معالم الايمان في تفسير القرآن – سورة البقرة – ج 42

المقدمة
الحمد لله الذي انزل الكتب السماوية ليرتقي الإنسان الى اتم الحالات واشرف المنازل، فهي رحمة وخير متصل تجلى كماله بالقرآن واجتهد العلماء في تفسيره، وكان التقصير في الفهم والتأويل واللغة والإتباع عرضياً منا وهو مركب ومن اهم افراده عجز الأوهام والأذهان عن تصور الحقائق الكامنة في القرآن، وعدم تسخير الجهود النوعية العامة العلمية منها والفكرية وغيرهما لعلوم التفسير ومع هذا فان الله تفضل وجعل علوم القرآن الظاهرة حجة وبرهاناً ودليلاً ومنها مواضيع الآيات التسعة التي تضمنها هذا الجزء من التفسير اذ يتناول شطر منها مسألة الطلاق وما فيها من وجوه الإبتلاء المتشعبة وكل آية تشريع واحكام تنير الدرب للمسلمين والمسلمات.
ان هذه الآيات مصداق تشريعي واخلاقي واجتماعي يدل على نزول القرآن من عنده تعالى لما فيها من الأحكام والمقاصد السامية والإحاطة بالوقائع والأحداث وبلوغ الغايات الحميدة حتى في حال الخلاف والخصومة والنفرة، وبالبرهان اللمي، أي الإستدلال من العلة الى المعلول تثبت هذه الآيات مع قلتها ان كل آية خزينة من خزائن العلم والمعرفة الإلهية [ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ].
وهذا الجزء هو الثاني والأربعون من كتابي الموسوم (معالم الإيمان في تفسير القرآن) وهو خاص بالآيات (236-249) من سورة البقرة.
ومن الإعجاز في نظم آيات هذا الجزء ابتداؤها بأحكام الطلاق ثم مجيؤها بوجوب تعاهد الصلاة بقوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( )، والآية التي بعدها ثم رجوعها إلى أحكام الطلاق والعدة ، وهل يدل على موضوعية الصلاة والفرائض العبادية في استدامة الوئام في الصلات الزوجية ، وحياة الأسرة المسلمة ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً]( ).
فمن مصاديق هذه المودة والرحمة وجوب الفرائض العبادية على كل مسلم ومسلمة بما يبعث السكينة في النفوس ، ويهذب المنطق ويصلح المجتمعات ، ويدرء العنف الأسري ، وينشر السلم المجتمعي ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).

حرر في الثامن من ذي الحجة 1423 هـ
مكة المكرمة

قوله تعالى[لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ] الآية 236.
القراءة
قرأ حمزة والكسائي (تماسوهن) بضم التاء والألف في هذه الآية وفي الآية التاسعة والأربعين من سورة الأحزاب، وقرأ القراء الآخرون (تمسوهن) وهو المثبت في المصاحف.
الإعراب واللغة
ان طلقتم النساء: ان: شرطية، طلقتم: جملة من فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، مع فاعل، النساء: مفعول به، وجواب الشرط محذوف أي فلا تعطوهن المهر.
ما لم تمسوهن: ما: مصدرية ظرفية وشرطية، لم: حرف نفي وقلب وجزم، تمسوهن: فعل مضارع مجزوم بلم، او تفرضوا: او: حرف عطف، تفرضوا: معطوف على تمسوهن.
قدره: مبتدأ مؤخر والهاء مضاف اليه، والفريضة مشتقة من الفرض، وهو التقدير وكل واجب معلوم لدى من وجب عليه.
وبين الواجب والفريضة عموم وخصوص مطلق، فكل فريضة هي واجب دون العكس، فالواجب قد يكون شرعياً او عقلياً وسمي ما اوجبه الله كالصلاة والصوم فرضاً للزومه ولما له من ابعاد معلومة.
والمس: اللمس والملاقاة باحد الجوارح، وجاء في الآية كناية عن الجماع واصابة الرجل من المرأة، وفي الحديث: “ما من بني آدم مولود الا ويمسه الشيطان” أي يصيبه بما يفتنه ويؤذيه.
في سياق الآيات
بعد بيان احكام الطلاق وعدة الوفاة وادابها جاءت هذه الآية في موضوع انقطاع عصمة الزوجية ايضاً ولكنها خاصة بالمطلقة قبل الدخول، والظاهر انها تتعلق فيمن لم يعين لها مهر، او التي لم يدخل بها، ولكن مفهومها شامل للصور الأخرى وبحسب النصوص والأحكام التفصيلية، كما ان الآية التالية تتعلق بالتي فرض لها مهر معلوم.
إعجاز الآية
تدل الآية على التوكيد القرآني على بيان تفاصيل احكام الطلاق وحفظ حقوق المرأة في اقسامه المختلفة والنهي عن سلبها ما استحقته بمسمى العقد، مع ذكر وجوب الإنفاق عليها والتقسيم العقلي والإستقرائي للنفقة كماً وكيفاً بلحاظ غنى الزوج او فقره، ومن اعجازها صدق الطلاق على من لم يدخل مع حصول العقد، مع ختم الآية بقاعدة كلية.
الآية سلاح
تعتبر الآية عوناً للمرأة وتعاهداً سماوياً لما كتب لها من المهر، ودليلاً في الإنفاق والأطعام، ومانعاً من الحرج لطرفي السعة والفقر.
مفهوم الآية
تبين الآية مراتب الطلاق، فالطلاق قبل الدخول اخف واقل وطأة من الطلاق بعد الدخول سواء على المرأة او على الأسرة والمجتمع مما يدل على موضوعية الدخول وليلة الزفاف في الصلات الإجتماعية والعناوين الإعتبارية والآثار النفسية ولكن هذا لا يعني الحث على مثل هذا النوع من الطلاق وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “ما من شيء احب الى الله عز وجل من بيت يعمر بالنكاح، وما من شيء ابغض الى الله عز وجل من بيت يخرب في الإسلام بالفرقة يعني الطلاق”.
فيصدق اسم الطلاق على هذا القسم من الطلاق وهو ما جاء سابقاً للدخول، بشهادة هذه الآية بالإضافة الى السنة النبوية والإجماع والعرف واللغة، فالطلاق لغة هو الترك والفراق والسراح وهو انشاء من طرف واحد وهو الزوج كما انها تنفي الحرج عن الطلاق قبل الدخول وتمنع من الإفتاء بقدسية عقد الزواج، وحصر الطلاق بما اذا كان بعد الدخول، أي ان الآية تمنع من الإفراط والتفريط، وتبين عمومات الحكم وتخفف عن المسلمين في معاملاتهم وصلاتهم، وفيها انصاف للمرأة ايضاً بالتدارك وطلب الإصلاح او الفراق قبل الدخول اذا كانت هناك اسباب عقلائية او شرعية للطلاق قبل الدخول،
واهمية العقد وجود مقدمات واسباب تجعل الطلاق قبل الدخول اهون واخف وايسر من الطلاق بعده، كما ان نعته بالطلاق يفيد شموله باحكام الطلاق واركانه المتعلقة بالصيغة والمطلق والمطلقة والإشهاد.
وجعلت الآية موضوعية للمس والدخول وفرض مهر معين، والمس هنا كناية عن الجماع والدخول، وفيه تهذيب للنفوس والإلفاظ واكرام للمرأة التي لم يدخل بها، واخبار للخطاب الآخرين بان هذه المرأة وان جرت عليها صيغة العقد والطلاق الا انها لم تمس والمدار على الدخول، والقرآن يفسر بعضه بعضاً فالمراد من المس بالآية الكريمة هو الدخول بدليل قوله تعالى [فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ].
ومع اهمية موضوع حكم الطلاق واعتبار الوطئ او عدمه في تعيين مقدار المهر الذي تستحقه المرأة فان الوطئ جاء بلفظ الكناية وهو المس وفيه وجوه اعجازية منها:
الأول : اكرام المسلمين وبيان مراتب العلم التي يتصفون بها وفهمهم لصيغ البلاغة وارتقائهم في الكسب النظري والعلمي.
الثاني : سيادة الفاظ القرآن وتقديم مصطلحاته وما فيه من المفاهيم على المعاني اللغوية للألفاظ.
الثالث : تحسين الإلفاظ واختيار الكناية في الخطاب ونشر الفضيلة والعفة.
الرابع : الآية دعوة للستر وعدم اشاعة الزوج لتفاصيل حياته الجنسية مع زوجته.
الخامس : اكرام المرأة وان مسها أمر مهم يستحق قيمة وثمناً مما يعني استحقاقها نصف المهر على مجرد العقد.
السادس : دعوة الناس للتعلم من القرآن، والتزود من آدابه واتباعه في اختيار الإلفاظ الأحسن والأفضل للمعاني خصوصاً وان كثيراً من المواضيع والمعاني لها عدة اسماء وهو المسمى بالمشترك اللفظي، فمع التعدد يتم اختيار الأفضل ولكن اطلاق لفظ المس على الوطئ في القرآن موضـوع آخر مســتقل واكثر ارتقاء، انه تأســيس لعلم جــديد في باب البلاغة وان انكر بعضهم وقوع الكناية في القرآن باعتبار انها نوع من المجاز، ولكن الكناية في القرآن مدرسة اخلاقية واجتماعية وتأديبية.
والمعروف ان الملوك والوجهاء والملأ لا يذكرون اسماء نساءهم ويكتفون بالكناية كالعيال او الأهل، فجاءت الآية لإكرام نساء المسلمين بعدم التصريح بفعل الوطئ معهن خصوصاً من لم يتحقق الدخول بها فمن مفاهيم الكناية هنا اثبات حسن مقامات نساء المسلمين.
ومن اسباب الكناية في المقام التعبير عن البعيد بالقريب وعن المستور بالظاهر وعن الصعب بالسهل ولصيانة المرأة ومن المفاهيم الأخلاقية للكناية في المقام تأديب المرأة واخبارها باهمية سترها وحفظها لفرجها.
وكما يحمل معنى السر على ظاهره فانه قد يحمل على التعريض وهو ذكر شيء لإرادة شيء ومعنى آخر لم يذكر في بيان مرحلة من العقد تسبق الدخول كما يحدث في هذا الزمان في الغالب، والتوكيد على موضوعية الدخول ووطئ الزوجة، والكناية عن الوطئ بالمس والمباشرة والإقتراب واللباس والحرث ونحوه دلالة على ان وطئ الزوجة جزء من الوظائف الزوجية.
وتوكيد الآية على المتاع دعوة لحسن المفارقة واستمرار اكرام الزوجة حتى في حال الطلاق واثبات ملازمة المتاع لحال الطلاق مطلقاً سواء دخل الزوج بها ام لم يدخل فيكفي صرف الطبيعة وصدق اسم الزواج الذي يتحقق بالعقد.
وجاءت خاتمة الآية مدحاً وثناء على المسلمين ما داموا ملتزمين باحكام هذه الآية وما شابهها، وهو في مفهومه حث لهم على التقيد بمضامينها اذ ان القيام بالإنفاق ودفع المتاع باب لنيل اشرف واعظم وصف وهو الإحسان وهذا الوصف نازل من السماء وفيه اثبات لأهلية المسلمين لنشر المحبة والود وحسن الخلق في الأرض، فاذا كانوا يرأفون بمن يفارقون من النساء اللائي لم يدخلوا بهن، فانهم قادرون علىالتحلي بحسن الخلق، والتخلي عن الشح واجتناب التعدي واستحواذ النفس الشهوية والغضبية.
وظاهر الآية يفيد اللزوم ولكنه جاء بصيغة الحث والمدح، وتثبيت المائز بين المسلمين وبين غيرهم من الأمم، وهذا المدح دعوة لحكام المسلمين واهل الحل والعقد للتقيد باحكام الطلاق القرآنية والفصل بين الناس في الخصومات وابواب المعاملات مطلقاً بالحق, ووفق آيات القرآن اذ تدل الوقائع والأحداث على نفي وجود مغايرة بينها وبين المسائل والمصاديق الخارجية.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ ] وفيها وجوهاً :
أولاً : في الخطاب في الآية وجوه:
الأولى : انه موجه الى الرجال، وينحل بعدد المطلقين الذين يطلقون ازواجهم قبل الدخول، أي قبل حصول الوطئ والجماع.
الثانية : يشمل الخطاب بالتبعية اولياء المطلق ان لم يكن مستقلاً بامره او كان غائباً ومفقوداً وتم الفحص عنه حسب الشرائط، ولم يصلوا الى خبر عن حياته، ولا تعارض بين هذا الإلحاق وبين لغة الخطاب للحاضر بالمس لإمكان اتيانه بصيغة اللف والنشر ولإرادة تأسيس حكم عام، كما يشمل اولي الأمر وأهل الحل والعقد ومصادر الفتوى وقرار الحكم.
الثالثة : تخبر الآية بالدلالة التضمنية على جواز الطلاق قبل الدخول.
الرابعة : عمومات كراهة الطلاق ومبغوضيته تشمل هذا القسم من اقسام الطلاق.
ثانياً : تبين الآية قدسية عقد النكاح وان صدق الزواج لا يتوقف على الدخول من غير ان ينفي ذلك ترتب احكام ومسائل على الدخول ومنها ما يتعلق بالمهر.
ثالثاً : الخطاب وان كان للرجال الا انه في مفهومه يشمل النساء وليعرفن الذي لهن من الحق.
رابعاً : تؤكد الآية على ان الطلاق بيد من اخذ بالساق وهو حق من حقوق الزوج الا ان يكون دليل يوسع جهة قرار الطلاق.
خامساً : تدل الآية على ان الطلاق ايقاع بينما النكاح لم يتم الا بعقد متقوم برضا الطرفين.
سادساً : تبين الآية السعة في الدين الإسلامي وامكان حصول الطلاق والفسخ في أي وقت بعد النكاح وتتناسب معها القواعد الشرعية الإمتنانية لقاعدة نفي الحرج وقاعدة لا ضرر ولا ضرار.
سابعاً : مع مبغوضية الطلاق فانه قد يكون باباً للسعة والتدارك ودرء الفتنة والبلاء، قال تعالى [ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ]( ).
ثامناً : الطلاق قبل الدخول قليل الحدوث، ومع هذا فالقرآن لم يغفل امره بل وضع له احكامه الخاصة التي تستنبط منها عدة احكام ومسائل وتدرء بها الفتن.

تفسير قوله تعالى [ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ] وفيها وجوهاً :
أولاً : جاء المس كناية قرآنية عن الجماع والإصابة من الزوجة بالمواقعة والوطئ.
ثانياً : تبين الآية موضوعية الدخول وترتب الآثار عليه وفيها اخبار عن امتلاك المرأة لكامل المهر عند تحقق الدخول اكراماً لها.
ثالثاً : تضع الآية الكريمة القواعد الثابتة للتعامل مع المرأة بخصوص مسائل الزواج وتنفي الجهالة والغرر وتحول دون الأضرار بها.
رابعاً : تظهر الآية العدل والإنصاف والحكم السماوي المعجز، فنصف المهر تستحقه المرأة بالعقد والنصف الآخر بالدخول، و لا تجدد للمهر بعد الدخول لأن عقد الزواج عنوان امتلاك لبضع الزوجة فكأن الزواج يمر بمرحلتين:
الأولى : العقد.
الثانية : الدخول، نعم تترتب على الدخول وتمكين المرأة نفسها للزوج احكام تكليفية منها وجوب النفقة على الزوجة.
خامساً : تنفي الآية الإفراط والتفريط في احكام هذه المسألة ففيها توكيد بلزوم الطلاق حتى في حال عدم الدخول، ونفي لقول محتمل بعدم وقوع الطلاق الا بعد الدخول، لذا فمن اعجاز القرآن منع الإجتهاد في مقابل النص، والحيلولة دون الفتنة والخصومة والجهالة والغرر خصوصاً في المسائل الإبتلائية مثل طلاق المرأة واستضعافها والتعدي على حقوقها.
بحث اعجازي
هناك قضايا مشهورة وهي التي يحكم بها الإنسان لعادة او استقراء بسبب الألفة او المزاج وتداول وليس لتصور الموضوع والمحمول واستحضار النسبة بينهما، ومن المشهورات نعت الجماع بالمس مع الفارق الواقعي الكبير بينهما موضوعاً ومحمولاً وعموماً وعرفاً فلو قال شخص اني مسست امرأة اجنبية لا يترتب حد شرعي عليه، وان احتمل الإثم بحسب الحال لأن المس اعم من الجماع.
لذا فان تعلق الأمر بالزواج والطلاق يكون كالإمارة والقرينة التي تفيد انصراف اللفظ عن معناه الحقيقي وارادة المعنى المجازي له، ومن الإعجاز ان المسلمين متسالمون على ارادة الجماع من لفظ المس الوارد في الآية والآيات المشابهة الأخرى ولا عبرة بمن شذ وحمل اللفظ على الظاهر.
فمن الإعجاز ان يأتي القرآن بكناية ويكون المعنى معروفاً في موضوع عام البلوى وما قد يسببه حمله على الظاهر من الفتن وتعطيل الأحكام، ومن علم الغيب الذي لا يعلمه الا الله عز وجل ان يؤتى بالكناية ويعلم سبحانه ان المسلمين سيأخذون بالمعنى المراد منه دون غيره لوجود قرينة صارفة من المعنى الحقيقي الموضوع له لفظ (المس) الى المعنى المجازي، فمع اتفاق الأصوليين على ان التبادر من علامات الحقيقة بل هو اهم علاماتها ا ذان المعنى الحقيقي ينسبق الى الذهن من اللفظ حال النطق به لأن المجاز يتعلق رتبة ويحتاج الى قرينة وواسطة كي يطرأ علىا لذهن ولكن في مقام النكاح والصلة الزوجية يتبادر الى الذهن وهذا اعجاز قرآني في باب البلاغة وصيغ التخاطب بان يتبادر المجاز في خصوص موضوع معين وكأنه مستثنى من موارد الحقيقة.
بحث بلاغي
الكنايــة مصــدر كنيت او كنوت بكذا، ومعناهـا في اللغة والإصطلاح واحد فهي تعني الإتيان بكلام مع ارادة غيره به من خلال الإشارة والملازمة والترادف في الجملة، وهي من علوم البيان والبلاغة وتعني ارادة الشيء من غير تصــريح باسمه وموضــوعه ولفظه المخصص له في اللغة كما لو جاء بمعنى رديف او شبيه له ويفيد الإشارة والإيماء له.
ولا تستعمل الكناية بموارد الذم فقط بل تشمل وجوه المدح والثناء، كما لو قيل في وصف شخص “كثير الرماد” للدلالة على كرمه وكثرة ضيافته، او يعبر عن السارق بانه “طويل اليد” للوصول الى معنى تطاوله وتعديه على مال الغير.
ومنهم من قسم الكناية الى عدة اقسام بحسب المعنى والظهور، كما قسمت بحسب اللوازم والسياق الى تعريض وتلويح ورمز وايماء.
والكناية اسلوب بلاغي لا ينحصر بلغة دون اخرى بل انه يناسب الطبع ومناسبة الحال والموضوع، وقد تكون احياناً اكثر بلاغة او وقعاً في النفس من التصريح، لعدة وجوه منها:
أولاً : دخولها في عمومات زيادة المباني تفيد زيادة المعاني.
ثانياً : للكلفة بالإنتقال من الملزوم الى اللازم المقصود.
ثالثاً : لما يحيط بها من مظاهر التنبيه.
رابعاً : دفع الحرج واسباب اجتناب الإفصاح وقول المعنى الحقيقي.
خامساً : لإرادة الايهام او تحاشي الإبتلاء.
سادساً : للتخلص من الفتنة والإذى والحجة.
سابعاً : لتنزيه الإذن عن سماع ما لا يليق بالمقام او الحال.
ثامناً : للتخــلص من عنـاوين الغيبة او لإحترام المخاطب او للترفع عن التصريح بما يفحش قوله ونحوها من الآداب والسنن والأخلاق ولطائف البلاغة.
وقال الزركشي: وقد اختلف في انها أي الكناية، حقيقة او مجاز، فقال الطرطوسي في العمدة: قد اختلف في وجود الكناية في القرآن وهو كالخلاف في المجاز فمن اجاز وجود المجاز فيه اجاز الكناية وهو قول الجمهور ومن انكر ذلك انكر هذا( ).
ولكن القول بوجود الكناية والمجاز في القرآن امر ظاهر، وبه قال عامة علماء المسلمين ولا عبرة بالشاذ النادر وهو وجه من وجوه الإعجاز القرآني وله دلالات اخرى منها التأديب والإعانة والوقاية.
والمس هنا كناية عن الجماع والدخول وكذا قوله تعالى [ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ]( ) بالإضافة الى شواهد عديدة في الكتاب والسنة ولسان الفقهاء.
تفسير قوله تعالى [ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ] وفيه وجوه :
الأول : المراد بالفريضة الواردة في الآية هو الصداق والمهر اذ انه يجب بالعقد.
الثاني : تسمية المهر بالفريضة دليل على لزوم اداء حق الزوجة سواء دخل بها الزوج او لم يدخل.
الثالث : الترديد بـ(او) لصحة عقد الزواج الدائم من غير ذكر المهر، اذ ان المهر شرط في صحة العقد، ومن اهم وجوه الإستدلال على صحته هذه الآية الكريمة ويسمى تفويض البضع.
الرابع : في الكافي عن الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام في رجل طلق امرأته قبل ان يدخل بها قال عليه السلام: “عليه نصف المهر ان كان فرض لها شيئاً، وان لم يكن فرض لها فليمتعها على نحو ما يمتع مثلها من النساء”، وظاهر الحديث ان (او) بمعنى واو وهذا القول نسبه الرازي الى اكثر المفسرين.
الخامس : نصف المهر يعود الى الزوج عند الطلاق مع عدم الدخول.
السادس : في الآية حث على الوفاء بالعهد والتقيد باحكام العقد وتشملها عمومات المؤمنون عند شروطهم.
السابع : لعل عقد النكاح هو الوحيد الذي يترك فيه الرجل للمرأة نصف المهر مع عدم الدخول.
الثامن : ذكر الطبرسي سببين لما خص الله به المرأة غير المدخول بها بالذكر في هذه الآية ورفع الجناح، احدهما: لأن له ان يطلق التي لم يدخل بها أي وقت شاء، بخلاف المدخول بها فانه لا يجوز ان يطلقها الا في طهر لم يجامعها فيه( ).
ولكن هذا الفارق لا يصلح ان يكون جزء علة لذكر هذا القسم من الطلاق، وورد قوله تعالى [ لاَ جُنَاحَ ] في القرآن خمس وعشرين مرة، اكثرها جاءت في خصوص النكاح والطلاق وتنظيم شؤون الأسرة والحياة الزوجية كما مبين في مفهوم الآية.
تفسير قوله تعالى [ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ] ويحتمل وجوه :
الأول : امر الهي باكرام المرأة وتعويضها وانصافها.
الثاني : المتاع ما ينتفع به من الطعام والكسوة واثاث البيت.
الثالث : الآية نص صريح باعطاء الرجل مطلقته من ماله الخاص.
الرابع : التقسيم الوارد في الآية يدل على الإعجاز القرآني في الحياة اليومية لما يتضمنه من التفصيل الحكيم.
الخامس : وضعت الآية قاعدة كلية في متاع وانتفاع المرأة ببضعة كلمات من جوامع الكلم، وتمنع من اللبس والخلط والإجحاف بالمرأة او الإضرار بالرجل.
السادس : قوله تعالى [ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ] أي على الغني والميسور الحال ان ينفق عليها بســعة وبما يناســب شأنه وقدرته المالــية، وقــوله تعالى [ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ] أي على الفقير والمعوز بحسب المكنة وما فيه من القلة والفاقة وتبين الآية عدم انحصار والإنصاف بالمرأة بل انه يشمل الزوج بلحاظ حاله.
السابع : من الإعجاز ان التخفيف عن الزوج جاء بلحاظ فقره وقلة ما في يده
الثامن : الآية تتماشى وعمومات قاعدة نفي الحرج في الدين وقاعدة لا ضرر ولا ضرار، ومن الطرفين أي الزوج والزوجة وهي من (الآيات العلاجية) التي تدفع الفتنة.
التاسع : تبعث الآية والعمل بها الرضا في النفوس وتنشر المحبة والإلفة وقد تكون سبباً للرجوع الى الزوجية، وبذا تتجلى آيات اعجازية.
العاشر : في المتعة ذكر قولان:
أولاً : الخادم والكسوة او الرزق، عن ابن عباس والشعبي والربيع واليه ذهب الشافعي( ).
ثانياً : هو مثل نصف صداق تلك المرأة المنكوحة، عن ابي حنيفة واصحابه.
الحادي عشر : في تفسير العياشي عن ابي الصباح عن الصادق عليه السلام: “اذا طلق الرجل امرأته قبل ان يدخل بها فلها نصف مهرها وان لم يكن سمى مهراً فمتاع بالمعروف على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، وليس لها عدة وتتزوج من شاءت من ساعتها”، أي ان المتعة والمنفعة لا تكون الا في حال عدم تعيين المهر واخذها لنصفه فحينئذ ترجع الى عمومات النفقة وبحسب الحال وبه قال سعيد بن المسيب وابو حنيفة، وقيل ان المتعة لكل مطلقة الا المختلعة والمبارئة والملاعنة ونسب الى الزهري وسعيد بن المسيب.
الثاني عشر : المقتر خلاف الموسع والإقتار هنا بلحاظ الحال والواقع وليس الطبع والسجية، والا فقد ورد قوله تعالى [ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا ]( ) أي ان المقتر المقل الذي يكون في ضيق وفقر وعوز ينفق باقتار وقلة، وهذا لا يعني انحصار الإنفاق بمرتبتين بل يشمل مراتب متعددة ومتفاوتة بينهما الا ان الآية وردت على نحو الإجمال.
الثالث عشر : ورد في الحديث: “انفق ولا تخف اقتاراً”، وهو حث على التوسعة على العيال وعدم التضييق عليهم في المأكل والمشرب والملبس والمسكن، وهذا الحديث لا يتعارض مع التقسيم الوارد في الآية والذي جاء على نحو الحكم التكليفي الذي يتضمن عدم الحرج.
الرابع عشر : هذا التقسيم اعجاز وفيه مراعاة للعرف والحال والشأن، ويبعث القناعة والرضا في نفس مرأة المعوز والمحتاج، والتطلع الى الإنصاف في نفس مرأة ذي السعة والغنى.
الخامس عشر : هذا الإنفاق وجه من وجوه الشكر له تعالى على النعمة والرزق، وفيه اثبات عملي للإلتزام باحكام الشريعة ومفارقة المرأة بالرفق والإحسان.
السادس عشر : الآية تأسيس لتشريع في الحكم والفتوى والقضاء، وتحديد ما يجب على الزوج من النفقة لزوجته.
السابع عشر : ظاهر المعنى السياقي وقول الأئمة وعلماء التفسير ان الآية تتعلق بالمطلقة ولكن هل تشمل المعنى الأعم في اطلاقها كقاعدة تشريعية كلية بحيث تشمل الزوجات اللائي في عصمة ازواجهن لبيان كيفية الإنفاق على العيال او انها تنسجم وتلتقي معها لأنها من الثوابت الكلية في الشريعة الإسلامية، لا مانع من اجتماع الأمرين معاً ويدل عليه في الجملة عمومات قوله تعالى [ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ]
الثامن عشر : يترتب على الآية اثر تكليفي وهو الثواب المتعقب للإمتثال والطاعة، والعقاب المترتب على المعصية والترك.
التاسع عشر : ورد في صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الإمام الباقر عليه السلام قال: سألته عن الرجل يطلق امرأته؟ قال: يمتعها قبل ان يطلق فان الله سبــحانه وتعالى يقول [ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ] ومثلها مرسلة ابي حمزة، والحديث يبين لنا وجهاً آخر في تفسير الآية وهو اكرام المرأة باعطائها بعض المنافع والكسوة والمال قبل الطلاق، وهو غير المهر لأن الأصل في المهر قبضها له حين العقد، وان نصفه تعيده عند الطلاق الواقع قبل الدخول، بالإضافة الى كونه معلوماً في اصل العقد.
تفسير قوله تعالى [ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ] ويحتمل وجوهاً :
أولاً : الآية توكيد لإعطاء المطلقة واعانتها وتقييد لنوع الإعطاء.
ثانياً : المعروف: اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والإمتثال لأوامره والإحسان الى الناس وما عرف حسنه بحسب موازين الشرع والعقل، وهو ضد المنكر الذي فيه خروج عن طاعته، وقد يفيد المعروف معنى ومصداقاً خاصاً من وجوه البر والصلاح يعرف بحسب قرائن الحال والمقال، وهو في المقام الإنصاف والفضل في النفقة والكسوة نوعاً وكماً وكيفاً.
ثالثاً : المتاع هبة تلين القلب وتطرد البغض والشحناء، وتصرف المطلقة عن منازل الدعاء والشكوى من الرجل لما لحقها بالطلاق من الأذى.
رابعاً : في الطلاق اضرار بالمرأة ذو صبغة اعتبارية واجتماعية ومالية فتأتي المتعة تعويضاً نسبباً وتداركاً واعتذاراً وتخفيفاً.
خامساً : قد يكون الرجل اكثر حاجة للمتعة في حال الطلاق، لما في ايقاعه من الحيف بالمرأة واهلها، فتأتي المتعة لدرء الفتنة والمواساة وحسن الموادعة.
سادساً : قد يكون في فرض المتعة باب لتردد الرجل في الطلاق كما لو رأى انه لا يسترد من المهر الا نصفه وانه سيدفع لها متعة ونفقة وكسوة فيختار الدخول وارجاء الطلاق لما بعد الدخول ولكن بعد الدخول يحدث الله عز وجل امراً ويجعله يسكن اليها، وقد يظهر له من آدابها وبركتها ما يجعله يصرف النظر عن الطلاق بالإضافة الى الأثر الإيجابي للأولاد والذرية في دوام العلقة الزوجية وبذا تظهر لنا منافع اضافية في الآية الكريمة وتتجلى آيات اعجازية في فلسفة متعة المطلقة سواء كانت مدخولاً بها او لا.
سابعاً : قيد [ بِالْمَعْرُوفِ ] للتنبيه على اجتناب الإذلال والهوان للمرأة، والإبتعاد عن المنة والتعيير او اعطاء الردئ من المال.
ثامناً : الآية ترغيب بالإحسان وحث على الفضل والزيادة في المتاع وفيها بيان لإكرام القرآن للمرأة وتوصيته بها في حال الزوجية او عند المفارقة والطلاق.
تاسعاً : تهيئ الآية مقدمة كريمة لدخول المرأة حياة العزوبة او لعودتها الى اهلها.
عاشراً : الآية تأديب للمسلمين وتعاهد للصلات الإجتماعية الحسنة، وتدل على ترشح آثار وضعية للأحكام الشرعية على العرف والواقع اليومي والنظام المعاشي للأمة والأفراد.
حادي عشر : متعة المطلقة قسمان:
الأول: المتعة الواجبة وهي التي يعطيها من لم يسم مهراً للمرأة، فيجب ان يعطيها ما يناسب حاله مما عز وهان وكان متمولاً ونافعاً لها.
الثاني: المتعة المستحبة وهي الخاصة بالمطلقة التي سمي لها مهر وصداق فبالإضافة الى ثبوت استحقاقها لنصفه بالعقد فان الزوج يعطيها من جهة الإحسان والمعروف ما ينفعها ويكون خاتمة كريمة وفراقاً مقروناً بالإحسان وفيه اجلال للعهد والعقد والصلة الزوجية بينهما التي احدثها العقد، وفي الحديث ان بعض اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلق امرأته فمتعها بوليدة أي اعطاها امة.
ثاني عشر : المتاع في اللغة كل ما انتفع به، ويمكن ان يستقرء من ظاهر الآية البعد الزماني لهذا المتاع، أي ان المتعة تساعد المطلقة في امور حياتها الى حين واجل مناسب.
ثالث عشر : قال احد كبار المفسرين: “ليس من المعروف ان يسوى بين الشريفة والوضيعة” وهذا التمايز اجنبي عن الآية، فالمراد هو الفضل والإحسان والزيادة في كل احوال الطلاق فتشمل الآية كل مطلقة بقدرها وحسب شأنها وبلحاظ حال الزوج.
تفسير قوله تعالى [ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ] وفيه وجوه :
الأول : الظاهر ان اعطاء المطلقة منفعة متاعاً بالمعروف والإحسان من نوع الواجب وليس المستحب، لما في الآية من صيغة الأمر المحمول على الوجوب ونعت الإحسان.
الثاني : في صحيحة حفص ابن البختري عن الإمام الصادق عليه السلام: “في الرجل يطلق امرأته ايمتعها؟ قال: نعم، اما تحب ان تكون من المحسنين اما تحب ان تكون من المتقين” ورواه العياشي في تفسيره، وقوله عليه السلام (اما تحب) اعم من الإستحباب الذاتي للفعل فانه جاء للبيان والتوكيد والإخبار عن الرجحان الإجمالي والتذكير بالثواب العظيم، وقد يقال ان قوله عليه السلام (نعم) يحمل على الإستحباب بدليل (الا تحب ان تكون من المحسنين)، ويقال من اراد ان يحسن فهذا حقه وحكمه.
الثالث : الآية تشريف واكرام للمسلمين وتوجيه الخطاب التكليفي لهم بنعتهم بصفة الإحسان، وفيها حث على اتيان الواجبات والمستحبات.
الرابع : تبين الآية اهمية وموضوعية اعانة المرأة وانتفاعها بالمتعة.
الخامس : الآية تفضل منه تعالى على الرجل والمرأة، فهي حث واكرام للرجل، وانصاف ودعوة لإعانة المرأة وعدم غبنها وظلمها.
السادس : بلحاظ آيات القرآن الأخرى فان امتاع المــرأة والمطلقة خاصــة توســل وســعي لنيل محبته تعالى والتقــرب من رحمتــه قال تعالى [ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ]( ) وفي قوله تعالى [ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ ]( ) دليل قرآني على احراز الثواب في امتاع المرأة وادراك الخلف في الدنيا والعوض في الآخرة.
السابع : خاتمة الآية ضمان واعانة قرآنية على العمل بما فيها من أحكام.
الثامن : الإحسان لا ينحصر بالإمتاع فقط بل يترشح مما يتولد عنه من وجوه البر والصلاح واسباب درء الفتنة والخصومة.
التاسع : الآية تثبيت لحكم الإمتاع الى يوم القيامة، فهي في منطوقها مدح وثناء وحث على الإمتاع، وفي مفهومها انذار وتحذير وتنبيه ومنع من التخلف عن احكام الآية.


قوله تعالى [وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] الآية 237.

الإعراب واللغة
وقد فرضتم: الواو حالية، قد: حرف تحقيق، فرضتم: فعل وفاعل، فنصف: الفاء رابطة لجواب الشرط، نصف: مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير فعليكم نصف ما فرضتم، ما: اسم موصول في محل جر بالإضافة، وجملة فرضتم صلة الموصول.
الا ان يعفون: الا: اداء استثناء، ان وما في حيزها مصدر مؤول في محل نصب على الإستثناء.
او يعفو عطف على يعفون منصوب بالفتحة.
ولا تنسوا: الواو عاطفة، لا: ناهية، تنسوا: فعل مضارع مجزوم بلا، الواو: فاعل.
في سياق الآيات
بين هذه الآية والآية التي سبقتها عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء موضوع الطلاق قبل الدخول، ومادة الإفتراق في السابقة نفي الإثم وبيان المتعة وتفاصيلها، وفي هذه الآية الحكم باخذ المرأة لنصف المهر مع عدم الدخول عند تعيينه، وبيان اعتبار العفو.

