بفضله تعالى.
السابع : سؤال دوام الإسـلام اذ ان الأهم في الإيمان ان يكون مستقراً غير متزلزل.
الثامن : الدعاء مدرسة للموحدين وتأديب للناس وتعليم لهم بسؤال الإسلام والرشاد.
التاسع : ان الإسلام مرتبة عالية لا تنال الا بالسعي والدعاء، وان صدق الإنتماء للإسلام عنوان للرفعة والشرف والفضيلة.
العاشر : الآية ترغيب في الإسلام وحث عليه.
الحادي عشر : تعتبر الآية مناسـبة لشكـر الله تعالى على نعمة الإسلام التي يتنعم بها المسلمون، وهي دعوة للتدبر بفضله تعالى لهدايتنا للإسـلام، لقد جاهد ابراهيم واسماعيل من اجل نيل مرتبة المسلم، ولتكون ملازمة لنا منذ الولادة وتصدق على كل واحد منا قبل التكليف وبعده، وتصاحبنا في عالم البرزخ لتكون لنا وقاء، ومن اسـباب شكـر الوالدين وبرهما ان كانا العلة المادية لولادة المسلم ودخوله مضمار الحياة بهذا السمو والرتبة الرفيعة والعز الدائم.
الثاني عشر : لقد جاء السؤال من الأب والابن معاً وهو دعوة للآباء على إشراك ابنائهم معهم في الدعاء والمسألة ومناسك العبادة كي تكون لهم ميراثاً وعهداً ووصية وحرزاً.
والآية تفيد الحصر أي ان ابراهيم واسماعيل سألا الله عز وجل ان يكون اسلامهما له وحده لا لغيره، ويدل بالدلالة التضمنية على التنزه من عقائد الشرك واعلان اجتنابها ورفضها والإستعداد لتحمل المخاطر من اجل سلامة الدين والإخلاص في العبـادة لله تعالى، وهذا الدعاء الذي توجـه به ابراهيم واسماعيل عليهما السلام تجده عند المسلمين بهبة قرآنية وعبادية منه تعالى، ففي كل يوم يتوجه المسلمون في الصلاة بالذكر والدعاء[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]([169]) التي تفيد الحصر ايضاً لتقديم المفعول به، والعبادة متأخرة ولاحقة للإسلام كاعتقاد وشاهد عملي عليه، وحصر الإستعانة بالله تعالى لجوء اليه وتسليم بعظيم قدرته وسلطانه وهو من مصاديق إمتثال المسلمين لقوله تعالى[ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]([170]).
لقد جاءت سورة الفاتحة فضلاً ورحمة من الله تعالى على المسلمين، ويمكن القول بموضوعية دعاء ابراهيم واسماعيل [وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ] في ترديد المسلمين في مشـارق الأرض ومغـاربها لقوله تعالى [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] وتسليمهم بأمر الله وقضائه .
ويتضمن قوله تعالى[وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ] وجوهاً:
الأول : دعاء إبراهيم لنفسه.
الثاني :دعاء إسماعيل لنفسه.
الثالث : دعاء إبراهيم لإسماعيل وهو من تأديب الوالد لإبنه.
الرابع : دعاء إسماعيل لإبراهيم عليه السلام، وهو من البر بالوالد في حياته.
الخامس : دعاء إبراهيم وإسماعيل مجتمعين لابراهيم بالثبات في منازل الإيمان.
السادس :دعاؤهما معاً لاسماعيل عليه السلام بالإيمان.
قوله تعالى [وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمةً مُسْلِمَةً لَكَ]
دعاء وسؤال وتوسل بحفظ المناسك وبقاء الذرية على العبادة كل منها يحفظ ويتعاهد بالآخر من غير ان يستلزم الدور، لأن المشيئة والجعل لله عز وجل.
ترى لماذا هذا الحصر في السؤال والنبي يعم في دعائه لاسيما في حال الإشفاق، ومن اهم مصاديقه الإشفاق على الذرية، ومن وظائف النبوة الخاصة والعامة اشفاقه بالناس جميعاً وصلاح المجتمع والبيئة مما يساهم في صلاح الذرية، الجواب:
الأول : اما ان ابراهيم اطلع على انشطار الناس الى امم ومجتمعات وعقائد متعددة او لما تقدم في قوله تعالى [قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]([171])، والأرجح الثاني وما يترشح عنه من الدلائل , والأول مستقرأ منه.
الثاني : لأن بقاء بعض الذرية على الإسـلام كاف في التأثير على الآخرين ودعوتهم للهداية.
الثالث : انه سبيل سالكة في حفظ الشعائر والمناسك اذ ان الآية تبين ان رحمة الله أوسع وأعم من ان تنال بالدعاء وحده.
الرابع : ما تتصف به الذرية من افاضـات النبوة بسبب الانتساب الى النبي فتكون اقرب الى الهدى.
الخامس : عمومات قوله تعالى[وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ]([172])، والدعاء معروف واحسان خص به ذريته.
السادس : الاستجابة الضمنية والتي جاءت على نحو الموجبة الجزئية في قوله تعالى[قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] فلما علم إبراهيم u ان الإمامة ستكون في ذريته سأل لهم الإسلام كما سأله لنفسه.
السابع : البشارة بالنبي محـمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه الأمة المسلمة.
وبالنسبة للإحتمالين الأول والثاني فان احدهما مترشح عن الآخر، ثم ان الدعاء للذرية لا يمنع من ادراج الآخرين معهم بالتبع والواسطة فبحفظ الذرية لكلمة التوحيد وللنبوة، يتبعهم الناس على الفطرة واسباب الهداية.
والذرية ان كان المراد بها في الدعاء على نحو الإشتراك بين ابراهيم واسماعيل فهم العرب أو الأخص منهم، وان كان الدعاء على نحو التفريق فبينهمـا عموم وخصـوص مطلق فكـل من هو من ذرية اسماعيل هو من ذرية ابراهيم وليس العكس وقد يراد الأمران معاً، فحينئذ يكون العرب مشمولين بدعاء ابيهم ابراهيم وابيهم اسماعيل، اما بنو اسرائيل فيشملهم دعاء ابراهيم عليه السلام.
وظاهر الدعاء يفيد الحصر فيمن يكون من ذريتهما معاً بالإضافة الى القرائن وحفظ البيت، ويمكن أن نضيف قولاً ثالثاً وهو النظر للدعوة بالمعنى الأعم والتفريق أي في ذرية ابراهيم وحده وذرية اسماعيل ولكن بقيد الإسلام، فيشمل المسلم من ذرية ابراهيم سواء كان من عقب اسماعيل أو عقب اسحاق وربما الأعم ايضاً.
لقد بادر شطر من العرب بدخول الإسلام افواجاً، واهل الكتاب الموجـودون في الجـزيرة آنذاك بل وغيرهم لم يدخلوا جميعاً في الإســلام، بالإضــافـة الى ان الدعــاء جــاء على نحــو التبعيـض بقـولـه [وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا] منهم العرب ومن آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غيرهم ممن يرجع في نسبه الى ابراهيم الخليل واتخذ له انتماء آخر ثم عاد بالإسلام الى الإنقياد لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إن لغة الرجاء وصيّغ التعميم في دعاء الأنبياء وما اتصفوا به من الرأفة بالناس ودخول فئات وجماعات من مختلف الأنساب والأمم والشعوب الى الإسلام أمور ترجح النظر للدعاء بالمعنى الأعم وان لم تثبت الملازمة بين دخولهم واعتناقهم الإسلام وبين الدعاء في هذه الآية ولكن من الصعوبة ايجاد وجوه نفيها.
إن وجود الآثار الخارجية والبركات المتصلة لدعاء احد الأنبياء او دعاء يشترك فيه نبيان، يدل على ان النبوة حاضـرة في زماننـا بالإضافة الى السنن والسيرة بالدعاء والبركة، لقد تجلت بركات هذه الدعوة في بقاء التوحيد في الأرض وتعاهده فقد كان في اجـداد النبي صلى الله عليـه وآله وسـلم ومن ذريـة اسماعـيل من يـوحـد الله ولا يشــرك به شـيئاً لأن النـبي صلى الله عليه وآلـه وسـلم لم يتقلب الا في اصلاب الموحدين.
وذكر ممن كان يعبد الله في الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل، وقيس بن سـاعدة، وعبد المطلب بن هاشـم جـد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم ممن يقر بالتوحيد والثواب والعقاب يوم المعاد، كما ان الأشعار التي وثقت تلك الحقبة من التأريخ أكدت وجود عقيدة التوحيد، ودعوة ابراهيم واسماعيل مستمرة وحاضرة ودائمة والقرآن امضاها ووثقها.
فلا غرابة ان تجد من العرب من يتعاهد شعائر الدين ويحفظها ويخلص في عبادته ومعهم اهل الصلاح من الناس جميعاً ممن اعتنق الإسلام ديناً وصدق عليه بذلك انه من ذرية ابراهيم ايضاً بالفعل والإعتقـاد وانـه لم يكـن بالنسـب حصـراً، قال تعالى [ وَجَـاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ …]([173])، فالأبـوة مقرونـة ومعلقة ومبنية على الإسـلام، ومما لا ينكـر ان فـيهـا تشــريفـاً وعـنايـة بالـذريـة الطــاهـرة.
وقد يطلق عنوان الأمة على الشخص الواحد ممن حاز الكمالات او استطاع ان يجاهد بمفرده لتثبيت الشريعة او تحـدى افكـار الضلالة السائدة في زمانه وبلده.
والمعروف ان ابراهيم uله ولدان، اسماعيل وامه هاجر واسحاق وامه سارة، وجاء الدعاء في الآية على نحو الإشتراك وليس فيه تقييد بان الأمة المسلمة من ذرية اسماعيل، ولا يخرج اولاد اسحاق بالتخصص من موضوع هذه الآية،لأنهم أبناء إبراهيم ولأنهم نسبوا أنفسهم إلى إسماعيل بالبنوة وفي التنزيل حكاية عن أبناء إسرائيل[قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا]([174])، وقد أكرمهم الله عز وجل وفضلهم بنعم عديدة كما تجلى ذلك بالآيات السابقة .
ويمكن اجراء دراسة مقارنة وهي ان ذرية اسحاق نالت النعم العظيمة المتوالية ، وكذا ذرية اسماعيل التي سألت الإسلام وسعت من اجله وعاشت في اشق المواضع تعظيماً لشعائر الله تعالى وتعاهداً للمناسك وحفظاً للبيت الحرام.
و(من) تفيد التبعيض ولم يسـألا الإطلاق، والقرآن يفسر بعضه بعضاً وقد تقدم قوله تعالى [قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] فكأن دعاءهما تبرأ من الظالمين، ويحمل الدعاء على المعنى الأعم بخصوص افراد الزمان الطولية، لذا لم تخلو ذريتهما من الموحدين حتى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فالآية في ظاهرها حجة على ان آباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا كلهم من الموحدين يقرون بالثواب والعقاب ويتعاهدون البيت الحرام ولا يعبدون الأوثان.
ويحتمل لفظ الأمة والمقصود بها وجوهاً:
الأول : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : المقصود المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان([175]).
الثالث : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته.
الرابع : المراد المؤمنون من ذرية إبراهيم وبواسطته، وهو ظاهر الآية الكريمة.
الخامس : العموم في الدعاء ليشمل المسلمين والمسلمات جميعاً وإلى يوم القيامة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وهو من إعجاز اللفظ القرآني، قال تعالى في خطاب للمسلمين جميعاً[مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ]([176]).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أن لفظ أبيكم ورد في القرآن أربع مرات ثلاث في يوسف وأخوته أولاد يعقوب عليه السلام , ولم يرد لفظ(سماكم) في القرآن إلا في هذه الآية أعلاه ليكون هذا الاسم صادراً من الرسول إبراهيم وكنزاً مدخراً لأمة محمد، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([177]).
وتقدير الآية(ربنا واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك) وفي جهة صدور الدعاء وجوه :
الأول : دعاء إبراهيم للذرية.
الثاني :دعاء إسماعيل للذرية.
الثالث :إجتماع دعاء إبراهيم وإسماعيل في الدعاء للذرية.
والنسبة بين هذه الوجوه هي العموم والخصوص من وجه فيخرج إبراهيم من دعاء إسماعيل لأنه أبوه، وهل يخرج إسماعيل من دعائهما مجتمعين الجواب ينحل الدعاء إلى قسمين إذ أن إجتماعهما في الدعاء لا يخرج إسماعيل من دعاء إبراهيم عليه السلام.
قوله تعالى [وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا]
سؤال الرؤية هنا يحتمل ثلاثة معان:
الأول: العلم ومعرفة الشرائع واحكام الحج.
الثاني: الرؤية البصرية والإطلاع على المناسك.
الثالث: الرؤية البصرية والعلم معاً.
والأصح هو القول الثالث وان ضعفه بعض العلماء بانه يقتضي حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز معاً، فهذا الجمع على فرضه من إعجاز اللفظ القرآني , إنما هو النظر للمعنى الأعم للآية وبلحاظ احكام الحج ومناسكه، فانها تستلزم التعلم والرؤية معاً خصوصاً مع موضوعيتها في العبادة وتعدد المواقف والأفعال في الحج، وتقييد اكثرها بلزوم اتيانهـا في مواضـع معينة، والى الآن تجـد طالب العلم لا يستطيع اتقان دراسة احكام الحج الا بحضور الموسم ومشاهدة المواقف والسعي والطواف.
والنسك: بسكون الســين او ضمها، اداء الفعل العبادي والتقرب الى الله عز وجل باتيان الأعمال الصالحة مع قصـد القربة ورجاء رضاه تعالى، والأقوى ان الصيام يسمى نسكاً، والنسك: الذبيحة، والذبيحة التي يهرق دمها بمكة تسمى النسيكة.
والآية دعوة للتعلم مطلقاً، ولتعلم مناسـك واحكام الحج خاصة، لذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (خذوا عني مناسككم)([178])، وظاهره ان المراد من المناسـك افعال الحج، ولكنه لا يمنع من شمول مواضعه بالآية للملازمة بين افعال الحج ومواضعه.
واضافة المناسك لضمير المتكلم له دلالات خاصة فلم يقولا: أرنا مناسك الحج، او أرنا المناسك على نحو التعريف والإطلاق، لقد أرادا ان يتعلما كل ما يجب عليهم اتيانه وفعله من العبادات والفرائض وليس الحج وحده خصوصاً وان صدر الدعاء جاء بسؤال الإسلام.
ويمكن القول ان الدعاء اعم من ان ينحصر بابراهيم واسماعيل عليهما السلام وان الضمير يعود لهما ولذريتهما المسلمة، وترى الإستجابة في تعاهد العرب للمناسك واداء الحج الى ان بعث الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأراه جبرئيل المناسك.
كما تبين الآية ان الإسلام عقيدة وعمل ومنسـك، وتدعو الى التشوق الى العبادات والفرائض والإنجذاب اليها والحرص على ادائها، وانها رحمة وفضل يجب المحافظة عليه وتعاهده بحسن الإمتثال وعدم التفريط بها.
وذكر ان قراءة عبد الله بن مسعود: (وارهم مناسكهم وتب عليهم)([179])، أي شمول الآية للذرية، والقراءة المكتوبة في المصاحف هي الأصل وعليها مدار الحكم، كما انها اعم بلحاظ لغة الجماعة.
ويحتمل قوله تعالى(وأرنا) وجوهاً:
الأول : إختصاص إبراهيم وإسماعيل بالدعاء، وسؤال رؤية المناسك.
الثاني : لحاظ النبوة وأن الدعاء يشمل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بدليل الآية التي بعدها[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ]([180]).
الثالث : المراد إرادة المسلمين جميعاً مناسك الحج بواسطتهما والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن.
ولا تعارض بين هذه الوجوه فيدل نظم الآية على إرادة التثنية والذات بالدعاء.
قوله تعالى [وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ]
من اسمائـه تعالى (التواب) أي انه سبحانه يقبـل توبة عبـده ورجوعه عن الذنب، واصل التوبة ان العبد ينيب الى الله ويرجع عن المعصية الى الطاعة يقال تاب الى الله يتوب توباً وتوبة ومتاباً، ولكن ليس من ملازمة بين توبة العبد ورضا الله عز وجل عنه الا ان يتفضل سبحانه ويعود عليه بالمغفرة والعفو فيقال تاب الله عليه، كما وعد سبحانه[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]([181]).
انه المدح والثناء على الله تعالى وهو طريق مبارك ومدخل لقبول المسألة فالتواب لفظ يدل على المبالغة ويعني التعدد والكثرة في قبول التوبة، كلما يتوب العبد يتفضل سبحانه بالتوبة والمغفرة كما انه يعني عظيم فضله بقبول التوبة من الذنوب العظيمة وغفرانها، خصوصاً وانه ليس من ذنب في المقام بل جهاد وبناء وسعي في مرضاته وانقطاع اليه بالدعاء، انها مدرسة النبوة بالدعاء لا عن ذنب ولكنه خضوع وتذلل لمقام الربوبية وتأديب للناس في المبادرة للإستغفار والتوبة واظهار الندم والخشوع.
لقد أدرك ابراهيم uوبما فتح الله عليه من آفاق المعرفة الإلهية وأسرار النبوة [ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ]([182]) حاجة الناس جماعات وافراداً الى الإسـلام وترسيخ وجـوه العبادة فشّفع بناء البيت بالدعاء لحفظ المناسك بصلاح جيل من الناس وهم الأقرب له وللإيمان.
ولقد ثبت في علم الأصول بأن شكر المنعم واجب فهل من شكر في المقام، الجواب نعم، لقد أراد ابراهيم قيام ذريته واعقابه بحفظ لواء التوحيد شكراً له تعالى على ما أنعم عليه، بل وعليهم من خلاله وعلى نحو الاستقلال وتوالي النعم مع الإيمان ومن ذلك بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد وصف القرآن ابراهيم بأنه أمة , قال تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا]([183])، وبما ان ما عند الأنبياء هو عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو أمة، فيمكن ان يكون الدعاء أيضا سؤال ولادته وإشراقة بعثته .
وقد نعت ابراهيم uفي الآية بأنه قانت، وفي هذه الآية نعتت الأمة بالإسلام وهو عقيدة ومبادئ واحكام وأعم من القنوت، لذا فأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد الأنبياء والرسل، وهذا التأويل لا يمنع من شمول الدعوة للمسلمين كأنصار واتباع وحفظة للمناسك لاسيما وان الدعوة لم تنظر الى زمـان دون زمـان، وقيل [ كَانَ أُمَّةً]([184]) أي إماماً، والنبي يسأل ويرجو ويدعو بالمعنى الأعم والأوفى لأن الله عز وجل أكرم من ان يعطي بالأقل والأدنى والمتحد.
وباعتبار ان المراد بالأمة هم من أرسل اليهم نبيهم سواء كانوا كفاراً او مؤمنين، وان امـة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هم العرب من آمن منهم ومن كفر وكذا كل من آمن به واتبعه من الناس جميعاً، فهم أمته بالأولوية لتقديم الإسلام ورجحان الإيمان على الإلتقاء البعيد بالنسب والأبوة، فيكون دعاؤهما سؤالاً لاسلام من يؤازر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وينصره ويفوز بالهداية والصلاح.
لقد سأل ابراهيم واسماعيل التوبة والمغفرة للمسلمين جميعاً وان تكون مناسك الحج مناسبة للعفو الإلهي، والآية تشير الى وجه من وجوه الرحمة الإلهية في فلسفة الفرائض والأعمال الجهادية، وهي استثمارها مناسبة للدعاء وتعميم الدعاء للذين ينتهجون ذات السبيل.
لقد انتفع ابراهيم واسماعيل من امرين كبرى وصغرى، فالكبرى هي القاعدة الكلية بانه تعالى هو التواب الرحيم، والصغرى ساعة الإمتثال والطاعة من منازل القدوة في الجهاد والسعي،كما تبين الآية جانباً من المعارف النظريـة التي تتجـلى بالبنـوة ليستفيد المسلمون من مرتبة الخليل التي رزقها الله عز وجل ابراهيم عليه السلام، ولتكـون هذه النعمة عندهم بدعائه لهم ومصاحبة هذا الدعاء لهم في مناسك الحج، كما ان التوبة والمغفرة طريق لدوام أداء الحج، ومقدمة كريمة ونتيجة لعمومات قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ]([185]).
ومن الوجوه التي ذكرت في (الكلمات) في قوله تعالى[وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ]([186])، ورد عن مجاهد(إن الله تعالى قال لإبراهيم: إني مبتليك يا إبراهيم، قال: تجعلني للناس إماماً؟ قال نعم، قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين، قال: تجعل البيت مثابة للناس؟ قال: نعم، قال: وأمناً؟ قال: نعم، قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك؟ قال: نعم، قال: وأرنا مناسكنا وتب علينا؟ قال: نعم، قال: وتجعل هذا البلد آمناً؟ قال: نعم، قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن؟ قال: نعم، فهذه الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم)([187]).
لقد جاء دعاء إبراهيم بالإسلام والإنقياد لأوامر الله خاصاً بالذرية وعلى نحـو التبعيض (ومن ذريتنا) أما خاتمة الآية فجاءت بالثناء على الله عز وجل بأنه التواب الرحيم، وفيه وجوه:
الأول: تفيد خاتمة الآية السؤال لعموم ذرية إبراهيم وإسماعيل بالمغفرة والعفو.
الثاني: إنه خاص بإبراهيم وإسماعيل بلحاظ المتعلق (وتب علينا).
الثالث: جاءت خاتمة الآية للثناء على الله عز وجل والإقرار بصفاته الحسنى.
ولا تعارض بين هذه الوجوه خصوصاً وأن السؤال أعم من الإستجابة نعم قد يقال أن النبي لا يدعو لغير المسلم، ولكن المدحة والثناء نوع توسل لهداية الذرية عموماً والناس بواسطتهم , وتوبة الله على العبد تعني صلاحه.
والتوبة أعم من أن تتعلق بذنب مخصوص حال أو تقادمت عليه الأيام، فقد تكون تأكيداً للتنزه عن الذنوب والإعراض عن المعاصي وأهلها، وفي إعلان وتكرار التوبة إجتهاد وسعي لإيجاد حالة إستقرار وسكينة في النفس الإنسانية بتعادل طرفي الرجاء والخوف من الله عز وجل.
لقد ثبت في مباحث علم الكلام ان الإمامة لطف من الله وهو ما يقرب العبد الى الطاعة ويبعده عن المعصية كما تعني ارشاد الناس الى الصلاح وتنحيتهم عن الفساد، فمن وجوهها إفشاء الإستغفار وجعله حالة مستديمة وسلوكاً شائعاً متعارفاً عند الناس.
وفي توبة إبراهيم وإسماعيل وذكرها في القرآن وتلاوة المسلمين لها مع تسليمهم بتنزههم عن الذنوب والمعاصي ليكون من منافع الآية إدراك المسلمين للإطلاق في سؤال المغفرة من الله وعدم القنوط أو اليأس من مغفرته ورحمته سبحانه، ومن أسمائه تعالى(الغفور) و(الغافر) و(الغفار) وفي التعدد في الأسماء الحسنى في باب المغفرة دعوة للناس للإجتهاد في الإستغفار والأمل والأمن بالفوز بالمغفرة، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]([188]).
قوله تعالى[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] الآية 129.
الإعراب واللغة
ربنا: منادى مضاف، والضمير مضاف إليه، إبعث: فعل طلب مبني على السكون، والفاعل ضمير مستتر تقديره انت، فيهم: جار ومجرور يتعلقان بابعث ويجوز معه ان يكونا في موضع حال بتقدير محذوف أي رسولاً فيهم.
رسولاً: مفعول به، منهم: جار ومجرور وهو صفة لرسول.
يتلو: فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، والجملة في محل حال أو صفة لرسول.
عليهم: جار ومجرور متعلقان بيتلو، آياتك: مفعول يتلو، الكاف: مضاف اليه، ويعلمهم: عطف على يتلو، (هم): مفعول به أول، الكتاب: مفعول به ثان، الحكمة: عطف على الكتاب، يزكيهم: عطف على يعلمهم.
إنك أنت العزيز الحكيم: إنك: إن وإسمها، أنت: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ.
العزيز: خبر أول، الحكيم: خبر ثان.
ويجوز أن يكون الضمير ضمير فصل لا محل له من الإعراب، التواب الرحيم : خبران لإن.
وبعثه يبعثه بعثاً: أرسله، والبعث: الرسول([189]).
والتزكية: التطهير من دنس الخطايا وسوء الفعل(والزكاة: الصلاح ورجل تقي زكي أي نراك من قوم أتقياء أزكياء) ([190]).
(الحكيم: هو المحكم لخلق الأشياء صرف عن مفعل إلى فعيل)([191]).
ولكن المعنى أعم فهو المحكم للأشياء والحكيم في إتقانها، وهو سبحانه خلق الأشياء وتعاهدها وهو الذي ينعم على الخلائق بالرزق بحكمته.
في سياق الآيات
الواو في الجملة الفعلية (ابعث) تدل على العطف، أي ان هذه الآية تتضـمن شطراً من دعـاء ابراهيم وتضـرعاً من اجـل ذريته، وتؤكـد للذين يفتخرون بالانتساب لإبراهيم uبانه ادخـر دعوتـه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وان الاسلام ليس فيه الا الهدى والرشاد.
وفي الصلة بين هذه والآية السابقة[رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ…]([192]) مسائل:
الأولى : إبتدأت كل من الآيتين بنداء الخضوع والخشوع لله(ربنا)وفيه دلالة على الإتحاد والإشتراك في الدعاء ومراتب التقوى والصلاح، وهو شاهد على تفويض إبراهيم وإسماعيل أمورهما إلى الله عز وجل.
الثانية : تتضمن الآية السابقة مسائل تتعلق بالحاضر وحياة ومنهاج إبراهيم وإسماعيل، أما هذه الآية فأنها تضمنت الدعاء للمستقبل لزمان ما بعدهما، ويحتمل علم إبراهيم وإسماعيل أن المدة بينهما وبين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً:
الأول : يعلمان أن المدة نحو ألفي سنة، وأنها كما حصلت في الواقع على نحو المطابقة.
الثاني : ترجيح قرب زمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن المدة أقصر بكثير وأنهما يسألان للذرية القريبة والبعيدة في نزولها وعمودها رحمة الله بتلاوة الآيات وتعلم الكتاب والحكمة.
الثالث : الظن بأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتأخر كثيراً عن زمانها وأوانها.
الرابع : أوان بعثة النبي محمد صلى الله وآله وسلم من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وتفضل سبحانه وجعل علامات وأمارات عليها.
الخامس : يتضمن سؤال إبراهيم وإسماعيل رجاء تقريب بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والأرجح هو الرابع والخامس.
الثالثة : لما سأل إبراهيم وإسماعيل الله عز وجل في الآية السابقة بأن تكون أمة مسلمة من ذريتهما، جاءت هذه الآية بالدعاء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين ظهرانيهم مع بيان خصائص نبوته من وجوه:
الأول : تلاوة آيات القرآن على الأمة لذا ترى النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم حينما تنزل الآية يتلوها على الصحابة كما يصعد المنبر ليقرأ ويبين الآيات كتنزيل وهبة من الله.
الثاني : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم الأمة الكتاب والتنزيل.
الثالث : إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأمة في مسالك الخير، وطرق الهداية.
الرابع : سؤال عظيم المنزلة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بتطهير المسلمين بقيادتهم في سبل التوبة والصلاح، قال تعالى[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا]([193]).
الرابعة : إختتام كل من الآيتين ودعاء إبراهيم وإسماعيل فيهما بالثناء على الله وذكر إسمين من أسمائه الحسنى، ففي الآية السابقة ورد قوله تعالى[إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] وفي هذه الآية[إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] وفيه مدرسة في آداب الدعاء والتضرع لقبوله والرجاء للإستجابة.
فلما سألا الله التوبة عليهما مع الثناء على الله تعالى بإنه التواب على العباد، وأنها يرجوان رحمته أيضاً، وحينما ذكرا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من الإفاضات وكنوز العلم والإرتقاء للأمة في سبل المعرفة إختتما الدعاء[إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] لأن في الإستجابة لدعائهما صلاح الذرية وسلامة النفوس من أدران الشرك والضلالة.
وحينما أخبر الله عز وجل الملائكة بأنه[جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]([194])، إحتجت بإفساد الإنسان في الأرض، فقال سبحانه[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]([195])، فمن علمه تعالى رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت ودعاؤهما لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونشره لسنن العبادة في الأرض.
ترى لماذا لم تقدم الآيات دعاء إبراهيم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على سؤال الأمة المسلمة من الذرية الوارد في الآية السابقة، الجواب لقد أراد الله عز وجل أن يبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مع وجود بقايا الحنيفية وعدد من الموحدين من قومه وأهله لذا قيل أنه تنقل في أصلاب الموحدين وليس من آبائه من هو مشرك.
الخامسة :بعد إبتداء الآية السابقة وهذه الآية بالدعاء بصيغة النداء (ربنا) جاء حرف العطف الواو والسؤال بالجملة الفعلية مع التباين في موضوع الدعاء، فتوجه الدعاء للذات (واجعلنا) وفي آية البحث قصدت الذرية ورجاء إرتقائها في سلم المعارف الإلهية (وابعث فيهم) وفيه شاهد على الإلحاح في دعاء إبراهيم وإسماعيل لتكون الأرض بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حديقة ناضرة بابهى معاني الإيمان الذي يأتي معه بالرزق الكريم ويكون برزخاً دون نزول العذاب بأهل الأرض، وروى ابو سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة قالت : كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حصيراً يصلّي عليه من الليل، فتسامع الناس به، فاجتمعوا فلمّا تكثر جماعتهم، كره ذلك وخشى أن يكتب عليهم قيام الليل، فدخل البيت كالمغضب، فجعلوا يتنحنحون ويشتغلون حتّى خرج إليهم، فقال: يا أيُّها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإنّ الله لا يملّ من الثواب حتّى تملّوا من العمل وإنّ خير العمل أدومه وان قلّ فنزلت عليه : {يا أيُّها المزمّل* قم الليل}([196]).
فكُتبت عليهم وانزلت بمنزلة الفريضة حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق به، فمكثوا ثمانية أشهر، فلمّا رأى الله ما يكلّفون ويبتغون به وجه الله ورضاه رحمهم فوضع ذلك عنهم فقال : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} الآية. فردّهم إلى الفريضة ووضع عنهم قيام الليل إلاّ ما تطوعوا به([197]).
بحث بلاغي
القوة في معاني الآية وجزالة ألفاظها آية اعجازية تظهر عجز الناس عن الإتيان بلفظـة بديلـة عن كل لفظـة من ألفـاظ الآيـة وهو المسـمى (بالفرائد) من علوم الفصاحة، فكل لفظ من الآية بمنزلة الجوهرة في أصالتها ومناسبتها وانفرادها بحسن وبخصوصية لا مثيل لها، وتلك الصعـوبة في الإتيـان بمثلهـا في محلها متعلقة بالبشر وبالفصحاء من وجهين:
الأول: الإعجاز في فصاحة القرآن مثل ما هو في بلاغته التي هي اعم من الفصاحة ولها خصال ثلاث تجمع الكلام:
الأولى : ان يكون صواباً في موضوع اللغة.
الثانية : مطابقة المعنى المقصود منه .
الثالثة : الصدق في نفسه.
الثاني: ما لا يحاط به من قبل الناس وهو الأسرار الكامنة في هذه اللفظة ومحلها ونسقها وعدم صلاحية غيرها فيه، ولعل موضع تلك اللفظة والكلمة القرآنية مفتاح لعلوم ومسائل متعددة ومدخل لمعارف إلهية.
إعجاز الآية
يتجلى الإعجاز الغيري لهذه الآية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإظهار مقام دعـوة النبي عند الله عز وجل بل وأهمية الدعاء مطلقاً لذا ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم انا دعوة ابي ابراهيم وبشارة عيسى)([198]).
ومن اعجازها ان ابراهيم واسماعيل يعلمان بانتشار ذريتهما في مكة والهضاب المجاورة لها وانهم اهل لبعثة نبي بينهم او انهما سألا بقاء النبوة والأهلية لها وان تلك النبوة ستكون ذات كمال موسومة بتلاوة آياته تعالى وتطهير الذرية، ومن التزكية والتطهير عدم التعدي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتكذيب أو على انصاره واتباعه بالظلم والتشريد أو القتل كما فعل غيرهم.
ويتضمن نظم الآيات إعجازاً إضافياً بتعدد وجوه الدعاء وحرص إبراهيم وإسماعيل على تكرار النداء(ربنا) والذي يدل على حال الخشوع والخضوع ومعاني الرجاء والإقرار بأن الأموركلها بيد الله، ولم يكن في زمان إبراهيم ذرية لإسماعيل ومع هذا جاء الدعاء مركباً من بعثة رسول في وسط أمة من ذرية إبراهيم وإسماعيل، ويحتمل وجوهاً:
الأول: إن الله عز وجل أخبر إبراهيم بأنه ستكون له ذرية تملأ الحرم وفجاج مكة .
الثاني: لقد دعا إبراهيم عليه السلام عز وجل بأن يجعل من ذريته أمة مسلمة وعلم أن اللهٍ عز وجل إستجاب دعوته.
الثالث: هذا الدعاء تتمة للدعاء في الآية السابقة الوارد في قوله تعالى(ومن ذريتنا أمة مسلمة لك).
الرابع: من خصائص الإمامة تقييد الدعاء للأمة بسؤال بعثة النبي.
الخامس: إن الله عز وجل أطلع إبراهيم على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فسأل الله أن يكون من ذريته وهذه الآيات مدرسة في التكامل في الدعاء وموضوعية السلامة في الدين في دعاء الأنبياء فإنهم يدعون بالصلاح والهداية والرشاد لذرياتهم والناس جميعاً.
وتبين الآية تطلع الأنبياء لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون هذه النبوة من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة بأنه يعلم ما يعلمون عندما قالوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]([199]) فالله عز وجل يبعث فيها الأنبياء ويجعل في الأرض أمة تتلقى التنزيل، وتتعلم أمور الدين , أمة طاهرة زكية إمامها سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الإعجاز أن الآية التي تخبر عن دعاء ومسألة إبراهيم وإسماعيل ومضامين هذا الدعاء هي ذاتها التي تتضمن على نحو جلي إستجابة الله عز وجل لهما في دعائهما لبيان حقيقة وهي إستجابة الله لدعاء الأنبياء .
وهل تنحصر هذه الإستجابة بخصوص دعائهم للأنبياء أيضاً كما في دعاء إبراهيم وإسماعيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب إنها أعم وأشمل بلحاظ أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لطف وفضل على الناس والخلائق، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]([200]).
ومن إعجاز القرآن أن يذكر فيه دعاء النبي أو الإنذار أو الوعيد ثم يأتي بالإستجابة أو المصداق العملي فجاءت الإستجابة لدعاء إبراهيم وإسماعيل من وجوه:
الأول : مجيء الآيات التي تخبر عن تحقق ما سأله إبراهيم ولكن بالمعنى الأعم والأكبر من مضمون الدعاء وهو عموم إشراقة الإسلام ،
قال تعالى[هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]([201]).
الثاني : تضمن الآية الكريمة وموضوع الدعاء الدلالة على الإستجابة.
الثالث : مجيء الوقائع والأحداث مرآة وترجمة فعلية لمضامين ودلالات الآية القرآنية، وهذه المرآة جلية متجددة كل يوم.
ومن فضل عز وجل أن الوظائف العقائدية والمنافع العظيمة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن يشملها دعاء وإن كان صادراً من نبي أو أنبياء، وفيه موعظة للمسلمين بالإجتهاد في الدعاء مع الرجاء والأمل بأن الإستجابة تكون أعظم وأطول وأكثر كيفاً وكماً وهو من مصاديق قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]([202])، أي أن الإستجابة لا تنحصر بموضوع السؤال بل تكون أكبر وأوسع، وهل هو من عمومات قوله تعالى[مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ]([203])، الجواب لا، وبينهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هو أن الإستجابة والثواب من فضل الله وسعة رحمته وعظيم إحسانه.
وتبين الآية أن الله عز وجل هو الذي يختار الأنبياء ويهيئ لهم أٍسباب النجاح قال تعالى[اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ]([204])، وتدعو الآية إلى التفقه في فلسفة الدعاء وسؤال التفصيل لأن الله عز وجل واسع كريم فقد سأل إبراهيم وإسماعيل أن يكون النبي المبعوث في ذات الذرية ومنهم وليس من غيرهم، وهل يدل التبعيض في الآية[رَسُولاً مِنْهُمْ] على خروج النبي مع وجود أمة من الموحدين من ذرية إبراهيم الجواب نعم فقد سأل إبراهيم وإسماعيل بقاء وتواتر وإتصال عقيدة التوحيد في الذرية إلى حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويدل بالدلالة التضمنية على رجاء إصلاح الذرية وقوم النبي بأن ينصتوا له ولا يبطشوا به، بعده سألا قيام النبي بتلاوة الآيات على قومه ويدل بالدلالة التضمنية والإلتزامية على أمور:
الأول : نزول الآيات من عند الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن معجزاته لاتكون حسية فقط، بل تكون عقلية أيضاَ تتجلى بالآيات وهو الذي تدل عليه نسبة الآيات لله عز وجل[آيَاتِكَ].
الثاني : هذه النسبة رأفة إضافية بالذرية وسؤال لتثبيت الإعجاز في الأرض، وصيرورة آيات التنزيل حجة وبرهاناً باقياً إلى يوم القيامة.
الثالث : من أسرار قوله تعالى[آيَاتِكَ] أن تلك الآيات لا تغادر الأرض لأن الله عز وجل إذا أنعم على أهل الأرض بنعمة فانها تبقى في الأرض لأنه هو الكريم ولملكيته المطلقة , قال تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]([205]).
الرابع : تثبيت معالم التوحيد بآيات الله، وإستدامة حضور سماوي في الأرض سواء بذات الآيات أو بنزول جبرئيل بها.
الخامس : إختيار النبي من ذرية إبراهيم وإسماعيل على محو التعيين، ولم تحصر الآية رسالته بهم، ولكنها قالت أنه يبعث فيهم ويكون منهم ودلالة على قيامهم بدعوة الناس للإسلام , وعن أبي أمامة قال: قلت، يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال : دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام([206]).
ويمكن أن نسمي هذه الآية بآية (رَبَّنَا وَابْعَثْ) ولم يرد هذا لفظ في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
في الآية منافع متعددة منها ما يتعلق بالمسلمين ومنها ما يتعلق بغيرهم، ومن الأول انها بشارة لهم وعون وإخبار عن توفيق إلهي لفرائض الإسلام وان النبوة التي بين ظهرانيهم مشفوعة بدعاء الأنبياء السابقين، ولعل في ذكر دعوة ابراهيم واسماعيل في القرآن نوع إخبار عن الإستجابة لها، ومن الثاني اعلام بني اسرائيل وغيرهم بما قام به ابراهيم uمن اجل المسلمين.
إبتدأت الآية بالنداء (ربنا) وهو وحده عنوان للتوسل، وأمارة على التضرع، ومقدمة تعبدية للمسألة، وبلغة لبيان الحاجة وفيه شاهد بأن إبراهيم وإسماعيل يدركان أن أمور الخلائق بيد الله عز وجل، وهو القادر على إنجاح الطلب والمسألة.
لقد جاءت خاتمة الآية السابقة بسؤال التوبة والعفو من عند الله، أما هذه الآية فتضمنت سؤال بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإبتدأت بالنداء والتوسل، والله عز وجل يسمع الدعاء وإن لم يتكرر لفظ(ربنا) ولماذا تكرر في هذه الآيات، فيه مسائل:
الأولى: بيان كثرة التوسل الإستجابة.
الثانية: إن الله عز وجل يحب من عباده الإلحاح في الدعاء والمسألة، ويكره السلاطين وأصحاب الجاه والناس عامة الإلحاح والإلحاف في المسألة المتحدة أو المتعددة والمتجددة، ولكن الله عز وجل يحب الإلحاح في المسألة لأنه شاهد على اللجوء إليه، وإلحاح إبراهيم وإسماعيل في الدعاء وكثرة النداء من مصاديق قوله تعالى[وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ]، فمن التسليم لله عز وجل اللجوء إليه، والإستغاثة به، والإقرار بأنه رب الخلائق كلها، وبيده أمورها.
الثالثة: لقد سأل إبراهيم وإسماعيل سبيل النجاة للناس جميعاً ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاء السؤال بصيغة التضرع والمسكنة.
الرابعة: جاء سؤال إبراهيم وإسماعيل متعدداً في موضوعه بما يفيد إحتراز المسلمين من السيئات والذنوب.
الآية لطف
لقد جاءت الآية قبل السابقة بالفعل العبادي الجهادي المقرون بالدعاء من قبل إبراهيم وإسماعيل، ثم جاءت الآية السابقة بدعائهما لنفسيهما وذريتهما بالإسلام والإنقياد لله عز وجل .
وتضمنت هذه الآية الدعاء للذرية والناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه غاية الإكرام لنبوته من قبل الأنبياء السابقين، ويدل على تسليمهم بأهليته لهذا الإكرام ما في آية البحث من بيان للوظائف العقائدية العظمى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي إنفرد بها من بين الأنبياء والرسل في تلاوة الآيات وهداية الناس إلى سبل الحكمة ونيلهم مرتبة التطهير والتزكية في الدنيا والآخرة ببركة نبوته .
مفهوم الآية
تبين الآية حرص الأنبياء على بعثة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفتهم بموضوعيتها واعتبارها في دوام بقاء لواء التوحيد في الأرض وخلاص الناس من الحجب الظلمانية ونجاتهم من عذاب النار وتظهر الآية في مفهومها ادراك الأنبياء ضرورة بعثته والحاجة النوعية اليها وان الناس لم يحتاجوا نبياً فقط بل رسولاً بشريعة متكاملة لأن النبي يدعو الى الرسول الذي سبقه والشريعة التي جاء بها وان كان يوحى اليه، اما الرسول فهو صاحب شريعة ويبعث للناس جميعاً كما في بيان الفرق بين الرسول والنبي .
ويدل ظاهر الآية على تكامل الشريعة الإسلامية وارتقاء المسلمين عن غيرهم بالتلاوة الكتاب والحكمة والطهارة الظاهرية والمعنوية والروحية، أي ان النظر الى الآية لا ينحصر بموضوع الرسالة بل بما تخلقه من عالم جديد يمتلئ بالإيمان والصلاح ويمتلك الواقية الكافية.
