سورة البقرة الآيات (10-20)
المقدمة
الحمد لله الذي أنار للناس دروب الهداية بالقرآن، ويسر سبل تعلمه ومعرفة أحكامه والسعي في أبواب تفسير آياته، وحبب الى القلوب إستظهار جواهره وجعل النفوس تميل الى تفسيره وتأويله، انه العلم الذي يعجز البشر عن الاحاطة بمسائله وفروعه ، لاسيما وان القرآن لا تنتهي غرائبه ، ولا تسبر أغواره ، ولا تنكشف أسراره.
وفي كل آية منه خزائن من العلوم، وأبواب من المعرفة يجتهد المسلمون بشوق للنهل من ينابيع موردها العذب المبارك ، ولكننا نعترف ببقائنا، منفردين ومجتمعين، قاصرين ومقصرين وعلى حال العطش والظمأ، من غير ان نفقد الشوق والعزم والإقرار بالحاجة لإظهار علوم القرآن وتلك آية أخرى، الأمر الذي يعتبر إعجازاً خالداً ونبراساً ودرساً في الحكمة وحثاً للأمم ورواد العلم في التوجه الى رحاب كنوز القرآن قال تعالى[وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً]( )، وليجد فيه المؤمنون بغيتهم وحاجاتهم المستديمة والمستحدثة، فهو الآية العقلية الذي لا تنقطع تحدياته ولا تبلى حججه بل تراها وغيرُك ترتدي رداء الظفر والرفعة في كل زمان ومكان، يلوذ بها المؤمن ويلجأ اليها المتحير ويطمئن إليها الناس على إختلاف مشاربهم ومنازلهم.
إنه إعجاز سماوي مبارك بين أهل الأرض ، ووديعة ملكوتية في أيديهم أراد الله تفضلاً منه ان يلامس كلامه قلوبهم وتشع أنوار معانيه وضياء معارفه على نفوسهم ليبقى التوحيد ملازماً للوجود الإنساني في الأرض رحمة من الله تعالى.
وهذا هو الجزء الثالث من التفسير، ويتضمن تفسيراً لآيات معدودات من سورة البقرة ، وفيه والأجزاء الأخرى مدارس ونظريات وقواعد وجوه ومسائل لمعل يعهدها علم التفسير،جاءت فضلاً من الله تعالى ، إنه نعم المولى ونعم النصير.
حرر في النجف الأشرف
25 محرم الحرام 1420
قوله تعالى[فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ] الآية 10
الإعراب واللغة
قرأ حمزة وعاصم والكسائي يَكذِبون بالتخفيف وهو المرسوم في المصاحف، والباقون بضم أوله وتشديد الذال الذي يفيد معنى التكذيب للآيات والنبوة.
وبين اللفظين عموم وخصوص مطلق، إذ أنه بالتخفيف يكون المعنى أعم، فيشمل الكذب والتبديل والتحريف وإنكار الآيات والنبوة.
في قلوبهم : جار ومجرور خبر مقدم، مرض : مبتدأ مؤخر.
فزادهم : الفاء حرف عطف، زاد : فعل ماض يتعدى الى مفعولين بينهما مغايرة، الهاء : مفعول به.
اسم الجلالة : فاعل مرفوع بالضمة، مرضاً: مفعول به ثان منصوب بالفتحة،ولهم : الواو عاطفة وإستئنافية ،لهم: جار ومجرور، في محل خبر مقدم.
عذاب : مبتدأ مؤخر، أليم : صفة لعذاب.
بما: الباء حرف جر للسببية، ما: اسم موصول في محل جر بالباء، كانوا: كان وإسمها، يكذبون : فعل مضارع وفاعل، والجملة خبر كان، وجملة كان وإسمها وخبرها لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول.
المرض : أصله السقم في البدن، فأطلق في المقام على ما في نفوس الكفار المخادعين من الشك والريبة والنفاق بنعت علة الأبدان، وبه قال ابن عباس وقتادة وأبو عبيدة( )، وقيل أن المرض الغم والإحساس بالوجع بسبب حسدهم للمسلمين، أو فتور قلوبهم عن الحق وقبوله.
الأليم: المؤلم الموجع فعيل بمعنى أفعل.
الكذب : الإخبار عن الشيء على غير ما هو به, وهو مذموم شرعاً وعقلاً .
في سياق الآيات
بعد ان بينت الآية سوء سريرة جماعة من المنافقين، وتظاهرهم بالإيمان خلافاً لما يضمرون في أنفسهم من الكفر والجحود، جاءت هذه الآية لبيان الخلل في أفعال المخادعين ، وانه راجــع للنقص في نفوسهم، فالآيات الكريمة لم تكتف بعرض سوء فعلهم بل تناولت أسبابه الذاتية الخفية .
وإذ جاءت الآية السابقة بالإخبار عن سوء فعل المنافقين والذي يتضمن لغة الذم والتوبيخ لهم، ودعوتهم للهداية والرشاد وجاءت هذه الآية لتكشف عن علة خداع المنافقين وتخلفهم عن الإيمان الصادق والإخلاص في العبادة، وهي علة ذاتية إختيارية بان ركبوا جادة العناد وأعرضوا عن الآيات.
وتبين الآية التالية الأثر المترتب على مرض القلوب بالإقامة على المعصية والإصرار على الفساد، ولم تكتفِ الآيات بصيغة الإنذار الواردة في خاتمة الآية السابقة، بل بينت هذه الآية علة المخادعة، وسبب التجرأ على الله ورسوله والمؤمنين، وبينت ان الإنسان لا يقدم على مخادعة الله تعالى والمؤمنين، ويبوء بإثمه من غير أن يشعر بأنه متخلف عن إدراك وظائفه العبادية، وممتنع عن تسخير عقله للتمييز بين ما ينفعه وما يضره، وجاءت الآية رحمة به وتذكيراً له بهذه القاعدة، ورسالة سماوية تحثه على التدارك والإنابة.
ولتدل الآية في منطوقها على ذم الكفار والمنافقين، وما يصيبهم من البلاء بسبب جحودهم وإصرارهم على الباطل، قال تعالى [وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ]( ).
وتدل الآية في مفهومها على مدح المؤمنين، وتحثهم على الثبات على الإيمان لذا ورد في مدحهم، قوله تعالى حكاية عنهم[رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا]( ).
وفي صلة هذه الآية بالآيات التالية مسائل:
الأولى : بعد أن ذكرت آية البحث إبتلاء المخادعين بمرض القلوب أخبرت الآية التالية عن قيامهم بالفساد في الأرض .
الثانية : بيان حقيقة وهي أن المخادعين لا يكتفون بالكفر والمخادعة بل يقومون بالفساد في الأرض .
الثالثة : توجه اللوم للكفار على إفسادهم في الأرض , ونشرهم لمفاهيم الضلالة وأسباب الخداع المكر , لقوله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) ( ) .
الرابعة : وجود أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ,وهم المسلمون , قال تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ) ( ) وإتجه عالم الطب في هذا الزمان إلى جعل موضوعية للنفس في أمراض البدن , وكثرت إختصاصات الأمراض النفسية , ليكون من إعجاز القرآن الكريم مجيؤه قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام بذكر موضوع الأمراض النفسية , وأثرها سلباَ على النهج الفكري وعالم الأفعال والأقوال .
ولو إطلع أطباء الأبدان في العالم في الأزمنة السابقة على مضامين آية البحث لإلتفتوا إلى لزوم تخصيص وإفراد أبواب في الطب لأمراض النفس , إقتباساَ من القرآن وهل جاء القرآن بعلاج هذه الأمراض أم إكتفى بالأشارة إليها , الجواب : هو الأول , قال تعالى (أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ( )
ولو إنحصر أذى الكفار بمرض القلوب لهان الأمر , ولكن الآية التالية أخبرت عن إصراهم على الفساد المقرون بالعناد , جاء وصفهم بأنهم (مفسدون) مطلقاَ من غير تقييد في موضوعه ومتعلقه مما يدل على سعيهم للإفساد بين المسلمين أيضاَ لتأتي الآية واقية لهم من الكفار وإفسادهم ويحتمل أثر وصف المخادعين بأنهم مفسدون في حالهم ومرض قلوبهم وجوهاَ :
الأول : إنه مصداق لقوله تعالى (فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا) ( ) .
الثاني : جاءت الآية للإخبار عن الملازمة بين مرض القلب والإفساد في الأرض , ويدل في مفهومه على تنزه المسلمين عن أمراض القلوب .
الثالث : الآية أجنبية عن مرض القلوب , لأن آية البحث أخبرت عنه بموضوعين :
الأول : وجود المرض في قلوب المخادعين بإختيارهم , وهذا الإختيار مناف لأصل خلق الإنسان على الفطرة .
الثاني : زيادة إبتلاء الكفار المخادعين بداء القلوب , وجاءت الزيادة فيه من الله عز وجل , لإدعائهم الإيمان كذباَ , ومخادعتهم المؤمنين , أما الإفساد فإنه فعل أشد أذى ويستحق عقوبة أكبر .
والصحيح هو الأول , فإن الإفساد في الأرض ونشر مفاهيم الضلالة, ومزاولة الظلم والتعدي يزيد من مرض القلوب والكدورات الظلمانية إلا أنه لا يكون برزخاَ دون التوبة , أو يكون مانعاَ على نحو السلبية الكلية من الهداية والإيمان .
فمع أن آية البحث تتضمن الذم للكافرين والمفسدين فإن هذا الذم في مفهومه دعوة للإيمان , لما فيه من البيان والتصريح بقبح الفساد وهل في الآية إنذار للكفار من قتال المسلمين لهم الجواب: نعم.
إعجاز الآية
في الآية تنزيه للإسلام وتوكيد لتكامل شريعته وصدق إختيار المسلمين ببيان علة تخلف الكفار عن دعوة التوحيد والنبوة ومحاربتهم للإسلام ، وأنها تعود إلى خلل نفسي , وغشاوة في البصر ونقص وضعف في البصيرة ووهم غالب.
والآية تأسيس للطب النفسي، وفيها ذم وعلاج للأخلاق الذميمة والعقائد الفاسدة، وتنسب الآية المخادعة إلى مرض القلب وأنها إنعكاس لسجايا قبيحة.
وجاء ذكر المرض بصيغة التنكير ، والنكرة في مقام الإثبات لا عموم لها، لذا جاء الشطر الآخر من الآية بالإخبار عن نزول البلاء بهم زيادة في المرض، وتبين الآية عظيم قدرة الله وسلطانه على القلوب وانه سبحانه قادر على إصلاح القلوب، وهداية الناس للإيمان لذا جاء فرار المسلمين الى الله تعالى في قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( )، والذي يتلونه كل يوم في الصلاة الواجبة والمستحبة ليكون شاهداً على سلامة قلوبهم من الأدران.
ومن إعجاز الآية انها تبين علة العذاب الأليم الذي ينزل بالمنافقين وأنه ليس بسبب ما في قلوبهم من مرض بل بسبب سوء فعلهم وإصرارهم على الجحود وتكذيبهم لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها من عند الله عز وجل.
ومن الإعجاز في الآية السابقة أنها لم تقل “يخدعون” بل قالت يخادعون، وهو نوع مفاعلة ولكنها سعي من طرف واحد لذا جاء الشطر التالي من الآية بالإخبار بأنهم يخدعون أنفسهم وأن الخدع يحصل واقعاً ولكن منهم وإليهم.
ويمكن تسمية الآية بآية (زادهم الله مرضاً) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
يمكن إعتبار هذه الآيات سلاحاً بيد المسلمين في كيفية مواجهة أسباب الجدال بالباطل تفرغ النفاق من عنوان التحدي بكشفه وفضحه، وتجعل أعمال المنافقين عديمة الأثر ولا تلحق الأذى بالمسلمين، فالآية واقية وإحتراز وحصن.
وقد يسأل بعض الناس لماذا يقوم المنافقون بمحاولة خداع المؤمنين، فجاءت هذه الآية بالجواب من وجوه :
الأول : توكيد قبح الخداع بالباطل.
الثاني : إن الله عز وجل هو القوي العزيز وأن الذي يحاول المخادعة معه لن يحصد إلا العذاب الأليم.
الثالث : ينصر الله عز وجل المسلمين ويمدهم بالعون ويذب عنهم، فجاءت هذه الآية لتخبر أن خداع المنافقين يرجع إلى نحورهم.
الرابع : عدم ترك مخادعة المنافقين وقبح فعلهم بدون عقاب، فجاءت الآية بالإخبار عما ينتظرهم من العذاب الأليم في الآخرة ليكون العذاب الذي يتلقونه مركباً من الخيبة في الدنيا، والعذاب في الآخرة، وهذا الإخبار واقية وحرز للمسلمين.
الآية لطف
في الآية تنزيه للمسلمين، وإخبار عن سلامة سرائرهم وخلو قلوبهم من المرض والدرن، وفيها إعانة لهم بكشف أسباب إمتناع الكفار عن الإيمان وإظهارهم الإيمان زوراً، لقد أراد الله عز وجل حصانة المسلمين من مقدمات اليأس والقنوط والشك والريب، وإجتناب الضرر والإضرار، فاذا إطمأن المسلمون الى بعض الكفار الذين يدعون الإيمان وركنوا اليهم فانهم يخذلونهم في ساعة الشدة.
وقد يقومون بخيانتهم وإعانة الأعداء عليهم، فجاءت هذه الآية للإخبار عن وجود أناس يظهرون الإيمان ويخفون الكفر، وتؤكد ان المدار على ما في القلوب، وتحذر من هؤلاء وتبين ان الله عز وجل زادهم مرضاً وأنهم أصبحوا لا نفع فيهم، وهذه الزيادة سبب ومقدمة لوقوع الخلاف والشقاق بين الكفار أنفسهم، وحصول كشف لحقيقتهم فيستطيع المسلمون بعد هذه الزيادة في مرضهم معرفتهم وتعيينهم، وأخذ الحائطة منهم، وإنذارهم وتخويفهم، قال تعالى[وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ]( ).
مفهوم الآية
الآية مدرسة في الصحة النفسية وفيها تأسيس لقواعد كلية في اصلاح النفوس، ومن مفاهيمها مدح المسلمين باعتبار ان حسن السريرة طريق للإيمان، والتخلص من الكدورات الظلمانية مقدمة لرؤية الآيات والإقرار بالنبوة لأن الإرادة تحصل للنفس بالتصور والإدراك، الأمر الذي يتعقبه التصديق في الشوق المؤكد الذي يكون مرجحاً لتصدي النفس وسعيها لأسباب الهداية والإيمان بعيداً عن الجبر، وفيها بشارة لما يلاقيه وينتظره عدوهم من العقاب بسبب المخادعة والكذب.
وفي الآية مسائل :
الأولى : ذم هؤلاء الكفار ونعتهم بالمرض في سرائرهم، ومن الآيات في هذا الزمان إيلاء عناية خاصة للطب النفسي وجعله علماً مستقلاً له أحكام طبية خاصة في باب الوقاية والعلاج، فهذه الآية أخبرت عن حصول المرض بالقلب ولا أحد يستطيع معرفة هذا المرض الى الله، فحتى الأجهزة المختبرية الحديثة ترى القلب يعمل بانتظام وليس فيه خلل، فتأتي الآية لتؤكد حقيقة مرض القلوب العقائدي الذي يعلمه الله وانه اكثر ضرراً من المرض العضوي، كما يترتب عليه من العذاب.
الثانية : تنزيه مقام الربوبية عن الظلم والإضرار بالعباد، فهؤلاء الكفار مرضى في الأصل إذ إختاروا الكفر والجحود، وإلا فان نطق اللسان بالإيمان شاهد على موضوعية الإيمان ولزوم التصديق بالنبوة وظهور الآيات.
الثالثة : الجحود والكفر سبب في زيادة مرض القلب، وهذه الزيادة وسيلة لكشف وفضح هؤلاء الكفار، وجعل الله المسلمين يحذرون منهم ولا يركنون إليهم.
الرابعة : الإخبار عما ينتظر الكفار من العذاب الأليم في الآخرة.
الخامسة : بيان علة العذاب وإستحقاقهم لدخول النار، وهو كذبهم وإظهارهم خلاف ما يخفون من الجحود الكفر.
السادسة : تدل الآية على ترتب الأثر والحساب على الإعتقاد فاذا حصل إختلاف بين القول والإعتقاد فالمدار على الإعتقاد.
السابعة : مرض القلب ليس برزخاً أو مانعاً من عذاب الكفار، لأنه دليل على الكفر والجحود.
الثامنة : لم تأتِ الآية بلغة تشديد الكاف في “يكذبون” فلم يكن المقصود انهم يكذبون بآيات التنزيل والنبوة لأنهم يظهرون تصديقهم بها، بل جاءت بالإخبار عن كذبهم وزيف إدعائهم، ليكون معناه أعم وشاملاً للتكذيب.
لقد تكرر لفظ المرض في الآية مرتين، وكلاهما عند الكفار والمنافقين الذين يحاولون مخادعة الله والذين آمنوا وليس له أصل، لأن الله عز وجل خلق الإنسان على الفطرة ليس في قلبه مرض، فالأول بإختيار وسوء صنع المنافقين، وإعراضهم عن الآيات، وأما الثاني فهو عقوبة عاجلة من عند الله عز وجل.
وإذا كان المرض الإختياري في القلوب بنص الآية الشريفة، فهل الثاني في ذات الموضع أو هو أعم، الجواب هو الثاني بأن يزداد مرض القلوب ويظهر على جوارحهم، وجاءت آيات القرآن لتبين زيادة مرض المنافقين بضعف إدراكهم، وعدم التفقه في الدين أو التدبر في المعجزات بنزول الآيات وإصرارهم على مقابلتها بالعناد والجهالة.
فعندما تنزل سورة من القرآن يزداد المؤمنون إيماناً مع الإستبشار والرضا والغبطة بنزولها كفضل ونعمة من عند الله، ومرض القلوب سبباً للمخادعة، ومقدمة لذنوب أخرى .
ويتضمن ذكر خداع المنافقين الدلالة على سوء سرائرهم وغفلتهم عن حقيقة إحاطة الله علماً بما تخفي نفوسهم، فجاءت الآية للإخبار عن مرض قلوبهم مما يدل بان الله عز وجل يعلم أحوال قلوب الناس، وانها على قسمين:
الأولى : القلوب السليمة الصحيحة وهي المملوءة بالإيمان، والخشية من الله تعالى، فمن الآيات ان الخوف والوجل من الله مصداق لسلامة وصحة القلوب وفيه البشارة بالأجر والثواب، تلك البشارة التي تترشح منها المنافع العظيمة على الروح والبدن والجوانح.
الثانية : القلوب المصابة بالمرض والداء، وهي قلوب الكفار والمنافقين التي عليها غشاوة وحجب جسمانية فيصدر عنها الفعل المخادع والأخلاق المذمومة.
إفاضات الآية
في الآية ثناء على المسلمين ومدح لهم لنقاء صدورهم وخلوها من الأمراض والكدورات، وتبين الآية حاجة الشريعة الى سلامة القلوب لما لها من الأثر في تهذيب الأفعال وتنقيح الطبائع.
وتدعو الآية الى كيفية مناسبة للتصرف مع المخادعين سواء في الإحتجاج او في الإعراض عنهم.
ونزل القرآن ولم يكن الناس يعلمون بالأمراض النفسية، لتأتي هذه الآية لتبين ان مرض القلوب أمر خاص منحصر بسوء العقيدة، فقد يكون عند الإنسان مرض نفسي ولكنه مؤمن بالله ورسوله، ويحرص على أداء وظائفه العبادية فهو ليس من الذين في قلوبهم مرض.
وقد جاء لفظ المر ض في القرآن اثنتي عشرة مرة، كلها في الكفار والمشركين، ومن الآيات ان ذكرهم في بعض الآيات جاء معطوفاً على المنافقين قال تعالى [إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ] ( )، ويدل العطف في المقام في (والذين) على إرادة الذين كفروا في هذه الآيات، وهو الذي يدل عليه نظم الآيات، اذ جاء قبل أربع آيات [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ].
إن مرض القلوب أمر عرضي جلبه الكفار لأنفسهم باختيارهم الكفر، ليظهر في سلوكهم وعلى جوارحهم بإصرارهم على الإقامة على الكفر، وهل هو سبب الكفر، الجواب لا، لان الله عزوجل خلق الإنسان على الفطرة وجعل القلوب أوعية لتلقي الآيات والإستجابة لها، ومن مصاديق مرض القلوب القسوة والغلظة والميل الى اللهو والإعراض عن البراهين.
وجاءت هذه الآية لبيان خصال الكفار بصيغة الذم والحجة لتكون واقية للمسلمين منهم، وتؤكد الحاجة البدنية والشخصية للإيمان في إصلاح القلب والبدن والأسرة والمجتمع، لأن مرض القلوب فساد يضر صاحبه ومن حوله.
الصلة بين أول وآخر الآية
بينت الآية حال الذين يسعون في خداع المسلمين من المنافقين والضّلال، فأخبرت عن إمتلاء نفوسهم بالشك والريب وهو من آثار الغشاوة التي طبع بها على قلوبهم، ومن الآيات أن الناس حينما يستمعون إلى الآية لايتبادر إلى أذهانهم إرادة المرض العضوي الذي يصيب القلب، كما هو شائع في هذا الزمان في مقابل المرض الذي يصيب الأبدان، بل تنصرف الأذهان الى الخروج عن حد الإعتدال والقصور عن رؤية الحق والآيات، والتصرف بخلاف حكم الشريعة والعقل.
ومن الإعجاز في الآية ان جاء لفظ القلوب بصيغة الجمع، ولفظ المرض بصيغة المفرد، مما يدل على رميهم بالمرض جميعاً على نحو الإستغراق.
وجاء لفظ المرض بصيغة المفرد ولغة التنكير في إشارة إلى الشك والريب الذي يملأ قلوبهم، ويجعلهم متخلفين عن الإنتفاع من الإنذارات، وجاء توالي نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة عليهم، ووسيلة ملكوتية لدخول الناس الإسلام، وتجعلهم يحرصون على أداء الفرائض والعبادات، ويقبلون على المناسك بشوق ورضا، مما يجعل الكفار أشد حنقاً، لينعكس مرض القلوب على عالم الأفعال والمعاملات والصلات فلذا جاءت الآية بالتحذير من ائتمانهم والركون إليهم.
وأختتمت ألآية بالإخبار عما ينتظر الكفار من العذاب الأليم في الآخرة، وهذا العذاب لوجوه:
الأول : إختيارهم الكفر والجحود.
الثاني : إعراضهم عن الإنذارات ولغة الوعيد التي جاء بها القرآن، وجاءت على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثالث : إصرارهم على الجحود، وعدم الإيمان.
الرابع : إدعاؤهم الإيمان زوراً وبهتاناً ورياءً، لما في قولهم هذا من البهتان ومحاولة إغواء المسلمين وإثارة أسباب الشك والريب.
الخامس : سعي الكفار والمخادعين في مخادعة الله والمسلمين.
السادس : قيامهم بالكذب والإنذار، إذ أختتمت الآية بنزول العذاب الأليم بهم، فهم يزاولون الكذب والإفتراء، ويصرون على إنكار الآيات والبراهين.
وهل مرض القلوب سبب في نزول العذاب , الجواب نعم، لأنه كيفية نفسانية إختيارية قائمة على الشك والريب، من غير ان يتعارض هذا الأمر مع الغشاوة التي طبع الله بها قلوبهم.
بالإضافة إلى أن مرض القلوب موضوع تترشح عنه أفعال تتصف بالقبح الذاتي والعرضي.
التفسيرالذاتي
لما جاءت الآية السابقة بالإخبار عن خداع المنافقين في إدعائهم الإيمان كذباً وزوراً، جاءت هذه الآية لتبين أن خداعهم هذا نتيجة لما في صدورهم من الحسد والغيض، قال تعالى [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ]( ).
من أسباب المرض الذي أبتلي به الكفار ما على قلوبهم وإسماعهم وأبصارهم من الغشاوة التي تمنعهم من رؤية الآيات والتدبر في دلالاتها، والنسبة بين مرض القلب والبدن على وجوه:
الأول : يسبب السقم في البدن المرض في القلب.
الثاني : المرض في القلب سبب لسقم البدن.
الثالث : الملازمة بين الحالتين فكل من القلب والبدن يؤثر بصاحبه في حال المرض والسقم.
والصحيح هو الثاني، فتنعكس آثار وأضرار مرض القلب على البدن، وقد يكون مرض البدن سبباً لبقاء القلب وقوة الإيمان، والإلتجاء إلى الله عز وجل، ولكن مرض القلب يبعث الداء في البدن، ويجعل الإنسان في حالة تيه وإرباك.
وتتضمن الآية في مفهومها الثناء على المسلمين والإشارة إلى سلامة قلوبهم، وطهارتها من مفاهيم الشك بحسن إختيارهم الإسلام، وقيامهم بالمواظبة على العبادات، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
ومن إعجاز ألفاظ القرآن مجئ لفظ (مرض) ثلاث عشرة مرة، كلها في مرض القلوب، وليس فيها واحد يتعلق بأمراض الأبدان، وهي مدرسة في بيان حال المنافقين وأذاهم، وإضرارهم بأنفسهم والناس جميعاً، ويبين قوله تعالى [إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ]( )، كيف أنهم إستخفوا بالمؤمنين الذين خرجوا للقتال يوم بدر وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ليواجهوا زهاء ألف من المشركين منعت الغشاوة التي على قلوبهم من رؤية موضوعية وأثر الإيمان والتوكل على الله عز وجل، وحب المؤمنين للشهادة والقتل في سبيل الله عز وجل.
وقد أخبرت الآية عن أن الله عز وجل يزيد مرض المنافقين والكفار وهذه الزيادة من وجوه :
الأول : توالي نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إنتصار جيش المسلمين على الكفار.
الثالث : رجوع المسلمين سالمين إلى المدينة ومعهم الغنائم والأسرى من المشركين، فحينما إنخزل المنافقون في الطريق إلى أحد، قال عبد الله ابن أبي (ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب)( )، ولكن المؤمنين ما لبثوا أن رجعوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وبعدها وفي يوم الجمعة أراد رأس النفاق عبدالله بن أبي بن سلول أراد أن يقوم كعادته يثنى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدعو الناس لنصرته، وكان إختير رئيساً فمنعه المسلمون، ثم طلبوا منه أن يسأل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يستغفر له فأبى.
وأخبرت الآية عما ينتظر المنافقين والكفار من العذاب، لوجوه:
الأول : لأن في قلوبهم مرض.
الثاني : زيادة الله عز وجل مرض قلوبهم نوعاً وكماً وكيفاً.
الثالث : يأتي العذاب عقوبة لكفرهم، وفيه آيات كثيرة من القرآن.
الرابع : ما يقومون به من مخادعة الله والمؤمنين والمكر ونشر الفساد.
والصحيح هو الثالث، فان العقوبة الأخروية تأتي على الكفر والجحود وما ذكرته خاتمة هذه الآية بيان لسبب ونتيجة الكفر، بقوله تعالى [بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ] إذ أن مرض القلوب حالة نفسانية تؤدي إلى العناد والجحود، وهي أيضاً نتيجة للجحود.
وما على القلوب والأبصار من غشاوة يمنع من التدبر بالآيات، ولم ترد زيادة مرض القلوب إلا في هذه الآية الكريمة، نعم ورد قوله تعالى في أثر نزول السورة من القرآن [وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين ان الكفار يزدادون عناداً وإثماً كلما نزلت سورة من القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإستحقوا العذاب، لأن كل سورة تنزل من عند الله هي حجة وبرهان على لزوم التصديق به , ويأتي العقاب أيضاً بسبب ما يترشح من مرض قلوب الكفار، من الإستهزاء بالمسلمين، وإنكار ضروريات الدين.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (يكذّبون) بالتشديد، لإرادة أن الكفار يكذبون بالتنزيل والآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا التكذيب هوالسبب في لبثهم الدائم في العذاب يوم القيامة أما القراءة المرسومة في المصاحف[يَكْذِبُونَ] وهي قراءة أهل الكوفة.
وهل مجئ الآية التالية بالإخبار عن كذب الكفار بإدعائهم الإصلاح مع تلبسهم بالفساد، [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( )، شاهد قرآني على صحة القراءة بفتح الياء والتخفيف، الجواب لا، خصوصاً وأن الآية التالية إبتدأت بحرف العطف (الواو).
وبين الكذب والتكذيب في المقام عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هي الأخلاق الذميمة والإصرار على الجحود وإنكار الحق، أمّا مادة الإفتراق فإن الكذب هو قول الزور وغير الحق، والتجافي عن الصدق.
وأما التكذيب فهو إنكار أمر واقع ونفي ما هو حق وصدق ومن وجوه إنكار الحق في المقام إنكار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمكذب فهو ينكرها وينفي وجودها عناداً مع أنها موجودة في الكتب السابقة وعلى القول بأن التكذيب هو أيضاً كذب وليس بالعكس، تكون النسبة بينهما هي العموم الخصوص المطلق، وقد جاء القرآن بذم الكذب والتكذيب، قال تعالى [وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ] ( ).
وتدل الآية على أن القرآن جاء بالأخلاق الحميدة، ونبذ الأخلاق المذمومة، والصفات القبيحة، والكذب قبيح ذاتاً، وله أضرار عرضية، وتبين هذه الآية أن التكذيب برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يؤدي إلى الخلود في العذاب يوم القيامة، وقد وردت الآيات بالحث على الصدق والتصديق بالحق والتنزيل، قال تعالى[وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ]( ).
من غايات الآية
لقد إختار الله المسلمين لوراثة النبوة، وجعلهم أفضل الأمم، وزاد عليهم من فضله بان جعلهم دعاة الى الهداية والرشاد، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ] ( ).
وجاءت الآية لإخبارهم عن حال فريق من الكفار ممن يخفون الكفر ويدعون الإيمان فهي رحمة بالمسلمين ورحمة بالناس جميعاً بما فيهم الكفار لأنها تكشف عن زيف إدعائهم ، وتدل على سوء سرائرهم ومقاصدهم المذمومة، فتمنع من تماديهم في الكفر وإيذاء المسلمين .
وتبين الآية أن عقاب الكفار لا ينحصر بعالم الآخرة وما فيه من الحساب والجزاء بل يشمل الدنيا أيضاً، بأن يزيدهم الله مرضاً الى مرضهم فينشغلوا بأنفسهم، وان أرادوا المخادعة فانها تأتي مكشوفة بينة تتصف بالسذاجة ولا تترك لها أثراً ضاراً على المسلمين.
التفسير
قوله تعالى[فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ]
لقد أخبر الله تعالى عن حال المخادعين وانهم لم يكونوا مؤهلــين لتلقي دروس الهداية والايمان بسبب ما يحملون من الشك وسوء البصيرة والفتور والتردد في قبول دعوة الحق، وعندما جاءهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات والحجــج استمروا على شكهم وريبهم، فكان هذا الشك المتأخر حصة جديدة أكثر خطورة وأثراً، وإتضح المفهوم بحـذف المضاف أي ان ما أنزل الله سبب لزيادة مرضهم ورجسهم، خاصة بعد إزدياد قوة المسلمين وإنتشار لواء الاسلام وعجـــز أعدائه عن الاضـــرار الفادح به، وهناك أقـــوال في الآية منها :
الأول : في قلوبهم غم لنزول النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وتمكنه فيها وظهور المسلمينَ وقوتهم، فزاد الله المنافقين غماً بما زاده من التمكين والقوة وأمده به من التأييد والنصرة، قاله أبو علي الجبائي( ).
الثاني : معناه زادتهم عداوة الله مرضاً، قاله السُدي( ).
الثالث : المراد في قلوبهم حزن بنزول القرآن بفضائحهم ومخازيهم فزادهم الله مرضاً بأن زاد في إظهار مقابحهم ومساوئهم والإخبار عن خبث سرائرهم وسوء ضمائرهم، قاله أبو علي الطبرسي( ).
الرابع : كلما أنزل الله على رسوله الوحي فسمعوه كفروا به فازدادوا كفراً إلى كفرهم قاله الزمخشري( ).
الخامس : جاء على سبيل الدعاء عليهم , كقوله تعالى [ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ]( ) فكأنه دعاء عليهم بأن يخليهم الله وما إختاروه ولا يعطيهم من زيادة التوفيق والألطاف ما يعطي المؤمنين، قاله أبو مسلم الاصفهاني( ).
والأقوال الأربعة الأولى من مصاديق الآية ووجوه تفسيرها فلا تعارض أو تزاحم بينها، وأما القــول الخامس فهو بعيـد، فالفاء في قوله تعالى (فزادهم) للتعقيب والترتيب الذكري .
وإلى جانب ما ذكر يمكن أن نضيف أقوالاً أخرى في تفسير الآية:
الأول : حمل الآية على ظاهرها، خاصة وانه لا دليل يفيد المنع او إرادة خلاف الظاهر، وهو ان الله عز وجل إبتلاهم بالتمادي في الشك والريبة عقوبة منه تعالى.
الثاني : هداية من هو قريب منهم إلى الاسلام وتخليه عنهم، وبقاؤهم منفردين لا يلتفت الناس الى ما يذيعونه من سموم الحسد والبغض.
الثالث : حرمانهم من الرحمة العامة في هذا الأمر والتخلية بينهم وبين غلهم وغيض صدورهم، قال تعالى[نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( ).
الرابع : الأمر الإلهي للمسلمين بقتال الكفار وردعهم وتوبيخهم، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ..]( ).
قوله تعالى [فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا]
إن الله عزوجل يســـتدرج الكافر ويبتليـــه بقوة الإســـلام فيمتــلأ قلبه حسداً ويعيش في شقـــاء، فالمرض يأتي بالعـــرض ليكون حالة نفسـية مستقرة ملازمة للكفر، وتفيد في ظاهرها تماديهم في محاولات المخادعة ليصـــبح مرض القلب علـــة لإنحرافهم، ولعله في المقام كالغشاوة التي تحول دون فهم هذه الآيات والإعتبار مما فيها من الإنذارات، وتوقع صدور أفعال قبيحة منهم ترجع عليهم بالضرر.
ولكن ما المرض الذي زاده الله عز وجل في قلوبهم , فيه وجوه :
الأول : من ذات المرض الذي في القلب فتكون الزيادة كمية.
الثاني : الكفر والضلالة.
الثالث : المرض البدني المترتب على المرض النفسي للتركيب والتداخل بين الروح والبدن.
الرابع : الجهل والغرر.
الخامس : الإصرار والعناد.
السادس : الأثر السلبي على نفوس الكفار بإنتصار الإسلام وتوالي نزول الآيات.
السابع : العقاب العاجل لسوء مواجهتهم للنبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين.
وكل هذه الوجوه من مصاديق الآية، ومن الإبتلاء أيضاً ان تتباين كيفيات وكم وصور هذا المرض، والزيادة فيه من شخص الى آخر، ومن جماعة الى أخرى منهم، كما ان تعاقب الأيام وتخلفهم عن الإلتحاق بالإسلام وأداء التكاليف نوع إيذاء لهم.
ورد ذكر لفظ (المرض) ثلاث عشرة مرة في القرآن في إثنتي عشرة آية، إذ ورد مرتين في هذه الآية ، ومن الآيات انها جميعاً وردت في مرض القلب، وغلبة الكدورات الظلمانية ، مما يدل على ما يتصف به المنافقون وجماعة من أهل الشك والريب بالعيب والنقص الذاتي الذي ينعكس بضعف الهمة والفتور في العمل مما يسهل على المسلمين التصدي لهم والوقاية من شرهم.
ولم يرد قوله تعالى [فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا] إلا في هذه الآية مما يعني ان لها خصوصية من بين الآيات التي ذكرت موضوع مرض القلوب، وانها تدل على خذلان الكافرين ووهنهم ، ومن الإعجاز ان الآيات ذكرت الذين في قلوبهم مرض بالعطف على المنافقين ثلاث مرات في القرآن قال تعالى[وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا]( ).
والعطف يفيد المغايرة وإن كان المتعارف في علوم التفسير والمتبادر إلى الذهن أن المراد هم المنافقون، وجاء مرة بعطف الكافرين عليهم [وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً]( ).
وظاهر الآيات ان الذين في قلوبهم مرض صنف خاص وانهم قسيم للمنافقين وليس ذاتهم او قسماً منهم، فيكون تقسيم الجاحدين واعداء المؤمنين أو أهل الحسد كالآتي :
الأول : منافقون.
الثاني : في قلوبهم مرض.
الثالث : كافرون.
الرابع : أهل الفسوق والفجور .
التقديم والتأخير له إعتبار في المقام، فتقديم المنافقين على الذين في قلوبهم مرض لا يعني أنهم أدنى درجة من المنافقين وما يكنون من العداء للمسلمين، وهو لا يمنع من إتحادهم مع المنافقين في إظهار خلاف ما يخفون في نفوسهم،خصوصا وإن النفاق إظهار خلاف ما في النفس .
وهذا التقسيم يساعد في تعيينهم وتحديد كيفية التعامل معهم وصيغ معالجة المرض الذي عندهم أن أمكن وإلا فإن العذاب الأليم ينتظرهم، ويمكن أن نطلق عليهم اصطلاحاً خاصاً ونسميهم المخادعين، وهو عنوان شامل تلتقي فيه الأقسام الثلاثة أعلاه.
قوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ]
وعيد وإخبار عما ينتظر الذين في قلوبهم مرض من العقاب العظيم في الآخرة، وفي الآية مسائل :
الأولى : لم يأت العذاب جزاء لما في قلوبهم من مرض بل هو عقوبة لهم لتكذيبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والآيات البينات.
الثانية : إن الله عز وجل يجازيهم بما كسبت أيديهم وتكذيبهم للرسالة إعتقاداً وقولاً وفعلاً.
الثالثة : ورود (كان) للدلالة على الماضي من فعلهم، ونتيجة لما في قلوبهم من مرض وما إختاروه من الجحود والغي والزيغ.
الرابعة : الجحود والإثم متقدمان زماناً ووقوعاً على تلك الزيادة في مرض نفوسهم.
الخامسة : إن الله عز وجل أوجب التكليف وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات والحجج وما يخاطب به العقول، ولم يكن فيها إغراء بالقبيح.
السادسة : تساهم الآية في خلق إستعداد نفسي وحصانة فكرية لدى المسلمين، لما يذيعه المنافقون، ويسعون في نشره من وجوه الشك والريب.
السابعة : في الآية منع من توجيه إهتمام زائد الى المنافقين أو الإنشغال بهم وبأفعالهم، فهذا الإنشغال محل لتبديد الجهود والسعي، ويحول أو يعرقل سبل توجيهها مجتمعة او متفرقة نحو الغايات الإسلامية الكبرى، وترسيخ دعائم الدين.
الثامنة : في الآيـــة تطمين للمؤمنين وكشــف لحقيقـة المنافقين وعلة الإزدواج في سلوكهم وما أصـــابهم من إعوجاج وضعف في الرأي.
التاسعة : يدل ذكــر الوصـــف وترتيب الحكــم عليه يدل على كـــونه علة لذات الحكم، والوصف الذي إستحقوا به العذاب الأليم هو تلبسهم بالكذب.
العاشرة : يعتبر الإخبار الوارد في الآية عما ينتظر المنافقين من سوء العذاب والعقاب الأليم إنذاراً وتذكرة وموعظة.
الحادية عشرة : في الآية حث للذين يقفون في منازل قريبة من هاوية النفاق لتحذيرهم ومنعهم من التردي فيها.
الثانية عشرة :في الآية دعوة لدخول أولئك المخــادعين والمترددين في الاسلام، ونبذ النفاق وأهله.
الثالثة عشر : لا تنحصر وظائف الآية في الإخبار عن المنافقين ففيها صلاح لأهل الإسلام وبشارة للمؤمنين بما إختاروه من الهداية وإتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها تثبيت لأقدامهم في ميادين الجهاد المختلفة.
الرابعة عشر : الآية عون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإذن بالغلظة مع المنافقين , وهي إنذار وتحذير ومدخل لمواجهتهم.
الخامسة عشر : تبين الآية الضرر البالغ وسوء العاقبة الذي يترتب على الكذب والجحود.
وفي الآية إعجــاز وإخبار متقــدم زماناً على الأمراض النفســـية وأثرها السلبي على السلوك وعمل الجوارح، وفيها إشارة الى التداخل والتأثير المتبادل بين القلب والعقل والجوارح، وإنعكاسه على نوع وطبيعة تفكير الإنسان وأفعاله، سواء على نحو السالبة الجزئية او الكلية كما في منطوق الآية الكريمة، او على نحو الموجبة الجزئية او الكلية مفهوماً.
وفيها تنبيه للمؤمنين لما فرض الله عز وجل على القلب من لزوم الايمان والتسليم والمعرفة خاصة وأن القلب أمير الجوارح فهي تصدر عنه، وفي الحديث : “القلوب أربعة: قلب فيه نفاق وإيـمان اذا أدرك الموت صاحبه على نفاقه هلك وان أدركه على إيمانه نجا، وقلب منكوس وهو قلب المشرك، وقلب مطبوع هو قلب المنافق، وقلب أزهر أجرد وهو قلب المؤمن فيه كهيأة السراج إن أعطاه الله شكر وإن إبتلاه صبر.
وحين أخبر الله عز وجل الملائكة بالخلافة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) ( )إحتجت الملائكة بإفساد الإنسان في الأرض كما ورد في التنزيل (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) ( ) وجاءت آية البحث لتتضمن مسألتين :
الأولى : تحقق مصداق الفساد في الأرض من المخادعين .
الثانية : وجود أمة تنهى عن الفساد , وهو مصداق كريم لرد الله عز وجل الملائكة (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) ( ) فمن علم الله عز وجل في المقام وجود أمة تتصف بأمور :
الأول : التمييز بين الصلاح والفساد .
الثاني : الإنصاف بالإيمان والصلاح .
الثالث : زجر المفسدين عن الفعل القبيح .
وتتجلى في هذه الآيات غلبة ومنعة ونصر أهل الإيمان , الذين أثنى الله عليهم بقوله تعالى (أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) ( ) , وجاءت هذه الآيات بذم الكفار , وكشف كذب إدعاء الخادعين , وتأكيد قصر حبل الحيلة والمكر والخداع , وتوجيه اللوم لهم على الإفساد في الإرض .
وهل في هذا اللوم دعوة للتوبة والإنابة , الجواب : نعم , وهذه الدعوة من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضيله على الأنبياء الآخرين لأن أمته تحمل هذه الدعوة إلى يوم القيامة , والقرآن مدد وإمام لهم فيها, ومن الكذب الذي إستحق المخادعون عليه العذاب أمور :
الأول : قولهم أنهم يؤمنون بالله .
الثاني : إدعاء الكفار التصديق بيوم البعث والنشور لقوله تعالى قبل آيتين(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ( )
الثالث : خداعهم لله والمسلمين وما فيه من الكذب والمكر .
الرابع : قيامهم بالكذب بالذات في غير المضامين التي ذكرتها الآيات السابقة , وهذا الكذب عنوان أضافي لعذابهم .
قوله تعالى[ وَإِذَا قِيلَ لهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ] الآية 11.
القراءة والإعراب واللغة
ضم الكسائي وهشام القاف في قيل( ).
وإذا : الواو عاطفة، والجملة بعدها معطوفة على ما قبلها وقيل الواو إستئنافية .
إذا : ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه.
تفسدوا : فعل مضارع مجزوم، الواو: فاعل، في الأرض : جار ومجرور متعلقان بتفسدوا.
قالوا: فعل ماض وفاعل، والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم.
نحن مصلحــون: مبتـــدأ وخبر، والجمــلة في محل نصـب مقول القول.
إذا : ظرفية شرطية تدخل على الجملة الفعلية، وتشير غالباً للمستقبل وقد تخرج عنه وتأتي للماضي بلحاظ القرائن كما في قوله تعالى في الآية [قَالُوا]، والإستقبال أحد مصاديق الآية.
لا : حرف نهي تعمل الجزم في الفعل لذا حذفت النون في تفسدوا لأنه من الأفعال الخمسة، و(ما) في انما كافة ، كفت (ان) عن العمل.
والفساد : خروج الشيء عن حال إستقامته , وهو نقيض الصلاح الذي يعني الحالة المستقيمة النافعة.
في سياق الآيات
بعد فضح المنافقين والمخادعين وكيف أنهم يسعون في دروب المكر والضلالة، تبين الآية فعلاً آخر من قبائحهم وتظهر عتوهم وإصرارهم على الفسـوق وتلاحقهم في أعمالهم المذمومة، ان تعدد الآيات في ذم المنافقين وبيان حالهم وخصالهم القبيحة على نحو التفصيل آية إعجازية في نظم الآيات وارشاد وتأديب للمسلمين في أخذ الحائطة منهم والتصدي لهم.
فلم تكتفِ هذه الآيات بذكر حال المرض والخيبة التي يعيشها المخادعون، فجاءت هذه الآية بتوثيق الإحتجاج والجدال بينهم وبين المؤمنين وأهل الدراية والحكمة، لتنقل الآية أحد مصاديق المخادعة التي يقوم بها الكفار بإصرارهم على الفساد والإفساد مع الإدعاء بإرادتهم الإصلاح.
وجاءت الآية التالية بالإخبار عن فساد الكفار في الأرض، ومن مصاديق جهلهم وعنادهم انهم لا يشعرون بماهية فعلهم وانهم ينشرون الفساد في الأرض، وإذ جاءت الآية قبل السابقة بالإخبار عن خداعهم للمؤمنين، فان هذه الآية جاءت لإشغالهم بأنفسهم وإقامة الحجة عليهم.
وهي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( )، وقوله تعالى [فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا] لأنها تجعلهم يلتفتون إلى ذنوبهم وقبحها, ومايبتلون به، ويدركون حقيقة إنكشاف أمرهم، وإنعدام تأثيرهم.
وفي صلة هذه الآية بالآيات التالية مسائل :
الأولى : بيان التضاد بين ما يقوله المخادعون وبين واقع حالهم , وهذا البيان رحمة من وجوه :
الأول : رحمة بالمسلمين , وباب لتفقههم في الدين , ومعرفتهم لأحوال الناس وخفايا الأمور .
الثاني : رحمة بأهل الكتاب للحذر من المخادعين , الذين يدعون الإيمان بالله واليوم الآخر كذبا , والأصل أن هذا الإيمان جامع مشترك بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى , قال تعالى (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا) ( )
الثالث : رحمة بالناس جميعاَ لتحذيرهم من المخادعين والتوقي من الفساد الذي هم عليه .
الثانية : يفيد الجمع بين الآيتين ذم و فضح الفساد الخفي, ودعوة الناس للحذر والوقاية من أهله , وتمنع الآيتان من جعل البياض سواداَ وبالعكس .
الثالثة : تضمنت آية البحث إحتجاج المسلمين على الكفار المخادعين بالفساد في الأرض , أما الآية التالية فجاءت بالشهادة من الله عز وجل على فسادهم وقبح فعلهم , وفي التنزيل (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ( ) .
إعجاز الآية
الآية حرب على الفساد على نحو مركب في منطوقها ومفهومها وهي موضوع إصلاح، وتبين إصرار المخادعين على إخفاء ما في نفوسهم .
والآية الكريمة وثيقة سماوية تبين مواجهة المنافقين بالحجة والبرهان، وان المؤمنين لم يتركوهم يعيثون في الأرض فساداً، بل يقيمون عليهم الحجة، ويقومون بتوبيخهم في جهاد للمسلمين فيه أجر وثواب لهم، وإخبار عن إرتقائهم في المعارف الإلهية، وقدرتهم على التمييز بين الحق والباطل، والصلاح والفساد، وعدم الوقوف عند التمييز، بل يقومون بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمدد وتوفيق من الله، ومنه هذه الآية فان تلاوتها تفيد وجوهاً:
الأول : إخبار المسلمين عن حال الكفار والمنافقين.
الثاني : إصرار المنافقين على الإفساد في الأرض.
الثالث : ظهور معالم مرض قلوب الكفار والمنافقين على أفعالهم بإتصافها بالقبح والفساد.
الرابع : تحذير المسلمين مما يقوم به الكفار والمنافقون من الفساد والإفساد.
ويمكن تسمية الآية بآية (لا تفسدوا)
الآية سلاح
تفرق الآية بين الصلاح والفساد، وتذم الأخير وتدعو الى نبذه، وفيها إرشاد للدعوة إلى الصلاح، وتبين للمسلمين كذب هؤلاء وزيف إدعائهم وتمنع من التصديق بهم، وتخبر عن المدار في تقسيم الأفعال وهو الموازين القرآنية والشرعية.
والآية سلاح بيد المسلمين لتوبيخ الكفار والمنافقين وذمهم على إصرارهم على العناد وقيامهم بالفساد، ولم تكتفِ هذه الآيات بالإخبار عن عجز الكفار والمنافقين عن المخادعة بل ذكرت تصدي المؤمنين لهم، ونصحهم وإرشادهم وبيان زيف أقوالهم وسوء فعلهم، وهو من مصاديق الإبتلاء والإختبار في الحياة الدنيا، والآية سلاح من وجوه :
الأول : إنها حجة على المنافقين والكفار.
الثاني : تحذير الناس من الإنصات للمنافقين.
الثالث : بعث اليقظة وأخذ الحائطة مما يقوله ويفعله المنافقون.
الرابع : تفضح الآية محاولاتهم صد الناس عن التدبر في الآيات، ودخول الإسلام.
الخامس : عدم ترتب اي أثر على قول الكفار والمنافقين “نحن مصلحون” لأن هذه الآية أخبرت بأنهم مفسدون ، ويسعون في إفشاء أسباب المعصية ومفاهيم الضلالة .
وجاءت الآية التالية لتكذيبهم ونقض إدعائهم، قال تعالى[أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ]( ).
مفهوم الآية
إن ذم المنافقين وفضحهم، وإظهار سوء فعلهم مدرسة في الإصلاح لم تستطع الدراسات الإجتماعية الحديثة الإلتفات إلى منافعها العقائدية والأخلاقية والتربوية، فصحيح أن ذمهم جاء على نحو العموم الإستغراقي والشمول إلا أنه باب كريم لتوبة شطر منهم، وتخلصهم من العادات السيئة والأخلاق الذميمة , والكف عن الإعوجاج المخالف لسنخية الإستقامة والآية من عمومات قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
كما تدعو الآية إلى جعل مدار الحكم على الفعل وليس القول لما فيها من الإخبــار عن وجود من يخالـــف قوله فعـــله، ومن مفاهيـم الآيـــة الإرتقاء العلمي عند المسلمين وتأهيلهم لمعرفة الحقائق بكشفها وازالة الستار عنها.
فقد يرى المؤمن الناس بمنظـــار نفســه وتطابق سريرته مع علانيته وترجمته المبادئ إلى أفعال مشابهة لها في المضمون، فجاءت الآية لتنبيه المسلمين وتحذيرهم من الكفار والمنافقين وعدم الركون الى قولهم.
وتنمي الآية ملكة الإحتجاج عند المسلمين , وعدم الركون الى الدعوى الباطلة.
إن الإصرار على الفساد ونعته بأنه إصلاح كذب وباطل، وضلالة وضرر بالذات والغير ، لذا وردت الآية بذكر الأرض مع أن الإفساد يصدر من الإنسان وتقع وطأته ووزره الأخروي عليه.
وفي الآية مسائل :
الأولى : عدم ترك الكفار والمنافقين يعيثون في الأرض فساداً، بل هناك من ينهاهم عن المنكر، ويحثهم على إجتناب الضرر والإضرار, وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الثانية : إنتقلت الآية إلى موضوع آخر وهو غير القول باللسان وخبث السريرة، فذكرت قيام هؤلاء الكفار بالإفساد في الأرض، وهل التناقض بين القول وما تخفي الصدور هو وحده الإفساد، الجواب لا، لأن الإفساد فعل خارجي خلاف الواجب الشرعي، وإدراك العقل للحسن من الأفعال.
الثالثة : إصرارهم على الإفساد، وإدعاؤهم طلب الصلاح، ومن الإعجاز في القرآن أن يأتي التناقض بين القول والسريرة، وبين الفعل والإدعاء، فالفعل قبيح ولكنهم يدعون حسنه، ومن الآيات ان النهي جاء على الإفساد من غير مقدمات وسؤال مما يدل على تحقق إفسادهم، وثبوت قبح فعلهم.
ويفيد الجمع بين هذه الآيات مغايرة ما يقولون في باب الإيمان لحقيقة ما في قلوبهم، وانهم يحاولون تصوير الباطل والفساد الذي يفعلون بانه صلاح.
وفي الآية مسائل :
الأولى : تبين الآية أموراً :
الأول : ان مخادعة أهل الضلالة والريب فساد وإفساد في الأرض.
الثاني : ظهور مرض القلوب على الأفعال والجوارح.
الثالث : دعوة الكفار والمنافقين إلى علاج الذات والتخلص من الكدورات الظلمانية التي تملأ نفوسهم، وتحثهم على اللحاق بالمسلمين.
الرابع : عدم ترك الكفار يعيثون في الأرض فساداً، بل يأتيهم النهي بالقرآن وعلى لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن المسلمين وأهل الدراية وأولي الألباب، وقد أنعم الله عز وجل على الإنسان، وجعل نفسه تنفر من القبيح بالفطرة.
الثانية : مصاحبة النهي والزجر لسوء فعل المخادعين، فلم يتركوا على فسادهم في الأرض, وهذا النهي من مصاديق رد الله على الملائكة يوم خلق آدم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الثالثة : إقامة الحجة على الكفار والمنافقين على نحو العموم الإستغراقي بتوجه الذم اليهم على سوء فعلهم.
الرابعة : إستدامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوجه خطاباته الى المنافقين والكفار من غير خشية أو خوف منهم.
الخامسة : إصرار الكفار والمنافقين على الفساد، وعدم إقرارهم بذنوبهم وظلمهم للذات والغير.
السادسة : إستحقاق الكفار والمنافقين العقاب لإقامتهم على الفساد.
السابعة : بيان قانون ثابت، وهو عدم إستحواذ المفسدين على الأرض، بل يأتيهم الذم والزجر من غيرهم على نحو متصل ودائم،قال الله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، وهو من إعجاز ودلالة ورود “إذا” في الآية , وما فيها من الإشارة الى المستقبل، فلم تقل الآية “وإذ قيل لهم” بل جاءت بصيغة الإستقبال والإستدامة.
وتخبر الآية عن إيمان الناس في إشارة الى التعدد والتباين في صفات ومنازل الذين آمنوا، فقد أسلم نفر من علماء وكبراء بني إسرائيل، وسادة قريش، وكثير من المستضعفين، وسائر الفئات، في دلالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وملائمة الإسلام للفطرة الإنسانية .
الآية لطف
تدل الآية الكريمة على وجود أمرين :
الأول : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني : من يفسد في الأرض.
وهذان الأمران متناقضان فلابد من إزاحة أحدهما الثاني، وفي الآية بشارة ظهور الحق وغلبة الصلاح، من وجوه:
الأول : مجيء النهي عن المنكر متعقباً لفعل الفساد.
الثاني : محاولة المفسدين وبصيغة الإنكار نفي فعلهم مما يدل على التسليم بقبح الفساد والإفساد.
الثالث : تفضل الله تعالى بكشف الفساد، وتوكيد صبغته وماهيته، فهذه الآية لطف من عند الله من وجوه:
الأول : منع إفتتان جماعة من المسلمين بفعل الكفار.
الثاني : إعانة الكفار على معرفة سوء فعلهم، فاذا جادلوا وقال “انما نحن مصلحون” جاءت هذه الآيات لتفضحهم وتؤكد كذبهم.