إعجاز الآية
ورود آيتين في ذات الموضوع مع التفصيل والبيان في كل منهما يدل على اهمية الموضوع والتنبيه على عدم الإخلال بقواعده خصوصاً وان الخطاب متوجه الى الرجال، وتؤكد الآية على العفو وترك الحق كلاً او جزء، فللآية ابعاد تشريعية واخلاقية واجتماعية ومالية.
وفي الآية انصاف يحول دون الأذى والضرر والفتنة ودون الإحتيال على الشريعة، ولكن الآية تفتح الباب واسعاً امام العفو والتسامح، كما انها تبني الصلات الكريمة بين الأشخاص والأسر المتنازعة.
الآية سلاح
تمنع الآية من الغرر وتطرد الجهالة بما فيها من الأحكام البينة الواضحة، وتساعد في تثبيت المجتمعات وتبعد شبح الشقاق، انها تنشر المحبة والود ؟؟في ثنايا اسباب الفرقة والنزاع والخصومة.
مفهوم الآية
بعد ان اكدت الآية السابقة على موضوعية المهر وتعيينه واثبات احكام دفع المتاع والنفقة والثناء على المسلمين للتقيد بها، جاءت هذه الآية لتوكيد الحكم الخاص بالنسبة للمهر ودفع نصفه بمجرد العقد لإكرام المرأة ومنع الغبن والضرر، كما بينت الآية موضوعية العفو في اسقاط المهر وحثت على العفو بآية سماوية اضفت على العفو صبغة عبادية وجعلت النفوس تعشق العفو وتميل اليه، ليكون التنازل عن الحق امراً هيناً ومرغوباً فيه أزاء غاية ســامية وهي الإقتراب من منازل التقوى.
ولموضوع الطلاق طرفان:
الأول: الزوجة المطلقة التي يقع عليها الطلاق.
الثاني: المطلق.
وجاءت الآية متضمنة استمرار اسباب الود التي تتجلى بالإستعداد لقبول الحكم الشرعي وللتنازل عن الحق كلاً او بعضاً، وهل يتعلق العفو بالمهر ام انه شامل للمهر والمتاع لمن لم يعين لها مهر، الجواب: انه مطلق لوحدة الموضوع في تنقيح المناط بل ان الآية جاءت قاعدة كلية في كافة المعاملات والأحكام الا ما خرج بالدليل فقوله تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] جاء بصيغة الخطاب بينما جاء حث المرأة واولياءها على العفو بلغة الغائب مما يفيد اطلاق الآية وعدم اختصاص العفو بالمطلقة بل يشمل الزوج ايضاً سواء في باب الطلاق، او في اجتنابه وتدارك اسبابه، ومنع مقدماته.
ومن التشريف والتوكيد على مسائل الطلاق ان ترد قاعدة العفو هذه بين ثنايا مسائله وأحكامه ولابد لها من دلالات منها ان موضوع الطلاق من الأمور التي يحصل فيها الخلاف والتباين وغموض الحال ومحاولة الطمس، ولماذا العفو في المقام هل هو دليل الضعف، الجواب: لا، لأن العالم الإسلامي غالباً ما يحكم بقوانين اسلامية.
كما ان الآية تجعل الحكم أعم من القوانين والدول فلو كانت قرية نائية او عدة بيوت على الجبال فان الناس ينقادون الى حكم القرآن وينفرون من الخروج عنه، بمعنى ان القرآن قانون سماوي يتغشى المســلمين في جميع امصــارهم وعلى اختلاف أزمنتهـم وتقلب احوالهم، وقد جعـل للمــرأة عزاًَ لا تســتطيع أي قوة محــوه وآثاره وازالته كما لا يقدر قانون او دولة ان يؤســس مثله للـمرأة، وطلب العفو لا يكون الا من منازل القوة، فالقــوي وصاحب الحق هو الذي يحق له ان يعـفو واختياره العفــو والتنازل عن حقـه يدل بالدلالة التضــمنية على ادراكه والآخــرين لثبوت حقــه وقدرته على التصرف به.
اما لو قلت: ان المرأة سواء تنازلت عن حقها او لم تتنازل فقد لا تستلمه، قلت: ان المدار ليس على الإستلام فمن فاته حقه في الدنيا فانه يأخذه في الآخرة اضعافاً مضاعفة وبما يكون محتاجاً اليه اشد الحاجة اذ انه يكون على نحو الحسنات ومحو السيئات.
ومن اسباب العفو في المقام استصحاب بقايا الرحمة والمودة التي جعلها الله بين الزوجين ولعمومات استحباب العفو ومن فوائده اصلاح الحال وتثبيت الأخوة الإيمانية وتقوية المجتمعات الإسلامية وطرد النفرة بين الأسر والعوائل، ومنع تسرب الغل الى الصدور، والحيلولة دون حصول التشتت والفرقة واضرارهما على الملة، وهو عون على توجه الناس نحو الفرائض والعبادات.
لقد تفضل سبحانه واخبر بان العفو اقرب الى منازل التقوى ويدل بالدلالــة الإلتزاميــة على البشــارة بحســن الجزاء وعظيم الثـواب لمن يعفو في موارد الطــلاق والخصــومة والنزاعات مطلقاً، وفيها اخبــار الهي عن الــرزق وتيســير الأمور وايجاد مخــرج كريم لما بعد الطــلاق، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ) فالعفو سبيل لتيسير الحياة العامة والزوجية بعد الطلاق وعدم ترك مسائله معلقة لكي تكون المرأة طليقة وحرة عرفاً كما هي حرة في أمر زوجها شرعاً بعد حصول الطلاق.
ولم تكتف الآية بالعفو بل اوصت بالزيادة والإحسان ولغة الخطاب في الآية تدل على الشمول وعدم انحصار امر العفو بالنساء او تنازلهن عن حقوقهن، واذا كان العفو وسيلة لتقريب الإنسان الى التقوى ويساهم في لباس ردائها فان الفضل والإحسان بين الناس من منازلها، والفضل هنا على قسمين:
الأول: ما كان ابتداء وجاء مستقلاً من غير ان يكون مسبوقاً او مقترناً.
الثاني: ما كان لاحقاً للعفو أي مع العفو تبادر المرأة او الرجل الى الزيادة والإحسان سواء كان هذا الإحسان مادياً او اعتبارياً، وهذا الفضل ينشر الأخلاق الحميدة في المجتمعات الإسلامية ويكون سبباً في هدم اسباب الطلاق وملاحقة مقدماته ومع حصول الطلاق والفراق فان الآية جاءت بلفظ (الفضل بينكم) مما يعني لزوم بقاء الصلات الإيمانية وعدم جعل الطلاق باباً للخصومة وما تؤدي اليه من ضعف وتفكك المجتمعات الإسلامية الأمر الذي يضر بقدراتها القتالية.
وخاتمة الآية تثبيت لموضوع العفو في باب الزواج والطلاق والمعاملات واستحضار لذكره تعالى عند ارادة العفو وهي حائل دون الفتنة وتجدد الخلافات وكثرة الشكاوى وحصول الكدورات، لذا فان الخاتمة ترغيب بالعفو والإحسان ووعد كريم بحسن الجزاء عليه وآيات الطلاق دعوة لكل مسلم ومسلمة للتفقه في احكام المعاملات، وحث على لزوم اقتباس الأحكام الوضعية من القرآن والسنة وحجة سماوية تدل على عدم الحاجة الى غيرها.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ]وفيه وجوهان :
أولاً : الخطاب موجه الى الرجال في حال تلبسهم بعقد الزواج، فلا طلاق من غير عقد نكاح.
ثانياً : بداية هذه الآية تتعلق بذات الموضوع الذي بدأت به الآية السابقة، ففي الآية السابقة نفي الجناح والإثم في حال حصول الطلاق مع عدم الدخول وعدم تعيين المهر، وهذه الآية اخبرت عن الطلاق مع تعيين المهر من غير ان تتعرض لنفي الجناح والإثم، فهل من فارق موضوعي بلحاظ عمومات قوله تعالى [ لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ]، او ان المعنى واحد ومع وجود هذا الفارق، فايهما تفيد التعريض والكراهة والتحذير الآية السابقة ام هذه الآية؟
الجواب: ان قوله تعالى [ لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ] شامل للآيتين باعتبار وحدة موضوعيهما، فجاءت هذه الآية متعلقة بالطلاق في حال وقوعه والإقدام عليه.
تفسير قوله تعالى [ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ] وفيه وجوه :
الأول : أي جعلتم لهن صداقاً ومهراً معلوماً.
الثاني : تسمية المهر بالفريضة توكيد قرآني على اهمية المهر وتغليظ لأمره وكأنه عهد وميثاق، فبالإضافة الى ترتب الأثر الشرعي على العقد والمهر فان الآية تشير الى ما يترتب على التقيد بالحكم ومضامين العقد من اثر تكليفي، والمراد منه الثواب في حال الإمتثال، والعقاب في حال المعصية.
الثالث : تدل الآية بالدلالة التضمنية على وجوب دفع تمام المهر الى الزوجة واستحقاقها له الا ان يرد ما يفيد العكس، وهذه الآية الكريمة دليل على اخذها لنصفه فقط في حال عدم الدخول.
الرابع : ترى ما هي فلسفة التنصيف هذه، فمع الدخول تستحق المهر كاملاً ومع عدمه النصف، ثم ان الدخول لا يختلف فيه المتحد والمتعدد، أي لو دخل مرة واحدة او مرات كثيرة فالحكم واحد وهو استحقاقها للمهر، الجواب: ان الآية تدل على موضوعية الدخول واهميته في حياة المرأة ومنزلتها الإجتماعية ورغبة الخطاب بها مع ترتب آثار لاحقة على الدخول ولو بعد الطلاق والزواج من الغير، فبالدخول تصبح المرأة ثيباً ان كانت باكراً، ومتزوجة باكثر من زوج ان كانت ثيباً بالإضافة الى ترتب الأثر واستحقاق العوض على عقد النكاح المجرد.
تفسير قوله تعالى [ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ] وفيه وجوه :
الأول : الآية نص صريح على استحقاق المرأة لنصف المهر والمسمى في العقد، عند الطلاق قبل الدخول.
الثاني : تخلق الآية حالة من الرضا عند الطرفين لأن الحكم فيها صادر من عند الله تعالى.
الثالث : تمنع الآية من الفتنة والشره والإحتيال وغلبة الرجال وبخسهم لحقوق النساء اوالعكس بميل المرأة واهلها للإستحواذ على المهر كله خصوصاً وان مقتضى الأصل قبضها له حين العقد وتملكه حينئذ ملكاً متزلزلاً، ويستقر بالدخول ولها حق التصرف به قبل القبض وبعده واستدل على امتلاك المرأة للمهر بالعقد بقوله تعالى [ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ]( ).
الرابع : تحول الآية دون الإجتهاد في مقابل النص من قبل الفقهاء، او تقديمهم للعنوان الثانوي والتجرأ على اصل الحكم.
الخامس : الآية واقية من تعدي الأحكام الوضعية ومراعاتها وترجيحها لحقوق احد الطرفين او قيامها بفرض الزائد على المهر مثلاً بسبب وقائع واسباب جانبية او ميلها لأحد الجانبين.
السادس :تمنع الآية تمنع من النساء من المطالبة باكثر من نصف المهر خصوصاً في زمان العولمة واعلان بعضهن المظلومية والغبن، فهذا الإعلان يجعل له القرآن حداً ويمنع من اتخاذه وسيلة للإفتتان وتفكك المجتمعات.
السابع : لو تراضى الزوجان بعد حصــول العقد على مهــر معـين صح واعتبر لازماً ســواء كان بقدر مهر المثل او اقل او اكثر منه لأن تعيين المهر امــر راجع اليهما، فكما يصـــح ابتداء فانه يصح اســتدامة، وليس لأحـــدهما ان يقول عند الطلاق اني رضيت به مع ضميمة وارادة دوام النكاح، ولو اختلفا فالمرجع الحاكم الشرعي.
الثامن : في الفقه اصطلاح وهو “تفويــض المهر” بان يفوضــا في العقد المهر الى احدهـــما كما لو قالت: زوجتك نفســـي على ان تفرض من المهــر ما شــئتَ او ما شــئتُ، واختلــف في تفويضــه لغيرهــما باعتبار انه حق خاص بهما ولأن ظاهر النص الحصر بهما، ويلزم اذا كان مما لهكانت له ماليــة واعتبار لو كــان التفويض للــزوج، او لم يتجــاوز مهر الســنة ان كان التعيين للزوجة، ولكن لو حصل الطلاق قبل التعيين فهل يبقى التفويض على حاله ام لا، الأقوى الأخير.
التاسع : في الآية اشارة الى رزق المرأة وان نصف المهر لا ينقص من رزق الرجل لأنه حق للمرأة، وحق الغير لا يؤثر سلباً في ارزاق الآخرين بما فيهم من يدفعه الا ان يخرج بالتخصيص اختيار الزوجة غير المناسبة، او ان العقد حصل بمقدمات فاسدة وظاهرها انها تؤدي الى الطلاق.
تفسير قوله تعالى [ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ ] وفيها وجوهاً :
أولاً : تدل الآية على حق المرأة الحرة بالإعفاء والتنازل عما لها من المهر.
ثانياً : تخبر الآية عن الإذن في التخفيف والعفو.
ثالثاً : تمنع الآية من مؤاخذة المرأة وذمها او التعدي عليها من قبل اهلها في حال العفو.
رابعاً : ان نصف المهر حق خاص بالمرأة فلذا اذن الله عز وجل لها بالتنازل عنه.
خامساً : المراد من العفو التنازل والمحو وعدم المطالبة بتمام نصف المهر.
سادساً : تدل الآية بالدلالة التضمنية على الحث على التنازل عن نصف المهر كلاً او جزءً طلباً للثواب لما يفيده لفظ (العفو) كصفة اخلاقية محمودة.
سابعاً : قد يكون هذا العفو جـزء من اتفاق، وشرطاً ضمن موضوع الطلاق ترى فيه المرأة من المنافع اكثر من الإصرار على تمام ما لها من المهر، او انها راغبة في الطلاق وهو امر متعلق على صدور العفو منها.
ثامناً : العفو الوارد في الآية فيه اصلاح ودرء للفتنة والخصومة.
تاسعاً : تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على المنع من اكراه المرأة على العفو او ممارسة الضغوط والتشديد عليها من اجل التنازل عن حقها في المهر، اذ ان الآية الكريمة فوضت لها امر العفو، وما يحصل بالإكراه يقع باطلاً.
عاشراً : العفو والتنازل حق جعله الله عز وجل بيد المرأة فقد تمتنع عنه لحاجتها له او لإنتفاعها بما جعل الله عز وجل لها من النصيب في المهر او لما لحقها من الأذى والتلبس بصفة الزوجية بمجرد حصول العقد.
حادي عشر : تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على التشديد والنهي عن التعدي على حق المرأة في المهر وانه اعم من ان يتعلق بالبضع والفرج، لأنها تأخذ نصف المهر عند الطلاق قبل الدخول.
بحث نحوي
يظهر ثبــوت النون في (يعفــون) وحذفها في (يعفو) لأن الواو في الأول اصلية وهي بمنزلة لام الكلمة، والنون نون النسوة وليست علامة اعراب.

بحث نحوي آخر
قد يتفق الحرف الأخير ويكون مردداً بين الأصلي والزائد فلابد من التحقيق لمعرفته، فقوله تعالى [ يَعْفُونَ ] يتعلق بالنساء والواو اصلية لذا لا تحذف النون عند دخول اداة النصب او الجزم، لأن الواو لام الكلمة واصلها عفى، والنون في [ يَعْفُونَ ] ضمير جمع المؤنث، ولو كانت النون لجمع المذكر السالم فحينئذ تصبح علامة للرفع فتحذف النون عند دخول الناصب والجازم.
فاللفظ واحد ولكن المعنى مختلف وبذا تظـهر مزية للإعراب واهميته في بيان المعنى واظهار غرض المتكلم ومقاصده، فمن الإعجاز في الآية ان ثبوت النون في [ يَعْفُونَ ] توكيد لحق المرأة ولزوم قبضها له واستيلائها عليه، بالإضافة الى اهليتها للعفو واسقاط مالها كلاً او جزء.
اما الواو في (يعفو) فهي ضمير الجمع، وحذفت النون.
ان بالفتـح والتخفيف تكون حــرفاً مصـــدرياً، ناصباً للمضارع، ويقع في ابتداء الجملة فيكون في محل رفع، كما في هذه الآية وقوله تعالى [ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ]( ).
ويأتي في محــل نصــب وفي محل جـر، وتكون (ان) مخفـفة من الثقيـلة، فتقع بعد فعل اليقين وما يلحق به كقوله تعالى [ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ ]( )، وقد تكون (ان) مفسرة بمنزلة اي، [ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ ]( ).

بحث إعجازي
من اعجاز القرآن ان آياته يفسر بعضها بعضاً وهو امر لا يخفى على احد، ومن اعجازه ايضاً ان الآية القرآنية تحدث احوالاً اجتماعية ونفسية واخلاقية لها تأثير في كيفية العمل باحكام آية قرآنية اخرى.
فقوله تعالى [ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ]( ) لها اثر مركب ومتعدد الوجوه في آيات الطلاق، فقد لا يحصل الطلاق بسبب المودة والرحمة بينهما، أي ان الله عز وجل تكفل بفضله شطراً من اسباب قوام الزوجية، الأمر الذي يحول دون الطلاق في كثير من الإحيان، او انه حينما يحصل يكون الفراق والتسريح بالرحمة والتخفيف، ومنه عفو المرأة عن حقها في المهر او جزء منه.

تفسير قوله تعالى [ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ] وفيها وجوهاً :
أولاً : تحتمل الآية امرين متباينين من حيث جهة صدور الفعل والأثر:
الأول: ان المراد هو ولي أمر المرأة ومن بيده عقدة النكاح وعفوه عن الزوج في نصف المهر او شطر منه، ويدل عليه موثقة سماعة عن الصادق في قوله تعالى [ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ] قال: هو الأب او الأخ او الرجل يوصى اليه والذي يجوز امره في مال المرأة فيبتاع لها فتجيز فاذا عفا فقد جاز.
وفي صحيحة الحلبي عن الصادق في الآية قال: هو الأب والأخ والرجل يوصى اليه يجوز امره في مال امرأة فيبيع لها ويشـتري فاذا عفا فقد جاز، ومثله صحيحة محمد بن مسلم ومرسلة محمد بن ابي عمير الملحقة بالصحيحة.
وعن اسحاق بن عمار قال: سألت جعفر بن محمد عن قول الله الا ان يعفون قال: المرأة تعفو عن نصف الصداق، قلت:” او يعفو الذي بيده عقدة النكاح”، قال: ابوها اذا عفى جاز له، واخوها اذا كان يقيم بها وهو القائم عليها، وهو بمنزلة الأب يجوز له، واذا كان الأخ لا يقيم بها ولا يقوم عليها لم يجز عليها أمره.
كما وردت بعض النصــوص التي تفيــد التفصـيل وهي على شعبتين:
الأولى: ما يفيد اجازة الولي بالعفو عن جزء وشطر من نصف المهر وليس جميعه، كما في التهذيب عن رفاعة عن الصادق قال: “سئلته عن الذي بيده عقدة النكاح فقال: هو الذي يزوج يأخذ بعضها ويترك بعضاً وليس له ان يترك كله”.
والثانية: انعدام حقها في رفض ما عفى عنه بعد قبوله، ففي رواية ابي بصير عن الصادق في الآية قال: “هو الأخ والأب والرجل الذي يوصى اليه، والذي يجوز امره في مال يقيمه، قاله له: ارأيت ان قالت لا اجيز ما تصنع؟ قال: ليس ذلك لها اتجيز بيعه في مالها ولا تجيز هذا”.
والظاهر ان ذيل الحديث وفاعل تصنع والضمير في (بيعه) يعود للرجل الذي يوصى اليه.
الثاني: المراد هو الزوج وان يعفو عن تمام نصف المهر، وروي عن سعيد بن المسيب وشريح وقتادة وبه قال ابو حنيفة ولعله لما اخرجه ابن جرير والطبراني في الأوسط والبيهقي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ان الذي بيده عقدة النكاح: الزوج”( ).
ولا مانع من اجتماع الأمرين معاً خصوصاً مع الشطر التالي من الآية وان كان الظاهر يدل على الأول اعلاه لكثرة النصوص الواردة بخصوص القسم الأول، بالإضافة الى دلالة ظاهر الآية الكريمة لأنها تتعلق بنصف المهر الذي للزوجة.
ثانياً : في الآية تيسير لأسباب العفو والتخفيف واسقاط المهر والتوسعة فيها.
ثالثاً : تمنع الآية من التشديد وحصر موضوع العفو بالمرأة فقط، فربما تكون هناك احوال واسباب اجتماعية وعرفية خصوصاً ما يحدث بين الرجال وفي نواديهم مما لا تدرك ابعادها واهميتها فتبقى المرأة على اصرارها على ارادة حقها، فجاءت الآية بالإذن للولي في العفو.
رابعاً : تدل الآية بالدلالة التضمنية على الإذن للولي والوكيل بالتصرف والعفو والسماح.
خامساً : الآية من مصاديق قوله تعالى [ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ] ( ) فقد يكون العفو مفتاحاً لحياة سعيدة للمرأة او لها وللرجال معاً والله واسع كريم.
سادساً : من الإعجاز في الآية انها لم ترد بلفظ الولي وان كان هذا العنوان ينطبق على الأب بل جــاءت بالتقييــد الخاص بالموضــوع وهـو الذي بيده عقدة النكاح، فيشمل الولي بالاصالة وغيره بالعرض والوكالة.
نعم ربما يستقرأ من هذه الآية ان التي لم يدخل بها بها لا تعتبر ليست ثيباً لعدم زوال البكارة فيبقى لأبيها سلطان باعتباره ولياً وان كان عموم الآية شاملاً للثيب والتي دخل بها زوجها الأول، ولكن الآخر طلقها قبل الدخول.
بحث اعجازي
في القرآن مجمل ومبين، وذكرت اسباب عديدة للإجمال منها تعيين الضمير واحتمال تردده بين اكثر من طرف او جهة، واستدل عليه بالضمير في قوله تعالى [ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ].
وان الضمير بيده يحتمل عودته الى الولي والى الزوج، ومنهم من رجح الثاني لأن الولي ليس له ان يعفو عن مال يتيمه، ورد عليه بانه لو كان خطاباً للأزواج لقال: الا ان تعفو، بالخطاب وفق سياق الآية لقوله تعالى [ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ] الى قوله [ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ] واجيب بانه التفات من الخطاب الى الغيبة.
والإجمال والترديد لا يعني لزوم الحصر بمعنى واحد بل قد يفيد التعدد والإشتراك في الخطاب، وهذا من اعجاز القرآن واختلافه عن كلام الناس، فلو تكلم شخص بمجمل لطالبه السامع بالبيان والحصر وبما ينفي الترديد والإجمال اما في القرآن فان الإجمال مبين في موضع آخر فضلاً منه تعالى ومنعاً للبس والإشتباه وحصول الفرقة والخلاف، وقد يكون الإجمال بنفسه مبيناً لذاته بان الحكم يحتمل الترديد والتعدد وعدم الحصر كما هو الحال في هذه الآية.
بحث فقهي
لو وكلت المرأة شخصاً قريباً لها او اجنبياً في عقد النكاح ثم قامت بالغاء وكالته قبل الطلاق فلا يحق له ان يعفو ويسقط بعض مالها من الصداق وكذا لو كان وكيلاً بخصوص عقد النكاح، اذ ان الوكالة من العقود وتحتاج الى قبول وايجاب وهي على اقسام:
الأولى: وكالة خاصة وهي التي تتعلق بتصرف محدد بشخص معين كما اذا وكله في شراء دار مخصوصة ومعلومة عند الموكل والوكيل.
الثانية: وكالة عامة، وهي على وجوه:
الأول : عامة من جهة التصرف وخاصة من جهة المتعلق كما لو كان عنده عدة محلات فوكله في واحد منها واذن له في اجارته او بيعه ومطلق الإنتفاع منه.
الثاني : تكون خاصة وجهتية من حيث التصرف وعامة من جهة المتعلق كما اذا وكله في اجارة جميع تلك المحلات ولم يأذن له في بيعها او هبتها ونحوها.
الثالث : عامة من كلتا الجهتين التصرف والجهة، كما اذا كان عنده عدة بيوت، ووكله في بيعها او اجارتها ونحوه كلاً او بعضاً.
الثالثة: وكالة مطلقة وتختلف عن العامة بان يكون للوكيل نوع تفويض وتعيين بنظره بحسب الغبطة والمصلحة، وايضاً قد تكون مطلقة من جهة واحدة التصرف او الجهة او هما معاً كما اذا وكله وخوّله في ايقاع احد العقود المعاوضية من البيع او الصلح او الإجارة على دور له واوكل التعيين في نوع المعاوضة او الموكل فيه او هما معاً الى نظره بلحاظ المصلحة والغبطة وعدم الجهالة وحال الترديد.
وقد يكون العفو والتنازل عن بعض المهر، او عفو الزوج عما له في ذمة المرأة من اصلاح ذات البين بالمعنى الأعم، أي انه يحول دون تفاقم الخلاف، ويؤدي الى فسخ عقد النكاح او الطلاق باحسن حال وكيفية فراق.