وورد لفظ(إني رسول الله إليكم) ثلاث مرات في القرآن مرتين في عيسى عليه السلام وخطابه لبني إسرائيل، والثالثة في خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس من غير تقييد أو حصر بأمة دون أخرى، قال تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]([207]).
وتدل مضامين هذه الآيات على أفضيلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على من سبقه من الرسل، فابراهيم uمن الرسل الخمسة اولي العزم يقوم ببناء قواعد البيت الحرام ويشاركه فيه ابنه نبي الله اسماعيل، والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يثبت بناء البيت عقائدياً الى يوم القيامة بجهاده والمسلمين.
فمن مفاهيم الآية ان ابراهيم واسماعيل عليهما السلام ارادا دوام بناء البيت وعلما انه لا يدوم ولا يصح الا ببعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والواقع والتأريخ يؤكدان هذه الحقيقة، فما من نبي الا وقد حج البيت الحرام ودعا قومه الى حجه وعمارته.
إلا ما قيل بخصوص هود وصالح، وتقدم بيانه، وإستدل على التراخي في الأمر وليس الفورية بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يحج حجة الإسلام عام تسع بل آخر إلى عام عشر وفيه مسائل:
الأولى : قد يكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أدى حجة الإسلام قبل الهجرة، وهو الأرجح خصوصاً وأنه كان يطوف على الناس أيام الموسم والعشر سنوات يدعوهم إلى الإسلام والتصديق بنبوته وتمت في السنتين الأخيرتين منها بيعتا العقبة.
الثانية : وجود عوائق في السنة التاسعة إذ كان الكفار يطوفون بالبيت عراة، ونزل بعده قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]([208]).
الثالثة : إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يفعل إلا ما يأمره الله عز وجل، قال تعالى[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]([209]).
الرابعة : قيل أن فرض الحج كان عام تسع وهو عام الوفود ومن الوفود التي قدمت فيه نصارى نجران إذ صالحهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبه نزل قوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]([210]).
ولم يتعاهد الحج الا اهل الإسلام اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضله وكرمه تعالى وهو من افاضات تلاوة الآيات فتلاوتها من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعني عملهم بها واستجابتهم لما فيها من الأوامر واجتنابهم لنواهيه، وهذه الإستجابة تترشح من تعلمهم الكتاب واصول الحكمة والمعرفة، فتعلم الحكمة يجعل النفوس مستعدة لنيل المعارف الإلهية وفهم حقيقة الحياة الدنيا وزوال زخرفها وسرعة انقضاء ايامها , وهي مانع دون غلبة الشهوات والميل الى الهوى.
لقد اراد ابراهيم واسماعيل عليهما السلام تكامل السجايا الحميدة عند المسلمين ليكونوا مؤهلين لخلافة الأرض وحفظ البيت الحرام وعمارته خصوصاً وان الدعاء ورد عند رفع قواعده فلابد من موضوعية له وعمارته في مصاديق وافراد الدعاء، وتوسل بعزته وقوته وغلبته سبحانه لأن تأهيل الأمة لخلافة الأرض يحتاج الى مدد غيبي ابتداء واستدامة كي يستطيعوا حفظ البيت الحرام ومنع التعدي عليه.
لقد لاذا بحكمته تعالى وحسن تقديره للأمور وبديع صنعه في زمان البعثة وكيفية اظهار الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على الدين ونصره على اعدائه في تضرع يتضمن الإعتراف بالعجز عن الإحاطة بتفاصيل بعثته مع سؤال الأفضل في وسائل تثبيتها وعز المسلمين ودوام حياتهم في امن وسلام عند البيت الحرام وهي بيان لمنافع الدعاء الإجمالي وتفويض الأمر بالباري عز وجل.
لقد اظهرت الآية حب الأنبياء للمسلمين والأمل في تعاهدهم لكلمة في الأرض ووراثتهم السنن الحميدة وما نزل من عند الله عزوجل من الكتب والشرائع.
الآية من الشواهد على صيرورة المسلمين[ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([211])، بما تتضمنه من الدعاء للمسلمين بالتفقه في الدين والسلامة من الكدورات الظلمانية، وتدل الآية على النسخ في الشرائع، والتكامل التدريجي في أحكامها وسننها، فقد جاءت بالسؤال المتعدد لتفقه المسلمين في الدين، وحسن إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإنتفاع الأمثل من بعثته الشريفة.
لقد أراد الله عز وجل للقرآن أن يكون معصوماً من التحريف والتبديل والتغيير، فجعل الأنبياء يدعون ويسألون بتوسل إشراقة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلقي المسلمين لنبوته بالتصديق والتنزيل بالقبول والتلاوة، والحفظ والتدبر في مضامين الآيات، والعمل بما فيها من الأحكام والسنن .
لقد كانت وظيفة الأنبياء تثبيت كلمة التوحيد في الأرض وجذب الناس إلى منازل الإيمان ولمّا لاقوا الصدود والأذى من قومهم سألوا الله تلقي قوم محمد دعوتهم بحسن القبول والتصديق.
ومن مفاهيم الآية أنها بشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من وجوه تفضيله على الأنبياء الآخرين بأن يبشر به كبار الأنبياء، ويتوسلون إلى الله ببعثته ويرجون لأمته خير الدنيا والآخرة، وتبين الآية حاجة الأمة لرسالته وما تتضمنه من الأحكام لقوله تعالى(وأبعث فيهم) وهو من مقدمات بعثته , فكانت بعثة النبي محمد في أم القرى، ومن أشرف بيوتات قريش وفي الآية مسائل:
الأولى: جاءت الآية بتمامها حكاية عن إبراهيم وإسماعيل.
الثانية: الآية دعاء وسؤال لله عز وجل.
الثالثة: يتصف الدعاء في هذه الآية بالإطلاق والعموم، وإرادة التفقه والتعلم للمسلمين.
الرابعة: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس، وسبيل لهدايتهم، وطريق لنجاتهم من العذاب في الآخرة، وتتجلى هذه النجاة بتعلم الكتاب والحكمة، وتلاوة الآيات.
الخامسة: قدمت الآية تلاوة الآيات وفيه وجوه:
الاول : تتضمن التلاوة الأحكام التكليفية والأوامر والنواهي.
الثاني : بيان موضوعية القرآن في هداية الناس.
الثالث : حاجة الأجيال المتعاقبة من الناس للقرآن.
الرابع : الآية شاهد على أن القرآن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : نسبة الآيات وصدورها إلى الله عز وجل لقوله تعالى[يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ]([212]).
السادس : دعوة الناس للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يبلغهم آيات الله عز وجل، قال تعالى[فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ]([213]).
السابع : منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله بأن إختاره لتلاوة الآيات .
الثامن : حث المسلمين والناس جميعاً بعدم التفريط بأي آية من القرآن لأنها آيات الله، ويجب إتخاذ كل واحد منها نبراساً وموعظة وسبيلاً للهداية والرشاد.
التاسع : عدم خشية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكفار، فهو يتلو الآيات على الناس ويبلغهم الأحكام .
العاشرة : تبعث الآية الشوق في النفوس لسماع الآيات ، والتدبر في مضامنيها ومعانيها القدسية .
الحادية عشرة : الآية دعوة إلى الناس على شعبتين:
الأولى : تطلع الأجيال والأمم السابقة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى طلعته البهية، والأيام المباركة لبعثته لذا كان المليّون يتوارثون البشارة ببعثته، ويحرصون على متابعة علامات قرب وإشراقات زمانه.
الثانية: تلقي الناس في أيام بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما بعدها نبوته بالتصديق، والإنصات للآيات وتلاوتها.
الثانية عشرة: دعاء إبراهيم وإسماعيل لدفع الغفلة والجهالة عن الناس، من وجوه:
الأول: تلاوة الآيات إرتقاء في المعارف، وإنقداح للبصيرة وهو من أسرار الأمر بتبيان القراءة في قوله تعالى[وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً]([214]).
الثاني: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للناس للتدبر في الآيات التي جاء بها من عند الله.
الثالث: سلامة آيات القرآن من التحريف والتبديل، إذ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يتلو إلا آيات الله عز وجل كما ينزل بها الملك من غير تبديل، ليتصف القرآن بخصوصية وهي أنه(مُؤتمن) أي الأمانة محفوظة ووديعة سالمة في كل زمان، قال تعالى[نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ]([215])، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسمى الصادق الأمين، وهل في حفظ القرآن ثناء على المسلمين، الجواب نعم ويمكن أن يسمى المسلمون(الأمة الأمينة) لتعاهد القرآن وحفظه من التحريف والتبديل، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([216]).
الرابع: تعلم المسلمين الكتاب بعد حال الجهل التي كانوا فيها.
الخامس: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرب على الأصنام وأسباب الشرك والضلالة فقوله تعالى(ويعلمهم الكتاب والحكمة) يدل على السلامة والتنزه من الوثنية والجهالة.
الثالثة عشرة: بيان الوظائف العقائدية العظيمة التي يقوم بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ تدل مضامين الآية على إنتقال الناس بنبوته من الضلالة إلى الهدى، ومن الجحود إلى الإيمان.
الرابعة عشرة: الآية من الشواهد على أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية عقلية بخصوص الآيات التي جاء بها، ومواضيع نبوته ودلالات رسالته العقائدية والعملية.
لقد تضرع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى الله عز وجل بإصلاح أهل الأرض وعمارة المسجد الحرام وإقامة شعائر الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة عشرة: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرب على المعاصي والفواحش، وفيها تهذيب للنفوس وتتجلى فيها الأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: بعثت لإتمم مكارم الأخلاق)([217]).
السادسة عشرة: لقد أراد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إستدامة كلمة التوحيد في ذريتهما وفي الأرض، فتوجها بالدعاء إلى الله عز وجل للسؤال ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن فيها إنقاذاً للناس من براثن الجهالة والضلالة.
السابعة عشرة: إختتام الدعاء بالثناء على الله عز وجل والطمع في الإستجابة، وفيه آية في الخشوع والخضوع لله عز وجل لتبدأ وتختتم الآية بإظهار الإنقياد لله عز وجل، ورجاء فضله.
إفاضات الآية
وتبين الآية حقيقة وهي إنعدام العوائق بين العبد والدعاء حبل صلة برحمة الله عز وجل، ومصداق للإنقطاع إلى الله، وتظهر تعلق روح إبراهيم وإسماعيل بالعالم العلوي وعدم الخشية من الغوائل وأسباب الضرر والمكائد.
ويتبين في الآية الإلحاح في الدعاء والمواظبة في المسألة وعدم القنوط مع الحرص على الإعتقاد الجـازم بان الحكمة الإلهية تقتضــي تأخير الإستجابة وانه تعالى احاط بكل شيء علماً، عن الصــادق عليه الســلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحم الله عبداً طلب من الله عز وجل حاجة فألح في الدعاء استجيب له او لم يستجب وتلا هذه الآية [ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا]([218]).
ومن منافع الإلحاح في الدعاء انه يكون واقية مما هو اسوأ من احوال الضيق والشدة ونحوه كما انه وجه من وجوه الإيمان ومظهر من مظاهره، والأخبار في استحباب الإلحاح في الدعاء متعددة لما لهذا المورد من اهمية خاصة، وايضاً ذكر انه في زبور داود: (يقول الله عز وجل يا ابن آدم تسألني وامنعك لعلمي بما ينفعك ثم تلح علي بالمسألة فاعطيك ما سألت)([219]).
تقديم الصــدقة عند الشــروع بالدعــاء فانها بـاب لنزول الرحمة والتقرب الى الله، (وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي)([220]).
ومن الإلحاح وتكرار الثناء على الله وتعظيم مقام الربوبية، وعن ابن عباس وأبي الدرداء أنهما كانا يقولان: اسم الله الأكبر: رب، رب) ([221]).
ويستحب الإجتماع في الدعاء، كما في الآية , فانه اقرب الى الإستجابة لتعدد السائل والإلتقاء في المسألة والحاجة، (وروي ان الله عز وجل اوحى الى عيسى عليه السلام: يا عيسى تقرب الى المؤمنين ومرهم ان يدعوني معك)، وهو باب لإتساع رقعة الدعاء وشموله للآخرين ومناسية لبعث وتنمية سجايا الصلاح والهداية.
التأمين([222]): على الدعاء فانه مشاركة في الدعاء وسؤال الحاجة وتوسل اضافي وتوكيد للطلب وعنوان للصدق في المسألة، وفي المرسل عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : دعا موسى وأمن هارون وأمنت الملائكة فقال الله تعالى: [ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا]([223])([224]).
التضرع الى الله وسؤاله باسمائه الحسنى لما فيها من الثناء على الله عز وجل وتعظيمه، وهي سلاح لفتح ابواب السماء بالإضافة الى بعثها اليقين في القلب وما تحتله من ذكره تعالى على اللسان بادب العبودية، بالإسناد عن الرضا عن ابيه عن آبائه عن علي عليه السلام قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لله عز وجل تسعة وتسعون اسماً من دعا الله بها استجيب له ومن احصـاها دخل الجنة، قال الله عز وجل [ وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]([225])).
وفي الإعتداء الذي ورد ذمه في قوله تعالى [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ([226]) قيل (هو رفع الصوت بالدعاء، والصياح في الدعاء مكروه وبدعة) ([227])، ولا دليل على هذا التفسير، نعم يكون الصياح بالدعاء مكروهاً بالعنوان الثانوي وما يسببه الصياح من الأذى، وقد يكون الدعاء بصوت عال أمراً راجحاً بلحاظ القرائن والمنافع الحالية.
وقيل بكراهة الإسهاب في الدعاء، وعن النبي صلى الله عليه وسلم ” سيكون قوم يعتدون في الدعاء ، وحسب المرء أن يقول : اللَّهمّ إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل([228]).
وهل في قوله (فاني قريب) دعوة للدعاء بإخفات خصوصاً مع قوله تعالى [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً]([229])، الجواب لا، فان المراد من القرب سماع الله عز وجل للدعاء مطلقاً سواء كان علناً أوخفية وأنه سبحانه يتفضل بالإستجابة ، وهو سبحانه ليس بمكان ، لأن المكان عنوان الحاجة ، والله غني ومنزه عن الحاجة.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى : الإقبال الروحي والبدني على الدعاء برغبة وشغف وطرد الملل والضجر فيه.
الثانية : هداية الناس لأن يحبوا لأبنائهم ما يحبون لأنفسهم من الإيمان وعمل الصالحات.
الثالثة : بيان حقيقة وهي أن الجد لا يترك الأحفاد، فحينما يكون للابن أبناء لا يتخلى عنهم الجد فيتعاون الأبوان معاً في صلاحهم لذا ورد في الفقه وجوب النفقة عل الأبوين وإن علوا، والأبناء وإن نزلوا مع يسار المنفق وشرط العجز والعسر في المنفق عليه، فلو قدر بالفعل أو القوة فليس من وجوب.
وهل سأل إبراهيم وإسماعيل السعة في الرزق والمال، الجواب نعم ولكن بالواسطة إذ أن إيمان وإنقياد الذرية لأوامر الله باب وطريق لجلب الرزق الكريم، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]([230])، ويحب الله عز وجل من العبد كثرة الدعاء وقد سأل إبراهيم الرزق لأهل مكة كما ورد في التنزيل[اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ]([231]) .
وجاءت الآيات بما يؤكد أن الجد أيضاَ أب، قال تعالى[ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا] ([232]).
الرابعة : الإطلاق في الدعاء وطلب ما هو قريب وبعيد، وخاص وعام.
الخامسة : بيان حقيقة وهي أن من مقدمات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعاء الأنبياء السابقين.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بالدعاء المشترك لإبراهيم وإسماعيل بقول(ربنا) الذي يدل بالدلالة التضمنية التسليم بأن مقاليد الأمور بيد الله عز وجل فبينما جاءت الآية السابقة بدعائهما لنفسيهما وللذرية جاءت هذه الآية بالدعاء على وجوه :
الأول : الدعاء للذرية والأبناء .
الثاني : التضرع ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : عموم المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
الرابع : سؤال الرحمة للناس جميعاً وتتجلى الرحمة الإلهية في المقام بقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]([233])، وهل لإبراهيم وإسماعيل نفع في الدعاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الجواب نعم ففيه ذكر حسن لهما في الدنيا وإقرار أمة عظيمة بنبوتهما ورفع القواعد من البيت والأجر والثواب وعظيم المنزلة في الآخرة بسبب الدعاء والجهاد في سبيل الله وما يترشح من الثواب من عمل الأبناء الصالحات وهو من المعنى الأعم لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له([234]).
وذكرت الآية تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآيات على أهله وقومه مع بيان أنها من عند الله، كما أنها تدل بذاتها على هذه الحقيقة، وهل تختص التلاوة بأهل زمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنها شاملة للأجيال المتعاقبة.
الجواب هو الثاني فإن حفظ القرآن بآياته وتلاوة المسلمين له من مصاديق دعاء إبراهيم وإسماعيل وهو من أسرار وجوب القراءة في الصلاة على نحو الوجوب .
وبعد تلاوة الآيات سأل إبراهيم وإسماعيل تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الكتاب ومضامين التنزيل والحكمة وأسباب التوفيق في أمور الدين والدنيا.
لقد تضمنت الآية وجوهاً:
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : سؤال تقييد البعثة بأنه بين الذرية ومنهم وليس من قوم آخرين.
الثالث : نزول الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بتلاوتها على قومه وعدم خشيته من الكفار والظالمين، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ]([235]).
الرابع : تعليم النبي الذرية الكتاب، ولم يبعث في ذرية إبراهيم من العرب إلا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وكانوا أمة أمية فدعا لهم إبراهيم لأن الحكمة إذا جاءت من السماء وعلى لسان النبي فأنها أعظم نفعاً وتجد من الناس القبول والرضا.
الخامس : يعلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذرية والمسلمين مطلقاً الحكمة وأحكام الشريعة، وهذا التعليم من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([236]).
السادس : تطهير بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأمة وتهذيبها، وبعثها البركة والنماء في الذرية والرزق الكريم، فقد تفضل الله بنبوته لتفيض وتتجلى منافع وبركات أكثر من أن تحصى وهي متجددة إلى يوم القيامة منها.
وقد يأتي الفعل والموضوع الواحد من هذه الوجوه التي سألها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما في أداء الفرائض وتعاهدها، وكما في القضاء على الوأد ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ تضمنت تلاوة آيات الله النهي عنه بآيات منها قوله تعالى[وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]([237])، وبالسنة النبوية.
والوأد في قريش قليل، وكان زيد بن عمرو بن نُفيل يحيي المؤودة يقول للذي يريد قتل إبنته: أنا أكفيك مؤونتها فلا تقتلها، فيأخذها فإذا شبّت , قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤونتها، وكان صعصعة بن معاوية وهو جد الفرزدق الذي أدرك الإسلام فأسلم يفدي المؤودة وبه إفتخر الفرزدق في شعره:
ومنّا الّذي منع الوائداتْ وأحيا الوئيد فلم تُوءَد([238]).
وحدث غير الوأد من كان يأتي على عبد الله أبي النبي لولا حفظ الله، إذ نذر عبد المطلب في الجاهلية إن رُزق عشرة أولاد يذبح عاشرهم قرباناً للكعبة، فكان العاشر هو عبد الله أبا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفي خبر أنهم لما بلغوا عشرة دعاهم إلى الوفاء بنذره فأطاعوه واستقسم بالأزلام عند(هُبل) الصنم وكان في جوف الكعبة فخرج الزلم على إبنه عبد الله , فأراد أن يذبحه فسعت قريش في إيجاد فداء له، وركبوا إلى عَرافة بخيبر، وأخبروها فقالت: قربوا صاحبكم وضعوا عشراً من الإبل ثم أضربوا القداح فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا في الإبل حتى يرضى ربكم ففعلوا , وكل مرة يخرج القدح على عبد الله فيزيد عبد المطلب عشراً من الإبل حتى بلغت مائة، فخرج القدح عليها فنحرها.
وهذا الخبر شائع، وعلى فرض صحته فلا موضوعية لقول العّرافة، وتعدد المرات التي يخرج منها القدح على عبد الله، إنما هو محض إنفاق وهو أمر يختلف عن فداء إسماعيل من وجوه:
الأول : جاء الأمر بذبح إسماعيل برؤيا للنبي إبراهيم ورؤيا النبي وحي وفي التنزيل[قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى]([239]).
الثاني : لا موضوعية لنذر عبد الله لإشتراط كون متعلقه راجحاً كي يكون منجزاً.
الثالث : قد فدى إبراهيم إسماعيل بآية من عند الله، قال سبحانه[وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ]([240]).
الرابع : تعدد الولد نعمة تستلزم الشكر لله عز وجل بحفظ الولد.
الخامس : لم يعرف عن العرب قتل أحد الأولاد إن كثروا، وقريش سادة العرب، وحيث كانت قبائل من العرب تئد البنات فإن قريش تتجنب الوأد.
السادس : حاجة العرب للولد ظاهرة وكانوا في معارك وغزو بينهم وتعمل قريش أيضاً بالتجارة فكانوا يهاجرون إلى الشام في الشتاء وإلى اليمن في الصيف للتجارة، قال تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ *إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ *فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]([241]).
وتبين قصة فداء عبد الله الحاجة إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحكام الإسلام.
وأختتمت الآية بالثناء على الله وأنه سبحانه القاهر الغالب الذي يفعل ما يشاء، وهو الحكيم الذي يصلح الناس بعبادته.
التفسير
قوله تعالى [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رسُولاً مِنْهُمْ]
بعد ان أتم إبراهيم بناء البيت وباشر بنفسه وولده مناسك الحج بصفة النبوة وما يلازمها من تجلي العبودية بأصدق معانيها وأبهى صيغ الخضوع والخشوع ليكون ذلك موعظة واسوة للناس توجها الى تعاهد لواء التوحيد في الأرض بالدعاء والتضرع لأن الإنسان لا يعمر في الأرض وليس عنده من قـوة تسـتطيع ان تبقي افعاله واعماله موروثة عند الأجيال ولأن المشيئة لله تعالى فاختارا سلاح الدعاء والسؤال، مما يدل على اهمية الموضوع وتعذر انجـازه واتمامـه الا بفضله تعالى، والحاجة الى الدعاء في الأمور التعليقية والمستقبلية، وما يكون خارجاً عن قـدرة الإنسـان مطلقاً، بل وما يكون بمقدوره واختياره لملازمة النقص والفقر والعجز له كممكن محتاج.
لقد سـألا الله عز وجـل في الآية السابقة بقاء الاسلام في ذريتهما وهو أمر يتحقق بالمعنى اللغوي من غير حاجة الى بعثة نبوية جديدة، ولكنهما في هذه الآية سألا بعثة الرسول.
والضمير (هم) في فيهم يحتمل وجوهاً:
الأول : أهل الارض.
الثاني : ذرية ابراهيم واسماعيل على نحو التعدد والتفرق.
الثالث : ذرية ابراهيم واسماعيل على نحو الاشتراك والاتحاد.
الرابع : أهل مكة.
الخامس : الشطر من الأمة الوارد في الآية السابقة [ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ].
ويحتمل عدم الملازمة والعائدية في الضمير (هم) المتكرر في قوله تعالى [ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ ]، فيمكن ان يعود كل منهما إلى غير الذي يعود له الآخر وهو الأقرب وان كانت هناك آية اخرى تدل في ظاهرها الى اتحاد العائدية، فالضمير الأول يتعلق بالناس أي أهل الأرض مطلقاً، والثاني يتعلق بالذرية الصالحة فيكون تقديرها: (وابعث في الناس رسولاً من ذريتنا المسلمة لك).
فهذه الآية توكيد لعالمية رسـالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أي ان الدعوة عامة في موضوعها خاصة في محمولها ليدل على التوسعة في الدعاء، لاسيما مع أهلية الموضوع للاتساع ولأن النبي يدعو بالأعم والأشمل وهو رسول من أولي العزم اتصف بالرأفة، ولأن الرسـالة الباقيـة الى يـوم القيامـة قضـية شخصية لا تقبـل التعـدد، فإبراهيم وإسماعيل لم يحصرا دعوتهما بذريتهما أو بغير الظالم منها، بل ان هذه الآية تؤكد عموم الدعوة وشمولها لأهل الأرض جميعاً، ولكن النظام العقائدي في الأرض يقتضي عدم الكثرة العرضية في أشخاص النبوة، كما ان الدعوة هذه لا تمنع من وجودها في الأرض على نحو التعدد في بلد واحد أو في بلدان متعددة في زمان واحد، نعم يدل سؤالهما في ظاهره على اجتماع كمالات النبوة بشخص المبعوث بلحاظ التقييد بالرسول.
ولم تكن الدعوة بصفة النبوة فقط وبين النبي والرسول عموم وخصوص مطلق فكل رسول هو نبي، وليس كل نبي هو رسـول، وذات النسبة بين الرسـل أولي العزم وبين الرسل مطلقاً، فكل رسـول من أولي العزم يصدق عليه انه رسول ولا يصـدق على كل رسول انه من أولي العزم، وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسـولاً بينما عدد أولي العزم منهم خمسة.
ويمكن القول ان ذات النسبة نفسها بين رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرسـل أولي العزم الآخرين، فخاتم الأنبياء عنده كل ما عند الرسل ومنهم أولو العزم الآخرون، وليس عندهم مثل الذي عنده والآية تشير إلى ذلك ضمناً.
ومن الفروق بين النبي والرسول وبقدر ما يتعلق الأمر بالمقام:
الأول : ان الرسول الذي يرى في المنام ويسمع الصوت ويعاين الملك، أي ان الملك يأتيه ظاهراً ويأمره ويدعوه إلى تبليغ الناس احكام التوحيد، بينما لا يعاين النبي الملك.
الثاني : الرسول من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه والنبي لا ينزل عليه كتاب وان اوحي إليه وإنما يدعو إلى كتاب من قبله.
الثالث : والنبي لم تنزل عليه شريعة بل يدعو إلى شريعة من قبله، أما الرسول فهو الذي ينسخ الكتاب الذي انزل عليه شريعة من قبله.
الرابع : ومنها ما تعلق بالمبعوث إليهم فان النبي قد يبعث لنفسه أو لأسرته أو لقريته أو ما هو اكثر كما ورد في قوله تعالى [ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ]([242])، وعن الباقر uقال: يزيدون ثلاثين ألفا بينما من الرسل ما هو إمام ويعاين في اليقظة ويتلقى الكتاب من عند الله تعالى.
لقد جاء سؤال إبراهيم وإسماعيل بالأعم من وظائف النبوة والأرقى من أحكام الرسالة والتعميم في منافعها على الوجه الأمثل والأنسب لدوامها وبقائها ليفوز بها الإمام من ذريتهما وكأنهما موعودان بنبي تجتمع فيه خصائل الرياسة العامة في أمور الدين والدنيا ويقود الإنسانية في مسالك الرشاد بسيادة أحكام الشريعة التامة، فسألا ان يكون هـذه النبي من ذريتهما، وفي الخبر ان اليهـود علمـوا ان نبي آخر الزمان سيبعث في المدينة فجاءوا وسكنوا بها كي يكون منهم.
والظاهر ان إبراهيم uعلم بما رزقه الله ان خاتم النبيين سيبعث في مكة فقصدها ليسكن ذريته توطئة ومقدمة وطريقاً لبعثته ليس بخصوص محل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحسب بل بصدد أنصاره وأعوانه وأبنـاء عمومته، فمجتمع مكة وان كان وثنيـاً ولكن كانت فيه منعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض من القيم والعادات السائدة عندهم من بقايا الحنيفية والتي تتمثل ظاهراً فيما يؤديه العرب من المناسك واجلالهم للبيت الحرام، ولو كانت ولادته وصباه بين غيرهم من بعض الأمم ربما لاشتغلوا بالسعي والمكر للقضاء على النبوة قبل ظهورها واعلانها، فالوجود المكاني للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل مرحلة من مراحل حياته آية اعجازية وحصانة تكوينية وحائطة وضعية للرسالة وهي من مصاديق قانون مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أسسناه في هذا السِفر)([243]).
وفعلاً فأنت ترى كيـف واجهـت المشاق محاولات قتـل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بداية الدعوة، وكيف ان بعض أصحابه استطاعوا النجاة من الأذى والتعذيب لمنازلهم بين قومهم أو لقوة قبيلتهم أو نفوذ أسرهم ولعل ذاك أيضا كان سبباً ودافعاً لإرادة العزم والتجري والإقدام على دخول الإسلام، وإلا فقد يعرف الإنسان ان النبي صادق ولكنه يخشى على نفسه من الموت إلى ان تغادر الفرص من دون ان تستثمر، ولا ينفع الندم فوجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم مناسبة للإفاقة والعودة إلى الرشد والصواب.
ويحتمل دعاء إبراهيم في الجهر والإخفات وجوهاً:
الأول: إن إبراهيم عليه السلام كان يجهر بدعائه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويبشر بها.
الثاني: يدعو إبراهيم لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خفية في السر تقية وخشية على نفسه وعليه أيام صباه وحين بعثته.
الثالث: المعنى الأعم وأنه كان يجهر بالدعاء تارة ويخفت به تارة أخرى.
والصحيح هو الأول، ويكون الثاني والثالث في طوله فقد كان إبراهيم رجل دعاءً أي كثير الدعاء، وهو من تفسير قوله تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ]([244]).
وفي هذا الجهر حجة على الناس، ودعوة للأجيال اللاحقة من ذريته ويذمهم لتوارث البشارة ببعثته، وتجديد الدعاء له، والعزم على التصديق به وإتباعه ونصرته، وجاءت الآية بالإخبار عن إشتراك إسماعيل مع إبراهيم في دعائه لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون دعاء إسماعيل شاهداً على ترك الدعاء إرثاً في الذرية.
ورد لفظ ربنا في القرآن مائة وإحدى عشرة مرة، وجاء لفظ(ربنا) في هذه الآية والآيتين السابقتين مع إتحاد جهة السؤال وهما إبراهيم وإسماعيل.
وقد تكرر ذات اللفظ أربع مرات في ثلاث آيات متتالية في دعاء المسلمين[رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ]([245]).
وتكرر هذا اللفظ في آية واحدة في شعيب والمؤمنين الذين معه في إحتجاجهم على قومهم[إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ]([246])، وفيه درس في الثبات على الإيمان والإنقطاع إلى الله تعالى ورجاء فضله وظهور(رب) سبعاً وستين مرة اكثرها على لسان الأنبياء , وفي موسى عليه السلام ورد قوله تعالى[قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي]([247]).
ومن إعجاز القرآن أن هذا النداء كله دعاء ومناجاة إلى الله تعالى سواء بصيغة المفرد أو المثنى أو الجمع ليكون موضوع الربوبية بصيغة الخطاب خاصة به تعالى في الكتاب الذي جعله باقياً إلى يوم القيامة دستوراً لأهل الأرض.
وتكرر الضمير(هم) خمس مرات في الآية , وكلها تعود للذرية وجاءت أربعة منها لايفصل بين الواحد والآخر إلا كلمة واحدة كما في(وابعث فيهم رسولا منهم) , فجاء الجار والمجرور(فيهم) للتقييد بان تكون البعثة بين ظهرانيهم ويكونون شهوداً على بدايات الدعوة والتنزيل، ويؤمنون به وينصرونه، فقد يكون النبي من الذرية ولكنه يبعث في قوم آخرين وتواجه صلته معها موانع ويصعب عليه تبليغها ويتعذر عليها نصرته.
ومن الإعجاز وتحقيق مصداق الدعوة أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعث في مكة المكرمة وآمن به نفر قليل من أهل بيته وقريش وهم من ذرية إبراهيم وإسماعيل وهاجر إلى المدينة المنورة لوجود الناصر ليعود إلى مكة فاتحاً ويدخل أهلها الإسلام طوعا وكرها.
أما الجار والمجرور في(رسولاً منهم) فيخرج به الرسول من أمة أخرى وفيه مسائل:
الأولى : أراد إبراهيم وإسماعيل إكرام ذريتهما بأن يكون الرسول منهم.
الثانية : إرادة عدم إنقطاع النبوة عن ذرية إبراهيم.
الثالثة :في الدعاء مصداق لسؤال إبراهيم الإمامة لذريته كما ورد في التنزيل [قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]([248]).
الرابعة : الرأفة بالذرية لأن ميلهم للرسول منهم أكثر من الميل لنبي من غيرهم، ومن الشواهد عليه عدم ميلهم لليهودية والنصرانية.
الخامسة :معرفة إبراهيم وإسماعيل لصيرورة مكة بلداً عظيماً تأتيه الناس مما حوله من القبائل والمدن، لتشع وتشيع أنباء البعثة في القرى والمدن.
السادسة :لقد لاقى إبراهيم الأذى من القوم الظالمين، وألقاه نمروذ وقومه في النار، فاراد السلامة لنبي آخر الزمان من الطواغيت بأن تكون بعثته بين أهله وقومه، وكان بنو هاشم والمطلب نوع وقاء له.
السابعة : الرحمة بالذرية بأن يوظفوا حواسهم في رؤية معجزات الرسول.
الثامنة : في الدعاء رجاء رأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالذرية والإرفاق بهم، وقد تجلى هذا المعنى في وقائع كثيرة وشواهد من الكتاب والسنة القولية والفعلية , قال تعالى[لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]([249]).
قوله تعالى [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ]
أي يأتي للناس بالكتاب السـماوي المنزل، وهذه الدعـوة تفيـد الحصر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الواقع الخارجي وقصص الأنبياء، وإنقطاع الوحي بإنتقاله إلى الرفيق الأعلى، فآيات القرآن ليس فيها إخبار من تأليف الصـحابة وأهل البيت , ولا من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه او من عند جبرئيل إنما تتضمن أخبار السماء، والعلوم الغيبية وأحكام الولاية التكوينية والتشريعية بالإضافة إلى مواضيعها الأساسية في التوحيد وبيان الأحكام، فالقرآن كلام نازل من عند الله تعالى لفظاً ومعنى وهو ظاهر الآية بنسبة الآيات له تعالى [ آيَاتِكَ ].
والدعاء هنا يتضمن سؤال نزول القرآن أي ان الأنبياء السـابقين كانوا يسألون الله نزول القرآن لأنه تبيان لكل شيء وفيه الشروق الدائم للإيمان على وجه الأرض وتخفيف لوطأة الأذى عن أهله لما يترشح عليهم من عز بآياته فهما لم يسألا البعثة فقط بل سـألا أيضـا التلاوة وهي تعني بالضرورة إمكان التبليغ وصيرورة حالة من الأمن له، ووجود آذان صـاغية ومستمعين ومسـتجيبين للآيـات، فقولـه تعالى [ يَتْلُو علَيْهِمْ آيَاتِكَ ] يتضمن:
الأول : سؤال نزول الكتاب.
الثاني : المنزلة الرفيعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مراتب الأنبياء والرسل.
الثالث : عموم الرسالة وشمولها للناس جميعاً على القول بأن الضمير هم في [فِيهِمْ] يتعلق بالناس جميعاً.
الرابع : ان المتلو آيات الله تعالى وان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم واسطة للتبليغ وفيه غاية التشريف وسبيل النجاح والتوفيق فإذا كان النبي واسطة لتبليغ آياته فان الله عز وجل سيقيض له أسبابا كريمة لإتمام الرسالة.
الخامس : حفظ وسلامة وتعاهـد النبي صلى الله عليه وآله وسـلم في أيام حياته ولحين البعثة وإنـزال القرآن، فقد ادرك بعض المنجمـين والكهنـة وأهل الأخبار آنذاك أوان بعثتـه وعلاماتـه وورثـوا من بعض الأنبياء بعض صفاته وربما اضمروا له الكيد، وهموا بالبطش به ووأد النبوة قبل أيامها.
السادس : ان تفضل الله تعالى بإنزال الآيات رحمة ونعمة وانعطاف في تأريخ الإنسان على الأرض، ولقد جاءت مع القرآن أكثر وأهم أسباب التغيير نحو الصلاح وثبات لواء التوحيد.
ان سؤال تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآيات على الناس يستلزم بالضرورة حفظه أيام ما قبل النبوة وفعلاً فان الآيات كانت ظاهرة في دلالتها على سلامته وحضوره وجهاده أيامها وفي سني الدعوة الإسلامية الأولى ومطلق أيام البعثة النبوية.
السابع : قد تشمل الآيات ما هو اعم من آيات القرآن وتفيد ما يدل على بديع صنعه تعالى وآياته في خلقه، وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكرهم ويدلهم عليها، ويمكن الجمع بين هذا القول والقول بحصر التلاوة بآيات القرآن بان القرآن يتضمن ما في خلق السماوات والأرض وأعلامها من أدلة على إثبات الصانع وصفاته سبحانه.
الثامن : تفضل الله تعالى بتهيئة الأسباب التي تمكن من وصول التبليغ والآيات إلى الناس جميعاً على القول بان الضمير في [ فِيهِمْ] يعود للناس جميعاً ولم يكن وصول آيات القرآن إلى أسماع الناس منحصراً بهذا الزمان وما فيه من وسائل الإتصال السريعة بل آنذاك أيضاً مع صعوبة التنقل المحدود فضلاً عما هو اكثر وأبعد كانت آيات القرآن واخبار البعثة تنتشر بسرعة في الآفاق، ووصل المبعوثون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملك الروم والى كسرى بعد ان قوبلوا بالتفهم والرد الجميل من النجاشي في الحبشة وغيره([250]).
التاسع : ان دوام الدين ومعالم التوحيد وسنن العبادة في الأرض لا يكون الا بنزول القرآن كتاباً مقروءً على الناس.
العاشر: تعاهد القرآن وحفظه من التحريف.
الحادي عشر : التلاوة مصدر ايمان يتجدد كل يوم لهداية الناس ورشادهم.
الثاني عشر : لتنزل البركات على الأرض بتلاوة شطر من أهلها لآيات القرآن، والظاهر ان هناك ملازمة بين مضامين العبادة وبين البركة في الأرض فيستحق العذاب الذين يعرضون عن الرسل وأحكام الشرائع، لذا يمكن اعتبار هذه الآية رأفة وشفقة على الناس ومصداقاً لاستحقاق ابراهيم نعت “الأب الرحيم”.
الثالث عشر : تشريف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعظيم المسؤولية في الأرض وتوليه أمانة تبليغ رسالة السماء.
قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]
عطف الكتاب على الآيات فيه وجوه:
الأولى : ان الكتاب غير الآيات , لأن مقتضى العطف بالواو مغايرة المعطوف للمعطوف عليه.
الثانية : انه من عطف العام على الخاص، أو الكل على الأجزاء.
الثالثة : المراد بالكتاب الأعم من الآيات القرآنية كما لو كان المقصود هو الأحكام وسنن الشريعة.
الرابعة : المراد من الكتـاب هـو القـرآن وآياتـه ولكـن الموضـوع مختلـف فهنا ورد على نحو التعليم، وفي شطر الآية السابقة وردت التلاوة [ يَتْلُو عَلَيْهِمْ] فالتعليم مرحلة متأخرة زماناً على التلاوة، أو ان التلاوة فرد متقدم من أفرادها تتضمن الفهم والعمل ويصدق تحققها في شطر أو جملة من الآيات كما في حال الصلاة بقراءة الفاتحة وسورة، أما التعليم فجاء على نحو الجنس والإتحاد .
ولقد أراد وسأل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ترسيخ الأحكام بتعليم القرآن وليس فقط تلاوته، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]([251]).
و(الحكمة) عنوان العز والسؤدد ومفتاح لإكتساب العلم، وانتهاج احسن السبل في ميادين الحياة المختلفة وطريق للفوز بدار النعيم لأنها تحصيل للنظريات واقتناء للملكات وقدرة على إيقاع الأفعال على ما ينبغي، وصدورها على الوجه الأحسن وهي صناعة نظرية توجه الإستعداد لإتيان ما فيه نفع مطلقاً أي سواء كان للذات أو للغير وان كانت النفس تكره ولوجه وتتجنبه لما قد يكون فيه من مشقة وما يحتاجه من السعي.
انها نوع إتقان وإحكام للأفعال فبعد التلاوة وتعليم الكتاب يأتي العلم بلطائف الأمور وتدبير الفعل وأحكامه , ومن أهم وجوه الحكمة الإقرار بوجود الصانع وإدراك الحقائق التي تعين على اليقين ومعرفة فلسفة العبادة ووجوه الحكمة وملكة الفضائل الخلقية، والعمل باحكام القرآن فهما لم يسألا التلاوة المجردة بل التلاوة التي يتعقبها العمل بسنن القرآن.
قوله تعالى [وَيُزَكِّيهِمْ]
ان وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإفاضات الربانية التي تجلت في شخصه الكريم لم تنحصر بتلاوة الكتاب، بل تضمنت السنة الشريفة بأقسامها الثلاث القولية والفعلية والتقريرية لتنقل أهل الإيمان إلى عالم الطهارة والنزاهة والصعود نحو عالم السعادة، والإبتعاد عن منبع الذنوب بالإحتراز والإقتداء بهدى النبوة، وهجران الأخلاق الذميمة المترشحة عن حب المال والجاه وشره البطن وآفة الغضب والشهوة والحسد والبخل والكُبر والعُجب.
لقد اجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتزكية وتطهير أعمال المسلمين وتنقية نفوسهم بل ان الأحكام الشرعية كانت سبيلاً عبادياً خارجياً لها كفريضة الزكاة فهي تطهير للمال وتورث فيه النماء مع أنها في الواقع إخراج وانتقاص له.
فالآيـة سـؤال لطهارة المسلمين، والبركة في السنة النبوية وفعلاً ترى فيضاً مباركاً في الأحاديث النبوية واخباراً ونصوصاً توثق السنة الفعلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يصلح ان يكون سبيل هدى وإعلاناً عن التجرد عن الأسباب الدنيوية، وتوكيـداً على ان الدعـاء موضوعـاً ومحمولاً إنما هو إقرار بالعبودية ورضا بالعطية.
قوله تعالى [إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]
مدح وثناء وتضرع إلى الله عز وجـل وختم للدعاء بالمناجاة والتعظيم والتسليم والإنقياد، وصيغة المخاطبة هذه ليست من الإلتفات البلاغي بل هي استمرار للغة الخطاب والدعاء والتوسل.
و(العزيز) من أسمائه تعالى فهو الممتنع الذي لا يُغلب فلقد سأل إبراهيم وإسماعيل الإسلام بفضله تعالى وعـزته وقهره وان ينصاع الناس لأحكام النبوة بجنود ومدد منه تعالى تخفيفاً عن النبي وأصحابه وقد حصل ذلك في مواطن كثيرة منها معركة بدر إذ نزلت الملائكـة لنصرة المسلمين وغيرها من الشواهد.
