المقدمة
ورد (عن أبي أمامة الباهلي أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند انقضاء الطعام يقول اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ما يقول إذا رفعت مائدته)( ).
الحمد لله عز وجل الذي منّ علينا بمائدة السماء المتصلة القرآن فهو غذاء القلوب ودوام الروح , وسر تجدد الحياة الإنسانية , وإطلالة الشمس على الأرض كل يوم ، مائدة لا تنقضي عجائبها ، ولا تفنى مسائلها ، ولا يمل الناظر إليه والتالي لآياته والناهل منه ، إن لم يأتيها تأتيه وتنفذ إلى شغاف قلبه برفق ولطف, وفي التنزيل[إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ]( ).
لقد قال الحواريون لعيسى عليه السلام [هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ] ( )وبادر عليه السلام إلى تحذيرهم من سؤال الآيات ، وقال كما روى سلمان المحمدي (وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية ، فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها ، فأبوا إلا أن يأتيهم بها ، فلذلك { قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين}) ( ).
ولقد تفضل الله عز وجل على المسلمين بنزول القرآن من خزائن العرش إبتداء وفضلاً منه ليكون مائدة متجددة بما فيه من البيان والأحكام وأسباب النجاة في النشأتين ، قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وهو الواقية للقلوب والمشافي للدرن بفضل الله ، وقد جعل الله المسلمين في حرز من الجحود بهذه النعمة العظيمة والمائدة العقلية والحسية اليومية بأن فرض على كل واحد منهم قراءته خمس مرات في اليوم ، وتفضل وجعل هذه القراءة على شعبتين :
الأولى : القراءة الثابتة في كل ركعة وهي قراءة سورة الفاتحة .
الثانية : القراءة المختارة وهي قراءة آيات وسورة أخرى من عموم سور القرآن المائة والأربع عشرة .
الحمد لله الذي جعل المسلمين سعداء , وفي غبطة دائمة بما عندهم من القرآن وصحبته لهم ، وحضوره عند القول والعمل ، قال رسول الله (من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً) ( ).
الحمد لله الذي جعل الإنسان خليفة له في الحياة الدنيا، ومن خصائص الخليفة الصلة مع الذي إستخلفه وقد أنعم الله عز وجل على الخليفة وعلى الناس جميعاً بالقرآن صلة بينه وبينهم، وهو أنيس النفوس، وإمام الجوارح، يأمرها بالفعل الحسن، وينهاها عن الفعل القبيح، وهو ربيع القلوب الذي ينقل لها البشارة من عند الله فتسكن إلى آياته وتطمئن إلى إخباره.
ومن الإعجاز الغيري للقرآن أنه باعث للعمل الصالح في الدنيا وليس من مثل للقرآن في ذاته وموضوعه واللامتناهي من أعداء المسلمين في أجيالهم، وأيام الحياة الدنيا المتعاقبة وفي إبراهيم عليه السلام ورد قوله تعالى[فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ]( )، إذ هرب به أبوه من طاغوت زمانه وهو نمروذ، الذي ملك الأرض شرقها وغربها .
فرأى نمروذ كوكباً طلع على أهل الأرض فذهب بضياء الشمس في النهار، ونور القمر في الليل فخاف خوفاً شديداً ودعا السحرة، والكهنة فقالوا له: يخرج من بلادك رجل يكون فيه زوال ملكك، وكان محل ملكه في بابل في أرض العراق ولا زالت وآثارها تحمل ذات الإسم، وقد ورد ذكرها في القرآن، وسميت بابل لكثرة وتبلبل الألسنة وتعدد اللغات فيها، فخرج نمروذ من بلدته ونقل الرجال معه وترك النساء، ليفصل بينها خشية الوطئ والإنجاب .
وأمر بكل مولود يولد بأن يذبح، وصارت له حاجة في المدينة , فبعث أبي إبراهيم وقال له(أنظر لا تواقع أهلك)( )، وشاء الله أن يقع عليها، ليقضي الله أمراً فيه خير ونفع الناس إلى يوم القيامة , فكان إبراهيم، ففر بزوجته الحامل , وجعلها في سرب بين الكوفة والبصرة وأخذ يتعاهدها بالطعام، ولما طال الأمر على نمروذ قال :
قول سحرة كذابين إرجعوا إلى بلدكم , وفي التنزيل[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
ولما ولد إبراهيم جعل الله عز وجل رزقه في أطرافه، فجعل يعتاش على مصّ أصابعه ولما خرج من السرب ورأى الكواكب ومنها كوكب الزهرة، ورأى الشمس يتعاقبان ويؤثران في الكون من جهة الضياء والظلمة , أظهر الإفتتان بها .
وتفضل الله عز وجل بالقرآن ليقطع الشك باليقين، ولتثبيت دعائم صرح التوحيد إلى يوم القيامة، ويجّن الليل على الناس وأصوات المسلمين تصدح بالقرآن , ويطلع عليهم الفجر فيتلون القرآن ويرتلون آياته لتأتي معه البركات والرزق وليبين لهم منهاج العمل والمعاملات وكيفية العقود وشرائط البيع والشراء ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ليكونوا جنوداً وأعواناً له ومرآة لما فيه من مضامين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الحمد لله الذي أصلح الأرض بالقرآن ، ومنع به طغيان القتل وأزاح مفاهيم الكفر عن مقامات الإستحواذ على الأوهام ،وعالم الأقوال ،فلقد كان كسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأصنام يوم فتح مكة إعلاناً نبوياً بانتهاء عبادتها وإلى يوم القيامة .
الحمد لله الذي جعل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم برزخاً دون صيرورة طواغيت في الأرض يدعون إلى أنفسهم فلقد سادت سنن العبودية لله عز وجل في الأرض وأدرك الناس جميعاً أنهم متساوون في العبودية لله جميعاً وأن عالماً آخر ينتظر الناس عقب مغادرتهم الحتمية للدنيا .
الحمد لله الذي جعل كل آية قرآنية تتضمن حكماً في العبادات والمعاملات .
الحمد لله الذي أكرم المسلمين بالقرآن ، وجعل كلامه مصاحباً وملازماً لهم إلى يوم القيامة ، وليس من حصر لخصائص قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) فيما يتعلق بالقرآن وتلاوته وتفسيره والإنتفاع الأمثل منه في النشأتين ، ولم تنل أمة من الأمم معشار ما ناله المسلمون من القرآن ، وهو الواقية من الفتن ومقدمات الضرر الخاص والعام .
(عن الحارث الأعور قال : دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث ، فأتيت عليّاً فأخبرته ، فقال : أوقد فعلوها؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنها ستكون فتنة ، قلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟
قال : كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا تلتبس منه الألسن ، ولا يخلق من الرد ، ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : { إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد }( ) ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم) ( ).
ومعنى وقعوا في الأحاديث أي إختلفوا فيها نصاً ومعنى ودلالة والمراد من المسجد في الحديث هو مسجد الكوفة، وقوله عليه السلام (أوقد فعلوها) أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن مثل هذه الوقائع، وهي نوع فتنة وخصومة وأنه لم يغادر الدنيا إلا وقد بيّن الحل والتدارك والواقعية من إستمرار الفتنة والخلاف , والقرآن هو الذي يغلق باب الفتنة ويئدها في مهدها ثم بيّن صلى الله عليه وآله وسلم أن القرآن فيه (نبأ من قبلكم).
وهل في آية البحث من هذا النبأ , الجواب نعم من جهات :
الأولى : نداء الذين آمنوا ، فمن الأمم السابقة من كانوا مؤمنين بالله والأنبياء , وعن عبد الله بن مسعود (مَا مِنْ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِى أُمَّةٍ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ) ( ).
الثانية : التداين سنة بين أهل الأرض .
الثالثة : يذكر التداين بين المسلمين على الضلالة التي عليها أهل المعاملات الربوية من الأمم السابقة، ليكون ذكر الأمم السابقة في آية البحث من وجهين :
الأول : المؤمنون.
الثاني : الذين يطلبون المال السحت بالربا .
الرابعة : التباين بين المسلمين والأمم السابقة بنزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوة المسلمين له .
الخامسة : أمر الله عز وجل بالقرآن لعموم المسلمين , بالتقوى والخشية منه تعالى سواء في الشهادة على الدَين أو كتابته أو مطلقاً .
وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صفات القرآن أن فيه (وحكم ما بينكم) فآية البحث دعوة للعقود والمعاملات وصيغ الإيمان بين المسلمين وفيها حكم وقضاء بين المسلمين فلا يختلف القضاو بينهم في المسألة الواحدة، ولا يضطرون للإجتهاد المتعدد والمتباين ، فليس عليهم إلا أن يصدروا عن القرآن .
وفي آية البحث غنى عن الرجوع إلى القضاء لأنها تدعو المسلمين إلى قوانين الديون بينهم ، لذا ورد فيها قوله تعالى [إِذَا تَدَايَنتُمْ] فلا يلزم التداين اللجوء إلى القضاء لأن اللجوء إليه عند الإختلاف والخصومة , ولتتجلى من إعجاز القرآن الغيري مسائل :
الأولى : جمع القرآن بين البعث على فعل الحسنات وعمل الصالحات والمنع من ترشح الخصومة والفتنة بسببها.
الثانية : من معاني الأخوة بين المسلمين حلّ خلافاتهم فيما بينهم، وعدم وصولها إلى القضاة، وكذا بالنسبة للأسرة المسلمة، فقد جعل الله عز وجل قيمومة للرجل تتقوم بالعمل وفق أحكام الشريعة، فإذا خاف من إمرأته نشوزاً إبتدء بالتنبيه ثم الإنذار المركب لها وله نفسه بأن يعرض عنها في الفراش، ليرى ما فيه من المشقة، قال تعالى[فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
ويتصف الضرب بأنه خفيف وغير مبرح أو مؤثر ولا يترك أثراً، وفي الخبر أنه بالسواك و(عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)( ).
الثالثة : هداية القرآن للمسلمين لإستدامة فعلهم الصالحات، وعدم بعث التردد والملل فيه فإن كتابة الدين والشهادة عليه وسيلة لتكراره وتعدده، لذا ورد قوله تعالى في آية البحث[وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ].
الرابعة : صيرورة الآية القرآنية ومضامينها مناسبة لإرتقاء المسلمين في المعارف وتعاونهم في الصالحات بتفقه في أمور الدين والدنيا، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وورد قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أعلاه : هو الفصل ليس بالهزل ) فآية البحث فيصل وتفصيل ، إذ تأتي على أكل الربا فتمنع منه بين المسلمين وتجعلهم يبادرون إلى التداين ونيل الثواب والأجر ،
وتحث آية البحث المسلمين على تقوى الله لبيان أن كتابة الدَين والشهادة عليه من مصاديق تعظيم شعائر الله والخشية منه .
وتتضمن الآية إكرام المرأة بقبول شهادتها ، ومن الفصل ليس بالهزل الإتقان في كتابة الدين والشهادة عليه , وعدم الإضرار بالكاتب أو الشاهد، ولم يترك مسألة إلا وذكرها منها تذكير إحدى الشاهدتين الأخرى إن نسيت بعض تفاصيل الشهادة .
ومن الإعجاز أن الآية ذكرت نسيان إحدى الشاهدتين على نحو الجملة الشرطية بدليل قوله تعالى [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا] فقد تحفظ كل منهما شهادتها وتفاصيلها ولا تصل النوبة إلى تذكير أي منهما الأخرى ، وهل يحتمل أن تقوم المرأتان بتذكير الرجل الشاهد معها ، الجواب نعم ، إذ تنفي الآية الحرج بخصوص التذكير بتفاصيل الشهادة .
ولابد من أسرار لصيرورة آية البحث أطول آية في القرآن ،في كلماتها وحروفها .
وقد ترد الآية بحرفين كما في[حم] ( ) من الحواميم السبعة وهي سورة غافر ، فصلت، الشورى ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، الأحقاف )، وكذا [يس] ( ) والتي تسمى السورة باسمها ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب) ( ).
وسورة الكوثر سورة كاملة تتألف من ثلاث آيات ومجموع كلماتها عشر كلمات ، بينما آية الدَين تتكون من مائة وثمانية وعشرين كلمة بلحاظ إحتساب حرف الجر ، والحرف المشبه بالفعل كلمة لتكون مدرسة في العلوم وكنزاً ينهل منه المسلمون العلوم ويصدرون عنها في أمور منها :
الأول : الحاجة للإقتراض وإستدانة المال .
الثاني : القيام باقراض وإعانة المسلمين .
الثالث : إجراء عقود البيع .
الرابع : توثيق العقود والديون عند وجود سفاهة أو ضعف عند أحد طرفي العقد والمعاملة .
الخامس : بيان حب الله عز وجل للمسلمين بأن تأتي أطول آية في القرآن في مسألة التداين بينهم , وإستئصال الربا من معاملاتهم وحياتهم اليومية ، ويتلون آيات القرآن التي تتضمن تحريمه وسوء عاقبته كما في قوله تعالى [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ] ( ).
ليشكر المسلمون الله عز وجل على أمور :
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ونزول القرآن من عند الله عز وجل .
الثاني : مجئ القرآن بحرمة الربا .
الثالث : ورود النصوص من السنة النبوية بتأكيد حرمة الربا .
الرابع : نزول آية البحث باستحباب التداين بين المسلمين وبيان قواعده وشروطه بما يمنع من العودة إلى الربا ، فمن الإعجاز في أحكام القرآن الإحكام والإتقان في القول والعمل بما يحول دون اللجوء إلى الحرام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] ( ).
فمن كمال الدين نزول الأمر من عند الله بفعل مخصوص مع أسباب الترغيب فيه والإعانة لأدائه ، ومحو الموانع التي تكون برزخاً دون قصور وتقصير المسلمين فيه .
وتتضمن آية البحث الترغيب بالتداين بين المسلمين ، وتبعث النفرة في النفس من صدّ المحتاج وطالب الدَين والقرض , وتبين العقود والمشاريع الكبيرة بين الدول والمؤسسات في هذا الزمان الحاجة إلى التداين ، وكيف أنه سبيل لتنشيط التجارات ودوام عمل المصانع ، حتى صارت الدول الغنية تسعى حثيثاً للإستثمار , وتعرض القروض على الدول شبه الفقيرة مع إحتمال المشقة في قضاء الدَين ، ولكنها تحملها أرباحاً متزايدة .
وتمنع آية البحث الدول والمؤسسات الإسلامية من فرض الأرباح الربوية على القروض وإضافة هذه الأرباح عند التخلف عن القضاء , لتشمل آية البحث وجوهاً :
الأول : التداين بين الأفراد رجالاً ونساءً .
الثاني : إقتراض الأفراد من المصارف .
الثالث : قيام المؤسسات باقراض الأفراد والجماعات وبيعهم بالنسيئة ، وهو على قسمين :
أولاً : المؤسسات والدوائر الحكومية .
ثانياً : المؤسسات الأهلية .
الرابع : الإقراض والدَين من الدولة إلى المؤسسات .
الخامس : إقراض المؤسسات المالية والدولية للدول والشركات .
السادس : بيع المؤسسات الصناعية الكبرى الدول والشركات بالنسيئة خاصة مع وفرة الإنتاج في الزراعات والصناعات , ويدخل هذا البيع في علوم آية البحث إلا أنه ليس من الربا إلا عندما تضاف له مبالغ بسبب تأخير الوفاء بعد حلول أجل الدَين .
السابع : قيام الدول والشركات ببيع المواد الخام مثل النفط والذهب .
الثامن : البيع وإنشاء المشاريع وتبليط الشوارع والبنى التحتية بالنسيئة والقرض .
التاسع : تقديم دولة قرضاً مالياً لدولة أخرى لتشمل آية البحث معاملات التداين هذه وتحذر من الربا ، نعم المصارف والمؤسسات وحتى الدول حينما تقرض فمعاملاتها ليست ربوية محضة , فلم يتم العقد بين شخصين بحيث يأخذ المربي المال الزائد من غير جهد أو عمل ، إذ تدفع هذه المصارف والمؤسسات أجوراً ورواتب شهرية عالية لموظفيها وتستأجر البنايات وتقتني الأثاث والآلات لتنظيم وتوثيق أموالها وديونها , كما وردت الإشارة في آية البحث إلى كتابة الديون مع أنها على نحو القضية الشخصية , لتكون كتابتها في الثضية النوعية والمعاملاتية من باب الاولوية القطعية , فلا بأس بأخذها ما يعادل هذه الأجور والتكاليف , وتسليف الحكومات والجهات الخيرية لها , لتكون هناك مصارف وبنوك مرآة لآية البحث , وغير ربحية ولا ربوية.
لقد بينت آية البحث حقيقة من جهات :
الأولى : موضوعية كتابة الدَين والقرض بقوله تعالى [فَاكْتُبُوهُ].
الثانية : إرادة تعاون المسلمين جميعاً بكتابة الدَين ليكون من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالثة : صحيح أن الفاء في [فَاكْتُبُوهُ] هي الرابطة لجواب الشرط إلا أنها تفيد التعقيب والمباشرة وعد التأخير في الكتابة ، كما يقال جاء زيد فعمرو أي ليس ثمة فترة بين مجيئها .
لذا لم تقل الآية ( إذا تداينتم بدين أكتبوه) لدلالة هذا اللفظ على المندوحة والسعة الزمانية في كتابة الدَين , وإمكان تأجيلها فتفضل الله عز وجل بالفاء لبيان المبادرة والمباشرة بين التداين وكتابة مقدار الدَين وأجله وذكر أطرافه من غير مهلة .
فقد تسبب هذه المهلة النسيان والتسويف ، وقد يطرأ حادث الموت على أحد الطرفين فيكون فيه إحتمال لضياع الحقوق , وإنشغال لذمة الميت إن كان هو المدَين .
(عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه : إنّ رجلاً أتى به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليصلّي عليه، فقال : صلّوا على صاحبكم فإنّ عليه ديناً , قال أبو قتادة : فأنا أكفل به قال : بالوفاء قال بالوفاء فصلّى عليه وكان عليه ثمانية عشر درهماً أو سبعة عشر درهما) ( ).
الرابعة : وجوب تعلم المسلمين الكتابة ويقسم الوجوب في علم الأصول إلى قسمين :
الأول : الوجوب العيني الذي يجب على كل فرد مثل وجوب الصلاة اليومية على كل مكلف ومكلفة .
الثاني : الوجوب الكفائي الذي يجزي فيه أداء فرد واحد من الجماعة كما في رد السلام ، فاذا سلم شخص على جماعة , وقام أحدهم بالرد كفى عن الباقين ، وإن لم يرد أحدهم يؤثمون لأن رد السلام واجب ، وهل يدل قوله تعالى [فَاكْتُبُوهُ]على الواجب العيني أو الكفائي في تعلم الكتابة أم لا يدل على أحدهما لجواز الإستعانة بغير المسلم ز
الجواب المختار أن هذا الوجوب برزخ بين الوجوب العيني والكفائي، وهو قسيم لهما أسسناه في هذا التفسير ، إذ تندب الآية المسلمين للكتابة وتبين أنها حاجة عامة في العبادات والمعاملات .
الخامسة : تقييد كتابة الكاتب بأنها بالعدل , فاذا لم تكن بالعدل تكون وبالاً على طرفي الدَين , أما فتنة في الدنيا أو عذاباً في الآخرة .وهناك مسألتان :
الأولى : لو كان طرفا الدَين يحسنان القراءة والكتابة ، فهل يلزم قيد (بالعدل) الوارد في الآية ، أم يمكن الإستغناء عنه لأنهما يطلعان على الكتابة.
الثانية : هل يدل قوله تعالى [فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ] على تعدد الكتابة كما لو قام الدائن بتدوين الدين في سجل خاص عنده ، وكذا بالنسبة للمدين .
أما بالنسبة للمسألة الأولى فلابد من العدالة كشرط في الذي يكتب العقد حتى في حال كون الطرفين يحسنان القراءة والكتابة لبيان أنها أمانة وعهد شرعي .
وهل يصح حينئذ تولي أحد الطرفين كتابة تفاصيل القرض , الجواب نعم ، ولابد من العدالة الذاتية عنده وغطلاع الطرف الآخر عليه ، وإذا كان المدين هو الذي يكتب فيصدق عليه أنه يملي على نفسه ، أما إذا كان الدائن هو الذي يكتب , فيملي عليه المدين .
والملاك هو تحقق توثيق الدَين بالكتابة المقيدة بالعدالة , والتنزه عن التحريف , والمنع من نسيان الين أو أجله .
ومن يتولى كتابة الدَين بالعدل ويحرص على بيان تفاصيله كما إتفق عليه الطرفان فانه يشتاق لكتابة آيات القرآن ، ويحرص على سلامتها من التحريف والتغيير والتبديل .
لقد تكررت مادة كتب ثلاث مرات في أربع كلمات من الآية بقوله تعالى [فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ]لبيان موضوعية الكتابة في حياة المسلمين، وفي توثيق الديون والقروض .
وفيه مسائل :
الأولى : تعلم المسلمين الكتابة وسيلة لتدوين وحفظ آيات القرآن، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، بلحاظ إعجاز ذاتي للقرآن، وهو أن نزول القرآن ذاته سبب لحفظه بأن يبعث القرآن المسلمين لتعلم الكتابة، وبيان الحاجة لها في أمور الدنيا المستقرة والعرضية الطارئة، ومن العرضية الديون والتداين بين المسلمين والناس جميعاً.
ومن إعجاز القرآن أن المسلمين يتداينون ومن غير ربا وأرباح ربوية زائدة على الأصل، وفيه ترغيب للناس عموماً والفقراء والمساكين بالإسلام، وكذا شأن الأنبياء فإن أكثر أتباعهم وأصحابهم من الفقراء.
وعن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدا النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً مع بلال، وصهيب، وعمار، وخباب، في أناس ضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به .
فقالوا: انا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلنا، فإن وفود العرب ستأتيك فنستحي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت. قال: نعم. قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً، فدعا بالصحيفة ودعا علياً ليكتب ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بهذه الآية{ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} إلى قوله{ فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ }( ).
فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده، ثم دعا فأتيناه وهو يقول{سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة} فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ …}( ).
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها، تركناه حتى يقوم)( ).
الثانية : بعث المسلمين على تعليم أولادهم القراءة والكتابة، وإتخاذها وسيلة لتنظيم شؤون المعاملات بينهم، وضبط العقود، ومنع الكدورة والغضاضة بينهم.
الثالثة : إرادة إزالة الموانع التي تحول دون أداء المسلمين الفرائض والعبادات في أوقاتها، فإذا أذّن المؤذن للصلاة اليومية لم ينشغل المسلمون بالخلاف بخصوص الديون والبيع والشراء وآثارها، فكل شيء فيه مكتوب وموثق إلا التجارة الحاضرة التي يديرونها يداً بيد، ليكون تعلم الكتابة، وتدوين الديون والقروض من مصاديق ومقدمات قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ]( ).
ويكون من ترك البيع في الآية أعلاه نبذ الجدال فيه والمماكسة والتذكير بمقدار الدين وأوانه فقد تم توثيقه في أوان العقد وساعة القبض والإستلام فلا تصل النوبة إلى الجدال في عند النداء إلى الصلاة.
الرابعة : تعلم الكتابة مقدمة لإنتشار وإرتقاء العلوم بين أهل الأرض ولزوم بلوغها من قبل المسلمين ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
فحيثما ترتقي الأمم في ميادين العلوم يجدون المسلمين قد سبقوهم لها ، ونهلوا منها ، ونفعوا الإنسانية جمعاء بها , أو تكون عنهم الأهلية لإقتباس العلوم , وتسخيرها لنفعهم , والنفع العام .
(وعن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أعوذ بالله من الكفر والدَين فقال رجل : يارسول الله يعدل الدين بالكفر؟ قال: نعم) ( ).
ولا يتعارض هذا الحديث مع إستحباب الدَين والقرض بين المسلمين إنما جاء الحديث لبيان شدة وطأة الدَين على النفس وما يجلبه من الهم ، وفيه دعوة للمسلمين للإجتهاد بقضاء الدين .
ومن أسرار إبتداء آية البحث بنداء الإيمان(يا أيها الذين آمنوا) التعاون والتآزر بين المسلمين في نشر وتوارث التعليم ليكون مقدمة لتلاوتهم آيات القرآن في المصحف، والإستعانة بالقرآن والكتابة لحفظ القرآن والتدبر في آياته، ومعرفة علوم الحديث.
ومن أسراره دعوة المسلمين للتعاون في قضاء الدَين عن المعسر، وقد تفضل الله عز وجل وجعل جزءً من الزكاة وصار الغارمون الذين إستدانوا في غير فساد، أو معصية وتعذر عليهم القضاء صنفاً من الأصناف الثمانية الذي تحلى عليهم الصدقة والزكاة، قال تعالى[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ].
وقد لا يوفق الإنسان لقضاء دينه في أجله أو في الأجل المستحدث التالي فيتأذى منه ، وقد يتأذى الدائن أيضاً لما في التأخير والزيادة على الأجل من تعطيل لأعماله .
وفي إستعاذة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدَين مسائل :
الأولى : الدعاء وسؤال الله عز وجل السلامة من الدَين ، وعدم الحاجة إليه واللجوء إلى القرض .
الثانية : إرادة حياة المسلم بالكفاف , وإجتناب الإسراف والتبذير ، قال تعالى [وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ].
الثالثة : قيام الذي في مأمن من الإقتراض بالشكر لله عز وجل على هذه النعمة ، والمواظبة على سؤال إستدامتها , وكذا الذي يوفق لقضاء الدين .
وللتوثيق التأريخي أخط وأكتب بيد الشكر لله أني أقوم بمفردي بكتابة التفسير ومراجعته وتصحيحه , وكذا كتبي الفقهية والأصولية وكلمات هذا الإهداء، وأواصل بحثي الخارج في الفقه والأصول اليومي[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].
ومع ما رزقني الله من فضله فإني أطبع هذا الجزء الخاص بآية الدَين بالإقتراض لتوالي طباعة أجزاء التفسير وتوزع نسخه هدايا والحمد لله .
وتزيد آية الدَين في عدد كلماتها على أكثر من ثلاث سور قصيرة من سور القرآن في سر من أسرار القرآن ، وتلقاها المسلمون بالقبول ، ولم يجعل الله عز وجل الله عز وجل أطول آية في القرآن بخصوص الصلاة التي هي عمود الدين ولا الجامع بين فردين من العبادات أو من العبادات والمعاملات بل خصت الآية أمراً قد يحصل في حياة المسلم وهو التداين والإقراض .
(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيها الناس إنه ليس من شيء يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا قد أمرتكم به ، وإنه ليس شيء يقربكم من النار ويبعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه ، وأن الروح الأمين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله واجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله ، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته) ( ).
وتتجلى في آية البحث معاني القرب من الجنة وشم رائحتها بالإقراض وإعانة المسلمين وبين الإعانة والتعاون والقرض عموم وخصوص مطلق ، فالإيمان أعم ، فكل قرض إعانة وليس العكس ، ومن التعاون الإقراض وكتابته والشهادة عليه .
وهل تلاوة آية البحث من التعاون والإعانة الجواب نعم ، لما فيها من البعث على الإقراض ووفاء الدَين وعمل الصالحات ومما يقرب إلى النار أكل الربا وأكل مال الغير ، فتفضل الله عز وجل فجاءت آية البحث ليتحلى المسلمون بالتقوى ويلحوا في الدعاء ، وفي التنزيل [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
حرر في 30/4/2016
قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( )
تقدير آية الدَين
يكون تقدير الآية على وجوه :
الوجه الأول : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم ) لبيان أن الدَين عقد ونوع مفاعلة بين طرفين ويحتمل لفظ تداينتم وجوهاً :
أولاً : إرادة التداين بين المسلمين أنفسهم .
ثانياً : المقصود التداين بين المسلمين والمسلمات ويصح الدَين والقرض بين الأب وإبنه , والزوج والزوجة ، وبين السيد والعبد المكاتب .
ثالثاً : الدَين بين المسلم وغير المسلم ، بأن يقرض المسلم غيره كاليهودي .
رابعاً : إقراض غير المسلم للمسلم.
خامساً : القرض بين أهل الملل الأخرى فيما بينهم .
وظاهر الآية الكريمة هو أولاً وثانياً أعلاه ، وتكون الوجوه الأخرى في طوله ، إذ أن أحكام الآية عامة للناس وهي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ) وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بلحاظ أن أحكام آية البحث رحمة بالناس , ومانع من الغرر والضرر , وفيه مسائل :
الأولى :انتظام حياة المسلمين وقضاء الحوائج فيما بينهم من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثانية : ترغيب الناس بالإسلام بخصوص القرض وكتابته وتوثيقه .
الثالثة : إقتداء الناس بالمسلمين في كتابة الديون وآجالها .
الرابعة : إقامة الحجة على الناس بصدق نزول آية البحث من السماء .
الخامسة : دعوى المسلمين للتدبر في منافع آية البحث ، وكتابة مقدار وأجل الدَين .
السادسة : مجئ الناس من الملل الأخرى إلى الحكام والقضاة المسلمين لفض النزاعات بخصوص القرض والدَين .
السابعة : محاربة الربا بين الناس عامة .
الوجه الثاني : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ) لقد قيدت الآية الدَين الذي يكتب ويدوّن بأنه إلى أجل مسمى فهل هناك دَين ليس له أجل وأنه لا يكتب ، الجواب نعم كالتجارة الحاضرة ، وما ليس لقضائه أجل يكتب أيضاً, وتحتمل الآية :
أولاً : إرادة الفرد الغالب في الديون وهو تعيين أجلها .
ثانياً : تحديد أوان قضاء الدَين أمر ثابت في الديون وإن لم يعين فمدته شهران .
ثالثاً : وورد شرط تعيين الأجل بصيغة الجملة الخبرية وتقدير الآية : إذا تداينتم بدَين فاجعلوه إلى أجل مسمى ) .
الرابع : إرادة التخفيف عن المسلمين , وفيه مسائل :
الأولى : جعل بعض الناس أوان القضاء عند اليسر والسعة .
الثانية : ترك أوان القضاء للمدين .
الثالثة : كتابة الدَين وترك تعيين الأجل لزمان لاحق بحسب الحال والشأن.
الرابعة : بيان التباين بين وجوب الكتابة واستحباب تعيين الأجل ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وقد يقال بالإختلاف والتعارض بين الوجه ثالثاً والمسألة الرابعة من الوجه رابعاً أعلاه وليس من تعارض بينهما .
لقد تفضل الله عز وجل بنداء الإيمان ليكون تقدير الآية : إذا تداينتم كمؤمنين) فيأتي الدَين في طاعة الله ورجاء مرضاته , وفيه شاهد على الرأفة والرحمة بين المسلمين ، وهي من رشحات نداء الإيمان .
وأخرج أبو نعيم عن كعب قال (إن أبي كان من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى ، وكان لم يدخر عني شيئاً مما كان يعلم ، فلما حضره الموت دعاني فقال لي : يا بني ، إنك قد علمت أني لم أدخر عنك شيئاً مما كنت أعلمه ، إلا أني قد حبست عنك ورقتين فيهما : نبي يبعث قد أظل زمانه فكرهت أن أخبرك بذلك ، فلا آمن عليك أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتطيعه ، وقد جعلتهما في هذه الكوة التي ترى وطينت عليهما ، فلا تعرضن لهما ولا تنظرن فيهما حينك هذا، فإن الله إن يرد بك خيراً ويخرج ذلك النبي تتبعه ، ثم أنه مات فدفناه فلم يكن شيء أحب إليّ من أن أنظر في الورقتين ، ففتحت الكوة ثم استخرجت الورقتين؟ فإذا فيهما : محمد رسول الله خاتم النبيين لا نبي بعده ، مولده بمكة ومهاجره بطيبة ، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق .
ويجزي بالسيئة الحسنة ويعفو ويصفح، وأمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل حال ، تذلل ألسنتهم بالتكبير وينصر نبيهم على كل من ناوأه ، يغسلون فروجهم ويأتزرون على أوساطهم ، أناجيلهم في صدروهم وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم ، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم)( ).
الوجه الثالث : تقدير آية البحث [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ]( )، أي سواء كان الدَين إلى أجل معلوم أم لم يحدد أوان قضائه فلابد من كتابته، بلحاظ أن تعيين الأجل شرط غالبي وعنوان إرتكازي , ومن الإعجاز في الآية أن الضمير الهاء في فاكتبوه يعود لأمور :
أولاً : الدَين والقرض، وأن الدائن هو فلان والمدين فلان.
ثانياً : مقدار الدَين والقرض .
ثالثاً : أجل وأوان قضاء الدَين والقرض .
ويصح تقديره على وجوه :
أولاً : إذا تداينتم بدين فاكتبوا العقد وتأريخه.
ثانياً : إذا تداينتم بدين فاكتبوا مدته وأجله المسمى.
ثالثاً : فاكتبوا مقدار الدَين وأجله، ومن خصائص مجئ نداء الإيمان في أول آية البحث خلو الدَين من الفائدة والمنفعة الربوية سواء كانت عيناً نقداً كالدينار والدرهم، أو فائدة كالإجارة والإنتفاع من الأعيان والعقار من غير بدل أو عوض .
وعلى هذا التقدير تدل الآية على وجوب كتابة الدَين سواء كان لأجل معين أم لم يكن لأجل مخصوص ومعين ، وهل تختص الكتابة بالدَين وإقراض المال , أم تشمل البيع والإجارة وعمومات المعاوضات إذا كان فيها مال من الذمة .
الجواب هو الثاني ، وقد يكون الدَين مقصوداً بذات المعاملة وأنها عقد قرض ، وقد يكون الدَين والقرض بالعرض بأن يكون ثمن سلعة أو جزء من ثمن عين كما لو دفع المشتري بعض الثمن وإتفق والبائع على صيرورة الباقي ديناً ليصدق على الباقي أنه دَين وقرض .
الوجه الرابع : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا إن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً ولا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل( ).
تتضمن آية البحث التذكير بنعمة العقل ، وأن الله عز وجل تفضل على المسلمين بالهداية إلى الإسلام بالتدبر في الآيات والمعجزات ، وتجد أفراد قلائل من الناس يضعف عندهم العقل ويفتقرون إلى التدبير ، فتفضل الله عز وجل ورحمهم في آية البحث بأن منع من لحوق الغبن بهم أو صيرورتهم سبباً للحوق الغبن بغيرهم والملاك عدم ضياع حق المسلم والناس جميعاً ، ويحتمل قوله تعالى [إِذَا تَدَايَنتُمْ] وجوهاً :
الأول : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بينكم كمسلمين .
الثاني : إذا داينتم أهل الكتاب .
الثالث : إذا داينكم أهل الكتاب .
الرابع : إذا داينتم الكتابي وغير المسلم .
الخامس : إذا داينكم الكتابي وغير المسلم .
والقدر المتيقن من الآية هو الأول بدليل قوله تعالى [وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ] والأمر الذي عليه الحق بالتقوى , ولكنه لا يمنع من العموم لوجود المقتضي وهو التوثيق وفقد المانع ، فان قيل كيف يكون التداين مع غير الكتابي ، وهو كافر بإجماع المسلمين ، وقد نهى الله عز وجل عن إتخاذهم بطانة أو الركون إليهم ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
ومن إعجاز الآية مجيؤها بصيغة الجملة الشرطية ، وهل يصح تقدير الآية : يا أيها الناس إذا تداينتم بدَين إلى أجل مسمى فاكتبوه الجواب نعم بلحاظ كبرى كلية وهي أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس جميعاً , قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
وفيه مسائل :
الأولى : دعوة الناس للصدور عن القرآن في أحكام القرض والدَين .
الثانية : تجلي رحمة الله للناس في القرآن ، ومنع مقدمات الفتن والشقاق بينهم ، وهو من الشواهد على صدق نزوله من عند الله لأن منع الشقاق مناسبة للتدبر في آياته , وما فيها من الإعجاز ، فلا حرج من هذا التدبر لخلوها من التزاحم أو التعارض .
الثالثة : بيان قانون مصاحب للناس منذ أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو إنتفاعهم من بعثته من وجوه :
الأول : التفكر في الخلق ، ومن إعجاز القرآن إخباره عن إقتران تفكر المسلمين ببديع صنع الله بحال قيامهم وركوعهم وسجودهم ، قال تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
الثاني : محاربة الغبن في المعاملات .
الثالث : تهذيب المنطق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
الرابع : إشاعة سنة الصلاح في المجتمعات .
ولما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن الإنسان يشيع الفساد في الأرض ويسفك الدماء بغير حق أجابهم الله بالحجة والبرهان بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ومن علمه تعالى نزول آية الدَين لينتفع منها الناس من وجوه :
الأول : عمل المسلمين بمضامين آية الدَين .
الثاني : إقتباس الناس من المسلمين أحكام القرض .
الثالث : سلامة المسلمين من الربا الذي هو من مصاديق إحتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( ) فمن علم الله عز وجل المقام أمور :
الأول : وجود أمة تمتنع عن أكل مال الربا وهم المسلمون .
الثاني : علة إمتناع المسلمين عن أكل الربا طاعة لله عز وجل .
الثالث : دعوة كل إنسان رجلاً أو أنثى للإسلام , ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم وجود برزخ بين أي إنسان وبين دخول الإسلام والنطق بالشهادتين .
وتتصف الحياة اليومية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوصول أي إنسان له وإن كان كافراً , ومن غير إستئذان وعدم وجود حاجب له , حتى حينما أصبح عدد المسلمين بعشرات الآلاف .
فحينما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة في السنة الثامنة بعد فتحها خرج معه إثنا عشر الفاً منهم عشرة آلاف جاءوا معه وألفان من مسلمي الفتح.
وفي غزوة تبوك التي جرت في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة وهي سنة قحط , وكان عدد جيش المسلمين نحو ثلاثين ألفاً ولم يقع قتال في غزوة تبوك إذ تفرق جيش الروم الذي يبلغ أربعين ألفاً .
وذكر ابن عائذ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( نزل تبوك في زمان قل ماؤها فيه فاغترف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غرفة بيده من ماء فمضمض بها فاه ثم بصقه فيها ففارت عينها حتى إمتلأت فهي كذلك حتى الساعة.
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب إيلة فصالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاه الجزية وأتاه أهل جرباء وأدرح فأعطوه الجزية وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابا وهو عندهم .
وكتب ليحنة بالمصالحة :
بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله صلى الله عليه وآله ليحنة بن رؤبة وأهل إيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله ومحمد النبي , ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فانه لا يحول ماله دون نفسه وإنه طيبة لمن أخذه من الناس وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يردونه من بر أو بحر)( ).
ولم يقيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرط عدم منع الماء أو الطريق بخصوص المسلمين : فلم يتضمن الكتاب : لا يحل أن يمنعوا المسلمين ماءً …..) لتكون لغة العموم هذه من مصاديق تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ). لقد جاءت آية البحث بحث المسلمين على كتابة الدَين حتى في حال عجز المدين عن كتابته لتؤكد الآية أموراً :
الأول : عدم ضياع الحق بسبب عجز الطرف الآخر ، فلابد من إحترام وحفظ مال المسلم .
الثاني : لما حرّم الله الربا فانه سبحانه ضمن حق الدائن فإذ فاتته الزيادة الربوية ، وهي سحت فلا يفوته حقه أو شطر منه بسبب النسيان أو إنكار المدين ليكون من منافع كتابة الدَين أمور :
الأول : كتابة الدَين تقوى وصلاح وطريق إلى التقوى .
الثاني : فيها تنمية لملكة الصدق .
الثالث : إنها برزخ دون الكذب وغمط حق الغير .
ومع تبدل الذي عليه الحق ، وإنتقال الآية إلى الضعفاء والقاصرين والأيتام فان أموراً بقيت ثابتة وهي :
الأول : كتابة الدَين ومقداره وأجله .
الثاني : إتصاف الكتابة بأنها بالعدل .
الثالث : ورود لفظ الحق ، إذ تكرر لفظ [الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ].
الرابع : الأمر بتقوى الله للذي يملي ويلقي على الكاتب خصائص الدَين والقرض .
الخامس : تعيين أجل الدَين وأوان قضائه .
السادس : شهادة رجلبن من المسلمين يتصفان بالعدالة .
السابع : جواز وصحة شهادة إمرأتين بدل الرجل الواحد .
الثامن : عدم جواز إمتناع الكاتب عن كتابة الدَين عن غير علة أو سبب وجيه.
وقيل أن قوله تعالى [وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ] منسوخ.
ولا دليل على النسخ في المقام لإحتمال ورجحان تعدد المعنى والموضوع .
وورد عن ابن عباس في المضارة أن يمنع الكاتب أن يكتب، ويمنع الشاهد أن يشهد، قاله ابن عباس، ومجاهد ، وعطاء( ).
ومن معاني المضارة توجه الأذى للكاتب من قبل طرفي العقد أو أحدهما، ومن قبل ولي السفيه ونحوه .
فكأن المضارة في الآية من الأضداد، فتكون من بناء الفاعل وبناء المفعول من جهات :
الأولى : صدور المضارة من الكاتب كما لو كتب غير الذي يملي عليه ممالأة لأحد طرفي العقد.
الثانية : مجئ المضارة من الشاهد بأن يشهد خلاف الحق .
الثالثة : تلقي الكاتب الضرر والأذى سواء قبل كتابة الدَين أو أثناء الكتابة أو بعد تمام الكتابة .
الرابعة : إيذاء الشاهد والطعن في عدالته من غير سبب شرعي أو تذكيره بخطأ وتقصير إرتكبه قبل تحمل الشهادة ، مع ظهور توبته، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا]( ).
ترى لماذا أكدت الآية على قيد العدل في إملاء الولي , الجواب من وجوه:
الأول : موضوعية نداء الإيمان في الإملاء الذاتي والغيري سواء كان الذي يملي الدَين لنفسه أو عن نفسه أو عن المولى أو الموصى عليه فلابد أن تكون صيغة الإيمان حاضرة ، ومن صفات المؤمن إستحضار ذكر الله عند العقد دائناً كان أو مديوناً .
وذكر اليوم الآخر والوقوف للحساب وشهادة اللسان والجوارح على الإنسان يومئذ ، وهل الإملاء بالعدل والشهادة بالحق من مصاديق الصراط في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) الجواب نعم ، ليكون إملاء الدَين بالعدل وشهادة عليه بالشهادة معاني الصراط المستقيم في الدنيا وهو وسيلة مباركة للنجاة والعبور على صراط الآخرة .
لتكون تلاوة المسلم والمسلمة للآية أعلاه عدة مرات في الصلاة اليومية وعلى نحو الوجوب العيني مدداً وعوناً لتعاهد السنن الشرعية , وإجتناب الظلم من قبل الولي والوصي .
(عن النّواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ضرب الله صراطاً مستقيماً ، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول :
يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتفرقوا . وداع يدعو من فوق : الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال : ويحك . لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه . فالصراط الإِسلام، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم)( ).
وفي إملاء الولي للديون بالعدل تأديب للذي يملي نيابة عنه ، ودعوة للناس للتنزه عن الغش والخداع وبخس الناس أشياءهم , وهو من مكارم الأخلاق التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(وأخرج أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن علي بن أبي طالب غليه السلام قال : لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج إلى منى وأنا معه وأبو بكر، وكان أبو بكر رجلاً نسابة ، فوقف على منازلهم ومضاربهم بمنى، فسلم عليهم وردوا السلام ، وكان في القوم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة ، والمثنى بن حارثة ، والنعمان بن شريك ، وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق ، وكان مفروق قد غلب عليهم بياناً ولساناً .
فالتفت إلى رسول الله صلى عليه وآله وسلم فقال له : إلام تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ادعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واني رسول الله ، وأن تأووني وتنصروني وتمنعوني حتى أؤدي حق الله الذي أمرني به ، فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله ، وكذبت رسوله ، واستغنت بالباطل عن الحق ، والله هو الغني الحميد .
قال له : وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً} إلى قوله{تتقون}( ).
فقال له مفروق : وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريش فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض ، ولو كان من كلامهم لعرفناه ، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله يأمر بالعدل والإِحسان }( ) . فقال له مفروق : دعوت والله يا قريشي إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك؟ .
وقال هانىء بن قبيصة : قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش ، ويعجبني ما تكلمت به ، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن لم تلبثوا إلا يسيراً حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم يعني أرض فارس وأنهار كسرى ويفرشكم بناتهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقال له النعمان بن شريك : اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش فتلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}( ))( ).
ومن أسرار نداء الإيمان في الآية توجه الخطاب للمسلمين والمسلمات جميعاً بأن يملي الإيمان في الآية توجه الخطاب للمسلمين والمسلمات جميعاً بأن يملي الولي الدَين الذي على السفيه والضعيف والعاجز عن التثبيت من الدَين وإملائه ، وفيه مسائل :
الأولى : صيرورة الإملاء عن القاصر والعاجز من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثانية : تقوم المعاملات في الإسلام بالتنزه عن الظلم وبخس الحقوق .
الثالثة : بعث الطمأنينة في النفوس بعدم ضياع الحق .
الرابع : تشريع قانون التولي والوصاية على القاصر واليتيم في الإسلام للأمن من الغبن, والتفريط بالحقوق.
والولي من المشترك اللفظي الذي يطلق على عدة معان منها الرب والملك والسيد والإمام والناصر والمحب والحليف ، ومن ولي أمراً وشأناً صار وليه ومولاه والمراد من قوله تعالى [فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ] هو المعنى الأخير .
ومن معاني نداء الإيمان في الآية الإخبار عن صلاح المسلمين لتولي وظيفة الولاية للغير عنه قصوره ، وهو من الشواهد على معنى من معاني الأخوة بينهم من جهات :
الأولى : ولاية المسلم للضعيف واليتيم والقاصر منهم .
الثانية : تآزر المسلمين في تثبيت الحقوق .
الثالثة : نصرة الأهل والأقارب للضعيف والقاصر من المسلمين بالولاية عليه ، ومن وجوه :
الأول : حفظ حقوق المولى عليه .
الثاني : منع القاصر من تضييع حقوق الناس .
الثالث : إعانة القاصر في تنظيم حياته وتيسير أموره بالأحسن والأصلح .
الرابعة : تنشيط أسواق المسلمين ، وعدم تعطيل الأموال والتجارات ، وقد وردت نصوص بحث فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عمارة أسواق المسلمين .
عن أبي أسيد (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم ذَهَبَ إِلَى سُوقِ النَّبِيطِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ : لَيْسَ هَذَا لَكُمْ بِسُوقٍ . ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى سُوقٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ : لَيْسَ هَذَا لَكُمْ بِسُوقٍ . ثُمَّ رَجَعَ إِلَى هَذَا السُّوقِ فَطَافَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ : هَذَا سُوقُكُمْ فَلاَ يُنْتَقَصَنَّ وَلاَ يُضْرَبَنَّ عَلَيْهِ خَرَاجٌ) ( ).
الخامسة : المنع من الربا في حال السفيه والقاصر والضعيف ، فإملاء وكتابة مقدار الدَين برزخ دون الزيادة أو النقيصة فيه .
ومن خصائص مجئ نداء الإيمان في الآية أمور :
الأول : تعيين الولي على السفيه ونحوه , إذ يكون الأهل والأقارب بالنسبة له من الكلي المشكك من جهة مراتب القربى ، فجاءت آية البحث بذكر (الولي ) على نحو الإطلاق ، لتبين بآيات القرآن الأخرى والسنة النبوية الشريفة خصائص الولي في العقد والنكاح , ولزوم تحليه بالتقوى , وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا يبلغ العبد المؤمن أن يكون من المتقين ، حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به بأس)( ).
الثاني : عدم منافسة المؤمنين للولي الأقرب للسفيه والضعيف والذي لا يستطيع أن يمل الدَين .
الثالث : نصح الولي ودعوته إلى تقوى الله ، إذ يلزم خشية من الله من جهات :
الأولى : السلامة من ظلم النفس من وجوه :
الأول : إجتناب الإمتناع عن إملاء أو كتابة الدَين فمن الإعجاز في آية البحث توجه الأمر إلى الولي بإملاء الدَين وتقدير قوله تعالى [فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ] هو أيها الولي أملي الدَين بالعدل.
الثاني : تفقه الولي في الدَين ، ومعرفته لقانون وهو الملازمة بين الإيمان وبين إملاء مقدار وأجل الدَين بالعدل .
الثالث : عدم ظلم الدائن وصاحب الحق ببخس جزء من حقه، أو بدفع أجل الدَين لغير أوانه.
الرابع : التنزه من التعدي على مال وحق المدين المولى عليه ، وأن لا يتخذ الولي التحريف في إملاء الحق وسيلة لتحقيق مآرب خاصة له، لذا قيدت الآية إملاءه الدَين بأنه بالعدل.
لقد أراد الله عز وجل من حضور الولي وموضوعيته في الدَين عصمة معاملات المسلمين من الربا ، وأن تدّب المعاملات الربوية لهم من الجهالة والسفاهة ، فمن خصائص نداء الإيمان في آية البحث توجه الخطاب التكليفي للمسلمين والمسلمات جميعاً بلزوم سلامة معاملة خفيف العقل والضعيف بالشأن والجاه والبدن وقلة المال والعاجز والصغير والمريض ونحوه من الربا وفرض الزيادة الربوية عليه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ).
ليكون من مصاديق أمر الله عز وجل بالعدل في آية البحث أمور:
الأول : التداين وإستحبابه بين المسلمين , فالآية وإن جاءت بصيغة الجملة الشرطية إلا أنها تتضمن الندب للتداين وإستحباب قضاء حاجة المسلم بالإقراض والسلف والإمهال في الدَين من جهة الأجل مع العدل في المحافظة على ذات القرض من غير زيادة أو نقيصة.
الثاني : إملاء وكتابة الديون، وصيرورة هذا الإملاء والكتابة سنة ثابتة بين المسلمين من غير ترفع أو إستكبار عن كتابتها .
الثالث : عدم ترك الكاتب وشأنه في كتابة مقدار الدَين والأجل، بل يتولى الذي عليه الحق والدَين الإملاء لتثبيت الحقوق ومنع البخس .
ومن إعجاز الآية أنها بدأت بنداء الإيمان وأخبرت عن التداين ثم ذكرت موضوع الأملاء وأنه الحق لقوله تعالى [وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ] ثم تكرر ذات لفظ الحق بالنسبة لإملاء الولي .
وبين الحق وبين مقدار وأجل موضوع الدَين والقرض عموم وخصوص مطلق ، فلفظ الحق هو الأعم ، لبيان عموم حكم إملاء الحقوق سواء كانت دَيناً وقرضاً أو مال بيع بالنسبة ، أو شراء بالسلف ، فيملى مقدار العين كالحنطة وأوان تسليمها ، كما يشمل الحق الأمانات خاصة عند الإحتضار وخشية ضياعها ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] ( ) أما لو كان الحق للسفيه ونحوه فعلى المسلم الذي عليه إملاءه بالحق ، وهل يلزم حضور ولي السفيه .
وتبين الآية حقيقة وهي أن إملاء الحق حق وواجب سواء كان بخصوص الدَين أو غيره ليكون من مصاديق آية البحث : يا أيها الذين آمنوا إملاء الحق حق .
الوجه الخامس :تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا استشهدوا شهيدين من رجالكم )
في الآية دلالة على قيام دولة المسلمين , وأن الحكم بأيديهم سواء في البلدة أو السوق أو القرية ، وهو من أسرار توجه نداء الإيمان لهم وما فيه من البشارات وبناء صرح الأخلاق الحميدة بالحكم والسلطنة ، وبناء وإستدامة الحكم والإمارة بالإخلاق والتهذيب وتوثيق الحق وما في الذمة للغير من المال والأعيان ، وهذا الإملاء من التوثيق مقدمة للولاية والحكم بالحق بين الناس عند التخلف من الأداء أو تعدي صاحب الحق بطلب الزيادة الربوية أو إرادة قضاء الدَين قبل أوانه ، أو إقتران الدَين وطلب الحق بالمن أو الأذى .
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى]( ) .
وقد يقال إن الآية لا تدل على تولي المسلمين الحكم إذ أنها تتحدث عن التداين وضبطه، ومنع وقوعهم في الشبهات أو الحرام من جهات :
الأولى : عدم التداين طريق لإشاعة الربا ، لأن الإنسان يحتاج القرض فلا يجده إلا مع الفائدة .
الثانية : ضياع الحقوق والأموال بنسيان الدَين أو إنكاره .
الثالثة : مع عدم التوثيق قد يقوم بعضهم بالإستدانة وهو لا ينوي القضاء والوفاء .
الثالثة : طرو آفة النسيان في المعاملات , وما فيها من أسباب قلة الإحسان أو التردد فيه .
ولكن الآية تدل على تولي المسلمين الحكم خاصة وأنها نزلت والإسلام يحكم في المدينة المنورة ومكة والقرى التي حولهما ، وتضمنت الأمر للمسلمين بأختيار الكاتب وأنه يكتب بالعدل وإختيار الشهود من المسلمين من غير تقية من أحد وأكدت على التقوى الخاصة والعامة .
ومن أسرار مجئ الآية بصيغة الجملة الشرطية [إِذَا تَدَايَنتُمْ] أمور:
الأول : وقوع معاملة وعقد التداين على نحو الإحتمال .
الثاني : الدَين والقرض أمر طارئ على الإنسان .
الثالث : الدَين سلامة من الربا .
وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بعد تنزهكم من الربا أخذوا وإعطاء وكتابة وشهادة ، أي أن الآية رحمة بعموم المسلمين ، فلا يقوم الكاتب بكتابة القرض الربوي , ويذكر الفوائد الربوية ، ولا يشهد المسلمين على الزيادة المحرمة على القرض .
لقد أشرقت على الأرض بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم المناجاة بالتقوى والصلاح في المعاملات المالية من غير ظلم أو إستحواذ على مال الغير بغير حق ، قال تعالى [وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ] ( ).
وأخرج عن جابر بن عبد الله قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آكل الربا ، وموكله ، وشاهديه ، وكاتبه ، وقال : هم سواء) ( ).
وقدم الحديث آكل الربا أي الذي يقترض المال الربوي مع رضاه بالزيادة الربوية , وتحمله لأعباء الربح غير المشروع .
ووصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم آخذ الربا بأنه آكله ، وإن لم يأكل منه ، ولكنه كناية عن القبض والإستلام ، ولو لم يأت هذا الطالب للربا لصاحب المال ويرضى بشروطه لما وقعت المعاملة الربوية ، فلا يعقل أن يطرق صاحب المال الأبواب ويقول أقرضكم بالربا والربح ، وإن حدثت بعض الحالات النادرة فلا عبرة بها .
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزول اللعنة والطرد من رحمة الله بالذي يؤكل الربا أي يقرض ماله مع الربح والزيادة ، وجاءت الآيات بانذاره ، قال تعالى [وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ] ( ) .
ومن إعجاز القرآن أو الوعيد ورد بالنسبة للمربي أكثر منه لآكل الربا وهو المحق والنقص في قوله تعالى [يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ] ( ) خاص بالمربي وصاحب المال الذي لا يقرضه إلا مع الزيادة أم يشمل الذي يقترضه بالفائدة الربوية .
المختار هو الثاني فيصيب النقص وقلة البركة المال الربوي أخذاً وإعطاءاً .
ويدل الحديث النبوي على عدم بلوغ الحاجة إلى أكل الربا ، فما من شيء حرمه الله عز وجل وجعل فيه خيراً ونفعاً .
وأخبر النبي صلى اله عليه وآله وسلم عن نزول اللعنة بكاتب الربا والشاهدين عليه لتحريم الإعانة على الإثم والباطل .
(عن عبد الله بن مسعود : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن الربا وآكله وموكله وكاتبه وشاهده وهم يعلمون والواصلة( ) والمستوصلة والمستوشمة( ) والنامصة( ) والمتنمصة ونهى عن النوح)( ).
وهل الدَين والقرض صدقة على المدين والمقترض الجواب لا، وإن كان ثواب الدَين أكثر من ثواب الصدقة .
وتبين الآية موضوعية الشهادة في تعيين وتوثيق الحقوق والديون، ولا تختص الحاجة لها بالحكم بين الناس وفعل الخطاب ، فتكون الشهادة مانعاً من وصول الدعوى إلى القاضي وتحول دون الفتنة وتقدير الآية على وجوه :
الأول : واستشهدوا شهيدين من رجالكم لضمان الحق .
الثاني : واستشهدوا شهيدين من رجالكم لشكر المنعم والمقرض على إحسانه .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا استشهدوا من خصائص المؤمنين استشهاد شهيدين في المعاملات .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا إن الله يأمركم أن تستشهدوا شهيدين من رجالكم في المعاملات والديون لآجاله .