؟؟قوله تعالى [ وَأَنْ تَعْفُوا ] مكررة بعد البحث الاخلاقي وفيه وجوه :
الأول : خطاب للزوج والمرأة جميعاً عن ابن عباس، وللزوج وحده عن الشعبي قال وانما جمع لأنه خطاب لكل زوج، وقال الطبرسي بعد ان ذكر القولين وقول ابن عباس اقوى لعمومه( )، وعندي ان الآية اعم موضوعاً ومتعلقاً.
الثاني : الآية قاعدة كلية في منزلة العفو ونتائجه الحسنة فموضوعها يتعلق بشطر المهر في حال الطلاق اذ انه قليل الحدوث وخاص بواقعه وصلة زوجية زائلة، بينما ظاهر الآية الكريمة العموم وعدم التخصيص بحال معينة، وجاء هذا الخطاب هنا بلغة المخاطب وبصيغة الجمع والذي ينحل بعدد المكلفين وفي كافة شؤون الحياة الدنيا، وهذا الإنتقال للدلالة على العموم ومفاهيم التشريع.
الثالث : بحـث اخلاقي
الرابع : تبين الآية الحاجة النوعية الى العفو وما فيه من النفع العام والشخصي فينتفع من العفو اطراف ثلاثة:
أولاً : الذي يعفو.
ثانياً : الذي يعفى عنه.
ثالثاً : المجتمع والأمة
الخامس : اما الذي يعفو فانه ينال الأجر والثواب ويتقرب الى منازل التقوى، فلا غرابة ان ترى الذي يعفو ويسقط بعض ما له من الحق على الغير يشعر بالغبطة والرفعة من منازل القدرة والعفو والإحسان والسمعة الطيبة والأثر المحمود، انه درس في السجايا الحميدة وارشاد الى سبل الخير والمعروف.
السادس : اما الذي يعفى عنه فانه يشعر بالإمتنان ويساهم العفو في ازالة ما في صدره من الغل والغيض؟؟، وربما ادى العفو الى التآلف والصلح وبالنسبة للمجتمع فان العفو من حسن الخلق ويساعد في تهذيب النفوس وغلبة العقل والرأفة بين الناس.
السابع : وله اثر في كبت جماح القوة الشهوانية والغضبية ويمكن اعتبار الآية من آيات (السجايا والملكات)، أي انها تساهم في خلق ملكة كريمة تتحكم بالسلوك.
الثامن : قوله تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا]
التاسع : خخطاب للزوج والمرأة جميعاً عن ابن عباس، وللزوج وحده عن الشعبي قال وانما جمع لأنه خطاب لكل زوج، وقال الطبرسي بعد ان ذكر القولين وقول ابن عباس اقوى لعمومه( )، والظاهر ان الآية اعم موضوعاً ومتعلقاً.
العاشر : الآية قاعدة كلية في منزلة العفو ونتائجه الحسنة، فموضوعها يتعلق بشطر المهر في حال الطلاق اذ انه قليل الحدوث وخاص بواقع وصلة زوجية زائلة، بينما ظاهر الآية الكريمة العموم وعدم التخصيص بحال معينة، وجاء هذا الخطاب هنا بلغة المخاطب وبصيغة الجمع والذي ينحل بعدد المكلفين وفي كافة شؤون الحياة الدنيا، وهذا الإنتقال للدلالة على العموم ومفاهيم التشريع.
الحادي عشر : خطاب موجه لكل المكلفين ذكوراً واناثاً وجماعات ومؤسسات وحكومات، وان جاءت الآية بخصوص الطلاق الا انها اعم، لاسيما وان الآية القرآنية يكون صدرها في شيء وآخرها في شيء آخر.
الثاني عشر : تعتبر الآية دعوة للمرأة والرجل للعفو والتنازل والتسامح في اسباب الوفاق والفراق، وهذا العفو لا ينحصر موضوعه بنصف الصداق بل يشمل الحياة الزوجية واسباب الحيلولة دون الطلاق واجتناب العقاب والعناد.
الثالث عشر : كثيراً ما يحدث الطلاق بسبب الإصرار والتقصي والحساب ووطأة الشروط والحق الإعتباري والمؤاخذة علىالخطأ والخلل وعدم العفو والصفح، كما ان التسامح والرأفة والود بين الزوجين يحول دون حصول الطلاق والشقاق، لذا جاءت الآية ارشاداً اليه وتشجيعاً على انتهاجه.
الرابع عشر : تحث الآية على الدعوة الى العفو واصلاح ذات البين، وتشجع الوجهاء واهل المعروف الى على التدخل في الخصومات للتوفيق بين الإطراف واعتبار صيغ العفو والتسامح.
الخامس عشر : تنفي الآية الحرج في حال الوساطة والتدخل واسقاط بعض الحقوق من اجل الإصلاح او من اجل حل الخلاف وحسم القضايا وعدم تركها معلقة او متعذرة الحل، فحسم الدعوى والخصومة مع العفو خير من المطالبة بالحق كاملاً مع التأخير والتسويف لما قد يصاحبه من الفتنة والإبتلاء.
السادس عشر : من اسمائه تعالى العفو فهو الذي يتجاوز عن السيئات ويغفر الخطايا، فالآية حث على التحلي بالمعارف الإلهية والأخلاق الحميدة، وورد في الحديث: “تخلقوا باخلاق الله”.
السابع عشر : في الآية تنمية لروح الفضيلة وسجايا الكرم والسخاء ونبذ البخل والشح والإستكبار.
الثامن عشر : الآية دعوة للتنزه والعفة، فالتسامح يدل بالدلالة الإلتزامية على عدم التعدي على حقوق الآخرين.
التاسع عشر : تعتبر الآية تربية نفسية وتعاهداً متصلاً لإصلاح النفوسالمجتمعات والأسر، وفيها سبر لأغوار النفس ودعوتها للميل الى العفو ونبذ القطع والجزم.
العشرون : العفو لا يعني التنازل التام عن الحق الذي جعله الله عز وجل للعبد ذكراً كان او انثى، ولا يدل على التفريط بما كتب الله له من الرزق واسباب المعيشة وما فيها من اعتبار وموضوعية في حياته، بل ان الأمر بالعفو من الكلي المشكك فقد يصدق على التنازل عن شيء قليل من الحق.
الحادي والعشرون : قد يتخلق الإنسان بغير طبعه ويكون متكلفاً ويعتبر من اسباب الذم، ولكنه في العفو ليس مذموماً بل هو محمود، ويمكن اعتباره من جهاد النفس ومصارعة الهوى والحيلولة دون غلبته، لذا قد يحتاج المرء احياناً الى تدخل اهل المعروف والصلاح لإعانته على للتغلب على النفس البهيمية والغضبية، فيشاركونه الأجر والثواب من غير ان ينتقص من ثوابه شيء.
بحـث أخلاقي
تبين الآية الحاجة النوعية الى العفو وما فيه من النفع العام والشخصي فينتفع من العفو اطراف ثلاثة:
أولاً : الذي يعفو.
ثانياً : الذي يعفى عنه.
ثالثاً : المجتمع والأمة.
اما الذي يعفو فانه ينال الأجر والثواب ويتقرب الى منازل التقوى، فلا غرابة ان ترى الذي يعفو ويسقط بعض ما له من الحق على الغير يشعر بالغبطة والرفعة من منازل القدرة والعفو والإحسان والسمعة الطيبة والأثر المحمود، انه درس في السجايا الحميدة وارشاد الى سبل الخير والمعروف.
اما الذي يعفى عنه فانه يشعر بالإمتنان ويساهم العفو في ازالة ما في صدره من الغل والغيظ، وربما ادى العفو الى التآلف والصلح وبالنسبة للمجتمع فان العفو من حسن الخلق ويساعد في تهذيب النفوس وغلبة العقل والرأفة بين الناس.
وله اثر في كبت جماح القوة الشهوانية والغضبية ويمكن اعتبار الآية من آيات (السجايا والملكات)، أي انها تساهم في خلق ملكة كريمة تتحكم بالسلوك.
تفسير قوله تعالى [ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ] وفيه وجوه :
الأول : في الآية اعجاز يتمثل في بعض جوانبه في بيان تعدد منازل القرب من التقوى.
الثاني : ليس من اليسير على الإنسان ان يبلغ مراتب التقوى فلابد من مبادئ ومقدمات تساعده في ذلك تتمثل بسجايا واثرة وكرم وسخاء، وكظم الغيظ وتحمل التجاوز القليل على الحق الشخصي درءً للفتنة وطلباً لرضاه تعالى.
الثالث : الآية دعوة للسعي الى التقوى وتلمس طرقها واسباب الوصول اليها.
الرابع : ان مجاهدة النفس وحملها على التقوى مصداقاً ومفهوماً التقرب الى التقوىامر فيه رضا الله عز وجل ومدخل لولوج مسالك التقوى والتلبس بمفاهيمها؟؟، مما يعني بالأولوية ومفهوم الخطاب انها مرتبة رفيعة ودرجة سامية لا يبلغها الا من امتحن الله قلبه بالإيمان.
الخامس : مزاولة العفو واعتباره في المعاملات يجنب الإنسان ايذاء وظلم الغير وينزهه عن الإجحاف وبخس الناس اشياءهم فكما ان الزكاة تطهير للأموال وتخلص من الشبهة والكسب كذلك العفو فانه احتياط وهروب من موارد الظلم، فقد يظن الطرفان ان كلاً منهما هو صاحب الحق في عين معينة او مقدار من المال او شطر منه في حين ان الحكم الواقعي يحصر الحق باحدهما دون الآخر.
السادس : العفو والتنازل عن الحق مناسبة لمعالجة مزاج الإنسان ومنع ما يحركه نحو الغضب والإنفعال، ويخلق عند الإنسان حالة من الشجاعة والإقدام في ذات نفسه وماهية ما يختاره من السلوك.
السابع : الآية دعوة للتفرغ لإتيان العبادات والصالحات فحينما يقدم الإنسان على العفو ينصرف عنه العناد والغضب والإصـرار ونحوه من الطبائع المذمومة، لتصبح نفسه مستعدة للتفكر والتدبر في بديع صنعه تعالى، ويلتفت الى ما يجب عليه من الفرائض والمناسك.
الثامن : العفو طريق لإلتماس عفوه تعالى وفي الحديث: “من لا يرحم الناس لا يرحمه الله، “، فمتى ما اعتمد الإنسان العفو في حياته فانه يتطلع باستبشار الى نيل عفوه ومغفرته سبحانه.
التاسع : من اعجاز الآية ان الأفعال والمصاديق الشخصية ذات الحسن الشرعي والعقلي تؤدي الى ملكة نوعية عامة في باب الأخلاق الحميدة، وسبيل الى سيادة وشيوع الرحمة بين المسلمين وتكون سبباً للإرتقاء الحضاري والعلمي.
العاشر : العفو بين افراد المجتمع الإسلامي دعوة للناس لدخول الإسلام فكما يكون لبس الحرير في الحرب امارة على السعة والمندوحة في
الإسلام والرخاء عند المسلمين فان تغشي سمات العفو بينهم باب للعز والفخر والترغيب في الإسلام.
الحادي عشر : ابالعفو يكون الإسلام قوياً وتصان مفاهيمه ومجتمعاته ويصعب اختراقها، فالمراد من العفو في الآية اعم من موضوع الطلاق والصداق وان كان مناسبة لنزول الآية الكريمة.
الثاني عشر : على المعنى الوارد عن الإمام الصادق للتقوى وهو ان يطاع الله فلا يعصى، ويشكر ولا يكفر، ويذكر فلا ينسى، فان العفو خطوة كريمة نحو الصلاح والهداية.
الثالث عشر : القرب من التقوى الناتج عن العفو لا ينحصر بالذي يعفو كالزوجة بل اعم، فيشمل الأطراف كلها فان الذي يتلقى العفو يشعر بالرضا والإمتنان ويتفرغ الى عباداته، كما يشمل الآخرين باشاعة التسامح والرضا والسعي لإصلاح ذات البين وحسم القضايا بالتي هي احسن.
الرابع عشر : الأولى ان يكون العفو بقصد القربة الى الله عز وجل والإمتثال الأحسن، ورجاء الثواب.
الخامس عشر : من معاني التقوى عدم اتباع الهوى ولكن العفو لا يتعلق بهذا المعنى، لأن عدم العفو يعني المطالبة بالحق وما جعله الله عز وجل للعبد من نصيب عند الغير، نعم عنـدما يكون القصــد مرضاة الله عز وجل يبرز العنوان الثانوي وتكون له الحكومة أي التوسعة والتضييق في اصل الحكم.
السادس عشر : العفو يخلق في النفس ملكة حميدة بترك الشبهات والإبتعاد عن المحرمــات، فالذي يترك حقــه تسامحاً وعفــواً لابد وان يترك ما ليس له فيــه حــق بالأولــويــة، وكأن العفــو رياضة علــى مســالك التقوى.
السابع عشر : تنفي الآية تنفي ما ذهب اليه بعض الفلاسفة كالعالم الألماني نيتشه الذي نسب اليه القول بان الأخلاق من صنع الضعيف وليس هي جزء من الفطرة، واستدل بان الضعيف اذا اصبح قوياً ذا سلطان عمل بالظلم والبطش اكثر مما كان يمارس غيره، ولم يثبت كقاعدة كلية، فهناك شواهد تأريخية تؤكد العكس، والمدار علىالإيمان والعقيدة والبناء الأخلاقي، وقال بعضهم ان الأغنياء هم الذين ينادون بالأخلاق ليبقى الضعيف والفقير تحت يدهم ويستثمرونه فالأخلاق هنا نوع مقدمة للظلم.
الثامن عشر : العفو حسن عقلاً فهو ليس سلاح الضعفاء او الأغنياء بل ان العقل يهدي اليه ويفيد مدح صاحبه.
التاسع عشر : هناك موارد للعفــو جاء بها القــرآن اكثر واكبر من المال والمهــر، فمن اهم مصاديقه عفو الولي عن القاتل وعدم المطالبة بالقصاص منه.
تفسير قوله تعالى [ وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ] وفيه وجوه :
الأول : طاب قرآني كريم يتضمن النهي والزجر، والخطابات القرآنية التي تأتي بصيغة الأمر اكثر من التي ترد فيه بصيغة النهي، ولكن مفهوم كل منهما يفيد المعنى الذي يؤديه منطـوق الآخـر، فالنهي عن نسيان الفضل يعني في مفهوم المخالفة الدعوة والحث على الإحسان للغير واستدامته.
الثاني : لغة الخطاب تؤكد ان موضوع الآية الكريمة اعم من ان ينحصر بالطلاق ونصف المهر، فالمسؤولية الشرعية تقتضي النظر للآية بمعناها الأعم وعدم تفويت الفرص القرآنية بحصر مضامين الآية المتشعبة باصل موضوعها او بسبب النزول.
الثالث : الخلاف بالنسبة لأسباب النزول قد انحسم وانتهى منذ زمن ليس بالقريب واجمع المسلمون على ان الآية اعم من ان تتعلق بسبب نزولها.
الرابع : نحتاج بالنسبة لمضامين الآية الكريمة الى مدرسة عقائدية جديدة في علم التفسير تجتهد في اظهار الأنوار والفيوضات الموجودة فيها والمتعلقة بما يتفرع عن الآية من العلوم العقلية والشرعية والأخلاقية والإجتماعية والسياسية.
ان كل آية من القرآن خزينة تتضمن الأسرار الملكوتية التي يعجز الإنسان عن الإحاطة بها، فهذه المدرسة لا تستطيع سبر اغوار علوم آيات القرآن ولا تتمكن من استخراج معشار كنوزها ولكنها محاولة علمية لنيل واستظهار ما نقدر عليه وفق ضوابط التفسير وعلوم الشريعة واحكام القرآن.
الخامس : ان نظرية المعنى الأعم في التفسير لا تعني الأعراض عن الدليل بل لابد من الحجة والبينة التي تثبت المعنى الأعم للآية, انها مدرسة القرآن التي لا تنتهي عجائبها ولا تنقطع الحاجة اليها فالمرء يحتاج التزود منها في كل آن ومناسبة وحال.
وهذا لا يمنع من اعطاء موضوع الآية خصوصية معينة وهي في المقام الفضل والزيادة من قبل الزوج، او العفو والتسامح من قبل الزوجة.
السادس : ان الدعوة القرآنية للفضل والإحسان الواردة في هذه الآية لا تتعارض مع حق المرأة في نصف المهر؟؟ ولا تتزاحم معها بل تأتي في طولها.
السابع : الآية لطف وحث على اللطف والرأفة ولزوم شيوعها بين الزوجين عند حصول الطلاق.
الثامن : الفضل الوارد في الآية له معاني متعددة فقد يكون متبايناً بالنسبة لأطراف قضية واحدة، فالفضل من احدهما الزيادة والإحسان، ومن الآخر التنازل عن الحق.
التاسع : يأتي النسيان بمعنى الترك وبمعنى الغفلة والإهمال، وكل من الإحتمالين تتضمنه الآية الكريمة، فهي تدعو الى الإلتفات الى الفضل ومصاديق الإحسان بين الإفراد والجماعات، وعلى المعنى الثاني تعتبر الآية تحذيراً من الغفلة وترك الإحسان والفضل، ومن الإنشغال عن الإحسان بحب الذات والأنانية وترك الإثرة.
العاشر : تنهى الآية الكريمة عن الترك المقصود للفضل والإحسان وعن الغفلة عنه واهماله، وهذا من بلاغة القرآن ومختصاته العلمية، اذ ان مضامين الآية وما فيها من الأوامر والنواهي تنطبق على عدة وجوه ومعان من غير تعارض بينها.
الحادي عشر : اذا كان الفضل والإحسان امراً مندوباً ومستحباً في حال الطلاق, فمن باب الأولوية انه مستحب في الحياة الزوجية وهو سبيل لمنع الطلاق فيكون نوع تدارك واصلاح فهو مستحب نفسـي وغيري وقد يكون مستحباً نفسياً وواجباً غيرياً.
الثاني عشر : الفضل في حال الطلاق قبل الدخول اعم من ان يتعلق بنصف المهر, فيشمل التي لم يذكر لها مهر معين، فيظهر الفضل بالزيادة في المتعة المناسبة للحال والشأن والرضا من الزوجة في حال نقصانها عن الحال والشأن، وروي عن سعيد بن المسيب ان هذه الآية ناسخة للمتعة التي وردت في الآية السابقة، ولا دليل على النسخ خصوصاً وان المتعة واجب والفضل مستحب ويصح في طولها ولا يتعارض بشقيه في طرف الرجل او المرأة.
الثالث عشر : في خبر ابي حمزة عن الإمام الباقر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “يأتي على الناس زمان عضوض يعض كل امرئ على ما في يديه وينسون الفضل بينهم، قال تعالى [ وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ]”.
أي ان الآية حث على الإحســان والبذل والعطـاء بين المسلمين على نحو متصـل ودائم، وفي حال الرخاء والشدة، والسعة والضيق.
قوله تعالى [ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ] وفيها وجهان :
أولاً : من اسمائه تعالى (البصير) فهو الذي يبصر ما لا يراه الخلق بالإبصار من غير ان يكون ادراكه بآلة باصرة، وهو الذي يعلم الأشياء جميعاً ظاهرها وباطنها، فالبصر في حقه تعالى صفة ينكشف بها كمال صفات ونعوت الشيء المرئي والمبصر، لأن صفاته تعالى عين ذاته، والبصير صيغة مبالغة لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية.
ثانياً : تحمل الآية معاني البشارة والإنذار، البشارة لأولئك الذين يقولون بالعفو عن الناس ويسقطون ما لهم من الحقوق على الآخرين كلاً او جزء ويعطون الزيادة والفضل، والإنذار للذين يشددون على الآخرين ويكلفونهم فوق طاقتهم ويمتنعون عن الإحسان والفضل ويجعلون اصابعهم في آذانهم عند نصيحتهم وحثهم على الخير، نعم جانب البشارة هو الأهم والمناسب لحال المسلمين وصيغ الخطاب القرآني.


قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّـلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ] الآية 238.

الإعراب واللغة
حافظوا: فعل امر مبني على حذف النون، الواو: فاعل.
والصلاة الوسطى: الواو: حرف عطف، الصلاة: عطف على الصلوات، الوسطى: صفة، قانتين: حال من فاعل قوموا.
والوسطى تأنيث الأوسط وهو من كل شيء شيء اعد له، وفي الحديث: خير الأمور اوسطها، وقيل ان المراد بالوسطى: الفضلى من قولهم للأفضل الأوسط ،وليس من التوسط الذي معناه التوسط بين الشيئين، وهذا القول يحتاج الى دليل وقرينة صارفة له عن معناه الحقيقي والمتبادر، ثم ان الآيةلا تدل على التفضيل الذاتي بقدر ما تدل على العناية الخاصة بها.
والقنوت الطاعة واظهار مضامين الخضوع.
بحث في القراءة
وفي الشواذ ذكرت قراءة عائشة وحفصة وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر.
وقال ابو لبيد: ان القصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة وتبيين معانيها، وقد لا يكون هذا القول تاماً اذ ان القراءة الشاذة قد تكون مخالفة للقراءة المشهورة وما في المصاحف ولو باللفظ والزيادة والنقص في الحروف او التقديم والتأخير ولكنها نوع توثيق واخبار عن وجود قراءة اخرى، وتدل على الضبط والدقة في كتابة المصاحف بترك غير المشهورة.
وتظهر عندنا مسألتان:
الأولى: كيفية السبيل الى اثبات نسبة القراءة الشاذة الى صاحبها سواء كانت القراءة لابن مسعود او أبي أو ابن عباس وغيرهم من الصحابة.
الثانية: احتمال ان تكون الزيادة والتفسير مع الإلتفات الى عدم جزئيتها من القرآن بقرينة القراءات الأخرى عند صاحبها ،فتحتاج الى دليل اضافي ومع انعدامه فالأصل عدم القرآنية وان المراد منها التفسير والبيان أو المرجوح.
في سياق الآيات
بعد آيات الطلاق واحكامه والحث على الإحسان والفضل، جاءت هذه الآية في الصلاة ولزوم تعاهدها والتقيد باحكامها، والملازمة ظاهرة بين هذه الآية وملازمة بين هذه الآية والآيات السابقة والآية التالية، ولكن هذه الآية وعاء وظرف للآيات السابقة فــهي برزخ وحـاجز دون الإنشغال المطلق بشؤون الحيــاة اليوميــة واحكام المعامـلات، لذا تصدر الآية قوله تعالى [ حَافِظُوا ].
إعجاز الآية
تبين الآية اهمية الصلاة فهي عمود الدين، وتدعو الى الإلتزام باحكامها التزاماً تاماً، وفيها تشريف واكرام للصلاة والمصلين خصوصاً وان الصلاة ميثاق الله في الأرض.
ومن اعجازها ابراز الصلاة الوسطى وتعدد الوجوه المحتملة فيها وما لهذا التعدد من الأسرار والفوائد والحث على الدعاء والمواظبة عليه، ولابد من منافع عظيمة في المحافظة على الصلاة، ومن الإعجاز الوجوه المتعددة في تعيين الصلاة الوسطى ودلالات هذا التعددوما لهذا التعدد من الدلالات.
الآية سلاح
تعتبر الآية عوناً ومدداً سماوياً للمحافظة على الصلاة وعدم التفريط ببعض اجزائها لإنبساط الوجوب عليها سواء كانت اركاناً او واجبات غير ركنية.
أسباب النزول
عن زيد بن ثابت ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بالهاجرة وكانت اثقل الصلوات على اصحابه فلا يكون وراءه الا الصف او الصفان فقال: لقد هممت ان احرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم، فنزلت هذه الآية.
وذكر قريب منه في خبر ابن ابي يعفور عن الإمام الصادق عليه السلام: “همّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باحراق قوم في منازلهم كانوا يصلون في منازلهم، ولا يصلون جماعة، فأتــاه رجل اعمى فقال: يا رســول الله انا ضــــرير البصـر وربما اسمع النداء ولا اجد من يقــودني الى الجماعــة والصــلاة معك، فقــال له النـبي صلى الله عليه وآله وسلم: شد من منزلك الى المسجد حبلاً واحضر الجماعة”( ).
وفي اسباب نزول قوله تعالى [ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ] ورد عن زيد بن أرقم انه قال: “كنا نتكلم في الصلاة فيسلم الرجل فيردون عليه، ويسألهم: كم صليتم؟ كفعل أهل الكتاب، فنزل قوله تعالى [ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ] فامرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام.

مفهوم الآية
في الآية تحذير من ترك الصلاة او الإستخفاف بموضوعها او كيفيتها واحكامها او اوقاتها التي وردت في الشريعة على نحو الواجب الأصلي التعيين العيني الواسع في توقيته، وتبين الآية اهمية اداء الصلاة وتحث على السعي العلمي والبحث الروائي لإستقصاء وتحديد الصلاة الوسطى لنيل فضيلتها، وتنمي الشوق للتفقه في الدين، والإطلاع على اسرار وكنوز العبادات وما فيها من المنافع في النشأتين.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ] ويحتمل وجوه :
الأول : آية اكرام وتشريف للمسلمين بحثهم على مافيه دوام الحياة في الأرض وصلاح المجتمعات.
الثاني : تبين الآية المسؤولية الملكوتية الملقاة على عاتق المسلمين في الأرض الا وهي اداء اهم فريضة واعظم منسك.
الثالث : انه تعالى يريد للمسلمين التمسك بالحبل الموصل الى رحمته وعفوه ومغفرته.
الرابع : ينحل الخطاب في الآية ينحل بعدد المكلفين المسلمين ويلازمهم مدة التكليف، بينما تكون الفرائض الأخرى مقيدة بشرط وتسقط عن المكلف مع وجود العذر او المانع لإنتفاء المشروط بانتفاء شرطه وقاعدة نفي الحرج، فالحج مشروط بالإستطاعة، والزكاة بحصول المرض المانع، اما الصلاة فلا تترك بأي حال وتؤدى مع العجز عن القيام عن جلوس، ومع عدم القدرة على الأداء عن جلوس تؤدى عن اضطجاع واستلقاء، بمعنى انطباق الاحكام الثلاثة الواقعي والظاهري والاضطراري في اداء الصلاة وحصول الامتثال والاجزاء في كل منها بحسب الحال.
وهذا التخفيف في الحكم ملائم لعمومات المحافظة عليها وفيه سر من أسرار التشريع وهو مطابقة السنة للأحكام الدقيقة في القرآن والتي يصعب على الناس الإطلاع عليها، ولكن النبي يدركها بالوحي والعصمة، فالمحافظة على الصلاة تتجلى بالإلتزام باداء الفرائض وفي اوقاتها، ولزوم عدم ترك المكلف للصلاة في كل الأحوال، لذا ترى تشريعاً خاصاً لصلاةالغريق والموحل أي الذي يكون في الوحل وهو الطين الرقيق وصلاة الخوف وصلاة المطاردة.
الخامس : المحافظة على الصلاة تنحل الى عدة وجوه:
أولاً : اداءالفرائض الخمس.
ثانياً : الإتيان بها في اوقاتها.
ثالثاً : المحافظة على اركانها واجزائها وشرائطها.
رابعاً : عمومات قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “صلوا كما رأيتموني اصلي”، أي المحافظة عليها واداؤها كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤديها.
السادس : جاءالخطاب في الآية بصيغة الجمع ومن معانيه تعاهد صلاة الجماعة والحفاظ عليها وقد وردت نصوص عديدة في اهمية الجماعة والتوكيد عليها، ومنهم من عد استحباب الجماعة من ضروريات الدين، وعن ابي سعيد الخدري عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ وهو الفرد بسبع وعشرين درجة.
السابع : الآية امر بتعاهد الصلاة على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والبدلي، فالمجموعي يعني ان الأمة بمجموعها تحافظ على الصلاة وتضع لها اعتباراً في الدستور والأنظمة والمناهج التعليمية والمؤسسسات المختلفة وتحترم الوقت الخاص بالفريضة وتولي اهتماماً خاصاً للمساجد وعمارتها، اما العموم الإستغراقي فيعني ان كل مكلف يداوم على اداء الصلاة فهي واجب عيني عليه، والبدلي بالوجوب على كل مكلف وعدم سقوطها باتيان الغير لها.
الثامن : من مصاديق المحافظة على الصلاة السعي الدؤوب لتهيئة اسبابها واتيان مقدماتها وتيسير ادائها والحث عليها وايجاد وسائل الترغيب بها، ولا بأس بانبثاق مؤسسات خاصة بالمحافظة على اداء الصلاة وعدم التفريط بها، وان تتخذ بعضها من عالم الأنترنت والثورة المعلوماتية ميادين لتعاهد الصلاة وبيان احكامها واجراء المسابقات والمعارض والنشرات المتنوعة الخاصة بالصلاة وكيفيتها.
التاسع : وردت أخبار متواترة في فضل الصلاة فهي عمود الدين وأول ما ينظر به من اعمال الإنسان يوم القيامة فاذا تمت نظر في عمله، وهي الميزان، ولو علم المصــلي ما في الصــلاة ما انفتل وانصرف الى غيــرها، وفي عيســى ابن مريــم ورد قوله تعالى [ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ]( ).
العاشر : من مضامين الإكرام للمسلمين ان امرهم سبحانه بالمحافظة على الصلاة، والحفظ ضبط الشيء ومنعه من الذهاب، فالوصية بحفظ الصلاة لم توجه الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده بل هي خطاب تكليفي الى كل مسلم بعد ان ثبت احكامها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، فالآية فخر وعز للمسلمين ودعوة لهم للإٌقتداء بالأنبياء واعاهد ما امروا بحفظه.
الحادي عشر : الصلوات، جاءت بصيغة الجمع وفيه وجوه متعددة ولكنها تصلح جميعاً مصاديق للآية.
الثاني عشر : صلاة الجماعة وتعددها في الأمصار والقرى من أهم مصاديق حفظ الصلوات.
الثالث عشر : الصلوات جمع لصلاة الفرديتعلق بصلاة المكلفين اليومية اي الخمسة الواقعة في اليوم والليلة.
الرابع عشر : الصلاة الواجبة وهي الصلاة اليومية، والجمعة، وصلاة العيدين، والآيات، والطواف.
الخامس عشر : الصلاة الواجبة والمندوبة أي المستحبة وافضلها الرواتب اليومية وهي اربع وثلاثون ركعة ضعف الصلاة اليومية، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “الصلاة خير موضوع، فمن شاء استقل ومن شاء استكثر( ).
السادس عشر : من المحافظة على الصلاة اتيان الأجزاء المنسية، وصلاة الإحتياط، وقضاء ما فات المكلف من الصلاة لقاعدة الإشتغال، ولعمومات اقض ما فات كما فات، وللنصوص.
السابع عشر : من وجوه المحافظة على الصلاة تهيئة مستلزماتها ومقدماتها وبناء المساجد وعمارتها، لذا وردت النصوص بالحث على بناء المسجد وعظيم ما فيه من الثواب.
الثامن عشر : من فلسفة الصلاة المنافع العظيمة في ادائها ومالها من عظيم الأجر والثواب وليس من شيء يتقرب به العبد الى الله كالصلاة، وكأنها السبيل الىوهي سبيل قبول الأعمال الحسنة من العباد، فقوله تعالى [ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ] أي لا يفوتنكم ثواب الصلاة.
التاسع عشر : هذه الآية من كنوز القرآن ومفتاح لخير كثير وعطاء جزيل، فمنطوق الآية الأمر بالمحافظة على الصلوات، اما مفهومها فهو السعادة في الدنيا والآخرة.
العشرون : الإلتزام باداء الصلاة بشرائطها وحدودها ينمي ملكة الصلاح والتقوى في النفس، وهي عوناً على اجتناب ظلم الناس وبخسهم حقوقهم، وحث على عدم ترك الفضل والإحسان فيما بينهم.
الحادي والعشرون : من المحافظة على الصلوات اعتبارها في التشريعات الوضعية والقوانين في الدول الإسلامية.
الثاني والعشرون : الصلاة تهذيب للأخلاق وواقية من رذائلها، وسلاح للتخلص من الكدورات الظلمانية، وعلاج لكثير من الأمراض النفسية التي تصيب الإنسان خصوصاً في هذا الزمان.
الثالث والعشرون : المحافظة على الصلاة موضوع مبارك وتوليدي تتفرع عنه مسائل تتعلق بمختلف وجوه الحياة، وتترشح عنه مسائل متعددة، فقوام المجتمع وصلاح الأمة بالمحافظة على الصلاة، وهي معراج المؤمن والواقية من الفحشاء والمنكر.
الرابع والعشرون : الصلاة عز ورفعة للمؤمن، والإلتزام بادائها يبعث في النفس الطمأنينة والسكينة والثقة بالذات، وفيها ارتقاء في مراتب الكمالات الإنسانية.
الخامس والعشرون : تطرد الصلاة الغفلة سواء باعتبارها موضوعاً للذكر او مناسبة للتلبس بافضل وجوه الطاعة.
السادس والعشرون : من المحافظة على الصلاة الحرص على ادابها ومعرفة سننها والتقيد باحكامها واوقاتها.
السابع والعشرون : المحافظة على الصلاة عون على تحمل المشاق والآلام وهي آلة عقلية وجسمانية للتغلب على الأهوال والمصائب، ومواجهة الشدائد، قال تعالى [ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ]( ).
الثامن والعشرون : من وجوه المحافظة على الصلوات الزام الأســرة بادائها كما في قوله تعالى [ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ واذكر عبدنا اسماعيل الى وكان يأمر اهله بالصلاة ]( ) وحث الآخرين عليها، ووضع اعتبار لها في العلاقات الإجتماعية تعظيماً لشعائر الله، وبما يؤدي الى عز المؤمنين، وذل وهوان الكافرين والجاحدين والفاسقين.
بحث بلاغي
من أساليب القرآن وبديع البيان فيه عطف الخاص على العام ويؤتى بالخاص وكأنه مستقل عن العام ويلحق به بحرف العطف (الواو) لبيان فضله وبينه وبين العام عموم وخصوص مطلق، ولكنه يتصف بخصوصية أستحق معها الذكر على نحو الإستقلال، وهذا العطف والذكر الخاص له دعوة لإستنباط المسائل والدروس منه.
وجعله علماء البيان من أقسام التأكيد الا انه أعم منطوقاً ومفهوماً، وأختلف فيما لو أجتمع في الكلام معطوفان، هل يجعل الأخير معطوفاً على الأول، او على الثاني وفي قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ] ( )، قال الزمخشري ان (مخرج) معطوف على (فالق) لا على (يخرج) فراراً من عطف الاسم على الفعل، وخالفه ابن مالك وأوله( ).
والظاهر جواز الأمرين، الا ان علوم اقرآن لا تخضع للقواعد النحوية والبلاغية على نحو الإطلاق بل لها خصوصيتها تبعاً لمعانيها ولها الحكومة على تلك القواعد بمعنى انها تقوم بتوسعتها وتضييقها بحسب المضامين القدسية للقرآن.
ومن أمثلة عطف الخاص على العام قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى] فدخلت الصلاة الوسطى في جملة الصلوات التي تؤدى، ثم خصت بالذكر على نحو الأفراد لفضلها، وهذا الذكر لا يعني بالضرورة انه تفضيلها على سائر الصلوات فكل صلاة فضل ولكنه لبيان خصوصياتها ولزوم تعاهدها.
وذهب بعض الأعلام الى القول ان المراد من الصلاة هنا غير اليومية كالوتر والضحى والعيد، وان هذه الآية من عطف الخاص على العام، وهو بعيد لأن واو العطف لا تفيد المغايرة دائماً، وعلى فرض اناه تفيد المغايرة فيكفي المغايرة الجهتية والوصف الخاص وصرف الطبيعة للمخالفة.
تفسير قوله تعالى [ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى ] ويحتمل أوجه :
الأولى : عطف على الصلوات أي وحافظوا على اداء الصلوات والصلاة الوسطى.
الثانية : الآية من عطف الخاص على العام فالصلاة الوسطى فرد من افراد الصلوات، وهذا التخصيص يدل على الأهمية الخاصة لها والثواب المضاعف.
الثالثة : في الآية ومصداقها العملي وتفسيرها اعجاز متصل.
الرابعة : الخطاب في الآية على قسمين:
الأول: نص وبيان واضح لتعاهد هذه الصلاة والانجذاب اليها والحرص على ادائها.
الثاني: الإجمال في تعيين هذه الصلاة وتحديدها.
الخامسة : في الآية مباحث عديدة منها التحقيق في تعيين الصلاة الوسطى ولزوم اقتران هذا التحقيق بادائها والإمتثال والتقيد باحكامها وواجباتها والعناية بها وحفظها، وهذا الاقتران مصاحب لكل جيل من اجيال المسلمين وكل منا يقرأ هذه الآية ولكن يصعب عليه تحديدها، اذ ان المسلمين مختلفون في تعيينها مع اقرارهم جميعاً بانها محصورة بصــلاة معينة، ولا يعني هــذا ان الأقوال التي لا تطابق الحكم الواقعي على خطأليست صحيحة، وايضاً ليس هو من باب تعدد المطلوب الا ان يشاء الله بفضله، فلابد ان الصلاة الوسطى واحدة، ولكن هذا الإختلاف سبيل للإجتهاد في طاعته تعالى.
السادسة : الآية من مصاديق عمومات حديث (من بلغ)، وكل من يرجو ويظن ان الصلاة الوسطى فرد مخصوص من الصلاة اليومي ويتقيد بادائها فانه ينال اجرها وثوابها لعظيم فضله واحسانه تعالى، وانه عند حسن ظن عبده المؤمن، وفي الخبر عن الامام الصادق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجز له، ومن اوعده على عمل عقاباً فهو بالخيار”( ).
السابعة : في تعيينها ذكرت اقوال:
أولاً : انها صلاة الظهر، وهو المروي عن زيد بن ثابت وابي سعيد الخدري وعن عبد الله بن عمر واسامة بن زيد وعائشة، وهو المروي عن الإمام الباقر والصادق عليهما السلام، وهو قول ابي حنيفة واصحابه، وذكر انها اثقل الصلوات، كما تقدم في اسباب النزول، وانها وسط النهار، وأول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانياً : انها صلاة العصر، وهو المروي عن ابن مسعود وابن عباس، وروي وروى البخاري ومسلم عن الإمام علي عليه السلام: “ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم الخندق: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر”، كما استدلوا عليه ببعض النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التوكيد على صلاة العصر، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “بكروا بالصلاة في يوم الغيم فانه من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر اهله وماله”، وفي خبر بريدة: “بكروا بالصلاة في يوم الغيم فانه من فاتته صلاة العصر حبط عمله”، ولكن هذه النصــوص اعم من المدعى، وهناك نصوص خاصة تحث على صلاة الظهر والمغرب والصبح والعشاء.
ثالثاً : صلاة المغرب، لأن الوسط فيها بلحاظ عدد الركعات والطول والقصر فهي اكثر من صلاة الصبح بركعة واقل من الصلاة الرباعية بركعة ايضاً، كما استدل بما روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “ان افضل الصلوات عند الله صلاة المغرب لم يحطها الله عن مسافر ولا مقيم فتح الله بها صلاة الليل، وختم بها صلاة النهار، فمن صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين بنى الله له قصراً في الجنة ومن صلى بعدها اربع ركعات غفر الله له ذنب عشرين او اربعين سنة”.
رابعاً : انها صلاة العشاء لأنها تقع بين صلاتين لا تقصران في السفر وهما صلاة المغرب والصبح، وذكر الطبرسي في المقام ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “من صلى العشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى صلاة الفجر في جماعة كان كقيام ليلة( )، ولكن هذا الحديث يظهر ما لصلاة الصبح جماعة من خصوصية الا ان يحمل ارادة الوسط على نصف الثواب، وظاهر الآية الكريمة ان صفة [ الْوُسْطَى ] تضفي اهمية خاصةموضوعية خاصة عليها بالذات وليس بالعرض.
خامساً : انها صلاة الفجر، نسب الى الإمام علي والى عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وابي امامة ومعاذ، وهو قول الامام الشافعي ومجاهد وعطاء لأنها بين صلاتي الليل وصلاتي النهار، ولأنها صلاة منفردة، وعن ابي رجاء العطاردي صلى بنا ابن عباس في مسجد البصرة صلاة الغداة فقنت فيها قبل الركوع ورفع يديه، فلما فرغ قال: هذه الصلاة الوسطى التي امرنا ان نقوم فيها قانتين.
سادساً : الإجمال والإبهام والترديد بين الصلوات اليومية فهي احداها من غير تعييين وتحديد وان الله عز وجل اخفاها ليحافظ المسلمون على الصلوات جميعها وهذا سر من اسرار فلسفة اخفائها بين الصلوات مع الإقرار والإجماع على انها احد افراد الصلاة اليومية الراتبة وهذا الإجمال يحتمل وجوها:
الأول : عدم تحديدها وتعيينها اصلاً.
الثاني : هي معينة وثابتة ولكنها خفيت عنا للسعي والكسب والثواب، وتعددت فيها الأقوال.
الثالث : ان تعيينها ليس مستديماً وثابتاً، فمرة تكون هذه الصلاة، ومرة تلك وهكذا، بمعنى انها تتنقل بين افراد الصلاة.
اما الوجه الأول فهو مخالف لأدلة البيان في القرآن وتفسيره وخطاباته، واما الثالث فهو بعيد ومناف للقواعد والأصول، والصحيح هو الثاني من الوجوه اعلاه ويمكن استقراؤها من النصوص بعد تنقيح بحث روائي
السند ورد بعضها الى بعض والأقوى انها صلاة الظهر , ويشمل المقام حديث من بلغ أي من كان يعمل بنص بأنها صلاة مخصوصة فإن الله واسع كريم .
في الدر المنثور أخرج أحمد وابن المنيع والنسائي وابن جرير والشاشى والضياء من طريق الزبرقان: “ان رهطا من قريش مرّ بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون فارسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى، فقال: هي الظهر، ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه فقال: هي الظهر، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى الظهر بالهجير فلا يكون وراءه الا الصف والصفان والناس في قائلتهم وتجارتهم فانزل الله [ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لينتهين رجال أو لاحرقن بيوتهم”( ).
وردت نصوص عن اهل البيت تفيد انها صلاة الظهر ففي صحيحة زرارة قال: “سألت ابا جعفر عما فرض الله عز وجل من الصلاة؟ فقال: خمس صلوات في الليل والنهار، فقلت: فهل سماهن وبينهن في كتابه؟ قال: نعم، قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم [ أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ]( ) ودلوكها: زوالها، وفيما بين دلوك الشمس الى غسق الليل اربع صلوات، سماهن الله وبينهن ووقتهــن، وغســق الليل هو انتـصــافه، ثم قــال تبــارك وتعالى: [ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ]( ) فهذه الخامسة، وقال تبارك وتعالى في ذلك: [ وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ ]( ) وطرفاه: المغرب والغداة [ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ ]، وهي صلاة العشاء الاخرة، وقال تعالى: [ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى ] وهي صلاة الظهر، وهي أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي وسط النهار ووسط صلاتين بالنهار صلاة الغداة وصلاة العصر( ).
وفي بعض القراءة (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى – صلاة العصر – وقوموا لله قانتين).
قال: وأنزلت هذه الآية يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ســفره، فقنـت فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتركها على حالها في السفر والحضر وأضاف للمقيم ركعتين، وإنما وضــعت الركعتان اللتــان أضــافهما النبي صلى الله عليه وآله وســلم يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الامــام، فمن صــلى يــوم الجمعة في غير جماعة فليصــلها أربع ركعــات كصــلاة الظــهر في سـائر الايام( ).
وعن محمد بن مسلم قلت للإمام الباقر عليه السلام: “الصلاة الوسطى، قال عليه السلام: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصروقوموا لله قانتين) والوسطى هي الظهر، وكذلك كان يقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم”.
وفي قراءة عائشة وحفصة (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر)، وروي مثله عن الإمام الصادق عليه السلام، أي ان صلاة العصر غير صلاة الظهر لأن الواو تفيد المغايرة.
وفي اخفاء الصلاة الوسطى مسائل:
يشبه اخفاؤها اليومية الإخفاء الإجمالي ليلة القدر بين الليالي التي ترددت عند المسلمين بين عدة ليال وجاءت النصوص بطلبها باكثر من ليلة والصلاة الوسطى ترددت بين افراد الصلاة اليومية مع ترجيح بعضها تخفيفاً وتيسيراً ومنعاً للحرج.
لقد اراد الله عز وجل من المسلمين الحرص على اداء جميع الصلوات اليومية، اذ ان الصلاة الوسطى تدخل ضمن مصاديق قوله تعالى [ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ] أي لابد من تعاهدها والعناية بها كفرد من افراد الصلاة قبل ان تصل النوبة الى كونها الصلاة الوسطى بالذات.
بعد الأمر الإلهي بالمحافظة على الصلوات مطلقاً ماهية واداء جاء الحث والتوكيد على الصلاة الوسطى، مما يعني ان الخلاف فيها صغروي لانبساط الأمر في أول الآية على جميع افراد الصلاة.
من الإعجاز ان الآية لم ترد بخصوص الصلاة الوســطى، لأن مثــل هذا التعيين قد يفســره الذي في قلبــه مرض بانحصــار الأهمية بالصلاة الوسطى فيتهاون بالصلوات الأخرى، بل جاء الأمر الإلهي بتعاهد عموم الصلاة ثم جاء الخاص بعد ان ثبت العموم.
لا تنحصر منافع هذا الإخفاء بالإجتهاد في جميع فروض الصلاة اذ انه دعوة لا بقاء لبحث والتحقيق في تعيين الصلاة الوسطى، والسعي العلمي في علوم القرآن والسنة الشريفة،اً مما يؤدي الى جعل هذا التحقيق سجية ومنهاجاً دائماً للعلماء يساعدهم في استنباط الأحكام من ادلتها التفصيلية، اذ ان البحث العلمي عن مسألة يؤدي الى تفرعها والتوصل الى احكام عديدة بخصوصها وخصوص غيرها ايضاً
اظهار عجز الإنسان عن ادراك كنه القرآن، فكلمة واحدة عجز العلماء عن تعيين مصداقها الخارجي مع اتصال التحقيق بين طبقاتهم من بين بضعة افراد عبادية متشابهة، مع الحاجة النوعية والشوق الى تعيينها ومعرفتها.
كل صلاة تصلح ان تكون وسطاً بحسب لحاظ معين، فصلاة الظهر وسط النهار، والعصر وسط اشتغال الناس في الغالب، والمغرب وسط بلحاظ عدد ركعات الصلاة بين الصلاة الثنائية وهي صلاة الصبح والصلاة الرباعية وهي الظهر والعصر والعشاء، والعشاء لأنها بين صلاة المغرب والصبح وكل منهما يؤتى بها تامة في السفر، وصلاة الصبح لأنها في ساعة وسط لا من الليل ولا من النهار فتقع بين الظلمة والضياء، وقد تكون هناك مفاهيم اخروية للصلاة الوسطى ومنافع الصلاة يوم القيامة.
الآية دعوة للحرص على اداء كل صلاة عسى ان تكون هي الصلاة الوسطى ونيل ما لها من الثواب الخاص.
يعتبر اقتران الأمر بالمحافظة على الصلوات مطلقاً والصلاة الوسطى طرداً لليأس والضجر والسأم من نفوس المؤمنين، ومنعاًً للخلاف بين العلماء اذ ان هذا الإٌقتران يجعل الخلاف في تعيين الصلاة الوسطى من مصاديق الحرص والتحقيق الفقهي والعلمي، لأن الأمر الأهم هو المحافظة على كل صلاة، لذا ترى لفظ الصلوات جاء في الآية متقدماً على الصلاة الوسطى.
ان التفات العبد الى اهمية الصلاة الوسطى وما لها من المنزلة والرتبة عنوان للخضوع والتذلل لله تعالى، والشوق الى معرفة اسرار الأحكام وهي من سنخ طاعة العقل.
في الآية عروج بالعبد في مراتب التقوى، لأنها تؤدي الى ادامة الصلاة والمواظبة عليها والحرص على عدم وقوع النقص والخلل في حدودها وآدابها.
انه من الأسباب الكريمة لبقاء الصلاة غضة مرغوباً فيها وغير مضيعة.
فيه التفات الى موضوعية اوقات الصلاة، واستقلال كل فريضة بجزء وشقص من اليوم والليلة.
في الآية تأديب للمسلمين وتعليم لكيفية التصرف في مواطن الخلاف من غير اثارة للنفرة او الفرقة، فمن الآيات ان ترى الاختلاف في تحديد الصلاة الوسطى من غير خصومة.