فهو سبحانه الحكيم سواء على القول بأن الحكمة معرفة الأشياء فانه أحاط بكل شيء علماً، أو صدور الأشياء على الوجه الأكمل وقد ثبت ان أعماله تعالى في غاية الإتقان ومنتهى الكمال.
وهو الحكيم الذي لا يفعل القبح مع قدرته عليه لأن قدرته على الممكنات يعرض واحد، ولاكن الجهالة والحاجة منغيتان عن واجب الوحود، وهذا الخطاب من إبراهيم وإسماعيل له دلالات تتعلق بالأزمنة السالفة إذ أن الأمم سابقاً كانت متفقة على أن الخالق هو الله عز وجل ولكن التحريف والمعصية دبت إليهم بالإستكبار ووسوسة وإغواء الشيطان فأشركت بالربوبية .
ومن وجوه وأسباب ذلك الشرك هو إعراضهم عن الحقيقة الكلية الثابتة وهي أن التدبير كله من عند الله تعالى فاعتقد بعضهم أن الله عز وجل بعد أن خلق السماوات والأرض فوّض تدبيرها أو شطر من أمورها إلى بعض خلقه من الأنبياء والقديسين والسلاطين والملائكة والجن وبعض الأرواح والأفلاك العلوية وقد عانى إبراهيم من ذلك في زمانه كما ورد في التنزيل[فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ]([252])، ويدل الدعاء بــ(ربنا) على أنهما يؤكدان أن التدبير والتصرف المطلق لله تعالى.
بحث كلامي
ما رزق الله الأنبياء السابقين هو عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن وظائف المؤمن الإيمان بالأنبياء وبالكتب السماوية.
وسواء على القول بأنه تعالى خلق اصواتاً وحروفاً على لسان جبرئيل، او على القول باحتمـال ان يخلق الله له سماعـاً لكلامه، او يخلق سبحانه في اللوح المحفوظ كتاباً بهذا النظـم فيقرأه جبرئيل وينزل به، او يخلق الله الأصوات بالنظم المعين في جسم ما معروف عند الملك، فيلقاه جبرئيل فان عِلم الملك والرسول بظهور العبارة التي تؤدي كلام الباري ضروري.
ومنهم من نسب نزول القرآن الى الواسطة والمحل لأن القرآن ليس بجسم نازل وانما نزل على الملائكة التي هي ذوات متميزة، والأصوات اعراض غير قادرة ومنهم من رفض تميز الملائكة وانما هي علويات وسفليات سماوية وارضية ذات قدسية خاصة، والأنبياء اولوا القوة القدسية، ولقد اطبقت الأمة على ان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يسمع جبرئيل ويراه بحاسـة البصر وانه يتلقـى القرآن من جبرئيل بغـير واســطـة بافاضـة منـه تعـالى وبتجــرد من دنس الحيـاة الدنيـا والأمور الدنية، خاصة وان نفوس الأنبياء مشغولة في سياحة وتأمل وتدبر في عالم الملكوت.
واختلف في وجوب البعثة، فقال المعتزلة انها واجب، وقيل بعدم وجوبها.
والنبوة باب الرحمة الذي فتحه الله على الناس، وفيه غلبة لجوانب الصدق والحق وحفظ للنوع الإنساني وتعليم الناس العبادات والمناسـك لتكون لطفاً في الدارين، وحسن البعثة اجمع عليها المليون فهي توكيد سمعي للأدلة كوجود الصانع، وســلاح لتنحية الخوف والريبة والتردد في سلوك العبد بعد الدليل السمعي، ثم ان العقل لا يستطيع الإحاطة بكل الأمور فالنبوة قائد الى الخلود في الجنان.
وهي نفع وحاجة دائمة للناس جميعاً على اختلاف مشاربهم وتفاوت مداركهم وقال جماعة من المعتزلة والأشاعرة ان النبوة لا تجب في كل وقت والخلاف صغروي , قال تعالى[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]([253]).
والنبوة لطف وفضل من الله تعالى في كل زمان، وهي حث على الطاعة وزجر عن القبائح وتنبيه للغافل , والطريق المبارك إلى الجنة .
بحث اعجازي
إن ظهور المعجزة على يد النبي محمـد صـلى الله عليه وآله وسلم يدل على نبوته فمع وجود المعجزة وادعاء النبوة يكون صادقاً وأهم مصاديق المعجزة القرآن، واستدل المفسرون بالتحدي بقوله تعالى [ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ]([254])، وليس من حصر لمصاديق وأفراد التحدي بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن الإطلاق فيها تجددها وإنشطارها.
وتلقي الآية في مفهومها علينا تبعات كثيرة لتوكيد حقيقة ان القرآن فوق كلام البشر وبلحاظ الوجوه المعتبرة في هذا الزمان ومنها العلوم الحديثة فالبلاغة تخص أهل مكة والمدينة وما حولهما آنذاك، وفي هذا الزمان يعرف دقائق علوم العربية المسلمون او شطر منهم.
وآيات القرآن موضوع الإحتجاج على الناس جميعاً، والشطر الاكبر منهم لا يلتفت الى البلاغة ليس بلحاظ حاجات هذا الزمان بل لأن وجوه اعجاز القرآن اكثر من ان تحصى، كما ان المعجزات الحسية الكثيرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة وحجة بعد تواتر الأخبار، منها انه تفل في بئر قوم شكوا اليه ذهاب مـاءها في الصـيف فانفجر الماء الزلال متدفقاً على نحو الدوام فبلـغ اهل اليمامة ذلك فسـألوا مسيلمة لما قل ماء بئرهم ليفعل بهم مثله بعد ادعـائه النبـوة فذهب الماء اجمع أي حتى القليل الذي كان فيه غار وجف .
وحينما نزل قوله تعالى [ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ]([255])، امر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم علياً بان يأتي بشق فخذ شاة واناء فيه لبن وان يدعو بني هاشم وكانوا اربعين رجلاً او يزيدون رجلاً فاكلوا حتى شبعوا وشربوا من العس حتى اكتفوا، واللحم واللبن على حاله، لتكون مقدمة وآية كي يدعوهم الى الإسلام، قال ابو لهب كاد ان يسحركم محمد فقاموا قبل ان يدعوهم الى الله، ثم أمر علياً ففعـل في اليوم الثاني، حينئذ دعاهم الى الإسلام.
بحث أصولي
لابد من الإتحاد بين الموضوع والمحمول وإلا لما جاز حمله عليه وهذا أيضا يدل على التغاير والإثنينية فالتلاوة والتعليم غير المتلو والذي يتم تعليمه، ومن وجـوه الإبداع (الإقتدار) وهو إبـراز المتكلم للمعنى الواحد في عدة صور اقتداراً منه على الإتيان به بصيغ متعددة لبيان مقاصده وتركيب الكلام كما لو كان مرة في مخرج الإيجاز، وأخرى على نحو الحقيقة أو الإتيان بالمترادف واستشهد على ذلك بالقصة الواحدة في القرآن باتحاد معانيها وتعدد نظمها.
ومن كنوز القرآن ان نظمه يتعدى الوجوه البلاغية وان كانت صفحة مشرقة من إعجازه، فنحن نستدل بها كبرهان على إعجاز القرآن ولكن لا على نحو الحصر في إعجاز الآية، كي لا تكون حاجزاً عن بلوغ الوجوه الإعجازية الأخرى في تعدد صور وألفاظ المعنى الواحد، ففي كل موضع لها معان ومفاهيم تختلف في مقاصدها وغاياتها، فالإختلاف اعم من اللفظ وهو مدخل كريم للمعرفة ومناهل الحكمة.
فمن الإعجاز القرآني ما هو مركب من البلاغة ومن المضامين السامية الملازمة والمصاحبة لها، فائتلاف اللفظ مع اللفظ ومع المعنى، وتوخي حسن الجوار في الكلمات والتناسب في نظمها مقترن بكنوز من المعارف والأسرار التي تدعو العلماء لكشف أنوارها ولتستبين حقيقة بلاغية وهي ان هناك علوماً كامنة في نظم القرآن وتتحدى القواعد الموضوعة من أهل الإختصاص، أو تلك التي تتولد من ارتقاء العلوم اللغوية والأدبية وهي بانتظار اهل التنقيب والإستقصاء والإستنباط، فلنفاذ كل احتياطي من الثروات الظاهـرة والباطنة في الأرض اجل معين ولو اجمالاً.
اما كنوز القرآن فهي على قسمين:
الأول : العلوم والدلائل الظاهرة.
الثاني : الذخائر الباطنة، وكل منهما لا زلنا في بداية التحقيق والتفسير في مضامينه، ولا اجل لنفاذ احدهما لأن كل منهما توليدي تتفرغ عنه عدة علوم وهذه العلوم في انشطار متصل.
بحث فلسفي([256])
تعتبر الحكمة من الصفات الفعلية لواجب الوجود، فهو تعالى محب للخير والكمال وجهات النفع وما فيه مصلحة الخلائق والنظام الأكمل والأتقن، فعندما خلق الخلائق جعلها باتم حال تساعدها على الحياة وقضاء الحوائج وتوفير الرغبات، وسخر لها ما يلزم كل حسب حاجته وجعل لها فضلاً وزيادة لتتمتع بمراتب الكمال، ولكنه الكمال الإمكاني أي المفتقر للغير ويظهر عليه النقص الذاتي القهري لحاجته المستديمة لواجب الوجود، وهذا لا يتعارض مع اعتبار نظام الوجود والنظام الأحسن وفق سنخية العلل والمعلولات، واطلق الفلاسفة على الصفة التي تقتضيه “اسم له العناية”
ان هذا الوجود فيض من فيوضـات الباري عز وجـل فهو محب للخير والكمال وعالم بهما وبخصائصـهما وافرادهمـا وما هو ضدهما، ويتعلق الحب الإلهي، وكمالات الخلائق برشحات من فضله واحسانه وهي لا تتزاحم او تتعارض مع الكمالات اللا متناهية لواجب الوجود فهو تعالى بسيط لا يقبل التركيب ليس له ماهية بل وجود صرف ويتميز بالوحدة الحقيقية.
فهو سبحانه يستحق الوصف بالحكمة سواء على القول بأنها إتقان خلق الأشياء أو حسن التقدير والتدبير فيها، وعندما إحتجت الملائكة على جعل خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]([257])، جاء الجواب والإحتجاج من عند الله[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]([258])، فهو الحكيم الذي يعلم بعمارة الإنسان للأرض بالعبادة وصيغ الصلاح، ومن حكمته أنه بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت معالم التوحيد في الأرض إلى يوم القيامة، وهو الذي توسل به إبراهيم وإسماعيل إلى الله مع إقرارهما بأنه سبحانه (العزيز الحكيم) القادر على الإستجابة لهما بصيرورة بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وظهور الإسلام في الأرض حقاً وحقيقة.
قوله تعالى[وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفه َ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ] الآية130.
الإعراب واللغة
ومن يرغب: الواو: للإستئناف، من: اسم استفهام في محل رفع مبتدأ.
يرغب: فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر، والجملة الفعلية خبر.
عن ملة: جار ومجرور، متعلقان بيرغب.
إبراهيم: مضاف اليه، وعلامة جره الفتحة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.
إلا: أداة حصر، من: اسم موصول في محل رفع بدل من الضمير في جملة يرغب.
سفه: فعل ماضِ، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، نفسه: مفعول به، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول، وقيل نصب (نفسه) بنزع الخافض.
ولقد: الواو: استئنافية، اللام: جواب قسم محذوف.
قد: حرف تحقيق، اصطفيناه: فعل ماِض، وفاعل ومفعول به.
في الدنيا جار ومجرور متعلقان بإصطفيناه.
وانه: الواو: حالية، انه: ان وإسمها.
في الآخرة: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
لمن الصالحين: اللام: المزحلقة، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر إن.
من: للإستفهام ومعناه الجحد، اما (من) في قوله تعالى: [ مَنْ سَفه] فمعناه: الذي سفه نفسه.
رغب يرغب رغبة: اذا حرص على الشيء وطمع فيه، والرغبة: السؤال والطلب، ونقيضها الرهبة وتعني الخوف، وفي الدعاء: رغبة ورهبة اليك (ومن الرغبة في الدعاء: ان تستقبل ببطن كفيك الى السماء وتستقبل بهما وجهك).
وهي لغة تعني التوجه الى الدعـاء والفزع اليه وعـدم اليأس او القنوط او السأم من الدعاء، قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]([259]).
ويرغب عن الأمر: اذا ابتعد عنه وكرهه ومال الى غيره، قال المبرد: وثعلب: سَفِه بكسر الفاء يتعدى، وسفُه بضم الفاء لا يتعدى)([260]).
والملة: الدين، وهي في الأصل ما شرع الله لعباده على السنة الأنبياء والتنزيل.
وفي ادعية الصـحيفة السجادية: (وتوفني على ملتك) اي بنسبة الملة الى الله على نحو الإطلاق
ولا تعارض انما هي ذات الملة وهنا بالواسطة، واستعملت الملة ايضاً في الملل الباطلة.
وابراهيم عليه وعلى نبينا السلام من الرسـل الخمسة اولي العزم وفيه لغات ابراهام وابراهم وابرهم بحذف الياء وقيل انه اسم اعجمي ولكن ورد في معاني الأخبار ان معنى ابرهم انه “همّ خير” وهذا القول تؤيده الآيات التي تدل على عربية القرآن.
والسفه والسفاه والسفاهة: خفة الحلم، وقيل نقيض الحلم، واصله الخفة والحركة، فالسفيه هو خفيف العقل، والمعنى في انتصاب نفسه انه سفه نفسه.
وقال بعض النحويين معناه الا من سفه في نفسه اي صار سفيهاً، والإصطفاء: الإجتباء والإختبار.
في سياق الآيات
بعـد ان بينـت الآيـات السابقـة منهجيـة ابراهيـم العقائدية وفق الوحـي الإلهـي بالإمتحان والإختـبار بقولـه تعـالى [ وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ]([261]) وانـه تعـالى امـره ببنـاء البيت الحرام مثابة للناس وامنـاً بـل باعـادة بنـاء البيـت لأنـه كان موجـوداً مـن ايام آدم عليـه الســلام، ودعـاءه لأهـل هذا البلـد [ رَبِّ اجْعَـلْ هَـذَا بَلَـدًا آمِـنًا وَارْزُقْ أَهْـلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ ]([262])، ثم جـاءت الآيـة السابقة [ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ ].
ويحتمل ان يكون معنى الضمير (هم) متبايناً، فالأول يعود للناس، والثاني يعود لأهل مكة لتكون موضع بذرة الإسلام واشعاعه الى مشارق الأرض ومغاربها، وجاءت هذه الآية لبيان الضرر الذي يجلبه على نفسه من ينحرف ويميل عن نهج ابراهيم.
مع تقادم أيام إبراهيم ومجيء الرسل والأنبياء بعده ونزول القرآن على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء ذكره بهذه الآيات، فقد ورد اسم إبراهيم عشر مرات في ثلاث عشرة آية متتاليات 124-136 من سورة البقرة وجاءت هذه الآية بقصته وجهاده وصلاحه، وتلك آية في إكرامه ودعوة الناس بعدم العزوف أو الإعراض عن ملته وديانته وهي الإسلام الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الإعجاز في نظم الآيات أن التوبيخ لمن يعزف عن ملة إبراهيم لم يأت إلا بعد عدد من الآيات تبين ديانته ونهجه وإنقطاعه إلى الله، وتذكر على نحو التعيين بناءه للبيت الحرام وتوجهه بالدعاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
وفي صلة هذه الآية بالآية السابقة مسائل:
الأولى : جاءت الآية السابقة بصيغة الدعاء حكاية عن إبراهيم وإسماعيل مع بيان مضامين الدعاء , وأن المراد به بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباع المسلمين له.
وجاءت آية البعث بصيغة الجملة الشرطية والإخبار عن خسارة الذي يحرم نفسه من الإيمان بالله والنبوة والتنزيل.
الثانية : يفيد الجمع بين الآيتين زجر المشركين عن التعدي على شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وكان وأصحابه في بداية الدعوة يصلّون خفية في دار الأرقم عند الصفا حتى نزل قوله تعالى[فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ]([263])، فأظهر أمره، وأعلن مضامين رسالته، ولم يلتفت بعدها إلى الكفار وجدالهم وأذاهم.
الثالثة : ليس في ملة إبراهيم إلا الخير والنفع للذات والذرية فقد جاهد إبراهيم في سبيل الله وألح بالدعاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسوخ العلم في الأرض بالتنزيل والسنة النبوية التي هي فرع الوحي، قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]([264]).
الرابعة : لقد ذكرت هذه الآيات فوز إبراهيم بمرتبة الإمامة وحسن طاعته إلى الله والإنقطاع إلى الدعاء وهو من أبهى أفراد ملته التي أنذرت آية البحث من الزهد فيها، وجاءت الآية السابقة ببيان خصال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها تلاوته الآيات وتعليمه الناس الحكمة والشرك، وأقذار الضلالة وعبادة الأصنام كما في قوله تعالى في الآية السابقة(ويزكيهم) ليفيد الجمع بين الآيتين لزوم إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من باب الأولوية القطعية، وتلك آية إعجازية في لغة الإنذار والتوبيخ في القرآن، فهو يذم الذي يعزف بنفسه عن ملة إبراهيم ويصفه بالقبح، ليكون إعراضه عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشد قبحاً وضرراً على النفس من السفه وإختيار ما لا ينبغي.
الخامسة : جاءت آية البحث في ذم الذي يعرض عن ملة إبراهيم، وجاءت الآية السابقة لترغيب الناس بها والزجر عن العزوف عن مبادئ التوحيد بذكر الصفات المباركة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي يدرك كل أحد حاجة الناس لها.
السادسة : أخبرت هذه الآية عن إصطفاء وإجتباء إبراهيم في الدنيا، فهل دعاؤه لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الإصطفاء , الجواب نعم، من وجوه:
الأول : الدعاء لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة ومرتبة في الفقاهة.
الثاني : الدعاء لإشراقة الإسلام على الأرض، ونفاذ أحكامه إلى النفوس من مصاديق إمامة إبراهيم للناس، وتستقرأ منه مسألة وهي أن الإمامة أعم من أن تختص بزمان النبي، بل تبقى منافعها في الأجيال اللاحقة، وهو من الإعجاز في قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا]([265]).
الثالث : الدعاء والتوجه إلى الله بالمسألة والحاجة من معاني الإصطفاء.
السابعة : يفيد الجمع بين الآيتين تحبيب إبراهيم إلى النفوس لأنه يرجو للناس الخير والصلاح، ويجتهد بالدعاء والمسألة لهم وفيه إشارة إلى ترغيبهم بما أشار إليه وهو دخول الإسلام.
وأخرج أحمد والترمذي عن أبي إمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن المقة من الله، والصيت من السماء، فإذا أحب الله عبداً قال لجبريل: إني أحب فلاناً، فينادي جبريل: إن ربكم يحب فلاناً فأحبوه، فتنزل له المحبة في الأرض، وإذا أبغض عبداً قال لجبريل: إني أبغض فلاناً، فأبغضه، فينادي جبريل: إن ربكم يبغض فلاناً فابغضوه، فيجري له البغض في الأرض)([266]).
وفي صلة هذه الآية بالآية التالية مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : ومن يرغب عن ملة إذ قال له ربه أسلم.
الثاني : ومن يرغب عن ملة إبراهيم قال أسلمت لرب العالمين.
الثالث : ولقد إصطفيناه في الدنيا قال له ربه أسلم.
الرابع : ولقد إصطفيناه في الدنيا قال أسلمت لرب العالمين.
الخامس : إذ قال له ربه أسلم وأنه في الآخرة لمن الصالحين.
السادس : قال أسلمت لرب العالمين وأنه في الآخرة لمن الصالحين.
الثانية : يتجلى في الجمع بين الآيتين مصداق من مصاديق ملة إبراهيم والتحذير من الرغبة عنه، والتفريط بما جاء به، وهو على وجوه:
الأول : فضل الله عليه في توجه الخطاب له وتوجيه الدعوة له بالإسلام.
الثاني : مضمون الخطاب والنداء له من الله بالإسلام والإنقياد لأمر الله.
الثالث : إستجابة وإمتثال إبراهيم لأمر الله عز وجل بالإسلام والإخلاص في عبادته.
الثالثة : بيان اليسر والسماحة في ملة إبراهيم وإنتفاء التشديد والعسر والحرج فيها، وهو من خصائص الإيمان وبعث السكينة في النفوس، وفيه شاهد بأن الذي يرغب عن التوحيد ويعرض عن التنزيل ومعجزات النبوة يبتلى بالحسرة في الدنيا، والندامة في الآخرة، قال تعالى[فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ]([267]).
إعجاز الآية
من اعجاز الآية لغة الإنذار والوعيد في مخاطبة من لا يتبع ابراهيم في دعوته وسعيه وعبادته واصول شريعته في التوحيد والنبوة والعدل والإقرار بالآخرة وما فعله ودعا له كمقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فملة ابراهيم هي الإسلام وسننه واصوله , وتظهر الآية صيغ المدح لإبراهيم مما يعني الترغيب في ملته.
ومن إعجاز الآية أنها دعوة لإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى : المضامين القدسية للآية وأن ملة إبراهيم هي التوحيد.
الثانية : دعوة إبراهيم لإتباع نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفعل لهذه الغاية ما لم يفعله غيره من البشر إذ جاء بزوجته هاجر وابنه إسماعيل وتركهما في موضع البيت كما في قوله تعالى[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ] ([268])، ولا يمكن لإنسان أن يقوم بهذا الفعل لولا أنه وحي من الله ويدل عليه أسباب نجاتهما وعمارة البيت بوجودهما فحالما ما عمر المكان جاءت جرهم لتسكن فيه بعد أن أنعم الله بنبع ماء زمزم.
الثالثة : مجئ الآية السابقة بدعاء إبراهيم لنبوة محمد وبيان مضامينها القدسية من جهات :
الأولى : تفضل الله ببعث رسول في أمة محمد، وكأن إبراهيم رأى كثرة الأنبياء والرسل في غيرهم، فسأل للعرب والمسلمين رسولاً نبياً بشريعة قائمة بذاتها ليكونوا أمة عظيمة بين المليين وأهل الأرض ليكون من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([269])، دعاء الأنبياء للمسلمين على نحو التفصيل في التلاوة والحكمة والإستقامة.
الآية سلاح
ان مدح ابراهيم والثناء عليه وبيان تشريفه واكرامه عز للمسلمين ودعـوة الى اتباع نهجه بدعوته الى الإسلام، وتدل بالدلالة التضمنية عـلى ذم الذيـن يتخلفـون عن الإيمـان برســالة محمـد صـلى الله عليـه وآلـه وسلم.
وتدعو الآية إلى الإنتفاع الأمثل من نعمة العقل بنبذ الشرك ومفاهيم الضلالة، لقد تفضل الله وأنجى إبراهيم من حر نار نمروذ بعد أن جمع أهل المدينة كلهم الحطب لحرقه ووضعوه وسط النار، لتكون هذه النجاة بشارة لمن يتبعه بنجاته في الآخرة من النار.
وتدعو الآية للتوقي والسلامة من السنة وهو توظيف العقل فيما لا ينبغي، وتسخير القوة الفكرية فيما يجلب الضرر ويدفع النفع.
مفهوم الآية
تحث الآية على اتباع نهج ابراهيم وتنهى عن الإعراض عن الإسلام وعدم الإستجابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتبين ان دعاء ابراهيم uللنبي محمد جزء من الملة الحنيفية، وتنفي التناقض والخلاف بين افراد الوحي التي جاء به الأنبياء وتثبت الترابط والتداخل في مناهج النبوة، وتدعو الآية الى الحج , ويتوجه الخطاب والأمر بالحج الى الناس جميعاً كما في قوله تعالى[ولله على الناس حج البيت]([270]).
نعم لا يصح الحج الا بالإسلام وفي الآية ترغيب بالإسلام وحث على النطق بالشهادتين لما فيها من المدح والثناء على ابراهيم uوان دعاءه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء عن عظيم منزلته عند الله وفيها بشارة لكل من اختار الإسلام عقيدة ومبدأ بالعز والغبطة في النشأتين .
والآية دعوة للتحلي باخلاق الأنبياء والإقتباس من جهادهم والتلبس بصفات الأولياء والصالحين وفي الحديث ” تخلقوا بأخلاق الله تعالى”([271]) وتدعو الآية الى اصلاح النفوس وجعلها مستعدة لقبول الحكمة والإقتباس من سنن الإنبياء وتأمر بالتخلص من الأخلاق الرذيلة واسباب الجحود.
ويدل مفهوم الآية على الثناء على المسلمين الذين إتبعوا نهج إبراهيم، وأقروا بالتوحيد، وتلقوا النبوة والتنزيل بالتصديق , وهل تحذر الآية من إتخاذ السفيه الجاحد بطانة , الجواب نعم، قال تعالى[وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ]([272]).
الآية لطف
لقد خلق الله عز وجل الناس للإمتحان والإختبار في عمارة الأرض بالعبادة، ومن الآيات في خلق الإنسان إنفراده بخصال في إجتماع العقل والشهوة، وإمكان غلبة أحدهما على نحو الإطلاق أو الجزئية ولم يترك الله الإنسان وشأنه يصارع شهوته، ويدفع النفس الغضبية.
ويجتهد كل آن في قهر حب الدنيا في ذاته بل تفضل وأرسل الأنبياء وأنزل عليهم الكتب السماوية وجعلهم أعلام الهدى , فجاءت هذه الآية تأكيداً لحقيقة بأنه ليس من برزخ وعائق يمنع الناس من معرفة أسرار التنزيل وخصال النبوة، فقوله تعالى[وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ] شاهد على معرفة الناس بملته وما عليه من ديانة التوحيد لأن الرغبة عن الشيء لا تتم في الغالب إلا بعد معرفته والعلم به.
وأخرج عن قتادة في قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم…} الآية قال: ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفضوا النساء واللحم، وأرادوا أن يتخذوا الصوامع، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس في ديني ترك النساء واللحم، ولا اتخاذ الصوامع، وخبرنا أن ثلاثة نفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا فقال أحدهم أما أنا فأقوم الليل لا أنام، وقال أحدهم: أما أنا فأصوم النهار فلا أفطر،
وقال الآخر: أما أنا فلا آتي النساء، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: ألم أنبأ إنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله، وما أردنا إلا الخير قال: لكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني، وكان في بعض القراءة في الحرف الأول: من رغب عن سنتك فليس من أمتك، وقد ضل سواء السبيل)([273]).
وإبتدأت الآية بصيغة الإنذار والتخويف للزجر من الشرك والضلالة وهو من عمومات قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]([274]).
ومن اللطف الإلهي في الآية الثناء على إبراهيم عليه السلام وبيان إكرامه في النشأتين وفيه ترغيب بإتباع سنته، ومن دلائل جهاد الأنبياء أن قصصهم موعظة لمن حولهم وللناس من بعدهم.
أما بالنسبة لمن حولهم فلأنه آية حسية بلحاظ أن بلطف ومدد من عند الله، وأما بالنسبة لمن بعدهم فلأن القرآن جاء بتوثيق هذه القصص وجعلها درساً في الصبر والجهاد في سبيل الله.
تدعو الآية الناس من وجوه:
الأول : لغة الإنذار التي إبتدأت بها، والتبكيت والتوبيخ للذي يعرض عنه ديانة التوحيد.
الثاني : الحث على حج بيت الله الحرام الذي بينت الآيات السابقة رفع إبراهيم لقواعده.
الثالث : تتجلى ملة إبراهيم بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بأحكام الشريعة الخاتمة، قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]([275]).
الرابع : التضاد والتنافي بين إتباع إبراهيم وبين السفه , وفي حديث طويل أن الإمام علي عليه السلام سأل إبنه الحسن: فما السفه؟ قال: اتباع الدناة ومصاحبة الغواة)([276]).
وتزجر الآية الكريمة من الجهد بالحق والتمييز بنيه وبين الباطل، وهل في الآية تحذير من مخالطة أهل الكفر والضلالة الجواب نعم، لقبح السفه ذاتاً وأثراً، وعن عمرو بن حبيب وكانت له صحبة أَنَّهُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ إيَّاكُمْ وَمُجَالَسَةَ السُّفَهَاءِ فَإِنَّ مُجَالَسَتَهُمْ دَاءٌ وَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِقَلِيلِ مَا يَأْتِي بِهِ السَّفِيهُ يُقِرّ بِالْكَثِيرِ)([277]).
وأكثر السفه عرض، وسجية مكتسبة في بطلان توظيف العقل، لذا جاءت الآية بصيغة الإعجاز(من سفه نفسه) أي أن الجاحد هو الذي إختار السفه والجهالة , لتكون هذه الآية جليساً مباركاً يطرد عن الإنسان العبث والتفريط وسوء الإختيار , وفي رواية أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما مثل جليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا منتنة)([278]).
فإذ جاءت الأحاديث بالنهي عن مجالسة السفيه فانها لم تمنع عن نصحه وإرشاده ودعوته للإسلام ومن فضل الله على الناس أن السفيه لم يفتقر إلى الجليس الصالح، فكل مرة يسمع فيها السفيه هذه الآية أو يقرأها فأنها تكون له دعوة للصلاح وتوظيف العقل بالإنقياد لأوامره وإتباع نهج إبراهيم والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد تفضل الله عز وجل على الناس بالقرآن كتاباً سماوياً يحارب الجهالة ويطرد السفه ويدعو إلى تسخير العقل بما يجلب المصلحة ويدفع المفسدة، وجاء بالحرب على السفه الطبيعي والمكتسب.
ومن الأخير الإصرار على الإستكبار والإعراض عن دعوة الحق والإمتناع عن التدبر بمعجزات النبوة ورسالته في إصلاح الناس.
وليس من حصر لضرر السفه ويشمل تلف المال وتضييع الحقوق، والتفريط بالواجبات فجاءت آية البحث للتخلص من السفه بالإيمان، لذا فمن صيغ إختبار البالغ وتحصيل العلم برشده وسلامته من السفه سؤاله عن أوقات الصلاة اليومية وحرصه على التقيد بها، فإن قلت إن الإتيان بالأذان لكل صلاة أمارة وعلامة على معرفة أوقات الصلاة.
والجواب إن إلتفات المكلف للأذان حين إعلانه وترقب أوانه ومعرفة حقيقة أنه إشعار وإعلام للصلاة ولزوم إتيانها بعده يكفي لطرد صفة السفه عن الإنسان إلى جانب ما في هذا الإلتفات من صيغة الإيمان .
ولم تكتف الآية بذم السفه وبيان سنخيته التي تتقوم بالعزوف عن الإيمان بل جاءت بالثناء على أئمة التوحيد وترغيب الناس بإتباعهم، وبيان المنزلة الرفيعة لأهل الإيمان والتقوى ليكون من اللطف الإلهي الإشارة إلى حقيقة وهي أن الكافر سفيه لتضييعه الأجر والثواب العظيم في الآخرة، قال تعالى[فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]([279]).
التفسير
قوله تعالى [وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفهَ نَفْسَهُ]
الظاهر ان تعدي مادة رغب بـ(عن) اعم من الإعراض فيشمل اختيار غيرها وصرف الوجه الى ملة اخرى مما يعني استحقاق الكافر والجاحد العقاب، ولقد اثنى الله على المسلمين بقوله تعالى [ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ ]([280]).
وورد لفظ ملة في القرآن خمس عشرة مرة منها ثمان مرات في ابراهيم عليه السلام، وست مرات تتعلق بملة الضلالة والكفر، وواحدة في ملة اليهود والنصـارى، ثم ان الله سـبحانه مدح الأنبيـاء الذين تمسـكوا بملة ابراهيم uوساروا على نهجه , فقد ورد حكاية عن يوسف u[ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ]([281]).
وفي سفه النفس الوارد في الآية وجوه وأقوال :
الأول : امتهان النفس.
الثاني : الإستخفاف بها.
الثالث : جهل النفس.
الرابع : خسرانها.
الخامس : اهلاك النفس.
السادس : اضلالها.
السابع : ان (النفس) في الإعراب ليست مفعولاً به انما نصبت لنزع حرف الجر وتقديره سفه في نفسه.
الثامن : ان نصب النفس على التفسير ومعناه سفه نفساً، وذكر النفس توكيد.
التاسع : هناك قراءة بتشديد الفاء في سفه.
العاشر : ترك وظيفة التدبر بالآيات .
الحادي عشر : التفريط بالحقوق والواجبات الشرعية .
والمعنى واحد فليس من تعارض بين هذه الأقوال، خصوصاً وان الآية في معرض الذم لترك طريق الرشاد والهداية.
ترى لماذا يرغب الناس عن ملـة الحق , وكيف السبيل الى هدايتهم، أي ان تفهم اسباب اعراضهم يكون مدخلاً للعلاج والتدارك لتعم الرحمـة الناس ويشـيع الإسلام، خصوصـاً وان الله عز وجـل جعـل آياته قريبة من الناس جميعاً بل انها في ذاتهم وانفسهم ومن تلك الأسباب:
الأول : العادة والحياة الرتيبة مما يحجبه عن النظر عما هو خارجها من العلوم والغيب والأسرار.
فيمكن تقسيم ابتلاء الإنسان الى قسمين، ابتلاء قريب وابتلاء بعيد، وبينهما مراتب متفاوتة، وقد تشغله هموم يومه عن التدبر بما هو اهم واعظم، وقد ينشغل بالمسائل البسيطة ويترك الأكبر ولو من ذات العلم والإختصاص.
الثاني : اللهو واللذة وشوائب الطبيعة.
الثالث : حب التخفيف وترك ما فيه الإلتزام واداء الفرائض فلا غرابة ان تسمى العبادات بالتكاليف لما فيها من الكلفة والمشقة على المأمور لذا قسمت الى معنيين احدهما حقيقي وهو ارادة الآمر الذي تجب طاعته عند تحقق البلاغ مع ما فيها من المشقة والعناء، والآخر مجازي وهو الإفعال الصادرة من المكلف نفسه امتثالاً لأمر المولى، احدهما يكون علة للآخر.
الرابع : الإنصياع لشهوات البدن المتعددة كحاجة البطن ولذة الفرج ومحبة المال والأهل والولد والخضوع للنفس البهيمية والشهوانية التي يمثل طلب الغذاء والمتعة والإشتياق إلى اللذات الحسية، أو إلى غاياتها، قال تعالى[وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]([282]).
الخامس : الإنهماك في متاع الحياة الدنيا وزينتها والسلوك الجمعي وما ينشغل به الناس والإنغماس فيها يبعده عن ادراك ما عليه من الواجبات العبادية والإنخراط في مشاغل الحياة اليومية ودواعي النفس الحيوانية والسعي للذة العلو والشأن بين الناس والأقران وطلب الرياسة كل بحسبه، فقد يرغب عن الإيمان لا لأنه يريد الفساد في الأرض بل لأنه يريد الجاه والرفعة، والأصل عدم التعارض بينهما وبين الإيمان الا بظنه القاصر وفهمه لأسباب الجاه والعلو، والا فان مجرد الدخول في مسالك الإيمان يعتبر ارقى مراتب الرفعة والشأن.
السادس : اغواء الشيطان والإنصياع الى تضليله.
السابع : الإنقياد للنفس فيما تسوله وتزينه من الباطل والزخرف وما تبثه من اسباب الإعجاب بالذات والرأي والسلوك ونفحات الغرور وصيغ الجهالة والإستغراق بالشهوات.
الثامن : انتفاء الضابطة العقائدية عند الإنسان مما يؤدي الى اختلال موازين التقييم فينظر الى القبائح على انها حسنة، ويرى الباطل في لباس الحق.
التاسع : غيـاب الإيمـان عـن بواطـن النـفـس مما يـؤدي الى سـيطـرة الدنــائة والوسواس وظهور ما كمن واستتر من الخبائث وغلبة الوهم.
العاشر : صيغ التدليس وحصول التحريف والإضلال المهلك والإغترار بها وبالخدع وسماع الحكايات والأباطيل، وفي الحديث النبوي: (ثلاث مهلكات، شح مطاع، وهوى متبع، واعجاب المرء بنفسه)([283])، ومن الشح عدم قبول التكليف لما فيه من بذل الجهد والصبر.
الحادي عشر : الإبتعـاد عن سـبل الهدايـة واليقـين واتباع مذاهـب الضــلالـة وما يحجب عن الرشاد وإتباع الكبراء الذين يصدون عن الحق.
الثاني عشر : الإعراض عن إستحضار الآخرة واهوال القبر.
الثالث عشر : عدم الإلتفات الى حقيقة الدنيا وانها دار ابتلاء وامتحان وعبور نحو الآخرة.
الرابع عشر : غياب النذير والهادي المباشـر وصيغ الهداية ذات التوكيد والعزم واسباب المتابعة لكل تلك الأسباب وغيرها تفضل الله سبحانه بارسال الرسل وانزال الكتب السماوية رحمة منه في مقابل جحـود البـشر فانه يؤاخذهم بذنوبهم، وما رزقهم من نعمة العقل كاف لإقامة الحجة والبينة عليهم.
والعقل يدعو قهراً وانطباقاً بحكم وظيفته كآلة للتمييز بين الحق والباطل الى الإيمان بالآيات الباهرات، فلا غرابة ان ينعت من يعرض عن عقيدة التوحـيد ودين ابراهـيم uونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسفه وضعف العقل وتعريضه نفسه للذل والهوان.
وهل يتعلق الخطاب وموضوع الآية بفترة بعثة ابراهيم uوما بعده مباشرة، ام انهما متعلقان بايام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ام يتعلـق بالفترتين معاً، الجـواب: هو الأخير ففيـه اخبار عن حالة من سبق الإسلام، وقالوا بعدم توجه الخطاب للمعدوم.
والحق ان الخطاب القرآني انحلالي متجدد واكبر واوسع من ان تحيطه هذه القاعدة العقلية، ولو تنزلنا وقلنا بـها فانها لا تمنـع من الإخبار عن الوظيفة الشرعية واسباب الجزاء وخطاب وتكليف لمن عاصر النبوة وما بعدها، وبينهما عموم وخصوص من وجه.
فمادة الإلتقاء اتباع ملة ابراهيم ودينه، ومادة الإفتراق من سبق ايام البعثة النبوية الشريفة مطالب باتباع ملة ابراهيم سواء كان على الحنيفية وحدها ام على الرسل اللاحقين كموسى وعيسى عليهما السلام، اما المخاطبـون ممن وجـد بعد بعثـة الرسـول الأكـرم صلى الله عليه وآله وسلم فمأمور باتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وموضوع ملة ابراهيم وتميزها وذكرها بالخصوص يستحق الدراسة فالظاهر ان المسلمين على ملة ابراهيم الحنيفية وكان معروفاً عند العرب ان الحنيف هو الـذي على ديـن ابراهيم عليه السـلام، أي حتى مع وجود اليهودية والنصرانية، وعنه صـلى الله عليه وآله وسـلم: (اني بعثت بالحنيفية السمحة السهلة)([284])، وفسرت بانها المائلة عن الباطل الى الحق السـمحة أي التي ليس فيها ضيق ولا شـدة.
وقـد ورد الأمر المولوي في القرآن باتباع ملة ابراهيم [ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا]([285])، بينما ورد نعت الملة لديانة اليهود والنصارى على نحو الإستقلال، والفارق بلغة الذم والتحذير بقوله تعالى [ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ]([286]).
فالآية دعوة الى اتباع الحنيفية وما جاء به ابراهيم عليه السلام، وعن بعض أهل العلم ان العقل شرع داخلي والشرع عقل خارجي، ولا فرق بينهما في حال الواقع فلو تجسم العقل لكان بصورة النبي كما لو تجرد النبي لصـار العـقل بعينه بلا فـرق بينهما الا باختلاف النشـأة والعالم وهو تقريب لطيف، وكأنه يشير الى التساوي الإعتباري بينهما ولكن بينهما فيصل وعموم وخصوص من وجه فمادة الإفتراق ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى الوحي بالواسطة على نحو الوجود الخارجي والإتصال في التلقي كما ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين العقل والنبوة.
فهل من فرق بين الملتين ملة ابراهيم uمن جهة وملة الكتابيين وطـريقتهم ام ليس من فرق الا بلحـاظ مـا طرأ من التحريف والتبديل والتغيير، لاسيما وان الملة تستعمل للطريقة المستقيمة او المستديمة مطلقاً سواء كانت صحيحة او لا كما في قول قوم شعيب له [ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا… ]([287]).
الجواب: ان الحنيفية سور عقائدي اجمالي للديانات قبل الإسلام مع وجود خصوصية لكل واحدة منها بالإضافة الى شخص الرسول موسى وعيسى عليهما السلام، اما الإسلام فهو الجامع للديانات والشريعة المتكاملة، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]([288]).
وما دامت كل الأمم الملية تفتخر بالإنتساب لإبراهيم عليه السلام، والعرب المؤمن منهم والوثني يفتخر باسماعيل، سواء على القول بان العدنانيين يرجعون الى اسماعيل وانه ابو العرب جميعاً، أو لا , ام ان العرب تفتخر بابراهيم ببناء البيت وان الإنتساب اليه القاسم المشترك وصلة الوصل بينهم وبينه إذ قام هو ببنائه وهم تعاهدوه، وتلك الصلة ربانية عبادية روحية لا تقل عن صلة النسب، فانها نوع ايمان برسالة إبراهيم ولو على نحو الموجبة الجزئية.
واذا كانت اليهودية والنصرانية اخص من ملة ابراهيم فلا يعني ان الأنبياء رغبوا عنها بل ان الإسـلام ناسخ لكل الشرائع السابقة، ولم يكن المسلمون راغبين أو معرضين عن ملة ابراهيم، واذا كان الإسلام عين شريعة ابراهيم فهل نسخت اليهودية والنصرانية ملة ابراهيم وعاد الإسلام لينسخهما بنفس المنسوخ أي انه حصل الدور بين الأديان، الجواب: ليس من نسخ لملة ابراهيم uمن موسى وعيسى عليهما السلام بل هو البيان والتفصيل والتمهيد للاسلام واحكامه والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقـد أولت كتب التفسـير والتأريـخ في الجملـة عناية بسـيرة ابراهـيم uوجهاده وصبره في مرضاة الله وثباتـه في حمل لـواء التوحيـد، فهل هي المقصودة بالإتباع في الآية، ام ان المقصـود هـو العقيدة واحكام التوحيد من الإقرار بالله وصفاته والإيمان بالنبوة والمعاد ونحـوها من أصول الدين والتي تسمى عادة احكاماً شرعية أصولية.