وأختلف في الأمر [واستشهدوا ] على قولين :
الأول : الوجوب .
الثاني : الندب وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد .
وإذا كان الأصل في كتابة الدَين هو الندب ، ويتفرع عند الندب أيضاً خاصة مع وحدة الموضوع والحكم .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : واستشهدوا شهيدين.
الثاني : واستشهدوا شهيدين , وليس شهيداً واحداً .
الثالث : واستشهدوا شهيدين أو أكثر من رجالكم ، إذ أن ذكر شاهدين يراد منه عدم الإكتفاء بشاهد واحد ولا ترك مسألة الشهادة, ولكنه لا يمنع من زيادة عدد الشهود فانه(نور على نور)( ) وفيه زيادة من التوثيق .
ولم يرد لفظ [رجالكم]في القرآن إلا مرتين إحداهما في آية البحث وموضوع الشهادة على الدَين والقرض والأخرى بقوله تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين بلحاظ لفظ [رِجَالِكُمْ] مسائل :
الأولى : إستحضار الإيمان بالله ورسوله عند الشهادة وإكرام الشهداء والظن بهم خيراً ما داموا مسلمين مصدقين برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عاملين بأحكامها إلا مع القرينة على الخلاف .
(وأخرج سعيد بن منصور عن داود بن أبي هند قال : سألت مجاهداً عن الظهار من الأمة فقال : ليس بشيء . قلت : أليس يقول الله {الذين يظاهرون من نسائهم}( ) أفلسن من النساء؟ فقال : والله تعالى يقول { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } أفتجوز شهادة العبيد)( ).
ولكنه قياس مع الفارق فعدم صحة مظاهر الأمة لأنها ملك لسيدها ، وليس من عقد يربط بينهما .
وتجوز شهادة العبد إلا في الحدود ، وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري لا تقبل شهادته لأنه غير ذي مروءة .
وقال الشعبي والنخعي تقبل شهادة العبد في الأمر اليسير وجعلاه من عمومات لفظ[من رجالكم] في آية البحث.
ومن العبيد من إرتقى إلى منزلة العلماء، وكتب المسلمين مليئة بالرواية عنه .
الحسن العسكري عليه السلام في تفسيره (عن أمير المؤمنين عليه السلام: كنا نحن مع رسول الله وهو يذاكرنا قوله تعالى: ” واستشهدوا شهيدين من رجالكم ” قال: أحراركم دون عبيدكم، فان الله تعالى قد شغل العبيد بخدمة مواليهم عن تحمل الشهادات وعن أدائها) ( ).
وفيه أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الآية أعلاه قال : ليكونوا من المسلمين منكم ، فان الله إنما شرّف المسلمين العدول بقبول شهاداتهم وجعل ذلك من الشرف العاجل لهم ومن ثواب دنياهم ، وقيل بضعف سند هذا التفسير لأن راويه أبو الحسن محمد بن القاسم يروي عن أبي يعقوب يوسف بن محمد بن زياد وأبي الحسن علي بن محمد بن سيّار مجهولين وفي التفسير بعض المناكير فيها .
وعن الإمام الباقر عليه السلام تجوز شهادة العبد المسلم على الحر المسلم .
ومن الإعجاز في شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنقراض مسألة العبيد وصيرورتهم أحراراً وبذات مرتبة المسلمين الأخرين ، ليكون من معاني قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) المساواة بين المسلمين وإرتقاء العبيد إلى مرتبة الحرية .
وتكون الشهادة بما يدرك بالحواس كالسمع والبصر ، لا ما يظن ويدرك بالرأي .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث (شاهداك أو يمينه) ( ).
ومن معاني إبتداء الآية بنداء الإيمان تقدير الآية : واستشهدوا شهيدين من الذين آمنوا) لإتحاد جهة الخطاب ، وبيان موضوعية الإيمان في تثبيت الحقوق وعدم تضييعها .
وتتضمن آية البحث الإرشاد إلى إختيار الشاهد الذي لا يخاف من قول الحق في موضوع الشهادة ، ولا يخشى طرفاً من أطراف المدَين أو موضوع الشهادة فيمتنع عن أداء الشهادة أو يذكرها على نحو الإجمال أو يحرف ويبدل بها ، أو يقول أني نسيت خاصة مع تقادم الأيام بين أوان تحمل الشهادة وزمان أدائها ، ومن الإعجاز في آية البحث أنه تجمع بين أمور لتوثيق الدَين وعدم تضييع الحقوق وهي :
الأول : كتابة الدَين وقدره وصفاته التي تمنع من الترديد والإجمال ، والكتابة من أبهى ضروب البيان والتوثيق ، وفيه حث للمسلمين لتعلم الكتابة والقراءة وإتخاذها وسيلة لتلاوة آيات القرآن والتفقه في الدين ومعرفة أحكام الحلال والحرام .
وكل من الكتابة والشهادة عون للمسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , الذي جعله بعض العلماء الركن السادس من أركان الإسلام .
وعن النعمان بن البشير (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ مَثَلُ الْمُدَّهِنِ وَالْوَاقِعِ فِي حُدُودِ اللَّهِ قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً الْقَائِمِ فِي حُدُودِ اللَّهِ مَثَلُ ثَلَاثَةٍ رَكِبُوا فِي سَفِينَةٍ فَصَارَ لِأَحَدِهِمْ أَسْفَلُهَا وَأَوْعَرُهَا وَشَرُّهَا فَكَانَ يَخْتَلِفُ وَثَقُلَ عَلَيْهِ كُلَّمَا مَرَّ فَقَالَ أَخْرِقُ خَرْقًا يَكُونُ أَهْوَنَ عَلَيَّ وَلَا يَكُونُ مُخْتَلَفِي عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا يَخْرِقُ فِي نَصِيبِهِ وَقَالَ آخَرُونَ لَا فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ نَجَا وَنَجَوْا وَإِنْ تَرَكُوهُ هَلَكَ وَهَلَكُوا) ( ).
الثاني : إملاء الذي عليه الدَين بنفسه على الكاتب مع إطلاع ومعرفة الدائن بكنه ما يملي من جهتين :
الأولى : إبتداء الآية بنداء الإيمان .
الثانية : توجه الخطاب للذين يتداينون فيما بينهم ، ومن خصائص الجمع بين الجهتين أعلاه تقدير الآية على وجوه :
أولاً : فليملل الذي عليه الحق منكم أيها المسلمون ) بلحاظ إرادة عموم المسلمين والمسلمات من نداء الإيمان ، لإستقراء الحكم وتغشيه لكل المسلمين .
فاذا قيل بأن نداء الإيمان الوارد تسعاً وثمانين مرة في القرآن يخص المؤمنين دون عموم المسلمين تحدث ثغرة في الإمتثال للحكم الذي يأتي في آيات النداء وقد يتخلف بعضهم عن الإمتثال التام، فقد ورد بالنسبة لفريق من الأعراب بأنهم مع إسلامهم لم يبلغوا مرتبة الإيمان ، قال تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا] ( ).
وتدل خاتمة الآية أعلاه بأن نداء الإيمان يتوجه لهم بصفة الإسلام والنطق بالشهادتين ويترتب عليه بعثهم وعموم المسلمين العمل للأوامر والنواهي التي تأتي في آيات النداء ، كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ثانياً : فليملل الذي عليه الحق بالحق ، والمراد من الحق المذكور في الآية هو الدَين والقرض وصفاته وشرائطه التي جرى الإتفاق والعقد عليها .
ثالثاً : فليملل الذي عليه الحق منكما أيها المتداينان .
الثالث : تقييد الإملاء بأنه بالحق , لتكون كتابة الدَين مرآة لإملائه .
الرابع : إتصاف كتابة الكاتب بأنها بالعدل وعدم الميل إلى أو على أحد الطرفين ولكنها تجب بخصوص كتابة الدَين ومقداره ، فمن إعجاز الآية أنها لم تقل فليكتب كاتب عادل ، أو ليكتب كاتب منكم لتكون من المقاصد السامية في الآية تنمية ملكة العدالة عند المسلمين , وإدراك موضوعيتها في التوثيق والبيان وتثبيت الحقوق .
ومع أن الإملاء مقدم في الفعل على الكتابة ، فقد قدمت آية البحث الكتابة , وفيه مسائل :
الأولى : توجه الخطاب لعموم المسلمين وليس لفرد مخصوص .
الثانية : بيان قانون دائم في الشريعة الإسلامية ، إسمه (كتاب الدَين) سواء قام باملائه المديون أو غيره .
الثالثة : منع الحرج في كتابة الدَين بالنسبة للدائن ، ولا الإستكبار والترفع بالنسبة للمدَين .
الرابعة : قاعدة تقديم الأهم على المهم ، فالأهم هو كتابة الدَين، أما الإملاء فهو مقدمة لكتابته وتوثيقه ، وليسمع الشاهدان من لسان المدَين ما عليه الحق ، وأوان القضاء والوفاء .
وهل يدل تقييد الشهادة بأنها من الرجال المسلمين بقوله تعالى [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ]على عدم جواز شهادة النساء، الجواب لا ، فاثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، إنما أرادت الآية التخفيف عن المسلمين عامة ، وعلى النساء أيضاً ، بدليل ورود الآية بالبديل النسوي في الشهادة بقوله تعالى [فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ] .
ولا يصح الحكم بشهادة واحد ويمين في الحدود والقصاص والدماء ، والأحكام الجزائية ، وبجواز قبول شهادة الشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق في المال قال مشهور علماء الإسلام وأستدل عليه بحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
(عَنِ ابن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ) ( ) وهناك أخبار عديدة في المقام .
وقال بعدم جواز القضاء باليمين مع الشاهد الثوري والأوزاعي والحنفية وبعض المالكية وإستدلوا بآية البحث وما فيها من الأمر بشهادة شاهدين ، وأن الآية لم تذكر مسألة جواز العمل بشهادة واحد ويمين صاحب الحق .
وقالوا أن هذا زيادة على النص ، والزيادة نسخ لها وأن القرآن لا ينسخ بأخبار الأحاد ، ولكن على الفرض بالقول به وعدمه فانه ليس من النسخ إنما من تقييد السنة لإطلاقات القرآن .
ومن الآيات في المقام أن الأمر بشهادة الشاهدين أمر من عند الله ، وهو سبحانه الذي ينعم علينا .
ومن أسرار نداء الإيمان في أول الآية إختيار الشاهدين ممن يتصفون بالإيمان والعدالة ، وتتضمن الإضافة في قوله تعالى [من رجالكم] الإشارة إلى صيغة الإيمان .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا استشهدوا شهيدين من رجالكم في الديون والقروض .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا استشهدوا شهيدين في المعاملات والعقود ، قال تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ] ( ) .
فذكر التداين وإرادة العموم من وجوه التعليم في القرآن ، لقد وردت الآية بالأمر بالإستشهاد في حال التداين والإختبار في تعيين الشاهدين ، وقد تكون الشهادة قهرية من جهتين :
الأولى : لم يجد صاحب الحق إلا شاهدين من المسلمين .
الثانية : تحمل الشاهد الشهادة من غير تكليف وطلب من طرفي العقد، وكأنها من تقوى المسلم واستشهاد نفسه .
ويدعو قيد [من رجالكم] المسلمين إلى الصدق في الشهادة وعدم الكذب فيها والزور لغة إرادة قول الكذب .
وفي الإصطلاح : الكذب الذي يجتهد صاحبه بتصويره على أنه حق فيحسنه ويسويه ، ليصل به إلى الباطل .
وتسمى شهادة الزور بالغموس لأنها تغمس صاحبها في النار لما فيها من تحري الباطل وضياع القوة ،وبعث الحسرة في النفوس ومظاهرة الظالم ، ونشر الفساد والرذيلة والأخلاق المذمومة ، وهل شهادة الزور من عمومات الفساد الذي إحتجت به الملائكة على جعل الله خليفة في الأرض ، كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) .
الجواب نعم ، لذا تفضل الله عز وجل وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل القرآن , ومنه آية البحث التي جاءت بوجوه مباركة منها :
الأول : إبتدأت الآية بنداء الإيمان، الذي يفيد في دلالته الشهادة للمسلمين بأنهم أهل التقوى، ليكون من إعجازها أنها تأمر المسلمين بالشهادة على التداين والعقود بعد أن شهد الله عز وجل لهم بالإيمان والصلاح، وهو من اللطف الإلهي بهم وبالناس، ويكون من وجوه تقدير الآية على وجوه:
أولاً : وإستشهدوا شهيدين من المؤمنين.
ثانياً : وإستشهدوا أيها المؤمنون شهيدين من رجالكم.
ثالثاً : وإستشهدوا أيها المسلمون شهيدين من المؤمنين.
رابعاً : واشهدن أيتها المؤمنات شهيدين من المؤمنون.
إذ يتوجه الخطاب في الآية للمسلمات بعرض واحد مع عموم المسلمين لإتحاد التكليف , وحق المرأة في البيع والشراء والتداين مع إذن الزوج لعمومات قوله تعالى[الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ]( ).
الثاني :الترغيب بالتداين بين المسلمين وبيان أنه معاملة مستحبة من طريف الدائن، ومباحة من طرف المدين الذي يظن ظناً معتبراً بإمكان وفائه للدين.
الثالث : الأوامر التي تتضمن وجوب الشهادة بالحق .
الرابع : كتابة الديون والقروض وتوثيقها لمنع الخلاف فيها .
الخامس : موضوعية العدل والإنصاف وعدم الميل أو الخيانة بكتابة الدَين.
ومن أسرار كون آية البحث أطول آية في القرآن أن التداين والبيع بالأجل والأقساط والمعاملات مع المصارف والبنوك دخلت كل بيت، وصارت عرفاً سائداً، فتفضل الله عز وجل بتنزيل آية البحث لتنظيم الحياة الإقتصادية والإجتماعية للمسلمين وإلى يوم القيامة.
ومن الإعجاز في الآية ذكر الشاهدين على نحو التنكير ( شاهدين ) مع التقييد بأنهم من المؤمنين الرجال الذين هم أهل لتحمل مسؤولية الشهادة ،وهو الذي يدل عليه لفظ [من رجالكم] بأن لا يخشوا من أحد الطرفين وتؤدي بهم الخشية إلى إخفاء أو تحريف الحقائق وصفات وأجل الدَين .
وبعد أن إبتدأت آية البحث بنداء الإيمان وحثت المسلمين على التعاون لكتابة الدَين وأوصاف القرض تحدثت عن واجبات الكاتب ، ولزوم تقيده بالعدل منهاجاً وسنة ، وأمرت أن يقوم الذي عليه الدَين بإملاء مقداره .
ومن خصائص نداء الإيمان أول الآية أن إختيار الشهود من منازل الإيمان ، فلا يختارهم إلا المسلمون ، وتفيد صيغة التبعيض [من رجالكم] كثرة المؤمنين الذين يتحملون الشهادة ويؤدونها كما هي من غير تبديل أو تحريف .
ومن خصائص الشهادة على الدَين وجوه :
الأول : طرد الغفلة عن المسلمين لما فيها من إستحضار أمور :
أولاً : شخص الدائن ومعرفته بالاسم ، وعدم الترديد بينه وبين غيره.
ثانياً : تعيين المدين الذي عليه الحق .
ثالثاً : تحديد مقدار الدَين ، وصنف الحق الذي إشتغلت به ذمة المدين .
رابعاً : ضبط أجل قضاء الدَين والقرض وما على المدين من الحق.
الثاني : تنمية ملكة العدالة عند المسلمين.
الثالث : الأجر والثواب في تحمل وأداء الشهادة بالحق, وقد لا تصل النوبة للخصومة في الدين, والحاجة لأداء الشهادة , فهل ينال الشاهد ثواب الأداء الجواب نعم.
ومن الآيات في الشهادة إن استحضار تفاصيل موضوعها لا تختص بزمان التحمل والأداء بل تشمل أيام ذات الدَين كلها وما بين تحملها إلى حين أدائها المتحد أو المتعدد ، فبين حين وآخر يتذكر الشاهد تفاصيل شهادته في التصور الذهني ، وهو من أسرار قوله تعالى [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى]تغلب شؤون المنزل على ساعات وأيام المرأة, ويصير هناك نوع فترة في إستحضارها في الوجود الذهني ، فتقوم الأخرى بتذكيرها سواء عند الأداء أو قبله.
الوجه السادس : يا أيها الذين آمنوا إن لم يكون الشاهدان رجلين فرجل وامرأتان ) تتجلى معاني السماحة في الإسلام في العبادات والمعاملات والأحكام ، ففي العبادات يجب على كل مسلم ومسلمة صوم شهر رمضان مثلاً لقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) .
ليأتي التخفيف والإستثناء عن المريض والمسافر بقوله تعالى [وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] ( ) وفي الأحكام الجنائية ينزل حكم القصاص في القتلى على نحو الإطلاق والمساواة والتكافؤ في الدماء بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى]( ) .
فالذي يمتنع عن القصاص أو يظن أنه أعلى مرتبة من المقتول ويسعى للتباين والتمييز بين المسلمين ،وضياع دم المسلم هدراً يجب على المسلمين العمل على إمتثاله للحكم , والقود منه إذ تتكافأ دماؤهم , وهو من أسرار إبتداء الآية أعلاه بنداء الإيمان مع وجود إمكان الإنتقال من القصاص إلى الدية ، أو حتى العفو .
ولكن الضابطة هي رضا القاتل بحكم الله الذي يدل بالدلالة التضمنية على التساوي في الدماء بين المسلمين ، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ).
وتبين آية البحث التخفيف في المعاملات والإنتقال من شهادة شاهدين عدلين إلى شهادة رجل وامرأتين ، وفيه إكرام للمرأة المسلمة والشهادة لها بالإيمان والعدالة .
ويصح تقدير الآية : يا أيتها اللائي آمنّ استشهدن شهيدين من رجالكن فان لم يكونا رجلين فرجل وإمرأتين ) مع نهي الذي يطلب للشهادة عن الإمتناع لقوله تعالى[وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا]( ).
وجاءت الآية بكفاية شهادة إمرأتين عن أحد الشاهدين ، ولكن لو كان الشهود أربعة من النسوة فهل يجزي في الشهادة أم لابد من شهادة رجل معهن سواء كن إثنتين أو أكثر .
المختار والمشهور هو الأول ، ويستدل عليه بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( أليس شهادة المرأة على مثل نصف شهادة الرجل) ( ).
ثم أن مجئ شهادة المرأة ومضاعفة عددهن في الشهادة ليس بسبب نقص في التقوى والخشية من الله ، بل التقوى محرزة ، ولا بخصوص كثرة أو قلة مال الدَين ، إنما لإحتمال نسيان إحداهما الدَين أو بعض تفاصيله وأوان قضائه فتذكر إحداهما الأخرى .
أما بالنسبة لشهادة النساء على ما لا يراه الرجال مثل البكارة ، الحيض ، النفاس ، الولادة الإستهلال , الرضاع ، عيوب النساء ، ففيه وجوه :
الأول : كفاية شهادة امرأة تقية مؤمنة في دينها .
الثاني : الإحتراز بشهادة امرأتين وفق قاعدة التساوي بين الرجال والنساء في الشهادة في المواطن التي تختص النساء بالإطلاع عليها .
الثالث : لابد من شهادة أربع نساء ، فلا دليل على التساوي بين الرجل والمرأة وإن كان المقام خاصاً ، فلابد من شهادة امرأتين بدل كل رجل .
والمختار هو كفاية شهادة امرأتين في هذه المواطن ، وقلّ الإبتلاء بهذه المسألة في هذا الزمان وعلوم الطب الحديث ، ولكن أحكام الشهادة في آية الدَين باقية إلى يوم لقيامة ، ويحتاج إليها الناس في كل زمان وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ] ( ).
وهل يجوز شهادة أربع نساء بدل رجلين في الديون وليس الحدود ، قال الحنفية لابد من وجود رجل في الشهادة ، وفيه رواية عن أحمد .
وقال الظاهري بقبول شهادة امرأتين بدل أحد الشاهدين في كل شيء حتى في الحدود ، ولكن نص آية البحث هو [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى] وتدرأ الحدود بالشبهات .
وتشترط الذكورة في الشهود الأربعة على الزنا لقوله تعالى [ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ] ( ).
ويحتمل التقييد ( ممن ترضون من الشهداء ) وجوهاً :
الأول : إرادة المرأتين .
الثاني : عموم الشهداء سواء كانوا رجالاً أو نساءً .
الثالث: المقصود الشاهدان في قوله تعالى [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ].
الرابع : المقصود الرجال في قوله [مِنْ رِجَالِكُمْ]
وباستثناء الوجه الأخير أعلاه فان الوجوه الأخرى من مصاديق الآية فلابد أن يكون الذين يتحملون الشهادة ممن يرضاهم المسلمون عامة وطرفا العقد خاصة في الشهادة لأنها أمانة ، وهل يعني هذا أن من رجال المسلمين من لم يكونوا عدولاً ، الجواب لا، إنما الشهادة أمر كفائي سواء على القول بوجوبها أو أنها ندب ، فاذا تحملها بعضهم سقطت عن الآخرين ، ومن المسلمين من يكون كثير الغياب في الضرب في الأرض أو المرابطة أو الغزو , ولا تعطل الأحكام وإنتزاع الديون بسبب غيابه .
ولمّا حرّم الله عز وجل الربا على المسلمين فانه تفضل وجعل المرأة شاهداً على الدَين , وفيه مسائل :
الأولى : تفقه المرأة في الأحكام الشرعية ، وإحاطتها بمسائل الحلال والحرام .
الثانية : منع الحرج عن المسلمين في المعاملات فجواز شهادة المرأة تخفيف عن عموم المسلمين والقضاء .
الثالثة : بيان منزلة المرأة في الإسلام وإكرامها بقبول شهادتها .
الرابعة : إحاطة المرأة بأحوال الأسرة والأمور الإقتصادية والمعاشية بالشهادة على الدَين .
الخامسة : زجر المرأة المسلمة عن المعاملات الربوية .
السادسة : ترغيب عموم الناس بدخول الإسلام ، لما في قبول شهادة المرأة المسلمة في الديون والحقوق العامة .
السابعة : تنمية ذاكرة المرأة المسلمة ودفع الغفلة عنها ، إذ تحصر الآية التذكير بأحدى الشاهدتين بقوله تعالى [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى] وكل واحدة منهما تصح أن تكون هي التي تقوم بتذكير الأخرى .
وهل يمكن أن يقال أنها قد تذّكر الرجل الذي معها ، الجواب نعم ، فمن خصائص الإنسان طرو النسيان عليه .
الوجه السابع : تقدير الآية يا أيها الذين آمنوا أن تضل أحدهما فتذكر إحداهما الأخرى ، خطاب للمسلمين بقبول شهادة النساء ، مع التخفيف عنهم بجعل الإثنتين منهن بدلاً للرجل الواحد ، فليس في الآية إنتقاص من المرأة إنما هو من التخفيف والإكرام ، وبيان حقيقة وهي أن المرأة قد تتراكم عليها شؤون العائلة ، وتكون حبيسة البيت فلا تتذاكر مع الناس مسألة الديون أو تراقب المعاملات التجارية على نحو يومي ، إذ أن الرجل موجود في السوق فيشهد لصاحب المال بأن له في ذمة زيد من الناس حقاً وديناً ، وهو يرى صاحب الحق والمال في غنى وكثرة أموال ، ويرى المدين محتاجاً يجتهد بتوفير لقمة العيش أو إصلاح عمل أو صنعة له، فلا ينسى هذه الحقيقة والتي يتفرع عنها معرفة مقدار الدَين وأجله.
وقد تكرر لفظ إحداهما في الآية مرتين ، ترى لماذا لم تقل الآية (أن تضل إحدهما فتذكرها الأخرى) الجواب أن النسيان في الدَين من قبل النساء متعدد ، فتارة يصدر من هذه وأخرى من تلك سواء في ذات الموضوع مثلاً تنسى إحدهما اسم صاحب الحق ، فتذكرها الأخرى ، ثم تنسى ذات الأخرى إسمه فتذكرها الأولى .
أو غيره فتنسى الأولى مثلاً أجل الدَين فتذكرها الأخرى ثم تنسى الثانية ، مقدار الدَين فتذكرها الأولى .
وقد تنسى كل منهما بعض تفاصيل الدَين ، فيذكرهما الرجل ، ليكون التذكير في الديون من خصائص الشهادة عليه وهو برزخ دون ترتب الفائدة الربوية بأن يضاف مال ومبلغ على قيمة القرض ظلماً أو جهلاً وسهواً .
كما أنه مانع من بخس حق المالك أو تضييع ماله ، ومن منافع الآية أمور :
الأول : إنتفاء الحرج عن المرأة المسلمة التي يقع عليها الإختيار في الشهادة إذا سألت عن تفاصيل الدَين عند تحمل الشهادة أو بعدها وإلى حين الأداء .
الثاني : دعوة الشاهدتين إلى إستحضار وتذاكر موضوع الشهادة وتفاصيلها ، وهل يلحق بهن الشهود من الرجال فيتذاكرون موضوع الشهادة ومقدار أجل الدَين ونحوه ، الجواب نعم ، ليكون هذا التذكير من مصاديق [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] ( ).
الثالث : عدم ذم أو توبيخ المرأة التي تتذاكر موضوع الشهادة وعن الحسن قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : استوصوا بالنساء خيراً فإنّهن عندكم عوان لايملكنّ لأنفسهن شيئاً: إنما اتخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله)( ).
وتتحدث آية البحث عن كتابة الدَين والشهادة عليه، وكأن كل واحدة منهما مستقلة عن الآخرى أو أن الشاهدين لا يختمان كتابة الدَين، وهو من إعجاز القرآن في قيام كل حجة بذاتها في تثبيت موضوع الدَين والقرض .
وهل يمكن القول أنهم كانوا يكتبون العقود من غير أن يختمها الشهود وإن ذكرت أسماؤهم في العقد، الجواب نعم، ولكنه ليس علة تامة للتفريق بينهما، إنما أراد الله عز وجل زيادة التوثيق وإلا فإنه يصدق في مسألة تذكير إحداهما الأخرى بما مثبت في العقد المكتوب، فتقرأه وتكون هذه القراءة تذكيراً لها، ومادة وموضوعاً لتذكيرها الأخرى بمضامينه.
وفي صلح الحديبية لما جرى الكلام بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسهيل بن عمرو الذي بعثه كبار كفار قريش لمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من دخول مكة، وبعد المراجعة وعندما تقارب الأمر دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً يكتب الكتاب بينهم وإختار أحد الصحابة هو أوس بن خولي يكتب فأحتج سهيل، وقال: لا يكتب إلا أحد الرجلين، ابن عمك علي أو عثمان بن عفان)( ).
فدعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام ليكتب الكتاب فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكتب بسم الله عليه الرحمن الرحيم، وفيه شاهد بأنه يتولى تعيين الكتّاب من أهل بيته برضا كفار قريش، وأنه هو الذي يملي صيغة وبنود الإتفاق .
فاحتج سهيل مرة أخرى، وقال: لا أعرف الرحمن، أكتب كما نكتب بسمك اللهم، فأستهجن المسلمون كلامه وقالوا هو الرحمن، وأصروا على كتابة البسملة، فقال سهيل: إذاً لا أقاضيه على شيء، فنزل قوله تعالى[قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى]( )، ليكون من رشحات نزول هذه الآية إمضاء الصلح والصبر على ما يطلبه المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أكتب بإسمك اللهم.
هذا ما أصطلح عليه رسول لله فأبى سهيل إلا تغيير الجملة وقال: لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، ولا تبعتك، ثم إنتقل إلى السؤال الإستنكاري بقوله: أفترغب عن إسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله، فسخط المسلمون من جهالته وعناده ، ومع أنهم لم يكن معهم سلاح، إلا أنهم لم يخشوا من قريش، ولم يمر عليهم سحرهم، ولم يرضوا بخبيث مكرهم في الكلام .
فقال جماعة من الصحابة: لا نكتب إلا محمد رسول الله، وكأنهم جميعاً أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهدئ أصحابه ويومئ إليهم بيده أن أسكتوا وتمهلوا، فإمتنع الإمام علي عليه السلام عن كتابتها إلى أن أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد كان نزول الآية أعلاه دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بإعطاء المشركين ما يريدون من الشروط اللفظية التي لا تغير الحق، وفيه إكرام للبيت عند دنوهم منه وحجة غلى الكفار , وحث للمسلمين للنظر إلى الأمور بخواتيمها وهو من مصاديق قوله تعالى[فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ]( )، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا محمد بن عبد الله أي لا يضر أن أكتب بإسمي أو بصفتي رسول من عند الله فأكتب فكتب الإمام علي عليه السلام :
بإسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو(اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَنْ النّاسِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهِنّ النّاسُ وَيَكُفّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ عَلَى أَنّهُ مَنْ أَتَى مُحَمّدًا مِنْ قُرَيْشٍ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ رَدّهُ عَلَيْهِمْ وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِمّنْ مَعَ مُحَمّدٍ لَمْ يَرُدّوهُ عَلَيْهِ وَإِنّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً وَأَنّهُ لَا إسْلَالَ وَلَا إغْلَالَ وَأَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ)( ).
ثم ذكر الشهود في أصل الكتاب(شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفا، وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد بن مسلمة، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص بن الأخيف؛ وكتب ذلك على صدر هذا الكتاب .
فلما كتب الكتاب قال سهيل: يكون عندي! وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بل عندي! فاختلفا فكتب له نسخةً، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب الأول وأخذ سهيل نسخته، وكان عنده)( ).
وكان حويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص من المشركين وحضروا مع سهيل بمن عمرو، ولم تمر الأيام حتى كانت حجة الوداع فكان سهيل بن عمرو نفسه الذي أبى أن يكتب في صلح الحديبية بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله يلتقط من شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما حلق الحلاق شعره فيضع سهيل الشعر على عينيه تبركاً.
وتبين آية البحث إحترام وتقدير المرأة بذاتها ولإيمانها , خلافاً لأمم سابقة تتصف بالرقي , فقد حكي عن سقراط أنه قال : إن وجود المرأة هو أكبر منشأ للأزمة والإنهيار في العالم .
وعن الرومان القدامى أن قيد المرأة لا ينزع، ونيرها لايخلع، وقال بعضهم : ليس للمرأة روح فتعذب بأن يسكب الزيت الحار عليها، وقيل عقد مؤتمر في فرنسا سنة 586 م لبحث مسألة المرأة وهل هي إنسان أو لا، وهل لها روح، وهل روحها مثل روح الرجل أم أدنى مرتبة، وخرج هذا المؤتمر بنتيجة وهي أن المرأة إنسان، وخلقت لخدمة الرجل.
وفي الصين القديمة كان إذا مات الرجل استحوذ أهله على إمراته كتركة.
وكان الهندوس القدامى يحرقون المرأة التي ترضى مع زوجها عند موته، وأباح الفرس القدامى الزواج من الأمهات والأخوات والعمات , وكان اليهود يعزلون المرأة عنهم عندما تحيض فلا يؤاكلونها.
وعن أنس : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ، ولم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في البيوت . فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}( ).
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : جامعوهن في البيوت ، واصنعوا كل شيء إلا النكاح . فبلغ اليهود فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه! فجاء أسيد بن حضير ، وعباد بن بشر ، فقالا : يا رسول الله إن اليهود قالت كذا وكذا أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله سلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما ، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأرسل في أثرهما فسقاهما ، فعرفا أنه لم يجد عليهما( ).
أما العرب القدامى في الجاهلية فقد فاقوا هذه الأمم إذ إختاروا وأد البنات عندما يكونون في حال فقر وفاقة، أو عند خشية إغارة العدو عليهم وسبي بناتهم وتعييرهم بالسبي ونحوه وكانوا لا يورثون المرأة، ويقولون إنما يرثنا الذي يحمل السيف، ويحمى القبيلة، وليس من حصر لعدد الزوجات أو مرات الطلاق، وإذا مات الزوج يحق لإبنه الأكبر الإستحواذ على زوجة أبيه إرثاً مثل المال لأنها كالمتاع .
وعن ابن عباس في قوله “يا أيها الذين آمنوا لا يحلُّ لكم أن ترثوا النساء كرهًا”، قال: كان الرجل إذا مات أبوه أو حميمه، فهو أحق بامرأته، إن شاء أمسكها، أو يحبسها حتى تفتدي منه بصداقها، أو تموت فيذهب بمالها) .
قال ابن جريج، فأخبرني عطاء بن أبي رباح: أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجلُ فترك امرأة حبسها أهلهُ على الصبيِّ يكون فيهم، فنزلت:”لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا” الآية .
وقال مجاهد: كان الرجل إذا توفى أبوه، كان أحق بامرأته، ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها، أو يُنكحها إن شاء أخاه أو ابن أخيه قال ابن جريج، وقال عكرمة نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم، من الأوس، توفّى عنها أبو قيس بن الأسلت، فجنح عليها ابنه .
فجاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا نبي الله، لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تُركت فأنكح! فنزلت هذه الآية( ).
ونزل القرآن بتحريم الوأد , قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( )، (جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعتق عن كل واحدة رقبة ، قال إني صاحب إبل . قال : فأهد عن كل واحدة بدنة )( ).
ونزل القرآن بقبول شهادة المرأة في العقود والمعاملات وذكرها على نحو التعيين لدفن ذات عادة الوأد ، أي أن تحمل وأداء المرأة الشهادة لم تختص بالسنة النبوية بل وردت في القرآن، كي يتلوها المسلمون في صلاتهم خمس مرات في اليوم، ليكون قوله تعالى[فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ]( )، دعوة لإكرام المرأة، وحضورها مجالس القضاء للأداء بشهادتها .
ويجوز أن يبعث القاضي من ينيب عنه لسماع شهادتها إن كانت من ذوات الخدر، كما جعل الإسلام لها نصيبها من الإرث أماً أو زوجة أو بنتاً أو أختاً .
ولا يختص إكرام الإسلام للمرأة بالعرب وأهل الجزيرة بل يشمل أقطار الأرض كلها، لأن المسلمين من أمم شتى ولقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
وأسقط الإسلام عن المرأة الجهاد فلا يجوز تسخيرها لأمور القتال ومقدماته ، وهو من الإكرام الإضافي لها ، كما بين الإسلام لزوم تقيد المرأة بالعفة والطهارة وطاعة الوالدين ، فقوله تعالى [فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ] ( ) يشمل البنات مثلما يتعلق بالبنين .
وليس من شريعة تتضمن تفاصيل الصلة الزوجية وواجبات الزوجة أزاء الزوج وبالعكس مثل الإسلام .
وجعل الإسلام لها حصة في الميراث ليترشح عنه جواز العمل والتجارة والمضاربة ، وعدم التضييق عليها وسلبها حقوقها ، ولها الحق بالإقراض من مالها , وفي الحديث : الناس مسلطون على أموالهم .
وتقدير آية البحث بخصوص المرأة من جهات :
الأولى : إذا إستدنتم من امرأة فاكتبوه .
الثانية : إذا داينتم امرأة فاكتبوه .
الثالثة : إذا تداينت النساء بينهن فاكتبوه لتوجه الخطاب والأمر بكتابة الدَين في آية البحث إلى المسلمين والمسلمات جميعاً بدليل إبتداء الآية بنداء الإيمان .
الرابعة : إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى لتكتب بينكم كاتبة بالعدل .
الخامسة : ولا تأبى كاتبة أن تكتب كما علمها الله .
السادسة : ولتملل التي عليها الحق ، ولتتق الله .
والقرآن مدرسة التقوى للرجال والنساء فيأتي الأمر بالتقوى للمرأة على نحو مستقل ، ويأتي لها مع عموم المسلمين ، ويرد بصيغة المفرد أو الجمع المذكر ليشمل المفردة المؤنثة وجمع المؤنث.
ومن أسرار مجئ نداء الإيمان في أول الآية إنصاف المرأة ، قال تعالى [ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ]( ) وأنها تكون طرفاً في الدَين ، وفي الصلح وتحمّل قسط من شروطه ، كما لو قامت الوالدة بضمان ما على ولدها أو ضمان الأخت ما على أخيها من الديون والحقوق إلى أجل معلوم مع إمكان قدرتها على الوفاء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) .
وكانت بعض النسوة ترغب أن تكون سبباً للصلح بين القبائل وتقوم ببذل المال لدره الفتنة .
وعن (سهل بن أبي سهل التميمي عن أبيه قال: حج معاوية، فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحجون، يقال لها دارمية الحجونية، وكانت سوداء كثيرة اللحم، فأخبر بسلامتها، فبعث إليها فجيء بها، فقال: ما حالك يا إبنة حام؟ فقالت: لست لحام إن عبتني، أنا امرأة من بني كنانة؛ قال: صدقت، أتدرين لم بعثت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله؛ قال: بعثت إليك لأسألك علام أحببت علياً وأبعضتني، وواليته وعاديتني؟ قالت: أوتعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك؛
قالت: أما إذ أبيت، فأني أحببت علياً على عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتالك من هو أولى منك بالأمر، وطلبتك ما ليس لك بحق؛ وواليت علياً على ما عقد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الولاء، وحبه المساكين، وإعظامه لأهل الدَين ، وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى؛
قال: فلذلك انتفخ بطنك، وعظم ثدياك، وربت عجيزتك؛ قالت: يا هذا، بهند والله كان يضرب المثل في ذلك لا بي، قال معاوية: يا هذه اربعي، فإنا لم نقل إلا خيراً، إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها، وإذا عظم ثدياها تروى رضيعها، وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها؛ فرجعت وسكنت.
قال لها: يا هذه هل رأيت علياً؟ قالت: إي والله؛ قال: فكيف رأيته؟ قالت: رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك؛ قال: فهل سمعت كلامه؟ قالت: نعم والله، فكان يجلو القلب من العمى، كما يجلو الزيت صدأ الطست؛
قال: صدقت، فهل لك من حاجة؟ قالت: أو تفعل إذا سألتك؟ قال : نعم، قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فحلها وراعيها؛ قال: تصنعين بها ماذا؟ قالت: أغذوا بألبانها الصغر، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين العشائر؛ قال: فإن أعطيتك ذلك، فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب؟ قالت: ماء ولا كصداء، ومرعى ولا كالسعدان، وفتى ولا كمالك، يا: سبحان الله، أو دونه؟. فأنشأ معاوية يقول:
إذ لم أعد بالحلم مني عليكم . ..فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم
خذيها هنيئاً واذكري فعل ماجد .. جزاك على حرب العداوة بالسلم
ثم قال: أما والله لو كان علي حياً ما أعطاك منها شيئاً؛ قالت: لا والله، ولا وبرة واحدة من مال المسلمين) ( ).
لقد بدأ الإسلام حياة جديدة للناس تتقوم بالإنصات للمرأة وسماع قولها ، وأخذ الموعظة والعبرة من كلامها فاقبلت المسلمات على تعلم آيات القرآن والتدبر في معانيه وإتخاذه لساناً ناطقاً , وواقية من المهالك يبعث فيهن نداء الإيمان الرغبة في التفقه في الدين .
ليبني نداء الإيمان صرح التقوى بين المسلمين ويجعل النساء يتسابقن مع الرجال في مسالك الطاعة لله ورسوله وحفظ العقود والشهادة عليها .
الوجه الثامن : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا إستشهدوا ممن ترضون من الشهداء )
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا محلاً للحاجة بين الناس ، ليس من إنسان إلا ويحتاج غيره , والكل محتاجون لرحمة الله, ليكون تأكيداً يومياً لقانون الملازمة بين عالم الإمكان والحاجة ، فكل ممكن محتاج ، والإنسان مخلوق ممكن .
ومن بديع صنع الله عز وجل في خلق الإنسان أنه يدرك أن الذي يحتاج إليه من الناس هو أيضاً محتاج ، وأن قدرته على قضاء حاجته محدودة ، ولا تمر الأيام إلا ويرى الذي كانت حاجته إليه وقد ضاقت عليه السبل في صحته أو ماله أو قضية عين في واقعة ليستقرأ كل الناس قانون حاجتهم مجتمعين ومتفرقين لله عز وجل وتبين آية البحث وجوه هذه الحاجة ، فالتداين بين الناس نوع حاجة من المدين إلى المال ، وأمر آية البحث بكتابة الدَين والشهادة عليه , منع لترتب الخلاف على هذه الحاجة أو تعطيل قضائها.
وتحتمل الحاجة إلى الكاتب والشاهد وجوهاً :
الأول : حاجة الدائن ليضمن حقه والحصول عليه في أجل القضاء والوفاء .
الثاني : حاجة الدَين إلى الكاتب والشاهد لمنع إدعاء ما هو أكثر من الدَين والقرض والشروط.
الثالث : حاجة عموم المسلمين لتوثيق الديون بين الأفراد منهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وهو من الدلائل على مجئ نداء الإيمان في أول آية البحث .
وتدل الآية على بلوغ المسلمين مراتب التقوى إذ يختارون من بينهم شهوداً على العقود والديون، والوصايا والمواريث والودائع، لإفادة (ممن ترضون) التبعيض وأن الذين يصلحون للشهادة من المسلمين كثيرون، خاصة وأن الشهادة أعم من أن تختص بالديون، إذ تشمل عقود البيع والشراء ونحوه لقوله تعالى في ذات آية البحث [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ].
ويفسر القرآن بعضه بعضاً ، ويفيد قوله تعالى [وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ]( )، بيان مصداق للرضا في أشخاص الشهود وصفاتهم وإتصافهم بالإيمان والعدالة، كما جاء القرآن بعدم قبول شهادة الذي أقيم عليه حد الجلد بسبب الإفتراء إلا أن يتوب، قال تعالى[وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، وذكر الذي يحد بسبب الإفتراء من باب المثال الأمثل إذ تشمل الآية غيره من مرتكبي المعاصي.
ووجوب توبتهم وإنابتهم، وإقبالهم على فعل الخيرات وتعاهد الفرائض ومنها الصلاة مع جماعة المسلمين .
ويختلف المفتري بكيفية توبته فلابد له من تكذيب نفسه والإخبار بأن رميه المؤمنات بالفاحشة كان كذباً وزوراً، وكذا بالنسبة لتوبة السارق بأن يعيد حق الناس الذي سرقه، ففي السرقة حقان:
الأول : حق الله، وهو القطع، قال تعالى[وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً]( ).
الثاني : حق الآدمي، وهو إعادة ماله المسروق , وإذ تعطلت الحدود في كثير من البلدان في هذا الزمان ويقوم كثير من الناس بنقل الإشاعة التي تتضمن وفق الشريعة الإفتراء .
ووقع في البصرة عندما كان المغيرة بن شعبة والياً عليها أن إجتمع الأخوة من الأم أبو بكرة وهو صحابي مشهور وإسمه نفيع الثقفي، ونافع بن الحارث بن كله الثقفي وهو صحابي أيضاً، وشبل بن معبد بن عتيبة البجلي من المخضرمين وزياد بن أبيه، وكان يسمى زياد بن عبيد، وامهم هي سمية مولاة الحارث بن كلدة، فجاء المغيرة ووجدهم جلوساً، فسلم على أبي بكرة فقال له: ايها الأمير ما أخرجك من دار الأمارة، كأنه خشي عليه، أن يمشي في الطرقات: فقال : أتحدث إليكم .
فقال أبو بكرة : بل تبعث إلى من تشاء.
ثم دخل ، فاتى العشية باب أم جميل بنت عمرو، وزوجها الحجاج بن عتيك بن الحارث فدخل بيتها، فقال أبو بكرة : ليس على هذا صبر ، وقال لغلام : إرتقي غرفتي، فأنظر من الكوة، فانطلق، فنظر فوجدهما في لحاف فعاد وأخبر أبي بكرة ، وسمي أبو بكرة لأنه في حصار الطائف رمى بكرة متصلة بحبل من على حصن المدينة ثم أطل على المسلمين فاراً الى الله ورسوله، وكناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أبا بكرة واختصه فكان من مواليه( ).
إذ أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه عبد، فاعتقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقيل أن ثقيفاً سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد عليهم أبا بكرة عبداً .
فقال : لا هو طليق الله وطليق رسوله، وأختلف هل هو ابن الحارث بن كلدة أم أنه عبد له.
وعن قتادة أن أبي بكرة ونافع بن الحارث بن كلدة وشبل بن معبد شهدوا على المغيرة بن شعبة أنهم رأوه يولجه ويخرجه وكان زياد رابعهم وهو الذي أفسد عليهم فأما الثلاثة فشهدوا بذلك فقال أبو بكرة والله لكأني بأير جدري في فخذها فقال عمر حين رأى زيادا إني لأرى غلاما كيسا لا يقول إلا حقا ولم يكن ليكتمني شيئا فقال زياد لم أر ما قال هؤلاء ولكني قد رأيت ريبة وسمعت نفسا عاليا قال فجلدهم عمر وخلا عن زياد)( ).
وكان أبو بكرة ينكر أنه ولد الحارث، ويقول: أنا أبو بكرة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن أبى الناس إلا أن ينسبوني، فأنا نفيع بن مسروح( ).
وعندما أخبر الغلام أبا بكرة ما رأى قال للقوم، قوموا معي، فقاموا فنظر أبو بكرة من الكوة فاسترجع، ثم قال لأخيه : أنظر ، فنظر فقال : رأيت الزنا محضاً، ولما نظروا , وتقدم المغيرة للصلاة بهم، منعه أبو بكرة، وقال : لا تصلي بنا، وذكر أن المغيرة وأبا بكرة كانا متجاورين، وبينهما طريق وأن بينهما تنافرا، أي أن أم جميل هي التي جاءت إلى بيت المغيرة، وكانت تغشاه وبعض الأمراء والأشراف.
ولما قال عمر لأبي بكرة: تب لتقبل شهادتك، قال: إنما أتوب لتقبل شهادتي؟ قال: نعم، قال: لا جرم، لا أشهد بين إثنين أبداً، وكان الناس يأتونه يسألونه الشهادة فيعتذر لهم.
ومات أبو بكرة بالبصرة سنة إحدى وخمسين للهجرة( )، وأمر أن يصلي عليه أبو برزة الأسلمي، وقال الحسن البصري: لم يسكن البصرة أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من عمران بن الحصين وأبي بكرة).
وفي الدلائل عن عمران بن الحصين قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبلت فاطمة رضي الله عنها وقفت بين يديه، فنظر إليها، وقد ذهب الدم من وجهها، وغلبت الصفرة على وجهها من شدة الجوع، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال: ادني يا فاطمة، ثم ادني يا فاطمة، فدنت حتى قامت بين يديه، فرفع يده فوضعها على صدرها في موضع القلادة وفرج بين أصابعه، ثم قال: اللهم مشبع الجوعة، وقاضي الحاجة ورافع ، ارفع فاطمة بنت محمد، قال عمران: فنظرت إليها وقد ذهبت الصفرة من وجهها، وغلب الدم كما كانت الصفرة غلبت على الدم، قال عمران: فلقيتها بعد فسألتها، فقالت: ما جعت بعد ذلك يا عمران، والأشبه أنه إنما رآها قبل نزول آية الحجاب)( ).
الوجه التاسع : تقدير الآية: يا أيها الذين آمنوا أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) .
لقد جاء القرآن بحرمة الربا، والغلظة في المنع من الفائدة الربوية على القرض، وجاءت آية البحث والتي تسمى عند كل جيل من المسلمين بآية الدَين بضبط الديون والقروض :
لقد توجه النداء للمسلمين في التداين وتوثيق الديون، والذي يدل في مفهومه على عدم ترك هذا التوثيق بيد غيرهم من أهل الملل الأخرى كيلا يدّب الربا إلى معاملاتهم عن قصد وعمد، أو لأنه أمر مستساغ عند الملل الأخرى، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( ) .
فذكرت الآية أعلاه لفظ الخبال، وقد ورد ذات اللفظ في مواساة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند قعود المنافقين عن معركة أحد , قال تعالى[لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً]( ).
وفي الآية أمارة على أخذ الحذر والحيطة من دبيب الربا عن طريق تولي غير المسلمين تنظيم وتوثيق وكتابة الدَين، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التحذير من الربا في آخر الزمان لذا قيدت الآية صفة الشهود بأنهم من المسلمين والمسلمات وممن يصلح لتحمل الشهادة وأدائها رجلاً كان أو امرأة مع تفصيل بخصوص شهادة المرأة من وجوه :
الأول : لزوم أن تكون الشاهدة مسلمة تؤدي الفرائض والعبادات لقوله تعالى[شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ]( )، وتقدير الآية: أو رجل وإمرأتين منكم).
الثاني : أولوية شهادة الرجلين ، نعم لو حضرت إمرأتان يعرفان بالوثوق ورجل مجهول أو غير معروف بالعدالة والضبط تقدم المرأتان ، وهو من الإعجاز في قوله تعالى [فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ]إذ لا تعني الآية الأولوية المطلقة للرجال دائماً .
الثالث : إختيار المرأة للشهادة من قبل المتبايعين أو طرفي القرض وعامة المسلمين لقوله تعالى [وَاسْتَشْهِدُوا]ومن خصائص إبتداء الآية بنداء الإيمان وصيغة الجمع في الآية بيان موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المقام ، فيجوز للمؤمنين التدخل في الشهادة وتعيين الشهود وبما يضمن الحق ويمنع اللبس والظلم .
الرابع : شهادة إمرأتين محل شاهد ذكر واحد.
وهل يمكن القول أن الأصل في الشهادة رجلان، وأن شهادة المرأة على نحو البدلية وعند تعذر شهادة الرجلين، الجواب نعم، ولكن ليس على نحو الإطلاق , فلم تأت الآية بلغة العطف والترديد: وإستشهدوا شهيدين من رجالكم أو رجل وإمرأتان.
بل جاءت بصيغة الشرط والنفي فإن لم يكونا رجلين، لبيان أولوية شهادة الرجال في الشهادة لضبط الديون وصفاتها، لا عن قصور من المرأة بل لأن الرجال يتعاطون التجارة والمعاملات وكأن الشهادة على الدَين نوع جهاد أصغر يتولاه الرجال ولا تنتقل الشهادة إلى النساء إلى للتخفيف واليسر، والإكتفاء بحضور رجل وإمرأتين , ورب شهادة امرأة أوثق من شهادة رجل , لذا جاءت الآية بالسعة والمندوحة .
وهل يمكن القول: لا ينتقل إلى شهادة النساء إلا مع الضرر والضرورة , الجواب لا، فلم تقل الآية: فإن لم تجدوا شاهدين فرجل وامرأتين، بل تعلقت البدلية بذات الشهود لأن الشهادة أمر كفائي ونوع تطوع، وتقدير الآية أعلاه على وجوه:
أولاً : فإن لم يكن الشاهدان رجلين.
ثانياً : فإن لم يكن الشاهدان رجلين فلا يتعطل التداين بينكم.
ثالثاً : فرجل وامرأتان وظنوا خيراً بالنساء.
رابعاً : فرجل وإمرأتان ولا تأب النساء إذا دعين إلى الشهادة.
خامساً : يا أيها الذين آمنوا إستشهدوا رجلاً وإمرأتين ممن ترضون من الذين آمنوا .
ترى ما هي النسبة بين الذين آمنوا والذين ترضون من الشهداء والجواب هو العموم والخصوص المطلق، إذ توجه النداء للمعنى الأعم وهم الذين آمنوا، وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي النداء للعموم الإستغراقي لتكون هناك مندوحة وسعة في الإختيار، ليكون المسلمون بلحاظ الآية على أقسام:
الأول : الذين يتوجه لهم نداء الإيمان في أول الآية، وهم كل المسلمين والمسلمات.
الثاني : الذي يصدق عليهم لفظ الشهداء من البالغين ذكوراً وأناثاً.
الثالث : الذين يصلحون للشهادة، والذين نعتهم الله عز وجل بلفظ(من ترضون من الشهداء).
الرابع : الذين يشهدون على التداين والعقود.
الخامس : الشاهدان الخاصان بكل عقد تداين ونحوه.
السادس : الشاهد والمرأتان في كل عقد يتم إختيارهم للشهادة، ومن الإعجاز في المقام أن الضابطة الكلية هو الإسلام والنطق بالشهادتين، وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين من جهات:
الأولى : موضوعية التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تحقيق مصداق الإيمان , فمن وجوه تقدير الآية: يا أيها الذين آمنوا بنبوة محمد .
الثانية : تعيين خصال الشهود من عند الله عز وجل , وبيانها وتقييدها في القرآن بالإسلام سواء للرجل أو المرأة الشاهدة من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فما أن يدخل الإنسان الإسلام ويصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان حتى يكون أهلاً للشهادة على حقوق الناس ، وحاضراً في الفصل في الخصومات بلباس العدل والإنصاف .
الثالثة : الشهادة على الدَين والعقود شهادة بالعدالة لمن يتم إختياره للشهادة من قبل المؤمنين، إذ تتضمن الآية معنى العموم الإستغراقي، والكثرة في الذين يقومون بإختيار الشهود، فإن قلت القدر المتيقن هو أطراف الدَين لقوله تعالى(إذا تداينتم)، الجواب من وجوه:
الأول : جاءت الآية بصيغة الجمع، مما يدل على إرادة العموم، فلم تقل الآية ( إذا تداينتما بدين )، وهل جاءت صيغة الجمع هذه بالتداين للنسق اللفظي لإبتداء الآية بنداء الإيمان , الجواب لو دار الأمر بين إرادة المعنى الظاهر من الآية، والتبعية اللفظية فالجواب هو الأول .
الثاني : تفيد الآية معنى حصول التداين العام من وجوه:
أولاً : التداين بين جماعتين.
ثانياً : التداين بين جماعة ومفرد، بأن يكون الدائن جماعة أو جهة، والمديون شخص واحد.
ثالثاً : الدائن فرد واحد، أما المديون فهم جماعة.
الثالث : بيان قانون وهو أن التداين وإن كان شخصياً إلا أنه أمر يشمل المسلمين عموماً .
وطرق إثبات الحق :
الأول : العلم والقطع .
الثاني : البينة، وهو شاهدان عدلان .
الثالث : اليمين سواء كان من المدعى عليه أو من المدعي عندما يرد عليه اليمين.
الرابع : الإقرار من الذي عليه الحق .
الخامس : القرعة : وهي للأمر المشكل وفي باب الشهادة ورد عن سعيد بن المسيب قال : اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر ، فجاء كل واحد منهما بشهداء عدول على عدة واحدة ، فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقال: اللهم أنت تقضي بينهما ، ورواه ابن مريم ، عن الليث ، وزاد: فقضي للذي خرج له السهم ( ).
وذكر أن الإمام علي عليه السلام كان يعمل بالقرعة في الكوفة، ولو أفاد العلم الحديث كشف الحقيقة فهل يغني عن القرعة الجواب نعم، لعدم تحقق الإشكال .
قانون آية البحث ألفة وتآلف
التداين بين المسلمين وتنزههم عن أكل الربا من مصاديق قوله تعالى [وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ) فليس من قانون يقهر النفس الشهوية ويمنع من أكل الربا في الأجيال المتعاقبة إلا الآية القرآنية النازلة من عند الله ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن ، وآية البحث من مصاديق التآلف بين قلوب المسلمين من جهات :
الأولى : تجلي معاني الألفة والمحبة في نداء الإيمان من وجوه :
أولاً : نزول نداء الإيمان من عند الله إخبار سماوي عن الأخوة والألفة بين المسلمين .
ثانياً : رسم نداء الإيمان وجزئيته من القرآن شاهد الرأفة والمحبة بين المسلمين .
ثالثاً : تلاوة المسلمين لنداء الإيمان بذات الصيغة والألفاظ إتحاد بينهم ، وكأن كل مسلم يخاطب عموم المسلمين والمسلمات [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] ليدخل الابن في تلاوة ونداء الأب وبالعكس .
ولو كانت هناك غضاضة وخصومة بين طرفين أو فئتين أو دولتين من المسلمين فان أي واحد منهم يتلو نداء الإيمان ينادي ويخاطب به أفراد الطرف الآخر طوعاً أو قهراً وإنطباقاً , لتفنى الخصومة والخلاف بين ثنايا هذا النداء البهيجة .
الثانية : نداء الإيمان روضة ناضرة يشتاق كل مسلم للتنعم في جنباتها بتلاوة النداء ومضامين آيات النداء ومنها آية البحث ، ومن ينشغل بأمور الحياة وشؤونه اليومية يحل وقت الصلاة لتجذبه إلى الرياض السماوية التي نبعث الألفة بين المسلمين .
الثالثة : التداين بين المسلمين ، وصيرورته مدخلاً لقضاء الحوائج بينهم بشآبيب المودة والأخوة .