الثالث : دعوة الناس لإجتناب الإفساد , وعدم محاكاة المفسدين في فعلهم.
الرابع : عدم الإلتفات الى إدعائهم بالصلاح، لأن المدار في معرفة حكم وسنخية الفعل هو التنزيل وأحكام الشريعة.
الخامس : الآية من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله تعالى على إحتجاج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض, لما فيها من الزجر عن الفساد
السادس : تبين الآية وجهاً من وجوه الصراع بين الحق والباطل في الأرض، فهناك من يفسد فيها، وهناك من يزجر عن الفساد ، وهو من أسرار ذكر لفظ “في الأرض” في الآية، فلم تقل الآية “وإذ قيل لهم لا تفسدوا قالوا انما نحن مصلحون”.
بل ذكرت الآية قيد الأرض وطرفيها، وفيه أمور :
الأول : إفساد الكفار والمنافقين يضر بغيرهم أيضاً فلذا جاءت الآية بصيغة الإفساد والتعدي.
الثاني : لا ينحصر أثر إفساد الكفار والمنافقين بزمانهم بل هو أعم في أفراد الزمان الطولية مما يلقي على المسلمين مسؤوليات إضافية في التصدي للفساد وآثاره العرضية، ويتحمل معه الكفار والمنافقون أثقال آخرين، قال تعالى[لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ]( ).
الثالث : دعوة الناس لنشر الصلاح في الأرض، والتصدي للفساد سواء صدر من المنافقين أو الكفار والضلال.
الرابع : المسؤولية العامة للإنسان في منع أفكار الضلالة ومفاهيم الكفر والجحود، والمعاصي والقبائح.
الخامس : دلالة الآية على تفقه المسلمين في الدين ومعرفتهم للآثار المترتبة على الفعل بالزجر عما يؤدي الى الفساد في الأرض.
ومن أسرار الآية ان الخطاب جاء فيها بثلاثة أطراف :
الأول : القائل “لا تفسدوا في الأرض”.
الثاني : موضوع النهي وهو لزوم إجتناب الفساد.
الثالث : المخاطب بالنهي عن الفساد وهم الكفار والمنافقون.
ومع بيان الطرف الثاني والثالث، فان الطرف الأول جاء مجملاً من غير تعيين له وفيه آية إعجازية، وشاهد على السعة والتعدد وانه أعم من أن ينحصر بجهة أو طرف، وهي وظيفة قام بها الأنبياء والصالحون والمسلمون، وهذه الآية قول وخطاب بذات المعنى لتكون للقرآن خطابات عامة موجهة للناس جميعاً، فيها إصلاحهم.
السادس : دعوة المسلمين لنشر الصلاح في عموم الأرض.
السابع : في الآية إشارة إلى زمان العولمة وتداخل الحضارات، وتقارب البلدان وسرعة إنتشار وتبادل الأفكار وتناقل الأخبار، وأثرها على الناس وأنماط السلوك الجمعي والفردي، فمع ان الآية نزلت في ذم الجاحدين والمنافقين في المدينة المنورة، الا انها جاءت بذكر الأرض على نحو العموم والشمول لعدم وجود قرينة على التخصيص والتنزيل مما يدل على إرادة العموم، وفيه توكيد لقانون موضوعية عموم اللفظ وليس سبب نزول الآية.
ولو إنتقل شطر من الناس الى السكن في الكواكب الأخرى فهل تشملهم أحكام هذه الآية , الجواب نعم، إذ انها تتعلق بالفساد والزجر عنه، وجاء ذكر الأرض بإعتبارها وعاء ومكاناً للسكن والعيش عليها في الحياة الدنيا، فيلحق بها كل كوكب يتخذه الإنسان سكناً له في الحياة الدنيا، ويصلح عليه أنه أرض ودار بالنسبة لساكنيه على نحو المجاز والإلحاق .
إفاضات الآية
في الآية دعوة لتعاهد الصلاح والإصلاح في الأرض وتلك الحقيقة إعترف بها أعداء الإصلاح القائمون بالإفساد، كما تبين الآية الحاجة الى جهود إضافية لتنزيه المجتمعات من الفساد والأخلاق الذميمة، ومن الآيات ذكر الأرض وما يصيبها والمراد الإنسان في أخلاقه وأقواله وأفعاله مما يدل على ان الأرض لم تخلق الا للإنسان وان دوام الحياة بصلاح الإنسان ونبذه للفساد، فالإفساد والعنف لا يسبب الا التلف والزوال.
والآية إنذار وحث للمسلمين على المبادرة للإصلاح وفضح الزيف والكذب، ومنع حصول التداعي في القيم الإجتماعية والمفاهيم الأخلاقية، وفي الآية إشارة إلى نقص الثمرات وقلة البركات بسبب الإفساد لأن آثاره تظهر على الأرض وما يخرج منها.
الصلة بين أول وآخر الآية
تبين الآية قولين متباينين ، يتوجه القول الأول الى الكفار بزجرهم عن المعاصي وإرتكاب السيئات، أما القول الآخر فهو الذي يصدر من الكفار أنفسهم مع حصول إتحاد في أمور ثلاثة :
الأول : الجهة التي يصدر منها القول، وهم الكفار المخادعون.
الثاني : مضمون القول وهو إدعاء الإصلاح.
الثالث : إلتقاء هؤلاء الكفار في المغالطة وتحريف الحقائق .
وفي الآية لطف إلهي بالكفار بإنذارهم وزجرهم عن المعاصي، وتحتمل الآية أمرين :
الأول : تمنع الآية من الفساد إبتداء، وان لا يترجل مرض القلوب في عالم الأفعال بإرتكاب المعاصي والسيئات.
الثاني : تدعو الآية الكفار للكف عن المعاصي، وعدم الإقامة عليها، والإستمرار بإرتكابها.
ولا تعارض بين الوجهين، وكلاهما من مصاديق الآية، وفيه شاهد على مجئ النهي عن الفساد لهم على نحو مستمر، وهو من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المصاحب للحياة الإنسانية، والذي يحمل لواءه المسلمون , فتارة يأتي إبتداء ونصيحة ، وأخرى يأتي زجراً ودعوة للكف عن المعاصي ليكون حجة يومية حاضرة على الكفار، ومانعاً من الإنغماس في المعاصي والرضا بفعلها، ويبعث النهي عن الفساد في نفوس أصحابه النفرة منه أثناء التلبس به، ولو على نحو الموجبة الجزئية.
وفي تقييد الفساد بأنه في الأرض وجوه :
الأول : الدلالة على بقاء آثار الفساد.
الثاني : إنتشار وتفشي المنكر عند إرتكابه.
الثالث : تأذي المسلمين وأهل الصلاح من الفساد وفعل المعاصي.
الرابع : الأرض ملك لله تعالى، وقد خلق تعالى الإنسان ليعبده، ويتنعم بطيبات الأرض لا ان يفسد فيها, قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الخامس : الفعل الشخصي يضر الناس عموماً، ومن حقهم ان يمنعوا الفساد، ويزجرون المفسد، قال تعالى [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ] ( ).
وإذ جاء القول الأول بصيغة المبني للمجهول (قيل)، جاء القول الثاني بصيغة المبني للمعلوم والجمع (قالوا) ودلالة (الواو) على الكفار الذين في قلوبهم مرض ويصرون على إرتكاب السيئات، ومن إعجاز الآية أنها توثق وإلى يوم القيامة كلام الكفار , وإدعاءهم بأنهم مصلحون، وإخبارهم يحتمل وجوهاً :
الأول : يظن الكفار أنهم صالحون.
الثاني : يأتي قولهم هذا إستهزاء وإستخفافاً.
الثالث : يدعون الصلاح إستكباراً وعناداً وتحدياً للمسلمين.
الرابع : السعي للبس على الناس ، ونشر أسباب الشك والريب بينهم ، ومحاولة صدهم عن الإسلام .
الخامس : إرادة السلامة والأمن من المسلمين، وأعداء الإسلام بالتظاهر بالإيمان أمام المسلمين، وموافقة الكفار عند الخلوة واللقاء بهم[وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ] ( ).
والصحيح هو الثاني والثالث والرابع ، فقد جعل الله عز وجل الإنسان بما رزقه من العقل قادراً على التمييز بين الصلاح والفساد، والفعل الصحيح والقبيح.
وجاءت بداية الآية وما فيها من القول المتصل والمستمر [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] لفضح إدعاء الكفار بأنهم مصلحون، ولمنع الناس من الإفتتان بهم، وفيه دعوة إضافية للناس للإسلام، وإزاحة لحاجب ووهم يضعه الكفار.
وتبين الآية قبح الفساد، وسوء فعل الكفار، ولزوم الصلاح والإصلاح لتكون الأخلاق الحميدة مدخلاً كريماً لنشر مبادئ التوحيد، والتدبر بآيات النبوة.
التفسير الذاتي
إبتدأت الآية بحرف العطف (الواو) للدلالة على إتصال هذه الآية بما سبقها من الآيات في الموضوع وكذا الحكم لإختتام الآية السابقة بالإخبار عما ينتظر الكفار من العذاب الأليم في الآخرة.
والفساد قبيح بالذات، ويسبب نفرة النفوس من فاعله، لذا جاءت الآية بالإخبار عن قيام الناس بنهي الكفار عن الفساد والتكذيب بالآيات،والجحود بالنبوة، وقد جاء التحذير من الفساد من أول ساعة خلق فيها آدم عليه السلام وعلى لسان الملائكة كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، فالآية وإن جاءت بصيغة الإستفهام الإنكاري إلا أنها تتضمن تحذير آدم وذريته من الفساد، وأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله تعالى بعث الأنبياء مصلحين، وتنزيل الكتب السماوية للزجرعن الفساد، والدعوة إلى الإصلاح، وتبين الآية أن الفساد في الأرض على مراتب منها ما يصل إلى درجة الطغيان والإستيلاء على الحكم والسلطان، قال تعالى [الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ] ( ).
ولكن الآية محل البحث، وما ورد فيها من نهي الكفار عن الإفساد شاهد على إنحسار الفساد، وتجلي معاني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس، ووصول الدعوة إلى الإسلام وإصلاح الذات إلى الكفار ولكنهم ولأن قلوبهم تتغشاها الغشاوة أصروا على الفساد وإدعوا أنهم مصلحون , وهذا الإدعاء من الكذب الذي ذكرته خاتمة الآية السابقة [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ] ( ).
ويفيد الجمع بين هذه الآية والآية السابقة أموراً :
الأول : إن كذب الكفار يؤدي إلى الفساد.
الثاني : ذات الكذب الصادر منهم هو إفساد في الأرض.
الثالث : من عمومات ومصاديق الفساد الكذب.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، ومضامين التحذير من الكفر والضلالة.
وتبين هذه الآية بزوغ فجر الإسلام، وحدوث تغيير في كلام وأفعال الناس، وتجلي معاني الهداية والصلاح في المجتمعات، وإقامة الحجة على الكفار لأن النهي عن الفساد يدل في مفهومه على الدعوة إلى الإصلاح، والذي يتجلى بالإسلام، والإمتناع عن صد الناس عن الإسلام، والكف عن لغة الشك والريب.
لقد بدأت الدعوة الإسلامية في مكة، فواجهت قريش النبوة بالتكذيب، ولاقى منهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه صنوف الأذى والحصار وصيغ العزلة، فهاجر إلى الطائف ليلاقي ذات الأذى، فكانت هجرته المباركة إلى يثرب.
وجاءت هذه الآية لبيان الأثر والنفع العظيم الذي أحدثه قدومه إلى يثرب في المفاهيم الأخلاقية، والمضامين العقائدية بأن يتوجه اللوم إلى الكفارعلى فسادهم الذي يدل بالدلالة التضمنية على أن الكفر فساد، ولا يترشح منه إلا الفساد.
ومن إعجاز هذه الآية أنها تتضمن قولين متضادين في الجهة والمضمون مع إتحاد الموضوع، وقد ثبت في الفلسفة والوجدان أن المتضادين لا يجتمعان للتنافي الذاتي بينهما، فالآية نهي متوجه إلى الكفار بزجرهم عن الفساد، وإدعاء الكفار أنهم لم يفعلوا إلا ما فيه الصلاح والنفع.
فجاءت الآية التالية لتوكيد معاني الزجر المتوجه لهم في الآية السابقة، والإخبار عن قبح كذبهم وزيف إدعائهم، وتحتمل الصلة بين خاتمة الآية السابقة وهذه الآية وجوهاً :
الأول : قولهم [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] هو الكذب المقصود في خاتمة الآية.
الثاني : إدعاؤهم الإصلاح كذباً من مصاديق الكذب الوارد في الآية السابقة.
الثالث : التعدد والمغايرة في الموضوع، فالكذب غير إدعاء الإصلاح.
خصوصاً وأن هذه الآية إبتدأت بحرف العطف(الواو) ليكون هذا الإدعاء نوعاً آخر من قبائحهم.
والصحيح هو الثاني والثالث، وعدم وجود تعارض بينهما، وهو من إعجاز القرآن بأن تأتي الآية بمعان متعددة، كل واحد منها يتضمن شرائط الحجة والبرهان.
أما الصلة بين خاتمة الآية السابقة وهذه الآية والآية التالية التي أختتمت بقوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( )، أن الكفار وإصرارهم عليه نتيجة لسفهم وخفة عقولهم، وشاهد على هذا السفه، وأن الكفر يجعل الفرد والجماعة لايدركون قصورهم، وخطأ المبنى والضلالة التي هم عليها.
فان قيل جاءت الآية بصيغة الجمع وهل كل هؤلاء سفهاء الجواب نعم، لأن السفه وقلة الحلم، وخفة العقل أمور ملازمة للكفر والجحود، وقد جاء في قوم لوط قوله تعالى [أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ]( )، فأراد لوط شخصاً من قومه يفعل الصالحات، ويأمر بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
ومع صيغة الجمع في الآية فإنها تدل على وجود من ينهى عن المنكر أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويقول للكفار[لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] إلى جانب موضوعية آيات القرآن في إصلاح النفوس ونبذ الفساد، والوقاية من أسباب الضلالة والغواية .
وقد وصفت آيات القرآن المسلمين بقوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] في بيان مقدمات النصر وتثبيت دعائم التوحيد في الأرض ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وورد لفظ (مصلحون) مرتين في القرآن، إذ جاء في قوله تعالى[وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] ( )، وفيه توكيد لمنافع الإصلاح، وإخبار عن كونه واقية من الهلاك، وسبباً في دفع البلاء عن الناس، ويدل في مفومه على أمور :
الأول : يجلب المفسدون في الأرض لأنفسهم وقومهم المهالك .
الثاني : لزوم زجر أهل الفساد، ودعوتهم للصلاح.
الثالث : النفع العظيم للناس جميعاً في نزول القرآن، وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : الإسلام إصلاح وصلاح محض، ومن الآيات فيه أن أحكامه باقية إلى يوم القيامة.
الخامس : تفشي وإنتشار سنن الحلال والحرام في الإسلام، وآيات الأحكام لأمور العبادات والمعاملات , وبما يفيد الهداية والرشاد، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ومن وظائف الآية محل البحث منع الخلط بين مفاهيم الصلاح والفساد، والتحذير من اللبس فيها، ومنها جعل الناس يرتقون في المعارف ويبلغون مراتب التمييز بين صدق القول بالإصلاح الذي يتجلى بعمل المؤمنين وفعلهم الصالحات، ومسارعتهم في الخيرات، وبين الزور والكذب في إدعاء الكفار الإصلاح.
وتبين الآية حاجة أهل الأرض إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى الإسلام كديانة ثابتة باقية في الأرض، وإلى القرآن كتاباً سماوياً منزهاً عن التحريف والتغيير، وسوء التأويل، فقوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] يدل على وقوع الفساد وإرتكاب المعصية من الكفار وبما يتضمن سوء الفعل الذي تنفر منه النفوس.
لذا جاء القول بصيغة النهي والزجر عن الفساد، والتغير عن إستقامة الحال، ولكن هذا القول لم يصغ له الكفار، فهم لم يتلقوا هذا النهي بالقبول أو السكوت أو التأمل أو الإقرار بالذنب والخطأ أو الإمهال أو الإستغفار وطلب العفو، بل أجابوا بأنهم هم المصلحون، وفيه غاية الإصرار والعناد.
فبعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأيده بجنود من الإنس والملائكة وجاءت هذه الآية لفضح أعداءه , ولمنع المفسدين من التولي في الأرض.
وتكررلفظ (مصلحون) في القرآن مرتين ، يدل على حاجة الناس للإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإستدامة الحياة في الأرض، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وفي إدعائهم بأنهم مصلحون مع أنهم ينشرون الفساد والجحود ظلم لأنفسهم وللناس، ودعوة للضلالة، فجاءت هذه الآية لفضحهم وخزيهم وتحذير الناس من الإفتتان بهم .قال تعالى[بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ]( ).
من غايات الآية
الآية دعوة لمحاربة الفساد، وحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفضح للكافرين وذم أفعالهم المخالفة للشريعة وزجرهم عن الفساد والإفساد، وعدم الركون لما يقولون من الباطل.
في الآية مسائل :
الأولى : تبعث الآية السكينة في نفوس المسلمين بإخبارها عن التصدي المستمر للمنافقين والكفار في إفسادهم في الأرض، وإخفائهم الكفر وتمسكهم بمفاهيم الضلالة، فالذين يقولون [ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ ] يجب أن يكونوا صادقين، ويحرصوا على دخول الإسلام في قلوبهم وجوانحهم، ويهجروا الكفر والجحود.
الثانية : في الآية دعوة للمسلمين لزجر الكفار والمنافقين عن القول القبيح، والفعل السيء.
الثالثة : عدم القنوط أو اليأس عند إجابة اهل الضلالة بما يدل على الإصرار على الفساد.
الرابعة : الآية واقية من الإنصات والإستماع لدعوى الكفار والمنافقين الإصلاح.
الخامسة : هذه الآية الكريمة إنذار وتبكيت سماوي لأهل الخداع، وهي مفتاح وتعليم للمسلمين للقيام بوظائفهم العقائدية في زجرهم عن الفساد، والإحتراز منه.
السادسة : تطرد الآية الغفلة عن المسلمين والناس جميعاً، أما المسلمون فانهم صاروا يعلمون بمكر وكيد الكفار والمنافقين، ويسعون في قطع دابر الفساد من الأصل بمنع فاعله من الإستمرار عليه، وأما غير المسلمين فان الآية تحذر الناس من محاكاة المفسدين أو الميل اليهم، وتجعلهم ينفرون من أفعال المنافقين لأن الفساد قبيح ومبغوض، وأما الكفار والمنافقون فان الآية تدعوهم للتوبة والإنابة، وتبين لهم حقيقة فعلهم.
وهذا البيان من مصاديق علاج ما في نفوسهم من المرض والزيغ، فليس لأحد أن يقول لماذا لا يصلح الله قلوب الكفار والمنافقين، اذ جاءت الآية لإصلاح قلوبهم بلغة الإنذار والكشف والوعيد لأن الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار، وفيه شاهد على تغشي رحمة الله للناس جميعاً في الحياة الدنيا، ومنها فضح الكفر وأهله، ودعوة المسلمين للتصدي له بالحكمة الحسنة، ومنع سلطانه أو تأُثيره على النفوس وفي عالم الأفعال.
وتبين الآية ان الإسلام إصلاح وسلاح محض فهو ينهى عن الفساد ويحاربه ويمنعه، ومن الإفساد إثارة الريب والشك ووجوه الإفتراء على الإسلام والمسلمين.
التفسير
قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ]
تتضمن الآية الكريمة بياناً لسوء فعل أهل الضلالة والجحود والمخادعين وإمتناعهم عن قبول النصيحة والرشاد وجحودهم البلاغ والموعظة , وتتضمن وجهاً آخر من وجوه إِضــرارهم بالناس وايذائهم فهم مثلاً يثبطون المؤمنين عن الجهاد , ويدعون الى ترك نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويبالغون في إظهار الخسائر المادية، واللوم او الشماتة عند المصيبة بقتل بعض المسلمين أيام الدعوة ، وفي مراحل الدفاع او سرايا الجهاد، ويتجاهلون المنافع الخالدة للفتوحات الاسلامية المتعاقبة .
ويمالئ ويرائي المخادعون رؤساء الكفر , ولا يترددون في إفشاء أسرار المسلمين وخططهم، ويقومون بإغــراء الكفار بهم، وعندمــا ينهون عن هذه الأفعال وما فيها من الإيذاء والشر والفتنة لا يكفون، ويبقون مصرين ويعتبرونها صلاحاً بسبــب ما في قلوبهم من مــرض، كما أشارت إليه الآية السابقة وإصرارهم على الإقامة على الكفر والعناد والنفاق.
وفي الآية (روي عن سلمان رضي الله عنه أن أهل هذه الصفة لم يأتوا بعد) ( ).
ويدل ظاهر وسياق الآيات يدل على ان المقصود في المقام المخادعون والمنافقون أوان التنزيل المذكورون في هذه الآيات، وصحيح انها لم تذكرهم بالاسم ولكنها جاءت بصـفاتهم، لان الغاية في المقام تحذير المؤمنين في كل زمان من الكفار المخادعين والتنبيه عليهم , والإشارة الى قبيح أفعالهم.
ووردت في الآية أقوال تؤيد ما نذهب إليه منها :
الأول : إذا قيل للمنافقين لا تفسدوا في الارض بعمل المعاصي وصد الناس عن الايمان، روي عن ابن عباس( )، والحسن وقتادة والسدي.
الثاني :إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض بممالأة الكفار فإن فيه توهينَ الاسلام، قاله أبو علي( ).
الثالث :انهم كانوا يدعون في السر الى تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والجحود بالاسلام، قاله الأصم.
الرابع : وإذا قيل للمنافقين لا تفسدوا في الأرض بتغيير الملة وتحريف الكتاب، قاله الضحاك( ).
وتلك مصاديق ووجوه للفساد الذي نهى ومنـع عنها، الا ان قول ابن عباس هو الأرجح، خاصة وانه من الصحابة وعاصر تلك الوقائع ، ولكنه لا يحول دون قبول الأقوال الأخرى فهي في طوله , وتدل عليها الأدلة والنصوص والوقائع والقرائن.
ترى من القائل لهم : لا تفسدوا، ذكرت فيه أقوال:
الأول : إنه الله تعالى.
الثاني : إنه الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : بعض المؤمنين.
ولاتعارض بين هذه الأقوال، لان القرآن زاجر لهم عن الفساد، والسنة النبوية القولية والفعلية تدعوهم لتركه , وهذا القول عام من المؤمنين ومن أهل النصح والرشاد وأرباب العقول اذ جعل الله عز وجل العقل حجة ظاهرة فترى العقلاء ينفرون من الفساد، لأنه لا يتعلق بالعقيدة بل بالأفعال.
ولا يبعد ان مثل هذه الأعمال التي ينهون عنها تتعلق بتحريفهم لأحكام الكتاب، أي انهم يرون انها صلاح بلحاظ تحريفهم للكتاب في وجه من وجوه الضلال، وهذا النهي لهم يدل على علو كلمــة الحق وبدأ الصلاح في الأرض بالإسلام، ونبذ الفساد والأفعال القبيحة، وعليه سيرة العقلاء لما في الفساد من الظلم والتعدي.
ان تقييد مفاسدهم بالجار والمجرور (في الأرض) له دلالات في المقام منها
الأولى : إن إفسادهم يضر بهم وبالناس وتبقى آثاره إلى ما بعد حياتهم باقتداء غيرهم بهم.
الثانية : كناية وتشبيه الإفساد ببذر بذور الشر والسوء في الأرض والنفوس.
الثالثة : التعدي على الحرمات لأن الأرض لله وجعلها موضعاً لعبادته , قال تعالى [إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
قوله تعالى [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]
في الآية إشارة الى لغة التوكيد التي يتكلم بها المنافقون والكفار, وينبهــون اليهــا وكأن الأمر مكشوف لا لبس فيه، وفيه وجوه:
الأول :إنهم يسمون ما يعملونه من الفساد صلاحاً.
الثاني : إنهم يعدونه صلاحاً لما فيه من نجاة لهم من المسلمين وأسباب التوبيخ .
الثالث : قولهم هذا جزء من نفاقهم وفسادهم.
الرابع : يظنون إستمالة الكفار وحجب أذاهم عن المؤمنين بتلك الأفعال، وهذه الغايات تطرد عنهم صفة الفساد.
الخامس : أنكروا الدعوى والوصف جحوداً وكذباً خاصة وان الآية السابقة نعتتهم بالكذب.
وهذه الوجوه كلها محتملــة وممكنــة لتعــدد وجــوه النفــاق والمنافقـين.
(وحكي عن ابن عباس إن معنى قوله (إنما نحن مصلحون) إنما يريد الإصلاح بين فريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.
وحكي عن مجاهد : (إنهم إذا ركبوا معصية الله قيل لهم : لا تفعلوا هذا، قالوا : انما نحن مصلحون)( ).
وتبين الآية إصــرار أهل الكفر وجهلهم المركب وعتوهم المتعــمد وانهم لا يكتفــون بفعل السـيئات بل يعمدون الى محاولة الباسها الصلاح.
وتفضح الآية إعتذارهم وما يقولون ليذهب أدراج الرياح، كما أنها تسلح المسلمين وتجعلهم مؤهلين لكشف زيف مثل هذه الأباطيل، وتؤكد على الملازمة بين الكفر والفساد والإفساد والجحود.
قوله تعالى[ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعرُونَ] الآية 12.
الإعراب واللغة
ألا : حرف إستفتاح وكلمة تنبيه جاءت في أول الآية للدلالة على تحقق ما بعدها، وأصلها (لا) دخل عليها ألف الإستفهام، والألف إذا دخل على الجحد أخرجه الى الإيجاب نحو قوله تعالى [ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ]( ).
إنهم : إن حرف مشبه بالفعل، والضمير إسمها، هم المفسدون : مبتدأ وخبر، والجملة في محل رفع خبر إن.
ولكن : الواو عاطفة، لكن : حرف إستدراك لاعمل له لأنه وقع بين جملتين.
لا: نافية ، يشعرون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون ، لأنه من الأفعال الخمسة، الواو: فاعل.
في سياق الآيات
بعد ان بينت الآيات السابقة قبائح الكفار والجاحدين والمنافقين، جاءت هذه الآية لتوكيد فسادهم وعتوهم وضعف الإحساس عندهم، وجاءت الآيات بذكر الفساد وتوبيخ أهله في زجر وردع لهم .
من إعجاز نظم الآيات وحاجة الناس اليه إشتراك عدد من الآيات في موضوع واحد مع التباين في الجهة والحال وكثرة المنافع المقتبسة من إستقلال كل واحدة منها، فقد بدأ موضوع هذه الآيات بقوله تعالى ” ومن الناس” لتبين الآية السابقة قيام فريق من الناس بنهيهم عن الفساد، وفيه إشارة الى عدم تفشي الفساد بين الناس، وعندما إدعوا الصلاح زوراً، وحاولوا جعل السواد بياضاً والتدليس على الناس، جاء الرد السماوي بصيغة البيان والقانون الثابت الذي لا يقبل الإجمال والترديد بان الكفار والمنافقين هم أهل الفساد.
وبين قوله تعالى [المفسدون] وقوله تعالى [لا تفسدوا] عموم وخصوص مطلق، وإن إختلفت جهة الصدور ولكن الموضوع متحد, فلفظ المفسدين أعم لأنه صفة دائمة وإخبار عن صدور الأفعال القبيحة عن ملكة وإصرار على الفساد والضلالة، أما قوله تعالى [لا تفسدوا] فجاء للنهي عن التلبس بفعل الفساد.
لتدل هذه الآية على ان قول المنافقين والكفار [انما نحن مصلحون] شاهد على إصرارهم على المعصية والفساد، فجاء الرد السماوي نازلاً من عند الله لتوكيد حقيقة بانهم هم المفسدون.
وقام المسلمون بعد بيان هذه الحقيقة بالإستمرار في زجر الكفار والمنافقين عن الفساد وفي دعوتهم الى الإيمان، مما يعني عدم ترتب الأثر على قولهم كذباً [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] .
ويفيد الجمع بين هذه الآية والآية التالية عدم إعتبار إنكار الكفار والمنافقين لفسادهم وضلالتهم، وان الأمر لم يقف عند زجرهم عن الفساد بل جاءت الدعوة بالهداية الى الإيمان والتخلص من الفساد وموضوعه جملة وتفصيلاً.
ليكون ردهم على الدعوة إلى الإيمان حجة عليهم ودليلاً على جحودهم، وقد جاء قبل آيتين قوله تعالى [وَمَا يَشْعُرُونَ] ( )، بخصوص خداعهم لأنفسهم، وجاءت هذه الآية بقوله تعالى [لاَ يَشْعُرُونَ] بفسادهم وإقامتهم على المعاصي وما يأتي منهم من الضرر لغيرهم من الناس، وهذا التكرار والتعدد شاهد على الجهل المركب عندهم، وحاجة الناس الى الإسلام، وفضل الله تعالى عليهم جميعاً بالقرآن ، وما فيه من البيان والأخبار ذات العبرة والموعظة.
إعجاز الآية
تفضل الله سبحانه ووصفهم بالفساد وصفاً مستوعباً لهم، فالآية تبين انه تعالى ينزل الآيات التي تساهم في الإحتجاج وإقامة البرهان الذي يعني في الإصطلاح قياساً مؤلفاً من يقينيات ينتج يقيناً بالذات.
لقد إدعوا الإصلاح بما يفيد الحصر بأداة الحصر [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] وقد يصدّق بعض الناس قولهم هذا ويغتر بهم، ويلوم المسلمين على جفائهم والصدود عنهم، أو أنه يكون سبباً في إنصات بعض المسلمين لهم وحمل عملهم على الصحة، فجاءت هذه الآية متعقبة لما قالوه لتثبيت حقيقة مكرهم ونفاقهم، ومن الآيات ورود وصفهم بالمفسدين على نحو يفيد تلبسهم بالإفساد والإضرار وصدق هذا الاسم والعنوان عليهم.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية (هم المفسدون) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
الآية وثيقة سماوية لتوكيد فساد الكفار والمنافقين وتدعو المؤمنين بالحاح الى الحذر منهم وإجتنابهم وما يفعلون من السيئات ووجوه الفساد .
وهي مدرسة في الإحتجاج وإقامة الحجة، فمن فضل الله على المسلمين ان تأتي نصرتهم من السماء وبما يفيد البيان والتوكيد، وتدعو المسلمين الى اليقظة وأخذ الحائطة للدين من الفساد والإفساد في الأرض، فإبتدأت الآية بحرف الإستفتاح “إلا” الذي يفيد القطع بان الكفار والمنافقين هم المفسدون، مما يدل على ان المسلمين منزهون عن الفساد، ولا يدعون إلا إلى الهداية والصلاح والرشاد، وتدل الآية على محاربة المسلمين للفساد , وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بأن تتجنب الفساد وتدعو بلغة الإنذار المفسدين الى الكف عنه.
وقوله تعالى [وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ] مدرسة عقائدية تدعو المسلمين الى إقامة الحجة والبرهان على الكفار بأنهم المفسدون بذكر البينة والشواهد على فسادهم وإفسادهم وضلالتهم.
مفهوم الآية
في الآية إخبار عن وجود أُناس مفسدين وان جهاد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وعموم المسلمين لا ينحصر بالتبليغ والإنذار بل بمحاربة الفساد سواء كان الفساد العقائدي والكفر او الفساد الإجتماعي أو في أنظمة الحكم والقضاء، مما يدل على المسؤوليات العظيمة التي تحملها المسلمون لإصلاح الناس.
ومن الحقائق الثابتة عدم إجتماع الإســلام والفساد فمن مفاهيم الآية لزوم إستعداد المسلمين لإجتثاث الفساد والتخلص من سطوة المفسدين , وفيها دعوة لإختيار صيغ الحكمة والموعظة الحسنة بالإبتداء بتنبيه المنافقين والمخادعين على سوء صنيعهم وخطأ ما هم عليه وما يؤدي إليه فعلهم من الفساد أي جعلهم يشعرون ويدركون سوء ما يعملون والأضرار الشخصية والنوعية المترشحة عن إفسادهم، ومن مفاهيمها تنــزيه المســـلمين عن فعل الفســـاد، وحــثهم على إجتنابه وأهله.
وفي الآية مسائل :
الأولى : فضح الكافرين وبيان سوء فعلهم.
الثانية : عدم صحة إدعائهم فعل الإصلاح.
الثالثة : توكيد قيامهم بالفساد والإفساد.
الرابعة : ظهور آثار ختم الله على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم بان يفعلون السيئات ولا يشعرون بأضرارها عليهم في الدنيا والآخرة.
الخامسة : نعت القرآن للكفار والمنافقين بانهم المفسدون.
السادسة : وجود شواهد ووقائع تؤكد هذا النعت , ومن الفساد التلبس بالكفر وإدعاء الإيمان مع الإصرار على الكفر والجحود.
السابعة : بيان صدق الملائكة حينما قالوا يوم خلق الله آدم ليكون خليفة في الأرض [ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، ولكن الفساد لم يصدر من الناس جميعاً، بل ان الأنبياء والمؤمنين والصالحين منزهون عن الفساد ، لتأتي هذه الآية مصداقاً لقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وشاهداً على حكمة الله في خلق آدم وجعله خليفة في الأرض بأن يقوم المسلمون بالنهي عن الفساد وذمه وأهله، ومحاربته, والجهاد من أجل إستئصاله من الأرض.
ومن علم الله تعالى ما أعدّه سبحانه من العذاب لمن يقيم على الكفر والفساد إلى أن يغادر الدنيا , قال تعالى [زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ] ( )، فالذي يفسد في الأرض لا يترك سدى بل تكون النار مثواه.
ومن وجوه البيان في القرآن صيغ الإحتجاج المذكورة فيه، والإستدلال بها، ومجيؤها بالحجة على الكفار وأهل الضلالة، ومنه هذه الآيات إذ انها لم تقف عند قول المنافقين والكفار [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] بل ذكرت الرد عليهم بما يفيد فضحهم وإبطال قولهم على نحو السالبة الكلية فقوله تعالى [هُمْ الْمُفْسِدُونَ] اي لم ولن يصدر الإصلاح منهم، وهم لا يجمعون بين الإصلاح والفساد، بل يكون فعلهم هو الإفساد والفساد المحض الخالي من الإصلاح.
وتدل الآية في مفهومها على تنزيه المسلمين من الفساد وإبتعادهم عن الرذائل وطاعة الهوى، وهي في مفهومها من عمومات مدح المسلمين في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الآية لطف
من وجوه الصراع بين الخير والشر، والإيمان والكفر في الحياة الدنيا لغة الجدال والإحتجاج، ويفاجئ شطر من الكفار المسلمين بان يظهروا خلاف ما يخفون، ويحاولون التستر على مقاصدهم الخبيثة، وقصدهم الإضرار بالمسلمين، فتأتي هذه الآية إحتجاجاً من عند الله لكشف حقيقة الكفار، وفضح نواياهم، وفيها منع من الإنصات لدعواهم وجدالهم.
وتبين الآية حاجة الناس إلى القرآن، فيحتاج المسلمون آيات القرآن وما فيها من البيان والإنذار، ويحتاج الناس القرآن والمسلمين معاً، إذ يكشف القرآن الحقائق، ويبين ماهية أفعال الناس، وخصائص كل فريق وأهل ملة، وجاءت هذه الآية بذم ونعت الكفار ، وفيه لطف من وجوه :
الأول : تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا، وإعانتهم على معرفة منازل الناس.
الثاني : جعل المسلمين يعرفون عدوهم، ومن يأتي بالضد مما يسعون إليه.
الثالث : القبح الذاتي والعرضي للفساد.
الرابع : إسكات الكفار والمنافقين، وجعلهم عاجزين عن الجدال بالباطل.
الخامس : بيان حقيقة وهي ميل النفوس الإنسانية بالفطرة الى الصلاح، فحتى المفسد يدّعي الصلاح والإصلاح.
السادس : تنبيه الكفار والمنافقين وإنذارهم من سوء الفعل وما ينشرون من الفساد خصوصاً وان الآية تقول بانهم لا يشعرون بقبح فعلهم والآثار الشخصية والعامة , والدنيوية والأخروية المترتبة عليه، ليكون اللطف الإلهي في قوله تعالى [وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ] على وجوه:
الأول : دعوة الكفار والمنافقين للتبصر بحالهم، ومراجعة أفعالهم.
الثاني : إخبارهم بظهور الإسلام، وإنكشاف أرباب الفساد والضلالة.
الثالث : إخبار الناس جميعاً بانهم مدعوون ومكلفون بهجران الفساد ومحاربته.
الرابع : يفضح الله عز وجل الفساد وأهله، ويرجع كيدهم الى نحورهم.
الخامس : ان الله عز وجل يأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادس : حث المسلمين على الدعوة الى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجاء قوله تعالى [وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ] بصيغة الجمع وفيه ذم للمنافقين والكفار على نحو العموم المجموعي لسوء العقيدة والمبنى الذي يرتكزون اليه، وقد يصر بعضهم على المعصية وهو لا يعلم قبحها، وسوء عاقبتها في الدارين، فيأتي الإخبار الإلهي بانهم لا يشعرون بدعوة المسلمين لجذبه لمنازل الهدى بما يناسبه من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأدنى فالأدنى.
لقد جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين قوم كفار يعبدون الحجارة، وعلى فترة من الرسل بالإضافة الى ان آخر الأنبياء الذي بعث قبله وهو عيسى عليه السلام سعى قوم في قتله لولا أن رفعه الله إليه.
إن كثرة التلبس بالباطل وتلقيه إرثاً وتركة من الآباء يجعل أصحابه يرونه وكأنه أمر حسن، ولا يلتفتون إلى ما فيه من القبح الذاتي، وما يترتب عليه من الآثار ، فجاءت الآية بذمهم لعدم شعورهم بما هم عليه من الفساد، وبالدعوة الى إصلاحهم والسعي لإنقاذهم من الجهالة والضلالة.
إفاضات الآية
تبين الآية ضرورة معالجة الأخلاق الذميمة ومنع التعدي والإنحراف عن جادة الحق والإستقامة، واذ أكدت الآية السابقة على نبذ الإفساد في الأرض، جاءت هذه الآية بوصف المخادعين والمنافقين بانهم المفسدون على نحو الإطلاق بمعنى ان إفسادهم مع أنفسهم والمجتمع والأرض، وفي باب العقائد والأخلاق والإسراف المالي وغيره.
لقد إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بأنه سبب للفساد فيها [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا]( )، فجاءت هذه الآية رداً عملياً عليهم بأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جهاد وحرب مستمرة على الفساد إلى يوم القيامة، إذ تبعث الآية المسلمين على التنزه من الفساد، والعصمة من الإفساد والنفرة من المفسدين، وفيها تنمية لملكة الصلاح وتطهير الذات , وهي رديف وتعضيد لآيات الأمر بالمعروف , قال تعالى في خطاب للمسلمين [تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
جاء سياق الآيات في ذم الكفار، وقبيح عملهم، وتشمل الآية أيضاً المنافقين بلحاظ ماهية العمل المنهي عنه في هذه الآيات، ولم تترك الآيات إدعاءهم ، فقد وردت الآية السابقة بالنهي مع إجمال جهته بصيغة المبني للمجهول [إِذَا قِيلَ لَهُمْ] وجاءت هذه الآية لتجعل هذا القول مستمراً ومتصلاً ولايتوقف عند إدعائهم الإصلاح على حاله، بل جاءت برده وتكذيبه واثبات خلافه، وتوكيد فسادهم في الأرض وإقامتهم على المعاصي، وفيه دعوة للذين ينهون عن المنكر الى مواصلة زجرهم وإنذارهم من العذاب الأليم.
فمن منافع هذه الآية ان الكافرين إذا إدّعوا الصلاح لإيمتنع المسلمون عن دعوتهم للإيمان وحثهم على الكف عن الفساد في الأرض، والتعدي على الناس، والإصرار على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
واذ جاءت الآية السابقة بلفظ (قيل لهم) وصدور التحذير من الفساد من المسلمين، جاء وصف الكفار بالمفسدين من عند الله تعالى، فقوله تعالى[أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ] إخبار إلهي وتبكيت وذم للكفار.
وفيه تكذيب سماوي لقولهم بأنهم مصلحون الى يوم القيامة، ومنع من إفتتان الناس بهم، وبرزخ دون إحتجاجهم، وفي الآية مدح للمسلمين لإصلاحهم في الأرض , وبيان لحاجة الناس للإسلام والبعثة النبوية المباركة، لمنع إختلاط المفاهيم وتحريف الحقائق والمعاني، كما حرفت الكتب السماوية السابقة، وفيها دعوة للمسلمين للإجتهاد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتثبيت الحقائق الشرعية، وإزاحة الباطل، وفضح المفسدين وصيغ الفساد.
وفيه واقية للمسلمين أنفسهم بالعصمة من السيئات ، والنفرة من المعاصي، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وهم المسلمون من وجوه :
الأول : إجتنابهم السيئات، وما فيه الفساد والإفساد.
الثاني : فضح المفسدين، وبيان كذبهم، وما في قولهم من البهتان والزور.
الثالث : منع الناس من الإفتتان بالكفار.
الرابع : جعل الناس قادرين على التمييز بين الخير والشر، والصلاح والفساد.
الخامس : إدراك الناس لأهلية المسلمين للإمامة والرياسة، وبعث السكينة في نفوسهم أزاء الإسلام والدعوة اليه، وعدم النفرة من مبادئه.
السادس : دعوة الكفار للكف عن الفساد، ومنعهم من التظاهر بالموبقات، والتجاهر بالسيئات.
وجاءت خاتمة الآية بنعت الكفار بانهم (لا يشعرون) وفيه آية إعجازية لما تتفرع عنه من المسائل، وفيه دعوة للكفار بان يلتفتوا إلى سوء عملهم، ويتبصروا بحقيقة الحياة الدنيا وأنها مزرعة للآخرة، وتقع على عائق المكلف فيها وظائف عبادية وأخلاقية تتجلى بالصلاح وتهذيب النفس وتعظيم شعائر الله.
وفيه توكيد لفساد الكفار، ودعوة المسلمين لإصلاحهم بالإطلاع على حقيقة وهي تخلف الكفار والمنافقين عن معرفة قصورهم وجنايتهم، فمتى ما عرف الإنسان حقيقة فعله، وأنه على خطأ وضلالة فانه قد ينزجر عن الإقامة عليه .
وجاءت الآية بحصر الفساد بالكفار ويدل عليه مجئ قوله تعالى[هُمْ الْمُفْسِدُونَ] بالألف واللام، وتأكيده بأن وألا التي جاءت للإستئناف والتنبيه وتحذير المسلمين والناس منهم.
وفي خاتمة الآية حث للمسلمين لإتخاذ سلاح الحجة والبرهان لإصلاح الناس، والإحتجاج عليهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وفضح الفساد والإفساد وبيان أضراره ولزوم التخلص منه، كما أن صلاح المسلمين دعوة عملية وبرهان حاضر يفضح الكفار والمنافقين، ويبين سوء فعلهم، ولزوم تسليمهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكفهم عن المعاصي والسيئات.
التفسير الذاتي
لقد جاءت آيات القرآن حرباً على الأخلاق الذميمة , وسلاحاً للمؤمنين لإستئصال الفساد في الأرض، وقد واجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون طوائف من أهل الجحود والعناد وممن لا يقرون بالمعاصي والذنوب التي يرتكبونها، وإن أقروا بها فإنهم يعتبرونها أمراً حسناً، مما يعني شيوع مفاهيم الضلالة وبما يخالف ما جاء بهم الأنبياء السابقون، والثوابت التي يتوارثها الناس وفق إدراك العقل، وفيه مسائل:
الأولى: إنه شاهد على حاجة الناس للإسلام.
الثانية: بقاء القرآن خالياً من التغيير في أحكامه، وسالماً من التحريف في ألفاظه ودلالاته.
الثالثة: دعوة المسلمين للسعي وبذل الوسع في سبيل الله وإعلاء كلمة التوحيد , قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
وتتجلى معاني محاربة الأخلاق المذمومة والفساد في كل آية من القرآن سواء في المنطوق أو المفهوم والأثر، ومنها منطوق هذه الآية التي تتولى أمور:
الأول: فضح الكفار والمعاندين.
الثاني: إبطال مغالطتهم.
الثالث: الإخبار عن كونهم المفسدين في الأرض.
الرابع: دعوة للناس للحذر من الكفار.
وتبعث الآية على إيجاد مصاديق الملازمة بين الكفار وصيغ الفساد، ترى لماذا لا يشعر هؤلاء الكفار بأنهم هم المفسدون، فيه وجوه :
الأول : إصرارهم على الكفر والجحود.
الثاني : طول التلبس بالفساد.
الثالث : عدم وجود أمة تنهاهم عنه.
فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليقوم المؤمنون بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن الفساد وفعل القبيح.
الرابع : يجعل إتباع الهوى الإنسان في ضلالة وعمى في البصيرة.
الخامس : مجئ الآيات السابقة بقوله تعالى [خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ]( )، والإفساد من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
السادس: توارث الكفار مفاهيم الضلالة والجحود , وفي التنزيل [قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ]( )، وفيه بيان لجحود الكفار، وتكذيبهم للرسل وإصرارهم على الضلالة التي كان عليها آباؤهم , وإعلانهم عدم الإنصراف عن المعاصي والذنوب , وفيه آية لما كان يلاقيه الأنبياء من قومهم.
ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الله يأمره في التنزيل بأن يخبر أجيال المسلمين والناس جميعاً بأنه بشر مثلهم [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ]( )، وهو ذات القول الذي قاله الرسل لقومهم, وإمتاز المسلمون بعدم الغلو بالنبوة.
وجاءت الآية بذم الفساد مطلقاً، والتحذير منه لما فيه من الإثم والضرر الشخصي والنوعي، وقد ذكرت آيات القرآن فرعون بالذم وبلغة التبعيض من أهل الفساد , قال تعالى[يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ] ( )، مما يدل على إرادة الكفار الإفساد في الأرض ونشر مفاهيم الضلالة، وصد الناس عن الإسلام، والبعث على الشك والريب في نزول القرآن.
وجاءت الآية رحمة بالناس جميعاً، ومنهم الكفار، إذ أنها تدل في مفهومها على تحذيرهم من الإقامة على الفساد، وتتضمن إنذارهم من سوء عاقبة الإفساد , قال تعالى في هلاك فرعون وقومه [فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( )، وهل يبعث قوله تعالى [وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ] الكفار على إدراك قبح فعلهم وعنادهم.
الجواب نعم , فقد جاءت هذه الآيات لإصلاح الناس جميعاً ، وتتضمن اللوم والتبكيت والدعوة للتوبة والإنابة.
وحث المسلمين على الإحتراز من الفساد وأهله وسيلة سماوية مباركة للتوبة والإنابة والتنزه عن الفساد , والشهادة لهم بالنجاة منه بدخول الإسلام، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وتدل الآية في مفهومها على أمور:
الأول: الترغيب بالصلاح والإصلاح.
الثاني: كشف الحقائق وسنخية الافعال.
الثالث: منع الخلط في المفاهيم الأخلاقية.
الرابع: الإخبار عن الملازمة بين الإيمان والصلاح والتي تتجلى بتكرار قوله تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ]( )، فمع الإيمان يأتي عمل الصالحات بقصد العزيمة، وطلب مرضاة الله عز وجل.
الخامس: جهاد المسلمين في محاربة الفساد، وعدم خشيتهم من الكفار.
من غايات الآية
الآية شاهد سماوي على أمور:
الأول: يدافع الله عز وجل عن المسلمين ويذب عنهم، ويدرأ عنهم صنوفاً من البلاء والضرر قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا]( )، وفيه وعد كريم من الله لأجيال المسلمين , ولابد من تجلي مصاديق خارجية له في كل زمان تدرك بالعقل والحواس وتكون موعظة للناس وزاجراًَ للكفار عن الفساد في الأرض.
الثاني : يتفضل الله عز وجل بهداية المسلمين، ويصرف عنهم أسباب المكر والكيد والخداع، بما يؤدي زيادة الى قوتهم ومنعتهم وحصانتهم.
الثالث: تبين الآية وظائف المسلمين الجهادية في تنزيه الأرض من درن الفساد والإضرار.
الرابع: محاربة المسلمين للكفر والجحود وما يؤدي الى الفساد في الأرض.
الخامس: تدعو الآية الناس الى التدبر في عواقب الأعمال , والإستعداد لعالم الآخرة بالإيمان والعمل الصالح.
السادس: تحذر الآية من الغفلة والجهالة , قال تعالى[اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ]( ).
لقد أراد عز وجل للناس السلامة والأمن بالإسلام وهدايتهم الى خير الدنيا والآخرة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءت هذه الآية لغايات حميدة منها:
الأولى: تثبيت المسلمين في مسالك الصلاح والطاعة.
الثانية: زجر الكفار والمنافقين عن الضلالة وأسباب التهلكة.
الثالثة: دعوة عموم الناس لإجتناب الفساد والحذر من أهله.
الرابعة: الآية رحمة بالناس جميعاً ، وصرح ووثيقة في صلاح العقائد الحقة في الأرض.
الخامسة: مضامين الآية حرب على مفاهيم الشرك والضلالة، وفي الآية إشارة الى قانون ثابت وهو الملازمة بين الصلاح والإيمان , والملازمة بين الكفر والفساد، فمن أراد الصلاح والإصلاح فعليه أن يكون صادقاً في إيمانه، مطيعاً لأمر مولاه، مجتنباً لما نهى عنه، ومن إختار الكفر والنفاق فان الفساد مصاحب لهما قهراً وإنطباقاً.
وتدعو الآية المسلمين الى أخذ الحذر والحيطة من المنافقين، والكفار ومنع سلطانهم أو إستحواذهم على الأمور، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ).
ومن خصائص الآية القرآنية ان تأتي ذماً لقوم ، فيكون هذا الذم تحذيراً للمسلمين وحجة لهم.
التفسير
قوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ]
الآية الكريمة بيان لحقيقة الكفار والمنافقين وطبيعة أفعالهم، وتوكيد على إنتمائهم لسنخية الفساد والإضرار، وهي مدد سماوي للمؤمنين لتساعدهم في عدم الإنخداع بإدعاء المعاندين والمنافقين وما فيه من الأخطار الجسيمة.
وقد يضعف إصرار الكفار على تزييف الحقائق همم المؤمنين بما يوجده من إرباك في ملاكات الأعمال وعالم المعتقدات، فقد يؤثرون في بعض ممن لم يكتمل ويرسخ الإيمان في نفسه لحداثة الإيمان او لضعفه وللنقص الشخصي المؤقت في روافده.
فجاءت الآية الكريمة مدداً وعوناً وإخباراً عن ماهية الذي يسـمونه صلاحاً , وانه في الحقيقة فساد يجب ان يجتث من الأرض وان لا يسمح له بالتلبس برداء الهدى.
وفي الآية إعجاز بالوصف اللاحق والسابق لفعلهم ونعته بالفساد والإفساد، وأنهم سوف لن يقوموا بما فيه الصلاح والإصلاح، فلو جاءوا بالصلاح فعلاً لحدث الإرباك.
وتؤكد الآية إفساد الكفار وسوء إختيارهم وقبح فعلهم، وتحث المسلمين على إتخاذ الحيطة منهم والحذر من أعمالهم وضرورة التصدي لهم وكشف خطئهم وضلالتهم، وهذا لا يمنع من تغير وتبدل طبيعة فعل بعضهم وانتقاله من حظيرة الفساد والخداع والتضليل الى صفوف المؤمنين فيختلف الحكم أزاءه حينئذ لإختلاف الموضوع.
وجاءت الآية نفسها تحذيراً للمنافقين ودعوة لهم لنبذ النفاق خاصة بعد انكشاف حقيقته وهوية أشخاصه وأهله بهذه الآيات وأخذه بالإنحسار والتراجع، وبذلك تتجلى المساهمة الجهادية لآيات القرآن، وهو من إعجاز القرآن بأن تأتي الآية بصيغة الجملة الخبرية فتقيد في دلالتها الإنشاء المتعدد في موضوعه والجهة التي يتوجه إليها.
ومن إعجاز القرآن انه أخبر عن ظاهرة النفاق ووجود من ينتمي اليه من بين ظهراني المسلمين، ولم تترك آياته هذه الظاهرة أملاً بزوالها او لقلة شأنها، او منعاً من ان يكون الإعلان عنها سبباً في نموها وإزدياد أفرادها، ففضحها يدل على قوة الإسلام ووضع القرآن للأحكام والقواعد التي ترسخ الإسلام في الأرض والنفوس.
ونعتهم بالمفسدين بسبب إصرارهم على الخداع إنذار لهم , وإخبار عن سعيهم في حجب اللطف الإلهي عنهم لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ] ( )،
قوله تعالى [وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ]
ذم وتوبيخ المنافقين والكفار على فعلهم ومداركهم العقلية فهم لا يعلمون بانهم مفسدون ولا يشعرون بـأمور :
الأول: إنهم منهمكون في الإضرار بالمجتمع.
الثاني: يسعون لوقف دخول الناس في مسالك الهدى.
الثالث: منافاة فعلهم للصلاح وتناقضه معه.
الرابع: الصلاح غير موجود خارج مناهج الإيمان.
الخامس: خطأ الموازين والإعتبارات التي ينظر المخادعون من خلالها للأمور.
السادس: ما ينتظرهم من العذاب الأخروي الأليم.
السابع: انكشاف حالهم وسوء سرائرهم.
الثامن: وقف تأثيرهم في الأفراد والمجتمعات.
التاسع: معرفة المسلمين باشخاصهم والمعصية التي يرتكبون.
العاشر: إطلاع المؤمنين على حقيقتهم ومكرهم.
الحادي عشر: فشل تآمرهم وضعف كيدهم ووهن جماعتهم وما يعتقدون.
الثاني عشر: ما يعد لمواجهتهم والتصدي لهم.
الثالث عشر: إنكشاف زيف إدعاءاتـهم ومحاولتهـم لبس الحـق بالبـاطل.
الرابع عشر: إنحسار نشاطهم بعد نزول هذه الآيات وسد الفرجات التي يمكن ان ينفذوا منها لقلوب المؤمنين وأعمالهم.
الخامس عشر: القوة الإضــافية التي جــاءت للمسلمين بسبب نزول هذه الآيات وما فيها من البيــان الصــريح، والمـــدد الروحي الذي يقوي عزائمهم ويجعل عندهم أســباب الوقاية من خــداع وكيــد المنافقـين.
السادس عشر: انهم ينشرون الفساد والشر في الأرض وبين الناس، ويتعمدون التعدي على الإسلام.
السابع عشر: انهم يبـؤون بإثمهم وإثم غــيرهم ممن يقتــدي بهم او يســمع قولهــم.
الثامن عشر: تجعل الآية المفسدين يشعرون بأن الله عز وجل لايحبهم وفيه إنذار إضافي لهم، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ]( ).
التاسع عشر: إن إدعاء الصلاح لن يغير من صبغة الفساد التي تطبع أفعالهم وإستحقاقهم الذم من الله عز وجل والمسلمين وغيرهم.
العشرون: الآية فضح وخزي لهم.
الحادي والعشرون: يعجز الكفار عن التمييز والفصل بين أدنى مراتب الصلاح وأقل مراتب الفساد قبحاً , والبرزخ بينهما.
الثاني والعشرون: انهم مكلفون حتى مع معرفتهم بحقيقة ونوع فعلهم.
الثالث والعشرون: هذه الآية إنذار لهم وفرصة للتوبة.