الجواب: هو الثاني، فلقد عانى ابراهيم في سبيل الله وعمل له موضع وجمع فيه الحطب، كما انه حارب الشرك والسحر وبعث الى الذين كانوا يعبدون الكواكب والنجوم ويزعمون انها التي تدبر امر العالم وهي منبع الخير ومصدر الشر، وهي التي تسبب السعادة او النحوسة فيسعى ابراهيم علناً في ابطال مقالتهم وكشف ظلالتهم ولقد ذكر ابراهيم في القرآن تسعاً وستين مرة في ثلاث وستين آية مما يدل على ما له من منزلة في عالم التوحيد وهو أي ذكره مدرسة لأسمى صيغ التأديب والإقتداء الحسن.
وفي إسلام سلمان الفارسي أنه هجر أهله وعبادة النار في أصبهان من بلاد فارس، ورحل إلى بلاد الشام.
وقيل السفه الجهل في لغة كنانة ويأتي بمعنى القبح، قال تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ]([289])، والسفه في المقام ليس حالاً مستقراً وعرضاً ملازماً عند صاحبه، فيزول بالتدبر والتفكر والإلتفات إلى الآيات والبراهين لذا جاءت الآية بصيغة الجملة الشرطية ولغة المضارع[وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ]([290])، لتكون هذه الآية علاجاً من السفه، وواقية وحرزاً منه، وجذباً للناس للإسلام.
قوله تعالى [وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا]
الإصطفاء هو الإختيار والإجتباء ويترشح عنه الخلو من كل شائبة ودنس لا يليق بمقام القرب، وبالرجوع الى الآيات يتبين ان الإصطفاء على وجوه ومراتب تعرف بالقرائن فقد يكون بمعنى الإكرام والإنفراد بخصوصية كاصطفاء مريم وقد يكون بحمل الرسالة ووراثة النبوة، والأقوى ان الإصطفاء هنا هو حمل الرسالة فابراهيم uكان رسولاً نبياً ويدل عليه قوله تعالى[يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي]([291]).
والإصطفاء افتعال من الصفوة ويعني الإنتقاء والإختيار، والآية تبين جانباً من فلسفة النبوة وهي ارتقاء الأنبياء الى اعلى مراتب الكمال ودعوة الناس الى اتباعهم والإقتداء بهم والعمل بما جاءوا به من السنن، فان قيل ان الأنبياء ما حازوا ذلك الا بالمدد والعون الإلهي ومن يتبعهم يجب عليه الكسب والسعي والإجتهاد في عمل الصالحات وقهر شهوات النفس ، والصبر على الطاعة وسنن التقوى وما في الجهاد من المشقة، فهو تكليف زائـد عما كلف به من اصـطفاه الله عز وجل.
الجواب: المطلوب ليس هو تمام ما يفعله النبي فلم يطلب من عامة الناس جهاد ابراهيم نفسـه بل المطلـوب الإتباع في الملة وهو موضوع يتعلق بالعقيدة والمبدأ وليس بالجهاد وافراده ومحاربة الكفر والإحتجاج على الظالم الكافر، بل انه من القـياس مع الفـارق.
فابراهيم uكان موحداً في مجتمع يعبد عامة الناس فيه بما فيهم الملك الأصنام ويقدسونها، وأهل الكتاب في مجتمعات موحدة ويقولون بالنبوة والرسالة أي ان ابراهيم uمهد لنا وساهم في هذا الواقع , والأنبياء أكثر الناس جهادا.
فالإصطفاء يتعلق في بعض وجوهه بالتمهيد للمجتمع الموحد كمناخ وبيئة مناسبة لإختيار الإسلام واتباع احكام النبوة ولعل ذلك التمهيد يحتاج الى الإصطفاء والإشراقات الملكوتية والإفاضات على شخص النبي وقلبه وجوارحه وانه لا يصلح الا لمن يستحقه بجهاده وصبره وعزمـه وعدم تردده في مرضـاة الله لهدم صرح الكفر والشروع في البناء الخالد لملة التوحيد.
وكما هو معروف ان الهدم اسرع من البناء، وان البناء يستلزم الجهد والوقت ومساهمة كل مكلف فيه ولو على نحو القضية الشخصية والإيمان الفردي الذي يتجسد بعدم الإعراض عن ديانة التوحيد، اذ ان الآية الكريمة تقيد السفه بالإعراض عن ملة ابراهيم وعقيدته دون فعله وجهاده تخفيفاً لأن مستلزمات اتباع ابراهيم في جهاده تحتاج الى مرتبة من الإيمان.
فكأن الآية تجعل بين المطلوب من اليهود وغيرهم وبين سنة ابراهيم عموماً وخصوصاً من وجه، فمادة الإلتقاء الملة، وايراد الحكم بعد الصفة مشعر بالعلية، والمراد من ملة ابراهيم هو الإسلام والعدل والإمامة واحكام الشريعة، فابراهيم uسأل الله بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت الإجابة بعد نحو ألفي سنة.
قوله تعالى [وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ]
الواو حالية واللام هنا هي اللام المزحلقة , وهي نفسها لام الإبتداء التي تسمى لام التوكيد باعتبار انه معناها، ولكنها زحلقت الى ذيل الجملة عند دخول (ان) المشددة عليها كراهية البدء بالتوكيد، ونسب الرازي الى القيل ان في الآية تقديماً وتأخيراً , وتقديرها: ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وانه لمن الصالحين.
والأصل أنه ليس من تقديم وتأخير، ويحمل الكلام على ترتيبه ونظمه ان لم تكن قرينة على الخلاف لاسيما على القول بحجية ظواهر القرآن، ووصف اهل الجنة بالصالحين ذكر في آيات اخرى مما يدل على ذكر السبب وارادة المسبب.
(من) تفيد التبعيض وقد تفيد هنا التعليل كما في قوله تعالى [ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا ]([292]) أي بسبب خطيئاتهم.
وفي الآية نكتة عقائدية وهي ان الإصطفاء في الدنيا اعم من الإنفراد في المنزلة يوم القيامة، فالآية تؤكد اصـطفاء ابراهيم واختياره واجتباءه وتفضيله في الحياة الدنيا، وتشهد لذلك آيات ونصوص اخرى، وانه سيكون في الآخرة في زمرة الصالحين ومنهم أي بعرض واحد معهم.
وهل يكون جميع اهل الجنان بمنزلة واحدة ام هناك من يتصف بالمقام المحمـود، الجواب: هو الأخـير وهو النبي محمـد صلى الله عليه وآله وسلم فذيل الآيـة يشهد بالدلالـة الإلتزامية لمقامه وانفـراده بما لم يصل اليه غيره من الأنبياء وعموم البشر.
ومثل إصطفاء ابراهيم في زمانه اصطفاء مريم على اهل زمانها وعن الباقر عليه السلام في مريم عليها السلام: (اصطفاها اولاً من ذرية الأنبياء وطهرها من السفاح، والثاني اصـطفاها لولادة عيسى uمن غير فحل).
وعدد من العلماء والمحققين يفضلون الزهـراء عليها السلام على مريم من غير تعارض باقرارهم بما في هذه الآية الكريمة، يقول السبكي: الذي نختاره والذي نؤمن به ان فاطمة بنت محمد افضل) ، ولما سئل ابن داود عن ذلك قال: (ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فاطمة بضعة مني ولا اعدل ببضعة رسول الله احداً)([293]).
ثم ان الإصطفاء يتكرر في الدنيا كل بلحاظ زمانه وفي الآخرة ولا تفاوت في المقام والحساب، بل الدار واحـدة والجميع في الخلود، فلابد ان الإصطفاء بالنسبة للثواب يكون على مراتب وان كان كل المصطفين الأخيار استحقوا الثواب واستوجبوا الكرامة والإلحاق بالصالحين في الآخرة وهي أمنية وسؤال ورجاء الأنبياء والأولياء .
وفي التنزيل حكاية عن يوسف u[أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ]([294])، ولعل من الوفاة على الإسلام التبشير بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإخبار عنه.
وقد ورد في الثناء على إبراهيم في القرآن[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ]([295])، وفي معنى أواه وجوه:
الأول : الأواه الدّعاء عن الإمام علي عليه السلام وابن مسعود([296])، أي الذي يكثر الدعاء والمسألة من الله.
الثاني :الذي إذ ذكر خطاياه إستغفر منها.
الثالث :الأواه الحفيظ الوجل، يذنب الذنب سراً، ثم يتوب منه سراً([297]).
الرابع : الذي يواظب على ذكر الله ، وذكر أن رجلاً كان يكثر ذكر الله ويسبح، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنه أواه.
الخامس : عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفن ميتاً، فقال، رحمك الله إن كنت لأواها، يعني:تلاء للقرآن.
السادس : روي عن كعب الأحبار أنه قال كان إبراهيم إذا ذكر النار قال: أوه من النار([298]).
السابع : عن ابن عباس: ان إبراهيم لأواه، قال فقيه.
الثامن : الأواه الدعاء المستكين إلى الله كهيئة المريض المتأوه من مرضه.
التاسع : عن ابن عباس: الأواه المؤمن التواب.
العاشر : عند عبد الله بن شداد بن الهاد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الأَوَّاهُ الخَاشِعُ الدَّعَّاءُ المُتَضَرِّعُ)([299]).
الحادي عشر : عن ابن عباس قال : الأوّاه الموقن بلسان الحبشية)([300]).
ومن الإعجاز في الآية أنها تجمع الذم والترغيب والحجة والوعد والثناء فبعد التبكيت للذي يعرض عن التوحيد، ويعزف عن الهدى الذي عليه إبراهيم عليه السلام والأنبياء من ذريته تضمنت ترغيب الناس جميعاً بإتباع نهج إبراهيم ومحاربة الشرك وأسباب الكفر بأن أخبرت عن عظيم منزلة إبراهيم في الدنيا والآخرة.
والآية حجة على الناس في الدنيا بأن أخبرت عن سبل الهداية والصراط المستقيم الذي يؤدي إلى الأمن والسلامة من أهوال يوم القيامة، وهي وعد كريم للمسلمين والمسلمات لأنهم لم يرغبوا عن ملة إبراهيم بل تعاهدوها بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفي الآية ثناء على ابراهيم وبيان لعظيم منزلته في النشأتين.
وهل ينطبق مضمون الآية الكريمة وما فيها من الأمر الإلهي الخاص وحسن الإمتثال على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله عز وجل أمره بالإسلام فقال[أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ] الجواب نعم.
وهل ينطبق ذات المعنى على المسلمين فيصدق القول بأن الله عز وجل قال للمسلم أسلم فقال أسلمت لرب العالمين أم أن الآية خاصة وأن مرتبة الإسلام والإنقياد المطلق هذه خاصة بالأنبياء فلذا ذكرت على نحو الثناء على إبراهيم .
الجواب هو الأول وأن المعنى ينطبق على المسلمين، ليكون من معاني الآية وبلحاظ الآية السابقة الزجر عن التخلف عن الإسلام , والإنذار من الإعراض عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتدل الآية في مفهومها على الثناء على المسلمين لأنهم لم يرغبوا عن ملة إبراهيم، ولم يكتفوا بهذا بل تعاهدوا مراتب الإيمان والتقوى وإمتثلوا لأمر الله بأداء الفرائض ومنها الصلوات اليومية الخمسة وجاهدوا في سبيل الله بالمال والنفس، قال تعالى[لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ]([301])، وفيه ترغيب للناس بالإسلام، وإقتفاء أثر المسلمين وعدم الإعتداء عليهم.
وتضمنت الآية الثناء على إبراهيم وبيان شأنه ومنزلته الرفيعة في الدنيا والآخرة بينما نعتت الذي يزهد في ملته بالسفه وخفة العقل، ولكن هذا السفه له أثر في الآخرة التي هي دار الحساب والجزاء، لتدل الآية في مفهومها على خسارة الكافر والجاحد في الآخرة بسبب سوء إختياره
بحث أصولي
هناك مبحث مستحدث إسمه المشتق تكلم الأصوليون فيه كثيراً وتفرعت فيه الدراسات وهو يعني في الإصطلاح كل لفظ يدل على الذات بلحاظ اتصافها بمبدأ معين مع اختلاف حال الإتصاف، وبين المشتق في الإصطلاح الأصولي وعلوم اللغة عموم وخصوص من وجه فهو في الأدب كل لفظ اشتق من لفظ آخر بموافقته في لفظ حروفه وترتيبها.
فالمضارع مشـتق عند اهل اللغـة دون الأصوليين، بعكس صفة الزوج مثلا عند الأصوليين وهو جامد عند اهـل الأدب، نعم الفاعل والمفعول به مشتق في كلا الإصطلاحين، واطلق المشتق بلحاظ حالات التلبس على ثلاث وهي:
الأولى: الذات المتلبسة بالمبدأ وهو النعت والصفة والمحمول في حال النسبة، كما تقول فيمن يحضر الدرس في الوقت الحاضر فلان يدرس، او مسافر، او مريض فاستعمال المشتق هنا حقيقي لوجود المقتضي وفقد المانع وصدق الدلالة المطابقية ولا يمنع تخلل فترة العمل بما هو ضده ولا يخل بالصفة عرفاً، فالقاضي يصدق عليه التلبس بالمبدأ وان كان نائماً.
الثانية: استعماله في ذات تلبست بالمبدأ في الزمن الماضي ولكنك تنسب لها الفعل في الحال، فتقول فلان طالب علم، وقد ترك الدراسة منذ زمن، فزمن النسبة الآن اما التلبس بالمبدأ هو الأمس، او تقول فلان القاضي مع انه ترك القضاء منذ زمن واختلف في هذا الإستعمال هل يعتبر حقيقة ام مجازاً.
الثالثة: اطلاقه على ذات ستتلبس بالمبدأ في المستقبل كما تقول لمن يدرس الطب فلان طبيب، فزمان النسبة هو الوقت الحاضر، وزمان التلبس هو الغد والإتفاق على ان اطلاقه هنا مجاز.
وقيل ان المشتق حقيقة في خصوص التلبس بالمبدأ أي في حـال النسبة ومجاز في غيره، واستدل عليه بالتبادر وصحة السلب عمن زال عنه الوصف.
ولكن هذه الآية تدل على ان المشتق حقيقة يشمل اطلاقه على الـذات بعد انقضـاء التلبس، ولكنه ليس قاعدة كلية في هذا المبحث الأصولي المستحدث .
فالصلاح كان في الدنيا وان الآخرة دار ثواب وليس فيها عمل، ولا يعارضه وجـود حذف في الآية وان المراد بالآية هو ثواب الصالحين، لا يمنع ايضاً من الإستشهاد الأصولي بهذه الآية في خصوص الحالة الثانية وهي التي اختلف فيها الأصوليون بالنعت بالحقيقة والمجاز والا فان الحالتين الأولى والثالثة ليس فيهما خلاف.
الأولى على الحقيقة، والثالثة على المجاز.
لذا فان كان التخلف عن ملة ابراهيم والإعراض عنها من السفه وخفة الحلم فان الإعراض عن القرآن والإسلام حالة اشد من السفه فلا غرابة بعدم الرضا من الكافر الوثني إلا الإسلام.
بحث فقهي
السفه من موارد الحَجْرِ وهو لغة المنع، وفي الإصطلاح منع المحجور عليه شرعاً يقال حجر عليه القاضي يحجره حجراً اذا منعه من التصرف في ماله لسفه الى جانب امور اخرى كالصغر والجنون والفلس والرق، والسفه يعني انعدام الحالة المستديمة الباعثة على حفظه لماله وصرفه في الموارد الصحيحة وفق نظر العقلاء والعرف، ومن السفه عدم ابتناء المعاملات على المكايسة وعدم التحفظ عن المغابنة.
والسفه معروف عند العقلاء بالوجدان والتجربة والتباين في السلوك، وتحصيل المال وانفاقه، والسفيه لا تنفذ تصرفاته في ماله ببيع وصلح واجارة وهبة وإيداع وعارية بل ان حجره لا يتوقف على حكم الحاكم على قول قوي، ويكون عليه ولي اذ لا يجوز استقلاله في معاملاته، نعم تصح عباداته.
ولقد أولى الفقه عناية خاصة بأحكامه لقاعدة لا ضرر، ونفي الحرج في الدين، وحفظ مال المسلم مما يدل على ارتقاء الفقه الإسلامي ونفاذه الى الأمور الشخصية وحفظ الناس والأفراد وتدارك اعمالهم، فمن باب اولى ان يتوجه الإسلام لحفظهم في عقيدتهم ودينهم فانك ترى ان لفظ السفه وما يتفرع عنه ورد في القرآن خمس عشرة مرة، لم يتعلق بالأموال الا في موضعين [ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا ]([302])، [ وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ]([303]).
وتشير آية البحث إلى حقيقة قرآنية وهي ان قصص الأنبياء لم ينحصر موضوعها بهم على نحو القضية الشخصية فيشمل الناس جميعاً ليتعلق الحكم بمعنى أعم من السلوك والعقيدة، فهي في دلالتها التضـمنية حث للناس على الإقتـداء بهم، وفي دلالتها الإلتزامية توبيخ لمن يتخلف عن ركبهم، وذم الذي يعرض عن الإسلام ونعته بالسفه يدل في مفهومه على مدح المسلم واستحقاقه لوصف الرشد والحكم، وفي ذلك عز للمسلمين وعون لهم على الثبات واختيار طرق الرشاد وسبل الجهاد.
ولعل في اخبار الآية عن مقام ابراهيم وعلى نحو التبعيض من الصالحين بشـارة للمسلمين خصـوصاً وانه قـد ورد وصفهم بالصلاح وانه من الصالحين في الدارين، فهم ورثـة الأنبياء والمؤهلون الى الدرجات العالية في الجنة والإجتماع مع الأنبياء فيها .
وموضوع الآية أعم من باب الفقه لأنها تتعلق بالعقائد بلحاظ أن السفه عنوان الجهالة والعزوف عن الحق والإستهزاء بالآيات.
قوله تعالى[ إِذْ قَــالَ لَـهُ رَبُّــهُ أَسْـــلِمْ قَـــالَ أَسْــلَمْـتُ لِــرَبِّ الْـعَــــالَمِــينَ ] الآية 131.
الإعراب
اذ: ظرف لما مضى من الزمان، وقد تكون للمفاجأة لا عمل لها، وقد تكون ظرف مكان، او حرف توكيد زائد، ومنهم من قـال انهـا حرف تحقيق في كل الآيات المصـدرة بها، وهذا تقيـيد بلا دليل، خصوصاً على منهجيتنا في التفسير وهي عدم حصر المعنى اللغوي للفظ القرآني بفرد من افراد النحو، وانه يشمل الأعم من المصاديق الممكنة ولحاظ الآية مع احتمال تعدد وجوه التأويل، وقيل يتعلق بمضمر أي اذكر، والعموم أولى وهو كظرف يتعلق باصــطفيناه، قال: فعل ماض والجــملة الفعلية (قال) في محل جر باضافة الظرف لها.
له: جار ومجرور متعلقان بقال.
ربه: فاعل قال، والهاء : ضمير متصل في محل جر بالإضافة.
أسلم: فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.
قال: فعل ماضِ، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو.
أسلمت: فعل ماضِ وفاعل، والجملة في محل نصب مقول القول.
لرب: جار ومجرور متعلقان بأسلمت، وهو مضاف.
العالمين: مضاف اليه مجرور وعلامة جره الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم.
اللغة
الإسلام والإستسلام: الإنقياد، وسلم الشيء أي خلص لـه.
واسلم: انقاد بالمعنى اللغوي للإنقياد وقيل بمعنى إصطلاحي مستحدث لإنقياد الفعل او الترك لما يقطـع او يظن انه طاعة للمولى ويعتقد موافقته للأمر، ومطلوب لـه مع عدم كونه في الواقع كذلك ويعتبر مقابلاً للتجري، وبينه وبين الطاعة عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء الطاعة، ومادة الإفتراق ان الإنقياد اعم من الامر الواقعي، اما الطاعة فانها مطابقة للواقع ولا دليل على هذا المعنى.
في سياق الآيات
ان الجمع بين هذه الآية والآية السابقة بشارة للمسلمين بالدلالة الإلتزامية فهم الذين اتبعوا نهج ابراهيم واحسنوا اسلامهم وتعاهدوا مضامين العبودية في الأرض باعتبارها جامعة للكمالات الإنسانية ولابد ان يتعقبها الجزاء في الآخرة.
وصلة هذه الآية بالآية السابقة على وجوه:
الأول : بعد أن بينت الآية السابقة قبح العزوف عن مفاهيم وسنن التوحيد خفة في العقل وقلة في الحلم ذكرت هذه الآية إسلام وإنقياد إبراهيم لأمر الله عز وجل.
الثاني : ترى لماذا لم تقدم الآية إسلام إبراهيم أولاً , الجواب قد جاء الآيات السابقة بيان ملة إبراهيم وإخلاصه في عبادة الله ونيله مرتبة الإمامة وجاءت هذه الآية لتوكيد حقيقة وهي أن وظيفة الناس إتباع ملة التوحيد والتنزه عن الشرك والضلالة.
الثالث : بيان عظيم الثواب على الإسلام إذ أن قوله تعالى[وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ] بشارة الفوز في الآخرة للمسلمين الذين يعملون الصالحات.
وصلة هذه الآية بالآية التالية على وجوه:
الأول : بيان حقيقة وهي أن الوصية بالإسلام بسيطة غير مركبة تتقوم بإعلان الإنقياد لأمر الله عز وجل، وتقدير الجمع بين الآيتين: قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه) ليعود الضمير الهاء في ووصى بها إلى كلمة التوحيد، والإقرار بالعبودية لله عز وجل.
الثاني : لقد تكرر لفظ الإصطفاء في هذه الآيات فأخبرت الآية السابقة عن إصطفاء وإجتباء إبراهيم في الدنيا، وتضمنت الآية التالية إصطفاء وإختيار الدين لأبناء يعقوب الذي هم من ذرية إبراهيم، ولم يرد إصطفاء الدين في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة ليكون من عمومات قوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]([304])، بلحاظ أن الإصطفاء والإختيار للدين نعمة عظيمة.
الثالث : توارث ذرية وأمة من أهل الأرض الإيمان، والبقاء على التوحيد وحسن الإسلام، وترغيب الناس بإتباعهم لحين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجيئه بالمعجزات ودخول الناس في الإسلام جماعات وقبائل، قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]([305]).
اعجاز الآية
الآية دعوة لبني اسرائيل وغيرهم للإسلام بواسطة ابراهيم uباعتبار انهم يدعـون الاقتـداء به واتبـاع نهجـه، ويفتخـرون بالصلة معه، ومن اعجازهـا المنزلة الرفيعة لإبراهيـم uفي الملل، واتفاق المليين على نحـو العموم الإستغراقي بعظيم منزلته في مراتب الإيمان.
فابراهيم اسلم بخطاب شخصي موجه لـه من عند الباري عز وجل، والمسلمون تلقوا القرآن فآمنوا به وعملوا باحكامه، وتدل الآية ايضاً على اعجاز القرآن فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب من عند العلي الأعلى، والمسلمون اتبعوا نهج ابراهيم uبالمبادرة الى الاسلام واحكامه وسننه فسينالون تلك المنزلة في الآخرة.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية (أسلم)ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
في الآية لطف ودعوة كريمة الى الإسلام بما تميل اليه النفوس من مصاديق الإيمان وفيها بعث للإنتقال من صرف وجود الإيمان الى الأفراد الواقعية المأمور بها منه وفي ذلك ابلغ برهان وحجة للمسـلمين وتأكيد بذكر الأسوة الحسنة .
و تخاطب الآية العقول بلغة المثال الكريم التي تلائم الناس جميعا على إختلاف مداركهم وفي الآيـة ثنـاء مركـب وذم، ثنــاء عـلى ابراهيـم uظاهر في منطوق الآية، وثناء في دلالتها الإلتزامية على المسلمين باتباعهم لنهج ابراهيم وحسن اسلامهم، وذم للكفار عبدة الأصنام الذين إمتنعوا عن إتباعه وعـدم استجابتهم، ولتخلفهـم عن الإمتثال واٌلإقتداء به.
ولقد تفضل سبحانه وجعل القدوة أباهم وإن علا، فكانت هذه الأبوة باب هداية وابتلاء وامتحان للفريقين من الأبناء مطلقاً، وقد فاز المسلمون بحفظ ملته وسننه ودعوا الناس جميعاً لها.
ومن ملة إبراهيم جهاده في سبيل الله ودعوته لأبيهم وقومه إلى الإسلام، وفي التنزيل[وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ]([306]).
موضوع الآية
ذكر وبيان ملة وديانة ابراهيم uومنهجه وشريعته التي كان عليها والمطلوب من الناس اتباعها، وتبين الآية ثواب الإسلام والإنقياد التام لأمر الله تعالى، وانه مركب، ففي الدنيا يكون الإصـطفاء، وفي الآخرة يكون الحشر مع الصالحين.
وهل قوله هنا بالإسلام في بدايات اسلامه وانه لم يبلغ مرتبة الإيمان لأن الإسلام ذكر بمفرده كما في قوله تعالى [ قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ]([307]) الجواب: لا، لأن الإسلام هنا بمعنى الخضوع والإنقياد والإمتثال كلية لما يؤمر به والإلتزام باحكام التوحيد، وتدل عليه وجوه:
الأول : القيد الوارد في ذيل الآية [ قَالَ أَسْــلَمْتُ لِرَبِّ الْـعَــالَمِـينَ ] أي الإنقياد التام، والإيمان فرع منه ومن اهم مصاديقه، فالآية لا تعني الحصر باسلامه باللسان والنطق بالتشهد، بل اقراره وتسليمه بالعبودية والخضوع للباري عز وجل وامره.
الثاني : لقد جاء الإسلام هنا متضمناً المدح والثناء والدعوة الى الإقتداء به وجُعل في مقابل السفه وخفة الحلم.
الثالث : الدعوة للإقتداء تكون باحسن صوره، لقد اسس ابراهيم uاصـلاً وقواعـد كلية تكـون منهجـاً عاماً للمؤمنين وسنة من مدرســة النبوة يســتطيع المسلمون دائماً الأخذ منها.
واختلف في تحديد أوان هذا القول بالنسبة لإبراهيم uعلى اقوال:
الأول: انه حين أفلت الشمس ورأى ابراهيم تلك الآيات والأدلة التي اســتدل بها علـى وحــدانيـة الله سبحانه [ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ …]([308]) وانه اسلم، حينئذ عن الحسن.
الثاني: ان ابراهيم قاله حين خرج من السرب , أي الموضع الذي اختفى فيه وقال ابن منظور (السرب: حفير تحت الأرض، وقيل: بيت تحت الأرض) ([309]).
الثالث: قال ذلك بعد النبوة، ومعنى اسلم استقم على الإسلام واثبت على التوحيد، والقول اعم من اللفظ، ومادة اسلم قد تتعلق بالإفاضات والكشف والإخبار الملكوتي لإبراهيم uوالأنوار المباركة على قلبه ونفسه.
ان ذكر ابراهيم uفي الآية من باب الأسوة والقدوة والمثال الأفضل لأن مضمون الآية دعوة للناس للإقتداء به، والإقتداء يصدق على حال النبوة وعلى غيرها، والأول اولى ولا يمنع من التكرار والتعدد في الفترات اللاحقة لإستدامة الإيمان ومواصلته الجهاد لأن الســيرة مع النبـــوة محروز معها رضــاه تعالى، بل انها تتــم بهدى وتوفــيق من الله تعالى ولعمومــات قوله تعالى [ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ ]([310]).
وظاهر الآية ان الأمر يحمل على وجوب التسليم لأن الطلب الصادر من العالي المسـتعلي الذي تجب طاعتـه يستلزم طاعته واتيانه ولو في حال عدم ظهور المنع من الترك، نعم لو وجد الترخيـص في الترك فيحمل حينئذ على الإستحباب ويصبح اتيانه بدل الوجوب راجحاً.
أي ان الإستحباب يحتاج الى مؤونة زائدة ايضاً فكيف في هذه الآية، والوجوب مؤكد بقرينة وهي نعت من خالف ملة ابراهيم بالسفه وخفة الحلم ولا واسطة بين الحلم والسفه وان كان كل واحد منهما له مراتب متفاوتة، فتحقق الأمر باتباع ابراهيم في ملته يدل على الوجـوب، وعلى القول بان الفرق بين الإستحباب والوجوب يعرف بشدة الطلب وضعفه فان الطلب يظهر فيه الشدة على القول باعتـبار كيفية الإرادة وان لم تصل النوبة اليه.
مفهوم الآية
تنهى الآية عن الجحود والعناء والتردد في دخول الإسلام وتخبر عن بساطة الإيمان وتجلي الآيات لكل انسان، وتبين اشتراك النبوة والكتب المنزلة وآيات الآفاق بالدعوة الى الإسلام.
وتبين الآية جانباً من أسرار وأهلية نيل ابراهيم uالمرتبة الرفيعة في حياة الأمم، واصلاح النفس وتوظيف العقل النظري والعملي في الدعوة الى الله والعقل النظري هو قوة النفس وكسبها للمبادئ وسعيها لإستكمال العلوم والمدركات الكلية لترتقي الى درجة الملائكة وكذا الإنتفاع من العقل العملي وهو العقل الذي يدبر الجزئيات ويدرك المقدمات العملية للنفس ويميز بين الصواب والخطأ، والفعل الحسن والقبيح ويشارك العقل العملي والعقل النظري في تحريك النفس نحو الهداية والإيمان والتسليم بما جاء به الأنبياء من عند الله تعالى ولكن الهوى والضلالة يكونان حاجباً ظلمانياً، فجاءت الآية لرفع الحجب والغشاوة عن البصائر والأبصار وتلاحظ في الآية الكريمة سرعة استجابة ابراهيم ويمكن اعتبار هذه الآية رداًَ وجواباً سماوياً على التساؤلات الكثيرة والتأويلات لقول ابراهيم uفي تطلعه الى القمر والشمس كما ورد في التنزيل [فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا] وقوله تعالى [فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً ] فابراهيم uلم يقل هذا الا لإقامة الحجة على المشركين واثبات عدم اهلية القمر والشمس للعبادة لأنهما حادثان ابتلى الله عز وجل كلاً منهما بالنقص والزيادة والأفول والغياب.
وتظهر الآية اسلامه حالما توجه له الخطاب الإلهي، والآيات القرآنية تثبت سبق هذا الخطاب وان الإسلام لازم حياة ابراهيم uكما في دعوته لأبيه آزر للإسلام ومن الصعب التفكيك الزماني بين دعوة ابراهيم uلأبيه للإسلام صراحة وبين احتجاجه على قومه ببطلان وزيف اعمالهم ان اعلان ابراهيم uاسلامه لرب العالمين يعني ايمانه بالتوحيد وان الله عز وجل اله الخلائق جميعاً وهذا الإطلاق منه مقدمة لجهاده في سبيل الله ودعوة للناس جميعاً لعبادته تعالى، أي ان اسلامه لم يكن على نحو القضية الشخصية بل إدراكاً للزوم إتخاذ الناس الإسلام عقيدة ومبدأ ومنهاجاً.
بحث بلاغي
من اعجاز القـرآن بلاغـته وما فيه من البدائع تـرى فيه حسـن الإبتداء والختام وبينهما البراعة والدقة والفصاحة، ومن البـديع (الإبهام) ويسمى التوريـة بان يذكر لفظ لـه معـنيان سواء بالحقيقة أو المجاز او الإشتراك او التواطئ، فيتبادر الى الذهن احدهما دون الآخـر ولكن الذي يقصـد هو خلاف المتبادر وهو البعيـد، ويـورى عنه او عن القريب.
وقال الزمخشري: لا ترى باباً في البيان ادق ولا الطـف من التورية ولا انفع ولا اعون على تعاطي تأويل المتشابهات في كلام الله ورسوله واستشهد بقوله تعالى [ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ]([311]).
فهل ذكر الإسلام على نحو الإبهام وانه يراد المعنى الإصطلاحي وهو الإسلام والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ام يراد منه الإنقياد التام والطاعة، ام يراد منه الإسلام بالمعنى اللغوي والذي لم يرق الى الإيمان كما في ذم الإعراب.
ومن المتسالم ان المراد من الوصف بالسفه اولئك الذين اعلنوا قربهم وانتسابهم الى ابراهيم ولم يتبعوه في ملته، اننا بحاجة الى بيان حنيفية ابراهيم واسلامه وملته التي يدعو القرآن الى اتباعها مع حلول ربيع الإسلام ونسخه للشرائع السابقة، وهذه الآية شاهد ودلالة عليها.
نطرح مسألة وهي المعنى الأعم للإسلام الإستغراقي بعنوانه البسيط في كل زمان بغض النظـر عن الخصوصية والكيفية، وفي اسـلام ابراهيم قاعدة كلية تتجلى صدق الإمتثال وحسن الإستجابة واستعداده لقبول الكيفية المناسبة للإسلام في زمانه، وهي في ايام البعثة اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فابراهيم لو كان حيـاً في ايام البعثة النبوية لأصبح مسلماً وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث: ولو كان موسى حياً ماوسعه إلا إتباعي)([312]) .
فافراد الزمان الطولية تدل بالدلالة الإلتزامية وبالواسطة على الدعوة الى الإسلام واتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذا يمكن القول بان ابراهيم uكان مبشراً بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فحسب بل وممهداً لـه ومستعداً للعمل بشرائع الإسلام.
لقد كان حقاً أباً للمسلمين ويمكن الإســـتدلال على ذلك بقوله تعالى [ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ]([313]) وان هذا العهـد جـاء متعقباً للأمر والإسلام.
(وقال الإمام الرازي: وقوله (اسلم) ليس المراد منه الإسلام والإيمان بل امـور اخر، وذكر منها ان الإيمان صفـة القلب والإسلام صفة الجوارح، وان ابراهيم uكان عارفاً بالله تعالى بقلبه، وكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح والأعضاء بقوله اسلم)( [314])، واللفظ العربي يحمل على ظاهره خصوصاً وان الإسلام اشرف انتساب، ولكن المعنى الحسن الذي أشار إليه مستقرأ من تعلق ونسبة الإسلام بانه لله.
فالآية الكريمة تبين عظيم ثواب الإسلام في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يعني الأصطفاء والإختيار والإجتباء، وفي الآخرة يعني الصلاح وعظيم منزلة الصالحين، ان قوله تعالى [ قَالَ أَسْــلَمْتُ لِرَبِّ الْـعَــالَمِـينَ ] يتضمن الإستجابة من غير فصل او امتزاج ثم ان الإسلام جاء بالإقرار بالتوحيد، فإسلام ابراهيم كان بعنوانه المجرد جهاداً وتلك من الخصوصيات التي استحق بها ابراهيم تلك المنزلة الكريمة، وانه اليقين والتسليم وبلا شرط ومن غير تقييد.
وبما ان ظاهر الآية الإطلاق في موضوع الإسلام لاسيما وانه جاء هنا دعوة لبني اسرائيل للإسلام باتباع ومحاكاة ابراهيم uفان الإسلام في الآية يحمل على المعنى الأعم لاسيما وانه غير متحقق عندهم وان الإسلام سابق للإيمان من حيث الزمان.
فبين الإسلام والإيمان عموم وخصـوص مطلق فكل مؤمن هو مسـلم وليس العكس، وقد تقدم القول ان الإسلام في الآية اعم من المعنى الإصطلاحي وانحصاره بالشهادتين او اعلان الشهادة بالتوحيد بالنسبة لزمانه عليه السلام، وبلحاظ تعلق الجار والمجرور باسلمت في قوله تعالى [قَالَ أَسْــلَمْتُ لِرَبِّ الْـعَــالَمِـينَ] يظهر ان تعلق موضوع الإسلام هنا بالقلب والجوارح والأركان ويعني الإيمان والإستجابة والإمتثال والتام.
الآية لطف
لقد كان إبراهيم في زمن شرك وضلالة والناس منقادون إلى الطواغيت، فتفضل الله عز وجل بهدايته ليقهر به دولة الضلالة بالجدال والبرهان كما في إحتجاجه على نمرود الذي ورد في القرآن[فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ]([315]).
ولم يقف إبراهيم عند الإحتجاج ومواجهة القوم الظالمين بل سخر أهل بيته معه لعمارة البيت الحرام وتأسيس فريضة الحج لتقترن بملة إبراهيم وتكون دعوة سنوية متجدداً للإيمان وحرباً متجددة على الكفر والشرك ولم تقل الآية لأهل زمانه أسلموا، فهذا الأمر متوجه للناس في كل زمان ولكن بمراتب متباينة وكيفيات مختلفة، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]([316]).
ويتجلى اللطف الإلهي بإبراهيم بتوجه الخطاب له من عند الله، وقد ورد في آدم عليه السلام إذ خاطبه الله وهو في الجنة[قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ]([317])، وهل جاء الخطاب لإبراهيم من الله مباشرة أم بالوحي والواسطة، الجواب هو الثاني، قال تعالى[وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ]([318]).
وإذ أختتمت آية البحث بقول إبراهيم[أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ] فقد تفضل الله عز وجل على كل مسلم ومسلمة بتلاوة قوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]([319])، في كل يوم عدة مرات وعلى نحو الوجوب العيني في الصلاة ليكون معنى الحمد أعم وهو عنوان الثناء على الله والشكر له سبحانه، ومن مصاديق الشكر في المقام التوفيق للإنقياد العام من المسلمين لله تعالى، ويتجلى الإسلام والإنقياد له سبحانه بوقوفهم بين يديه خمس مراتب في اليوم لم يمنعهم برد أو حر، أو مرض أو إبتلاء.
إفاضات الآية
تبين الآية إن إبراهيم كان على طريق بيضاء تمنع الإنسان من التيه والضلالة ولا تقود إلا إلى الأمن والسلامة، لقد أنعم الله عز وجل بالأنبياء لإيضاح اليقين والترغيب بالإيمان وجعل النفوس تنفر من الكفر والضلالة وهل ما ورد حكاية عن إبراهيم[أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ] خاص به أن هو شامل لعموم الأنبياء الجواب هو الثاني إذ تبين الآية مدرسة النبوة وأن النبي حجة الله في الأرض بإسلامه وإنقياده إلى الله عز وجل.
لقد رزق الله عز وجل إبراهيم أعظم النعم وهو الإنقياد إليه سبحانه قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]([320]).
وتدل الآية على الخلق الكريم الذي رزقه الله إبراهيم عليه السلام الذي يترشح عن الإنقياد لله عز وجل وبه يطيب العيش ويحسن مقام الإنسان بين الناس ليكون مقدمة ونوع طريق لدعوة إبراهيم الناس للإسلام.
وتدل الآية في مفهومها على الثناء على المسلمين لأدائهم الفرائض وتسليمهم بالنبوة وقد أنعم الله عز وجل على إبراهيم بالإسلام ليجاهد في بيان مبادئه وسننه ويدعو الناس إليه بحجج بيت الله عز وجل قال تعالى[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]([321])، وتفضل الله سبحانه وجعل المسلمين أمة عظيمة تظهر وتنشر الإنقياد لله في مشارق ومغارب الأرض في عباداتهم اليومية وتلاوتهم للقرآن وإستحضارهم لإسلام إبراهيم وصبرهم في جنب الله وهو من عمومات[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([322]).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بظرف الزمان الماضي(إذ) ويفيد بالدلالة التضمنية على تعلق موضوع الآية بما سبقها وإتصالها بموضوع الآية السابقة على نحو التعليل والبيان، فلما ذكرت الآية السابقة أن الله عز وجل أكرم إبراهيم بالإجتباء والإختبار في الدنيا ونيل المرتبة الرفيعة في الآخرة فأنه سبحانه بيّن في هذه الآية إستحقاقه للفوز بهذه المرتبة وفيه دعوة للمسلمين والاس جميعاً لنيل ذات الدرجة السامية بالتقوى والصلاح، ومن الإعجاز في مضامين آية البحث اليسر في شرائط بلوغ إبراهيم درجة الخلة وسمو المرتبة، فهي تتضمن خطاباً لله عز وجل، وجواباً من إبراهيم، وليس ثمة فترة وتردد من إبراهيم، تلقى القول والأمر من الله بالإسلام بادر وبالإستجابة، فلم تقل الآية(فقال أسلمت).
وهل يتعلق الإصطفاء بوصية إبراهيم لبنيه بالإسلام، الجواب نعم، ليكون من مصاديق التسليم والإنقياد لأوامر الله عز وجل تعاهد كلمة التوحيد بالوصية بها للذرية.
وقد ورد في الآية التالية قوله تعالى حكاية عن يعقوب[يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ]([323])، ويعقوب هو حفيد إبراهيم مما يدل على وصية إسحاق وهو إسرائيل إبناءه بذات الوصية وأنها من ميراث النبوة، وتكرر لفظ(قال) في الآية مرتين وليس فيها إلا موضوع القولين لتكون آية القول والمناجاة بين الله وخليله.
وهل مضامين الآية من مصاديق الإصطفاء المذكور في الآية السابقة[وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا] الجواب نعم فإن أمر الله عز وجل له بالإسلام من معاني الإختيار والإجتباء.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى : بيان منزلة إبراهيم عليه السلام عند الله عز وجل.
الثانية : ذكر فصل وخصوصية لإبراهيم لنيل مرتبة الخلة، قال تعالى[وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً]([324])، وقد أنعم الله على آدم بأن خلقه من تراب ونفخ فيه روحه ,ورزق صالحاً ناقة معجزة وأنعم على موسى بأن كلمه الله عز وجل من غير واسطة، وتفضل على عيسى من حين ولادته فجعله من غير أب، وآتى سليمان ملكاً عظيماً، ورزق محمداً صلى الله عليه وآله وسلم المعجزات العقلية والنقلية وجعل أمته[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([325]).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً] وموسى نجياً، واتخذني حبيباً، ثم قال: وعزتي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيِّي)([326]).
وقيل الخليل الذي ليس في محبته خلل , أي أن الله عز وجل إصطفى إبراهيم لمقامات القرب وفيه شاهد على عظيم منزلة الإنسان عند الله وأن نفخ الروح في آدم لم تنقطع منافعه وآثاره وبركاته.