ولو كان الدَين بين الزوج وزوجته أو الأب وإبنه فهل فيه من معاني الأخوة , الجواب نعم فهي الأخوة الإيمانية وتعاهدها في الأسرة وجعلها تركة مباركة للورثة .
الرابعة : في الدَين طرفان الدائن والمدين، والأول هو الأعلى في هذه المسألة ، ولكن نداء الإيمان وقوله [إِذَا تَدَايَنتُمْ] ينسخ هذا التباين ، ويجعل كل من الطرفين يشعر بالعز والشأن , يسعى في مرضاة الله .
ليكون التداين بين المسلمين وإقترانه بالعز للطرفين من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الخامسة : يكرم المسلمون الغني الذي يقوم باقراض ماله ، وينظرون بعين الرأفة للمحتاج للدَين .
السادسة : تغشي الدعاء والشكر لله لحال الدائن والمدين ، ليكون هذا الشكر الجامع المشترك بين المسلمين .
السابعة : رأفة الشهود بطرفي الدَين ، والرأ فة العامة بالنساء عند تحمل الشهادة وعند أدائها ، وتتجلى في الآية الدعوة إلى اللطف بهن بقوله تعالى [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى].
الثامنة : مجئ الآية بالإحسان للكاتب والشاهد بقوله تعالى [وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ].
التاسعة : تأكيد آية البحث للرفق والمودة بين المسلمين بالتجارة الحاضرة والتي يديرونها يداً بيد على نحو يومي .
العاشرة : توثيق الدَين بكتابته من قبل كاتب عدل ، والشهادة عليه من قبل شهود عدول تنمية لملكة المودة بين المسلمين .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (مثل المؤمنين في تَوادِّهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر”. وفي الصحيح أيضا: “المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا” وشبك بين أصابعه) ( ).
الحادية عشرة : تضمنت آية البحث الأمر للمسلمين بتقوى الله، ومن التقوى التواد والألفة بينهم بصيغة الإيمان والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما أن الألفة من رشحات التقوى ، وليكون التداين بين المسلمين وكتابته والإشهاد عليه من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
الثانية عشرة : مع ورود لفظ [يعلمكم] ثلاث مرات في القرآن كلها في سورة البقرة وعدم ورود لفظ [يعلمكم الله ] إلا في آية البحث , ليكون مما يُعلم الله عز وجل المسلمين التداين بصيغ المودة والرفق , وصيرورة المودة والألفة بينهم مقدمة للتداين ومقارنة له ، ومترشحة عنه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
الوجه العاشر : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا ذلكم أقوم للشهادة ) لقد تفضل الله عز وجل بنداء الإيمان مقدمة ومدخلاً لأحكام التداين بين المسلمين لغايات حميدة تعجز الخلائق عن الإحاطة بها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ] ( ) بتقريب تعلق عجز الخلائق بخصوص الإتيان بمثل القرآن في ذاته وكلماته وغاياته التي تأخذ بأيدي الناس إلى النعيم الدائم .
ومن أسرار إبتداء الآية بنداء الإيمان عدم قدرة غير المسلمين على التقيد بأحكام التداين وفق القيود التي جعلها الله عز وجل ، وكل فرد منها رحمة ونعمة وآية في العالمين ، ليرى أهل الأرض كيف أن المسلمين يتعاملون وفق سنن سماوية نازلة لا تقبل الترديد والخطأ ، وتمنع من الحيف والظلم .
لقد بينت آية البحث أحكام الشهادة على الدَين والقرض ، ليتفضل الله عز وجل ويتعاهد الشهادة بضابطة كلية من جهات :
الأولى : كتابة وتوثيق الدَين وإن كان صغيراً أو قليلاً .
الثانية : كتابة الدَين إن كان كبيراً وكثيراً .
الثالثة : عدم الملل أو الضجر من كتابة وتوثيق الدَين مهما كان مقداره .
الرابعة : ذكر أجل الدَين والقرض عند الكتابة وعدم التهاون بخصوص الأجل في تعيينه.
الخامسة : لزوم عدم صيرورة قرب أجل قضاء الدَين سبباً لعدم كتابته .
السادسة : قد يطمئن الدائن من الدين في القضاء ، فجاءت آية البحث مطلقة ، أي حتى مع الطمأنينة والوثوق لابد من كتابة الدَين والشهادة عليه .
السابعة : لعل الدائن يستحي من المدين بكتابة الدَين والإشهاد عليه فتفضل الله عز وجل ومنع من هذا الإستحياء بالإطلاق في الشهادة على الدَين وكتابته ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ].
وتبين الآية قانوناً وهو أن الكتابة تأكيد وإمضاء للشهادة من جهات :
الأولى : تزكية الشهادة بالكتابة ، إذ تدل على أن المسلمين صادقون في شهادتهم ، والشهادة الصادقة برزخ دون الظلم والإرهاب( ).
الثانية : صيرورة الشهادة على الدَين حجة في عدالة الشاهد ، وهو من الإستدلال من المعلول على العلة ، فالأصل أن عدالة الرجل تدل على صحة شهادته ، ولكن تأتي الكتابة لتبين شهادته على الدَين لعدالته ، وفيه تخفيف عن المسلمين عامة والحكام خاصة بتعدد وجوه الإستدلال على عدالة المسلم .
الثالثة : تصديق كتابة الدَين وذكر أجله لشهادة إثنين من المسلمين مقدمة لتصديق شهادتهما فيما ليس فيه كتابة من الحدود والحقوق إلا مع القرينة على الخلاف .
الرابعة : بيان قانون وهو أن الله عز وجل يحب كتابة وتوثيق الدَين لقوله تعالى [ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ] وما دامت كتابة الدَين محبوبة عند الله فلابد أن يتخذها المسلمون منهاجاً ، ليحسن القضاء ويتجدد الدَين والقرض بين الناس بذات المبلغ الذي تم التداين به أو بغيره .
والأصل هو مضاعفة التداين عند تحقق وإشاعة الوفاء بين الناس ، ويحصل العكس عند الإمتناع عن الوفاء والقضاء ، لذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن الناس قضاءً للدَين والقرض ليقتدي المسلمون به .
وعن عائشة قالت (ابْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَعْرَابِ جَزُورًا أَوْ جَزَائِرَ بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةِ وَتَمْرُ الذَّخِرَةِ الْعَجْوَةُ فَرَجَعَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِهِ وَالْتَمَسَ لَهُ التَّمْرَ فَلَمْ يَجِدْهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّا قَدْ ابْتَعْنَا مِنْكَ جَزُورًا أَوْ جَزَائِرَ بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرِ الذَّخْرَةِ فَالْتَمَسْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ .
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ وَا غَدْرَاهُ , فَنَهَمَهُ النَّاسُ وَقَالُوا قَاتَلَكَ اللَّهُ أَيَغْدِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا ثُمَّ عَادَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّه إِنَّا ابْتَعْنَا مِنْكَ جَزَائِرَكَ وَنَحْنُ نَظُنُّ أَنَّ عِنْدَنَا مَا سَمَّيْنَا لَكَ فَالْتَمَسْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ .
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ وَا غَدْرَاهُ فَنَهَمَهُ النَّاسُ وَقَالُوا قَاتَلَكَ اللَّهُ أَيَغْدِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا فَرَدَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا .
فَلَمَّا رَآهُ لَا يَفْقَهُ عَنْهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ اذْهَبْ إِلَى خُوَيْلَةَ بِنْتِ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ فَقُلْ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكِ إِنْ كَانَ عِنْدَكِ وَسْقٌ مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةِ فَأَسْلِفِينَاهُ حَتَّى نُؤَدِّيَهُ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَذَهَبَ إِلَيْهَا الرَّجُلُ ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ فَقَالَ قَالَتْ نَعَمْ هُوَ عِنْدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَابْعَثْ مَنْ يَقْبِضُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ اذْهَبْ بِهِ فَأَوْفِهِ الَّذِي لَهُ .
فَذَهَبَ بِهِ فَأَوْفَاهُ الَّذِي لَهُ , فَمَرَّ الْأَعْرَابِيُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَوْفَيْتَ وَأَطْيَبْتَ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أُولَئِكَ خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُوفُونَ الْمُطِيبُونَ ) ( ).
ومن معاني ودلالات الجمع بين نداء الإيمان وقوله تعالى [ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ]نفاذ أحكام العدل والإنصاف بين الناس والمنع من حال الهرج والمرج ، ويكون فعل أهل الإيمان مرآة للتقوى فهم يبادرون إلى الإقراض إذا كان عندهم مال ، وقد يقرضونه مع حاجتهم إليه طلباً للثواب وقضاء حاجة المسلم ولعمومات قوله تعالى [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] ( ) لبيان أن الإيمان نعمة في المعاملات وهو سبيل مبارك لطمأنينة النفوس .
وتقدير نداء الإيمان في الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا بأن الله يدعوكم إلى التداين بينكم ولا يصل هذا الأمر إلى الوجوب لتجلي وبيان الواجبات , ومجئ الآية بصيغة الجملة الشرطية [إِذَا تَدَايَنتُمْ].
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بوجوب كتابة الدَين وتعيين أجله .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بلزوم الشهادة على الدَين بشاهدين عدلين أو شاهد وإمرأتين .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا بأن التداين بينكم قطع للربا ، ومنع منه إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار القرآن ببقاء وتجدد أحكامه في كل يوم من أيام الحياة الدنيا ، لذا ترى نفوس المسلمين تنفر من الربا ، ويذكرون المربي بالذم ز
وهل هذا الذم من الغيبة التي حرم الله عز وجل ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا] ( ) .
الجواب لا ، لأن الذي يتعاطى بالربا يجهر به بلحاظ أنه نوع مفاعلة بين طرفين مع وجود كاتب وشاهدين عليه ، فليس إعطاء الربا مثل فعل المعصية خفية عن الناس ، وفي ذم المربي الذي يقرض الناس بالفائدة الربوية تعظيم لشعائر الله وتعاهد لأحكام القرآن ، ومنع من نشر الفساد في الأرض بلحاظ أن الربا فساد محض .
وهل الربا من مصاديق إحتجاج الملائكة عندما أخبرهم الله عز وجل عن جعله خليفة في الأرض [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) الجواب نعم .
وقد تقدم بيانه، فمن أسرار وعلل صيرورة آية الدَين أطول آية في القرآن حربها على الربا، ومنعها النفوس من الشطط والميل إلى أكل المال الحرام، قال تعالى[إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي]( ) .
فمن رحمة الله عز وجل نزول آية الدَين والتداين بين المسلمين، وفيها زجر قرآني عن الإقتراض بالفائدة الربوية .
ومن الناس من يستحي من سؤال القرض , ويحتمل إعتذار أو رد الطرف الآخر له، وحتى إذا لم يرده فانه يكون قد تفضل عليه، فيصبر على الحاجة , أو يميل إلى الإقتراض بالفائدة والربح على طلب القرض فجاءت آية البحث لمنع هذا الإستحياء، ومنع الحرج وبيان قانون وهو إنتفاء موضوع هذا الإستحياء .
وفي الدَين ثواب عظيم للدائن , وآية الدَين ترغب بالدين، ويكون الربا مصادرة لعمل العامل، وغصباً لكسبه بالشرط الربوي الباطل، فيعمل العامل لقوت عياله ولدفع المال الربوي، وقضاء رأس مال الدَين مع أنه في الأصل محتاج إليه مع سخط على المربي أما الدَين والقرض فانه باعث للعمل والكسب، ومناسبة للدعاء لقضاء الدَين مع إمتنان ورضا من المقرض، لأن قيامه بالإقراض نوع إحسان ولطف لذا وردت النصوص المستفيضة في الثواب والأجر عليه.
والقرض الحسن مصداق للصدقة والإحسان والتراحم , وعن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كل قرض صدقة)( ).
ويبين الحديث التالي كيف أن أبناء الأنصار إجتهدوا في طلب العلم وتوثيق السنة النبوية بما يفيد العمل بآيات القرآن وما فيها من الأوامر والنواهي والأحكام، وأن الأب لم يستنكف من السعي في طلب العلم مع إبنه , ومن العلم التفقه بآية الدين وما فيها من الأحكام والمسائل .
إذ ورد عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا فكان أول من لقينا أبا اليسر ( )صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه غلام له معه ضمامة من صحف وعلى أبي اليسر بردة ومعافري وعلى غلامه بردة ومعافري فقال له أبي يا عم إني أرى في وجهك سفعة من غضب .
قال أجل كان لي على فلان بن فلان الحرامي مال فأتيت أهله فسلمت فقلت ثم هو ؟ قالوا لا فخرج علي ابن له جفر فقلت له أين أبوك ؟ قال سمع صوتك فدخل أريكة أمي فقلت اخرج إلي فقد علمت أين أنت فخرج , فقلت ما حملك على أن اختبأت مني ؟ قال أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك خشيت والله أن أحدثك فأكذبك وأن أعدك فأخلفك , وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت والله معسرا .
قلت آلله قال الله قلت آلله قال الله قلت آلله قال الله قال فأتى بصحيفته فمحاها بيده فقال إن وجدت قضاء فاقضني وإلا أنت في حل فأشهد بصر عيني هاتين ( ووضع إصبعيه على عينيه ) وسمع أذني هاتين ووعاه قلبي هذا ( وأشار إلى مناط قلبه ) رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يقول من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله( ).
الوجه الحادي عشر : يا أيها الذين آمنوا ذلكم أدنى ألا ترتابوا ) تتضمن الآية دفع الريب والشك ، وفيه معنيان :
الأول : دفع الريب في أمور عامة غير الدَين ، خاصة وأن الآية وردت بصيغة الإطلاق [أَلاَّ تَرْتَابُوا] لتفيد الآية وجوهاً :
أولاً : تمنع الآية من الإرتياب بتنزيلها من عند الله فالآية محكمة ومستغرقة لأحكام الدَين والقرض ، لبيان قانون وهو الإستدلال من صدق نزول الآية القرآنية على صدق نزول آيات القرآن كلها ولزوم العمل بمضامينها وما فيها من الضوابط والقواعد .
ثانياً : الآية واقية من ظهور الشك والريب بين المسلمين في المعاملات .
ثالثاً : إرادة التسليم بعظيم فضل الله بنزول آية الدَين .
رابعاً : عدم الشك والريب بعمل أجيال المسلمين بمضامين آية الدَين فقد يشك بعضهم ويتساءل هل يبقى المسلمون يعملون بآية الدَين أم يسود الشك والريب فيما بينهم , فتطرد هذه الآية الشك من الوجود الذهني.
خامساً : قد يشك بعضهم أو يرتاب ويظن تجدد المعاملات الربوية فجاءت الآية لتأكيد إنقطاع الربا عند المسلمين وتقيدهم بحرمته في ذات الوقت الذي يعملون بمضامين آية البحث بشوق,حرصاً منهم على المال والحفاظ عليه وملكيته، ولمنع إستحواذ التفكر بإحتمال طرو الحاجة في أي يوم أو الرغبة في التجارة فيه ، وعدم تعطيله في القرض لحين قضائه .
فجاءت آية البحث والأحاديث النبوية لبيان عظيم الأجر والثواب في القرض ، وترشح البركة عاجلاً على المقرض .
وعن رسول الله قال : من نفّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر على مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) ( ) .
الثاني : دفع الشك والوهم بخصوص التداين والقرض من وجوه :
أولاً : تمنع آية البحث من الإرتياب , إذ تقطع الآية بتوجه نداء الإيمان إلى المسلمين والمسلمات جميعاً ، وتقدير نداء الإيمان ( يا أيها المسلمون والمسلمات أنتم المقصودون بآية التداين دائنين ومديونين .
وفية ترغيب للمسلمين والمسلمات للعمل بأحكام آية البحث وإفشاء الدَين والقرض بينهم .
ثانياً : تنزيه المسلمين عن شك بعضهم ببعض في مسألة التداين من جهات :
الأولى : الشك بأن الغني والميسور لا يقرض من ماله .
الثانية : الريب في المدين ألا يقضي الدَين في أجله .
الثالثة : الخشية من عدم كتابة الكاتب بالعدل , وذكر تفاصيل الدَين وأطرافه بالحق وعدم اللبس .
الرابعة : الإرتياب من الشهود ، وهو على شعب :
الأولى : الريب عند تحمل الشهادة أي ساعة القرض .
الثانية : في المدة بين تحمل الشهادة وأدائها , كما لو كان الأداء بعد ثلاثة أشهر ، ويخشى من تبدل قول الشهود أثناء هذه المدة .
الثالثة : الريب من الشهود عند أداء الشهادة ، فحينما يحين أوان أداء الدَين قد يحصل خلاف أو إختلاف بين الدائن والمدين ، فيخشى أحد الطرفين من تبديل الشهود القول عن سهو ونسيان أو غيره ، فتأتي الكتابة للتوثيق والتذكير .
وهل كتابة الدَين والشهادة عليه من عمومات قوله تعالى [فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى] ( ) الجواب القدر المتيقن من الآية أعلاه التذكير بوجوب عبادة الله ونبذ مفاهيم الشرك والضلالة ، ولا مانع من شمول أحكام آيات القرآن بالذكرى لأنها طريق لمعرفة الله وإخلاص العبودية ، والعمل بها إقرار بنزول القرآن من عند الله عز وجل .
وعن الإمام علي عليه السلام (ما أنت بمحدِّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. وقال: حدث الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله) ( ).
ومن مصاديق الذكرى في كتابة الدَين والشهادة عليه أمور :
الأول : التذكير بآية البحث وأنها نازلة من عند الله عز وجل وخاصة بأحكام الدَين والقرض .
الثاني : نيل المسلمين مرتبة العز والفخر مجتمعين ومتفرقين لأن الآية تبدأ بنداء الإيمان الذي يندبهم إلى العمل بمضامين الآية بكرة وعشياً ، فلمّا يستيقظ المسلمون في الصباح الباكر يجدونه حاضراً معهم يستنهضهم لسنن التقوى , وعندما يخرجون من بيوتهم إلى محل العمل والأسواق يصاحبهم ولا يفارقهم .
وحينما يصاحبهم نداء الإيمان في ميادين العمل والأسواق هل يبقى أيضاً في البيوت أم هو فرد واحد لا يقبل التعدد , الجواب هو الأول ، وهو من الإعجاز في الآية القرآنية بحيث تكون حاضرة في كل زمان ومكان ، وهو من أسرار تكرار نداء الإيمان تسعاً وثمانين مرة في القرآن .
الثالث : حين يكتب المسلمون الدَين ويشهدون عليه يذكرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن رسالته رحمة من عند الله لهم وللناس جميعاً ، فلم تتم هذه الكتابة والشهادة إلا بالتوثيق من عند الله عز وجل ، لتكون آية البحث هدى وخيراً محضاً وضابطة شرعية وقانوناً يحكم معاملات المسلمين فيما بينهم ، ومعاملاتهم مع غيرهم وينجيهم من الظلم للذات والغير .
وروى عن أبي سعيد الخدري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا أخبركم بأحبكم إلى الله , قلنا بلى يا رسول الله وظننا أنه يسمي رجلا فقال إن أحبكم إلى الله أحبكم إلى الناس .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا أخبركم بأبغضكم إلى الله قلنا بلى يا رسول الله فظننا أنه يسمي رجلا فقال إن أبغضكم إلى الله أبغضكم إلى الناس .) ( ).
وجاءت آية الدَين لتحبيب كل مسلم إلى الناس بحسن المعاملة وضبط الشهادة ، وإتخاذه الصدق وقول الحق منهاجاً مما يبعث الطمأنينة في النفوس .
وكل كلمة من آية البحث حرب على الإرتياب , وبرزخ دون وقوعه في المعاملات الشخصية والعامة ، ولما تفضل الله عز وجل ونادى المسلمين بنداء الإيمان فانه نزههم من الإرتياب ، وجعلهم الأئمة في نشر معاني السكينة والطمأنينة بين الناس .
وقوله تعالى [وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا ] أي أن كتابة الدَين المؤجل وان كان صغيراً تعاهد للثقة بينكم ، وأقرب إلى الطمأنينة ونفي للشك بينكم وطرد للخلاف والخصومة إذ أن الشك مرتبة من الخلاف ومقدمة له , وفيه حث للناس لإكرام وهيبة المسلمين .
وهناك كلام شائع بين الناس وهو (الدِين المعاملة ) وبعضهم يجعله من الحديث ، وليس هو من الحديث وغير موجود في كتب الحديث عند عموم المسلمين ، ثم أنه يتنافى مع الأصل وهو أن الدين هو عبادة الله ، وأن الفرائض العبادية مقدمة على المعاملات ، إنما تكون المعاملة رشحة من رشحات العبادة والفرائض ، وهل يصح القول بأن (الدين المعاملة ) مثل يجري على الألسن ، الجواب أنه لا يرقى إلى الأمثال وما لها من الضوابط وما تبنى عليه من الخلال ، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] ( ) نعم يمكن أن يقال ( من الدين المعاملة ) لوجوه :
الأول :المعاملات مرآة للفرائض العبادية وأداء المسلم لها .
الثاني : إرادة التبعيض بلحاظ أن أحكام المعاملات جزء من الشريعة لذا جاءت آية البحث بخصوص الدَين والتداين .
الثالث : المعاملات مناسبة لإفشاء الأخلاق الحميدة وتهذيب النفوس , وتبين الآية التباين بين الإيمان والإرتياب ،بين الهدى والشك ، وهو من فضل الله عز وجل في إصلاح المسلمين للعبادات، لتكون العبادات طريقاً مباركاً للصلاح والإستقامة في المعاملات ، وتكون المعاملات مقدمة لأداء المسلمين العبادات وفق النهج القويم وما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل يلزم الدور بين العبادات والمعاملات , الجواب لا، لأن كلاً منهما نعمة عظمى من عند الله ، وللتداخل الجهتي بينهما ، ومن مصاديق هذا التداخل إبتداء هذه الآية بنداء الإيمان والذي يشمل العبادات والمعاملات معاً ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) .
(لقي عبد الله بن مسعود رجلا محرماً وعليه ثيابه،
فقال : انزع عنك. فقال الرجل : اتقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله؟
قال : نعم {ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم فانتهوا})( ).
ومن السنة النبوية بخصوص آية الدَين وجوه :
الأول : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير آية الدَين للمسلمين .
الثاني : تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كتابة الدَين .
الثالث : عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة الشهود ، ولحاظ عدالتهم .
الرابع : ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للثواب العظيم لمن يقرض مسلماً ومن يهمله في الأجل إن كان معسراً.
الوجه الثاني عشر : يا أيها الذين آمنوا لا تسأموا أن تكتبوا الدَين إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم ، وفيه وجوه :
الأول : تدل كثرة الأوامر في آية البحث على تفقه المسلمين في الدين , وإرتقائهم في منازل الهداية , وبلوغهم مراتب التقوى بالعمل والتقيد بالأحكام المتعددة في الموضوع المتحد وهو القرض والدَين الذي لا يحدث للمسلم كل يوم من أيام حياته فأكثر أيام المسلم لا يقوم فيها بالإقراض أو الإقتراض , كما يتعقب الإقراض ثضاؤه ومقدمات هذا القضاء .
ومع هذا جاءت آية البحث بصيغ التفصيل والتأكيد لتدل على الحكمة المتعالية في الشريعة الإسلامية وخلوها من الضرر والإضرار.
الثاني : تبعث آية البحث المسلمين إلى إجتناب القول والعمل وفق أحكام الشريعة في أمورهم الخاصة والعامة ، إذ تحضر آية البحث في المعاملات ولا تختص بالقرض وحده .
الثالث : آية الدَين عهد ودَين على المسلمين يجب التقييد بأحكامها لذا تفضل الله عز وجل وبدأها بنداء الإيمان ، ليقوموا بأعباء ومسؤوليات العمل بهذه الآية .
وهل تلاوة المسلمين لآية البحث في الصلاة من مصاديق هذا العمل الجواب نعم لما فيها من التعاهد لكلام الله عز وجل وحضور أحكام الآية بين المسلمين وفي الوجود الذهني ، فتكون هذه التلاوة مقدمة للعمل بأحكامها ، وثمرة للعمل بها ليترشح عنها العز والطمأنينة والرضا بحكم الله والتطلع إلى الثواب العظيم الذي يترشح عن تلاوة الآية والعمل بأحكامها ، فتكون مصداقاً للقول بأن الدنيا مزرعة للآخرة .
وتتضمن آية البحث الإعجاز من جهة الرخصة في الكتابة والشهادة مجتمعتين ومتفرقتين بخصوص التجارة اليومية بين المسلمين وفي البيع والشراء بالسلف والجملة والمفرد على نحو متكرر، وقد يرد لفظ التجارة ويفسر بالإيمان والعمل الصالح والجهاد في سبيل الله كما في قوله تعالى[وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا..]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (كل الناس يغدو فبائع نفسه ، فمعتقها أو موبقها)( ).
ولكن جاء هنا في المعاملات والبيع والشراء من جهات :
الأولى : مجئ الإستثناء في ذات الآية بقوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً] وقيل أنه إستثناء منقطع لأن التجارة الحاضرة تختلف عن الدَين والمختار أنه إستثناء متصل لوحدة الموضوع في تنقيح المناط فالموضوع هو البيع بالسلف والقرض ، والبيع بالنجوم أي بالأقساط ونحوها .
الثانية : التجارة والمكاسب طريق لتعيين المقام في الآخرة، فالذي يحرص على الصدق وحسن المعاملة مع الناس خشية من الله عز وجل وتصديقاً بالنبوات يكون ثوابه عظيماً، والذي يعتمد الغش والخداع في المعاملات، ويسعى في الكسب الحرام يبتلى في الدنيا، ويكون عقابه أليماً في الآخرة , فمثلاً جاء الوعيد الحال والآجل للذين يصرون على الربا قال تعالى[وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ]( ).
الثالثة : تقدير آية البحث : ولا تسأموا أن تكتبوا الدَين صغيراً أو كبيراً إلا أن يكون الدَين عن تجارة حاضرة تديرونها بينكم والمراد من الحاضرة المترادفة والمنجزة .
وهل الشهادة على الدَين واجب أم مندوب فيه قولان :
الأول : نسب وجوب الإشهاد إلى أبي سعيد الخدري وابن عمر وسعيد بن المسيب وداود الظاهري وغيرهم , وأستدل عليه الأمر في آية البحث [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ]بكتابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببيعه عبداَ للعداء بين خالد ، (قال الأصمعي وهو عمران بن تيم مولى لهم قال : قال العداء بن خالد بن هوذة : ألا أقرئكم كتابا كتبه لي رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قلنا : بلى فغذا فيه مكتوب :
( بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم اشترى منه عبدا أو أمة : شك عثمان بياعة أو بيع المسلم لأداء ولا غائلة ولا خبثة , قال الأصمعي : سألت سعيد بن أبي عروبة عن الغائلة فقال : الاباق والسرقة والزنا وسألته عن الخبثة قال : بيع أهل عهد المسلمين ) ( ).
ولكن يعارض هذا الإستدلال ما ورد عن عمارة بن خريمة في شراء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرساً من أعرابي من غير كتابة وشهادة لينال خزيمة بن ثابت في الواقعة مرتبة عظمى بأن صارت شهادته عن شهادة رجلين والقائل بوجوب الرد على القول بأن النبي باع ولم يشهده في موضع الإئتمان ، ولكن حديث عمارة أعلاه لا يدل على القطع بالإئتمان من الأعرابي .
الثاني : الندب وإستحباب الشهادة على الدَين وبه قال مالك وأحمد وأبو حنيفة والشافعي والحسن البصري والشعبي ، وهو المختار .
ويدل الإستثناء في قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً] على مسائل :
الأولى : البشارة بسعة أرزاق المسلمين ،وكثرة الأموال التي ستصير في أيديهم ، وقد تقدم حديث عدي بن حاتم الطائي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في البشارة باتساع دولة الإسلام وزيادة أموال المسلمين وشيوع الأمن في ربوع بلادهم .
وفي معركة الخندق إذ هجم عشرة آلاف من المشركين على المدينة المنورة وأحاطوا بها ، بشرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند حفر الخندق بفتح بلاد فارس والشام وإمتلاك خزائن كسرى وقيصر فقال أحد المنافقين وهو (مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ : كَانَ مُحَمّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ ، وَأَحَدُنَا الْيَوْمَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْغَائِطِ) ( ).
(وأنكر ابن هشام دخول ثعلبة ومعتب في المنافقين وعباد بن حنيف أخو سهل وعثمان وجارية بن عامر وابناه مجمع وزيد.
وقيل لا يصح عن مجمع النفاق) ( ) وأحتج ابن هشام بأن معتباً من أهل بدر .
الثانية : صيرورة أسواق خاصة بالمسلمين يتعاطون فيها التجارة والبيع والشراء بالنقد والنسيئة .
لقد أنعم الله عز وجل على قريش بجوارهم البيت الحرام بالرزق الكريم والإتجار مع أهل الإمصار البعيدة والنائية ، فقد سمّى الله عز وجل بيت المقدس بالمسجد الأقصى بقوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] ( )والأقصى أي الأبعد , وكانت تجارة ورحلة قريش من مكة إلى الشام وما هو أبعد من المسجد الأقصى في الصيف ويرحلون للتجارة والكسب إلى بلاد اليمن في جهة الجنوب في الشتاء .
وجاء التوثيق السماوي لبيان فضل الله عز وجل على قريش بقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ) وعندما تخلف قريش عن عبادة الله وعكفوا على عبادة الأصنام وأظهروا الشرك في أقدم بقعة في الأرض وهو البيت الحرام بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في ذات البلدة وبين ظهرانيهم لتكون التجارة بيد المسلمين وبما هو أعم وأدوم من تجارة قريش , وفيه وجوه :
أولاً : تعاطي المسلمين التجارة في بلدانهم والتخفيف عنهم بعدم قطع المسافات الطويلة طلباً للكسب ، وهذا لا يتعارض مع السعي في الأمصار ، قال تعالى [وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى] ( ).
ثانياً : بيان تحقق كثرة التجارة والبيع والشراء بين المسلمين في أيام التنزيل ، وقبل أن يغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا لورود أسباب نزول لقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ]( ).
(عن محمد بن كعب أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانا يختلفان في تجارتهما إلى الشام ، فربما قدما يوم الجمعة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخطب فيدعونه ويقومون فيما هم إلا بيعاً حتى تقام الصلاة فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } قال: فحرم عليهم ما كان قبل ذلك)( ).
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين التوجه إلى العبادة والإنقطاع إلى الدعاء في ساعة مباركة من الأسبوع يعزفون فيها عن التجارة والكسب لتأكيد تقييدهم بسنن التقوى .
ثالثاً : العز والشأن للمسلمين في التجارة بينهم ، وتنقلهم في الأمصار الإسلامية من غير خوف من ملوك الزمان ومن قطاع الطرق والذين ينهبون القوافل ، وصحيح أن آية البحث لا تنفي وقوع هذا الأمر إلا أنها تدل عليه بالدلالة الإلتزامية ، وعلى فرض عدم الأمن في الطرق والمسافات بين المدن فان التجارة في داخل المدينة والمصر كافية في الجملة ، مع سعي المسلمين لتأمين الطرق ، وهذا التأمين من البشارات التي كفلها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمته كما في الحديث الوارد عن عدي بن حاتم إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدعوه إلى الإسلام (قال: أما إنى أعلم الذى يمنعك من الاسلام ; تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة لهم، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة ؟ قلت: لم أرها وقد سمعت بها .
قال فو الذى نفسي بيده ليتمن الله هذا الامر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز ، قال قلت: كنوز ابن هرمز ؟ قال: نعم كسرى بن هرمز) ( ).
فأنبهر عدي ولم يكن يحسب أنه يسمع هذه البشارة والنبأ العظيم، فقال بصيغة الإستفهام الأنكاري : كنوز ابن هرمز؟ فقد كانت بلاد اليمن يحكمها عامل كسرى ، ويدين النعمان بن المنذر ملك الحيرة لكسرى .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنقل وطأة الوحي وقوة النبوة وعزيمة الصبر : نعم كسرة بن هرمز.
أي تظنه قوياً وحكمه متماسك ، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ) وأبى الله عز وجل إلا أن يجعل هذا التداول لصالح المسلمين وبما يثبت معالم الهداية والفلاح في الأرض .
ثم أردف النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد وفيه تحد كبير فلا يخطر على بال أحد عرض الأموال على الناس فلا يقبلها أحد ، فمن خصائص أكثر الناس الطمع ثم من الذي يبذل المال ويكون منزهاً ومعصوماً من الشح والبخل إنه آية من فضل في إكرام المسلمين .
وجاءت آية البحث لضبط معاملات المسلمين سواء عند كثرة أموالهم أو في حال قلتها ونقصها .
وتلقى عدي بن حاتم كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والتصديق وبادر إلى دخول الإسلام وأحسن إيمانه وليختار الكوفة سكناً له ويعمر طويلاً إذ أنه مات سنة سبع وستين في أيام المختار .
وكان يقول (فهذه الظعينة تخرج من الحيرة تطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى، والذى نفسي بيده لتكونن الثالثة لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها) ( ).
ويقصد بالثالثة بذل الأموال فلا أحد يقبلها .
رابعاً : بقاء تجارة المسلمين وعملهم بالزراعات والصناعات إلى يوم القيامة لدلالة قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ] وهل في تجارة المسلمين هذه نعمة على قريش وإمتداد لتجارتهم , الجواب نعم ، بقيد الإيمان ، فقد دخلت قريش الإسلام يوم فتح مكة ليفوزوا بفيوضات آية البحث .
خامساً : تأتي تجارة المسلمين خالية من الربا والفوائد المحرمة إذ يصدر المسلمون في معاملاتهم عن الكتاب والسنة ، لذا جاءت أطول آية في القرآن وهي آية البحث متعلقة بالتجارة والقرض والدَين ، والنسبة بين الدَين والتجارة عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء أمور :
الأول : العقد .
الثاني : الكتابة والإشهاد على العقد في الجملة .
الثالث : المعاملة بالأموال والعروض.
أما مادة الإفتراق فان التجارة قد تكون بالنقد وقد تكون نسيئة أما الدَين فقد يكون عن تجارة وبيع أو عن قرضة حسنة من غير معاملة تجارية أو بيع وشراء .
الثالثة : ترغيب المسلمين بالمعاطاة والتجارة اليومية وتنشيط الأسواق ، وأن لا يقفوا عند الكتابة والشهادة في كل حال مما قد يكون تعطيلاً للمعاملات فمنهم من يعزف عن الشراء ممن يصر على الكتابة والشهادة في المعاملات اليومية المتجددة ليشتري من الذي يعتمد الوثاقة والمظهر الحسن .
ومنهم من يطلب الكفيل الضامن ، وهل يحق للكفيل الإشتراط بعدم الضمان في غير المكتوب والمدون من الديون .
الرابعة : يدل الإستثناء في آية البحث [إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً] على إستحباب كتابة الدين مما لا يكون تجارة حاضرة، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى في الآية التالية [فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ]( ).
وهل يستثنى من هذا الإستثناء ولي اليتيم الدائن كيلا يضيع حقه ولأن ماله نوع أمانة شرعية بيد الولي، وهو ليس من الذين يقع الإئتمان بينهم , الجواب لا دليل عليه، إنما تشمله إطلاقات آية البحث بخصوص إستثناء التجارة الحاضرة .
الخامسة : هل عدم كتابة الدَين في التجارة الحاضرة على نحو الوجوب الجواب لا، إنما هو للتخفيف ومنع الحرج، وإلا فان آية البحث تبين قانوناً وهو أن كتابة الدَين مستحبة في كل الأحوال .
وجاءت الآية ولفظ كاتب بصيغة التنكير [وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ] لبيان عدم الوجوب على الكاتب إذا دُعى لكتابة الدَين إلا أن تكون الكتابة واجباً عينياً على أحد المسلمين فتجب عليه حينئذ، كما لو كان الكاتب الوحيد الحاضر للتداين، وأنه يتصف بالعدالة، ولو كان الدائن أو المدين كاتباً فهل تسقط قضية العين، الجواب نعم, بقيد العدالة ورضا الطرف الآخر , والفاء في قوله تعالى[فَاكْتُبُوهُ] رابطة لجواب الشرط ( ).
ولقوله تعالى [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى] لا يحق للقاضي أن يفرق الشاهدتين عند الشهادة وقسل عنده مركزان أحداهما للكلام الآخر للتذكر , ويمتاز الرجل بأن إذا تكلم فان مركز التذكر يبقى يعمل ، أما بالنسبة للمرأة فأنها إذا تكلمت عمل المركزان في آن واحد ، فلا تستطيع تمام التذكر عند الكلام .
ولكن هذا الإكتشاف لم يتم ، وعلى فرض صحته فان التذكر والنسيان أعم من أن يختص بحال الكلام فلم تقل الآية (وإن سهت إحداهما)وبين النسيان والسهو عموم وخصوص مطلق ، فكل نسيان هو سهو وليس العكس .
فالسهو هو غياب المعلوم عن القوة الحافظة فقط ، فمع الإنتباه له يحصل التذكر ، أما النسيان فهو غياب المعلوم عن القوة الحافظة والمدركة معاً ، فيلزم تحصيل وإستحضار جديد ، والجامع بينهما هو غفلة الإنسان عما كان ذاكراً له .
وتوجهت الآية بالخطاب إلى المسلمين في الإشهاد ، وليس إلى القاضي لقوله تعالى [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ] للإستيثاق والحفاظ على المال عند القرض والتداين ، وغالباً ما لا تصل النوبة إلى القاضي والشكوى عنده ، ويتعلق التباين بين شهادة الرجل والمرأة وفيه مسائل :
الأولى :عدالة وضبط الشاهد ذكراً أو أنثى .
الثانية : عدم مزاولة المرأة المعاملات التجاري والمالية على نحو الدوام .
الثالثة : إنشغال المرأة في أمور المنزل وتربية الأبناء .
الرابعة : موضوع الشهادة على الديون من أحاديث الرجال فيما بينهم أما النساء فتنشغل في الغالب بالعبادات والذكر , وشؤون البيت اليومية .
وموضوع الآية مع حال بدء التداين وحفظ مال الدائن , وتأكيد وثاقة المدين وعزمه على الوفاء بالدَين .
أما بالنسبة للحكم والأدلة التي يلجأ إليها القاضي فتشمل عمومات قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (البينة على من إدعى واليمين على من أنكر).
والبينة هي ما يستبين بها الحكم ويظهر بها الصدق , والبينة تكون على وجوه :
الأول : أربعة شهود كما في الشهادة على الزنا .
الثاني : ثلاثة شهود كما في بينة المفلس، لحديث قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فاتيت النبي صلى الله عليه وسلم اسأله فيها فقال اقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر (2) لك بها ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا قبيصة ان المسألة لا تحل الا لاحد ثلاثة ، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ، ورجل اصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش ، ورجل اصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوى الحجى من قومه ان قد اصابت فلانا فاقة فحلت له الصدقة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش ، فما سوى ذلك من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا)( ).
الثالث : قبول شاهدين ، وهو الذي جاءت به آية البحث وأكثر المعاملات عليه .
الرابع : شاهد واحد مع اليمين في الدَين .
الخامس : شاهد واحد وامرأة واحدة .
السادس : شاهد واحد وامرأة وعبد مكاتب .
السابعة : النكول في اليمين ورجوعه على المدعي .
الثامن : القسامة خمسة وعشرون يميناً .
التاسع : القسامة خمسون يميناً .
العاشر : أربعة أيمان في اللعان .
الحادي عشر : شهادة إمرأتين فيما خص النساء كولادة الصبي، والرضاع، وعيوب المرأة مثل الرتق والقرن، والبكارة أو عدمها، ومدة العدة أو إنقضائها .
وعن عقبة بن الحارث قال: تزوجت امرأة فجاءتنا امرأة سوداء فقالت إني قد أرضعتكما فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقلت إني تزوجت فلانة بنت فلان فجاءتني امرأة سوداء فقالت إني قد أرضعتكما فأعرض عني , فأتيته من قبل وجهه فقلت إنها كاذبة قال فكيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما دعها عنك)( ).
الوجه الثالث عشر : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا [ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا] من وجوه إيمان المسلمين أنهم يؤمنون [ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( ) وأنه سبحانه الذي أكرمهم بالإيمان ويتفضل عليهم بالرزق الوافر الحلال .
وتتضمن آية البحث البشارة لأجيال المسلمين المتعاقبة به ، ومنها كثرة وسعة التجارة بين المسلمين ، وهي على أقسام :
الأول : التجارة بالبيع نقداً , ومنه بيع الصرف .
الثاني : الإتجار بالمضاربة والشركة ونحوها .
الثالث : إتخاذ التداين مقدمة للبيع والشراء .
الرابع : اليسر وإمكان قضاء الدَين , فهذا القضاء فرع الكسب والعمل والسعي في التجارة والزراعة والصناعة ، وتدل آية البحث وقوله تعالى [تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا] على وجود تجارة بين المسلمين ليست حاضرة بلحاظ كبرى كلية وهي أن الدَين والتداين الذي تذكره آية البحث يشمل البيع بالنسيئة والشراء بالسلف ، وهو من معاني الإستثناء في آية البحث إذ تقابل التجارة الحاضرة تجارة غير حاضرة تتم بين المسلمين في أسواقهم وعلى نحو شخصي .
لقد أراد الله عز وجل بالمال والتجارة بين المسلمين توثيق أواصر الأخوة الإيمانية بينهم ، وتفضل ومنع الحرج عنهم في التجارة اليومية المتبادلة بالإذن في عدم كتابتها مع أنها قد تكون كبيرة وتتم بأموال كثيرة ، وفي الوقت الذي جاء قبل كلمات وفي ذات آية البحث لزوم كتابة الدَين صغيراً كان أو كبيراً ، ليتجلى إعجاز في الآية وهو إتصاف التجارة الحاضرة بأمور :
الأول : تعدد وكثرة البيع والشراء في اليوم الواحد ، والأيام المتقاربة بين الأفراد من المسلمين ويكون البائع في معاملة مشترياً وفي معاملة أخرى بائعاً سواء مع ذات الطرف أو مع غيره .
الثاني : بعث المسلمين على الدعاء والمسألة لتكون عندهم تجارة حاضرة متجددة كل يوم، وهو من مصاديق قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الثالث : بشارة سلامة المسلمين من كساد التجارة أو تعطيل الأسواق، لدلالة التجارة الحاضرة على كثرة البيع والشراء.
الرابع : صيرورة التجارة الحاضرة تثبيتاً للأخوة الإيمانية بين المسلمين , وتدل عليه ذات آية البحث من جهات:
الأولى : إبتداء الآية بنداء الإيمان وما تترشح عنه من مفاهيم المودة والتعاضد.
الثانية : التجارة الحاضرة بين المسلمين من مصاديق قوله تعالى [ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الثالثة : ذات التداين بين المسلمين شاهد على الأخوة بينهم.
الوجه الرابع عشر : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا أشهدوا إذا تبايعتم ) لمّا كانت آية البحث هي أطول آية في القرآن فأنها تضمنت الأحكام المتعددة وهو من الإعجاز في القرآن إذ تبعث الآية مع طولها المسلمين والمسلمات على الفطنة وتطرد عنهم الغفلة بأن تنقلهم من حكم إلى حكم ، وتمنع عنهم السأم أو الملل في التلاوة , وتدعوهم للإنصات للآية بأن يأتي نهي بعد أمر أو العكس ، أو يأتي لفظ عموم ثم إستثناء متصل .
ثم تنتقل الآية إلى لفظ عموم آخر ، مع أن المتعارف في اللغة أن الإستثناء يكون في آخر الكلام لتبين الآية أموراً:
أولاً : الدنيا دار إمتحان وإختبار .
ثانياً : تأكيد حقيقة وهي أن المعاملات تستلزم الصدور عن القرآن والسنة وأن الشريعة ليست الفرائض وحدها .
ثالثاً : صيرورة المعاملات مقدمة للعبادات .
رابعاً : وجوب تنزه المسلمين عن الظلم في البيع والشراء والإجارة ونحوها .
لقد إبتدأت آية البحث بنداء الإيمان والإخبار عن التداين بين المسلمين وكتابته والشهادة عليه عند حدوثه لإمضائه وتوثيقه وتكررت مادة التقوى والعدل والإملاء والكتابة ، كما ذكرت الشهادة على نحو التفصيل بما يفيد البيان والمنع من الإختلاف والخصومة من جهات :
الأولى : إستشهدوا شهيدين .
الثانية : تعيين الشهود وإن لم يكونا رجلين فرجل وإمرأتين .
الثالثة : بيان علة بدلية مرأتين عن رجل واحد .
الرابعة : خصال الشهداء الحميدة بقوله تعالى [مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ].
لتكون شهادة المسلمين على مقادير الدَين والقرض مقدمة لشهادتهم على الناس في الآخرة بقوله تعالى [لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ( ).
وقد ورد لفظ شهداء في القرآن ثمان عشرة مرة , منها مرتان في آية البحث .
ومن إعجاز القرآن إلتقاء الشهداء على الدَين مع الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله والذين يشهدون للأنبياء بتبليغ الرسالة والذي ورد في قوله تعالى [وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] ( ).
وعن ابن عباس في الآية أعلاه قال ({ وجيء بالنبيين والشهداء}( )، قال : النبيون الرسل {والشهداء} الذين يشهدون بالبلاغ ، ليس فيهم طعان ولا لعان) ( ).
الخامسة : بيان فضل الله عز وجل في بيان تفاصيل الشهادة في آية البحث بقوله تعالى [ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ]( ).
السادسة : بعث المسلمين على الشهادة عند عقد البيع والشراء بقوله تعالى [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ].
السابعة : التوصية بالشاهد ودفع الأذى والضرر عنه لقوله تعالى [وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ] لبيان لزوم إكرام الشاهد , وعدم بعث النفرة في النفوس من الشهادة أو العزوف عنها .
ليكون من إعجاز القرآن أن تأتي الآية القرآنية بأمور :
الأول : البعث على العمل الصالح .
الثاني : تثبيت مقدمات العمل الصالح .
الثالث : المنع من الصدود عن الصالحات , وفي التنزيل[قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى]( ) .
الرابع : بيان الثواب العظيم لهذا العمل الصالح .
الخامس : ذكر الضرر الذي يترشح عن ترك العمل الصالح أو الغفلة عنه .
وقد تأتي هذه الأمور في آيات قرآنية متعددة وإن كان موضوع العمل الصالح متحداً ، وتفضل الله عز وجل وجعلها مجتمعة في آية البحث مع ورود آيات أخرى في تأكيدها .
وكما وردت مسألة التداين على نحو الجملة الشرطية [إِذَا تَدَايَنتُمْ] فقد ورد ذكر البيع في آية البحث بذات الصيغة [إِذَا تَبَايَعْتُمْ]أي مطلقاً سواء كان البيع نقداً أو نسيئة أو سلماً , ومنه التجارة وبيع العقار والعروض مما هو ليس من سنخية التجارة الحاضرة .
وتقدم هنا جواب الشرط على الفعل وهو البيع لإفادة تأكيد أمر الإشهاد على البيع , ومنه تقديم إيفاء الكيل بقوله تعالى [وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ] ( ).
ومن الصحابة والتابعين من حمل الأمر بالإشهاد هنا على الوجوب وإن كان البيع والحق قليلاً في مادته وثمنه (عن الضحاك { وأشهدوا إذا تبايعتم } قال : أشهدوا ولو دستجة من بقل) ( ) وقال أنه عزيمة الإشهاد وواجب , وبه قال عطاء وداود بن علي .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن الحسن البصري (في قوله { وأشهدوا إذا تبايعتم } قال : نسختها { فإن أمن بعضكم بعضاً}( ) ) ( ).
ولكن ظاهر الجملة الشرطية لا يفيد نسخ الجملة الخبرية إنما تكون في طولها لبيان التخفيف والإستثناء الإختياري .
لقد إبتدأت آية البحث بصيغة الإيمان ليفيد قوله تعالى [إِذَا تَبَايَعْتُمْ] دعوة المسلمين لإيجاد أسواق خاصة بهم ، وهل تدل الآية على الإكتفاء الذاتي للمسلمين في البيع والشراء والإستغناء عن غيرهم ، الجواب لا، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا أشهدوا إذا تبايعتم فيما بينكم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا أشهدوا إذا إشتريتم من غيركم .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا أشهدوا إذا بعتم لغيركم .
الرابع : يا أيها الناس أشهدوا إذا تبايعتم .
فاذا كان المؤمنون مأمورين بكتابة الدَيون والشهادة على عقود البيع والشراء ونحوه فيما بينهم , فمن باب الأولوية القطعية أن يتقيد عامة الناس بكتابة الديون والشهادة عليها ، وهو من مصاديق ومعاني الرحمة العامة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يتحقق الإستقرار في أسواق المسلمين .
ولم تذكر الآية كتابة البيع مثلما ذكرت بخصوص الدَين والقرض ، فهل يدل على كفاية الشهادة في البيع والإستغناء عن كتابته ، الجواب لا ، إذ تدل الآية- على كتابة البيع بالحاق البيع بالدَين .
خزيمة ذو الشهادتين
وفي رواية عمارة بن خزيمة الأوسي الأنصاري( )، عن عمه حدثه وله صحبة بما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزاول البيع والشراء ليس على نحو الدوام، بل يأتي البيع والشراء بالعرض والفرد النادر .
ومرة إشترى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرساً من إعرابي وإسمه سواء بن الحارث وقيل المحارب.
وبعد أن قطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الأعرابي ثمن الفرس أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم باللحاق به ليقبض ثمنه مما يدل على أنه لم يأت للسوق من أجل الشراء إنما حصل الأمر بالعرض والإتفاق، وأسرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مشيه، وأبطن الأعرابي ومعه فرسه، فأخذ رجال يساومونه الفرس، وهم لا يعلمون بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إشتراه منه.
فدفع له بعضهم سعراً أكثر من الذي إشتراه به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فناداه الأعرابي: إن كنت مبتاعاً الفرس وإلا بعته، فأستغرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلامه لأن البيع قد تم فقال: أليس قد ابتعته منك قال لا والله ما بعتكه فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد ابتعته منك)( )، وفيه مسائل:
الأولى : بيان حقيقة وهي أن النبي والرسول قد تكون له معاملات مع الناس وتتقوم بالحق والعدل والإنصاف.
الثانية : الواقعة مصداق لقوله تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( )، وهل يشتري ويبيع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي أم أن الوحي خاص بنزول القرآن والأحكام الشرعية، وأن البيع والشراء من صفته كبشر وإنسان.
الجواب هو الأول، فلا يبيع ولا يشتري النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالوحي ولا يذهب لمكان البيع ولا يدفع ثمناً ولا يقبل بسعر معين إلا بالوحي، وهو من مصاديق الإطلاق في قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
لذا فإن مسألة شراء الفرس من الأعرابي موعظة وعبرة للمسلمين، وموضوع لإقتباس المسائل منه.
الثالثة : تأكيد حق المشتري في المطالبة بالعين المشتراة إذ أن الدفع للبائع أكثر مما باع به العين مسألة إبتلائية في كل زمان، وتجري في كل المعاملات .
فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتأسيس تشريع فيها، ووضع حد لها، وإن لم تكن كتابة وشهود على البيع وهو من أسرار الوحي في المقام، فأجتمع الناس حول النبي صلى عليه وآله وسلم والأعرابي وهما يتبادلان الكلام والأعرابي يصر على إنكار البيع، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشتريه ليهديه في الغالب للمسلمين , ويخرجون به للدفاع أو المرابطة .
فعطف الأعرابي يقول: هلم شاهداً يشهد أني بعتكه , وكان خزيمة بن ثابت الأنصاري من بين الذين لاذوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإجتمعوا ينصتون لهذا الحوار، فخاطب الأعرابي قائلاً: أنا أشهد أنك قد بعته.
فأقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خزيمة فقال له: بم تشهد)( )، أي أنك لم تحضر البيع، فعلى ماذا تشهد قال خزيمة: أشهد بتصديقك يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد صدقناك في رسالة السماء، فكيف لا نصدقك في شراء فرس خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدفع ثمنه بعد، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( شهادة خزيمة بشهادة رجلين)( ).
والفرس هذه التي إشتراها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأعرابي تسمى المرتجز سمي به لحسن صهيله، مشتق من الرجز وهو ضرب من الشعر، وقيل من الرعد , وكان لون الفرس أبيض.
وهل يحق للقاضي أن يعتمد شهادة التقي والثقة من المؤمنين عن شهادة رجلين أو شهادة المرأة الورعة التقية عن شهادة رجل، الجواب لا، فإن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضية في واقعة وإكرام منه لخزيمة بن ثابت لبيانه لقانون وهو أن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوجب التصديق به في أمور البيع والشراء، والحرب والسلم والصلح والمهادنة ووجوه السنة النبوية الأخرى.
وخزيمة بن ثابت بن الفاكه الخطمي من الأوس يكنى أبا عمارة شهد أحداً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولما تفاخر الأوس والخزرج فيما بينهم وعدد كل حي منهما مناقب ومآثر رجالاته .
قال الأوس: منا الذي أحدث شهادته بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت، وهل كان المسلمون والقضاة منهم بعد هذه الواقعة يحسبون شهادته بشهادة رجل واحد أم رجلين، الجواب هو الثاني لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال(من شهد له خزيمة كفى)( ).
وكان خزيمة مع الإمام علي عليه السلام في معركة صفين سنة سبع وثلاثين، فلما قتل عمار بن ياسر(قال: خزيمة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “تقتل عمار الفئة الباغية”: ثم سل سيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه)( ).
قانون الآية برزخ دون الخلاف والشقاق
قضاء حاجة المسلم بالقرض والدَين رحمة وتيسير وعنوان للأخوة بين المسلمين , وهل هو من عمومات مؤخاة النبي صلى الله عله وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار .
الجواب نعم ، ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل القرآن بقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) فيؤسس لمفاهيم الأخوة بين المسلمين التي تبنى على الصلاح والتقوى ، وتأتي السنة النبوية القولية والفعلية بالمصاديق لهذه الأخوة ويتولى نزول آيات القرآن لتتضمن حرمة الربا ، وأن أكله وأخذ الفائدة الربوية مما يتنافى والأخوة بين المسلمين ويشرع التداين بين المسلمين قانوناً ثابتاً إلى يوم القيامة .
ولتعاهد هذا القانون نزلت آية البحث وما فيها من الحث على التداين ، وضبط صفاته ، وتعيين أوانه ، ويمكن تأسيس قانون بالإستدلال من المعلول على العلة ، فان منع الخلاف بين المسلمين في مسالة الدَين وقضائه للحفاظ على الأخوة الإيمانية بينهم، إذ تنفي آية البحث هذا الخلاف من جهات :
الأولى : تعيين الدائن بالاسم والشخص , وهو من مصاديق عدالة الكاتب , ودفع الوهم .
الثانية : اسم المدين والذي عليه القرض .
ويدل على هاتين الجهتين أمور في آية البحث وهي :
أولاً : قوله تعالى [إِذَا تَدَايَنتُمْ] لما في الآية من نوع مفاعلة بالتداين فتدل بالدلالة التضمنية على معرفة الدائن والمدين ، وتعيين كل منهما ومن هو الدائن ، ومن هو المدين .
وهل تدل صيغة الفعل الماضي [إِذَا تَدَايَنتُمْ] على عدم تحقق كتابة العقد إلا بعد أن يتم التداين والقبض والإستلام الجواب نعم ، وإن كان معنى صيغة الماضي في المقام أعم وتشمل الحدوث والإمضاء ، وهي لا تمنع من إقتران التداين بالكتابة إذا تعلق بها التوثيق ونحوه .
ثانياً : يكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : إذا داينتم فلاناً ديناً ….
الثاني : إذا داينت فلان ديناً ….
الثالث : إذا إستدنتم ديناً ….
الرابع : إستدنت ديناً ….
ثالثاً : بيان موضوعية الآية وهي الدَين , فمع أن موضوع آية البحث ورد بكلمة واحدة وهي (بدَين) في قوله تعالى [إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ] كما ورد في قوله تعالى [ببدر] لبيان نصر الله عز وجل للمسلمين في معركة بدر بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
رابعاً : يحصل الدَين بين طرفين ، لذا قال تعالى [وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ] وبين : ظرف مبهم للدلالة على التوسط بين شيئين أو طرفين ،يتبين معناه باضافته إلى إثنين فصاعداً ، وقد يأتي ظرف مكان وهو الأكثر ، أو ظرف زمان ، كما تقدم بين عشية وضحاها أو أرادة المعنى الأعم .