الرابع والعشرون: ضرورة إنتصار الإسلام ، وإجتثاث الفساد من الأرض.
الخامس والعشرون: لا يشعر الكفار بأن البلاء والعذاب حال ويحل بساحتهم , قال تعالى[فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( ).
جاءت الآية إحتجاجاَ من الله عز وجل على الكفار والمخادعين , فمن فضل الله على المسلمين التخفيف عنهم في باب الجدل وتعضيدهم بالقرآن في إقامة البرهان على الكفار.
لقد أخبرت الآية السابقة عن تحذير الكفار من الإفساد في الأرض وزجرهم عن الكفر والفواحش وإيذاء المؤمنين , ولكنهم ردوا مغالطة بالقول (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ( )
فتفضل الله بآية البحث بالقطع بأن الكفار والمنافقين هم المفسدون وهو أشد من قوله تعالى (لاَ تُفْسِدُوا) الذي هو نهي عن الفساد, أما نعتهم بالمفسدين فيدل على تلبسهم بصفة الفساد, وإستحقاقهم للذم والعقاب وفيه نكتة وهي نسخ الآية لدعواهم بالصلاح, وعدم ترتب الأثر عليها ,ودعوة الناس للتدبر في أقوالهم وأفعالهم , ليكون ما فيها من الإفساد شاهداَ على صدق القرآن, ونزوله من عند الله , لأنه يتحدى الكفار في فعلهم وسلوكهم فلا يستطيعون إنكار هذه الحقيقة ,سواء فيما مضى من أفعالهم أو ما سيأتي منه.
وفي إبراهيم خليل الله ورد قوله تعالى (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) ( ), أي في الجدل والإحتجاج الذي جرى بينه وبين نمرود.
وقيل كان نمرود أول ملك في الأرض , وأول من وضع التاج على رأسه .
وتتضمن الآية الإحتجاج من الله عز وجل في آية البحث على الكفار لتفضحهم وتخزيهم وفيه تفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن الله عز وجل يحتج على الكفار الذين يحاربونه , وللتخفيف عنه وعن المسلمين,فيكفي المسلم في باب الإحتجاج تلاوة آية البحث بإعتبارها سلاحاَ ضد الكفر والإفساد في الأرض.
وعندما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بسبب إفساد الإنسان في الأرض جاء الرد والإحتجاج من الله عز وجل (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) ( ) .
ومن علم الله عز وجل أنه يفضح المفسدين في قبيح فعلهم , وكذب إدعائهم الإصلاح , لتكون حرباَ على الفساد وآلة سماوية لإجتثاثه من الأرض ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهذا الإجتثاث أمر وجودي وليس عدمياَ .
وهو من فضل الله عز وجل بأن رزق الإنسان العقل , ومن بديع صنع الله وسعة رحمته أن الناس في هذه النعمة شرع سواء.
وورد في علم المنطق تعريف الإنسان بأنه (حيوان ناطق) للفصل بينه وبين الحيوانات بالنطق , ولكن يمكن إيجاد تعريف آخر لا يجمعه مع الحيوانات على نحو الخصوص للتباين بالجنس لأن الله عز وجل نزهه ورفع منزلته من بين الموجودات الأرضية بالعقل , فيمكن إطلاق إصطلاح (المخلوق العاقل) (العبد العاقل) ويمكن تسميته بما يكون جنساَ مستقلاَ بذاته مثل (العاقل الخاشع) (العاقل المحتاج) .
ويمكن إطلاق تسميته وتعريفه بلفظ واحد بسيط وهو (الخليفة) على القول بأن الخلافة عامة في جنس الإنسان , ولفظ الخليفة مفرد وفق إصطلاح النحو والنظر فيه إلى البناء والإعراب , واسم (عبد الله) مركب من جهة الإعراب , وهو مضاف ومضاف إليه.
أما في إصطلاح علم المنطق فهو مفرد لأن جزء هذا اللفظ (عبد الله لا يدل على جزء من معناه , والمركب في علم المنطق مثل (هم المفسدون) ف(هم) جزء المركب , وكذا (المفسدون) .
قوله تعالى[ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ] الآية13.
الإعراب واللغة
(واذا قيل لهم) الواو : حرف عطف، إذا : ظرف للزمان المستقبل، مضاف إلى الجملة الفعلية.
قيل : فعل ماض مبني للمجهول، وجملة (قيل) في محل جر بإضافة الظرف اليها.
لهم : جار ومجرور متعلقان بقيل ، ونائب الفاعل على وجوه في معناه كما سيأتي في التفسير .
آمنوا : فعل أمر مبني على حذف النون، الواو : فاعل.
كما : جار ومجرور، نعت لمصدر محذوف، والتقدير آمنوا إيماناً كإيمان الناس.
آمن : فعل ماض مبني على الفتح، والفعل الماضي لا محل له من الإعراب أي ان عوامل النصب والرفع والجزم لا تؤثر عليه، وفي الصناعة النحوية يعتبر الأثر على المحل فاذا وقع جواب شرط بعد اداة جازمة يكون مجزوم المحل مثل “ان صامَ ابنك فأكرْمه”.
الناس : فاعل مرفوع بالضمة.
قالوا : فعل ماض , وواو الجماعة فاعل .
أنؤمن : الهمزة للإستفهام الإنكاري، نؤمن : فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن، كما : جار ومجرور، أمن السفهاء : فعل وفاعل، ألا: حرف تنبيه، انهم: حرف مشبه بالفعل واسمه، هم : ضمير فصل، ويجوز ان يكون مبتدأ.
السفهاء : خبر مرفوع بالضمة، ولكن: الواو : حرف عطف، لكن للإستدراك مخففة من لكن المشددة ، لا: نافية، يعلمون: فعل مضارع مرفوع، الواو : فاعل.
الألف واللام في الناس تكون للعهد، والمقصود المؤمنون الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتكون للجنس حسب قاعدة (المعنى الأعم) المطابقة للإطلاق الشمولي لآيات القرآن واستيعابها لأفراد الزمان والاجيال المتعاقبة، خصوصاً وان موضوع الآية يتكرر في كل زمان.
السفهاء : جمع سفيه، وهو ضعيف الرأي ، وناقص الحلم ، وقليل المعرفة ، وسيء التدبير ، والجاهل بأسباب الإحتياط ومواضع النفع او الضرر , البعيد عن طرق الحيطة والحذر، ويقال : ثوب سفيه اذا كان رقيقاً بالياً، وسفهته الريح : إذا طيرته وبعثرته في هبوبها.
وورد في بعض الأخبار أن شارب الخمر سفيه وان الصبيان سفهاء تفســيراً لقـوله تعالى [ وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكمْ ]( ) والمقام يتعلق بالأحكام التكليفية وليس الوضعية.
في سياق الآيات
بعد ان بينت الآيات السابقة على نحو النص المتضمن للقطع والجزم والتحدي المقترن ضرورة بالبرهان سوء صنيع اهل العناد والنفاق، جاءت هذه الآية لتخبر عن فساد عقيدتهم وسوء إعتذارهم والخطأ في المقدمات الذي أدى بهم الى الغفلة والجهالة، والتناقض في أقوالهم بما يجعلهم يستحقون الذم .
لقد تضمنت الآية قبل السابقة ذم الكفار وأنهم مفسدون ونفي الكفار عن أنفسهم الفساد، عناداً وإستكباراً ، وجاءت الآية السابقة بنعتهم بالفساد والإخبار عن تلبسهم به وهم لا يشعرون به وبأضراره، وجاءت هذه الآية في دعوة الكفار الى الإيمان ، وردهم السلبي على هذه الدعوة، والإخبار الإلهي عن ضلالتهم وسوء فعلهم بإصرارهم على التخلف عن الإيمان.
لتكون هذه الآية حجة إضافية , وتدرجاً في الإحتجاج، وكشفاً لماهية الفساد التي عليها الكفار والمنافقون ، وتبين هذه الآية المائز الذي يفصل بين الصلاح والفساد وهو الإيمان، فمن أراد ان يتخلص من الفساد، ويثبت انه صالح بذاته، ومصلح في عمله فعليه بالإيمان بالله عز وجل والتصديق ببعثة الأنبياء ونبذ الكفر والضلالة، وهجران النفاق والخداع والباطل.
ولأن موضوع هذه الآية والآية السابقة واحد، فقد وصفت الآية السابقة المخادعين من الكفار والمنافقين بأنهم لا يشعرون، ووصفتهم هذه الآية بأنهم لا يعلمون ، ومن خصائص أهل الجحود والضلالة مرض القلوب، فجاءت هذه الآيات ذماً لهم بقوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ].
وتبين الآية التالية وجهاً من وجوه خداعهم وفسادهم بان يتظاهرون بالإيمان أمام المسلمين كذباً، وسرعان ما يؤكدون جحودهم عند الخلوة فيما بينهم مع إدعاء الإستهزاء والإستخفاف بالمسلمين.
وهذا الجحود والإدعاء من مصاديق الفساد ونشر مفاهيم الضلالة في الأرض، فمن إعجاز القرآن انه جاء بالأخبار التي تؤكد صدق إحتجاجه وتبطل قول الكفار لتغزوهم آياته في عقر دارهم ، وتكشف سوء سرائرهم ، وتدعوهم للتوبة والإنابة، وتمنع من أذاهم وإضرارهم بالمسلمين.
وإبتدأت هذه الآية والآية قبل السابقة، والآية التالية بظرف الزمان “إذا” الذي يتضمن معنى الشرط.
وتتضمن هذه الآية نعت الكفار للذين أسلموا بأنهم سفهاء لا لشيء إلا لأن الدعوة الى الإيمان توجهت إلى الكفار، أما الآية التالية فأخبرت عن تصاغرهم أمام المسلمين , وتلبسهم بالنفاق والكذب، وفيه مسائل :
الأولى : تعدد وكثرة الذين يدعون الكفار للإيمان في قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا]، وتأتيهم الدعوة من المسلمين وغيرهم وفي التنزيل[يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( )، وصلة آية البحث بالآية أعلاه أن فريقاً من الكفار المخادعين يسعون لصد الناس عن الإسلام بزجرهم عن الإلتحاق بالذين دخلوا الإسلام ومحاكاتهم في حسن فعلهم، ويتصف هذا الزجر بوجوه:
الأول: إنه كلام وقول لا يتعدى اللسان، مما يدل على عجز الكفار عن منع الناس بالإكرام عن دخول الإسلام.
الثاني : بداية إشراقة عهد جديد وهو إصابة الكفار بالوهن والضعف وإكتفاؤهم بالإفتراء.
الثالث: لم يرم الكفار المسلمين بالسفه إلا بعد دعوتهم إلى الإسلام، ولم يدع القرآن لتركهم والإعراض عنهم، فلو دار الأمر بين أمرين:
الأول: ترك الكفار وشأنهم لإجتناب إستخفافهم بالمسلمين ووصفهم بالسفه .
الثاني : دعوة الكفار للإيمان .
الجواب هو الثاني، وهو الذي تدل عليه آية البحث مع إقترانه بفضح وذم الكفار.
الثانية : ظهور الدعوة إلى الإسلام في منتديات أهل الكتاب والكفار، وفي مجالسهم الخاصة وداخل بيوتهم وشيوع الدعوة إلى الإيمان.
الثالثة : إنهم يظنون ان المسلمين يصدقون إدعائهم الإسلام، لأنهم ينعتونهم بالسفاهة ، ويظن الكفار تصديق المسلمين لهم من عمومات السفاهة التي نعتوهم بها.
فجاءت هذه الآية عوناً للمسلمين، وفضحاً للكفار ، وتتضمن الإخبار بان المسلمين ليسوا بسفهاء من وجوه:
الأول : حسن إختيارهم الإسلام.
الثاني : تصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والآيات والمعجزات التي جاء بها.
الثالث : المدد الإلهي للمسلمين في هذه الآية، ويتجلى هذا المدد هنا في وجهين :
الأول : مدح المسلمين والثناء عليهم.
الثاني : نعت الكفار بانهم السفهاء والجهلاء الذين لا يعرفون مواضع النفع والضرر والتمييز بينهما.
الرابع : هذه الآية سلاح وقانون سماوي مستديم إلى يوم القيامة , وإخبار عن المدد الإلهي للمسلمين ، وبعث العز في نفوسهم ، والإستبشار والرضا بإختيار الإسلام [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا]( ).
الخامس : فضح الكفار وزيف إدعائهم الإيمان من وجوه :
الأول : كذب وبطلان إدعائهم الإيمان وبحضرة المسلمين.
الثاني : فضح كلامهم في منتدياتهم الخاصة وعند رؤساء الضلالة والجحود.
الثالث : بيان النفاق والتضاد في كلام الذين كفروا.
وأختتمت هذه الآية بقوله تعالى [وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ] لتدل على ان قولهم [إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] في خاتمة الآية هو من جهلهم وإضرارهم بأنفسهم بقيامهم بالإستهزاء بالمسلمين.
إعجاز الآية
في الآية يدافع الله عز وجل عن المؤمنين ويوفر لهم أسباب الجدال مع اهل المغالطة والضلالة، ويفضح وجوه التعدي على المسلمين وأسبابه وأشخاصه.
وتتجلى فيها لغة الإحتجاج وفضح مغالطة المخادعين وسفه عقولهم، وفيها بشارة إتساع الإسلام وغلبة الايمان لقوله تعالى [ كَمَا آمَنَ النَّاسُ ] ، ونعت من إمتنع عن إتباع نهجهم بالسفه، ويعني في مفهومه ملازمة الرشد والحكمة للإيمان.
وتتضمن الآية الدعوة المباشرة للإيمان بإعتباره الوسيلة الوحيدة للقضاء على الفساد، فنهت الآية السابقة عن الفساد بالذات، وعندما لم يستجب المنافقون والكفار لما ورد فيها من القول جاءت الدعوة التي تقضي على أصل الفساد وهو الكفر والضلالة، فمع الإيمان يكون الصلاح والإصلاح، ويستطيع كل مؤمن التمييز بين الصلاح والفساد، إذ يحرص على إتيان ما أمر الله به وإجتناب ما نهى عنه، وتدل الوقائع التأريخية على ان الكفار والمشركين بذلوا الوسع لصد الناس عن الإسلام.
فجاءت هذه الآية لتؤكد لهم عدم ترتب الأثر على صدهم وسوء فعلهم، ولم يبق منه إلا الإثم والوزر عليهم، وفيها دعوة لهم للنجاة من تلك الآثام.
وتبين الآية عالمية الدعوة الإسلامية، ومجيء رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً، فمع إيمان شطر من الناس فان القرآن لم يترك الشطر الآخر، وتوجه إلى المفسدين ، وتضمنت آياته الدعوة المفتوحة لهم لدخول الإسلام ، وفيه دعوة لغيرهم ممن تخلف عن الإسلام.
والآية الكريمة مدد للذين يدخلون الإسلام باخبارهم بأن الكفار سينعتونهم بالسفهاء وناقصي العقول، وأن اللوم سيتوجه لهم لدخولهم الإسلام ولأدائهم الفرائض، ومن أسرار مجئ الفعل مبنياً للمجهول (إذا قيل) ولغة العموم (قالوا أنؤمن) أمور:
الأول: تعدد الجهات والأفراد الذين يوجهون الدعوة للكفار لدخول الإسلام.
الثاني: تجلي معاني الحق والصدق في الدعوة الإسلامية.
الثالث: الإتحاد بين الإسلام والإيمان، فلا يقال للكفار(أسلموا) بل يقال لهم(آمنوا).
الرابع: دعوة المسلمين للصبر على التعدي والإساءة الصادرة من الكفار برميهم بالسفه، ونقص العقل، ويدل في مفهومه على ظهور الإسلام، وزيادة قوة المسلمين، ومنعهم من البطش بسبب الإفتراء والقذف، وقد خفف الله عز وجل عنهم بآية البحث التي هي رد سماوي على الكفار، ودحض لمغالطتهم.
لقد نصر الله عز وجل المسلمين في معارك الدفاع الأولى بآية ومدد ملكوتي، قال سبحانه[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، وجاءت آية البحث لنصر المسلمين في أمور:
الأول: الجدال ودفع الشبهات.
الثاني:مقابلة مغالطة وإفتراء الكفار بالحجة والبرهان.
الثالث:تعليم المسلمين صيغ الإحتجاج، وهو من عمومات قوله تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )، ومن الحسن في المقام أمور:
الأول: دعوة الناس جميعاً للإسلام.
الثاني: عدم التردد في دعوة الكفار، فان تعديهم وإفتراءهم بل وقتالهم المسلمين لا يمنع من توجيه الدعوة لهم لدخول الإسلام، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأمر أمراء السرايا بعدم قتال العدو قبل دعوته إلى الإسلام، والذي يرفع السلاح بوجه المسلمين أشد عداوة وضرراً من الذي ينعتهم بالسفه وخفة العقل.
الثالث: نسخ إدعاء الكفار وكشف زيف وبطلان إدعائهم خفة عقل الذين يدخلون الإسلام.
الرابع: تأكيد سلامة إختيار المسلمين الإيمان بالإخبار عن سفاهة عدوهم.
وفي الآية إخبار للناس جميعاً بأن الله عز وجل يعلم ما يقوله الكفار في منتدياتهم، وما يأتونه من صيغ المكر.
ويمكن تسمية الآية بآية (آمن الناس) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
في الآية نفع وعون مركب فهي إنذار للكفار وفيها حجة عليهم ورحمة لهم، لأن ذم ما هم عليه نوع موعظة وتذكرة ونصح ولطف، وفيها ذب عن أهل الإيمان وحصانة من إفتراء وإستخفاف أهل العناد واللجاج.
وتعتبر الآية ناصــراً ومــؤازراً للمســـلمين في كل زمـــان، وفيها اكـــرام لهم وتجعلهم يفتخرون فيما هم فيه ويطمئنون الى سلامة نهجهم.
لقد أطلق الكفار تعدياً وبهتانا نعت السفه على المسلمين لمبادرتهم لدخول الإسلام او لأن الفقراء والمستضعفين والعبيد بادروا الى دخوله مع الأشراف فلم يكن دين الخاصة والأغنياء، وجاءت خطابات التكليف للمكلفين جميعاً بعرض واحد .
وتبين الآية مسائل :
الأولى: جهاد المسلمين في الدعوة الى الله تعالى.
الثانية: تعدد صيغ الدعوة إلى الإسلام.
الثالثة: عموم الجهات والفئات التي تتوجه اليها الدعوة.
الرابعة: لا يكتفي المسلمون بالدعوة إلى الإسلام، بل هم أنفسهم مدعوون لمحاربة الفساد وفضح المفسدين، وهل الدعوة إلى الإسلام من مصاديق هذه المحاربة، الجواب نعم، من جهات:
الأولى: نشر مبادئ التوحيد في الأرض.
الثانية: تدل الدعوة إلى الإسلام في مفهومها على بطلان وخطأ البقاء على الشرك والضلالة.
الثالثة: مهاجمة الكفر والضلالة، وطرد مفاهيمه من النفوس.
الرابعة: فوز المسلمين بالأجر والثواب على الدعوة إلى الإسلام، وبلوغ دعوتهم أرباب الضلالة والفساد.
الخامسة: التأكيد العملي لجهاد المسلمين في سبل الصلاح، قال تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
الخامسة: ذم وتقبيح العناد والإصرار على المعصية من قبل الكفار، وتوجه الدعوة إلى الإسلام والنجاة من العذاب الأليم في الآخرة، فمع نعتهم فريقاً من الذين بادروا الى دخول الإسلام بالسفه ظلماً وتعدياً وزوراً فان الخطاب التكليفي والدعوة للإيمان لم تنقطع عنهم بل تصل اليهم مثلما تصل الى غيرهم لتنقذهم من السفه الذي يتمثل بشرائهم زينة الحياة الدنيا وتركهم السعي للإقامة في النعيم في جنة الخلد التي أعدها الله عز وجل للمؤمنين.
أسباب النزول
روي ان عبد الله بن أبي وأصحابه خرجــوا ذات يوم فاستــقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال عبد الله إنظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم فاخذ بيد ابي بكر فقال: مرحباً بالصدّيق سيد بني تيم وشيخ الاسلام وثاني رســـول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار والباذل نفسـه وماله لرسول الله ثم اخذ بيد عمر فقال : مرحباً بســـيد بني عدي الفارق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم اخذ بيد علي فقال: مرحباً بابن عم رسول الله وختنه وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله، ثم إفترقوا فقال لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت؟ فاثنوا عليه خيراً فنزلت( ).
والآية أعم في موضوعها من أسباب النزول ، وما ذكر قضية في واقعة تتناسب وموضوع الآية التي جاءت جزء من آيات تتحدث في سياقها عن شريحة من الناس تهدد القيم الأخلاقية للمجتمعات وتهتك الحرمات وتحارب الدين.
إن مبحث (في سياق الآيات) الذي جعلناه باباً في تفسير كل آية يساهم في ضبط وتنقيح بعض المسائل، فالآية تظهر نوعاً ثالثاً من قبائح أفعال المخادعين وإن أطلق عليهم عدد من المفسرين في المقام المنافقين ( وقال الرازي في تفسير الآية: وإنما سمى المنافقون المسلمين بالسفهاء، لان المنافقين كانوا من أهل الخطر والرياسة، وأكثر المؤمنين كانوا فقراء( ).
وموضوع الآيات أعم فالظاهر ان المقصودين في الآيات الكريمة أعم من الذين يخفون الكفر ويظهرون الإيمان , لتشمل الذين أظهروا ما يدل على كفرهم وتنكروا للإيمان وإستخفوا بالمسلمين الذين آمنوا برسالة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وجهروا بالكفر والجحود ولو على نحو السالبة الجزئية وفي مجتمعاتهم الخاصة.
الآية لطف
من اللطف الإلهي وصول الدعوة إلى الناس جميعاً بما فيهم الذين أصرّوا على العناد والإستكبار، وأظهروا الفساد في الأرض، لأن الإنتماء للإسلام توبة وإنابة وإنتقال الى عالم الصالحات، وتنزه عن الفساد والإفساد، وقد جعل الله عز وجل الصلاة واجباً يتجدد خطابه التكليفي خمس مرات في اليوم لتكون وسيلة لإجتناب الفساد في أفراد الزمان بينهما.
لقد جاء الجواب في الآية على نحو الإستفهام الإستنكاري “أنؤمن كما آمن” ولا يعني هذا الكف عنهم، فيفيد قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا] التعدد والتكرار، وهذا التعدد من اللطف الإلهي، والآية لطف ومدد للمسلمين، لأن ذم القرآن للمنافقين يقذف في قلوبهم الرعب والفزع من الإسلام والمسلمين.
لقد أخذت الدعوة الإسلامية منهجاً عاماً إذ توجهت إلى أهل الملل والنحل جميعاً وكانت الإستجابة كماً وكيفاً معجزة وآية من عند الله الله، من وجوه:
الأول: كثرة الناس الذين يدخلون الإسلام.
الثاني: إختلاف وتعدد قبائل المسلمين.
الثالث: دخول أفراد وجماعات من أهل الملل الأخرى كاليهودية والنصرانية والمجوسية.
الرابع: دخول أشخاص الإسلام من فارس كسلمان الفارسي , ومن الحبشة كبلال , والروم كصهيب بن سنان الرومي ليكونوا نواة وسابقين لقومهم، وبشارة إتساع دولة الإسلام ودخول الأمصار والأمم المختلفة فيه .
ومن الآيات أنه لم تمر إلا سنوات معدودة حتى تتحقق هذه النعمة والتي جاءت على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه مع عدي بن حاتم الطائي عندما أسلم .
وعن عامر الشعبي قال: قدم عدي بن حاتم الكوفة، فأتيته في أناس من أهل الكوفة فقلت له: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بعث رسول الله بالنبوة فلا أعلم أحداً من العرب كان أشد له بغضاً ولا أشد له كراهيةً مني حتى لحقت بالروم فتنصرت فيهم ، فلما بلغني ما يدعو إليه من الأخلاق الحسنة وما قد اجتمع الناس إليه ارتحلت أتيته، فوقفت عليه وعنده صهيب وبلال وسلمان، فقال: يا عدي بن حاتم، أسلم تسلم.
فقلت: إخ إخ، فأنخت، فجلست، فألزمت ركبتي بركبته فقلت: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، يا عدي بن حاتم، لا تقوم الساعة حتى تفتح خزائن كسرى وقيصر، يا عدي بن حاتم، لا تقوم الساعة تأتي الظعينة من الحيرة ولم يكن يومئذ كوفة حتى تطوف بهذه الكعبة بغير خفير، يا عدي بن حاتم، لا تقوم الساعة حتى يحمل الرجل جراب المال فيطوف به فلا يجد يقلبه، فيضرب به الأرض فيقول: ليتك لم تكن، ليتك كنت تراباً) ( ).
الخامس: دخول علماء من أهل الملل الأخرى، وقادة وزعماء، ليكونوا حجة إضافية على الذين ينعتون الذين يدخلون الإسلام بالسفه.
ونعت المنافقين والمخادعين لهم بالسفهاء وقلة المعرفة، سواء على نحو الإطلاق وإرادة المهاجرين والأنصار، أو أنهم كانوا يقصدون جماعة اليهود الذين بادروا الى دخول الإسلام كعبد الله بن سلام وأخيه، وتفضل الله تعالى ودافع عن المؤمنين كافة، ورد كلام الكفار والمنافقين .
وما هي النسبة بين كلامهم ونعتهم المؤمنين بالسفهاء، وبين وصف الله عز وجل للمنافقين واهل الجحود بانهم هم السفهاء , فيه وجوه :
الأول : التساوي في الوصف.
الثاني : رد التعدي عليهم.
الثالث : التباين.
والصحيح هو الثالث، فمع إتحاد اللفظ والوصف وهو السفه، فان وصف المنافقين للمؤمنين إفتراء وتعدِ، اما وصف الله عز وجل للمخادعين بالسفهاء فهو حق وصدق، ويحتمل نعتهم بالسفه وجوهاً :
الأول : لرميهم المؤمنين بالسفاهة.
الثاني : إصرارهم على الكفر والنفاق.
الثالث : لجهالتهم.
الرابع : إفسادهم في الأرض وإدعائهم أنهم مصلحون.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة.
تطرد الآية اليأس عن قلوب المسلمين والناس جميعاً، فالذين يفسدون في الأرض يقال لهم تنزهوا من الفساد، وأثبتوا صدق قولكم بانكم مصلحون بالإيمان بالله ورسوله، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وفيه لطف بأطراف :
الأول : الذين يَدعون الى الإسلام .
الثاني : الذين يُدعون له .
الثالث : الذين يعلمون بهذه الدعوة وتوجهها إلى غيرهم.
وكل طرف يأخذ منها ما ينفعه ويتعظ منه.
ولم تقل الآية “كما آمن المؤمنون” بل ذكرتهم بصفة الناس، وفيه وجوه :
الأول : إرادة بداية دخولهم الإسلام.
الثاني : الإشارة إلى من كان مع المفسدين أو قريباً منهم ويعلمون حاله، وكيف أنه إختار الإسلام.
الثالث : تعدد وكثرة الذين أسلموا وظهور أمرهم وعدم خفائه أو ستره، وفيه إشارة الى قوة الإسلام وعز المسلمين، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الرابع : دخول الناس من مختلف الملل والنحل الإسلام، وهو الأمر الذي تؤكده الوقائع والأخبار المتواترة والمستفيضة.
مفهوم الآية
تتضمن الآية الدفاع عن المسلمين بنعت عدوهم والمتخلف عما إختاروه من الهداية بالسفه، ومن مفاهي ىم الآية انها تنفي السفه وضعف الرأي عن المسلمين بالقياس والمفهوم، فالكفر والنفاق سفه، والايمان نقيض السفه، فالمسلم ليس بسفيه.
وتدعو الآية الى الإحتجاج عليهم بالبرهان واثبات ملازمة السفه للكفر، وإعانتهم على معرفة ما هم عليه من الجهل والضلالة وهذه الإعانة لها منافع متعددة منها :
الأول : معرفة المخادعين لقبح قولهم، وحقيقة ما هم عليه وسوء ما يفعلون.
الثاني : إقامة الحجة عليهم.
الثالث : التخفيف عن المسلمين.
الرابع : الحد والتقليل من إيذاء الكفار للمسلمين.
الخامس : الإنذار والوعيد والتخفيف.
السادس : إشغال الكفار والمنافقين بأنفسهم.
السابع : الآية مناسبة للصلاح وباب مفتوح للتوبة .
الثامن : حث أهل الكتاب والناس جميعاً على إكرام المسلمين لأنهم إتبعوا الحق ، والعلم يدور مدار رؤية الحق وإتباعه.
ومن مفاهيم الآية عدم اليأس من توبة ودخول المخادعين الإسلام، وأن خطابات التكليف والدعوة إلى الإيمان تتوجه لهم لكي يصلحوا سريرتهم، ومن موارد تهذيب السلوك والأفعال ان يدعى الناس ليكون عملهم مرآة لنياتهم ومقاصدهم.
أما المنافقون والمخادعون فانهم يُدعون ليكون باطنهم مثل ظاهرهم، وإسرارهم مثل ما يعلنون على ألسنتهم، فاقوالهم حجة عليهم لأنها تؤكد الرضا الظاهري بدعوى الإيمان والتصديق بالنبوة.
وفي الآية مسائل :
الأولى : تتضمن هذه الآية الإخبار بان المنافقين والكفار لم يتركوا وشأنهم، ويقوموا بالفساد من غير زجر وردع وتحذير، فبعد ان جاءت الآية السابقة بتوكيد فسادهم وعدم إعتبار انكارهم، جاءت هذه الآية لتتضمن قولاً آخر موجهاً لهم بما يفيد نفعهم في الدنيا والآخرة، إذ ينجيهم الإيمان من الفساد ، ومن الإضرار بأنفسهم وغيرهم، ويجعلهم في مأمن من العذاب الأخروي.
الثانية : تعدد مواضيع ومصاديق الأمر بالمعروف الذي يتوجه الى الكفار والمنافقين من المؤمنين وغيرهم، وملاحقة الآيات القرآنية بما يهدف الى صلاحهم ونبذهم الفساد .
وهل تلاوة آية البحث من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجواب نعم، من وجوه:
الأول: الزجر عن نعت المسلمين بالسفهاء وخفة العقل.
الثاني: عدم صيرورة إستهزاء الكفار بالمسلمين برزخاً دون دعوة الناس للإسلام.
الثالث: السعي لتهذيب النفوس، وإصلاح المجتمعات، ونجاة الناس من السفه.
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه حكمة وعلم وحرب على السفه، فان قلت تشهد آية البحث بوجود أمة من الناس يتصفون بالسفه، والجواب إنما هم سفهاء باعراضهم عن القرآن، وإصرارهم على الكفر والجحود، وآية البحث تدعوهم للإسلام والتنزه من السفه.
الثالثة : التخفيف والتيسير على المفسدين بدعوتهم للإيمان بالإقتداء بغيرهم ممن كان على ملتهم وأسلم وأحسن إسلامه مع نكتة في ورود لفظ “الناس” في الآية، وهي الإشارة الى كثرة الذين آمنوا مما يعني إنتفاء الحرج والشك في الإسلام.
الرابعة : تبين الآية فضل الصحابة وأهل البيت الذين بادروا الى الإسلام قبل غيرهم، إذ صاروا أسوة وقدوة وحجة على القوم الظالمين وآية في الأرض لإصلاح النفوس ومحاربة الفساد في الأرض.
الخامسة : تدعو الآية المنافقين الى صدق الإيمان، وجعل باطنهم كظاهرهم وترك الشرك الخفي، والجحود النفسي، وتحثهم على أن يكون إيمانهم صادقاً، وجاء لفظ “الناس” للثناء على الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم أو يقترن معه فساد.
السادسة : من إعجاز القرآن انه لم يقف عند ذكر ما يقال للكفار والمنافقين وما يتضمن توبيخهم، بل جاء بذكر قولهم ورده , وفيه وجوه :
الأول : انه حجة إضافية عليهم.
الثاني : فيه دلالة على بلوغ المسلمين مراتب عالية من التفقه في الدين, والقدرة على الإحتجاج.
الثالث : إدراك المسلمين الذين أسلموا منزلتهم العظيمة، وفوزهم وحسن إختيارهم.
الرابع : الآية واقية للمسلمين من الفساد وما يثيره الكفار والمنافقون من أسباب الشك والريب، فإذا جاء ضرر ووصف قبيح لهم من الكفار فانه لا يضرهم ، كما تخبر هذه الآية.
الخامس: أظهرت الآية وجهاً من وجوه الفساد الذي يرتكبه الكفار والمنافقون بان يسموا فريقاً من المؤمنين بالسفهاء ويرموهم بخفة العقل، وهذه الآية واقية وسلاح للمسلمين من شر وأذى الكفار والمنافقين.
السادس: إبطال مغالطة الكفار.
السابع: جعل الكفار مشغولين بأنفسهم، يلوم بعضهم بعضاَ على رمي المسلمين بالسفاهة، ورجوع النعت عليهم.
الثامن:لعل موضوع الآية من عمومات قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( )، بلحاظ أن الآية أعلاه لاتختص بقصص الأمم السالفة، بل تشمل الوقائع والحوادث.
السابعة : تفضل الله عز وجل ببيان الحقائق، والإخبار بان الكفار والمنافقين هم أهل الجهل والسفه وقلة المعرفة، ويتصفون بضعف الرأي على نحو مركب من وجوه :
الأول : إصرارهم على فعل ما يجلب الضرر والأذى لهم ولغيرهم.
الثاني : عدم علمهم بجهلهم.
الثالث : جدالهم بالباطل.
الرابع : عدم علمهم بانهم لا يستطيعون الا الإضرار بأنفسهم لذا
قال تعالى [وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] ( ).
الثامنة : بلوغ الدعوة الى الإسلام الى أعدائه، فمع إصرارهم على المعصية، ونشرهم للفساد في الأرض فان المسلمين يدعونهم الى الإسلام، وفيه شاهد على بقاء باب التوبة مفتوحاً ، والإسلام يجبّ ما قبله.
التاسعة : عدم ترك الكفار وشأنهم فدعوتهم للإيمان مستمرة.
العاشرة : قيام الحجة على الكفار ببلوغ الدعوة اليهم.
الحادية عشرة : في الآية حجة على الكافرين اذ ورد لفظ الناس في قوله تعالى [كَمَا آمَنَ النَّاسُ] والمراد إنتقال الناس من مللهم إلى الإسلام، ومنهم الكفار وعبدة الأوثان وأهل الجاهلية، أي يقال لهم من باب الأولوية القطعية ان تبادروا انتم الى دخول الإسلام، فالمدار ليس على صفة الفعل والإختلاف في تعيين جهته، بل الأصل هو الإيمان بالله وصدور الأعمال عن إخلاص وصدق، ليتجلى التمييز بين الفعل الصالح وضده.
الثانية عشرة : جاء توجه الدعوة للكفار والمخادعين كاشفاً عن سوء سريرتهم، وفضحاً لهم.
الثالثة عشرة : بينت الآية الكريمة موضوعية التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضوع الإيمان.
الرابعة عشرة : نعت الكفار لشطر من المسلمين بالسفة لدخولهم الإسلام.
الخامسة عشرة : أرادوا ان جماعة من الناس الذين دخلوا الإسلام هم من السفهاء في نظرنا، فلا تجعلوهم حجة علينا، مع انه يوجد من بين الذين إختاروا الإسلام علماء من بني إسرائيل بالإضافة إلى شطر من سادات العرب في الجزيرة مع موضوعية دخول الناس أفواجاً في الإسلام.
وجاءت الآية بصيغة الجمع والإتحاد من وجوه :
الأول : إظهار فريق من الكفار الإمتناع عن قبول الدعوة الى الإيمان.
الثاني : نعت فريق من الذين آمنوا بأنهم سفهاء.
الثالث : وصف القرآن للمخادعين بأنهم هم السفهاء.
الصلة بين أول وآخر الآية
بدأت هذه الآية بما بدأت به الآية قبل السابقة بقوله تعالى [إِذَا قِيلَ] ويفيد إذا معنى الشرط و (قيل) فعل مبني للمجهول، واذا كان المخاطبون في هذه الآية والآية قبل السابقة متحدين والمراد منهم الكفار، فان نائب الفاعل في قوله تعالى[قِيلَ] على وجوه :
الأول: نفس الأمة والجماعة.
الثاني: بينهما عموم وخصوص مطلق، وهو على شعبتين :
الأولى: الناهون عن الفساد في الآية قبل السابقة أكثر وأعم.
الثانية: الداعون الى الإيمان في هذه الآية هم الأكثر والأعم.
الثالث: التعدد والتباين ، فالناهون عن الفساد غير الذين يدعون إلى الإيمان.
الرابع: بين الفريقين تداخل، وعموم وخصوص من وجه، فهناك من يكون من ضمن الفريقين، وهناك من يكون من الناهين عن الفساد، ومنهم من يكون من الآمرين بالإيمان.
والأقرب هو الأخير، وهما مستمران ويسيران متوازيين ويدلان مجتمعين ومتفرقين على الكثرة في عدد الذين يلومون الكفار على تخلفهم عن دخول الإسلام.
وهو آية في رحمة الله بالناس جميعاً، فصحيح ان الدنيا دار امتحان وبلاء إلا ان أسباب الهداية تترى على الناس، ومنها صيغ الإنذارات والبشارات، ولن تذهب هذه الصيغ سدى، بل ان شطراً من الكفار يتوبون الى الله , وتكون هذه الصيغ وتوبة فريق من الناس حجة على الكفار والمنافقين ، ومن الآيات عدم مجئ النهي عن الفساد وحده.
لان غاية خلق الإنسان هي عبادة الله، ولا يكفي إجتناب الإفساد ، بل لابد من الإيمان والصلاح , وإتيان الأفعال العبادية.
ومن الآيات ان النهي جاء عن الإفساد الذي هو نوع مفاعلة بين الذي يقوم بالإفساد والذي يتلقى الفساد أوالذي يقع عليه أثر الفساد ، وجاء بالكناية عنه في عموم محل الإفساد وهو الأرض [لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] ليتضمن التعدي والظلم ونشر مفاهيم الضلالة والفجور والفسوق.
أما الإيمان فجاء لاصلاح الذات والإمتثال للأمر الإلهي بالإيمان وتهذيب النفس، ولكن هذا لا يعني خلوه من مضامين المفاعلة، لأن إيمان الإنسان دعوة للإيمان، وبايمانه يكون من الذين يقولون للكفار لا تفسدوا في الأرض، ويدعونهم للإقتداء بهم في الإيمان والصلاح.
وتتضمن هذه الآية مسائل:
الأولى : تلقي الكفار والمنافقين الدعوة من المسلمين والناس بالإيمان.
الثانية : إعانتهم على الإيمان وطرد العناد والإصرار عن أنفسهم، بدعوتهم للإقتداء بالمؤمنين، وتدل هذه الدعوة على ان الناس جميعاً يعلمون بحسن حال المسلمين وحصول النماء والخير والبركة عند من نبذ الكفر، وإختار الإيمان.
الثالثة : جاءت الآية بالإقتداء بالذين آمنوا بلفظ الناس [آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ] وفيه وجوه :
الأول : دخول الناس من مختلف الملل والنحل الإسلام.
الثاني : من الآيات ان المسلمين من مختلف الشرائح والطبقات، ففيهم الغني والفقير، والسيد والعبد، والرجل والمرأة، والشيخ والكهل والفتى، والفارس الشجاع وغيره، والتاجر والفلاح، لتكون الدعوة شاملة للناس جميعاً بمحاكاة الأقران وغيرهم ممن هو أدنى أو أعلى مقاماً ليكون التمثيل بحرف الكاف في قوله تعالى [كَمَا آمَنَ] ترغيباً وحجة.
الثالث : بيان كثرة عدد المسلمين لإفادة لفظ الناس الكثرة والتعدد، وتخلف الكافرين عن اللحوق بهم.
الرابع : يدل التعدد في مشارب الذين آمنوا على صدق الدعوة الإسلامية.
الخامس : في الآية إنذار ووعيد للكفار، وإخبار بان إصرارهم على الكفر والجحود لن يضر الإسلام والدعوة الإسلامية فالخطاب يأتي للكفار كجماعة وافراد بالدعوة للإقتداء بالناس الذين آمنوا، وصحيح ان المراد من الألف واللام في (الناس) الذين أسلموا، إلا أن لفظ الناس يدل على كثرة وإختلاف مشارب وحال الذين يدخلون الإسلام، والناس: جماعة الأنس، والمفرد إنسان (سُميَ الإنسانُ إنْسَاناً لظُهُوْرِهم وإدْراكِ البَصَرِ إيّاهم، وهو فِعْلاَن، ويُصَغَرُ: أُنَيْسِيَانٌ وأنَيْسِيَيْنٌ. ويقولون: هذه إنْسَانَةٌ للمَرْأةِ. وطَيِّيءٌ تقولُ في الإنسانِ: إيْسَانٌ – بالياء – ، ويُجْمَعُ أَياسِيْنَ( ).
وقيل إذا جاء اللّيل استأنس كلُّ وحشيّ، واستوحش كلّ إنسيّ( )، وهذا القول ليس بتام إذ جعل الله عز وجل الليل سكناً، ومناسبة للعبادة والتدبر والتذكر، وذكر الله والإستغفار الذين يبعث السكينة في النفس.
السادس : تبين الآية التغيير والتبدل في السنخية والعمل، فحينما يسلم الانسان يصدق عليه عنوان الإيمان، ويكون مثالاً يقتدى .
السابع : تتضمن الآية مدح الذين آمنوا والثناء عليهم.
الثامن: تدل الآية على علم الله عز وجل على الكافرين، وإمهاله لهم، فهو سبحانه لم يؤاخذهم على إقامتهم على الكفر، وإصرارهم على الظلم والتعدي، وفي التنزيل[وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ]( ).
الرابعة : نقلت الآية قول الذين كفروا، وردهم على الدعوة الى الإسلام، والظلم للنفس والغير اذ رفضوا الدعوة ونعتوا الذين بادروا إلى دخول الإسلام من أصحابهم وغيرهم بالسفهاء، وفي قولهم هذا وجوه :
الأول : إنه من الإفساد في الأرض.
الثاني : يتضمن نعتهم المؤمنين بالسفهاء ظلماً وتعدياً.
الثالث : يدل هذا القول على الجهالة التي يتصف بها الكفار.
الرابع : يمكن إستقراء مسائل أخلاقية ونفسية من هذا القول تبدو فيه واضحة الآثار السلبية للعناد والكفر، والغشاوة التي طبع الله تعالى بها على قلوب الكفار، فالسفه الجهل وقلة الحلم , وقيل السفيه العجول الظلوم، وهي مفاهيم تدعو الإنسان لترك أسباب الجهالة والظلم، وتحث على إتباع الحق طلباً للأمن والسلامة في الدنيا والآخرة.
الخامس : من إعجاز القرآن أنه ينقل قول الكفار ذاته مع ما فيه من التعدي والظلم، لبيان الأذى الذي يتلقاه المسلمون من أهل الكفر وظلمهم لأنفسهم وللمسلمين، ومحاولتهم صد الناس عن الإسلام، وفيه مسائل:
الأولى: صدق نزول القرآن من عند الله.
الثانية: إخبار القرآن عن أمور من الغيب، ومنه ما يدور بين الكفار مما يراد به الإضرار بالإسلام.
الثالثة: إن الله عز وجل يعلم بأن الإخبار عن نعت الكفار للمسلمين بالسفه قد يمنع الناس من دخول الإسلام، لأن هذا النعت باطل ومخالف للواقع وتدل على بطلانه آية البحث.
الرابعة: دعوة المسلمين للصبر والحلم، وإدراك حقيقة عدم الإنتفاع من الكفار لإصرارهم على الكفر وإستخفافهم بالمسلمين، إلا أن يشاء الله , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا]( ).
السادس : في نقل قول الكفار توثيق سماوي لتعديهم, وقبح قولهم، ومحاربتهم للإسلام والمسلمين.
السابع : في الآية حرز للمسلمين، ومانع من تسرب روح الشك والريب لنفوسهم.
الثامن : يتضمن قول الكفار [أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ] وجوهاً :
الأول : إرادة الدفاع عن أنفسهم والإعتذار عن بقائهم على الكفر والجحود.
الثاني : الإساءة للمسلمين وايذائهم.
الثالث : بيان غيضهم وكرههم لدخول الناس الإسلام.
الرابع : محاولة منع الناس من دخول الإسلام.
الخامس : دعوة فريق من المسلمين للإرتداد عن الإسلام، قال تعالى[وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا]( )، وتدل الآية أعلاه ومن باب الأولوية القطعية على إرادة الكفار الردة لبعض المسلمين، بلحاظ أن أهل الكتاب يتبع كل فريق منهم أحد الأنبياء، وهم أقرب للمسلمين.
السادس : إقرارهم على أنفسهم بالكفر والضلالة والعناد.
السابع : محاربة الإسلام والمسلمين بالقول والتعدي، لقد اراد الله عز وجل كتابة الأجر والثواب للمسلمين بإفتراء وتعدي الكفار عليهم، وتلك آية في الخلق، فتارة يأتي الثواب للمسلم بما يقوله ويفعله من العمل الصالح، وبما يؤديه من الفرائض والتكاليف والمناسك، وتارة يأتيه من عدوه بتعديه عليه، ويأتي الثواب للمسلمين عموماً، لأن الكفار نعتوا الذين دخلوا الإسلام بالسفه وقلة الحلم بغير حق.
وهل ينحصر الثواب بالذين إنتقلوا من الكفر إلى الإيمان أم يشمل أبناءهم، ومن ولدوا على الإسلام، الجواب هو الثاني ، لأصالة الإطلاق وإرادة الكفار الذم والتعدي , ولعموم قولهم [كَمَا آمَنَ] الذي لا ينحصر بالذين إنتقلوا من الكفر إلى الإسلام، بل يشمل المعنى الأعم.
الخامسة : بعد دعوة الكفار إلى الإيمان، وذكر قولهم القبيح الذي يتصف بالعناد، جاء الإخبار الإلهي بحرف التنبيه والاحتجاج (ألا) من عند الله ليكون قانوناً ثابتاً، وقاعدة كلية، ودفاعاً عن المسلمين بانهم ليسوا بسفهاء، ولكن السفهاء الذين أصروا على الكفر، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا]( )، وبيان أن الذين آمنوا هم أهل الحكمة والعقل والنباهة، وأن الله عز وجل راض عنهم، وقابل لتوبتهم .
وجاءت الآية بنعت الذين كفروا على نحو الحصر والتعيين بالسفاهة [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ] وفيه دلالة على تنزه المسلمين والى يوم القيامة من سوء الإختيار ,وبراثن الكفر، وإمتناعهم عن الإرتداد وأسباب الضلالة.
السادسة : أختتمت الآية بنعت الكفار بأنهم قوم [لاَ يَعْلَمُونَ] لتوكيد جهالتهم وعدم صحة قولهم ونعتهم للمؤمنين بالسفاهة، لتأتي الآية بالذم المركب للكفار بأنهم سفهاء ولا يعلمون ما ينفعهم وما يضرهم.
وهل تدل الآية على أن السفه هو عدم العلم الجواب لا، وبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل سفه هو من الجهالة وعدم العلم، ولكن الجهالة أعم، ومن جهلهم أنهم لا يعلمون بأنهم سفهاء لايدركون مصلحتهم ونفعهم التي تنحصر بالإسلام ودخوله.
فابتدأت الآية بصدور الإنذار والتحذير من الرسول وشطر من الناس للكفار لتختتم بتفضل الله بذمهم، ووصفهم بأنهم جاهلون لا يفقهون، ولا يعني هذا الذم الدعوة الى الكف عن إنذارهم، ولكنه بيان وتفسير لعدم اتعاظ الكفار من صيغ الإنذارات بأنه مانع ذاتي.
إفاضات الآية
في الآية حث على توجيه خطابات الدعوة إلى الناس جميعاً والإنتفاع من دخول شطر من الناس في الإسلام للإحتجاج به وجعله مثالاً يحتذى، ومادة للإحتجاج واخباراً عن صدق اختيار المسلمين فاذا آمن أحد علماء بني إسرائيل كعبد الله بن سلام فهو حجة على من حوله من اليهود للإقتداء به ومحاكاته في فعله.
وتبين الآية دفاع الله عز وجل عن المسلمين، وانهم أهل البصائر والعقل والرشاد.
التفسير الذاتي
ذكرت الآية قبل السابقة النهي الذي يصدر من الناس للمنافقين بلزوم إجتناب الفساد ، ورد المنافقين عليهم والذي يتصف بمواصلة المغالطة والإصرار على المعصية وتحريف الحقائق بقولهم [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] وفيه شاهد على ما كان يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من الأذى من الكفار والمنافقين، وأختتمت الآية السابقة بوصف الله للمنافقين بأنهم المفسدون لمنع اللبس والريب.
وذكرت هذه الآية قولاً آخر يوجه إلى المنافقين والكفار يتضمن دعوتهم إلى الإيمان لما فيه من معاني الصدق وسبل النجاة ليكون منطوق القول الوارد في هذه الآية والآية السابقة مجتمعين ومتفرقين حجة على المنافقين والكفار في الدنيا والآخرة.
أما مفهومها فهو عون للمسلمين للثبات في منازل الإيمان والإعراض عن إفتراء وشكوك المنافقين والكفار.
ووصفت الآية المسلمين بصفة الإنسانية، للدلالة على أن الخطاب التكليفي بالإسلام جاء للناس كافة، وأن الإيمان لا يحتاج إلى مؤونة زائدة، وقدرات عقلية فائقة فمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرة للناس جميعاً وتكفي للحجة والبرهان،وهو من عمومات قاعدة اللطف، إذ تتوجه الدعوة الإسلامية إلى الناس جميعاً بعرض واحد.
وجاءت الآية بصيغة الجمع في أطرافها وهي :
الأول : لفظ ( قيل) المبني للمجهول، إذ أنه يحتمل :
الأول : صدوره من جهة واحدة.
الثاني : الصدور من جهات متعددة وأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والصحيح هو الثاني, وهل تدخل هذه الآية في ذات القول , الجواب نعم، لأنها توكيد سماوي له.
الثاني : المنافقون الذين توجه لهم الخطاب كما في الضمير ألهاء في قوله تعالى [قِيلَ لَهُمْ]، وعن ابن عباس أنهم كانوا ثلاثمائة رجل ومائة وسبعين امرأة( )، وكان رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول وهو سيد الخزرج قبل أن الدخول المبارك للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يثرب وتأسيس صرح الدولة الإسلامية إلى يوم القيامة، ومن خصال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يقتل أحداً نطق بالشهادتين وإن كان منافقاً يظهر الإسلام ويخفي الكفر مع قيام النبي بالبيان وذكر علة تنزهه عن قتلهم بقوله (فيتحدث الناسُ أني قد وقعت على أصحابي فأقتلهم صبرًا ( ).
ولما نزل قوله تعالى حكاية عن رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول[لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( )، وقال وقال محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عَبدَ الله بن أبي -يعنى لما بلغه ما كان من أمر أبيه-أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبَيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخل النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بل نترفق به ونحسن صحبته، ما بقي معنا.
وذكر عكرمةُ وابن زيد وغيرهما: أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة، وقف عبدُ الله بن عبد الله هذا على باب المدينة، واستل سيفه، فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه: وراءك. فقال: ما لك؟ ويلك. فقال: والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذنَ لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد الله بن أبيّ ابنه، فقال ابنه عبد الله: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما إذ أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فَجُز الآن( ).
الثالث : الناس في إرادة المسلمين الذين تلقوا بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآياتها بالتصديق، وصحيح أن الألف واللام لا يراد منه العموم الإستغراقي لكل الناس، ولكنه يدل على إرادة المؤمنين الذين صدّقوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدليل نعت المنافقين لهم [السُّفَهَاءُ] وفي نعتهم للمسلمين بالناس والدعوة لمحاكاتهم شاهد على أنهم هم الكثرة في العدد وحسن الإختيار، وهو بشارة إنتشار الإسلام بين الناس.
الرابع : إجابة المنافقين جواباً واحداً متشابهاً [قَالُوا أَنُؤْمِنُ] وعلى فرض توبة بعضهم وإلتحاقه بالمؤمنين فهل تشمله الآية،الجواب لا، لتغيير الحكم بتغير الموضوع، لذا فان الآية جاءت لحث المنافقين على التوبة والإنابة، فمن إعجاز القرآن مجئ اللوم والذم لغرض الإصلاح والهداية، وهو من المقاصد الحميدة في الآيات القرآنية.
الخامس : وصف المنافقين للمسلمين بأنهم سفهاء، وخفة الحلم لمبادرتهم لدخول الإسلام، برؤية المعجزات.
السادس : رد الله عز وجل على المنافقين بما يكون فضحاً لهم وكفاية وذباً عن المسلمين بقوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ] فلم تستثن الآية من المنافقين أحداً.
ومن الإعجاز في هذا الرد دعوة المسلمين لعدم الإنتقام من المنافقين، والحث على مجادلتهم بالحكمة والموعظة والحسنة، فبعد هذه الآية لا يأخذ الغضب المسلمين ويقولون للكفار ما دمتم تصفوننا بالجهل وقلة الحلم فاننا نبطش بكم، وننتقم منكم، ففي الرد الإلهي على الكفار والمنافقين أمور :
الأول : شفاء صدور المسلمين.
الثاني : دعوة المسلمين للصبر والثبات في منازل الإيمان.
الثالث : التصاق صفة السفه بالمنافقين والمنافقات.
الرابع : حصانة المسلمين مما يبثه المنافقون من الشكوك، فلما علم المسلمون بأن المنافقين سفهاء صاروا لا يصغون إليهم.
الخامس : أخذ المسلمين الحيطة من المنافقين، وعدم إئتمانهم قال تعالى [وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ] ( ).
السابع : الإعراض عن إستخفاف المنافقين والكفار بالمسلمين ومناسك عباداتهم، ولما جاء الأمر الإلهي بإستقبال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين البيت الحرام في الصلاة، أظهر الكفار الإستهزاء والإستغراب من تغيير القبلة وهي حكم شرعي , ولم يضر قولهم المسلمين ولم يمنع من العمل بأحكام القبلة وإستقبال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها للبيت الحرام في صلاتهم، وعند ذبح ذبائحهم، ودفن مواتهم .
وهذا الإستقبال مقدمة وتوطئة لتعاهد المسلمين لأداء الحج، وبعث الشوق في نفوسهم لأداء مناسك الحج والعمرة، قال تعالى[وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]( )، [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا]( ).
وقد ذكر لفظ (السفهاء) بصيغة الجمع في القرآن خمس مرات، جاءت إثنتان منها في هذه الآية وفيه بيان لمواجهة الكفار لآيات النبوة وإستقراء مسألة كلامية من الآية وهي معرفة الأذى الشديد الذي كان يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون من الكفار والمنافقين، وأن دخول الفرد والجماعة الإسلام لا ينجيهم من كيد الكفار، وسوء كلامهم وكثرة شكوكهم.
فجاءت هذه الآية حرزاً وواقية للمسلمين،وتثبيتاً لقلوبهم على الإيمان، وبرزخاً دون تسرب الشك والريب إلى نفوسهم، وهو من إعجاز القرآن، والمنافع العظيمة لكل آية من آياته، ومن مصاديق تفضيل المسلمين وانهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بالمعارف التي يكتسبونها من القرآن ودلالة آياته منطوقاً ومفهوماً.