بحث بلاغي
الإيغال في اللغة الجد والسير والسعي الحثيث لبلوغ الغاية يقال: اوغل في الارض اذا سار فيها فابعد، وفي الإصطلاح اتيان المتكلم بعد الفاصلة والاستراحة في الكلام بزيادة في الألفاظ تتعدى المعنى المراد، فبعد ان يأتي بالمراد وما يفي بالغرض يأتي بزيادة تتعلق به واستشهد عليه بشواهد من القرآن.
ولكن مضامين الآيات اعم من ان تنحصر بمفهوم بلاغي، فالإضافة في الفاظ القرآن في موضوع معين لا يمكن اعتبارها زيادة بل لها معاني اضافية متعددة الجوانب والأبعاد وهذا من اعجاز القرآن، فبعد ان ذكرت الآية المحافظة على الصلاة على نحو العموم امرت بالقيام لله عن قنوت، و الصلاة والمحافظة عليها عنوان جامع شامل للقيام والطاعة والقنوت، وهذا لا يعني الوقوف عند الإيغال.
بحث عرفاني
تعتبر الصلاة رياضة روحية تطرد القسوة والجمود عن النفس الإنسانية وتحافظ على سلامة الروح وما تمتلكه من الشوق الى الغير واندفاعها نحـو المحبـوب ليشتعل زيت القلب بعشق واجب الوجود ويتوجه الى الصلاة كطريق آمن وسالك لبلوغ مراتب القرب، وفي الحديث: “كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وفي صدره ازيز كازيز المرجل”، والأزيز صوت الرعد ويأتي بمعنى صوت غليان القدر.
واذ تأمر الآية الكريمة بالمحافظة على الصلاة فانها تعني بالواسطة حفظ الإنسان أي ان الله عز وجل اراد حفظ رتبة الإنسانية بالصلاة وتعطيل للحواس الحواس ساعة الصلاة، او جعلها منقادة للنفس المطمئنة لينحصر اشتغال العقل والروح والجسد بطاعته تعالى والإنجذاب الى معاني الجلال والغبطة والسعادة بأنس الإجتماع والحضور وانوار المحبة الإيمانية بعيداً عن اللذات الجسمانية.
انها لطف الهي ومحبة اختص بها المسلميون لمنع خضوعهم للطبائع والغرائز، ولإيجاد تطبع يتصف بالهداية والرشاد، ولقهر النفس الشهوية والغضبية، والصلاة سياحة في عالم الملكوت تشع منها انوار المعرفة في البواطن،وتحول دون السقوط في هاوية الرذائل والإنقياد لدواعي الشهوة والتشبه باصناف الحيوان.
ومن اللطف ان الصلاة مفروضة عند عموم الملل والأديان، وهي ملازمة لوجود الإنسان على الأرض، لأنها تطهير للبدن من ادناس مشاغل الدنيا وكدوراتها، وعروج يومي دائم الى حضرة القدس ومصباح يضــيء القلــب بالحكمــة، وهــي تكميل لأرواح الأمة، وطهــارة شخصيـة ونوعية من نجاسات الأخلاق كالحسد والنفاق والجبن.
والصلاة من أهم مضامين واسرار خلق الانسان وفيها تعاهد للوجود الانساني ودوام الحياة على الارض واتصال المعايش ونزول الارزاق، قال تعالى [ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ان الصلاة مصداق عملي لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: “من عرف نفسه فقد عرف ربه”، وهي اعلى مراتب الشرف والرفعة، والمصلي يرى نفسه مخلوقاً لله تعالى وأثراً من آثاره ودليلاً على وجود الصانع وفانياً في محبته ومنجذباً الى حضرته ومنقطعاً في بصره وبصيرته الى مباهج جنته وما أعده لأوليائه، واعتبر اهل العرفان مرتبة المصنوع والمعلول نفس المصلي في سلوكه الى الله تعالى.
وعن سيد العارفين و امير المؤمنين قال: “تجلى للأوهام بها وامتنع بها عنها”.
تفسير قوله تعالى [ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ] وفيه وجوه :
الأول : انه امر الهي بالقيام، والقيام يعني الوقوف وله معاني عديدة اخرى منها اقامة الصلاة، ويقال: قام بالأمر يقوم به قياماً أي تصدى لأدائه.
الثاني : لما جاء صدر الآية بالحث على تعاهد الصلاة جاء ذيلها باقامتها أي تعديل اركانها ومنع حدوث الزيغ في اجزائها او التفريط ببعض آدابها يقال اقامت السوق: اذا انفقت واصبحت نافعة رائجة ومرغوباً فيها.
الثالث : السلوك الجمعي والأداء النوعي للصلاة يؤدي الى الإهتمام الشخصي، فالخطاب بلغة الجمع، [ وَقُومُوا ] اصلاح للأمة وتحريض للفرد وتأديب للناس جميعاً.
الرابع : ورد الخطاب بخصوص الصلاة، وللإمتثال فيه ابعاد متعددة، فهو سلاح يبعث الرعب والفزع في قلوب الأعداء، ويملي على الجميع لزوم احترام واكرام المسلمين.
الخامس : تقييد القيام والأخبار بانه لله عز وجل يدل في مفهومه على النهي عن الرياء والنفاق والخداع وطلب الدنيا في العبادة.
السادس : الواو في [ وَقُومُوا ] تصلح ان تكون عطف بيان أي انه سبحانه تفضــل ببيــان وجــه من وجوه المحافظة على الصلاة وهو القيام لله بخشــوع وخضــوع، وخطاب لدفــع وهـــم وظن بان المحافظة علــى الصــلاة هـو مسمى ادائها وايجادها على نحو صرف الطبيعة، بل لابد من ادائها جامعة للاركان والاجزاء الواجبة والشرائط الشرعية.
السابع : للقنوت معاني لغوية وهي:
الأولى : الخضوع لله واستدل عليه بهذه الآية.
الثانية : الدعاء وهو المفهوم المتعارف عند المتشرعة.
الثالثة : الطاعة وحمل عليه قوله تعالى في مريم [ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ ]( ).
والظاهر ان كلاً من الآيتين تتضمن المعاني الثلاثة.
ذكرت في الآية اقوال:
أولاً : [ قَانِتِينَ ] أي مطيعين، وهو المروي عن ابن عباس والحسن البصري، وفي الحديث: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “كل قنوت في القرآن فهو الطاعة”.
ثانياً : القنوت الدعاء، عن ابن عباس: أي قوموا داعين.
ثالثاً : قانتين- ساكتين- وهو قول ابن مسعود وزيد بن أرقم.
رابعاً : القنوت عبــارة عن الخشوع وخفض الجناح وسكون الاطراف وتــرك الالتفــات خشية منه تعالى، لذا ذكر ان الإمام زين العابدين اذا توضأ اصــفر لونه، فقيل له: ما هذا الذي يغشاك؟ فيقول: أتدري من أتأهب للقيام بين يديه، واذا قام الى الصلاة كأنه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء الا ما حركت الريح منه.
خامساً : القنوت هو القيام، وبه فسر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل أي الصلاة افضل؟ قال: طول القنوت.
سادساً : من مفاهيم القنوت الدوام على الصلاة والصبر عليها.
سابعاً : ليس من تعارض او تناف بين هذه الآية وقوله تعالى [ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ]( ) للإختلاف في الموضوع وجهة الفعل، واشتراك الرجل والمرأة في الخطاب التكليفي، فمن شرائط التعارض وحدة الموضوع وهو منعدم هنا.
بحث إعجازي
لا تعارض بين هذه الأقوال وكل منها يصلح ان يكون مصداقاً للآية الكريمة بل هي اعم من هذه الوجوه وذلك من اسرار القرآن واعجاز كلماته والفاظه، فيجتهد العلماء في تفسير الآية وتتعدد اقوالهم مع الأقرار بالعجز عن الإحاطة بكنه واسرار الآية.
ويمكن استقراء الدليل عليه باستمرار المؤمنين بالسؤال عن معنى الآية وتفسيرها حتى مع تعدد وجوه التفسير والتأويل ونسبتها الى جمع من الصحابة والتابعين، وهذه الحال لا تنحصر دوافعها بالذات الإنسانية فمن قدرته سبحانه وعظيم سلطانه استجابة جميع المخلوقات له وانه تعالى جعل من بين اسباب حفظ القرآن والوحي تطلع أولي الألباب الى المزيد من علوم القرآن ومواصلة المسألة التي تؤدي الى الغوص في اعماق بحار الآيات القرآنية.
وغالباً ما يكون المصطلح القرآني من الكلي المشكك الذي يدل على اعيان متعددة بمعنى واحد مشترك بينها.
وبلحاظ الآية السابقة يمكن اعتبار صلاة الجماعة من مصاديق الآية والتي جاءت بصيغة الجمع، عن الامام الصادق قال: “الصلاة الوسطى الظهر، وقوموا لله قانتين اقبال الرجل على صلاته ومحافظته على وقتها حتى لا يلهيه عنها ولا يشغله شيء”، أي ان ذيل الآية توكيد وبيان لصدرها.
بحث فقهي
القنوت في الاصطلاح دعاء بكيفية خاصة في الصلاة، والنص والاجماع على استحبابه في الفرائض اليومية ونوافلها والنوافل جميعها الا ما خرج بالدليل.
وعن البراء بن عازب ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقنت في صلاة الصبح والمغرب، قال الترمذي وفي الباب عن علي، وانس، وابي هريرة، وابن عباس( )، ورواه احمد ومسلم والنسائي والبخاري، وقال مالك والشافعي باستحباب القنوت في الفجر، وقال احمد واسحاق: لا يقنت في الفجر الا عند نازلة تنزل بالمسلمين، وقد ذكرت بعض الأخبار بعدم القنوت، وان الرسول الأكرم صلى من غير ان يقنت، ولا تعارض بين هذه الأخبار، لأن القنوت مستحب ولأن الجمع مهما أمكن اولى من الطرح، وعلى فرض التعارض فان المثبت مقدم على النافي، واحاديث القنوت اقوى حجة واصح سنداً ودلالة.
وفي خبر الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام: “والقنوت سنة واجبة في الغداة والظهر والعصر والمغرب والعشاء”، ولكن الوجوب هنا يحمل على توكيد الإستحباب بقرينة النصوص الأخرى الدالة على استحبابه، بالإضافة الى ضعف سند الحديث اعلاه، وقد ورد في صحيحة البزنطي عن الرضا عن الباقر عليهما السلام في القنوت: “ان شئت فاقنت، وان شئت فلا تقنت”.
ومن مفاهيم الآية ان الخطاب في الآية موجه الى جميع المكلفين من المسلمين ولا مانع من شموله للناس جميعاً، ولكن الكفار حجبوا عن انفسهم الامتثال.
لقد أبتدأت الآية بصــيغة الامــر النوعي والمحمول على الوجــوب لغة وشرعاً وعرفاً، ولان افراد الصلاة غير ارتباطية وجاءت بلغة الجمع [ الصَّلَوَاتِ] بما يعني التعدد والتوكيد على استدامة الحرص عليها في جميع افراد الزمان وتعددات المكان، عدم التفريط ببعض افرادها، فالامر بالمحافظة يتجدد مع كل صلاة لكل مكلف ويفيد البعث والتحريك لادائها.
ومن مفاهيم الآية انها توكيد على صلاة الجماعة لذا وردت النصوص المستفيضة باستحبابها والحرص عليها وعدم التفريط بما فيها من الثواب العظيم، ان التفصيل في احكام الطلاق في الآيات السابقة والتوكيد على لزوم التقيد بالمعاملات من الحاكم والمحكوم، والرجل والمرأة لم يمنع من اعطاء الاولوية للعبادات، فجاءت هذه الاية للحث على التقيد باداء فريضة الصلاة كما ان مسالة الطلاق قضية شخصية قليلة الحدوث، وعدد قليل من حالات الزواج يحصــل فيها فراق وطلاق، اما العبادات فمنها ما هو فرض عين على كل مكلف ومكلفة واهمها الصلاة.
ومن مفاهيم المعنى السياقي للآيات ان المحافظة على الصلاة سبيل لاصلاح الشأن وسد الخلة، ومنع التشتت والفرقة، لان اتجاه الزوجين الى اداء الفرائض والتقيد بها مناسبة يومية لإصلاح احوالهما وبعث روح المودة بينهما، كما تحول الصلاة دون التعدي والظلم والافتراء بين الزوجين وغصب حقوق الزوجة ايام الزوجية وعند الطلاق في حال حصوله.
فالمحافظة على الصلوات تنشر المحبة والصفاء بين الزوجين وتمنع من ظهور الفتن داخل الاسرة، وعلى فرض حصولها فانها دعوة يومية متجددة للتحلي بالاخلاق الحميدة والمبادرة الى العفو والرضا بالقليل، فالدعاء والقنوت باب هداية وسبب للعفو والتجاوز عن سيئات الاخرين، فمن مفاهيم تعاهد الصلاة اصلاح المجتمعات وتهذيب النفوس ومنع الفرقة والفتنة، والقرآن يفسر بعضه بعضا، قال تعالى[ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ* أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ]( ) ممايعني ان الآية مدح للمسلمين وترغيب لهم بالصلاة ودعوة لتعاهدها وحفظها وانها جزء علة لوارثة الجنة ومناسبة كريمة لتوكيد خلافة المسلمين في الارض وتثبيت احكام السماء فيها.
وصيغة الجمع في الصلاة ولغة الحث والتوكيد السماوي على تعاهدها والمحافظة عليها دعوة للتفقه في الدين ومعرفة اعداد الصلوات واحكامها واركانها كالركوع والواجبات الاخرى غير الركنية كالقراءة.
كما ان المحافظة على الصلوات باب لتعاهد القرآن بقراءة السور والآيات في كل صلاة أي ان المحافظة على الصلاة حفظ للقرآن تنزيلاً وكلمات وحروفاً وقراءة لتكون الصدور اوعية لآياته، وهي مناسبة لتدبر الآيات والبحث عما فيها من العلوم تفسيراً وتاويلاً ومضامين، والمحافظة على الصلاة اصلاح للنفوس وتهذيب للاخلاق وتقويم لأنماط السلوك، وعنوان للأمن والسلام وطرد للكدورات.
ان قوله تعالى [ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ] مقدمة عبادية للوحدة الاسلامية وتتجلى فيه مفاهيم الاتحاد في العمل والاشتراك بالفعل واتيانه على نحو نوعي يتضمن معاني الخشوع والخضوع لله تعالى التي تتغشى عموم المسلمين والمسلمات، والتوكيد على الصلاة الوسطى وعدم تعيينها على نحو الدقة بين الصلوات دعوة سماوية لتعاهد كل صلاة وعدم التفريط باي فرض منها والحرص الزائد عليه لإحتمال انه الصلاة الوسطى، والآية دعوة للتفقه ومعرفة احكام العبادات باعتبار ان الصلاة عمود الدين.
ومن مفاهيم الآية الزجر عن ترك الدعاء والقنوت لله تعالى، والحث على اتخاذ الدعاء سبيلاً للمحافظة على الشعائر، والإعانة على اداء الصلاة على نحو يومي دائم متصل الى يوم القيامة.


قوله تعالى [فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ] الآية 239.
الإعراب واللغة
فان خفتم: الفاء استئنافية، ان: شرطية، خفتم: فعل ماض مع فاعله، والفعل في محل جزم فعل الشرط، فرجالاً: الفاء رابطة لجواب الشرط، رجالاً: حال منصوب بالفتحة.
الخوف: توقع المكروه، والظن بنزول ضرر، او فوات نفع في المستقبل ويصاحبه غم.
الرجال: جمع راجل، وهو الواقف على رجليه في قبال الراكب.
والركبان: جمع راكب وهو الذي يتخذ دابة لركوبه او واسطة نقل بحسب الحال والشأن والزمان، وفي حديث: “مسجد السهلة فيه مناخ الراكب، قيل: وما الراكب؟ فقال: الخضر عليه السلام”.
في سياق الآيات
بعد التوكيد على تعاهد الصلاة والمحافظة على احكامها وآدابها، وبيان موضوعية الدعاء والقنوت، جاءت هذه الآية باستثناء حالات الخوف من اظهار مضامين الصلاة وادائها بشرائطها والإجزاء بالإتيان بها وفق الميسور.
إعجاز الآية
في الآية الكريمة اخبار عن اولوية الحفاظ على المؤمن، وحياته، وماله وعرضه، وتبين الآية ان المحافظة على الصلاة لها حدان احدهما اختياري، والآخر اضطراري وهو الذي تشرعه هذه الآية، ثم اظهرت الحصر لهذا الحكم الإضطراري بحال الخوف من العدو مطلقاً والرجوع الى اداء الصلاة بشرائطها وآدابها عند زوال المانع، أي ان الخــوف ليس مقتضــياً لصلاة الخوف بل هو مانع من اتيان الصلاة كاملة.
الآية سلاح
في الآية تخفيف عن المسلمين في حال الخوف والشدة، كما انها تساهم في خلق ملكة ثابتة عند المسلمين باللجوء الى الحكم الإضطراري عند الضرورة والمشقة الزائدة مع الإخبار عن الإجزاء والإمتثال به، وهي عون وحث على الرجوع الى الإجتهاد في العبادة.
مفهوم الآية
تمنع الآية من ترك الصلاة اليومية باي حال من الأحوال وتوجب اداءها بحسب الإمكان والميسور في اوقاتها، وفيها بالدلالة الإلتزامية اشارة الى الفرج والسعة بعد الضيق، وزوال الخوف باللجوء الى الله والإستعانة بالصلاة فهي مناسبة ليتخلص الإنسان من ضغط وسيطرة الأسباب على خياراته ودعوة كي يلتفت الى الخالق عز وجل والأسباب كلها بيده، وتحدد الآية الركون الى الأداء الإضطراري وزحفه على حال السلم والرخاء وارتفاع الخوف، للتوكيد على اهمية الصلاة الجامعة للشرائط ولزوم التقرب بها.
قد شاع في علم الأصول انه ما من عام الا وقد خص، ولكنك لا تجد هذه القاعدة في النواميس السماوية واحكام الإسلام مما يعني تكامل الشريعة الإسلامية واهلية المسلمين لتعاهدها وحفظها واقامة الشعائر، فهذه الآية تظهر الوجوب العمومي في أداء الصلاة وعدم سقوطها في أحوال خاصة، فالأمر باتيانها في حال الخوف والشدة جاء من باب المثال الأهم وليس الحصر، لما يدل عليه من لزوم اتيانها في حالات المرض والحزن والإبتلاء والإفتتان والإمتحان.
وقوله تعالى [فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا] تخفيف ورحمة واسقاط لشطر من واجبات الصلاة كالركوع والسجود على الأرض وهذا التخفيف توكيد سماوي على لزوم اتيان الصلاة في كل الأحوال، ورفع للحرج ومنع من التشديد على النفس، لأن الحرص على ادائها كاملة في حالات الخوف والقتال يؤدي بالنفس الى التهلكة، و(او) تفيد الترديد مما يعني السعة في التخفيف والتيسير في الأداء بحسب الحال والشأن والأسباب وتشمل ايضاً الإتيان بالصلاة عن جلوس، وعن اضطجاع واثناء الحركة والزحف او الإنسحاب ونحوه من أحكام الضرورة، وتوقع المكروه والحرص على عدم فوات نفع في المستقبل.
وتساعد الآية في طرد الغم سواء بما فيها من مضامين التخفيف أو لأن ذكر الله يبعث الطمأنينة في الصدور، وتبين شطراً من منافع الصلاة في الدنيا والفوائد العاجلة، الا وهو طرد الفزع والجزع وابعاد شبح الخوف مما يجعل المسلم يختار الصواب وما فيه السلامة والنجاة.
ولا ينحصر حكم الآية بالرجال بل يشمل المكلفين جميعاً رجالاً ونساء فالمراد من رجال جمع راجل وتقول هذا رجال: أي راجل، ويقال للمرأة هي رَجُلة – بفتح الراء وضم الجيم – أي راجلة وقال الشاعر:
فان يك قولهم صادقاً فسيقت نسائي اليكم رجالا( )
أي رواجل، كما يمكن حمل الآية على ارادة صلاة المنفرد وعدم التشبث بالجماعة عند وجود الخوف والآية دعوة للإحتراز والحذر واخذ الحائطة لما يتوقع من الأخطار والمهالك، فاذا كانت الصلاة الواجبة يؤتى بها فاقدة لبعض الأركان والأجزاء وهي فرض عين، فمن باب الأولوية ان يترك الإنسان في ساعة الحرج والضيق ما يؤدي الى الضرر او فوات نفع او ازدياد حالة الضرر والخسارة.
وفي قوله تعالى [فَإِذَا أَمِنتُمْ] بيان لعظيم فضله تعالى بالعز للمؤمنين وتهيئة اسباب أداء الصلاة لعشاقها والحريصين على أدائها، واخبار عن حصول الفرج بعد الشدة والسعة بعد الضيق، وان أحكام الضرورة لن تؤثر على ماهية الصلاة وحفظ أجزائها وافعالها فقصر الصلاة في الخوف تثبيت لأحكام الصلاة وتوكيد على الإلتزام بما فيها من الواجبات وعدم التفريط بأي منها.
والآية دعوة للتفقه في الدين ومعرفة افعال الصلاة واركانها وواجباتها ومستحباتها واحكامها العامة، واحكام الضرورة ووجوه التخفيف فيها، فهي تقطع اسباب التشديد علىالنفس بتنمية ملكة التيسير وقبول أحكام التخفيف من غير تردد او شك او اصرار، فصلاة القصر عند اجتماع اسبابها انما هي صلاة كاملة لذا جاءت خاتمة الآية للتذكير بعظيم احسانه تعالى على المسلمين بان وفقهم لمعرفة موارد التخفيف والأخذ به وعدم التشديد على النفس، ومن العلوم التي جاء بها القرآن الصلاة والتخفيف في ادائها اوقات الشدة وعند الضرورة ثم الرجوع الى التقيد بكامل أفعالها عند زوال الخوف والضرورة لتكون دعاء لزوال أسباب الضرورة وحال الإضطرار وسبيلاً لحفظ المسلم واستدامة سعادته وغبطته، ولتكون هذه السعادة فرعاً لأداء الصلاة، ومدخلاً لتعاهدها وعدم التفريط بها.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ فَإِنْ خِفْتُمْ ] وفيه وجوه :
الأول : الآية لطف ونفي للحرج لما تتضمنه من رخصة في كيفية اداء الصلاة في حال الخوف والفزع، وهذه الرخصة تدل على اهمية اداء الصلاة بجميع شرائطها وآدابها.
الثاني : جاءت الآية بصيغة الجمع وتفيد الخوف الشخصي والنوعي فتشمل حالات الحرب والكوارث.
الثالث : لم تحدد الآية مدى الخوف الذي يجوز معه الإنتقال الى الصلاة الإضــطراريـة بل تركته للمسلمين والمكلفين عامة رحمة منه تعالى.
الرابع : اكدت الآية بالدلالة التضمنية على ان الصلاة لا تترك بحال فلابد من ادائها حتى في اشق الأحوال والأخطار، وهذا من إعجاز القرآن فمع ان الآية تخفيف وتيسير في اهم مصاديق الطاعة فانها تؤكد على لزوم تعاهد الصلاة.
الخامس : الآية تفسير وتوكيد للآية السابقة بخصوص حالات الشدة والخوف، وفيها تبيان لكيفية المحافظة على الصلاة في حالات توقع المكروه وانعدام الأمن بلحاظ الأداء الإضطراري، وهذا من اعجــاز القــرآن اذ يكون الإسـتثناء بياناً وتثبيتاً للمستثنى منه.
السادس : ورد الإستثناء في الآية بصيغة الشرط [ إِنْ خِفْتُمْ ] مما يدل على ان الأصل هو اداء الصلاة بتمام شرائطها وآدابها وحدودها وان الخوف وتوقع الأذى والبلاء مانع من ادائها على نحو التمام والكمال، فلابد ان يكون المنع مرهوناً باوانه ويزول حال انتفاء اسبابه.
السابع : من التخفيف في الآية الكريمة سقوط الإعادة والقضاء لصلاة الخوف وان جيء بها ناقصة، فالرخصة الإلهية يكون فيها البدل مجزياً عن الأصل لأنه سبحانه اذا اعطى اعطى بالأوفى والأتم، ولأن الغرض حفظ المسلم، فاذا كانت في البين اعادة او قضاء فربما فضل المكلف ترك الرخصة والإستهانة بالخطر المتوقع، سواء لإجتنابه الإعادة او لأن الإعادة والقضاء يدل بالدلالة الإلتزامية على عدم اجزاء صلاة الخــوف، وقد يكــون في تفضيله لترك الرخصة هلاكه واصابته بالضرر، فجاء التخفيف مطلقاً.
الثامن : في باب حــد المرض الذي يــفطــر فيه الصــائم في قــوله تعــالى [ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ]( ) ورد عن الإمام الصادق انه قال: “هو مؤتمن عليه مفوض اليه، فان وجد ضعفاً فليفطر وان وجد قوة فليصم كان المريض على ما كان”، والظاهر انطباق هذه القاعدة على الخوف الوارد في هذه الآية من جهة حصول الظن المعتبر به، فالمكلف هو الذي يرى الإنتقال الى الرخصة وفي مثل هذه الحالات يكفي مسمى الخوف وتوقع المكروه لقاعدة نفي الحرج وقاعدة لا ضرر ولا ضرار، وللإنتفاع الأمثل من رخصه تعالى واعتبار الظن واولوية حفظ المؤمن، ولغة الجمع تدل على كفاية حصر الخوف عند البعض من الجماعة.
التاسع : تدل الآية على اكرام المسلمين ومناسبة الأحكام والتشريع لحفظهم نوعاً واشخاصاً، وتمنع من التشديد على النفس.
العاشر : القنوت الوارد في الآية اعم من ان ينحصر بكيفية وهيئة معينة فهو عنوان العشق والإنجذاب الى المعبود، واظهار للإيمان بالحواس والأركان، كما انه يشمل حالات الإنسان المختلفة وليس وقت اداء الصلاة وحده، فالآية من آيات الاخلاص.
الحادي عشر : تبين الآية اولوية حفظ النفس والدين والمال والعرض والعقل، وتحـث على عدم جعــل الصلاة والعبــادة ســبباً للأذى الطــارئ.
تفسير قوله تعالى [ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ] ويحتمل وجوهاً :
أولاً : الآية بيان لكيفية اداء الصلاة في حال الخوف والغم.
ثانياً : لا تشمل الآية موارد الحزن الذي هو غم يلحق الإنسان بسبب فوات نفع او حدوث ضرر ووقوعه، فبين الخوف والحزن عموم وخصوص من وجه، مادة الإلتقاء هي الغم الذي يصيب النفس، والعنوان الإجمالي للضرر، ومادة الإفتراق ان الخوف يتعلق بالضرر المحتمل في المستقبل، والحزن بالمصيبة التي نزلت، وموضوع الآية ينحصر بالخوف من ضرر محتمل.
ثالثاً : هل الصلاة [ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ] في حال توقع المكروه عزيمة او رخصة؟ بمعنى هل هي امر حتم وقطع لا يجوز تركه ام هي تسهيل ورفع للتشديد يجوز تركه، الأقوى ان الأمر عزيمة في حالات شدة الخطر وظهور امارات الخسارة والضرر فلو دار الأمر في حال الخوف والفزع بين صلاة الخوف او الصلاة الإعتيادية التي يحتمل معها حصول الضرر، تجب الأولى.
رابعاً : الخوف الوارد في الإستثناء في الآية ليس مطلقاً فقد لا يؤثر اداء الصلاة بشرائطها في احتمال حصول اسبابه ووقوع الضرر، فاذا تعلق الخوف بامر يحصل في المستقبل ولكنه خارج أوان الصلاة وادائها فلا يشمله الإستثناء، كما لو تأكد المسلمون من حصول مواجهة مع العدو، ولكنهم كانوا قاطعين بعدم وقوعها في ذلك اليوم فلا يشمله الشرط والإستثناء الوارد في الآية.
خامساً : جاء الخوف في الآية على نحو الإطلاق من غير تقييد بقتال ونحوه فيشمل الخشية من السبع او اللص، او ظن حصول الغرق والهلاك عطشاً ونحوه.
سادساً : عطف الركوب على الوقوف تخفيف ومندوحة في الحكم الإضطراري ورفع اضافي للحرج، فقد يتحرج المؤمن من الصلاة على الراحلة وفي السيارة والطائرة ويظن ان الركوب بذاته مناف للخشوع والخضوع الذين يجب ان يتغشى جميع افعال الصلاة، فجاءت الآية لتنفي هذا الظن وتؤكد قبول الصلاة عن ركوب واجزائها مع ملاحظة القيود الخاصة في المقام والواردة في السنة الشريفة وبحسب القواعد الفقهية.
سابعاً : جاءت الآية بصيغة الجمع كما ان العطف يفيد الإتحاد في الحال وتعدده، فقد يؤدي المسلمون صلاتهم مع الخوف في وقت واحد وبعضهم يترجل والآخر راكب، وقد يؤديها الجميع عن وقوف او عن ركوب.
ثامناً : تنقسم هيئة المصلي اثناء الصلاة الإختيارية الى حالات القيام والركوع والســجود، وتــقدم في الآية الســابقة قــوله تعالى [ وَقُومُوا لِلَّهِ ] اما هذه الآية فجاءت بلفظ [ رِجَالاً ] أي الذين ليس لهم ظهور ورواحل يركبونها، سواء كان سيرهم في قتالهم او مطلقاً فهي اعم والمدار على الخوف وتشمل اداء الصلاة جماعة باسقاط بعض الركعات.
وقال الزبرقان:
آليت لله حجاً حافياً رجلاً