خامساً : قوله تعالى [الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ] إذ تكرر في آية البحث مرتين ولم يرد في القرآن في غيرها من الآيات ، وهو من الإعجاز في آية البحث وبيان موضوعية الدَين في ترتب الحق على الإنسان ، لقد أراد الله عز وجل تأديب المسلمين على أمور :
الأول : توثيق الحقوق .
الثاني : عدم بخس الناس أشياءهم ، فمن مضامين آية البحث أنها تأمر المسلمين بتوثيق ما للناس عليهم من الديون ، ولزوم خلوها من الربا والفائدة الربوية .
الثالث : بعث المسلم على العناية بديون الناس والسعي لقضائها، فمن الناس من يبذل الوسع ويقوم بالتوسل والرجاء للحصول على قرض , ويظهر العزم على قضاء الدَين في أجله ، وقد يعطي المواثيق ، حتى إذا ما قبض المال قام بالإعراض عن الدائن ، وأخذ بالتسويف والمماطلة .
فلا يعلم ما لآية البحث من الأثر في إصلاح النفوس وجعل المسلمين يسعون جادين في قضاء الدَين إلا الله عز وجل وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
إذ تصاحب آيات القرآن المسلمين في أعمالهم ومعاملاتهم , وتنفذ إلى شغاف قلوبهم لتكون لها موضوعية في ما ينوون فعله، وما يريدون عمله وبما يقود إلى الصلاح والوئام مع عامة المسلمين ، وإن لم يصدر المسلم في قوله فعله عن القرآن في مسألة الدَين والقرض وغيرها فانه يبقى في حسرة وألم ، وهو من إعجاز القرآن من جهات :
الأولى : المبادرة إلى الإمتثال لأحكام القرآن .
الثانية : الإحساس بالندم والحسرة عند التخلف عن العمل بأحكام آيات القرآن .
الثالثة : التعاون بين المسلمين للإمتثال لمضامين آية الدَين وتوثيق تفاصيل القرض والسعي بالأداء والقضاء ، ومن الآيات أن الدائن يساعد المدين وهذه المساعدة في القرآن والسنة ، أما القرآن فقوله تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] ( ) كما وردت الآيات في الدفع من الزكاة للذين إستدانوا لغير معصية وعجزوا عن الوفاء ، بقوله تعالى [وَالْغَارِمِينَ]( )، وأما السنة فقد وردت النصوص عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمور :
الأول : الترغيب بالدَين وإقراض المسلمين .
الثاني : توثيق الدَين وكتابته والرهن عليه , وعن أنس : (عن أنس، أن رسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم تُوفِّي وَدِرْعُه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وَسْقًا من شعير، رهنها قوتًا لأهله . وفي رواية: من يهود المدينة . وفي رواية الشافعي: عند أبي الشحم اليهودي) ( ) .
والوسق نوع كيل قدره ستون صاعاً , والصاع أربعة أمداد والمد نحو ستمائة غرام ، ويكون مقدار الوسق الواحد نحو (140) كيلو غرام ، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إقترض هذه الكمية الكبيرة على نحو متعاقب زماناً ، فليس من مكان لخزنه وحفظه والحاجة الآنية إليه .
الثالث : الثواب العظيم بذات الدَين والقرض .
الرابع : الأجر والثواب على إمهال المدين والصبر عليه وعن أبي اليسر (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ) ( ).
الخامس : تعاون المسلمين في قضاء الدَين ، وجواز إعانة المديَن من بيت المال ، ما دام لم ينفق ماله إلا في مرضاة الله سواء للحوائج الشخصية أو للأمر بالمعروف وإصلاح ذات البين ونحوه .
السادس : الثناء على المدَين الذي يقضي دينه في أوانه .
وكما شرّعنا أبواباً لتفسير كل آية من القرآن مثل إعجاز الآية ، الآية سلاح ، مفهوم الآية , الصلة بين أول وآخر الآية , إفاضات الآية يمكن تشريع باب لتفسير كل آية من القرآن وهو ( الآية برزخ دون الخلاف ) تذكر فيه منافع الآية في منع الخلاف بين المسلمين من جهات :
الأولى : منطوق الآية ودلالته على منع الخصومة بين المسلمين .
الثانية : مفهوم الآية وإفادته الحيلولة دون حصول النزاع والشقاق بين المسلمين .
الثالث : ما تؤدي إليه الآية القرآنية من الوئام والوفاق بين المسلمين .
الرابعة : الآية القرآنية زاجر عن أسباب ومقدمات الخلاف بين المسلمين .
الخامسة : تلاوة الآية القرآنية في الصلاة وأوقات خارج الصلاة إفشاء للمودة وتجديد لمعاني الأخوة بين المسلمين ، ليكون من تقدير قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) وجوه :
الأول : إنما المؤمنون إخوة بأداء الفرائض وإتحاد الكيفية التي يؤدونها بها .
الثاني : إنما المؤمنون إخوة بتلاوة القرآن والتسليم بخلوه من التحريف والتغيير والتبديل .
الثالث : إنما المؤمنون أخوة تستمر وتزداد أخوتهم بالقرآن وتلاوته ، وهل يمكن القول لولا القرآن لما أصبح المسلمون أخوة .
الجواب نعم ، ولكن الكلام يصاغ بعبارة تعبدية وهي : لولا فضل الله بالقرآن لما اصبح المسلمون أخوة ) بلحاظ أن الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة وهو القادر على أن يرزق المسلين الأخوة بآية منه ، وبالسنة النبوية ،والبرهان واللطف الدائم وتقريبهم إلى سبل الطاعة ومفاهيم الأخوة وحجبهم عن مواطن المعصية , وأسباب الفرقة والشقاق .
وبالنسبة لآية البحث ترى كيف تكون برزخاً دون الخلاف بين المسلمين .
الجواب إبتدأت الآية بنداء الإيمان الذي يتضمن في مفهومه الأمر للمسلمين بالإتحاد والتعاون , لأن الإيمان هو الجامع المشترك وسور الموجبة الكلية الذي يحيط بالمسلمين ودولهم وثغورهم وأعمالهم العبادية ، فمن بركات النداء موضوعيته في كل أمور المسلمين من جهات :
الأولى : حاجة الأمور العامة للمسلمين لنداء الإيمان .
الثانية : إحتياج المسلم والمسلمة لنداء الإيمان وتلاوته في أمورهما الخاصة .
الثالثة : حضور نداء الإيمان في الصلات الزوجية ، وأمور العائلة والبيت .
الرابعة : نداء الإيمان تنسيق وسبب التوفيق والإنسجام بين الأمور الخاصة والعامة .
الخامسة : تتقوم الأمور العامة للمسلمين بنداء الإيمان فينعكس أثره على الأمور الفردية والخاصة ، كما يؤثر التقيد الشخصي والخاص بنداء الإيمان ومضامينه القدسية بالأمور العامة بما فيه الصلاح والإصلاح .
السادسة : إتخاذ المسلمين نداء الإيمان لجذب الناس إلى سبل الهدى ، وعن سهل بن سعد ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم خيبر ( لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . فبات الناس يدوكون( )، ليلتهم أيهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال ( أين علي ابن أبي طالب ) .
فقيل هو يا رسول الله يشتكي عينيه قال ( فأرسلوا إليه ) . فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال علي يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ فقال ( انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم ) ( ).
الرابع : إنما المؤمنون أخوة بالتداين بينهم بقصد الإعانة والتعاون ، وبقصد القربة إلى الله أيضاً ، فمن المسلمين من يقوم بالإقراض رجاء الثواب وصرف الأذى والضيق عن المديون بقصد القربة إلى الله في إعانة مؤمن وقضاء حاجته ، لذا فان الله عز وجل هو الذي يتلقى ويتقبل الصدقات ، وهو الذي يعلم بها ويبارك فيها، قال تعالى [إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] ( ).
الخامس : التداين شاهد على صدق الأخوة بين المسلمين وتعاهدهم لها ، والتداين مطلوب بذاته ولغيره من سبل الإحسان ويأتي ثمرة ومقدمة للفعل المتحد ، فالتداين بين المسلمين ثمرة ونتيجة لأمور :
الأول : نزول آيات القرآن ، وكل آية منه تحث المسلمين على التداين بينهم .
وبين آيات القرآن وآية البحث في المقام عموم وخصوص من وجه ، إذ تمتاز آية البحث ببيانها الأمر بكتابة الدَين والقرض وتوثيقه وأجله لإحراز وحفظ الأموال والحقوق .
الثاني : تلاوة المسلمين للقرآن ندب للتداين بينهم ، وهو من أسرار وجوب التلاوة في الصلاة .
لذا يمكن القول أن منافع الصلاة من اللامتناهي بلحاظ قانون وهو أخذ كل آية قرآنية وبيان منافعها الخاصة والعامة لكبرى كلية وهي أن المسلمين والمسلمات يقرأون آيات القرآن في الصلاة كل يوم وعلى نحو الوجوب العيني ، أي يقرأونها لينتفعوا منها في أمور الدين والدنيا ، وينهل منها المسلم ، وينفع بها آخرين من المسلمين وغيرهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ).
الثالث : موضوعية السنة النبوية في تنمية ملكة الرشاد والأخلاق الحميدة عند المسلمين ، وعن(عن ابى صالح عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق) ( ) .
الرابع : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن خصائص المسلمين المناجاة بالتداين وقضاء الحاجات .
الخامس : إدراك المسلمين لفاقتهم وشدة حاجتهم يوم القيامة وأن التداين بينهم باب للثواب العظيم , ووسيلة مباركة لإكتساب الحسنات ومحو السيئات .
السادس : مجئ الرزق الكريم من عند الله وكثرة الأموال بين المسلمين ، فلا يخاف الدائن الفقر والعوز الطارئ ، ولا يخشى المدين العجز عن قضاء الدَين .
السابع : إبتداء آية الدَين بنداء الإيمان ، وما فيه من البعث على التداين بين المسلمين بصبغة الإيمان وإتخاذ التداين مناسبة للإكرام بين المسلمين لما فيه من نوع ثقة وطمأنينة بالمدين ، ولنداء الإيمان موضوعية في تعدد وجوه تعاهد المسلمين لهذه الثقة في المعاملات .
(وأخرج الحاكم عن كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالاً أو أحل حراماً ، والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً) ( ) وكثير هذا ضعيف وجده عوف بن زيد بن ملحة المزني المدني له صحبة ويمكن تقوية الرواية بعرضها على القرآن ، وبضمها إلى أحاديث أخرى في ذات الموضوع .
ومن خصائص آية الدَين أنها تمنع الخلاف والخصومة بين المسلمين لأن الدائن يعطف على المدين ، فيقرضه ويقوم الكاتب بكتابة الدَين والقرض ويشهد عليه الشهود بروح الأخوة والإيمان ويقبض المسلم الدَين شاكراً للإحسان ، فتتغشى شآبيب الرحمة والمودة المسلمين في معاملاتهم , وتنتشر بينهم أسباب الإعانة .
ويدل قوله تعالى [إِذَا تَدَايَنتُمْ]في مفهومه على إنتفاء الخلاف والخصومة بين المسلمين بلحاظ وجوه :
الأول : عدم حصول الخلاف والشقاق بين المسلمين مقدمة للتداين بينهم وسبب لسؤال أحدهم من الآخر إقراضه ، ومبادرة الثاني لإعانته .
الثاني : ذات التداين موضوع لنبذ الخلاف والخصومة بين المسلمين .
الثالث : ترشح المودة بين المسلمين من التداين بينهم .
لقد كفل الله عز وجل للمسلمين والناس جميعاً رزقهم ، وهيئ لهم أسبابه ، وجعله قريباً منهم ، فالذي لا يقترض لا يتخلف عنه رزقه .
وقد فتح الله عز وجل باب التداين بين المسلمين ، ورغّب فيه بدلالة آية البحث , وجعل الشهادة بالحق مصداقاً للعدالة .
وكتب أبو بكرة من البصرة إلى عمر بن الخطاب بما رآى بخصوص الوالي سنة ست عشرة للهجرة، فبعث على البصرة أبا موسى الأشعري، ثم أتوا إلى المدينة، فشهدوا على المغيرة بالزنا، حتى قدموا زياداً.
وتقدم أبو بكرة ونافع بن الحارث وشبل بن معبد (فشهدوا على المغيرة بن شعبة أنهم رأوه يولجه ويخرجه وكان زياد رابعهم وهو الذي أفسد عليهم فأما الثلاثة فشهدوا بذلك فقال أبو بكرة والله لكأني بأثر جدري في فخذها فقال عمر حين رأى زيادا إني لأرى غلاما كيسا لا يقول إلا حقا ولم يكن ليكتمني شيئا فقال زياد لم أر ما قال هؤلاء ولكني قد رأيت ريبة وسمعت نفسا عاليا قال فجلدهم عمر وخلا عن زياد .
وعن أبي العباس ثعلب قال لما أن قال أبو بكرة أشهد أنه لزان قال عمر اجلده قال له علي عليه السلام إذا فارجم صاحبك لأنك قد اعتددت بشهادته فصارت شهادتين وإنما هي شهادة واحد ( ).
وكان هذا أول ظهور لزياد بن أبيه وحلف أبو بكرة أن لا يكلم زياداً حتى يموت، مع أنهم إستعملوا ابنه عبيد الله على فارس، ورواداً على دار الرزق، وعبد الرحمن على بيت المال وقال عمر لأبي بكرة : تب كي تقبل شهادتك، فأبى، حتى أنه كتب في وصيته أن المغيرة كان زانياً .
وماتت زوجة لأبي بكرة فتقدم للصلاة عليها، فحال أخوتها بينه وبين الصلاة عليها، فقال : أنا أحق بالصلاة عليها، فقالوا : صدق صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أنه دخل القبر، فدفعوه بعنف، فغشي عليه وحمل إلى أهله، فصرخ عليه عشرون من ابن وبنت فأفاق .
قانون ( لا ضرر )في الآية القرآنية
قد يقال بأن السفيه لا يفقه ما يقول , وقد لا يتقيد بقواعد العدل والكتابة وان القلم مرفوع عن العاجز والمعذور عن الكتابة ، فتفضل الله عز وجل وأمر بأن يقوم الولي بإملاء الدَين وصفة الولي مطلقة تشمل مراتب القربى والحاكم الذي هو ولي من لا ولي له .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ليملل ولي السفيه .
الثاني : ليملل ولي الضعيف .
الثالث : ليملل الذي لا يستطيع أن يمل هو بنفسه .
وتبين الآية جواز المعاملة والبيع والشراء وسائر العقود مع المعذور والسفيه ولكن بشرط كتابة الولي للعقد ، وهل يلزم إذن الولي في المعاملة , الجواب نعم ، وأن ذكرت الآية كتابة الدَين ومدته ومقداره وصاحبه .
وهل في تولي الولي إملاء الدَين نوع تعريض بالمناب عنه كالسفيه والضعيف , الجواب لا، إنما هو لضبط وتثبيت الحقوق .
(عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ضرر، ولا ضرار في الإسلام)( ).
وفي علم الفقه قاعدة تسمى ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) وتنبسط على كل أبواب الفقه من الطهارة إلى الديات ، وهي مستقرأة من حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه والوارد في كتب المسلمين جميعاً .
وهل يمكن تشريع قانون قرآني إسمه (لا ضرر ولا ضرار ) في آيات القرآن ، وأن كل آية تدل على هذا القانون الجواب نعم، وهو من إعجاز القرآن .
لقد أسسنا في هذا السِفر والتفسير المبارك وجوهاً وأبواباً في تفسير كل آية وهي :
الأول : الإعراب واللغة لذات الآية ، وبيان مفردات ومعاني كلماتها .
الثاني : سياق الآيات وليس من حد لعلوم هذا الباب وقد أصدرت أجزاء خاصة به ( )( )( ).
الثالث: إعجاز الآية الذاتي .
الرابع: إعجاز الآية الغيري .
الخامس : الآية سلاح .
السادس : مفهوم الآية .
السابع : إفاضات الآية .
الثامن : الآية لطف .
التاسع : إكرام الآية للمسلمين .
العاشر : الصلة بين أول وآخر الآية .
الحادي عشر : الآية بشارة( ).
الثاني عشر : الآية إنذار( ).
الثالث عشر : من غايات الآية .
الرابع عشر : علم المناسبة .
الخامس عشر : يمكن تأسيس علم جديد إسمه : الآية رحمة .
ويمكن أن نضيفه لعلوم آيات النداء هذه إبتداء من هذا الجزء( )
السادس عشر : دفع الآية للأذى والضر.
السابع عشر : الآية خير محض.
الثامن عشر : الآية برزخ دون الخلاف , والذي أسسناه بهذا الجزء.
وفيه إشراقة علمية من ذخائر القرآن ، وتدخل قاعدة ( لا ضرر ولا ضرار في خصوص آيات الأحكام والمسائل الخاصة بالفقه ليكون مقدمة لعلم جديد وهو تسخير علم الفقه لعلوم التفسير ، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق , فعلم التفسير هو الأعم والأوسع .
وتمنع كتابة ولي المدين الضرر عن كل من :
الأول : الدائن وهو صاحب الحق .
الثاني : الكاتب إذ أنه مأمور بالعدل .
الثالث : السفيه والضعيف وغير القادر على كتابة ما عليه من الحق .
الرابع : النظام السائد في المجتمع ، إذ أن الإخلال المتكرر للقواعد القرآنية في المعاملات باب للأذى ، لذا فان من خصائص آية البحث تعاهد إستقرار وسلامة المجتمعات الإسلامية من الكدورة والبغضاء .
وتأسيس قانون وعلم (لا ضرر ولا ضرار ) في الآية القرآنية من مصاديق علم الكلام والإجتماع والإقتصاد والأخلاق وتتجلى مصاديق منها في الآية القرآنية بحسب موضوعها وحكمها ، وهذا العلم توليدي تتفرع عنه علوم متعددة وتستنبط منه مسائل من ذخائر القرآن .
ويمكن الجمع بين هذا القانون والعلوم الأخرى في الآية القرآنية, بلحاظ أن كل آية نعمة عظمى , تتفرع عنها النعم .
قانون القضاء
قال تعالى [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ]( )
لما أنعم الله عز وجل على الإنسان بالخلافة في الأرض فانه تفضل ورزقه القضاء والحكم فيها، وأمر الأنبياء والمرسلين بالحكم بالعدل بين الناس ليؤسسوا قواعد العدل والإنصاف، قال تعالى[َيادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
ولقد إحتج الملائكة على خلافة الإنسان فقالوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، فاخبرهم الله بأنه يعلم ما لا يعلمون وأنه سبحانه جعل نفوس الناس تميل إلى العدل وتنفر من الظلم والباطل، وتفضل وعلم الإنسان فقه وضوابط القضاء وقواعد العدل، كما تفضل سبحانه وأنزل الكتب السماوية بالحث على العدل، وجاءت آية البحث بأمور :
الأول : العدل في توزيع الثروات بصيغ التكافل , بلحاظ أن الإقراض والإعانة بالدين وجه من وجوه هذه العدالة .
الثاني : الحث على الصدقات، وإمهال المدين.
الثالث : توثيق الدين، وهو نوع من العدل.
الرابع : كتابة الدين بالعدل، وإتصاف الكاتب بالتنزه عن الإجهار بالمعاصي بقوله تعالى[وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ]( )، أي في الدين وسائر المعاملات , فالمورد لا يخصص الوارد، إذ وردت ثلاثة أمور في الآية أعلاه وهي :
الأول : الكتابة .
الثاني : قيام طرف ثالث بكتابة العقد .
الثالث : الكتابة بالحث والصدق، وتثبيت الحقائق وعدم تضييع الحق، فهذه الأمور حكم عام وهو المقصود من الوارد في القاعدة أعلاه، فالمورد وهو موضوع الدين لا يخصص هذه الأمور.
والنسبة بين فقه القضاء وعلم القضاء هي العموم والخصوص المطلق، فالأول هو الإحاطة علماً بالقواعد والأحكام الكلية، أما علم القضاء فهو التفقه بالقواعد والأحكام الكلية، وكيفية تنزيلها على الوقائع والحوادث فلابد للعالم بالقضاء من إستحضار دليل الحكم الموافق للواقعة وجزئيات الدعوى.
ومن خصائص النسبة أعلاه دلالة وجوه الأخص على وجود الأعم، ولكن وجود الأعم لا يدل على وجود الأخص .
وإذا تم نفي الأعم يتغشى النفي كل أفراده الخاصة أما لو نفي الخاص فلا يلزم منه نفي الأعم، لأن عدم الإيجاد لايعني عدم الوجود .
وجاء القرآن والسنة بعلم وفقه القضاء ومنها أسباب نزول الآيات، وتولي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحكم بالحوادث وإجابته على الأسئلة من غير ملل أو ضرر، ومن الآيات أن الله عز وجل يجيب عنه القرآن، وينزل أحياناً جبرئيل ليخبره بالحكم فيقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بامضائه وإنفاذه والإخبار عنه سواء في العبادات أو المعاملات، وعن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر: إنا قوم نكرى، فهل لنا حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المعرف وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ فقلنا: بلى! قال: جاء رجل إلى النبي: صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يدر ما يقول له، حتى نزل جبريل عليه السلام عليه بهذه الآية: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم” إلى آخر الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنتم حجاج( ).
الخامس : لزوم الشهادة على الدين وتعدد أفراد الشهود.
السادس : عدالة الشهود، وما تدل عليه من الضبط وتحري الصدق، وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا( ).
ومن إعجاز القرآن ورشحات آياته الحكمة والتكامل في القضاء الإسلامي، وملائمته لكل الأزمنة والعصور ، وصيرورته سبباً لبعث السكينة والطمأنينة في النفوس، فتأتي آية قرآنية أو شطر آية لبيان حكم وإستدامة العمل به إلى يوم القيامة كما في قوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، لبيان المثلية في جزاء التعدي، ولو حال مانع دون إنتزاع الولي أو صاحب الحق حقه فانه يتوجه إلى الله بالدعاء ويرجو العدل يوم القيامة[حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ]( ).
ويمكن تأسيس علم جديد إسمه آيات القضاء، ويكون بين آيات الأحكام وبينها عموم وخصوص مطلق , وهل آية البحث من آيات القضاء , الجواب نعم، وقد تفضل الله عز وجل وبدأها بنداء الإيمان لتثبيت أحكام الديون وعقود البيع والشراء، وصيرورتها توثيقاً للأخوة الإيمانية في المعاملات .
وقيل : إذا فسد القضاء فسد الماء والهواء ) وليس هذا القول بتام فان الماء والهواء رزق كريم من عند الله لا يحجبه البشر بظلمهم ، ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية التكامل في الأحكام, ولو عمل الناس جميعاً بأحكامها فلا تصل النوبة إلى الخصومة والمرافعات لأن الحق بيّن وظاهر ، وهو من أسرار ملك الله عز وجل للأرض والسماء بأن منع من التداخل في الحقوق ، وتفضل وجعل الأجر والثواب في نشر مفاهيم العفو والتسامح .
وأحكام الشريعة الإسلامية على وجوه :
الأول : أحكام العقيدة ومبادئ الإيمان ، قال تعالى [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابن السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ] ( ).
الثاني : أحكام العبادات وأداء الفرائض والواجبات من الصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس بقصد القربة إلى الله ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثالث : ضروب المعاملات والمكاسب والتجارات ، ومنها البيع والإجارة والمضاربة والشركة والوديعة والهبة وغيرها .
الرابع : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسنن الأخلاق ويتعلق الفقه بالجانب العملي منها ، قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) وفيه ترغيب للمسلمين للإقتداء به في سنته والعمل بمضامين قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الخامس : أحكام النكاح والطلاق ، وإن كانت من المعاملات إلا أن القرآن والسنة جعلا عناية خاصة بأحكام الأسرة وتكامل قواعدها وإنتظام الصلات فيها ، وبيان وجوب النفقة على العيال وأحكام النسب والرضاع والحضانة والميراث وأقسام الطلاق وأحكام العدة ، قال تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ]( ) .
وقال سبحانه [وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ]( ) وقال تعالى في عدة المتوفى عنها زوجها [وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ]( ).
السادس : الأحكام المالية وتنظيم الخراج والجزية والزكاة والخمس والنفقات على المصالح العامة وأمور بيت مال المسلمين .
السابع : باب الجهاد والدفاع عن الإسلام , وكيفية نشر الدعوة وسلامة المسلمين والمرابطة في الثغور .
الثامن : الأحكام الجزائية والعقوبات في الإسلام من الحدود والقصاص ، والتعزير , وموضوعية العفو والصلح في المقام ، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ] ( )
التاسع : الحكم بين الناس وحفظ الحقوق ، ومعنى وشرائط البينة والشهود والإقرار واليمين ، وحفظ الأمن والنظام وإغاثة المظلوم ورفع الحيف ، ومنع الظلم والجرائم , ومنه قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ) لبيان أن من فلسفة القضاء في الشريعة الإسلامية حفظ النفوس ، ومنع إشاعة القتل بين الناس .
وعن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وأقضاهم علي بن أبي طالب ) ( ) .
ورد في مسند أحمد عن عمر بن الخطاب قال: علي أقضانا)( ).
وفي منهاج السنة : وإما قوله : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( أقضاكم علي والقضاء يستلزم العلم والدَين ، فهذا الحديث لم يثبت وليس له إسناد يقوم به الحجة ، وتولوا للحكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، أقوى إسناداً منه , والعلم بالحلال والحرام ينتظم القضاء أعظم ما ينتظم للحلال والحرام ، وهذا الثاني قد رواه الترمذي وأحمد والأول لم يروه أحد في السنة المشهورة ولا المساند المعروفة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف وإنما يروى من طريق ما هو معروف بالكذب)( ).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، وقال عليه السلام : أقضاهم علي ، والقضاء يستدعي معرفة أبواب الفقه كلها بخلاف قوله : أفرضكم زيد وذكره كتاب السيرة النبوية من البداية والنهاية لابن كثير المتوفى 774 هـ قال : وروى أحمد والنسائي في حديث أبي قلابة عن أنس عن رسول الله أنه قال في حديث ( وأقضاهم علي بن أبي طالب)( ).
وعن محمد بن الحسين عن عبد الله بن حماد عن أبي الجارود عن الأصبغ بن نباته قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : لو كسرت لي الوسادة فقعدت عليها لقضيت بين أهل المدينة المنورة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم ، وأهل الزبور بزبورهم ، وأهل الفرقان بفرقانهم ، بقضاء يصعد إلى الله يزهر ، والله ما نزلت آية في كتاب الله في ليل أو نهار إلا وقد علمت فيمن أنزلت ، ولا أحد ممن مرّ على رأسه المواسي من قريش إلا وقد نزلت فيه آية من كتاب الله تسوقه إلى الجنة أو إلى النار ، فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ما الآية التي نزلت فيك ؟
قال : أما سمعت الله يقول : أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بينة من ربه وأنا شاهد له [فيه] وأتلوه معه)( ).
والجامع بين هذه الوجوه هو التمام وإنقطاع الشيء ، فالحكم يعني إنقضاء الخصومة .
ومعنى القضاء في الإصطلاح هو الحكم بين المتخاصمين , وفك المنازعات وزجر الظالم والمنع من التعدي والظلم ، أي التعدي للحكم الذي يحيط بجزيئات القوانين الشرعية ، على أشخاص معينين وفق قواعد المدعي والمدعى عليه ، بإثبات الحقوق وإستيفائها للمستحق ، وغايته قطع المنازعة وإنصاف المظلوم وإعادة الحقوق إلى أهلها .
وقيل القضاء سلطة شرعية على النفوس والأعراض والأموال ولا دليل على إطلاقه .
والقضاء واجب كفائي اذا قام به فرد جامع لشرائطه سقط عن الآخرين ، وقد يكون واجباً عينياً مع الإنحصار للحاجة إلى ضبط النظام وسيادة الأخلاق الحميدة وإعانة الناس بتهيئة مقدمات العبادة والطاعة لله عز وجل ، ولأن عدداً من الناس يميلون إلى الظلم وإلى تقديم منافعهم ومصالحهم عند التزاحم بينها ، وبين مصالح غيرهم بما يحدث الظلم الإبتدائي أو المركب ، مما يترتب عليه إنصاف المظلوم منعاً للفساد وإشاعة الفوضى .
وجاءت آيات كثيرة بالأمر بالعدل للأنبياء السابقين وللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين ، منها قوله تعالى خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ] ( ).
وسمي الإحتضار لوجوه :
الأول : حضور الموت عند الذي حان أجله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ] ( ) .
الثاني : حضور الملائكة عند الميت سواء ملائكة الرحمة بالنسبة للمؤمن ، أو ملائكة العذاب بالنسبة للكافر .
الثالث : حضور الأهل والأخوة والأقرباء عند الميت .
الرابع : حضور أعمال الميت في الوجود الذهني له ، لأنها التي تصاحبه في الآخرة.
موضوعية العلم في الشهادة
شهادة الشاهد صلة وحبل بين العبد وخالقه لإثبات حق أو إنكار دعوى وتتوقف عليها مصالح كثيرة ، وتدفع بها مفاسد ، وتبعث السكينة في النفوس , فكما جعل الله عز وجل الزكاة رحمة ليرفق الغني بالفقير , ويتأسى ويصبر الفقير .
وكذا بالنسبة للشهادة إذا كانت بالحق فانها تنفي البغضاء والكدورة ويدرك الناس خشية المسلمين من الله وحسن سمتهم وحرصهم على قول الحق والصدق ، وفي كل جيل وأوان من حياة المسلمين شواهد كثيرة على الثبات على الشهادة بالحق , ولابد من العلم في الشهادة ، فلا تصح مع الظن لأنها نوع إخبار لابد من اليقين فيه ، والظن وإن كان أحد طرق التصديق إلا أنه يحتمل الخطأ والكذب فلا تصح الشهادة معه ، ولو قال الشاهد أظن على القاضي أن لا يأخذ بقوله .
وإبتدأت آية البحث بنداء الإيمان للدلالة على نيل المسلمين مرتبة العلم وأنهم لم يدخلوا الإسلام إلا مع اليقين بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتجلي المعجزات على يديه، والإقرار بالمعجزة العقلية الدائمة القرآن وتتجلى موضوعية العلم في آية البحث من وجوه :
الأول : الأمر من عند الله بكتابة الدين، وفيه طرد للظن والوهم وإحتمال الترديد بين الوجوه المتعددة.
الثاني : تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا، وأهليتهم لتلقي الأمر(فاكتبوه) والتقيد به.
الثالث : إتصاف كتابة الكاتب بأنها بالعدل، وهو أحد مصاديق العلم.
الرابع : ورود مادة علم في آية البحث، ونسبة التعليم إلى الله عز وجل وعلى نحو خاص وعام أما الخاص فقوله تعالى [كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ]، وأما العام فقوله تعالى [وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ].
وأختتمت الآية بالثناء على الله عز وجل باحاطته علماً بكل شئ بقوله تعالى[وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ].
الخامس : موضوعية الشهادة على الدين، وتعدد الشهود آية في العلم والتثبيت والتوثيق.
وهل يذّكر التداين بلزوم دفع الزكاة والصدقات الواجبة ويبعث على الصدقات المستحبة الجواب نعم، لما فيه من صبغة المالية، ولأنه عقد معاملة بين غني ومحتاج، والمدين أعم من أن يكون فقيراً أو مسكيناً، فقد يكون غنياً أيضاً ويملك قوت سننه وقوت عياله ولكنه يستلف ويقترض للتجارة والمكاسب.
السادس : التمييز بين الدين الذي تلزم كتابته والإشهاد عليه، وبين التجارة الحاضرة التي يديرها المسلمين فيما بينهم.
السابع : تتضمن الآية الإحتراز من الريب بقوله تعالى[َأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا] ويطرد العلم الريب والشك، ويكون واقية منه ومن ضروب الوقاية في المقام كتابة الدين والإشهاد عليه، والتذكير والتذاكر بين الشهود ذكوراً كانوا أو أناثاً.
الثامن : إتخاذ الإيمان وندائه في أول الآية وسيلة للعلم وتعيين الحقوق .
وآية الدَين محكمة لم تنسخ سواء على السالبة الكلية أو الجزئية.
قانون إرادة العموم في آية النداء
من فضل الله عز وجل على المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة أمور :
الأول : نزول نداء الإيمان من السماء ، فقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] كلام الله الذي نزل به جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : صيرورة نداء الإيمان جزء من القرآن ، ومما بين الدفتين ليبقى خالداً في الأرض إلى يوم القيامة ، وهذا الخلود مقرون بالتسليم بأنه كلام الله .
الثالث : تلاوة المسلمين لنداء الإيمان كل يوم عدة مرات في الصلاة الواجبة وخارجها .
الرابع : تعيين المراد من نداء الإيمان ومع كثرة المسلمين , وصيرورة عدد المسلمين من اللامتناهي فان هذا النداء يتصف بمسائل :
الأولى : لا يعدو نداء الإيمان لغير المسلمين .
الثانية : لا يخطئ هذا النداء أحد المسلمين ذكراً كان أو أنثى صحيحاً أو سقيماً , غنياً أو فقيراً , حراً أو عبداً .
الثالثة : إنتفاع المسلمين والناس جميعاً من نداء الإيمان ، وليس من آية قرآنية إلا وترشح عنها النفع في النشأتين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
فمن خصائص نداء الإيمان أن كل إنسان ينهل منه , ويتزود من علومه ، وتناله إفاضاته ، لذا جاءت آيات النداء بصيغة الأمر والنهي والشرط ، والجملة الخبرية وبيان القوانين من الإرادة التكوينية .
السادس : وجوب تلاوة الناس لنداء الإيمان ، فصحيح أنه خاص في جهة الخطاب بالمسلمين الذين آمنوا بالله ونطقوا بالشهادتين ، وبين الناس وبينهم عموم وخصوص مطلق ، فالناس أعم ، ولكن الأصل هو نسبة التساوي بين الناس ونداء الإيمان ، ولكن فريقاً من الناس حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة ، فيطل عليهم هذا النداء كل يوم يدعوهم إلى الإنصات له وتلقيه بالقبول والرضا, قال تعالى[وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ]( ).
وتقدير النداء على وجوه :
الأول : يا أيها الناس كونوا مؤمنين .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا أدعوا الناس للإيمان .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا تعاهدوا الإيمان .
وقد تقدم تقسيم العموم إلى :
الأول : العموم اللغوي ، وهو الذي وضع للتعدد في المعنى ، وتقع تحت عنوانه مصاديق متعددة ليشمل أفراداً كثيرة بعرض واحد , والنسبة بينها هي التساوي بلحاظ ذات معنى الاسم ، مثل: الكتب، الخيل ، ومنه أسماء الشرط والموصلات .
الثاني : العام العرفي المنقول : وهو اللفظ الذي شاع إستعماله في غير ما وضع له بالأصل من المعنى والدلالة، كما في قوله تعالى[تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ] في آية البحث، فمعنى تديرونها أي تتعاملون بها على نحو الكثرة والتعدد بحيث تكون مشقة في الكتابة والإشهاد في كل مرة التي قد تتكرر بذا ت اليوم، وبما يحصل معه الخلط والإرباك, وفي التنزيل[يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
ومن الإعجاز في اللفظ العام في القرآن مجئ نداء الإيمان بلغة العموم , ويمكن أن يقسم النداء العام إلى قسمين :
الأول : العام بصيغته ومعناه فيأتي اللفظ عاماً، ويفيد معنى الكثرة والعموم مثل الناس، الأيام، ويمكن تقسيمه تقسيماً أصولياً جديداً إلى شعبتين وهما :
الأولى : العام بصيغته ومعناه المطابق لأفراده مثل : المسلمات، الشجر .
الثانية : العام بصيغته والأعم والأشمل من صيغته، كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إذ جاء بصيغة المذكر بينما يشمل الرجال والنساء من المسلمين.
وقد يرد ذات اللفظ المتحد ويكون مرة من الشعبة الأولى وأخرى من الثانية كما إذا ورد لفظ (المؤمنون) فورد لفظ المؤمنين في قوله تعالى[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( )، ويراد منه الشعبة الأولى أعلاه .
وأما قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فهو من الشعبة الثانية أعلاه مع كثرة ورود هذا اللفظ في القرآن إذ أن عدد المرات التي جاء فيها هي تسع وثمانون مرة.
قوله تعالى[لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ]( )، من الشعبة الأولى أعلاه يشمل الرجال والنساء من المؤمنين وتحذيرهم ونهيهم عن إتخاذ الكافرين والكافرات أولياء.
وقد يقال من آيات النداء ما يخص النفير والجهاد والقتال، وهو أمر ساقط عن النساء، والجواب من جهات :
الأولى : لزوم التدبر في آيات النداء.
الثانية : لو دار الأمر بين إحتمال وجود موضوعية للنساء المؤمنات في الآية وبين عدمه، فالأصل هو الأول، كما في قوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا]( ).
وصحيح أن الآية نزلت في أمور الحرب والقتال إلا أن الحذر الواجب فيها أعم من إختصاصه بالمجاهدين أو الرجال من المسلمين مطلقاً، إذ تكون المرأة عوناً لزوجها وأبيها وأخيها وإبنها في أخذ الحذر والحيطة من العدو، وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة نداء الإيمان وشموله للرجال والنساء , ليكون باعثاً للمسلمات للفطنة والحذر في شأن الحرب.
الثالثة : إعانة المؤمنات للمؤمنين في خروجهم وجهادهم ومرابطتهم في الثغور، وحفظهم في بيوتهم وتولي تربية الأبناء على سنن التقوى والصلاح عند غيبتهم في سبيل الله، وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته ( ).
جهاد الصحابيات
تتضمن أخبار وقائع ومعارك الإسلام الأولى مشاركة المؤمنات فيها وقتال بعضهن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة على الذين كفروا وبيان مصداق للضرورة القتالية .
ففي معركة أحد التي وقعت في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة زحف المشركون بجيش من ثلاثة آلاف لإستئصال الإيمان ووقف دخول الناس في الإسلام وأعانهم بعض الفاسقين فمثلاً قام أبو عامر وهو من أهل المدينة بحفر عدة حفر ليقع فيها المسلمون، ووقع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بواحدة منها وهو في أشد حال لكثرة الجراحات التي أصابته، وسقوط أسنانه الأمامية، وسيلان الدم من وجنته .
قال ابن إسحاق : فأخذ على بن أبى طالب بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورفعه طلحة بن عبد الله حتى استوى قائما ومص مالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدرى الدم من وجهه ثم ازدرده فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مس دمي دمه لم تصبه النار ( ).
وقاتل نفر من الأنصار والمهاجرين دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع انسحاب أكثر أصحابه من ميدان المعركة قال تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( ) .
وتروي أم عمارة صفحات مشرقة من واقعة أحد، إذ تقول خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء لسقي المجاهدين، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوجها زيد بن عاصم وولداها حبيب بن زيد، وعبد الله بن زيد.
وكانت الجولة للمسلمين وهم يقتلون بالمشركين، ويزيحونهم عن مواقعهم في الميدان ورآى نفر من المسلمين نساء المشركين قد إنهزمن (عن البراء بن عازب قال ( جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد، وكانوا خمسين رجلا، عبدالله بن جبير، قال: ووضعهم موضعا وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
قال: فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن)( ) من الفزع وشدة الخوف، والإرباك وخشية الوقوع في الأسر بعد قتل رجالهن.
وفجأة تبدلت الريح بسبب ترك الرماة المسلمين لمواقعهم على الجبل مع تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بعدم تركها بأي حال، فبعد أن وضعهم في مواضعهم على الجبل قال : إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم ( ).
وللحجة والبرهان وبيان وجود من يطيع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمره وإن كان فيه الموت والقتل فان الرماة الخمسين لم يغادروا جميعهم موضعهم، إذ بقي أميرهم عبد الله بن جبير ونحو ثمانية معه على الجبل , ولكن خيل المشركين هجمت عليهم فقتلوا جميعاً فبادرت أم عمارة إلى القتال وأخذت السيف وصارت تذب به عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتناولت القوس وأخذت ترمي المشركين .
وأقبل ابن قمئة وهو من فرسان كفار قريش ينادي: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا، فاعترضته أم عمارة مع الإمام علي عليه السلام ومصعب بن عمير وعدد من المهاجرين والأنصار، فضربها ابن قمئة على عاتقها لتبقى جراحاتها ظاهرة مدة حياتها .
وقالت : ولكن ضَربته ضرباً على ذلك , ولكن عدو الله كان عليه درعان ( ).
وأثنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أم عمارة ، وعن عبد الله بن زيد بن عاصم قال (شهدت أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، فلما تفرق الناس عنه دنوت منه، وأمي تذب عنه، فقال: يا ابن أم عمارة! قلت: نعم. قال: ارم! فرميت بين يديه رجلاً من المشركين بحجر، وهو على فرس، فأصبت عين الفرس فاضطرب الفرس حتى وقع هو وصاحبه، وجعلت أعلوه بالحجارة حتى نضدت عليه منها وقراً، والنبي صلى الله عليه وآله وسلّم ينظر ويتبسم، فنظر إلى جرح بأمي على عاتقها فقال: أمك، أمك! اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيتٍ! مقام أمك خيرٌ من مقام فلان وفلان، ومقام ربيبك يعني زوج أمه خيرٌ من مقام فلان وفلان، ومقامك لخيرٌ من مقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل البيت! قالت: ادع الله أن نرافقك في الجنة. قال: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة. قالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا) ( ) .
لقد أنعم الله عز وجل بآية الدَين على المسلمين والمسلمات للتنزه من الربا ، وليكون مأكلهم ومشربهم من الرزق الحلال .
ورأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم عمارة كيف تقاتل أشد القتال وهي حاجزة ثوبها على وسطها مع أنها جاءت في صباح المعركة ومعها ماء لتتبع أخبار المعركة وسقاية الجرحى وأصيبت بثلاثة عشر جرحاً ، وقضى أهلها ليلتهم يكمدون جراحها ، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة من حمراء الأسد ، بعث إليها عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها فرجع وأخبره أنها بخير فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد يقول: ما التفت يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني) ( ).
وبقيت أم عمارة شاهداً على وقائع أحد يرجع إليها الناس ، فاذ تجعل آية الدَين شهادة المرأتين عن شهادة رجل واحد ، ولا تكفي شهادتهما إلا مع رجل آخر لقوله تعالى [فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ] ( ).
فان كلام وشهادة أم عمارة حجة في وقائع أحد ، ودليل على جواز الأخذ بخبر الواحد ، وهو المختار والمشهور يشمل خبر المرأة أيضاً ، وإن كان المقام يقترن بالشواهد وشياع وقائع معركة أحد بين الصحابة .
وسُئلت أم عمارة : هل كن نساء قريش يوم أحد يقاتلن مع أزواجهن .
فقالت: أعوذ بالله، ما رأيت امرأة منهن رمت بسهمٍ ولا بحجر، ولكن رأيت معهن الدفاف والأكبار، يضربن ويذكرن القوم قتلى بدر، ومعهن مكاحل ومراود، فكلما ولى رجلٌ أو تكعكع ناولته إحداهن مروداً ومكحلةً ويقلن: إنما أنت امرأة! ولقد رأيتهن ولين منهزماتٍ مشمراتٍ ولها عنهن الرجال أصحاب الخيل، ونجوا على متون الخيل يتبعن الرجال على الأقدام، فجعلن يسقطن في الطريق. ولقد رأيت هند بنت عتبة، وكانت امرأة ثقيلة ولها خلقٌ، قاعدةً خاشيةً من الخيل ما بها مشيٌ، ومعها امرأة أخرى، حتى كر القوم علينا فأصابوا منا ما أصابوا، فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذٍ من قبل الرماة ومعصيتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم) ( ).
وأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو بن النجار أم حبيب شهدت مع زوجها عاصم بن كعب بيعة رهط من الأوس والخزرج من أهل يثرب (المدينة) للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة في موسم الحج ، تلك البيعة التي صارت مقدمة لهجرته إلى المدينة المنورة وإشراقة الإسلام على عموم الأرض ، لتكون هذه البيعة من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن أبهى الوقائع التي تغير مجرى تأريخ الإنسانية ، وتعيين منازل الناس في الآخرة .
وعن كعب بن مالك قال (فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بنى مازن بن النجار، وأسماء ابنة عمرو بن عدى بن نابي إحدى نساء بنى سلمة، وهى أم منيع) ( ).
وشهدت أم عمارة معركة أحد والحديبية وبيعة الرضوان وخيبر وعمرة القضية والفتح وحنيناً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وروى ابن سعد من طريق أم عمارة قالت (كانت الرجال تصفف على يمين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة بيعة العقبة والعباس آخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينادي زوجي غزية بن عمرو يا رسول الله هاتان امرأتان حضرتا تبايعانك فقال : ” إني لا أصافح النساء) ( ).
وقالت أم عمارة (أن أبا داود المازني وسليط بن عمرو ذهبا يريدان أن يحضرا بيعة العقبة فوجدوهم قد بايعوا فبايعا بعد ذلك أسعد بن زرارة وكان رأس النقباء ليلة العقبة) ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ على النساء البيعة فاذا أقررن قال : إذهبن.
وجاءت أم عمارة يوماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : أما أرى كل شيء للرجال ، وما أرى النساء يذكرن ، فنزلت هذه الآية [إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا] ( ).
لتكون الآية أعلاه معجزة في سبب نزولها وموضوعها وتعدد مصاديق التقوى التي تجمع بين الرجال والنساء من المسلمين .
وكما تقدم عندما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ما ألم بأم عمارة وزوجها وولديها من الجراحات وشدة الأذى قال صلى الله عليه وآله وسلم لهم : بارك الله عليكم من أهل بيتٍ)( ).
فانتهزت أم عمارة الفرصة وسألت الثمن والأجر إذ قال له : أدع الله أن نرافقك في الجنة .
فاجابها في الحال : اللهم أجعلهم رفقائي في الجنة .
فقالت حينئذ : ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا .
ولم تنقطع أم عمارة عن الجهاد بنفسها وأولادها بعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، فعندما قتل مسيلمة الكذاب ولدها حبيب بن زيد وقطعه عضواً عضواً استرجعت وقالت عند الله أحتسبه ، ثم خرجت لقتال مسيلمة ، وأشترك ولدها عبد الله بن زيد مع وحشي بن حرب في قتل مسيلمة، وقتل عبد الله بن زيد هذا يوم الحرة في السنة الثالثة والستين من الهجرة .
وذكر الواقدي أنه لما بلغها قتل مسيلمة إبنها حبيب عاهدت الله أن تموت دون مسيلمة أو تقتل ، فشهدت اليمامة مع خالد بن الوليد، ومعها إبنها عبد الله ، فقتل مسيلمة ، وقطعت يدها في الحرب ( ).
وإنتقلت أم عمارة إلى جوار ربها في السنة الثالثة عشرة للهجرة.
وتبين سيرة عدد من الصحابيات أهلية المرأة المسلمة للثقة والشهادة على الدَين والقرض ، وجاءت بدلية إثنتين منهن عن رجل واحد لوجوه :
الأول : التخفيف عن المسلمات وعدم إصابة المسلمة بالفزع والهلع عندما تنسى بعض تفاصيل الدَين والقرض فأنها تلجأ إلى الشاهدة التي معها للتأكد والتثبيت ودفع الشك .
ويأتي لفظ ضلّ بمعنى : نسي أو أنسيه .
ويأتي بمعنى زلّ عن الشئ ولم يهتد إليه .
فقوله تعالى [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا] أي تنسى أحداهما أو تنشغل عن موضوع الشهادة فتذهب عنها بعض أوصاف القرض أو أطرافه .
وهل في الآية دلالة على إجتناب إقراض المرأة أو الإقتراض منها خشية النسيان ، الجواب لا، من جهات :
الأولى : كتابة المسلمين للدَين والقرض .
الثاني : تعدد الشهادات على الدَين .
الثالث : حال المرأة كطرف في القرض غير مسألة الشهادة لعنايتها بالقرض الذي يخصها دائنة أو مديونة .
الرابع : مجئ آية البحث بصيغة العموم الشاملة للرجال والنساء من المسلمين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ].
ويصح تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم مع النساء .
الثاني : يا أيها اللائي آمن إذا تداينتن فيما بينكن ، وهو على شعب :
الأولى : فليكتب بينكم كاتب بالعدل .
الثانية : فلتكتب بينكن كاتبة بالعدل .
الثالثة : يا أيها اللائي آمن إذا داينتن الرجال بدين إلى أجل مسمى فليكتب بينكن كاتب بالعدل .
لطائف رقمية
الأول : آية البحث وهي آية الدَين أطول آية في القرآن ، وعدد كلماتها مائة وثمانية وعشرون كلمة ، وعدد حروفها خمسمائة وأربعون حرفاً ، وفيها ثلاث وثلاثون ميماً ويرد في آية من سورة هود ست عشرة ميماً بقوله تعالى [قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
وأقصر آية في القرآن إلى جانب الحروف المقطعة [والضحى] و[الفجر] وكل واحدة منهما خمسة أحرف تقديراً .
الثاني : عدد سور القرآن هي (114) سورة وعدد آياته هو 6236 منها(58) سورة مدنية و(28) سورة مكية على خلاف في عدد منها، وعدد كلماته هو (77236)
وقيل عدّ قراء البصرة (حروف القرآن فبقوا أربعة أشهر يعدون بالشعير فأجمعوا على أن كلماته سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة وأجمعوا على أن عدد حروفه ثلاثمائة ألف وثلاثة وعشرون ألفا وخمسة عشر (323015)حرفا انتهى
وقال غيره أجمعوا على أن عدد آيات القرآن ستة آلاف آية ثم اختلفوا فيما زاد على ذلك على أقوال فمنهم من لم يزد على ذلك ومنهم من قال ومائتا آية وأربع آيات وقيل وأربع عشرة آية وقيل مائتان وتسع عشرة آية وقيل مائتان وخمس وعشرون آية أو ست وعشرون آية وقيل مائتان وست وثلاثون حكى ذلك أبو عمرو الداني في كتاب البيان .
وأما كلماته فقال الفضيل بن شاذان عن عطاء بن يسار سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وسبع وثلاثون (77439)كلمة) ( ).
الثالث : أطول كلمة في القرآن هي [فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ]وتتألف من أحد عشر حرفاً ، وردت في الآية الكريمة [وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ] ( ) .
وتأتي بعدها من جهة كثرة الحروف كلمة [أَنُلْزِمُكُمُوهَا] وتتألف من عشرة حروف ، وورد في قصة نبي الله نوح عليه السلام في الآية [قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ]( ) وكلمة أقترفتموها في قوله [قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا..] ( ).
وتأتي بعدها كلمة [فَسَيَكْفِيكَهُمْ] وعدد حروفها تسعة حروف ، وجاءت في الآية الكريمة [ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ] ( ).
الرابع : تتابع حرف الحاء من غير حاجز بينهما في موضعين من القرآن :
أولاً : [عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى] ( ).
ثانياً : [لاَ أَبْرَحُ حَتَّى] ( ).
وتتابع حرف الكاف في كلمة واحدة مرتين في القرآن :
الأولى : في قوله تعالى [مَنَاسِكَكُمْ] ( ).
الثانية : في قوله تعالى [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ]( ).
الخامس : في القرآن آيتان ، كل آية تتضمن جميع الحروف الهجائية :
الأولى : قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ ْ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ).
الثانية : آخر آية من سورة الفتح [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
السادس : سورة من القرآن عدد آياتها هو إثنتان وعشرون آية يرد اسم الجلالة في كل آية منها ومدد في آخر آية منها خمس مرات, وهي سورة المجادلة .
السابع : ذكر أن عدد النقط في القرآن هو مليون وخمسة وعشرون ألفاً وثلاثون نقطة .
الثامن : كل سورة في القرآن تبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم إلا سورة واحدة هي سورة التوبة لأنها إنذار ووعيد للمشركين، فعندما عاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك أراد الحج، ولكن فريقاً من المشركين كانوا يحضرون البيت ويطوفون عراة من ثيابهم كعنوان لخلع الذنوب ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحج معهم .
وعن سعد بن أبي وقاص قال (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث علياً عليه السلام بأربع : لا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فهو إلى عهده ، وإن الله ورسوله بريء من المشركين) ( ).
فقام هو وأبو بكر بالطواف على الناس في مكة في ذي المجاز وأسواق مكة ومواطن تجمع الحاج ، وعند المناسك بالأمن للمشركين أربعة أشهر .
إذ يحتمل لفظ [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ]( ) وإنسلخ أي أنقضى وتم الخروج منه ، وقيل أنه مجاز ومستعار من إنسلاخ الحية من جلدها ، ولا دليل على هذا المعنى ، قال تعالى [وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ]( ).
الأول : إرادة الأشهر الحرام التي ذكرها الله عز وجل في قوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ] ( ).
والأربعة الحرم في الآية أعلاه هي رجب ، منفصل ، وشهر ذو القعدة وذو الحجة ومحرم متصلة متوالية ، وحرمتهن ثابتة في كل عام قمري وإلى يوم القيامة .
الثاني : المراد من الأشهر التي حرم الله عز وجل فيها قيام المسلمين بقتال المشركين هي أربعة أشهر من سنة نزول الآية وهي السنة التاسعة للهجرة بعد غزوة معركة تبوك من حين مناداة الإمام علي عليه السلام في مواطن الحج ولابد أن هذا النداء كان في شهر شوال أو ذي القعدة ، وهو من الأشهر الحرم .
الثالث : الإتحاد والتوافق بين آخر أيام الأشهر الحرم التي تذكرها آية البراءة والأشهر الحرم المتجددة كل عام .
ولكن شهر رجب منفصل عن الأشهر الحرم الثلاثة الأخرى ، وبينه وبينها أشهر هي شعبان وشهر رمضان وشوال ، إلا أن يكون المراد على أحد شعبتين :
الأولى : فاذا أنقضى الأشهر الحرم الثلاثة المتتالية .
الثانية : فاذا إنقضى الأشهر الحرم من تلك السنة .
الثالث : إرادة مدة أربعة أشهر بعد يوم عرفة حيث كان آخر مواطن نداء البراءة .
(عن ابن عباس قال : كان لقوم عهود فأمر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤجلهم أربعة أشهر يسيحون فيها ولا عهد لهم بعد ما وأبطل ما بعدها .
وكان قوم لا عهود لهم فأجلهم خمسين يوماً ، عشرين من ذي الحجة والمحرم كله ، فذلك قوله { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }( ) قال : ولم يعاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحداً) ( ).
والمختار هو الوجه الثالث أعلاه ، ولا تعارض بين شعبتيه الأولى والثانية ، وأن المراد من الأشهر الحرم في قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ] ( ) هي ذات الأشهر التي وردت في قوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ] ( ).
فلما كانت الأربعة الحرم قانوناً من الإرادة التكوينية لا يقبل التبديل والتغيير فان لفظ الأشهر الحرم في القرآن يراد منه ذات الأشهر وإن تكرر اللفظ .
لذا ورد عن الزهري في قوله تعالى { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } قال : نزلت في شوّال فهي الأربعة أشهر شوّال ، وذو القعدة، وذو الحجة ، والمحرم) ( ).
التاسع : في الوقت الذي لا تبدأ فيه سورة التوبة بالبسملة وردت البسملة في سورة النمل مرتين ، إحداهما في أول السورة والثانية في الآية الكريمة [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ).
العاشر : من إسماء القرآن التي وردت في ثنايا آياته:
أولاً : القرآن , وعدد المرات التي ورد فيها هذا الاسم في القرآن إسماً له ستين مرة منها قوله تعالى [وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ] ( ).
ثانياً : الفرقان , لأن القرآن يفصل بين الحق والباطل , والإيمان والكفر ، ويكون فيصلاً في الآخرة بين أهل الجنة والنار .
وورد لفظ [الفرقان] في القرآن ست مرات منها ثلاثة بخصوص القرآن ، قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] ( ).
ثالثاً : اسم الكتاب الذي ورد مطلقاً للكتب السماوية المنزلة كما في قوله تعالى [وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ]( ) وخاصاً لكتاب سماوي مخصوص ، وقد ورد إسماً خاصاً للقرآن منه قوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ] ( ).
رابعاً : الذكر , وفي التنزيل [وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ] ( ) أي أن الذين كفروا يقرون بنزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه ليس من عنده ، ولكن مشركي قريش نعتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجنون ليصرفوا الناس عنه ، وعن التدبر في معجزاته ومنها آيات القرآن ، ولبيان أنهم لن يؤمنوا بدعوته ونبوته .