من غايات الآية
في الآية تنزيه وكشف، تنزيه للمسلمين , وكشف لزيف إدعاء الكفار والمنافقين وسوء سريرتهم، فمع دعوة الكفار والمنافقين الى الإسلام يأتي العون الإلهي للمسلمين، ورد الإفتراء عليهم، ومنع الناس من الإفتتان بقول المنافقين فقد يسمع جماعة او أفراد قبيلة قول هؤلاء ونعتهم للذين إختاروا الإسلام بانهم سفهاء فيترددون في دخول الإسلام، فجاءت الآية لإرجاع كيدهم الى نحورهم، وتوكيد حقيقة إضرارهم بانفسهم وانهم [َمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ].
فمن غايات الآية جذب الناس للإسلام، ودفع الحجب الظلمانية والغشاوة التي يحاول المنافقون والمخادعون وضعها في طريقهم، لقد أرادوا تأسيس قاعدة عقلية لصد الناس عن الإسلام، فجاءت الآية لفضحهم وإبطال سحرهم، وسعيهم لإغواء الناس، ومنعهم من الإصرار على الكفر والجحود .
تبين الآية تأصل الفساد في نفوس الكفار، وإصرارهم على الجحود وتضييعهم الدعوة الى الإسلام، وتفريطهم بما فيها من الخير الكثير في الدنيا والآخرة، وفي الآية وجوه :
الأول : إقامة الحجة على الكفار بدعوتهم إلى الإيمان.
الثاني : دعوة المنافقين لأن يكون إيمانهم مثل إيمان غيرهم من أهل الإسلام بأن يتخلوا عما يخفونه من الكفر والبغض للإسلام والمسلمين , وعلى هذا يكون المراد من قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ] اي ليكون إيمانكم حسناً وتاماً ، وظاهراً وباطناً، وأتركوا النفاق وإعلان الإيمان وإخفاء الكفر ، ويكون ردهم على هذا المعنى [أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ] أي أن الإيمان بالقلب والجوانح يحتاج الى التحقيق والتدقيق والتدبر ورؤية الآيات والمعجزات الحسية وانهم لا يبادرون إلى الإسلام مثل غيرهم.
فجاء الرد الإلهي بانهم “هم السفهاء” لعدم تدبرهم بالآيات والبراهين القاطعة التي تدل على صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله، ولا تعارض بين هذا المعنى والمعنى المتبادر من الآية ، وهو دعوتهم الى الإسلام وصدق الإيمان, وهو من سعة معاني الآية الكريمة.
الثالث : بيان قبح رد الكفار والمنافقين ، وهل هو من الفساد في الأرض، الجواب نعم من جهات:
الأولى : إنه من الإصرار على الجحود والمعصية.
الثانية : إظهار العناد والتجاهر بعدم الإيمان.
الثالثة : التعدي على المؤمنين ونعتهم بالسفهاء ظلماً وبهتاناً.
الرابعة : دلالة ردهم في مفهومه على الصد عن سبيل الله.
الرابع : تفضل الله تعالى بنصرة الذي يدخل الإسلام ورمي عدوه والمتخلف عن الإيمان بأنه هو السفيه وفيه مدح سماوي للمسلمين، ودعوة للناس للإقتداء بهم، بما فيهم الكفار والمفسدون الذين نعتوهم بالسفه، إذ ان الآية الكريمة ترد عليهم وتنعتهم بالسفه، وتحذر منهم، ومن فسادهم وتعديهم.
الخامس : توكيد حقيقة وهي إتصاف الكفار والمنافقين بالجهل ، وعدم العلم بما يجب عليهم، وما يجلب لهم المنفعة ، وما يدفع عنهم المفسدة.
التفسير
قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ]
في الآية إخبار عن توجه الدعوة لأهل الضلالة والفساد للإنخراط في أفواج المؤمنين كبقية الناس الذين أقبلوا على الإسلام من أمصار ومشارب شتى وجماعات مختلفة.
وجاءت الآية بالفعل المبني للمجهول (قيل) ليدل على كثرة وتكرار القول وتوجه الدعوة لهم للإيمان من كل حدب وصوب خصوصاً مع قرينة [كَمَا آمَنَ النَّاسُ] الذي يفيد التعدد وكثرة الداخلين في الإسلام بصدق وإخلاص.
الأول: هذه الدعوة لطف ورحمة ليكون لمن يدخل الإسلام ما للمؤمنين، وعليه ما على المؤمنين.
الثاني: الآية توثيق لجوابهم وما فيه من القسوة والطغيان، وقذف ونعت المسلمين بالسفه وخفة العقل.
الثالث: من الغشاوة التي على أبصار وبصائر المعاندين والمنافقين انهم يعتبرون إبتعادهم عن منازل الإيمان عنوان الصواب في الرأي وتمام المعرفة، اصراراً منهم على الخطأ والجحود، وهذا الموقف منهم جزء من الفساد الذي صبغ سلوكهم العام.
الرابع: ترى هل المقصود من جوابهم باننا لا نجتمع مع الضعفاء والفقراء في محفل واحد هو محفل ومجتمع الإيمان .
الجواب : إنه أحد مصاديق وأفراد الإجتماع والإلتقاء الجسدي والعقائدي , وان كان في المؤمنين وجوه العرب وساداتهم، كما تدل أفعال المؤمنين على الإتزان والحكمة والفلاح ، ولكن الضّلال والكفار يحاولون إتخاذ الذرائع بمكر وحيلة .
(روي أن رؤوساً من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو طردت عنا هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين ، وهم عمار وصهيب وبلال وخباب وسلمان وأضرابهم رضوان الله عليهم – وأرواح جبابهم – وكانت عليهم جباب من صوف جلسنا إليك وحادثناك ، فقال عليه الصلاة والسلام : ما أنا بطارد المؤمنين)( ) كما سيأتي بيانه في تفسير سورة الأنعام ان شاء الله.
الخامس: يحتمل انهم يقصدون نفراً من ضعفاء المؤمنين باعيانهم قذف الله في قلوبهم المعرفة فبادروا مسرعين الى الإيمان والإلتزام بأحكام الجهاد وأبواب الفرائض، او يريدون أصحابهم ممن انفصل عنهم فنعتوه بالسفه إظهاراً منهم للجحود، ومنعاً لمحاكاة أفراد جماعتهم للذين أسلموا والاقتداء بهم.
وهذا الوجه ممكن، ولكنه ليس علة تامة لتماديهم في الغي وانما إعتمدوه جهلاً واعتذاراً لضلالتهم , وتبدو أمارات الفساد والإصرار على البقاء عليه.
السادس: في الآية نكــتة عقائديـــة وهي مواصــــلة الدعــوة إلى الإسلام وحث الناس على الهدايـــــة بغض النظــر عن جنس ورأي أي منهم، فهي تجسيد بياني يظهر سعي المؤمنين المبارك في كافة الميادين ووصول دعوتهم الجادة والصادقة إلى مختلف الشـــرائح والطبقات.
السابع: الآية إخبار عن كبرى كلية سماوية بان المدار على إختيار طريق الحق أو عدمه.
الثامن: ترى من القائل لهم [آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ] خاصة وان القول ورد بصيغة المبني للمجهول , فيه وجوه:
الأول : النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : المسلمون.
الثالث : نفر من جماعة المخادعين سواء كانوا من الكفار أم من المنافقين وأسرهم.
الرابع : من رأى الآيات.
وهذه الوجوه كلها من مصاديق الآية لوجود المقتضي وفقد المانع، لقد كانت الدعوة متصلة وتتوجه اليهم حتى من داخل بيوتهم تحثهم على الإسلام والتدبر في آياته .
ان موضوع هذه الآية هو منتدياتهم الخاصة، ولكن ليس على نحو الحصر بل يظهر كلامهم في ثنايا أجوبتهم وردهم وكيفية إحتجاجهم.
التاسع: نعت المسلمين بالناس على نحو التشريف والإستحقاق لهذا الوصف دليل على توظيفهم ما إمتاز به الإنسان من نعمة العقل كآلة للتمييز بين الحق والباطل وان الدعوة الى الاسلام بسيطة وملائمة لكافة الطبقات والمدارك, وموافقة للفطرة الإنسانية.
العاشر: في الآية إشارة إلى قلة عدد المعاندين ، وصيرورتهم قلة بفضل الله ومساعدة هذه الآيات.
قوله تعالى [قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ]
لقد وصفوا المبادرة إلى الإسلام والإســتجابة للأمر الإلهي، والإقرار بالآيــات والحجج الدامغـــات سفهاً، ويعــدون المبـادرة الى الحق تعجلاً وخفة، وهم لا يريدون الرشد في التخلف والإبطاء عن الهداية، وهذا القول جزء من خداعهم وفســادهم لذا نعتهــم القــرآن بالسفه.
ويظهركلامهم تناقضهم ويكشف عن قصر نظرهم وعداوتهم للمسلمين برميهم من إختار طريق والهداية بالسفه وقلة العقل، فهم لم يكتفوا بالخداع والنفاق بل إستخفوا بالمسلمين وأظهروا الجهل المركب برمي من أيقن بالآيات الباهرات وآمن بالتوحيد وصدّق الأنبياء والمرسلين بضعف الرأي، فهم الذين يستحقون هذا العنوان ولكنه لم يطلق عليهم إلا بعد أن إعتدوا ورموا العقلاء به .
وتبين الآية ان موضوع السفه يدور مدار الجحود والإصرار على العناد والمخادعة.
وورد لفظ (السفهاء) بصيغة الجمع خمس مرات في القرآن وهذه الآية هي الوحيدة التي يتكرر فيها هذا اللفظ , ليكون هذا التكرار نصرة للمسلمين وضياء يهتدون به في دروب الإيمان ويزيدهم قوة ومنعة، ويكون حرزاً من أهل الشك والريب والحسد، لما فيه من إبطال لقولهم، والرد عليهم.
وجاءت من السماء تسمية المخادعين بأنهم هم المفسدون لتكون رحمة بالمسلمين والناس جميعاً,لأنها برزخ دون الإغترار بهم .
قوله تعالى [ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ]
الأول: اختيار الكفار المخادعبن الضلالة بدل الهدى.
الثاني: عدم توظيفهم للرسول الذاتي وهو العقل في ضرورة قبول الإسلام.
الثالث: إعراضهم عن الدليل والحجة القاطعة في صدق نزول القرآن من عند الله تعالى.
الرابع: هم السفهاء لتعريضهم أنفسهم للضياع في الدنيا،والعذاب في الآخرة.
الخامس: إصرارهم على العناد والجحود والذي جعلهم يخسرون النعيم الخالد في الجنة.
السادس: هم السفهاء لما دل عليه سلوكهم وأقوالهم من ضعف الرأي، وقلة التدبير.
السابع: إنهم ينظرون إلى الناس بعين واقعهم، وينطلقون من ملاكات السفه التي تغلب على حواسهم، وهو الذي يسميه علم النفس الحديث بالإسقاط.
الثامن: محاربتهم للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
التاسع: يقولون خلاف الحق بظلم وعجلة وجهل.
العاشر: يتعمدون الكذب والتحريف.
الحادي عشر: لم يتبعوا نهج الحق.
الثاني عشر: يبوؤون بالإثم ويعرضون أنفسهم للعذاب.
قوله تعالى [وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ]
الأول: يجهلون حقيقتهم وأنهم السفهاء دون غيرهم.
الثاني: لا يعلمون إنكشاف أمرهم وإفتضاح حالهم.
الثالث: هم في غفلة عن إتساع رقعة الإيمان وإزدياد قوة المسلمين.
الرابع: إن قولهم هذا لا يضرون به إلا أنفسهم.
الخامس: إن الذين آمنــوا ليســوا بســـفهاء , بل إختاروا ببصــيرة طريق الهدى.
السادس: لا يعلمون بعاقبتهم وما ينتظرهم من العذاب.
السابع: المنزلة العظيمة التي سيكون عليها أولئك المؤمنون.
والآية قاعدة كلية جاءت على نحو الإطلاق أي أن المعاندين والمنافقين يعيشون في جهل وغفلة لا تنحصر بالإنتماء العقائدي.
ونعت الكفار والمنافقين بعدم العلم ذم إضافي أي أنهم وصفوا الذين آمنوا بالسفهاء ظلماً وبهتاناً، فجاء القرآن لبيان ما هم عليه من الغفلة وخفة الرأي ثم أضاف إليه نعتاً آخر فوصفهم بالجهل والعجز عن إدراك الحقائق.
قوله تعالى[ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْـتَهْزِئُونَ]الآية14.
القراءة واللغة
قرىء في الشواذ (واذا لاقوا الذين) قرأها اليماني( ) وبعض القراء ترك الهمزة من (مستهزئون)( ).
وإذا : الواو : حرف عطف على ما تقدم.
إذا : ظرف لما يستقبل من الزمان، لقوا : فعل ماضِ مبني على الضم لإتصاله بواو الجماعة.
الواو : فاعل، والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها.
الذين : اسم موصول مفعول به، آمنوا: فعل ماضِ وفاعل، والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم.
آمنا : فعل ماض، وفاعل , والجملة مقول القول.
وإذا : الواو حرف عطف، إذا : ظرف لما يستقبل من الزمان.
خلوا: فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة لإلتقاء الساكنين , وواو الجماعة : فاعل، والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها.
إلى شياطينهم : جار ومجرور متعلقان بخلوا، والضمير “هم” مضاف إليه.
قالوا : فعل ماض، الواو: فاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب.
إنا : حرف مشبه بالفعل، والضمير “نا” في محل نصب إسمها.
معكم : مع : ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر ان، الكاف : ضمير في محل مضاف إليه.
إنما : كافة ومكفوفة، نحن : ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ.
جملة أنا معكم إسمية في محل مقول القول .
مستهزءون : خبر نحن مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه جمع مذكر سالم.
واللقاء : المقابلة والمجاورة والإجتماع .
والشياطين : جمع شيطان وهو كل عات متمرد من الجن والانس والدواب مأخوذ من الشطن وهو البعد، فاختاروا الإبتعاد عن رحمة الله وعن الخير بطول لبثهم في الشر وحملهم لأقبح صفاته.
والإستهزاء: السخرية والإستخفاف، وطلب الهزء بايهام أمر ليس له حقيقة، والهزء ضد الجد.
في سياق الآيات
بيان لقبائح جديدة لهؤلاء المخادعين والذين يدعون الصلاح , وإتباع ملل التوحيد والإيمان باليوم الآخر، فليس من موقف عقائدي عندهم، والآية السابقة تؤكد أنهم كاذبون في دعوى الإيمان .
وتكرر الظرف إذا أربع مرات في هذه الآيات الأربعة والتي تتعلق بموضوع وأحكام المنافقين وتحذيرهم من الظلم والضلالة، فورد قبل ثلاث آيات قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ] وجاء في الآية السابقة قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا] .
أما هذه الآية فجاءت بالظرف “إذا” ولكن بالإخبار عن حال وفعل المنافقين بقوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا] وقوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ] .
فلم تذكر الآية قولاً للمؤمنين في المقام , وعدم الذكر هذا لا يدل على عدم وجود قول للمؤمنين فيه، وعدم الإيجاد أخص من عدم الوجود.
إذ ان الآية تدل في مفهومها على دعوة المسلمين لهم للإيمان وإقامة الحجة عليهم، وفي الآية السابقة نفوا عن أنفسهم الإيمان وإمتنعوا عن محاكاة المسلمين.
ولكنهم يدّعون في هذه الآية الإيمان ظاهراً أمام المسلمين، وفيه وجوه:
الأول : تعدد المنافقين والكفار، وهذه الآيات أعم من أن تنحصر بشخص او نفر معين منهم، بل تبين حالهم وإلتقائهم في العداء للإسلام, وإصرارهم على عدم التصديق بالنبوة.
الثاني : تبين هذه الآية إقامة الحجة عليهم بالدعوة إلى الإيمان وعجزهم عن الرد.
الثالث : بيان حال التناقض عند المنافقين.
الرابع : لقد نعت المنافقون والكفار الذين أسلموا بالسفهاء فجاء إدعاؤهم الإيمان أمام المسلمين مصداقاً خارجياً لقولهم هذا ظناً منهم ان المسلمين يصدقون بإدعائهم ومكرهم، وجاءت هذه الآية ذماً وفضحاً لهم، وكشفاً لما يقولونه أمام رؤوس الكفر والنفاق من أصحابهم، ليكون هذا الكشف سخرية لهم وتوبيخاً لهم وذماً لكبرائهم في الكفر والضلالة.
وتؤكد الآية التالية على قانون ثابت وهو ان الله تعالى يستدرج الكفار والمنافقين، ويتركهم في غيهم، ويجازيهم على إستهزائهم بلحاظ تسمية الجزاء باسم ذات الشيء كما في قوله تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]( ).
ثم جاءت الآية التي بعدها بالإخبار عن إستحقاق الكفار والمنافقين العقاب لأنهم إختاروا الضلالة مع بيان سبل الهداية والرشاد التي تتجلى بدعوتهم الى الإيمان كما في هذه الآيات وقيام “الناس” بدخول الإسلام على مرأى ومسمع منهم، وتوالي المعجزات على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وكما جاءت الآيات السابقة بإبطال قول المنافقين [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] وفضل الله تعالى بنعتهم بالفساد بقوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ] فكذا هذه الآيات فحينما قالوا [إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] جاءت هذه الآية بالرد عليهم بقوله تعالى [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ] وتلك آية إعجازية، إذ تذكر آيات القرآن أقوال المنافقين والكفار والرد عليهم بما يفيد إبطالها وفضحها.
وتأتي الآيات التالية لتذكر إختيارهم الضلالة وخسارتهم الدنيا والآخرة ، وجاء في هذه الآية قولهم “مستهزئون” أما الآية التالية فذكرت إستهزاء الله بهم بالجملة الفعلية التي تفيد التجدد من وقت لآخر وعلى إختلاف أحوالهم لبيان ان هذا الإستهزاء عقوبة لهم على تعديهم وظلمهم للمؤمنين، وسبب لبعث الحيرة في نفوسهم، ويعني إستهزاء الله عز وجل بهم ان المسلمين أيضاً يستهزءون بهم ، مع التباين في موضوع الإستهزاء .
ويحمل إستهزاء المسلمين بالمخادعين على السخرية والإزدراء لتلبس الكفار بالمخادعة , والإدراك النوعي العام لضلالة المنافقين وتيه الكافرين، وعجزهم عن التأثير والإضرار بالمسلمين ، وعدم ترتب الأثر على إستهزائهم بالمسلمين ، لأن المسلمين مواظبون على العبادات بإيمان وشوق وقصد القربة .
إعجاز الآية
في الآية إخبار غيبي يفضــح زيف أقوالهم ولجوئهم إلى أهـل الضلالة وإتفاقهم معهم في الرأي والقول والفعل، وتكشف الآية خفــايا أفعالهم وأقوالهم , وتؤكد لهم ولغيرهم نــزول القرآن من عند علام الغيوب .
وتجعل المسلمين يعلمون بحال المنافقين، ويطلعون على خفاياهم وزيف إدعاءهم الإيمان،ولم تبعث هذه الآية اليأس في قلوب المسلمين بل تزيدهم إيماناً، وتحثهم على تعاهد معاني الأخوة فيما بينهم، واليقظة من الكيد والمكر, وما يترشح عن الإستهزاء والسخرية بهم، وقد خاطب ويخاطب المنافقون المسلمين بالجملة الفعلية “آمنا” ، وعندما يخلون بكبراء الكفر الشرك يسرون لهم بالجملة الإسمية “انا معكم” بما يفيد الثبات على الضلالة، وتزلزل الإيمان .
ومن إعجاز الآية ورود لفظ “شياطينهم”لإرادة تعاونهم على الإثم والعدوان، فلم تقل الآية كبراءهم أو الملأ من الكفار، بل نعتتهم بانهم شياطين، ونسبتهم اليهم لتوكيد إصرارهم على الفساد وإرتكاب المعاصي.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية ((وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) .
الآية سلاح
تساعد الآية المسلمين في عدم الإغترار بأقوال أهل النفاق والخداع، وعدم اليأس والقنوط عند إنكشاف ما هم عليه من كذب الإدعاء وعدم الإيمان، وتجعلهم حذرين منهم لا يندفعون في الإنشغال بهم ، ولا يبيحون لهم أسرارهم.
لقد جاءت الآية بأمرين متناقضين يصدران من طائفتين، هما الكفار والمنافقون المخادعون ، والأمران هما :
الأول : إدعاء الإيمان أمام المسلمين .
الثاني : إظهارهم الإصرارعلى الكفر عند الخلوة برؤساء الضلالة.
إن مجئ الآية بلفظ الخلوة بين المنافقين ورؤساء الكفر ، بقوله تعالى (إذا خلوا) يدل على حال الضعف والتخفي التي عليها أهل الضلالة ، والإخبار عن بقائهم على الكفر والجحود في حال الخلوة .
وتبين الآية ولاء ونصرة المنافقين لرؤوس الكفر والشرك , ووصفهم بأنهم شياطين لتمردهم وعنادهم، وإذا كان صغار المنافقين والكفار نعتوا في هذه الآية بالمفسدين فإن كبراءهم أكثر فساداً ومكراً ، لذا أطلقت عليهم الآية لفظ الشياطين في إشارة إلى إصرارهم على الكفر والجحود، وقيامهم بالمكر الخبيث والكيد للمسلمين، وفيه دعوة لليقظة والحذر والحيطة منهم.
وتبين الآية تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى ، وتأهيلهم لخلافة الأرض بأن يطلعهم الله تعالى على أسرار وخفايا عدوهم، وما يدور في منتدياته، بينما لا يعلم الكفار تفاصيل أحوال المسلمين، وسرعة إرتقائهم في المعارف الإلهية، وإزدياد قوتهم بسرعة، إذ تزيد هذه الآية من قوة المسلمين لما فيها من الإعجاز وفضح عدوهم.
الآية لطف
الآية إخبار سماوي وإعانة للمسلمين في كشف أهل الخداع والنفاق، وواقية للمسلمين من الإفتتان بهم، وهي إنذار وتحذير سماوي للمنافقين يصاحبهم في منتدياتهم وخلواتهم لأنها تؤكد حقيقتين وهما :
الأولى : علم الله بسرائر المنافقين وما يخفي المخادعون.
الثانية : تفضل الله عز وجل بإطلاع المسلمين على مكر وسوء فعل المنافقين، وحثهم على الحذر منهم، وفيه لطف بالناس جميعاً لأنه زجر عن الخداع، ودعوة للهداية والإيمان.
جاء القرآن رحمة للمسلمين، ويتضمن كشف حال عدوهم، ومعرفة العدو وماهيته وضعفه من أهم مقدمات النصر والغلبة عليه، وتقيم هذه الآية الحجة على المنافقين والكفار من جهات:
الأولى : دعوتهم إلى الإيمان، ولم تأتِ هذه الدعوة مجردة، بل جاءت مقرونة بالبراهين والدلالات التي تدل على وجوب الإيمان وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدليل ان المنافقين والكفار أعلنوا ظاهراً إيمانهم، ولم يردوا بلغة الجحود أو نفي الدليل على وجوب الإيمان.
الثانية : عدم وجود إكراه في دعوتهم الى الإيمان فوردت الآية بلفظ القيل “وإذا قيل” ولم يجرِ عليهم حكم السيف والإكراه بل توجهت لهم الدعوة فأعلنوا الإستجابة كذباً.
الثالثة : إخفاؤهم الكفر والجحود.
الرابعة : نصرتهم للقوم الظالمين ممن إختار الضلالة , والبعد عن رحمة الله.
الخامسة : إقامتهم على المعاصي، وركونهم لرؤساء الكفر لذا أضافت الآية الشياطين لهم مع ان الأصل هو نسبة الصغير إلى الكبير مما يدل على صدورهم عن هؤلاء الشياطين، وأنهم واقعون تحت سلطانهم.
وهل في الآية دعوة للمسلمين للفصل بين المنافقين ورؤساء الكفر الجواب نعم، وهذه الآية من مصاديق هذا الفصل إذ أنها تؤكد للمنافقين خطأ منهجهم، وتبين لهم الأضرار التي تتفرع عن لجوئهم الى رؤساء الكفار، ولا تنحصر مصاديق الفصل بين المنافقين والكفار بمصاديق معينة بل هي كثيرة وبحسب الحال والشأن أو المناسبة وتتقوم بالتقوى والصلاح.
ومن الآيات مجئ القرآن بسهم من الزكاة للمؤلفة قلوبهم الذين دخلوا الإسلام ولم يؤمنوا بعد ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ]( )، وهذه الدعوة من اللطف الإلهي بالمسلمين وغيرهم لأن تخلص الإنسان من النفاق والكفر سلامة له في النشأتين، ومقدمة لنجاة غيره من أسرته ونحوهم، ووسيلة لإستئصال النفاق ومحاربة الفساد في الأرض.
فلا غرابة ان تأتي هذه الآيات في بيان حال المنافقين لأنها دعوة سماوية للصلاح والإصلاح، ومناسبة للتوبة والإنابة، فمتى ما أدرك المنافق ان الآية القرآنية تصاحبه حتى في خلوته مع رؤساء الكفر وتؤكد له علم الله تعالى بفعله وما يرتكبه من الإثم فانه يتدبر في حاله، وقد يتجه نحو التوبة خصوصاً وان دعوته للإيمان متجددة ومتكررة ويمكن قراءة الآية بلحاظ تجدد الدعوة، “انما نحن مستهزءون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا” .
فإذا جاء قول أحدهم أنه مصدّق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن نية صدق وتوبة نصوح، فحينئذ لا تشمله لغة التوبيخ في الآية الكريمة, لأنه خارج بالتخصص عن خطاب الذم الوارد في الآية .
مفهوم الآية
تبعث الآية الفزع في قلوب الكافرين بما تتضمنه من فضح لسوء فعلهم وتبييتهم نية السوء , وتحذر الآية في مفهومها من رفقاء السوء, والرجوع إلى رواد الشــر أو الوقــوع تحت تأثيــرهم والميــل إلى إرضائهم.
وفي الآية تحذير للمسلمين من المنافقين لما فيها من الإخبار عن وجود جهة ضلالة يرجعون إليهم , فلابد ان تكون جهة الصدور هذه أكثر خطراً وضرراً من المخادعين الذين يرجعون إليها بقرينة قولهم (انا معكم).
ويحول كشف زيف إدعاء المنافقين دون تثبيط همم المسلمين، ويجعلهم أشد عزماً على الجهاد، وهذا من بركات القرآن وما يتضمنه من المدد المعنوي والإعتباري.
وفي الآية مسائل :
الأولى : ظهور أمة مسلمة تعرف بالإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : توكيد قيام المسلمين بالدعوة إلى الإسلام.
الثالثة : بيان حقيقة وهي أن المسلمين إتخذوا من الإيمان صبغة دائمة، وموضوعاً في المعاملة والصلات مع الناس، من غير ركون للظالمين والمنافقين، ولو كان الإيمان عرضاً متزلزلاً لما إضطر المنافقون الى إظهار خلاف ما يخفون .
ويدل إمتناعهم عن الإستخفاف بالمسلمين حين اللقاء والإجتماع على ثبات المسلمين على الإيمان ، وقوة حجتهم وإرتقائهم في المعارف الإلهية.
الرابعة : حصول لقاءات ومحاورة وصلات بين المسلمين والمخادعين,والظاهر ان المسلمين يبادرون إلى دعوتهم إلى الإسلام، فيعجزون عن إيجاد العذر لتخلفهم عن الإسلام.
الخامسة : المراد من الإيمان في الآية الكريمة التصديق بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة : وصف الكهان ورؤساء الضلالة بالشياطين في إشارة الى مراتب الضلالة والإضلال، وأنهم كالفئة التي يرجع اليها المخادعون، فالمراد شياطين الإنس , قال تعالى [ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا]( )، وإضافة لفظ الشياطين الى المخادعين “شياطينهم” شاهد على إنقيادهم لرؤساء الضلالة, والشيطان كل متمرد من الإنس والجن، وأيهما أشد شيطان الإنس أم الجن، الجواب من وجوه:
الأول : وجود شيطان الإنس على نحو حسي، وقيامه بالتأثير من غير واسطة , أما شيطان الجن فانه يعتمد الوسوسة والإغواء.
الثاني : شيطان الإنس إلى زوال سواء بتوبته وصلاحه، أو بموته وهلاكه، أما ابليس فهو باقِ يوسوس في صدور الناس.
الثالث : ضعف أثر كل من شياطين الإنس والجن، فليس من أثر شديد لهما، وجاءت هذه الآية الكريمة لفضح شياطين الإنس والإخبار بانه لا سلطان لهم على غيرهم، إنما المنافقون هم الذين يتولونهم .
وقوله تعالى”إنما نحن مستهزءون” أي نسخر من أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين إلى عدم الركون إلى المنافقين واللجوء إليهم.
الثانية : في الآية إخبار بان المنافقين يخذلون المسلمين في ساعة الشدة والحرج، مما يعني حث المسلمين على التوكل على الله، وقطع الأمل بنصرة المنافقين لهم.
الثالثة : الآية شاهد على قيام المنافقين بتحريض رؤوس الكفر على المسلمين، كما في شواهد عديدة في أيام التنزيل، وصلاتهم مع مشركي مكة ، وإشعالهم نار الفتنة.
الرابعة : يدل قوله تعالى [إِنَّا مَعَكُمْ] على قيام أعداء الإسلام بالكيد بالمسلمين، والقيام بالإضرار بهم، على تقدير بالآية على وجوه:
الأول : المخادعون مع الكفار في الكفر والضلالة.
الثاني : انهم مؤازرون لهم في الحرب على الإسلام.
الثالث : إظهار المخادعين الرغبة في الإضرار بالإسلام.
الرابع : إنهم معهم في الفساد في الأرض.
الخامسة : كثرة عدد المنافقين والكفار ، بدليل صيغة الجمع التي جاءت بها الآية الكريمة.
السادسة : كشف ما يتلبس به هؤلاء المنافقون من الحسد والجهل بالإستهزاء بأهل الهداية والعقل والرشاد.
إفاضات الآية
تتبع الآيات القرآنية المخادعين في تفاصيل أفعالهم بصيغة الفضح والذم والتقبيح، وتتصدى آيات أخرى لذم الكفار من المشركين والمنافقين، والجميع يشتركون بسنخية الجحود وعدم الإيمان، ولكن المخادعين يدّعون خلاف الواقع , ويحاولون الإيهام والتضليل والإفساد بالكذب والغش، والخداع الذي قد يسبب إرتقائهم إلى منازل الرياسة وحينئذ يفتكون بالمؤمنين، فجاءت الآية لمنع دخولهم منتديات المسلمين، والتحذير منهم , فمن إفاضات هذه الآيات أنها وقاية وحرز من أهل المكر والخداع.
الصلة بين أول وآخر الآية
تبين الآية الكريمة أمرين وحصول لقائين بينهما عموم وخصوص من وجه، أما مادة الإلتقاء فهي على وجهين :
الأول : موضوع اللقاء وهو الإيمان وعدمه.
الثاني : التناقض في القول، إذ يدعي الكفار الإيمان بحضرة المسلمين، ويعلنون الكفر ويظهرون الإصرار على الجحود عند الرجوع الى رؤساء الكفر والضلالة.
وبدأت الآية بلقائهم بالمسلمين، وليس بالكفار، ولم تقل الآية وإذا لقاهم الذين آمنوا، بل قالت [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا] بنسبة فعل اللقاء للكفار وانهم هم الذين يلقون المسلمين، وفيه دلالة على انهم لم يكرهوا على إدعاء الإيمان، ولم يجلبوا إلى محل اللقاء كرهاً وقهراً، وتدل الآية على أن المسلمين يحملون معهم الإيمان كهوية وإنتماء وولاء في صلاتهم ومعاملاتهم، بحيث يتعامل معهم الآخرون بصفة الإيمان.
ترى ما هي علة إدّعاء الكفار للإيمان أمام المسلمين، فيه وجوه:
الأول : الخشية من المسلمين.
الثاني : بيان حقيقة وهي صدق المسلمين وحسن إختيارهم.
الثالث : الخوف والفزع من المسلمين.
الرابع : إقامة الحجة على الكفار والمنافقين.
الخامس : توالي الآيات والحجج والبراهين التي تدل على وجوب تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : إدراك الكفار لضلالتهم وسوء إختيارهم، ووهن حجتهم.
وتكرر لفظ “إذا” في هذه الآية الكريمة، وكلاهما متعلق بالقوم الكافرين، ولكن مع التباين بين دعواهم بحضرة المسلمين وكلامهم عند الخلوة برؤساء الضلالة .
ومن الإعجاز في الآية تقدم قولهم وإدعائهم أمام المسلمين بالإيمان، وكأن قولهم لأصحابهم وأمام الملأ من أهل الكفر والجحود نسخ لقولهم الأول، وإدعائهم الإيمان.
لذا جاءت خاتمة الآية لتوكيد زيف إدعائهم الإيمان، والدلالة على إستحقاقهم الذم لإستهزائهم بالمسلمين وإظهار إنتسابهم للإسلام وبحضرتهم كذباً وغشاً.
وتمنع خاتمة الآية من تحقق المصداق الخارجي لهذا الإستهزاء لفضحه وكشفه، أنهم بإقرارهم بغاياتهم الخبيثة من إدعاء الإيمان يسعون لنشر مفاهيم الضلالة، ويساهمون في تقوية أرباب الكفر ورؤسائه ليبوؤا بالإثم المركب، من وجوه :
الأول : الإستخفاف بالمسلمين .
الثاني : إعانة الظالمين ونصرة الجاحدين.
الثالث : الإصرار على الكفر .
فلذا جاءت الآية التالية لتتضمن سخط الله تعالى عليهم وإحباط عملهم.
التفسير الذاتي
إبتدأت الآية السابقة بقوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] وكذا الآية الحادية عشرة، أما هذه الآية فإبتدأت بقوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا] في بيان صفة من صفات الكفار والمنافقين، فحتى إذا لم يأمروا بالمعروف والإستقامة وليس من جهة توبيخهم على تخلفهم عن الإيمان، فانهم يبادرون إلى إظهار النفاق عندما يلاقون المسلمين ويظهرون الإيمان زوراً وكذباً ثم لايلبثون أن يظهروا فيما بينهم وعند رؤسائهم كفرهم وجحودهم، ويدّعون الإستهزاء بالمسلمين.
ومن إعجاز القرآن مجئ الآية السابقة بنعت المنافقين للمسلمين بالسفهاء، ووصف المنافقون أنفسهم في هذه الآية بأنهم مستهزءون , ففضحت كذبهم، وهذا الفضح مقدمة وسبيل لتفقه المسلمين ومعرفتهم لأحوال الناس، ومناسبة لزيادة الأخوة الإيمانية بين المسلمين وتصديهم لأهل الحسد والبغضاء.
وهذه الآية من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ] ( )، لما فيها من فضح لهم، ومن وجوه الإستهزاء قول بعضهم سورة البقرة لنا، وقول آخرين منهم سورة آل عمران لنا، وأخذوا يقسمون القرآن بلحاظ موافقته للتوراة والإنجيل، وينعتون ما يخالفها من القرآن بأنه باطل، إلى جانب تكذيب الكفار للقرآن وقولهم أنه سحر وشعر وأساطير الأولين قال تعالى [ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ]( )، وقيل أن المقسمين هم الإثنا عشر من كفار قريش الذين إقتسموا مداخل مكة أيام الموسم فقعدوا للناس في كل مدخل كي تصل رسالتهم وقولهم إلى كل أهل الموسم في التحذير من الإسلام وصد الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب وغيرهم (يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر، ويقول الآخر : كذاب ، والآخر : شاعر، فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات)( ).
وبعد الآية التي تبين إستهزاء الكفار والمنافقين بالمسلمين وجاءت هذه الآية لتمنع من الإغترار بالمنافقين، وتطرد الغفلة والجهالة عن المسلمين، وتنفي السفه عنهم، وهذا التعاقب في نظم ومضامين آيات القرآن من إعجازه.
ومن مصاديق خاتمة الآية السابقة وقوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ] مجئ هذه الآية بعدها بخداعهم، وما فيه من توكيد سفه الكفار والمنافقين وأن القرآن يفضحهم ويخزيهم وهم لا يعلمون، ويزيد المسلمين حيطة وإيماناً وقوة، من غير أن يشعر الكفار بمنافع هذا التعاقب في الآيات.
فما أن وصفتهم الآية السابقة بالسفهاء، حتى جاءت هذه الآية لتبين مصداقاً من مصاديق السفه الذي يتصفون به من وجوه:
الأول : فضح النفاق والمنافقين.
الثاني : إخبار الآية للمسلمين عن كذب الكفار والمنافقين.
الثالث : كشف الآية لما يجري في منتديات الكفار والمنافقين.
الرابع : توكيد مخادعة الكفار لله والذين آمنوا،و بيان كيف أنهم يخدعون أنفسهم، كما في قوله تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ]( ).
لقد أحاط الله الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعناية ولطف، وتفضل بالدفاع عنهم ونصرتهم، وجاءت هذه الآية لفضح عدوهم، وتثبيت أقدامهم والربط على قلوبهم.
وهل ينحصر موضوع الآية في بدايات البعثة النبوية وزمان الرسالة أم أنه مستمر الجواب هو الثاني.
فالآية واقية للمسلمين في كل زمان من أهل الضلالة والمنافقين الذين يظهرون الإيمان كذباً، وتحذير منهم ومن رؤسائهم، لأن قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ] ( )، بيان لوجود كبراء ورؤساء للضلالة يتصاغر عندهم أتباعهم، ويحتمل أن يصدروا عنهم فيما يأمرونهم به من أسباب العداوة للإسلام والمسلمين، فلم تقل الآية (إذا خلوا الى الشياطين) ولا (إذ خلوا إلى رؤسائهم) بل ذكرت أموراً :
الأول : الخلوة بين الكفار.
الثاني : وصف كبراء الضلالة بالشياطين وهو جمع شيطان، ويعني في اللغة كل متمرد من الجن والإنس والدواب، قال تعالى [شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ] ( ).
الثالث : إظهار الكفار التأييد للشياطين .
الرابع : إعلان الكفار بأنهم يستهزئون بالنبوة والتنزيل .
وورد لفظ الشياطين في القرآن سبع عشرة مرة، ولكنه لم يرد بلفظ (شياطينهم) إلا في هذه الآية الكريمة لتكون هذه النسبة تحذيراً من وجوه :
الأول : التحذير من الكفار والمنافقين الذين يدعون الإيمان بحضرة المسلمين.
الثاني : من الذين يذهب إليهم الكفار ويكونون معهم في خلوة ومعزل عن المؤمنين.
الثالث : من خلوة الكفار فيما بينهم، ولقائهم في منتدياتهم.
وجاءت هذه الآية لبعث الفزع والخوف في نفوسهم، حتى وهم في حال الخلوة والإنفراد.
ولو قلت بأن الواو في (وإذا خلوا) للاستئناف، ونظرنا إلى الشطر الأول من الآية على نحو مستقل [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا] فهل يكفي قولهم آمنا، الجواب لا، لأن الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعني لزوم إتباعه وأداء الفرائض التي جاء بها من عند الله لذا جاء قوله تعالى في خطاب لبني إسرائيل [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]( ).
وجاء الشطر الثاني من الآية للإخبار عن عدم كفاية قول (آمنا) فلابد من العمل بأحكام الإيمان،والإعراض عن أقطاب الضلالة الذين يبثون الشك والريب في معجزات النبوة، ويحرضون على العناد والجحود، قال تعالى [شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا]( ).
من غايات الآية
تدعو الآية المسلمين إلى الإتحاد ونبذ الفرقة، اذ انها تخبرهم بوجود أعداء لهم غير ظاهرين، يدّعون الإيمان زوراً وزيفاً، وتحثهم على المواظبة على العبادات، وتقوي عزائمهم وثباتهم على الهدى والإيمان لأن كيد الشيطان ضعيف، وفي الآية إخبار عن علم الغيب وإعانة للمسلمين على معرفة أعدائهم وفضح خبثهم.
وتبعث الآية الفزع في قلوب الكافرين، وتجعلهم يستحضرون في منتدياتهم نزول آيات القرآن التي تنبأ عن مكرهم وكيدهم وحمل كثير من المفسرين الآية على المنافقين وأنهم هم الذين [َإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا..]( ).
وصحيح ان المنافقين أظهروا الإيمان وأخفوا الكفر الا ان الآية أعم وتتعلق بصنف من الكفار الذين يدعون الإيمان عند لقاء المسلمين وإقامة الحجة عليهم، كما في قوله تعالى [وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ]( ).
في الآية مسائل :
الأولى : الإخبار عن بلوغ الدعوة الإسلامية الى الكفار والمنافقين، بما فيهم رؤساء الكفر الذين تصفهم هذه الآية بالشياطين، لأن مضامين الدعوة تصلهم مباشرة ، وبواسطة هؤلاء المخادعين الذين يقولون لهم [إِنَّا مَعَكُمْ].
الثانية : حث المسلمين على دعوة الآخرين للإيمان، ودخول الإسلام وان كانوا متلبسين بالكفر والنفاق.
الثالثة : القرآن عون للمسلمين في دعوتهم للإسلام، وسلاح سماوي لفضح الكفار الذين يستهزءون بالمسلمين.
الرابعة : تنبيه المسلمين وتحذيرهم من الكفار الذين يكيدون بالإسلام.
الخامسة : دعوة المسلمين الى أخذ الحيطة والحذر من أهل النفاق
وعدم إطلاعهم على أسرارهم وأمور دولتهم لرجوعهم الى الرؤساء من أهل الكفر والشقاق.
السادسة: بيان إنتشار الإسلام وقبول الناس لمبادئه ودعوة أعدائه لدخوله مع بقاء الكفر والجحود في بيان لسنة الحياة الدنيا وما فيها من الإبتلاء والإفتتان.
الإعجاز في نظم هذه الآيات
جاءت آية البحث سابعة سبعة آيات في بيان خصال المخادعين، وإبتدأت هذه الآيات بقوله تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]( )، لتكون مدرسة في كشف قبائح الكفار، وظهور عنادهم وجحودهم بالذات والعرض، أي في خبث سرائرهم والتناجي فيما بينهم، وفعلهم بين الناس، وجاءت الآيات الستة التالية في ذمهم وتفسير وعلل إصرارهم على الجحود والمخادعة، وبيان حالهم بصيغة المثل التي تؤدي إلى نفرة النفوس منهم ومن فعلهم، وتحتمل النسبة والصلة بين أشخاصهم وبين الكفر والخداع وجهين:
الأول: الملازمة بين أشخاص الكفار ومرض القلوب والخداع والزور في دعوى الإصلاح، والسفاهة، والإستهزاء بالمؤمنين.
الثاني: إنعدام الملازمة بين أشخاص الكفار والقبائح التي ذكرتها الآية أعلاه.
والصحيح هو الثاني، إنما الفعل القبيح عرض جاءت هذه الآيات لتجعله سريع الزوال، وليحل محله ضده من التوبة والإنابة والصلاح.
لتكون الآيات الثلاثة عشرة مجتمعة ومتفرقة دعوة للصلاح، والتحذير من أشخاص الكفار، وسوء فعلهم، فعدم الملازمة بينها لا يعني الإطمئنان لهم، قال تعالى[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ) .
وبعد هذه الآيات جاءت الدعوة للناس جميعاً بلزوم عبادة الله عز وجل ليتجلى في نظم هذه الآية إعجاز قرآني وهو أن ذم الكفار وسيلة للصلاح. ومن إعجاز نظم الآيات أن الخطاب في الآية لم ينحصر بخصوص المسلمين, وفيه نكتة وهي أن ذم الكفار ليس برزخاً دون دعوتهم للإسلام, بل ذات الذم والمثل وكشف وتقبيح فعل الكفار المخادعين دعوة لهم للتوبة والإيمان فإن قلت لماذا لم تقل الآية [ياأيها الذين كفروا أعبدوا الله ] والجواب ليس في القرآن خطاب بإختصاص الكفار بالنداء, وفيه مسائل :
الأولى : تضمن النداء القرآني معاني التشريف والإكرام .
الثانية : توجيه الخطاب التكليفي للناس بلحاظ الخلق والسنخية , قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) .
الثالثة : تأكيد إنتفاء الشريك والند لله عز وجل .
الرابعة : دعوة الناس على نحو العموم الإستغراقي لعبادة الله عز وجل , وفيه أمور :
الأول : الثناء على المسلمين لأنهم إختاروا عبادة الله .
الثاني : بيان صيغته وهي ملازمة عبادة الله للإنسان ما دام حياً, إذ جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإختبار, والذي يتقوم بطاعة الله ورسوله .
الثالث : ذم الكفار والمنافقين, وتذكيرهم بالعبادة .
الرابع : دعوة الناس للإعراض عن الكفار وخصالهم القبيحة .
الخامس : دعوة الناس جميعاً لأداء الفرائض والمناسك .
فإن قلت كيف يشملهم الأمر في الآية بعبادة الله, وهم دائبون عليها, فهل هو من تحصيل الحاصل, الجواب : لا, لأن مصاديق عبادة الله متجددة كل يوم وليلة وجاءت آيات القرآن بأمر المسلمين بعبادة الله قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ]( ), وجاء الخطاب القرآني للمسلمين خاصة بلزوم إقتران عبادة الله مع عدم الشرك به, ووجوب الإحسان إلى الوالدين بقوله تعالى [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى] ( ).
لقد إنتقلت الآيات إلى علة خلق الناس, وسبيل نجاتهم, والبلغة إلى اللبث الدائم في النعيم الآخروي, ببيان حقيقة وهي أن هذه الآيات خير محض ونفع للناس جميعاً وأن إقامة الكفار على الجحود وتلبسهم بالخداع, وإفترائهم على المسلمين لم يمنع من بيان وظيفتهم في الحياة الدنيا وجذب القرآن لهم إلى مقامات العبدة والتقوى وفيه نكتة بلزوم إنشغال المسلمين بعبادة الله, ونشر أحكام الشريعة, وعدم الوقوف عند الكفار وخداعهم ومكرهم, وعدم الوقوف هذا من عمومات قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
فمن مصاديق الخير والنفع المحض في مكر الله في هذه الآيات هو كشف وفضح الأفعال المذمومة للكفار, ودعوتهم للهداية, وتفقه المسلمين في الدين, ومعرفتهم بأحوال الناس الذين من حولهم, إلى جانب مجيء القرآن بقصص الأمم السالفة وما لاقاه الأنبياء من الأذى في سبيل الله, لتكون كل قصة منها واقية وحرزا للمسلم من المكر السيء والخداع .
ولم تكتف الآيات التالية بلغة المثل في ذم الكفار بل وصفهم بالصمم والخرس والعمى والعجز عن الرجوع والإنابة.
ويحتمل هذا الوصف وجوهاً :
الأول : إنه من المجاز لأنهم يمتلكون حاسة السمع والبصر وآلة النطق.
الثاني : لقد إبتلى الله الكفار بآفات في حواسهم يتخلفون معها عن الإدراك .
الثالث : إنه من الجامع المشترك بين الحقيقة والمجاز.
التفسير
قوله تعالى [ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا]
صفة ظاهرة أخرى يخبر عنها القرآن ببلاغة ونعت دقيق، فهؤلاء يتصرفون بازدواج فيه خداع للمؤمنين، وتثبيت لأصحاب الضلالة على ضلالتهم.
وتدل الآية في مفهومها على حصول التلاقي والإجتماع بين المسلمين وغيرهم من المخادعين وأهل الضلالة، وهذا الإجتماع يحمل عنواناً عقائدياً لأن فيه دلالة على قيام المسلمين بالتبليغ ودعوة الناس الى الإيمان مع الحجة والبرهان، لأن الإستجابة الظاهرية وإظهار المخادعين للإيمان لابد وان يكون تحت سلطان الحجة والبرهان، والعجز عن ايجاد دليل للبقاء على الجحود والعناد، وان هذا العجز يطاردهم في خلواتهم لذا جاءت الآية بنسبة فعل اللقاء لهم [إِذَا لَقُوا] ولم تقل الآية اذا لقاهم الذي آمنوا.
والذين آمنوا عنوان عام يدخل فيه الصحابة والتابعون والمسلمون جميعاً الى يوم القيامة، وجاء وصف اللقاء على نحو الإطلاق والشرط مما يدل على ثبوت هذا النعت والوصف للمخادعين.
قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ]
فهم اذا التقوا بالمؤمنين او جمعتهم معهم مناسبة او حديث او مقام يبادرون إلى إعلان ايمانهم والتصديق بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أما إذا إلتقوا بأصحابهم من رؤوس الكفر فانهم يؤكدون لهم بقاءهم على الكفر والضلالة , وعدم مغادرة منازل التبعية لهم.
وهذا الشطر من الآية إعجاز دائم يؤكد نفاذ القرآن إلى منتديات الكافرين الخاصة ورصد وتوثيق ما يجري فيها، وجاءت الآية من باب المثال وليس الحصر، بمعنى انهم حينما يخلون مع أنفسهم وكبرائهم من رؤوس الضلالة فانهم يؤكدون إصرارهم على الكفر ويبيتون للمسلمين الكيد والمكر، وان هناك خلوة ومجالس خاصة لأهل الكفر يتباحثون فيها.
ومع ان الآية تتناول حال المخادعين وتبين قبيح ما يفعلون، فانها تظهر أمراً آخر وهو وجود من هو أخطر وأشد على الإسلام من هؤلاء المخادعين ممن يجهر بالعداء للإسلام ويتصدى لمحاربة المسلمين ويحاول الإضرار بهم، فهذه الخلوة تزيد المخادعين عناداً وتجعل غشاوة إضافية على أبصارهم.
وجاءت الآية بصفة الخلوة بمعنى الإنفراد مما يعني حرصهم على كتمان مثل هذا الإجتماع أي ان إرادة الإخفاء لا تنحصر بما يجري فيه من القول والعزم على المكر بل يشمل ذات الإجتماع نفسه، فجاء القرآن ليفضح هذا الإجتماع ويبين موضوعه ويذم أطرافه ويهاجمهم في منتدياتهم السرية ويشتت جمعهم.
ويبين الجمع بين الآيات أن خلوتهم لا تنحصر بالتبري مما إدعوه أمام المسلمين بل انه مقدمة وإبراز لحال العداء والغيض والإستعداد للتعدي على المسلمين اذا تهيأت لهم الأسباب . قال تعالى [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ]( ).
قوله تعالى [ شَيَاطِينِهِمْ ]
ذكر في تفسيرها وجوه:
الأول : رؤساؤهم من الكفار، عن ابن عباس( ).
الثاني : هم الذين أمروهم بالتكذيب.
الثالث : روي عن الإمام الباقر عليه الســلام: “انهم كُهانهم قالوا انا معكم أي على دينكم”( )، مما يدل على ان متعلق الآية أعم من المنافقين.
الرابع : قال ابن عباس: وهم خمسة نفر : كعب بن الأشرف من اليهود بالمدينة وأبو بردة من بني أسلم ، وعبد الدار في جهينة وعوف بن عامر في بني أسد وعبدالله بن السوداء بالشام ، ولا يكون كاهن إلاّ ومعه شيطان تابع لهم( ).
لقد علموا ان الإسلام هو التلفظ بالشهادتين فلم يترددوا في اظهار الإسلام
واعلان الولاء له والتعاون مع المسلمين ضد أعدائهم، ولكنهم لم يخفوا مواقف العداء بل كانوا يصرحون بها عند أعداء الإسلام كسجية مترجلة إلى الخارج بالفعل والسلوك الضار.
دراسة مقارنة
تبين الآية نوع صلتهم بالمسلمين التي جاءت بعنوان اللقاء مما يعني في ظاهره انه لا صلة متينة لهم مع المسلمين ولكن ان جمعهم لقاء عرضاً واتفاقاً فانهم يقولون لهم (آمنا)، والإيمان جهاد يومي متصل بتلقي الأحكام من مصدر الوحي وحضور الصلاة اليومية والمؤازرة والتعاون بين المسلمين كما كان ظاهراً بجلاء بين المهاجرين والأنصار.
لقد ذكرت الآية انفرادهم بأهل الكفر والضلالة الذين نعتتهم الآية بالشياطين للإجتماع على الشر والإتفاق على المكر السيء، كما انهم يقولون [ إِنَّا مَعَكُمْ ] والمعية تعني الإتحاد والتشابه ووحدة العمل والتضامن فيه , ولكن فعل المنافقين والمخادعين على خلافه.
قوله تعالى [ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ]
(ما) في [ إِنَّمَا ] زائدة كافة عن عمل (ان) في نصب إسمها، وجاءت هنا متضمنة نوع إستدراك وتوكيد ودفع وهم بميلهم الى الإيمان لتكون الآية حجة عليهم في الدارين.
إنهم يخبرون عن عدائهم وسخريتهم من المؤمنين وعدم إيمانهم بما يؤدى من العبادات وما يتتابــع من أحكــام الشـــريعة، وهذا يفســـر زيف إدعائهم الإيمان أمـــام المؤمنين وبحضرتهم، فهم لم يدعـــوا الخـوف او الرياء او التورية او انهم في حالة من التردد والشك وقلة اليقين.
ويمكن حمل هذا القول منهم عند كُهانهم ونحوهم من باب الخوف منهم، وان لم يكن هؤلاء من القوة بحيث يستطيعون البطش بالمؤمنين او التنكيل بهم , وهل يحمل على العادة وإستصحاب الصلة ؟الجواب لا.
وقد يقال ان الاسلام لا زال فتياً وشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم محاط بالمخاطر بمنظار هؤلاء الذين لم يؤمنوا بعد بالمدد الالهي والعناية السماوية التي تتغشى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعصمه من الناس وأذاهم، فيحرصون على عدم قطع صلات المودة مع كبرائهم من أهل الكفر والضلالة بتوكيد البقاء على دينهم أو التظاهر بمحاكاتهم ومتابعتهم.
نعم هذا التأويل لا يمكن أن يكون علة تامة لســلوكهم هذا، ولا قدرة له على إسـتغراق كل أفراد المعانديــن والمنافقين لإختـــلاف أصولهم ومشاربهم، ولكن هذا السلوك منهم والخشية من رؤساء الضلالة أمر ظاهر وكاف لتوبيخهم وذمهم والتعريض بهم وتحذير المؤمنين منهم.
وقد يكون في هذا السلوك تثبيت لكهانهم ورؤسائهم في الكفر وتعاهد مؤقت لمواقعهم وكياناتهم فهم يرفدونهم بأمل موهوم , ويظهرون إليهم بتصرفهم المزدوج هذا إحتمال تسرب الضعف والتفكك الى عالم الإيمان ليكونوا عوناً لهم على إتخاذ مواقف معادية للإسلام ومناوئة للرسالة ومعالم النبوة.
انهم يقومون بالاضرار المركب من وجوه :
الأول : إنهم يؤذون المؤمنين .
الثاني : يحاولون إرباك مسيرة الاسلام .
الثالث : يضرون أنفسهم بما يسرونه من الكفر والضلال .
الرابع : يسيؤون الى رؤساء الكفر بزيادة آثامهم وجعلهم يصرون على عنادهم ويطمعون في النيل من مدرسة القرآن .
الخامس : يمتطون التحريف وإثارة الشبهات.
السادس : يبثون أسباب الشك والريب .
ولقد جاءت الروايات بالتحذيـــر من المنافقــين خاصــة، والتي تشمل المعنى الأعم ففــي عهده الى محمــد بن ابي بكر لما ولاه مصـــراً قال الإمام علي عليه السلام: “قال لي رســول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اني لا أخاف على أمتـــي مؤمناً ولا مشــركاً، أما المؤمن فيمنعــه الله بايمانه، وأما المشـــرك فيقمعه الله بشركـــه، ولكني أخاف عليكـــم كل منافق الجنـــان عالم اللســـان يقول ما تعرفون، ويفعل ما تنكرون”( ).