ان جاوز النخل يمشي وهو مندفع

بحث فقهي
صلاة المطاردة
وتسمى صلاة المراماة والمسابقة، أي التضارب بالسيف وصلاة شدة الخوف، ويصلي بكل وجه امكن واقفاً او ماشياً او راكباً، ويبدل كل ما لا يقدر عليه جزءاً او شرطاً بالإبدال الإضطرارية ومع عدم التمكن منها يصلي بالتسبيح ويسقط الركوع والسجود، ويقول بدل كل ركعة “سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر”وفيها وجوهاً :
الأولى : اذا شرع في صلاة اضطرارية وفي الإثناء تمكن من الإختيارية بمرتبة اقل اضطراراً اتم صلاته بما امكن وكذا العكس، ولا يستأنف ما اتى به من الصلاة.
الثانية : اذا رأى سواداً ونحوه فظنه عدواً وخاف فصلى قصراً، ثم بان الخلاف صحت صلاته ولا شيء عليه.
الثالثة : جميع اسباب الخوف يشرع معها القصر والإنتقال الى المراتب الممكنة من الإيماء والتسبيح وغيرها.
الرابعة : اذا توقـع زوال الخوف فالأحوط تأخير الصلاة الى زوال العذر، الا ان يخشــى المــوت فله حينئذ ان يؤديها باية كيفية في اول الوقت.
بحث تأريـخي
ظاهر الآية الإذن بصلاة الجماعة في حال الخوف مع امكانه به كما في قوله تعالى [ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ ]( ).
وقال ابو يوسف: ان صلاة الخوف هذه مختصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو قول مخالف لإجماع علماء المسلمين والأخبار واصالة الإطلاق في الحكم وفقد الدليل على التخصيص، لا سيما وان تشريع صلاة الخوف رحمة وتخفيف فلا دليل على انحصار كيفية اداء صلاة الخوف جماعة بحضوره صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تصل النوبة الى قاعدة اياك اعني واسمعي يا جارة التي نزل بها القرآن، فخطاب الآية يفيد العموم، وان استدل بقوله تعالى [وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ]( ) على شرطية حضور النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار ان المفهوم فاذا لم تكن فيهم فلا صلاة، وهو بعيد وخلاف الظاهر.
وقال المزني ان الآية منسوخة بتأخير النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق اربع صلوات اشتغالاً بالقتال ولم يصل صلاة الخوف، ولكن العكس هو الصحيح فالآية هي الناسخة والظاهر ان نزولها بعد الخندق، كما ان التأخير يوم الخندق لوجود المانع وهو القتال وليس المقتضي.
ومن الفقهاء من قصر صلاة الخوف على السفر واستدل بقوله تعالى [ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ ] ( ) ولكن الآية محل البحث تفيد الإطلاق في الحضر والسفر والكيفية ايضاً، وبه قال الشيخ والسيد المرتضى وجماعة، وذكر السفر لأن الخوف يحصل فيه غالباً.
ولقد أخّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة يوم الخندق بسبب الإنشغال بالقتال ودفع المشركين، وقيل انه صلى الله عليه وآله وسلم اخر اربع صلوات يومها ثم قضاها فيما بعد، ونسب الطبرسي الى القيل ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى يوم الأحزاب ايماء( )، ولم يثبت.
وقوله تعالى [ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ] ليست نسخاً للجماعة حينها، بل تخفيفاً ونفياً للحرج، وللجمع بين اداء الصلاة والجهاد في سبيله تعالى او بلوغ الغايات المستحبة او المباحة والنجاة والسلامة.
فهذه الآية رحمة متجددة للمسلمين في كل زمان واوان ومصاحبة لهم عند الحاجة في حال الخــوف والفــزع وان كانوا جمــاعة وفي الحضر.
وهي في موضوعها معطوفة على الآية السابقة، ولا تدل على شمول الإستثناء والاسقاط للقيام في حال الخوف سواء بمعناه اللغوي او الإصطلاحي، فالعامل في الجملة محذوف وتقديره يحتمل على وجوه:
أولاً : فصلوا رجالاً او ركباناً.
ثانياً : فحافظوا عليها رجالاً.
ثالثاً : وقد يراد منه: وقوموا لله قانتين فان خفتم فرجالاً وركباناً قانتين.
ويمكن تقريب هذا المعنى بان الأداء الإضطراري مطلق أي بغض النظر عن اسبابه وكيفيته، ويصدق عليه هو الآخر انه محافظة وتعاهد للصلاة فيحصل التغاير في الهيئة والكيفية، وتكون النسبة بين الأداء الإختياري والإضطراري للصلاة عموماً وخصوصاً من وجه، فمادة الإلتقاء المحافظة عليها والقنوت، ومادة الإفتراق ان الإختيارية تكون عن قيام، والإضطرارية عن ترجل او في حال الركوب، فالمحافظة على الصلاة تصدق على حال صلاة الخوف والمطاردة، وكذا القنوت خصوصاً مع المعنى اللغوي للقنوت واصله وهو الطاعة والخضوع وذكر العبد لله عز وجل في حالات الخوف وعدم نسيانه عندها من احسن مصاديق القنوت واللجوء اليه سبحانه.
وقد ثبت عند علماء المسلمين عدة اخبار لصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال الخوف ويدل تعددها على التخفيف والإجزاء بأدنى كيفية لصرف الطبيعة مما يتضمن الركوع والسجدتين مع امكانهما، واختار مالك والشافعي وأحمد ما ورد في حديث سهل بن ابي حثمة انه قال في صلاة الخوف، قال: “يقوم الامام مستقبل القبلة، وتقوم طائفة منهم معه، وطائفة من قبل العدو، ووجوههم الى العدو، فيركع بهم ركعة، ويركعون لانفسهم، وبسجدون لانفسهم سجدتين في مكانهم، ثم يذهبون الى مقام اولئك، ويجيء اولئك فيركع بهم ركعة وبسجد بهم سجدتين، فهي له ثنتان ولهم واحدة، ثم يركعون وبسجدون سجدتين”( ).
بمعنى ان كلاً من الإمام والمسلمين معه يصلون ركعتين الا انهم لا يدركون من الجماعة معه الا ركعة واحدة، والركعة الأخرى يصلونها على انفراد لصدق احراز الجماعة على من يدرك منها ركعة واحدة، ولقاعدة نفي الحرج وقاعدة لا ضرر ولا ضرار وتقديم الأهم.
في صحيحة عبد الرحمن قال: “سألت ابا عبد الله عن قول الله عز وجل [ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ] كيف يصلي؟ وما يقول اذا خاف من ســبع او لص كيف يصــلي؟ قال: يكبر ويؤمــئ ايماء رأسه”.
وفي خبر زرارة عن الباقر قلت له: اخبرني عن صلاة المواقفة؟ فقال فاذا لم يكن النصف من عدوك صليت ايماء راجلاً كنت او راكباً فان الله يقول [ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ] تقول في الركوع لك ركعت وانت ربي، وفي السجود لك سجدت وانت ربي اينما توجهت بك دابتك انك توجه حين تكبر أول تكبيرة( ).
تفسير قوله تعالى [ فَإِذَا أَمِنتُمْ ] وفيه وجوه :
الأول : أي اذا زال الخوف والمانع من اداء الصلاة الإختيارية عن قيام وفي حال الإستقرار.
الثاني : بيان واخبار عن حكم الضرورات وانها تقدر بقدرها فعندما تنتهي حالة الضرورة واللجوء الى الحكم الإضطراري يجب ان يرجع الإمتثال الى الصلاة الإختيارية باعتبارها احسن وافضل العبادات وسبل القربة الى الله تعالى.
الثالث : الآيــة بشــارة الأمن والنصر والظفر، فصحيح ان ظــاهر الآيــة متعلق بالوقائع والأحداث الا انه لا يمنع من اســتقراء بشـارة استقرار اركان الإسلام ودولته، فبعد الخوف وحصول المعارك والقتال يكون الأمن والسعادة وتثبيت دعائم الدين واحكام الشريعة.
الرابع : التخفيف في الصلاة أوان الخوف نوع مواساة سماوية، وحرز قرآني، ودعوة الى التحلي بالصبر، وانتظار الفرج، والنصر الذي يدل عليه بالدلالة الإلتزامية قوله تعالى [ فَإِذَا أَمِنتُمْ ].
الخامس : ان الأمان والسلام والإستقرار مع بقاء التلبس بالعقيدة واقامة الشعائر هو النتيجة والنهاية.
السادس : ان التمسك باداء الصلاة في ساعات الخوف والقتال والمطاردة والأهوال الشخصية والنوعية سبب لنزول الرحمة وانكشاف الغمة لأنه دليل على الإنجذاب للمحبوب والتقيد بالأوامر والنواهي واجتناب التفريط او الإفراط.
تفسير قوله تعالى [ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ]
في الآية وجوه :
الأول : فصلوا الصلاة الإختيارية وامتثلوا للخطاب التكليفي في حال الأمن وانتفاء توقع المكروه.
الثاني : ذكر الله حسن على كل حال، ولكنه هنا للتوكيد والتذكير والحث على عدم الغفلة.
الثالث : ذكره تعالى نوع شكر له سبحانه على نعمة الأمن وهي من اعظم النعم التي يحتاجها الإنسان في كل زمان ومكان.
الرابع : الإلتجاء الى ذكره تعالى باب لصرف العدو ورفع البلاء.
الخامس : الآية قاعدة كلية تدل على الملازمة بين الأمن وبين الذكر واتيان العبادات على اتم وجه.
السادس : الذكر عنوان جامع للثناء والحمد والشكر له تعالى وان كان مورده هنا الصلاة والعبادة الإختيارية.
السابع : تحول الآية دون الإنغماس التام في الدنيا وغلبة النفس الشهوية وليقتدي المسلمون بالأنبياء في الزهد في الدنيا.
الثامن : للآية مقاصد اخلاقية وفيها تهذيب للنفوس، واصلاح للمجتمعات، وابتعاد عن الرذائل وذميم الأخلاق، اذ ان الذكر حرز وحصانة وله تأثير على الجوارح لما يبعثه من معاني الإستقامة والنفرة من القبيح.
تفسير قوله تعالى [ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ] ويحتمل وجوهاً :
أولاً : من اعجاز القرآن ان المدركات العقلية تتجلى فيه بمحسوسات ومصاديق خارجية، والمراد من التشبيه هنا التطبيق العملي للأوامر الإلهية بالعبادة مطلقاً والصلاة الإختيارية خاصة.
ثانياً : الآية حجة على الناس [ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ]( ) فانها تؤكـد أن الله عز وجل قد بين للناس وظائفهم العقائدية وما يجب عليهم القيام به.
ثالثاً : تدل الآية على موضوعية الذكر واهمية الصلاة في الحياة اليومية للأفراد والمجتمعات فهو سبحانه منزه عن القبيح فما علمنا من الذكر لابد ان يترجــل في الخارج بالأفعال وعلى اللسان والجوانح.
رابعاً : ان المواظبة على العبادات أمر يعود نفعه الى العباد، فامره تعالى بالذكر في هذه الآية رحمة وفضل وتنبيه للعباد فيما يجب عليهم اداؤه.
خامساً : الآية بيان لفضله تعالى في نقض الجهل بالمعرفة والعلم، ورفع الغفلة عن الناس باحكام الإسلام، وفيها دلالة بان الصلاة والذكر مطلقاً علم وكمال لأنه يدل على معرفة العبد بربه وكيفية التقرب اليه واجتناب معصيته.
بحث تأريـخي
لغة الجمع في الخطاب [ تَكُونُوا ] هل المراد منها العرب ايام التنزيل لأنهم كانوا على عبادة الأوثان، ام انها موجهة ومستغرقة لجميع المسلمين في كل زمان ومكان، الأصل هو الأخير وعموم الخطاب الا ان يرد دليل خاص يفيد الحصر وهو معدوم في المقام، وبالإسلام وقف زحف الجهل والأوثان وانتفعت عموم الأمم من احكام الشريعة الإسلامية بما في ذلك اولئك الذين لم يدخلوا في الإسلام، فقد اقتبسوا من احكامه في انظمتهم وقوانينهم.
فاثر الإسلام وآيات القرآن يجب ان لا ينحصر النظر لها باوان النزول وموضعه أي ايام النبوة وخصوص الجزيرة العربية، بل هو اعم ومستديم ويشمل جميع اهل الأرض وفي كل زمان، فان وكما كان الإسلام ناقضاً للجهل وطارداً للغفلة فانه وبناء عقائدياً ازاح اوهام الضلالة عن اذهان المسلمين وهذب نفوسهم واصلح احوالهم، فانه وحال دون تردي الكثير من الأمم في الضلالة والجهل خصوصاً وان اكثر الدول والكيانات السياسية والإجتماعية لم ترتكز على قواعد عقائدية سليمة ومعارف سليمة ولا تجـمـعها اسس سليمة قيم واضحة ومقبولة فكانت مهددة بالتشتت، لقد جمع الإسلام الناس على الدين والعقيدة وان تفرقوا الى دول وجماعات لأن الجامع بينها موجود والكل متسالم على امرين:
الأول: الإلتقاء في ذكره تعالى ولزوم اداء الواجبات والفرائض ومن الإعجاز دعوة العبادات الى الوحدة بلحاظ وقت ادائها كما في الصلاة والصيام بل ان الحج موضوع ودعوة مكانية وزمانية للوحدة الإسلامية.
الثاني: اعتبار الإسلام هو الأهم من مجموع الأسباب التي تتحكم في صلاتهم ايجاباً وسلباً، أي ان العوامل التي تؤدي الى الفرقة والخصومة والشقاق لا ترقى من حيث الاعتبار وقوة التأثير السلبي والضرر الى معارضة تأثير الإسلام الإيجابي وفي سبل النفع والصلاح، بالإضافة الى اتصاف تأثير الشريعة بالدوام والإستدامة والبقاء، والأمور المضادة والضارة تكون عرضية مرهونة باسبابها الطارئة.
ففي الذكر المأمور به في هذه الآية وحدة للمسلمين واستثمار لحال الرخاء والسعة للتفكر التفكر والتدبر في الأداء النوعي العام لصيغ الذكر والعبادة مع تجلي مضامين الشكر.



قوله تعالى [وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْـرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِــهِنَّ مِنْ مَعْـرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] الآية 240.
الإعراب واللغة
وصية: مفعول مطلق، لفعل محذوف أي يوصون وصية، والجملة الفعلية خبر الذين، لأزواجهم: جار ومجرور في محل صفة لوصية.
متاعاً: بدل من وصية، وذكرت فيه اقوال اخرى منها انه حال او منصوب بفعل محذوف أي يمتعوهن متاعاً.
فان خرجن: الفاء استئنافية، ان: شرطية، خرجن: فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط.
فلا جناح عليكم: الفاء: رابطة لجواب الشرط، الجملة في محل جزم جواب الشرط.
في سياق الآيات
بعد التوكيد على وجوب الصلاة في الحضر والسفر والسعة والضيق، والسلم والحرب، جاءت هذه الاية وما بعدها لتشريع النفقة على الزوجة لتتجلى الملازمة بين الأحكام التكليفية والتشريعية وما بينهما من التداخل في بعض الموضوعات كالزواج، ويظهر سياق الآيات الحرص على تهيئة مقدمات تعاهد الصلاة، وتوفير الأسباب الشخصية للمرأة في المواظبة على العبادات وعدم غبنها، وان الإسلام لا يفصل بين المفاهيم الأخلاقية وسنن العبادات.

إعجاز الآية
تتناول الآية حالة اجتماعية ومعاشية واخلاقية تتضمن المتناقض والمتباين من انماط السلوك وحالات الكرم والشح، والسعة والضيق، والسعادة والشقاوة والحالات النفسية داخل الأسرة، خصوصاً وان وفاة الزوج تحدث حالة من الفراغ، وقد تكون باباً للفتنة والخلاف واذى الزوجة واستضعافها او الشعور بالمنة والإحسان والتطوع في الانفاق عليها، فجاءت الآية لبيان التشريع وعلى نحو الدقة والتفصيل وتثبيت حق المرأة في السكنى والمؤونة اليومية لمدة مخصوصة.
وفي الآية اكرام للمرأة وعز لها ودفع للغبن عنها ومواساة قرآنية كريمة، وفيها منع للفتنة والخصومة كما تتضمن الإستثناء وعدم التشديد والحصر بحال الوصية او الارث، وترك الخيار للمرأة فيما يناسبها فالوصية بالنسبة لأولياء الميت عزيمة، اما بالنسبة للزوجة ففيها رخصة وسعة لها، أي عليهم القيام بحاجات الزوجة لمدة عام واحد،وان ارادت الخروج وعدم المكث في بيت الزوجية تلك المدة فالخيار لها اذا كان الخروج لا يتعارض مع احكام القرآن والسنة، فالآية مصداق من مصاديق ادلة التسامح في الشريعة، وفيها منع لتسرب اليأس الى النفس.
الآية سلاح
تعتبر الآية نظاماً اجتماعياً متكاملاً في فترة عصبية تمر بها العائلة لما لها من الإبتلاءات الخاصة بها، وموضوعاً للإصلاح والوفاق وتدارك آثار المصيبة وفقد الزوج، وتبعث الآية السكينة في النفس حال المصيبة وفي الأيام التي تليها مما يساهم في التوجه الى العبادات ومقاومة الشيطان واغواء النفس الشهوية، وهي في مفهومها منع من التعدي او التفريط او الإقدام على ما يخالف احكام الشريعة.

مفهوم الآية
في الآية نهي عن تضييع العيال، وغبن الزوجة وجعلها مشردة بعد وفاة زوجها، وتمنع من استضعاف الآخرين لها وايذاء الزوج بعد وفاته بمعاناة زوجته، فيخرج بالتخصص قدر معين من التركة للإنفاق على الزوجة حرصاً عليها وحفظاً اخلاقياً لسمعة الزوج وعدم هتكه بفقر وعوز زوجته.
وفي الآية اسـتحضار للموت وانه قريب من كل انسان، ودعوة للزوج للإهتمام بنفسه والاعداد لآخرته بالأولوية، كما تأمر الآية بالوصية للإنفاق على الزوجة، فكذا على الرجل ان يعتني بنفسه باجتناب ظلم الزوجة والإجحاف بها وحجب حقها، وعليه ان يستعد لآخرته بحسن الزاد من العمل الصالح واتيان العبادات والإنفاق في سبيل الله قال تعالى [ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
وتتجلى في الآية المفاهيم القانونية والانظمة التشريعية في باب المعاملات والصلات الزوجية، وتبين كيف ان احكام القرآن تنفذ الى أخص المعاملات واقلها حدوثاً، ولم تترك الارملة( ) سدى او تبعاً للعرف والشأن والعاطفة والسجايا السائدة، وحال المواساة وما يترشح عنها من العطف والاحسان، بل جاءت الآية ببيان حقها وافرادها بجزء مخصوص من التركة للانفاق عليها واكرامها، أي ان القرآن يكرم المرأة ويأمر باكرامها، وهذا الاكرام ليس على نحو الندب والاستحباب بل جاء بصيغة الأمر والبعث والتحريك الاكيد والمنع من الاضرار بها في اشد احوالها بؤساً وحرجاً.
فيمكن تسمية هذه الآية بآية (المواساة) وهي من مفاخر المبادئ الاجتماعية في الاسلام، وتتضمن الرد المتقدم زماناً على اولئك الذين يحاولون النيل من احكامه بخصوص المرأة.
ولم تجعل الآية ثمة ملازمة بين متاع المرأة وبقائها في بيت الزوجية بل ترك الخيار في الخروج لها، ولم تشرك فيه احداً غيرها، مما يعني استقلالها في القرار ضمن اسباب الاكرام والاحترام، وجاء القيد (بالمعروف) تأديباً واصلاحاً وارشاداً واعانة لها وللاخرين.
التفسير
تفسير قوله تعالى [وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ ]
أمر إلهي جاء بصيغة الخبر، ويتضمن الإعجاز البلاغي والتشريعي من وجوه:
أولاً : ما فيه من لغة الخطاب وانحلاله الى فرعين:
الأول: خطاب نوعي متوجه الى المسلمين على نحوالعموم المجموعي.
الثاني: شخصي موجه الى كل مسلم وهو ينقسم الى قسمين:
الأول يتعلق بالذي دنت منه المنية .
الثاني يشمل كل مسلم على نحو العموم الإفرادي باعتبار ان شبح الموت قريب من كل انسان.
ثانياً : تنبيه المسلمين بلزوم معالجة حال ما بعد الموت بالنسبة للزوجة التي يخلفها الزوج من بعده وما يتعلق بالإنفاق عليها وسكنها من شؤون المؤونة، وهذا لا يتعارض مع الإستعداد لما بعد الموت بالنسبة للنفس في العمل الصالح واداء الفرائض بل ان مفهوم الآية يدل عليه بالأولوية.
ثالثاً : صحيح ان موضوع الآية خاص الا انها عامة فيما يخص الوصية، وقد جاءت النصوص باستحباب كتابة الوصية، وفي حديث سعد بن مالك قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانا مريض فقال: “أوصيت”؟
قلت: نعم، قال: “بكم”؟
قلت: بمالي كله في سبيل الله، قال: “فما تركت لولدك”؟ قلت: هم اغنياء بخير، قال: “اوص بالعشر”، فما زلت اناقصه حتى قال: “اوص بالثلث والثلث كثير”( )، ولا ينحصر الحث على الوصية بحال المرض واقتراب الأجل بل هو مطلق لاحتمال طرو الموث في أي وقت، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: “ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه، الا ووصيته مكتوبة عنده”.
قد تقدم قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ] ( ) وفيه تقييد للوصية بترك المال والخير والزيادة، اما هذه الآية فجاءت مطلقة من غير تقييد مما يدل على اهمية الوصية للزوجــة وهي ليست من العقود ولا تحتاج الى القبول، نعم للزوجة ان تخرج من بيتها بالمعروف ولا تنتفع من الوصية كلاً او جزءً.
رابعاً : هذه الوصية لا تتنافى مع حق الزوجــة في الميراث ولا تكون جزء منه.
خامساً : المعروف ان التركة تكون بعد الوفاة ملكاً للورثة فلا ملك الا وله مالك، ولكن هذه الآية تخرج بالتخصيص مقدار الوصية للزوجة كما يحق للإنسان ان يوصي بالثلث من ماله، ولكن الثلث لا يخرج الا بعد الوصية ومع عدمها يكون من التركة العامة التي تقسم بين الورثة بحسب السهام والحصص، اما الوصية للزوجة فالظاهر انها واجب وان لم يوصِ بها.
سادساً : تتعلق الوصية بنفقة وكسوة وسكنى الزوجة لمدة سنة كاملة من حين الوفاة.
سابعاً : مجيء الخطاب للمسلمين كافة له دلالات منها ان مضامين هذه الوصية واجبة على الأحياء من الورثة والأولياء والحاكم الشرعي، لأنها تشريع وتأسيس لحكم مستديم الى يوم القيامة، لذا ترى الإعجاز في لغة الآية وعمومها وعدم حصر الخطاب فيها بالزوج وان تعلقت احكامها به، ولكن هذا لا يمنع من اولويته في الخطاب ومقاصد الآية اذ ان وصيته تمنع من الإجتهاد وحصول التشديد والتضييق على الزوجة ومن مطالبتها بالزيادة والفضل والسعة وما يلحق الضرر بالورثة الآخرين.
ثامناً : تدعو الآية المسلم الذي يقارب الوفاة ويدنو منه اجله الى تدبر حال ورثته من بعده، فحال الزوجة جاء من باب الفرد الأهم وليس الحصر والتخصيص، فيجوز ان يوصي الإنسان بالخمس او الثمن او العشر وليس الثلث، خصوصاً اذا كان عنده ورثة صغار.
تاسعاً : الخطاب اعجاز قرآني، فبما ان الفرد الذي هو موضوع هذه الآية متوفى، والحكم في الآية يحمل صفة الوجوب، جاءت مضامين الخطاب منبسطة على جميع المسلمين، وفيها نوع مسؤولية جماعية ونوعية سواء على الحسبة او الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا لا يتعارض مع ارادة الذي قارب الوفاة لأنه الأصل في توجه الخطاب وكأنه تعليقي أي انه موجه للأحياء فيما يتعلق بشؤون الورثة.
ونسب الى جمهور المفسرين القول ان هذه الآية منسوخة وان الحكم في ابتداء الإسلام، وان المرأة لا تنال من ميراث الزوج شيئاً، الا النفقة والسكنى سنة، وعليها ان تصبر عن الزواج لسنة كاملة، واذا خرجت من بيت الزوجية سقطت نفقتها.
وقال الرازي (واما وجوب العدة في الحول فهو منسوخ بقوله [يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا] فهذا القول هو الذي اتفق عليه اكثر المتقدمين والمتأخرين من المفسرين)( ).
والظاهر انه ليس من تشريع اسلامي يقتضي الحكم بالعدة لمدة سنة كاملة، نعم ورد في خبر ابي بصير عن الإمام الباقر قال: سألته عن قوله: متاعاً الى الحول غير اخراج قال: منسوخة نسختها [يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ] ونسختها آية الميراث.
وفي خبر آخر قال: “منسوخة قلت: وكيف كانت؟ قال: كان الرجل اذا مات انفق على امرأته من صلب المال حولاً ثم اخرجت بلا ميراث ثم نسختها آية الربع والثمن فالمرأة ينفق عليها من نصيبها” والقدر المتيقن من النسخ ما تعلق بالنفقة في مدتها وجهة الإنفاق ولا تعارض بينهما، اذ لا ملازمة بين وجوب النفقة والسكنى وبين العدة فتكون مدة العدة وهي اربعة اشهر وعشرة ايام في طول السكنى والإقامة في بيت الزوجية، ومن اعجاز الآية انها ناظرة الى ازمات السكن القديمة والحديثة في هذا الزمان والآفات الإجتماعية التي قد تتولد من خروج الزوجة من بيت الزوجية قبل الأوان.
بحث إجتماعي
لقد انعم الله عز وجل على بني آدم بنعمة الزواج وما فيه من اسباب الود والرحمة بين الزوجين بالإضافة الى صلات النسب والحسب المتولدة عنه وهو الوسيلة لحفظ النسل والأعقاب، وكما ان الزواج لم ينحصر بملة دون أخرى او امة دون الأمم، فان الآثار المترتبة عليه متقاربة وان تباعدت الأزمنة وتباينت الأمم والملل، ومنها فقد الزوج وما يقع على الزوجة بسببه من البلاء الذي قد يتسع وقد يضيق، وانفرد الإسلام بايجاد العلاج المؤقت للتدارك وما يكون مناسبة لتلقي المصيبة والتقليل من اضرارها الشخصية على الزوجة.
فمن الإعجاز ان الإسلام لم يترك المرأة وهي باشد الأحوال قساوة وفي ساعة انفرادها وهجوم اسباب القسوة والوحشة، فضمن لها القرآن السكن والنفقة مدة سنة كاملة لتبقى ترفل بعز الإسلام، وبلحاظ تعدد الزوجات فان المسألة ليست قضية شخصية وتدل في مفهــومها على اتساع الإبتلاء واحتمال حصول الإفتتان بمصيبة فقد الزوج، وكأن احكام الآية حاجة اجتماعية واخلاقية بل وجهادية ايضاً اذ ان احساس المرأة بمستقبل مظلم بفقد الزوج يجعلها تلح عليه باجتناب الخروج في الغزو والجهاد وفي سبيل الله وهذا الإلحاح لا ينحصر بالقول فربما ترجل بالفعل والمقدمة غير المناسبة، فجاءت الآية لتكون عوناً للمؤمنين واسرهم على الجهاد في سبيله تعالى.
كما ان كثرة الشهداء من المسلمين تجعل موضوع الزوجات ممن يتركون من خلفهم لا يخلو من اضــرار عامة ان لم تكن له قواعــد واسس للتدارك وتخفيف وطأة المصيبة وما يحــدثه فقد الــزوج من الفراغ، ويترشح عن محبة الزوج لزوجته وغيرته عليها التفكير والإهتمام بشأنها فيما بعد وفاته، فجاءت الآية لتتكفل جانباً منها، وفي الآية امر الهي موجــه لما بعد مــوت الأزواج، وتــدل الآية بالدلالــة الإلتزامية على وجوب قيام الزوج بالإنفــاق على الزوجــة وتأمين سـكنها وانصافها واكرامها، وربما كانت احد اسباب تخفيف المهر ووطأته على الزوج.
والحول هو السنة سمي حولاً باعتبار دوران ايام السنة، وهناك فرق بين السنة والعام، فالسنة هي من يوم الى مثله من السنة التالية سواء بدأت من اول او منتصف او آخر الصيف او الشتاء او أي فصل من السنة.
اما العام فلابد من احتوائه لشتاء وصيف كاملين فبين السنة والعام عموم وخصوص مطلق، فكل عام هو سنة وليس كل سنة هي عام، والحول اسم جامع لهما فقد يكون الحول عاماً وقد يكون سنة، لذا جاءت الآية بالمعنى الأعم وفيها منع للبس او التردد او الإجتهاد في مقابل النص للبس وكذا في المسائل التي تتعلق بالميراث تجد ان احكام الشريعة فيها واضحة بينة جامعة مانعة.
تفسير قوله تعالى [ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ]
اكتفى بعض اكبر المفسرين بالتعرض لهذه الآية بلحاظ علة نصبها وان (غير) وقع موقع الحال او انه انتصب بنزع الخافض، وفسرها الطبرسي بقوله: (لا يخرجن من بيوت الأزواج)( )، ولكن مضمون الخطاب التكليفي لم يتوجه اليهن بالأصل بل انه ينحل الى:
أولاً : خطاب الى الزوج في وصيته بان يأخذ بالإعتبار بقاء المرأة في دارها ومسكنها لمدة سنة كاملة، ويشمل الأمر الدار المستأجرة، أي لو كان الزوج مستأجراً لدار فعليه ان يحرز بقاء الزوجة فيه لمدة سنة سواء بدفع الإيجار سلفاً او يؤخذ من التركة ونحوه.
ثانياً : خطاب الى ذوي الزوج بعد وفاته من ورثته واوليائه، بالإلتفات الى اكرام زوجته وعدم حملها على الخروج من الدار.
ثالثاً : قد تكون هناك ضرورة للإنتقال من الدار فلابد ان تسكن الزوجة في دار مثلها، او اخرى تكون لائقة بشأنها وحالها.
رابعاً : لا تعارض بين لجوء الورثة الى بيع الدار، وبين التقيد باحكام هذه الآية، فيمكن بيعها عند اجتماع الشرائط مع بقائها مسلوبة المنفعة مدة الحول لتبقى الزوجة على حالها وسكنها.
خامساً : الآية حكم شرعي تستنبط منه احكام وضعية عديدة، وهو ضابطة كلية ومنار للمشرعين، واهل الحل والعقد.
سادساً : الآية مدرسة اجتماعية واخلاقية تبين لزوم تعاهد المرأة والمحافظة على سترها وعدم تركها عرضة للأهواء والمقاصد الذميمة.
سابعاً : غير اخراج جاء على نحو التنكير والقضــية المهملة مما يعـني انه قاعدة كلية وحكم تكليفي مستديم ومستغرق لجميع حالات وفاة الزوج.
تفسير قوله تعالى [ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ] يمكن ان يكون :
الأول : معطوفاً على متاع.
الثاني : بياناً وتفسيراً له.
الثالث : فرداً اضافياًً مستقلاً أي انه يصلح ان يكون فرداً من افراد المتاع ويكون موضوعاً مستقلاً لذا افردته الآية بالذكر لأن المتاع من الكلي المشكك، وقد يقال بان القدر المتيقن منه الكسوة والزاد فجاء ذكر السكن للتوكيد ومنع اللبس والتعدي او الغبن والمنة كما انه قيد احترازي، وبيان للتشريع والحكم، ولطف ورحمة اضافية منه تعالى، ومواساة وافاضة سماوية بمصيبة الوفاة.
الرابع : يعتبر ذكر الحول تقييداً لغير اخراج ولو على نحو التجوز أي ان عدم الإخراج ينحصر بسنة من بعد وفاة الزوج دون غيرها.
تفسير قوله تعالى [فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ ]
قال الرازي: هذه الآية اولها الى آخرها تكون جملة واحدة شرطية، فالشرط هو قوله [وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ] فهذا كله شرط، والجزاء هو قوله [فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ] فهذا تقرير قول ابي مسلم وهو في غاية الصحة)( )، والأقوى ان الجملة انشائية وتتضمن الأمر بحذف الفعل أي يوصون وصية، وان الفاء حرف استئناف وجملة [فَإِنْ خَرَجْنَ] مستقلة ولها موضوع وحكم مستقل عما سبق، فبعد ان بينت الآية لزوم الوصية تعقبته بحق المرأة في الخروج من البيت وعدم اكراهها على البقاء، وان معنى (فان) هو (اذا).
وفي الآية وجوه:
الأول : حق الخيار للمرأة قبل تمام الحول من غير ان يتعارض مع الإستعداد للإنفاق عليها طيلة الحول.
الثاني : الآية براءة لذمة اولياء الميت والورثة ومنع للحرج او التشديد على النفس.
الثالث : تحول الآية دون اكراه المرأة على ملازمة بيت الزوجية والسكن فيه سنة كاملة بعد وفاة الزوج.
الرابع : لا اثم على اولياء الميت في حجب النفقة عنها ان انتقلت الى بيت آخر، فظاهر الآية ان النفقة تسقط بالخروج.
الخامس : لا اثم عليكم ان اختارت المرأة الزواج بعد اكمال العدة وقبل انقضاء الحول، فلا ملازمة بين حقها في النفقة والسكنى في بيت الزوجية وعدم الزواج طيلة المدة.
السادس : من الإعجاز في الآية انها تمنع من التعارض في الأحكام الشرعية في المقام وتبني الحقوق والواجبات لكل طرف من غير غبن او ضرر بالآخر.
السابع : في الآية رفع للجهالة والغرر، ومعرفة المرأة ما لها من الحقوق والخيار، وتتضمن نفي سلطان اولياء الميت عليها، وتؤكد على عدم وجوب اقامتها لحين انقضاء السنة.
الثامن : [فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ] اعم من ان ينحصر باولياء الميت، فيشمل الذين تقدم ذكرهم، أي ليس للقاضي او اهل الزوجة وغيرهم ان يجبروا المرأة على البقاء في البيت سنة كاملة بعد وفاة زوجها،
التاسع : حق المرأة في الخروج من البيت لا ينحصر بما بعد العدة بل يشمل مدة العدة وايامها لإصالة الإطلاق وعدم التقييد لها في القرآن أو السنة.
العاشر : ظاهر الآية ان خروج المرأة غير ما يفعلن بانفسهن، فصحيح ان الفاء في “فلا” رابطة لجواب الشرط الا انه لا يمنع من حملها على التعقيب أي ان الذي بعدها واقع عقيب الذي قبلـها، وان نفي الجناح والإثم يتعلق بما فعلن في انفسهن وليس بالخروج باعتبار ان الآية تعطي للمرأة الحق بالخروج بالدلالة التضمنية.
الحادي عشر : قيد [فِي أَنفُسِهِنَّ] اشارة الى عدم حق المرأة بنقل اولادها من الميت معها الا ما دل عليه الدليل، وكذا بالنسبة للتصرف في الأرث والتركة واموال الميت.
تفسير قوله تعالى [مِنْ مَعْرُوفٍ] وفيه وجوه :
الأول : تشمل الآية وجوه المعروف والعمل الصالح، وما ليس فيه منافاة للقيم والأخلاق الحميدة.
الثاني : من اهم مصاديق المعروف في المقام الزواج، فمنطوق الآية يؤكد عدم كون الإثم لأولياء الميت وغيرهم ان اختارت المرأة الزواج بعد انقضاء العدة ورغم حقها في السكنى والنفقة، وهي في مفهومها توكيد لإستحباب النكاح للمرأة.
الثالث : اذا كان النكاح للمرأة بعد مصيبة وفاة الزوج من المعروف من باب اولى ان يكون لغيرها مستحباً مؤكداً، فالاية تحث على الزواج وتدعو اليه في حال اليسر والعسر، والغبطة والحزن، وخرجت بالدليل مدة العدة للمطلقة، والمتوفي عنها زوجها.
الرابع : الآية تأديب للنساء وافراد المجتمع جميعاً، بان اختيار الأفعال يجب ان يكون وفق احكام الشريعة والمستحب.
الخامس : تمنع الآية من الأخلاق الذميمة واقتران السيئات.
السادس : من اعجاز الآية انها تعالج مسألة الفراغ الحاصل في حياة المرأة واحتمال تعرضها لبعض التأثيرات السلبية الضارة، فجاءت لتبين نوع وكيفية تصرفاتها واشتراط اتصافها بصبغة المعروف.
السابع : من المعروف عدم الحداد عند انقضاء العدة، فللمرأة هجر لباس ومظاهر الحزن بعدها، واخنيار التزين بما هو مناسب لشأنها شرعاً وعرفاً.
الثامن : تدل الآية على اهمية الستر وموضوعية سلوك المرأة في بناء الأسرة والمجتمع وقوام مؤسساته لذا اولى الإسلام للعرض والشرف خصوصــية، فهما من افــراد الصلاح والرشـاد وسبيل الى تنزيه النفوس والذرية من الأدران والكدورات الظلمانية.
التاسع : الآية نصيحة للنساء بان لا يأتين الا افعال الخير والصلاح.
العاشر : لا تنحصر مواضيع المعروف بالغير والإحسان له وصيغ التعامل معه، بل تشمل تصرف الإنسان ازاء نفسه سواء كان ذكراً او انثى، فمضمون الآية وان تعلق بالمرأة وفي حالة مخصوصة الا انها ما فيها من قيد مطلق وشامل لجميع افراد المجتمع وفي كل احوال حياته، فهي ترغيب بالمعروف والسمت الصالح، ودعوة للإهتمام بالنفس وصلاحها واختيار ما يناسبها ويلائم الحال والسمعة والشأن.
الحادي عشر : يمكن اعتبار الآية من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعدم الإثم والجناح منحصر بما اذا فعلت المطلقة المعروف وجاءت بما هو حسن شرعاً وعرفاً وعقلاً، مما يعني في مفهومه التدخل لمنعها من اتيان ما هو ضار وفيه سوء وشر.
الثاني عشر : تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على حاجة المرأة في تلك الفترة الى الإعانة بالنصح والإرشاد.
الثالث عشر : من اعجاز التشريع في هذه الآية انه مع اكرام المرأة بحق الإختيار وعدم اجبارها علىالإقامة فانها نوع تحذير وتخويف من اتيان ما يخالف القيم المتعارفة ويضر بالنفس.
الرابع عشر : ذكر موضوع الفعل بانفسهن لا يقيد الحصر بل يشمل غيرها من باب الأولوية فعليها لا تؤذي غيرها اثناء الحول، وهذا الغير من الناس ينحل الى شعبتين الأولى الأحياء من الناس والثانية الأموات، فبالنسبة للأولى فتشمل الأهل والأقارب واهل الزوج والفرد الأهم وهو الشعائر الإسلامية والواقع الإجتماعي السليم، اما بالنسبة للثانية فان اهم افرادها هو الزوج المتوفى فالآية توصية للمرأة بان لا تسيء الى زوجها وسمعته وتركته.
الخامس عشر : من وجوه المعروف التقيد باحكام العدة والحداد وعدم التعدي فيهما.
تفسير قوله تعالى [وَاللَّهُ عَزِيزٌ ]وفي الآية وجوهاً :
أولاً : خاتمة الآية ثناء على الباري عز وجل بذكر اسم من اسمائه تعالى.
ثانياً : الله عز وجل هو الخالق وجميع الأشياء مخلوقة محتاجة له فهو سبحانه لا يغلبه شيء.
ثالثاً : ورود صفة العزيز في احكام العدة ونحوها يدل على اهمية الموضوع وضرورة التقيد بما فيها من التشريع.
رابعاً : في الآية بشارة نفاذ ما فيها من الأحكام والتزام المسلمين بها ولعل فيها دلالة على المدد الإلهي للإمتثال لأحكام التنزيل، أي ان الله عز وجل هو الغالب الذي يقهر عباده على العمل بآيات القرآن ولكن هذا القهر ليس من الإكراه والجبر، بل هو من اللطف الإلهي أي بتقريب العبد الى الطاعة وجعله ينفر من المعصية.
خامساً : في الآية وعد ووعيد، وبشارة وتخويف، وعد وبشارة لمن يعمل بمضامينها، ووعيد وتخويف لمن لا يتقيد بأحكامها.
سادساً : تجعل الآية رادعاً انسانياً دنيوياً لمن يحاول عدم التقيد باحكام هذه الآية من الرجال والنساء فتراها توجه الخطاب بصيغة الجمع.
سابعاً : من عزته وغلبته وقهره سبحانه للمخلوقات ان تجد الأحكام الشرعية تأتي بآيات معلومات، ولكن الناس يستقبلونها بحسن الإمتثال.
تفسير قوله تعالى [حَكِيمٌ] وفيه وجوه :
الأول : ان الله عز وجل اتقن كل شيء صنعه.
الثاني : الحكيم فعيل بمعنى فاعل وهو الذي يحكم الأشياء ويجعلها خالية من النقص والعيب، ومن حكمته تعالى ان انزل هذه الآية وما فيها من احكام وفاة الزوجة.
الثالث : الآية نوع تحد أي ان احكام هذه الآية خالية من التعارض والنقص الأمر الذي يتضمن في مفهومه دعوة للناس جميعاً ليلتزموا باحكامها ويتبعوا ما فيها من النهج القويم.
الرابع : روي عن الإمام جعفر الصادق انه قال: “كان الرجل اذا مات انفق على امرأته من صلب المال حولاً ثم اخرجت بلا ميراث ثم نسختها آية الربع والثمن، فالمرأة ينفق عليها من نصيبها”
، وروي عنه انه قال: نسختها يتربصن بانفسهن اربعة وعشراً، ونسختها آية المو
قوله تعالى[وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] الآية 241.
الإعراب واللغة
وللمطلقات: الواو: استئنافية، للمطلقات، جار ومجرور في محل خبر مقدم.
متاع: مبتدأ مؤخر، حقاً: مفعول مطلق لفعل محذوف.
أسباب النزول
لما نزلت [وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ] قال بعضهم: ان احببت فعلت وان لم ارد ذلك لم افعل فانزل الله هذه الآية نسبه الطبرسي الى عبد الرحمن بن زيد بن اسلم الا انه ذكره على نحو القيل)( )، وهو تضعيف له، وظاهر الآية انها اعم في موضوعها واسباب نزولها.
في سياق الآيات
بعد بيان احكام العدة وما يتعلق بحياة المرأة التي عنها زوجها وكيفية تنظيمها وفق احكام الشريعة جاءت هذه الآية.