ولمّا هاجر إلى المدينة المنورة جهزوا الجيوش لقتاله ، كما في معركة بدر وأحد والخندق ، وفي كل مرة تصيبهم الهزيمة ويلحقهم الخزي والذل والهوان ، ولم تمر الأيام حتى دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة فاتحاً .
وعن ابن عباس قال (أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعضادتي الباب يوم فتح مكّة وقد لاذ الناس بالبيت،
وقال : الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثمّ قال : ما تظنون؟ قالوا : نظنّ خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت، قال : وأنا أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم)( ).
خامساً : التنزيل : لتأكيد نزول القرآن من عند الله عز وجل وفيه فتح لباب الدراسة والتحقيق في نزول القرآن ووسائطه الملكوتية وكيفية النزول التدريجي وأسراره وأسباب نزول الآيات ، قال تعالى[وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ] ( ).
ومن أسرار القرآن ان كل جيل من الناس يحسبون أنه نازل في زمانهم ، ويتجلى طي الأزمنة والأحقاب بينهم وبين أيام نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المباركة لجعل المدركات والفيوضات العقلية كالمحسوسات .
سادساً : الحديث : لبيان أن القرآن كلام الله الذي أنزله على النبي، قال تعالى[فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا]( ).
ومن أسرار تسمية القرآن بالحديث حضوره المبارك عند كل إنسان ذكراً أو أنثى، وهذا الحضور من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض ، فلا يغيب عنه كلام الله ، ويستطيع أن يصدر عنه أمور الدين والدنيا ، ولما إحتجت الملائكة على جعل خليفة في الأرض لأنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ). تفضل الله عز وجل وأجابهم بالبرهان القاطع بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علم الله تعالى في المقام أمور :
الأول : نزول القرآن إماماً .
الثاني : إتصاف القرآن بأنه جامع للأحكام .
الثالث : زجر القرآن الناس عن الفساد .
الرابع : مجئ القرآن بحرمة القتل وبأحكام القصاص ، وصيرورة هذه الأحكام مانعاً من إشاعة الفساد والقتل .
سابعاً : أحسن الحديث : بعد أن وردت تسمية القرآن بالحديث فان الله عز وجل تفضل مرة أخرى وسمّاه الأحسن والأكمل , بقوله تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ] ( ) لتبين هذه الآية الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن بلحاظ إسمه ، فكل من لفظ [أَحْسَنَ الْحَدِيثِ] ، وإسم[كِتَابًا مُتَشَابِهًا] من الإعجاز الذاتي ، أما قوله تعالى [تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ] و[ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ] فمن الإعجاز الغيري والأثر الخارجي .
ثامناً : الروح : ورد لفظ الروح في القرآن لعدة معاني وكلها مباركة , ومن بديع صنع الله عز وجل وآياته الباهرة ، منها الروح الذي نفخه الله في آدم بقوله تعالى [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] ( ).
ومنها روح القدس لنصرة الأنبياء كما في قوله تعالى [وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ]( ).
وعن ابن عباس (قال : روح القدس . الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى)( ).
وعن أنس : القدس هو الرب تعالى ، وقيل أنه جبرئيل أعانه الله عز وجل به , والروح مادة الحياة التي تجري في الإنسان ، ويكون إنفصالها عن الجسد عنوان الموت وإنقطاع الصلة مع الدنيا ، وبداية الدخول في عالم الآخرة ، قال تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي] ( ) .
والروح خلق عظيم مع الملائكة كما في قوله تعالى [يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ]( ) وقيل هو جبرئيل عليه السلام.
وورد لفظ الروح إسماً للقرآن كما في قوله تعالى [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا] ( ) وعن ابن عباس قال : القرآن ( ).
تاسعاً : كلام الله ، وفيه برهان على أن القرآن من عند الله عز وجل لفظاً ورسماً معنى ، وهو من أسرار قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ] ( ).
وتبعث تسمية القرآن [كلام الله] الغبطة والسعادة في نفوس المسلمين من جهات :
الأولى : عند تلاوة القرآن حيث يدرك المسلم أن يقرأ كلام الله .
الثانية : عند الوقوف بين يدي الله في الصلاة .
الثالثة : صدور المسلم عن القرآن في القول والعمل ، ويشعر بالغبطة لأن القرآن سبيل هداية ورشاد .
ومن معاني الصراط في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) وعن الإمام علي عليه السلام قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ستكون فتن قلت : وما المخرج منها؟ قال : كتاب الله . فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل وليس بالهزل ، وهو حبل الله المتين ، وهو ذكره الحكيم، وهو الصراط المستقيم) ( ).
الرابعة : تجلي منافع كلام الله عند المسلمين ، وفي معاملاتهم وصلاتهم مع الناس .
الخامسة : نفاذ كلام الله إلى شغاف قلوب المسلمين ، ليكون حرزاً وواقية من الأمراض والأدران ، لذا قال تعالى [قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ] ( ) .
لتكون الآية أعلاه نحو تحد مبارك وإعجاز يومي متجدد، يظهر في سلامة المسلمين من كثير من الأمراض النفسية والبدنية، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، الجواب نعم بلحاظ فضل الله عز وجل عليهم بالأمن والعافية، وإتخاذها وسيلة لتعظيم شعائر الله.
قانون إختصاص الآية القرآنية
تتجلى في هذا الزمان بوضوح مسألة الإختصاصات في العلوم والصنائع والآداب والزراعات والرياضيات والقانون والعلوم العسكرية وطب الإبدان والهندسة , فما أن تستمر وتتسع الأبحاث في علم حتى يتفرع إلى علمين أو أكثر ، ويبرز متخصصون فيه تحال لهم المسائل المتعلقة به .
ويمكن تحديد بداية أوان الإختصاص والتقسيم لكل علم بما فيه الطب ، إذ كان إلى وقت قريب يعالج فيه الطبيب كل الأمراض ويسمى الطب العام ، باستثناء طب الأسنان .
وكذا بالنسبة لباقي العلوم ، وهذا الإنشطار رحمة ونعمة ووسيلة للإرتقاء وإتقان العلوم .
وقد جاء القرآن بهذا العلم قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة إذ تأتي آيات كثيرة منه بالإختصاص بموضوع معين وتكون شاهداً وحجة ودليلاً وضياءً , شاهداً على أمور :
الأول : نزول القرآن من عند الله .
الثاني : ملائمة الآية القرآنية لكل زمان .
الثالث : إستقبال الآية القرآنية للعلوم الحديثة باكتشافها والدلالة عليها في القرآن ، وفي زمان الأمية والجاهلية والوثنية , فمما تتوصل إليه المختبرات والتقنية الحديثة موجود في القرآن قبل مئات السنين ، وستأتي إكتشافات علمية بعد ألف سنة وقد يجد الناس مصداقها في القرآن، وفي قصة إبراهيم ونزول الملائكة وضيافتهم عليه وبشارتهم له ولامرأته بالولد، كما ورد في التنزيل[وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ]( ).
وكان عمر إبراهيم يوم ولد له إسماعيل ستاً وثمانين سنة وأمه هاجر وولد إسحاق بعده بأربع عشرة سنة وأمة سارة وهي المقصودة في الآية أعلاه، وكان عمرها بعد تلقي البشارة وعند ولادة إسحاق تسعين سنة.
وعن قتادة في قوله ({أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً}( ) قال: وهي يومئذ ابنة سبعين ، وهو يومئذ ابن تسعين سنة) ( ).
وقال محمد بن إسحاق (كانت سارة بنت تسعين سنة وكان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة)( ).والإجماع المركب على حدوث ولادة إسماعيل وإسحاق بالمعجزة .
وعن ابن عباس قال (لما رأى إبراهيم أنه لا تصل إلى العجل أيديهم نكرهم وخافهم ، وإنما كان خوف إبراهيم أنهم كانوا في ذلك الزمان إذا هم أحدهم بأمر سوء لم يأكل عنده يقول : إذا أكرمت بطعامه حرم عليّ أذاه ، فخاف إبراهيم أن يريدوا به سوءاً، فاضطربت مفاصله ، وامرأته سارة قائمة تخدمهم ، وكان إذا أراد أن يكرم أضيافه أقام سارة لتخدمهم ، فضحكت سارة وإنما ضحكت انها قالت : يا إبراهيم وما تخاف أنهم ثلاثة نفر وأنت وأهلك وغلمانك؟ .
قال لها جبريل : أيتها الضاحكة أما أنك ستلدين غلاماً يقال له إسحاق، ومن ورائه غلام يقال له يعقوب {فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها}( ) فأقبلت والهة تقول: واويلتاه …! ووضعت يدها على وجهها استحياء. فذلك قوله {فصكت وجهها وقالت أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً} قال : لما بشر إبراهيم بقول الله {فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى}( ) باسحاق {يجادلنا في قوم لوط} وإنما كان جداله أنه قال: يا جبريل أين تريدون، وإلى من بعثتم؟ قال : إلى قوم لوط وقد أمرنا بعذابهم. فقال إبراهيم { إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته}( ) .
وكانت فيما زعموا تسمى والقة فقال إبراهيم : إن كان فيهم مائة مؤمن تعذبونهم؟ قال جبريل: لا. قال : فإن كان فيهم تسعون مؤمنون تعذبونهم؟ قال جبريل: لا، قال : فإن كان فيهم ثمانون مؤمنون تعذبونهم؟ قال جبريل : لا، حتى انتهى في العدد إلى واحد مؤمن؟.
قال جبريل : لا ، فلما لم يذكروا لإِبراهيم أن فيها مؤمناً واحداً قال: {إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته}( ))( ).
ومن إعجاز القرآن في مسألة الإختصاص وجوه :
الأول :إختصاص الآية القرآنية الواحدة بأكثر من موضوع أو حكم .
الثاني : تأكيد آيات القرآن لإختصاص الآية القرآنية في موضوع معين.
الثالث : تجلي معاني إختصاص موضوع الآية بما يتحقق معه النفع العام , ويكون برزخاً دون الخلاف والفرقة .
الرابع : بيان إكرام الله للمسلمين في إختصاص الآيات القرآنية بمواضيع معينة ودعوتهم والناس للتدبر في القرآن.
الخامس : هذا الإختصاص من مصاديق قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى]( ).
السادس : وجود الموضوع الواحد في آيتين أو أكثر ، لتتجلى حكم ومسائل من الجمع بينها من جهات :
الأولى : نسبة التساوي بين الآيتين في ذات مسألة الإختصاص .
الثانية : نسبة العموم والخصوص المطلق بين الآيتين في ذات مسألة الإختصاص .
الثالثة : نسبة العموم والخصوص من وجه بين الآيتين في ذات الإختصاص .
ومن فضل الله عز وجل أن المسألة الواحدة تأتي في أكثر من آية وفي ذات المنطوق ، أما بالنسبة للمفهوم ، فيتعدد أيضاً .
ووردت قصة البقرة بخصوص قوم موسى عليه السلام ، وكيف أنهم يسألون موسى عن الذي قتل أحدهم ، فأمر بذبح بقرة ، فأنكروا الصلة بين كشف القاتل وذبح البقرة إذ قال[ِإنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ] ( ) ليكون في القصة أمور :
الأول : تنمية ملكة الإيمان بالغيب .
الثاني : تصديق الأنبياء فيما يأتون به من عند الله ، فقد قال موسى [ِإنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ] ومع هذا نعتوه بالإستهزاء بهم ، فلجأ إلى الله وإستعاذ من الهزء بالغير لأنه نبي معصوم ولا ينقل عن الله إلا ما يأمره به .
الثالث : المنع من التشديد على النفس والسؤال عن ماهية وسنخية ولون البقرة .
الرابع : تهيئة أذهان بني إسرائيل والعرب إلى ترك الجدال والإحتجاج على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : بيان قانون وهو أن الله لا تستعصي عليه مسألة وأنه سبحانه يظهر الحق ويكشف الباطل والظلم بما لم يطرأ على أذهان الناس ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فحينما قتل بعض نبي إسرائيل فرداً منهم ، وكان القتل عندهم أمراً عظيماً هرعوا إلى نبي الله موسى وسألوه الكشف عن الجريمة ، لتأتي في هذا الزمان علوم وتقنية حديثة وعدسات وكاميرات ومختبرات لكشف الحوادث وتوثيقها , وأنشئت جامعات تخرج رجالاً وأطباء مختصين بكشف الجرائم ، لتكون آية ذبح البقرة مقدمة وآية في المقام .
وعن ابن عباس (قال : كانت مدينتان في بني إسرائيل . وأحداهما حصينة ولها أبواب ، والأخرى خربة . فكان أهل المدينة الحصينة إذا أمسوا أغلقوا أبوابها ، فإذا أصبحوا قاموا على سور المدينة فنظروا هل حدث فيما حولها حادث ، فأصبحوا يوماً فإذا شيخ قتيل مطروح بأصل مدينتهم ، فأقبل أهل المدينة الخربة فقالوا : قتلتم صاحبنا .
وابن أخ له شاب يبكي عليه ويقول : قتلتم عمي . قالوا : والله ما فتحنا مدينتنا منذ أغلقناها ، وما لدينا من دم صاحبكم هذا! فأتوا موسى، فأوحى الله إلى موسى {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} إلى قوله{فذبحوها وما كادوا يفعلون}( ).
قال : وكان في بني إسرائيل غلام شاب يبيع في حانوت له ، وكان له أب شيخ كبير ، فأقبل رجل من بلد آخر يطلب سلعة له عنده فأعطاه بها ثمناً ، فانطلق معه ليفتح حانوته فيعطيه الذي طلب والمفتاح مع أبيه ، فإذا أبوه نائم في ظل الحانوت , فقال : أيقظه . قال ابنه : إنه نائم وأنا أكره أن أروّعه من نومته . فانصرف , فأعطاه ضعف ما أعطاه على أن يوقظه فأبى ، فذهب طالب السلعة . فاستيقظ الشيخ .
فقال له إبنه : يا أبت والله لقد جاء ههنا رجل يطلب سلعة كذا ، فأعطى بها من الثمن كذا وكذا ، فكرهت أن أروعك من نومك فلامه الشيخ ، فعوّضه الله من بره بوالده أن نتجت من بقر تلك البقرة التي يطلبها بنو إسرائيل .
فأتوه فقالوا له : بعناها , فقال : لا . قالوا : إذن نأخذ منك . فأتوا موسى فقال : اذهبوا فارضوه من سلعته . قالوا : حكمك؟ قال : حكمي أن تضعوا البقرة في كفة الميزان وتضعوا ذهباً صامتاً في الكفة الأخرى ، فإذا مال الذهب أخذته , ففعلوا ، وأقبلوا بالبقرة حتى انتهوا بها إلى قبر الشيخ ، واجتمع أهل المدينتين فذبحوها ، فضرب ببضعة من لحمها القبر .
فقام الشيخ ينفض رأسه يقول : قتلني ابن أخي طال عليه عمري وأراد أخذ مالي ومات) ( ). أي قتله الذي كان يبكي عليه , ويتهم أهل المدينة الأخرى بقتله , وفي هذا الإتهام فتنة كبرى .
ولم ترد قصة بقرة بني إسرائيل إلا في الآيات (67-73) من سورة البقرة ولم ترد في سورة أخرى .
وكذا قصة هاروت وماروت إذ وردت في قوله تعالى [وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] ( ).
وكما في فريضة الصيام إذ وردت في الآيات (183-187) من سورة البقرة .
وجاءت آية البحث خاصة بالتداين بين المسلمين وعموم الناس لتتضمن أموراً :
الأول : سلامة الدَين والعقيدة ، لذا إبتدأت بنداء الإيمان .
الثاني : حفظ النفوس ، ومنع الخصومة والإقتتال بسبب المال وإرادة إنتزاع الحقوق .
الثالث : تحصين وحفظ المال والمنع من ضياعه بالتفريط والإهمال أو إنكار الطرف الآخر ممن كان يأخذ المال بالربا والفائدة، فلما حرم الإسلام الربا وحث أهل السعة والغنى من المسلمين على الإقراض تراه ينكر الدَين ويسوف في دفعه فجاءت الآية للحيلولة دون هذا الإنكار والمنع من طرو النسيان فيه ، ويدل عليه قوله تعالى [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى] أي لا يمكن أن يحصل النسيان من قبل الشهداء كلهم ، فقد يحدث بنسبة واحدة من أربعة بلحاظ أن شهادة المرأتين عن شهادة رجل واحد .
الرابع : تنمية ملكة الحساب والإحصاء والتثبت عند المسلمين وفيه حفظ للعقل وتوظيفه بالأمور الحسنة ، وما يمنع من الضلالة .
الخامس : بيان حقيقة شرعية وهي أن تثبيت وتوثيق الدَين لا يعني القطع بوجوب القضاء في أوانه إذ جاءت الآيات بالرحمة والتراحم بين المسلمين ، وجاءت السنة النبوية بالحث على التخفيف عن المسلمين في الديون مقداراً ومدة وأجلاً للقضاء .
وعن كعب بن مالك (أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته , فنادى فقال : يا كعب قلت : لبيك يا رسول الله فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك فقال كعب : قد فعلت يا رسول الله قال قم فاقضه) ( ) .
إن إختصاص آية من القرآن بموضوع معين لا يعني فصلها عن سياق السورة التي هي جزء منها فمن الإعجاز في الآية القرآنية أمور:
الأول : المعنى الخاص للآية القرآنية .
الثاني : معنى الجمع بين الآية القرآنية وآية أخرى مجاورة لها.
الثالث : إفادة معاني وإستقراء مسائل من صلة الآية القرآنية مع آيات أخرى في ذات السورة.
الرابع : صلة الآية القرآنية مع كل آية من القرآن، وهو الذي سميناه (علم سياق الآيات) وقد صدرت فيه عدة أجزاء من هذا السفر ليكون تأسيساً لعلم يجتهد العلماء في كل جيل وإلى يوم القيامة بالتحقيق فيه وإستقراء الأحكام منه.
لقد كانت الديون مفتاحاً للربا إذ يطمع صاحب المال بزيادته، ويضطر المعسر للقبول بها، ولمنع الخصومة والشقاق واللجوء إلى الحكام الذين يلقون المديون في السجن، ليكون من معاني إختصاص آية الدَين بالتداين الجمع بين درء الخصومة وبعث السكينة في النفوس، والقضاء على الربا .
ولا تختص السكينة في المقام بصاحب المال بل تشمل المديون والشهود والكاتب , وعائلة كل من الدائن والمدين، وهذه السكينة مقدمة للدوام على ذكر الله وأدائهم الفرائض ووقوف أطراف الدَين والقرض جنباً إلى جنب في صلاة الجماعة، ليكون من رشحات (قانون إختصاص الآية) تعاهد السنن والفرائض وإستدامة وحدة المسلمين ومعالم الإيمان في الأرض، وهو مصداق لترسخ النعم من النعمة القرآنية المتحدة، وهذا الترشح من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، بلحاظ كبرى كلية وهي أن كل آية قرآنية نعمة في ذاتها وألفاظها وموضوعها وأحكامها، وتتولد عنها النعم في كل ساعة من جهات :
الأولى : تلاوة المسلمين للآية القرآنية في الصلاة وخارجها في كل يوم من أيام الحياة الدنيا منذ بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحتى يوم القيامة، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، إذ تخبر الآية عن قانون حفظ الله للقرآن في أفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل وإلى يوم القيامة .
فيكون من مصاديق الآية أعلاه الوعد الكريم بحفظ القرآن إلى أن تقوم الساعة فضلاً من عند الله على المسلمين وذراريهم، و[لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ]( )، بلحاظ أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية مصاحبة للناس إلى يوم القيامة، وهل من ملازمة بين نداء الإيمان وإختصاص الآية القرآنية، أي أنه مع كل آية قرآنية تبدأ بنداء الإيمان هناك إختصاص لها في الموضوع والحكم .
الجواب نعم، بقيد التحقيق والإستقراء في علوم آيات النداء، وإستخراج الدرر العقائدية والعلمية منها.
الثانية : صدور المسلمين عن القرآن في العبادات والمعاملات ، وهو نعمة عظمى ، وميزان تتقوم به الأعمال ، ومنهاج صلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) لذا تفضل الله وجعل تلاوة هذه الآية واجباً عينياً على كل مسلم عدة مرات في اليوم .
الثالثة : إتخاذ المسلمين القرآن إماماً وسبيل هدى ، في العبادات والمعاملات والأحكام ، قال تعالى [وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً..]( ).
الرابعة : يكون القرآن واقية لمن يتلوه من عذاب البرزخ , وشافعاً ومشفعاً له يوم القيامة .
وعن الإمام علي عليه السلام : (من استظهر القرآن وحفظه وأحل حلاله، وحرم حرامه أدخله الله به الجنة) ( ).
وإختصاص الآية القرآنية في موضوع معين نعمة ورحمة بالمسلمين والناس ، ومنهاج عمل يهدي إلى العمل الصالح في ذات الإختصاص وفي غيره ، ويمنع من الوقوع في الإثم والمعصية ، ليكون إختصاص الآية القرآنية من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ) .
قانون نداء الإيمان ثناء من الله على نفسه
يتبادر إلى الذهن من نداء الإيمان أنه ثناء على المسلمين والمسلمات لإختيارهم الإيمان , والتبادر من علامات الحقيقة ، وهو صحيح في المقام بلحاظ أن الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلاء .
ولكن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، إذ يفيد هذا النداء ثناء الله عز وجل على نفسه من جهات :
الأولى : خلق الله عز وجل الناس وجعلهم خلفاء في الأرض .
الثانية : تفضل الله ببعثة الأنبياء والمرسلين إلى الناس على نحو متعاقب ومتكرر ، وقد يكون هناك نبيان في زمان واحد ، أو رسول ونبي كما ورد في دعاء موسى عليه السلام [وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي] ( ) إذ سأل الأدنى ثم الأعلى والأكبر ، فالوزير أدنى مرتبة من النبوة التي يدل عليها سؤال إشراكه في أمر النبوة والإحتجاج .
ويدل لفظ [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] على أن المسلمين والمسلمات أنصار وأعوان وتابعون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الله .
وكثرة أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار، وجه من وجوه تفضيله على الأنبياء السابقين من وجوه :
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على فترة من الرسل ، فقد كان بينه وبين عيسى عليه السلام نحو ستمائة سنة .
الثاني : ليس من نبي مؤازر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته .
الثالث :بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) ويدل على هذا العموم على الوظائف الإضافية التي تحمّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم القيام بها لذا ورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
الرابع : ليس من نبي بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا القطع وتسليم الناس به آية عظمى ومعجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتجدد في كل زمان من وجوه :
أولاً : إقرار الناس بانقطاع النبوة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : فضح كذب مدع النبوة في أي زمان بعده , ومنه التخفيف عن المسلمين والناس بتجلي كذب مسيلمة في إدعائه النبوة .
ثالثاً : عمل الناس بشريعة الإسلام إلى يوم القيامة ، فان قلت أن عيسى عليه السلام سوف ينزل إلى الأرض وهو نبي من الرسل الخمسة اولى العزم ، فهل ينخرم قانون ( محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ) الجواب لا من وجوه :
الأول : قول الله تعالى في الثناء على النبي محمد [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] ( ).
الثاني : نزول عيسى إستمرار لرسالته فهو لا زال حياً لم يمت ، وقد كانت بعثته قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : يحكم عيسى حينما ينزل بالقرآن والسنة النبوية .
الرابع : بقاء المسلمين وملة الإسلام إلى يوم القيامة ، لذا ورد عن جابر بن عبد الله (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ، ظاهرين إلى يوم القيامة ، ثم ينزل عيسى ابن مريم .
فيقول أميرهم : تقدم فصل لنا ، فيقول : لا ، إن بعضكم لبعض أمير ، ليكرم الله هذه الأمة) ( ).
الثالثة : إختتام النبوة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إصلاح لأهل الأرض وقوام لهم، ومنع من إستحواذ الكفر ومفاهيم الضلالة على النفوس، وكل آية تتضمن الإخبار عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي مدح وثناء من عند الله على نفسه.
الرابعة : تفضل الله عز وجل بهداية المسلمين والمسلمات إلى الإسلام، فلا يقدر على جعل الناس ينزعون رداء الكفر والضلالة، ويتحلون بلباس التقوى إلا الله عز وجل.
الخامسة : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والفتك به مع بذل الكفار الوسع من أجل هذه الغاية.
وحديث ليلة الهجرة مشهور ومتواتر عند كل طبقات المسلمين وبين الناس.
لقد إنتفع الإسلام من الأشهر الحرم وإمتناع العرب فيها عن القتال إذ تمت بيعة العقبة الأولى والثانية في الأشهر الحرم في موسم الحج، لتشع وتشيع أنباء معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين القبائل وفي الأمصار فتنقضي الأشهر الحرم ولكن حديث وتساؤل الناس عن نبوته لا ينقطع قال تعالى[عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ]( ).
ولقد أدركت قريش ميل الناس لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيعة وفد مدينة يثرب من الأوس والخزرج له، ومن شأن أهل يثرب أن يقطعوا طريق تجارة قريش، بالإضافة إلى أن إسلام أهل يثرب أعظم تأييد ونصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : كثرة عدد الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة قال ابن إسحاق : فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَتَانِ مِنْهُمْ يَزْعُمُونَ أَنّهُمَا قَدْ بَايَعَتَا ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لَا يُصَافِحُ النّسَاءَ إنّمَا كَانَ يَأْخُذُ عَلَيْهِنّ فَإِنْ أَقْرَرْنَ قَالَ اذْهَبْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنّ وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنِ (بْنِ النّجّارِ)، وَهِيَ أُمّ عُمَارَةَ كَانَتْ شَهِدَتْ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَشَهِدَتْ مَعَهَا أُخْتُهَا . وَزَوْجُهَا زَيْدُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ كَعْبٍ . وَابْنَاهَا : حَبِيبُ بْنُ زَيْدٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ زَيْدٍ ( ).
هذا إلى جانب الذين أسلموا في مكة من أهل البيت وشباب قريش ذكوراً أو أناثاً، وبعض الأعبد الذين تحدوا سلطان قريش، وكسروا هيبة كبراء الكفر والضلالة، وإستعدوا للبلاء، وعزموا على ملاقاة الحنوف بالتعذيب.
وهذه الهداية وأوانها وكيفيتها من فضل الله عزو جل، وهو سبحانه الذي منع الذين كفروا من إستئصال بيضة الإسلام، لذا جاء نداء[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في السور المدنية وفيه ثناء من الله عز وجل على نفسه بأن وصل الإسلام إلى مرتبة المنعة والعمل بأحكام السماء، وهو من مصاديق قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ) .
فمن كمال الدين بلوغ المسلمين مرتبة الإيمان، ومن تمام النعمة توجه النداء من عند الله للمسلمين بصيغة الإيمان، وهذا النداء شاهد على تمام الدين، ونزول الواجبات وأحكام الحلال والحرام التي تكفي الناس إلى يوم القيامة، وهو من مصاديق قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الثاني : صيرورة الإسلام ديناً عالمياً بانتشاره إلى أمصار أخرى غير مكة، وعجز كفار قريش عن منع أهل المدينة وغيرهم عن دخول الإسلام والقيام بالتبليغ ونشر الرسالة.
لقد تجلت وإنتشرت رسالة عيسى عليه السلام بالحواريين وقد إختار من بين تلاميذه إثني عشر سماهم رسلاً للدعوة إلى عبادة الله ورسالة عيسى عليه السلام منهم سمعان ويسمى أيضاً بطرس، وأندراوس أخوه، ويعقوب، ويوضا، وبرتلماوس، متي، ويعقوب بن حلفي، بينما آمن خمسة وسبعون من أهل يثرب في ليلة واحدة في العقبة إلى جانب إيمان أهل البيت والصحابة في مكة وهو من فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المسلمين ، ليتغشى نداء الإيمان أمة عظيم تمتنع عن الإضرار بها من قبل الذين كفروا، قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، وتقدير نداء الإيمان بلحاظ قانون البحث على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا أشكروا لله الذي هداكم للإيمان، وفي التنزيل[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ).
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بفضل ولطف من عند الله.
الثالث : اشكروا لله الذي جعلكم مؤمنين .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا اشكروا الله على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا لا يقدر على الشهادة اليومية المتكررة لكم بالإيمان إلا الله عز وجل .
فمن خصائص نداء الإيمان الوارد في القرآن أنه يشهد للمسلمين والمسلمات بالإيمان من جهات :
الأولى : النداء , والشهادة بالإيمان للمسلمين والمسلمات الأحياء .
الثانية : الشهادة بالإيمان للمسلمين والمسلمات الذين غادروا الحياة الدنيا .
الثالثة : البشارة بالإيمان للمسلمين والمسلمات الذين يأتون بعد يوم النداء إلى الحياة الدنيا ، وفيه ثناء من الله على نفسه وبيان عظيم قدرته سبحانه ودليل على عدم حجب فضل الله.
بحث فقهي في بيع السلف
ويسمى أيضاً السلم وهو ابتياع كلي مؤجل بثمن حال أي عكس النسيئة، كما لو دفع في الحال مبلغ مائة دينار قيمة طن من الحنطة يسلم بعد شهرين وهو صحيح بشرائط البيع، ويقال للمشتري (المسلِم) بكسر السين، وللثمن (المسلَم) بفتحها، وللبائع (المُسلم إليه)، وللمبيع (المسلم فيه) وفيه مسائل.
الأولى : يحتاج بيع السلف إلى إيجاب وقبول ويمتاز بأن كلاً من البائع والمشتري يصح أن يكون موجباً أو قابلاً. فالإيجاب من البائع مثلاً أن يقول بعتك طناً من الحنطة بصفة كذا إلى مدة شهرين بثمن حال قدره مائة دينار، فيقول المشتري قبلت أو اشتريت.
وأما لو كان الإيجاب من المشتري فيقول للبائع : أسلمت إليك أو أسلفتك مائة دينار في طن من الحنطة بصفة كذا فيقول المسلم إليه وهو البائع (قبلت)، كما تصح المعاطاة في بيع السلف.
الثانية : مورد السلم :
الأول : النقود الورقية مع اختلاف بلد العملة.
الثاني : مطلق الأمتعة والأجناس مع الاختلاف بينها , وكونها من المكيل أو الموزون بعضها مع بعض.
الثالث : الأمتعة والأجناس وغير المكيل والموزون مع النقود الورقية او الذهبية أو الفضية.
الرابع : الأجناس بعضها مع بعض , واتحاد الجنس وكونها من المكيل أو الموزون.
الخامس : النقود الذهبية أو الفضية بعضها مع بعض مع اتحاد جنس الذهب أو جنس الفضة أو اختلافه.
والكل صحيح إلا القسمين الأخيرين.
الثالثة : يشترط في بيع السلم أمور:
الأول: ذكر الوصف الرافع للجهالة , وكلما أمكن ضبط أوصافه التي تختلف القيمة والرغبات باختلافها يصح فيه السلم ويكفي فيه الوصف المتعارف، وكلما انحصرت معرفته ورفعت الجهالة فيه بالمشاهدة لا موضوع للسلف فيه والمرجع في ذلك أهل الخبرة والعرف.
الثاني: قبض الثمن قبل التفرق عن مجلس العقد ولو قبض البعض صح فيه وبطل الباقي مع ثبوت الخيار للذي لم يقصر في القبض والاقباض، ولو كان الثمن ديناً في ذمة البائع فإن كان مؤجلاً لا يجوز جعله ثمناً للمسلم فيه، بل وكذا ان كان حالاً على الأحوط لاطلاق ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: نهى عن بيع الكالئ بالكالئ)( ) والكالئ: الدّين المتأخر.
الثالث: تقدير المبيع بما يعتبر فيه من الكيل أو الوزن أو العد أو الذرع ونحوها , وعليه قاعدة نفي الجهالة والغرر.
الرابع: مما يتقوم به بيع السلم هو تعيين الاجل المضبوط للمسلم فيه سواء كان بالأيام أو الشهور او السنين، فلو جعل الأجل مدة مجهولة كان باطلاً، ولا فرق في الأجل بعد كونه مضبوطاً بين أن يكون قليلاً كيوم أو كثيراً كسنة أو سنتين.
الخامس: امكان وجود المبيع وقت الحلول وان كان معدوماً حال العقد.
الرابعة : يجــب تعيين موضع وبلد التسليم إلا إذا كان متعيناً خارجاً.
الخامسة : إذا جعل الأجل شهراً أو شهرين أو شهور فإن وقعت المعاملة في أول الشهر فيحتسب هذا الشهر، وان وقعت المعاملة في أثناء الشهر يحسب كل ثلاثين يوماً شهراً، فلو كانت المدة شهرين فيحل الأجل بعد ستين يوماً من تاريخ العقد ويمكن أن يعده بلحاظ ذات اليوم من الشهر اللاحق، فإذا وقع في اليوم العاشر من الشهر فيحل الاجل في اليوم العاشر من الشهر الذي يلي التالي للعقد، سواء كان الحساب المتعارف .
ويدل الانصراف على الشهر القمري فيحتمل النقصان عن ستين يوماً، أو الشمسي فيحتمل الزيادة على الستين يوماً.
السادسة : قيل لو اشترى شيئاً سلماً لم يجز بيعه قبل حلول الأجل لأن الملك ليس تاماً بمثل هذا العقد سواء أراد بيعه بجنس الثمن الأول أو بغيره، كان مساوياً له أو أقل أو أكثر، ويجوز بيعه بعد حلول أجله وان لم يقبضه سواء على البائع أو على غيره بجنس الثمن او بجنس آخر وبالمساوي أو الأقل أو الأكثر ما لم يستلزم الربا أو تأتيه الحرمة من عنوان آخر .
نعم لو كان المسلم فيه مما يكال أو يوزن يكره بيعه قبل قبضه.
وقال ابن عباس بجواز بيع السلم قبل قبضه , وقال جمهور الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة بعدم جواز بيعه قبل قبضه , وأستدل بأحاديث منها حديث أبى سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اسلف في شئ فلا تصرفه إلى غيره وفى رواية الروذبارى من اسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره)( ) ورمي الحديث بالضعف .
والمختار الجواز بمثل الثمن أو أقل , أو أكثر قليلاً بلحاظ إقتراب أوان القبض ، خصوصاً وان ظاهر الأحاديث نفي الجهالة والغرر بالبيع قبل الكيل.
السابعة : لو حان الأجل ودفع المسلم إليه أي البائع إلى المشتري نوعية اردء أو مقداراً أقل مما سلم فيه لا يجب قبوله، نعم يجوز مع الرضــا وطيب النفس، أما لوكان مثله او أحسن منه من حيث الصفة كما لو كان المسلم فيه نوعية متوسطة من أنواع الحنطة ولكنه سلم إلى المشتري نوعية جيدة واحسن فيجب القبول إلا مع وجود الضرر بهذا الإختلاف.
الثامنة : إذا حل الأجل ولم يتمكن البائع من أداء المبيع لعارض من آفة أو عجز عن تحصــيله أو اعــوازه في البلد مع عـدم إمكان جلبه من مكان آخر أو غير ذلك من الأعذار حتى انقضى الأجل، كان المشتري بالخيار بين أن يفسخ المعاملة ويرجع بثمنه ورأس ماله وبين أن يصبر إلى أن يوجد ويتمكن البائع من الأداء، ولهما ان يتراضيا بقيمة وقت الأداء سواء زادت عن الثمن أو ساوت أو نقصت عنه، وليس للمشتري الزام البائع بأداء قيمة وقت الأداء ان كانت ازيد من ثمن المسمى.
التاسعة : لا فرق في هذا الخيار بين كون التأخير بتفريط من البائع او غيره، نعم لو كان التقصير من المشتري فلا خيار حينئذ، ولو تعذر البعض دون الجميع كان للمشتري الخيار بالنسبة إلى ما تعذر وبالنسبة للجميع.
العاشرة : هذا الخيار على التراضي وليس فورياً، فلو أخر لعذر أو لغيره لا يسقط خياره، ولو اختار الصبر يصح له الفسخ بعدئذ.
الحادية عشرة : لو ظهر عيب في الثمن المعين فإن كان من غير الجنس وكان في بعضه بطل العقد في ذلك البعض وله خيار التبعض، ولو كان في الجميع بطل العقد.
الثانية عشرة : أقسام البيع بالنسبة إلى ملاحظة الثمن أربعة :
الأول: بيع شيء معلوم بثمن معلوم مع تراضيهما كما لو قال بعتك هذا الكتاب بدينار، فلا يذكر رأس المال وسعر الكلفة والربح والخسران في العقد ويسمى بالمساومة.
الثاني: البيع برأس المال مع الزيادة ويسمى بالمرابحة، كما لو قال بعتك هـذه السيارة برأس مالها وقدره ألف دينار مع زيادة مقدارها كذا.
الثالث: البيع برأس المال مع النقيصة ويسمى بالمواضعة كما لو اشترى طناً من الحنطة بمائة دينار ثم باعه بخمسة وتسعين ديناراً، أي بنقيصة خمسة دنانير.
الرابع: البيع برأس المال من دون زيادة ولا نقيصة ويسمى بالتولية، كما لو اشترى المتاع بدينار وباعه بدينار أيضاً.
وهذه الأقسام الأربعة كلها صحيحة لقاعدة السلطنة وأدلة تجارة عن تراض وعدم ثبوت الردع من الشارع، والأدلة على تقريرها، وأفضل هذه الاقسام هو المساومة وهو السائد والمتعارف في مثل هذه المعاملات وبفضله تعالى ترى النفوس تميل وتسكن إليه، أما المرابحة فهي مكروهة أحياناً.
الثالثة عشرة : يعتبر في تحقق ما تقدم من الأقسام الأربعة القصد ولفظ ظاهر في العنوان المنشأ الخاص، ويتحقق بالمعاطاة أيضا بعد المقاولة على تعيين العنوان، ويعتبر في المرابحة تعيين مقدار الربح، وفي المواضعة تعيين مقدار النقيصة، ويكفي فيه ذكر رأس المال وثمن البيع ونحوه القصد الإجمالي الذي يكفي في معرفة الزيادة أو النقيصة.
الرابعة عشرة : عبارة عقد المرابحة بعد تعيين رأس المال أو تعيينه من الخارج أن يقول البائع : بعتك هذا المتاع بالمقدار الذي اشتريته به وهو كذا وربح كذا ويقول المشتري قبلت، ويجوز أن يكتفي بذكر الزيادة ولم يحدد رأس المال إلا أن يكون فيه غرر أو ضرر، فمعها يلزم البيان والتفصيل بما يرفع الجهالة والغرر، وكذا بالنسبة للمواضعة ببيان النقص، وفي التولية يقول له بعتك بما اشتريت فيقول المشتري : قبلت أو اشتريت.
الخامسة عشرة : لو تعددت النقود والعملات في البلد وكان في قيمتها وصرفها تفاوت فلابد من تعيين نوع تلك العملة، وكذا لابد من ذكر الشروط والأجل ونحوه مما يتفاوت لأجله الثمن.
السادسة عشرة : إذا اشترى متاعاً بثمن معين ولم يحدث فيه ما يوجب زيادة قيمته فرأس ماله ثمن شرائه فيقول اشتريته بكذا، أو رأس مالي كذا، وان أحدث فيه ما يوجب زيادة قيمته فإن كان بعمل منه فيقول رأس ماله كذا وعملت فيه كذا أو ما تقدر كلفته أو قيمته بكذا، أي لا يجعل عمله جزء من رأس المال عند الاخبار عن رأس ماله لما فيه من الجهــالة والتغــرير وقد يكون من الكذب، وان أنفق عليه باستئجار عامل ونحوه فله أن يحتسب تلك الأجرة ويقول : تقوّم عليّ بكذا، ولا يجوز أن يضيف الأجرة إلى رأس المال ويقول : اشتريته بكذا أو رأس ماله كذا.
السابعة عشرة : لو اشترى زيد متاعاً معيباً ورجع بالارش إلى البائع كما لو اشتراه بعشرة دنانير ثم رجع بالارش ومقداره دينار واحد، فيجوز ان يخبر بالواقع والكيفية أي قيمة الشراء ونوع العيب ومقدار الارش الذي رجع به، وله ان يسقط مقدار الارش من الثمن ويجعل رأس المال ما بقي فيقول رأس المال تسعة دنانير مع بيان العيب، أما لو حط البائع بعض الثمن بعد الاتفاق او العقد فإنه يجوز للمشتري أن يخبر بالأصل من دون اسقاط الحطيط، وضابطه أن لا يكون الحط إحساناً خاصاً أو تبرعاً من البائع له.
الثامنة عشرة : يمكن ان يحتــال البائع بأن يبيــع متاعاً ثم يشـتريه بزيادة كما لو كان عــنده كتـاب اشــتراه بدينار فيبيعه أو يهديه لابنه أو زوجته أو أجــنبي ثم يشــتريه منه بدينـــارين مثلاً، فإذا اخــبر وقال بأن رأس ماله ديناران لم يكذب ظاهراً في الاخبار في حال المرابحة، ولكنه غش وتدليــس لأن المتبادر هــو رأس المال الحقيقي وانصراف الاخبار عن مثل هــذا الشــراء المركب ولابتناء المعاملة نوعياً على عدم الخيانة، نعم لو لم يكــن عن مواطــأة وقصــد الاحتـيال وتم عن بيع ونحوه فلا إشكال.
التاسعة عشرة : لو ظهر كذب البائع في إخباره برأس المال كما إذا أخبر بأن رأس المال مائة وباعه بربح عشرة فظهر أنه كان تسعين صح البيع ويتخير المشتري بين فسخ البيع والشراء بتمام الثمن، ولا فرق بين تعمد الكذب او حصوله عن سهو واشتباه ولا يسقط هذا الخيار بالتلف فيعمل المشتري خياره ويرد المثل او القيمة.
العشرين : من اذن له المالك بالبيع واخذ الزيادة، لا يجوز أن يبيع مرابحة فلو عين التاجر للدلال ثمناً معيناً كعشرة دنانير أو جعل ما زاد للدلال، فحينئذ لا يجوز للدلال أن يبيعه مرابحة أو ان يقول أن رأس ماله عشرة دنانير، فإما أن يبيع مساومة أي يعلنه بثمن معلوم من دون ذكر رأس المال ومقدار الربح ونحوه، أو ان يبين الدلال ما هو الواقع بأن المالك قوّمه عليه بعشرة دنانير وهو يريد النفع عليه بمقدار كذا، وإذا باعه بما قوّمه المالك صح البيع ويكون الثمن له ولم يستحق الدلال شيئاً الا ان يكون المتعارف بخلافه، ويستحب إعطاؤه شيئاً لاحترام عمل المسلم وان كان هو الذي اقدم على المجانية، وإن باعه بالأقل يكون فضولياً تتوقف صحته على إجازة المالك.
الحادية والعشرين : لو اشــترى شــخص متاعاً أو داراً أو نحوه جاز له أن يشــرك فيه غيره بما اشــتراه بالمناصفة بتنصيف ثمن الشراء أو بالربع أو بأية نســبة أخرى، فيقــول مثلاً شـــركتك في هذا المتاع نصفه بنصف الثمن او ثلثه بثلث الثمن مثلاً وقال قبلت، ويجوز إيقاعه بالمعاطاة مع التعيين) ( ).
قانون نداء الإيمان حكم
تتصف الآيات المدنية بأنها تتضمن الأحكام والقوانين إذ نزلت في أيام وسنوات بناء صرح الدولة الإسلامية، وهل تلك الأحكام من عمومات قوله تعالى[إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً]( ) ( )، الجواب نعم من جهات:
الأولى : صبغة القرآنية للأحكام الشرعية، كما في قوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، بلحاظ كبرى كلية وهي أن الفرائض أسمى مصاديق الأحكام.
الثانية : نزول الأحكام من عند الله عز وجل، وفيه تشريف وإكرام للمسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالثة : تعدد وكثرة آيات الأحكام، والتي أختلف في عددها، فمن أقل قال أنها ثلاثمائة آية، ومن أكثر بلحاظ تعدد الأحكام قال أن في آية البقرة وحدها خمسمائة حكم , والمختار على وجوه:
أولاً : في كل آية قرآنية حكم أو أحكام في منطوقها أو مفهومها.
ثانياً : تعضد كل آية قرآنية الحكم الشرعي في آية أخرى.
وهو من إعجاز القرآن، بأن تكون الصلة بين آيات القرآن أعم من أن تفسر الآية القرآنية آية أخرى، وفيه شاهد على إنتفاء التعارض بين آيات القرآن مع أن عددها هو ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية , ومنها آية البحث .
ثالثاً : تؤكد الآية القرآنية الحكم الشرعي الوارد في آية أخرى سواء في ذات السورة أم في سورة أخرى.
وفيه دعوة للعلماء للتحقيق في كل آية وصلتها بآيات القرآن واحدة واحدة وهو الذي يتضمنه علم سياق الآيات الذي أصدرنا فيه عدة أجزاء بالإضافة إلى كونه جزءً من تفسير كل آية في هذا السِفر المبارك.
الرابعة : من معاني القول الثقيل في آيات الأحكام وجوب عمل أجيال المسلمين المتعاقبة بها، فتنزل الآية القرآنية في ساعة مخصوصة من ليل أو نهار على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن العمل بها دائم ومتجدد إلى يوم القيامة.
الخامسة : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ آيات القرآن، وما فيها من التكليف والأمر والنهي، ولزوم تلقي المسلمين لها بالقبول والرضا.
السادسة : إنعدام الفترة بين نزول الآية القرآنية وبين عمل المسلمين والمسلمات بها، فنزلت فريضة الزكاة وصيام شهر رمضان السنة الثانية للهجرة، والتي وقعت في شهر رمضان منها في آية علمية تدل على حسن سمت المسلمين، وصدق إيمانهم، وتفانيهم في مرضاة الله، وإمتثالهم للأوامر والتكاليف التي تأتي متفرقة أو دفعة، ولذا أكرمهم الله عز وجل بنداء الإيمان وتعدده في آيات القرآن من جهات :
الأولى : الآيات التي تتضمن الأوامر الشرعية، ومنه آية النداء التي يتعدد فيها الأمر الإلهي للفرد والجماعة .
الثانية : الآيات التي ترد فيها النواهي والزجر عن أفعال قبيحة.
الثالثة : إقتران نداء الإيمان بصيغة الشرط التي تفيد الحكم.
ويمكن تقسيم آية النداء الشرطية إلى قسمين :
الأول : آية البعث على الفعل، كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] ( ).
الثاني : آية الزجر عن الفعل، كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ]( )، وهل ذات نداء الإيمان حكم مستقل أم لا، الجواب هو الأول ، وهو من الإعجاز الذاتي والغيري في نداء الإيمان بأن يكون بذاته حكماً من وجوه :
الأول : دلالة نداء الإيمان على وجود أمة مؤمنة .
الثاني : الحكم بايمان المسلمين .
الثالث : وجود متعلق للإيمان سواء في الموضوع أو الحكم او هما معاً .
والأخير هو الصحيح في المقام ، لذا يكون تقدير الآية بلحاظ هذا القانون وهو نداء الإيمان حكماً على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا قد حكم الله بينكم وبين غيركم بالشهادة لكم بالإيمان .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إشهدوا على التداين ،لأن الإيمان شرط الشهادة .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا قد ثبت الحكم والقطع بإيمانكم .
ومن وجوه الحكم في نداء الإيمان التسليم بأنه لا نبوة بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولأن المسلمين آمنوا بأنه خاتم النبيين وآخر المرسلين ، ولبقاء هذا النداء في الأرض إلى يوم القيامة بعد مجئء البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منذ أيام آدم عليه السلام .
(وأخرج الأزرقي والبيهقي في شعب الإِيمان عن وهب بن منبه: أن آدم لما أهبط إلى الأرض استوحش فيها لما رأى من سعتها، ولم ير فيها أحداً غيره فقال : يا رب أما لأرضك هذه عامر يسبحك فيها ويقدس لك غيري؟! قال الله : إني سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي ويقدس لي ، وسأجعل فيها بيوتاً ترفع لذكري فيسبح فيها خلقي ، وسأبوّئك فيها بيتاً أختاره لنفسي ، وأخصه بكرامتي ، وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمي ، واسميه بيتي ، أنطقه بعظمتي ، وأحوزه بحرمتي ، واجعله أحق البيوت كلها ، وأولاها بذكري ، وأضعه في البقعة المباركة التي اخترت لنفسي .
فإني اخترت مكانه يوم خلقت السموات والأرض، وقبل ذلك قد كان بغيتي فهو صفوتي من البيوت ولست أسكنه ، وليس ينبغي أن أسكن البيوت ، ولا ينبغي لها أن تحملني ، اجعل ذلك البيت لك ومن بعدك حرماً وأمنا ، احرم بحرمته ما فوقه وما تحته وما حوله ، حرمه بحرمتي فقد عظم حرمتي ، ومن أجله فقد أباح حرمتي ، من أمن أهله استوجب بذلك أماني ، ومن أخافهم فقد أخفرني في ذمتي .
ومن عظم شأنه فقد عظم في عيني ، ومن تهاون به صغر عندي. ولكل ملك حيازة ، وبطن مكة حوزتي التي اخترت لنفسي دون خلقي ، فأنا الله ذو بكة ، أهلها خفرتي وجيران بيتي ، وعمارها وزوّارها وفدي وأضيافي وضماني وذمتي وجواري ، أجعله أول بيت وضع للناس ، وأعمره بأهل السماء وأهل الأرض يأتونه أفواجاً شعثاً غبراً على كل ضامر يأتين من كل فج عميق ، يعجون بالتكبير عجيجاً ، يرجون بالتلبية رجيجاً ، فمن اعتمره وحق الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وزوّاره ، وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته تعمره يا آدم ما كنت حياً ، ثم يعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء من ولدك ، أمة بعد أمة ، وقرناً بعد قرن ، ونبياً بعد نبي ، حتى ينتهي ذلك إلى نبي من ولدك يقال له محمد وهو خاتم النبيين ، فاجعله من عماره وسكانه وحماته وولاته وحجابه وسقاته ، يكون أميني عليه ما كان حياً ، فإذا انقلب إليّ وجدني قد ادخرت له من أجره ونصيبه ما يتمكن به من القربة إلي والوسيلة عندي ، وأفضل المنازل في دار المقامة .
وأجعل اسم ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وسناه مكرمة لنبي من ولدك يكون قبيل هذا النبي وهو أبوه يقال له إبراهيم ، أرفع له قواعده ، وأقضي على يديه عمارته ، وأنيط له سقايته ، وأريه حله وحرمه ومواقفه ، وأعلمه مشاعره ومناسكه ، واجعله أمة واحدة قانتاً بأمري داعياً إلى سبيلي ، واجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم . أبتليه فيصبر ، وأعافيه فيشكر ، وآمره فيفعل ، وينذر لي فيفي ، ويعدني فينجز ، أستجيب دعوته في ولده وذريته من بعده ، وأشفعه فيهم وأجعلهم أهل ذلك البيت وحماته وسقاته وخدمه وخزنته وحجابه ، حتى يبتدعوا ويغيروا ويبدلوا .
فإذا فعلوا ذلك فأنا أقدر القادرين على أن أستبدل من أشاء بمن أشاء ، وأجعل إبراهيم إما ذلك وأهل تلك الشريعة ، يأتمُّ به من حضر تلك المواطن من جميع الإِنس والجن ، يطأون فيها آثاره، ويتبعون فيها سنته ، ويقتدون فيها بهديه ، فمن فعل ذلك منهم أوفى بنذره ، واستكمل نسكه ، وأصاب بغيته ، ومن لم يفعل ذلك منهم ضيع نسكه ، وأخطأ بغيته ، ولم يوف بنذره .
فمن سأل عني يومئذ في تلك المواطن أين أنا؟ فأنا مع الشعث الغبر الموبقين الموفين بنذرهم ، المستكملين مناسكهم ، المتبتلين إلى ربهم الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون . وأخرجه الجندي عن عكرمة ووهب بن منبه رفعاه إلى ابن عباس بمثله سواء) ( ).
وفيه شاهد على توارث الأنبياء البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان بأن البيت الحرام برهان أرضي مبارك على إيمان المسلمين إذ يتعاهدون عمارته كل يوم في أيام الحياة الدنيا بالزيادة والعمرة ، حتى إذا جاء موسم الحج هبوا جماعات وقوافل وأفواجاً ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ( ) .
فتتجلى معاني نداء الإيمان بحال بهيجة أيام الحج ، تتغشاها العفة والصدق والورع .
فهل نداء الإيمان في القرآن من هذا الإكرام , الجواب نعم ويكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا بأن البيت الحرام أول بيت وضع للناس .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا بأن حج بيت الله واجب على المستطيع .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا بأن حج البيت الحرام مغفرة للذنوب وعن (ابن أبي شيبة عن عمر قال : من حج هذا البيت لا يريد غيره خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) ( ).
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتطهير البيت الحرام من الأصنام والأوثان حتى ثم فتح مكة في السنة الثانية للهجرة ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
خامساً : يا أيها الذين آمنوا بأن حج بيت الله الحرام طريق للإقامة في الجنة ، (عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)( ).
وأختتم الحديث أعلاه بالثناء على المسلمين لأنهم ورثة البيت وجاء وصفهم بالشعث الغبر في إخلاصهم الطاعة علة وقطعهم المسافات الطويلة من أجل حج البيت ولا يرضون إلا بأداء المناسك كاملة كما أداها رسول الله وهي من مصاديق نداء الإيمان بالإقرار بأن هذه المناسك حكم من عند الله .
إذ أن الحكم في المقام أعم من أن يختص بالخصومة والنزاع بين طرفين لتكون الأحكام بلحاظ الإيمان من اللامتناهي ولكن الله عز وجل يخفيها عن المؤمنين.
دلالة نداء الإيمان على البشارة للمسلمين بالحكم بنجاتهم من الخوف والفزع يوم القيامة ، بلحاظ كبرى كلية وهي قوله تعالى [وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) إنما هو حكم من عند الله لهم بالأمن والنجاة من أهوال يوم القيامة .
قانون نداء الإيمان شاهد العدالة
يتقدم الشهود للشهادة فينظر القاضي في عدالة الشهود، وجاءت آية البحث لتخفف عن القضاة والحكام ببيان قانون وهو الأصل في المسلم هو العدالة، إلا أن يطرأ أمر عرضي يخلّ بالعدالة بالبينة والشاهد، فتتجلى موضوعية ومنافع التوبة إذ تكون حاضرة مع أول آنات مغادرة العبد للعدالة وسننها، فما أن يستغفر الله ويتوب اليه حتى تعود إليه صفة العدالة، وهو من الشواهد العظمى على إكرام المسلمين بنداء[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ويكون تقدير النداء في المقام على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا قد فزتم بمرتبة العدالة .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا تعاهدوا مرتبة العدالة .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا ليأمر بعضكم بعضا بالعدالة وينهي بعضكم بعضاً عن منافيات العدالة .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا العدالة طريقاً للثواب واللبث الدائم في النعيم.
الخامس : يا أيها الذين آمنوا أدعوا الناس إلى الإسلام بالعدالة وفي التنزيل[قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
السادس : يا أيها الذين آمنوا أشكروا الله على نعمة العدالة .
السابع : يا أيها الذين آمنوا إتخذوا العدالة آلة ووسيلة لكتابة الديون، وقد تفضل الله عز وجل بقوله في آية البحث [وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ]( ).
الثامن : يا أيها الذين آمنوا يتقوم التداين بينكم بالعدالة.
ومن الإعجاز في آية البحث , ويتغشى شرط العدالة كل أطراف التداين من جهات :
الأولى : قيام الدائن باقراض ماله وجه من وجوه العدالة والإحسان لأنه يقصد القربة إلى الله في الغالب , ولأنه يدرك حاجة غيره إلى المال , ولما كان هذا القانون في العدالة) فان الإقراض من غير فائدة حكم على النفس بالعدل، وبما ينجيها من البلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة.
الثانية : تقيد الدائن بمقدار الدين وتعيين أجله وعدم تبديل أي منها من أصدق معاني العدالة وهو قهر للنفس الشهوية والطمع بغير حق.
الثالثة : إقراض المسلم المال من غير فائدة حرب على المنكر، وإسئصال للربا، ووثيقة شخصية تدل على أهليته لنيل مرتبة الذي آمن، ويكون فرداً من الذين يتوجه لهم نداء الإيمان، وفي التنزيل[وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]( ) .
الرابعة : يشترط في الشهادة على الدَين العدالة، ويحتمل وجوهاً :
الأول : كل شاهد على الدَين عادل.
الثاني : يشهد العادل على الدَين.
الثالث : الشهادة على الدَين طريق إلى العدالة.
الرابع : في الشهادة على الدَين تثبيت للعدالة .