ولم يكتف اهل النفاق والضلالة باعلان إنتمائهم إلى معسكر الكفر والجحود بل أخبروا عن حقيقة إدعائهم الإيمان بين يدي المسلمين، فاخبارهم عن حال الإستهزاء والخداع حجة عليهم.
لقد أرادوا بيان أسباب خداعهم للمسلمين وعدم إعلان كفرهم وإصرارهم على الخداع وإرادة الإستهزاء بالمسلمين، ومحاولة الإنتفاع من دعوى الإيمان في الأخذ من الغنائم والمنافع التي ينالها المسلمون.
والآية توكيد لحقيقة ثابتة وإظهار لإعتراف المنافقين والمعاندين وكشفهم عن خبث سرائرهم وقبح أفعالهم ومقابلتهم للحق وأهله بالسخرية والإستخفاف.
وتدعو الآية المسلمين الى عدم الركون إلى أقوالهم وأفعالهم وأخذ الحيطة منهم والحذر منهم مطلقاً، خصوصاً في مواجهة العدو فانهم يعملون حينئذ على إعانته وتثبيط عزائم المسلمين وبث الفزع والشك في نفوس المقاتلين، وهناك شواهد كثيرة في التأريخ تدل على هذا المعنى , وجاءت آيات القرآن حرزاً من مكرهم, قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ]( ).
قوله تعالى[ اللَّهُ يَســتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُـدُّهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهونَ ] الآية 15.
القراءة والإعراب واللغة
قرأ زيد بن علي (في طِغيانهم) بكسر الطاء.
اسم الجلالة : مبتدأ، والجملة الفعلية (يستهزىء) خبر، بهم : جار ومجرور متعلقان بيستهزئ .
ويمدهم: الواو : حرف عطف، يمدهم : فعل مضارع مرفوع عطفاً على يستهزئ ، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود الى الله تعالى، والهاء : ضمير متصل في محل نصب مفعول به .
في طغيانهم : جار ومجرور متعلقان بيمدهم، والضمير (الهاء) في محل مضاف اليه.
يعمهون : جملة في موضع حال.
أصل المد : الزيادة، ويعني الجذب والَمْطل، وفي المقام : الإمهال والترك وإبقاء أسباب الطغيان، وفي تنقيح المناط يظهر انها نعمة وفضل إلهي جعله المخادعون طريقاً وآلة للصدود عن الهدى ولإيذاء المؤمنين.
والطغيان : تجاوز الحد وموازين العدل، يقال : طغى يطغى طغياً، ويطغو طغياناً : تعدى القدر، وارتفع وعلا في الكفر، ويقال : طغى البحر: إذا هاجت أمواجه.
والعمه : التردد والحيرة، وبين العمى والعمه عموم وخصوص من وجه، لأن العمى يقع في البصر والرأي، وموضوع العمه هو الرأي وعلى القول بأن العمى عام في البصر والرأي، تكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق.
في سياق الآيات
في الآية إظهار لخيبة أمل أهل الضلالة وخسارتهم، فبعد أن بينت الآيات السابقة وجوهاً من قبائحهم أظهرت هذه الآية خطأ المبنى الذي إعتمده أهل العناد والنفــاق، وحال الإســتدراج التي تعــني إنغمـاسهم في الآثام، وبينت عظيم قدرة الله سبحانه وسلطانه المطلق .
وكما جاءت الآيات السابقة بإبطال قول المنافقين [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] وذم الله تعالى لهم بنعتهم بالفساد بقوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ] فكذا هذه الآيات , فحينما قالوا [إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] جاءت هذه الآية بالرد عليهم بقوله تعالى [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ] وتلك آية إعجازية، إذ تذكر آيات القرآن أقوال المنافقين والكفار والرد عليهم بما يفيد إبطالها وفضحها.
وتأتي الآيات التالية لتذكر إختيارهم الضلالة وخسارتهم الدنيا والآخرة ، وجاء في الآية السابقة قولهم “مستهزئون” أما في هذه الآية فذكر إستهزاء الله بهم بالجملة الفعلية التي تفيد التجدد من وقت لآخر وعلى إختلاف أحوالهم، لبيان ان هذا الإستهزاء عقوبة لهم على تعديهم وظلمهم للمؤمنين، وسبب لبعث الحيرة في نفوسهم، ويعني إستهزاء الله عز وجل بهم ان المسلمين أيضاَ يستهزءون بهم مع التباين في موضوع الإستهزاء.
فإستهزاء المسلمين بهم له موضوع، وهو عام في أفراد الزمان والعوالم الطولية، فيشمل أحوال الدنيا والآخرة، وأما إستهزاء الكفار والمخادعين بالمسلمين فهو وهم لا أصل له، وخاص بالدنيا.
ويحمل إستهزاء المسلمين على الأعم من السخرية ، فيشمل الإدراك النوعي العام لضلالة المنافقين وتيه الكافرين، وعجزهم عن التأثير والإضرار بالمسلمين , وعدم ترتب الأثر على إستهزائهم بالمسلمين لأنهم مواظبون على العبادات بإيمان وشوق.
لقد تضمنت آية البحث أموراً ثلاثة هي:
الأول: إستهزاء الله بالكفار المخادعين.
الثاني: إمهال الله عز وجل لهم مع إتصال ودوام النعم.
الثالث: نعت الكفار المخادعين بتجاوز الحد، والغلو في التعدي.
الرابع: حيرة وضياع أهل الضلالة.
وجاءت الآية التالية لبيان إبتلاء الكفار المخادعين بإختيار الكفر والضلالة، ومع أن هذا الإختيار قبيح ذاتاً وعرضاً فقد دفعوا له أغلى ثمن وهو الهدى والصلاح ، والأصل أن الهدى يُشترى ويكون غيره ثمناً له، ولا يكون هو ثمناً لغيره، لأن الهدى حاجة وضرورة للإنسان، قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ) .
وليس من حصر لأسباب الهداية إلى الصراط المستقيم والهداية ولا تختص بالسنة النبوية بل تشمل تلقي وتلاوة آيات القرآن، وهل آية البحث من أسباب الهداية إلى الصراط المستقيم، الجواب نعم، وفيه تفصيل من وجوه:
الأول: إختصاص هداية الآية بالمسلمين , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ]( ).
الثاني: العموم في هداية الآية للناس جميعاً، ولا تحصر الآية أعلاه الهداية بالمسلمين.
الثالث: القدر المتيقن من الآية ذم الكفار المخادعين.
والصحيح هو الثاني، إذ تتضمن الآية توبيخ الكفار، وبيان سخط الله عز وجل عليهم، والذي يدل بالدلالة التضمنية والإلتزامية على الزجر عن إخفاء الكفر مع إدّعاء الإيمان كذباً وزوراً، وفي الآية تثبيت للإيمان في نفوس المسلمين، قال تعالى[يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]( ).
وتحتمل الصلة بين هذه الآية والآية التالية وجوهاً:
الأول: مضامين الآية التالية علة لما تبينه هذه الآية من حال الكفار.
الثاني: إستقلال موضوع كل من الآيتين.
الثالث: إتحاد الآيتين في بيان صفات الكفار المخادعين.
الرابع: تتجلى في الآية التالية العقوبة الإلهية للكفار على إستهزائهم بالمؤمنين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وهو من إعجاز القرآن، ومن الجمع بين المؤتلف والمختلف، والمتفق والمتسق .
إعجاز الآية
في الآية بيان لأسرار كونية وتكوينية، وإخبار غيبي عن خسارة أهل الضلالة وعدم إضرارهم بالمؤمنين، ودفاع الله تعالى عن المسلمين ونصرته تعالى لهم.
وتتضمن الآية توبيخ المنافقين، ورد تعديهم على المسلمين بجزاء وعقوبة أشد منه، فإستهزاؤهم بالمسلمين أمر مفضوح ولا إعتبار له، وهو مناسبة لنيل المسلمين الثواب، بينما يأتي إستهزاء الله تعالى بهم عقوبة وجزاء وإخباراً عن تحمل المنافقين الإثم والوزر لسوء فعلهم.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية (الله يستهزأ بهم) ولم يرد لفظ (يستهزأ) في القرآن إلا في هذه الآية .
الآية سلاح
في الآية تخفيف عن المسلمين , وهي سلاح ورد سماوي كريم على تعدي أهل الضلالة والنفاق.
وإخبار عن تفضل الله تعالى بتعضيد عمل المسلمين، وفضح الكافرين والمنافقين،وفيها مدد وعون للمسلمين وإخبار عن كفايته تعالى لهم, قال تعالى (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) ( )
ولم تقل الآية ان المسلمين يستهزءون بالكفار والمنافقين لتحصل مقابلة ومشاكلة بالفعل، مع التباين في الجهة بل أخبرت الآية عن كون الله تعالى هو الذي يستهزئ بالكفار ، وفيه توبيخ وإنذار , ويحتمل هذا الإستهزاء وجوهاً:
الأول : انه رد على إستهزائهم بالمسلمين.
الثاني : بيان قانون ثابت وهو إستهزاء الله عز وجل بالكافر والمنافق الذي لا يفقه ما ينتظره من العذاب الأليم بسبب إقامته على المعاصي.
الثالث : إرادة المعنى الأعم الشامل للوجهين الأول والثاني أعلاه، والصحيح هو الأخير، فسواء إستهزءوا بالمسلمين أو لا، فان الله عز وجل أعدّ لهم عذاباً أليماً، وجعل لهم الدار الدنيا دار إمتحان، لتكون أفعالهم حجة عليهم، وسبباً لحلولهم بالعذاب الأليم، لذا جاءت خاتمة الآية بقوله تعالى [وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ].
الآية لطف
تبين الآية ان المواجهة بين المسلمين والكفار ليست متكافئة، فالقوة والغلبة والنصر للمسلمين فالله عز وجل مع المسلمين , إذ يرد على الكفار ويفضحهم، ويذمهم ويقبح أفعالهم، الأمر الذي يعني قوة ومدداً إضافياً للمسلمين.
وتبطل الآية كيد الكفار، وتجعل إستهزاءهم وإستخفافهم بالمسلمين فاقد الأثر والتأثير، وفي الآية تخويف ووعيد للكفار، وهو من مصاديق الرحمة الإلهية في الدنيا، إذ أنه زجر عن المعاصي وتحذير من الإستخفاف بالمسلمين، ودعوة للهداية والإيمان، ان وصف الكفار بالطغيان وتجاوز الحد دليل على عتو ظاهر عندهم، فجاء المدد الإلهي للمسلمين، ليكون عوناً لهم في مواجهة أعدائهم، وهو من مصاديق إستهزاء الله بالكفار.
في الآية مسائل:
الأولى : الآية مدد للمسلمين، ودعوة لهم للثبات على الإيمان، وعدم الإلتفات الى ما يأتي من الكفار والمنافقين من الضرر والأذى.
الثانية : الآية من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )
فقد يكون من وجوه الإستهزاء الكيد والمكر الخفي، فجاءت هذه الآية لكشفه وفضحه، ويمنع هذا الفضح من تأُثيره على النفوس.
الثالثة : تجعل الآية المنافقين والكفار منشغلين بأنفسهم لأنها تبين سوء سرائرهم , وما يخفون في صدورهم.
الرابعة : تدعو الآية الناس جميعاً الى عدم إستحواذ النفس الشهوية على إختيارهم، وتحثهم على التدبر بآيات الله، ومعجزات النبوة من غير إعتبار لما يقوله المنافقون.
الخامسة : تتضمن الآية الإنذار والوعيد مما أعده الله عز وجل للمنافقين والكافرين ,قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ]( )، وفيه حث سماوي للناس على نبذ النفاق والإبتعاد عن أهله.
مفهوم الآية
إن الله عز وجل لم يترك الكافرين يشيعون الفساد في الأرض, ويصدون عن سبيل الله ويحاربون الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إذ أن الله سبحانه يجعل أعمالهم في خسران، ويسـتدرجهم في دروب الضلالة التي إختاروها لأنفسهم من غير أن يكون في الأمر جبر أو إكراه.
وفي الآية مدح للمؤمنين لأنهم إختاروا الإنتماء إلى الإسلام وإتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فتنزهوا من التيه والضلالة، وتؤدي الآية في مفهومها إلى السخرية بالكافرين وتبعث على النفرة منهم وإن كستهم الدنيا بزينتها.
وفي الآية تحذير للكافرين، ودعوة لعدم مخادعة المسلمين، وان الخداع مكر بسيط، جاءت هذه الآية لفضحه وكشفه ودفع ضرره.
وفي الآية مسائل:
الأولى : إرجاع كيد الكافرين إلى نحورهم، والإخبار عن زجرهم وتقبيح فعلهم.
الثانية : منع المسلمين من الإفتتان بهم.
الثالثة : الإخبار بان الله يمهلهم ويتركهم الى حين يرتكبون الآثام بعناد وتعدِ وضلالة إستدراجاَ وحجة.
الرابعة : لم يترك الله عز وجل المنافقين وشأنهم، وقيامهم بالإستخفاف بالمسلمين بل يبتليهم بأن يكونوا محل الإستهزاء الإلهي وما فيه من البلاء والأذى.
الخامسة : تبين الآية ما يحمله المنافقون من الغيظ والحسد للمسلمين.
السادسة : إمهال المنافقين في غيهم ليكون حجة ووبالاً عليهم.
السابعة : ان الله عز وجل يعلم بمكر وكيد الكفار والمنافقين، وجاءت الآية للإخبار عن بطلانه، وان قيل ان المنافقين قالوا [إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] .
بينما جاء الرد الإلهي بالإستهزاء بهم ومدهم في طغيانهم وعتوهم لإقامة الحجة عليهم، وانهم إختاروا الطغيان، وفعلوا القبيح والمنكر وتجاوزوا الحد، والمد هنا ليس الإعانة بل الإمهال والإستدراج لتوكيد حقائق وهي :
الأولى : ان القوة جميعاً والقدرة المطلقة لله عز وجل.
الثانية : عدم إضرار المنافقين بالإسلام والمسلمين، وان إزدادوا مكراً ودهاء.
الثالثة : دعوة المسلمين للصبر والتحمل المقرونة بالبشارة بخيبة وخسارة المنافقين.
الرابعة : إنقطاع هذا المد والإمهال عن الكفار بالتردد والحيرة التي هم عليها.
الخامسة : جعل الكفار والمنافقين يدركون القبح الذاتي للطغيان، وعدم الإنتفاع منه.
السادسة : نسبة وإضافة الطغيان الى المخادعين والمنافقين حجة عليهم، وان الإمهال والإستدراج جاء بعد تماديهم في التعدي وتجاوز الحد.
إفاضات الآية
الحمد لله الذي يؤيد المسلمين بنصره ويمدهم بالقوة والمنعة، ومن وجوه المنعة انه سبحانه يفضح المخادعين ويمهلهم يتمادون في غرورهم وهم يتمتعون بمباهج الدنيا، لقد أظهرت الآية خسارة المنافقين وإندحارهم لأن الله تعالى تولى زجرهم وردعهم.
ومن ينساه الله من رحمته لن يرى الخير والنفع والبركة فكيف بمن يستخف ويرد الله عليه مكره وسخريته بالمسلمين، وفي الآية إنذار للمخادعين، وإخبار عن عدم بقائهم متسترين في ضلالة وغي.
الصلة بين أول وآخر الآية
هذه هي أول آية تبدأ باسم الله تعالى [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ]، ومن الآيات ان تأتي بلغة الإنذار, وتتضمن الإخبار عن غضب الله تعالى على الكفار والمنافقين، واستدراجهم، وإمهالهم، وفيه بيان لحكم الله تعالى وعظيم قدرته وسلطانه، وتتضمن الآية موضوعين:
الأول : إستهزاء الله بالكفار.
الثاني : جعلهم متحيرين في تيه وضلالة.
وتبين الآية نصرة الله تعالى للمسلمين وإنتقامه من الذين يستهزءون بهم بإدعاء الإيمان.
لقد ذكرت الآية السابقة أقوالهم المتناقضة والمتباينة والتي يريدون منها الإضرار بالإسلام، وإعانة رؤوس الضلالة وهذا الذكر فضح لهم، ولكن الله تعالى ذو القوة المتين، وهو علام الغيوب، فقد جاءت هذه الآية لتخبر عن إنزال البلاء بالكفار في الدنيا لسعيهم للإضرار بالمسلمين ونصرتهم لرؤساء الكفر والضلالة.
فلم يأتِ الرد الإلهي على إستهزائهم بالمسلمين بمثله من الإستهزاء في موضوعه مع التباين في الحكم والأثر، إذ ان إستهزاءهم بالمسلمين لا يترتب عليه أي أثر أو ضرر على المسلمين لأن الآية السابقة فضحته وكشفت عنه ولكن إستهزاء الله تعالى بهم ليس له راد أو مانع.
وجاءت هذه الآية بالإنذار والوعيد والإخبار عن العقاب العاجل للكفار الذين يسعون للإضرار بالمسلمين.
وتبعث الآية السكينة في قلوب المسلمين لما يلقاه أعداؤهم والمستهزءون بهم من الخزي والأذى في الحياة الدنيا، وما ينتظرهم من العقاب الأليم في الآخرة، وفيها إنذار للكفار ودعوة للكف عن إيذاء المسلمين والكذب عليهم.
ومن وجوه الإنذار في الآية ما تبعثه من الفزع والخوف في قلوب الكافرين، وفيها تثبيط لأعمالهم ، وزجر من الإستهزاء بالمسلمين.
التفسير الذاتي
أختتمت الآية السابقة بإصرار المنافقين والكفار على النفاق والعناد وإنهم [مُسْتَهْزِئُونَ] أي يسخرون من المسلمين في إعلانهم الإيمان زوراً، وإظهار الشك والريب، والإستخفاف بالمسلمين وسنن الإيمان، إذ أن موضوع الإستهزاء أعم من أن ينحصر بإدعاء الإيمان ويشمل الإستهزاء بآيات القرآن والمعجزات الباهرات والفرائض، قال تعالى [وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا]( ).
وورد لفظ (يستهزءون) أربع عشرة مرة، وجاء أغلبها بلغة الإنذار والوعيد يوم القيامة، قال تعالى [وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون]( )، ولم يرد لفظ (مستهزءون) إلا في الآية السابقة، ولفظ (يستهزئ) إلا في هذه الآية، فحالما أظهر الكفار والمنافقون إستهزاءهم وإستخفافهم بأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء الرد والإخبار عن الجزاء ويحتمل إستهزاء الله بهم وجوهاً:
الأول : الإستهزاء بالكفار في الحياة الدنيا.
الثاني : يتعلق الإستهزاء بعالم الآخرة.
الثالث : العنوان الأعم وشمول الإستهزاء بالكفار في الحياة الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الثالث، وهو من الجزاء والعقاب للكفار الذين يسخرون من آيات الله، ومناسك العبادة، لذا جاءت الآية بلغة الفعل المضارع الذي يفيد إستهزاء الله عز وجل بهم على نحو الإستدامة.
وجاءت الآية بصيغة الجمع(بهم) فقد أحاط الله عز وجل بكل شئ،وتدل الآية على علم الله عز وجل بالمستهزئين وفعلهم، وفي الآية تعضيد للمؤمنين وتثبيت لقلوبهم لما فيها من الإخبار عن عدم ترك عدوهم وما يقوم به من التعدي والإستخفاف إذ لم يكن عدد المسلمين كثيراً، وكانوا يتعرضون للهجوم والتعدي من كفار قريش وغيرهم، كما في معركة بدر وأحد فقد كان جيش الكفار في كل منهما نحو ثلاثة أضعاف جيش المسلمين، ويفوق الفارق هذه النسبة كثيراً بخصوص العدة والخيل والمؤون، كما قام الكفار بحصار المدينة في معركة الخندق أقل قليلا من الشهر .
لتكون هذه الآية بشارة خسارة الكفار , وتجلي مصداق إستهزاء الله عز وجل بهم بهزيمتهم في معارك الإسلام الأولى وفي معركة أحد نزل قوله تعالى (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ) ( ).
فجاءت هذه الآية لبعث السكينة في نفوس المسلمين، وكفايتهم بخصوص الإستهزاء وآثاره النفسية، كما تطرد الآية أسباب الغضب عن المسلمين، وتجعلهم ينشغلون بإصلاح أنفسهم ومجتمعاتهم من غير إلتفات إلى إستهزاء الكفار لأن الله عز وجل كفاهم إياه.
فصحيح أن الآية جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها وعد إلهي كريم للمسلمين بجزاء عدوهم بالعقاب الدنيوي والأخروي ليفوز المسلمون بنعمة لم تنلها أمة من المليين وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، خصوصاً وأن موضوع آية البحث منبسط على أفراد الزمان الطولية المتعاقبة ولم ينحصر بزمان, النزول وهذه النعمة على وجوه تتكون من :
الأول : إخبار الله عز وجل لهم عن إستهزاء عدوهم بهم كما في الآية السابقة ليكون هذا الإخبار واقية لهم، ومناسبة للإحتراز منه.
الثاني : مجئ الجزاء على هذا الإستهزاء من عند الله عز وجل، فقد كان المسلمون حديثي عهد بالإيمان، إلى جانب قلة الموارد وشظف العيش، فجاء المدد الإلهي بالسلامة من إستخفاف عدوهم بهم.
الثالث : العقاب الشديد لأعداء الإسلام.
الرابع : بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين.
وجاءت الآية بصيغة الفعل المضارع الذي يفيد الإستمرار والتجدد، وفيه دلالة على عدم ترتب آثار معتد بها على إستهزاء الكفار بالذين يبادرون إلى دخول الإسلام، لينجو المسلمون من الحرب النفسية وأسباب الشك والريب.
وتجعل هذه الآية إستهزاء وسخرية الكفار والمنافقين بالتنزيل والنبوة والمسلمين والعبادات والفرائض ظاهراً مكشوفاً، وعديم الأثر، أما إستهزاء الله عز وجل بهم فهو متجدد وليس لمصاديقه حصر أو تعيين، ومنها:
الأول : إستدارج الكفار وجعلهم يبوءون بإثمهم.
الثاني : إنشغال الكفار بالإستهزاء الذي يحجب عنهم رؤية الآيات، والتدبر في معانيها ودلالاتها.
الثالث : كشف جهالة الكفار.
الرابع : معرفة الناس لضلالة وخطأ الكفار، فلا يصغون لقولهم.
الخامس : توالي الآيات الباهرات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : دخول الناس في الإسلام أفواجاً.
السابع : رؤية المستهزئين لذويهم وأقربائهم يدخلون الإسلام، ويؤدون الفرائض، فقد يقوم أحدهم بالإستهزاء بالنبوة والمسلمين بحضرة جاره، ويفاجئ في اليوم التالي بجاره وقد دخل الإسلام بإيمان ورضا لتجلي معجزات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامن : من وجوه إستهزاء الكفار بالمؤمنين قلة عددهم وعدتهم، وإحتمال عدم صمودهم بوجه العدو الأكثر عدداً وعدة، وجاءت نتائج معركة بدر بنصر المسلمين وهزيمة الكفار شر هزيمة، ثم جاءت معركة أحد بعدها بنحو سنة، فتجلى عز ومنعة المسلمين بالصبر والخشية من الله، وظهر الإسلام من المعركة معافى سالماً.
التاسع : من وجوه إستهزاء الله بالكفار نزول الملائكة لنصرة المؤمنين في معارك الإسلام الأولى، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
العاشر : توالي نزول آيات القرآن، وما فيها من الأسرار ومفاتيح الخزائن العلمية والكلامية.
الحادي عشر : دخول بعض علماء بني إسرائيل، والقبائل العربية في الإسلام، وإظهارهم حسن الإيمان.
الثاني عشر : ورد عن ابن عباس في معنى الإستدراج: أنهم كلما أحدثوا خطيئة جدد الله لهم نعمة) ( ).
الثالث عشر : المكر بالكفار والبطش بهم , قال تعالى [يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وإستهزاء الكفار بالمسلمين يقابله الله بالإستهزاء بهم، وبتركهم متحيرين، لأن إستهزاء الله بهم نوع عقاب يجعلهم في ضلالة وتيه وبلاء مستمر.
لقد نعتت الآية الكفار بالطغيان وتجاوز الحد والغرور، مع تعييرهم وإنذارهم، وفيه تفسير لجحودهم بالآيات وعدم تدبرهم بالبراهين الساطعة التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن مصاديق المدد والإستدراج في طغيانهم وجوه :
الأول : ترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للمنافقين وعدم مناجزتهم القتال.
الثاني : إبرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المواثيق مع اليهود وبعض القبائل.
الثالث : حصول ما يمنون به أنفسهم من ظهور الكفار.
وعندما نزل أول سورة البقرة [الم] ( )، قال حيي بن أخطب واقبل على من كان معه: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم قال: ماذا.
قال : المص، قال : هذا أثقل، وأقوى الألف واحدة واللام ثلاثون والميم اربعون والصاد تسعون فهذه مائة واحدى وستون سنة هل مع هذا يا محمد غيره، قال: نعم، قال: ماذا؟
قال: الر قال: هذا أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة فهل مع هذا غيره؟
قال : نعم، قال: ماذا؟ قال : المر، قال : فهذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم اربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان، ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً( ).
ولم تقل الآية (ويتركهم في طغيانهم) بل قالت (يمدهم) لبيان أن مقاليد الأمور كلها بيد الله، والمشيئة المطلقة له تعالى، وأنه سبحانه يرزق الناس جميعاً، قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( )، ولكن الكفار يتخذون من النعم الإلهية سبباً للفسق والتعدي والغرور، فتظهر نتائج هذا الجحود عليهم بالحسرة والتيه والضلالة وكثرة التردد، والإسلام يخترق شغاف القلوب ومعجزات محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجذب النفوس المنكسرة، وتبعث إشراقة الأمل فيها.
من غايات الآية
من منافع الآية وجوه:
الأول : مجازاة الكافرين بسوء فعلهم وإستخفافهم بالمسلمين.
الثاني : ذم الكفار والمنافقين لأن الله عز وجل يمد لهم ويهيء لهم مقدمات الإيمان، ويقربهم الى سبل الطاعة وهم يصرون على الجحود، فالمسلمون دعاة الى الله وباب رحمة، وفي إيمانهم وأدائهم للعبادات تذكير للكفار والمخادعين بلزوم الإيمان وإخلاص النية، ومع هذا فانهم يقابلونهم بالإستهزاء.
الثالث : الإخبار عن تيه وتحير الكفار.
وفي الآية مسائل :
الأولى : بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو ان الله عز وجل يدافع عن الذين آمنوا.
الثانية : تبعث الآية الفزع والخوف في قلوب المنافقين.
الثالثة : خروج الإسلام قوياً من تعدي الكفار والمنافقين بعد إفتضاح أمرهم، وإستهزاء الله تعالى بهم.
الرابعة : مؤاخذة الله عز وجل للكفار والمخادعين على ظلمهم وتعديهم.
الخامسة : تفقه المسلمين في الدين، ومعرفة حقيقة وهي ان تجاوز الكفار والمنافقين أمر لن يدوم، وان عاقبتهم إلى خسران.
السادسة : حث المسلمين على الصبر في جنب الله، لأن ما يعانونه من الكفار والمنافقين باب للثواب، وسبب لنزول العذاب بالكفار والمنافقين.
السابعة : دعوة الناس للإسلام وندبهم الى توجيه اللوم والذم للكفار والمنافقين على إصرارهم وعنادهم وإستخفافهم بالمؤمنين بغير حق.
الثامنة : الآية من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا]( )، وقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين أعلاه أن عزة الرسول والمؤمنين إقتباس وإشتقاق من عزة الله تعالى بمشيئة ولطف من الله تعالى.
فالله عز وجل هو الذي يرى ويسمع ما يفعله ويقوله الكفار والمنافقون وتعديهم على المسلمين، فتأتي هذه الآية لتجعل المسلمين والى يوم القيامة في مأمن من إستهزائهم وترجع كيدهم إلى نحورهم.
التفسير
قوله تعالى [ اللَّهُ يَستَهْزِئُ بِهِمْ ]
تظهر الآية حال المخادعين والمنافقين , وفيها بشارة للمؤمنين وسكينة لهم.
ومن فضل الله تعالى إخبار المسلمين بانه يستهزيء بالمنافقين، وإستهزاؤه تعالى يمكن ان يتصور على وجوه:
الأول: يجازيهـــم الله على إســـتهزائهم هذا بما يناســبه من البـلاء والعذاب، والعرب تســمي الجزاء على الفعل باســمه كما ورد في قولــه تعـــالى [ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ]( )، إن الله عز وجــل يحصي عليهم الآثار المتفرعة عن إستهزائهم بالمؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لتكون حسرة عليهم وخسارة مهلكة.
الثاني : روي عن ابن عباس أنه قال : يفتح لهم وهم في النار باب من الجنة فيقبلون من النار اليه مسرعين حتى اذا انتهوا اليه سد عليهم فيضحك المؤمنون منهم، فلذلك قال عز وجل فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ .
ويمكن ان يكون هذا التفسير وجهاً من مصاديق الإستهزاء وإتصاله بالآخرة، والا فان ظاهر الآية يتعلق بالحياة الدنيا بدليل ذيلها , وما فيه من عطف.
الثالث : جعل الله عز وجل للمنافقين سنن وأحكام المسلمين ظاهراً، ثم ميزهم في الآخرة، أي انهم سوف يرون أنفسهم محرومين مما يناله المسلمون يومئذ.
الرابع : ذم الله عز وجل لأهل الكفر والضلالة وتخطئتهم لإقامتهم على الضلال.
الخامس : إخبار القرآن بأن تماديهم في الإستهزاء والغي إنما هو بلوى وإمهال وإستدراج من الله تعالى.
السادس: ان فعل الكفار والمنافقين هذا سوف لن يحقق أية نتيجة مما يتوخون، وانهم يجهدون أنفسهم في مسالك النفــاق دون ان يؤثروا في صــرح الإيمان أو يوقفوا تقدم رايات الإســـلام وإقبال الناس على الدخـول فيه.
السابع : حال العنـاد والكفر التي هم عليها موضوع لرفض الناس لأقوالهم.
الثامن : ما يستحقونه من الإســتخفاف يترشــح منه وبسببه إعــراض النـاس عنهــم.
التاسع : يتجسد الإستهزاء بهم في بعض مصاديقه بفضحهم وخزيهم وإستهزاء الناس بهم.
العاشر : لو شاء الله لهداهم للإيمان، ولكنه سبحانه تركهم عن الطريق ناكبين وعلى الخطايـا مقيمــين، وتلبســهم بهذه الحــال إستهزاء بهم.
الحادي عشر : نزول هذه الآيات بحــد ذاته إســـتهزاء بهم وفضـــح وذم لاعمالهم.
الثاني عشر : يتجسد الإستهزاء بالكفار والمنافقين بعز الإسلام ومنعة المسلمين، وعدم تأثير الخداع والمكر عليهم.
الثالث عشر: معرفــة المسلمين لأحوالهـم تجعلهم محل سخرية لأن سلوكهم مغاير لما يدعون ويعتقدون , ويتصــف بالتناقض من غير سبب وجيه.
الرابع عشر: إحاطة الله سبحانه علماً بالأفعال والأشياء جميعاً وكشف أسرار أعداء الإسلام يسقط ما في أيديهم، ويبدون معه على حقيقتهم ، وتظهر عيوبهم للملأ.
قوله تعالى [ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ]
يجعل الله تعالى الكفار يتمادون في أذاهم وتجاوزهم الحد وهم في حيرة وتردد وإرتباك، ان حالة الإزدواج التي يعيشون مصداق للحيرة والتردد .
وقد يطرح هنا سؤالان :
الأول : كيف يمدهم الله عز وجل في الطغيان، ويزيدهم فيه ثم يحاسبهم على ما صنعوا.
الثاني : لماذا لم يقف إبتلاؤهم عند الإستهزاء بهم وتعداه الى العمه والزيادة في الطغيان، والمد والزيادة في الطغيان ليست مقصودة بالذات في الغالب، فكلما إتسع المد الإسلامي إزدادوا حسداً وإمتلأت نفوسهم غيظاً وظهر على أفعالهم، وكلما إزدادت نعم الله عليهم ببركة الإسلام على الناس جميعاً إنشغلوا باللذات وإتباع الهوى والشهوات، ولقد قال تعالى [ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ]( ).
اما بالنسبة للسؤال الأول فان المد هنا يكون بالإمهال او بما يستحقون بسوء فعلهم وتماديهم، واما بالنسبة للسؤال الثاني فللآثار الناتجة عن استهزائهم، والتي تنعكس سلباً على نفوس المؤمنين والحالة العامة في مجتمعاتهم وما يحدثه إستهزاؤهم لدى حديثي الإيمان ونحوهم من التساؤل والخوف , فكل تعد من الكفار يكون نتيجة لسبب ذاتي، ومعلول لعلة وهو ذاته سبب لنتيجة أخرى وعلة لمعلول جديد، والأصل ما سولته نفوس المنافقين لهم.
وفي الآيــة إعجــاز بما تؤكــده من علم الله تعالى باستطاعة المؤمنين تحمل إســـتهزاء المنافقــين وما يســببه من أذى وأثر واقعي.
فان قلت لم لم يخفف الله عز وجل عن المؤمنين بالإنحسار الفوري لإستهزاء المنافقين.
قلت : لقد أراد الله عز وجل للمؤمنين الإمتحان ودروس الإختبار فتلقي هذا الإستهزاء طريق لتثبيت الإيمان في النفوس وسبيل الى الثواب والأجر العظيم، ولتكون موعظة لغيرهم على نحو مستديم في الأجيال المتعاقبة، وإنذاراً دائماً، وعبرة عبر القرون, قال تعالى (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) ( ).
وتخبر الآية عن حضور ومسمى لأهل الخداع والضلالة كباب للإمتحان، وتدعو المسلمين للتصدي لهؤلاء وان كان أثرهم منحسراً وضررهم مندفعاً.
ويفيد حرف الجر (في) الظرفية المجازية، ويعني ان طغيانهم يضرهم بالذات دون المؤمنين، وأنهم إختاروا العتو والطغيان.
وتدعو الآية المسلمين للصبر والإستعداد لحالات من الزهو والغرور تظهر على أقوال وأفعال الكافرين ، وتمنع من الإفتتان بهم او الخشية والخوف منهم ، ونسبت الآية الطغيان اليهم أي انه بإختيارهم، ويلحق به إستهزاؤهم بالمسلمين خصوصاً الفقراء والمستضعفين منهم.
فلو لم يكن الكفار مصرين على منازل الطغيان والعتو وتجاوز الحد لإستطاعوا ان يتدبروا الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويعلموا ان الذين آمنوا على حق وصواب.
لقد كان فريق من الكفار يظهرون الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند لقاء المسلمين، ولكن عندما يخلون برؤساء الضلالة يعلنون بقاءهم في منازل الكفر والضلالة، ويفسرون إدعاءهم الإيمان بحضرة المسلمين بأنه سخرية واستهزاء بالمسلمين, ، فجاءت الآية السابقة لفضحهم وخزيهم، وبيان إصرارهم على الضلالة.
وجاءت هذه الآية بالإخبار عن الجزاء العاجل من الله عليهم بانه سبحانه هو الذي يستهزء بهم، واستهزاء الكفار بالمسلمين لا بقاء لأثره وجاءت الآية السابقة بابطاله حتى عند الكفار أنفسهم، أما إستهزاء الله تعالى بهم فهو عقوبة عاجلة، وحكم ماض في الدنيا والآخرة.
وجاءت الآية بصيغة الفعل المضارع بطرفيها (يستهزئ) (ويمدهم)لبيان إستدامة الغضب الإلهي على الكفار والمخادعين، وهو زيادة في أذاهم وإبتلائهم، كما جاءت بصيغة الجمع لتفيد معنى العموم المجموعي والإستغراقي، فالله يستهزئ بالكفار والمخادعين مجتمعين ومتفرقين وفي كافة أفراد الزمان الطولية ،لأنهم جحدوا بالنبوة وإستهزءوا بالذين إختاروا الهداية والرشاد، وفيه مسائل :
الأولى : إنكار الكفار للنبوة مع تجلي معجزاتها على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبب لإفتتانهم .
الثانية : إستخفافهم بالمؤمنين سبب لإستهزاء الله تعالى بهم.
الثالثة: ظهور العقوبة العاجلة للكفار من وجوه:
الأول: ترك الكفار في حيرة وتردد.
الثاني: إنه مقدمة وباب لضعف تشتت الكفار.
الثالث: قلة حيلة الكفار، وبعث الفزع والخوف في نفوسهم، قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ]( ).
الرابع: إستهزاء الله بالكفار مانع من إضرارهم بالمسلمين، وبرزخ دون إفتتان الناس بهم.
الخامس: دحض ما يظهر الكفار من أسباب الشك والريب.
الرابعة : هذا الإستهزاء في مفهومه مدد للمسلمين , قال تعالى (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)( ).
الخامسة: فيه بشارة نصر المسلمين، ورجحان كفتهم ووهن عدوهم.
قوله تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ] الآية 16
الإعراب واللغة
أولئك : اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ.
وفيه لغتان المد، وهي لغة أهل الحجاز وبها تقرأ في القرآن، اذ وردت في مائتين وأربعة مواضع منه، وليست الكثرة الغالبة منها فقط للعاقل كما قيل، بل كلها تقريباً جاءت للعاقل بإستثناء آية واحدة يمكن الحاقها بالعاقل لتعلق الأمر بجوارحه في قوله تعالى [ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ]( ).
الذين: خبر أولئك، إشتروا: فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة لإلتقاء الساكنين، الواو: فاعل، الضلالة:مفعول به، بالهدى: جار ومجرور متعلقان بإشتروا، والجملة لا محل لها من الإعراب لانها صلة الموصول .
فما: الفاء: حرف عطف،ما: نافية، ربحت: فعل ماض، التاء: تاء التأنيث الساكنة، تجارتهم: فاعل، وهو مضاف والضمير (الهاء) مضاف إليه.
(وما) الواو: حرف عطف، ما: حرف نفي، والواو في (كانوا) اسم كان، و(مهتدين) خبرها منصوب بالياء.
الضلال : التيه والضياع وعدم الإعتقاد بالشريعة السماوية والتنزيل.
والهدى : الرشاد والدلالة والبيان.
في سياق الآيات
بينت الآيات السابقة قبائح المعاندين والمنافقين وذكرت عدداً من أفعالهم، وهو من ذكر الفرد الأهم والغالب وليس الحصر، خصوصاً وأن كلاً منها يصلح أن يكون أصلاً لبعض القبائح الأخرى التي تتفرع عنه.
وجاءت هذه الآية لتبين والظلم الذي إرتكبوه فيه والذي جاء نتيجة لتلك القبائح .
وجاءت الآيات السابقة في بيان صفات وأفعال المنافقين، وهي على وجوه :
الأول : إدعاء الإيمان بالله واليوم الآخر، مع أنهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين، لأن الإيمان إعتقاد وتصديق بالقلب، وفعل بالجوانح وإتيان العبادات البدنية والمالية.
الثاني : إتباع الكفار والمنافقين لصيغ الخداع والحيلة والتسويف وإظهار الإيمان وإخفاء الكفر.
الثالث : سوء عقيدة وقبح سريرة الكفار والمنافقين، وغلبة الجهل والحسد وحب الدنيا وزينتها عليهم، وهو المستقرأ من قوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ] ( ).
الرابع : إشاعة المنافقين الفساد في الأرض، وإصرارهم عليه عن جهل وغفلة.
الخامس : تلقيهم الدعوة الى الإيمان بالعناد والإستخفاف بالذين آمنوا.
السادس : تظاهرهم بالإيمان في حضرة المسلمين، وتقديمهم الولاء الى رؤساء الكفر، وتظهر الآيات السابقة ان أكثر السوء الذي يصدر من المنافقين هو مجرد قول باللسان، ولا يترتب عليه أثر معتد به على الآخرين، مما يدل على إضرارهم بأنفسهم وان الله عز وجل وقى المسلمين شرهم وأذاهم.
وجاءت هذه الآية لتوكيد خسارتهم في النشأتين، فقد سعوا بأنفسهم الى شراء الضلالة، ذات القبح الذاتي والعرضي، بأحسن شيء في الوجود وهو الهدى والإيمان , ويحتمل الشراء هنا وجوهاً :
الأول : إستبدال الهدى بالضلالة.
الثاني : إرادة الإختيار، قال تعالى [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]( )، فبدل أن يختار المنافق الهدى وهو الأصل والواجب إختار الضلالة.
الثالث : إن الله عز وجل هدى الناس للإيمان، وبعث الأنبياء مبشرين ومنذرين، وأنزل الكتب السماوية وملأ الآفاق بالآيات والبراهين الدالة على وجوب عبادته تعالى، وإتخاذ الناس الهدى سبيلاً ومنهجاً، ولكن الكفار والمنافقين تركوا ما يجب عليهم إستكباراً وعناداً، وإستحوذ عليهم الشيطان فخسروا الدنيا والآخرة .
وتأتي الآية التالية لتخبر عن حيرة وضياع المنافقين والكفار، وعدم إنتفاعهم من ضياء الإسلام، ونعمة الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وآيات التنزيل والإتعاظ والإقتداء بالذين إختاروا الإسلام ديناً وعقيدة، ليبقى المنافقون في ظلمة وكدورة في الدنيا والآخرة، وهو دليل وشاهد على خسارتهم، وعدم إنتفاعهم من إستخفافهم بالمؤمنين ومحاولات خداعهم.
وهذه الآية هي التاسعة في نظم الآيات التي تتضمن ذم الذين يدّعون الإيمان بالله واليوم الآخر كذباً وزوراً، وإقتران هذا الذم بالتقبيح لسوء فعلهم، وإقامة الحجة عليهم، وتدافع البلاء نحوهم، ثم جاءت الآيات الأربعة التالية في ذات موضوع الذم إلا أنه بصيغة المثل القرآني الذي يفيد تقريب المعنى بلغة الحس وصبغة الوجدان ويتصف هذا المثل في المقام بأنه من التشبيه بالآيات الكونية الأرضية والسماوية، وحرمان الكفار من الإتعاظ منها والتدبر في دلالاتها، والإنتفاع الأمثل منها، بقوله تعالى[صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ]( ).
إعجاز الآية
يؤكد ورود لغة البيع والشراء القصد وإرادة إختيارهم الكفر والجحود، وفيه إخبار عن خسارتهم، وإعجاز من وجوه:
الأول : انه من علم الغيب.
الثاني : خيبة وخسارة الكفار نتيجة حتمية لمن سار في مسالك الكفر والجحود وحارب الإسلام.
الثالث : إنهم دفعوا أغلى ثمن لأخس البضائع، وأكثرها ضرراً.
الرابع : الآية قاعدة كلية في أحكام الحياة الدنيا باعتبارها دار إبتلاء وإمتحان .
لقد جاءت الآية بعد بيان الصفات المذمومة للمنافقين لتكون إخباراً من الله للمسلمين عما ينتظر المنافقين من العذاب بإختيارهم، وظلمهم لأنفسهم.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية ( فما ربحت تجارتهم ) ولم يرد لفظ (تجارتهم) إلا في هذه الآية الكريمة .
الآية سلاح
ستبقى الشهادة الواردة في الآية وثيقة تمد يد العون والمدد والمؤازرة للمسلمين في إلتزامهم بأحكام الشريعة، وتبعث الغبطة في نفوسهم لما فيها من لزوم بذل الوسع لبلوغ مراتب الإيمان، وشراء الهداية ، والإعراض عن الضلالة ومقدمات الفتنة والإفتتان.
وهي دعوة للمسلمين للتمسك بالهدى ومسالك التقوى لأنها التجارة الرابحة في الحياة الدنيا والآخرة، وتبين الآية ما عليه عدوهم من الضلالة وما يجلبه سوء السريرة من العاقبة الأليمة والعذاب الشديد.
لقد أراد الله عز وجل بالبعثة النبوية المباركة ان ينتقل الناس من المعصية إلى الطاعة، ومن الفزع والخوف الى الأمن والسلامة، ولكن المنافقين الذين في قلوبهم مرض أبوا إلا العناد والإصرار على المعاصي، فجاءت هذه الآية لذمهم وبيان سوء إختيارهم وعاقبتهم.
الآية لطف
إستهزء المخادعون والكفار بالمسلمين مع ان علة الإستهزاء نفعهم وإرادة صلاحهم، بقيام المسلمين بدعوتهم الى الإيمان ونبذ الكفر والضلالة .
لقد أظهر المسلمون التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها وبما أنزل الله ، وتوجهوا صادقين إلى دعوة الناس للإسلام،فقابلهم الكفار بالإستهزاء، فجاء الرد من السماء بان الله عز وجل يجازيهم على سوء فعلهم ويستهزء بهم، وفيه مواساة للمسلمين ودعوة لهم للصبر .
ثم تفضل الله سبحانه في هذه الآية وبين سوء فعلهم وتركهم الهدى، وبذلهم الجهد والمال من أجل شراء الضلالة وفيه دلالة على إستحقاقهم للإستهزاء بهم، وتوكيد لحيرتهم وعميهم.
وتحث الآية الناس على نبذ الكفر، وإجتناب تضييع أيام العمر في إرتكاب السيئات.
ومن إعجاز القرآن ومضامين اللطف الإلهي تقريب المعقول برداء المحسوس، ليكون معلوماً عند الجميع، فمع ان الموضوع عقائدي فقد جاء بصيغة التجارة التي تعني أما الربح أو الخسارة، ولا يعني هذا التقريب إرادة المعنى البلاغي والتقريب وحده بل يتضمن المسائل العقائدية من وجوه :
الأول : إن باب العقائد هو أهم أبواب الربح والخسارة في الدنيا والآخرة , قال تعالى (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) ( ) .
الثاني : ليس المدار في الربح والخسارة على التجارة في الحياة الدنيا، بل المدار على العاقبة والمقام في الآخرة، فمن إختار الهدى وسعى الى الجنة فقد ربح في تجارته، ومن إختار الكفر والنفاق فقد خسر في تجارته وإستحق العقاب الأليم.
الثالث : دعوة المسلمين الى عدم الإفتتان بالدنيا وزينتها.
الرابع : بعث المسلمين الى الجهاد في سبيل الله لأنه تجارة لن تبور.
وبعد مجيء الآيات السابقة في ذكر أقوال المنافقين وذمهم وفضحهم، جاءت هذه الآية وكأنها خطاب خاص للمسلمين يبين حال المنافقين وما هم عليه من الضلالة وخسارتهم للنشأتين، لبعث السكينة في نفوس المسلمين، ومنعهم من الإنشغال بالمنافقين فبينت الآيات الموضوع والحكم وسوء العاقبة الذي ينتظرهم، ثم جاءت هذه الآية لتبين للمسلمين سوء حال الذي يختار الضلالة، وما هو عليه من الجهالة والغفلة، وكيف أنه يستحق به العذاب.
وعن ابن عباس: إذا دخل المؤمنون الجنة، والكافرون النار فتح الله من الجنة باباً على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين فاذا رأى المنافقون الباب مفتوحاً أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة، وأهل الجنة ينظرون اليهم، فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب، فذاك قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ]( ) إلى قوله تعالى [فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ]( ).
مفهوم الآية
إن إعطاء صــفة التجارة على الإنتماء العقائدي مدرسة أخلاقية تدعو الى اليقظة والحيطة والحـــذر، والى التأمل وإستحضار موازين الربــح والخســـارة في القول والعمـــل وما يربحه المؤمــــن في الدارين، وما يلحق الكافر من الخسارة في النشأة الآخرة.
وتدل الآية في مفهومها على إقامة الحجة على الكافرين وإنهم عرفوا الهدى وطرقه، ورأوا الآيات ولكنهم مالوا الى الجحود والعناء والخسران، وتبعث على عدم الأسى والأسف على الكفار والمنافقين إذ أنهم إشتروا الضلالة مع ما فيها من الخسران باغلى الأثمان وأعظم الخزائن وأشرف الكنوز.
وتؤكد الآية أن التجارة الحقيقية هي تجارة الآخرة التي تتقوم بالإيمان وعمل الصالحات.
وفي الآية مسائل :
الأولى : ذكر المخادعين والمنافقين بلغة الذم التي يدل عليها اسم الإشارة “أولئك”.
الثانية : توكيد حقيقة وهي قبح الكفر وإختياره.
الثالثة : إقامة الحجة على الناس جميعاً، فالله عز وجل بعث الأنبياء وانزل الكتب لهداية الناس، ولكن الكافرين أبوا إلا الجحود.
الرابعة : لقد جعل الله المسلمين دعاة اليه، وبذلوا الوسع مع الناس، ولكن الكفار قابلوهم بالإستهزاء مما يدل على ظغيانهم وعتوهم وعنادهم.
الخامسة : خسارة أهل الكفر والجحود.
السادسة : ضلالة وعمى المخادعين الذين يتجاهرون بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حضرة المسلمين كذباً وزوراً
السابعة : الإشارة الى المنافقين والمعاندين باسم الإشارة “أولئك” الذي يدل على البعد والإزدراء، وفيه تعريض بهم، ودلالة على بعدهم عن رحمة الله تعالى.
ومن الإعجاز ان اسم الإشارة هذا جاء بعد الإخبار عن خلوتهم مع شياطينهم، والشطن مأخوذ من البعد، اي أنهم إبتعدوا عن الهدى والإيمان وأسباب نيل رحمة الله تعالى.
الثامنة : دعوة المسلمين للحذر والحيطة من المنافقين والمعاندين.
التاسعة : حث المسلمين على الشكر لله تعالى من وجوه:
الأول : جعل المنافقين والكفار بعيدين عنهم في أذاهم وشرهم، وهو الذي يدل عليه اسم الإشارة “أولئك”.
الثاني : هداية المسلمين الى سبل الهدى وتمسكهم بعرى الإيمان.
الثالث : فوز من إختار الإيمان، وربح في تجارته بتعاهد الهدى وأداء الفرائض والعبادات.
الرابع : نعت المنافقين والكفار بأنهم غير مهتدين.
الخامس : مدح المسلمين لإختيارهم الهدى.
إفاضات الآية
في الآية توكيد على لزوم التقيد بأحكام الهداية والإقامة على التقوى وعدم التفريط بمفاهيم الهدى، وتبين الآية منزلة وموضوعية العقائد بصيغة البيع والشراء وهي أسمى وأشرف وسائل التعامل في الحياة الدنيا إذا كانت بصبغة الإيمان , فمن الإعجاز ان يرد كسب الهدى او عدمه بلغة البيع والشراء في حث للمسلمين على بذل الوسع والأموال من أجل بلوغ مراتب الهدى والإيمان، وفيها مدح للذين يشترون الشهادة وبذل أنفسهم، وانها أبهى وأسنى أنواع التجارة لبقاء أرباحها خالدة الى يوم القيامة.
وفي الآية تقبيح لمن إختار الضلالة من المنافقين والمخادعين ، وإخبار بانهم أنفقوا من جهدهم وأعمارهم وأموالهم من أجل كسب الضلالة مع ما فيها من القبح الذاتي وما تؤدي إليه من الفساد والإفساد.
الصلة بين أول وآخر الآية
بدأت الآية باسم الإشارة “أولئك” الذي يفيد البعد والإزدراء للكفار لطغيانهم وتجاوزهم الحد في الإساءة للمسلمين، والتعدي على الحرمات ، وفيه بشارة عدم وصول الضرر للمسلمين لدلالة إفادة البعد في المقام عن عدم وصول الضرر ، لذا قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
ومن الإعجاز ان الآية جاءت بصيغة الجمع وفيه شاهد على ذمهم على نحو العموم المجموعي , وإختيارهم الغواية عن قصد وسوء نية، وفيه حجة عليهم لتأتي خاتمة الآية وتخبر عن خسارة الكفار في الدنيا والآخرة، ولم يرد لفظ “تجارتهم” في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، بينما جاء لفظ التجارة ثمان مرات في القرآن في بيان موضوع التجارة وأسباب الربح , وتقديم العمل العبادي كما في قوله تعالى [رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ]( ) وفي التجارة وخسارتها في المقام وجوه:
الأول : إتخاذهم الكذب على المسلمين، وإدعائهم الإسلام والتصديق بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زوراً وخداعاً , فقد جاءت هذه الآية لفضحهم , وهو من خسارتهم وعدم إنتفاعهم من إدعاء الإيمان.
الثاني : تجارتهم هي الضلالة فقد سعوا إليها، وإشتروها، ومن يشتري عيناً أو عروضاً يرجو فيها الربح والنفع، فجاءت هذه الآية للإخبار بانه لا ربح للضلالة، ومن يشتريها يخسر رأس ماله ويعرّض نفسه للعذاب الأخروي.
الثالث : ما يترشح عن الضلالة من فعل السيئات وإرتكاب الذنوب، فمن يشتري شيئاَ فانه يسعى للإنتفاع منه، ويرجو فيه الفائدة ، أما الضلالة فانها لا تؤدي إلا إلى الخسارة.
الرابع : في الآية حذف،والتقدير فما ربحت تجارتهم في الدنيا والآخرة, قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ]( ).
وجاءت خاتمة الآية لتؤكد بعدهم عن رحمة الله تعالى، وإعراضهم عن أسباب الهداية، وجاء الفعل الماضي الناقص (كان) في قوله تعالى [وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ] للمعنى الأعم المستغرق لأفراد الزمان الطولية فلم يكونوا من قبل مهتدين لدلالة كذبهم وإدعاءهم الإيمان زوراً، وركونهم ونصرتهم لرؤوس الضلالة، ولم يصيروا مهتدين لأن الخسارة تصاحبهم، ومن مصاديقها إصرارهم على الكفر والجحود, وليس في القرآن شراء الهدى بالضلالة والإيمان بالكفر لأن الهدى والإيمان دين الفطرة، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخرة]( )، والآخرة لا تشترى بالدنيا، لأن الدنيا مزرعة الآخرة وطريق الى السعادة فيها، وقال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا]( )، أما الذي يختار الإيمان فانه لا يشتريه بالكفر ، بل الإيمان هو الأصل، وهو وظيفة كل مكلف ومكلفة.
وتبين الآية سوء إختيار وقبح فعل الكفار لأنهم يشترون الضلالة وما هو ضار لهم في الدنيا والآخرة بالإيمان والهدى الذي ينفعهم في الدنيا والآخرة.
التفسير الذاتي
لقد جاءت الآيات السابقة بذم الذين كفروا وذكرت بعض معايبهم ومنها:
الأول : إدعاء الإيمان كذباً( )،وهو من إعجاز القرآن بأن تأتي الآية بفضح ما يضمرون في نفوسهم مما لايطلع عليه إلا الله.
الثاني : إخفاء الكفار للبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإدعاء الإيمان زوراً وما عندهم من النوايا الخبيثة ضد المسلمين, قال تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا]( ).
الثالث : إمتلاء قلوب الكفار بالشك والريب، وأسباب الحسد والضلالة، وتعمد الفتور عن الحق، والإعراض عن الآيات والبراهين, قال تعالى وفي التنزيل (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)( ).
الرابع : إعراض الكفار عن النصيحة والدعوة التي تتوجه إليهم بلزوم إجتناب الإفساد في الأرض لأنه قبيح ذاتاً وله آثار عرضية ضارة كثيرة.
الخامس : إصرار الكفار على الإفساد بإدعاء أنه إصلاح( ).