إعجاز الآية
تتجلى المعرفة الإلهية بالملازمة بين مفارقة الزوجة ومتاعها بقيد المعروف والإحسان وهي مدرسة اجتماعية واخلاقية وتشريعية واصطلاحية، كما اضفت هذه الآية صبغة الوجوب على متاع المطلقة والإحسان اليها.
وفيها مدح لمن يتقيد باحكامها ونعته بارقى درجات السمو والثناء عليه مع انه لم يفعل الا ما هو واجب عليه شرعاً وعقلاً، وتبين الآية ان التقوى لا تنحصر بالفرائض العبادية بل تشمل ابواب المعاملات والأمور المعاشية التي نص عليها الشرع، وتؤكد اهمية ظهور التقوى على الجوارح والسلوك والمعاملة مع الآخرين.
الآية سلاح
تساهم الآية في بناء المجتمعات الإسلامية، وتساعد على ايجاد الشخصية المؤمنة الملتزمة بالقواعد والأصول، وفيها درء للفتنة، ومنع من الخصومة، وحل لبعض النزاعات ورأفة بالمرأة واصلاح لحالها اثناء مدة الطلاق.
مفهوم الآية
تمنع الآية من الشح والبخل والإضرار بالآخرين وسوء الفراق والغلظة في فك الشركة مطلقاً، وتدعو الى الإنصاف ونشر الود بين المتخاصمين وأصحاب الحقوق، اذ يمكن الفصل بين الحق الشخصي في الزواج والطلاق وتحديد المرأة التي تكون زوجة واماً للأولاد وبين انصافها عند مفارقتها والإنفصال عنها، ومن الآيات ان هذا الإنصاف ليس احساناً محضاً بل هو حق للمطلقة مفروض من عنده تعالى.
ومن اللطف الإلهي ان تأتي الآية بصيغة الخبر وليس الإنشاء والأمر، كما انها جاءت بلغة الحث والتحريض والوصف الجميل لمن يعمل بأحكامها مع انها فرض وهذا من فلسفة الأوامر في القرآن ان تأتي بصيغة الحث والتحريك والبعث على الفعل، والمنع من الترك لكي يكون للمسلم اجر وثواب وتتجلى معاني الإختيار في أدائه ويكون مؤهلاً للمباهاة به بين الملائكة واثبات أهليته للخلافة في الأرض بتعاهده لأحكام الشريعة على نحو الإختيار من غير قهر وفي المواطن والأحوال التي يتعامل بها مع من هو أدنى واضعف منه، وعند المفارقة والنفرة والتباعد والطلاق.
ان الملازمة بين اعطاء متاع المطلقة ونيل درجة التقوى آية اعجازية وشهادة سماوية على الإرتقاء العقائدي عند المسلمين وبلوغهم اعلى مراتب الإيمان بلحاظ التقيد النوعي العام بمضامين هذه الآية ودفع حقوق المطلقة ولا عبرة بالشاذ النادر، وفي الآية وعد كريم بالثواب والأجر الجزيل على حسن المعاملة لذا ورد في الحديث “الإنصاف نصف الدين”.
وقيد (المعروف) لمنع الإكتفاء بصرف الطبيعة من المتاع او كونه فاقداً للمالية والإعتبار ومن مفاهيمه كون المتاع مناسباً للحال، ويمكن الإنتفاع منه بما يناسب الشأن وايام الحياة الزوجية ولو في الجملة.
التفسير
تفسير قوله تعالى [وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ]
من اعجاز القرآن ان ما يتضمنه التشريع يرافقه تنظيم أحوال الإنسان على تباينها ذكراً كان او انثى.
واللام في للمطلقات للإستحقاق وهي التي تقع بين معنى وذات امر تتعلق بهما، فمع ما تتضمنه الآية الكريمة من الأمر بالمتاع فانها تبين ان هذا المتاع ليس صدقة بل هو حق للمطلقة تناله بالتلبس بعقد الزواج وامتلاك فرجها، فلذا يمكن القول ان قوله تعالى [حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] مصداق لإستحقاقها له.
لقد جاءت الآية بصيغة الشمول والإطلاق أي ان المتاع يشمل كل مطلقة، والمتاع في المقام على وجوه:
الأول : النفقة والسكنى.
الثاني : ذات المتاع المذكورفي الآية السابقة [مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ]
الثالث : النفقة.
اما الوجه الأول فان السكنى تخــرج بالتخصيــص بلحـاظ امد الثاني، فلا دليل على الملازمة والإنطباق التام في المتاع في الآيتين، والأقوى هو الوجه الثالث الذي ينحل الى المؤونة من الإطعام اليومي والملبس.
وعن سعيد بن المسيب ان الآية منســوخة بقوله تعالى [فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ]( ) والأقوى عدم حصول النسخ بين الآيتين بل هو من التخصيص لإصالة عدم النسخ، وتقديم التخصيص على النسخ فتخرج المطلقة التي فرض لها مهر سواء كانت مدخولاً بها او لا، ومن الإعجاز ان الآية توسع موضوع النفقة عند الطلاق وانه لا ينحصر بالمهر المسمى او مهر المثل او نصف المهر ونحوه من احكام المهــر، بل ان المتاع نوع وداع كريم وفراق بالود وفيه صرف للغيظ وطرد للغضب ونفي للبغضاء ولو على نحو الموجبة الجزئية.
ففي الآية نوع وقاية من الآفات الإجتماعية المتعقبة للطلاق وتدارك لشطر من اضراره، خصوصاً وانه ابغض الحلال الى الله.
لقد وضع الإسلام عن المرأة العمل خارج البيت بحسب مفاهيم الآيات والنصوص العديدة التي تتضمن قرارها في بيتها وانها عورة ولزوم المحافظة على الستر والعرض، ولكنه لم يحكم بحرمة عملها خارج البيت بل هو جائز وفق الصيغ الشرعية، ومن الآيات ان هذا الحكم معلوماً ومعروفاً عند المسلمين رجالاً ونساءً، وعند غيرهم ايضاً، وهذا الوضع نوع تخفيف، وهو مدخل لعالم التخصص في ابواب الحياة والأعمال اليومية، فان الوظائف التي تؤديها المسلمة في المنزل وتريبة الأولاد لا تعادل بمقدار من المال، وتفوق كثيراً رواتب الوظائف واعمال الشركات بل لا يعادلها قدر من الإجرة او العوض وان بخست حقها في الدنيا فان ثوابها في الآخرة عظيم.
وهذه الآية لطف الهي وتوكيد لرعاية حق المرأة فيما بعد الطلاق وهو يدل بالأولوية على رعاية حقها اثناء الزوجية، بل ان مفهوم خطاب وموضوع الآية وما فيها من الأحكام يدل على تكفل نفقة الأنثى مطلقاً سواء كانت صغيرة او كبيرة، خلية او متزوجة، باكراً او ثيباً، فلابد من العناية بها وتكفل معاشها وشؤون نفقتها، فمن الإعجاز القرآني ان كل آية تتضمن تأديباً وارشاداً للمسلمين وتتجلى فيها معاني التنزيه والحكمة، وتقود الى الصلاح وتنشر الوئام، وتهدي الى الوفاق وحسن العشرة وطيب السريرة.
ولمتاع المطلقة منافع اخلاقية عديدة منها انه يبعث على السخاء ويطرد البخل بما يتضمنه من معاني الإنفاق على من اصبحت خارج العيال، ولا ينتفع منها في فراش او تمتع او شؤون منزلية، كما انها تدل بالدلالة التضمنية على موضوعية المهر وحاجة المرأة له واستحقاقها لتملكه وتوظيفه لشؤونها.

تفسير قوله تعالى [حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]
أي انه قضاء وواجب على اهل التقوى والإيمان الذين يمتثلون لأوامره تعالى باتيان الصالحات واجتناب السيئات، وقد تقدم قوله تعالى [ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ] والمتقون ارقى مرتبة من المحسنين ومن المؤمنين، وصفة الوجوب للمتاع في هذه الآية اضفت لباس التقوى على من يلتزم بشرائطه واحكامه، وفيها مدح وثناء على الذي يؤدي حقوق المطلقة ويقوم بانصافها.
وفي الآية حث وتشجيع على اداء حقوقها، وهذا من اعجاز مدارس القرآن التأديبية وصيغ الإرشاد فيه، فالأمــر بالوجــوب فيه يقترن باسباب الحث والترغيب كما يصاحب النهي الوعيد والتخويف والذم والتقبيح.
مع ان إيمان المكلف ارقى رتبة من إسلامه ونطقه بالشهادتين، والتقوى ارقى من الإيمان، فان هذه الآية تضفي صفة التقوى على كل المسلمين لأنهم في الواقع ملتزمون باحكام متاع المطلقة سواء على نحو الفعل الواقع او الإستعداد الذهني والرضا بالحكم، فالآية مناسبة كريمة لنيل صفة التقوى من خلال الإلتزام باحكام المعاملات، وآداب الطلاق، واكرام المرأة.


قوله تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] الآية 242.

الإعراب واللغة
كذلك: اسم اشارة في محل نصب مفعول مطلق، ويجوز اعرابه حالاً، اسم الجلالة: فاعل يبين .
لكم: جار ومجرور متعلقان بيبين.
آياته: مفعول به مضاف، والهاء مضاف اليه.
لعلكم: حرف مشبه بالفعل واسمها، جملة تعقلون: خبرها، وجملة الرجاء حالية .
في سياق الآيات
بعد بيان احكام الطلاق والعدة والمتاع والنفقة للزوج بما يكفل حسن معيشتها واستقرارها مع تعاهد سترها وعزها، جاءت هذه الآية كخاتمة لآيات الأحكام المتعلقة بالموضوع لتثبيتها وتوكيدها.
إعجاز الآية
في الآية نوع تحد ينبسط على آيات الأحكام مطلقاً وعلى آيات الطلاق الخاصة، وهذا التحدي دائم ومستديم وموجه الى رجال القضاء والقانون والمؤسسات الإجتماعية والإصلاحية والإنسانية والإخلاقية والتربوية، ومن ورائهم الى الناس جميعاً، فاحكام الطلاق والمتاع والعدة آيات وليس احكاماً تشريعية فقط، انها برهان ودليل على نزول القرآن من عنده تعالى، أي يمكن اعتماد البرهان الإني وهو الإستدلال من المعلول على العلة لإثبات صدق الرسالة ونزول القرآن.
الآية سلاح
تبعث الآية السكينة في النفس وتقود للتقيد التام باحكام هذه الآيات بتسليم واطمئنان لأنها نازلة من عنده تعالى، كما ان الآية عون وحث على الإلتزام بما في الآيات المتقدمة من احكام وعدم التفريط بها.
مفهوم الآية
ان الله عز وجل لم يترك المسلمين بلا شريعة وهدى ولم يجعلهم تائهين او متحيرين امام الموضوعات والمسائل الابتلائية العامة والخاصة، الراتبة والطارئة، والآية في مفهومها تحذر من عدم انصاف المرأة او الاستخفاف بحقوقها ما بعد الطلاق، وتنفي مبدأ السالبة الكلية عن المطلقة.
وفيها اخبار بان اث الحياة الزوجية لا ينقطع تماماً بالطلاق، وان الرحمة والود فيهابترشح بانفاق ومتاع كريم فيما بعد الطلاق، وهي مانع من ذميم الاخلاق.
التفسير
تفسير قوله تعالى [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ]
كذلك اسم اشارة: صيغت له الكاف لإفادة التشبيه وقد يذكر المشار اليه، وقد لا يذكر كما في المقام، كما تأتي كذلك بمعنى ايضاً، نحو قولك اديت الحج وكذلك العمرة، لذا فان معناها في الآية مركب من التشبيه ومن افادة معنى التكرار، فالآية اخبار عن فضله تعالى ببيان الأحكام على نحو تفصيلي يمنع اللبس، ويحول دون الجهالة والغرر، واسباب الغبن والتعدي.
ومن دلالات التشبيه في الآية انه توكيد واشعار بان الأحكام التشرعية مبينة في القرآن على نحو تفصيلي سواء بتفسير القرآن بعضه لبعض او بتفسير السنة النبوية الشريفة بلحاظ قوله تعالى [ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، وقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وترى نفراً من كبار علماء التفسير يمر بهذه الآية مروراً كريماً او انه لا يتعرض لها في التفسير ولكنها مدرسة متكاملة في الحكمة والإعجاز، بالإضافة الى ما فيها من اجتماع المتناقضين على خلاف اقوال الفلاسفة، فالآية تتضمن معاني التحدي لأهل الكفر والجحود مع الدعوة للناس جميعاً للهداية بواسطة الأحكام الشرعية وما فيها من المعرفة والحكمة التي تعجز العقول عن ادراك مقدماتها وغاياتها السامية.
وتخبر الآية عن الآيات في التشريع الإسلامي أي ان التشريع في باب الطلاق والعدة امر مستقل جاءت الآيات فيه على نحو الخصوص، وان آياته مركبة من الآيات القرآنية النازلة بخصوصه، وانصياع المسلمين للعمل بمضامين هذه الآيات وانجذاب الناس لما فيها من الإعجاز، وهذا الإنجذاب لا ينحصر بالأجيال اللاحقة بل يشمل فترة النبوة وايام التنزيل، فقد قالوا ان العرب وقفوا مذهولين من بلاغة القرآن، والظاهر ان ذهولهم وتعجبهم انما كان مركباً فهم منتفعون من بلاغته ومما فيه من الأحكام والسنن، وتلقي المسلمين له بالإنصياع وحسن الإمتثال.
تفسير قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]
آية اعجازية اخرى وهي ان القرآن حاجة للناس وسبيل الى المعرفة.
العقل المكتسب يتحصل بالتنزيل.
بآيات القرآن يستطيع الإنسان ان يوظف عقله لما فيه نفعه وصلاحه.
ببيان الآيات يستطيع المسلمون كافة ان يهتدوا الى سبل الرشاد.
لقد جاء القرآن بالبراهين العقلية والآيات الحسية والآيات الجامعة لهما، ومن الأخيرة آيات الطلاق والعدة المتقدمة.
العقل آلة العبودية والخشوع لمقام الربوبية وبه يعرف الإنسان واجباته وحقوقه تلك التي تستقرأ من القرآن، فجاءت هذه الآية بتفصيلاتها وشطر منها كما انها تخبر وبلحاظ ما تتضمنه من صيغة التشبيه ان التنزيل جاء لإصلاح الأمم وتهذيب النفوس وتنمية ملكة التمييز والفصل بين الحقائق ومعرفة الكليات بالذات والجزئيات بالواسطة.
العقل هو مدار التكليف وجاءت هذه الآيات لإعانة العقل على معرفة الحق والباطل والتفريق بينهما، مما يعني ان بيانها لطف منه تعالى وتقريب للعبد من الطاعة وابعاد له عن المعصية.
بيان فضله تعالى لخلق صفات الكمال عند المسلم.
العقل حجة الله الباطنة، فجاءت الآيات لتوظيفه في اثبات وجود الصانع، وليرتقي الى منازل المسؤولية.
(لعل) تفيد الترجي والتمني، فالإنسان بحاجة الى العمل بالآيات والتقيد بما فيها من الأعمال كي يصــدق عليه انه عــقل وادرك ما يجب عليه اثباته واجتنب ما يضره من المفاسد.
لقد قسم العقل الى عدة اقسام منها العقل المكتسب وهو آلة صحة الإجتهاد وقوة النظر، والعقل النظري وهو قوة النفس المتأثرة بالمبادئ للإرتقاء بواسطة العلوم والإدراكات لأن النفس تكمل جوهرها من المبادئ العالية ولقد سميت القوة التي تقبل ماهيات الأمور الكلية بالعقل النظري، وهذه الأقسام لا تتقوم الا بالتنزيل والأخذ من الشرائع السماوية لذا جاء القرآن لتبلغ هذه العقول مراتب الكمال.


 قوله تعالى[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ  ] الآية 243.

الإعراب واللغة
ألم تر: الهمزة للإستفهام التقريري، ومعناه حمل المخاطب – بالفتح – على الإقرار والإعتراف بالأمر.
لم: حرف نفي وقلب وجزم، تر: فعل مضارع مجزوم بلم، والفاعل ضمير مستتر تقديره انت، وجملة خرجوا صلة الموصول، والرؤية في المقام بمعنى العلم وتضمنت معنى الإنتهاء وتقديرها الم ينته الى علمك.
وهم الوف: الواو: حالية، هم: مبتدأ، الوف: خبر، والجملة في محل نصب على الحال.
حذر الموت: حذر مفعول لأجله مضاف، الموت: مضاف اليه.
ثم احياهم: ثم حرف عطف، يفيد الترتيب والتراخي.
ولكن: الواو حالية، لكن: حرف استدراك ونصب، اكثر: اسمها وهو مضاف، الناس: مضاف اليه، جملة لا يشكرون خبرها.
في سياق الآيات
بعد بيان الأحكام في الآيات السابقة جاءت هذه الآية لتكون حجة في باب القصص والأخبار ومدرسة في الإعتبار، وهي دعوة للإلتزام باحكام الآيات السابقة وانذار وتحذير من الإعراض عنها وعن مضامينها.
إعجاز الآية
في الآية اخبار عن حياة بعد موت، وبعث في الحياة الدنيا جاء عبرة وموعظة للذين احياهم الله بعد موتهم ولمن عاش في زمانهم وللناس جميعاً، بذكر الواقعة في القرآن حجة ودرساً، وتفتح الدراسات الخاصة بعالم البرزخ والرجعة النشور، وفيها بيان لعظيم فضله تعالى، وهناك منافع أخر للإنتقال من آيات الأحكام الى آيات القصص والعبرة والموعظة منها التشويق الى قراءة القرآن وظهور تعدد مضامينه والإلتفات اليها.
الآية سلاح
تساهم الآية في الإرتقاء الفكري والعقائدي عند المســلمين بما فيها من الحكمة والمعرفة الإلهية واثبات للبعث والحساب، وتبعث على الأمل وعدم القنوط.
مفهوم الآية
الآية نحذير من ترك الاوطان والهجرة الجماعية العامة عن الديار خشيية الموت واحتماله والابتلاء العتم والمجاعة ونقص الامطار او الفيضانات، وهي دعوة لمواجهة المشاق بروح الصبر والايمان، وارشاد الى التسليم بأمره وقضائه تعالى.
فالمسلمون اذا تركوا المصر الذي يقطنونه وتسود فيه عقيدتهم وذهبوا الى بلد يدين بديانة اخرى يواجهون مشاق وصعاب بالغة في تعاهد شعائر الله وسنن العبادة، والغرباء اذا دخلوا بلد آخر غالباً ما يتفرقون ويضطرون للعمل بمهن أدنى واجور منخفضة، وقد أراد الله عز وجل للمسلمين العز في الدارين، قال تعالى [ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
التفسير
تفسير قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ]
الخطاب في الآية موجه الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن خلاله الى المسلمين والناس جميعاً، اذ لا دليل على انحصار الخطاب القرآني بالمسلمين بل هو متوجه للناس جميعاً ولكن المسلمين هم الذين انتفعوا منه فهو حجة للمسلمين وحجة على الكافرين، وموعظة للأمم على مر العصور.
والرؤية في قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ] جاءت بمعنى العلم ومتعدية بالى وهو حرف انتهاء أي الم ينته علمك الى قصتهم، وكأن في الآية اشارة الى ثبوت خبرهم عند المليين او في الكتب المنزلة قبل القرآن ومع عدم الدليل فان ذكر القصة في القرآن في هذه الآية يكفي للأخبار والعلم، وموضوع الآية يدرك بالحواس وهو حالة اعجازية، فلابد ان يكون معروفاً وشائعاً عند المليين ومن اعجاز القرآن تثبيت وتوثيق الآيات الحسية بتنزيل سماوي.
والإستفهام في المقام انحلالي فهو حجة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وتثبيت لإيمانهم وانذار ووعيد للكافرين، والآية مدرسة في عالم ما بعد الموت كما تتصف بخصوصية وهي التداخل بين الحياة والموت والبعث والنشور وشمول الدفعة والفرد الواحد من الفضل الإلهي للحياة الدنيا وعالم الاخرة، لقد كان موضوع الآية عبرة للناس والى يوم القيامة وكأن ما يحصل في الآخرة له صــور وامثلة في الحياة الدنيا تبقى شــواهــد عقائديــة تذكر بتفاصتتيل ووقائع الآخرة وما يجــري فيها.
وفي موضوعها وجوه واقوال:
الأول : ان ملكاً من ملوك بني اسرائيل امر عسكره بالقتال، فخافوا القتال ولكنهم اعتذروا بالخشية مما في ارض المعركة من الوباء، فاماتهم الله تعالى باسرهم وبقوا ثمانية ايام حتى انتفخوا وبلغ قومهم موتهم فخرجوا لدفنهم ولكنهم عجزوا عن دفنهم بسبب كثرتهم، فحظروا عليهم حظائر فاحياهم الله تعالى بعد الثمانية، وبقي فيهم شيء من ذلك النتن، ولا زال في اولادهم وذراريهم.
الثاني : ان حزقيل النبي ندب قومه الى الجهاد ولكنهم كرهوا الخروج فارسل الله عليهم الموت فلما كثر فيهم خرجوا من ديارهم فراراً من الموت، فتوجه حزقيل الى الدعاء، وقال: اللهم اله يعقوب واله موسى ترى معصية عبادك فارهم آية في انفسهم تدلهم على نفاذ قدرتك وانهم لا يخرجون من قبضتك، فارســل الله عليهم الموت، ثم انه ضاق صدره بسبب موتهم فدعا مرة اخرى فاحياهم الله تعالى، وذكره الرازي ولم يذكر السند وجهة الصدور، ويمكن مناقشة الخبر دلالة ايضاً، اذ ان الموت وقع فيهم قبل دعاء حزقيل.
الثالث : عن السدي ان قرية وقع فيها الطاعون وهرب عامة اهلها، والذين بقوا مات اكثرهم، وبقى فريق منهم في المرض والبلاء ثم بعد ارتفاع المرض والطاعون رجع الذين هربوا ساعين، فقال من بقي من المرضى: هؤلاء احرص منا، لو صنعنا ما صنعوا لنجونا من الأمراض والآفات ولئن وقع الطاعون ثانياً خرجنا فوقع وهربوا وهم بضعة وثلاثون الفاً، فلما خرجوا من ذلك الوادي، ناداهم ملك من اسفل الوادي وآخر من اعلاه ان موتوا فهلكوا وبليت اجسامهم، فمر بهم نبي يقال له حزقيل فلما رآهم وقف عليهم وتفكر فيهم، فاوحى الله تعالى الهي اتريد ان اريك كيف احييهم؟ فقال: نعم، فقيل له: ناد ايتها العظام ان الله يأمرك ان تجتمعي، فجعلت العظام يطير بعضها الى بعض حتى تمت العظام ثم اوحى الله اله ناد ايتها العظام ان الله يأمرك ان تكتسي لحماً ودماً ثم قيل: ناد ان الله يأمرك ان تقومي فقامت، فلما صاروا احياء قاموا، وكانوا يقولون: سبحانك ربنا وبحمدك لا اله الا انت ثم رجعوا الى قريتهم بعد حياتهم، وكانت امارات انهم ماتوا ظاهرة في وجوههم، ثم بقوا الى ان ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم( ).
والحديث ضعيف بالإرسال وجهة الصدور، وفي مرسلة الكافي عن الإمام الباقر في الآية قال: إن هؤلاء أهل مدينة من مدائن الشام وكانوا سبعين ألف بيت وكان الطاعون يقع فيهم في كل أوان، فكانوا إذا أحسوا به خرج من المدينة الاغنياء لقوتهم وبقي فيها الفقراء لضعفهم فكان الموت يكثر في الذين أقاموا ويقل في الذين خرجوا فيقول الذين خرجوا لو كنا أقمنا لكثر فينا الموت ويقول الذين أقاموا: لو كنا خرجنا لقل فينا الموت قال: فاجتمع رأيهم جميعا أنه إذا وقع الطاعون فيهم وأحسوا به خرجوا كلهم من المدينة فلما أحسوا بالطاعون خرجوا جميعا وتنحوا عن الطاعون حذر الموت فساروا في البلاد ما شاء الله . ثم إنهم مروا بمدينة خربة قد جلا أهلها عنها وأفناهم الطاعون فنزلوا بها فلما حطوا رحالهم واطمأنوا بها قال الله عز وجل: موتوا جميعا فماتوا من ساعتهم وصاروا رميما يلوح وكانوا على طريق المارة فكنستهم المارة فنحوهم وجمعوهم في موضع فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل فلما رأى تلك العظام بكى واستعبر وقال: يا رب لو شئت لاحييتهم الساعة كما أمتهم فعمروا بلادك وولدوا عبادك وعبدوك مع من يعبدك من خلقك فأوحى الله تعالى إليه: أفتحب ذلك قال: نعم يا رب فاحيهم قال: فأوحى الله عز وجل إليه أن قل كذا وكذا ، فقال الذي أمره الله عز وجل أن يقوله – فقال الصادق عليه السلام: وهو الاسم الاعظم – فلما قال: حزقيل ذلك الكلام نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض فعادوا أحياءً ينظر بعضهم إلى بعض يسبحون الله عز ذكره ويكبرونه ويهللونه، فقال حزقيل عند ذلك: أشهد أن الله على كل شيء قدير.
ان الأخبار الواردة في وقائع وموضوع هذه الآية متقاربة ولا يضرها ضعف سندها وارسالها، لأن المشهور جابر لضعف السند، بالإضافة الى القاعدة التي حررناها في علم الأصول واطلقنا عليها اصطلاح التواتر السندي، ومفادها ان التقاء عدة اخبار ضعيفة السند في حكم وامر واحد يجعل بعضها يجبر ضعف سند الآخر، مع عدم ثبوت تواطئهم على الكذب، وتشابه هذه النصوص مع تعدد جهة الصدور يدل على دقة الضبط عند علماء الإسلام وحرصهم على توثيق ما تتضمنه آيات القرآن من قصص لموضوعيتها ولأنها اشرف الدروس في العبرة والموعظة والذكرى بالإضافة الى ما فيها من الغايات العقائدية السامية الأخرى منها بيان امكان المعاد، وعدم اليأس من فضله تعالى في الإحياء بعد الموت، أي لو سمعنا ان انساناً مات واحياه الله لم يكن ذلك امراً عجيباً او مستحيلاً بل ان الموضــوع غير ممتنع في النشــأتين، والخــروج من الديار هرباً وفراراً من الموت عند طرو اسبابه ليس امراً مذموماً في الجملة، قال تعالى [ يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
فقد تتعرض البلدة للوباء او الزلزال او الأمطار الشديدة ويتعذر معها البقاء فيها، لذا ترى الآية خالية من ذمهم على نحو النص على اصل الخروج ولكنها تحكي قصتهم واسباب خروجهم، الا ان يستفاد الذم من القرائن، ولا مانع من الرجوع الى السنة لبيان ما ورد بخصوص الخروجهم،الا ان يستض ولزم من الفرائن من البلدة هرباً من الوباء، والنهي الوارد في الفرار من الزحف اذا كان الخروج طلباً للسلامة والنجاة يتعلق بترك الدفاع عن بيضة الإسلام.
وتبين الآية حتمية الموت ولزوم الإستعداد لما بعده من مواطن الحساب وان الهروب من اسباب الموت ومواطنه لا يغير الأجل وما كتبه الله عز وجل على العبد، وقد يفر المرء من موطن لإحتمال حصول القتل او الإصابة بالوباء فيه، ولكنه يبتلى بالموت عند الفرار، وقد يبقى في ذلك الموطن تسليماً بقضائه وقدره تعالى فتكون السلامة والنجاة بالبقاء بفضله تعالى.
والآية دعوة للتوكل على الله عزوجل من غير ترك للأسباب والمقاصد الصحيحة.
تفسير قوله تعالى [وَهُمْ أُلُوفٌ]
الجملة في بيان الحال والوصف والعدد وألوف جمع كثرة، اي انهم اكثر من عشرة آلاف، ومنهم من قال باحتمال افادة الوف لمعنى ائتلاف القلوب وانهم ماتوا مع ما بينهم من المودة ولكنه بعيد لظاهر الآية وحجية الظواهر والتباين في المعنى والمضمون والغايات وتجلي الإعتبار بالعدد ولعدم الإنصراف الى خلاف الظاهر الا مع القرينة الصارفة وهي معدومة في المقام.
ان كثرة عددهم يدل على حصول قبول ورضا بالخروج على نحو العموم الإستغراقي ولابد من موضوعية لهذه الكثرة في حصول آية الموت والإتعاظ وانه مسألة عقائدية ودلالات تكــمن في ثناياها وفيه وجوه محتملة:
الأول : خروجهم جزعاً وفزعاً.
الثاني : الإتفاق على الخروج وما فيه من وجود القناعة العامة بالخروج.
الثالث : ان الكثرة لا تغير من اصل الحكم، أي ان خروج الجماعة الكثيرة لا يعني صحة فعلهم، بل العكس هو الصحيح، واقدام الجماعة الكثيرة على الفعل يقتضي التنبيه والتحذير.
الرابع : خطأ الجماعة اكثر اهمية وضرراً من خطأ الفرد.
الخامس : بيان العدد وكثرته مقدمة وسبب للإلتفات الى القصة والإعتبار منها.
السادس : تدل الآية على وجود تجمعات سكانية وامصار واسعة قبل الإسلام تضم عدداً كثيراً من الناس.
السابع : تظهر الآية التجانس في المجتمعات وتأثر الجميع برأي واحد، والإقدام عليه مع ما فيه من اذى ترك الوطن وقصد المجهول وانعدام الإستقرار.
الثامن : الآية شاهد على توثيق قصص القرآن لقصص وحياة الامم السالفة.
تفسير قوله تعالى [حَذَرَ الْمَوْتِ]
الحذر: الخيفة والإحتراز، يقال حذره يحذره حذراً، فزع منه وتوجس منه خيفة، ومفهوم الآية يقسم الناس بلحاظ الموقف من الموت تقسيماً استقرائياً الى:
اولاً: الفزع والخوف من قدومه.
ثانياً: التسليم به كحقيقة حتمية.
ثالثاً: برزخ بينهما أي بين الفزع والتسليم.
رابعاً: القصد اليه وارادته، وهذا القسم ينقسم الى عدة اقسام فتارة يكون بقصد الشهادة والقتل في سبيل الله، وتارة يكون من اجل الدنيا والمغامرة، واخرى في المعصية والكفر وغير ذلك.
ومنطوق الآية يتعلق بالقسم الأول وعلى نحو التعدد والإشتراك والجماعة، وتبين الآية ان الخروج والهرب من الديار للحذر من الموت، ولابد ان الموت الجماعي الذي يتأتى من الوباء ونحوه، والظاهر انه دعوة للمسلمين للإحتراز والوقاية من الأوبئة، ومن الحروب التي تستعمل فيها الأسلحة الكيماوية والبايلوجية الفتاكة من غير حاجة للخروج من الديار وترك الأوطان، ولعل اجراء دراسة احصائية تبين ان المسلمين وامصارهم من اقل بلدان العالم في امتلاك اسباب الوقاية من هذه الأسلحة وهو عنصر ضعف ويبعث في النفوس القنوط والفزع.
وظاهر الآية يبين ان الهروب من الموت لا يعني النجاة منه، وهذا لا يعني حتمية الموت الجماعي ولكنه دعوة للجوء الى سبل اخرى للتخلص منه، كالدعاء والصدقة والأخلاص في العبادة، بالاضافة الى اسباب الحذر والتوقي من مقدماته .
وفي الآية حث على الجهاد والصبر على مقاتلة العدو وعدم الفرار من الزحف وفيها توبيخ للذين يخافون من المواجهة وخوض غمار الحرب فقد يفاجئ العدو المسلمين في ديارهم كما حصل في معركة الخندق، أي ان الحذر من القتال قد يؤدي الى مداهمة العدو الديار وحصول القتل الجماعي، فجاءت الآية لدرئه ودفعه بالإقدام على القتال في سبيل الله.
وبذا تكون القصة القرآنية موعظة وعبرة ودرساً وبياناً لفضله تعالى، فان طرد الله عز وجل الأوبئة عن المسلمين خصوصاً في بدايات الإسلام مقدمة لتثبيت اركان الاسلام والنصر على الاعداء وفيه تخفيف ورحمة بالمسلمين، والقرآن يحثهم على اجتناب تعطيل القوى والفتور عن الجهاد خوفاً من الموت، بالإضافة الى عمومات وحتمية حصول الموت وان المنية لابد وان تدرك الانسان.