وعن ابن عباس في الآية أعلاه(كان منزله على ظهر الطريق، فأصاب الناس سنة وجهدوا عنها واجتمعوا على باب داره يطلبون الطعام، وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر فبعث غلمانه بالإبل إلى ذلك الخليل فسأله الميرة. قال خليله لغلمانه : لو كان إبراهيم إنّما يريده لنفسه احتملنا ذلك له فقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة، فرجع رُسُلُ إبراهيم إليه فمروا بالبطحاء يعني السهلة، فقالوا: لو انا حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس إنا قد جئنا بميرة، إنا نستحي أن نمر بهم وإبلنا فارغة، قال : فملأوا تلك الغرائر سهلة ثم إبراهيم (عليه السلام) وساره نائمة، فأعلموا ذلك،
واهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه، فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة،
وقد ارتفع النهار، فقالت: سبحان الله ما جاء الغلمان فقالوا لها: بلى قالت: فما جاءوا بشيء، قالوا : بلى، فقامت إلى تلك الغرائر ففتحتها فإذا هو أجود حواري يكون فأمرت الخبازين فخبزوا وطعموا، قال: فلمّا استيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام، فقال: ياسارة من أين هذا الطعام؟ قالت : من عند خليلك المصري؟ قال: هذا من عند خليلي الله، لا من عند خليلي المصري. قال: فيومئذ إتخذه الله خليلاً مصافياً)([327]).
الثالثة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختبار، وتبين هذه الآية اللطف واليسر في هذا الإمتحان فمع عظيم منزلة إبراهيم فإن الله عز وجل قال له أسلم فتلقاها إبراهيم بالقبول والرضا والإمتثال الحسن.
التفسير
قوله تعالى[إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ]
جاء هذا القول والأمر من الله، وفيه آية إعجازية تبين عظيم مقام الربوبية وأنعدام البرزخ بين الله وبين الناس ، وهو من اللطف الإلهي على نحو متعدد من وجوه:
الأول : إسلام إبراهيم وإنقياده إلى الله.
الثاني : جهاد إبراهيم في سبيل الله في مجتمعات مشركة ضالة.
الثالث : فوز إبراهيم بمرتبة الإمامة.
الرابع : صيرورة ولدي إبراهيم الصلبيين إسحاق وإسماعيل نبيين، ونيل بعض أحفاده مرتبة النبوة.
ولو كان عند إبراهيم أولاد آخرون أخوة لإسماعيل وإسحاق فهل يكونون أنبياء وأن إجتماع الإمامة والخلق عند إبراهيم مرتبة عظيمة من خصائصها صيرورة الأبناء الصلبيين كلهم أنبياء، الجواب لا دليل على أي فرد من فردي الملازمة أعلاه.
الخامس : بيان الفوز والثواب العظيم في الدنيا والآخرة على إعتناق الإسلام , وفيه وجوه:
الأول : تأكيد رحمة الله بالناس جميعاً ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : ترغيب الناس بالإسلام.
الثالث : دعوة الناس للإقتداء بإبراهيم وإتباعه في الصالحات وإخلاص العبودية لله عز وجل.
وفي الآية دعوة للناس لدخول الإسلام وإتباع ملة إبراهيم والفوز بالمراتب العالية في الدنيا والآخرة، إذ تبين آية البحث علة إجتباء إبراهيم في الدنيا ومقامه الكريم في الآخرة وهي إسلامه وإمتثاله لأوامر الله لما في لفظ(إذ) في المقام من معاني التعليل والبيان لمضامين الآية السابقة.
وقد جاءت أوامر الله ونواهيه جلية في القرآن، ومن الإعجاز أن الأحكام فيه خالية من اللبس والترديد وأسباب الجهالة والغرر , وتضمنت السنة النبوية القولية والفعلية البيان التفصيلي والتفسير كما في قوله تعالى[أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ]([328])، وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر)([329]).
وأخرج عن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس، ثم تلا الآية أعلاه)([330])، أي أن الملائكة تدخلوا لتعيين وقت الصلاة اليومية ليتوارثه المسلمون إلى يوم القيامة من غير إختلاف بينهم , وتلك آية في تثبيت سنن التوحيد في الأرض وهو من مصاديق الإسلام والإنقياد لأوامر الله عز وجل الذي ذكرته آية البحث ومن الإصطفاء في الدنيا للإشتراك والإتحاد في أداء الصلاة وقتاً وكيفية ولتكون منافع صلاة الجماعة وإستحبابها المؤكد على وجوه:
الأول : منع الإختلاف في أوان الصلاة، وتفسير دلوك وزوال الشمس الذي يعني زوال وميل الشمس عن كبد السماء إلى جهة الغروب والمغيب.
الثاني : تعاهد شرائط وأجزاء الصلاة.
الثالث : التفقه في الدين بمعرفة وإتقان كيفية أداء الصلاة.
الرابع : تنمية ملكة التقوى.
الخامس : الإعلام المسلمين العام بالإسلام والإنقياد لأوامر الله ففي كل يوم يقول ويفعل المسلم وعلى نحو التعدد خمس مرات ما يدل على إسلامه لرب العالمين وما يثبت عدم عزوفه عن ملة إبراهيم، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([331]).
وحتى في مقدمات الصلاة هناك مدد ملكوتي بفيض من الله، فأخرج البزاز عن علي قال: لما أراد الله تعالى أن يعلم رسوله الأذان، أتاه جبريل عليه السلام بدابة يقال لها البراق، فذهب يركبها فاستصعبت، فقال لها جبريل عليه السلام أسكني، فوالله ما ركبك عبد أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وآله وسلم فركبها حتى انتهى إلى الحجاب الذي يلي الرحمن، فبينما هو كذلك، إذ خرج عليه ملك من الحجاب.
فقال الملك: الله أكبر الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي أنا أكبر أنا أكبر، ثم قال الملك: أشهد أن لا إله إلا الله، فقيل له من وراء الحجاب: صدق عبدي، أنا الله لا إله إلا أنا فقال الملك: أشهد أن محمداً رسول الله، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي، أنا أرسلت محمداً، فقال الملك: حيّ على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة. ثم قال: الله أكبر الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب : صدق عبدي، أنا أكبر أنا أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، فقيل من وراء الحجاب صدق عبدي، لا إله إلا أنا ، ثم أخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه، فأم أهل السموات فيهم آدم ونوح، فيومئذ أكمل الله لمحمد الشرف على أهل السموات والأرض)([332]).
ومن الإعجاز في آية البحث أنها ذكرت الله بصفة الربوبية مع الإضافة (ربه) أي رب إبراهيم , وفيه دلالة على أن الله عز وجل هو الذي أراد رحمة إبراهيم فحينما قال له ربه أسلم فإنه أعانه على الإسلام بإقامة الحجة والبرهان على ربوبيته المطلقة ولزوم عبادته، قال تعالى[وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً]([333]).
قوله تعالى[قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ]
لم يتردد إبراهيم في الإستجابة والإمتثال لأمر الله إذ أن الأمر بالإسلام نعمة عظيمة خصّ الله بها إبراهيم لتكون قريبة من الناس جميعاً كالثمار التي تتدلى في طريق يسلكه كل الناس وهو طريق الحياة وما فيه من الإختبار والإبتلاء وليكون مباركاً محاطاً بآيات الهداية ومصاديق اللطف التي تجذب أهل الأرض إلى الإيمان والتقوى.
وتفيد الآية الكريمة وبلحاظ متعلقها من مضامين الآية السابقة والرزق والشأن العظيم الذي وهبه الله لإبراهيم أن الله عز وجل يعطي الكثير المستديم بالقليل المنقطع فبقول أسلمت وما يترشح عنه من ضروب العبادة أيام الإنسان القصيرة في الدنيا ينال الخير ويفوز بالإصطفاء في الدنيا والمنزلة الرفيعة في الآخرة.
وقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إذ أكرمه بإعلان إسلامه وإسلام أمته وأجيالها المتعاقبة إلى يوم القيامة، بقوله تعالى[فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي]([334])، ليتعاهد المسلمون نهج وملة إبراهيم ويفوز بذات المرتبة التي جعله الله فيها فضلاُ وإحساناً منه وهو من الإعجاز في خاتمة هذه الآية بالثناء عليه لكونه من الصالحين[وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ]([335]) .
أن خاتمة الآية إخبار بأن منزلة إبراهيم الرفيعة في الآخرة ليست خاصة به فتشمل كل مؤمن يعمل الصالحات، وأخرج الحاكم وصححه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله إني أسألك بوجه الله بم بعثك ربنا؟ قال: بالإسلام… قلت: وما آيته؟ قال: أن تقول{أسلمت وجهي لله} وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة. كل مسلم على مسلم محرم أخوان نصيران، لا يقبل الله من مسلم أشرك بعدما أسلم عملاً حتى يفارق المشركين إلى المسلمين، ما لي آخذ بحجزكم عن النار. ألا إن ربي داعيّ، ألا وإنه سائلي هل بلغت عبادي؟ وإني قائل: رب قد أبلغتهم، فليبلغ شاهدكم غائبكم. ثم أنه تدعون مقدمة أفواهكم بالفدام، ثم أوّل ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه. قلت: يا رسول الله هذا ديننا؟ قال: هذا دينكم وأينما تحسن يَكْفِكَ)([336]).
وهل وصية إبراهيم لأولاده بكلمة التوحيد والإسلام لله الواردة في الآية التالية من علل وأسباب إصطفائه وإجتبائه أم أن القدر المتيقن منها هو مضامين هذه الآية وتكليفه الشخصي .
الجواب هو الأول، وهو من الإعجاز في لغة العطف بين الآيات إذ إبتدأت الآية التالية بقوله تعالى[وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ]([337])، لتكون الآية موعظة للمسلمين ودعوة لهم لتوارث الإيمان.
قوله تعالى[وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْـطَفَى لَكُـمْ الدِّيـنَ فَلاَ تَمُـوتُـنَّ إِلاَّ وَأَنْتُـمْ مُسْـلِمُونَ] الآية 132
اللغة والإعراب
ووصى: الواو عاطفة، وصى: فعل ماض، وقال النحاس([338]) : فيه معنى التكثير.
بها: جار ومجرور متعلقان بوصى، إبراهيم: فاعل مرفوع.
بنيه: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، ومن الإسماء التي تجمع جمع المذكر السالم مثل عليين وسجين.
والهاء: مضاف اليه.
ويعقوب الواو: حرف عطف: معطوف على ابراهيم، ويا بني: منادى مضاف على اضمار القول، والياء هنا مفتوحة لأنها لو سكنت لإلتقى ساكنان.
يا بني: يا: حرف نداء، بني: منادى مضاف.
ان الله: ان وإسمها.
اصطفى: فعل ماض والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ان.
وفاعل إصطفى ضمير مستتر تقديره هو.
لكم: جار ومجرور متعلقان بإصطفى، الدين: مفعول به منصوب.
فلا تموتن: الفاء فصيحة، أي اذا عرفتم هذا، لا: ناهية، تموتن: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف نون الرفع وبقيت نون التوكيد المشددة لأنها تتعلق بالمستقبل، والفاعل واو الجماعة وحذفت النون وبقيت الضمة تدل عليها لإلتقائها والنون الأولى المدغمة أي ان الأصل تموتوننّ.
الا: أداة حصر، وانتم: الواو حالية، انتم: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ، مسلمون: خبر، والجملة الإسمية في محل نصب حال، ويقال وصى يوصي ايصاء، والرباعي المهموز اوصى يوصي توصية، ويقال اوصى الرجل ووصاه: عهد اليه أي ان الوصية اسم محصور بمعنى العهد.
في سياق الآيات
الآيـة حـجـة متصـلـة وقائمـة في بني إسرائيـل فبـالإضافـة إلى دعوتهـم بواسطة إبراهيم uإلى الإسلام في الآية السابقة جاءت هذه الآية لتبين لزوم التزامهم الإسلام وتوارثهم لعقيدته، وحرص إبراهيم على إبقاء كلمة التوحيد في عقبه وتدل بالدلالة الإلتزامية على التوبيخ لمن لم يوص أولاده وذريته بإتباع خاتم النبيين واعتناق الإسلام.
الصلة بين هذه الآية والآيات المجاورة لها على شعبتين:
الأولى: الصلة بين الآيات السابقة وهذه الآية، وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين آية(إذكروا نعمتي) ([339]) وبين هذه الآية.
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه بخطاب من عند الله لبني إسرائيل يتضمن ثلاثة أطراف:
الأول: وجوب ذكر بني إسرائيل نعمة الله عز وجل عليهم.
الثاني: الإخبار عن إختصاص بني إسرائيل بنعم تستلزم الشكر.
الثالث: إن الله عز وجل فضل بني إسرائيل على أهل زمانهم، وجاءت الآية محل البحث بوصية إبراهيم لأبنائه وكذا يعقوب لأبنائه، وفي الجمع بين الآيتين وجوه:
الأول: إن يعقوب عليه السلام هو نفسه إسرائيل.
الثاني: إن النعم الإلهية على بني إسرائيل لم تبدأ من بعثة موسى عليه السلام بل من أيام إبراهيم عليه السلام الذي وصى أبناءه بالإسلام والإنقياد لله عز وجل.
الثالث:إن وصية إبراهيم لأبنائه بالإسلام نعمة على بني إسرائيل.
الرابع: ورد في ذكر علة تسمية يعقوب أنه جاء متعقباً لتوأمه عيصو في الولادة من غير فترة بينهما، وجاءت هذه الآية لتبين حقيقة وهي أن يعقوب متعقب لإبراهيم عليه السلام، وصيته لأبنائه بالإسلام وحسن الإمتثال للأوامر الإلهية أي أن لفظ يعقوب له عدة دلالات، ومنها أنه نافلة وفضل من الله على إبراهيم , قال تعالى[وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً]([340]).
الثانية: بعثــة النبي محمــد صلى الله عليه وآله وسلم من النعم التي أنعم الله عز وجل على بني إسرائيل.
الثالثة: وصية يعقوب لبنيه نعمة على بني إسرائيل يجب أن يتجلى ذكرها بتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصداق لتفضيل بني إسرائيل على الناس من وجوه:
الأول: من يدخل الإسلام ينال مرتبة الإسلام، قال تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([341]).
الثاني : من إعجاز القرآن مجيء وصية إبراهيم بصيغة بسيطة وهي الإسلام لله، وقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام.
الثالث : من الإعجاز القرآني أن إبراهيم نفسه سمى أتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين وقد أنعم الله عز وجل عليهم بأن نسبهم بالنبوة لإبراهيم مع أنهم من شعوب وقبائل شتى قال تعالى[أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ]([342]).
الخامسة : تلاوة هذه الآية من ذكر نعم الله على بني إسرائيل، وتذكير بلزوم ذكر هذه النعمة.
السادسة : هذه الوصية من النعم التي هي أصل، وتتفرع عنه نعم عديدة أخرى.
السابعة : لقد بدأت نشأة بني إسرائيل بالتوحيد وحسن الإسلام.
الثامنة : يتجلى إصطفاء الدين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديقه وإتباعه.
التاسعة : جاءت خاتمة هذه الآية نعمة على بني إسرائيل بوجوب التوبة والإنابة ودخول الإسلام وعدم الإرتداد عنه.
العاشرة : بنو إسرائيل هم أنفسهم بنو يعقوب، وبين الآيتين عموم وخصوص مطلق، إذ أن يعقوب وصى أبناءه الصلبيين ومن حضر من أحفاده بلغة الخطاب(ما تعبدون) أما قوله تعالى(يابني إسرائيل) فهو عام لذريته في أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : الصلة بين آية(وإتقوا يوماً) ([343]) وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى : من وصية إبراهيم ويعقوب لأبنائهما تقوى الله، والخشية من يوم القيامة وأهواله.
الثانية: جاءت وصية إبراهيم ويعقوب للأمن والسلامة من أهوال يوم القيامة، لأن الإسلام حرز وأمن من النار في الآخرة.
الثالثة: الذين إصطفى الله عز وجل لهم الدين لابد وأن يخشوا يوم القيامة ويستعدوا له.
الرابعة: لقد أراد إبراهيم ويعقوب في وصيتهما نجاة بني إسرائيل من يوم ليس فيه فدية أو شفاعة، بالإستعداد له بالتصديق بالأنبياء وفعل الصالحات.
الخامسة: كما دعا إبراهيم عليه السلام الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأنه وصى بنيه للتصديق به عند بعثته، وكذا يعقوب عليه السلام في موضوع وصيته لأبنائه.
الثالث: الصلة بين آية (وإذ إبتلى) ([344])، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: تحتمل وصية إبراهيم لبنيه بلحاظ الكلمات التي إبتلاه الله عز وجل بها وجوهاً:
الأول: إنها من ذات الكلمات.
الثاني: إنه نتيجة وفرع لإتمام إبراهيم الكلمات.
الثالث: ليس من صلة بين الكلمات وبين الوصية.
الرابع: هذه الوصية مقدمة لإتمام الكلمات.
والصحيح هو الأول والثاني.
لأن إبراهيم عليه السلام نال مرتبة الإمامة، وهذه الوصية من مصاديق الإمامة والعناية بالذرية والناس جميعاً.
الثانية: وصية إبراهيم عليه السلام لبنيه إمامته للناس من وجوه:
الأول: ذريته من الناس.
الثاني: تقيد أبناءه بالوصية حث للناس على التقوى وحجة عليهم.
الثالث: بوصية إبراهيم لبنيه تأديب للناس وتعليم لهم في كيفية وموضوع الوصية.
الثالثة: لقد أراد الله عز وجل لإمامة إبراهيم أن تبقى بأن وصى أبناءه بكلمة التوحيد ليتوارثوها فيما بينهم.
الرابعة: إصطفاء الدين لذرية إبراهيم من دعائه لهم الإمامة[وَمِنْ ذُرِّيَّتِي]خصوصاً وأن الجواب الإلهي جاء بإستثناء الظالمين من عهد الله.
الخامسة: لقد جاءت خاتمة الآية أعلاه تحذيراً لإبراهيم عليه السلام في ذريته بأن لا يكونوا من الظالمين، فجاءت الوصية منه لوقاية أبنائه وذريته من الظلم والتعدي.
السادسة: لقد أدرك إبراهيم عليه السلام سوء عاقبة الظالمين، ومالحقهم من الضرر والأذى بما قدمت أيديهم ومنه حجب العهد عنهم، قال تعالى[وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]([345])، فلجأ إلى الوصية وأخذ العهد من أبنائه بأن ينقادوا إلى حكم الله، ويسلموا له في دينهم ودنياهم ويخلصوا له العبادة.
الرابع: الصلة بين آية (مثابة) ([346]) وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: من وصية إبراهيم لبنيه تعاهد عمارة البيت الحرام لأنها من الإنقياد والتسليم لله عز وجل.
الثانية: يفيد الجمع بين الآيتين أن إبراهيم كان يؤدب أبناءه بتقوى الله موضوعاً وحكماً ومنهاجاً لتجد وصيته آذاناً صاغية، فقد شاركه إسماعيل في تطهير البيت بأمر وعهد من عند الله عز وجل.
الثالثة: من الطائفين والركع والسجود الذين طهر إبراهيم عليه السلام لهم البيت الحرام أبناؤه وذريته.
الرابعة: تطهير إبراهيم عليه السلام للبيت مقدمة لصلاح ذريته وأبنائه.
الخامسة: تطهير البيت الحرام من إصطفاء الدين لذرية إبراهيم والمسلمين.
الخامس: الصلة بين آية (بلداً آمناً) ([347]) وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: لقد جاءت الآية أعلاه بالتحذير من الكفر والجحود، وجاءت الآية محل البحث بوصية إبراهيم ويعقوب لأبنائهما بتقوى الله.
الثانية: البلد الآمن وما تأتيه من الثمرات وسيلة كريمة لتعاهد ذرية إبراهيم مناسك الحج والفرائض العبادية.
الثالثة: أمن مكة وما يرد عليها من الخيرات مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعون للتصديق به.
الرابعة: يفيد الجمع بين خاتمتي الآيتين وجوب إجتناب الكفر والجحود.
الخامسة: مع وصية إبراهيم لأبنائه بالتقوى والتسليم والإنقياد لله فإنه سأل الله لهم ولأهل الحرم الرزق الكريم ليكون لهم عوناً في تعاهد كلمة التوحيد، ولقد قتل قابيل ابن آدم أخاه هابيل في خلاف شخصي، فجاءت وصية إبراهيم لبنيه بالإنقياد لأمر الله للسلامة والإحتراز من النزاع والخصومة والإقتتال.
وقد تفضل الله عز وجل على المسلمين بأمرهم بالتمسك بالقرآن وما فيه من الأحكام والسنن قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]([348]).
السادسة: جاءت آية (بلداً آمناً) بتقييد الثمرات وفي دعاء إبراهيم بالذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، وجاءت وصية إبراهيم عليه السلام لبنيه بتعاهد هذا الإيمان كي تتوالى عليهم الخيرات والثمار في مكة، وتأتي لذريته في بلاد الشام مما حولهم كما في قوله تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] ([349]).
لتكون الصلة بين المسجدين شاهد على وجود ذرية إبراهيم في مكة وفي المسجد الأقصى وأنه ليس من برزخ أو حواجز بينهم، وأن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدأت من مكة لتصل راياتها إلى بلاد الشام ومن فيها من ذرية إبراهيم وغيرهم، ولم تمر إلا سنوات معدودة على واقعة الإسراء إلا وقد زحف المسلمون إلى بلاد الشام ليسود حكم الإسلام فيها.
السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين إنذار الذين لا يتقيدون بوصية إبراهيم من بني إسرائيل، ويصر على الإعراض عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس: الصلة بين آية (وإذ يرفع) ([350]) وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: العناية بالبيت الحرام من وصية إبراهيم عليه السلام لبنيه لأنها من مصاديق التسليم والإنقياد لله عز وجل.
الثانية: ذكرت الآية أعلاه أن إبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا البيت الحرام إلا أن عمارة البيت تدخل في وصية يعقوب لبنيه أيضاً من وجوه:
الأول: وصية يعقوب لبنيه مرآة وصيغة مشابهة لوصية إبراهيم في الماهية والموضوع.
الثاني: عمارة البيت الحرام وظيفة الأنبياء والصالحين.
الثالث: ورود الأخبار بقيام الأنبياء من بني إسرائيل بحج البيت الحرام.
الثالثة: جاء رفع قواعد البيت من قبل إبراهيم وإسماعيل، وذكرت هذه الآية وصية إبراهيم ويعقوب لأبنائهما وفيه شاهد على وحدة السنخية والعمل الصالح بين إبراهيم وأبنائه.
الرابعة: من إصطفاء الدين والصلاح لذرية إبراهيم مشاركة إسماعيل في رفع قواعد البيت الحرام.
الخامسة: لقد أراد إبراهيم ويعقوب في الوصية قبول الله عز وجل لها بإعتبارها عملاً صالحاً وتأسيساً للصالحات ووراثة للفرائض والعبادات.
السادسة: جاء رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت لتتعاهد ذريتهما الإسلام ولا يغادرون الدنيا إلا من منازل التقوى والصلاح.
السابع: الصلة بين آية (أمة مسلمة) ([351]) وفيها مسائل:
الأولى: قيام إبراهيم ويعقوب بالوصية والعهد قربة إلى الله عز وجل.
الثانية: يفيد الجمع بين الآيتين أن إبراهيم وذريته يجمعون بين الدعاء والجهاد في سبيل الله من غير تعارض بينهما أو تعطيل لأحدهما إتكالاً على الآخر.
الثالثة: الوصية المباركة لإبراهيم ويعقوب شاهد على إسلامهما لله عز وجل.
الرابعة: لقد سأل إبراهيم وإسماعيل أن يكون من ذريتهما أمة مسلمة ومنقادة لله عز وجل، وتتضمن الآية محل البحث سعي إبراهيم ويعقوب لإيجاد هذه الأمة وتعاهدها ما يسألانه من الله.
الخامسة: الوصية بتعاهد سنن الإسلام وسيلة مباركة لنيل التوبة والمغفرة من الله عز وجل.
السادسة: جاءت هذه الآية بالإخبار عن إختيار الدين والإيمان لذرية إبراهيم فضلاً من عند الله، والوصية وتلقيها من الإصطفاء في الدين، إذ أنها تتقوم بثلاثة أطراف:
الأول: الموصي، بكسر الصاد.
الثاني: الموصى، بفتح الصاد.
الثالث: موضوع الوصية، إذ جاءت الوصية في مرضاة الله، وحفظا لأحكام الشريعة، وواقية من الفساد.
الثامن: الصلة بين آية (ربنا وإبعث) ([352]) وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه بالدعاء لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , لتكون البشارة بنبوته من أفراد وصية إبراهيم ويعقوب لأبنائهما لأن فيها المصداق الأكبر لإختيار دين الإسلام لذريته الصالحة.
الثانية: يتجلى إصطفاء الدين بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته.
الثالثة: لقد أراد إبراهيم أن تبقى كلمة التوحيد إرثاً لأبنائه يستلمها جيل بعد جيل، وراية يعرفون بها من بين أهل الأرض، فحرص على توصيتهم بتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته.
الرابعة: جاءت هذه الآية بالإخبار عن إختيار الإسلام لذرية إبراهيم، ومن أبهى وأسمى مصاديقه بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من ذريته وذرية إسماعيل.
الخامسة: من مصاديق الحكمة التي يعلّمها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين العمل بوصية إبراهيم ويعقوب.
السادسة: تعاهد مضامين وصية إبراهيم ويعقوب تزكية وتطهير للنفوس والمجتمعات.
السابعة: النطق بالشهادتين، وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصداق الموت على الإسلام.
الثامنة: في الجمع بين الآيتين ندب لدراسة وجوه الإلتقاء والصلة بين حياة وجهاد الأنبياء السابقين وبين نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوتهم لبعثته.
التاسع: الصلة بين آية (ومن يرغب) ([353]) وبين هذه الآية:
الأولى: من ملة إبراهيم الوصية والعهد للأبناء بتعاهد كلمة التوحيد والحفاظ على مبادئ الإسلام.
الثانية: الصدود عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمعجزات التي جاء بها من الرغبة عن ملة إبراهيم والزهد فيها.
الثالثة: الملازمة بين السفه وخفة العقل وبين الإعراض عن الوصية بالإسلام ودين التوحيد.
الرابعة: من إصطفاء وإجتباء إبراهيم في الدنيا وصيته لأبنائه بكلمة التوحيد.
الخامسة: الوصية للأبناء بعقيدة التوحيد والبقاء على الإسلام سبب للفوز بالثواب العظيم في الآخرة.
السادسة: يدل الجمع بين الآيتين على حرص أبناء وأحفاد إبراهيم على إتباع ملة إبراهيم وعدم الرغبة فيها، فمع أن يعقوب هو حفيد إبراهيم فقد بينت الآية أنه على نهج إبراهيم من وجوه:
الأول: تعاهد أحكام وصية إبراهيم.
الثاني: وصيته لأبنائه بذات الوصية وتعاهد مبادئ الإسلام والإنقياد لله عز وجل.
الثالث: توكيد يعقوب لأبنائه وذريته على عدم مغادرة الدنيا إلا بالإسلام، وفيه إشارة إلى بني إسرائيل أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم تصديقهم بنبوته وعدم التردد فيها، والإسلام ينحصر بالتصديق به وإتيان الفرائض التي جاء بها.
العاشر: الصلة بين الآية السابقة (أسلم) ([354])، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الوصية بعد قول إبراهيم(أسلمت لرب العالمين).
الثانية: من حسن إسلام إبراهيم وصيته لولده بالإسلام والموت عليه.
الثالثة: من حسن إسلام إبراهيم لرب العالمين تهيئة أذهان الأبناء لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم التصديق به.
الرابعة: الإسلام عهد تتوارثه ذرية إبراهيم في أجيالها المتعاقبة.
الخامسة: الوصية بالإسلام والإنقياد لأوامر الله أعظم وأسمى وصية موضوعاً وحكماً، ولو كان أمر أهم منها لوصى به إبراهيم والأنبياء والآخرين أبنائهم.
الشعبة الثانية: الصلة بين هذه الآية والآيات التالية، وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية والآية التالية (أم كنتم) ([355]) وفيها مسائل:
الأولى: بيان منافع وصية إبراهيم، وتجلي آثارها الحميدة على أبنائه بالإخبار عن حال يعقوب عند موته وحرصهم على الوصية بالإسلام.
الثانية: لقد أراد إبراهيم ويعقوب بقاء الأخوة وصلة الرحم بين أبنائهم، فوصوهم بالإسلام بإعتباره السبيل لتعاهد الرحم وذكر الله، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]([356]).
الثالثة: بيان إعجاز القرآن وصدق نزوله من عند الله بذكره لوصية إبراهيم ويعقوب مع التحدي بأن الناس أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا حاضرين ساعة إحتضار يعقوب، والظاهر أن تفاصيل هذه الآية غير موجودة في التوراة والإنجيل.
الرابعة: جاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية، وجاءت الآية التالية بلغة الإنشاء والسؤال لتوكيد فضل الله عز وجل على الناس بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيب، قال تعالى في قصة يوسف وأخوته[ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ] ([357]).
الخامسة: بيان توكيد يعقوب على موضوع تقيد أولاده بمفاهيم الإسلام فجاءت هذه الآية بوصيته لهم، وجاءت الآية التالية بسؤاله لهم عن حالهم وعبادتهم وتضمنت الجواب الشافي الذي يدل على تقيدهم بسنن الوصية وأحكام التوحيد.
السادسة: تضمنت هذه الآية والآية السابقة والتالية موضوع الإسلام والإنقياد لله عز وجل، وهو النهج الثابت الذي عليه الأنبياء وأولادهم وفيه شاهد على أن الله عز وجل إصطفى لهم الدين.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية (تلك أمة) ([358])، وفيها مسائل:
الأولى: لقد كان إبراهيم وأبناؤه أمة في الخيرات.
الثانية: لقد بذل إبراهيم الوسع في الثبات على الإيمان، وترك كلمة التوحيد إرثاً مباركاً لأبنائه من بعده.
الثالثة: صلاح وتقوى أبناء إبراهيم وتقيدهم بسنن وصيته يرجع بالثواب والأجر لهم، وليس لمن موجود من ذراريهم أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتكل عليه، ويتخذه ذريعة للصدود عن نبوته.
الثالث: الصلة بين هذه الآية وآية (وقالوا كونوا) ([359]) وفيها مسائل:
الأولى: التباين بين وصية إبراهيم عليه السلام لبنيه وبين قول بعضهم كونوا هوداً أو نصارى وليس من دليل علــى حصول النسخ بعد إبراهيم في الوصية وموضوعها، ومن الآية أنها جاءت بأمــر بسيط هـو الإسلام بمعنى الإنقياد لله عـز وجل.
الثانية: توكيد تحقق الهداية بإتباع ملة إبراهيم.
الثالثة: مجيء القرآن بذات الوصية التي جاء بها إبراهيم والتي تدل بالدلالة التضمنية على الحث على دخول الإسلام.
الرابعة: تنفي الآية محل البحث الجهالة والغرر في مضامين وصية إبراهيم ويعقوب بتوكيدها على الإسلام والثبات عليه وحرمة الإرتداد.
الخامسة: يفيد الجمع بين الآيتين حث الناس على إجتناب الكفر والشرك بالله عز وجل.
إعجاز الآية
تظهر الآية موضوعية الوصية العقائدية واهميتها في تأريخ البشرية، وذكر بنو ابراهيم على نحو الجمع وليس لـه الا ولدان من الصلب، وصحيح ان الإثنين اقل الجمع الا ان الآية تعني شمول الأحفاد بالوصية وتفخيم مقام اولاده ونبوتهم وتلقيهم العهد.
لقد جاء الأمر الإلهي لإبراهيم على نحو القضية الشخصية بأن يسلم هو وحده، ويظهر إنقياده لله عز وجل، وجاءت هذه الآية وثيقة سماوية تبين مرتبة الفقاهة والعلم التي يتصف بها إبراهيم، وأهليته لنيل درجة الإمامة، وبركات الأمر الإلهي، وتولد الكثرة منه إذ بادر إلى وصية أولاده بما أمره الله عز وجل به، وفيه مصداق نبوي متقدم لآيات التنزيل، إذ تنزل آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيتلوها على المسلمين لتعمل قبائلهم وشعوبهم المنتشرة في الأرض بأحكام التنزيل.
وتدل هذه الآية السعة والعموم على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء، وهي شاهد على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([360]) فهم لم يتلقوا الأحكام كوصية بل جاءت خطابات القرآن لهم بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاء قول يعقوب[إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ] آية إعجازية من وجوه:
الأول: ما في هذا القول من علوم الغيب.
الثاني: إخبار يعقوب عن الله عز وجل.
الثالث: إتصال ودوام إكرام وإصطفاء إبراهيم في ذريته وعقبه.
الرابع: تضمن القرآن قصص الأنبياء السابقين، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]([361]).
ومن إعجاز القرآن أن شطر آية واحدة جمع الرسل أولي العزم، بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكر إتحاد شريعته مع شرائعهم بسنن التوحيد، قال تعالى[شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ]([362]).
وعن ابن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيت بالبراق فركبته إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه وإذا هبط ارتفعت يداه، فسار بنا في أرض غمة منتنة، ثم أفضينا إلى أرض فيحاء طيبة، فسألت جبريل عليه السلام؟ قال: تلك أرض النار وهذه أرض الجنة، فأتيت على رجل قائم يصلي ، فقلت: من هذا يا جبريل؟
فقال: هذا أخوك عيسى عليه السلام فسرنا، فسمعنا صوتاً وتذمراً، فأتينا على رجل فقال: من هذا معك؟ قال: هذا أخوك محمد صلى الله عليه وسلم، فسلم ودعا بالبركة وقال: سل لأمتك اليسر، فقلت من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك موسى عليه السلام، قلت على من كان تذمره؟
قال: على ربه عز وجل، قلت: أعلى ربه؟! قال: نعم . قد عرف حدته، ثم سرنا فرأيت مصابيح وضوءاً، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه شجرة أبيك إبراهيم عليه السلام ادن منها، فدنوت منها، فرحب بي ودعا لي بالبركة، ثم مضينا حتى أتينا بيت المقدس، فربطت الدابة بالحلقة التي تربط بها الأنبياء عليهم السلام، ثم دخلت المسجد فنشرت لي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من سمى الله منهم ومن لم يسم، فصليت بهم إلا هؤلاء الثلاث: إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام)([363]).
فإبراهيم لم يوص إبتداءً وإجتهاداً من عنده، بل بالوحي والتنزيل من عند الله عز وجل لتكون هذه الوصية من مصاديق نبوته والشواهد على إمامته والكلمات التي إبتلاه الله بها بأن لا يغادر الدنيا إلا ويوصي أبناءه بما أوصاه الله وأن يعملوا بهذه الوصية بدليل وصية يعقوب لأولاده بمضامينها التي تتقوم بالتوحيد والثبات على الإسلام.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية (ووصى بها) ولم يرد لفظ(وصى) في القرآن إلا في آيتين([364]) وعلى قراءة أهل المدينة والشام (وأوصى) بهمزة بين واوين ولم يرد هذا اللفظ في القرآن .
الآية سلاح
في الآية بيان سبق وجود الإسلام وان اختلفت الكيفية فعلى المسلم ان يهتدي بسنن الأنبياء، والإسلام إرتقاء في علوم التوحيد والكمالات العقائدية.
وتبين الآية مضامين وصايا الأنبياء لأولادهم وأنها قائمة على مرضاة الله والجهاد في سبيله، ولما سأل إبراهيم الإمامة لذريته , وجاء الجواب من عند الله[لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] ([365])، إجتهد إبراهيم في وقاية أبنائه من الظلم وهذه الوقاية بلحاظ أفراد الزمان الطولية على وجهين:
الأول: أيام وجود إبراهيم عليه السلام بين ظهرانيهم.
الثاني: بعد مغادرة إبراهيم إلى الرفيق الأعلى، وتتضمن الآية الإتحاد بين الحالين بلباس التقوى، وتعاهد ذرية إبراهيم في حياته وبعد مماته لكلمة التوحيد.
وتبين الآية موضوعية الوصية العقائدية في حفظ سنن الإسلام، والتهيئة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الآية لطف
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إختبار وإمتحان، وتفضل بأسباب المدد والعون لتقريب الناس إلى سبل الطاعة، وحبب إليهم فعل الصالحات، وجعل نفوسهم تنفر من الفواحش والسيئات.
وجاءت هذه الآية لبيان وجه آخر من وجوه اللطف الإلهي بالمسلمين بأن ذكرت وصيتين لإثنين من الأنبياء مع إتحاد الوصيتين في الموضوع والسنخية والتباين الزماني بينهما بلحاظ أن يعقوب حفيد إبراهيم، للدلالة على توارث الوصية بالإسلام وتعاهد الأنبياء وأبنائهم لمضامينها، فكلما يوصي الأنبياء بالإسلام يوصي أبناؤهم بذات الوصية لتكون على وجوه:
الأول : الوصية بالإسلام وعاء لحفظ النبوة.
الثاني : إنها شاهد على إصطفاء ذرية إبراهيم للإسلام.
الثالث : في الوصية إصلاح لذرية إبراهيم لمراتب النبوة والإمامة.
الرابع : وقاية الأبناء من الزيغ والظلم والتعدي.
الخامس : الوصية النبوية مقدمة للتقيد بأحكام العهد الإلهي.
السادس : الوصية نوع طريق وموضوع لتعاهد الأنبياء الدعاء وسنن التقوى.
مفهوم الآية
يتجلى في هذه الآية إدراك ابراهيم uلضرورة تلبس اهل الأرض جميعاً برداء عبادته تعالى، بان جعل الإسلام وصيته لأولاده وعهده اليهم بلحاظ أنه أغلى وأشرف وأهم شيء عندهم وفي حياتهم.
وتبين الآية التوفيق والفلاح في جهاد ابراهيم uبثبات ابنائه على وصيته لأن يعقوب حفيد ابراهيم فالآية تدل بالدلالة الإلتزامية على ان اسحاق بن ابراهيم هو الآخر وصى ابناءه بها ويعقوب احدهم، كما تدل الآية على شرف الإيمان وان الله عز وجل يمن به على خاصة عباده والمصطفين الأخيار من اوليائه وفيه مدح وثناء على كل من اختار الإسلام عقيدة وملة وحيازته لشرف الدنيا والآخرة.
وتؤكد الآية في مفهومها على مسألة مهمة في عالم التوحيد وهي استدامة الإيمان في حياة الإنسان وعدم كفاية اختياره للإسلام ابتداء بل لابد من تغشيه لحياة الإنسان الى ان يموت لذا يحرم الإرتداد ويعاقب عليه باشد عقوبة على تفصيل بين المرتد الملي الذي كان كافراً واسلم ثم ارتد، والمرتد الفطري وهو الذي ولد لأبوين مسلمين او لأب او أم مسلمة اذ يلحق باشرف الأبوين.
وجاءت الوصية بصيغة الجمع للزوم اسلامهم على نحو العموم الإستغراقي باعتبارهم خاصة واهل بيت ابراهيم uاو لأن الإسلام دين الفطرة، وتظهر بعض المعاني القدسية ودلائل الحاجة النوعية العامة للإسلام بوصية إبراهيم لأبنائه به، وعدم حصر الأمر بإسلامه هو نفسه، ومن مفاهيم الآية ان حسن العاقبة وثبات المرء على الإسلام الى ان يفارق الحياة نوع شكر لله تعالى على نعمة الإسلام واختيارنا له . وفي الآية مسائل:
الأولى: بيان حسن إسلام إبراهيم بوصيته لأبنائه.
الثانية: ضرورة توارث الإسلام، والمحافظة على أحكام الشريعة.
الثالثة: الوصية بالإسلام واقية من تحريف الأحكام.
الرابعة: تأديب وتعليم إبراهيم لأبنائه بما يجعلهم يقبلون الوصية، ويتقيدون بسننها وآدابها.
الخامسة: إرادة العموم في وصية إبراهيم ويعقوب بعدم إستثناء فرد منهم، مما يدل على تجلي معاني الأخوة الإيمانية بينهم.
السادسة: عدم التعارض بين الإصطفاء في الدنيا، وفي الدين، لأن الدنيا مزرعة للآخرة.
السابعة: وجوب إستدامة البقاء على الإسلام، وعدم التفريط في أحكامه وسننه.
إفاضات الآية
من خصائص المؤمنين الفناء في مرضاة الله، والإجتهاد في طلب مرضاته، والحرص على التوقي من المعاصي والسيئات، وجاءت هذه الآية لتبين إحدى خصال الإمامة من جهات:
الأولى : إعانة الذرية في البقاء على الإسلام ومبادئه.
الثانية : الوصية والعهد بتقوى الله.
الثالثة : بيان حقيقة وهي الوصية الإيمانية مانع من سيطرة النفس الشهوانية والحيوانية.
الرابعة : طرد أسباب الشك والريب.
وتشع أنوار وصية إبراهيم على القلوب المنكسرة لتجذبها إلى الفرائض والمناسك، وأدائها بشوق ولهفة.
وتبين وصية إبراهيم سراً من أسرار الإمامة , وهو رجاء اللبث الدائم للذرية في النعيم الخالد بلحاظ أنه ثواب مترشح عن الهداية والصلاح، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل اعلم أنه من مات بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة)([366]).
ومن وصيته لمعاذ: أُوصِيَك بِتَقْوَى اللَّهِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ وَحِفْظِ الْجِوَارِ وَرَحِمِ الْيَتِيمِ وَلِينِ الْكَلَامِ وَبَذْلِ السَّلَامِ وَحُسْنِ الْعَمَلِ وَقَصْرِ الْأَمَلِ وَلُزُومِ الْإِيمَانِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الْقُرْآنِ).
ثم قال له وهو يودعه والياً إلى اليمن: إتق الله حيثما كنت وإتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.
مما يدل على وصايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة عقائدية وعبادية وتأسيس في حسن الخلق وجوامع البر وخصال التقوى وأنها لا تختص بأهل البيت بل تشمل الصحابة ليتلقاها المسلمون والمسلمات في أجيالهم وإلى يوم القيامة بالقبول وحسن العمل.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بقوله تعالى(ووصى بها) والمراد قيام إبراهيم عليه السلام الوصية بما ورد في الآية السابقة , ويدل عليه أمران:
الأول: حرف العطف الواو.
الثاني: الضمير(الهاء) ويحتمل الضمير في المقام وجوهاً:
الأول: أوصى إبراهيم عليه السلام بكلمة التوحيد لا إله إلا الله.
الثاني: ملة إبراهيم التي ورد ذكرها في الآية السابقة وذكرت بعد آيتين في الإحتجاج على أهل الكتاب[بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا] ([367]).