السادس : طول ملابسة الكفار للفساد وأسباب الضلالة، فلا يشعرون بقبح فعلهم، وما فيه من الأضرار عليهم وعلى الناس جميعاً( ).
السابع : عدم إكتفاء الكفار بالجحود، بل تمادوا في الضلالة وأخذوا ينعتون المسلمين بالسفهاء.
ومن إعجاز هذه الآيات ما تتضمنه من تحذير المسلمين بأن الذين يقولون لهم عند اللقاء بهم أنهم مؤمنون، إنما هم يكذبون وينعتونكم بالسفه وقلة الحلم لمبادرتكم إلى الإسلام،ويدل هذا الإخبار على أخذ الحائطة منهم،كما جاءت الآيات بأن الله عز وجل هو الذي يجازيهم ويعاقبهم على سوء فعلهم.
الثامن : محاولة الكفار اللبس على المؤمنين بإدعاء الإيمان بحضرتهم للغدر بهم أو لا أقل يظهرون الإسلام كذباً ثم يعلنون الرجوع والإرتداد لبعث اليأس والشك في نفوس المسلمين، وتقدم قوله تعالى (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) ( ) وفيه إخبار عن إقامتهم على الكفر، وعدم مغادرتهم لمنازله.
التاسع : إقرار الكفار على أنفسهم بأنهم يستهزءون ويستخفون بالمؤمنين.
العاشر : إن الله عز وجل هو القوي العزيز الذي يدافع عن المؤمنين، ويخفف عنهم وييسر لهم أسباب الظفر والنصر على أعدائهم بأن يبتلي الكفار ويجعلهم في تيه وحيرة من أمرهم فجاءت هذه الآية لتبين أن الكفار إختاروا الضلالة والجحود، وسعوا إليها بأنفسهم لقوله تعالى في هذه الآية [اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى]، وتحتمل قيمة الشراء في المقام وجوهاً:
الأول : بذل الكفار الأموال لإختيار الكفر.
الثاني : التضحية بالمصالح والمنافع من أجل القيام بالإفساد في الأرض.
الثالث : قيمة الشراء هي الهدى، فقد تركوا الهداية وأسبابها حباً بالضلالة.
والصحيح هو الثالث لمنطوق الآية الكريمة إلا أنه لا ينفي الوجهين الأول والثاني أعلاه لأنهم تركوا الهدى وهو الأصل، فأضلهم الله عز وجل وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة إن الله يستهزء بهم.
وجاءت آيات القرآن في بيان وتفصيل ماقصدوا شراءه، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ] ( )، وقال تعالى [اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ]( )، وقال تعالى [اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً]( )، وفيه شاهد على ترك الكفار لوظائفهم العبادية،وإعراضهم عن التكليف, ولهثهم وراء الدنيا وزينتها.
لقد تضمنت الآية وصفاً لفعل الكفار، ثم بينت عاقبة وعلة هذا الفعل، بأن تجارتهم وشراءهم الضلالة عاد عليهم بالخسران المبين، وأقاموا على الضلالة، فعجزوا عن إدراك أسباب التوفيق.
وجاءت الآية بنفي الربح عنهم من الأصل، ترى ما هي النسبة بين شرائهم الضلالة وبين تجارتهم الجواب النسبة هي العموم والخصوص المطلق، وليس التساوي، فشراؤهم الضلالة ليس كل تجارتهم،بل أصل فيها، وكأنها رأس المال لهذه التجارة، لتأتيهم الخسارة وإنعدام الربح وغياب الفوز في كل أمر مع العجز عن تلمس طرق الهداية والرشاد في أمور الدين والدنيا، وفيه تحذير من الغواية والإستخفاف بالمؤمنين، ومن الإصرار على المعصية.
وجاء لفظ (التجارة) في القرآن تسع مرات، جاءت ثمان منها في معنيين :
الأول : التجارة في الأموال والبيع والشراء في الدنيا كما في قوله تعالى [تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ]( ).
الثاني : التجارة بمعنى العمل الصالح والكسب للآخرة كما في قوله تعالى [هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
أما لفظ (تجارتهم) فلم يرد إلا في هذه الآية القرآنية، وكأن الخسارة التي أصابت الكفار الذين حاربوا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يتعرض لمثلها أحد من أهل الأرض لما تدل عليه من سوء العاقبة والعذاب الأليم، وتضييع وإنكار الآيات الباهرات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي تكفي للحجة والبرهان على الناس بمختلف مشاربهم وقدراتهم العقلية.
وجاء نفي الربح في تجارة الكفار مطلقاً، أي أنهم يتعرضون للربح، ويحاولون جذب الناس إلى مذهبهم وأقوالهم ووجوه الشك والريب التي يتخذونها مواضيع ووسائل للإفتراء على القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولايحصدون إلا الخيبة، ومن وجوه خسارتهم النقص المتصل والمتزايد في الأصحاب والأتباع، إذ يدخل الناس من بينهم أفواجاً في الإسلام.
وجاءت الآية بذكر حال الكفار والمنافقين بالإخبار عن شرائهم للضلالة بالهدى، ولكن التوبيخ والذم لهم جاء في ذات الآية متعدداً ومن وجهين :
الأول : الخسارة وسوء الإختيار.
الثاني : إنتفاء الهداية عنهم، وعجزهم عن حسن الإختيار ليحصل التناقض والتنافي بينهم وبين أهل الإيمان، قال تعالى [وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ]( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى : التصدي لإستهزاء الكفار، ومنع تأثيره على المسلمين.
الثانية : إضفاء صبغة البيع والشراء على العقائد، وكيف ان الكفار إستحبوا النفاق، وآثروا العمى فخسروا النشأتين.
الثالثة : التخفيف عن المسلمين في دعوتهم، وإخبارهم بان الكفار مصرون على الضلالة والجحود.
الرابعة : إظهار الإيمان لن ينفع الكفار، إذ انهم يبطنون الكفر, ويعلنون في منتدياتهم وعند رؤسائهم الكفر صراحة.
في الآية مسائل :
الأولى : ذم المنافقين والكفار وبيان سوء عاقبتهم.
الثانية : الإشارة إلى العلة الذاتية للنفاق والجحود بالإخبار عن قيام المنافقين والكفار بإختيار التيه والضياع والإصرار على العناد.
الثالثة : جاءت الآية بصيغة الجمع الأمر الذي يدل على حصول التعدي وتجاوز الحد من كل منافق وكافر بإعتبار ان الآية إنحلالية تتعلق بكل فرد منهم، من غير أن يتعارض هذا الإنحلال مع معاني الجمع الذي يدل على تعاونهم على الإثم والعدوان.
الرابعة : مع أن الآية من آيات الوعيد، فانها تتضمن دعوة المنافقين إلى الهدى بلغة التجارة والكسب والمفاهيم التي يفقهونها لتعلقهم بالدنيا، إذ أخبرت الآية على أن التجارة ليست البيع والشراء في الأعيان والعروض، وما فيها من ربح الأموال أو خسارتها، بل التجارة والسعي فيها يكون بالعاقبة في الدار الآخرة لأنها دار الخلود، فيتضمن التوبيخ والوعيد في مفهومه حث المنافقين على الهداية والإيمان بالسعي في طلب التجارة التي لا تعرف الخسارة، و هي ربح محض وسعادة دائمة ألا وهو الإيمان بالله تعالى وما فيه من خير الدنيا والآخرة, وتدعوهم للإسلام والعمل بأحكام الشريعة ليكونوا مع الذين مدحهم الله بقوله تعالى [يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ]( ).
التفسير
قوله تعالى [ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ]
تظهر الآية الكريمة سوء إختيار أهل الضلالة والمنافقين وسعيهم الى الإضرار بأنفسهم بإقدامهم الطوعي على منازل الضلالة وما أقدموا عليه من شرائها ببدل، وفي الآية وجوه :
الأول : إشتروا الكفر بالإيمان عن ابن عباس( ).
الثاني : أخذوا الضلالة , وتركوا الهدى عن ابن مسعود ( ) .
الثالث :المراد باشتروا إستحبوا وإختاروا لأن كل مشتر مختار ما في يد صاحبه على ما في يمينه وهو المروي عن قتادة)( )، ونقل عنه قول آخر.
الرابع : إختاروا الضلالة على الهدى, عن الحسن( ) .
الخامس : إنهم إستبدلوا بالإيمان الذي كانوا عليه قبل البعثة كفراً لأنهم كانوا يبشرون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويؤمنون به فلما بعث كفروا به فكأنهم إستبدلوا الإيمان بالكفر، وهو المروي عن الكلبي ومقاتل( ).
والشراء أعم من الإختيار فهو إبدال بعوض وهذا الإختلاف يظهر أن إقدامهم على الضلالة كان عن قصد وبذل وتهيئة أسباب بدراية وبحالة مســتبعدة معها الغفــلة والســـهو، ورأوا فيه الإيمــان وعرفوا طريق الهدى ووجوهه الذي أصبح في حوزتهم ومقدورهم بالبعثة النبوية وبدليل ما جاء في الآية المتقدمة [ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ].
والآية حجة على الكافرين والمنافقين في وصول الدعوة والتبليغ لهم، وإقامة البرهان والدليل على لزوم إيمانهم ، فقد عرفوا منازل الهدى ولكنهم تركوها وأعرضوا عنها، فالذي يبيع شيئاً ويستبدله بغيره لابد انه يعلمه ويعرف تفاصيله.
قوله تعالى [ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ]
من يقدم على الشراء يرجو الربح والنفع والفائدة ولكنهم تركوا الإستعداد الفطري للإيمان وما رأوا من الآيات الباهرات وأصروا على الضلالة ووطنوا أنفسهم على الإقامة عليها , فلم يجنوا إلا الخزي وسوء العاقبة.
والتجارة قد تخســر وقد يخـــرج منها الإنسان برأس ماله من غير زيادة ولا نقيصة، وقد تربح وهو رجــاء صاحبها وعلة الشـــروع فيها، أما هؤلاء فقد خســـروا وضيعوا الدنيا التي هي مـــزرعة الآخرة والوعاء الزماني والمكاني للإتجار الأخروي والنفع المبارك والإدخار المنجي.
وفي الآية بشارة وهي أن سعي هؤلاء لا يلقى إلا الخيبة، وسيصيب بضاعة النفاق الكساد والتلف، وفيه عون ومدد معنوي وغبطة للمسلمين.
وفي أفراد ومواضيع تجارة الكفار وجوه:
الأول: لقد أخبرت الآية بأنهم إشتروا الضلالة، فتجارتهم شراء الضلالة بالهدى.
الثاني: الضلالة لا تستحق أن تشترى وليس لها مالية في الدنيا والآخرة ولا تستلزم الكسب والسعي لأنها أمر سلبي وجحود , لذا كانت تجارة خاسرة.
الثالث: في الآية إخبار بعدم عثورهم على أنصار وأتباع يشترون منهم مفاهيم الضلالة والكفر والخداع، وهذا من وجوه كساد التجارة ، فقد ملأت الآيات الآفاق، وأضاءت مبادئ الإسلام القلوب المنكسرة.
الرابع: لم يرد لفظ (تجارتهم) إلا في هذه الآية، بينما ورد لفظ (التجارة) سبع مرات في القرآن، ونسبة التجارة لهم في الآية كناية عن إنفراد الكفار بها، وانه لا يشاركهم فيها أحد وانهم إختاروها إبتداعاً وعناداً وهي أي خداع المؤمنين والإستهزاء بهم حالة نادرة بين الناس، فمن الناس من لم يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويبقى على الكفر يخادع المسلمين ويستهزء بهم.
وبلحاظ هذه الآية يمكن أن نسمي الحياة الدنيا (دار النجاة) ليس لما فيها من عقود البيع والشراء والربح والخسارة، بل لانها دار التجارة الى الآخرة، ومن خصائص هذه التجارة ان كل إنسان يعمل ويشتغل فيها.
فكل تجارة لها أهل وأناس يزاولونها، كتجارة الحبوب والخشب والحديد والورق الا ان تجارة الآخرة عامة وشاملة لكل مكلف، لتوجه الخطابات التكليفية الى الناس جميعاً ذكوراً وأناثاً،وهي باقية بآثارها وجزائها إلى يوم الدين , فليس من أحد يستطيع الفرار والإعراض عن هذه التجارة، والناس فيها على قسمين:
الأول : الذين إختاروا الهدى، وسخّروا أنفسهم في طاعة الله، وصدّقاً بالتنزيل، وقاتلوا في سبيل الله، قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ]( ).
الثاني : الذين إشتروا الضلالة والكفر والجحود.
ومن الآيات عدم وجود برزخ بين القسمين، وليس لهما قسيم ثالث، لتكون الحجة لله تعالى في الدنيا والآخرة، ويكون الإيمان طريقاً إلى الجنة، والكفر والضلالة طريقاً إلى النار والعذاب الأليم.
إن لغة التجارة وما فيها من الربح والخسارة من عمومات تحبيب الإيمان إلى النفوس، وجعلها تنفر من الكفر والضلالة ، قال تعالى [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ]( )،.
ومن طبائع النفس الإنسانية الميل إلى الربح ,والسعي إليه مع الفارق بين المؤمن وغيره، إذ أن المؤمن يقيد ربحه الذي يسعى إليه بالحلال في ذاته وطريق كسبه لإجتناب السحت، ولعمومات مقدمة الحرام حرام، أما غير المؤمن فانه يسعى إلى الربح من غير تقييد بأحكام الشريعة، ولكن الله تعالى خفّف عنه وعن الناس بان جعل النفس اللوامة و العقل رسولاً باطنياً عنده يدرك القبح الذاتي للظلم والكسب بالتعدي، فيكون سعيه في الباطل والحرام ليس مطلقاً ودائماً فالحجج والآيات والعقل تدعوه للإيمان، وعدم شراء الضلالة لأنها خسارة محضة .
وجاءت هذه الآية لتهدي العقول إلى وظائفها، وتجعلها منقادة الى الله لا تطمع بالتجارة الأخروية التي تؤدي إلى النعيم الخالد، وليس من ربح أكبر وأعظم منه.
وجاءت الآية لتؤكد للناس ان التجارة والبيع والشراء في الحقيقة هو ما يوصل إلى المقام في الآخرة الذي يجعل الفوز بالجنة منحصراً بتقوى الله وإرجاع أفعال الجوارح إلى الأحكام التكليفية الخمسة التي جاء بها القرآن، والسنة النبوية الشريفة، وإجتناب الضلالة.
لقد جاءت الآية في منطوقها ومفهومها بقواعد كلية وهي :
الأولى : لابد من الشراء والبيع في دار الدنيا، قال تعالى[إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ]( ).
الثانية : قد يربح الإنسان وقد يخسر في الحياة الدنيا.
الثالثة : لا يأتي الربح عن إرث او إتفاقاً أو صدفة بل ان ملاكه العمل، وآلته السعي في مرضاة الله.
الرابعة : وضوح طريق الخسارة في التجارة، وهو شراء الضلالة من وجوه
الأول : من يشترى الضلالة فلا أحد يشتريها منه.
الثاني : إذا إشتراها أحد منه يكون هذا الشراء وبالاً إضافياً على البائع لما يلحقه من الإثم بسبب إقتداء غيره به في فعل السيئات , وركوب جادة الضلالة لأنه يصبح ضالاً مضلاً.
الثالث : تكتب الملائكة على صاحب الضلالة الآثام، وتحصي عليه السيئات , قال تعالى في ذم وتوبيخ الكفار (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) ( ) أي يكتب الملائكة الكرام الكاتبون الذنوب والمعاصي التي يرتكبها الكفار, ويحفظونها إلى يوم القيامة وأوان الحساب , بينما تفضل الله عز وجل على المؤمنين بدعوتهم إلى الإستغفار عند إرتكاب معصية , قال تعالى في الثناء على المؤمنين (إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) ( )
الرابع : شراء الضلالة برزخ دون الهداية والرشاد ، لذا أختتمت الآية بقوله تعالى [وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ].
الخامس : يؤدي شراء الضلالة الى الإفلاس في الدنيا والآخرة، ومن الآيات والإمتحان في الحياة الدنيا ان الضال لا يحجر عليه، بل تتوجه إليه آيات الوعد والوعيد، والبشارة والإنذار.
وهذه الآية من آيات الإنذار في منطوقها، ومن آيات البشارة في مفهومها.
قوله تعالى [وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ]
جاء نفي الإهتداء عن الكفار مطلقاً فلا ينحصــر في موضـــوع دون آخر او حكم وإســتنتاج دون غيره، لقد خســروا في تجارتهم وأضـــلوا الطريق باختيار الضلالة على الهدى، وأضاعوا فرص النجاة وسبل الصلاح.
والآية إخبار عن واقعهم بعد ذكر نعتهم وحكاية فعلهم ليعرفوا حقيقة أمرهم كي لا يفتتن المؤمنون بما هم فيه أو يغبطوهم في بعض المواقف، فعدم الهداية صفة ملازمة لهم حتى عندما يقدم المؤمنون التضحيات، والمخادعون ينجون بأبدانهم فانها نجاة وهمية يعقبها عذاب شديد، في مقابل النعيم الخالد للمؤمنين.
ورد قوله تعالى [وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ] ثلاث مرات في القرآن فجاء في سورة يونس [قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ]( ).
مما يعني ان هؤلاء المخادعين يكذبون باليوم الآخر وهو أشد ظلماً وكفراً، ويكشف الجمع بين الآيتين عن كفرهم وجحودهم وانهم لم يختاروا عدم الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن إيمان بملة سماوية أخرى، لأن الملل والشرائع السماوية كلها تدعو إلى الإقرار بالله واليوم الآخر.
كما ورد في الذين قتلوا أولادهم سفهاً وظلموا أنفسهم , قال تعالى [قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ]( ).
فمخادعة المؤمنين وإخفاء الكفر والجحود ضلالة , فمن الإعجاز إبتداء الآية بالإخبار عن شرائهم الضلالة وإرادة القصد والسعي اليها، مع أنها خسارة وضرر محض.
قوله تعالى[مثَلُهُمْ كَمَثلِ الَّذِي استَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ] الآية 17.
الإعراب واللغة
(مثلهم كمثل الذي)
مثلهم : مبتدأ مرفوع، وهو مضاف، والضمير الهاء في محل مضاف اليه، كمثل : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مثلهم، الذي : اسم موصول في محل جر بالإضافة.
(إستوقد ناراً فلما أضاءت)
إستوقد : فعل ماض مبني على الفتح بمعنى أوقد، إستفعل بمعنى أفعل، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازاً تقديره هو، ناراً : مفعول به.
فلما : ألفاء حرف عطف، لما : ظرف بمعنى حين، يتضمن معنى الشرط، وهي حرف وجود لوجود وتسمى (لما) الحينية.
ما حوله : ما : اسم موصول في محل مفعول به، حول : ظرف مكان صلة ما، وهو مضاف , والهاء مضاف اليه .
ذهب الله: فعل ماضِ، وفاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب , لأنها جواب شرط غير جازم.
بنورهم : جار ومجرور متعلقان بذهب.
وتركهم : فعل ماضِ، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود لله تعالى، والضمير “الهاء” مفعول به أول.
في ظلمات : جار ومجرور، في محل مفعول به ثانِ لترك.
لا يبصرون : لا: نافية، يبصرون: فعل مضارع مرفوع، الواو : فاعل، والجملة في موضع نصب على الحال، لأن حال الذي في الظلمة لا يستطيع أن يبصر.
المثل : عنوان الشبه والمشابهة بالغير لتقريب المعنى , وبيان المفهوم باستحضار المطلوب بواسطة النظير، والتمثيل بالمحسوس وصولاً الى المعقول وهو مبتدأ.
إستوقد : بمعنى أوقد أي أجج النار كما في إستجاب بمعنى أجاب وقيل إستوقد أي طلب الوقود.
والنار : جوهر مضىء حارق يبعث بالحرارة الشديدة، وتركت الشيء تركاً إذا خليته وكففت وأمسكت عنه.
والظلمات : جمع ظلمة وهي خلاف النــور، وتعني الخلــو من الضياء والإشعاع، وقيل أصلها إنتقاص الحق، قال تعالى [ فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ]( )، ولكن المنطوق والقرائن تشير الى المعنى الاول، وقوله تعالى [ لاَ يُبْصِرُونَ ] في محل حال منصوب أي ان الله عز وجل تركهم غير مبصرين.
في سياق الآيات
بعد ان بينت الآيات الســـابقة قبائـــح أهـل الخداع والضلالة وخيبتهم جاءت هذه الآية بوصفهم وصفاً حســياً ليكــون عبرة، وليتعظ منهم الناس جميعاً على تباين مداركهم واختلاف مذاهبهم .
لقد جاءت هذه الآية لبيان خسارة المنافقين بصيغة المثل وأنهم غير مهتدين في أمور الدين والدنيا، ليكون إستهزاءهم بالمسلمين وبالاً عليهم، وأنهم أصبحوا عاجزين عن إلحاق الضرر بالمسلمين، ولما جاءت الآية قبل السابقة بقوله تعالى [وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ] ( ) جاءت هذه الآية للإخبار بأن الله عز وجل يمهل الكفار والمنافقين الى حين في الحياة الدنيا، ثم يجعلهم في حال من العمى والتيه والحيرة .
لقد أختتمت هذه الآية بذم الكفار المخادعين وبيان سخط الله عز وجل عليهم, وحصول الإرباك في أفعالهم بقوله تعالى[وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ] ( ) أي تركهم في حسرة وعذاب وجاءت الآية التالية لبيان سوء حالهم وتعطيل حواسهم, وجعلهم متخلفين عن التوبة والإنابة, غير قادرين على الإستمرار في الإستهزاء بالمسلمين.
وهل قوله تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ]من باب التمثيل والتشبيه وأنه معطوف على ما في آية البحث [مثَلُهُمْ كَمَثلِ……] خصوصاً وأن الآية التي بعدها جاءت بلغة التشبيه أيضاً بقوله تعالى [كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ]( ).
الجواب : ظاهر الكلام إرادة الحقيقة والذات وليس التشبيه, ولبيان أن الكفار لا يسمعون الآيات ولا يقولون الحق مع تجلي براهين النبوة, ولا يبصرون أسباب الهدى وتوالي نصر المؤمنين.
إعجاز الآية
لغة التشـــبيه لموضــوع عقـائـدي وأخلاقـــي بمثال حســـي ظاهر في كل زمان وبما يفيد الإســـتهزاء بالكفار مدرسة في الجهاد والتأديب والتوبيخ.
ومن إعجاز الآية أن المثل القرآني سلاح فعال ضد المنافقين والمعاندين ويجعل الوهن يدب في نفوسهم والضعف في صفوفهم، وهو حرز وواقية للمسلمين في كل زمان ومكان , وباب لتوسيع المدارك والأفهام، وفيه نماء للفطنة، وزيادة لليقظة، وملكة الفراسة عند المؤمنين مستقلين ومجتمعين.
ويمكن تسمية هذه الآية آية (إستوقد ناراً) ولم يرد لفظ (إستوقد ) في القرآن إلا في هذه الآية.
ووردت كلمات في هذه الآية لم ترد في غيرها من آيات القرآن وهي : يخطف : أخبار ، استوقد أضاءت ، بنورهم ، تركهم .
الآية سلاح
أفادت الآية بالبيان الحسي ضلالة أهل الخداع والنفاق والخلل الظاهر للوجدان في عملهم وأنهم يتصــرفون في مواضيع ومسالك الهداية دون ان ينالـــوا منها شيئاً.
وتبعث الآية في نفوس المؤمنين السكينة والقطع بعدم فلاح أعــداء الإسلام والذين يســـتهزؤون بالمسلمين مما ينتج عنه الحيلولة دون ترتب الأثر على إستهزائهم بالمسلمين.
ومع ان الآية جاءت بصيغة المثل إلا انها عون للمسلمين في الصبر على أذى المنافقين، والتصدي لهم، وهي من مصاديق الإستهزاء بالمنافقين، وجاءت لكي يستهزأ بهم المسلمون ويعلمون سوء حال المنافقين فليس من شيء أشد على الإنسان أن يكون في ظلمة دائمة يعجز عن رؤية النور، ويفتقر إلى البصيرة وسلامة الرأي، ومفاهيم الحكمة.
أسباب النزول
قال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب وعطا أنها نزلت في اليهود وإنتظارهم خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإيمانهم به وإستفتاحــهم به على مشـــركي العـــرب فلما خـــرج كفروا به، وذلك أن قريظة والنضـــير وبني قينقــاع قدموا من الشام الى يثرب حين إنقطـــعت النبـــوة من بني إســـرائيل وأفضـــت إلى العرب فدخــلوا المدينة يشهدون لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة وأن أمته خير الأمم.
وكان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له عبد الله بن هيبان قبل أن يوحى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل سنة فيروضهم على طاعة الله عز وجل وإقامة التوراة، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويقول إذا خرج فلا تفرقوا عليه وانصروه وقد كنت أطمع ان أدركه، ثم مات قبل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقبلوا منه ثم لما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفروا به فضرب الله لهم هذا المثل( ).
والظاهر أن الآية أعم، وهي لم تنزل على نحو القضية والواقعة الشخصية، وان حالات الإستهزاء والتضليل والخداع كانت متفشية وهي باب غواية و مكر يهدف الى إضعاف البناء العقائدي للإسلام فجاءت هذه الآية لفضحه وإبطاله، وهي من آيـــات الإنــذار الحســـي التي تلائم وقائـــع وشواهد عديدة أيام التنزيل.
الآية لطف
إستهزاء الكفار بالمسلمين بلاء على الكفار أنفسهم ، إذ جاءت الآيات بتوبيخهم وذمهم، وفضح سوء فعلهم، وبيان ما ينتظرهم من العقاب الأليم.
وفي الآية لطف ومدد للمسلمين، فمن يستهزأ بهم يأتيه الرد والجزاء الإلهي، بالإضافة الى قاعدة كلية وهي عدم ترك المسلمين وحدهم يواجهون الكفار بعدتهم وخيلائهم وطغيانهم، وبينما جاءت الآيات القرآنية بحسن عاقبة المسلمين، جاءت هذه الآية لتبين خسارة وخيبة الكفار والمنافقين فلا عبرة بإستهزائهم.
ومدرسة المثل القرآني رحمة ولطف بالمسلمين والناس جميعاً لما فيها من صيغة البيان والوضوح وتقريب المعنى الى الأذهان، ومن خصائص المثل القرآني معرفة الناس جميعاً بمضامينه فقوله تعالى[كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا] أمر معلوم عند الناس، فليس من أحد إلا ويتولى بنفسه في بعض أيام حياته إيقاد النار , ويدرك ما تبعثه من الضياء حولها عند الظلمة .
لتكون ذات النار تذكيراً بنار الآخرة وإنذاراً للناس من العذاب الأليم فيها، وجاءت هنا مثلاً للضياء وعجز المنافقين عن الإنتفاع منها إلى حين إنطفائها، في دعوة للجوء إلى الإيمان إذ يبقى ضياؤه شمعة تنير دروب السالكين، ويشع على القلوب المنكسرة فيملأها نوراً وبصيرة، ويجعلها تميّز بين الحق والباطل، وتقود الجوارح في مسالك الهداية والرشاد، فلا يغادرهم الضياء والنور في الدنيا والآخرة.
ومن اللطف الإلهي في الآية بالناس من غير المسلمين بعث النفرة في نفوسهم من النفاق وأهله بلغة المثل التي يفهمها الناس جميعاً وان تباينت مداركهم، وحالت الغشاوة في حب الدنيا عن العلم بالمدركات العقلية، فجاءت هذه الآية إنذاراً ووعيداً يصل لكل إنسان وصلة معه ، ويكون حجة على الجميع، ووسيلة لإصلاح النفوس والمجتمعات.
مفهوم الآية
في الآية توظيف لمدرسة المثل، وجعله عوناً للمسلمين في فقاهتهم ومعرفتهم بعدوهم، ومفهوم وصـف الكافرين بأنهم في ظلمات فيه مسائل :
الأولى : بيان حقيقة الضلالة التي عليها الكفار.
الثانية :عجز الكافرين والمنافقين عن الإهتداء، ورؤية الآيات وإختيار سبل الرشاد.
الثالثة :الإخبار عن لحوق الخسارة والخيبة بالكفار.
الرابعة :يمشي المسلمون في أنوار الإيمان، ويهتدون بضياء الرسالة والقرآن.
لقد بدأت الآية بالمثل الشخصي (كمثل شيء) ولكنها أختتمت بصيغة الجمع وأنهم فقدوا النور الذاتي والهالة التي تحيط بهم وفيه دلالة على إشتراكهم وإقامتهم بالظلمة، وأنهم لو إجتمعوا للخروج برأي أو القيام بفعل لايستطيعون الإهتداء، لأن الظلمة تلازم الفرد والجماعة منهم .
وجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتضئ دروب الهداية للناس جميعاً ، وبعثت الضياء بمفاهيم ومبادئ الإسلام، وإنكشف تخلف الملل الأخرى عن اللحاق بالمسلمين إلى يوم القيامة، وجعلها الإسلام قاصرة عن إدراك مضامين الإرتقاء الى الأمان، وغاب عنها بريقها لتخلفها عن سنن الهداية.
لقد أصبح الناس بين أمرين، أما الدخول في الإسلام أو البقاء في منازل الكفر بالرسالة ونزول القرآن، وفيه دلالة على إنجذاب الناس لنور الإسلام ودخولهم أفواجاً فيه.
وفي الآية مسائل :
الأولى : جاءت الآية بصيغة المثل لتقريب مضامين الآيات، وما فيها من الأحكام إلى الأذهان.
الثانية : مع كثرة الكفار والمخادعين فان الآية جاءت بالمثل بصيغة المفرد (كمثل الذي) وهو من مصاديق الإستهزاء الإلهي بهم، ودليل على وحدة سنخية فعلهم، وإشتراكهم بشراء الضلالة.
الثالثة : توكيد حقيقة وهي ان متاع الدنيا قليل، ويذهب ويضمحل فجأة، لا أقل بالموت الذي هو أمر حتمي، ولابد من وقوعه لتبدأ رحلة الحساب التي تتجلى فيها خسارة الكفار والمنافقين بوضوح.
وفي الآية مسائل :
الأولى : لم يرد لفظ “مثلهم كمثل” إلا في هذه الآية الكريمة , وفيه تنبيه لموضوع الآية وجذب للأبصار والأسماع , والتدبر بما فيها من المعاني.
الثانية : تمثيل المتعدد بالمتحد، إذ يلتقي جماعة المنافقين والكفار بحال واحدة من العمى من وجوه:
الأول : من الناس من دخل الإسلام عند وصول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى المدينة , ولكن الإيمان لم يدخل إلى قلوبه وبقى على صِلاته وركونه للكفار وأعداء الإسلام، ومنهم من له تجارة ومعاملة مع الكفار، ويخشى ان تنقطع أسباب إنتفاعه منهم، وتعطل تجارته معهم فحرص على إظهار كفره بالدعوة أمام هؤلاء الكفار، فجاءت هذه الآيات بفضحه وبيان خسارته في النشأتين.
الثاني : الإسلام نور، ودخل ضياء بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى البيوت، وصارت حديث الناس في الأسواق والمنتديات والبدو والحضر , قال تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ( )
الثالث : لم تبقَ جماعة وأمة من المنافقين والكفار بعيدين عن الإسلام والمسلمين، ويرى الكافر كيف يسلم قريبه أو جاره أو صديقه ويحسن إسلامه.
الرابع : لقد إنتفع المنافقون من الإسلام لما في إظهارهم الإسلام من حقن لدمائهم وحفظ لأموالهم، ونجاتهم من القتل، وأولادهم من السبي، وإنتسبوا إلى الإسلام وما يترشح عنه من النور والضياء على الذي ينطق بالشهادتين، وجاءت هذه الآية لتخبر عما ينتظر المنافقين من العذاب الأليم والخزي في الآخرة.
الخامس : في الآية دعوة للمسلمين للصبر على المنافقين، وعدم الإنتقام منهم، أو منعهم عما أذن به الإسلام لمن يدخله ويعلن إسلامه ظاهراً، إذ انها تخبر عن خسارة المنافقين، وعدم إنتفاعهم من إظهار الإسلام في الآخرة إذا ماتوا على النفاق وإخفاء الكفر والشرك, قال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ) ( )
الثالثة : تبين الآية ان الدنيا والآخرة ملك لله تعالى، وأنه سبحانه يمهل المنافقين والكفار، ثم يبطش بهم , إلا الذي تدركه التوبة.
الرابعة : تبعث الآية السكينة في قلوب المؤمنين، وأنهم يبقون في نعيم وضياء النبوة بالإقتباس منها، والحرص على طاعة الله ورسوله.
الخامسة : لم ينفع المنافق سعيه في طرد التيه والظلمة عنه، فما دام إختار النفاق وإخفاء الكفر فان العمى يصاحبه ويلازمه.
السادسة : في الآية حجة على المنافقين، وشاهد على أنهم رأوا منافع الإيمان والحاجة إليه، وأدركوا وجوب التصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الهوى والضلالة وحب الدنيا غلب عليهم فالذي يكون قريباً من المؤمنين، معاشراً لهم يدرك أنهم على الهدى.
لذا جاءت الآيات السابقة بالإخبار عن خلوة المنافقين مع رؤساء الكفر بقوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ]( )، وجاءت هذه الآية بلفظ الإيقاد يقال : أوقدت النار وإستوقدتها إيقاداً , كموضوع وإشارة إلى بعث النور والضياء.
إفاضات الآية
لقد أفاض الإسلام النور على القلوب ، ورأى فيه أرباب العقول النجاة من أوزار الدنيا وأعباء الشهوة والغضب، وفتح آفاق المعرفة الإلهية للناس كافة مع تباين مراتبهم، ولكن أهل الحسد والريب أصروا على العناد فظلوا في ظلمات وتيه وضلالة , ولم ينتفعوا من البراهين والمواعظ التي جاء بها القرآن والتي تشع على الصدور، وتنيرها بالحكمة فخسروا الدارين.
الصلة بين آول وآخر الآية
إبتدأت الآية بلغة المثال والتشبيه لتقريب المعقولات إلى الأذ هان بالمحسوسات وما يدركه الناس جميعاً، ومن الآيات ان إيقاد النار للإستضاءة أمر موجود في كل زمان ومكان، ويعرفه الناس جميعاً، وجاء التيار الكهربائي والإنارة بالمصابيح في هذا الزمان نعمة ، ولكنه لم يعطل حاجة الإنسان الى إيقاد النار ، بالمباشرة والتسبيب , وإقتباس الضياء منها، فحتى اذا لم يكن الناس جميعاً يحتاجون إيقاد النار، فإنهم يعرفون ويرون الإيقاد ونفعه في الإضاءة، وقد يأتي إيقاد النار للتدفئة،ويفيد إضاءة المكان ليلاً.
وتضمن الإيقاد في المقام معنى الإضاءة والإنارة ليدل ذهاب نورهم الذاتي على عدم الإنتفاع من النار وضيائها، وفيه إشارة إلى عدم إنتفاعهم من الأموال والجاه والسلطان الذي عندهم في الدنيا، لأن الكفر ماحق للأعمال.
ومن الإعجاز ان الآية لم تخبر عن ذهاب ضياء النار فلم تقل “فلما أضاءت ما حوله أطفأ الله ناره” بل أخبرت عن ذهاب نور الكفار والمنافقين أنفسهم.
وتخبر الآية في مفهومها عن نور كان عندهم , ويحتمل أموراً :
الأول : هذا النور مقتبس من نور النار في الأمور، خصوصاً وأن الآية لم تخبر عن إنطفاء النار .
الثاني : عودتهم الى الظلمة والعذاب يوم القيامة.
الثالث : المراد النور الذاتي وتوظيف العقل والبصيرة للتدبر في الأمور.
الرابع : ذهاب ضياء النار والنور الذاتي للكفار معاً.
الخامس : ما توارثوه من الحنيفية ومبادئ التوحيد .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية ، ومن وجوه إنطفاء النور الذاتي:
الأول : الإصرار على الكفر والعناد.
الثاني : الإعراض عن آيات القرآن والآفاق.
الثالث : إنعدام البصيرة.
الرابع : فقدان قواعد التدبير.
الخامس : سوء الإختيار.
السادس : ضياع الأموال والجاه وأسباب العز.
وتدل الآية على عدم إنتفاع الكفار من تجارتهم وشرائهم الضلالة، لأن الضلالة ظلمة حالكة، وشر محض ليس فيه خير أو نفع.
وإذ إبتدأت الآية بمثل عمن إستوقد ناراً، فانها أختتمت بترك الله عز وجل الكفار في ظلمات وتيه وحيرة لا يبصرون ما حولهم، في إشارة الى عدم انتفاعهم من إسباب الكيد والمكر , أو الكذب والزيف , وإدعاء الإيمان.
ان مقاليد الأمور بيد الله، وهو القادر على نصر المسلمين، ودحر وخزي الكفار، فجاءت هذه الآية لتبعث السكينة في قلوب المسلمين، وتخبر عن زوال أسباب المنعة التي تظهر على الكفار، وان الجهل والغفلة مصاحبة لهم , وهم في ظلمة لايبصرون ماحولهم لتكون الآية بشارة النصر على الكفار عند حصول القتال معهم، لذا إبتدأت الآية في المثل بصيغة المفرد، بينما جاءت خاتمتها وما فيها من الذم بصيغة الجمع، وفيه إعجاز وإخبار عن قصور الكفار وعجزهم عن الدفاع عن أنفسهم، وقد دلت الوقائع التأريخية على هذه الحقيقة بانتصار الجماعة القليلة من المسلمين على الفئة الكبيرة من الكفار، وهذا الانتصار مما لا يبصره الكفار فيفوتهم كمناسبة للإعتبار والإتعاظ.
التفسير الذاتي
بعد أن جاءت الآية بوصف حال الكفار، وخسارتهم في النشأتين وعدم ربح تجارتهم, ومحاربتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، جاءت هذه الآية في ذمهم أيضاً ولكن بلغة المثل، للزيادة في البيان،وتعدد صيغ الذم للكفار.
وقد جاء قبل آيتين أن الله عز وجل يستهزئ بالكفار، وجاءت هذه الآية لتوكيد إستهزاء الله عز وجل بهم بلغة المثل وتقريب معاني خسارتهم.
ولم يرد لفظ (إستوقد) في القرآن إلا في هذه الآية، وفيه بيان لسعيهم في تجارتهم كالذي يطلب الحطب والوقود لطلب النار والضياء، ولكنهم بغتة يكونون في ظلمة ويعجزون عن تلمس الطريق،وهو من مصاديق خاتمة الآية السابقة [وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ].
ونسبت الآية تركهم في الظلمات إلى الله عز وجل أي ليس للأسباب الطبيعية في ذات تجارتهم وإيقادهم النار، بل أن الله عز وجل بالمرصاد للكافرين، ويغلق عليهم أبواب الفرج، ويرجع مكرهم وكيدهم إلى نحورهم، ويحجب عنهم أسباب النصر والغلبة، ويبتليهم في أنفسهم وأموالهم وأولادهم بآفات سماوية وأرضية، فهم يظنون بإمكانهم محاربة الإسلام بما عندهم، فيأتيهم البلاء , ويجعلهم عاجزين عن تصريف أعمالهم,قال تعالى (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) ( ).
فهذه الآية وان جاءت بصيغة المثل إلا أنها تضمنت لغة الإنذار والوعيد، وفيها منع من إفتتان المسلمين بما عند الكفار من الأم وال والأولاد والجاه، لأنه إلى زوال،وهو الذي تؤكده الشواهد التأريخية، ليتوجه المسلمون إلى العبادة، ويستعينوا بالصبر وهو من عمومات قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ] ( ).
من غايات الآية
تتضمن الآية ذماً للكفار والمخادعين بلغة المثل والتشبيه، وهي أكثر موعظة وإعتباراً لأن الناس يدركون معانيها لما فيها من المثل الحسي القريب.
لقد جاءت الكتب السابقة بالبشارة بالنبي محمد صلى ال له عليه وآله وسلم ولزوم نصرته وإعانته، فآمن شطر من الناس وكفر شطر آخر، فمن الذين كفروا من يدعي الإيمان حينما يلاقي المسلمين، وهو لا زال على الكفر وهؤلاء غير المنافقين وأعم منهم، اذ ان المنافق يعلن الإسلام ويحضر الصلاة ولكنه يخفي الكفر، اما هؤلاء المخادعون فليس لهم من الإيمان إلا إدعائه ساعة لقاء المسلمين خوفاًُ منهم أو طمعاً أو رياء، ولإقامة المسلمين البرهان والحجة عليهم، أو لتثبيط همم المسلمين وبث الشك والريب في نفوسهم، لأن المسلم إذا سمع الشك من الكافر لا يلتفت إليه.
أما إذا سمعه ممن يقول أنه آمن فانه قد ينصت إليه، ف جاءت الآية واقية للمسلمين، وفضحاً للكافرين والمخادعين، وتحذيراً من الركون اليهم، وهذا التحذير مركب من وجوه :
الأول : توجه التحذير للمسلمين من المخادعين.
الثاني : تحذير المنافقين من إعانة المخادعين ضد الإسلام.
الثالث : تنبيه المسلمين لعدو من الكفار، يتصف بالخداع والمكر وإدعاء الإيمان زوراً.
في الآية مسائل :
الأولى : الآية عز ومنعة للمسلمين ببيان وهن وضعف عدوهم، فمن أسباب الضعف ان تحيط الظلمة بالإنسان، وفصير عاجزاً عن الحركة والفعل.
الثانية : بشارة المسلمين بالإتيان بمثل يتضمن عدم قدرة المنافق على الإضرار بالمسلمين.
الثالثة : بيان سوء عاقبة المنافقين والكفار.
الرابعة : أختتمت الآية قبل السابقة بقوله تعالى [وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ]، وجاءت هذه الآية بالإخبار عن سلب الضياء والنور من المنافقين والكفار، وجعلهم في حال مستمر من التردد والحيرة والتيه, وهو مصداق لخاتمة الآية السابقة [وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ].
الخامسة : في الآية إخبار عن إبتلاء الكفار والمنافقين بما يشغلهم بأنفسهم , ويلاقون معه العناء والمشقة.
السادسة : بيان إعجاز القرآن بما فيه من لغة المثل التي يدرك معانيها الناس جميعاً،وهو من مصاديق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً.
السابعة : ان القوة لله جميعاً،وان الله عز وجل لم يخلق الناس ويتركهم وشأنهم بل أنه سبحانه ينصر المؤمنين، ويبتلي الكفار والمنافقين بما يمنعهم من الإضرار بالمسلمين، ومن كان في الظلمة لا يستطيع الإضرار بعدوه وان نوى التعدي عليه، والآية من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
فليس من ضرر كبير يأتي من الكفار والبغاة والمنافقين وان إجتمعوا وإشتركوا في المكر والمخادعة والسعي في محاولة الإجهاز على أهل الإيمان، ويدل عليه قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ] لبيان ان الأمر لا ينحصر بالمنافقين، بل يشمل التواطئ بينهم وبين رؤوس الكفر والضلالة.
فان قيل ان المنافقين لهم أبصار يبصرون بها، ويخبر المثل الوارد في الآية بان الله عز وجل تركهم في الظلمة لا يبصرون، والجواب فيه وجوه:
الأول : إرادة إنعدام البصيرة.
الثاني : لا يبصر المنافقون منافع الإيمان الدنيوية والأخروية.
الثالث : لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات العقلية والحسية، والمنافقون مع قرب محلهم وتجلي الآيات لهم لا يبصرونها لأنهم في ظلمة الحيرة والتردد والطغيان والعتو.
الرابع : لا يبصر المنافقون الأضرار التي يجلبها لهم النفاق، ومنها ذمهم في القرآن، وفضحهم في الدنيا والآخرة.
الخامس : لقد حجب الكفار والمنافقون أنفسهم في منازل الضلالة.
السادس : تتجلى منافع الإيمان على الذين أسلموا بالصلاح والهداية والتفقه في الدين، والإستبشار بفضل الله تعالى، والمنافقون والكفار متخلفون عن معرفة هذه الحقائق، فجاءت الآية التالية بنعتهم بأنهم [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ].
التفسير
قوله تعالى [مثَلُهُمْ كَمَثلِ الَّذِي استَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ]
المثل لغة وسلاح في القرآن , قال تعالى [ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( )، ففي المثل وصف وبيان وعبرة وموعظة.
ومثل هؤلاء المنافقين كمثل الذي بــادر إلى إيقـــاد النار في ليلة مظلمة طلباً للإنـــارة والضياء, ولكــن المنافقين لضلالتهم وإعتقادهم الكفــر خفية إنتزعـــوا من النور وبقـــوا يتخبطون في تيه وضلالة وعذاب.
وقد تكون النار وضياؤها في الآية إشارة إلى إشعاعات الإسلام وأنوار علومه، وقوله تعالى [ أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ]( )، هو إنتشار الإسلام ودخول الناس أفواجاً فيه، فالكافر و المعاند يسمع ويرى كل يوم دخول ذوي قرباه او جيرانه في الإسلام بحماس ورضاً وقبول، ينعكس على سلوكهم بصدق الفعل وإخلاص الإيمان، أما هو فقد جرّدَه الله من نور الإيمان، و لا يبعد هذا مع التأويل والتقريب بان النار مباركة ووظيفتها الإنارة والإضاءة.
وفي الدلالة التضمنية للآية إخبار عن نعمة الإسلام وأنه نور وضياء مبارك تشع أنوار هدايته على من حوله بما في ذلك أهل العناد والنفاق، ولكنهم لم يستضيئوا بهذه الأنوار القدسية وكأن إعراضهم عنها ظلام وهلكة.
لقد تفضل الله عز وجل بهذه الآية ليتفكر المؤمنون بالعمى الذي عليه أهل الخداع والضلالة خصوصاً على المختار بان الآيات أعم من أن تتعلق بالمنافقين والنفـاق الذي هو الدخــول في الإســلام بلحاظ ظاهرللغير والخروج عنه من جهة خفية، أو هو ستر الكفر وإظهار الإيمان.
فالآية تشمل أهل الرياء والخداع وشطراً ممن لم ينطق بالشهادتين وأنهم موضوع هذه الآيات على نحو الأصل والذات، وتدعو الآية المسلمين إلى عدم الإكتراث بأمرهم أو الإلتفات إلى أقوالهم، وتحثهم على عدم التأ ثر بخداعهم.
وفي الآية توبيخ وذم للمنافقين والمخادعين، فقد إنتفعوا من ضياء الإسلام وإفاضات البعثة النبوية المباركة وإقامة الدولة الإسلامية وجاء الإستقرار الإجتماعي في المدينة، وإنتفعوا من الإزدهار الإقتصادي الذي حصل في الجزيرة والمدينة المنورة خاصة بسبب الغنائم والمنافع التي جاءت الى المسلمين، وموضوعية المال عند اليهود معروفة، وكذا عند قريش , فمن الواجب الإتعاظ والشكر لله، كما رأوا حال العز بالإسلام وخالطوا المسلمين، ولكنهم إختاروا العناد وإخفاء الجحود، فجاءت الآية لتخبر عن خسارتهم في الدنيا والآخرة وأصروا على البقاء في السر على الكفر والجحود.
قوله تعالى [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ]
هناك فرق بين ذهب وأذهب التي تعني الإزالة والمحو، ففي لفظ (ذهب) لطف ودعوة للتوبة وعدم اليأس من رحمة الله، وإشارة الى إبتلائهم بعدم الفلاح , وبطلان عملهم وعدم انتفاعهم منه.
ولم يرد لفظ [ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ] إلا في هذه الآية، وقد ورد فيهم ايضاً قوله تعالى [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ]( )، مما يعني التخويف والوعيد، وهل يحتمل إرادة ذهاب نورهم في الآخرة خصوصاً وان لفظ (نورهم) ورد أربع مرات في القرآن، والثلاثة الأخرى كلها وردت في نور المؤمنين وبقائه يوم القيامة( ).
الجواب المراد المعنى الأعم وان الآية تتعلق بالدنيا والآخرة وليس بالآخرة فحسب، إذ تخبر عن إنطفاء ضياء المعاندين وإنعدام سلطانهم على النفوس وعدم إمكانهم التأثير على الآخرين سواء بجذبهم إليهم أو بمحاولات صدهم عن الإسلام .
والآية بشارة المدد الآلهي للمسلمين، والتخفيف عنهم بفضح عدوهم وإنحسار ضرره وأثره ، وهي حث للمسلمين لمواصلة الدعوة إلى التوحيد والرسالة , وتهيئة مقدمات وأسباب هذه الدعوة.
بحث بلاغي
يدل نفي العام على نفي الخاص، وثبوته يدل على ثبوته، ونفي العام أعم من نفي الخاص، قال تعالى [فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ] ولم تقل الآية بضوئهم، فلم يرد الضوء صفة وعرضاً للإنسان، وهو أخص من النور إذ يقع النور على القليل والكثير، وقد جاء في مدح المؤمنين،قوله تعالى [يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ]( )، ان نفي النور وهو العام يدل على نفي الضياء وهو الخاص، ثم جاء قوله تعالى [وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ] وفيه دلالة على عدم وجود نور في الخارج يستعينون به فتدل الآية على إنعدام النور عن الكفار مطلقاً، وفيه زجر وتحذير من الكفر وإختيار الضلالة.
ومن أسرار الآية ان المثل جاء بصيغة المفرد، أما الأثر فجاء بصيغة الجمع بقوله تعالى [فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ] فلم تقل الآية فلما أضاءت ما حولهم، وليس من إضمار في الآية أي بعد الإضاءة لبيان حرمان الكفار من الضياء والنور الخارجي، وعدم إنتفاعهم من آثاره، للعمى عندهم، فيرى الكفار المسلمين من حولهم يستنيرون بنور الإيمان، ولكنهم لا ينتفعون من ضيائه .
وقال الطبرسي: والتقدير: “فلما أضاءت ما حوله طفئت أي طفئت حين أضاءت”( ) , والقدرالمتيقن أن ذهاب ومحو النور خاص بالكفار ليكون بقاء الضياء والعامة حجة عليهم, كالضياء الذي يشع على القلوب المنكسرة من الآيات الكونية وكنوز القرآن والتنزيل .
وهل يراد من الآية ضياء الإسلام والبعثة النبوية الشريفة، وأنها أضاءت ما حولها، وإستبان للناس صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بعثته ورسالته ودخول الناس في الإسلام أفواجاً، ليبقى الكافرون والمنافقون في حيرة وضلالة وظلام لا يهتدون الى سبيل، وهو من مصاديق الآية .
وفيه إشارة الى ضعف ووهن الكفار والمنافقين وعجزهم عن توفير أسباب القتال والمقاومة , وتحذير الناس منهم , وكان قدوم اليهود من الشام الى يثرب لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا بُعث بعد إنقطاع النبوة، فلما بعث بشخصه الكريم من غيرهم كفروا به,فجاءت الآية بالمثل للموعظة .
قوله تعالى [ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ ]
الآية جزاء وسلب للنعمة من الكفار بعد إتخاذها سلاحاً ضد الإسلام فأصبحوا لا يبصرون أنوار اليقين وسبل الرشاد، لا يعلمون ما هم عليه من الضلالة وسوء العاقبة.
وفي الآية إعجاز وهو حتمية تبدد أعمال الكافرين وخيبتهم، قال تعالى [ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ]( ).
عن ابن عباس: أنهم يبصـــرون الحــــق ويقولون به حتــى إذا خرجوا من ظلمة الكفر، أطفؤوه بكفرهم به، فتركهم في ظلمات الكفر( ).
والآية إخبار عن الواقع النفسي الأليم الذي يعيشه أهل الخداع والضلالة, وحال الضياع التي يحسون انهم في ظلماتها، وإبتعاد الناس عنهم والبوار والكساد الذي أصاب تجارتهم.
وعن الأمام الرضاعن قول الله تعالى [ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ ] قال : ان الله تعالى لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه لكنه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم عن المعاونة واللطف، وخلّى بينهم وبين إختيارهم( ).
لقد وصف الله الضلالة بالظلمة والتيه، وفيه توبيخ لهم وتحذير للمسلمين من الإستماع لهم وبيان ســـابق بان التقــرب اليهم ليس فيه نفع لأن الظلمة عدم، وان دعوتهم كالسراب او انهم يتظاهرون اولاً بإرادة الخير والصـــلاح، ويجدون أذناً صـــاغية في بداية الأمر ولكن الله عز وجل يخـــزيهم ويفضحهم.
لقـــد جـــاءت هذه الآيـــات لإسقاط ما في أيديهم وأظـــهرت حقيقتهم، وحالـت دون تأثير الزيغ والرياء والكذب.
بحث بلاغي
من وجوه البديع (الإقتدار) وهو تعدد مضامين وصور المعنى الواحد ضمن جمل وتراكيب متعددة تتضمن الحقيقة والمجاز والإستعارة والكناية والإيجاز والمثل لإفادة المعنى وإظهار القصد وإيصاله إلى الأذهان بأعــذب كلام من غير تفريــط في الغاية كما في هذه الآية الكريمة.
فجاءت الآية بصيغة المثل ولغة التشبيه، لتقريب المعقولات إلى الإذهان بالإتيان بها بصيغة المحسوسات، ومن الإعجاز ان المحسوسات في المثل القرآني قريبة للناس جميعاً، ولم تأت أمثال القرآن إلا بما هو محسوس وظاهر للناس جميعاً في كل الأزمنة، مع صغر ودقة أفراد أمثلته، وهو آية من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا] ( ).
فالمثل القرآني بالأشياء الصغيرة أمر نافع للناس جميعاً، وتذكير ببديع صنع الله تعالى.
وجاءت الآية بصيغة التعريض والكناية، ومن أسرار الكناية في القرآن تعدد وجوهها ومضامينها القدسية بما يكون درساً وعبرة وموعظة للناس جميعاً، وحجة على الكفار , ومنها إنطباقها على الواقع الخارجي، لتكون الكناية والمجاز في القرآن أعم في إستعمالهما , إذ يقربان من التصريح والحقيقة بلحاظ نظم الآيات، وتعيين الموضوع والغايات الحميدة من لغة الإشارة والمثل القرآني بما يؤدي إلى الإصلاح، ويقود الناس نحو سبل التقوى.
قوله تعالى[صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] الآية 18
الإعراب واللغة
وفي قراءة عبد الله بن مسعود: صماً بكماً عمياً)( )، ونصب على الذم، وقيل نصب على الحال من الضمير في(المهتدين) صم : خبر لمبتدأ محذوف أي هؤلاء صم، بكم: خبر ثان، عمي: خبر ثالث .
فهم : الفاء : عاطفة، هم : مبتدأ، لا يرجعون : لا نافية، يرجعون : فعل مضارع مرفوع، الواو: فاعل، والجملة خبر (هم).
الصم : جمع أصم وهو الذي بطل سمعه وقيل الذي ولد أصم (وفي الدعاء : عصيتك بسمعي ولو شئتَ لأصممتني).
وبكُم : جمع أبكم، وأصل البكم إعتقال اللسان والعجز عن النطق هو آفة عضوية تمنع من الكلام.
العمي : جمع أعمى وهو الذي فقد حاسة البصر , ولم يستطع الإدراك والرؤية بالعين.
والرجوع خلاف الذهاب، كما يقال رجع من سفره، وقد يكون الرجــوع عن الشــيء أو إليه ، فالرجــوع عن الشــيء : الإنصــراف عنه بعد الذهاب اليه، والرجــوع اليه: إتيانه والإنصراف إليه بعد الذهاب عنه.