تفسير قوله تعالى [فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ]
لم ينفعهم الفرار من الموت، ولكن الكيفية اختلفت مع اتحاد الأصل، والموضوع فالموت لا يحصل الا بامره تعالى.
وفي الآية حذف وتقديره فقال لهم الله موتوا فماتوا، وهذا الحذف لا ينحصر بالجانب البلاغي وما فيه من الإختصار ففيه دلالات عقائدية منها ان حكمه تعالى لا مرد له وان امره نافذ، وانه سبحانه لا يستحي من الحق فاذا كتب على قوم الموت الجماعي فلا مانع من حصوله، وفيها نكتة عقائدية وهي ان عالم الفعل يخضع لعالم الأمر على نحو الأثر والمؤثر، وانه تعالى امر بالموت ولعل من وجوه الحذف ان ملك الموت سمع تلقي امره تعالى فاماتهم.
وهل يمكن ان يكون هذا الموت مختلفاً عن الموت الذي يصيب الإنسان وهو زهوق الروح ومغادرتها للبدن وانه موت ابتدائي او تعليقي لعلمه تعالى بانهم سيحيون ويرجعون الى الحياة الدنيا، الأرجح انه موت تام وزهوق للروح لوجوه:
الأولى : ان الكلام يحمل على ظاهره.
الثانية : حجية ظواهر الإلفاظ.
الثالثة : عند التردد بين الحقيقــة والمجــاز فان الكلام يحمــل على الحقيقة لإصالتها الا مع القرينة الصارفة عنها الى المجاز وهي مفقودة.
الرابعة : لقد جاء الحدث على نحو الإعجاز، فلابد ان يكون بارقى كيفية لإتمام الحجة وبيان بديع صنعه تعالى وتمام البرهان، ولقطع طريق التردد والشك والريبة.
الخامسة : جاءت الآية للتحدي والوعيد والإنذار والإخبار.
السادسة : التبادر الشخصي والنوعي، وبلحاظ السياق أي ان السامع يتبادر الى ذهنه حصول الموت.
السابعة : اخبار الآية عن احيائهم اللاحق، والإحياء لا يحصل الا بعد الموت ولا يكون من تحصيل ما هو حاصل.
وتبين الآية ارادته تعالى بحصول الموت الجماعي من غير استحياء من الحق، وهي دعوة للتسليم بحدوث الموت وعدم الفزع منه لأن الأهم هو مرضاة الله وحسن ملاقاته، ولعل في الآية نوع توبيخ لهم على افعالهم فالذي يخاف الموت غالباً ما يكون غير مستعد له بالأعمال الصالحة ولعمومات قوله تعالى [ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
تفسير قوله تعالى [ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ]
(ثم) تفيد الترتيب والتراخي أي ان حالة الموت حصلت لهم جميعاً وان الإحياء جاء بعد وقت وليس مباشرة، ومجيء (ثم) هناك لإثبات المعجزة وحصول البعث والحياة بعد تحقق الموت ولتوكيد ان الموت الذي داهمهم لم يكن سكتة قلبية او امراً عارضاً سريع الزوال، بل حقيقة تكوينية وتشــريعية اصابتهم على نحــو العموم المجموعي ولكن الله عز وجل انعم عليهم فيما بعد بالإحياء بدعاء نبيهم حزقيل وقيل بدعاء شمعون وهو من الأنبياء.
وتبين الآية فضله تعالى باحيائهم وان المعجزة تأتي رحمة للناس ولكن لماذا الموت ثم الإحياء وواجب الوجود منزه عن العبث واللهو، فلابد من دروس وعبر وموعظة منها:
أولاً : انه دليل على رأفته ورحمته تعالى وانهما لا ينحصران باطالة العمر ودفع البلاء بل يفوقان اسباب الإرادة التكوينية.
ثانياً : انه سبحانه يفعل ما يشاء رحمة بالناس.
ثالثاً : تدفع الآية اليأس والقنوط وتؤكد حقيقة البعث بعد الموت.
رابعاً : ان امه تموت مجتمعة ثم تحيا على ذات الهيئة التي ماتت فيها حري بها ان تتعاهد الفرائض والمستحبات وتنبذ المعصية والذنوب وتتبع الأنبياء على نحو العموم المجموعي.
خامساً : ان الآيات وبديع صنعه تعالى ظاهرة في الكون والآفاق وقد يتفضل سبحانه ويرينا الآيات في انفسنا على نحو جلي وظاهر ومنه الإماتة الجماعية ثم البعث والإحياء قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
سادساً : ان صيغ التأديب الإلهي متفاوتة، وتأتي على نحو القضية الشخصية لتكون موعظة للآخرين وقد تأتي على نحو متعدد كما في المقام وهي موعظة لأهل الآية ومن خلفهم وللأمم والأجيال الأخرى.
سابعاً : الآية دعوة لإجتناب الغرور والزهو بالكثرة والعدد والعدة.
ثامناً : في الآية درس وبيان وتذكير بالبعث وامكانه في الآخرة.
تاسعاً : الآية دعوة للإنقياد الطوعي او القهري لمقام الربوبية ومشيئة الباري عز وجل.
عاشراً : لقد خرجوا من ديارهم وبيوتهم هرباً من الموت ولكنه مكتوب عليهم.
حادي عشر : ان صرف البلاء لا يأتي من خلال الحذر منه، بل بالدعاء والعمل الصالح واتباع الانبياء.

قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ]ويحتمل وجوه :
الأول : فمن فضله تعالى انه تعالى احيا امة كاملة بعد ان اماتهم واهلكهم.
الثاني : انه تعالى حفظهم من السباع والآفات مدة ما بين الموت والبعث من جديد، وان كان البعث مطلقاً أي مع اختلاف الحال.
الثالث : ان الإماتة الإحياء وجه اعجازي آخر لإستدامة الحياة، فالإنسان معرض للموت او القتل في كل يوم بل في كل ساعة ودقيقة من عمره ولكن الله يصرف عنه الموت.
الرابع : تبين الآية حاجة الإنسان كممكن لأن الإحتياج ملازم لعالم الإمكان ولتوكيد عدم اهميته لإفاضة الوجود او العدم لذاته او لغيره.
الخامس : الآية دعوة للتدبر في عظيم احسانه تعالى علينا بعدم الإبتلاء بالإماتة ثم الإحياء، أي ان بقاء الحياة الى الأجل المحتوم من غير افتتان وابتلاء بالموت اثناءها رحمة ونعمة منه تعالى.
السادس : انه تعالى كريم حليم لا يقابل الهرب من الموت بالإنتقام او الموت الحتمي، فقد يرتكب الإنسان كبيرة بالفرار من الزحف، ولكنه سبحانه يؤخر حسابه الى عالم الآخرة مع بقاء آداب التوبة والإنابة وفرص الإقالة مفتوحة فضلاً منه تعالى.
السابع : الفضل هو الزيادة والنافلة فظاهر الآية الكريمةانهم ماتوا بآجالهم ولكنه سبحانه زادهم من فضله واحسانه قال تعالى [ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ]( ).
الثامن : الآية دعوة لرجاء فضله واحسانه تعالى بما يزيد على المكتوب والمرئي والمتوقع والمحتسب، ففضله تعالى على بعض الأمم بالإحياء بعد الإماتة يفيد بالأولوية حفظ المسلمين ونجاتهم من الاوبئة والزلازل.
التاسع : الآية وجه من وجوه تفسير وبيان قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) جاء باعجاز ظاهر وآية بينة.
العاشر : ان فضله تعالى شامل لجميع الناس وعلى نحو الإطلاق بلا شرط الإيمان او قيد الدعاء.
الحادي عشر : في الآية مدح وثناء للباري عزوجل لعظيم احسانه.
الثاني عشر : بلحاظ دلالة المعنى السياقي للآية فانها تخبر عن فضله تعالى في استدامة الحياة ودفع البلاء.
الثالث عشر : من فضله تعالى بقاؤنا في اوطاننا من غير حاجة الى الفرار من الموت.
الرابع عشر : يمكن معرفة جانب من فضله تعالى بخصوص الآية بما تظهره الفضائيات ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة من المصائب والمحن التي تواجه الذين ينزحون من ديارهم نتيجة الحروب والأوبئة وكيف يصبحون مشردين لا مأوى لهم.
تفسير قوله تعالى [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ]وفيه وجوهاً :
أولاً : الآية تقسيم استقرائي للناس بلحاظ الشكر على النعمة والفضل وعدمه.
ثانياً : في الآية ذم لأكثر الناس لأنهم اختاروا عدم الشكر.
ثالثاً : الآية تنبيه وتحذير ووعيد لأهل الجحود.
رابعاً : تعتبر الآية دعوة للمسلمين للمواظبة على الشكر.
خامساً : نعت الأكثرية من الناس بعدم الشكر بيان لما عليه الناس من الغفلة.
سادساً : تحت الآية المسلمين على قيادة الناس نحو منازل الشكر وبيان فضله تعالى.
سابعاً : في الآية طرد للوحشة وعدم الشعور بالغربة في مسيرة الإيمان بتوطين النفس بان اكثر الناس متخلفون عن ابسط وظائفهم من الشكر له تعالى على عظيم نعمه.
ثامناً : ان عدم الشكر لم يمنع من وصول فضله تعالى الى الناس جميعاً لأنه تعالى هو الرحمن الرحيم.
تاسعاً : الآية تأديب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالسعي في انقاذ الناس وهدايتهم الى سبل الرشاد من غير انتظار شكر منهم على هذا الإحسان والفضل.
عاشراً : اكثرية الذين لا يشكرون تحتمل بلحاظ انبساطها معنيين.
الأول : اكثر الناس في كل جيل وزمان.
الثاني : اكثرهم بلحاظ مجموع الناس وان حصل في بعض الأزمان اكثرية الشاكرين، الأقوى هو الأول وهذا لا يمنع من حصول بعض الحالات المخالفة في بعض الأزمنة.
حادي عشر : الأكثرية لا تمنع من غلبة اهل الإيمان والشكر في بعض الأمصار والمجتمعات.
ثاني عشر : الظاهر وجود ملازمة بين الإيمان والشكر، فمجرد الإقرار بالتوحيد هو نوع شــكر وتســليم بان مقاليـد الأمور بيده تعالى.
ثالث عشر : الشكر سبيل مبارك لدوام فضله تعالى.
رابع عشر : ايمـان وشـكر الأقـل باب لـدوام النعـم علـى جمـيع الـناس.

قوله تعالى[وَقَاتِلُوا فِي سَــبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُــوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيــعٌ عَــلِيــمٌ]الآية 244.

الإعراب واللغة
وقاتلوا: الواو: استئنافية، ويجوز ان تكون عاطفة على مقدر ولا تتركوا دياركم خشية الموت وفتك العدو كما فعل بنو اســرائيل وقاتلوا في سبيل الله، والأول ارجح، لأن القتال في الآية جاء مطلقاً.
قاتلوا: فعل امر مبني على حذف النون، الواو: فاعل.
واعلموا: الواو حرف عطف، ان وما في حيزها في محل مفعول اعلموا.
في سياق الآيات
بعد الإعتبار والموعظة بذكر قصة القوم الذين خرجوا من ديارهم هرباً من الطاعون والوباء وكيف ان الهروب لم يصرف عنهم امره تعالى، جاءت هذه الآية متعقبة لها وهي تأمر على نحو صريح بالقتال والجهاد والثبات فلابد من ملازمة بحسب دلالة المعنى السياقي للآيات وكأن بيان حتمية الموت المتحد والمتعدد مقدمة للأمر بالقتال ثم جاءت الآية التالية للترغب بالقتال والإحسان طاعة وقربة له تعالى.
إعجاز الآية
ظهور الأمر بالقتال بالنص الجلي مع تقييده بانه في سبيل الله، ليخرج بالتخصيص القتال عصبية او لأغراض الدنيا، وفي الآية ترغيب بالجهاد وحث عليه بالإخبار عن احاطته تعالى بافعالنا.
الآية سلاح
تطرد الآية روح التردد والقعود عن القتال وتدفع المؤمنين الى مسالك الجهاد، انها دعوة قرآنية لمقاتلة الأعداء وبرزخ دون الخوف من العدو.
مفهوم الآية
تنهى الآية من النكوص والقعود والاعراض عن مواجهة اعداء الدين، وتذكر المسلمين بانه تعالى احاط بكل شيء علماً وانه مع الذين ينتصرون لدينه ولن يتركهم من غير مدد غيبي عند القتال وملاقاة الكفار.
والأمر في الآية يحمل على الوجوب وليس الندب والإستحباب مما يدل على بلوغ المسلمين لمرتبة من القوة والقدرة على مواجهة الأعداء بالسيف وازاحتهم عن مواضعهم خصوصاً وان القتال اعم من الدفاع فبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل دفاع بالسيف هو قتال وليس كل قتال هو دفاع، وتمنع الآية من التمادي والإسراف في القتال او القتل فقيد (في سبيل الله) يتغشى القتال واسبابه بمعنى ان القتال لا يشرع الا ان تكون اسبابه واستدامته جهاداً في سبيله تعالى ودفاعاً عن الإسلام وحرماته، وتبعث الآية المسلمين على القتال وتحثهم على الإقدام في ميادين الجهاد وتدعوهم للإخلاص والتفاني في سبيله تعالى، كما انها تقذف الرعب في قلوب اعداء الإسلام.
وخاتمة الآية دعوة للمسلمين للجهاد وعدم التفريط بأحكامه، ووعد كريم بالجزاء الحسن والعون والمدد، وتؤيده الآيات القرآنية والسنة النبوية الشريفة والشواهد التأريخية كما في بدر مثلاً وكيف ان الله عز وجل نصر المسلمين ونزلت الملائكة لنصرهم واعانتهم والآية تدعو المسلمين للعــزم وارادة الجهاد ليأتيهــم المدد والعون والتوفيـق ويبعث الله الرعب في قلوب الأعداء.
التفسير
تفسير قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]
قد ورد قوله تعالى [َقَاتِلُوا] نحو احدى عشرة مرة في القرآن كلها تحث على قتال الكفار واهل الجحود والبغي، مرتين منها في سورة البقرة وهما الآيتان الوحيدتان اللتان قيد فيهما القتال بانه في سبيل الله، لبيان نوع القتال وبيان معالمه ونفي اللبس ومنع التعدي فيه او في موضوعه واسبابه وغاياته، والخطاب في الآية انحلالي موجه الى كل مسلم وكل جماعة منهم أي انه حتى في حال السعة والرخاء والسلم على المسلمين ان يكونوا مستعدين للقتال في سبيل الله وعدم الركون الى حال الذل والهوان والتعدي على بلاد المسلمين.
ان مجيء الأمر بالقتال بعد ذكر قصة الذين فروا من الموت وما فيها من الإعتبار مدرسة قرآنية تبين الإعجاز في صيغ التأديب والتعليم والإرشاد وتتضمن دراسة مقارنة بين الأمم وتقلبات الأحوال والحوادث، ولا تخلو الآية من الإنذار الخفي وهو ان الإبتلاء حاصل بالهروب والجزع والخوف من العدو كما هو حاصل في الإقامة والمواجهة والتصدي للظلم مع الفارق الظاهر وهو ان العزم على القتال قد يؤدي الى النصر خصوصاً مع المظلومية، والدفاع لأن حال المقاتل عند الدفاع احسن منه عند الهجوم، بل ان الإستعداد للقتال والعزم عليه يؤدي احياناً بالعدو الى اجتناب القتال، وتلك ظاهرة معروفة للجميع وفيه نوع اتحاد ونبذ للفرقة والخصومة.
ولم يكن الأمر في الآية تعليقياً أي انه لم يحصر الأمر بالقتال في حال هجوم وتعدي العدو في المستقبل ،فظاهره الأمر الفعلي المنجز لإصالة الإطلاق وعدم وجود ما يدل على التقييد والتخصيص مما يعني ان الآية الكريمة اعم في موضوعها وحكمها من مسألة الفرار من الموت او الوباء والطاعون، لقد كتب القتال علىالمسلمين، والسيف حاجة لإثبات الحق وهداية الناس ورشادهم عندما تفشل الوسائل والأسباب الأخرى ويكون القتال ضرورة أي ان الآية تتضمن الأمر بالقتال بقسميه الهجومي والدفاعي، ولابد من الإعتبار بمسالة الفرار من الموت في موضوع القتال الهجومي.
وفي الآية دفاع وعون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كتائبه وسراياه التي يبعثها الى النواحي وانه لا يفعل الا ما يأمره به الله عز وجل، وفيها عز للمؤمنين وتصحيح وتأييد سماوي لعمل المجاهدين واقدامهم على القتال، ودفاع عن الشهداء وتضحيتهم في سبيل الله واختيارهم مرضاته تعالى.

تفسير قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] وفيه وجوهاً :
أولاً : الآية اخبار وتوكيد لعلمه سبحانه بما يفعله المسلمون.
ثانياً : في الآية حث للمؤمنين على مواصلة الجهاد وبذل النفس والمال في سبيل الله تعظيماً لشعائره.
ثالثاً : عندما يعرف العبد ان الله عز وجل يأمره بفعله ويخبره انه يعلم مدى امتثاله له فانه يندفع باخلاص لبلوغ اعلى مراتب الإستجابة والإمتثال.
رابعاً : صحيح ان الخطاب في اول الآية موجه للمسلمين الا ان ذلك لا يمنع من عموم الخطــاب في ذيلها أي ان قــوله تعالى [وَاعْلَمُوا ] خطاب مركب وفيه وجوه:
الأول : انه موجه للمسلمين على نحو المدح والحث على الجهاد.
الثاني : هو ذم للكافرين وانذار وتحذير مما يفعلون.
الثالث : وعيد للمنافقين بان الله عز وجل يسمع ما يفعلون مما يناقض اقوالهم وادعائهم الإسلام.
الرابع : في الآية تهديد لأهل الكفر والنفاق مطلقاً بفضح ما هم عليه من الجحود والمعصية.
الخامس : الآية تأديب وتنبيه وتذكير بان الله عزوجل يسمع ويرى وان الأشياء جميعها حاضرة عنده لا تخفي عليه خافية.
السادس : تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على القواعد الكلية في التكليف وان الأمر من جهة الإمتثال منزلة بين منزلتين وعلى العبد ان يمتثل للامر الالهي، وفيها فضل وزيادة منه تعالى انه سبحانه يحث المؤمنين على الإمتثال باخباره بانه يسمع ويرى ما يفعلون.
السابع : في الآية مدد وعز للمؤمنين لما فيها من الأخبار عن علمه تعالى باحوال الكافرين والمنافقين وما يكيدون للإسلام.
الثامن : الآية بشارة ووعد كريم للمؤمنين وهي وعيد للكافرين.
التاسع : القتال في سبيل الله دليل الإيمان لموضوعية القصد واعتباره في ملاك الأعمــال والإرادة والهويــة العقائدية لعمومات قوله تعالى [ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ]( ).


قوله تعالى[مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]الآية 245.
الإعراب واللغة
قرأ ابو عمرو ونافع وحمزة والكسائي فيضــاعفه بالرفع، وقرأ عاصم بالألف والنصب وقرأ ابن كثير وابو جعفر فيضعفه بالتشديد والرفع، وقرأ ابن عامر ويعقــوب بالتشــديد والنصب، وقرأ ابو عمرو والكسائي وحمزة يبسط وبسطة في الإعراف.
ذا: اسم اشارة خبر، الذي: بدل من اسم الإشارة، يقرض الله: صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.
قرضاً حسناً: مفعول مطلق، وحسناً: صفة له.
فيضاعفه له: الفاء للسببية، يضاعفه: فعل مضارع منصوب بان مضمرة بعد الفاء، والفاعل ضمير مستتر يعود للذات المقدسة، الهاء: مفعول به.
والله يقبض ويبسط: الواو استئنافية، اسم الجلالة مبتدأ جملة يقبض الخبر.
اصل القرض هو القطع ويقال قرض الشيء يقرض اذا قطعه بنابه والقرض في الإصطلاح عقد يجري فيه اعطاء احـد الطرفين للآخر مالاً مع ضمان اعادته بمثله او بقيمته ويقال للذي يعطي المقرض، وللذي يمتلكه المقترض او المستقرض. وقد وردت نصوص مستفيضة في فضله والحث عليه لا سيما في اقراض المؤمن منها خبر جـابر عن الامام الصادق قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أقرض مؤمناً قرضاً ينظر به ميسوره كان ماله في زكاة، وكان هو في صلاة من الملائكة حتى يؤديه”.
وبين الدين والقرض عموم وخصوص مطلق فكل قرض هو دين وليس العكس، فالدين مال كلي ثابت في ذمة شخص لآخر بسبب من الأسباب.
والضعف المثل المتزايد والجمع اضعاف، والقبض الإمساك والملك والحيازة، ومن اسمائه تعالى القابض وهو الذي يمسك الأسباب والأشياء عن العباد بلطفه وحكمته، ومن اسمائه تعالى الباسط فهو الذي يوسع على عباده الرزق ويزيده عليهم فضلاً منه ورحمة.
في سياق الآيات
بعد الإعتبار بالأمم السابقة والحث على الجهاد والقتال في سبيل الله جاءت هذه الآية الكريمة تحريضاً على ما تتضمنه الايات السابقة من الأمر بالقتال واستقبال الموت واحتمالاته بحسن توكل وفرح بعطائه ولقائه.
إعجاز الآية
الوصف بالقرض مدرسة قرآنية تبين عظيم لطفه تعالى، مع غناه سبحانه وعدم حاجته لأن الحاجة ملازمة للإمكان, وتتضمن الآية البشارة والوعد الكريم بحسن الجزاء.
الآية سلاح
تعتبر الآية من اهم اسباب الدعوة الى الجهاد والإندفاع برضا نحو القتال وسوح المعارك دفاعاً عن الإسلام ونشراً لأحكامه وتوسيعاً لرقعته وحرصاً على هداية الناس الى سواء السبيل، كما انها تفتح الباب للإنفاق في طاعة الله.
أسباب النزول
ورد عن ابن عباس ان الآية نزلت في ابي الدحداح إذ قال: يا رسول الله ان لي حديقتين فان تصدقت باحداهما فهل لي مثلها في الجنة؟ قال: نعم، قال: وام الدحداح معي؟ قال: نعم، قال: والصبية معي؟ قال: نعم، فتصدق بافضل حديقتيه وكانت تسمى الحنينية، ثم رجع ابو الدحداح الى اهله وكانوا في الحديقة التي تصدق بها، فقام على باب الحديقة واخبر ام الدحداح فقالت: بارك الله لك فيما اشتريت.
فخرجوا منها وسلموها، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: كم من نخلة رواح، تدلي عروقها في الجنة لأبي الدحداح، وقيل ان المراد بهذا القرض ما كان تبرعاً لا واجباً، وحتى على فرض صحة سبب النزول، فان اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، والله واسع كريم.
مفهوم الآية
تمنع الآية من الشح والبخل وعدم الانفاق، وفيها توبيخ للذين يمسكون عن الانفاق عند الحاجة اليه في الدفاع او المحافظة على بيضة الاسلام او لنصرة الكتائب والسرايا ، وتنهى عن الافراط في حب الدنيا وسوء الظن بما عند الله تعالى، وتخبر عن حسن الضمان والوفاء للانفاق في سبيله تعالى.
ومن اللطف الإلهي الباس البذل في سبيله تعالى واخراج الحقوق الشرعية لباس القرض للخالق الكريم وكل ما في ايدينا منه تعالى واليه يعود.
وتحذر الآية من الفقر في الآخرة بسبب البخل في الدنيا وامساك المال حباً له او خشية الإملاق والعوز، وكم من انسان امتنع عن الانفاق في سبيله تعالى او تردد في اخراج الحق الشرعي فابتلاه الله عز وجل بالخسارة او كساد التجارة، او الانفاق القهري او الاختياري فيما يخلو من النفع او الراجح العقلي او الشرعي.
التفسير
تفسير قوله تعالى [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ]وفيه وجوه :
الأول : جاءت الآية بصيغة التلطف والإكرام للمؤمنين وحثهم على الإنفاق في سبيله تعالى.
الثاني : الآية عوض معنوي عاجل، أي يكفي للإنسان ان يقوم على الإنفاق والجهاد في سبيله تعالى بعنوان انه قرض لله تعالى.
الثالث : المعروف ان المقترض محتاج الى القرض حتى قيل بحرمة القرض من غير حاجة والله عز وجل واجب الوجود وهو الغني لأن الإحتياج ملازم للإمكان فنعت الجهاد في سبيله بانه قرض يراد منه خصوص الإداء وحتمية الوفاء والوعد الكريم، اذ ان الإنسان اول ما يلاحظ في القرض القدرة على الوفاء والتقيد به، ومن اسمائه تعالى القادر، وهو الذي لا تستعصي عليه مسألة.
الرابع : جاء الإستفهام في الآية للتقرير والتحريض واحداث التنافس في نيل الجزاء مما يدل على ان الوفاء اعظم من القرض وموضوعه.
الخامس : الخطاب عام لكل الناس وهو دعوة للمسلمين ولغيرهم ايضاً، ولكن المسلم يتوجه اليه الخطاب من غير واسطة، اما غيره فلابد له من الإسلام ثم السعي في الإقراض.
السادس : الآية اعم من ان تنحصر بموضوع القتال في سبيل الله وان جاء المعنى السياقي بخصوصه، وان فعل الخيرات متشعب ومتعدد المصاديق وجاء القرض بصيغة الإطلاق ولا يمنع منها قيد (حسناً) لأنه مفهوم وصف ينطبق على المصاديق المتباينة على نحو الكلي المشكك.
السابع : تعالج الآية الحالة النفسانية عند الإنسان وميله لحب التملك وعدم التفريط بما يقع في حيازته، فتخبره بان الإنفاق في سبيل الله قرض لابد وان يؤدى.
الثامن : الآية مدرسة في الحث على الصالحات وسبيل لسياسة الناس ودفعهم الى الغايات الحميدة.
التاسع : تطرد الآية الشك والتردد وتمنع من سلطان الكدورات الظلمانية وما تبثه النفوس الضعيفة وتحول دون تأثير المرجفين وسعي أهل النفاق لقعود المؤمنين عن الجهاد والإنفاق في سبيله تعالى.
العاشر : لا ينحصر موضوع الآية بالتطوع والأعمال المندوبة بل يشمل الواجبات والفرائض.
الحادي عشر : مع الإقرار بان الخطاب عام لكل المسلمين فان شطراً منهم ليس عنده ما ينفقه خصوصاً وان الخطاب مطلق من جهة آنات الزمان، أي ان الآية تدعو كل مسلم وفي كل ساعة للجهاد والإنفاق في سبيله حسب الامكان والاستطاعة، فلابد من العزم والإتيان بالأمور والافعال التي لها اثر كأثر الإنفاق كما في التسبيح والتهليل.
الثاني عشر : تعتبر الآية من مصاديق قاعدة اللطف لما فيها من تقريب العباد الى الطاعة.
الثالث عشر : ذكر ان اليهود قالوا لما نزلت الآية: ان الله فقير ونحن اغنياء، لأنه يطلب منا القرض، ولكن قيد ( حسناً) يخرجهم بالتخصيص من موضوع الآية لإحتمال ان يكون من حسنه اعتبار قصد القربة فيه.
الرابع عشر : لفظ القرض يحتمل وجوهاً :
أولاً : انه حقيقة بلحاظ ما ينتظره المقرض من الجزاء لما فيه من القطع من المال او ما انخرم من العمر في الشهادة.
ثانياً : انه مجاز لوجوه:
الأولى : ان القرض يتقوم بارجاع المثل في اصل العين ومدة معلومة، وفي المقام يرجع البدل وفي النشاة الآخرة بل في النشأتين.
الثانية : الإقتراض سمت الحاجة، والإقراض سمت الغنى، أي ان المقترض محتاج، والمقرض يكون غنياً مستغنياً في الجملة عن مقدار القرض، اما في المقام فان الأمر مختلف لأن الله عز وجل هو الغني وما عداه ممكن.
الثالثة : العبد حينما يجود بنفسه وينفق ماله في سبيل الله لا يخرج عن منازل الذل والخضوع لمقام الربوبية.
الرابعة : جاء الوصف للتقريب والتشبيه والحث على الطاعات، والا فان القرض عنوان اصطلاحي له احكامه ودلالاته.
ثالثاً : انه جامع لهما وشامل للحقيقة والمجاز، فهو بلحاظ الوفاء والجزاء يكون قرضاً، وبلحاظ الواقع والصفة يكن مجازاً من غير تعارض بين الأمرين خصوصاً وانه تعالى سماه قرضاً فضلاً ولطفاً منه تعالى وحثاً على الانفاق في سبيله .
رابعاً : ان المراد بالقرض معنى آخر غير المتعارف له في الإصطلاح كما لو انحصر بالمعنى اللغوي.
الأقوى هو الثالث، اي المعنى الجامع لهما والمتضمن للقواعد الكلية في المعرفة الإلهية وانه يكون حقيقة باعتبار ان الأصل في اللفظ هو الحقيقة وان القرينة الصارفة جهتية، وان كان هذا التقسيم نطرحه هنا لأول مرة في علم الأصول.

تفسير قوله تعالى [قَرْضًا حَسَنًا]ويحتمل وجوه :
الأول : في الآية تقييد وصفة لقرض ونوعه ليخرج الرياء والنفاق.
الثاني : الآية حث على استقراء افضل الوجوه للإنفاق في سبيله تعالى.
الثالث : لا ينحصر الحسن بذات القرض بل يشمل موضوعه وجهة الإنفاق وكيفية التوظيف السليم.
الرابع : تخاطب الآية العقول لأن الحسن الذاتي للأفعال يدركه العقل.
الخامس : فاعل الحسن يمدحه الناس والذين يذمون فاعل القبيح.
السادس : من وجوه الحسن الكمال والتمام في مقابل النقص والقلة فيقال مثلاً العلم والكرم حسنان، والجهل والبخل قبيحان لأن الأوليين لهما صفة كمال، والأخيرين لهما صفة النقص فالآية دعوة لأن يكون الإنفاق كاملاً تاماً قال تعالى [ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ]( ).
السابع : من الحسن ان يكون الإنفاق قربة الىا لله ورجاء نيل ثوابه.
الثامن : من الحسن ملائمة النفس وعدم نفرتها من الشيء وهو امر يقع صفة للأفعال، فالآية تبين عز الإسلام والنهي عن جعل الإنفاق سبيلاً للذلة او الحاق الهوان بالمتصدق عليه.
التاسع : قد يكون مدار الحسن والقبح العرف ونظر المجتمع، لذا فان الآية لا تغفل هذا الجانب فما يكون حسناً في بلد وحال معينة قد يكون خبيثاً في آخر، بل انه يختلف بين الأشخاص.
العاشر : الحسن موضوع وسبب للمدح، فلابد ان يكون ما ينفق في سبيله تعالى سبباً للمدح والثناء أي انه يحرز رضا الناس.
الحادي عشر : القتال في سبيل الله من افضل وجوه القرض الحسن لأنه يتضمن قسمين الأول القتال ذاته والثاني القتل والشهادة في سبيله تعالى وبينهما عموم وخصوص مطلق وكل منهما حسن ممدوح ويبلغ الغاية في الكرم.
الثاني عشر : جاءت الآية على نحو المناشدة واللطف والحث على القرض الحسن الا ان موضوع الإنفاق من الكلي المشكك لان الحسن على مراتب متفاوتة والانفاق بنية صادقة يؤدي انطباقاً الى مطلق الإنفاق الحسن، وعظيم الفضل والثواب والجزاء الحسن يتعلق بمراتب الانفاق الحسن مطلقاً .
الثالث عشر : القتال في سبيل الله حسن مطلقاً، ولو كان على نحو صرف الطبيعة والمسمى أي قد ينال ثواب القتال من يخرج اليه او من يعزم على الخروج ويحصل مانع او ينتفي السبب او الموضوع فقد يستعد المسلمون للقتال ولكن الأعداء يذعنون او يستسلمون او ينهزمون بما يلقي الله عز وجل في قلوبهم من الرعب والفزع والخوف، اذ ان اللطف الإلهي في المقام يأتي ابتداء واستدامة ومنه التخفيف عن المسلمين، وتارة يأتي التحقيق بواسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما حصل في واقعة الخندق وفي صلح الحديبية، وفيها دروس للمسلمين وقادتهم.
الرابع عشر : من الحسن ان يكون الإنفاق من مال حلال غير مستحق للغير لا شبهة اصله او جمعه او نمائه.
الخامس عشر : ان يكون الإنفاق خالياً من المن والتباهي والأذى.
السادس عشر : القتال في سبيل الله انفاق وهو ارقى درجة واعظم من انفاق المال كما انه اكثر تأثيراً في اغلب الأحيان.
السابع عشر : الآية دعوة للأبعاد العملية للإنفاق والحيثيات واللوازم والأحكام الخاصة به، فان امره تعالى بالإنفاق يحتم على الفقهاء والمشرعين والأمة معرفة تفاصيل الإنفاق وسننه ومراتبه.
الثامن عشر : في الآية توكيد على الكسب الحلال وموضوعيته واعتباره فالله عز وجل لا يطاع من حيث يعصى.