الخامس : من خصائص الشهادة على الدَين تأكيد العدالة .
والمختار هو الثاني والرابع ، فكل من يتصف بالعدالة يشهد على الدَين، وليس كل شاهد على الدَين يتصف بالعدالة .
قانون إختبارات العدالة
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية إختيار العدالة في المعاملات ومن أظهرها مسألة الدَين والقرض، وقد يأتي للشهادة ولكن طرفي العقد أو أحدهما أو القاضي لا يقبل شهادته، وفيه دعوة لكل مسلم ومسلمة لأمور :
الأول : إصلاح النفس وتنقيح السريرة، ومن بديع صنع الله في الإنسان أن ما يخفيه في نفسه من خير أو شر يبتليه الله بمقدماته وأسبابه ليظهر بالمبرز الخارجي أو يكون قريباً من الظهور، وفي التنزيل[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( )،
وصحيح أن العدالة شرط في الشهادة إلا أن إختبارات العدالة أعم فتشمل :
الأول : أداء العبادات والمناسك، وبخصوص قوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، في كثير من الأحيان لا يعلم الإستطاعة عند الإنسان إلا الله ثم الفرد نفسه لذا ورد قوله تعالى[بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ).
ويتجلى هذا المعنى بوضوح وجلاء في فريضة الصيام أيضاً ، إذ ينبسط الإمساك عن الأكل والشرب والمفطرات على جميع آنات نهار شهر رمضان، ومنها ساعات يخلو بها الإنسان مع نفسه، فلا يعلم بتعاهده الصيام إلا الله عز وجل لذا ورد في الحديث القدسي : والصوم لي وأنا أجزي به( ).
ويأتي نداء الإيمان ليثبت المسلم في مقامات الصبر والهدى، ويجعله يستحضر قانوناً وهو أن الله عز وجل معه في كل حال ومكان، لتكون ساعة خلو المؤمن بنفسه من أفضل مصاديق العدالة الذاتية وإختباراتها لأنه لايتخذها مناسبة للهم بالسوء والفاحشة.
وتطل على المسلم والمسلمة فريضة الصلاة اليومية لإعانتهما في إختبار العدالة، وإجتيازها بتوفيق من عند الله، خاصة وأن الصلاة ماحية للذنب، وشفاء من الدرن.
وليس من إسيلختبار يتكرر كل يوم مثل إختبار العدالة الذي يلاقيه كل مسلم ومسلمة لوجوب أداء الصلاة خمس مرات على كل منهما على نحو الوجوب العيني.
وتأتي صلاة الجماعة لتكون مرآة للعدالة، ووسيلة في ثبوتها، لذا جاءت الأحاديث بالتأكيد على إستحبابها والندب إليها، كما ورد ذكرها كملاك في معرفة عدالة الشخص.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤجل الشهود ويكتب الى مناطقهم يسأل عنهم .
ويقع التداين بين المسلمين فيكون ثمرة لإختبارات العدالة، وذات التداين إختبار لها من غير أن يكون في البين تعارض بينها.
وقد جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار ولا تختص الإختبارات بالشهادة على الديون، ورب مسلم لا يشهد على مسألة دين وقرض ونحوه سنوات , ولكن العدالة لم تفارقه فليس من ملازمة بين العدالة والشهادة.
ويتجلى إختبار العدالة عن عدم أخذ الفائدة الربوية وإن تعدى أجل الدَين وأوان القضاء.
الثانية : عدالة المدين باملاء ذات مقدار الدَين والأجل المعين من غير زيادة أو تسويف فاذا كانت مدة الدَين شهرين , فمن العدالة ألا يزيد في الأجل.
الثالثة : إختبار كاتب الديون والعقود في عدالته , وفيه مسائل :
الأولى : تعيين وإختيار فرد لكتابة الدَين شاهد العدالة وعلامة لها.
الثانية : يستلزم ضبط تفاصيل عقد القرض والدَين العدالة من وجوه :
أولاً : اسم الدائن واسم أبيه، وهل يلزم كتابة الجد واللقب، الجواب لا، إذ كان الاسم واسم الأب يكفي في التعريف ويمنع من اللبس .
وإذا تردد الاسم بين شخصين فهل يكون الغنى مرجحاً لأحدهما وصيرورة الفقر سبباً لمرجوحية الآخر , الجواب لا، لأن حال الإنسان في الغنى والفقر غير مستقرة وقد يرزق الفقير رزقاً واسعاً يصبح معه قادراً على الإقراض.
ثانياً : ذكر اسم المدين واسم أبيه مع بيان أنه الذي إستدان الدَين وأن الحق عليه.
ثالثاً : تثبيت مقدار الدَين بما يتضمن البيان والوضوح وعدم الإختلاف فيه سواء كان من الأعيان أو العروض أو العملات الورقية، والأخير هو الشائع والمتعارف في هذا الزمان.
رابعاً : من عدالة الكاتب التقيد بما يمليه المدين بمعرفة وعلم الدائن لقاعدة نفي الجهالة والغرر، فصحيح أن آية البحث خصت المدين باملاء الدَين ولكنه يعني بالدلالة التضمنية على حضور الدائن الإملاء , وتقدير الآية (وليملل الذي عليه الحق بحضور الذي له الحق فمادام هو صاحب الحق والدَين فلابد أن يعلم تفاصيل الدَين.
خامساً : ضبط أوان وتأريخ القرض، وذكر تأريخ قضاء الدَين، أو مدة الدَين كما لو قال : مدة القرض شهران ، وهل يلزم الجمع بين تأريخ القضاء، ومدة الدَين .
الجواب لا، إلا مع طلب أحد الطرفين أو لدفع اللبس والوهم، ولا يلزم تعيين الشهر وهل هو قمري أو شمسي , إلا إذا كان أهل المصر يعتمدون الحسابين ، أو أن الدائن من بلد يتخذ الأهلة في حساب الإيام والشهور، والمدان من بلد يحتسب أهله التقويم الشمسي والميلادي أو بالعكس.
لقاعدة نفي الجهالة والغرر، ومنع الإختلاف في الدَين والقرض الذي هو رحمة ونعمة وباب فتحه الله عز وجل للمؤمنين لتيسير حاجاتهم ولنيل الثواب والآجر العظيم، لذا إبتدأت الآية بنداء الإيمان ليكون من معانيه أضبطوا الدَين والقرض وتفاصيله بما يمنع من الخلاف للتنافي بين الإيمان والخصومة، والتداين بين المسلمين من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
وهل تنقطع صلة الكاتب وحاجته إلى العدالة عند كتابة العقد وتدوين تفاصيله، وما فيه من الشروط، الجواب لا، فقد يلزم شهادته على ماكتبه وسؤاله عن الذي أملى عليه مضامين العقد وهل هو الذي عليه الحق أو وكيله أو غيرهما .
وإذا أملاه الذي له الحق بحضور الذي عليه الحق وبعلمه فهل يصح أم لابد من الجمود على النص , والعمل بمضامين الآية القرآنية .
الجواب هو الأول ، فيلزم الكاتب التثبت من حقيقة وهي علم ومعرفة المدين بتفاصيل ما يملى عليه ، وما يقوم الكاتب بكتابته وإن إستلزم الأمر نطق الكاتب بما أملي عليه للذي له أو عليه الحق، فكون وظيفته الكتابة ، لا يعني السكوت وعدم الكلام، بل يكون الكلام تفصيلاً وتثبيتاً للكتابة وتوثيقاً للدين وفق أحكام الكتاب والسنة، لتكون وظيفة الكاتب على وجوه :
أولاً : كتابة العقد وهو الأصل.
ثانياً : سماع ما يملى عليه والإصغاء للتفاصيل .
ثالثاً : الإلتفات إلى ما يقوله الطرف الآخر.
رابعاً : البيان في رسم الحروف والأرقام بما يمنع من الخلاف, وضياع الحقوق .
العدالة
وهي لغة الإستواء والإستقامة والسلامة من العوج.
ومن العدالة إتيان الواجبات والفرائض وإجتناب المحرمات، وهي ملكة نفسانية تفيد تنزه المسلم عن القبائح والفسوق والبدع.
وبين العدالة والإنصاف عموم وخصوص مطلق إذ أن الإنصاف إعطاء النصف وعدم بخس حق الغير، أما العدالة فأعم في موضوعها وأحكامها، وأصل الإنصاف هو القسمة بالسوية بين طرفين فتعطيه نصفه من غير زيادة ولا نقصان، ثم توسع في إستعماله, ومن العدالة إجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر، ومنها حسن المعاملة والمروءة، والإحتراز في البطن والفرج.
وقيل من غلبت حسناته سيئاته فهو عدل، وفيه تسامح بلحاظ أن العدالة هيئة راسخة, وواقية من إقتحام السيئات.
والعدل هو الذي لا يميل ولا يحيد عن الحق, ليكون من معاني الشاهد العدل الذي يرضى المسلمون دينه ويتجلى الاعتدال في أفعاله وأقواله.
ويدل الإطلاق والتبعيض في قوله تعالى[وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ] على لزوم عدم التشديد في تعريف الشهادة وتحري الشهود الذين يشهدون على الدَين، وقد خفف الله عز وجل عن المسلمين في ذات آية البحث بأن أمر بكتابة الدَين لتكون ساعة كتابته على وجوه:
الأول : تنمية ملكة العدالة عند المسلمين.
الثاني : إجتناب الشهود تغيير أو تبديل الشهادة.
الثالث : كتابة الدَين وثيقة تشهد على عدالة الشهود .
الرابع : كتابة الدَين برزخ دون سهو أو نسيان الشهود أو الخلط بين الشهادتين المتعددة، كما لو كانت الشهادة على وجوه :
أولاً : الشهادة بين طرفين معينين على عدة وثائق من الديون .
وكل فرد منها يتضمن تفاصيل تختلف عن غيره سواء في مدة القرض أو مقداره.
ثانياً : إتحاد الدائن وإتحاد المدَين وتشابه أفراد القرض مع التباين في أوانه، كما لو كانت عدة قروض ، فكل فرد منها ألف دينار ولمدة مخصوصة لثلاثة أشهر بين ذات الشخصين ولكن من هذه الديون ما بدأ من شهر محرم ويكون أجله في شهر ربيع ثان, ومنها تم في شهر صفر ويكون قضاؤه في شهر جمادى الأولى مثلاً.
ثالثاً : إتحاد الدائن وتعدد المدين ، كما لو كان شخص غنياً ويبادر إلى فعل الخيرات ، ويقرض المسلمين رجاء الأجر والثواب، وغالباً ما لا يكون حاضراً عنده إلا ذات الشهود .
رابعاً : شهادة ذات المسلم على عدة عقود من الديون مع تعدد الدائن والمدين .
فتأتي كتابة الديون لتكون عوناً للمسلم في عدالته وحسن سمته وشهادته بالحق .
وإذ تشترط آية الدَين العدالة في الكاتب والشاهد فانها وسيلة لإستدامة عدالة المسلم وصيرورة العدالة ملكة دائمة عند المسلمين والمسلمات وصفة يعوفون ويتعارفون بها، وهي أمر لازم لإمامتهم للناس في سبل الخير والصلاح ، ومن الآيات في الشريعة الإسلامية وقوف كل مسلم ومسلمة بين يدي الله خمس مرات في كل يوم وهم يتلون[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ليكون من مصاديق الصراط أمور :
الأول : مقدمات العدالة.
الثاني : التحلي بالعدالة.
الثالث : الإنتفاع الأمثل من العدالة في إمامة الجماعة والتحلي بالأخلاق الحميدة، والشهادة على الديون والعقود والإيقاعات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتشعبت مسألة العدالة بين الناس في هذا الزمان وفي ميادين الإجتماع والسياسة والإقتصاد منها، إصطلاح العدالة الإجتماعية وتسمى أيضاً العدالة المدنية ومعناها إشاعة مفاهيم التساوي في الحقوق والتنمية , وتوزيع الدخل العام، وتكافؤ الفرص , وهي أعم من العدالة في القانون , وإزالة التباين الكبير بين الأغنياء والفقراء .
ومنها العدالة الإنتقالية .
وقيدت بالإنتقالية أي تطبيق العدالة وجبر الضرر عند الإنتقال من حال النزاع وظلم الدولة بانصاف وتعويض الضحايا بالمال والخدمات الطبية والإعتذار , وإنشاء دوائر ومؤسسات خاصة بالضحايا لذوي القتلى , وأصحاب العا, وهات , وسجناء الرأي ومحاسبة المفسدين والظالمين بالملاحقة القضائية , وإصلاح المؤسسات والمنع من تكرار الإنتهاكات لحقوق الإنسان .
وتفرع عنها قيام بعض الدول بانشاء متاحف للتذكير بالضحايا والجرائم التي إرتكبت ضدهم ، واقامة نصب تذكارية وإحصاء الضحايا وتفاصيل تعذيبهم, ولكل واحد منهم قصة مروعة تحكي صفحة من الظلم, وحتمية زواله, قال تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
وإطلاق أسماء كبار الضحايا أو الوقائع المؤلمة على الشوارع وبعض الأماكن العامة , وإصدار الكتب والنشرات الدورية البيانية.
ومن أسرار الشريعة الإسلامية لزوم تنزه الحاكم من الظلم والجور، قال تعالى[وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]( )، ليكون الإسلام سابقاً في تأسيس منظمات المجتمع المدني، وجعل موضوعية لها من التشاور وإتخاذ القرار، فمع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، فانه حينما توجه وأصحابه إلى معركة بدر فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأقرب مكان من ماء بدر فنزل به ، فجاءه (الحباب بن المنذر بن الجموح قال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله ليس لنا ان نتقدمه ولا ان نتأخر عنه أم هو الرأى والحرب والمكيدة قال بل هو الرأى والحرب والمكيدة) ( ).
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، فلم يقل له رسول الله أن كلامي من الوحي ، وأنه لا أفعل إلا ما يأمرني الله بل أخبره بما يفصل بين الوحي والرأي الشخصي ، لبيان حقيقة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينتظر الوحي في المقام بمعنى يبقى في ذات الموضع الذي نزل به أم ينتقل إلى غيره ، فسأله الحُبَاب ليكون هذا السؤال مقدمة للوحي .
فقال الحباب حينئذ : يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل ، فأنهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم ، فتنزله ثم تغور ما وراءه من القلب( ) ثم تبنى عليه حوضاً فتملأه ماء فتشرب ولا يشربون .
أي ليحال بين الكفار وبين ماء البئر أن أصروا على القتال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أشرت بالرأي ، فنهض ومعه أهل بيته وأصحابه إلى أن وصل أدنى وأقرب ماء من العدو فنزل فيه ، ثم أمر بالقلب فغورت وبنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية .
فنزل جبرئيل عليه السلام لإمضاء ما أشار به الحبُاب ليكون عمل النبي بقوله من السنة التقريرية ، لبيان موضوعية التشاور في الإسلام وأنه لا يتعارض والوحي ويكون في طوله , وفيه تنمية لملكة التشاور بين المسلمين .
وكان قومه من بني سلمة من الأنصار يفتخرون بهذه الواقعة وأن الملك جبرئيل نزل بما أشار به الحبُاب بن المنذر . وهل من شواهد على العدالة.
وهل من مصاديق للعدالة الإنتقالية في أيام النبوة الخالدة وبعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من المهاجرين إلى المدينة المنورة، ومجئ الأموال والغنائم لها، الجواب نعم، وهذه العدالة أعم من أن تكون مادية وحسية.
لقد عانى أهل بيت النبوة من الحصار الإقتصادي والعزلة الإجتماعية لأكثر من سنتين في شعب أبي طالب، ولاقى كثير من الصحابة أقسى ضروب التعذيب من كفار قريش، وكانت أول شهيدة في الإسلام امرأة وهي سمية أم عمار بن ياسر إذ طعنها أبو جهل بحربة في قُبلها , فماتت وكانت عجوزاً ضعيفة، وأمة لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي , وهو من أسباب إستضعاف كفار قريش لها.
وعن صهيب الرومي أنه أراد الخروج من مكة بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة قال : قد هممت بالخروج معه فصدني فتيان من قريش فجعلت ليلتي تلك أقوم لا أقعد فقالوا قد شغله الله عنكم ببطنه ولم اكن شاكيا فناموا فلحقني منهم ناس بعدما سرت بريدا ليردوني فقلت لهم هل لكم أن أعطيكم أواقي من ذهب وتخلوا سبيلي , ففعلوا فسقتهم إلى مكة فقلت احفروا تحت اسكفة الباب فإن تحتها الأواقي وخرجت حتى قدمت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قباء قبل ان يتحول منها فلما رآني .
قال يا أبا يحيى ربح البيع ثلاثا فقلت يا رسول الله ما سبقني إليك احد وما أخبرك إلا جبرئيل عليه السلام( ).
وما من صحابي تضرر بسبب دخوله الإسلام إلا وقد نال العوض مع أن قصده القربة إلى الله , ونال الكرامة والإكرام بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعند عموم المسلمين، إلى جانب الثواب العظيم في الآخرة، ولا بد من دراسة تفصيلية عن العدالة الإنتقالية في بداية الإسلام .
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين الأوائل ففتح لهم كنوز كسرى وملك الروم وجرى لهم العطاء من بيت المال، وصاروا أمراء في الأمصار والبلدان، ونالوا الشرف الرفيع بين الناس ليكون مقدمة للشأن في الآخرة .
تعدد الأحكام في آية الدَين
لقد جعل الله عز وجل آية البحث أطول آية في القرآن وتتعلق بأحكام الدَين والقرض ورشحات البيع والشراء والسلف وآية الدَين من آيات الأحكام ، ومن أفراد الحكم فيها وجوه :
الأول : نداء الإيمان حكم وشهادة من عند الله عز وجل ، وفيه نكتة وهي صيرورة نداء الإيمان أصلاً وقاعدة تبتنى عليها المسائل .
وفي التنزيل حكاية عن شعيب في إنذاره قومه [فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ]( )، وقد حكم الله عز وجل للمسلمين بأن وصفهم بالإيمان في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا) لتصاحبهم الكرامة والإكرام إلى يوم القيامة .
ومن الآيات أن نداء الإيمان تزكية للمسلمين ليتحملوا الشهادة وباعث للثقة بحسن أدائهم لها، لذا قال تعالى[شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ].
وليس من شهادة في تأريخ الإنسانية أعم وأكبر من شهادة الله عز وجل للمسلمين بالإيمان بلحاظ إنحلال الخطاب بعدد المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة، ولا يقدر على هذه الشهادة وتعاهدها إلا الله عز وجل، وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ]( ).
الثاني : حكم آية البحث بالتداين بين المسلمين، لقد حرّم الله عز وجل الربا وأباح البيع والشراء بين الناس , قال تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، ونزلت آية البحث لتبين إستحباب التداين بين المسلمين.
وبين البيع والدَين عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء هو المعاملة بين طرفين سواء في البيع أو الدَين، وإستحباب الشهادة على الدَين والبيع، وهي في الدَين أءكد لورود النص القرآني كما في آية البحث , ومن مادة الإفتراق أن الدَين ليس تبديلاً للسلعة بعوض من المال، إنما الدَين قرضة رجاء إعادتها بذات المقدار في الأجل المتفق عليه.
لقد أمضت آية البحث حكماً بين المسلمين وهو التداين بينهم ليكون من إعجاز الحكم في آية البحث نشر شآبيب المودة والرفعة والرحمة بينهم من جهات:
الأولى : إمكان التداين بين المسلمين وشعور المسلم بامكان الإقتراض عند الحاجة، مما يجعله في حال طمأنينة ولا يخشى الحرج والضيق وشدة البلاء.
الثانية : تفقه المسلمين في الدين، ومعرفة أن التداين واقية من الربا وسبيل إلى التنزه عنه، فما أن حرم الله الله الربا حتى أمر بالتداين بين المسلمين ليكون بديلاً عن الربا، وواقية متجددة منه وهو من الإعجاز الغيري للتداين بأن تكون له منافع عظيمة منها منع طرو الربا على معاملات المسلمين، وقد يكثر بعضهم من طرق التحايل على الربا بالمصالحة ونحوها، ولكن هذا الإكثار وجعله المعاملة السائدة في السوق أمر مكروه.
الثالثة : توثيق أواصر الأخوة بين المسلمين.
الرابعة : إتخاذ التداين وسيلة لإصلاح المبين، ودفع الربا، ودرء الفتن.
الثالث : الحكم بتعيين أجل الدَين، ووردت بصيغة الجملة الخبرية بقوله تعالى[إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى] إلا أنها تفيد الندب والحث على تحديد مدة الدَين، وذكر أوان القرض، سواء بالأيام أو الأشهر أو الأعوام، ويكون الأجل وتعيينه في أمور :
أولاً : بيع النسيئة بأن يكون تسليم العين المباعة في الحال ولكن الثمن مؤجل.
ثانياً : بين السلم : بأن يعطي المشتري الثمن، ولكنه ينتظر إلى أجل معين لتسلم العين، وليس له المطالبة بها قبل الأوان كما لو كانت العين المباعة الحنطة وأجلها أوان الحصاد .
ثالثاً : القرض وتعيين مدته .
وفي الأول والثاني يجب تعيين الأجل وعدم اللبس أو الجهالة فيه , أما ثالثاً أعلاه فمختلف فيه، والمشهور والمختار عدم وجوب تعيين أجل القرض .
وظاهر آية البحث هو عدم الوجوب، وذكر أنه إذا لم يعين الأجل فمدته شهران، ولكن هناك تباين في الموضوع والحال .
الرابع : الحكم بكتابة الدَين وتوثيقه بالتداين الذي يكون برزخاً دون النسيان والتغيير والتبديل السهوي والعمدي ، لقوله تعالى[فَاكْتُبُوهُ].
وأيهما أكثر حاجة لطلب التوثق بكتابة الدًين والإشهاد الدائن المقرض، أم المدين المستقرض في الجواب تفصيل من جهتين:
الأولى : الحاجة إلى كتابة الدَين في الدنيا ، وليس من قاعدة كلية في المقام ، إذ يحتمل وجوهاً :
الأول : المدَين أكثر حاجة لكتابة الدَين والإشهاد عليه.
الثاني : الدائن أكثر حاجة لتوثيق الدَين ومقداره.
الثالث : كل من الدائن والمدين بمرتبة واحدة في الحاجة إلى تدوين وتوثيق الدَين.
الثانية : الحاجة الأخروية لتوثيق الدين ، ويكون فيها المسُتقرض هو الأكثر حاجة للزوم براءة ذمته ، ولمنع بقاء إشتغالها بحقوق الناس ، لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يصلي على الذي عليه دَين حتى يُقضى عنه .
ومن أسرار نداء الإيمان وتوجه الخطاب إلى المسلمين والمسلمات جميعاً في الآية لزوم قيامهم بزجر الذي يصدر منه الأذى من جهات:
الأولى : زجر الذي يؤذي كاتب الذين والقرض.
الثانية : نهي الذي يؤذي أحد الشاهدين أو كليهما.
الثالثة : منع الكاتب من إيذاء أحد طرفي العقد والقرض.
الرابعة : نهي الشاهد عن إيذاء المدائن أو المدين.
لقد تفضل الله عز وجل بإصلاح المسلمين , فيحرم على المسلم كتمان الشهادة، وهذا الكتمان من الضرر الوارد في آية البحث، قال تعالى[وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ]( )، ومنه أيضاً إكراه الشاهد على كتمان أو تحريف شهادته، كما لو جرى تهديده بالقتل عند الإداء بشهادته بالحق، لذا قال تعالى[وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ]( ).
وعن ابن عباس في قوله { ولا يضار كاتب ولا شهيد } قال : يأتي الرجل الرجلين فيدعوهما إلى الكتاب والشهادة فيقولان : إنا على حاجة . فيقول : إنكما قد أمرتما أن تجيبا فليس له أن يضارهما)( ).
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه كان يقرأ(ولا يضارر)( ).
ولم يرد لفظ (يضار) في القرآن الا في آية البحث، وورد قوله تعالى[لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ]( ).
وتقدير الآية على وجوه:
الأول : لا يضار كاتب.
الثاني : لا يضار شاهد.
الثالث : لا يضار الكاتب والشاهد.
وقدمت الآية الكاتب وفيه وجوه:
الأول : لحاظ نظم آية البحث لأنها إبتدأت بذكر الكتابة والكاتب قبل الشاهد.
الثاني : بيان أولوية الكتابة لأن الأصل هو تدوين الدَين ثم الشهادة عليه.
الثالث : موضوعية الكاتب والكتابة في توثيق الدين وتقدمها رتبة على الشهادة.
الرابع : إحراز كتابة الدين بالحق تيسر للشهادة بالحق، وبرزخ دون نسيان الشهود تفاصيل القرض والدين ليكون قوله تعالى[وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ]( ).
من مصاديق الذكرى والتذكير في قوله تعالى[وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ] من جهات:
الأولى : تذكير الشاهدين وتأكيد شهادتهما بالحق.
الثانية : منع طرو النسيان على الشهود في تفاصيل الشهادة.
الثالثة : دفع النسيان والوهم عن أحدى الشاهدتين.
الرابعة : منع طرو النسيان على الشاهدتين معاً.
وهو من إعجاز القرآن بأن يتضمن شطر من الآية الإخبار عن تذكير إحدى الشاهدتين الأخرى، ثم يأتي شطراً آخر يفيد تذكير الشاهدتين مجتمعتين بأمر عام متوجه للمسلمين والمسلمات يتضمن التنزه عن الإضرار بأطرف الدين والقرض، ويستحب للقاضي أن يتخذ كاتباً لكثرة أعماله فهل تشمل آية البحث هذا الكاتب الجواب نعم.
ومن الفقهاء من عرف الشهادة بأنها إخبار بحق الغير على الغير في مجلس القضاء، ولكن آية البحث أعم في موضوعها ودلالاتها، لإنبساط الإضرار المنهي عنه على جميع أحوال الشاهد ومدة القرض، فلا يضار أو يؤذي الشاهد في الحالات الآتية:
الأولى : قبل تحمل الشهادة.
الثانية : ساعة تحمل الشهادة وحضور عقد البيع وترتب القرض أو الدين.
الثالثة : مدة الدَين والقرض ما بين ساعة التحمل إلى حين أداء الشهادة.
الرابعة : ساعة أداء الشهادة بالحق.
الخامسة : ما بعد أداء الشهادة، ولا يجوز نعت الشاهد بالمحاباة أو الرياء، أو الشهادة بالزور، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ]( ).
ترى من المخاطب بالأمر بالكتابة في آية البحث , الجواب فيه وجوه :
الأول : عموم المسلمين والمسلمات ، خاصة وأن الآية جاءت بصيغة الجملة الشرطية .
الثاني : الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر من عموم المسلمين ، كما في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ) .
الثالث : طرفا الدَين ، الدائن والمدين ، وجاءت صيغة الجمع بجهات :
الأولى : الإثنان أقل الجمع .
الثانية : إحتمال تعدد كل طرف من طرفي الدَين أو تعدد أحدهما .
الثالثة : إتحاد لغة الخطاب في آية البحث إذ إبتدأت بصيغة الجمع ونداء الإيمان العام للمسلمين .
الرابعة : رجاء الثواب لعموم المسلمين .
الخامسة : إذا تخلف بعض أطراف الدَين عن كتابته يتصدى عموم المسلمين لكتابته .
السادس : إرادة المتعدد من معاملات وعقود الدَين .
السابعة : المقصود الدائن والمدين وولي أحدهما أو كليهما .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث ليكون الحكم بكتابة الدَين خاصاً وعاماً ، وقد لا يميل طرفا الدَين للكتابة ، فيأتي الآمرون بالمعروف ليحثوهما على كتابته ، لأن آية البحث تأمرهم جميعاً بكتابته ، وفيه دعوة لإستحضار القرآن في المعاملات والتعاون بين المسلمين للعمل بأحكام آياته ، وهل كتابة الدَين مطلوبة بذاتها وحدها ، الجواب إنها أعم في غاياتها الحميدة من جهات :
الأولى : كتابة الدَين حرز لضمانه .
الثانية : تأكيد الفضل بين المسلمين بالتداين ، قال تعالى [وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ) وعن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (المسلم اخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة اخيه كان الله عز وجل في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله عز وجل يوم القيامة )( ) .
الثالثة : بعث المسلمين على تعاهد الفرائض العبادية وأداء الصلاة اليومية جماعة .
إن التقيد بالواجبات العبادية طريق للتقوى في المعاملات .
الرابعة : جعل موضوعية للكتابة في الحقوق والواجبات والمعاملات والأنساب والإبقاعات كالوقف والهبة .
الخامسة : نشر التعليم بين المسلمين ، وقيامهم بتعليم أولادهم الكتابة مع إدراك موضوعيتها كصنعة ووسيلة للكسب .
ومن المسلمات إقتران الكتابة بالقرآن ، ليكون المسلمون مؤهلين لقراءة القرآن في المصحف وكتابة آياته ، وتوثيق السنة النبوية .
السادسة : كتابة العلوم ونقل تأريخ الأمم وأهل الملل إذ أكد القرآن على توثيقها من وجوه :
أولاً : ذكر قصص الأنبياء ودعوتهم للتوحيد ، وما لاقوه من الأذى في سبيل الله ، وقد خصّ الله سورة كاملة في قصة يوسف عليه السلام ، وورد ذكر ثمان عشر من الأنبياء في ثلاث آيات متتالية، قال تعالى[وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ]( ) والمراد من الضمير الهاء في [وَوَهَبْنَا لَهُ] هو إبراهيم عليه السلام .
وبينت هذه الآيات تفضيل الأنبياء على الناس ، ومن وجوه هذه التفضيل ذكرهم هاتين الآيتين ودعوة المسلمين لإقتباس المواعظ من سنن التقوى التي كانوا عليها .
ثانياً : مجئ القرآن بقصص الأمم السالفة من المكذبين والضالين بما يفيد تحذير المسلمين وإنذار الناس جميعاً ومخاطبة العقول بإجتناب الكفر والجحود والضلالة ، وهل تدوين هذه القصص من عمومات السير في الأرض ، وقوله تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ) الجواب نعم .
ثالثاً : وردت قصص الملل السابقة في القرآن ، وبيان جهاد الأنبياء وأتباعهم ، ومحاربة الكافرين لهم ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
لبيان أن كتابة المسلمين لقصص الأمم السابقة دعوة للصبر ومناسبة لإقتباس دروس الورع , وتحمل الأذى والسعي في سبيل الله وتعظيم شعائره .
رابعاً : تدوين السنة النبوية ، وما فيها من الأحكام والسنن ، وتذكير المسلمين بعلوم وتأويل آيات القرآن , وأحاديث السنة النبوية .
خامساً : إتخاذ الكتابة وسيلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ يأتيان بما هو أعم من الكلام ، فالقلم آلة ووسيلة للأمر بالحق والدعوة إلى الهدى، ونبذ الشرك ومفاهيم الضلالة ، قال تعالى [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ]( ).
وهل الكتابة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مرتبة القول أم مما يكون في القلب , الجواب هو الأول إذ تلحق الكتابة والتدوين بالقول والنطق ، وقد تكون أكثر نفعاً من القول لبقاء التدوين والكتابة ، لذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم « يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء ، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء)( ).
وهل تصح شهادة الذي يعرف بشهادة الزور أو الذي لم يتب من فعل الكبيرة ويصر على الفاحشة وإن كانت صغيرة ، الجواب لا.
وقال الحنفية بجواز شهادة غير العادل في عقد النكاح ، فيصح العقد بشهادة عدلين أو غير عدلين لأن هذه الشهادة تحمل ، وأشترط الشافعية العدالة في الشاهدين عقد النكاح وكذا في أرجح الروايتين عن أحمد لأن الشهادة نوع توثيق ، وفيها إكرام لذات الشاهد وموضوع الزواج وأستدل بحديث(لا نكاح إلا بوليّ وشاهدي عدل) ( ).
وقال الإمامية بإستحباب الشهادة على النكاح ، وهي ليست شرطاً في صحة العقد وجعلوا شهادة العدلين شرطاً في صحة الطلاق .
ولابد من العلم برضا الزوجة على الزواج بأن تقول قبلت أو رضيت والإطمئنان بأنها غير مجبرة ، ولم يشترطه الحنفية وأجمع المسلمون على شرط الإسلام والبلوغ والعقل في الشهادة في عقود البيع والشراء والقرض ، وهو الذي تدل عليه آية البحث .
بحث فقهي
وهناك مواطن تتساوى فيها شهادة المرأة بشهادة الرجل منها عيوب النساء مما يكون تحت الثياب وتقبل شهادة المرأة في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمن باب الأولوية أن تقبل شهادتها على الناس، ولكن تعدد شهادة النساء وبدلية إمرأتين عن رجل واحد وإكرام للمرأة وللتوثيق والطمأنينة.
ولم تقل الآية (فإن نست إحداهما) بل قالت[أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا] والضلالة هنا بمعنى الغياب والإضمحلال أي تغيب عنها حقيقة وتفاصيل المشهود عليه ومنه ما ورد في التنزيل[وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ]( )، أي دفنوا في الأرض وإضمحلوا فيها، ومنه قوله تعالى [أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ] أي إذا دفنوا وغيّبوا في الأرض وإضمحلوا ، ولما كانت النسبة بين النسيان والسهو هي العموم والخصوص المطلق وأن النسيان هو الأعم لأنه غياب الشئ عن الذاكرة والمدركة الحافظة فما معنى أضلت إحدهما ، وفيه وجوه :
الأول : الضلال هنا بمعنى النسيان.
الثاني : المراد السهو بدليل قيام الشاهدة الأخرى بالتذكير .
الثالث : المراد البرزخ بين النسيان والسهو .
والمختار هو الثالث ، فيأتي التذكير للمشاهدة من شريكتها في الشهادة لتعيد إستحضارها للأمر ، فلا يبقى منسياً وغائباً .
ولا يختص التذكير هنا بأوان أداء الشهادة بل يتغش مدتها إلى حين الأجل المسمى .
لذا حصرت الآية التذكير بين الشهادتين لإمكان الإجتماع المتكرر بينهما وصيرورة حديث الشهادة على الدَين مما يجري بينهما.
والأصل في البيع والشراء هو النقد والحال بأن يدفع المشتري الثمن نقداً، ويقوم البائع بتسليم البيع وليس له الإمتناع عن التسليم إذا طلبه المشتري .
ولو إشترط تأجيل ودفع الثمن فيسمى البيع حينئذ نسيئة وضده بيع السلم أو السلف، وتشمله أحكام آية الدَين، وتقدير الآية: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين أو بعتم إلى أجل مسمى فاكتبوه).
ولا يجب على المشتري حينئذ دفع الثمن قبل حلول الأجل حتى وإن طالب البائع به، ولو دفعه المشتري قبل الأجل فهل يجب على البائع قبول وأخذه الجواب لا، وإن كان هو الأولى .
وبيع النسيئة من مصاديق آية البحث فلابد أن تعيين مدة وأوان دفع الثمن على نحو لايقبل الترديد والزيادة والنقصان تفسيراً وتأويلاً وبما يؤدي إلى الجهالة والغرر فلا يصح مثلاً جعل أوان دفع المبلغ موسم هطول الأمطار مثلاً أو نقص ماء النهر، أو عودة المسافرين.
وإذا جرى البيع مردداً بين ثمنين بلحاظ خصائص لكل منهما، كما لو قال بعتك نقداً بألف دينار ونسيئة إلى شهرين بالف ومائتي دينار، وقال المشتري : قبلت فلا يصح على الأقوى للترديد، ورائحة الربا في المعاملة قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( ).
ولكن لو عرض عليه التفصيل والبيان، وترك الخيار للمشتري على مراحل منها تحديداً ثم جرى العقد على أحدهما صحت المعاملة، وتجري الشهادة عليه سواء على البيع نقداً بألف دينار وحده، أو على البيع نسيئة بألف ومائتي دينار لقوله تعالى في آية البحث [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ].
وإذا تم البيع بالنسيئة بالثمن الأكثر، ويعلم المشتري بأن الشراء نقداً بالثمن الأقل أو أن غيره إشترى ذات السلعة من نفس البائع وفي ذات الوقت نقداً بسعر أقل، فكل معاملة مستقلة بذاتها وصحيحة.
نعم لو حان الأجل لدفع الثمن ولم يكن عند المشتري ما يدفعه، فلا تجوز الزيادة على أصل الدَين، لأن هذه الزيادة ربوية، كما أنها ممتنعة بلحاظ شهادة كتابة ذات الدَين وشهادة الشهود عليه من غير زيادة، بل يمهله الدائن قال تعالى[وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] ( ).
موضوعية العلم في جواز الشهادة
الشهادة صلة وحبل بين العبد وخالقه لأثبات حق أو إنكار دعوى، وتتوقف عليها مصالح كثيرة وتدفع بها مفاسد ، وتبعث السكينة في النفوس ، فكلما جعل الله عز وجل الزكاة رحمة ليرفق الغني بالفقير ، ويتأسى ويصبر الفقير ، فكذا بالنسبة للشهادة إذا كانت بالحق فأنها تنفي البغضاء والكدورة ويدرك الناس خشية المسلمين من الله وحسن سمتهم وحرصهم على قول الحق والصدق .
وفي كل جيل وأوان من حياة المسلمين شواهد كثيرة على الثبات على الشهادة بالحق ، ولابد من العلم في الشهادة ، فلا تصح مع الظن لأنها نوع إخبار جازم يلزم اليقين فيه ، والظن وإن كان أحد طرفي التصديق إلا أنه يحتمل الخطأ والكذب فلا تصح الشهادة معه ، ولو قال الشاهد أظن على القاضي أن لا يأخذ بقوله.
وقيل للإمام الصادق عليه السلام : أن ابن أبي ليلى يسألني الشهادة عن هذه الدار مات فلان وتركها ميراثاً وأنه ليس له وارث غير الذي شهدنا له ، فقال أشهد بما هو علمك ، قلت : إن ابن أبي ليلى( ) يحلفنا (الغموس) أحلف إنما هو على علمك .
ومما يروى بخصوص ابن أبي ليلى القاضي أنه جاءته امرأتان للشكوى ، فقالت إحداهما أيها القاضي أن النفس قد حفزني وأن الغرفة ضيقة , فهل تسمح لي بكشف وجهي ، فقالت الأخرى : فقالت الأخرى أيها القاضي إنها تكذب إنما هي ذات وجه جميل وأخشى أن تميل في الحكم إن كشفت وجهها ، ويحق للقاضي كشف الوجه للتأكد من هوية طرف الدعوة.
ثم سألها ابن أبي ليلى من أين أبدأ .
فقالت إحداهما للأخرى : أبدأي أنتِ .
فقالت : أيها القاضي مات أبي , وهذه عمتي وأقول لها يا أمي لتوليها تربيتي وكفالتي وحينما كبرت تقدم لي ابن عم فخطبني فزوجتني إياه .
وكانت عندها بنت ، فلما كبرت أرادت أن تزوجها زوجي بعدما أن رأت من حسن أخلاقه ، فزينتها له فاعجبته ، قالت العمة أزوجك إياها بشرط واحد وهو أن تجعل أمر إبنة أخي وطلاقها بيدي أي وكالة ، فرضي بالشرط ، وفي يوم الزفاف وفي ساعة العرس وتزيين العروس ودخولها على زوجها ، قالت العمة أن زوجك قد تزوج إبنتي وجعل أمرك بيدي فأنت طالق .
وبعد مدة جاء زوج العمة من سفر طويل وقد خرجت هذه البنت من عدتها ، فعرضت نفسها لزوج عمتها للزواج منها وكان شاعراً كبيراً فرضي بالأمر ، وقالت بشرط أن تجعل أمر عمتي إلي فوافق على الشرط ز
وفي ليلة الزواج أرسلت إلى عمتها وقالت لها لقد صرت زوجة فلان وجعل أمرك بيدي فأنت طالق ثم مات زوج العمة ، الذي أصبح زوج إبنة أخيها فتصارعتا على الميراث فكسبته إبنة الأخ لأنها الزوجة أوان موته .
وبعدها رأها زوجها السابق الذي طلقها وتزوج إبنة العمة فحّن لها ولأيامها خاصة وقد صارت عندها أموال وميراث ، فقالت له تتزوجني أي مرة أخرى.
قال : نعم قالت بشرط أن تجعل أمر زوجتك بيدي فوافق الزوج , وفي ليلة الزفاف أرسلت إلى إبنة عمتها , وقالت : لقد صرت زوجة فلان وأمرك بيدي وأنت طالق ز
ويشترط في الطلاق أن يكون في طهر لم يطأها فيه .
فأصاب ابن أبي ليلى الذهول، ووضع يده على رأسه وقال : أين السؤال ، فقالت العمة حينئذ اليس من الحرام أن نطلق أنا وإبنتي ثم تأخذ هذه الزوجين والميراث) .
بلحاظ أنها أخذت ميراث الأول وإحتمال تأخذ ميراث الثاني ، وحتى على فرض أنها تموت قبله ، فأنها تعيش في كنفه وينفق عليها مدة حياتها .
فقال ابن أبي ليلى ، والله لا أرى في ذلك حرمة , وما الحرام في رجل تزوج مرتين وطلق وأعطى وكالة .
وذهب ابن أبي ليلى إلى أبي جعفر المنصور وحكى له القصة ، فضحك وقال : قاتل الله هذه العجوز من حفر حفرة وقع فيها ، وهذه وقعت في البحر .
ترى هل من آية قرآنية تدل على لزوم الصدق بالشهادة وقول الحق ، الجواب نعم ،منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ).
لإرادة الإطلاق في الشهادة ، الشهادة لأنفسكم ، لغيركم ، للناس وتحتمل الشهادة وجوهاً :
أولاً : الشهادة عن علم وحس .
ثانياً : الشهادة عن حدس .
ثالثاً : الجامع المشترك بالشهادة عن حس وحدس .
والصحيح هو الأول , فمستند الشهادة هو العلم والقطع سواء بالحواس أو ما يقرب منها .
تحمل الشهادة
هناك أمران منفصلان :
الأول : تحمل الشهادة .
الثاني : أداء الشهادة ، ويكون الأول مقدمة للثاني .
وتحمل الشهادة مصدر بمعنى المفعول أي الإحاطة والمعرفة بالأمر الذي يشهد عليه وإلتزامه بلحاظ أن الشهادة أمانة ومن أسمى الأمانات . وهل تحمّل الشهادة واجب أم مستحب ، وإذا كان واجباً فهل هو واجب عيني أو كفائي .
وتحمل الشهادة مستحب وأداؤها فرض كفاية ، قال تعالى [وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا..] ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا ضرر ولا ضرار) ولزوم عدم تعطيل المصالح والمنافع ، ومنع الظلم.
ومن خصائص نداء الإيمان في آية البحث توجهه إلى كل المسلمين بلزوم إشهاد شاهدين ، ويخرج بالتخصيص ذات الشهود عند تحملهم لها ، أي أن ذات الشاهدين يتلقيان مع عموم المسلمين والمسلمات لزوم إستشهاد شاهدين ثم يحملان الشهادة من بين عموم المسلمين ، لإفادة بعثهما على تحمل الشهادة , ويدل قوله تعالى [وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا] إلى الترغيب بتحمل الشهادة أي الأمرين معاً ، وبه قال الحسن البصري ونسب إلى ابن عباس( )
وعن قتادة في الآية قال (كان الرجل يطوف في الحي العظيم فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم ، فأنزل الله هذه الآية) ( ).
ولا دليل على هذا المعنى كسبب للنزول ومع إحتمال الأذى والضرر في تحمل الشهادة في بدنه أو ماله أو عرضه لم يلزمه لقوله تعالى [ لايُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ] فلا يسعى الشاهد لنفع غيره من حيث يضر نفسه ولأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة .
وظاهر قول ابن عباس هو أداء الشهادة لقوله في الآية (إذا كانت عندهم شهادة) ( ) ويمكن التفريق بين تحمل الشهادة فهو مندوب ، وبين أدائها فهو واجب ، فبعد أن يتحمل المسلم الشهادة ليس له الإمتناع عن أدائها ، وحتى على القول باستحباب تحمل الشهادة فانه لا يعني خروج تحملها عن مضامين الآية أعلاه بل يكون معنى قوله تعالى [وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا]وجهين :
الأول : الندب والإستحباب في تحمل الشهادة .
الثاني : الوجوب في أدائها والشهادة عند الحاكم .
والشهادة لغة البيان والإظهار وهي في الشرع إثبات لحق شخصي لشخص آخر , أي أن الشاهد ليس صاحب الحق ولا هو الذي عليه الحق ، ومع وجود ما يدل على القطع والجزم بالحق فان شهادة رجلين عدلين حجة وبينة تلزم القاضي الحكم بمقتضاها والمراد من تحمل الشهادة هو دعوة الشخص ليشهد حال القرض أو النكاح أو الطلاق أو غيره ز
فيضبط الشاهد العقد وشروطه ويكون مستعداً لأداء الشهادة إذا طلبها منه الحاكم , وحيث محل فك الخصومة وسمي تحملاً للشهادة لأنها نوع أمانة .
والشهادة على أقسام :
الأول : الشهادة في حقوق الناس .
الثاني : الشهادة في حق الله عز وجل وموجبات التعزير , وإقامة الحد كما في شرب الخمر .
الثالث : الشهادة في حق الله وحق الناس كما في السرقة .
ففي الأول تجب الشهادة بالحق ، ولا يصح كتمانها , لما فيه من هدر وتضييع للحقوق وكدورة وأذى .
وأما الثاني فالمسلم مخير بين الأداء , وتركه لموضوعية الستر ، مع القيام بالأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
ولو كان متجاهراً بالفسوق وفعل ذات المعصية كشرب الخمر ، فهل يبقى ذات التخيير للشاهد أم يستحب رفع أمره إلى الحاكم ، قيل يستحب للشاهد الإدلاء بشهادته عليه لينزجر عن فعل المعصية، ويكف عن إيذاء المسلمين .
والنسبة بين شروط تحمل الشهادة وبين أدائها نسبة العموم والخصوص المطلق فشروط أداء الشهادة هي الأعم لأنها تتعلق بموضوع الشهادة والمشهود عليه , ولزوم نصاب الشهود .
ولاتجوز شهادة الأصل للفرع كالأب لإبنه وبالعكس ، ولا شهادة العدو على عدوه .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرّب عليه شهادة زور ولا التابع مع أهل البيت يعني الخادم لهم , ولا الظنين في ولاء ولا قرابة) ( ).
بحث أصولي
من مفردات علم الأصول عند عموم المسلمين [الإستصحاب] وهو لغة لإستفعال من الصحبة أي طلب ووقوع الصحبة .
وترد الصحبة بمعان منها :
الأول : الإقتران والرفقة وفي التنزيل حكاية عن يوسف عليه السلام قال [يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ]( ) لتكون الصحبة بلحاظ إتحاد المكان وهو السجن ، ويمكن أن تقسم الصحبة هنا إلى الصحبة المكانية والزمانية بلحاظ العنوان الجامع .
الثاني : الملازمة وطول المصاحبة ، لذا ورد في تسمية الزوجة قوله تعالى [يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ] ( ).
الثالث : الحفظ ومنه قوله تعالى [وَلاَ هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ] ( ).
الرابع : الملائمة والوئام قال (صاحب العين: اصطحَب الرجلان وتصاحبا وأصحَب الرجل – صار ذا صاحب وأصْحَب – بلغ ابنُه مبلغَ الرجال فصار مثلَه فكأنه صاحِبه وكل ما لاءم شيئاً فقد استصحبه وأنشد:
إنّ لك الفضلَ على صحبتي … والمِسْك قد يستصحِب الرّامِكا)( ).
ويأتي الصاحب بمعنى مالك الشيء، والقائم عليه، والمرافق والمتولي ، قال تعالى [وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً]( ).
بينما ورد ذات اللفظ لإرادة الكافرين الذين يخلدون في النار من بني آدم عقوبة في مقابل المؤمنين الذين يقيمون في الجنان ، قال تعالى[وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ] ( ).
ليكون لفظ [أصحاب] حاضراً في الدنيا والآخرة ،فكما يطلق في الدنيا في معان متعددة فانه يطلق في الآخرة في معان متعددة فنسأل تعالى أن يجعلنا من أصحاب القرآن في النشأتين .
وقد شّرف الله عز وجل لفظ [الصحابي ] بصيرورته في الإصطلاح خاصاً بالمؤمن الذي لقي النبي محمداً صلى الله عليه وآه وسلم في حياته وقبل أن يغادر إلى الرفيق الأعلى ، وفي التنزيل بخصوص معركة تبوك [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ] ( ).
وقد تقدم البيان بأن الإستصحاب عرّف بتعاريف عديدة والإختلاف بينها صغروي).
وهو البقاء على أصل وحكم ثابت في الزمن الماضي مع الجهل بزواله أو طرو الدليل الناقض والبرهان الناسخ ، وهو واحد من أصول أربعة :
الأول : أصل البراءة ، لنفي التكليف أو نفي الوجوب أو نفي الحرمة والأصالة الإباحة فيما لم يرد فيه نص .
الثاني : الإحتياط، وهو إتيان العمل بالوجوه المحتملة لإحراز البراءة.
وقد يكون الإستصحاب أحد سبل العمل بالإحتياط لأنه خير من العمل بلا دليل .
الثالث : التخيير، وموضوعه تساوي الأفراد , وفقد المرجح، أو العجز عن الوصول إليه.
الرابع : الإستصحاب باستدامة الحكم الثابت في الزمن الماضي مع عدم العلم أو الظن المعتبر بعدم وجود دليل ناسخ أو مغير للحكم ، ولا يكفي في المقام الجهل بدليل مستحدث لذا لابد من البحث والتحقيق.
ولم يرد لفظ الإستصحاب في الحديث النبوي وأحاديث الصحابة والائمة ، ولكن يمكن إستقراؤه من القرآن والأحاديث ، كما أنه دليل عقلي , ومنه قوله تعالى[قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ]( ) وفيه بيان أصل الإباحة مع تعيين المستثنى منها, وقوله تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ]( ) ومنه قوله تعالى[وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة تدل على الإستصحاب منها إستصحاب الصحة في الفعل العبادي وترك الشك .
ومنها ما ورد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (اذا شك أحدكم في صلاته فليلغ الشك وليبن على اليقين فإذا استيقن بالتمام فليسجد سجدتين وهو قاعد)( ).
(عن سليمان بن صرد ، أن أبي بن كعب ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجلين قد اختلفا في القراءة ، كل واحد منهما يقول : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فاستقرأهما، فقال لهما: أحسنتما.
قال أبي : فدخل في قلبي من الشك أشد ما كنت عليه في الجاهلية ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صدري، وقال : اللهم أذهب عنه الشيطان ، قال فارفضضت عرقا، وإني أنظر إلى رسول الله فرقا ، ثم قال : إن جبريل أتاني ، فقال: اقرءوا القرآن على سبعة أحرف ، كل شاف كاف)( ).
ومنهم من لم يقل بدليل الإستصحاب وإرتقائه إلى مرتبة الدليل، كما قيل أنه باطل شرعاً, والحجة في هذا القول إحتمال تعارض أقوال الخصوم والأدلة .
كما في الشك في نقض الوضوء فالأصل هو بقاؤه وجواز الصلاة فيه، وعدم نقض اليقين بالشك وهو مشهور علماء الإسلام والمختار.
وقال المالكية بعدم جواز الصلاة بالوضوء المشكوك به لأن الأصل المستصحب هو الدخول في الصلاة مع اليقين بالطهارة .
ويجاب عليه برجحان أحد طرفي التعارض ، وهو الطهارة وملائمته للحال لقوله صلى الله عليه وآله وسلم (لا صلاة إلا بطهور ).
ومن وجوه الإستصحاب :
الأول : إستصحاب الثبوت حتى يأتي الناسخ .
الثاني : إستصحاب الإباحة والإذن إلى أن يرد المنع والنهي .
الثالث : إستصحاب العموم حتى يأتي المخصص ومنهم من لم يسمه إستصحاباً لثبوت الحكم من جهة اللفظ في العموم.
وذكرت آية البحث التداين ولم تذكر إيفاء الدَين ، لبيان براءة الذمة، وإنقطاع القرض ويتجلى الجواب بقوله تعالى [إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى] فان الأجل أمارة على الإيفاء إلا أن يتبين خلافه ، ولو مدّ في الأجل بسبب عسر المدين فهل تلزم الكتابة والإشهاد، الجواب هو الأولى لإنقطاع إستصحاب الدَين والقرض بحلول الأجل, ويستصحب الشاهد شهادته من حين التحمل إلى أوان الأداء وساعة قضاء الدَين وما بعدها إن لزم الأمر ، لتكون هذه الشهادة عهداً ووثيقة إيمانية ، لذا يترشح الثواب عن الشهادة فتفضل الله عز وجل وخصّ بها العدل من المسلمين وأوصى المسلمين بتقوى الله في آية البحث ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا] ( ).
وإبتدأت آية البحث بنداء الإيمان ليكون مصاحباً لهم في معاملاتهم وحاضراً في أسواقهم ، ويتغشاهم في حياتهم بالإجتهاد في أداء العبادات وعمارة أيامهم بالذكر وصيرورة الد عاء طريقاً إلى السعة والغنى وقضاء الدَين ، وهو حرز من وقوع الضرر والخصومة بين المسلمين بسبب التداين أو البيع والشراء ، وواقية من الفتنة بين المسلمين وغيرهم في معاملاتهم من البيع والشراء والتداين والإجارة وغيرها.
فقد سألت قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم آية ومعجزة حسية وهي جعل جبل الصفا ذهباً، ولكن هذا الجبل من شعائر الله كما في قوله تعالى[إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا]( )، فكل من الصفا والمروة باقيان كمعلمين للعبادة إلى يوم القيامة .
وعن ابن عباس قال : قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً نتقوّى به على عدوّنا ، فأوحى الله إليه : إني معطيهم فأجعل لهم الصفا ذهباً ( ).
ففي كل عام منذ سنة الفتح وإلى يومنا هذا يكون موسم الحج مناسبة لمجئ الذهب والفضة إلى مكة والمدينة، بالإضافة إلى توافد قطار المعتمرين على مدار أيام السنة، وهو من الشواهد على أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية وحسية، وأن المعجزات العقلية لنبوته لا تنحصر بألفاظ آيات القرآن بل تتجلى بشواهد ورشحات لها في المبرز الخارجي وعالم الوقائع المتجدد الى يوم القيامة , وفيه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء لإستصحاب تجدد معجزاته.
الوجه الرابع عشر : يا أيها الذين آمنوا لا يضار كاتب ولا شهيد).
من معاني ورشحات الإيمان التراحم بين المسلمين ، ويأتي هذا التراحم إبتداء وعند أداء الفرائض على نحو العموم الإستغراقي كما في الوقوف في صفوف صلاة الجمعة والجماعة ، قال تعالى[حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى]( ).
لقد جمعت آية البحث بين الكاتب والشاهد في مسألة نفي الضرر عنهم ، وهل يجوز للكاتب أخذ الأجرة على كتابة الدَين والوثائق .
الجواب نعم ، وإن أختلف في ماهية هذه الكتابة على وجوه :
الأول : وجوب كتابة الدَين ، وهذا الوجوب كفائي إن تصدى له كاتب عدل سقط عن الآخرين .
الثاني : الندب وإستحباب الكتابة إلا أن ينحصر بشخص كاتب لا يجدون غيره ، فيكون واجباً عينياً عليه , فلا تجوز الأجرة.
الثالث : الندب في ذات كتابة الدَين من قبل المتداينين ، فيترشح عنه الندب في توجه الخطاب بكتابته إلى الكاتب .
وقد ورد لفظ [لاَ تُضَارَّ] في قوله تعالى [لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا] ( ) لبيان معاني الرحمة والرفق بالأم وعدم إنتزاع ولدها منها أو منعها من إرضاعه , وكذا ليس لها ان تدفع ولدها المرتضع لأبيه فلا يجد من ترضعه .
ولم يرد لفظ [يضار] في القرآن إلا في آية البحث ، لبيان موضوعية إكرام الكاتب والشاهد أو لا أقل عدم إيذائه ، لما في هذا الإكرام من تثبيت لقواعد الحكم وشرائط العقود ، وهل فيه تعظيم لشعائر الله .
الجواب نعم، إذ كان بقصد إكرام العادل والصادق والمتقي رجاء الثواب وإشاعة توثيق الحقوق والمنع من بخسها .
وعن ابن عباس في قوله ({ ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } يقول : من احتيج إليه من المسلمين قد شهد على شهادة أو كانت عنده شهادة فلا يحل له أن يأبى إذا ما دعي ، ثم قال بعد هذا { ولا يضار كاتب ولا شهيد } والإضرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غني : إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا ما دعيت فيضاره بذلك ، وهو مكتف بذلك ، فنهاه الله وقال { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } يعني بالفسوق المعصية) ( ).