في سياق الآيات
بعد أن جاءت الآيات السابقة ببيان سوء فعل أهل الخداع والرياء, ووصفهم بمثال محسوس في الآية السابقة، جاءت هذه الآية الكريمة لتصف إنعدام الإدراك والوعي والبصيرة عندهم .
وجاءت الآية السابقة بالإخبار بصيغة المثل عن حالتين إحداهما متأخرة زماناً وموضوعاً عن الأخرى، وهما:
الأولى : إستيقاد النار وما تبعثه من الضياء.
الثانية : ذهاب النار وضياؤها ساعة الظلمة والحاجة إليها، في دلالة على إنعدام الضياء والمدد الخارجي للمنافقين والكفار فليس عندهم فئة يرجعون إليها في حربهم على الإسلام لذا جاءت الآيات بالإخبار عن إنعدام من ينصرهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ]( ).
وجاءت هذه الآية لتؤكد العمى الذاتي لهم، وأنهم أصروا على المعاصي وأصبحوا لا ينتفعون من الضياء حتى في حال وجوده حولهم.
ويفيد الجمع بين هذه الآية والآيات السابقة وجوهاً :
الأول : إصرار الكفار على الكفر والجحود وعدم الإيمان لقوله تعالى [وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]( )، لأن الكفر يحجب الرؤية، ويمنع من التدبر والبصيرة.
الثاني : مكرهم في مخادعة الله والمؤمنين، ورجوع خداعهم إلى أنفسهم، ومن أضرار هذه الخداع يبدو لهم السراب حقيقة، والوهم ظناً معتبراً، قال تعالى [وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( ).
الثالث : يأتي الصمم والعمى كعرض ونتيجة للمرض الذي يصيب القلب لسلطانه على الجوارح والحواس، قال تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا]( ).
الرابع : يؤدي الإفساد في الأرض إلى عدم سماع الحق، ورؤية
الآيات، وقد ذم الله تعالى المنافقين والكفار، بقوله تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ]( ).
الخامس : الملازمة بين السفه وخفة الرأي , وبين عدم الإنصات لدعوة الحق، ومعرفة الأضرار الدنيوية والأخروية التي تنتج عن السفه والضلالة، قال تعالى [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
السادس : في هذه الآية توكيد للعتو والتعدي والعمى الذي عليه الكفار والمنافقون، وبيان لإستهزاء الله والمؤمنين بهم لأن ما أصابهم من الصمم والعمى أمر عرضي جاء بإختيارهم له، وتركهم نعمة العقل، وتعطيلهم لوظيفته ووظيفة الحواس في الأمور ذات الأولوية وهي العقيدة والمبدأ، ولزوم الإهتداء الى التوحيد والتسليم بالعبودية لله تعالى، والتصديق بالنبوة مطلقاً، وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة والتي تتضمن الإيمان بنبوة الأنبياء السابقين.
السابع : لما أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ] جاءت هذه الآية لتفسير عدم إهتداء الكفار والمنافقين وانه راجع لضلالتهم وغيهم، ولتنزيه مقام الربوبية من الظلم، فقد أنعم الله عز وجل عليهم بالإنذارات والبشارات النبوية والكتابية، ولكنهم أعرضوا عنها، فجاءت هذه الآية بلغة المثال لتقريب المعنى للأذهان، وتكون حجة عليهم في الدنيا والآخرة.
الثامن : لمّا ذكرت الآية السابقة صيرورة الكفار في ظلمة وظلام بسبب فقدانهم الضياء وغياب النور من حولهم، جاءت هذه الآية لتؤكد إصابتهم بالعمى الذاتي، وفقدان الحواس، ومع ان علماء المنطق
يذكرون الحواس الخمسة وهي:
الأولى : الباصرة.
الثانية : السامعة.
الثالثة : الشامة.
الرابعة : الذائقة.
الخامسة : اللامسة.
فان هذه الآية جاءت بذكر فقدان الكفار لحواس ثلاثة ويمكن معه استحداث تقسيم جديد للحواس وانها على مرتبتين :
الأولى : حاستا السمع والبصر.
الثاني : حواس الشم والذوق واللمس.
إن أفراد المرتبة الأولى أعلاه متقدمة في الأهمية والموضوع والأثر والتأثير، وهو أمر ظاهر للوجدان لذا فان قوله تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ] إعجاز و إخبار عن إبتلاء الكفار، ورميهم بالعجز والقصور، عقوبة عاجلة، بعد ورود الإنذارات، وليكون المسلمون في مأمن من ضررهم, مع بيان موضوعية البصر في التدبر والتفكر والإختيار.
إعجاز الآية
لغة التحدي في الآية والإخبار عن إنعدام أهم الحواس عند المنافقين والكفار كناية عن توقف آلة الفهم والإستيعاب عندهم , وتخلف مداركهم .
وتبين الآية موضوعية الحواس في إدراك الآيات والإتعاظ منها، وقبح الإعراض عنها وعدم توظيف الحواس في مرضاة الله تعالى، ومن لا ينتفع من حواسه للتدبر في الخلق والبعثة، والإقرار باليوم الآخر يرميه الله تعالى بتعطيل السمع والبصر والنطق بالحق والعدل والإنصاف.
ويمكن تسمية الآية آية (فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
تساهم الآية في تحديد أنماط معاملة المسلمين لهؤلاء المعاندين والمخادعين، وعدم الإستغراب من جحودهم، ولا يمكن حمل عنادهم وشكوكهم على خلل في الشريعة او نقص في الإسلام بل لأنهم صموا آذانهم ولجموا أفواههم عن سماع الآيات والإقرار بها .
وتبين الآية للمسلمين ضعف ووهن عدوهم، وعجزه عن النيل من الإسلام، وتحث المسلمين على تعاهد الإيمان وإتيان الفرائض بأوقاتها، وعدم الإلتفات إلى ما يثيره أهل العناد من الريب والشك لأنه يأتي عن عمى وضلالة.
والآية تذكير للناس بنعمة الحواس، وتثوير لها، ودعوة لجعلها وسيلة للتبصر والتدبر في آيات الله عز وجل.
الآية لطف
تبين الآية موضوعية الحواس عند الإنسان في التدبر في آيات الله الكونية، والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتؤكد للمسلمين ان سواكم ممن لا يؤمن بالآيات مع وجود المقتضي بسبب المانع الذاتي عندهم، وإصابتهم بالصمم والبكم والعمى فلا فائدة ترتجى منهم، والآية لطف بالمسلمين وإخبار عن صرف أذى وكيد عدوهم.
لقد جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية ولكنها تتضمن مفاهيم التوبيخ والزجر، التوبيخ للكفار والمنافقين، وزجرهم عن أسباب الجحود والنفاق، ودعوتهم الى الإيمان، وحثهم للتخلص من الظلمة التي وضعوها على أعينهم لتمنعهم من إدراك المبصرات، والغشاوة التي تحيط بقلوبهم فتجلب الآفات والبلوى في الدنيا والآخرة.
ان تلاوة المسلمين للآية دعوة لأهل النفاق لإصلاح حالهم، وتحذير للناس جميعاً من الإنصات لهم وإتباعهم , فأراد الله عز وجل لهذه الآية أن تكون مدرسة للجهاد وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وتحذيراً للناس منه.
فمن إعجاز القرآن أنه يأتي بالخبر أو الإنشاء , ولكنه يتضمن معاني عديدة تستقرأ من دلالاته ونظم الآيات، وتباين الناس الذين يسمعون كلام الله في مللهم ومشاربهم.
مفهوم الآية
ما ورد في الآية من تقبيح للكفار والمنافقين بلغة المثل المتعلق بالحواس غاية في الإيجاز والبيان والوضوح، ويدل على سخط الله تعالى عليهم، وفيه إنذار ووعيد لهم ودعوة للمسلمين للإعراض عنهم، والتوجه نحو المسؤوليات الجسام التي تنتظرهم.
ومع وجود تمام الحواس عند المنافقين والمخادعين فان القرآن ينعتهم بفقدانها وهو إشارة إلى الوظائف الأساسية للحواس وهي الإنقياد للأنبياء والرسل وإتباع الآيات والإلتزام بأداء العبادات.
ومن مفاهيم الآية مدح المسلمين وانهم يؤدون الشكر لله تعالى على نعمة الحواس بتسخيرها لتعظيم شعائر الله.
وفي الآية مسائل :
الأولى : جاءت الآية في ذم المخادعين، وأثر الضلالة في تعطيل حواسهم.
الثانية : وصف المخادعين بصفات تدل على الجهالة والضلالة وهي:
الأول : إنهم صم لا يسمعون دعوة الحق على نحو السالبة الكلية.
الثاني : لا يستطيعون الكلام، وفيه إشارة إلى عدم وجود سلطان أو أثر لهم.
الثالث : وصفهم بانهم عمي لا يستطيعون رؤية الآيات الحسية، وما عليه المسلمون من الثبات على الإيمان.
الثالثة : إنهم لا يتعظون ولا يرجعون للحق.
نعتت الآية الكريمة المنافقين والكفار بأربع صفات مذمومة وهي:
الأولى : انهم صم لا يسمعون الكلام، وبما انهم أصحاء وحاسة السمع عندهم سليمة بدليل الآيات السابقة بسماعهم الكلام وقيامهم بالرد عليه كما في قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( )، وقوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ] فان المراد من الصمم في المقام هو تعطيل حاسة السمع عندهم في مواضيع الهداية، ودعوتهم الى الإيمان، وتدل عليه الآيات السابقة، فحينما ينهون عن الفساد لا يسمعون هذا النهي ويصرون على الفساد ويدّعون أنهم مصلحون، وقيل لهم إتعظوا وإعتبروا من غيركم وإقتدوا بمن أسلم فقد آمن الناس من مختلف الملل والنحل والمراتب في الشـأن والنسب، وهو المستقرأ من قوله تعالى [آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ] ( ) .
ولكن المخادعين والكفار أصروا على الجحود والعناد بان أصموا آذانهم عن دعوة الحق، ووضعوا أصابعهم في آذانهم عند تلاوة الآيات، وإمتنعوا عن التدبر بما فيها من الإعجاز والمضامين القدسية .
وهل تكون هذه الآية وما فيها من التوبيخ سبباً لإصرار الكفار والمنافقين على الكفر والجحود وانه لولاها لأسلموا، الجواب لا، انما جاءت ذماً وتوبيخاً لهم بعد إصرارهم على الجحود، لذا أختتمت الآية بقوله تعالى [فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] ومع هذا فان عمومات فتح باب التوبة شاملة للناس جميعاً.
لقد أراد الله عز وجل بعث السكينة في نفوس المسلمين، وطرد الشك من نفوسهم، ومنع التساؤل عن أسباب جحود هؤلاء بالإخبار القرآني بأن المانع في ذات الكفار، ونتيجة للصمم والبكم والعمى الذي أصابهم بإعراضهم عن الآيات والمعجزات، وإصرارهم على عدم الإستجابة لدعوة الحق والهدى.
الثانية : عجز المنافقين والكفار عن النطق، ويحتمل العجز هذا وجوهاً :
الأول : عدم القدرة على النطق على نحو الحقيقة.
الثاني : إرادة المعنى المجازي.
الثالث : المقصود هو عجزهم عن النطق في أمور العقائد والملة والدين.
والصحيح هو الثالث، وهو الفرد الأهم لموضوعية الحواس في العبادة لعمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بإعتبار ان خلق الله تعالى للإنسان لعبادته يشمل إرادة خلق أعضائه وحواسه، ولزوم جعلها في مرضاة الله تعالى.
الثالثة : نعت المنافقين والكفار بانهم فاقدون لحاسة البصر، وعاجزون عن الرؤية , ويحتمل الأمر وجوهاً:
الأول : حمل المعنى على الحقيقة والعجز عن الرؤية البصرية، والإخبار عن تعطيل حاسة البصر عند كل واحد منهم.
الثاني : إرادة المعنى المجازي.
الثالث : المقصود من العمى العجز عن رؤية الحقائق وتعطيل البصيرة.
والصحيح هو الثالث إذ ان الآية السابقة جاءت بالإخبار عن رؤيتهم للأشياء، فهم كالذي يستوقد النار فيرى ما حوله بسبب الضياء التي يشع منها في المحل، بالإضافة الى خاتمة الآية السابقة [وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ] بالإشارة الى عدم تحقق الرؤية منهم بسبب الظلمة المتعددة التي تحيط بهم، والتي جاءت نتيجة لعدم إنتفاعهم من حاسة البصر في أداء وظائفها العبادية والتي تكون على وجوه:
الأول : الوظائف الذاتية لحاسة البصر في رؤية الآيات الكونية، والمعجزات النبوية.
الثاني : إجتهاد البصر في تلمس الآيات، ورؤية المسلمين كيف يؤدون الفرائض والعبادات.
الثالث : ما يترشح على البصر من تصديق القلب بالآيات والمعجزات.
الرابعة : نعت المنافقين والكفار بانهم متخلفون عن الهداية والصلاح.
وتتضمن الآية في مفهومها مدح المسلمين والثناء عليهم لأنهم إستطاعوا أن يسمعوا ويروا الآيات، ويعلنوا كلمة التوحيد، وينطقوا بتلاوة القرآن، ويكونوا أسوة للناس في مسالك الإيمان، كما ورد في قوله تعالى [آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية، أن كل كلمة منها لها مفهوم يتضمن المدح والثناء على المسلمين من وجوه :
الأول : المسلمون يسمعون الحق ، وينصتون لآيات القرآن، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثاني : ينطق المسلمون بالحق، ويتلون آيات القرآن على نحو الوجوب في الصلاة اليومية، ويقومون بوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تكون في أكثر مصاديقها بالنطق واللسان، وإظهار معاني التقوى ، ودعوة الناس إلى الإسلام، ليكون المدار في النطق هو طاعة الله، وذكره وتسبيحه تعالى وتلاوة آياته وشكره على النعم الظاهرة والباطنة، فحينما إشترى قوم الكفر والضلالة صاحبه طوعاً وقهراً الصمم والخرس والعمى، فجاءت هذه الآية لذمهم، وإخبارهم والناس جميعاً بأن المسلمين يؤدون وظائفهم العبادية ويبادرون إلى طاعة الله بجميع حواسهم.
الثالث : لقد خلق الله تعالى آيات الآفاق وجعلها مسخرة للأجيال المتعاقبة من الناس، ينتفعون منها بعرض واحد لا تحجب منافعها عن أحد منهم، وهو من الرحمة الإلهية بهم جميعاً.
وجاءت هذه الآية لتخبر في منطوقها عن جحود الكفار بهذه النعم، وعدم تدبرهم بدلالاتها، لأنها تقود إلى الإقرار بوجود الصانع طوعاً وقهراً وإنطباقاً.
وتتضمن في مفهومها المدح والثناء على المسلمين لأنهم يبصرون الآيات، ويرون المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقون، وجعلوا حواسهم آلات للتدبر بالآيات، وواقية لنزول العذاب بأهل الأرض، فبالمسلمين وتوظيفهم حواسهم في طاعة الله تعالى تنزل الأرزاق ويدفع البلاء عن أهل الأرض، لتبقى الدنيا دار إمتحان وإختبار، ويكون توالي النعم الإلهية على الذين إشتروا الضلالة بالهدى إستدراجاً لهم، وحجة عليهم، وسبباً لشدة عذابهم في الآخرة, قال تعالى (نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) ( )
إفاضات الآية
يرفع التنزيل السماوي الغشاوة الظلمانية التي تطرأ على الأبصار ويزيح الحواجز التي تضعها الشهوات ووساوس الشيطان على القلوب، للإمتناع عن الإيمان بالنبوة ونزول القرآن من عند الله تعالى، مع أن التصديق به إرتقاء في علم المعارف، أما الجحود به فهو تيه وضلالة وترد في منازل العمى , وعجز عن السمع والنطق.
وفي الآية حث على الرجوع الى أحكام الشريعة، والصدور عن القرآن.
الصلة بين أول وآخر الآية
بعد أن أختتمت الآية السابقة بالإخبار عن ترك الله الكفار في ظلمات لا يبصرون ما حولهم جاءت هذه الآية لتخبر عن حالهم الذاتية،وان الظلمة لا تنحصر بما حول الكفار، بل تشمل قصور وتخلف حواسهم في وظائفها، فحينما أصروا على عدم تسخيرها في مرضاة الله، وعلة الخلق وهي العبادة أصاب حواس الكفار الشلل والقصور والتخلف عما تنفع به صاحبها وغيره لأن نعمة حواس الإنسان لا تختص به بل تترشح منها المنافع على غيره.
وتنبسط وظيفة العبادة على حواس الإنسان ليبصر الآيات، ويسمع البراهين، ويتلو آيات القرآن ، ويتوجه الى الله تعالى بالدعاء والمسألة، ولكن الكفار صم لا يسمعون الحق والتنزيل، ولا يرضون بالتدبر في معانيها ، وعمي لا يتخذون آلة النطق وسيلة للعبادة.
وقد ذكرت الآيات السابقة انهم كانوا يدّعون الإيمان أمام المسلمين، والجمع بين الآيتين يفيد وجوهاً :
الأول : إدعاؤهم الإيمان زوراً ليس من النطق لانه كذب ولا أصل له فيلحق بالعدم.
الثاني : المراد من الآية عدم نطقهم بالحق، فيدخل إدعاؤهم الإيمان في أفراده ومصاديقه.
الثالث : لا صلة بين موضوعي الآيتين، لأن قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا] إخبار عن قضية في واقعة وكذب فضحه الله تعالى في ذات الآية، أما هذه الآية فجاءت للإخبار عن حالهم والصفات القبيحة الملازمة لهم، وما فيها من الجحود والصدود عن سبيل الله، وأختتمت الآية بالإخبار القاطع عن كون الكفار لا يرجعون الى أسباب الهداية وتوظيف الحواس بما ينفعهم في الدنيا والآخرة، وإنعدام الإستجابة عندهم لدعوة الحق.
وقد جاءت الآيات السابقة بالإخبار عن طبع الله غشاوة على قلوبهم وسمعهم وعلى ابصارهم( )، أما هذه الآية فجاءت بالإخبار عن إختيارهم لحال الصمم والخرس والعمى، لتقوم عليهم الحجة في الدنيا والآخرة.
التفسير الذاتي
من إعجاز القرآن في هذه الآية أمور :
الأول : بداية الآية بثلاث كلمات متعاقبات متحدة في الموضوع، متباينة في المعنى.
الثاني : كل كلمة مدرسة كلامية في ذم الكفار.
الثالث : قلة حروف كل كلمة، فمجموع حروف الكلمات الثلاث ثمان حروف [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ] في الوقت الذي تأتي فيه كلمة في القرآن تتكون من عشرة حروف كما في قوله تعالى [أَنُلْزِمُكُمُوهَا]( ), وجاءت في إنذار نوح لقومه, وكأن هناك ملازمة بين كون نوح أطول الأنبياء عمراً وبين مجيء أطول كلمة في القرآن حكاية عنه في جهاده وإقامته الحجة على قومه .
الرابع : شمول هذه الكلمات للحواس ولغة البيان، وفي الآية بشارة عدم مجئ الضرر الفادح من الكفار لوجود المانع الذاتي، وعجزهم عن الإضرار وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
لقد جاءت الآية بالإخبار عن إستقرار حال الجهالة والضلالة عند الكفار، والإشارة إلى تعطل الحواس، والعجز عن الإدراك، وفيه وجوه :
الأول : كفاية المسلمين شر الكفار.
الثاني : الأمن والسلامة من كيدهم، وهذا الأمن لا يمنع من الحذر والحيطة منهم، قال تعالى [خُذُوا حِذْرَكُمْ]( ).
الثالث : تفضل الله برمي أعداء الإسلام بالآفات وأسباب الهلكة.
الرابع : بيان علة إصرارهم على الضلالة، وعدم مبادرتهم للتوبة والإنابة، وهي علة ذاتية إختيارية، فقد أنعم الله عز وجل على الناس بالحواس وجعلها وسيلة للتدبر بالآيات.
وجاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمخاطبة هذه الحواس، وتوظيفها لمنفعة الإنسان في النشأتين بإختياره الهداية، ولكن الكافرين إختاروا تعطيل حواسهم، وهل يسقط عن الكفار التكليف، الجواب لا، لأن الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار، ومن أسرار مجئ الوصف المجازي والإستعارة والمثل ونعتهم بسد الآذان إعتقال اللسان وذهاب البصر.
من غايات الآية
لقد أراد الله عز وجل العز للمسلمين، وهيء لهم أسباب النصر والظفر، وعندما تصدى قوم من الكفار لمحاربة الإسلام بالخداع وإثارة الريب والشك جاءت هذه الآية لتشد عضد المسلمين، وتخبر عن ماهية الكفار، وتعطيل حواسهم عن إدراك الآيات، وإمتناعهم عن التبصر في أحكام الرسالة، وإعراضهم عن تلاوة الآيات.
وفي الآية حث للمسلمين للعناية بأنفسهم وتقوية صفوفهم والتفقه في الدين، وعدم تضييع الجهد والمال في دعوة من أصر على الكفر ، وإمتنع عن سماع الآيات.
ومن خصائص هذه الآية قلة كلماتها، مع أن موضوعها إبتلاء ذو صبغة عقائدية , فيها ذم مستقل للمنافقين تقتبس منه الدروس والمواعظ، وكما ان كلمات الآية ذم لهم فانها بشارة وسكينة للمسلمين وإخبار عن دفع شرهم وكفاية أذاهم بما إنشغلوا به والحجب التي جعلوها على أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم وقلوبهم.
وتبين الآية موضوعية العقيدة في الفهم والخلق والسلوك وأثرها في القول والعمل، وتبعث رسالة إلى أهل الملل جميعاً بأن الإيمان وسيلة مباركة لأداء الحواس وظائفها بأحسن أداء .
التفسير
قوله تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ]
بعد ان بينت الآية السابقة ما يحيط بالكفار من ظلمات لا يستطيعون تلمس طرق النجاة فيها، جاءت هذه الآية الكريمة لتخبر عن واقعهم الذاتي وطبيعتهم التكوينية وإنعدام الحواس عندهم، تلك التي جعلها الله عند الناس آلات مباركة لإدراك المنافع وإجتناب المضار.
وان قلت : إنهم يسمعون وينطــقون ولهم عيــون يميــزون بها الأشياء.
قلت : لم يبق عندهم لتلك الحواس إلا وظائفها البهيمــية والدنيوية فلم تعــد آلة للعقل الإنساني ومادة للبصيرة وإدراك الحكمة فأصبحوا صماً عن إستماع الحق ورسالة السماء، بكماً عن النطق بحقائــق الإيمان والدعوة الى الله، عمياً عن رؤية الآيات الباهرات التي رافقت البعثة النبوية الشريفة.
وتبين الآية الوظائف الأساسية للحواس كونها بلغة للإقرار الآيات وبلوغ مراتب الإيمان، وهذا من مصاديق المعنى الأعم لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ويمكن القول ان المعنى إنحلالي، والمراد منه ان كل حاسة من حواس الإنسان خلقت لتكون عوناً وطريقاً للهداية وآلة للإيمان والإقرار بالربوبية والتصديق بالآيات الباهرات.
فمن لا يسمع الدعوة الى الهدى والإيمان يترك أهم وظائف السمع، اذ ان الله عز وجل رزقه السمع لعبادته وسماع الآيات،ومن لا ينطق بالحق ويقول الصدق ويشهد على ما شهد عليه الله والملائكة وأولوا العلم من التوحيد والنبوة، فكأنه عاجز عن النطق حقيقة.
ومن يعرض عن الآيات الكونية والمعجزات التي جاء بها الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورؤية دخول الناس الإسلام أفواجاً عن إيمان وإقرار بصدق النبوة فهو أعمى عن رؤية جادة الهدى، وسبل الرشاد.
لقد جاء القرآن معجزاً في بلاغته، بما جعل فصحاء وبلغاء العرب يقفون متحيرين مندهشين أمام آيات بلاغته، ولا ينحصر إعجاز القرآن البلاغي بمفرداته وكلماته وتركيبها، بل يشمل الدلالات والمضامين القدسية لكلمات القرآن مجتمعة ومتفرقة، ومنها هذه الآية، فمن بلاغتها رمي الكفار والمخادعين بآفات في الحواس التي تبدو ظاهراً انها سالمة من العيب والدرن، ولكن القرآن جاء بصيغة من البلاغة تتحدى الأمر الظاهري للعيان.
ولم يقل أحد ان الآية جاءت بخلاف الظاهر وأن الكفار يسمعون وينطقون ويرون، لأن المتبادر إلى الأذهان من اللفظ القرآني هو المعنى العقائدي، والمفهوم.
وقد أخبرت الآية عن حلول الظلمة من حول الكفار, ونسبت الآية هذه الظلمة الى الله تعالى فهو الذي تركهم في تلك الظلمات ، كعقوبة عاجلة وبرزخ دون إضرارهم بالمسلمين , وكذا بالنسبة لحال العجز الذاتي للكفار، وتعطيل حواسهم.
إن كل كلمة من كلمات هذه الآية مدرسة في البلاغة إذ لا يستطيع فصيح او بليغ أن يهجو ويصف بهذه الصفات قوماً أعداء له، وتأتي الآية لتكون مرآة لحال الكفار، وإخباراً عن حقيقة عدم إنتفاعهم من حواسهم.
فقد رزق الله تعالى الناس الحواس، وجعلها نعمة عظيمة، وميّز الإنسان في كل حاسة منها عن باقي المخلوقات في الأرض، إذ جعل عنده القدرة على التمييز وتوظيف هذه الحواس بما فيه نفعه وسلامته، ونفع غيره ممن يتعلق به، وأراد الله تعالى لهذه الحواس ان تكون آلة للعقل، ودليلاً في العمل، وسبباً للهداية والرشاد، ووسيلة لجلب المنفعة الدنيوية والأخروية، ودفع المفسدة والعذاب في الدنيا والآخرة, وفاز المسلمون بالشكر لله على نعمة الحواس بتسخيرها في طاعة , قال تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) ( ) وتتجلى الزيادة في المقام بالإنتفاع الأمثل من الحواس في أمور الدين والدنيا.
وجاءت هذه الآية لتخبر عن تخلف الكفار عن توظيف هذه الحواس في النفع الخاص والعام ، لأنهم إشتروا الضلالة بالهدى، وسعوا بإختيارهم الى الكفر والجحود، وكان الصمم والبكم والعمه من مصاديق وأفراد خسارة تجارتهم في قوله تعالى قبل آيتين [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ]( ).
ومن لم يكن مهتدياً فانه لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق بما يجب عليه، ومن الآيات الإعجازية في اللفظ القرآني شموله للحياة الدنيا والآخرة، ففي ذات موضوع الآية جاء قوله تعالى [وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا]( ).
لتكون الآية محل البحث إنذاراً ووعيداً بفقدان الكفار لحواسهم على نحو الحقيقة يوم القيامة عقوبة لشرائهم الضلالة وإعراضهم عن دعوة الحق.
قوله تعالى[فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ]
فيه قولان:
الأول : عن ابن عباس على الذم والإستبطاء.
الثاني : عن ابن مسعود : إنهم لا يرجعون إلى الإسلام( ).
ويمكن ان نضيف لهما مسائل بلحاظ ظاهر الآية الكريمة وبالإستقراء من مضامينها القدسية .
الثالث : لا ينطقون ويردون بالقول المناسب عند توجيه اللوم لهم او وعظهم وتذكيرهم.
الرابع: لا يعتذرون مما هم فيه.
الخامس: إنهم عاجزون عن مواجهة حجج المسلمين.
السادس: إن حاربتموهم فستجدونهم ضعفاء لا يملكون القدرة على الرد لفقد آلته وأسبابه.
السابع: إن التوبيخ والإنذار لا يسبب لهم إفاقة وتدارك لإقامتهم على الإصرار والإعراض.
الثامن: لا يرجعون عن التمادي في الغي والرياء والخداع بسبب النقص الإختياري وما إكتسبوه مما يخالف فطرة الإسلام.
التاسع: وصف الكفار والمنافقين بالعمي والصُم والبكم يحمل على المعنى العقائدي للقرينة المعتبرة، وأنهم ظاهراً يبصرون ويسمعون وينطقون، ولكن يمكن حمله على الحقيقة أيضاً بلحاظ جهة معينة وهي المعارف والعلوم الإلهية التي تعتبر الأرجح حدساً وحساً.
ويحتمل الرجوع معنيين:
الأول : الرجوع إلى الشيء ، وهو الإنصراف إليه بعد مغادرته.
الثاني : الإنصراف عنه بعد وروده والذهاب إليه.
ولو ورد الرجوع على نحو الإطلاق فانه يحمل على الأول، ولكن لا يمنع من حمل الآية على المعنيين معاً بلحاظ تعدد معاني اللفظ القرآني كما تقدم.
وتبين الآية منافع الحواس في أسباب الهداية والرشاد والصلاح , وفيه مدح للمسلمين لأنهم وظفّوا حواسهم في تدبر الآيات وحسن الإنصات لها والتسليم بها , وهو من عمومات قوله تعالى في الثناء على المسلمين (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ( ) , وفيه حجة ودعوة لغير المسلمين لمحاكاتهم والإقتداء بهم .
قوله تعالى[ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ] الآية 19.
الإعراب واللغة
(أو) حرف عطف لمطلق الجمع كالواو.
كصيب : الكاف للتشبيه، والجار والمجرور معطوفان على كمثل.
ظلمات : مبتدأ مؤخر، ورعد وبرق: معطوفان على ظلمات من السماء : جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لصيب، فيه: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
يجعلون : فعل مضارع مرفوع، الواو : فاعل، أصابعهم : مفعول به.
في آذانهم : جار ومجرور في موضع مفعول ثان ليجعلون، والضمير (الهاء) مضاف إليه، من الصواعق : جار ومجرور.
حذر الموت : مفعول لأجله، الموت : مضاف إليه، والله : الواو إعتراضية، واسم الجلالة مبتدأ : محيط : خبر مرفوع، بالكافرين : جار ومجرور.
والصيب : المطر من صاب يصوب إذا نزل من السماء , ووقع على الأرض، ويقال للسحاب صيب.
والسماء معروف، يذكــر ويؤنث، والتأنيــث أكثر، وقيل كل ما علاك وأظلك فهو ســـماء، ويمكن الحاقه بالمجاز فقـــد يكون منـــه السـقف والسطح والساتر المنفصل فوق الرأس، والأنسب التقييد في هذه الصور.
والرعد : صوت السحاب، يقال: رعدت السماء رعداً ، وفي الآية أقوال :
الأول : الرعد صوت ملك يزجر السحاب وانه يزعق كما يزعق الراعي بغنمه
الثاني : إنه ملك موكل بالسحاب يسبّح لله، وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد( ).
الثالث : هو ريح تختنق تحت السماء وهو الذي رواه ابو الجلد عن ابن عباس رضي الله عنه.
الرابع : هو صوت إصطكاك أجرام السحاب( ).
والبرق واحد بروق السماء: تلألؤ الماء، وفي الحديث: انه مخاليق الملائكة من حديد تضرب به السحاب فتنقدح عنه النار، وهو المروي عن الامام علي عليه السلام( ).
عن ابن عباس : إنه سوط من نور يزجر به الملك السحاب( )، وعن مجاهد: هو مصع ملك أي مجالدة بالسيوف أو نحوها.
والصواعق : جمع صاعقة وهي شقة من نار تنقدح من السحاب عند إصطكاك أجرامه، وهي نار لطيفة لا تمر بشيء إلا اتت عليه) ( )ومع حدتها تراها سرعان ما تخفت.
والإحاطة : الإشراف والقدرة.
في سياق الآيات
ضمن بيان قبائــح أهل الخداع والرياء والنفاق يأتي المثل القرآني وفق نظريــات عقائديــــة لتقريب المعقول، وجعلـــه مدركاً بالحواس كحجـــة عامـــة، ومن أجل النفع الأعم والأشمل، وليجســـد المثـل مرحلة جهادية للمسلمين، ويساعد في توثيق الحوادث الإجتماعية والأخلاقية في فترة النبوة ويســـاهم في تفقه وإعتبار أفـــراد الأمة والأجيال المتعاقبة من تلك الحوادث وســــجايا النفوس كي يتخذوا منها دروساً وعبرة وموعظة.
وبعد مثل إيقاد النار وذهاب نور المخادعين وبقائهم في الظلمات، والعمى، جاء هذا المثل القرآني إذ بدأت الآية بـ (أو) وهو عطف حرف وترديد بين الأمرين، ولكنه لا يمنع من التعدد في القضية الشخصية والنوعية فذات الكافر مرة يبتلى بهذا ومرة بذاك، ونجده أما لا يفقه شيئاً او إنه إمتلأ فزعاً وخوفاً.
إنها مدرسة الأمثال في القرآن والتي تبقى نبراساً فكرياً وضياءً علمياً ونوراً يضيء للأجيال دروب الحقيقة، ويكون مدداً في تحديد معالم السلوك الشخصي والعام وفق منظار قرآني ملاكه الحكمة والإستبصار وهي بالتالي دعوة إلى الإسلام.
لقد جاءت الآية قبل السابقة بلغة المثل الحسي القريب بإستيقاد النار في الموضع، وعدم إنتفاع الكفار منها لأنهم يبقون بعدها في ظلام وضلالة، وجاءت هذه الآية بمثل آخر لا ينحصر بموضع بدليل قول الآية التالية [كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ…]( )، ليكون التعدد في المثل القرآني مدرسة لصلاح الناس، وحجة على الكفار والمنافقين، ولغة يفقهها كل إنسان.
ومن يعتبر من المثل الأول يأتيه هذا المثل للتوكيد وزيادة المعرفة، وإدراك حقيقة إعجاز القرآن، ومن لا يعتبر من الأول يأتيه هذا المثل لجذبه الى منازل الإتعاظ، ويؤكد تعدد المثل في المقام منافع ودلالات موضوع هذه الآيات ولزوم التصدي للكفر والخداع والنفاق وأهله بالحكمة والموعظة الحسنة، وعدم التهاون معهم خصوصاً وانهم يظهرون الإيمان ويخفون الكفر، فيكون تركهم مادة للضرر، أما فضحهم فينفع من وجوه:
الأول : منع الإفتتان بالمنافقين.
الثاني : زجر الناس عن الإقتداء بهم والإنضمام إليهم.
الثالث : تحذير حديثي الإسلام بل جميع المسلمين منهم.
الرابع : طرد الغفلة عن المسلمين، ودعوتهم للإنتباه الى عداوة المنافقين لهم.
الخامس : بيان حقيقة وهي وجود أناس يظهرون الإسلام ويخفون الكفر، مما يستلزم الجهاد وتنقيح مجتمعات أهل الإيمان منه.
السادس : قيام المسلمين وقادتهم بنشر المعارف الإلهية، وبيان المعجزات والبينات الباهرات التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أهم الأسلحة للقضاء على النفاق وإبطال أثر المنافقين.
السابع : إنذار المنافقين بلغة المثل الحسي القريب، قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ]( ).
الثامن : التذكير بسوء فعل المنافقين في الأحوال الطبيعية والمناخية المتعددة، فإيقاد النار يكون في الشتاء والصيف، ويستبين ضياؤها في الليل، وهو الذي أشارت اليه الآية قبل السابقة، أما المطر الذي ينزل على الأرض فهو يحصل في الشتاء وموسم الأمطار مطلقاً ولا ينحصر بالليل وحده، ويلتقي المثلان في بعث الفزع والخوف في نفس الإنسان، أما المؤمن فانه يلجأ الى الله تعالى ويستحضر ذكره ويتوجه الى العبادة بقصد القربة ورجاء النفع من الآيات ودفع الآفات والبلايا.
وذكرت هذه الآية البرق بإعتباره مصاحباً للمطر، وجاءت الآية التالية ببيان شدة حيرة المنافقين بسبب جهلهم وتخلفهم عن منازل الإيمان والتفقه في الدين، فلم ينتفعوا من المطر وما فيه من الخير والبركة بل بقوا في حال الفزع والإرباك.
وأختتمت هذه الآية بقوله تعالى [وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ] , وأختتمت الآية التالية بقوله تعالى [ْإِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، وفيه إنذار للمنافقين والكفار، وان تعديهم لن ينفعهم ولن يضر المسلمين.
إعجاز الآية
والإعجاز في هذه الآية متعدد ومركب من اعجاز المثل القرآني موضوعاً وبلاغة وتوظيفاً، أي ان توظيف المثل القرآني في المقاصد القرآنية وصيغ الجهاد نوع إعجاز.
وقيدت الآية الصيب بجهة النزول وأنه من السماء، لبيان فضل الله عز وجل على الناس بنزول المطر، وتحير الكفار والمخادعين فيه، وعدم إتعاظهم بما فيه من الآيات والدلالات على عظيم قدرة الله وأنه سبحانه لاتستعصي عليه مسألة.
وتبين الآية الكريمة أموراً :
الأول : لزوم تلقي النعمة بالشكر والثناء على الله عز وجل والتصديق بالآيات.
الثاني : إقتران الآيات الكونية ببعثة الأنبياء.
الثالث : كما ينزل المطر رحمة للناس في دنياهم وأبدانهم ودوابهم ومزارعهم، فان الله عز وجل يتفضل بانزال الكتب السماوية لإصلاح نفوسهم وفوزهم في عالم الآخرة.
الرابع : مجئ آيات كونية عرضية كالرعد والبرق المصاحبين للسحاب والمطر.
لقد جاءت الآية بمثل يحصل في كل موسم وزمان ويدركه الناس جميعاً فليس من مصر أو قرية إلا وهي ترى أحياناً تلبد السماء بالغيوم ونزول المطر وإقترانه بالرعد والبرق ليكون تذكيراً بالله عز وجل والحاجة إليه وفيه توبيخ للكفار والمخادعين وانه مع ذكر النعمة العامة التي تتغشى الأرض يأتي ذمهم والإخبار عن إنشغالهم بأنفسهم وخشيتهم من الموت بينما جاءت نعمة المطر ومقدماته وبشاراته رحمة بالناس جميعاً.
ويمكن تسمية الآية بآية (أَوْ كَصَيِّبٍ) ولم يرد لفظ صيب في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
تبين الآية للمسلمين والناس جميعاً وبصيغ حسية الخسارة الحتمية لأهل الخداع والتضليل، وفيها إخبار وبشارة بانهم منشغلون بأنفسهم ويضيق عليهم الخناق مع قوة وعز الإسلام وإتساع رقعته.
وتبين المنزلة الرفيعة للمسلمين، بإطلاعهم على أحوال الناس وتلقيهم للآيات الكونية بالتسبيح والتهليل والإيمان، والإقرار بانها من عند الله تعالى ولكن الكفار والمنافقين يصرون على عدم الإعتبار من الآيات فيصمون أسماعهم عن القرآن وهو معجزة عقلية نازلة من عند الله، وتأتي الآيات الكونية الطارئة كنزول المطر والرعد والبرق والصواعق لجذب الناس الى الإيمان , ولكن المنافقين يصرون على الجحود والكفر.
لقد جعل الله عز وجل القرآن نعمة ورحمة للناس جميعاً، وهو يخطف الأبصار ويشد الأسماع وينفذ إلى شغاف القلوب، على نحو العموم الإستغراقي للناس، ولكن الكفار والمنافقين يأبون الا العناد والصدود.
فجاءت هذه الآية بصيغة المثل المحسوس لبيان إنتفاع المنافقين من الإسلام، وذمهم لأنهم لم يستطيعوا الصبر في مواطن الجهاد، ولم يتحملوا العناء والنصب في مرضاة الله وأداء العبادات والفرائض، لأنهم لا يشعرون ولا يعملون بما فيها من الثواب العظيم في الآخرة.
أسباب النزول
روي عن ابن مسعود وجماعـــة من الصحابة ان رجلــين من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاصابهما المطر الذي ذكره الله تعالى فيه رعـــد شـــديد وصــواعق وبرق، وكلما أضاء لهما الصـــواعق جعلا أصـــابعهما في آذانهما مخافة ان تدخل الصـــواعق في آذانهما فتقتلهـــما، واذا لمع البرق مشـــيا في ضوئه واذا لم يلمع لم يبصرا فاقاما، فجعلا يقولان ياليتنا قد أصبحنا فنأتي محمداً فنضع أيدينا في يديه فاصبحا فأتياه فاسلما وحسن إسلامهما.
فضرب الله شأن هذين الرجلين مثلاً لمنافقي المدينة وأنهم اذا حضروا النبي جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقاً من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان ينزل فيهم شيء، كما كان ذانك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وكلما أضاء لهم مشوا فيه يعني إذا كثرت أموالهم وأصابوا غنيمة او فتحاً مشوا فيه، وقالوا دين محمد صحيح، وإذا أظلم عليهم قاموا يعني إذا هلكت أموالهم وأصابهم البلاء، قالوا هذا من أجل دين محمد فإرتدوا كما قام ذانك الرجلان إذا أظلم البرق عليهما( ).
وفيه درس وموعظة، ودعوة للكفار والمنافقين للإعتبار من غيرهم، إذ ان الدنيا دار إمتحان وبلاء، وعلى الإنسان ان يبادر الى الإسلام في حال الصحة والرخاء،و قبل حلول الشدة والبلاء، فكما ان المطر ينزل ويصاحبه أحياناً رعد وبرق وسحب كثيفة مع انه نعمة ورحمة، فكذا الدعوة إلى الإسلام فهي رحمة ونعمة ، ولكن قد يصاحبها جهاد وقتال في سبيل الله تعالى.
فجاءت الآية بتمثيل الدعوة الى الإٍسلام كنزول المطر ومايصاحبه من الآيات الكونية، ويجب على الناس ألا يعرضوا عن آيات القرآن وما فيها من المعاني والدلالات، وإذا كان الكافر يتجنب دخول الإسلام خشية القتل في سبيل الله، فان الله عزوجل يحيط بالكافرين، فقد يقتل الكافر وهو يقاتل على كفره وقد يموت على فراشه ويكون مصيره في كل الأحوال إلى الجحيم، فاعراضه عن الآيات، وهروبه من الإسلام لن يدفع عنه القتل أو الموت وساعة الأجل المسمى، ولكنه يجعل مصيره الى النار.
وجاءت الآية لبيان النعمة العظيمة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم الإنتفاع من الآيات الكونية والأمارات والعلامات ذات صيغة الإنذار والتحذير من الجحود , ومنها وضع الأصابع في الآذان خشية نزول آيات الذم والوعيد للمخادعين والكفار، ويدل وضع الأصابع هذا على الإقرار بأهمية التنزيل وأثره وتأثيره في النفوس والمجتمعات.
وفي الآية حث للناس جميعاً على الإصغاء لآيات القرآن، وعدم محاكاة الكفار والمنافقين في وضعهم أصابعهم في آذانهم عند تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآيات، وعند ندبه ودعوته الناس للإسلام.
ولاينحصر موضوع الآية بآيام التنزيل والنبوة، بل الآية عامة وتتغشى أفراد الزمان الطولية، وأجزاء المكان العرضية فهي دعوة متجددة في كل زمان ومكان بأن ينصت الناس للقرآن وآياته، ويتدبروا في معانيه.
الآية لطف
جاءت الآية بلغة الإنذار والتوبيخ للكافرين، وفيه موعظة للمسلمين وإخبار بضعف عدوهم ورجوع كيده الى نحره، وجاء المثل ليكون مدرسة تساعد في إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية، واليقين من سلامة إختيار طريق الهداية والإيمان.
وتدعو الآية إلى الإلتفات إلى الصلة بين الآيات الكونية، وتأثيرها على الإنسان، وإنتفاع المؤمن منها، وتدبره فيها، وشكره لله تعالى عليها، وإنقطاعه إلى العبادة، وزيادته إيماناً، أما المنافق والكافر فانه يعرض عن تلك الآيات ولاينتبه إلى حقيقة وهي كونها من عند الله تعالى، ومناسبة للتدبر في خلقه وسائر المخلوقات، فتمتلأ نفسه بالفزع ولا ينتفع من الآيات، ويعطل حواسه فيضع إصبعه في أذنه ويخشى الموت، ولو كانت نفسه ممتلأة بالإيمان لرآى الآيات وأيقن بان ما بعد الموت عالم يتصف بالخلود ويندفع فيه الخوف والحزن عن المؤمن، ليبقى في نعيم دائم.
مفهوم الآية
في الآية تهديد وتخويف ووعيد للكافرين وفيها سكينة ورحمة للمسلمين للتوكيــد بان الله عز وجــــل يعلم ما يفعــــل المنافقـون والكفار بمعنى ان المسلمين في مأمـــن منهم، بالإضـــافة الى إخـبارهـــا عن عدم إضــــرارهم بالمؤمنين لفقدانهـــم القــدرة على المبادرة والهجوم.
وفي الآية ذم للكافرين والمخادعين، فهم يخشون الموت، وهو واقع بهم حتماً، بالإضافة الى الملازمة بين الموت والبعث فمن يحذر الموت عليه ان يخاف ما بعد الموت.
وجاءت خاتمة الآية للإخبار عن عظيم قدرة الله تعالى وان قبض الأرواح فرع قدرته ومشيئته سبحانه، والأولى بالكافر ان يخشى من الله عز وجل بطشه وعقوبته العاجلة والآجلة ويخافه في السر والعلانية.
وفي الآية مسائل :
الأولى : إبتدأت الآية بحرف الترديد “الواو” والمراد منه الإباحة، فلك ان تمثل المخادعين بالذي إستوقد ناراً ثم إنطفئت وأصبح في ظلمة وتحير كما في الآية قبل السابقة، او كأصحاب المطر الذين يأتيهم الرزق من السماء فلا ينتفعون منه، فكذا هؤلاء جاءت نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بهم، ونزلت آيات القرآن من السماء في خطابات تكليفية لإنقاذهم من براثن الكفر، فأصروا على الضلالة، وأعرضوا عن الآيات.
الثانية : في المطر النازل من السماء ظلمات وحجب لضوء الشمس ورعد وبرق، كما في لغة البشارات والإنذارات التي جاء بها القرآن من ترغيب بالإيمان وتخويف من الكفر.
الثالثة : عجز الكفار عن دفع الآيات والتبليغ عنهم، فكما يأتي المطر من السماء ولا يستطيعون رده، فكذا آيات القرآن فانها تأتي للناس جميعاً، وتكون حجة على المخادعين والكفار عامة.
الرابعة : بيان قبح تلقي الكفار الآيات بإصرارهم على الإعراض عنها، فالناس يدخلون في الإسلام أفواجاً، والآيات تترى ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرة للحواس، مدركة بالعقل والوجدان، ولكنهم يأبون إلا الصمم، فحرموا أنفسهم من نعمة الإيمان التي هي خير نازل من السماء كالمطر، فكما ينتفع كل إنسان من المطر فكذا بإمكان كل إنسان ان ينتفع من البعثة النبوية ويستجيب لأوامر الله تعالى، ويجتنب ما نهى عنه.
الخامسة : نزول البلاء بمن يعرض عن آيات الله عز وجل.
السادسة : إختتام الآية بلغة الإنذار والوعيد للكفار والإخبار بان الله عز وجل هو القهار القادر على كل شيء فهو يعلم بما يفعله المخادعون والكفار ويحول دون إستمرار ظلمهم وظغيانهم وتعديهم على المسلمين.
السابعة : بيان ظهور الإسلام، وإتساع رقعته وعلو شأنه، ورفعة الذين يدخلون فيه، وان كانوا أفواجاً، ومن الإعجاز في البعثة النبوية الشريفة انه كلما كان عدد الذين يدخلون الإسلام أكثر كان عزهم أكثر وأكبر، فليس من تزاحم او تعارض بين إسلام الناس الذين من مرتبة واحدة أو من مراتب متفاوتة في الشأن والجاه والمال، ولم ينفر المسلم الغني لأن الفقير صار مسلماً، بل بالعكس كل واحد منهما يستبشر بأخيه المسلم لإدراكه انه عضد ومنعة له بوجه المعاندين والمنافقين الذين يصبحون في حيرة من أمرهم كمن خطف البرق بصره , قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثامنة : من معاني الآية ان المنافقين ينتسبون للإسلام في حال سعة الرزق ومجيء الغنائم ونيلهم منها، أما إذا كان في البين ضرر قادم من الكفار فانهم يظهرون اليأس والقنوط ويتخلون عن الجهاد [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( ) وهو من مصاديق كونهم [لاَ يَعْلَمُونَ].
التاسعة : ذكرت الآية أربعة من الآيات الكونية الطارئة:
الأول : الصيب وهو المطر.
الثاني : الرعد.
الثالث : البرق.
الرابع : الصاعقة.
لتكون الآيات الكونية متفرقة ومجتمعة شاهداً على عظيم قدرة الله, وسياحة في الكون , وموعظة وباب هداية، وعبرة ومثلاً وتحذيراً للمنافقين.
العاشرة : من أسباب النفاق غلبة الهوى وحب الدنيا، وعدم التقيد بالتكاليف البدنية والمالية وما فيها من الجهد وإنفاق الأموال، فجاءت الآية لتذكيرهم بالموت وكيف أنهم يحذرونه، ويخشون الأجل والإشارة إلى أن إتيان العبادات منسأة في الأجل وإكتناز للحسنات لما بعد الموت من عالم الحساب والجزاء.
ويتضمن إبتداء الآية بحرف الترديد (أو) مسائل:
الأولى : الإشارة الى تعدد المثل المناسب لحال المنافقين، ويحتمل أمرين:
الأول : إنطباق هذا المثل والمثل السابق على المنافقين جميعاً.
الثاني : إن فريقاً من المنافقين يناسبهم المثل في الآية السابقة، وفريقاً أخر يناسبهم المثل في هذه الآية.
والصحيح هو الأول، وجاء التعدد للبيان والتفضل وزيادة تفقه المسلمين ومعرفتهم بأحوال أعدائهم، وفيه دلالة على لزوم الحذر من المنافقين والأذى الذي يأتي من ناحيتهم.
الثانية : إبتدأت الآية بذكر المطر النازل من السماء كمثال ومقدمة لكشف حال المنافقين، ووصفته الآية بانه (من السماء) للتفصيل والفصل بينه وبين السحاب، فقد يكون الصيب سحاباً في السماء من غير ان ينزل على هيئة المطر، وقد ترعد وتبرق الدنيا ولكن المطر يكون في أرض وبلدة أخرى، فجاءت الآية لتوكيد نزول المطر بلحاظ أنه نعمة، وفيه إشارة الى نعمة نزول القرآن من عند الله تعالى.
الثالثة : من المطر ما ينزل من غير ان يصاحبه رعد وبرق، ولكن الآية ذكرت المطر الذي تكون معه ظلمات وغيوم سوداء وحجب للشمس وضيائها، وصوت رعد للسحاب، مع برق وقدح نار في السماء، إشارة الى دعوة الإنسان الى التصديق بالآيات والمعجزات.
الرابعة : لقد جعل الله عزوجل الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء، ولكن المنافقين منشغلون بأنفسهم يخشون الموت، لا يلتفتون إلى الآيات من حولهم.
الخامسة : من رحمة الله تعالى انه سبحانه أحاط الإنسان بالنعم في بدنه ومن حوله،بالإضافة إلى نعمة التنزيل والنبوة، وكل نعمة تهدي وتدعو الى أختها لتكون مجتمعة ومتفرقة مقدمة للإيمان ودعوة لعبادة الرحمن وإصلاح السرائر وإتيان التكاليف، ولكن المنافقين أعرضوا عن الآيات والبراهين[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَ] ( ).
السادسة : في الآية دعوة لأن يستقبل الإنسان الموت بالرجاء والرضا والاستعداد لما بعده من الحياة الأبدية، وتلقي الآيات بالشكر والثناء على الله عز وجل.
السابعة : جاءت خاتمة الآية لتخبر عن حقيقة وهي ان كان المنافقون يخشون الموت ويتجنبون القتال في سبيل الله، ويميلون الى الكفار والفاسقين فان الله تعالى أحاط بالكافرين في الدنيا والآخرة، وبيده سبحانه مقاليد الأمور.
إفاضات الآية
يعرض المخادعون عن الذكر والآيات، ويحاولون عدم الإلتفات اليها، ولكنها تفاجئهم ويقبل عليهم المؤمنون بالدعوة الى الإسلام سواء على نحو صريح أو بأداء الفرائض وإظهار معاني النسك والإخلاص في العبادة والشوق إلى لقاء الله، ولكن المخادعين والمنافقين يصرون على الجحود ويظهرون العناد، فتتسع رقعة الإسلام وهم باقون على حالهم وتحيط بهم شعائره ويرى الكافر أخاه وابنه ورحمه يبادر الى دخول الإسلام وفيه حجة عليه ، وهو مناسبة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بحرف العطف (او) للتفصيل والتعدد، والعطف على المثل في الآية قبل السابقة الوارد بخصوص الذي إستوقد ناراً لتضئ ماحوله، وجاءت هذه الآية بحرف التشبيه (الكاف) في كصيب من السماء مع تعلق موضوع هذه الآية بالآية السابقة من جهة جعلهم اصابهم في آذانهم , وإصرارهم على تعطيل حواسهم , وعدم سماع الحق الذي يأتي على نحو دفعي بالآيات والمعجزات الظاهرات والدلالات البينات.
وهل الظلمات المذكورة في هذه الآية هي ذات الظلمات المذكورة في الآية قبل السابقة [وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ] ( )، الجواب بينهما عموم وخصوص من وجه.
فمادة الإلتقاء هي مضامين ودلالات الظلمات وأثرها على الكفار والمنافقين وما تبعثه من الحيرة والتردد في نفوسهم والعجز عن النظر والإطلاع على ما حولهم .
وأما مادة الإفتراق فان الظلمات في هذه الآية تكون مصاحبة للمطر والسحاب الذي قد يحجب ضياء الشمس في النهار والنجوم في الليل، وفيه إشارة الى عدم تدبرهم في آيات الآفاق والكواكب والنجوم في الليل والنهار وكأن السماء مظلمة عليهم بسبب السحاب الثقيل.
وجاء ذكر الصيب والمطر في دلالة على الرزق والآيات التي تنزل من السماء، فهم لايشكرون الله على عظيم فضله النازل من السماء، بالتصديق بالآيات القرآنية التي ينزل بها جبرئيل، والتي تتضمن الإعجاز الذاتي والغيري.
وحجب الكفار والمنافقون عن أنفسهم التنعم بالرزق والآيات التي تنزل من السماء , وهم منشغلون في أنفسهم في فزع وخوف وجاء التشبيه عليه بوضعهم أصابعهم في آذانهم خشية الصواعق، للإشارة إلى حال الصمم والعمى الذي ذكرته الآية وأنهم لايرون دخول أفواج من الناس إلى الإسلام،والانتصارات العظيمة للمجاهدين في ميادين الدفاع والقتال.
وجاءت خاتمة الآية لتوكيد قانون ثابت وهو علم الله تعالى بما يفعله الكافرون والمنافقون ، وأنه سبحانه يمنع تعديهم ، ويحول دونهم ودون تحقيق النفع والنصر والغلبة، وهم لايستطيعون الخروج عن قدرته وسلطانه ، كما يلحق بهم الخزي في الدنيا والآخرة، لانهم لم ينتفعوا من النعم السماوية المادية والعقائدية وأصروا على ركوب جادة العناد والضلالة والكفر فجاءت خاتمة الآية بذكرهم بالاسم وانهم كافرون.
التفسير الذاتي
لما جاءت الآيتان السابقتان بلغة المثل والمجاز، جاءت هذه الآية بلغة المثل والتشبيه لذات الموضوع، وهو وصف الكفار بلغة الذم، والآيات وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها موعظة وتحذير للمسلمين، وسكينة لقلوبهم، ودفع للشك والريب عنهم كأشخاص وجماعات وأمة، مما يؤدي إلى تنزيه مجتمعاتهم من الكدورات.