الثالث: الكلمة التي قالها إبراهيم (أسلمت لرب العالمين) إستجابة لأمر الله عز وجل.
الرابع: الحيطة والتوقي من الظلم لأنه حاجب من نيل مرتبة الإمامة والعهد الإلهي.
الخامس: البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإقتران البشارة بالدعاء لها.
السادس: إرادة ذات الوصية من الضمير المؤنث في(ووصى بها).
ولا تعارض بين الوجوه الخمسة الأولى، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، أما الوجه الخامس فهو تحصيل لما هو حاصل.
لقد أراد الله عز وجل لذرية إبراهيم والناس عامة الإنتفاع من إمامته وحسن عبوديته لله عز وجل، فجاءت وصيته لأبنائه بالإسلام، والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتصف أبناء وذرية إبراهيم بخصوصية وهي توارث كلمة التوحيد بوصية السابق للاحق فيهم إلى أن أنعم الله عز وجل على الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليبقى القرآن مدرسة للأجيال، ووثيقة سماوية تدعو الناس كل يوم لتعاهد مبادئ مبادئ الإسلام.
وجاءت قراءة القرآن في الصلاة خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب، لتكون وصية متجددة كل يوم من الله عز وجل ومن الأنبياء للمسلمين والناس جميعاً، فهذه الآية وأن جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها دعوة للمسلمين للتقيد بأحكام وسنن وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام، ويدل عليه تسمية إبراهيم أباً للمسلمين بقوله تعالى[مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ] ([368]).
وبعد إخبار الآية عن وصية إبراهيم لبنيه ذكرت وصية يعقوب لأولاده بذات الوصية من إتحاد الموضوع والحكم، ترى ما هي الأسرار في عطف يعقوب على إبراهيم فيه مسائل:
الأولى: لم يأت العطف بالوصية، فلم تقل الآية ووصى بها يعقوب، بل قالت (ويعقوب) والتقدير (ووصى بها يعقوب بنيه يا بني).
الثانية : توكيد حقيقة وهي أن أبناء وأحفاد إبراهيم على ذات النهج من الهدى والصلاح.
الثالثة: بقاء وصية إبراهيم متوارثة في أحفاده.
الرابعة: مدح إبني إبراهيم الصلبيين إسماعيل وإسحاق، لدلالة عطف يعقوب على إبراهيم على بقاء ذات الوصية موضوعاً وحكماً.
الخامسة: بيان حقيقة تأريخية عقائدية وهي أن أبناء إبراهيم عملوا بوصيته، وحرصوا على نقلها إلى أبنائهم وأحفادهم من بعدهم.
السادسة: جاء ذكر يعقوب من باب المثال الأمثل بخصوص أبناء وأحفاد إبراهيم وتعاهدهم للوصية وإلا فإن الآية شاهد على قيام ذرية إبراهيم بتعاهد وصية إبراهيم ذاتها عملاً وقولاً، ونقلها تركة لمن بعدهم من البطون، ترى لماذا ذكر يعقوب على نحو التعيين، فيه وجوه:
الأول: كثرة أولاد يعقوب عليه السلام، إذا كانوا إثني عشر ولداً، وجاء حكاية على لسان يوسف في التنزيل[ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ] ([369]) وفسرت الكواكب هنا بإخوته .
الثاني: توكيد حقيقة وهي بقاء ذات الوصية ومضامينها عند أولاد وأحفاد إبراهيم.
الثالث: لا تنقطع وصية الإمام عند أولاده الصلبيين بل تستمر لأجيال منهم.
الرابع: بيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بقاء أحكام القرآن إلى يوم القيامة.
والصلة بين إبراهيم ويعقوب من الإعجاز العقائدي في القرآن لما فيها من الدلالات على حرص أبناء إبراهيم على إتباع ذات النهج الذي عليه إبراهيم من غير شك أو تردد، وفي قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ] وجوه:
الأول: بيان صبغة وصية إبراهيم ويعقوب الإيمانية.
الثاني: توكيد مضامين الوصية.
الثالث: إقتران الوصية بذكر الفضل الإلهي وما خص الله عز وجل به ذرية إبراهيم، وهو من مصاديق قوله تعالى في خطاب بني إسرائيل[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ([370]).
الملازمة بين الإجتباء والإختيار وبين الوصية الإيمانية، فالذين إصطفاهم الله لابد وأن يوصوا أبناءهم بالإنقياد لأوامر الله , وعلى هؤلاء الأبناء التقيد بأحكام الوصية ونقلها عهداً وتركة لأبنائهم.
لقد جاء وسط الآية محوراً لموضوعها، وبه تقوم الوصية، وفيه بيان لوظائف بني إسرائيل بالإنقياد لأوامر لله، وإشارة إلى لزوم تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته لأنه جاء بالشريعة الناسخة، وكشف لسنخية وصية إبراهيم وأنها ليست في الدنيا والحرص عليها، والإجتهاد في جمع الأموال.
وفيه بعث على التقيد بأحكام الشريعة خشية ضياع الأحكام، وحث على إجتناب التحريف والتغيير فيها، وقد إختار الله عز وجل إبراهيم للإمامة فأدى وظائفها العبادية على أحسن وجه.
وجاءت هذه الآية للإخبار بأن الله عز وجل أراد لذريته تعاهد الإسلام والثبات عليه، وعدم الركون إلى الكفار والظالمين، وقد لاقت الأجيال المتقدمة من بني إسرائيل الأذى في جنب الله من فرعون وملته، قال تعالى[وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ] ([371])، كما خاضوا حروباً عديدة مع الجبارين والظالمين جهاداً في سبيل الله وللحفاظ على كلمة التوحيد، وليكون جهادهم هذا مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: بيان عشق إبراهيم للإيمان، وفنائه في مرضاة الله.
الثانية: ما يحبه إبراهيم لنفسه بحبه لذريته وللمسلمين وهو من مصاديق تسميته(الأب الرحيم).
الثالثة: دعوة الناس للإقتداء بإبراهيم وذريته في الوصية الإيمانية والتقيد بأحكامها وسننها.
الرابعة: إن إبراهيم أمة في الخير والصلاح، لم يغادر الدنيا إلا وقد أوصى أولاده بتعاهد كلمة التوحيد.
الخامسة: وحدة الأسرة المسلمة وإنصياع الأبناء لقول الأب النبي، وعدم تشتتهم وإختلافهم.
السادسة: توثيق القرآن لحياة وسنن الأنبياء وذراريهم.
السابعة: إقتفاء أبناء وأحفاد إبراهيم لنهجه المبارك، وقيام كل واحد منهم بوصية أبنائه بذات الوصية إلى أن أنزل الله عز وجل التوراة والإنجيل، ثم أنزل القرآن الذي جاء متضمناً لدعوة إبراهيم ووصية يعقوب وبشارة عيسى.
الثامنة: جاءت خاتمة الآية بصيغة الجمع في الموت على الإسلام، وفيه وجوه:
الأول: الآية إنحلالية والمقصود مخاطبة إبراهيم ويعقوب عليه السلام لكل واحد من أبنائهما لا تموتن إلا وأنت مسلم.
الثاني: إرادة تعاهدهم للإسلام، وبقائهم أمة مسلمة وهو مصداق لدعاء إبراهيم وإسماعيل[وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ] ([372])، فإن قلت المراد(ذريتنا) أي ذرية إبراهيم من نسل إسماعيل على وجوه:
الأول: الآية أعم وتتضمن دعاء إبراهيم لذريته مطلقاً سواء من ذرية إسماعيل أو إسحاق بالإضافة إلى دعاء إبراهيم وإسماعيل.
الثاني: ذكر أبناء يعقوب وإسماعيل على أنه أبو يعقوب، مع أنه عمه أخو أبيه، قال تعالى[قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدً]([373]).
الثالث: تجدد الدعاء في سؤال إبراهيم وأبنائه لذريتهم بالإيمان والإنقياد لأمر الله.
التفسير
قوله تعالى [وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ]
تدل الآية على موضوعية الديانة والعقيدة في تأريخ الأمم والمجتمعات والأسر والأفراد فابراهيم uلم يوص بشيء من المال او الجاه وما فيه اسباب الإتصال بنعيم الدنيا وحطامها، بل اوصى بلزوم درب الإيمان وذكرت هذه الوصية لعظيم شأنها أما لموضوعيتها او لشفقته على أولاده، والظاهر انه للأمرين معاً.
والضمير في (بها) يحتمل انه عائد الى:
الأول : ملة ابراهيم لقوله تعالى [وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ ملَّةِ إِبْرَاهِيمَ ]([374]).
الثاني : عقيدة التوحيد بلحاظ ذيل الآية.
الثالث : مناسك الحج.
الرابع :البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : ما ورد حكاية عنه في قوله تعالى [أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ]([375]) على تأويـل الكلمـة كما في قولـه تعالى [وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ]([376]).
السادس : انها كلمة اوكلمات أمر بها إبراهيم وتعاهدها وتركها ميراثاً لأبنائه عند حلول الأجل.
السابع : ما ذكرته الآية [ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ] بتأويل ان المراد هو الوصية او الجملة او الكلمة.
ولا تعارض بين هذه الأقوال، ولا مانع من اجتماعها باعتبارها افراداً ومصـاديق للوصية خصـوصـاً وان مقام ابراهيم وعظـيم منزلته عند الله وفي مراتب النبوة يصلح ان يكون قرينة على تعدد مضامين الوصية ودقة احكامها.
وحفظ الوصية يعني العهد والتعاهد العملي بعمل الأبناء بعد وفاته بما وصى به.
وجاء لفظ [ بَنِيهِ ] بصيغة الجمع، ويدل في ظاهره على انه جمع اولاده وفيه وجوه:
الأول : انه اوصى اسماعيل واسحاق وان المثنى هو اقل الجمع.
الثاني : للتفخيم بان كل ولد من اولاده امة في الخير خصوصاً وان كلاً من اسماعيل واسحاق نبي.
الثالث : صيغة التكثير تدل على تعاهد اولاده uلشريعة وأصول التوحيد.
الرابع : انه اوصى اسماعيل واسحاق والموجودين من اولادهما، والولد وان نزل يصدق عليه اسم الإبن.
الخامس : موضوع الوصية في الآية انحلالي، والمراد المسلمون بدليل قوله تعالى [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ ].
السادس : اوصى اسماعيل واسحاق ومن خلالهما جميع أولاده وذريته لتكون هذه الوصية حجة على بني اسرائيل الموجود منهم والمعدوم، ولا يتعارض هذا القول مع صيغة الماضي التي عليها الفعل (وصى) مثلما تنعدم المعارضة بين الوجوه الستة اعلاه.
قوله تعالى [وَيَعْقُوبُ]
جاء [ وَيَعْقُوبُ ] مرفوعاً بالضمة كما هو مدون في المصاحف أي انه معطوف على ابراهيم، ومعناه ان يعقوب وصى اولاده كما وصى ابراهيم u بنيه.
ومنهم من قرأ (يعقوب) بالنصب عطفاً على بنيه، فيكون معناه ان ابراهيم وصى بنيه ويعقوب ايضاً.
والقراءة التي في المصاحف هي المعتبرة والمشهورة كما انها هي الأقرب لفلسفة النبوة، ويمكن الإشكال على القراءة بالنصب بان يعقوب من ابناء ابراهيم uوان لم يكن صلبياً، كما يستدل بآية المباهلة على بنوة الحسن والحسين عليهما السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكما في قوله تعالى[وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى]([377]).
نعم لقد جاء موضوع الآية التالية متعلقاً بيعقوب ووصيته لبنيه، ولكن هذا لا يعني تحصيل ما هو حاصل للتباين بين الموضوعين، ولأن كل آية ينظر لها على نحو مستقل، ولحصول التكرار في القرآن لذات الموضوع مع الإختلاف في الحيثية.
وتدل الآية على اتخاذ الوصية منهجاً عند الأنبياء وان يعقوب uجاء من باب الفرد الأهم، والا فان اسحاق uوصى اولاده بذات الوصية ومنهم يعقوب نفسـه، وان يوسـف uوهو ابن يعقوب وصى اولاده ذات الوصية، ففـي الآية لوم لبني اسرائيل لأمرين:
الأول: تخلفهم عن وصية الآباء.
الثاني: عدم وصيتهم لإبنائهم بما وصاهم به آباؤهم.
ولم تذكر الآية وصية اسحاق واسماعيل لأبنائهما، ودلت وصية يعقوب لما تعنيه من توارث الوصية لأن يعقوب اخذ الوصية وورث العهد من اسحاق، وجاءته من ابراهيم بواسطة اسحاق عليه السلام، وبالقياس الإقتراني يكون اسحاق وصى يعقوب uبها، بحيث قام يعقوب بالوصية لأبنائه بها.
فوصيـة إسحـاق تشــير لهـا الآيـة علـى نحـو مركـب بتلقيـه الوصيـة مـن ابراهيـم وبوصيـة يعقوب لبنيـه، فاضمر ذكره لوجوه:
الأول : بيان حسن عمل إسحق وذريته.
الثاني : وفاء إسحق بظهـور وصيته على لسـان يعقوب.
الثالث : عدم ذكره يؤكد اداءهم لأحكام الوصـية وتقيـدهم بهـا ومحاكـاة ابراهيـم uفي الوصية لأبنائهم بالتوحيد والتقيد باحكام الإسلام.
الرابع : إنتظار بشارة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإشراقة شمس الإسلام.
الخامس : وراثة النبوة في أولاد يعقوب عليه السلام وبيان موضوعية الوصية في النبوة.
السادس : من إعجاز الآية أن يعقوب ليس من أبناء إبراهيم ومع هذا وصى بنيه بذات الوصية، مما يدل على توراث الذرية عهد الإيمان , وفيه إشارة إلى توارث الذرية للدعاء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن قلت جاء هذا الدعاء على لسان إبراهيم وإسماعيل[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ]([378]).
والجواب من وجوه:
الأول : تتصل الوصية بإبراهيم عليه السلام، وهو نفسه الذي دعا لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : قد ورد على لسان أولاد يعقوب أن إسماعيل من آباء يعقوب مع أنه عمه [قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ]([379]).
الثالث : مجيء البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على لسان عيسى عليه السلام وهو من ذرية إسرائيل من طرف الأم.
قوله تعالى [يَابَنِيَّ]
أي انه خاطب بنيه قائلاً، وهذا الإضمار لا تنحصر دلالته بالجانب البلاغي وهو اعم، وقد يفيد تعدد الخطاب والتذكير بالوصية بصيغة الحث والتحريض والتشجيع، وكأن (يا) جـاءت فيها للندب وليس للنداء فقط.
وذكر انه في قراءة ابي وعبد الله بن مسعود: (ان يا بُني)، ومع جهاد ابراهيم uوالأنبياء في ذات الله ودعوتهـم الناس للإسلام، فان الآية جاءت بالوصية للأبناء خاصة لتعكس الجهاد الخاص داخل الأسرة وهو اهم مصاديق الجهاد الأكبر، أي اعداد الأبناء وتهيئتهم لتحمـل الوصيـة العقائديـة.
وتبين الآيـة موضـوعيـة واعتبـار ذرية ابراهيـم uفي تعاهد لواء التوحيد في الأرض كخلية مباركة وفرع النبوة.
ويحتمل القائل(يا بني) وجوهاً:
الأول : إبراهيم عليه السلام.
الثاني : يعقوب عليه السلام.
الثالث : المعنى الجامع لإبراهيم ويعقوب.
والصحيح هو الثاني إذ تقدم في ذات الآية قوله تعالى[وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ]([380]).
وورد لفظ(يا بني) ثلاث مرات في القرآن كلها في يعقوب وخطابه لبنيه وهو آية إعجازية في نظم وقصص القرآن، وفي التنزيل[يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ]([381]).
وجاءت الآية بتحميل الأبناء الذكور الوصية على الظاهر لأنها وردت بلفظ(بنيه) و(يا بنيّ) قال تعالى[أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ]([382])، وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول : تبعية البنات للأولاد الذكور في الوصية.
الثاني : إختصاص الأولاد الذكور بالوصية.
الثالث : إشتراك البنات مع الأولاد في الوصية، وجاء ذكر الأبناء الذكور للتغليب في العدد والوظائف الجهادية وأداء المناسك.
الرابع : كان الأبناء الذكور حاضرين ساعة الوصية , والبنات في بيوت الأزواج.
الخامس : ليس من بنات عند إبراهيم ويعقوب.
السادس : موضوع وماهية الوصية لا يحملها إلا الذكور لأنها جهاد في سبيل الله.
والصحيح هو الأول والثالث لإشتراك البنات مع الأولاد بلزوم الإيمان كما في الخطاب التكليفي[فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]([383])، فهو شامل للمسلمين والمسلمات، وكذا في فريضة الصيام[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]([384])، وجاءت صيغة التذكير للتغليب والرجحان في الوصية .
ومن الإعجاز القرآني أن فريضة الحج جاءت على نحو العموم الإستغراقي لجنس المكلف بقوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]([385])، فيشمل الأمر والخطاب بالحج النساء بالذات والأصالة وليس بالتبعية، ويقال مثلا : بنات نعش سبعة كواكب، أربعة منها نعش، وثلاثة بنات نعش، والواحد: ابن نعش لأن الكوكب مذكر فيذكرونه على تذكيره. وإذا قالوا: ثلاث أو أربع ذهبوا إلى البنات، وكذلك بنات نعش الصغرى. واتفق سيبويه والفراء على ترك صرف نعش للمعرفة والتأنيث. وقيل: شبهت بحملة النعش في تربيعها كما قالوا في جمع ابن آوى : بنات آوى وبنات عرس)([386])، لأن لفظ البنين خاص ببني آدم.
ويقال ابن لبون في ولد الناقة إذا كان في السنة الثالثة، فإذا جمع قيل بنات لبون , ويسمى ولد الناقة وإلى حين أن يصبح بعيراً بأسماء يختص كل واحد منها بسن معين فيسمى حين الوضع سليل ثم سقب ثم حوار، فإذا فصل عن أمه فهو فصيل، وإذا كان في الثانية فهو ابن مخاض والجمع بنات مخاض، ويسمى في الرابعة حق لأنه إستحق أن يركب عليه، وإذا كان في الخامسة يسمى جذعاً، وإذا كان في السادسة والقى ثنيته فهو ثني وإذا صار في سن السابعة وألقى رباعيته فهو رباع وهكذا إلى أن يكبر ويهرم فهو كحكح.
وقال لبيد بين ربيعة:
نَحْنُ بَنُو أمِّ البَنِينَ الأرْبَعَةْ … وَنَحْنُ خَيْرُ عامر بنِ صَعْصَعهْ
المُطْعِمُونَ الجَفْنَةَ المُدَعْدَعَهْ … وَالضَّارِبُونَ الهَامَ تَحْتَ الخَيضَعَهْ([387]).
قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ]
بيان لتفضل الله تعالى على ذريـة ابراهيـم خاصة ولزوم الشكر له تعالى، أي ان الوصيـة والتقيـد باحكامهـا نوع شكـر لـه تعـالى اذ اختار لهم الدين واستخلصـه لهم وجنبهم اسبـاب الشرك والضلالة، انهـا نعمـة اخـرى على بني اسرائيـل لم ترد علـى لسـان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالوحي والتنزيل فحسب، بل جاءت على لسان ابيهـم يعقـوب ومن قبلـه علـى لسـان ابراهيـم uلتكــون حجـة اضافية اخرى، اذ لا يمكن تحريفها لتلقيها شفاهة، ولا يمكن النظر اليها بتأويل مخالف للحقيقة لما فيها من البيان ولخلوها من الريب والشك.
وتبين الآية شرف ذرية ابراهيم في سلم الكمالات وكأنهم ركن الإيمان في الأرض واوتاده التي يرجع اليها الناس ويصدرون عنها في اعمالهم ويتلقون منهم الأحكام وسنن الشرائع.
ان الأنبياء من ذرية ابراهيم uيعرفون ما لهم من المنزلة عند الله سواء ببنوتهم وانتسـابهم لإبراهيم uاو للنبوة وما فيها من الإفاضات على الأبناء والذرية.
وقوله تعالى(إصطفى لكم الدين) أي إختار لكم الإسلام ترى لماذا لم تقل الآية(إصطفاكم للدين) الجواب جاءت الآية لبيان حقيقة وهي أن إختيار الإسلام لا ينحصر بذرية إبراهيم ويعقوب قال تعالى[إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ]([388])، وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، وإصطفاء الدين لأهل البيت لا يعني عدم إصطفائه لغيرهم.
ولم تقل الآيات(إصطفاكم للنبوة) لأن النبوة في متعلقها بأشخاص الأنبياء أعم، فمن الأنبياء من هو سابق لزمان إبراهيم ومنهم من لم يكن من ذريته وإن جاء في زمان لاحق لأيامه.
قوله تعالى [فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]
تظهر في الآية معاني الإستدامة والدوام والبقاء على الإسلام لإحتمال طرو الموت في كل ساعة، وهذا لا يمنع من القول بان الآية تتضـمن الحـث على التوبـة والتدارك وعدم الإصرار على الذنب والخطأ.
ولعل في الآية دعوة لإنتظار بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن ذرية يعقوب ازاءه بعد هذه الوصية على اربعة اقسام:
الأول: من يموت قبل بعثته صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: من يكون موجوداً زمان بعثته صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: من يولد او يصل سن البلوغ والتكليف اثناء بعثته صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: من يولد بعد مغادرته صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى.
ووصية يعقوب ملائمة وصالحة بالنسبة للأقسام الأربعة مع اختلاف في كيفية تمسكهم بالإسلام واحكامه.
فافراد القسم الأول كانوا على حنيفية ابراهيم uاو على شريعة موسى عليه السلام، او على شريعة عيسى uكل بحسب زمانه وتكليفه.
اما بالنسبة لأفراد القسم الثاني فشريعة الإسلام حال بعثته صلى الله عليه وآله وسلم ووصول التبليغ لهم ورؤيتهم الآيات الباهرات التي جاء بها من عند الله عز وجل واستماعهم لآيات القرآن وتصديقهم بها.
اما القسم الثالث، فالوظيفة دخول الإسلام حال التبليغ بل ويصح قبله.
اما الرابع فان الأصل فيه هو ولادتهم على الإسلام من ابوين مسلمين، وان تخلف الأبوان عن مسؤولياتهم الشرعية ازاء وصية ابراهيم ويعقوب عليهما السلام والآباء الصالحين، وازاء الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان بلغتهما، فعـلى الابن ان يبادر الى دخول الإسلام عند سن البلوغ او قبله عملاً بالوصيتين والمواثيق التي اخذت عليهم، واستجابة للأمر الإلهي واقراراً واذعاناً للبراهين والحجج التي جاء بها صلى الله عليه وآله وسلم.
والآيـة حجـة في وجـود واستدامة احكام الإسلام قبل البعثة النبوية الشريفة ولو على نحو الإجمال، فان تضمن الوصية لموضوع الدين والإسلام يدل على ان معناه اعم من الإنحصار بالمفهوم اللغوي للفظ.
وبما أن الإنسان لا يعرف أوان أجله، وهو معرض لزيارة ملك الموت ومداهمة الموت ومغادرته الدنيا فجأة أو بالشكوى أو البلوى فإن أمر يعقوب لهم بالمعروف على الإسلام يدل بالدلالة التضمنية على لزوم البقاء على الإسلام وتعاهد أحكامه في كل صباح ومساء.
وهل من الإسلام الوصية للأبناء بالإيمان الجواب نعم، وكأن الآية تدل على لزوم وصية الأب للأبناء بالإيمان والتقيد بسنن النبوة، وتعاهد بشاراتها وفي وصف إسماعيل والثناء عليه قال تعالى[وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ]([389]).
وعن كعب قال: كان إسماعيل نبي الله الذي سماه صادق الوعد، وكان رجلاً فيه حدة مجاهداً أعداء الله، ويعطيه الله النصر عليهم والظفر، وكان شديد الحرب على الكفار، لا يخاف في الله لومة لائم، صغير الرأس، غليظ العنق، طويل اليدين والرجلين، يضرب بيديه ركبتيه وهو قائم، صغير العينين، طويل الأنف، عريض الكتف، طويل الأصابع، بارز الخلق، قوي شديد عنيف على الكفار، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وكانت زكاته القربات إلى الله من أموالهم، وكان لا يعد أحداً شيئاً إلا أنجزه، فسماه الله {صادق الوعد}([390]))([391]).
بحث فقهي
من ذخائر الفقه الإسلامي باب الوصية ويدل عليها الكتاب والسنة والإجماع قال تعالى[مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ]([392]) وقدم الوصية مع ان الدين اولى لموضوعية الوصية في الإسلام والتنبيه عليها والتقيد بها، ولان الدين لـه من يطالب به أما الوصية من طرف الميت فيتوقف امضــاؤها وتنـفيذها على التزام الوارث.
وهي مندوبة ولا تنحصــر بحــال الوفــاة بــل تشــــمل الحيـــاة الدنيــا قـــال تعـالى[وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا]([393]) لذا فهي اعم وتشمل حال الحياة الدنيا، وبعد الوفاة اذ انها تعني بالمعنـى الأعم الواسطة وتعاهد صلة القربى في تلك الحال الى ما بعد الموت وكأن فيها حضوراً للميت، وهي مناسبة لإحسان لاحق يترشح منه أجر وثواب متعقب لوفاته بحسن تصرفه في حقه من تركته وهو الثلث.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: “ما ينبغي لمسلم ان يبيت ليلة الا ووصيته تحت رأسه”)([394]).
والوصية قسمان تمليكية وهي الوصية بتملك قسم من المال بعد وفاة الموصي وهي نافذة بشروطها منها ان لا تكون اكثر من ثلث مال الموصي، اما الثانية فهي العهدية وهي ان يوصي الميت لشخص يتعلق بحال الميت ببدنه وماله بعد الوفاة.
ولا تعتبر الوصية في هذه الآية خاصة بامة وشريعة ما قبلنا بل هي حجة علينا ودعوة للناس جميعاً، ولها الحكومة بمعنى التوسعة في موضوع الحكم او محموله اذ لا فرق في الحكومة بين ان يكون الدليل الحاكم الموسع او المضيق متقدماً او متأخراً، فالآية محل البحث ناظرة الى حال دليل الوصية واحكامها ومبينة ومفسرة لها.
فان قلت لماذا ذكرت الوصية العهدية بالإسلام في شريعة من قبلنا .
قلت: ان هذا من وجوه تشريف المسلمين لثبات الدين والإسلام في اجيالهم المتعاقبة ووجود حكم الإرتداد سواء كان ملياً او فطرياً وكأن البقاء على الإسلام اصبح حقيقة ثابتة في الأرض، فوصية ابراهيم لم تنحصر باهله بل تشمل الناس لأنها حقيقة تكوينيـة وارادة تشريعيـة ثابتة، انها تركة كريمة للناس جميعاً خصوصاً وانها تؤخذ بلحاظ جهاده uفي سبيل الله وعظيم منزلته لديه.
في علم الرجال
المرسل هو الحديث الذي لم يذكر فيه الواسطة ، أي ان الـراوي اطــلق الســـند ولم يقيـده بذكـر الـراوي الذي سمــع منــه مـع اهميته واثره، ولعله مأخوذ من ارسال الدابة أي رفع القيد والربط عنها.
وللمرسل معنيان، احدهما عام وهو كل حديث رفعت روابطـه اجمـــع او بعضهـا وان ذكـر الـراوي لفظـاً مبهــمـاً عن الســند كقـولــه عن بعض اصحابنـا او عن رجـل او عمـن سمعــه.
اما الثاني فهو المرسل بالمعنى الخاص وهو كل حديث اسنده التابعي الى النبي صلى الله عليه وآله وسـلم، وقيده بعضهم بما اذا كان التابعي كبيراً كسـعيد بن المسـيب الذي ولد سنة 13 للهجرة وتوفي سنة 94 للهجرة والا فهو منقطع.
ووقع الخـلاف في حجيــة المرسـل مطلقــاً فيعمـل به اذا كان المرسِـل – بكسر السين – ثقة سـواء كان صحابياً ام لا، اسقط واحـداً ام اكـثر وبه قال جمع من العلماء منهم مالك واحمد والآمدي، ومن المعتزلة ابو هاشم واتباعه، والأكثر ذهب الى عدم حجيته منهم الشافعي والشيخ الطوسي ، بالإضافة الى الحاجبي والعضدي والبيضاوي والرازي والقاضي أبي بكر وغيرهم، ولكل حجة مثبتة في كتب الأصول . وهذا الخلاف لا يمنع من حقيقة إتفاق علماء المسلمين على أهمية الحديث المرسل .
وهو تركة علمية وثروة وملك للمسلمين، وهم شرع سواء بها، ويمكن دراسة ذات متى الحديث المرسل والتحقيق فيه بالعرض على الكتاب والأحاديث صحيحة السند، خصوصاً وأن من أصحاب المرسل لم يرووا إلا عن الثقة ولو لم يذكروا إسمه.
*************
قوله تعالى[ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْـــحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] الآية 133.
الإعراب
ام: يجـوز فيهـا ان تكـون متصلة عاطفة على محذوف مقدر، كأنه قال: اتدعون على الأنبيـاء اليهـود، ام كنتم شهـداء وحاضـرين باعتبار ان (ام) تكون حـرف عطـف اذا سبقت بهمـزة التسويـة، ويجـوز ان تكون منقطعة بمعنى (بل) وهي في هذه الحال حرف اضراب واستئناف ولا تقع بعدها الا جملة مستأنفة أي: لم تكونوا حاضرين عندما حضر يعقوب الموت.
والشهداء الحضور جمع شاهد، ويجوز ان تكون لمجرد الإستفهام بمعنى الهمزة، فالكلام حينئذ يكون بمعنى الإسـتفهام على حقيقتـه فيحتاج الى جواب وتفيد الإستفهام الإنكاري.
كنتم: كان واسمها، شهداء: خبرها.
اذ: ظرف لما مضى متعلق بشهداء حضر: فعل ماض، والجملة في محل جر باضافة الظرف اليها.
يعقوب: مفعـول به مقدم، الموت: فاعل مؤخر، اذ: ظرف بدل من اذ الأولى، قال: فعل ماض وفاعله مستتر، والجملة فعلية في محل جر باضافة الظرف اليها، لبنيه: جـار ومجـرور متعلقان بـ(قال) والهاء: مضاف اليه.
ما تعبدون: ما اسم استفهام في محل نصب مفعول به مقدم لتعبدون، تعبدون: فعل مضـارع مرفـوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو: فاعل والجملة في محل نصب مقول القول.
من بعدي: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، قالوا: فعل وفاعل.
نعبد: فعل ماضِ، والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن يعود لأبناء يعقوب.
إلهك: مفعول به مضاف، والضمير مضاف اليه.
وإله آبائك: اله: معطوف، آباء: مضاف اليه، وهو مضاف، والكاف، في محل مضاف اليه.
إبراهيم: بدل من آبائك.
وإسماعيل واسحق: عطف على إبراهيم.
إلهاً: بدل من إلهك، وقيل نصب على الإختصاص.
واحداً:صفة منصوبة.
ونحن: الواو: حرف عطف وقيل حالية، نحن: مبتدأ.
له: جار ومجرور متعلقان بـ(مسلمون).
مسلمون: خبر نحن، مرفوع بالضمة لأنه جمع مذكر سالم.
في سياق الآيات
بعد ان بينت الآيات السابقة ايمان ابراهيم uومواظبته على الإمتثال والإنقياد لأمره تعالى ووصيته لأولاده بتعاهد الإسلام، جاءت هذه الآية لتؤكد ان الوصية بالإسلام عهد متوارث عند آل ابراهيم وفي ذلك حجة على بني اسرائيل ومبالغة في التوبيخ وكشف الواقع.
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة على شعبتين:
الشعبة الأولى: الصلة بين الآيات السابقة وهذه الآية، وفيها وجوه:
الأول: صلة هذه الآية بآية (أنعمت عليكم) ([395]) وفيها مسائل:
الأولى: من نعمة الله عز وجل على بني إسرائيل، أخذ يعقوب العهد على أبنائه بعبادة الله وحده.
الثانية: يعقوب هو إسرائيل، ومن نعم الله على اليهود وتسميتهم بني إسرائيل، ونسبتهم إلى نبي ابن نبي ابن نبي.
الثالثة: إقرار الأسباط وآباء بني إسرائيل بوجوب عبادة الله، وعدم الشرك به.
الرابعة: تذكير بني إسرائيل بنعمة التوحيد، ولزوم التصديق ببعثة الأنبياء لأنهم مبعوثون من عند الله.
الخامسة: من نعم الله على بني إسرائيل الرجوع إلى ملة أبيهم إبراهيم.
السادسة: الإسلام دين الله في الأرض، وهو سابق لليهودية والنصرانية لذا أختتمت الآية محل البحث بقوله تعالى[وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ].
السابعة: من نعم الله على بني إسرائيل أن إسماعيل هو أبوهم ليلتقوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأهل بيته في النسب الطاهر الشريف، وفيه دعوة لهم للتصديق بنبوته وعدم النفرة منها لأنه ليس من اليهود بالذات[ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ]([396]).
الثامنة: وصية يعقوب لأبنائه من عمومات قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] إذ أن الإقرار بالربوبية لله وعدم الشرك به، من أسمى مصاديق التفضيل واللطف الإلهي، لذا جاء في الآية السابقة[إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ] فهذا الإصطفاء والإجتباء هو التفضيل.
الثاني: الصلة بين آية (وإتقوا يوماً) ([397]) وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: الخشية من يوم القيامة من الإقرار بالعبودية لله، والتسليم له بالربوبية.
الثانية: البقاء على عهد أبناء يعقوب لأبيهم من مصاديق الخشية من اليوم الآخر وما فيه من الأهوال.
الثالثة: لم يخبر يعقوب النبي عليه السلام أبناءه أن يشفع له أو يجزي عنهم يوم القيامة، بل دعاهم إلى عبادة الله، وعدم الشرك به لأنه السبيل الوحيد للنجاة من أهوال يوم الفزع الأكبر، والمصداق على الخشية منهما.
الرابعة: من يسلم وجهه لله يصدق عليه أنه يتقي يوم القيامة.
الخامسة: لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما وصى به والتصديق يعقوب بنيه من عبادة الله وحده والتسليم له، والإنقياد لأوامره ونواهيه، بآيات القرآن التي نزل بها جبرئيل عليه السلام على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: الصلة بين آية (وإذ إبتلى)([398]) وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: من إتمام إبراهيم للكلمات التي إبتلاه الله عز وجل بها وصيته وعهده إلى أبنائه للبقاء على الإسلام، وتجلي هذا البقاء بعهد يعقوب لبنيه.
الثانية: لقد سأل إبراهيم الإمامة لذريته وجاءت هذه الآية شاهداً على إستجابة الله له في يعقوب ووصيته لأبنائه.
الثالثة: أظهر أبناء يعقوب عليه السلام وهم يوسف وأخوته أنهم على ملة إبراهيم، وأنهم قادة للأمم.
الرابعة: لقد جاءت وصية يعقوب لبنيه من أجل نجاتهم من الظلم سواء ظلمهم لأنفسهم أو لغيرهم، إذ جاءت خاتمة الآية أعلاه بقوله تعالى[لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] ([399]).
الخامسة: يفيد الجمع بين الآيتين أن أبوة إبراهيم تحفظ بالنسب والإيمان، للإتحاد بينه وبين أبنائه في العبودية والخضوع لله عز وجل.
السادسة: تظهر الآية أن إمامة إبراهيم لا تنحصر بزمانه بل تشمل أحفاده من أبناء يعقوب بإنتهاج سنته وطريقته في التوحيد والخشوع لله عز وجل.
السابعة: وصية يعقوب لبنيه مما إبتلى الله به بني إسرائيل، فيجب عليهم إتمامها كما أتم إبراهيم عليه السلام الكلمات، ويتجلى هذا الإتمام بتصديقهم بالنبوات والكتب المنزلة من عند الله عز وجل.
الرابع: الصلة بين آية (مثابة للناس) وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: لقد جعل الله عز وجل البيت الحرام ملجأ للناس، ومحلاً مباركاً يرجعون إليه، ومزاراً يحجون إليه كل عام وقام إبراهيم وإسماعيل ببنائه قال تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ] ([400])، وفيه وصية لأبناء يعقوب.
الثانية: ذكرت الآيتان إبراهيم وإسماعيل معاً وإتباع إسماعيل لنهج إبراهيم، وفيه ترغيب لبني إسرائيل والمسلمين جميعاً على إتباع ملة إبراهيم.
الثالثة: أبناء يعقوب من الذين أمر الله إبراهيم أن يطهر لهم البيت، فيجب أن لا تتخلف ذريتهم عن عمارته , والتي يشترط فيها الإسلام.
الرابعة: جاءت الآيتان بعلوم من الغيب وذكر ما أمر الله به إبراهيم، ووصية يعقوب لبنيه وعهدهم له بأن يبقوا على ملة التوحيد والإنقياد لأوامر الله عز وجل.
الخامسة: جاءت وصية عهد يعقوب لبنيه عندما حضر الموت، أما إبراهيم فكان يجاهد في سبيل الله وقام ببناء البيت ونادى فيه للحج،[ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ]([401])، وطهر هو وإسماعيل البيت لعماره، وهذا لا يعني أن يعقوب لم يجاهد في سبيل الله، وتلقى الوحي والتنزيل من عندالله [وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ]([402]).
الخامس: الصلة بين آية (بلداً آمناً) وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين موضوعية دعاء إبراهيم في صلاح ذريته.
الثانية: سنة إبراهيم عون لذريته في تعاهدهم للإيمان.
الثالثة: معرفة أحفاد إبراهيم بإقامته على التوحيد، ودعوته لله عز وجل.
الرابعة: جعل أبناء يعقوب ملة إبراهيم مثلاً أعلى للإقتداء به.
الخامسة: يتجلى في الآية إفتخار الأحفاد بإيمان الآباء، فيعقوب هو حفيد إبراهيم، وقيام الأبناء بذكر جدهم إبراهيم وعمهم إسماعيل وجدهم إسحاق في موضوع التوحيد.
السادسة: إعلان أبناء يعقوب ثباتهم على الإيمان ونبذهم الشرك باب للرزق الكريم وهو من عمومات سؤال إبراهيم[وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ]، فإن قيل جاء الدعاء في هذه الآية بخصوص أهل الحرم ومجاوري البيت الحرام لقيد(أهله) الوارد في الآية، وعودة الضمير فيه إلى البلد، والجواب من وجوه:
الأول: يترشح الرزق الكريم من الإيمان.
الثاني: يمكن إلحاق أبناء إبراهيم بأهل البيت الحرام لأنهم دعاة لحجه وعمارته.
الثالث: جاءت هذه الآية بإنتساب أولاد يعقوب إلى إبراهيم وإسماعيل، وهما اللذان قاما ببناء البيت، قال تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ]([403]).
السابعة: فزع وخوف يعقوب وأولاده من عذاب النار، وإظهارهم الحرص على السلامة منها بإختيار الإيمان والتقوى والتسليم لأمر الله، والتصديق بأنبيائه ورسله، والإقرار باليوم الآخر.
الثامنة: إتساع رقعة الإيمان، فقد جاء دعاء إبراهيم للمؤمنين من أهل مكة، وجاء عهد الإيمان الذي أخذه يعقوب على بنيه في الشام، مع إتحادهما في السنخية والموضوع، وفيه تشريف لإبراهيم، وتوكيد لإهمية الإمامة، وظهور ثمرات إمامته بتوارث أبنائه عقيدة التوحيد، وسنن الإسلام.
السادس: الصلة بين آية (وإذ يرفع) ([404])، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت من عبادتهم لله، التي حرص أبناء يعقوب على تعاهدها.
الثانية: تفقه ذرية إبراهيم في الدين.
الثالثة: مع التقادم في السنين بين إبراهيم وأولاد يعقوب، وبعد المسافة بين سكن إسماعيل في مكة، وسكن يعقوب في الشام، فقد ذكر أولاد يعقوب إسماعيل بأنه أبوهم وأنهم يفتخرون بإتباع نهجه الإيماني، ويحرصون على البقاء على سنته.
الرابعة: أختتمت الآية أعلاه بالمدحة والثناء على الله من إبراهيم وإسماعيل، والإقرار بأنه سبحانه السميع العليم، وجاءت هذه الآية بتوكيد وراثة أبناء يعقوب للإيمان من إستجابة الله لدعاء إبراهيم وإسماعيل.
السابع: الصلة بين آية (أمة مسلمة) ([405])، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: الجامع المشترك بين إبراهيم وأبنائه وأحفاده هو الإسلام والإنقياد لأوامر الله عز وجل.
الثانية: تتضمن الآية محل البحث إستجابة الله عز وجل لدعاء إبراهيم وإسماعيل[وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ]، بما أظهره أبناء يعقوب من مفاهيم الإيمان، والعزم على الإخلاص في عبادة الله عز وجل بدليل نسبة أبناء يعقوب أنفسهم إلى أبوه إبراهيم وإسماعيل.
الثالثة: أختتمت الآية أعلاه بثناء وتوسل إبراهيم وإسماعيل إلى الله ورجاء رحمته وغفرانه وتوبته[إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] وجاءت الآية محل البحث بمصداق رحمة وتوبة الله عز وجل بتوارث كلمة التوحيد ومبادئ الإيمان في ذرية إبراهيم وإسماعيل.
الثامن: الصلة بين آية[رَبَّنَا وَابْعَثْ]([406])، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: توار أبناء يعقوب الإيمان مقدمة كريمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: حسن إسلام أبناء يعقوب دعوة لليهود أيام النبوة بالتصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن عليه من عند الله.
الثالثة: في الجمع بين الآيتين حث للناس على التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه الذي بشر به إبراهيم وإسماعيل بتقريب أن دعاء الأنبياء له بشارة بنبوته.
الرابعة: تبين الآيتان الإرتقاء في سنن الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يتلو آيات الله على الناس، ويعلمهم الكتاب والحكمة وأحكام الشريعة، ويطهرهم من الدنس والذنوب والأخلاق المذمومة.
الخامسة: لقد جعل أبناء يعقوب إسماعيل أباً لهم مع أنه عم يعقوب، مما يدل على أن إسحاق ويعقوب والأسباط هم آباء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه فخر لأهل البيت، ولعموم المسلمين، ودعوة لليهود للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم مواجهة رسالته بالصدود والجحود لأنه ليس من بني إسرائيل، [وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ] ([407]).