ويحتمل قوله تعالى [لا يضار]وجوهاً :
أولاً : توجه الضرر إلى الكاتب والشاهد ، كما لو وقع الإلحاح على الكاتب بكتابة العقد والدَين في وقت عذر أو حرج بالنسبة له، وكذا بالنسبة للشاهد ، أو يطلب منهما كتابة أكثر أو أقل من الدَين والشهادة عليه أو إثارة الشك والريب بالكاتب والشاهد بحيث يتمنى كل منهما عدم التدخل في هذه المعاملة .
ثانياً : صدور الضرر من ذات الكاتب والشاهد بتحريف تفاصيل الدَين وذكر أجل وأوان لقضائه غير الأجل المتفق عليه .
ثالثاً : العنوان الجامع للوجهين أعلاه ، وهو المختار ، وهو من أسرار اللفظ القرآني وتعددها فيه بما يبعث على الهدى والصلاح .
الوجه الخامس عشر : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا يضار كاتب ولا شهيد ) من الإعجاز في إبتداء آية البحث بنداء الإيمان توجه الخطاب فيها لعموم المسلمين والمسلمات مع إتصاف موضوع الآية بأمور :
الأول : التداين والإقراض بين طرفين .
الثاني : إحتمال وقوع التداين ، لذا جاءت الآية بصيغة الجملة الشرطية [إِذَا تَدَايَنتُمْ].
الثالث : كفاية التوثيق بكتابة الدَين ومقداره وأجله والشهادة عليه .
لبيان أن ضبط وتوثيق الدَين مسؤولية المسلمين جميعاً , وإن كان بين طرفين ، وتتجلى علة العموم الإستغراقي في صيغة النداء في الآية الكريمة من جهات :
الأولى : ضمان حقوق المسلمين .
الثانية : تعاهد المسلمين للأخوة فيما بينهم .
الثالثة : عدم إغراء أعداء الإسلام بالتعدي على المسلمين في حال حصول خلاف وخصومات بينهم بسبب الديون .
الرابعة : تعاون وتآزر المسلمين في تثبيت الديون والحقوق .
الوجه السادس عشر : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فانه فسوق بكم ).
ليس من حصر لمضامين ووجوه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آية البحث لذا إبتدأت الآية بالنداء إلى المسلمين والمسلمات بصيغة الإيمان ، وفيها ندب للتعاون بينهم للإمتثال في كل أمر أو نهي وارد في آية البحث ، فان تداين شخصان من المسلمين ولم يكتب الدَين يحثهما المسلمون على كتابته حتى على القول بأنه مندوب وليس واجباً ، وقد يحدث خلاف بخصوص الدَين وجنسه ومقداره وأجله من حالات :
الأولى : قبل التداين وإمضاء العقد والإتفاق .
الثانية : عند التداين .
الثالثة : مدة الدَين ، وما قبل حلول أجله وقضائه .
الرابعة : عند قضاء الدَين في أجله .
الخامسة : بعد حلول أجل الدَين ، وفيه وجوه :
اولاً : حدوث الخلاف بين الدائن والمدين بعد أداء الدين في أجله .
ثانياً : وقوع الخلاف والإختلاف عند حلول أجل الدَين مع عدم قضائه ووفاته ، كما لو كان المدين معسراً .
ثالثاً : حصول الخلاف بعد قضاء الدَين في غير أجله ، كما لو كان أجله في شهر رمضان أو آذار ، ولم يقضه إلا في شهر ذي الحجة أو حزيران ، ووقع الخلاف في شهر محرم أو شهر تموز .
فجاءت آية البحث بالنهي عن الإضرار بالكاتب أو الشاهد لتكون سلامتهم من الضرر واقية من الخلاف وطريقاً للتدارك والإقالة ، ووسيلة لفك الخصومة عند حدوثها ليكون من أسرار نداء الإيمان في المقام التعاون بين المسلمين لدفع الأذى عن الكاتب والشاهد ، وجاء النهي مطلقاً في الحالات المختلفة من جهات :
الأول : كتابة الكاتب الدَين وأوصافه لقاء أجر.
الثاني : تبرع الكاتب بكتابة الدَين .
الثالث : إشتراط الشاهد الأجرة على شهادته .
الرابع : تطوع الشاهد للشهادة ولا يجب على الشاهد أن يقول(شهدت) فيجزي أن يقول(رأيت) أو (سمعت) بحسب الموضوع .
وهل يجوز أخذ الأجرة على تحمل الشهادة أختلف فيه على وجوه :
الأول : جواز أخذ الأجرة على الشهادة مطلقاً ، وبه قال المالكية ، وكذا يجوز أخذ الأجرة على الشهادة على النكاح .
الثاني : حرمة أخذ الأجرة على الشهادة مع أنه فرض كفاية بينما يجوز للكاتب أخذها وهو أيضاً فرض كفاية .
الثالث : يجوز أخذ الأجرة على الشهادة إلا أن يكون واجباً عينياً .
الرابع : يجوز أخذ الأجرة على مقدمات الشهادة وتحصيلها كأجرة السيارة ، إذ لا يجب على الشاهد بذل المال في مقدمات الشهادة والحضور في مجلس القضاء أو تعطيل مورد رزقه لتحمل الشهادة ولأدائها عند الحاجة .
وقيل لا إشكال في حرمة أخذ الأجرة على الشاهد لأنها من الواجبات ، وهو كالقاضي ) , ولم تثبت هذه الحرمة .
والمختار جواز أخذ الأجرة على الشهادة وعلى مقدماتها والأولى ترك أخذها ، وفيه الأجر والثواب ومن الإعجاز في آية البحث أنها لم توجه الأمر إلى الشهود وتأمرهم بالشهادة إنما توجهت إلى المسلمين عامة والمتداينين خاصة بأن يشهدوا شهيدين ، ومن المتسالم في أيام النبوة أن الشاهد لا يأخذ أجرة على شهادته ، وهو من أسرار إبتداء الآية بنداء الإيمان ، ومما يدل عليه من الحث على التقوى وعمل الصالحات ومنه توثيق الديون , وإحتمال وجود الشئ أعم من عدم إيجاده .
وتتضمن الآية النهي عن إيذاء الكاتب أو الشاهد بخصوص ذات موضوع الدَين وكتابته والشهادة عليه ، ولم تكتف الآية بهذا النهي بل ذكرت ماهية هذا الإضرار بأنه فسوق أي خروج عن صيغ الطاعة وسبل الهداية والرشاد .
وهل قوله تعالى [فُسُوقٌ بِكُمْ] خروج من الإيمان إلى الكفر ، كما قيل الجواب لا ، وهذا النفي من الإعجاز في إبتداء الآية بنداء الإيمان ، إذ أنه يتغشى مضامين الآية كلها ، ومن الإعجاز في الآية أن الفسوق لم يتعد بحرف اللام ، ومعنى الباء هنا الإلصاق والظرفية بمعنى (في) كما في قوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ]( ) وكما في قوله تعالى [إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى] ( ) لبيان أن إيذاء الكاتب والشاهد إضرار بالأمة وقواعد التداين .
وتبين الآية قانوناً في الشريعة الإسلامية وهو أن الإضرار بفاعل الخير والذي يعمل الصالحات إضرار بالأمة وتعطيل للأحكام ولو في قضية في واقعة .
ويحتمل الإضرار في المقام وجوهاً :
الأول : إيذاء الكاتب .
الثاني : إيذاء الشاهد .
الثالث : توبيخ الكاتب والإضرار به .
الرابع : ذم الشاهد والإضرار به ، كما لو رماه أحدهما بالفسوق وعدم العدالة مع عدم الدليل .
الخامس : إيذاء الكاتب والشاهد معاً .
السادس : صدور الضرر من الكاتب كما لو كتب أقل أو أكثر من الحق أو أنه أضاف في مدة الأجل .
السابع : الإضرار من الشاهد على الدَين وهو على شعب :
الأولى : إضرار الشاهد بصاحب الحق كما لو إدعّى الشهادة على أقل من الحق ومقدار الدَين عن نسيان أو عمد , أو نعته بما يوهم بأنه يطلب الربا .
الثانية : قيام الشاهد بالحاق الأذى بالمديون .
الثالث : إختلاف الشاهد مع الكاتب الذي كتب بالعدل وذكر الحق كاملاً .
الرابعة : قيام الشاهد بالإضرار بالشاهد الآخر , وذمه والسعي لإبطال شهادته .
وهل من مصاديق الضرر في المقام الغيبة ، الجواب نعم , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا] ( ).
ومن الإعجاز في آية البحث الجمع بين الكاتب والشاهد بلزوم إجتناب الإضرار بهما ، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، ولأن كل واحد منهما يؤدي عملاً صالحاً بضبط وصيانة الحقوق طاعة لله عز وجل .
وتتجلى معاني الطاعة في آية البحث من جهتين :
الأولى : طاعة الكاتب لله عز وجل من وجوه :
الأول : تفضل الله بالأمر بكتابة الدَين لقوله تعالى [فَاكْتُبُوهُ]فجاء الأمر العام للمسلمين بكتابة الدَين ، ليتولاه واحد أو نفر منهم .
الثاني : الأمر من عند الله عز وجل للكاتب بكتابة الدَين لقوله تعالى [وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ].
ومن إعجاز الآية أنها أمرت المسلمين بكتابة الدَين ثم ذكرت كيفية كتابته وإختصاص طرف آخر غير المتداينين بالكتابة لقوله تعالى [وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ]أي بين الدائن والمدين لمنع الظنة ودفع التهمة.
وتكررت لغة الجمع في قوله تعالى[وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ] مرتين:
الأولى : واو الجماعة في (تفعلوا).
الثانية : الضمير في قوله تعالى (بكم)، لبيان أن شخصاً واحداً من المسلمين أو جماعة يؤذون الكاتب أو الشاهد فيأتي الضرر على مصدره بالإثم ويصدق عليه الخروج عن طاعة الله، لأن هذه الآية تتضمن النهي عنه، وفيه أذى للأمة كلها، لتكون النسبة بين صيغتي الجمع أعلاه هي الخصوص والعموم المطلق، فالضمير وميم الذكور في (بكم) أعم وأوسع من الواو في (وان تفعلوا) فيتوجه التوبيخ أو الوعيد إلى الكاتب أو الشاهد فيصيب الضرر الجماعة، ويتأذى الناس من إرادة حجب الحقائق وإظهار الحق والصدق.
وليس من قانون ونظام سياسي أو إجتماعي يجعل حصانة وواقية للكاتب والشاهد مثل الإسلام، في الموضوع والحكم والأثر والتأثير , ففي كلمتين من القرآن إستقامت الشهادات وضبطت المواثيق، وصار ملاكها الصدق وتجلي الحق عند العقد وأوان ومدة الدين وحال القضاء، ولتستمر هذه الحصانة من أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن إعجاز القرآن صيرورة قوله تعالى [وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ] سبباً في أمور :
الأول : بعث النفرة في نفوس المسلمين من إيذاء الكاتب والشاهد.
الثاني : حرص المسلمين على إجتناب إيذاء الكاتب والدائن.
الثالث : تعاون ومناجاة المسلمين بتهيئة مقدمات كتابة الكاتب بالعدل، وأداء الشاهد شهادته بالحق ومن غير أذى.
الرابع : إتصاف القاضي المسلم بالعفة، والعلم والقيام باستشارة ذوي الألباب .
و( عن أبي بكرة إن رسول الله قال : لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان ( ).
الوجه السابع عشر : تقدير الآية يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله )
يتغشى قانون عام الآيات القرآنية وهو إكرام الله للمسلمين في ذات الآية وعند جمعها مع الآيات القرآنية , ومن الإعجاز أن الحرف (الواو) سواء جاء للعطف أو للإستئناف أو لهما معاً فانه تأكيد لهذا القانون ، وشاهد على فضل الله عز وجل على المسلمين فأبتدأت آية البحث بنداء الإيمان وهو غاية الإكرام والتفضيل للمسلمين ثم جاء الأمر لهم من عند الله بأن يتقوه ويتخذوا من خشيتهم منه بلغة وغاية .
ومن إعجاز نظم آيات القرآن أن تقدير الآية أعلاه ورد بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( ).
وورد الأمر اتقوا الله مرتين في الآية أعلاه ولم يرد بذات اللفظ مكرراً في آية أخرى فقد ورد في سورة النساء [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ]( ) ثم ورد فيها [اتَّقُوا اللَّهَ].
كما ورد في قوله تعالى [وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( )والنسبة بين فردي التقوى في الآية أعلاه العموم والخصوص المطلق ، لبيان لزوم الخشية من الله والتنزه من المعاصي وإجتناب السيئات .
ومن رأفة الله بالمسلمين تفضله بأمرهم بالتقوى لبيان حاجتهم لها في أمور الدين والدنيا .
ومن اللطف الإلهي بالناس جميعاً أمرهم بتقوى الله ، قال تعالى[وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ]( ) فان قلت لماذا وردت الآية بإختصاص أهل الكتاب بأمر الله بالتقوى الجواب : لقد جاء الأمر بتقوى الله إلى الناس جميعاً كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ]( ).
وتكررت الوصية لخصوص أهل الكتاب لبيان فضلهم وتفضيلهم بأن يأتيهم الأمر بتقوى الله كأفراد من الناس ، وكأهل كتاب وهو من مصاديق قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( ).
وليبلغ التفضيل منتهاه بتعدد مصاديق الأمر بتقوى الله للمسلمين إذ يتلقون الأمر للناس وإلى أهل الكتاب بتقوى الله وتكرر ذات الأمر في القرآن ليحمل كل جيل من المسلمين لواء الإستعداد ليوم الحساب ، إذ يتلقون الأمر للناس وإلى أهل الكتاب بتقوى الله ، وتكرر الأمر في القرآن ليحمل كل جيل من المسلمين لواء الإستعداد ليوم الحساب ، قال تعالى [وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ]( ).
ومن معاني الأمر بتقوى الله في آية البحث وجوه :
الأول : إرادة تقوى الله والخشية منه بخصوص مضامين آية البحث.
الثاني : المقصود تقوى الله في موضوع التداين .
الثالث : التحذير والإنذار من الإضرار بالكاتب والشاهد .
الرابع : ترغيب المسلمين بالتداين فيما بينهم .
السادس : كتابة الديون التي تجري بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم من أهل الملل ، بلحاظ أن هذه الكتابة شاهد على ضبط وعدالة المسلمين ، وبرزخ دون تحريف وتبديل تفاصيلها وآجالها ، ومانع من الإفتراء على المسلمين بخصوص الديون ، إذ أنها حصانة للمسلمين من الربا وإخبار للناس جميعاً بأن المسلمين يقرضون المال قربة إلى الله عز وجل ، ويتنزهون عن الربا وأن الله حرمه عليهم , وحرمته عامة تتغشى الناس جميعاً لقوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ).
السابع : لقد أمرت آية البحث بالعدل إذ تكرر فيها مرتين :
الأولى : العدل في كتابة الدَين .
الثانية : العدل في إملاء الولي الدَين .
والنسبة بين التقوى والعدل هي العموم والخصوص المطلق فالعدل فرع التقوى ومصداق لها .
ويكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : اتقوا الله بكتابة الديون والمواثيق بالعدل .
ثانياً : اتقوا الله في تثبيت الحقوق .
ثالثاً : اتقوا الله [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ]( ).
رابعاً : اتقوا الله في الأمانات ، بلحاظ أن إملاء المديون الدَين من الأمانة وحفظها وتوثيقها .
خامساً : اتقوا الله في البيع والشراء إذ يدل قوله تعالى [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ] على وجود أطراف فيه هي:
الأول : البائع .
الثاني : المشتري .
الثالث : العين المباعة .
الرابع : الثمن .
فتأتي الشهادة على هذه الوجوه والبيع على أقسام :
الأول : البيع نقداً .
الثاني : البيع مع بقاء الثمن نسيئة .
الثالث : الشراء بالسلم بأن يدفع المشتري الثمن مع تأخير أوان إستلام العين المباعة .
الرابع : البيع بالنقد والآجل معاً , كما لو دفع المشتري نصف ثمن العين وأرجأ نصفه باتفاق بين الطرفين ورضا البائع أو جعل فيه رهناً ، وقد إشترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( طعاما من يهودى إلى أجل، ورهنه درعا من حديد) ( ).
ويلزم كل طرف في البيع التقوى , ولا تختص بالثمن بل تشمل سلامة العين المباعة من العيوب وألا تكون مغصوبة .
وعن ابن عمر قال (مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحاب الطعام فرأى طعاما حسنا ، فأدخل يده فيه ، فإذا تحته طعام رديء ، فقال : بع ذا على حدة وذا على حدة ، من غشنا فليس منا) ( ).
سادساً : اتقوا الله إذا شهدتم بين المتبايعين ، لحاجة الشاهد إلى تقوى الله من جهات :
الأولى : تحمل الشهادة والرضا بالتصدي للشهادة .
الثانية : الثبات على الشهادة بذات خصائص الدَين طيلة مدة تحمل الشهادة .
الثالثة : أداء الشهادة بالحق والصدق ، وعدم الميل عن الإستقامة في الإخبار والحديث .
الرابعة : عدم مغادرة الشاهد لمنازل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولا يعني عدم ذكر كتابة البيع إنتفاء موضوعية الكتابة في عقد البيع والشراء ، فيستحب كتابة العقد وذكر صفات العين المباعة وذكر الثمن ونقده في الحال أو صيرورته نسيئة .
من إعجاز القرآن إبتداء آية البحث بنداء الإيمان وما يدل عليه من الشهادة للمسلمين بالإيمان بالله ورسوله والملائكة والكتاب واليوم الآخر ، ثم تفضل الله وأمرهم قائلاً : اتقوا الله فلابد من الخشية من الله في عالم الأفعال ، ومن تقوى الله تعاهد سنن الإيمان والثبات في مقاماته ، وجاءت الآية بصيغة الجمع [َاتَّقُوا اللَّهَ] لبعث المسلمين على التعاون بينهم لتعاهد الإيمان ، وعدم الإنسلاخ عن سننه .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه”)( ).
ومن معاني التقوى السعي الحثيث في طلب مرضاة الله وعدم الملل أو الكلل .
ومن معاني مصاديق التقوى في آية البحث وجوه :
الأول : قيام المسلمين بالشكر لله عز وجل على بلوغهم مرتبة الإيمان بفضل منه تعالى ، ويؤكد نداء الإيمان في آية البحث قانوناً وهو ملازمة صفة الإيمان للمسلمين في كل زمان ، إذ تكون الشهادة عادة على أمر ماض وفعل قد تحقق ، ومرتبة نالها الفرد أو الجماعة أما شهادة الله للمسلمين بالإيمان فهي دليل على تحقق إيمان المسلمين قبل نزول آية البحث وبعده وإستدامة هذه الشهادة إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ] ( ) فتتصف شهادة الله على الموضوع المتحد بالتجدد .
الثاني : الثناء على الله عز وجل لتفضله بالشهادة لهم بالإيمان ، وإبتداء آية البحث بالنداء العام لهم بصدق الإيمان ، ليسمع ويرى الملائكة الذين إحتجوا على جعل خليفة في الأرض بقوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ) ‘جتهاد المسلمين بتقوى الله .
فتفضل الله عز وجل باسماع الملائكة كل يوم تهجد المسلمين بتلاوة القرآن والنظر إليهم وهم يصطفون بصفوف مستقيمة خمس مرات كل يوم إستعداداً لصلاة الفريضة حتى إذا كبّر الإمام تكبيرة الإحرام تغشاهم الخضوع والخضوع لله , وإنتقلوا إلى مراتب الملائكة في تنزههم عن الفساد وعن سفك الدماء ، وصار الإستغفار سلاحاً للمسلمين ترفعه ذات الملائكة .
ووقف ذو النون المصري (على ساحل البحر عند صخرة موسى، فلما جن الليل خرج فنظر إلى السماء والماء فقال: سبحان الله ما أعظم شأنكما، بل شأن خالقكما أعظم منكما ومن شأنكما. فلما تهور الليل لم يزل ينشد هذين البيتين إلى أن طلع سود الصبح:
اطلبوا لأنفسكم مثل ما وجدت أنا …
قد وجدت لي مكنا ليس هو في هواه عنا
إن بعدت قربني أو قربت منه دنا) ( ).
الثالث : يدل قوله تعالى [إِذَا تَدَايَنتُمْ] على تقوى المسلمين من جهات :
الأولى : تفضل الله عز وجل بتوجيه الخطاب للمسلمين وإخبار الناس جميعاً باتصاف المسلمين بخصلة كريمة وهي قيامهم بالتداين فيما بينهم , وهل من ملازمة بين كل من :
أولاً : الغنى والإقراض ، فلا يقدر على الإقراض إلا الغني .
ثانياً : الفقر والإقتراض ، فلا يسأل القرض والدَين إلا الفقير المحتاج .
الجواب لا ، فقد يطلب الغني القرض لتوسعة تجاراته ومكاسبه, وقد يقوم الفقير الذي لا يملك قوت سنته بالإقراض ، وهو من إعجاز الآية وصيغة العموم في ندائها , وفي جعل المسلمين بعرض واحد في الدَين بقوله تعالى [إِذَا تَدَايَنتُمْ] وفيه مسائل :
الأولى : صيرورة المسلم مرة دائناً وأخرى مديوناً .
الثانية : دفع الحرج والإستحياء عن المسلم في سؤال الدَين عند الحاجة إليه .
الثالثة : دعاء المسلم وسؤاله الله عز وجل السلامة من اللجوء إلى الإستدانة والإقتراض ، ومن بركات نداء الإيمان في آية البحث أن المسلم إذا إجتنب الإستدانة توكلاً على الله فانه سبحانه يفتح عليه أبواباً من فضله ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ) .
ليأتي مقدار ما يروم إستدانته رزقاً كريماً ليس له عوض أو بدل إلا السياحة في رياض الشكر والثناء على الله ، وفي الحديث القدسي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول الله عز وجل (أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا , وإن تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني ماشيا أتيته مسرعا) ( ).
والله منزه عن الحركة والحلول بالمكان , ليدل الحديث على سرعة الثواب من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الرابع : من مصاديق التقوى في التداين بين المسلمين أنه حرز وسلاح من الربا من جهات :
الأولى : بالتداين يتعاهد المسلمون الإمتناع عن الربا .
الثانية : من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ) تعاونوا بأقراض بعضكم بعضاً من غير فائدة للأمن والسلامة من من آفة الربا .
الثالثة : يتخذ المسلمون التداين فيما بينهم واقية ممن الربا , وما يترتب عليه من الإثم والبلاء والعقاب , وهو بلحاظ العوالم الطولية المتعاقبة على وجوه :
أولاً : الربا سبب لجلب الأذى والإثم واللعنة لأطرافه في الدنيا ، والربا من الكبائر المنهي عنها ، ولا يمكن إحصاء الأذى والبلاء الذي يلقاه أكل الربا في الدنيا لقوله تعالى في خطاب للمربين [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ] ( ).
فلا يعلم كيفية وأوان الحرب من الله ، لقوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) ومن حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الربا ما رواه جابر بن عبد الله قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آكل الربا ، وموكله ، وشاهديه ، وكاتبه ، وقال : هم سواء ) ( ).
ثانياً : عذاب آكل الربا في عالم البرزخ .
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (قَالَ الْقَبْرُ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ فَإِنْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ) ( ).
وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال صباح أحد الأيام (إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما إبتعثاني وإنهما قالا لي انطلق وإني انطلقت معهما وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر هاهنا فيتبع الحجر فيأخذه فما يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود إليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الاولى .
قلت لهما سبحان الله ما هذان قال قالا لي انطلق انطلق قال فانطلقت فأتينا على رجل مستلق لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه ثم يتحول إلى الجانب الآخر فليفعل به مثل ما فعل المرة الاولى .
قلت سبحان الله ما هذان : قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على جل مثل بناء التنور فاطلعنا فيه فإذا رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا قلت لهم ما هؤلاء .
قالا لي انطلق انطلق فانطلقت فأتينا على نهر فإذا في النهر رجل سابح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يسبح ما سبح ثم يأتي الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا قلت لهما ما هذان قالا لي انطلق انطلق
فانطلقت فأتينا على رجل كريه المرأى كأكره ما أنت راء رجلا وإذا هو عند نار له يحشها ويسعى حولها قلت لهما ما هذان قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على روضة فإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط قال فانطلقنا فأتينا على دوحة عظيمة لم أر دوحة قط أعظم منها ولا أحسن .
قالا لي أرق فيها فارتقينا فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فأتينا باب المدينة واستفتحنا ففتح لنا فدخلناها فتلقانا فيها رجال شطر كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحيض في البياض فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم وصاروا في أحسن صورة .
قالا لي هذه جنة عدن وهذاك منزلك قلت لهما بارك الله فيكما ذراني فادخله , قالا لي أما الآن فلا وأنت داخله قلت لهما فإني قد رأيت منذ الليلة عجبا فما هذا الذي رأيت قالا لي أما إنا سنخبرك :
أما الرجل الاول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فهو الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه وعينه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه ذاك الرجل يغدوا من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل التنور فهم الزناة والزواني
وأما الرجل الذي في النهر يسبح ويلقم الحجارة فاه فهو آكل الربا .
وأما الرجل الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فهو مالك خازن جهنم .
وأما الرجل الذي في الروضة الطويل فإنه إبراهيم وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة فقال بعض المسلمين يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين , وأما القوم الذين كان شطرا منهم قبيح فإنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتجاوز الله عنهم) ( ).
ثالثاً : عذاب آكل الربا يوم النشور وعند بعث الناس من قبورهم ، وقال ابن عباس (يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا :”خذْ سلاحك للحرب”، وقرأ :”لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ”، قال: ذلك حين يبعث من قبره ) ( ).
لتتعرف الخلائق على آكلي الربا يوم القيامة , وأنهم يقومون وبهم خبال ومس من الجنون ، وكأنهم يخنقون .
ومن الإعجاز في قوانين العقاب في الشريعة ورود اللعنة على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأطراف الربا ، أما بالنسبة لعذاب القبر والآخرة المبين أعلاه فهو خاص بآكل المال الربوي ، وهذا لا يعني سلامة موكله وكاتبه وشاهده من العذاب ويدل عليه شمولهم باللعن من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
والمراد من اللعن هو طردهم من رحمة الله ، ولو دار الأمر في متعلق اللعن بين إرادة الحياة الدنيا أم المعنى الأعم ، فالصحيح هو الثاني لأصالة الإطلاق ، وقبح فعل الربا ، وقد نهى الله عز وجل عن التعاون فيه لقوله تعالى [وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ).
والربا من الإثم ومن العدوان ، لذا فان كتابة عقده والشهادة عليه من مصاديق التعاون المنهي عنه في الآية أعلاه ، ولو كتب الكاتب العقد الربوي وهو لا يعلم أنه ربا ويظن أنه قرض ، وتعمد آكل الربا وموكله إخفاء ماهيته فلا إثم عليه ، وكذا بالنسبة للشاهد ، وهل يجب عليهما التفحص والتأكد بأن هذا العقد قرض , وليس ربا , الجواب لا .
رابعاً : عجز آكل الربا عن العبور على الصراط المستقيم في الآخرة الذي يجعله الله عز وجل على جهنم ويعبر عليه المؤمنون سراعاً .
(عن أبي سعيد الخُدريّ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “يُؤْتَي بالجِسْرِ – يعني يوم القيامة – فَيُجْعَلُ بينَ ظَهْرِيْ جَهَنَّمَ ، قلنا: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: مَدحَضَةٌ مزَلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطاطِيفُ وكَلالِيبُ وحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفاء تكُونُ بِنَجْدٍ، يُقالُ لَهَا السَّعْدانُ، يَمُرُّ المُؤْمِنُونَ عَلَيْها كالطَّرفِ والبَرْقِ وكالرِّيحِ، وكأجاوِدِ الخَيْلِ والرِّكاب، فَناجٍ مُسْلِمٌ، ومَخْدُوشٌ مُسْلِمٌ، ومَكْدُوسٌ في جَهَنَّم، ثُمَّ يَمُرُّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبا) ( ).
والمراد من (مَدحَضَةٌ مزَلَّةٌ) أي أنه موضع تزل فيه الأقدام .
وهل من حد شرعي لآكل الربا كما في حدّ شارب الخمر ثمانين جلدة ، وقطع لسان السارق، وليس لآكل الربا حدّ وعقوبة معينة مع أنه أشد من شرب الخمر ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الربا سبعون حوبا، أيسرها أن ينكح الرجل أمه)( ).
نعم للحاكم أن يعزر آكل الربا إن أصر ولم يتب , والتعزير عقوبة يحددها الحاكم على أن لا تصل إلى الحد , وهو ثمانون جلدة ، فلا يصح أن يفرض القاضي مائتي جلدة مثلاً مع أن الله عز وجل فرض مائة جلدة حداً في قوله تعالى [الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ] ( ) .
وقيل أن التعزير على قسمين:
الأول : تعزير التأديب , ولا تجوز زيادته على عشرة أسواط.
الثاني : التعزير على فعل المعاصي، بترك واجب أو إرتكاب إثم .
وهذا التقسيم إستقرائي، لا أصل له، فلا يصح تسمية تأديب الوالد لولده تعزيراً، والتعزير لغة المنع والرد، والمختار أن التعزير في الإصطلاح هو التأديب من قبل الحاكم في المعصية التي ليس فيها حد معلوم ولا كفارة، ليخرج منه تأديب الوالد ونحوه .
وقيل يجوز للحاكم الزيادة في التعزير بحسب المصلحة وموضوع المعصية وشدة فحشها، وأنه لا حد للتعزير ، وقد يصل إلى القتل إذا رآى الإمام والحاكم المصلحة فيه، وكانت الجريمة فاحشة، ولكن ورد عن أبي بردة الأنصاري أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا تجلدوا فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)( ).
وقد يكون الخلاف لفظياً، فحينما يؤتى بخبر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل عين للكفار لا يعني هذا إيصال التعزير إلى القتل.
وتفضل الله عز وجل على المسلمين بآية البحث لتكون حصانة يومية متجددة في الأسواق والمنتديات والمساجد من الربا وأضراره وآثاره ، وفيه بيان لجزاء عاجل لنعت المسلمين بالذين آمنوا إذ أن الجزاء الحسن من عند الله أعم من المصاديق الفعلية الظاهرة للشكر .
فيختص الله عز وجل بضروب الجزاء التي لا يقدر عليها غيره مثل صرف البلاء ودفع الأذى ، ومنه حسن الصيت والسمعة بين الناس ، وتهيئة مقدمات أداء الفرائض والعبادات ، ليكون تقدير نداء الإيمان على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا أبشروا بالجزاء في الدنيا على الإيمان ) ، وليس من حصر لمصاديق جزاء الله للمسلمين في الدنيا على إيمانهم ، فما أن آمن أهل البيت وعدد قليل من الناس وهم المهاجرون والأنصار حتى نصرهم الله في معركة بدر ، مع أن عدد جيش المشركين ثلاثة أضعاف عدد المسلمين ، وأما المؤون والأسلحة التي عند المشركين فهي أكثر من هذه النسبة بكثير ، ويدل عليه قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ] ( ).
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لقد شكر الله لكم إيمانكم وحرّم عليكم الربا ونزهكم من سلوك طرقه .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لقد فتح الله لكم باب التداين وإلى يوم القيامة لقضاء الحوائج, وجني الحسنات.
قانون التعاضد في الآية الواحدة
ومن خصائص القرآن التعاضد بين آياته ، ولا يقف الأمر عند تعضيد آية لأخرى ، بل يكون التعاضد على وجوه :
الأول : التعاضد المتبادل بين كل آيتين ، فكل واحدة منهما تكون عضداً وتعضيداً للأخرى في موضوعها وحكمها ، فتعضد الدَين هذه النهي الوراد في قوله تعالى [لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( ) .
وجاء قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ) لتعضيد آية الدَين وترغيب المسلمين بالقرضة والإقتراض والإقراض.
الثاني : وقوع التعضيد بين مضامين الآية الواحدة فنجد آخر الآية يعضد أولها وكذا العكس ، فان قلت تتصف بعض الآيات بقلة كلماتها ، والجواب من جهات :
الأول : مع قلة كلمات الآية فقد يكون هناك تعضيد بين ذات الكلمات فيتلو المسلمون قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) في كل ركعة من ركعات الصلاة اليومية الواجبة وكذا النافلة المستحبة .
وفي هذه الآية تعضيد بين [الْحَمْدُ لِلَّهِ] وبين [رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) إذ تبين خاتمتها أن الله عز وجل هو أهل الحمد , وهو سبحانه وحده الذي يُشكر على النعم على نحو متصل ومتجدد لأن نعم تعالى على الإنسان غير منقطعة ولا متناهية .
وكذا فأن أول الآية أعلاه من سورة الفاتحة تعضيد لآخرها ، فيشكر المسلمون الله عز وجل لأنه رب العالمين الذي أكرمهم وناداهم بنداء الإيمان ، وجعلهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ومن خصائص آية البحث في المقام :
الأولى : تعضيد آية البحث لآيات أخرى من آيات الأحكام والعبادات والمعاملات والأخلاق ، وآية البحث وما فيها من البعث على التداين بين المسلمين برداء التقوى من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
وليس من حصر للآيات التي تعضدها هذه الآية ولكن التحقيق والإستقراء فيه أمر حسن , وفيه إستخراج لكنوز من القرآن , وأن تم على أيدي علماء متعددين .
الثانية : من إعجاز القرآن تعضيد آياته لأطول آية فيه , فكون آية البحث أطول آية لا يعني إستغناؤها عن آيات القرآن الأخرى في التفسير والتأويل والدلالة .
الثالثة : تجلي التعضيد الذاتي في آية البحث ، فكل جملة منها تعضد الأخرى ، وترى فيها كلمة واحدة ينبسط نفعها على مضامين آية البحث والعمل بها منها (مادة وقى ) إذ ورد الأمر بالتقوى في آية البحث على وجوه :
الأول : الأمر للذي عليه الدَين بتقوى الله والخوف منه بإخبار الكاتب والناس عن تفاصيل القرض والدَين ، كما هي من غير تحريض أو تبديل لقوله تعالى [وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ].
الثاني : الأمر للمسلمين بالتقوى لقوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ].
والذي يحمل على الوجوب ، وهو الأصل في الأمر إلا أن ترد قرينة تفيد الإستحباب ، وهي معدومة في المقام .
الثالث : يدل كل أمر وإخبار وتعليم في آية البحث على وجوب تقوى الله سبحانه .
الرابع : آية البحث شاهد على بلوغ المسلمين مراتب التقوى .
الخامس : وردت آية البحث بصيغة المفاعلة [إِذَا تَدَايَنتُمْ] لبيان حقيقة شرعية وهي أن القرض والدَين عقد فيه قبول وإيجاب وهو عقد جائز بين الطرفين الدائن والمدين يحق لأي منهما الرجوع فيه لذا تفضل الله عز وجل بالأمر بكتابته والشهادة عليه ليكون تعيين مقدار القرض وجنسه ومدته موضوعية في أوان الوفاء وهو برزخ دون الخلاف والشقاق الذي يتعدى طرفي الدَين .
وكما أن التداين بين المسلمين من التقوى فان ضبط تفاصيل الدَين منها وشاهد على بلوغ المسلمين مراتب التقوى والصلاح .
الرابع : تقدير آية البحث : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين اتقوا الله ، وتلك آية في تأديب الله عز وجل للمسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ] فمما يعلمه الله عز وجل للمسلمين في نداء الإيمان من آية البحث أمور :
أولاً : بيان حقيقة , وهي أن المسلمين هم المؤمنون ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين آمنوا بالله ورسوله هم المؤمنون .
الصغرى : المسلمون هم الذين آمنوا بالله ورسوله .
النتيجة : المسلمون هم المؤمنون .
ثانياً : تقوى الله والخوف منه , وإطاعة أوامره وأوامر رسوله فرض عين على كل مسلم ومسلمة , بلحاظ أن نداء الإيمان ينحل بعدد المسلمين والمسلمات .
ثالثاً : نداء الإيمان أمانة عهدية عند المسلمين , يترشح عنها عدد غير متناه من الأمانات المالكية .
والنسبة بين التقوى والتداين بقيد الإيمان على وجوه :
الأول : التداين فرع التقوى ، إذ يحترز المسلمون بسلاح التقوى للسعي في حوائج الإخوان , والسلامة من الربا .
الثاني : يتعاهد التداين بين المسلمين ملكة التقوى عندهم .
الثالث : منافع التقوى في تحقق التداين بين المسلمين ، ومنها بلوغ المسلمين مراتب التقوى ، فبعد أن إبتدأت آية البحث بصيغة الشرط في موضوع التداين بين المسلمين بقوله تعالى [إِذَا تَدَايَنتُمْ] جاءت خاتمتها بالأمر بتقوى الله ليكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وتداينوا بينكم ) .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا تقوا الله فتداينوا بينكم فاكتبوا .
ثالثاً : يا أيها الذين تداينوا بينكم فاكتبوه فهو من التقوى ) أي أن كلاً من التداين وكتابته من التقوى ، فيقرض المالك ماله قربة إلى الله ويقترض المسلم لقضاء حاجاته ويتخذ القرضة والدَين عوناً لأمور الدين والدنيا ، ويتوجه إلى الله تعالى بمسائل :
الأولى : الشكر لله عز وجل على نعمة الإستدانة .
الثانية : الثناء على الله عز وجل للنجاة من الربا من وجوه :
الأول : السلامة من اللجوء إلى الربا .
الثاني : الأمن والنجاة من اللعنة التي تتغشى أطراف الربا .
الثالث : الوقاية من أوزار الفوائد الربوية التي [مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ] ( ).
وكأن هناك ملازمة بين العادات والقواعد العامة المتبعة عند شطر من الناس والتي لم ينزل الله عز وجل بها أمراً أو إذناً وبين الأذى والخسارة ، فان قلت أن آكل الربا مع حرمته تزداد أمواله .
والجواب إنها زيادة إلى حين , على فرض حصولها ، وقد بيّن القرآن شدة عذابه يوم القيامة مما يجعله لا يهنئ في الدنيا بالأموال الربوية , وهو من عمومات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ).
الثالثة : سؤال قضاء الدين في أجله من غير حرج وضيق
الوجه الثامن عشر : يا أيها الذين آمنوا يعلمكم الله ) .
لقد ورد لفظ [َيُعَلِّمُكُمْ] ثلاث مرات في القرآن مرة في آية البحث ، ومرتين في آية واحدة هو قوله تعالى [كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ } وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : الثناء على المسلمين .
الثانية : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بتعليمهم .
الثالثة : تعليم الله وتعليم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين .
ليجتمع التنزيل والسنة النبوية في هداية المسلمين لسبل الصلاح.
الرابعة : بينّت الآية أعلاه تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين أموراً مباركة :
الأول : الكتاب .
الثاني : الحكمة .
الثالث : تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يعلمون ،
وهو صفة كريمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتجلى فيها الإعجاز وإنتفاع المسلمين من الوحي الذي هو أعم من القرآن، ومنه قصص الأنبياء وأحوال الأمم والمغيبات ، والوقائع التي تطرأ على المسلمين.
ومنه البشارات بالفتح العظيم للمسلمين وإتساع دولة الإسلام بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ).
ومنه تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الدعاء والإجتهاد فيه ، وكيفية الشكر لله عز وجل ، ويتجلى في قوله صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( )و(خذوا عني مناسككم)( ).
لبيان أن تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بالسنة القولية والفعلية والتدوينية والدفاعية .
ومنه تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين صيغ العمل بمضامين آيات القرآن وتقريبهم إلى تقوى الله وإيثارهم إلى الحكمة والصلاح وسبل النجاة في الآخرة وبعث النفرة في نفوسهم.
وبين لفظ [يعلمكم] في آية البحث واللفظ المتكرر لها في الآية أعلاه من سورة البقرة عموم وخصوص مطلق ، فصحيح أن كلمة [يعلمكم] تكررت في الآية أعلاه مرتين إلا أن كلمة [يعلمكم] في آية البحث أعم من جهات :
الأولى : ورود الآية مطلقة من غير تقييد بفرد أو سنخية ما يعلمه الله عز وجل للمسلمين .
الثاني : مجئ التعليم من عند الله عز وجل .
الثالث : إرادة التعليم المتعدد في وسائطه والمتجدد في زمانه من وجوه :
أولاً : تعليم الله المسلمين بالكتاب وآيات القرآن ، وكل آية من القرآن مدرسة في الهداية والتعليم .
ثانياً : تعليم الله للمسلمين بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون التعليم الوارد في قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]وفي قوله [وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ]فرع التعليم الوارد في آية البحث .
ثالثاً : تفضل الله بتعليم المسلمين بالآيات الكونية ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ] ( ).
رابعاً : من تعليم الله للمسلمين ما يتفضل به من اللطف بهم والإحسان إليهم ، وتقريبهم إلى مقامات الطاعة ، وإبعادهم عن سبل الهلكة والضلالة .
خامساً : لما تفضل الله عز وجل وحرم الربا , وأنذر الذي يأكل الربا ويتعاطاه ، أنعم على المسلمين بآية التداين لكفاية حاجات المسلمين في الموارد التي يسلك فيها شطر من الناس طريقاً إلى الربا، فتكون كل كلمة من آية التداين من مصاديق تعليم الله للمسلمين.
لقد أخبرت آية البحث عن وقوع المعاملات التجارية والبيع والشراء بين المسلمين بقوله تعالى [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ] ( )فيأتي الأمر بالشهادة على البيع ليتضمن في دلالته أموراً :
الأول : الأمن والسلامة للمسلمين , فوقوع التبايع والبيع والشراء العام بين الناس شاهد على حياة الدعة والرغد والأمن وحفظ الثغور .
الثاني : بشارة الفتوحات للمسلمين ، ومجئ الغنائم تترى إلى المدينة , فيكثر الدينار والدرهم في أيديهم .
الثالث : التنزه عن الربا مقدمة للتبايع بين المسلمين ، وتنشيط لأسواقهم .
الرابع : بيان حقيقة وهي أهلية المسلمين للشراء بالنقد ودفع المبلغ في الحال ، وهو من الإعجاز في ذكر الإشهاد على البيع دون ذكر الكتابة ، فبينما ذكرت آية البحث لزوم كتابة الدَين والإشهاد عليه ، ذكرت الشهادة وحدها على البيع لتكون معاملات المسلمين على وجوه :
الأول : التداين والقرض الحسن .
الثاني : البيع نقداً وقبض الثمن في المجلس.
الثالث : البيع بالنسيئة والنجوم أي الأقساط، ليكون من آية البحث تيسير هذا الصنف من البيع، ومنع الحرج فيه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع وسلف.
وعن عمر بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع وسلف , وعن بيعتين في صفقة واحدة , وعن بيع ما ليس عندك ( ).
والمقصود الجمع بين البيع والقرض بعقد واحد كما لو قال، قد بعتك داري هذه بألف على أن تقرضني مائة، وكذا لا يجوز الشراء مع القرض، كما لو قال المشتري : إشتريت هذه السيارة منك بخمسمائة على أن تقرضني أربعمائة، وكذا بالنسبة للإجارة.
لقاعدة منع الجهالة والغرر، وإختلاف جنس المعاملة .
وقيل الجمع بين القرض والبيع من المعاملات الربوية )، ولكنه أعم في موضوعه وحكمه .
لقد خصّ الله عز وجل المسلمين بتعليمه إياهم ، وهو الغني عن العالمين ، ترى ما هي علة هذا التعليم .
الجواب لا تقدر الخلائق على الإحاطة بعلل الأحكام وأسرار الإرادة التكوينية إلا الله عز وجل ، ومن منافع تعليم الله للمسلمين وجوه :
الأول : إرتقاء المسلمين في سلم المعارف الإلهية .
الثاني : خروج المسلمين للناس بسلاح العلم وإقامة البرهان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالث : تفقه المسلمين في الدين وأدائهم الفرائض على الوجه الأتم والأكمل .
الرابع : إقرار المسلمين باليوم الآخر والعمل له .
الخامس : إدراك المسلمين لوجوب إجتناب المعاصي والابتعاد عن السيئات .
السادس : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن دراية وعلم .
لقد أثنى الله عز وجل على المسلمين والمسلمات بنعتهم بالإيمان ليأتي الجزاء من عند الله في الحال بتعليمهم سنن الإيمان وسبل الثبات عليها ، ويعلمهم الوقاية من الفواحش والإبتعاد عنها وتركها .
ومن معاني التعليم في قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ] ( ) تعليم المسلمين قواعد التقوى وصيروتها ملكة عندهم ، ومنه تعاهد الفرائض العبادية ، ليكون ذات الأمر [وَاتَّقُوا اللَّهَ] من مصاديق التعليم الذي يتفضل الله تعالى به .
لقد جاءت آية البحث بأحكام متعددة ، فتفضل الله وأخبر أن هذه الكثرة مما يعلمه الله للمسلمين والمسلمات .
ومن منافعه عدم دبيب الملل أو السأم إلى نفوس المسلمين من كثرة الأحكام الواردة في آية البحث , لذا قال تعالى [وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ] ( ) أي لا تتضجروا وتملوا من تعلم أحكام كتابة الدَين والقرض , ويكون بلحاظ شطر الآية أعلاه على وجوه :
الأول : كتابة الدَين القليل .
الثاني : كتابة الدَين الكبير .
الثالث : تثبيت أجل الدَين القليل .
الرابع : قضاء الدَين الكبير .
وإذا كان القليل هو الذي يحتمل معه السأم من كتابته فلماذا ذكرت الآية الدين الكثير , الجواب لوحدة الحكم في تنقيح المناط, وللزجر عن التفريط والتهاون , وللتباين في حساب الناس للقليل أو الكثير .
الوجه التاسع عشر : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا والله بكل شيء عليم ) .
يجمع هذا التقدير أول وآخر أطول آية في القرآن , ولابد لهذه الخصوصية من موضوعية في الجمع بين أولها وآخرها ، فهو سبحانه عليم بحاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتصديق المسلمين به , والله عليم بحاجتهم وحاجة الناس لخروج المسلمين لهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
فيخرج المسلمون للناس بصيغة الإيمان ، وهو وحده دعوة للهداية والإيمان ، وترغيب بتلقي نداء الإيمان بالقبول ، وتتدلى أغصان نداء الإيمان لتدخل كل بيت من بيوت أهل الأرض , وتكون قريبة من متناول أي إنسان ذكراً كان أو أنثى .
من معاني القضاء
يأتي القضاء على عدة معان , وورد في القرآن على وجوه :
الأول : الخلق والإنشاء ، قال تعالى [فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ] ( ) أي خلقهن .
وهل من تعارض بين مدة الخلق أعلاه وهي يومان ، وبين الخلق الفوري في قوله تعالى [وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ) بلحاظ أن خلق السموات والأرض من الأمور التي قضاها لله عز وجل ، الجواب ليس من تعارض ، وتحتمل وجوهاً :
أولاً : عدم خروج خلق السموات والأرض من قانون الخلق بالكاف والنون ، مع ورود الدليل الخاص والمتصل وهو ذكر مدة الخلق .
ثانياً : إرادة الخلق بالكاف والنون في الأمور الجزئية والكبيرة أيضاً ، ولكن خلق السموات والأرض أكبر من الكبيرة فلذا إستغرق خلقها يومين .
ثالثاً : خلق السموات والأرض بالكاف والنون أيضاً ، ولكن المشيئة تتعلق كل مرة ببعض السموات لبيان بديع صنع الله , وهداية الناس إلى الحكمة والصبر والتأني في القول والفعل .
والصحيح هو ثالثاً أعلاه ، وهو من بديع صنع الله , وعظيم قدرته وسلطانه .
وبين الخلق وبين القضاء الوارد في الآية أعلاه ، عموم وخصوص من وجه , قال تعالى [خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ] ( ) .
الثاني : الأمر ، قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا]( ).
الثالث : حصول الفراغ من الأمر ، وفي التنزيل حكاية عن يوسف عليه السلام [قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ] ( ) فبعد أن بيّن لصاحبيه في السجن تأويل رؤيا كل واحد منهما , وقال للذي أخبر أنه رأى الطير تأكل من رأسه بأنه سيصلب فأجاب أنه لم ير شيئاً لما تضمنه تأويل الرؤيا من نبأ قتله ، فأجاب يوسف بأن الأمر قضي وفرغ منه .
والمختار بالنسبة للمؤمنين أن الدعاء يمحو الرؤيا المكروهة , إنما تأتي هي للإنذار والوعيد فكيف قال يوسف عليه السلام [قُضِيَ الأَمْرُ] الجواب إنه علم أن الرجل كافر , ولا يلجأ إلى الدعاء والمسألة , والتضرع لمحو رؤيا الإنذار .
الرابع : الحتم والقطع كما في قوله تعالى [فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ] ( ).
الخامس : إرادة التعيين والحصر ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى]( ).
وهل ينحصر الأجل المسمى بخصوص تأخير الأجل أم يشمل تقديم الأجل وما يسمى بالمنخرم ) المختار هو الثاني لأن التعدد في الأصل لبيان رحمة الله والترغيب بالدعاء والصدقة ودفع البلاء ، وهل يختص معنى الأجل بالموت أم يشمل غيره كالأرزاق والفتن والبلاء وصرفه , الجواب هو الثاني والأعم .
الخامس : المقصود إتمام الفعل والفراغ من الأمر ، قال تعالى [فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ]( ).
السادس : إرادة الإخبار والإعلام والوحي كما في قوله تعالى [وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ]( ).
السابع : الأداء والإمضاء ، كما في قوله تعالى حكاية عن نوح مع قومه [ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ] ( )أي أمضوا فيما تريدون ، وفيه تحد من نوح لقومه الكفار وإخبار بأنه متوكل على الله فلا يبالي بهم (عن مجاهد { ثم اقضوا إليَّ } قال : ما في أنفسكم) ( ) ليفيد القضاء هنا معنى البيان والكشف والإظهار .
العاشر : إرادة الحكم والفصل ، قال تعالى [إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ] ( ).
والجامع بين هذه الوجوه هو التمام وإنقطاع الشيء ، فالحكم يعني إنقضاء الخصومة .
ومعنى القضاء في الإصطلاح هو الحكم بين المتخاصمين وفك المنازعات وزجر الظالم والمنع من التعدي والظلم ، وهو التعدي للحكم الذي يحيط بجزيئات القوانين الشرعية ، على أشخاص معينين وفق قواعد المدعي والمدعى عليه ، بإثبات الحقوق وإستيفائها للمستحق ، وغايته قطع المنازعة وإنصاف المظلوم , وإعادة الحقوق إلى أهلها ، وقيل القضاء سلطة شرعية على النفوس والأعراض والأموال ولا دليل عليه .
والقضاء واجب كفائي اذا قام به فرد جامع لشرائطه سقط عن الآخرين ، وقد يكون واجباً عينياً مع الإنحصار للحاجة إلى ضبط النظام وسيادة الأخلاق الحميدة وإعانة الناس بتهيئة مقدمات العبادة والطاعة لله عز وجل ، وقد يميل شطر من الناس إلى الظلم وإلى تقديم منافعهم ومصالحهم عند التزاحم بينها ، وبين مصالح غيرهم بما يحدث الظلم الإبتدائي أو المركب ، مما يترتب عليه إنصاف المظلوم منعاً للفساد وإشاعة الفوضى .
وجاءت آيات كثيرة بالأمر بالعدل للأنبياء السابقين وللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين ، منها قوله تعالى خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ] ( ).
البصمة الوراثية
أفرز العلم الحديث البصمة الوراثية وإختبار( DNA ) وإسمه بالإنكليزية (The DNA Fingerprint) أي البصمة الوراثية للإنسان ويسمى أحياناً الطبقة الوراثية للإنسان (DNA typing).
وإذا تعارض هذا الإختبار مع قاعدة الولد للفراش، فتقدم القاعدة ولا عبرة بماء الزاني ونحوه .
ويفيد هذا الإختبار الدقة في تعيين النسب والأبوة والأمومة وعائدية التولد بلحاظ مكونات الحامض النووي لكل منهما ، إذ يختص كل إنسان بتركيب وراثي يتغشى كل خلية من خلايا بدنه لا يشاطره إنسان آخر وقد تم إكتشاف هذه الخصوصية للإنسان سنة 1984 من قبل أحد علماء الوراثة .
وهذه البصمة موجودة في جميع أجزاء البدن حتى في الدم والشعر والمني والبصمة الوراثية التي في العين هي نفسها في الكلية وفي الكبد والقلب واليد والرجل ويتصف جزئ DNA بأنه صغير جداً وتمتنع عن التغيير طيلة حياة الإنسان وحتى بعد موته وإلى أن تتحلل الجثة بعد الموت .
وتفيد التعرف على الجثث خلال الحوادث والكوارث ، وتساهم في الكشف عن السرقة والإغتصاب وجرائم عديدة وبه إستقرار للأمن فيقود أي أثر بشري بسيط في محل الجريمة لتعيين شخص الجاني مثل الدم ، الشعر ، قطرات العرق ، اللعاب ، السائل المنوي، وأشكل عليه بأن فيه إنتهاكاً للخصوصية كما أنه باب للفتنة في مجتمعات محافظة ويدل هذا الإكتشاف العلمي على بديع صنع الله عز وجل والإعجاز في خلق الإنسان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ] ( ) ويمكن بيان المائز بين الإنسان وعالم الحيوانات في هذا الخصوص .
ولو تعارض إختبار البصمة الوراثية مع النسب الشرعي وعقد الزواج يقدم الثاني .
وتتجلى الصلة بين الأب وأبنائه بالحامض النووي بصيغ وراثية دقيقة وفق التسلسل والتعاقب والتردد الجيني بأرقام لا تقبل التبديل والتغيير وإن كانت لكل واحد منهم رموز كيمائية وعلامة خاصة تميزه وحتى داخل الأسرة .
ويمكن أخذ الحامض النووي من خلايا الدم البيضاء ، كما يؤخذ من نخاع العظم أو أي نسيج في الجسم أو سائل فيه يتضمن نواة ، ويكفي مقدار حجم الدبوس منها لمعرفة البصمة الوراثية .
ولا تقبل البصمة الوراثية الخطأ والترديد إلا أن يأتي بالعرض من جهة التلوث أو قلة خبرة وضعف الذي يقوم بالتحليل .
ويمكن اللجوء إلى هذا الإختبار بدل القرعة في مواطن الإشكال وحال الإشتباه والإختلاط في المستشفيات في الجملة ، وأطفال الأنابيب وعند ضياع الأطفال في الحروب والكوارث والأسرى .
وقد أنشئت مؤسسات علمية خاصة وحكومية في العالم لتعيين الحامض النووي .
كما ينفع الحامض النووي في أمور :
الأول : بيان النسب والقرابة بين أفراد القبيلة الواحدة ومعرفة الدخيل بينهم .
الثاني : تعيين البنوة والأبوة .
الثالث : فك النزاعات والخصومات عند إختلاف الأطفال .
وإذا ثبت النسب بعقد زواج شرعي او قانوني فلا تصل النوبة إلى الحامض النووي ولا عبرة به وإن خالف ، وعند التعارض في المقام هل يكون الولد ابن زنا .
الجواب لا ، لإحتمال أنه وطأ شبهة ونحوه إنما تبقى القاعدة (الولد للفراش ) ولكن يكون فيه حرج شديد على بعض الناس حينئذ، قال تعالى [فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) ولقد جعل الله عز وجل غشاء البكارة عند المرأة حفظاً لرحمها وواقية من الدنس والفواحش .
ولما صار كثير من الناس في بعض البلدان لم يلتفتوا إلى موضوعيته ، ولزوم عدم إختلاط الحياة تفضل الله عز وجل وهدى الناس لعلم الحامض النووي , ليحرصوا خصوصاً النساء على حفظ الأنساب والتفاخر به فهو زينة في الدنيا والآخرة .
ليكون هذا الإختبار وإكتشافه برزخاً دون تمادي الناس في الفواحش ولتستديم علة خلق الناس وهي عبادة الله ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
وفي زمان فرعون ومع أنهم قوم مشركون فان النساء كانت تتعفف عن فعل الفواحش في الجملة بحيث إستغربت النسوة مما فعلته امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام ، كما ورد في التنزيل بقوله تعالى [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امرأة الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
ولا تقف العلوم عند هذا الحد فاذا إستحدث الناس نوعاً من المعصية إستحدث الله لهم نوعاً من البلاء والعقاب وأسباب الإنزجار وحتى الذين يتظاهرون بعدم التأثر عند إكتشاف التباين بينهم وبين آبائهم، ونسبتهم لما يسمى الأب البايولوجي خطأ فأنهم في قراءة أنفسهم يحزنون ويألمون, وكذا بالنسبة للمرأة التي يتم اكتشاف من جينات إبنها بأنه ليس من زوجها وفراشه ، فهو لا يخلو من عار ونقص وتعد على الحقوق والحرمات في كل زمان , قال تعالى[سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً]( ).