فالذين ينزل بهم من السماء ذمهم بالنص والمثل والتشبيه المتعدد تنفر منهم النفوس، وتكره صفاتهم.
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدلالات الباهرات، وتلقى فريق من الناس آيات نبوته بالتصديق والتسليم، فصاروا مع إختلاف قبائلهم وأمصارهم أمةواحدة , وجاء القرآن بمدحهم ونعتهم بأنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )،ولكن الكفار أصروا على الضلالة والجحود، بسبب المانع الذاتي وإختيار حال العمى والصمم عن الحجج والبراهين مع وجود المقتضي للهداية والإيمان، وتجلي معاني النبوة وصدق رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاحبة الآيات العقلية والحسية في دعوته إلى الله عز وجل.
ومع أن الكفار في حال صمم عن الحجج, فإنهم يسمعون الصواعق،وتصل إليهم الآيات المفزعة، ولغة الإنذارات والبشارات التي جاءت في القرآن وعلى لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتتلى عليهم آياته التي تصل إليهم طوعاً وكرهاً،ولطفاً ، ومن رحمة الله عز وجل بالكفار أنهم يصابون بالعمى والصم ليكون برزخاً دون التمادي في الغي والتعدي على أهل الإيمان.
ولكن الله عز وجل يرأف بهم ويجعلهم يبصرون ويسمعون الآيات لتكون حجة عليهم، ومناسبة للتوبة والإنابة ولكنهم يجعلون أصابعهم في آذانهم ليس من الصواعق وحدها بل للحذر منها ومما يشبهها في الأثر والتأثير، ويخشون أن ينزل عليهم بلاء بسبب إصرارهم على الكفر، ولم يلتفتوا إلى إمكان السلامة والنجاة بالتخلي عن الكفر، فتكون تلك الصواعق نداء ملكوتياً , ودعوة مباركة للإيمان والصلاح.
وأختتمت الآية بقوله تعالى [وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ] وهو قانون ثابت في الإرادة التكوينية، ومن إعجاز القرآن أن تأتي الآية بلغة المثال الذي يتضمن ذم الكفار ووصف حالهم وما هم عليه من العناد والخسارة، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ] ( ) .
ثم تأتي خاتمة الآية بأن الله عز وجل عالم بحال الكافرين،وقادر على البطش ولن يستطيعوا الفرار من حكمه وهو القاهر لعباده.
فهم حتى ولو أعرضوا عن الآيات وجلبوا لأنفسهم العمى والصمم فان الله عز وجل يؤاخذهم على كفرهم وجحودهم، ويمنع من كيدهم ويدفع ضررهم عن المؤمنين، ويجعل المسلمين قادرين على صد أذاهم، فقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] أي أن الضرر الفادح لن يصل للمسلمين من الكفار، أما الأذى الخفيف فان المسلمين قادرون على تحمله وتلقيه بروح الصبر والتقوى، وفيه الأجر والثواب .
ليكون المسلمون في مأمن من الضرر، بينما يتلقى الكفار الضرر من وجوه:
الأول : الإبتلاء العاجل من عند الله لإختيارهم الضلالة.
الثاني : خسارة تجارتهم، وبطلان أعمالهم وضياع أموالهم، وفقدهم الأتباع كما جاء قبل ثلاث آيات [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ] ( ).
الثالث : رد المسلمين على إعتدائهم وأذاهم.
الرابع : ظهور دولة الإسلام، وإتساع رقعته.
الخامس : رسوخ الإيمان في القلوب.
السادس : تقيد المسلمين بأحكام الشريعة الإسلامية، وحرصهم على أداء الفرائض والواجبات وإستعدادهم لتلقي الأذى في جنب الله، وأهليتهم للدفاع عن الإسلام والغزو في سبيل الله للوقاية من الكفار وكيدهم.
من غايات الآية
تبعث الآية على النفرة من الكفار والمخادعين، وتخبر عن سوء فعلهم، وخسارتهم في الدارين، وعدم إتعاظهم من الآيات، وتحث المسلمين على الصبر، وتدعوهم للعناية بأنفسهم والتفقه في الدين والإنتفاع من آيات التنزيل.
التفسير
قوله تعالى [ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ ]
الأول : بعد ان جـاء المثــل في الآية قبل السابقة [ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا]، جاءت هذه الآية بمثل ثان معطوف على الأول في موضوع المثلية والإستعارة.
الثاني : من وجوه التمثيل والشـــبه ان يؤتى بالمدركات الحسية والشواهد الظاهرة للمعاني والمدركات العقلية واليقينيات، ومن إعجاز المثل القرآني أنه يأتي بالأمثلة التي تكون معروفة وقريبة من حواس الناس جميعاً، ولم يأت بالمثال المنحصر بجزيرة العرب، للإشارة والإخبار عن عالمية القرآن.
الثالث : لقد إستعمــل القـرآن الحس المدرك للصور الجزئية وإنتقال الذهن من المبــادئ إلى المطالب، ليحكم العقل بما يزول معه الشك والريـــب، لأن الآيات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقلية، وتشمـــل اليقينيات والبديهيـات والمشهورات، وكما ان الأنبياء مأمــورون بمخاطــبة الناس علـى قدر عقولهم فإن القرآن كتاب سماوي يخاطب جميع الناس على تباين مداركـهم ويلقي الحجـــة بتحــريض الجـــوارح والحواس، وما يكون مقدمة او مناسبة لإنقداح الدليل والبرهان في النفس كطريق للإيمان.
الرابع : من صيغ تشبيه العقلي بالحســي هو إســـتعارة النـور للعلم والإفاضة والبركة وهو أمر شائـــع عند الناس جميعـــاً لأن العلم نور القلب، والبرق نور ساطـــع خاطـف سريع يضيء على الأرض وأهلهـــا، وكانت مـــدة أيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كالنور الساطع السريع بالنسبة للزمان ومـلأت أنواره الأرض كلها، ويكون اللحاظ في المثل أحياناً بالأثر والفعل، كتشبيه الكتابة الكثيرة بالسيل، والمصباح بالشمس للدلالة على الكثرة والضوء واللمعان.
الخامس : تدل الآية على إشتراك الكائنات وحركة الأفلاك في الذكرى والإتعاظ، وفي إيذاء الكافر لإقامته على الجحود.
السادس : تنكير (صيب) وما فيه من الرعد والبرق والظلمـات يدل على إرادة المطر الشديد، والتمثيل بالمطــر آية إعجازية لأن المطر يكون في أكثر البلدان أقل من حال الصحو ويأتي في موسم معين ولعل فيه إشارة إلى تناقصه في قادم الأيام، وجاءت الرسالة في وقــت مخصوص، فكـما يستثمر الناس نزول المطر وموسمه، عليهم ان ينتفعوا مما في النبوة من المقاصد السامية الدنيوية والأخروية.
السابع : ذكر (من السماء) في الآيــة توكيد للفضـــل الإلهي في نـــزول المطـــر، ولبيان وجـــه المشابهـــة بين التنزيل الحكـــيم وبين نزول المطر الجهتي وموضوع النعمة ولـزوم عدم التفكــيك بينهمـــا، فالمطر للمصـــالح الدنيوية، والقـــرآن للمقاصــد السامية في الدارين.
الثامن : لولا المطر لجفت الأرض، وغاضت مياه البحيرات ، والعيون وتفشت الأمراض وإقتتل الناس من اجل البقاء إلى أن يفتح الله عز وجل على الناس من فضله قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ) ( )، وسيبقى نزول القرآن سبباً للهداية والإقرار بالتوحيد والعبودية لله عز وجل.
التاسع : البرق عنوان إتساع رقعة المطر، فقد يطبق المطر على الأرض فيخرج النبات في الصحارى وعلى سفوح الجبال وتكثر الغلة ويزدهر الاقتصاد وتظهر الغبطة والسعادة على الناس، وكذا الرسالة الإسلامية والمثل بشارة السعة والإنتشار للعقيدة الإسلامية والرخاء والصفاء بالعمل بأحكامها وسننها.
العاشر : قد يختلف الناس على قســـمة مـــاء العيون والأنهـــار وكيفـية السعي والإستحواذ، وتنشـــب المعارك والحـــروب، أما المطر فهو عام ورزق كـريم ينزل على الإنســـان من السماء إلى مزرعتـــه وبيته مباشرة من غير واســـطة ولا يستطيع أحـــد حجبه عنه، كذلك الإسلام في دعوته وآيات القرآن تصل لكل الناس إستماعاً أو سماعاً.
الحادي عشر : في نزول المطر منافع تتعدى عمارة الأرض وسقي المزروعات، ففيه صلاح للأجسام ونقاء للهواء وقضاء على بعض الأوبئة والأمراض، وفي آيات القرآن شفاء وصحة وتهذيب للأخلاق، ودعوة لإعمال الفكر والتدبر.
قوله تعالى [ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ]
الأول : قد يكون في المطر الشديد ضرر فيتلف المزروعات ويسبب الفيضانات، وتزداد الرطوبة في الهواء، كذلك الضرر على من لا يستمع لآيات القرآن ويعرض عن أحكام التنزيل، ويصر على العناد والجحود.
الثاني : تضمنت هذه الآية ذكر الظلمات، وقد تعني العقاب الشديد لمن يجحد ويكفر.
الثالث : تدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الرعد والبرق ونحوهما كالصواعق إنذارات ووعيد للكافرين وان هذه الحقيقة معروفة عند الناس جميعاً، فمع تلبس الإنسان بالكفر تراه يتذكر الموت قهراُ عند حصول هذه الآيات.
الرابع : روي أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال: (اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك) ( ).
الخامس : الدلالة على الرعد والبرق سلاح ضد أهل الكفر، ومن لم يعتبر بالآيات وانها مناسبة للدعـاء وإظهار الخشية من الله، لذا تـجد في القرآن آيات الوعيد وأخبار البطش الإلهي عبر الآيات السماوية، قال تعالى [وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ]( ).
السادس : روي ان الرعد صـوت ملك أكبر من الذبــاب وأصـــغر من الزنبور، فالتمثيل بالرعد في آيات التخويف يعني البطش بالكفار من حيث لا يحتسبون، وقد يكون في التشبيه إشارات بلزوم الإلتفات إلى ما في القرآن من الدقائق والنُكت بصيغ اليقظة والإتعاظ والإعتبار.
السابع : روي عن النبــي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “ان ربكـم سبـــحانه يقول : لو أن عبـــادي أطاعـــوني لاسقيتهم المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أسمعهـــم صـــوت الرعد”( )
أي أن الرعــــد نوع إبتـــلاء وفيـــه تذكير ووعيـــد لذا يستقبله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء.
الثامن : في هذا المثال تأديب للمسلمين ولفت لأنظـــار الناس عامـة للظواهر الكونية وكيف أنها ســـلاح ذو حـــدين، وكما انها مســخرة للإنسان , وفيها نعم متعـــددة فانها قد تكـون نقمة وبلاء على الكافر.
وفي الآية ذكر قولان لبيان المثل :
الأول : إنه شبه المطر المنزل من السماء ، وما فيه من الظلمات بما في القرآن من إبتلاء، وما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر، وما فيه من البرق بما يتضمنه من البيان، وما فيه من الصواعق بما جاء في القرآن من الوعيد آجلاً، والدعاء الى الجهاد عاجلاً، وهو المروي عن ابن عباس( ).
الثاني : انه مثل للدنيا وما فيها من الشــدة والرخاء بالصيب الذي يجمع نفعاً وضرراً وان المنافــق يدفــع عاجل الضرر ولا يطلب آجل النفع.
لابد في تفسير هذه الآية من الرجوع الى الآية السابعة عشرة وتفســــيرها للإلتقاء في المثـــل، فمن الكليات الثابتــــة التي أكـــدها التأريخ والوجدان أن الإسلام رحمــــة للناس جميعاً وســـبيلاً للنجاة وفيه الوعيد والتخــــويف وكان باب الجهـاد مفتوحاً يومها على مصراعيه والشهــادة متدلية، ولكن المنافقين إختاروا الصمم فسدّوا آذانهم عن سماع صوت التوحيد المدوي خشية الأخطار الشخصية والبلوى كما يجعل الإنســـان أصابعه في أذنيه من صوت الصواعق القوي.
وفي الآية إخبار عن أصل وطبيعة الصمم الذي جــاءت الآيــة السابقة به، فهو باختيارهم وصنع أيديهم وفي سوء إختيارهم حجة عليهم.
وتعتـــبر هذه الوجـــوه ومفاهـــيمها ذماً للمنافقـــين وبـــياناً لارتباكـــهم وما يعانونه من الأذى والخوف في حياتهم الدنيـا وما ينتظرهم من العذاب الأليم، وورود النار في الآية الســـابقة بصيغة التنكير ,وجاءت ذات الصيغة في (صيب) للمبالغة والتفخيم وبيـــان الغـــدر اللاحـــق منهم، وأنه متصل لأن فضح القرآن لهم خالد وقريب وتدركه العقول والحواس.
وما المراد من الصيب وموقعه من الآية الشـــريفة وهـــل هو من تقدير مضاف أي كاصحاب صيب، او أن الصـــيب هـــو القرآن لما فيه من أحكام وخطابات وبشـــارات وتكاليف وفرائـض تشق عليهم فيصموا آذانهم عن الإقرار بالرسالة وما تتضمنه من التكاليف ويجعلوا أصابعهم في آذانهم إمتناعاً عن سماع الحق والمقصود من الأصابع في الآية أطرافها , وجاء لفظ الكل مع ظهور إرادة الجزء.
ويمكن إستفادة نكتة عقائدية من هذا الوصف البلاغي وهي إصرارهم على عدم السماع والخوف من نداءات الحق، وان وضع الأصابع في الآذان لا يمنع من إنذارهم.
لقد وطّنوا أنفسهم على الجحود وعدم الإيمان، لذا جاء البرق ليختطف أبصــارهم قهراً فلابــد من سـمـــاع كلمـة الحـق ورسـالة الهدى.
وجاءت الآية بإجتماع النقيضين وهما الظلمات والبرق، ولكن هذا الإجتماع لم يثبت ويزول إحتماله بأدنى تأمل وجداني، لعدم حصول الظلمات والبرق في زمان واحد، فالآية تبين تخلل البرق للظلمات وعلى فرض إحتمالها فأن آيات الله قاهرة للقاعدة الفلسفية بعدم إجتماع الضدين.
ومن إعجاز الآية أن جاءت بصيغة الجمع ظلمات وكأنها إنحلالية، كل ظلمة مستقلة ويزيح البرق واحدة منها ليكون وقعه أكثر مما لو جاء وسط النهار، وهم الذين إختاروا مغادرة النور إلى ظلمة الفتن والجحود.
قوله تعالى [يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوتِ]
الأول : المثل القرآني موعظة ونصح , وله دلالات أخرى منها الوصف المتضمن للتوبيخ والتعريض الوارد في هذه الآية الكريمة.
الثاني : الصاعقة شقة من نار لطيفة سريعة تنقدح من السحاب عند إصطكاك أجرامه، وهي تحرق ما تقع عليه ولكنها سرعان ما تخمد، ولعل في التشبيه آية إعجازية وهي ضلالة المعاندين والكفار حتى في أعمالهم الخاصة، فإنهم لا يستطيعون الإهتداء الى التعلق بأسباب النجاة الوهمية فوضع الأصابع في الآذان لا يمنع من إحراق الصاعقة.
الثالث : وضـــع الأصابـــع في الآذان لا يصلـــح وقاية من الموت، وحتى على القول بأن الصـــاعقة صيحة من الســـماء فهي عــذاب مهلك لا يصدها التمســك بسبب واه، فالإسلام هو الحرز والمأمن والملجأ.
الرابع : تطرق آيات القرآن أســماع المعانديـــن والكفـار كالصاعقة لما فيها من الوعيد والتخويف والتوبيخ، وهذه الآية تبين للمسلمين التباين والتضاد بينهم وبين غيرهم في سماع الآيات، فالمسلمون يتلقونها كغذاء عقائدي بسكينة وطمأنينة وإستبشار، والكفار يحســـون منها قــرب الأجل وقوة الصاعقة وأمارات البطش الإلهي.
قوله تعالى [وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ]
إن الله عز وجل مطلع على الكافرين والجاحدين والمنافقين ومن كذّب خفية أو علانية بالرسالة , ويعلم أعمالهم وما تحدثهم به أنفسهم من نوايا السوء والشر وهم لا يســتطيعون الخروج عن سلطان قدرته وحكمه.
ترى لماذا خص الله عز وجل الكافرين بالإحاطــة وهو سبحانه أحاط بالاشياء كلها علماً، قال تعالى [ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ]( ).
إن التذكير بإحاطة الله بكل شئ في الآية بشارة للمؤمنين, وتنبيه لهم بضرورة عدم الإلتفات للمنافقين وأمارات غيظهم وأن الله عز وجل يكفي المؤمنين ويقيهم أذاهم لأنه كفل لهم النصر والسيادة.
إنها إنذار لأهل الرياء والخداع والنفاق , وبيان لعدم فلاحهم وإخبار عما سيصيبهم من الخيبة والحسرة والندامة، ويمكن ان تكون إشعاراً بدنو أجلهم وإجتثاثهم كما يقال أحيط بفلان فهو محاط به اذا دنا هلاكه وفي التنزيل [وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ]( ) أي أصابه ما أهلكه.
قوله تعالى[يَكَادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ]الآية 20.
القراءة والإعراب واللغة
يكاد: فعل مضارع مرفوع من أفعال المقاربة التي تعمل عمل كان ، البرق: اسم يكاد مرفوع بالضمة، يخطف: فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر جوازاً تقديره (هو) يعود للبرق.
أبصارهم: أبصار: مفعول به منصوب بالفتحة وهو مضاف، والضمير (الهاء) في محل جر بالإضافة.
كلما : مركبة من كل المنصوبة على الظرفية الزمانية وما المصدرية، ولا يليها إلا جملتان ولهذا أشبهت أدوات الشرط، و(ما) مع مدخولها (أضاء) في تأويل مصدر في محل جر بالإضافة والتقدير مضئ.
لهم : جار ومجرور متعلقان بأضاء، مشوا : فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة لإلتقاء الساكنين، والواو : فاعل، والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم, فيه:جار ومجرور متعلقان بمشوا.
وإذا : الواو : حرف عطف، إذا : ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه، أظلم عليهم : أظلم : فعل ماض مبني على الفتح، الفاعل : ضمير مستتر تقديره هو يعود للبرق.
قاموا : فعل ماض، والواو : فاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم، ولو : الواو : حرف إستئناف، لو: شرطية، شاء الله: فعل وفاعل، لذهب : اللام واقعة في جواب لو، ذهب: فعل ماض مبني على الفتح، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، بسمعهم: جار ومجرور متعلقان بذهب، وجملة لذهب لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم، أبصارهم معطوف على بسمعهم.
إن الله على كل شئ قدير : ان : حرف مشبه بالفعل، واسم الجلالة اسم إن منصوب، على كل : جار ومجرور متعلقان بقدير، شيء : مضاف إليه، قدير : خبر إن مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
ولو: الواو : إستئنافية، لو : شرطية غير جازمة , وتفيد إنتفاء الشيء لإنتفاء غيره.
شاء الله: فعل وفاعل، ومفعول المشيئة محذوف، لذهب: اللام واقعة في جواب لو.
خطفه يخطفه خطفاً من باب تعب : إستلبه بسرعة.
في (يخطف) عدة قراءات :
1- يخطِف بكسر الطاء، عن مجاهد.
2- يختطف، عن ابن مسعود.
3- يخَطف بفتح الياء والخاء، عن الحسن.
4- يخطف بكسر الياء والطاء، عن الحسن إيضاً( ).
5- يخطف بضم الطاء من خطف، عن زيد بن علي.
6- يتخطف، عن أبي بن كعب( ).
7- يخَطّف : بنصب الخاء والتشديد( ).
كاد: من أفعال المقاربة تعمل عمل كان، ولا يتم المعنى إلا بالخبر، وخبرها الجملة الفعلية (يخطف).
وقام أي وقف خلاف قعد، وجاء في الآية بمعنى الوقوف بقرينة المشي عند الضياء.
في سياق الآيات
هذه هــي الآيـــة الثانيـــة التي يكون موضوعهــا المشابهة وإعتماد المثل لبيان حــال المخادعين والمنافقـــين بعد الآيات التي ذكــرت قبائحهم.
وجاءت هذه الآية بتعليق إذهاب السمع والبصر على المشيئة الإلهية بينما ورد قبل آيتين انهم [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ] وليس من تعارض بين الآيتين.
فالآية السابقة تبين حالهم وعدم إنتفاعهم من الحواس مع وجودها الواقعي عندهم، أما هذه الآية فتثبت مضمون الآية السابقة وتؤكد وجود الحواس عندهم ولكنهم لم ينتفعوا منها، ولو شاء الله لحرمهم منها لأن شكر المنعم واجب، والشكر على نعمة الحواس هو التصديق بالآيات والبراهين القاطعة التي تدرك بها، وهؤلاء أعرضوا عن الآيات، وعطلوا الحواس وأصبحت كالعدم.
لقد جاءت الآية السابقة بذكر أربعة من الآيات الكونية متعددة, تجعل الإنسان يشعر بالضعف والحاجة الى رحمة الله، وهي :
الأول : نزول المطر من السماء.
الثاني : إقتران المطر بسحاب يحجب الشمس والكواكب ، وجاء لفظ ظلمات بصيغة الجمع، لإفادة الإطلاق وشمول المثل لأوقات النهار والليل، وتعدد مصاديق الظلمة فيه.
الثالث : صوت الرعد وإصطكاك أجرام السحاب.
الرابع : حصول البرق، وإنقداح النار في الأفق المصاحب للسحاب الكثيف والمطر الشديد.
فيضع الكفار أصابعهم في آذانهم خشية الصواعق ونزول الموت بهم، وتذكر الآية بالصواعق،كآية من عند الله تعالى ، وإن جاءت بالتمثيل بها كآية كونية متلازمة مع غيرها من الآيات ، فيظن معها الكفار إصابتهم بالصواعق، ويخافون الموت على الكفر لانه طريق إلى الخلود في الجحيم , قال تعالى (ِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ( ).
وتعلق موضوع هذه الآية عند آية واحدة منها وهي البرق الذي يدرك بحاستين هما السمع والبصر, وفيه دعوة لدراسة أثر الآيات الثلاث الأخرى على الناس مطلقاً وعلى المنافقين والكفار خاصة وجاء ذكره من باب المثال والبيان،.
وهذه الأمثلة من إستهزاء الله تعالى بهم، ودعوة للمسلمين للإستخفاف بهم من غير أن يتعارض هذا الإستخفاف مع لزوم أخذ الحائطة والحذر منهم، وعدم اللجوء والركون إليهم في المهمات لأنهم يظهرون حينئذ الخوف والفزع، ويعجزون عن الرأي السديد والفعل الوجيه وتسمع منهم ما يدل على الخذلان والنكوص وكأنهم في ظلمة وحيرة، مع ان النصر بيد الله، وهو القادر على دفع الضرر والأذى عن المؤمنين.
وجاءت الآية التالية بدعوة الناس جميعاً الى عبادة الله تعالى لأنه خالقهم ورازقهم والذين من قبلهم، لتكون العبادة الوسيلة الوحيدة التي بها ينجو الإنسان من النفاق، ويتخلص من الكفر.
إعجاز الآية
الوصف والتشبيه الذي لم يستطع علم التفسير سبر أغواره سواء في هذه الآية او الآية السابقة، ولوجود الفارق فليس من المشابهة ان نقول ان الآيات تعلقت بتيه المنافقين، ولكنها جعلت العلماء مندهشين أمام مضامين ومعاني هاتين الآيتين، والبحث والتحقيق فيهما يستخرج علوماً وفنوناً بلاغية متشعبة.
والآيات سياحة في عالم المثال والإرتقاء به، وإخبار عن لزوم توظيفه في الدعوة الى الله.
وتحث الآية على الإنتفاع من المثل للإحتجاج، وتدبر ما فيه من الموعظة ووجوه التطابق بين الإرادة التكوينية والتشريعية، والتشابه في الموجودات السماوية والأرضية.
وفيها إعجاز بلاغي يتعلق بعلم الإستعارة ، وكيف انه يبين المجمل ويكشف المبهم ويقرب البعيد، وتبين الآية لغة الخطاب التي تناسب عامة الناس خصوصاً ، وأن أهل العناد يحتاجون إلى المثل الحسي للنقص في مداركهم.
ويمكن تسمية الآية بآية (يكاد البرق) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
في الآية بيان لقبائح أهل العناد والنفاق وفضح لهم، ويمكن إعتبارها من مصاديق الإستهزاء بهم بالحق، وواسطة التشبيه رحمة ورأفة وعون على إثبات الحق، وتلحق الآية الخزي بالمنافقين بما فيها من التوبيخ والذم لهم.
وتبين الآية الأثر العظيم الذي تتركه آيات القرآن في النفوس، فهي كالبرق الذي يخطف الأبصار، وما من إنسان يسمعها الا وينجذب إليها لما فيها من الحجة والبرهان على صدق التنزيل، ولكن غلبة النفس الشهوية عند المنافقين تحول دون إنصياعهم لأحكامها.
لقد جاءت هذه الآية لحصر عدد المنافقين والمنع من إزدياد عددهم، وهي حرب على النفاق، وهذا من إعجاز القرآن أن تأتي آيات منه لمحاربة الكفر والجحود، وآيات لمحاربة النفاق وأهله، ليزداد عدد المؤمنين ويمتلكون الواقية والمنعة من النفاق، ويجاهدون جهاداً ذاتياً لسلامة سرائرهم وطرد مفاهيم النفاق منها.
ومن أسرار القرآن أنه يتوجه بالخطاب الى كل مسلم بمحاربة المنافقين، ويشمل الخطاب الكفار والمنافقين أنفسهم ، ليتوجهوا هم أنفسهم لمحاربة الذات ومحاربة أصحابهم، فالكل على المخادع والمنافق وليس معه أحد، حتى نفسه اللوامة تكون ضده , وإذا ذهب إلى كبراء الكفر، قال أنا معكم لقوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ]( ) فلا يجد إلا السراب والخسران, وهو من الإعجاز في لفظ (شَيَاطِينِهِمْ) لما فيه من معاني الجحود والصدود والإفتتان .
وجاءت هذه الآيات لتجعل نفس الكافر المخادع والمخادع ليس معه، وإذا خلا مع نفسه يندم على النفاق، ويستحضر وظائفه وما يجب عليه من التكاليف.
وفيها تخفيف عن المؤمنين بان تكون سلاحاً وعوناً بيدهم ضد الكفار والمنافقين.
الآية لطف
من صفات الله تعالى “الحليم” وحلمه تعالى على عباده لطف ورحمة فمن منافعه المندوحة والسعة في التوبة خصوصاً وان الآيات والبراهين الإلهية مستمرة ومتصلة، وتتضمن الآية في مفهومها مدح المسلمين لحسن توظيفهم لحاسة السمع والبصر، بالإنصات الى تلاوة الآيات والتصديق بالنبوة والإقرار بالآيات الكونية.
وتبين الآية موضوعية آيات القرآن في جذبه القلوب والأسماع، وجعل الناس يتدبرون في أمور دينهم، لتكون الآية كالبرق الذي يملأ القلوب ضياء، أما المؤمن فيتعاهد هذا الضياء ويتخذه وسيلة لتلمس دروب الهداية والفلاح، وأما الكافر فانه لا ينتفع من هذا الضياء ولا يتعظ بالآيات فتغادره ليبقى في ظلمة وحسرة، لتضاف هذه الظلمة الى عدم إنتفاعهم من الحواس , وفيه عون ومدد للمسلمين، فاذا كان العدو بتلك صفاته يسهل التغلب عليه ويكون كيده وضرره ضعيفاً , قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
وتبين الآية وما فيها من المثل الكريم النعم العظيمة التي تتغشى الناس في الحياة الدنيا، والله سبحانه الذي يبسط الرزق ويهيئ مقدماته، ويحجب أسباب منعه والشرور التي تحل بالإنسان، ويتنعم المنافق بالنعم الإلهية ، ولكنه حينما يتعرض للإمتحان يقف متحيراً، يخذل المؤمنين ولا ينصر جند الإسلام، ويستميل الكفار ويحاول إرضاءهم، والأمور كلها بيد الله تعالى.
مفهوم الآية
في الآية كشف لحالة الإرباك والحيرة التي تتغشــى الكافـرين والمنافقين ومن إحاطة الله تعالى بهم أن ضياء الإسلام وإشعاعات القرآن والآيات الباهرات التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تستلب عقولهم وأبصارهم، ولكن إختيارهم الكفر والنفاق وتعطيلهم لحواسهم يحول دون إنصياعهم للحق والإيمان، فلم يكن عدم إيمانهم عن نقص في الآيات او خلل في الدعوة ، بل لقصور في القابل وعدم توظيفهم لحاسة البصر والسمع لرؤية الآيـــات، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
وقد ورد في الآية السابقة أن المطر النازل فيه ظلمات ورعد وبرق, ولكن هذه الآية لم تذكر الا البرق وأثره في مقاربة خطف الأبصار، ولا يعني هذا عدم وجود أثر للرعد والظلمات، بل ان الظلمات أكثر ضرراً على الكافرين والمخادعين لأنها أطول في زمانها، وتبعث على الوحشة والخوف، وتنبأ عن المستقبل المجهول، وتمنع من الكسب والسعي، فمع ان المطر من أعظم موارد الرزق والنفع العام، فان المنافقين والمخادعين لا يجنون منه شيئاً , وتذهب أعمالهم أدراج الرياح.
وفي الآية مسائل :
الأولى : تدل الآية على ضعف مواجهة المخادعين والكفار للحقائق، ويصيبهم الذهول من الآيات والبراهين، ويعجزون عن تحمل الشدائد والأذى.
الثانية : غلبة الحيرة والتردد على الكفار والمخادعين.
الثالثة : لما جاءت الآيات السابقة بالإخبار عن عدم إنتفاع الكفار والمخادعين من حاسة البصر والسمع وأنهم صم عمي، ويجعلون أصابعهم في آذانهم، جاءت هذه الآية بالإشارة الى حقيقة من الإرادة التكوينية وهي ان السمع والبصر نعمتان من عند الله عز وجل، ولو شاء الله لسلبهما منهم، لأنهم لم يوظفوهما في طاعة الله والتدبر بالآيات والبراهين الدالة على وجوب الإيمان به والتصديق بأنبيائه وكتبه.
الرابعة : توكيد قدرة الله على كل شيء، وترك المخادعين والكفار يؤذون المسلمين ويصرون على الجحود إنما هو إمهال لهم إلى حين، وهو مناسبة لإكتناز المسلمين الصالحات.
الخامسة : تتضمن هذه الآية البيان والتفصيل لما ورد في الآية السابقة من المثل الذي يتعلق بالمنافقين والكفار.
السادسة : يتجلى في المثل القرآني مطلقاً عظيم قدرة الله، وسعة رحمته فجاءت خاتمة هذه الآية [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] دعوة للمؤمنين بالثبات على الإيمان، وحث للمنافقين على التوبة وإصلاح سرائرهم.
السابعة : في الآية بيان لمنافع الآيات الكونية العرضية، فالبرق يأتي مع المطر ومقدماته ، وكل آية وفرد منها تدعو إلى عبادة الله.
الثامنة : مع ان ذكر البرق جاء هنا من باب المثال إلا أنه يتضمن صبغة من الواقع بان يكون آية تدعو الى التدبر والتفكر في الخلق، وتحذر المنافقين والكفار من الإقامة على المعاصي.
التاسعة : يأتي البرق في أوقات مخصوصة من السنة وفي حال المطر، أما القرآن فهو نعمة ورحمة دائمة تجذب الناس للإيمان، وتجعلهم يسيحون في عالم الملكوت، وتكون باباً للرزق ونزول الخير والبركة.
العاشرة : تتضمن الآية الإشارة إلى وجوب الصبر في جنب الله، وبالصبر يمتاز المؤمن عن غيره وفي قوله تعالى [وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا]( ) ذم للمنافقين في جزعهم وخوفهم وتواطئهم مع الكفار، وإخبار عن الإبتلاء والإمتحان الذي يتعرض له المسلمون في الجهاد في سبيل الله تعالى.
إفاضات الآية
يتجلى الإستهزاء والسخرية بالمنافقين والمخادعين بهذه الآيات القرآنية وما شابهها وباقامة الحجة عليهم من قبل المسلمين، وإعلاء كلمة التوحيد وإرتقاء المسلمين في مراتب العلم ومنازل التقوى، وبتفضل الله تعالى بإخبار المسلمين عن حال المخادعين وما هم فيه من الغواية والخسارة والإرتباك والخذلان.
الصلة بين أول وآخر الآية
قد ذكرت الآية السابقة ما يصاحب المطر من الظلمات والرعد والبرق، كما ذكرت الصواعق التي هي أشد وأكثر خطراً وأذى من البرق، ولكن هذه الآية ذكرت البرق وحده، ويحتمل وجهين:
الأول : إنحصار أذى وفزع الكفار من البرق.
الثاني : جاء ذكر الرعد والبرق من باب المثال لبيان الفزع العظيم الذي يلحق الكفار في الظلمات والرعد والصواعق.
والصحيح هو الثاني، وهو من التشديد على الكفار في الدنيا ، والبلاء الذي يلحقهم فيها , ليكون إنذاراً ووعيداً لهم , وتحذيراً من يوم القيامة وما فيه من الحساب و العذاب.
وجاءت الآية قبل السابقة بوصف الكفار بانهم [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ] أما هذه الآية فجاءت بحرف الإمتناع (لو) في قوله تعالى [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ] مما يدل على إرادة الجهتية في الصم والبكم والعمى، وانهم حرموا أنفسهم من دعوة الحق وأصموا آذانهم عن الحكمة والموعظة الحسنة وآيات القرآن لتكون النتيجة قهراً، وإنطباقاً الإمتناع عن التدبر في آيات التنزيل وآيات الآفاق .
وأختتمت الآية ببيان عظيم قدرة الله وعدم إستعصاء مسألة عليه، وانه قادر على الإنتقام من الكفار والمشركين ، ولكنه يمهلهم في الحياة الدنيا.
وفي خاتمة الآية دعوة للمسلمين للصبر وتحمل الأذى من الكفار، وإدراك حقيقة في الإرادة التكوينية ، وهي حتمية ملاقاة الله ونيل الكفار العذاب الأليم في النار.
التفسير الذاتي
لما جاءت الآية السابقة بذكر البرق الذي يأتي بالسحاب والمطر، وكيف أن الكفار يضعون أصابعهم في أذانهم من الصواعق، ويصدون عن الآيات، جاءت هذه الآية بالتفصيل في خصوص(البرق) الوارد في الآية السابقة، ولولا مضامين هذه الآية لمرّ بعضهم على كلمة البرق مروراً سريعاً.
ولكن جاءت هذه الآية لبيان موضوعية كل كلمة في القرآن، ولزوم التدبر في معانيها، وإقتباس الدروس والمواعظ منها, وفيها بياناً لحال الكفار مع توالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف أنها تصيبهم بالفزع والخوف وتجعلهم عاجزين عن المواجهة وتفقدهم القدرة على التصرف.
وتتوالى إنتصارات الإسلام، التي تأتي سريعة حاسمة تبعث الإرباك في صفوف الكفار وتسقط ما في أيديهم وترجع كيدهم إلى نحورهم.
وجاء لفظ (البرق) أربع مرات في القرآن , إثنتين منها في هذه الآية والآية السابقة، وإثنتين في باقي سور القرآن جاءتا بذكر البرق كآية من آيات الله عز وجل لبعث الخوف والطمع في نفوس الناس، ودعوتهم للتدبر في الخلق، وتطلعهم إلى رحمة الله ونزول فضله ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا]( )، فيخاف ويطمع الناس جميعاً عند رؤية البرق كآية كونية.
أما البرق المذكور في هذه الآية فانه جاء على سبيل المثال للتعريف بالكفار وتوبيخهم ورميهم بالآفات وأسباب الهلكات، ولكنه سبحانه يؤجلهم إلى حين، ليشهدوا إرتقاء المسلمين في منازل العز والسلطان، وإنقيادهم التام لأحكام القرآن والسنة, ويفيد هذا التوبيخ في مفهومه بعث السكينة في نفوس المسلمون, قال تعالى (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) ( )
من غايات الآية
بيان التيه والحيرة والعمى الذي عليه المخادعون والكفار، وإمهال الله لهم مع قدرته تعالى على كل شيء، والآية إنذار للناس بلزوم المبادرة الى الإسلام وإجتناب العناد والصدود والجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحذير من عذاب يوم القيامة، وقيل ان الآية نزلت في اليهود الذين قالوا لما نصُر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بدر هذا الذي بشر به موسى، فلما نكب المسلمون في أحد بنحو سبعين من الشهداء وقفوا وشكّوا.
والبرق آية من آيات الله وبديع صنعه، يرد ذكره هنا من باب المثال والإعتبار، بلحاظ لمعانه وبريقه وجذبه الأبصار، فكذا الآية النازلة من السماء فهي حجة وبرهان على وجوب عبادة الصانع الذي لا تستعصي عليه مسألة.
في الآية مسائل :
الأولى : بيان ما عليه المنافقون من الحيرة والتيه والتردد.
الثانية : دعوة المسلمين إلى نبذ النفاق وأهله.
الثالثة : بعث المؤمنين على الجهاد في سبيل الله، والحرص على أداء التكاليف، وعدم الإلتفات الى ما يفتري المنافقون.
الرابعة : من وجوه تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى أنهم تصدوا للنفاق وحاصروه وحالوا دون إتساعه أو زيادة عدد المنافقين.
وجاءت هذه الآية لتكون حرباً مستمرة على النفاق الى يوم القيامة، وهذا الأمر من خصائص القرآن وتفضيله على الكتب السماوية، فتأتي الآية فيه لتكون حرزاً وواقية من النفاق، وسلاحاً بيد المؤمنين، وفضحاً للمنافقين، وأمارة تشير إليهم ليعرفهم المسلمون بأقوالهم وأفعالهم كما تكون الآية وسيلة لإصلاحهم وتجنبهم للنفاق بغية الإلتحاق بركب المؤمنين وإكتناز الصالحات.
ولقد تلقى الأنبياء السابقون الأذى كما في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام اذ تحكي آيات القرآن قصصهم وما تعرضوا له من الأذى.
وأنعم الله عزوجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان أعانه على المنافقين بآيات القرآن، التي تبين قبح فعلهم، وتحذر المسلمين منهم لتكون الدعوة الإسلامية في مأمن من الأضرار التي تأتي من جهة المنافقين، خصوصاً وان هذه الآيات مع المسلمين وينطقون بالشهادتين، ويحضرون الصلاة، فجاءت هذه الآية الكريمة لتبين للمنافقين خسارتهم في النشأتين, قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ) ( )
التفسير
وتظهر الدراسات العلمية والتأريخية إلى بدايات البعثة النبويــة الشريفة تعدد وتوالي المعجزات والآيات الباهــرات التي تجذب القلوب , وتجعل العقول تقر صاغــرة بالحقيقــة الســماوية الكامنة في كل فعل او قــول او تقــرير للنبي محمــد صلى الله عليه وآله وســلم، بالإضــافة إلى الإعجاز القـــرآني الذي أبهـــر ذوي الألباب وجعـــل أولي المعرفة يذعنون لما يتضمنه من حجج وبراهين ويسلمون انه منزل من السماء ويتجلى ضياؤه في سلوك شطر كبير منهم بالإنخراط في صفوف أهل الإيمان.
وكم من قصة تحكي إنضمامهم إلى ســـرايا المجاهـدين وفوزهم بالشهادة من غير ظلم في الزمان الممتد بين إسلامهم وإستشهادهم، ولم ينحصـــر الإذعان بمعانيـــه المتفاوتة ومصاديقه المتـــعددة بأهــــل الإيمان بل تـــعدى الى المنافقين وأهـــل البغضــاء والحســــد أيضاً لعظـــمة تلك الحجـــج وللبيان الناصـــع لآيـــات القرآن وما فيها من الإعجـاز فيرون سبل النجـــاة ظاهرة، وحكمــة الرســـالة منيرة ويحســـون بأداء العبادات البدنية والمالية راحة ذاتية ورضا ، ولكنه مستودع غير مستقر.
لقد ترك أهل الخداع والنفاق للنفس الشهوانية ووساوس الشيطان مصارعة العقل والحكمة ، وأعطوا الإذن للهوى ليتحكم بأفعالهم وميولهم.
قوله تعالى [ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ]
الأول : البرق آية من آيات الله عز وجل، وهو يذكرهم قهراً بالخالق وبديع صنعه.
الثاني : كما ان البرق رحمة للمؤمنين فإنه إنذار للكافرين.
الثالث : للبرق حس وإرادة محدودة كما بالنسبة للسماء والأرض في قوله تعالى [ ثُمَّ اسْتوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ]( ) فأن كلاً من السماء والأرض سمعت ووعت القول وأجابت، وان البرق يتهدد الكفار, ويحاول إنتزاع أبصارهم التي خلقها الله فيهم لتكون آلة الإيمان والتوصــل إلى الخالــق بتدبر مخلوقــاته، خصــوصاً وان هناك نوع ملازمة بين وظيفة البصر وبين أثر الصواعق، قال تعالى [ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ]( ) أي شخص وتحير من شدة الفزع.
الرابع : البرق مناسبة لنشاط ملائكة معه تريد ان تنتقم من الذي لا يلتفت إلى هذه الآية، ولكنهم لم يؤمروا بالإنتقام وهم لا يفعلون إلا ما يأمرهم الله تعالى به, قال تعالى (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) ( ).
الخامس : (البرق) في الآية إستعارة تمثيلية , وعنوان يرمز إلى معاني رسالية كالإسلام في قوة دعوته والنبوة في ظهور حجتها.
السادس : عن الإمام جعـــفر الصادق عليه السلام: “ما برقت قط في ظلمة ليل ولا ضـــوء نهار الا وهـــي ماطرة”،أي قد تمطر في موضع آخر غير الذي برقت فيه , فالنعمـــة النازلة تجعل الكفار والمعانـــدين في حيـــرة وتيه مما يحول دون إنتفاعهم التام منها.
لقد جاء الإسلام رحمة للناس جميعاً، وتعتبر بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بداية رسوخ العقائد السماوية في الأرض وحاجباً دون زوالها او تحريفها او تغييرها، ليس من نعمة أعظم من وقف حال التحريف والتغيير والتبديل في الآيات النازلة وأحكام الشرائع السماوية، فلابد ان تأتي رسالة ودين يمنع هذا التداعي، فتفضل الله سبحانه بالإسلام وجعل فيه منافع عديدة للناس جميعاً وان كان المسلمون هم الفائزون بأعظم تلك النعم وهي الهداية، فقد يبتلى المسلم ويصبح فقيراً في سبيل الله [لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ) وقد ينتفع الكتابي والكافر من الإسلام والإستقرار الإجتماعي والتجارة والكسب بسببه فتزداد أرباحه وتنمو أمواله، ويكثر أولاده فيكون كالذي أضاء له الطريق ويمشي فيه راضياً بالحال التي هو فيها.
قوله تعالى [ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ]
الأول : الإنتفاع العام من آيات الله، فالآيات الكونية يستفيد منها البر والفاجر.
الثاني : التعدد في الفضل الإلهي بالآية الواحدة، ووجود منافع ثانوية وفرعية غير متعارفة للآية الكونية والتشريعية.
الثالث : إنتفاع عامة الناس من إفاضــات الإسلام وآيـــات القـــرآن وما تنـزل معه من الرحمــــة وأحكام الخلـــق، فيكون كالضـــوء الـذي به يهتـــدون في حياتهم اليومية العامة وقضاء الحاجات الدنيوية.
قوله تعالى [ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ]
في الآية وجوه :
الأول : إذا هاجمت المسلمين فتنة وشدة فان المنافقين يشعرون بالفزع والإرتباك والخوف .
الثاني : إنهم إذا ماتوا رأوا ظلمة القبر وأهوال البرزخ وأصناف العذاب التي ستواجههم يوم القيامة.
الثالث : يتعلق الأمر بالخسارة التي تعرض لها المسلمون في أحد بعد نصرهم ببدر وظهور عز الإسلام يومها مع أن المسلمين لم ينهزموا يوم أحد لأن الملائكة معهم, ولكن الكفار هم الذين ولوا خاسرين قال تعالى (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ) ( )
الأقوى أن الآية أعم في معناها ودلالتها على المبني الذي نذهب اليه ونستحضره في هذه الآيات، وهو أن أصحاب هذه الآيات أعم من المنافقين الذين أظهروا الإسلام وأخفوا الكفــر وأنها تشملهـــم وتشمـــل غيرهم من الكفار أهل العداوة والخداع ، فتتضمن آيات القــرآن الإنذارية والوعيدية التضييق على هؤلاء وتهديد كياناتهم، والآيات الكاشفة تفضح سيرتهم وسوء ســــريرتهم ليبقـــوا حينئذ متحيريــن عاجـــزين عن الحركة وإظهار العناد.
لقد ذكرت الآية السمع والبصر على نحو الخصوص لأنهما يعتبران أهم الحواس الإنسانية التي تخاطب من خلالها العقول، فالآيات والبراهين غالباً ما تدرك وتحس بالسمع أو البصر أو بهما معاً وقد عطلهما المنافقون ذاتياً وجردوهما من وظائفهما الروحية والفكرية والأخروية بل ان حواسهم تلك أصبحت مصدر أذى لأهل الإيمان ومسيرة الإسلام بما يسببه إعراضهم وعدم تصديقهم من أثر سلبي في تلك القلوب التي إمتلأت بالهدى، وتتمنى ان يعم الإيمان بالرسالة وحججها الناس جميعاً خاصة أولئك القريبين منهم ، والذين تربطهم معهم صلات الرحم أو الجوار أو المودة.
وقد ذكرت الآية السابقة الآذان كألة للسمع، وفيه بالبرهان الإني إشارة الى الأبصار بلحاظ ذكر الظلمات والبرق، ولكن الآية التي تقدمت عليها وصفتهم بأنهم [ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ]، ولا تعارض في القرآن لتباين الموضوع، فالعين والأذن آلتان للسمع والبصر ولكن أولئك الكفار لم يوظفوهما للإستدلال والبرهان والإستنباط والرشاد، وكذا بالنسبة للسان وجعله داعية في سبيل الله تعالى.
قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
وفي الآية مباحث شريفة منها :
الأول : قال بعضهم بان المعدوم هو الشيء ، وأن الموجود ليس بشيء لأنه موجود فيكون إيجاده مستحيلاً أو تحصيلاً لما هو حاصل.
والنقاش في الكبرى وهي معرفة المقصود من القدرة في المقام فهي لا تنحصر بالخلق والإيجاد بل تشمل معنى السلطنة والقوة والإبقاء والتعاهد ويؤكده إفتقار الممكن وجوداً وإستدامة إلى قدرة الله تعالى وعظيم سلطانه .
يوجد الله المعدوم بقدرته، ويحتاج الموجود في بقائه إلى فضله ولطفه، بل ان حاجة الموجود أكثر من المعدوم لأنها تنبسط على كل آن من آنات وجوده.
الثاني : إحتج جَهْم بهذه الآيــة على ان الله تعالى ليس بشــيء، فالأشـياء جميعاً يقدر عليها وهو تعالى ليس بمقدور له، وإحتج أيضاً بقوله تعالى [ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ]( ).
والمشهور انه تعالى [ شَيْءٍ ] وهو المختار ، ولكنه شيء ليس كالأشياء كما في الخبر ، وتقدير الآية ان الله قادر على الموجود والمعدوم وانه سبحانه لاتستعصي عليه مسألة ، فالإقرار بان الله تعالى ليس بمقدور له يعني ان المراد من كل شئ في الآية الإطلاق ولكن مع إستثناء الذات المقدسة بالضرورة لان الله تعالى هو القادر وغيره مقدور عليه , ولايمتلك هذه القدرة إلا الله تعالى، وأحتج بقوله تعالى [ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ ]( ) وقوله تعالى [ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ]( ) لأن المستثنى داخل في المستثنى منه.
والخلاف صغروي ولفظي , فجهم بن صفوان يقول بان الشيء هو الحادث أي فيخرج واجب الوجود بالتخصص من مفهوم الشيء، كما ذكرت في الشيء أقوال كلامية أخرى:
الأول: هو الثابت الوجود.
الثاني: انه لا يحد لأن الحد للتمييز.
هو الموجود.
الثالث: انه الموجود أي هناك ملازمة بين الشيء وبين الموجود وترادف معنوي بين الشيء والموجود.
الرابع: حقيقة الشيء هو المعدوم قال بعض المعتزلة.
الخامس: ان الشيء هو القديم , ولا يطلق اسم الشيء على الحادث إلا تجوزاً وسعة، قاله أبو العباس الناشئ.
السادس: الشيء هو الجسم نسب إلى هشام بن الحكم.
السابع: هو الذات، وهو ما يصـــح ان يعلم ويخبر عنه ,عند من يثبت المعدوم لابد وان ينتج عنه إختلاف في المصاديق، الا ان الأهم في المسألة هو إستحضار قواعد تنزيه مقام الربوبية وعدم الخوض والتفصيل فيما يوجد نــوع مشابهة بينه وبين خلقه وان لا يؤدي هذا التفصيل الى تضــــييع شــطر من المعاني القدسية التي في الآية الكريمة وما تـدل عليه من صفات العظمة والجلالة لواجب الوجود.
ففي الآية البشارة والوعد والوعيد والإنذار والأمل والرجاء والرحمة والرأفة، والإستجابة مع عدم نفاد خزائنه وكنوز عرش الله سبحانه، وكأنها مفتاح من مفاتيح الدعاء والسياحة في رحاب فضله تعالى وتدبر آياته وعنوان الهداية والإيمان، وعلة من علل الإجتهاد في طاعة الله والسعي في مرضاته، وفي الآية توكيد لقانون العلة والمعلول وإثبات العلة الأولى والعلة الفاعلية.
ومعنى الشيء في الآية يتعدى الوجوه المتعددة التي ذكروها، فهو المعلوم عنده تعالى من الموجود والمعدوم من غير المتناهي، والذات المقدسة تخرج بالتخصص من موضوع القدرة.
والنزاع لفظي وإحتجاج كل من الفريقين لا يمنع من التفصيل والتأويل، والله واسع كريم , ويمكن ان يخصص العام بدليل الآيات القرآنية التي تبين مفهوم الشيء وانه تعالى قادر ليس بمقدور، وغالب ليس بمغلوب، كما انه لا واسطة بين الوجود والعدم.
وفي الآية إطلاق القدرة الإلهية، والإخبار السماوي عن إستجابة جميع الأشياء لأمر الله تعالى بشارة وضمان وحرز للمسلمين ودعوة للإقدام في مسالك الجهاد ونشر الاسلام.
بحث كلامي
المشيئة : إلارادة، وهي من صفات الفعل، وفي علم الكلام أختلف فيها على وجوه متعددة :
الأول : هل هي من صفات الذات بلحاظ المعنى.
الثاني : انها صفة قديمة زائدة على الذات.
الثالث : إنها ترجع إلى العلم.
وقد روي عن الامام الرضا ،ان الابداع والمشيئة والإرادة معناها واحد والأسماء ثلاثة( ).
وعن الامام الباقر عليه السلام: “لا يكون شيء إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى”، ولا يعني هذا الإجتماع بالضرورة الترادف ووحدة المعنى والمفهوم , بل جاء لبيان عظيم قدرة الله.
لذلك لما سئل عن معنى شاء، قال : إبتداء الفعل، وسئل ما معنى قدر، قال : تقدير الأشياء من طول وعرض، وسئل ما معنى قضى قال: اذا قضى أمضى، فذلك الذي لا مرد له”.
ومنهم من عرف المشيئة بأن الله تعالى يشاء جميع أفعال العباد خيرها وشرها، ضرها ونفعها، ولكن المشيئة أعم وأكبر وأوسع وهي عنوان القدرة.
والشيء في الإصطلاح الموجود الثابت المتحقق في الخارج وهل يشمل بمعناه الأعم الموجود الذهني، الأقوى لا، لقيد (في الخارج) إلا على نحو المجاز.
والقدرة ملكة الفاعل الحي المختار ومبدأ أفعاله , وهي بالنسبة للممكن والمخلوق متناهية ومحدودة زماناً ومكاناً وكيفاً وكماً سواء كان إنساناً أو حيواناً أو ملكاً أو مجرداً آخر، ومثلها مفاهيم الحياة والعلم والسمع والبصر.
أما بالنسبة لإطلاق هذه المفاهيم لواجب الوجود فلابد ان تكون خالية من النقص والقصور والحد والتقييد الجسمية، فالباري منزه عن التركيب المكون من التصور والتصديق، ومن العلم الحصولي والإنطباعي فكل الأشياء حاضرة عند الله تعالى مستجيبة لمشيئته ومنها حواس ونفوس أهل الخصومة والخداع.
لذا جاء إطلاق القدرة في الآية على نحو الإنذار والوعيد لهم والبشارة للمسلمين لأن قدرته سبحانه غير متناهية وانه يفعل كل ما يريد لإتمام العبادة وأحكام التوحيد في الأرض وتثبيت أركان الإسلام، وقدرته لا تنحصر بالتقدير بل تشمل الخلق بايجاد المعدوم، وفي الآية إنذار لأهل الرياء والنفاق وإخبار بان رؤيتهم للآيات حجة عليهم، وان ما يرونه من إعراض عنهم أحياناً او إنشغال من المسلمين بأسباب الفتنة او البناء العقائدي لا يعني الإذن لهم بإظهار العداوة والبغضاء، وان تركهم أحياناً إنما هو للإستدراج وإقامة الحجة.
بحث فلسفي
من صفات الله تعالى الثبوتية الوجودية القدرة المطلقة، وهي من وجوه الإستدلال على واجب الوجود لحاجة الموجودات أي أفراد العالم لقدرته تعالى حدوثاً وبقاءاً، جواهر كانت أو أعراضاً، وهذه الأجسام ممكنة لإفتقارها إلى الحيز- وهو الفراغ الذي يشغله الجسم- وقد ثبت ان كل ممكن حادث، ليس بقديم، فالجسم حادث محتاج إلى المؤثر المختار الممتنع عن الحدوث مع إستحالة التسلسل.
وقدرة الله تعالى عامة تتعلق بجميع المقــدورات وبشكل مجرد عن الزمان والمكان والجهة، ومن صفات الممكن ان ماهيته تتصف تارة بالعدم وتارة أخرى بالوجود لحاجــتها إلى المؤثر، وبما أن الله تعالى قادر على ان يفعـــل وان لا يفعـــل أي انه قادر على كل مقــدور، ومن قــدرته تعالى سلبه لتلك النعم التي أعطاها للمنافقين والمخادعين والكفار الذين لم يوظفوها في مسالك طاعته تعالى, ومن تلك النعم
السمع والبصر.
فذكر قدرة الله تعالى في هذه الآية إنـــذار لهم ووعيـــد وإخبار بأن الله لا يعجزه شـــيء، وبشـارة للمؤمنين في حفظهم بأنفسهم ، وبيان وهن عدوهم وإفتقـــاره الى الناصر والمعين.
وفي الآية إشارة الى ان قدرة الله تعالى عامـــة مطلقة ونســــبتها الى الموجودات والمعـــدومات متسـاوية لعلـــة الإيجاب وقبولهـــا للوجـــود والعدم، ولوجود المقتضي وفقد المانع.
رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد رقم (369) لسنة 2000