التاسع: الصلة بين آية(ومن يرغب) ([408])، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: جاءت بشارات تعاهد ملة إبراهيم في أبنائه الصلبيين وأحفاده، إذ أعلنوا بقاءهم على ملة إبراهيم، وتعاهدهم لها، وثباتهم على الإيمان.
الثانية: أولاد يعقوب ليسوا من الذين سفهّوا أنفسهم لأنهم أظهروا الإسلام والإنقياد والأمر الله عز وجل، ترى لماذا قاموا بإلقاء يوسف في غيابت الجب وهذا الإلقاء فعل قبيح وأشد من السفه وخفة العفل، والجواب من وجوه:
الأول: أن الآية محل البحث جاءت للإخبارعن حال أبناء يعقوب وهم الأسباط عند دنو أجل يعقوب أي بعد حادثة الجب بأكثر من عشرين سنة، وبعد أن أعلنوا توبتهم وإنابتهم وورد على لسانهم في التنزيل[قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]([409])، ويمكن إستنباط قانون من الجمع بين هذه الآيات وهو أن الإستغفار والتوبة تنزيه من السفه وخفة العقل والجهالة.
الثاني: موضوع الكيد بيوسف أمر مستقل , وهو ذنب ومعصية إذا جاء حسداً ليوسف لأنه أقرب وأحب إلى يعقوب منهم , فقالوا[اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ]([410])، نعم من ملة إبراهيم إصلاح الذات، وإظهار معاني الأخوة النسبة والإيمانية لذا أقر أولاد يعقوب بخطيئتهم.
الثالث: يوسف عليه السلام من أبناء يعقوب الذين تذكرهم الآية محل البحث.
العاشر: الصلة بين آية (أسلم) ([411])، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: تجلي منافع وبركات إسلام إبراهيم على أبنائه وأحفاده.
الثانية: أدرك أحفاد إبراهيم كلام الله عز وجل معه وأمره بالإسلام، فكانوا مرآة لما أمر الله عز وجل به إبراهيم من الإنقياد إليه والإمتثال لأوامره.
الثالثة: من شكر الله عز وجل لإبراهيم في إسلامه وجهاده، أخذ حفيده يعقوب العهد على أبنائه بالبقاء على الإسلام، وتعاهد ملة إبراهيم.
الرابعة: جاءت الآية أعلاه بإعلان إبراهيم التسليم لأوامر الله، جاءت هذه الآية بإخبار أبناء يعقوب بعبادتهم لله، وأختتمت الآية بما ورد حكاية عنهم(ونحن له مسلمون).
الحادي عشر: الصلة بين الآية السابقة(ووصى بها) ([412])، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: كما وصى إبراهيم بنيه بملة التوحيد، فإن يعقوب عليه السلام وصاهم بها.
الثانية: في الجمع بين الآيتين ودليل على أن أبناء إبراهيم تقيدوا بوصيته وتعاهدوا سنن الإسلام من وجوه:
الأول: كان يعقوب حاضراً وصية إبراهيم، وبما وصا به أبوه إسحاق بن إبراهيم.
الثاني: لم يكن يعقوب حاضراً وصية إبراهيم.
الثالث: يتصف يعقوب بأنه تلقى الوصية بالإسلام من جده إبراهيم وإسحاق.
الرابع: تلقى يعقوب الوصية بالإسلام من إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، فلذا ذكرهم أبناؤه.
الخامس: لم يدرك يعقوب أيام إبراهيم عليه السلام لأن ولادة إسحاق جاءت عن كبر قال تعالى[قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا] ([413])، وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة، وقيل مائة وعشرون سنة.
الثالثة: التشابه الموضوعي بين الآيتين من جهة أخذ يعقوب على أولاده في الثبات على التوحيد، وعدم الشرك بالله.
الرابعة: تكرار قيام يعقوب بتوصية أبنائه بلزوم منهج الإسلام.
الخامسة: إختيار الدين والإيمان لذرية إبراهيم بالتقيد بأحكام الإسلام.
الشعبة الثانية: الصلة بين هذه الآية والآيات المجاورة التالية، وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية والآية التالية(تلك أمة) ([414])، وفيها مسائل:
الأولى: لا ينفع الإنسان نسبة وإنتسابه إلى الأنبياء.
الثانية: تذكير بني إسرائيل بيوم القيامة والذي[لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا]([415]).
الثالثة: الإخبار القرآني عن عهد يعقوب من فضل الله عز وجل لبنيه على المسلمين والناس جميعاً.
الرابعة: لولا هذه الآيات لما علم الناس كيفية توارث آل إبراهيم سنن التوحيد، وتعاونهم وتآزرهم من أجل إجتثاث الشرك والضلالة.
الخامسة: من منافع ذكر عهد التوحيد في القرآن حث الناس على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة: الآية دعوة لعمل الصالحات، وإكتناز الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية(وقالوا كونوا) ([416])، وفيها مسائل:
الأولى: لقد كان يعقوب يدعو لعبادة الله وعدم الشرك به.
الثانية: لم يكن يعقوب وهو إسرائيل وأبناؤه يهوداً أونصارى، بل كانوا على ملة إبراهيم.
الثالثة: لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ملة إبراهيم عليه السلام في الإستقامة ونبذ الشرك والضلالة.
الرابعة: يتضمن الجمع بين الآيتين الإحتجاج على أهل الكتاب بقصص الأنبياء وهو من عمومات قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]([417])، بتقريب أن قصص القرآن مدرسة في الإحتجاج.
الثالث: الصلة بين هذه الآية وآية (قولوا آمناً)([418])، وفيها مسائل:
الأولى: إتخاذ يعقوب وأبنائه الإسلام مله وعقيدة , ثباتهم على الإيمان إسوة حسنة.
الثانية: لزوم تعاهد ملة إبراهيم كما تعاهدها أبناء الأنبياء.
الثالثة: أولاد يعقوب ممن أنزل الله عز وجل عليه الوحي وكان إقرارهم بالتوحيد، وإنقيادهم لأوامر الله مقدمة لنيلهم مرتبة الإمامة ونزول الوحي كما جاء في دعاء إبراهيم(ومن ذريتي).
الرابعة: تصديق المسلمين بالتنزيل مطلقاً.
الخامسة: تشابه كلمات خاتمة الآيتين(ونحن له مسلمون) وفيه دلالة على أن الإقتداء بإسرائيل وأبنائه يكون بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بالقرآن، وأن المسلمين ورثة الأنبياء.
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين الترغيب بالإسلام.
بحث بلاغي
من وجوه البديع الإدماج، وهو ان يدمج في الكلام غرضاً في غرض او بديعاً في بديع، فالظاهر غرض واحد ولكنه يتضمن غرضاً آخر، ومن بلاغة واعجاز القرآن هو ان الإدماج فيه على نحو التعدد وليس الإتحاد فالأغراض من هذه الآية لم تستوف بعد لاسـيما وان علوم التفسير تحصـر المخاطب ببني اسرائيل ولكنـه اعم موضوعاً وحكماً ودلالة.
إعجاز الآية
تكشف الآية عن اهم الوقائع الشخصية في حياة الأنبياء وبما يؤكد وصيتهم بالإسلام، وتفضح تحريف التوراة وعدم صلاحيته لستر زيف وادعاء شطر من أهل الكتاب، وتبين ان عـدم اقامتهم على الإسلام ادى الى انتقال النبوة الى من يستحقها ويتعاهدها ويحفظها.
ومن اعجاز الآية توكـيدها على الوصية العقائدية فنحن ندرس الوصية المالكية والوصية العهدية، والأهم هي الوصية العقائدية بتعاهد الفرائض وليس هذا بتقصير في باب الفقه ولكن موضوع الإبتلاء والحاجة في المقام هو المعاملات، والوصية بما بعد الموت بل ان الإهتمام بالوصيـة العهديـة والتمليكيـة جـزء من الإقـرار بما بعـد المـوت والحسـاب، والآية تؤكـد على اعطـاء الاولويـة في الوصيـة والخلف للايمان وتعاهـد الشريعـة وحفـظ الاحكـام، فهـي طـرد للغفلة وحاجز عن النسيان.
الآية وثيقة سماوية وحجة على اليهود بأن يعقوب لم يقل لأبنائه كونوا على اليهودية أو النصرانية بل دعاهم إلى الحنيفية والتي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجاءت الآية بلغة الإحتجاج والبيان التأريخي لجذب الناس للإسلام، وتبين الآية الصلات البيانية والنسبية عند آل إبراهيم بأن ذكر أبناء يعقوب إسماعيل وأطلعوا عليه صفة الأب ليعقوب، وبالجامع المشترك بينهم وهو الإيمان، وهو من مصاديق دعاء إبراهيم وإسماعيل [وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً] وأن إسلامهم على نحو العموم المجموعي الإستغراقي، وبما ينفعهم أفراداً وجماعة متحدة متآخية في مرضاة الله، ومن خصائص آل إبراهيم الحرص على عدم ترك الأرض من غير عبادة وذكر لله عز وجل بأن وصى يعقوب بنيه بعبادة الله، والإنقياد لأوامره، إلى بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليملأ المسلمون أرجاء الأرض ويعمروها بالصلاة والذكر والتسبيح.
ويمكن تسمية هذه الآية(أم كنتم شهداء).
الآية سلاح
يمكـن اعتبــار الآيـة مـدداً للمسلمـين باظهارهـا لتـوارث الإسـلام عند الأنبيـاء وابنائهـم، وتدرك من خلالهـا حقيقة الحاجة الى البعثة النبوية كفيض الهي واختيار محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً من الحق الى الخلق ليؤدي عن الله عز وجل بلا واسطة من البشر، وقصص الأنبياء وجهادهم وحياتهم درس للمسلمين، والآية بعـث لإكـرام الأنـبيـاء والحرص على الإقتـداء بهـم وبيـان لعظيـم واهمـيـة سيرتهم.
وفي الجزء الثاني من رسالتنا العملية “الحجة” ذكرنا في المسأله الثانية والخمسين بعد الخمسمائة انه يستحب عند ذكر الأنبياء الصلاة عليهم ولكن بعد الصلاة على النبي، الا في ابراهيم فيبدأ بالصلاة عليه ثم يصلى على النبي محمد صـلى الله عليه وآله وسلم، واذا ورد ذكـر موسى او يعقوب او اسماعيل تقول: صلى الله على نبينـا محمد وعليه، او اللهم صـل على نبيـنا محمد وعليه، واذا جـاء ذكـر ابراهيم uتقول اللهم صل عليه وعلى نبينا محمد، اكراماً لمقام نبوته وابوته وجهاده وللنص ولدعائه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
كان الناس في الجزيرة على الشرك والضلالة، والإعراض عن مفاهيم التوحيد وسنن الإيمان، وكان هناك اليهود في المدينة وهم أهل كتاب، ولما بعث الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلقى أفراد قليلون من أهل ببيته ومن قريش دعوته بالتصدي، وقابلها الأغلب الأعم بالصدود والجحود والعداء.
ومن الآيات في دعوة إبراهيم كما في التنزيل[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ] ([419])، وجود أثر لها عند أهل مكة وما حولها، وعند أهل الكتاب، إذ يتطلعون لبعثة نبي آخر الزمان، وعندما سأل رجال قريش اليهود عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذكروا صفات غير صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإزدادت عداوة قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل بيته وأصحابه، وتلقوا منها أشد وجوه التعذيب وعانوا مما فرضته عليهم من الحصار، ومن الآيات أن هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانت إلى يثرب التي كان يقطنها اليهود، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يتجذبها لأن فيها طائفة من اليهود تنكر نبوته، ولهذا الإنكار حذر كبير إذ أن الناس يصغون لهم بهذا الخصوص لأنهم أهل كتاب، وأعلم بالنبوات وأسرارها وأوان كل نبوة.
أسباب النزول
ذكر في اسباب نزول الآية قولان:
الأول: ان يعــقوب لما دخل مصر رأى اهلها يعبدون الاوثان، فقال لهم هذا القــول تعــريضاً بالنــيران والأوثان وخاف على بنيه بعد وفاتـه، وتحريضاً لهم على التمسك بعبادة الله تعالى، عن بعض التفاسير.
الثاني: ان يعقوب uجمعهم اليه عند الوفاة، وهم كانوا يعبدون الأوثان والنيران، فقال: يا بني ما تعبـدون بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك.
والأول جزء ووجه من وجوه واسباب وصية يعقوب، اما الثاني فهو بعيد لاسيما وان يوسف عليهم السلام جمعهم ايضاً في مصر، وظاهـر الآية ان يوسـف معهم وممن اعطى الميثاق لأن لفظ بنيه يحمل على الإطلاق الا ان يخرج احدهم بالتخصص او التخصيص، وكون يوسف uنبياً لا يمنع من اخـذ يعقـوب منـه العهود والمواثيق مـع باقـي اخـوته للتغـليـب، أي تـغليب عـدد الذين ليسـوا انبيـاء وللأمانـة والعهد وللتوكيد وأداء وظيفة نقل الأمانة والتبليغ والسعي لتعاهد كلمة التوحيد في الأرض، ثم ان الآيات القرآنية جاءت بمدح الأسباط وانهم كانوا صالحين.
والأسباط في بني يعقوب كالقبائـل في ولـد اسماعيل وهم اثنا عشر سبطاً من اثني عشر ولداً من اولاد يعقوب وسموا بالأسباط للفصل بينهم وبين اولاد اسماعيل الذين سموا بالقبائل وقد يرد السبط بمعنى ابن البنت او بمعنى الطائفة والقطعة، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: حسين سبط من الأسباط)([420]) أي امة من الأمم في الخير.
بحث اعجازي
من القواعد المشهورة بين المتكلمـين (قاعدة اللطف)، واللطف هو ما يتفضل به تعالى لتقريب العبد الى الطاعة ويبعده عن المعصية.
وقال المعتزلة بوجوبه على الله عز وجل، والأولى تنزيه مقام الربوبية من لفظ الوجوب عليه واختيار اصطلاح من منازل العبودية ويبين انه فضل منه تعالى.
واحتج الأشاعرة بان اللطف يجب ان يخلو من المفسدة، وان جهة المصلحة لا تكفي وحدها في الوجوب، وان الكافر اما ان يكلف مع وجود اللطف او مع عدمه.
والأول باطل لكبرى كلية وهي ان اللطف يعني تحققه في الخارج بحصول الملطوف والإنتفاع منه، والأخبار بان المكلف من اهل الجنة او من اهل النار اغراء بالمعاصي.
وهذا اللطـف الإلهي لا يتعارض مع التكليف، ولا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، فاللطف لا يعني تهيئة المقدمات وآلة الفعل واسباب الاداء والقهر عليها بل هو جـزء من المقدمـة وباب يجعـل العبد اقرب الى فعل الطاعة واجتناب المعصية، فمثلاً يريد الإنسان الحج وهو غير مستطيع فلا تعني قاعدة اللطف توفير الزاد والراحلة لـه، ولكنه الحث والمدد والتوفيق بحيث لو سعى وكسب لوجد اسباب العون والمؤونة، وكذا بالنسبة للمعصية فان قاعدة اللطف تنفر العبد من الحرام او تجعـله بعيد المنال عنه، فقد يهم بالسوء ولكنه لا يجده.
والظاهر ان قاعدة اللطف تتسع وتضيق بالنسبة للأفراد بحسب الإستعداد والهداية او الغواية وقد تضيق استدراجاً كما تجلت ظاهرة في صرف كيد امرأة العزيز عن يوسف عليه السلام، والأمر بالوصية واحكامها وقواعد التربية والوعد والوعيد والتذكير بالنعم وبعض الابتلاءات من مصاديق قاعدة اللطف.
الآية لطف
إن كشف أخبار الأمم الماضية، وذكر قصص الأنبياء وما فيها من المواعظ والدروس خير محض ولطف من عند الله بالمسلمين ونبي إسرائيل، والناس جميعاً، وفيه توكيد لتفضيل بني إسرائيل بقوله تعالى[فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ([421])، بأن جاء ذكرهم وثباتهم على الإيمان ووراثتهم لسنن في القرآن الكتاب السماوي الخالد، والباقي إلى يوم القيامة، وفيه إشارة لهم إلى تضمنه لما يحتاجون مع موضوعية خلوه من التحريف والنقيصة والزيادة.
ومن معاني الآية دعوة بني إسرائيل لإقتفاء سنة آبائهم والتسليم لأمر الله، ومنه بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بالمعجزات التي جاء بها، وبين وفاة يعقوب عليه السلام وبين نزول القرآن نحو ألفي سنة وجاءت هذه الآية لتنقل المسلمين والذين ينصتون للقرآن إلى تلك الواقعة، إذ حضر عند يعقوب الحدث لتجعلهم تلاوة هذه الآية كأنهم حاضرين عنده، ومن مفاهيم اللطف في الآية الإضلاع على الغيب، وأحوال الأنبياء، وإقتباس الدروس من ساعة ويوم وفاة يعقوب عليه السلام، وفيه نكتة وهي أن الأنبياء مباركون في حياتهم وعند وفاتهم، ومن بركاتهم إنتفاع المسلمين والناس جميعاً من قصصهم بما أنزله الله عز وجل القرآن.
مفهوم الآية
الخطاب في الآية انحلالي موجه الى الناس جميعاً، ومن الإعجاز مجيؤه بعد تسع آيات ليس فيها خطاب وتتناول امامة وجهاد ابراهيم وسعيه الحثيث لتثبيت الإسلام وجعله ملكة وعقيدة راسخة متوارثة في ذريته وابنائه ليكونوا داعية الى الله تعالى ويصبح موضوع هذه الآية تحد مستمر لأهل الريب والضلالة وحجة على بني اسرائيل لأن آباءهم ابوا الا اختيار الإسلام وتوارث عقيدة التوحيد، وتبين الآية مضامين الإفتخار الصحيح بالآباء وهو تعاهدهم الإسلام واخلاصهم لله عز وجل.
أما إرادة المسلمين في خطاب ومضمون الآية فلها دلالات منها
الأول : الإخبار عن اطلاع المسلمين على الغيب وقصص الأنبياء السابقين والأمم السالفة.
الثاني : إظهار وجوه الإلتقاء بين الأنبياء في سننهم ووصاياهم وبين المسلمين في فرائضهم وعباداتهم ووراثتهم في الأرض.
الثالث : في الاية عز ومنعة للمسلمين لما تبعثه في نفوسهم من التوفيق الإلهي للإختيار الأحسن.
الرابع : تحث الآية المسلمين على الوصية بالإسلام، وموضوع الوصية في الآية لا ينحصر بالعهد على سرير الموت بل بالتأديب والإرشاد الى الفرائض والعبادات والأمر اليومي إلى الأولاد والأسرة باداء الصلاة والفرائض الأخرى ومتابعة ادائهم لها وفق صيغ التربية والتوجيه ومراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأدنى فالأدنى لذا ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع)([422]).
وهذا الأمر للتمرين والتعليم لأن وجوبها لا يتحقق الا عند سن البلوغ.
الخامس : دعوة اهل الكتاب الى التوحيد ونبذ الشرك، وفي الآية مدح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وازالة للحواجز النسبية عند بني اسرائيل عن الإسلام وشخصه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم فقد نعتت الآية اسماعيل uبانه ابو بني اسرائيل، وقدمته على اخيه اسحاق ابي اسرائيل وتبين الآية ان اسماعيل كان معروفاً عند بني اسرائيل وينظرون له بعين الأبوة والإكرام ويقرون بانه حامل لواء التوحيد، وفي ذكره طرد للنفرة وترغيب لبني اسرائيل بدخول الإسلام.
وفي الآية مسائل:
الأولى: الآية الكريمة من الشواهد على قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ([423])، لأن الآية من مصاديق الغيب التي تفضل الله عز وجل وأطلع عليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل مضامينها حجة بيد المسلمين إلى يوم القيامة.
الثانية: تعاهد ذرية إبراهيم للتوحيد حتى ساعة الموت بما أظهره يعقوب من الإيمان الذي تدل عليه الآية في مفهومها وبما أخذه من العهد على أبنائه ساعة وفاته، وفيه دعوة للموت على الإسلام قال تعالى[وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]([424]).
الثالثة: تدل الآية على أن بناء يعقوب كانوا يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً أيام أبيهم، وأنه علّمهم وأدبهم على طاعة الله، وأراد أن يأخذ منهم العهد ساعة وفاته.
الرابعة: من سعادة الإنسان أن يغادر الدنيا، وأبناؤه في طاعة الله.
الخامسة: لما ذكر أبناء يعقوب الله مرتين بلــــحاظ النسبة والإضــافة إذ قالوا [إِلَهَكَ] ثم قالوا[وَإِلَهَ آبَائِكَ]عادوا وقالوا[إِلَهًا وَاحِدًا] لبيــان إرادة الله عــز وجل وعدم الشرك به، كما في قوله تعالى[فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ] ([425])، وفيه دلالة على إرتقاء أبناء يعقوب في المعارف الإلهية، وتفقههم في الدين.
السادسة: تمنع الآية من الغلو بالآباء والأنبياء السابقين، وقد يتخذ بعضهم هذا الغلو لإثارة الشك والريب في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاءت الآية بالإخبار عن وفاة نبي الله يعقوب وان الموت هو الذي جاءه وحضره عنده.
السابعة: إقرار ورضا أبناء يعقوب بحقيقة وهي أنهم وآباءهم حفظة الدين والملة لذا ورد في الآية السابقة على لسان يعقوب في خطاب لهم[إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ].
الثامنة: حرص أبناء يعقوب على إمتلاء نفس أبيهم غبطة وسعادة وهو يغادر الدنيا، بإعلانهم الإنقياد لأوامر الله، والتسليم له، ومن معاني خاتمة الآية(ونحن له مسلمون) التصديق بمن يبعثه الله نبياً.
إفاضات الآية
لقد بينت آيات القرآن جهاد إبراهيم عليه السلام، وما لاقاه من الطواغيت والظالمين وتعرضه للحرق في النار لثباته على التوحيد، والنار أشد أنواع التعذيب والعقوبة، ولكن الله عز وجل أنجاه وأصلحه للإمامة، فأتجه إبراهيم إلى الدعاء لأبنائه وذريته، وحرص على تعاهدهم مبادئ الإسلام والتقيد بطاعة الله، والذي يحتاج إلى جهاد إضافي لأنهم وسط قوم مشركين ضالين.
وجاءت هذه الآية لتبين الفيض الإلهي على أبناء إبراهيم وأنهم معصومون من أفكار الشرك ومفاهيم الضلالة، ففي الآية نكتة عقائدية وهي إنفصال وإبتعاد ذرية إبراهيم عن أهل الشرك في العقيدة وأن إختلطوا معهم في السكن والمعاملة والبيع والشراء.
وتلك آية لم تنحصر بذرية إبراهيم من إسحاق ويعقوب، بل كانت جلبة واضحة في ذريته من إسماعيل، وهما معاً من دعاء إبراهيم وإسماعيل [وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ]، وقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهناك أفراد لا زالوا على ملة إبراهيم وينتظرون نبي آخر الزمان.
فجاء القرآن واسطة للفيض الإلهي على المسلمين والناس جميعاً، ودعوة لأرباب الحقيقة للتدبر في الحياة الدنيا، وأسرار الموت وأنه ليس أمراً عدمياً، بل له فعل ويحضر عند الإنسان قهراً وطوعاً، ولا يغادر إلا ويأخذ صاحبه معه، ولكنه يأخذه إلى عالم الخلود، حيث الحساب والجزاء.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بصيغة الإضراب والإستفهام لتوكيد حقيقة مخاطبة الناس أيام التنزيل بأنهم غير حاضرين واقعة العهد الذي أخذه يعقوب على أبنائه بتعاهد كلمة التوحيد.
وتبين الآية أن يعقوب لم يرتبك ويفزع عند حضور أجله بل حرص على جمع أبنائه والوثوق من دينهم وسلامة عقيدتهم وهو أبهى وأحسن ما يغادر به الدنيا، وفيه دلالة على إقراره وأبنائه باليوم الآخر وعالم الحساب، ولم تكن هذه هي الوصية والعهد الوحيد الذي أخذه يعقوب على أبنائه بضرورة الإيمان، كما تدل عليه الآية السابقة.
وظاهر الآية أن يعقوب جمع أبناءه كلهم ومنهم يوسف عليه السلام فإن مرتبة النبوة ومنصب الوزارة لا يحجبان إشتراكه مع أخوته في إعلان الإيمان بالله عز وجل والثبات على الإسلام والحنيفية، وعندما كان في السجن أعلن بقائه على ملة إبراهيم.
وفي التنزيل[وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ] ([426])، وفيه أنه كان يجاهد لدعوة الناس إلى التوحيد وهو في السجن، ولم يخش بطش آل فرعون، والملك في مصر هو الريان بن الوليد رجل من العماليق وأسلم لما رأى الآيات من يوسف عليه السلام وحسن تدبيره للملك، وإنقاذه للعرش من الزوال، والناس من المجاعة والهلاك بآية من عند الله إذ تولى يوسف الوزارة كما في وقوله تعالى[اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ] ([427])، (فملك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى)([428])، وأولاد يعقوب عليه السلام هم يوسف وبنيامين يهوذا: وروبيل، وشمعون، ولاوي، وربالون، ويشجر، ودينة، ودان، ونفتال، وجاد، وآشر) ([429])، ومجموع عددهم هو أثنا عشر، وهو الصحيح والمناسب لقوله تعالى[إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ]([430])، مع كثرة عدد أولاد يعقوب وذكر عددهم من أيام صبا يوسف بلحاظ أوان الرؤيا فأنهم بذات العدد سجدوا ليوسف وتحققت أكثر من عشرين سنة، مما يدل على صحة الأبدان آنذاك، وإنعدام الحروب، والسلامة من الأمراض القتالة مع أنهم مروا بفترة مجاعة وفاقة شديدة وكانوا يغادرون من الشام إلى مصر وبالعكس لجلب الميرة وفيه إمن سلامة وحينما أراد أخوة يوسف الإعتذار عن فقد يوسف لم يقولوا بأن عدواً أخذه أو خطفه أو قتله، بل إدعوا أن الذئب أكله، وهذه الدعوى بمكر من قول يعقوب عليه السلام[بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ] ([431])، أي حتى يعقوب كان مطمئاً لسلامة أولاده حين خروجهم، وهل يحتمل أن تلك السلامة بسبب كثرة عددهم، وما تبعثه هذه الكثرة من الرهبة في قلوب الآخرين.
الجواب لم يثبت هذا، وإذا كان المجرمون يعيشون في الأرض فساداً فأنهم يتآزرون ويتعاونون للتعدي والسلب والنهب والقتل.
وقد بعث الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط قوم مشركين، ويغيرون بعضهم على بعض للنهب والسلب، ويقتلون الموؤودة بغير حق، ويقطعون الطرق ولما أظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبوته.
وحينما أعلن نبوته وتلا ما أنزل الله عز وجل عليه من الآيات أرادوا قتله ومن آمن معه، وجمعوا الجيوش لقتله، ومع هذا فأنهم لم يستطيعوا النيل منه ومن الإسلام، وأنزل الله عز وجل ملائكة لنصره، قال تعالى[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]([432])، وأبي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون هناك سلطان من حوله يحكم بغير ما أنزل الله، ولم يعمل عند أحد، بل جاهد في سبيل الله إلى أن بسط الله عز وجل له شؤون الحكم لتكون المدينة المنورة نواة الدولة الإسلامية الباقية إلى يوم القيامة.
وأخبرت الآية الكريمة بأن يعقوب سأل أبناءه عن عبادتهم من بعده، ولم يسألهم عن عبادتهم أيام حياته، وفيه وجوه:
الأول: كان يعقوب يرى عبادة أبنائه لله إنقيادهم لأوامره.
الثاني: خشي يعقوب على ملة التوحيد من يعده التي هي أمانة عهدية وشرعية.
الثالث: أراد الإطمئنان لبقاء دعوة إبراهيم في ذريته وسؤاله الإمامة لهم بقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي]([433]).
الرابع: توكيد يعقوب لحقيقة مركبة من شعبتين:
الأولى: إنه لا يغادر الدنيا إلا على الإسلام.
الثانية: وراثة أبنائه للإيمان.
الخامس: سماع شهادة أبنائه بأن يعقوب على ملة إبراهيم، إذ كانوا حاضرين معه أيام حياته، فإبتدأت الآية بقوله تعالى[أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ]، ولكنها تضمنت الإقرار من أبناء يعقوب بالتوحيد والشهادة على توارث ملة إبراهيم.
وجاء ذكر الله عز وجل باسم الإله ثلاث مرات وهي:
الأول: إلهك.
الثاني: إله آبائك.
الثالث: إلهاً واحداً.
وهي أكثر الآيات التي يتكرر فيها لفظ الإله ويراد به الله عز وجل، وتبين الآية إتصاف إبراهيم وذريته بالعبودية والخضوع لله عز وجل، ومع أن أبناء يعقوب أجابوا عن عبادتهم لله عز وجل كما سأل يعقوب وأنهم أضافوا الإعلان عن إنقيادهم وتسليمهم بأمر الله عز وجل.
التفسير الذاتي
لم يرد لفظ (آبائك) إلا في هذه الآية، وجاء بصيغة الخطاب التي تتضمن الإكرام للآباء والحث على إنتهاج طريقتهم وإتباع ملتهم في التوحيد وعدم الشرك بالله.
ومن خصائص المسلمين التساوي والتشابه في إنقيادهم لأوامر الله، وإتيانهم الفرائض والعبادات كما في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي)([434]) فترى المسلمين يؤدون الصلاة بذات الكيفية التي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا بالنسبة للصيام في أوانه، وإبتدائه بحلول شهر رمضان من كل سنة، وتعيين أوان الإمساك والإفطار اليومي على نحو الدقة بالتقيد بظواهر كونية ثابتة لا تتغير تتعلق بطلوع الفجر وغياب الشمس.
وذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في خمس آيات من القرآن([435]) ثلاثة منها تضمنت إخباراً وإستفهاماً من عند الله ووردت هذه الآية حكاية عن أبناء يعقوب الصلبيين، وجاءت واحدة بأمر من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ] ([436])، وجاء الخطاب فيها بلغة الأمر على نحو القضية الشخصية إلا أنه إنحلالي وعام يشمل المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، وفيه شاهد على وراثة المسلمين للأنبياء وأبناء الأنبياء في تعاهد الإسلام.
وورد قوله تعالى[وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] أربع مرات في القرآن ثلاثة على لسان المسلمين([437])، وفي أيضاً دلالة على ثبات المسلمين في مقامات التقوى ووراثتهم لملة إبراهيم ووصية الأنبياء السابقين وما عاهدهم عليه أبناؤهم الصالحون.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: تنبيه بني إسرائيل إلى وظائفهم العبادية بتذكيرهم بنعمة الله عليهم في إنتسابهم إلى الأنبياء بالبنوة.
الثانية: بيان إعجاز القرآن بذكره للوقائع والحوادث التفصيلية التي تدل على إخلاص أبناء إسرائيل العبودية لله عز وجل.
الثالثة: جاء الخطاب في الآية لأهل الكتاب وللناس جميعاً لما فيه من الحجة والموعظة والبرهان، فما دمتم لم تحضروا أيام الأنبياء فلا تقولوا عليهم غير الحق.
وجاءت هذه الآية وثيقة سماوية تحكي أوان مغادرة يعقوب إلى الرفيق الأعلى ولم يكن والأسباط يهوداً أو نصارى، بل كانوا على الحنيفية التي جاء بها إبراهيم، وكذا بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يعني هذا التعريض باليهودية والنصرانية فهما شريعتان سماويتان أرسل بهما موسى وعيسى عليهما السلام لبني إسرائيل، وفي عيسى ورد قوله تعالى [وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] ([438]).
وبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً لأهل للشرائع الأخرى، وهذا النسخ أقرب إلى دخول الملل والشرائع السابقة في شريعة الإسلام التي أراد الله عز وجل لها البقاء إلى يوم القيامة، وفي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد قول الله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ] ([439])، وجاءت الآية محل البحث لطفاً من عند الله لجذب الناس إلى منازل الإيمان.
الرابعة: إكرام أبناء يعقوب لإسماعيل ووصفهم له بأنه أبوهم بالواسطة فإذا كان أبا يعقوب فهو أبوهم وأبو الأجيال اللاحقة منهم وإلى يوم القيامة.
الخامسة: وجود أمة من الموحدين تتوارث الإيمان ويزداد عددها، وتنتشر في الأرض، وقد بدأ هذا الإنتشار بسكن إسماعيل في البيت الحرام مع أن إبراهيم عليه السلام كان في الشام ومن قبل في العراق، وفي التنزيل حكاية عن إبراهيم[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ]([440])، وجاءت هذه الآية لتبين أموراً:
الأول: تعدد المؤمنين وإشاعة مفاهيم الإيمان في الأرض.
الثاني: توارث ملة التوحيد.
الثالث: كثرة وإزدياد أهل التوحيد فبعد أن كان لإبراهيم ولدان هما إسماعيل وإسحاق رزقه الله يعقوب نافلة، لينجب يعقوب أثني عشر ولداً وفي علة هذه تسميتهم الأسباط وجوه منها أنهم أولاد بني البنت، وفي لسان العرب(والأَسْباطُ من بني إِسرائيل كالقبائل من العرب) ([441]).
الخامسة: لم يشذ أحد من أبناء يعقوب عن ملة إبراهيم، فجاء جوابهم مجتمعين بالتسليم لأمر الله، والإقرار بالعبودية له سبحانه.
التفسير
قوله تعالى [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ]
انتقلت هذه الآية الى لغة الخطاب وهو المسمى في البلاغة بالإلتفات ومن اهم وجوهه نقل الكلام من صيغة الخطاب الى الغيبة او بالعكس، وفيه فوائد منها تحسين الكلام، واضفاء نوع طلاوة عليه، ودفع السأم عن السمع، وشد الإنتباه بالإنتقال.
والغايات العقائدية في الآيـة القرآنيـة مطلقاً اكبر واعم، ومع هذا يبقى الإلتفات آية بلاغية في الخطاب القرآني، وسواء كانت [أَمْ] في الآيـة متصلـة عاطفـة أي ادعـاؤهـم علـى الأنبيـاء اليهوديـة [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ]، او كانت منقطعة بمعنى: بل ما كنتم شهداء فان الآية تتضمن معنى الحجة.
ترى لمن يتوجه الخطاب في [كُنتُمْ]، فيه وجوه:
الأول : لبني اسرائيل.
الثاني : لأهل الكتاب.
الثالث : للمسلمين.
الرابع : للناس جميعاً.
الخامس : لأحد الوجوه المتقدمة او لغيرهم او لبعض منهم ومن خلالهم للناس عامة الموجود منهم والمعدوم.
ومع عدم الدليل على المخصص او التخصيص فالظاهـر والأصل هو المعنى الأعم، وهكذا القاعدة في علم الأصول لاصالة الإطلاق الا ان يرد دليل يخرج بعض المصاديق.
والآية موعظة وعبرة فكل فرد وجماعة يأخذون منها حاجتهم، والقرآن حمال أوجه، فقد تكون الآية حجة على قوم وحجة لقوم آخرين، ومدحاً او ذماً لغيرهم كما في هذه الآية الكريمة، لذا قد يكون اعراب [أَمْ] بالنسبة لقوم انها متصلـة عاطفة، وبالنسبة لغيرهم منقطعة بعنوان الإنكار.
فعلى القول بالمعنى الأعم للغة الخطاب في الآية تكون سلاحاً اراد الله ان يجعله بيد المسلمين، فمن المضامين القدسية لهذه الآية انها تبالغ في كشف توارث الإسلام في بني اسرائيل، وهذا لا يتعارض مع كون الآية خطاباً لبني اسرائيل على نحو الذم والتوبيخ والذكرى التي تتضمن صيغة الموعظة.
وفي الآية نكتة وهي اخبارها عن المغيبات فيما مضى ولكن ما هو الغرض من هذا الإخبار والفائدة العائدة على المخاطبين .
وهل فيه اجتلاب نفع او دفع ضرر، الجواب نعم لاسيما على القول بتعدد اشخاص المخاطبين، وحتى لو تنزلنا وقلنا ان الخطاب متعلق بجماعة معينة فان خطابات القرآن تهم الجميع كمدرسة وموعظة وعبرة.
قولـه تعالى [إِذْ حَضر يَعْقُوبَ الْمَوْتُ]
يعقوب uابن اسحاق من زوجته رفقة سمي بذلك لأنه جاء يتعقب او متعقباً لأنه نزل من بطن امه ويده قابضة بعقب اخيه وتوأمه عيسو اذ خرج يعقوب بعده وعلى اثره بلا تأخر وليس بينهما زمان يذكر، او انه يتعقب اباه بالبشارة قال تعالى [ فَبشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ]([442]).
ويعقوب من الأنبياء بحكم الآيات القرآنية والنصوص الصريحة، وكذا عند اهل الكتاب فقد ورد في سفر التكوين: بأن الرب ظهر لـه وكلمه وبشره ووعده مواعيد جميلة.
وسمي دنو الموت بالإحتضار لوجوه:
الأولى : لحضور الموت عنده، قال تعالى[إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ]([443]).
الثانية : لحضور الملائكة الموكلة به.
الثالثة : لحضور اخوانه واهله عنده.
الرابعة : لحضور عقله ما قبل الموت من اجل الوصية.
الخامسة : لحضور ما مر عليه في حياته للإستغفار.
وظاهر الآية يدل على المعنى الأول وبروز وظيفة الوراثة ليكون تعاهد كلمة التوحيد آخر ما يغادر به النبي الارض انتظاراً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتثبت الآية من سورة يوسف تعدد وصــية يعقوب وانه يوصي ابنـاءه من الصغر لأن يوســف فارقه صغيراً .
و(ما) حرف يتصرف على تسعة وجوه منها الاستفهام والتعجب والنفي والشرط.
وقـد ظهـر تأديــب يعقـوب لبنيـه وقبل الوصـية في يوسف uوجهـاده ومحاربـتـه للكفـر في قــولـه تعـالى حكـايـة عـن يوسـف [ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَــائِي إِبْرَاهِيـمَ وَإِسْــحَـاقَ وَيَعْـقُـوبَ مَا كَـانَ لَنَـا أَنْ نُشْــرِكَ بِاللَّهِ مِـنْ شَيْءٍ ](2)، وفيها توكيد لبقاء وصــية ابراهيم بذكر اسمه على الخصــوص واظهار يوســف uالإلتزام بوصيته ومن وصية يعقوب ودعوة يوسف تلك التبشير برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
واسحاق النبي والد يعقوب نافلة أي هبة، ولما بلغ عمر ابراهيم uمائة عام وسارة تســعين عاماً وُلد اسحاق وفي التنزيل حكاية عن سارة[قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ]([444]).
وهو بشــارة الإنجــاب عن كبر وشيخوخة لأن الله عز وجل اذا انزل آية فانه اكرم واعظم من ان يرفعها انما تحجــبها ذنوب العباد، وهي حجاب عرضي زائل بادنى مصاديق التوبة والصلاح، واذا نــزلت نعمة بآيــة وموهــبة فيمكن نيلها بالدعاء وتراكم الصالحات والعلوم الكسبية.
وذكـر (يعقـوب) في القـرآن سـت عشـرة مـرة كلهـا تـدل علـى العبـادة وحثه عليها والتزامه بها وانه هبة منه تعالى، وموضوع الهبة يمكن ان يستدل به على حقيقة وراثة المسلمين للأرض والنبوة عند العرب، فالبقاء والوراثة لمن هو مكتوب اصلاً ولادته على نحو الرجحان.
هل يحتمل بأن يعقوب لم يوص ولم يؤد باولاده الى التوحيد ونبـذ الشـرك الى ان جـاءه المـوت، الجواب: لا بدليل قوله تعالى في الآية السابقة[وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ]([445]).
ولكنه اراد ان يجعل ذلك آخـر عهده من الدنيـا وآخر وصاياه للتوكيد على اهميته وموضوعيته وان موضوع شفقته هو الدين وفيه نفعهم، وكان يوصي بلفظ [مَا تَعْبُدُونَ] لماذا جاءت (ما) ولم يقل (من)، و(ما) عام يشمل العاقل ايضاً واستعماله لغير العاقل ليس على نحو الإطلاق بل في الغالب فقد تستعمل للعاقل كما في قوله تعالى[فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ]([446]).
وفي المقام تتجلى حقيقة اخرى وهي ان طرح السؤال على نحو الإستفهام والإطلاق، اذ ان (ما) حرف يتصرف على تسعة وجوه ليشمل جميع ما يعبد الناس، أي انها تدل على وجود شرك ووثنية، وأراد يعقوب أن يسمع الجواب الـذي يطمئن اليه خصـوصاً وان(ما) تستعمل في صورة ارادة الجامع من العاقل وغير العاقل كما في قولـه تعالى[يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ]([447]).
وفي الآية دعـوة للمسلـمين بتعاهـد الإســلام وفرائضـه في ابنائهم فهم ورثـة الأنبيـاء في خصـوص الفـرائـض والعبـادات كمـا في قولــه تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]([448])، وفي خبر حفص بن غياث عن الصادق uفي تفسير الآية قال: “انما فرض الله صوم شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم ففضـل به هذه الأمة وجعل صيامه فريضة على رسول الله وعلى أمته”.
وحفص بن غياث القاضي ولي القضاء لهارون الرشيد ببغداد ثم ولاه قضاء الكوفة ومات بها سنة اربع وتسعين ومائة،وذكره النجاشي بنسبه واوصله الى النخع بن عمرو بن خالد بن مالك بن ادد، وله كتاب .
وما روي عن انه نقل حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحد من الخلفاء العباسيين في جواز المسـابقة بالطير فلذا سموه كذاباً ولم تثبت صحة الخبر وانه اضاف الجناح للحديث: “لا سبق الا في خف او نصل او حافر”.
وقوله تعالى [ مِنْ بَعْدِي ] تدل على ثبات ديانتهم وعبادتهم لله عز وجل مدة حياة يعقوب، وسلامة عقيدتهم، والقائلون بالتقليد تمسكوا بهذه الآية بان ابناء يعقـوب اكتفوا بالتقليد ولم ينكـره عليهم، والمعرفة قد تكون فطرية او تعليمية بانه لا طريق الى المعرفة الإلهية الا بتعليم الرسول والإمام.