ولابد من مصاحبة هذا الإكتشاف بالحث على تعاهد الأنساب وحفظ الفروج وطهارتها، وإجتناب النساء الحمل من غير الزوج في أي مجتمع كان، فقد جعل الله عز وجل النكاح الصحيح من فطرة الإنسان وجزء من ملاك الأخلاق في كل ملة ومجتمع من بداية وجود الإنسان في الأرض.
ويمنع هذا الإكتشاف من الغيبة والإفتراء ورمي المتزوجات بالسوء والفاحشة ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً]( ).
وإذا ثبت باختبار الحامض النووي أن جينات الولد لا توافق جينات أبيه إنما توافق شخص آخر معروفاً كان أو مجهولاً ، أو كان على صلة يومية مريبة مع أمه فهل ترمى بالزنا أو ينعت بأنه ابن زنا الجواب لا، لأن الزنا هو إيلاج فرج في فرج محرم شرعاً محبوب طبعاً، ولا يثبت إلا بأحد طريقين :
الأول : شهادة أربعة شهود رجال بأنهم رأوا فعل الوطئ ودخول الميل بالمكحلة .
الثاني : الإقرار بالزنا ، ولو أقر أحد الطرفين كأم الولد وأيدت أن صاحب الماء الذي أثبته إختبار (DNA) قد فلاناً قد زني بها وأنكر هو أو أنه قد مات أو غاب فهل يثبت أنه زان .
الجواب لا، إنما إقرارها على نفسها وحدها .
ولا يقام الحد على الرجل أو المرأة مع كشف الحامض النووي المغايرة بين الأب وإبنه لإحتمال الشبهة ، قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إدرأوا الحدود بالشبهات ) ويبقى الولد في نسبه للفراش ويتوارثان مع هذا الكشف ما دام الزواج شرعياً كما يتوارث الابن مع أمه .
وهل يسقط عنه التكليف بالإحسان للوالدين خصوصها الأم الجواب لا ، فلابد من البر بوالديه الشرعيين والعمل بقوله تعالى [فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ] ( ) ترى هل تترتب صلة بين الولد والذي يثبت أنه من نطفته الجواب لا، فهو أجنبي عنه .
ولا يصح نعت الولد بأنه ابن زنا وينطبق على الذي ينعته حكم الإفتراء لأنه ابن شرعي للفراش ، وفيه آية في إكرام الله عز وجل للمسلم والمسلمة وحفظ حقوقهما ، وبيان قدسية عقد النكاح في الشريعة الإسلامية , وترتب أحكام البنوة والرضاع والحضانة والنفقات عليه .
وتبين هذه الإكتشافات رأفة الله بالناس وستره لهم ، وهو خير الساترين ، وأفعل التفضيل هذا مستقرأ من قوله تعالى [فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًاوَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ) ففي الستر حفظ للأنساب والسمعة وإستدامة الجاه ، ودفع الغضاضة عن الإنسان في نفسه ونسبه وبين أولاده إذا ما كبروا وعلموا أن جينات أبيهم وجيناتهم ليس من ذات الأسرة والقبيلة خاصة وأنه فرد قليل عند المسلمين
ومما هو شائع بين الناس القول (أن الله يحب الساترين )وليس هو حديثاً ولا مثلاً ، ولكنه مستقرأ من القرآن والسنة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ] ( ).
و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من فرّج عن أخيه كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر على أخيه المسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في حاجة العبد ما كان العبد في حاجة أخيه) ( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال (إن الله ستر وكأنه غفر).
ولابد م مراعاة الخصوصية والشأن الخاص في ستر الناس وعدم كشف أحوالهم في إختبار وتحليل الحامض النووي خاصة أن المدار في الأنساب على الحكم الشرعي والقانوني .
وجاءت آية البحث بالبينة والكتابة، ومن الآيات أنها قدمت الكتابة وتدوين الدَين وتفاصيله على الشهادة، لبيان أن الكتابة وثيقة، ليتفقه المسلمون في أمور الدين والدنيا، ويتعلموا كيفية الكسب والشراء والبيع في الحضر والسفر .
وليس للقاضي أن يعنّت الشهود، فلا يوقعهم في الحرج أو أمر شاق، إلا عند الريبة والشك وحصر القضاء بالحق بالتفريق بينهم مثلاً .
فلابد من الجمع بين إكرام الشهود والقضاء بالحق، وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أكرموا الشهود فإنّ الله عزّ وجلّ يستخرج بهم الحقوق ويدفع بهم الظلم( ).
وليس للقاضي أن يتعتع الشاهد في تلفظه، بل يجب أن يأذن له يتكلم ويكف عنه إلى أن يتم كلامه، إلا أن يكون فيه إعانة له على قول الحق والصدق.
ولو تردد الشاهد في الشهادة على نحو السالبة الكلية في مسألة التداين وأطرافها، أو على نحو السالبة الجزئية كما لو تردد ساعة أداء الشهادة في تعيين الأجل المتفق عليه عند تحمل الشهادة مع شهادته بحصول الدَين ومعرفة أطرافه , والتمييز بين الدائن والمدين، ومقدار الدَين فلا يجوز ترغيبه وحثه على ذكر الأجل، أو جعله يعزف عن أصل الشهادة.
ولابد للشاهد من التثبت في موضوع الشهادة لذا ورد عن ابن عباس أنه قال : أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال : هل ترى الشمس , قال : نعم , قال فعلى مثلها فاشهد أو دع ( ).
لذا فان تقدير الآية بخصوص الشاهد على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا إذا دعيتم للشهادة على الدَين فأجيبوا، قال الله تعالى في آية البحث[وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا]، ليكون من منافع الشهادة على الدَين والقرض تيسير أمور المسلمين في المكاسب والمعاشات , وعدم تعطيل التداين بينهم.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إذا تم التداين بينكم إلى أجل مسمى فاشهدوا على وقوع التداين وتعيين طرفي الدَين والقرض .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا كونوا شهداء على الدَين والقرض ) ليكون المسلم في مسألة الدَين على وجوه :
الأول : إقراض المسلم لغيره .
الثاني : إستدانة المسلم من غيره .
الثالث : قيام المسلم بكتابة الدَين والقرض .
الرابع : شهادة المسلم على الدَين .
ومن يكون مقرضاً في معاملة قد يكون يوماً مستديناً أو كاتباً أو شاهداً على الدَين وكذا العكس ، وهو من أسرار توجه نداء الإيمان إلى المسلمين والمسلمات جميعاً .
الوجه السابع : تقدير آية البحث : أيها الذين آمنوا لا تسأموا ان تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ) وفيه مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين للعناية بالأمور ما دق منها أو كبر ما دامت تستلزم العناية ويكون تركها سبباً للأذى والضرر أو مقدمة للفتنة .
وتبين الآية حقيقة وهي أن كتابة الدَين ومقداره تنمية لملكة التوثيق والتدوين عند المسلمين .
الثانية : ما يظنه الناس أنه قليل قد يكون كثيراً في يوم ما ، فقد يحصل التداين في زمان رخاء وسعة ورغد عيش ، وعند أوان القضاء يكون الزمان قد تبدل وصار الناس في حال قحط وفقر ، أو يتبدل الحال على نحو القضية الشخصية فيقرض الإنسان وهو في سعة وغنى ، وعند أوان الوفاء يكون في حال عسر وضيق ، ومحتاجاً لمبلغ القرض ، وهناك شواهد كثيرة منه في كل زمان ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ) أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو الشأن والعلو وتولي السلطنة والحكم .
الجواب هو الأول ، ليكون من معاني [وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ] إعانة المسلمين والتخفيف عنهم وصيرورة القرض ووفاءه رحمة بهم وسبيل نجاة ، فيدرك المسلم أن المبلغ الذي قرّضه لغيره كالإدخار الإجباري إلى وقت معلوم وساعة الحاجة ، فتأتي كتابته والشهادة عليه لتوثيقه ومنع إنكاره في حال يكون صاحب الحق شديد الحاجة إليه .
ومن الناس من يطالب بحقه وإن كان قليلاً .
الثالثة : لقد قدمت آية البحث كتابة الدَين على الشهادة عليه ، وبعد أن بينت تفاصيل وشرائط الشهادة عادت لذات الكتابة وتأكيدها ولزوم عدم تركها أو التهاون في الدَين لخصوص قلته ونقصه .
وفيه أمور :
الأول : تأكيد الملازمة بين الكتابة والشهادة على الدَين .
الثاني : لزوم عدم التفريط والتهاون والتغافل عن أحدهما .
الثالث : تعضيد الكتابة والشهادة على الدَين ، وكذا العكس أي تعضيد الشهادة للكتابة على الدَين .
الرابع : بيان فضل الله عز وجل في توثيق الحقوق ، وعدم ضياعها .
الخامس : إرادة تنزه المسلمين عن الربا ، والطمع في الفائدة الربوية لأن كلاً من كتابة الدَين والشهادة عليه واقية من الربا , وحرز من تجدده وإشاعته بين المسلمين .
السادس : إمامة المسلمين للناس وخروجهم لهم بالتقوى بلحاظ آية البحث من وجوه :
أولاً : تلقي المسلمين نداء الإيمان من عند الله عز وجل .
ثانياً : تفقه المسلمين في المكاسب والمعاملات .
ثالثاً : قيام المسلمين بالتداين فيما بينهم ، وإقراض بعضهم بعضاً بصفة الإيمان من وجوه :
أولاً : يقوم المسلم بالإقراض بما هو مؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر .
ثانياً : يلجأ المسلم إلى الإقتراض لأنه مؤمن لا يأخذ المال بالفائدة الربوية ، ولا يبقى محتاجاً ، وقد جعل الله المسلمين أخوة, قال تعالى [سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا] ( ).
ثالثاً : تتم كتابة الدَين والشهادة عليه بصفة الإيمان .
رابعاً : تنزه معاملات القروض بين المسلمين من الربا وفوائده .
خامساً : يمهل المدين للأخوة الإيمانية ، ورجاء الثواب .
وعن أبي قتادة قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من نفّس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة ) ( ).
الرابعة : بيان قانون وهو الملازمة بين الإيمان وعدم الضجر والملل من العمل في مرضاة الله , وتثبيت أحكام الشريعة ، وتجمع الآية بين وجهين :
الأول : الأمر بكتابة الدَين وإن كان قليلاً .
الثاني : الأمر بكتابة الدَين وإن كان كثيراً .
ومن إعجاز القرآن مجئ النهي ليكون في مفهومه أمراً على الضد منه ، فآية الدَين آية الأوامر والأحكام والحرب على الربا ، وهي آية الثواب والأمل بالسعة لذا فانها أطول آية في القرآن .
الخامسة : في الآية تذكير بيوم القيامة ووقوف الناس للحساب ليس معهم إلا أعمالهم ، فاذا كان الناس يوثقون الدَين والقرض ويحصون مبلغه وأجله وأوانه وإن كان قليلاً في مقداره ومدته وقريباً في أجله ، فان الملائكة يحصون على كل إنسان فعله وعمله .
قال تعالى [إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ] ( ) فمع كل إنسان ملكان أحدهما عن يمينه يكتب العمل الصالح والآخر عن شماله يكتب السيئات .
وفي كتابة الدَين دعوة للمسلم لإستحضار أعماله والمبادرة إلى الإستغفار والتوبة والإنابة وسؤال الله محو الخطايا وغفران الذنوب, ولا يقدر على مغفرتها وعفوها إلا الله عز وجل .
السادسة : وردت الآية بذكر الصغير والكبير بقوله تعالى [صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا] فهل تدل الآية في إطلاقها على إرادة كتابة الدَين سواء كان قليلاً أو كثيراً , الجواب نعم ، ليكون من إعجاز الآية شمول الموزون والمكيل والمعدود والمقاس بالأمتار ونحوها والأعيان ، وما كان صغيراً في عين بعضهم فهو كبير عند غيرهم .
وما كان قليلاً في زمان يكون كثيراً في زمان آخر ، وكذا العكس وتبقى كتابة الدَين والشهادة عليه فيصلاً ومانعاً من الخصومة والخلاف ، ومن خشية صاحب الحق من ضياع حقه خاصة في هذا الزمان والتبدل والتغيير المفاجئ بقيمة العملات الورقية بالقياس إلى الذهب أو إلى العملات الأخرى مما يلزم ذكر ذات العملة التي جرى عليها العقد مع بيان الشروط بما يمنع من اللبس والشك والترديد .
وإذ ذكرت الآية الكتابة والشهادة كل فرد على حدة بصيغة البيان والتفصيل ، عادت فجمعت بينهما بقوله تعالى [وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ] .
أي أن كتابة القليل والكثير من الديون , وإحصاء مقدار المال والأجل ومحل الحق أعدل عند الله ، وفيها مرضاته , وأصوب وأتم للشهادة لأن الكتابة تعضيد للشهود وطرد للوهم والسهو والنسيان، وهل يشمل قوله تعالى [صَغِيرًا] إرادة الأمور الضئيلة جداً مثل الدانق الذي هو معشار الدرهم ، وكل درهم (2,52) غرام من الفضة وقيل وزن الدرهم أيام النبوة يقارب ثلاث غرامات من الفضة .
والمراد من [صَغِيرًا] أي القليل من المعهود فيه التداين والقرض، فعلى كل من الدائن والمدين والكاتب أن لا يسأموا أو يضجروا أو يملوا أو يتكاسلوا عن كتابة الدَين وان كان قليلاً وصغيراً ، لصدق اسم الدَين عليه , وكذا بالنسبة للشهود فيجب أن يشهدوا على القليل مثل شهادتهم على الكبير والكثير .
(عن زيد بن خالد( ): أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : “ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها) ( ).
الوجه الثامن : تقدير الآية يا أيها الذين آمنوا ذلكم أقسط عند الله ).
ذلكم اسم إشارة للبعيد , وقد ورد في القرآن أكثر من أربعين مرة ، وهو لغة في ( ذلك ) إلا أنه يفيد التعدد.
ويأتي في الخير والأمر الحسن , ويتضمن معنى التعظيم والتفخيم كما ورد في ثلاث آيات متتاليات [ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ) [ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ) [ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
ويأتي في الإنذار والتحذير وإفادة النهي كما في قوله تعالى [وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا]( ).
وفي إعراب [ذَلِكُمْ] ذا اسم إشارة .
اللام : للبعد .
الكاف : للخطاب .
الميم : للجمع المخاطب بالكلام .
ومع أن آية الدَين أطول آية في القرآن فلم يرد فيها اسم إشارة إلا لفظ [ذَلِكُمْ] ويحتمل متعلقه وجوهاً :
الأول : إرادة ما تقدم من مضامين آية البحث .
الثاني : المقصود خصوص كتابة الدَين صغيراً أو كبيراً , وعدم السأم من كتابته .
الثالث : المقصود كتابة الدَين دون الشهادة .
الرابع : إرادة المعنى الأعم وشمول الآية للدَين بين المسلمين وتوثيقه وكتابته .
والمختار هو الأخير ، فمن فضل الله عز وجل على المسلمين ان يأمرهم بالسنن ثم يبين لهم منافعها ، وكأنها رياض ناضرة يجد المسلمون لذة ومتعة في العمل بها .
وقوله تعالى [ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ] تحبيب للإقراض والإشهاد عليه، وطرد للنفرة من كتابته ، ومنع للحرج في الإقتراض , فلولا آية الدَين لقال بعضهم أمثلي يكتب عليه الدَين , أو يؤتى بالشهود عليّ .
أو يقال : ما أشد شح فلان لا يقرض المبلغ الصغير إلا أن يكتبه ويدعو الشهود للشهادة عليه ، فتأتي آية قرآنية لتنظيم حياة المسلمين والمعاملات بينهم إلى يوم القيامة , وتمنع من الخلاف وما يؤدي إلى الشقاق بينهم ، فمع عدم الكتابة والإشهاد على الدَين قد يقع إختلاف بين الدائن والمدين في مقدار القرض أو نوعه وجنسه أو في أجله وحلول أوان القضاء ، مما يسبب النفرة بين المسلمين ، فجاءت آية البحث ليكونوا يداً واحدة على عدوهم ، ولبعث الخوف في نفوس الكافرين .
وفيه مسائل :
الأولى : بيان قانون يتغشى آية البحث وهو أنها إكرام محض للمسلمين، ليس فيها تعريض أو ذم لهم .
الثانية : يدل إبتداء آية البحث بنداء الإيمان على تنزه المسلمين عن التسويف في قضاء الدين وإن حصل فهو فرد نادر ولا عبرة بالقليل النادر .
الثالثة : فضل الله في الأجر والثواب للدائن الذي يتأخر عليه رجوع ماله، والوفاء به.
(وأخرج أحمد ، عن حذيفة بن اليمان قال : غاب عنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوماً فلم يخرج حتى ظننا أن لن يخرج، فلما خرج سجد سجدة ، فظننا أن نفسه قد قبضت! فلما رفع رأسه قال : « إن ربي عز وجل إستشارني في أمتي ماذا أفعل بهم؟ فقلت : ما شئت أي رب؛ هم خلقك وعبادك ، فاستشارني الثانية؟ فقلت له كذلك .
فقال : لا أخزيك في أمتك يا محمد ، وبشرني : إن أول من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفاً مع كل ألف سبعون ألفاً ليس عليهم حساب .
ثم أرسل إلي ادع تجب ، وسل تعط ، فقلت لرسوله : أو معطي ربي سؤلي؟ قال : ما أرسلني إليك إلا ليعطيك . ولقد أعطاني ربي عز وجل ولا فخر ، وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ، وأنا أمشي حياء .
وأعطاني أن لا تجوع أمتي ولا تغلب .
وأعطاني الكوثر ، فهو نهر في الجنة يسيل في حوضي ، وأعطاني العز والنصر والرعب ، يسعى بين يدي أمتي شهراً ، وأعطاني : أني أول الأنبياء أدخل الجنة ، وطيب لي ولأمتي الغنيمة، وأحل لنا كثيراً ممن شدد على من قبلنا ، ولم يجعل علينا من حرج، فلم أجد لي شكراً إلا هذه السجدة) ( ).
وبلحاظ إرادة المعنى الأعم كما في الوجه الرابع أعلاه يكون المراد من اسم الإشارة [ذَلِكُمْ] في آية البحث وجوهاً :
الأول : بيان فضل الله في إكرام المسلمين بنداء الإيمان ، وأن وجود أمة مؤمنة بالله ورسوله وكتبه تنزل عليهم الأحكام أعدل عند الله ، لأن في هذا التنزيل ثباتاً لهم في منازل الإيمان وتقويماً لأفعالهم ، وبرزخاً دون إبتعادهم عن سنن الإيمان ، وليبقى المائز والتضاد بينهم وبين الذين كفروا مستديماً إلى يوم القيامة .
الثاني : في تلاوة المسلمين لنداء الإيمان رضا الله عز وجل إذ أنه سبحانه خلق الناس وجعلهم يعمرون الأرض وكفل أرزاقهم , وقال تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ] ( ) ليعبدوه ويتلوا كلامه ويعملوا بمضامينه ويطيعوا رسله من البشر ، فتفضل الله وشهد للمسلمين بالإيمان لتكون هذه الشهادة إحتجاجاً على الناس ودعوة لهم للهداية والإيمان .
فالإيمان أقسط عند الله ، وهو سبب لنزول البركات على أهل الأرض .
الثالث : التداين بين المسلمين من العدل والقسط عند الله عز وجل إذ أمر الله المسلمين بالتآخي والمودة والإيثار والتعاون فيما بينهم.
ورد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه حكم بشاهد واحد واليمين في الدَين ، فيشهد الشاهد ، ويحلف المدعي .
وفي المسألة وكفاية الشاهد واليمين وجوه :
الأول : الحصر بالدَين على الميت .
الثاني : مطلق الدَين .
الثالث : إرادة الشهادة على الأموال .
الرابع : عموم الحقوق وإن لم تكن من جنس المال .
والقول الرابع إجتهاد مقابل النص .
وروى مرسلاً عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إستشرت جبرئيل في القضاء باليمين والشاهد ، فأشار علي بذلك في الأموال وقال لا تعدو ذلك .
وقال الشافعي في كتاب الأم : ولا يجوز النكاح إلا بولي وشاهدي عدل ورضا المنكوحة والمناكح ).
وأستدل بما رواه ابن حبان عن عائشة : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل .
وشرائط الشاهد عند الشافعية خمس:
الأول : الإسلام.
الثاني : البلوغ.
الثالث : العقل.
الرابع : الحرية.
الخامس : العدالة.
والعدالة عندهم إجتناب الكبائر ، عدم الإصرار على الصغائر ، وأن يكون سليم السريرة ، مأموناً حال الغضب ، ذا مروءة .
ويمكن تقسيم الدعاوى والخصومات إلى أقسام :
الأول : الحقوق الجزائية : وهي جرائم الحدود والقصاص .
الثاني : الحقوق المدنية كالبيع والإجارة والرهن .
الثالث : الحقوق الشخصية .
وإجماع علماء الإسلام على عدم القضاء في الشاهد مع اليمين بالحقوق الجزائية ومنها الحدود والدماء وخالف الظاهر .
وقال الإمامية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية بالحكم الشاهد واحد مع اليمين .
وعن أبي هريرة قال : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق .
وقيل به حكم أبو بكر وعمر وعثمان والإمام علي عليه السلام .
السرقة
السرقة: هي أخذ مال الغير من حرز ومكان محفوظ خلسة ، ويقول علماء الإجتماع أن تخفف العقوبة تشجيع للمجرمين ، أي فيه إغراء على السرقة والخيانة ، وأن شدة العقوبة تزجرهم عنها.
قال تعالى[وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاًمِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
ولكن الإسلام جاء بقانون شدة العقوبة مع قرب العفو وترجيح كفته لقوله تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ).
ولا يختص أمر الردع عن السرقة بالعقوبة فيها , إنما يشمل تنمية ملكة التقوى عند المسلم فأداء الصلاة أكثر نفعاً في الردع عن السرقة من العقوبة، لقوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( )ومن أسرار هذا العلم أداء المسلم والمسلمة الصلاة خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني لتكون حصناً من الإقدام على السرقة وسلاحاً للإمر بالمعروف والتنزه عن السرقة ومطلق التعدي ، أي أن منافع صلاة المسلم لا تختص بعصمته من السرقة بل تدعوه لأن يدفع الناس عنها ويبين قبحها ، وتأتي الزكاة لتجعل الفقير في سعة وكفاية ، ولا يحمل نفسه على السرقة .
ومن الشرائط التي لا بد من تحققها عن السارق لإيقاع العقوبة به :
الأول : سن البلوغ بأن يكون السارق ساعة السرقة بالغاً ، وليس على الصغير والذي لم يبلغ قطع ، بل يؤدب .
الثاني : شرط العقل ، بأن لا يكون السارق مجنوناً على نحو الدوام , أو أن جنونه أدواري وحدثت السرقة ساعة جنونه .
الثالث : الإختيار بأن لا يكون السارق مُكرهاً سواء أكرهه ولي أمره أو شخص آخر .
الرابعة : عدم وجود شبهة ملكية للسارق في المال المسروق ، لذا ليس من قطع بين الابن وأبيه والزوج و الزوجة ، وقيل وكذا بين ذوي الأرحام,
ولا قطع على الدائن الذي يأخذ مقاصة من المدين المماطل والمسوف في الدَين أو المنكر للدين , لذا فإن آية البحث على طولها وكثرة أحكامها لم تذكر تسويف الدين والمماطلة فيه , وفيه مسائل :
ولا قطع بين الضيف لأنه دخل البيت بأذن صاحبه , ولكن يجب عليه رد العين المسوقة .
الخامس : لا قطع في حال الجوع والفاقة الشديدة كما في عام الرمادة ، ولكن حق الآدمي يبقى على حاله . سنة الرمادة سنة 17 للهجرة .
سميت سنة الرمادة لقلة المطر أسودت الأرض حتى صار لونهما كالرماد وقيل كانت الريح تسقي تراباً كالرماد أو ألوان عند الناس صارت كالرماد ، لو لقله الأمطار لعام كامل .
عسّ عمر في المدينة ذات ليلة فلم يسمع الناس تتحدث أو تضحك ، وليس من سائل في الطرق ، قيل له الجوع والسؤّ ال سألوا فلم يعطوا فكفوا وكتب إلى الإمصار فجاءت المؤون من الشام والعراق ومصر إلى المدينة .
ولا قطع على المختلس والمنتهي والغاصب ، لتعلق القطع بثقب الدور وكسر القفل ، وهتك الحرز .
إنما يعاقبون بالنكال والسجن والجلد , وإستعادة المال إلى أهله .
والنسبة بين السرقة والنهب عموم وخصوص من وجه ، مادة الإلتقاء أخذ مال الغير من غير إذنه ، ومادة الإفتراق النهب من مكان مكشوف والسرقة من حرز.
وحينما يحجب مال السرقة هل يأتي للإنسان رزق آخر بدله الجواب نعم ، يأتيهم بالحلال ، كما في المنع من أكل الربا فان الله عز وجل ضمن لهم رزقهم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
ولا يختص الأمر بأخذ مال الربا بل يشمل دفع الضرر عن الذي يعطي الزيادة على القرض .
جدول بترتيب سور القرآن وآياتها وكلماتها
مكان النزول عدد حروفها عدد كلماتها عدد آياتها ترتيب التنزيل اسم السورة ترتيب السورة
مكيّة 139 29 7 5 الفاتحة 1
مدنيّة 25613 6144 286 87 البقرة 2
مدنيّة 14605 3503 200 89 آل عمران 3
مدنيّة 15937 3712 176 92 النساء 4
مدنيّة 11892 2837 120 112 المآئدة 5
مكيّة 12418 3055 165 55 الأنعام 006
مكيّة 14071 3344 206 39 الأعراف 007
مدنيّة 5299 1243 75 88 الأنفال 008
مدنيّة 10873 2506 129 113 التوبة 009
مكيّة 7425 1841 109 51 يونس 010
مكيّة 7633 1947 123 52 هود 011
مكيّة 7125 1795 111 53 يوسف 012
مدنيّة 3450 854 43 96 الرعد 013
مدنيّة 3461 831 52 72 إبراهيم 014
مكيّة 2797 658 99 54 الحجر 015
مكيّة 7642 1845 128 70 النحل 016
مكيّة 6480 1559 111 50 الإسراء 017
مكيّة 6425 1583 110 69 الكهف 018
مكيّة 3835 972 98 44 مريم 019
مكيّة 5288 1354 135 45 طـه 020
مكيّة 4925 1174 112 73 الأنبياء 021
مكيّة 5196 1279 78 103 الحج 022
مكيّة 4354 1051 118 74 المؤمنون 023
مدنيّة 5596 1317 64 102 النور 024
مكيّة 3786 896 77 42 الفرقان 025
مكيّة 5517 1322 227 47 الشعراء 026
مكيّة 4679 1165 93 48 النمل 027
مكيّة 5791 1441 88 49 القصص 028
مكيّة 4200 982 69 85 العنكبوت 029
مكيّة 3388 818 60 84 الروم 030
مكيّة 2121 550 34 57 لقمان 031
مكيّة 1523 374 30 75 السجدة 032
مدنيّة 5618 1303 73 90 الأحزاب 033
مكيّة 3510 884 54 58 سبأ 034
مكيّة 3159 780 45 43 فاطر 035
مكيّة 2988 733 83 41 يس 036
مكيّة 3790 865 182 56 الصافات 037
مكيّة 2991 735 88 38 ص 038
مكيّة 4741 1177 75 59 الزمر 039
مكيّة 4984 1228 85 60 غافر 040
مكيّة 3282 796 54 61 فصلت 041
مكيّة 3431 860 53 62 الشورى 042
مكيّة 3508 837 89 63 الزخرف 043
مكيّة 1439 346 59 64 الدخان 044
مكيّة 2014 488 37 65 الجاثية 045
مكيّة 2602 646 35 66 الأحقاف 046
مدنيّة 2360 542 38 95 محمد 047
مدنيّة 2456 560 29 111 الفتح 048
مدنيّة 1493 353 18 106 الحجرات 049
مكيّة 1473 373 45 34 ق 050
مكيّة 1510 360 60 67 الذاريات 051
مكيّة 1293 312 49 76 الطور 052
مكيّة 1405 359 62 23 النجم 053
مكيّة 1438 342 55 37 القمر 054
مدنيّة 1585 352 78 97 الرحمن 055
مكيّة 1692 379 96 46 الواقعة 056
مدنيّة 2475 575 29 94 الحديد 057
مدنيّة 1991 475 22 105 المجادلة 058
مدنيّة 1913 447 24 101 الحشر 059
مدنيّة 1519 352 13 91 الممتحنة 060
مدنيّة 936 226 14 109 الصف 061
مدنيّة 749 177 11 110 الجمعة 062
مدنيّة 780 180 11 104 المنافقون 063
مدنيّة 1066 242 18 108 التغابن 064
مدنيّة 1170 279 12 99 الطلاق 065
مدنيّة 1067 254 12 107 التحريم 066
مكيّة 1316 337 30 77 الملك 067
مكيّة 1258 301 52 2 القلم 068
مكيّة 1107 261 52 78 الحاقة 069
مكيّة 947 217 44 79 المعارج 070
مكيّة 947 227 28 71 نوح 071
مكيّة 1089 286 28 40 الجن 072
مكيّة 840 200 20 3 المزمل 073
مكيّة 1015 256 56 4 المدثر 074
مكيّة 664 164 40 31 القيامة 075
مدنيّة 1065 243 31 98 الإنسان 076
مكيّة 815 181 50 33 المرسلات 077
مكيّة 766 174 40 80 النبأ 078
مكيّة 762 179 46 81 النازعات 079
مكيّة 538 133 42 24 عبس 080
مكيّة 425 104 29 7 التكوير 081
مكيّة 326 81 19 82 الإنفطار 082
مكيّة 740 169 36 86 المطففين 083
مكيّة 436 108 25 83 الإنشقاق 084
مكيّة 459 109 22 27 البرج 085
مكيّة 249 61 17 36 الطارق 086
مكيّة 293 72 19 8 الأعلى 087
مكيّة 378 92 26 68 الغاشية 088
مكيّة 573 139 30 10 الفجر 089
مكيّة 335 82 20 35 البلد 090
مكيّة 249 54 15 26 الشمس 091
مكيّة 312 71 21 9 الليل 092
مكيّة 164 40 11 11 الضحى 093
مكيّة 102 27 8 12 الشرح 094
مكيّة 156 34 8 28 التين 095
مكيّة 281 72 19 1 العلق 096
مكيّة 112 30 5 25 القدر 097
مدنّية 394 94 8 100 البيِّنة 098
مدنيّة 156 36 8 93 الزلزلة 099
مكيّة 164 40 11 14 العاديات 100
مكيّة 158 36 11 30 القارعة 101
مكيّة 122 28 8 16 التكاثر 102
مكيّة 70 14 3 13 العصر 103
مكيّة 133 33 9 32 الهمزة 104
مكيّة 96 23 5 19 الفيل 105
مكيّة 73 17 4 29 قريش 106
مكيّة 112 25 7 17 الماعون 107
مكيّة 42 10 3 15 الكوثر 108
مكيّة 95 27 6 18 الكافرون 109
مكيّة 79 19 3 114 النصر 110
مكيّة 81 29 5 6 المسد 111
مكيّة 47 15 4 22 الإخلاص 112
مكيّة 71 23 5 20 الفلق 113
مكيّة 80 20 6 21 الناس 114
322604 77845 6236 6555 6555
جدول عدد مرات ورود كل حرف في القرآن الكريم
خ ح ج ث ت ب أ
2497 4140 3317 1414 10519 11491 52655
ق ف غ ع ظ ط ض
7034 8747 1221 9405 853 1273 1686
ص ش س ز ر ذ د
2074 2124 6010 1599 12403 4932 5991
ي و هـ ن م ل ك
25746 25676 17195 27268 26735 38102 10497
كتاب الشهادات
الشهادات جمع شهادة ، وتفيد الرؤية والحضور كما في قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) إذ يتضمن معنى رؤية الهلال وأن من رأى هلال شهر رمضان فليبدأ صوم الشهر من اليوم التالي , لإرادة معنى الحضور أي الذي يكون حاضراً ومقيماً في شهر رمضان فليصمه ، ومن معاني الحضور قوله تعالى [وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ] ( ).
ويأتي بمعنى الحلف كما يقال : شهد بكذا أي حلف , وبخصوص الملاعنة بين الزوجين عند طرو دعوى الزوج برؤية الفاحشة .
وقال تعالى [وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ] ( ).
وفي لسان العرب : الشهادة خبر قاطع تقول : شهد الرجل على كذا وربما قالوا شهْد الرجل بسكون الهاء ، فالشهادة : الإخبار بما شاهده ، فالشاهد : العالم الذي يبين ما يعلمه .
والمشاهدة : المعاينة , وشهده شهوداً أي حضره فهو شاهد ، وقوم شهداء أي حضور , فالشهادة اسم من المشاهدة ، ويقال شهدت على الشيء إطلعت عليه , وترد الشهادة بمعنى القتل في سبيل الله .
وعرّفت الشهادة بتعريفات شتى , وتدل في الجملة على إخبار الشاهد عما علمه وشاهده .
وعرف الشافعية الشهادة بتعريفات منها : إخبار بحق للغير على الغير بلفظ أشد .
وعرفها الحنفية : بأنها إخبار صدق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء ، ولو بلا دعوى .
والإشهاد هو طلب الشهود لتحمل الشهادة وهو شرط في وقوع الطلاق .
والشهادة على قسمين :
الأول : معاينة الفعل كالقتل والزنا .
الثاني : السماع كما في العقود والإيقاعات , والإقرار .
وبين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي للشهادة عموم وخصوص مطلق فالشرعي أخص من جهات :
الأولى : تكون الشهادة عند الحاكم .
الثانية : تقييد الشهادة بالعدل والثقة يخرج الفاسق مع أنه قد يكون شاهداً وحاضراً الفعل أو سامعاً للقول ، لأن حصول العلم لا يحجبه عدم العدالة . ولابد من إستدامة شرط العدالة حتى تتصل بأوان أداء الشهادة .
الثالثة : الشهادة في الشرع بينة ، وإن لم تقترن بالحلف واليمين .
الرابعة : الشهادة عن دراية وتثبيت وعلم وليس عن ظن أو تخمين .
وهناك باب إسمه الشهادة على الشهادة ، كما لو قال : إني أشهد بأن زيداً شهد على طلاق فلان لزوجته فلانة ، ويشترط في هذه الشهادة شاهدان عن كل شاهد بخلاف الوكالة .
والشهادة في القضاء من معاني علم الله عز وجل عندما إحتج به الله تعالى على الملائكة عن إحتجاجهم على جعل الإنسان خليفة في الأرض ففي الشهادة تحفظ الحقوق وتصان النفوس .
وتحرم الشهادة بغير حق ، وشهادة الزور التي هي الكبائر ، وسميت اليمين الكاذبة بالغموس لأنها تغمس صاحبها في النار .
واليمين على أقسام :
الأول : اليمين المؤكدة لأمر ماض أو في المستقبل .
الثاني : اليمين اللغوي التي لا يراد منها الوجود الواقعي لموضوعها .
الثالث : اليمين الكاذب على أمر قد مضى .
وتتعلق اليمين الغموس بالقسم الثالث .
عن الباقر عليه السلام قال : في كتاب علي عليه السلام ثلاث خصال لا يموت صاحبهن
أبدا حتى يرى وبالهن : البغي وقطيعة الرحم واليمين الكاذبة يبارز الله بها وإن أعجل
الطاعة ثوابا لصلة الرحم ، وإن القوم ليكونون فجارا فيتواصلون فتنمى أموالهم ويبرون
فتزداد أعمارهم ، وإن اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع ( )من أهلها ويثقلان الرحم ، وإن تثقل الرحم انقطاع النسل ( ).
وقد بينّا في علم الأصول حجية خبر الواحد إن كان ثقة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] ( ) .
والفاسق هو الخارج عن طاعة الله ، وبين الفسق والكفر عموم وخصوص مطلق فكل كافر هو فاسق وليس العكس ، وذات النسبة بين الظالم والفاسق ، فالظالم أعم ، وتسمى الفأرة الفويسقة لخبثها ،وقيل لخروجها من بيتها مرة بعد أخرى .
والتبين : طلب البيان والتحقق , والنسبة بين التثبت والتبين عموم وخصوص مطلق , فالتبين أعم والتثبت أدق وأوثق , فأراد الله عز وجل التخفيف ومنع الحرج بإرادة التبين .
ونزلت الآية أعلاه في الوليد بن عقبة عندما بعثه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني المصطلق بخصوص الصدقات وقبضها منهم ، وكان بينه وبينهم أحنة فلما سمعوا برسول من عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إستقبلوه ولكنه حسب أنهم قاتلوه فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنهم أرتدوا ومنعوا الزكاة , فهّم النبي بقتالهم فنزلت الآية .
ولابد في القضاء من البينة لفك المنازعات وفصل الخصومات وإنتزاع الحق وزجر الظالم ، وتثبيت الأنساب والملكية والحقوق لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنما أفضي بينكم بالبينات والأيمان .
وعن أبي الإمام الصادق عليه السلام أنه سئل :أتجوز شهادة النساء في الحود ، فقال : في القتل وحده ، إن علياً عليه السلام كان يقول : لا يبطل دم أمرئ مسلم .
وظاهر الحديث ان شهادة المرأة في القتل عند تعذر شهادة الرجال العدول ، كما لو لم يكن في موقع الجناية رجال .
صفات الشاهد
يشترط في الشهادة خصال :
الأول : البلوغ : فلا تصح شهادة الصبي إلا إذا بلغ سن التكليف , فبالبلوغ يعي الإنسان ما يقول ، ويتقيد معه المسلم بآداب وسنن التقوى وهناك قولان آخران :
أولاً : تقبل شهادة الصبي مطلقاً أي في كل شيء إذا بلغ عمره عشر سنوات ، ونعت هذا القول بأنه متروك .
ثانياً : تقبل شهادة الصبيان في الجراح كقطع بعض الأعضاء وإتلاف الحواس أو حصول الجرح والخدش .
فان قلت كيف تولى يحيى النبي الحكم وهو صبي لقوله تعالى [وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا] ( ) والحكم أعلى مرتبة من الشهادة .
والجواب أنها معجزة حسية له بين الناس , وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية أعلاه قال:أعطي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين)( ).
(وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم والخرائطي وابن عساكر ، عن معمر بن راشد في قوله : { وآتيناه الحكم صبياً } قال : بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب ، قال : ما للعب خلقت . فهو قوله : { وآتيناه الحكم صبياً })( ) .
وموضوع الآية أعم , والمراد من الحكم الفصل وحلّ المنازعات ، وبيان الحلال والحرام، ولكن قول يحيى للصبيان مصداق من الحكم والتمييز ومعاني الحكمة التي خصه الله بها .
والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي السالم من المعارضة.
الثاني : العقل : فلابد من إتصاف الشاهد بالعقل ، وعدم إصابته بمس من الجنون ، وعليه الكتاب والسنة والإجماع فان قلت أين الدليل من الكتاب على موضوعية العقل في الشهادة .
الجواب آيات عديدة منها قوله تعالى [وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ] ( ) فالعدل رشحة من العقل وهو طريق مبارك لحفظ النظام , ولفظ [منكم] فكما تطلبون الشهادة للفصل والحكم بالحق , فكذا الشاهد الذي يكون منكم ومنه قيد الرضا والقبول للشاهد ، في قوله تعالى [فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ]( ).
والعقل شرط التكليف وأصل تتقوم به صحة العبادة , ومن فقد عقله لا يتوجه له خطاب التكليف والشهادة نوع تحمل وتكليف عرضي في باب المعاملات والأحكام ، وقد تتعلق بالدماء والفروج ، وقد ورد ذم الذين لا ينتفعون من نعمة العقل وتسخيرها للعبادة والتمييز بين النافع والضار في الدنيا والآخرة .
والعقل من الشواهد على بلوغ الإنسان مرتبة سامية بين الخلائق ، وهو من أسرار نفخ الله في آدم من روحه ، قال تعالى [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) وهو الأصل الذي تتقوم به خلافة الإنسان في الأرض ، لذا حرّم الله عز وجل أسباب إزالة العقل كالخمر والإنقطاع إلى اللهو .
والعقل طريق لفهم الأحكام الشرعية وليس حاكماً عليها ولو شهد يخلط بين الصدق والكذب ، وشهد شاهد مجهول الحال ولكن لا يعلم كذبه ، وتعارضت الشهادتان ، فلا يؤخذ بشهادة الأول لإحتمال أنه كاذب .
وهناك مسائل :
الأولى : تقبل شهادة المجنون أدواراً أي في بعض الأوقات في حال إفاقته ، ولكن بعد تيقن الحاكم من إستحضاره الوقائع وحضور ذهنه .
الثانية : الذي يعرض له السهو والنسيان في الغالب , والخرف والذي يسمى في هذا الزمان الزهايمر ، فيسمع القاضي شهادته ولكن بعد إستظهار قوله والتثبت منه ، والتفصيل بين النقل بالأصل أو بالمعنى والمفهوم فقد يكون نقل معنى اللفظ مغايرا ًلأصله ودلالته .
الثالثة : البله والسفيه الذي لا يلتفت إلى الأمور ، ومن الأولى الإعراض عن شهادته .فلابد من الإستظهار والتثبت منه بخصوص الأمر الجلي .
الثالث : الإيمان ، فلا تقبل شهادة غير المؤمن ، قال تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ) والإسلام زاجر عن الكذب والزور .
الثالث : العدالة : وبه جاء القرآن بخصوص الطلاق والوصية مما يدل على التعدد , وإرادة عموم الشهادة , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ] ( ).
وقد نزلت هذه الآية في سورة المائدة , وهي آخر سور القرآن نزولاً لبيان إنتفاء النسخ في المقام ، وتتضمن الآية شروط الشهادة وهي :
الأول : إبتداء الآية بنداء الإيمان ، وفيه دعوة للمسلمين للتعاون والتآزر في الشهادة .
الثاني : تقييد الشهادة بالإيمان بدليل قوله تعالى [منكم ].
الثالث : التعدد في الشهادة ، وعدم حصرها بواحد ، وكذا في شهادة الطلاق في قوله تعالى [فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ] ( ).
الرابع : تلاوة الآيات والسور في صلاة الصبح والمغرب والعشاء جهراً حرب على النفاق والكفر , وزجر للمنافقين , ودعوة لهم للإنابة وجعل ما يضمرون في الباطن مثل الذي يظهرون من الإيمان ، ليكون المسلم والمسلمة أثناء الصلاة دعاةً وجنوداً للهدى والتقوى، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الخامس : دلالة القراءة الجهرية على طاعة المسلمين لله عز وجل والرسول وهو باب لنزول رحمة الله عليهم في أمور معايشهم ودنياهم وآخرتهم , لذا قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
السادس : القراءة الجهرية سبب للحرص على صحة القراءة وضبط الحركات ومناسبة لتصحيح القراءة والعناية بقواعد التلاوة، وكم من قارئ يتلو القرآن جهراً فيتبين لحنه , وتتم هدايته إلى الصواب .
(وأخذ الحجاج أعرابيا سرق ، فأمر بضربه ، فلما قرعه السوط قال : يا رب شكرا حتى ضرب سبعمائة سوط ، فلقيه أشعب فقال له : تدري لم ضربك الحجاج سبعمائة سوط ؟ قال : لا ، قال : لكثرة شكرك ، فإن الله يقول : { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ }( ) ، قال الأعرابي: وهذا في القرآن ؟ قال : نعم ، فقال : يا رب لا شكرا فلا تزدن ، أسأت في شكري فاعف عنى ، باعد ثواب الشاكرين منى .
وسمع أعرابي إماما يقرأ : { وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا َ }( ) قرأها بفتح التاء ، فقال : ولا إن آمنوا أيضا – يقصد أن اللواط محرم – فقيل له : إنه يلحن وليس هكذا يُقرأ ؟ فقال : أخروه قبحه الله لا تجعلوه إماما ؛ فإنه يحل ما حرم الله) ( ).
السابع : من الإعجاز في أوقات الصلاة أنها وفق آيات النظام الكوني الثابتة مع السعة والمندوحة في أدائها ، ولا تمر دقيقة على الأرض على مدار اليوم إلا وهناك موضع منها تحل فيه الصلاة اليومية وفي أول وقتها .
ردود كريمة على بعض الأجزاء الأخيرة من هذا السِفر المبارك
1- خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز/ ملك المملكة العربية السعودية “حفظه الله”
2- صاحب السمو الملكي أمير منطقة الرياض.
3- صاحب السمو رئيس وزراء دولة الكويت.
4- الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي.
5- سمو الدكتور وزير خارجية مملكة البحرين.
6- الأمانة العامة لمنظمة التعاون الإسلامي.
7- سماحة الإمام شيخ الأزهر.
8- سماحة العلامة الشيخ أ.د مفتي جمهورية مصر العربية.
9- سماحة العلامة المفتي العام لسلطنة عمان.
10- الأمين العام لإتحاد المؤرخين العرب.
11- سعادة أ.د. مدير جامعة الملك فيصل.
12- سعادة أ.د. مدير جامعة كردفان/ الجمهورية السودانية.
13- سعادة أ.د. رئيس جامعة جدارا/ الأردن.
14- سعادة أ.د. مدير جامعة الأمير عبد القادر/ الجمهورية الجزائرية.
15- سعادة أ.د. رئيس جامعة القادسية/ جمهورية العراق.
فضيلة الشيخ/ صالح الطائي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:ــ
تلقينا خطابكم رقم 224 وتأريخ 4/5/1430هــ .. ومشفوعه نسخة من كتابكم (معالم الإيمان في تفسير القرآن) الجزء(67).
نشكركم على هذا الإهداء متمنين لكم دوام التوفيق.. ولكم تحياتنا. ،،،
فضيلة الشيخ/ صالح الطائي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته… وبعد ،
تلقينا خطابكم رقم 1452/15 وتاريخ2/9/2015م ومشفوعه نسخة من كتابكم بعنوان “معالم الإيمان في تفسير القرآن” الجزء الثاني والعشرون بعد المائة بين شطر من الآية (153) بشطر من الآية (151) من سورة آل عمران.
نشكركم على هذا الإهداء متمنيناً لكم دوام التوفيق. ولكم تحياتنا.,,,
سماحة الأخ الكريم الشيخ/ صالح الطائي المحترم
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
تحية طيبة وبعد…
تلقينا مع الشكر تهنئتكم الكريمة بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك، مع إهدائكم الطيب من الجزء الحادي والخمسين من تفسير “معالم الإيمان” والذي تناولتم فيه تفسير قوله تعالى [كنتم خير أمة أخرجت للناس] الآية 110 من سورة آل عمران.
ويسرنا ان نعرب لكم عن خالص تقديرنا لمبادرتكم الكريمة، مشيدين بجهودكم الطيبة التي تبذلونها لخدمة الإسلام، وإيضاح معاني الكتاب الشريف، آملين ان تسهموا بهذا العمل الصادق في تقريب المقاصد الربانية للآيات بما يعود بالخير على أمتنا الإسلامية.
نكرر الشكر، آملين لكم دوام التوفيق والسداد في خدمة كتاب الله، وان يحفظ أمتنا العربية والإسلامية، ويجمع كلمة المسلمين ويوحدهم لما فيه خيرهم.
مع أطيب التمنيات.
فضيلة الشيخ الجليل/صالح الطائي المحترم
المرجع الديني_أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق.
المنامة- مملكة البحرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بوافر التقدير، تلقينا إهداؤكم الكريم نسخة من الجزء السابع والأربعين من تفسير “معالم الإيمان في تفسير القرآن”.
يطيب لي، بهذه المناسبة، أن أعرب لفضيلتكم عن التقدير والثناء على جهودكم العلمية الحثيثة، وإسهاماتكم الموفقة من خلال تعاهدكم كتاب الله العزيز، وحبله المتين، الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم.
شاكراً تفضلكم بالإهداء القيم، ومشهداً، على نحو خاص، بما تشتمل عليه إصدارات أجزاء التفسير من البحث العميق والاستقراء الشامل والاستنباط الدقيق الذي يجسد حقيقة الإعجاز الذي تناولتموه فضيلتكم بعمق وشمولية، ويسند ذلك ما توافر لكم من العلم الغزير والفقه المتمكن والمرجعية العريقة.
بارك الله جهودكم، وأمدكم بعونه وتوفيقه، وكتب لكم المثوبة والأجر، وجزاكم خير الجزاء عن الإسلام والمسلمين.
وتفضلوا فضيلتكم بقبول وافر التقدير والاحترام.
فضيلة الشيخ صالح الطائي حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
بيد الشكر والتقدير تلقيت نسخة من كتابكم المعنون”معالم الإيمان في تفسير القرآن” وذلك بعد أن منّ الله عليكم من فضله للإنتهاء من الجزء الخامس والتسعون منه، سائلاً المولى عز وجل ان يجعل جهدكم خالصاُ لوجهه الكريم وان يكتبه في موازين أعمالكم أنه سميع مجيب الدعاء.
أكرر لكم شكري وامتناني على هذا العمل الجليل، متمنياً لكم دوام التوفيق والنجاح.
وتفضلوا بقبول فائق مودتي وتقديري.
سماحة المرجع الديني الشيخ صالح الطائي حفظه الله ورعاه
صاحب أحسن تفسير للقرآن الكريم
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…وبعد,
فقد تسلمنا بيد الشكر والتقدير نسخة من كتاب”معالم الإيمان في تفسير القرآن” الجزء التسعون-الآية 134 من سورة آل عمران، والذي تفضلتم بإهدائه إلى معالي البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلي، الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، ويشرفنا أن نتقدم إليكم بجزيل شكرنا على جهودكم المتواصلة لتفسير أي الذكر الحكيم، فجزاكم الله عنا خير الجزاء وبارك فيكم وفيما تقومون به من جهد مبارك خدمة للإسلام والمسلمين.
وتفضلوا بقبول وافر الشكر والتقدير.
السيد صاحب الفضيلة المرجع الديني الشيخ/صالح الطائي
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد،…..
فلقد تلقيت بحمد الله رسالتكم الرقيقة وبها الجزء الحادي والخمسون في تفسير آية واحدة من سورة آل عمران من القرآن الكريم.
نتضرع إلى الله العلي القدير أن يلهمكم العلم النافع وان يجعله في ميزان حسناتكم.
وشكر الله لكم حسن عملكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المرجع الديني الشيخ/صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن وأستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…وبعد،
فإنه ليسعدني أن أتقدم لسيادتكم بخالص الشكر والتقدير والإحترام على تفضلكم بإهدائنا نسخة من من الجزء الثاني والثمانين.
وأتمنى من الله أن يديم عليكم نعمة الصحة والعافية وأن يسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنه وان يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
شاكرين لكم، ولكم تحياتي
الشيخ الدكتور / محمد الشيخ صالح الطائي المحترم
مدير مكتب المرجع الديني الشيخ صالح الطائي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،، وبعد:
فقد وصلتني رسائلكم الكريمة المرفقة بجزأين من “معالم الإيمان في تفسير القرآن” العشرون بعد المائة والثاني والعشرون بعد المائة.
وإنني أشكركم على هديتكم وما تضمنته من كنوز قيمة لذكر الله الحكيم… والله الموفق لما فيه الخير.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،
إلى/ سماحة المرجع الديني للمسلمين الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
م/شكر وتقدير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
وأسال الله تعالى ان يوفقكم ويحفظكم ويرعاكم انه سميعّ مجيب الدعاء.
تسلمنا مع بالغ الشكر والتقدير الجزء الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر بعد المائة من كتابكم الموسوم(معالم الإيمان في تفسير القرآن) وأقول في هذا الكتاب بانه يعبر عن جهد كبير مبذول في اناء الليل واطراف النهار، ويعبر عن تعب كبير، لا يمكن أن يوصف بعبارة أو جملة معينة، فهو جهد العلماء المخلصين الصابرين الصادقين مع الله تعالى ومع النفس، ويعبر عن مجرى من التدفق العلمي الموثوق والمأمون والخالد، الذي يعود بنا الى ذكريات الماضي الخالد لعلماء الأمة في تأريخها المجيد، فقد عبرتم فيه اصدق تعبير عن سيرة العلماء المسلمين الذين يتميزون بالأمانة والثقة والثبات في علمهم ومسيرتهم الخالدة، وانني إذ أوكد اعجابي الكبير في هذه الأجزاء، وإنني ادعو الله تعالى ان ينعم عليكم بالعافية والصحة التامة، من أجل ان يستمر هذا التدفق العلمي الكبير في هذا الزمان الذي شح فيه نتاج العلماء والمجتهدين لخدمة تراث وتأريخ امتنا، وخدمة ديننا الحنيف ان الله تعالى سميعّ مجيب الدعاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فضيلة الشيخ/ صالح الطائي الموقر
مكتب المرجع الديني وصاحب أحسن تفسير للقرآن
وأستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
ص.ب -21168 مملكة البحرين
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد
تلقيت بكل الثناء والتقدير خطاب فضيلتكم رقم 1107/15 وتأريخ 20/7/2015م المرفق طيه نسخة من كتاب بعنوان “معالم الإيمان في تفسير القرآن ” الجزء العشرين بعد المائة.
أشكر فضيلتكم جزيل الشكر على إهتمامكم الدائم بتزويد إدارة الجامعة بهذه النسخة القيمة، وستحال بإذن الله تعالى إلى مكتبة الجامعة ضمن ما فيها من كتب ومراجع ونشرات للإطلاع عليها، سائلاً المولى عز وجل للجميع التوفيق والسداد.
وتقبلوا خالص تحياتي وتقديري،،،
السادة/ مكتب المرجع الديني
الشيخ صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تهديكم جامعة كردفان أطيب التحايا، ويسعدني ونحن نتعرض لنفحات شهر رمضان الفضيل أن نتوجه بالدعاء إلى المولى عز وجل بأن يتقبل منكم ومنا الصيام والقيام وصالح العمل، وأن يكلل مسعاكم النبيل بالنجاح وأن يبارك في جهدكم المبارك لما يقوم به مكتب المرجع الديني من التفسير لآيات كتاب القرآن الكريم من خلال إصدارات (معالم الإيمان في تفسير القرآن)، التي ظلت تصلنا منكم تباعاً، وآخرها التي وصلتنا بموجب خطابكم الصادر بتأريخ 18/5/2015م، وهو خاص بالجزء السابع عشر بعد المائة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) لتفسير الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين).
ولا يسعني إلا أن نجدد الشكر الجزيل والثناء العطر لكم على إهتمامكم المعهود بإهداء جامعة كردفان في شخصي بهذه الإصدارات القيمة، مقروناً بالدعاء لكم بالتوفيق والسداد لخدمة الدين وأن يجعل هذا العمل الصالح في ميزان حسناتكم مع خالص التمنيات بدوام الصحة والعافية.
وتفضلوا بقبول فائق عبارات التقدير والإحترام
سيادة الأخ الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن الكريم
وأستاذ الفقه والأصول والأخلاق
بكل فخر وإعتزاز تلقيت رسالتكم الموقرة التي تحمل العدد (532) تأريخ 26/5/2012م، ومرفقها الجزء التسعون من التفسير في الآية(133) من سورة آل عمران.
وانني إذ أشكركم جزيل الشكر وعظيم الإمتنان على اهدائكم هذا، سائلاً المولى عز وجل أن يديم عليكم نعمة الصحة والعافية، وأن يجعلكم سنداً وذخراً للأمة الأسلامية متمنياً لكم كل التقدم والإزدهار.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إلى السيد المحترم/الشيخ صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن
مكتب المرجع الديني
شكر وتقدير
تحية طيبة وبعد :
تلقينا نحن أ.د/ عبدالله بو خلخال مدير جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية قسنطينة، هديتكم القيمة المتمثلة في كتاب(معالم الإيمان في تفسير القرآن) الجزء الثالث عشر بعد المائة.
وإذ نعبر لكم عن شكرنا على هذه الإلتفاتة الكريمة، نهديكم نحن بدورنا نسخة من مجلة الجامعة العدد 33 ونسخة من نشرية أخبار الجامعة.
تقبلوا فائق الإحترام والتقدير.