وموضوع الآيـة هو الحجة , والآية تقول انهم ليسـوا بشاهديـن فهـي اجنبيـة عـن استشهادهـم هـذا، فصـدرها يدل على عـدم مناسبـة الإستشهـاد بها من أي منهما [ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ … ] وان موضـوع الآية هو الخطاب للحاضرين خصوصاً وانه لا تقليد في باب الضروريات كوجوب الصلاة والحج والصوم، واليقينيات اذا حصل للمكلف يقين بها وهو عبارة عن الإعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع، لذا لا تصل النوبة فيها الى الإجتهاد او التقليد لأنهما طريقان لدرك الواقع.
بحث اصولي
ينقسم العلم بلحاظ بقاء بابه مفتوحاً او انه اغلق الى قسمين فالضروريات والبديهيات من احكام العقائد كوجوب معرفة الباري عز وجل واوصافه، ووجـوب معرفة النبوة والإمامة ولـو في الجملة، والإقرار بالمعاد وما فيه من الأهوال، لا يزال بابه مفتوحاً بالإضافة الى آيات وشواهد كونية جعلها الله دائمة مع بقاء الحياة بل ومتجددة تخاطب العقول التي هي رسل دائمة عند الناس، فاجماع علماء الإسلام على عدم التقليد في الضروريات واليقينيات ولكن الخلاف وقع في الأحكام الشرعية الفرعية من التكليفية او الوضعية، والواقعية او الظاهرية، في ثلاثة اقوال وهي باختصار:
الأول : امكان الوصول اليها علماً، وقال به السيد المرتضى وجماعة من المتقدمين.
الثاني : عدم الوصول اليها علماً ولكن علمياً أي انسداد باب العلم وبقاء باب العلمي وهو المشهور شهرة عظيمة، وهو العلم بالطرق الموصلة الى العلم باعتبارها ادلة من قبل الشارع او العقل او الإجماع والمحصل والمنقول وخبر الواحد.
الثالث : دعوى الانسداد وعدم الوصول الى الواقع لا علماً ولا علمياً ويسمى قائله بالإنسدادي.
والآية من وجوه الإحتجاج بأن إبراهيم واسحق ويعقوب كانوا مسلمين، فالإسلام هو دين الأنبياء وهو الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولفظ (ما) بمعنى اسم استفهام في محل مفعول به مقدم يعني انه اراد ان يظهر اولاده ايمانهم بالإختيار ويقروا بالتوحيد عن بصيرة لأنه ارسخ وانفع لهم في الدارين.
فلا غـرابـة ان الإسـلام لم يفرض على اليهود بل رضي أهل الكتاب بالجزيـة للإعتراف والرضـا بديانتهـم في الجملة لأن نعمة الإيمان تنال بالنـية والإرادة الصـادقـة، فعمـوم هـذا اللفـظ وتعـقبـه باجـابتهـم القاطعـة بالتوحيد يدل على نفيهم للشرك على طريقة السبر والتقسيم البلاغيـة وانه كان ملتفتاً الى عبادة الأوثان او كان عالماً بما سيؤول إليه الذرية فأراد ان يأخـذ منهم العهد وان يتوارثوه فيما بعد بدليل قيد الاتحاد والتعيين ورفض تعدد الآلهة والحصـر.
فالآيــة نـوع عهد وميثــاق وحـث علـى اتبـاع النـبي محمـد صـلى الله عليه وآله وسلم والتصــديـق به رسـولاً من عنـد الله، ولعلهـا من مصــاديق قـوله تعـالى [ أَوَكُلَّمَا عاهَدُوا عَهْدًا نَبذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ]([449]).
بحث بلاغي
من اهم وجـوه اعجـاز القرآن بلاغته وفصاحته ومن وجوه البلاغة في هذه الآية:
الأولى : الإطراد: ذكرت الآية اسماء آباء يعقوب بحسب الترتيب في الولادة، فالمتعارف ان يذكر الآباء ابتداء من الأب الصلبي ثم الجد ثم الجد الأعلى، ولكن ذكروا هنا بحسب التقدم في الملة واعتقاد التوحيد، وتقديم اسماعيل على اسحاق هل هو بلحاظ الولادة ام بلحاظ عظيم المنزلة، الظاهر الأول.
الثانية : الإنسجام: فنظم الآية تراه يخترق شـغاف القلوب من غير جهد في الإستيعاب او كبير عناء في الإنصـات والإستماع وتبدو العذوبة والطراوة في قراءة الآية وان كانت الفاظ القرآن كلها عذبة موزونة.
الثالثة : التعديد: وهو ايقاع الإلفاظ المفردة على سياق واحد ونسق حسن، وقيل أكثر ما يكون التعديد في الصفات ولكنه اعم اذ ان اعجاز القرآن لا ينحصر بباب دون باب، فأسماء الأنبياء والآباء كانت مختلفة من حيث الأوزان، ووحدة السياق ظاهرة فيها ونحن ننظر الى المعنى الأعم فيها وهو اقرارهم بأن اسماعيل أب لهم، وفيها تخفيف بازاحـة النفـرة من نفوسـهم من الإيمان بالنبي العربي الذي هو من ذرية ابيهم اسماعيل، وامضـاء ولو عـلى نحو الموجبة الجزئية بان يكون نـبي آخـر الزمـان من غيرهم، فمع البلاغة اعجاز عقائدي ودلالات اهم تأتي بصـيغة البلاغة، أي ان أبوة اسماعيل uلبني اسرائيل بإقرار انبيائهم بها مقدمة للتسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع ظهور الدلائل عليها.
الرابعة : الترتيب: فقد ظهرت اسماء الأنبياء مرتبة بحسب النسب والأبوة والولادة وليس فيها وصـف زائد، كما انها مرتبة بحسب المنزلة مع الإتحاد في الماهية والموضوع.
لقد جعلت الآية الكريمة اسماعيل اسوة وإماماً لبني اسرائيل، وفيها حجة فهو عمهم وان لم يقيم معهم وفارقهم صغيراً في سبيل الله أي ان الإفتخار بإبوته تزيدهم عزاً وهيبة فقد نقله أبوه إبراهيم الخليل uوأمه هاجر إلى مكة من صغره.
وظاهر الآية أنهم كان يعرفون اسماعيل بشخصه وعمله وعباداته وانه حصلت لقاءات بينه وبينهم، فذكره ابناء يعقوب في ادق حالة من حالات الحياة التي يتركز فيها العناية على الأهم والضرورة ومقدار الحاجة فلابد لذلك دلالة، وتنقسم باللحاظ الى وجوه:
الأول : الدلالة المطابقية التي تعني دلالة اللفظ على تمام ما وضع لـه.
الثاني : الدلالة التضمنية التي تعني دلالته على جزء معناه.
الثالث : الدلالة الإلتزامية التي تعني الدلالة على لازم معنى اللفظ كالعقل على الإنسان والكتابة على القلم او القراءة ونحوه.
ومن المطابقية جعل العم بمنزلة الأب، وفي الحديث: (عم الرجل صنو ابيه)([450])، ولم تظهر في المقام قرينة على المجاز ولكنها مستقرأة من آيات أخرى فالأصل الحقيقة، نعم يمكن ان توسع الحقيقة لتشمل المعنى الأعم للأب فيدخل فيه العم.
وبالدلالة التضمنية تدل الآية على شمول احكام التوحيد العبادة لآل ابراهيم وتلبسهم بها على نحو العموم المجموعي، وفيه اشارة الى ان تفرقهم الى اسباط وعمومات لا يخرجهم عن الالتقاء في العبادة والتوحيد.
وبالدلالة الإلتزامية يدل ذكر اسماعيل كأب على اتباعه واتباع اولاده من بعده ان كانت النبوة فيهم، فالآية على الظاهر تذكير بعهد قطعوه للإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة لدفع النفرة بسبب البعثة من خارجهم وانها تقول ان النبوة لم تخرج عن آل ابراهيم وعن آبائكم لذا عليكم بالإسلام.
قوله تعالى[إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ]
في الآية مسائل:
الأولى: كان أبناء يعقوب حاضرين ساعة وفاة أبيهم، والظاهر أنه ليس من خلاف أو ضغائن بينهم خصوصاً بعد إستغفار، لهم بعد سؤالهم له، وفي التنزيل حكاية عن يعقوب[قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] ([451]).
الثانية: لم يخش يعقوب الموت، وفيه درس عقائدي لأبنائه لأن عدم الخشية هذه فرع الإيمان بالله واليوم الآخر، والإستبشار بما أعد الله عز وجل للصالحين.
الثالثة: جاء الخطاب والسؤال لجميع أبناء يعقوب على نحو العموم الإستغراقي، وفيه آية في توارث آل إبراهيم ملة التوحيد، وسنن الإسلام.
الرابعة: كثرة أبناء يعقوب، مما يدل على أن كثرة ذرية إبراهيم وآل البيت رحمة بهم وبالناس جميعاً لأنهم حفظة الدين والشريعة ما داموا على الإسلام والإنقياد لأوامر الله عز وجل، وورد لفظ (بنيه) أربع مرات في القرآن، مرة في إبراهيم وأخرى في هذه الآية وكلاهما في موضوع واحد، وإثنين في ذم الكفار وما يلاقونه من العذاب يوم القيامة، قال تعالى[يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ] ([452])، وقيل(أوّل من يفرّ من أخيه : هابيل؛ ومن أبويه : إبراهيم ومن صاحبته : نوح ولوط؛ ومن ابنه نوح)([453]).
قوله تعالى[مَا تَعْبُدُونَ]
ورد هذا اللفظ خمس مرات في القرآن أربعة منها في ذم الكفار لعبادتهم الأوثان، وقد تبرأ إبراهيم عليه السلام من الكفار وعبادتهم الأوثان والأنداد كما ورد في التنزيل[وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ]([454]).
كما جاء حكاية عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دمه للكفار وإنكاره عبادتهم للأوثان والحجارة[لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ]([455])، وفي الجمع بين الآيتين أعلاه يتبين الإتحاد في النهج بين إبراهيم والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن من خصال الحنيفية أموراً:
الأول : إنكار ما عليه الكفار من الشرك بالله.
الثاني : إعلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما عليه الكفار من الضلالة.
الثالث : تبكيت الكفار ورؤسائهم لإختيارهم الكفر، وعدم الخشية منهم.
الرابع : الجهاد في سبيل الله بالنفس والأهل.
الخامس : عدم تقييد الجهاد بوجود الناصر والمدد والعون فقد واجه إبراهيم المشركين بنفسه وكذا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : الصبر على الأذى في جنب الله.
السابع : عدم الإستيحاش من طريق الإيمان وإن كان خالياً من النصير والظهير من البشر.
الثامن : من الحنيفية اليقين في الدعوة إلى الله وعدم طرو الشك.
لقد ورد على لسان إبراهيم ذات اللفظ من الآية ولكن بصيغة الإستفهام الإنكاري لإقامتهم على عبادة الأصنام , قال تعالى[إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا]([456]).
وجاءت ذات صيغة الإستفهام في الآية الكريمة من يعقوب وبصيغة التقرير المترشحة عن كونه أسوة حسنة لهم، وتأديبه لهم على الإيمان وهو من عمومات دعاء إبراهيم لذريته قال[وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]([457]).
ويتبين المائز بين مضامين الآيتين أعلاه فإبراهيم ينكر على أبيه عبادته الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ويعقوب وهو حفيده يعلن إيمانه ويثبت وراثة أبناءه له، وشهادتهم بأن أبناء عمهم إسماعيل الذين يقيمون [بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ]([458])، هم أيضاً يرثون الإيمان لذا يتجلى في الآية إعجاز آخر في ذكر يعقوب وليس إسحق بالإخبار بأن عبادة الأصنام إنقطعت في طبقة واحدة بآزر أبي إبراهيم بينما بقيت كلمة التوحيد ومفاهيم الإيمان عند الحفيد وأظهر أبناؤه الثبات عليها من قبل أن يغادر الدنيا، ليأتي عيسى فيما بعد ويخبر عن وصية الله له[وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]([459]).
قولـه تعالى [مِنْ بَعْدِي]
يحتمل وجهين:
الأول: تعلقه بابنائه المخاطبين دون غيرهم.
الثاني: صيغة الإطلاق لمن يأتي من ذريته.
وعندنا في الأصول اللفظية مبحث مستقل هو اصـالة الإطلاق، فلو ورد لفظ مطلق ولـه خصوصيات وحيثيات وحالات متعددة وشككنـا هل هو مقيـد ببعض القيـود منها، فالأصـل الإطـلاق، فيحمل الكلام هنا على اطلاقه ما لم يثبت مقيد يدل على تعلق الخطاب بابنائه الصلبيين فقـط دون غيرهم، ليس هـذا فقط بل ان تكـرار اطلاق اسم بني اسـرائيـل في القرآن احدى واربعين مـرة تستظهر منه ارادة ذرية يعقوب بالخطاب، فحينما يخاطبهم الله عز وجل[ يابَنِي إِسْرَائِيلَ ]، واسرائيل هو يعقوب فكأنما يدعوهم الى الإلتزام بنهج يعقوب.
وعرفت العبادة بانها الخضوع والتذلل، وإنها ضـرب من الخضـوع والتذلـل للمعبـود وعلى سبيـل المبالغـة لتعظيمه ونوع من الشكر، وفي عرف الفقهاء فعل لا يجزي الا بنية التعظيم لله، وقد تكون جميعاً قاصرة عن الوصف والبيان فهي أيضاً الإمتثال والإنقياد التام بصلة فريـدة لا توجـد الا بين الخالـق والمخـلوق، هـي مادة الحيـاة وديمومتها، هي الإقرار بان الوجود والعدم من الله تعالى وما ينتج من ذلك الإقرار، وجاء جوابهم من غير فاصلة او تردد مما يعني تسالمهم على البقاء على التوحيد والإستعداد للإيمان بالإسلام.
قوله تعالى[آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ]
وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على الصلة والإلتقاء والإجتماع بين أولاد إبراهيم، وأن إنتقال إسماعيل إلى السكن في مكة وهو صغير لا يعني الإنقطاع عن أخيه إسحاق وأبنائه وأسرته، وفي التنزيل حكاية عن إبراهيم[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ]([460])، خصوصاً وأن الأنبياء حجوا البيت فلا بد أن إسحاق كان يأتي البيت الحرام للحج ولعل إسماعيل كان يذهب لهم في الشام.
(عن سفيان الثوري قال: بلغني أن إسماعيل وصاحباً له أتيا قرية، فقال له صاحبه: إما أن أجلس وتدخل فتشتري طعاماً زادنا، وإما أن أدخل فاكفيك ذلك، فقال له إسماعيل: بل ادخل أنت وأنا أجلس أنتظرك، فدخل ثم نسي فخرج، فأقام مكانه حتى كان الحول من ذلك اليوم، فمر به الرجل، فقال له: أنت ههنا حتى الساعة؟ قال: قلت لك لا أبرح حتى تجيء، فقال تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد})([461]).
عن سهل بن سعد إن إسماعيل: أن إسماعيل عليه السلام وعد رجلاً أن يأتيه، فجاء ونسي الرجل، فظل به إسماعيل، وبات حتى جاء الرجل من الغد، فقال: ما برحت من ههنا؟ قال: لا، قال: إني نسيت، قال: لم أكن لأبرح حتى تأتيني ولذلك{كان صادق الوعد})([462]).
ويدل خبر سفيان أعلاه على أن إسماعيل يسافر ويصبر خارج مكة سنة في موضوع واحد وهو وعد وإنتظار لصاحبه في السفر، لذا ففي تسمية أبناء يعقوب وإسماعيل أباً لأبيهم وجوه:
الأول : الإخبار عن معرفتهم بإسماعيل.
الثاني : تأكيد نسب إسماعيل لإبراهيم، خصوصاً وأن بعد الدار قد ينسي الأجيال النسب، ويصعب على البعيد عن أهله إثبات نسبه إلا أن يتفضل الله برحمة منه، كما في يوسف عليه السلام إذ وصف بأنه فتى كما ورد في التنزيل[وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امرأة الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ]([463])، والفتى هو الشاب والجمع فتية وفتيان ولكن إضافته للامرأة يفيد معنى الخادم والعبد، والأصل في لفظ فتى أنه يقال للشاب الحدث ثم إستعير للعبد وإن كان كهلاً أو شيخاً، والمعنى في الآية جامع للحقيقة والمجاز وأن يوسف كان شاباً حدثاً خادما لها بقرينة مراودة المرأة له وإنشغال النساء بهذه المراودة المقرون بالإستغراب والنفرة.
الثالث : رضا أبناء يعقوب بأبوة إسماعيل لأبيهم فتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن إسماعيل كان يتعاهد يعقوب في سبل التقوى.
الرابع : رضا أبناء يعقوب على بر أبيهم لآبائه وإن لم يحصر البر والطاعة بأبيه إسحاق بل كان يبر جده وعمه.
الخامس : بلوغ يعقوب النبوة لم يغنيه عن ذكر آبائه الأنبياء بل أنه وأبناءه يفتخرون بهذه النسبة ويعلنون مجتمعين ومتفرقين التمسك بها والعمل على نهجها المبارك.
قوله تعالى [إِلَهًا وَاحِدًا]
عهد منهم على البقاء على سنن التوحيد التي سار عليها آباؤهم ونفي للشرك او لتسربه الى النفوس وعرفت الألوهية بانها وجوب الوجود والقدم الذاتي وانها احدية جميع الحقائق الوجودية والقدرة على جميع المقدورات، والذات الدائمة الوجود المتصفة بصفات الكمال والقدرة على نحو الإطلاق.
ترى هل قولهم هذا عهد وامارة وعلامة بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي من علاماته وصفـاته انه يدعو الى التوحيد، الجواب: نعم، وتظهر الآية محاربة الأنبياء للوثنية والشرك حتى في حـال الإحتضـار فمن بـاب اولى ان يحــاربها النــبي محمــد صلى الله عليه وآله وسلم في حال الجهاد والدعوة .
ويمكن ان نطلق على هذه الآية اسم “آية الوصية العقائدية” ليكون هذا المعنى قسيما للوصية التمليكية والعهدية.
وبلحاظ توجه الخطاب القــرآني الى بني اسرائيــل فان (ام) للإستفهام الإنكـاري والتوبيـخ أي لو كنتم حاضـرين سـاعة احتضار يعقــوب وجمعـه لأبنائـه واخذ الميثاق والعهد منهم بالتوحيد، فالإستنكار في مضمون السؤال موجه الى بني اسرائيل في اصرارهم على اليهوديـة وعهـد الآباء بالتوحيـد والتسليم لله تعـالى، ومن اهم افراد التسليم الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والآية فضل من الله تعالى على:
الأول : بنو إسرائيل أيام نزول القرآن.
الثاني : يعقوب النبي.
الثالث : أولاد يعقوب الصلبيون الذين حضروا ساعة وفاته.
الرابع : المسلمون والمسلمات.
الخامس : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : الأنبياء جميعاً.
السابع : ابراهيم واسماعيل واسحاق عليهم السلام.
الثامن : الناس جميعا, للأسوة الحسنة.
فالوصية فضل على بني اسرائيل لأنها حجة عليهم وتذكير لهم بســنن آبائهم وما هــم عليه من التوحيد، وينطبق على أبناء يعقوب الصلبيين اسم بني إسرائيل الوارد في القرآن .
وفي الآية وموعظــة وتوبيخ وتقبيح للجحــود بنبــوة محمــد صلى الله عليه وآله وسـلم، وهي فضل على يعقوب النبي لأنها توثيق لصدق ايمانه واخلاصه في العبادة لله تعالى وحرصه على عدم مغادرة الحياة الدنيـا الا بالوثــوق والتأكــد من تسلم أبنائه أمانة التوحيد.
وفي الآية نكتـة وهي انـه استثمر فرصة الإحتضــار لأنها مناسبة كريمة لإجتماع الأبناء والأهــل والأقــارب ليكــون الجميــع شهوداً عليهم وللإعتبار ولأن الأبناء في اشد حالات التأثر، لذا ترى الإمام الصادق uحينما حضــرته الوفــاة وكان عنده بنو هاشم فقال: ليس منا من هو مستخف بصلاته).
والآية فضل على اولاد يعقوب الصلبيين لأنهم بادروا الى اعلان البقاء على التوحيد ولم يترددوا في بعث الطمأنينة في نفس ابيهم يعقــوب النبي واخباره بالتسليم لأمره تعالى واستعدادهم للإيمان بالأنبياء من بعده.
وهي فضل على المسلمين لما فيها من الموعظة والعبرة والحجة , كما انها تخبر المسلمين بانهم على نهج الأنبياء السابقين وورثتهم .
والآية دعوة للتأسي بالأنبياء ومنهجهم في مغادرة الدنيا بلباس التقوى وإعلان اليقين ، وهي فضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها توبيخ لاعدائه والجاحدين بالنبوة والرسالات، وحجة وزاجر للإفتراء والتحريف في سنن الأنبياء , قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]([464]).
وفي الآية اكرام للأنبياء وبيان أنهم جميعاً على مرتبة واحدة من الإقرار المطلق بمقام الربوبية والخشوع التام والانقطاع الى الله تعالى.
وا لآية وثيقة سماوية جاءت تشريفاً لإبراهيم واسماعيل واسحاق عليهم السلام بشهادة الاحفاد والذراري بصدق ايمانهم، وجعلهم المثل الاعلى في الاقتـداء والهـدايـة، فيعقـوب uحفيـد ابراهيـم ولم يـولـد أبـوه اسحاق الا وعمر ابراهيم مائـة عـام، فأولاد يعقـوب لم يدركوا أيام ابراهيم uولكنهم شهدوا وأقروا له بحسن العبودية، ليتم توارث الإيمان ويكون محـط فخـر واعتزاز وذكـر حسن، وكذا بالنسبـة لاسماعيـل، فان الآيـة تـدل على تعـلق واكرام بني اسرائيل له واجلالهم لمقامه وشهادتهم له بالتقوى والصلاح، والآية حـث للمسلمين على الدعـوة الى الله عز وجـل في حــال الصــحة والمرض.
والواحد لـه معنيان:
الأول: كونه مبدأ الكثرة ويكون عدداً ومكيالاً وتلحقه القلة والكثرة كأمرين اضافيين وإعتباريين، فالغرام الواحد من الملح قد لا تكون لـه مالية، والغرام من الذهب لـه مالية واعتبار وشأن، فلا يلتفت احد الى تلف غرام من الملح بينما تحصل خصومة بسبب مثله من الذهب، فالواحد قليل بالنسبة للكثير وهذا المعنى هو المتعارف والمتبادر الى الذهن الا ان ترد قرينة على الخلاف.
الثاني: هو الفرد الذي لم يزل وحده المتفرد بالذات المنزه عن التركيب الخارجي والذهني.
وقد فرق بين الواحد والأحد من وجوه:
الأول : الواحد هو المتفرد بالذات، والأحد هو المتفرد بالمعنى.
الثاني : الواحد اعم من الأحد، فهو يطلق على ما يعقل وما لا يعقل، والأحد لا يطلق الا على ما يعقل.
الثالث : الواحد اول الأعداد.
الرابع : الواحد قد ينقسم الى اجزاء
الخامس : الواحد يدخل في الضرب والعدد، اما اذا اطلق الواحد عليه تعالى فانه ليس بمعنى العدد، فوحدانيته تعالى ليس من الوحدة التي يتقوم بها العدد فهي عبارة عن عدم القابلية للإنقسام، ونقيض الكثرة والإنشطار مع استحالة التبعيض والتجزئة والتفريق في ذاته او في صفاته سبحانه وحينئذ يلتقي الواحد مع الأحد في صفاته تعالى.
لقد اخذ يعقوب من ابنائه العهد والميثاق فلا غرابة ان تسمى كلمة التوحيد بكلمة الإخلاص، والآية تذكير لهم وحث لأهل الكتاب على الرجوع الى ميثاق الآباء واخلاصهم وعهودهم في التوحيد ونبذ الشرك كما انه اراد لهم الإتحاد ودوام الوحـدة الإيمانية والإلتقـاء في العبـادة وهو طريق للإيمان بإخلاص.
والإخلاص في اللغة هو كل شيء صفا ولم يمتزج به غيره ادنى او ارقى منه، وفي الإصطلاح تخليص القلب عما يكدر صفاءه، وتنقيح العمل وتنقيته من الكدورات، وما يعلق به من الريـاء فلا يطلب في العمل شاهدً الا الله، لقد اراد يعقوب ان يعبد ابناؤه الله وحده، وتلك العبادة غاية في ذاتها الا انها لا تدرك الا باتباع الأنبياء.
ولقد جعل الله عز وجــل الصلاة عند المســلمين مناسبة يومية متكـررة للالتقاء في العبادة ونبذ الفرقة والخصومة ولو في الجملة فلا غرابة ان تكون عمود الدين ومن الضروريات، فبنو اسرائيل وصاهم يعقوب uمن عنده تعالى، والمسلمون أمرهم الله عز وجل وفي ذلك الفضل العظيم، وان كان الاسلام سوراً وعنواناً جامعاً يحق للجميع دخوله، وتعتبر هذه الآية حثاً لبني اسرائيل على دخوله والعمل بوصية نبي الله يعقوب عليه السلام.
من ضروب البديع (الإطراد) وهو ذكر أسماء آباء الممدوح مرتبة للزيادة في مدحة، وبيان أن الخصال الحميدة التي عنده إن هي سنخية متوارثة، والمتعارف في ترتيبه أن يكون الإبتداء بالأب ثم الجد، ثم الجد الأعلى، أما في ذكر الأنبياء فيأتي الترغيب إبتداء من إبراهيم عليه السلام، كما في يوسف عليه السلام[وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ]([465])، وفيه نكتة عقائدية تفوت موضوع مخالفة المألوف في الترغيب، وهي توكيد حقيقة تأريخية وهي أن التوحيد قديم في الأرض، وليس هو أمراً جديداً جاء به يوسف عليه السلام، وأنه راسخ وثابت ومتوارث لا تستطيع الطواغيت محوه وقطع سلسلة الذين يدينون به ويظهرون الإيمان بالله.
وفي الآية ضرب من بديع (الإحتراس) لأنها لم تقف عند ذكر(إله آبائك) لظن إرادة مطلق الآباء إلى آدم عليه السلام، وقد يكون من آباء يعقوب من لا يجب إتباعه كما في آزر على القول بأنه أبو إبراهيم، فجاءت الآية بذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وفيه مسائل:
الأولى: توكيد التوحيد وأن إله يعقوب هو نفسه إله آبائه.
الثانية: تعاهد آل إبراهيم للإيمان وعدم طرو أسباب الشرك عليهم.
الثالثة: جاءت هذه الآية مقدمة لوصف هؤلاء الأنبياء بأنهم أمة في الآية التالي[تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ] ([466]).
والإله هو الله، وليس من إله غيره قال تعالى[إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ] ([467])،(وقيل إنه مأْخوذ من أَلِهَ يَأْلَه إذا تحير لأَن العقول تَأْلَهُ في عظمته) ([468])، وقيل إله إلى كذا أي إلتجأ إليه، لأن الله سبحانه هو المفزع في كل أمر، ولكن المعنى أعم والمراد العبادة لذا ورد أن (التأله هو التنسك والتعبد)([469])، أما التحير واللجوء فهي من معاني الإلهية والربوبية وهذا اللفظ خاص بالله عز وجل فليس من إله غيره، ولكن المشركين إتخذوا آلهة ظلماً منهم لأنفسهم قال سبحانه[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]([470])، مما يدل على قيام الحجة على الناس جميعاً بلزوم الإقرار بالعبودية لله عز وجل والتسليم بأنه ليس من إله غيره.
وتجلى هذا التسليم في خاتمة الآية[وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]، مع أن الله عز وجل فضل بني إسرائيل بكثرة الأنبياء الذين بعثهم لهم، ومنهم موسى عليه السلام الذي هو رسول من الخمسة أولي العزم، وجاء بالآيات الباهرات، والحجج القاطعات، فأنهم عندما مرّوا على قوم يعبدون الأصنام[قَالُوا يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ]([471])، (قال ابن جريح: تماثيل بقر, وعن علي رضي الله عنه أنّ يهودياً قال له: اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجفّ ماؤه فقال: قلتم اجعل لنا إلها قبل أن تجفّ أقدامكم)([472])، أي أن المسلمين بقوا على ملة التوحيد وأحكام الشريعة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع ذم الذين إتخذوا العجل بعد أن أنعم الله عز وجل بعبور البحر بآية فلقه .
وتعاهد المسلمون ملة التوحيد من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]، ومن بركات نبوة موسى عليه السلام وحاجة بني إسرائيل إليها أنه وبخ الذين أرادوا عبادة الأصنام إذ نعتهم بالجهل، وذمّ الكفار الذين يعبدون الأصنام وأخبر عما ينتظرهم من العذاب، وفيه دعوة لهم للنفرة من عبادة الأوثان.
بحث كلامي
الإرادة صفة خاصة تنقدح في النفس تتعلق بالإختيار و بارادة فعل شيء او عدم إيجاده، وقد تكون علة تامة لتحققه في الخارج ولها معنيان:
الأول: الرغبة ومحبة الشيء.
الثاني: العزم والسعي بقصد إتيان الفعل.
ولوجودها في النفس اسباب ومقدمـات وينتج عنها وعن السعي طبقاً لها معلول وسبب في الخارج وقد يكون من اسبابها الميل والرغبة والتصديق بحسنه، اما في المقام فهناك المقدمات وهي الأقرار بالتوحيد، ولزوم جعل كلمة الإخلاص باقية في العقب وهي من مصاديق أداء الأمانة.
وتنقسم الإرادة الى ارادة تكوينية وارادة تشريعية، والأولى ارادة صدور الفعل عنه من غير واسطة او برزخ ومدخلية لإرادة الغير ويضرب لذلك مثلان:
الأول: إرادة الله تعالى في خلق العالم والسماوات والأرض.
والثاني: ارادتك الأكل والشرب.
أما التشريعية فهي إرادة صدور الفعل عن غيره بارادته واختياره كما في ارادة الله صدور العبادات من الناس باختيارهم وارادتهم وقصـدهم وليس بمجرد اتيان الأفعال بالجوارح والأركان ومنها ارادتك صدور الفعل من ابنك بلا اجبار منك ولا اكراه.
والأولى حصر هذين الإصطلاحين أي الإرادة التكوينية والتشريعية بالإرادة الإلهية وهو المختار والظاهر من كلام اكثر المتكلمين.
وتتعلق الأولى بالأفعال والموجودات الخارجية نظير العلم الذاتي، والتشريعية تتعلق بأفعال المكلفين من وجود الخير والصلاح والعبادات وانتســابها الى امر الله تعالى وما يفعل العباد انما هو بالتبــع بالإضــافة الى الفارق بين الوجــوب والإمكان، وبين الخالقيــة والمخــلوقية بل ان ذات التشـريع يعتبر فعلاً تكوينياً.
والارادة التشريعية فرع التكوينية فوصية يعقوب من النظام الإلهي العام الذي سماه الفلاسفة بالنظام الأحسن لتحقق كمالات وجودية ارفع وارقى، أي ان وصية يعقوب لم تكن من عنده على الإختيار المحض بل هي جزء من وظائف النبوة وتعكس لنا حالة وهي ان النبي يسعى لإبقاء ميراث النبـوة من بعده وفي اقـرب الناس له وهم ابناؤه، فلا غرابة أن تكون النبوة والإمامة عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم واهل بيته، وكانت دعوة يعقوب آلة تبليغ ووســيلة نبــوية مبــاركة لحفظ راية التوحيــد فوصيته حجة سماوية متقــدمة زماناً بالإضافة الى الحجة السماوية المقارنة وهي نزول القرآن وبعــثــة النبي صــلى الله عليه وآله وسلم.
وتظهر الآية عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، فيعقــوب اوصى بكلمة التوحيد بنيه، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فوصـى بها الأمة، وحفظ المسلمون الوصية بتفاصيلها واحكامها والتزموا بها.
فمنهم جمـاعة وامـة و قد انصـرفوا ومضوا مثابين على اعمالهم، اما انتم الذين أدركتم ايام نزول القرآن فالمدار على اعمالكم وما كسبتم، فالآية جاءت لإبطـال ما يدعـون من الثـواب بسـبب عمل آبائهـم، وتدل الآية وما فيها من الوصـية تـدل بالدلالة التضـمنية علـى لـزوم اتباع النـبي محمد صـلى الله عليه وآله وسـلم لأن رسالته الطريق الوحيد لإعلان التسليم بالتوحيد.
وهي مفخـرة للمسـلمين فانهـم لم يكتفوا بالإفتخار بما فعـل إسماعيل واختار من التوحيد والإيمان وعظيم منزلته، بل يفتخرون بالإسلام واتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعاهدهم لوصية إبراهيم إسماعيل ويعقوبعلهم السلام .
اذ ان ذكر وصية ابراهيم ويعقـوب عليهمـا السلام تـدل بالمثلية ووحدة الموضوع في تنقيح المناط على وصية اسماعيل لأولاسده بالتوحيد ومناصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين بعثته، ولكن ذكر وصية يعقوب جاء للإحتجاج على بني اسرائيل وتذكيرهم وانذارهم.
قوله تعالى [وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]
للتوكيد والقطع بان عبادتهم عن نية وعزيمة وقصد وايمان راسخ وتدل الآية بالدلالة التضمنية على العهد بالإمتثال والإستعداد للإنقياد لكل نبي مبعوث من الله تعالى وبضميمة الأخبار الواردة بتبشير الأنبياء السابقين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا القطع منهم ينفي امكان حصول الإلتباس والإشتباه فيما بعد، وكأنهم واثقون من معرفة طريق الإسلام والإنقياد لأوامر الله تعالى، ومن اهم تلك الأوامر اتباع الرسول الذي يأتي بالأحكام الشرعية.
ان ورود لغة الجمع في القطع والجزم بالثبات على العهد على نحو العموم المجموعي الإستغراقي يدل على التسالم على الهداية وانتفاء الشرك والضلالة بينهم، وهي حجة تنحـل بعددهم، فليس من عذر بعدئذ لأحد تدركه الوصية التخلف عن الإيمان بالرسالة.
وتبين الآية تعاهد صلة الرحم والترابط الأسري بالإيمان، ليجتمع عند المسلمين أمران:
الأول : الأخوة النسبية.
الثاني : الأخوة الإيمانية، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]([473])، لقد وصّى يعقوب أبناءه بالموت على الإسلام , وعدم مغادرة الدنيا إلا بالتوبة والصلاح، كما في خاتمة الآية السابقة[فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]([474]).
فجاءت خاتمة هذه الآية بإعلانهم أن الإسلام دينهم وعقيدتهم التي هم عليها وأنهم منقادون لأوامر الله طيلة أيام حياتهم.
وقد ورد لفظ(ونحن له مسلمون) مرتين، إذ جاء بعد ثلاث آيات([475])، وعلى لسان المسلمين، تلقيناً وفضلاً من الله عز وجل لهم، ويفيد الجمع بين الآيتين أن المسلمين ورثة الأنبياء ، وأن الله عز وجل إستجاب لإبراهيم في دعائه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذرية والمسلمين.
************
الفهرس
الصفحة | الموضوع | الصفحة | الموضوع |
3 | المقدمة | 53 | قوله تعالى [إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] |
5 | قوله تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ | 54 | بحث كلامي |
5 | الإعراب واللغة | 55 | بحث أصولي |
7 | في سياق الآيات | 58 | يحث أصولي آخر |
20 | بحث بلاغي إعجازي | 61 | قوله تعالى[ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] |
21 | إعجاز الآية | 61 | القراءة |
23 | الآية سلاح | 62 | الإعراب واللغة |
24 | مفهوم الآية | 63 | في سياق الآيات |
32 | تفسير قوله تعالى[ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ] | 77 | بحث بلاغي |
43 | آدم ومناسك الحج | 78 | إعجاز الآية |
46 | من تأريخ بناء البيت | 79 | الآية سلاح |
49 | بحث بلاغي | 81 | مفهوم الآية |
50 | قوله تعالى[رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا] | 84 | الآية لطف |
الفهرس
الصفحة | الموضوع | الصفحة | الموضوع |
85 | إفاضات الآية | 120 | الآية سلاح |
88 | الصلة بين أول وآخر الآية | 121 | الآية لطف |
93 | من غايات الآية | 122 | مفهوم الآية |
95 | تفسير قوله تعالى[ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ] | 129 | إفاضات الآية |
99 | تفسير قوله تعالى[ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ] | 132 | من غايات الآية |
104 | قوله تعالى[ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا] | 133 | الصلة بين أول وآخر الآية |
106 | تفسير قوله تعالى[ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] | 137 | تفسير قوله تعالى[ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ] |
110 | قوله تعالى[ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] | 144 | قوله تعالى[يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ |
110 | الإعراب واللغة | 147 | قوله تعالى[ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] |
111 | في سياق الآيات | 148 | تفسير قوله تعالى[ وَيُزَكِّيهِمْ] |
115 | بحث بلاغي | 149 | قوله تعالى[ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] |
116 | إعجاز الآية | 150 | بحث كلامي |
الفهرس
الصفحة | الموضوع | الصفحة | الموضوع |
151 | بحث إعجازي | 182 | بحث فقهي |
152 | بحث أصولي | 184 | قوله تعالى[إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ |
153 | بحث فلسفي | 184 | الإعراب |
155 | قوله تعالى[ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ] | 185 | اللغة |
155 | الإعراب واللغة | 185 | في سياق الآيات |
157 | في سياق الآيات | 187 | إعجاز الآية |
161 | أعجاز الآية | 187 | الآية سلاح |
162 | الآية سلاح | 188 | موضوع الآية |
163 | مفهوم الآية | 190 | مفهوم الآية |
164 | الآية لطف | 191 | بحث بلاغي |
167 | تفسير قوله تعالى[ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ ] | 194 | الآية لطف |
174 | تفسير قوله تعالى[وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا] | 195 | إفاضات الآية |
176 | تفسير قوله تعالى[وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ] | 196 | الصلة بين أول وآخر الآية |
180 | بحث أصولي | 197 | من غايات الآية |
الفهرس
الصفحة | الموضوع | الصفحة | الموضوع |
199 | قوله تعالى[إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ | 223 | الصلة بين أول وآخر الآية |
202 | قوله تعالى[ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ] | 227 | من غايات الآية |
204 | قوله تعالى[ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] | 229 | تفسير قوله تعالى[ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ] |
204 | الإعراب واللغة | 231 | تفسير قوله تعالى[وَيَعْقُوبُ] |
205 | في سياق الآيات | 233 | تفسير قوله تعالى[ يَابَنِيَّ] |
217 | إعجاز الآية | 236 | تفسير قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ] |
220 | الآية سلاح | 237 | تفسير قوله تعالى [فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] |
220 | الآية لطف | 239 | بحث فقهي |
221 | مفهوم الآية | 240 | في علم الرجال |
222 | إفاضات الآية | 242 | قوله تعالى[ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ] |
الفهرس
الصفحة | الموضوع | الصفحة | الموضوع |
242 | الإعراب | 268 | من غايات الآية |
243 | في سياق الآيات | 270 | تفسير قوله تعالى[ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ] |
254 | بحث بلاغي | 271 | تفسير قوله تعالى[ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ] |
254 | إعجاز الآية | 275 | بحث اصولي |
255 | الآية سلاح | 276 | بحث بلاغي |
257 | أسباب النزول | 278 | تفسير قوله تعالى[ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ] |
258 | بحث إعجازي | 279 | تفسيرقوله تعالى [مَا تَعْبُدُونَ |
259 | الآية لطف | 281 | تفسير قوله تعالى[مِنْ بَعْدِي |
260 | مفهوم الآية | 282 | تفسير قوله تعالى[آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ] |
262 | إفاضات الآية | 283 | تفسير قوله تعالى[ إِلَهًا وَاحِدًا] |
263 | الصلة بين أول وآخر الآية | 289 | بحث كلامي |
267 | التفسير الذاتي | 292 | تفسير قوله تعالى[ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ] |
([26])تفسير ابن أبي حاتم 9/398.
([27])أنظر الكشف والبيان 1/229.
([48])دلائل النبوة للبيهقي 2/412.
([61])السنن الكبرى للبيهقي 5/176.
([77])جبل الخَمَر: بفتح الخاء والميم، المراد جبل بيت المقدس، سمي به لكثرة كرومه والخمر الشجر الملتف الذي يستر من فيه.
([82]) أنظر الجزء الثالث والأربعين بعد المائة من هذا السفر ص 162 .
([84]) وهب بن منبه الصنعاني (20 –110) هجرية وقيل توفي سنة 114 وهو من التابعين، روى أخباراً كثيرة عن الكتب القديمة ومن الاسرائيليات، أصله من أبناء فارس الذين بعث بهم كسرى إلى اليمن. مولده ووفاته بصنعاء. روى عن ابن عباس وابن عمر.
([102]) أنظر مفاتيح الغيب2/347.
([105])بحر العلوم السمرقندي1/112 .
([106])تفسير ابن ابي حاتم1/240 .
([107])تفسير ابن ابي حاتم1/241 .
([164]) الكلي الطبيعي : هو نفس الماهية والمأخوذة لا بشرط شئ موجود في الخارج.
([179])تفسير البحر المحيط 2/12.
([191])البيهقي/ الأسماء والصفات 1/67.
([222]) أمنت على الدعاء تأميناً: قلت عنده امين ومنه فلان يؤمن على دعاء فلان، وآمين: اسم فعل مبني على الفتح , وفيه اربع لغات اكثرها استعمالاً بالمد بعد الهمزة من غير امالة، ومما ذكر له من المعاني انه يعني: اللهم استجب، وآمين ليست من القرآن , ولم تكتب في أي مصحف.
([243])أنظر الجزء العشرين 202.
([250])أنظر(قانون رسائل النبي) في تفسير الآية 132 سورة آل عمران.
([256]) الفلسفة: هي في الأصل كلمة يونانية معناها محب الحكمة وفيلا أي محب، وسوف تعني الحكمة، وهي علم يبحث عن احوال اعيان الموجودات على ما هي عليه في ذات الأمر بقدر الطاقة البشرية.
([278])مسند أبي يعلي الموصلي 15/115.
([284])تفسير اللباب لابن عادل 8/32.
([293])أنظر الفيض القدير 2/68.
([297]) تفسير ابن كثير 4/326 .
([314]) انظر مفاتيح الغيب 4/72.
([338]) ابو جعفر النحاس المتوفى 338هجرية، له اعراب القرآن وتفسير ابيات سيبويه والناسخ والمنسوخ وغيرها مولده ووفاته في مصر.
([394]) الوسائل باب1،6 من ابواب الوصايا.
([435]) أنظر البقرة 136، البقرة 140، آل عمران84، النساء 163.
([437]) أنظر البقرة 136، آل عمران 84، العنكبوت 46.
([475])أنظر الآية 136 سورة البقرة.