قوله تعالى [ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ]وفيه وجوه :
الأولى : الهاء في فيضاعفه تعود للقرض، اما التي في (له) فتعود للعبد المقرض.
الثانية : في الآية بيان لإختصاص المضاعفة في الإقراض في سبيل الله، فليس من قرض الا ويؤدى بمثله الا في القرض لله عز وجل فانه من كرمه سبحانه يضاعفه ويزيده.
الثالثة : الوفاء منه تعالى لم يأت بالمثل بل بالمضاعفة والزيادة.
الرابعة : الآية حث على الجهاد والإنفاق في سبيل الله تعالى.
الخامسة : الزيادة على اصل القرض اعم من الزيادة المثلية او الدنيوية ولاتنحصر بالمال والنفس فقد تكون بالمال ونمائه وزيادة الرزق وجعل البركة فيه، وقد تكون بالصحة والعافية وكثرة الوعد والعمر المديد او الذكر الحسن والثواب الجميل.
السادسة : تسمى الزيادة على القرض ربا وهي محرمة كتاباً وسنة واجماعاً وعقلاً وفيها تعطيل لاسباب الاحسان وسلب للجهود، واخذ للمال من غير جهد، اما المضاعفة هنا فهي فضل ورحمة الهية.
السابعة : الزيادة منه تعالى تأت على نحو الإطلاق وتشمل مسمى الزيادة وصرف الطبيعة منها بل تبدأ بالمضاعفة ويمكن ان نؤسس فيه قاعدة وهي (لأقله حد ولا حد لأكثره).
الثامنة : ان الإنفاق في سبيله تعالى لم يذهب سدى ولم يرجع بمثله او بمقدار محدود او بنوع معين بل جاءت المضاعفة على نحوالإطلاق والشمول.
التاسعة : ان اصل القرض منه تعالى فهو الذي يمكن العبد من القرض ويعينه عليه بقاعدة اللطف أي بتقريب العبد الى فعل الصالحات، وهذه الآية من مصاديق قاعدة اللطف ويمكن من خلالها اجراء دراسات وبحوث عن وجوه ومضامين وفروع وموضوعات قاعدة اللطف.
العاشرة : لا يستطيع العقل البشري ان يتوصل الى المعارف الإلهية التي تتضمنها هذه الآية فهي حث وترغيب ولطف ووعد كريم.
الحادية عشرة : تبعث الآية الأمن والسكينة في النفس للإخبار القرآني عن الجزاء الحسن.
الثانية عشرة : تدل الآية على طرق النجاة في الآخرة وتدعو الى الإدخار الجميل ليوم القيامة بالمبادرة الى الجهاد والإنفاق في سبيله تعالى.
الثالثة عشرة : تساهم الآية في التخفيف من الفزع والخوف من مواطن الحساب في الآخرة بحسن الإستعداد لها بالإنفاق في سبيله تعالى، فترى كل انسان يحرص على تأمين معيشته ومسكنه في القادم من ايام حياته، وهذه الآية تدل على تأمين دنياه وآخرته.
تفسير قوله تعالى [ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ] ويحتمل وجوهاً :
أولاً : الآية فضل ووعد كريم لا يقدر عليه احد الا الله عز وجل.
ثانياً : الآية بشارة ورحمة ومناسبة كريمة للمغفرة.
ثالثاً : انها منهاج مبارك يعين العبد على الحصول على الثروة والمال والجاه فكما ان الزكاة نماء المال وهي في الواقع انفاق واخراج للمال ودفعه للغير، كذلك فان الإنفاق في سبيل الله نماء وثراء.
رابعاً : ضمن قاعدة تفسير القرآن بعضه بعضاً يمكن استحضار قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ]( ) لبيان ان المضاعفة ذاتها ليس لكثرتها حد.
خامساً : كثرة المضاعفة تتعلق بفضله تعالى ودعاء العبد ونوع الإنفاق ونيته وقصد القربة.
سادساً : ان كل شيء من الجزاء في الآخرة هو اكبر واكثر من أي عطاء وانفاق من العبد في الآخرة، فاقصى ما ينفقه ويعطيه العبد هو بذل نفسه والقتل في سبيل الله، وجزاؤه الخلود في الجنة وهو الغاية الأخروية القصوى للعباد في الدنيا والآخرة.
سابعاً : من فضله تعالى انه لم يخبر عن مضاعفة القرض ضعفاً واحداً بل اضعافاً، وهذه الأضعاف لم ترد بصيغةالتنكير والإطلاق التي تشمل القليلة منها.
ثامناً : تشمل المضاعفة الكم والكيف والنوع والزمان والمكان والله واسع كريم.
تاسعاً : مال الرازي الى ما اختاره السدي بان هذا التضعيف لا يعلم احد ما هو وكم هو؟ وانما بهم تعالى ذلك لأن ذكر المبهم في باب الترغيب اقوى من ذكر المحدود( ).
وهذا القول مركب من امرين:
الأول: بيان عظمة وكثرة التضعيف والعجز عن احصائه فضلاً عن معرفته.
الثاني: نعته بالإبهام وان جاء من باب الثناء الا انه جاء على نحو النص وليس الإبهام لما يتجلى فيه من الوضوح والبيان والإخبار والوعد بالكثرة.
في قوله تعالى [ لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ]( ) ورد في مرسلة ابن ابي عمير عن الصادق انه كان في رجل نذر ان يتصدق بمال كثير فقال الكثير ثمانون وما زاد لقول الله عز وجل [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ] وكانت ثمانين موطناً.
ولا يعني هذا ان الضعف ثمانون مرة فقط لأنه قياس مع الفارق، فذكر الأضعاف جاء مطلقاً وليس هي كالمواطن التي جاءت مخصوصة ومعروفة ويمكن احصاؤها، كما ان الكثرة فيها شخصية أي متعلقة بموضوعها والكثرة اعم، ويمكن استقراء الزيادة على الثمانين بلحاظ رحمته وفضله تعالى.
تفسير قوله تعالى [وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ]
من اسمائه تعالى القابض والباسط فهو تعالى الذي يمسك الرزق وغيره عن العباد بلطفه وحكمته، كما يقبض الأرواح عند الممات، وفي الحديث: يقبض الله الأرض ويقبض السماء أي يجمعهما، وهو الذي يبسط الرزق ويوسع على عباده برأفته ورحمته، والبسط نقيض القبض.
في الآية وجوه:
الأول : ان الله عز وجل يقبض الرزق ويقدره عمن يشـاء سبحانه ويوسـعه لمن يشاء فضلاً منه واحساناً.
الثاني : ان الله عز وجل يقبض ويأخذ الصدقات من العباد ويبسط الجزاء والثواب عليها في العاجل.
الثالث : يقبض الله الرزق عمن يموت من الناس، ويبسطه لوارثه او لمن يولد من الناس.
الرابع : ان الله عز وجل يضيق على قوم ويوسع على آخرين لأن الحياة الدنيا دار ابتلاء ولعلمه تعالى بما يصلح الناس فقد يكـون الفقر انسب لبعضهم والغنى احسن لغيرهم وقد يعتبر المرء مما يصيب غيره اكثر مما يعتبر مما يصيبه ويتعرض له من البلاء او الإبتلاء.
الخامس : بلحاظ دلالات سياق الآية وموضوعها فانها توكيد وبيان لقدرته سبحانه على مضاعفة الأجر والثواب اضعافاً كثيرة.
السادس : مضمون الآية من المعارف الإلهية التأديبية فهي تمنع من التردد في الإنفاق والإمساك في مواطن البر والإحسان.
السابع : قد ورد بسط الرزق في القرآن ويقابله تقديره وتحديده في عشر مواضع من القرآن كما في قوله تعالى [ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ]( ) [ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ]( )، ولم ترد مادة (القبض) في مقابل بسط الرزق فالآية محل البحث هي الوحيدة التي ورد فيها القبض في مقابل البسط مما يعني ان موضوعها ومتعلقها اعم.
الثامن : تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على عدم نقص الرزق بالإنفاق، فاذا شاء سبحانه بسط الرزق على عبد او جماعة او قرية او قوم فان الإنفاق لا يضرهم ولا ينقص من اموالهم شيئاً.
التاسع : الآية بشارة الثواب العاجل، والبسط فيها اعم من ان ينحصر بالأموال بل يشمل البسطة في العلم والجاه وكثرة الولد والذكر الحسن.
العاشر : ان الله عز وجل يتعاهد الصدقة حتى بعد ممات صاحبها فينميها ويضاعفها على نحو مستمر ومتجدد،
الحادي عشر : الآية مدرسة اخلاقية تساعد في تهذيب النفوس وبث روح التعاون في المجتمعات الإسلامية ونشر الود والإحسان وهي حرب على الجريمة والسرقة.
الثاني عشر : تدعو الآية للإنقطاع الى عبادته تعالى والبذل في سبيله وعدم الإنشغال بالدنيا وهموم مستقبل الأيام.
الثالث عشر : في الآية وعـد ووعيد، وعــد لأولئك الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله، ووعيد وتخـويف خصوصاً فيما يتعلق بالإنفاق الواجب.
الرابع عشر : الآية بشارة للمسلمين وان الله عزوجل سيوسع عليهم ويبسط لهم في الرزق واسباب العيش، ويضيق على اعدائهم.
الخامس عشر : بالإنفاق والجهاد في سبيله تعالى تسود احكام الإسلام في الأرض.
السادس عشر : الآية حرز ووقاية ورادع لأهل الريب والشك والتشكيك، وفيها بيان بان الله قادر على كل شيء.
السابع عشر : ان الأضعاف الكثيرة فضل منه تعالى وليس عن استحقاق للعبد سواء كان باذلاً نفسه او ماله لذا نسب البسط اليه تعالى فضلاً عن المضاعفة ونعت الإنفاق بانه قرض له سبحانه.
تفسير قوله تعالى [ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] وفيه وجوه :
الأول : خطاب قرآني انحلالي موجه الى جميع الناس جاء بصيغة الخبر وتقديره يا ايها الناس الى الله ترجعون.
الثاني : حث اضافي على الإنفاق وانذار لمن يعرض عن الأوامر الإلهية.
الثالث : توكيد للثواب والجزاء باعتباره فرع الرجوع.
الرابع : في الآية اعجاز وهو ان القرض ليس حقيقياً بل مجازاً وليس قرض عوز وحاجة بدليل ان المحتاج هو الذي يلجأ ويرجع قهراً وحتماً الى المحتاج اليه.
الخامس : في الآية دفع وهم ومنع للتأويل الباطل للقرض ببيان موضوع القرض وهو الحاجة اليه عند الرجوع الى الله تعالى.
السادس : خاتمة الآية قاعدة كلية تتعلق بما هو اعم من موضوعها وهي دعوة للإمتثال لأوامره تعالى.
السابع : التذكير بالآخرة مدخل لمعرفة حقيقة الدنيا وانها محل ابتلاء واختبار ومزرعة للآخرة.


قوله تعالى[أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ] الآية 246.

الإعراب واللغة
الم تر: الهمزة للإستفهام التقريري، لم: حرف نفي وقلب وجزم، تر: فعل مضارع مجزوم بلم، والرؤية هنا قلبية تفيد معنى العلم، اذ: ظرف لما مضى من الزمان.
هل عسيتم: هل: حرف استفهام للتقرير، عسيتم: عسى فعل ماض من افعال الرجاء التي تستعمل لرجاء حصول الفعل في المستقبل سواء القريب منه او البعيد، وغالباً ما تقترن بـ(ان) التي تدل على الإستقبال والأقوى انها مصدرية.
ان كتب عليكم القتال: ان: شرطية جازمة، كتب: فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط، عليكم: جار ومجرور متعلقان بكتب القتال: نائب الفاعل، وجواب الشرط محذوف، وتقديره تتخلفون عن القتال.
الا تقاتلوا: ان: حرف مصدري ونصب، لا: نافية، تقاتلوا: فعل مضارع منصوب بان.
وما لنا الا نقاتل: الواو عاطفة لربط الكلام بما بعده، ما: اسم استفهام مبتدأ، لنا:جار ومجرور متعلقتان بمحذوف خبر.
وان وما في خبرها مصدر في موضع نصب بنزع الخافض وتقديره ما لنا في ترك القتال.
نقاتل: فعل مضارع منصوب، وقد اخرجنا من ديارنا: الواو: حالية، قد: حرف تحقيق.
اخرجنا: فعل ماض مبني للمجهول، الضمير: نائب فاعل، ابنائنا: عطف على ديارنا.
فلما كتب: الفاء: استئنافية، لما: حيثية ويجوز ان تكون رابطة، القتال: نائب فاعل.
تولوا الا قليلاً منهم: تولوا: فعل مضارع، والواو: فاعل، الجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب (لما).
الا: اداء استثناء، قليلاً: مستثنى متصل لأنه من جنس المستثنى منه، منهم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لقليلاً.
والله عليم بالظالمين: الواو: استئنافية، واسم الجلالة: مبتدأ.
عليم: خبر.
والملأ: وجهاء القوم وساداتهم والأشراف الذين يرجع اليهم الناس، والاسم مشتق من ملئهم للعين والقلب هيبة.
وروي ان رجلاً من الأنصار قال يوم بدر: قتلنا الأعجايز صلعاً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم اولئك الملأ من قريش لو رأيتهم في انديتهم لهبتهم ولو امروك لأطعتهم ولأحتقرت فعالك عند فعالهم، لبيان النصر العظيم يوم بدر، وما اصاب الكفار من الذل والهوان يومها واستصغار المسلمين لهم مقدمة للإجهاز عليهم.

في سياق الآيات
بعد الحث على الجهاد والقتال في سبيله تعالى جاءت هذه الآية بمضامين مركبة مما في معناها السياقي من الدلالات، وما في ذات القصة من العبر والإتعاظ والإعداد وايجاد الإستعداد النفسي عند المسلمين بغرض القتال عليهم اسوة بالأمم السابقة، وتدل الآية على حمل المسلمين لمسؤوليات الخلافة في الأرض بعد ان عجز عنها غيرهم.
الآية سلاح
الآية دعوة للمسلمين لميادين الجهاد واجتناب التولي عن القتال وعن الزحف عند المواجهة، انها سلاح وقاية واحتراز بالإعتبار من الغير.
مفهوم الآية
تحذر الآية من التردد في قبول القتال وخوض غمار الحرب عندما يكتب على المسلمين :
أولاً : كحاجة وضرورة.
ثانياً : لوجود راجح شرعي وعقلي.
ثالثاً : سواء تعلق القتال بأيام التنزيل والتلبس بفعل او بالأزمان اللاحقة.
رابعاً : بالذين كتب عليهم القتال او بغيرهم من المسلمين او بالأجيال المتعاقبة من ذراريهم او بهم مجتمعين.
خامساً : قد يفرض القتال على المسلمين ابتداء ورحمة ولهداية الكافرين للإسلام.
وتمنع الآية من القنوط من رحمته تعالى فهو سبحانه لم يترك مجريات الأمور على الأرض تجري وشأنها او تبعاً لهوى الناس ورغبات الظالمين فهناك انعطافات تأريخية وعقائدية بفضل منه تعالى سواء كانت بأسباب ظاهرة او خفية، وكما تذم الآية النكوص والإعراض عن القتال في سبيل الله فانها تحث عليه وترغب فيه.
ومن مدارس القرآن التعليمية والإرشادية قصص الأمم السالفة وما عندها من السنن سواء المحمودة منها او المبغوضة، وهل الشطر الثاني منها يدخل ضمن عمومات قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( ) ام ان الحسن والكمال يتعلق بقصص الأنبياء والصالحين، الجواب ان عمومات الآية تشمل الجميع بلحاظ الإعتبار والموعظة منها وصفة القرآنية.
لقد اثبت المسلمون اهليتهم لوراثة الأرض بالإقتداء بالأنبياء والمرسلين والإحتراز من السيئات والإبتعاد عن مواطن التحريف، فبعد آية القتال والحث عليه، جاءت هذه الآية لتكون درساً وعبرة في بيان التخلف عن القتال والتواني عن القتال في سبيله تعالى والتحذير من التولي وترك الجهاد.
التفسير
تفسير قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ]
الخطاب في الآية موجه الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه مسائل:
الأولى: انه انحلالي بعدد المسلمين الموجود منهم ايام التنزيل والذي لم يولد فيما بعد.
الثانية: انه خطاب لكل مسلم بالذات، كما انه خطاب لهم بواسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ا لثالثة: ان اشتراك المسلمين مع الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الخطاب القرآني لا يحول دون الخصوصية الرسالية وموضوعية المنصب الإلهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطابات القرآن بل ان هذه الخصوصية تحث المسلمين على الإخلاص والسعي لبلوغ رضا الله ورسوله.
الرابعة: ان خطابات القرآن تأديبية وفيها توثيق وبيان لتأريخ الأمم واسباب تخلفها عن منازل العز والكرامة الإيمانية.
الخامسة: كما ان الآية حجة على بني اسرائيل فانها حجة للمسلمين وتحذير وانذار لهم.
السادسة: ظاهر الإستفهام التقريري يدل على معرفة هذه القصة وشهرتها او انه جاء بصيغة المعرفة للحث على الإطلاع على قصص الأنبياء والرسل واممهم.
السابعة: ينتفع القادة والزعماء في كل زمان من تجارب الآخرين وما تعرضوا له وكيفية مجريات الأمور والأحداث واسباب التدارك والنجاة وسبل تحقيق النصر والفوز، وهذه الآية جاءت لبيان حالة نفسانية واجتماعية وعسكرية لأحدى الأمم وفيها دروس من المعارف الإنسانية والجهادية لتكون عوناً للمسلمين.
الثامنة: الآية دعوة لبني اسرائيل لدخول الإسلام من وجهين:
الأول: الإخبار عن تقصيرهم العام عن الوظائف العقائدية.
الثاني: فضح الآية لكبرائهم وترددهم وسوء مشورتهم وما فيه من الضرر اللاحق والضعف والهوان.
التاسعة: الآية تحذير للمسلمين من التردد في القتال الذي يعتبر أهم عائق داخلي ومانع ذاتي يحول دون توجه السواد الأعظم للقتال والجهاد فان روح التشكيك والتضعيف تؤدي الى التراخي وتبعث في النفوس الجبن والخمول مما يؤدي انطباقاً الى الهزيمة.
العاشرة: تعتبر الآية من المعارف الإلهية التي رزقها الله للمسلمين لما فيها من الموعظة والحكمة والدروس المستنبطة منها.
الحادية عشرة: تظهر الآية الأثر الكبير للوجهاء والرؤساء في شد العزائم او تثبيطها.

تفسير قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مُوسَى ] وفيه وجوه :
الأول : الآية تحديد زماني لأوان وقوع الحادثة.
الثاني : تبين الآية الإتجاه الفكري والعقائدي الذي عليه بنو اسرائيل بعد نبوة موسى.
الثالث : تعتبر الآية بالدراسة المقارنة مدحاً للمسلمين في كل زمان فمناهجهم وسيرتهم ومواقفهم ازاء الجهاد والدفاع عن بيضة الإسلام تكاد تكون واحدة لم تتغير.
الرابع : في الآية تنبيه للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بلزوم ايجاد القواعد الثابتة والأسس المتينة لاعداد المسلمين لمسالك الجهاد.
الخامس : الآية تحذير للمسلمين من التبديل والتغيير بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : في الآية بيان لأحد اسباب خلافة المسلمين للأرض اذ ان اهل الملل السابقة احجموا عن القتال بعد حصول الإيمان بالرسالة.
السابع : مما يمتاز به المسلمون انه لا نبي بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فهو خاتم الأنبياء، وبنو اسرائيل استمرت النبوة بين ظهرانيهم ولكن الإنتفاع منها لم يكن تاماً او كافياً، والمسلمون تمسكوا بالقرآن والسنة ولم يغيروا او يحرفوا او يبدلوا.
الثامن : التردد والإمتناع الإبتدائي عن القتال موجود عند بني اسرائيل حتى في ايام موسى مع ظهور الحاجة الى القتال والدفاع حينئذ.
التاسع : ان تأريخ الأمم والملل ينقسم بلحاظ الوقائع والأحداث الى:
أولاً : فترة الرسالة.
ثانياً : فترة النبوة التي تعقب الرسالة.
ثالثاً : المدة الخالية من النبوة الخاصة ، ويتعلق موضوع الآية بالفترة الثانية اعلاه مما يعني ان بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للإنسانية لدعوتهم الى الجهاد وقيادتهم في سبل الهداية والرشاد.
رابعاً : تدل الآية بالدلالة التصمنية على اتصال بعثةالأنبياء الى بني اسرائيل بعد موسى قال تعالى [ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى] ( )
خامساً : ظاهر الآية وما ورد في الأخبار في تفسيرها انه كان عند بني اسرائيل ملك ونبي يؤازره في وقت واحد بالإضافة الى الصدور عن رسالة موسى والرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان هو صاحب الرسالة وهو النبي وهو الحاكم، وعمل المسلمون بعده باحكام القرآن وسنته الشريفة ولا عبرة بمن شذ لظهور مخالفته وعدم اهليتها لأن تصبح قاعدة كلية.
سادساً : الآية اعم من الإتصال الزماني بزمان موسى عليه السلام، فقد يكون مباشرة بعد موسى أي ان النبي هو يوشع بن نون او انه جاء فيما بعده فما بين موسى وعيسى عليهما السلام من الأنبياء يصدق عليهم انهم جاءوا من بعد موسى عليه السلام.

تفسير قوله تعالى [إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ] ويحتمل وجوه :
الأول : تبين هذه الآية ان الملأ هم وجهاء وسادات القوم باعتبار انهم اصحاب الحل والعقد والمشورة والرأي، واضافة النبي لهم أي انه بعث من عند الله عز وجل لينذرهم ويعلمهم احكام الحلال والحرام.
الثاني : هذه النسبة نوع اكرام الهي لبني اسرائيل لما خصهم الله به من بعثة الأنبياء على نحو متعدد، ولكنها حجة عليهم بخصوص التقيد باحكام الدين.
الثالث : في الآية عبرة وموعظة للمسلمين وللخلفاء والحكام منهم وبطاناتهم واصحاب المشورة عندهم.
الرابع : ان بني اسرائيل كانوا يعرفون الأنبياء ويقرون بنبوتهم وانهم مبعوثون من عنده تعالى لتثبيت الدين وبيان احكامه.
الخامس : اتسمت النبوة في بني اسرائيل بعد موسى بعناوين التبليغ وبيان الأحكام وتعيين الملوك ومؤازرتهم وتوجيههم في مرضاة الله، اما في الإسلام فان النبي هو الحاكم بتلقي الوحي من عند الله ثم يأمر الناس سواء في ميادين القتال وبعث السرايا والجيوش او في احكام الشريعة التي تشمل الميادين المختلفة من غير ان تكون في الإسلام ملكية.
السادس : ان الشرائع السماوية لا تمنع من المشورة وابداء الرأي السديد بما فيه تعظيم شعائر الله، ولكن القرار للنبي فلا يصدرون الا من عنده لأنه يتلقى الوحي الا انه ليس قاعدة كلية فقد يكون النبي هو الملك كما في سليمان عليه السلام.
السابع : ان بني اسرائيل مروا بفترات شعروا فيها بالعز والإستقلال والقدرة على قتال الأعداء، اذ ان وجود الملأ والأشراف والوجهاء لا يكون تحت ظل القهر والخوف والإنقياد للغير، وان تلك الحال مناسبة لتثبيت احكام الدين لو احسن الإنتفاع منها.
الثامن : ان ملوك بني اسرائيل يتم اختيارهم من قبل الأنبياء او انهم يصدرون عن امر النبي وتوجيهه وفيه درس للحكام المسلمين ان يرجعوا الى العلماء بخصوص حال القتال والسلم لا ان يفرضوا عليهم اصدار الفتاوى الموافقة لسياساتهم ومقاصدهم واطماعهم.
التاسع : لقد قيدوا القتال انه في سبيل الله لعلمهم بان النبي لا يأمر بالقتال ولا يدعو له الا اذا كان في سبيل الله.
العاشر : ان اهل الحل والعقد والوجهاء يرجعون الى النبي في المسائل المهمة التي تتعلق بمصالح الدين والناس، وتلك حجة عليهم فقد بُعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على حين فترة من الرسل وهو نبي ورسول فالأولى بهم ان يرجعوا اليه ويتبعوه.
الحادي عشر : هناك حالات يدرك بها المسلمون والصالحون الحاجة الى القتال في سبيل الله اعزازاً للشريعة سواء بلحاظ قوتهم او ضعف عدوهم او تهيء الأسباب المسوغة للقتال او للدفاع والذب عن الدين والنفوس والإعراض.
الثاني عشر : تدل الآية بالدلالة التضمنية على اهلية بني اسرائيل للقتال والدفاع، فحينما يقترح الملأ والوجهاء والرؤساء يعلمون ان الناس الذين ورائهم يستجيبون للأمر بالقتال ولو في الجملة.
الثالث عشر : الآية في دلالتها الإلتزامية تنهى بني اسرائيل عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربته، اذ ان القتال في سبيل الله لا يكون قتالاً ومواجهة للنبي، فالنبوة موضوع قدسي واحد لا تعارض اوتناف او اختلاف فيه، فمن يطلب من نبي الإذن بالقتال في سبيل الله كيف يقاتل نبياً آخر ويمكر به ويكيد له.
الرابع عشر : تبين الآية فضل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء، فمن الأنبياء من يأتيه قومه لسؤال القتال، ابتداء ويقود السرايا بنفسه الكريمة ويجاهد بنفسه واهل بيته وخاصة اصحابه سواء الذين هاجروا به او الذين نصروه .
الخامس عشر : في سبب سؤال الوجهاء للنبي ذكرت وجوه:
أولاً : استذلال الجبابرة لهم لما ظهروا على نبي اسرائيل وغلبوهم على كثير من ديارهم وسبوا كثيراً من ذراريهم بعد ان كانت الخطايا قد كثرت في بني اسرائيل وعظمت فيهم الأحداث ونسوا عهد الله تعالى فبعث الله اليهم اشمويل نبياً فقالوا له ان كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك، ونسبه الطبرسي الى الربيع والكلبي.
ثانياً : ذانهم ارادوا قتال العمالقة فسألوا ملكاً يكون اميراً عليهم تنتظم به كلمتهم ويجتمع امرهم ويستقيم حالهم من جهاد عدوهم عن السدي.( )
ثالثاً : ان الله بعث اشمويل نبياً فلبثوا اربعين سنة باحسن حال ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان فقالوا لأشمويل ابعث لنا ملكاً، عن وهب.
رابعاً : نسب الطبرسي الى الإمام الباقر في قوله تعالى [إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ] ان النبي هو شموئيل وهو بالعربية اسماعيل، ونسبه الرازي الى الاكثرين وانه من بني هارون أي ليس من ذرية موسى بل من ذرية اخيه هارون، وقال السدي: هو شمعون سمته امه بذلك لأنها دعت الله تعالى ان يرزقها ولداً فاستجاب الله تعالى دعاءها، فسمته شمعون يعني سمع دعاءها فيه، والسين تصير شيناً بالعبرانية.
خامساً : سؤالهم النبي لأن يبعث لهم ملكاً يفيد بالدلالة الإلتزامية ارادتهم تحقيق النصر من القتال بفضله تعالى بمعنى ان النبي لو كان يعلم انكسارهم وهزيمتهم فانه لا يبعث لهم ملكاً أي انه لا يسأل الله ذلك، او ان الله عز وجل يوحي اليه بذلك، وفي السؤال دعوة للنبي كي يتحمل اعباء نتائج القتال، نعم قيد [فِي سَبِيلِ اللَّهِ ] نوع تقرب وتوسل حسن.
السادس عشر : بعد موسى حصل تقسيم للنبوة والحكم في بني اسرائيل فكانت النبوة عند شخص والملك والسلطنة بيد آخر لذا ورد عن الإمام الباقر ان النبوة في بني اسرائيل في بيت، والملك والسلطان في بيت آخر.
السابع عشر : ليس في سؤالهم شرط بان يكون الملك من بني اسرائيل ولكن مقدمات الحكمة ووجود قدر معلوم في صيغة الخطاب تفيد انهم ارادوا ملكاً من بينهم.
الثامن عشر : في السؤال نوع ادب او التزام بعرف سائد عندهم بعد موسى وهو ان الملك يتم اختياره من قبل النبي، وهو امر التزم به المسلمون اذ لا يتم اختيار امير للسرية او قائد جيش وكتيبة الا من قبل الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
بحث بلاغي
من العلوم البلاغية ما يسمى علم المبهمات، ومصاديقه عبارة عن ذكر مجمل للموضوع، ولا سبيل الى بيانه وتفصيله الا النقل والخبر، والخبر في الغالب يحتاج الى تنقيح اما في السند او جهة الصدور او في الدلالة الا انه ليس عزيزاً، كما ان الابهام لا يتعارض مع الافهام، لان الابهام جهتي وليس كلياً.
ومن الابهام قوله تعالى [إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ] فذكر بصفته وعظيم منزلته عند الله فلا يضر عدم معرفة اسمه، ومع هذا فقد ورد ذكر اسمه في الاخبار، وبذا تتجلى معالم اعجازية في القرآن وهي ان الابهام باب للمعرفة وسبب للتحقيق والاستقصاء وتتبع الآيات الاخرى والاخبار بحثاً عن تفصيل وتفسير لها.
وفيه تعاهد وحفظ للاخبار، أي ان السنة النبوية الشريفة تحفظ بمبهمات القرآن، من غير ان يكون الابهام سبباً للبس او عدم الفهم، اذ انه لا يتعلق بالموضوع اللازم بيانه واعتباره.
ويمكن توظيف علم البلاغة في المسائل العقائدية وفلسفة التوحيد، فنقول ان ذكر النبي بصفته من غير تعيين له على نحو التشخص وذكر الاسم آية وحجة في اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وانه نبي ورسول وجاء بالآيات والبراهين.

بحث اصولي
من مباحث علم الاصول الشبهة المفهومية، وهي في الاصطلاح فرض الشك في المعنى والمفهوم المراد من اللفظ اذا ورد مجملاً وليس نصاً ولا ظاهر له، كما لو ورد قول (اكرم زيداً) وكان شخص زيد مردداً عند السامع بين عدة اشخاص بهذا الاسم.
وتارة يكون الدوران في الشبهة المفهومية بين الأقل والأكثر كما لو قال (اعطه مائة) وشككت هل المراد مائة دينار أم مائة درهم وليس من قرينة تدل على التعيين وتمنع من الترديد.
ونوقش في المخصص المتصل او المنفصل وأثره في الشبهة المفهومية، وفي القرآن لا تصل النوبة الى هذه الدرجة، فما من مجمل في القرآن الا وله بيان وتفصيل وما فيه من الاجمال لا يخل بالمعنى والغرض، ففي المقام ورد ذكر (النبي) بصفته للدلالة على رجوعهم للانبياء وصدورهم عنهم، وان النبي لم يخبرهم الا بما يأذن به الله تعالى.
فليس في الآية غموض يكتنف النص لا من جهة مدلوله التصوري، ولا من جهة مدلوله الاستعمالي، فقوله تعالى [إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ] يكفي لانقداح المعنى في الذهن، ومفهوم النبوة ظاهر وبيّن عند كل انسان وان لم يكن من الموحدين، وله معنى منضبط ومطرد في جميع الاحوال فلا يضر عدم ذكر الاسم.

تفسير قوله تعالى [قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا]وفيه وجوه :
الأولى : (الا) مركبة من (ان) الناصبة للمضارع، و(لا) النافية، فـ(قاتلوا) منصوبة بان المدغمة في (لا)، وقد تكتب بلا ادغام (ان لا تقاتلوا) ولكن رسم القرآن توقيفي.
الثانية : اراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يستوثق من قولهم، ويستظهر صدق نواياهم في طلب القتال.
الثالثة : ان الرغبة في القتال غير خوض غماره، فالحرب اولها نجوى واوسطها شكوى وآخرها بلوى الا ان تكون في سبيل الله فتخف المؤونة ويعظم الأجر والثواب وتهون الخسارة ويكثر البذل فاراد ان يعرف مدى ايمانهم وتقواهم واستعدادهم للتضحية في سبيل الله.
الرابعة : لقد اراد النبي تحذيرهم من النكوص عند فرض القتال، فقد يهدد القائد والزعيم بشن الحرب والقتال ليخوف الأعداء، اما لو اعلنه وتردد قومه واخلوا بقواعد القتال فان العدو يطمع بهم وقد يصابون بالهزيمة والخزي.
الخامسة : الآية عبرة وموعظة للمسلمين ليس بعدم طلب القتال بل بالإستعداد لهم في حال ظهور اماراته واسبابه وعدم النكوص عنه.
السادسة : من الكبائر في الإسلام الفرار يوم الزحف، وبه تتجلى مفاهيم ارتقاء احكام الإسلام على غيره من الأديان، وطرق الشهادة لتثبيت اركان الدين.
السابعة : الظاهر ان في الآية حذفاً، وتقديره ان بعث ملكاً وكتب عليكم القتال معه، وفي الآية اشارة اليه ومقدمة لبعثه وإتمام للحجة وتهيئة للنفوس المستعدة للقتال والتضحية.
الثامنة : لقد اراد النبي ان يستوثق من قومه ويظهر اخلاص نيتهم في القتال والجهاد في سبيل الله.
التاسعة : لقد اشفق عليهم النبي من القتال، ليس تركاً للقتال ورغبة عنه ولكن لما احس من امارات تظهر عدم اهليتهم واستعدادهم للقتال فاراد ان يحثهم عليه ويدفع عن صدورهم شبح الخوف والفزع من القتال.
العاشرة : في الآية توكيــد بان القتــال فرض على اهل الشــرائع السابقة وليس فرضــاً على المسلمين وحدهم، كما في الاشــتراك في خطابات العبادات مثل قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ] ( )، وكما تعاهد المسلمون فريضة الصيام فانهم تعاهـــدوا القتال في ســـبيل الله ولم يتـرددوا فيه حينما يفرض عليهم كما يتجلى في تأريخهم وحبهم للشهادة والبذل.
الحادية عشرة : ظاهر الآية ان النبي اراد خلق حالة من الإستعداد للقتال عندهم وتهيئتهم للجهاد وفيها تعريض بهم واستحضار لإحتمال ترددهم وقعودهم عن القتال.
الثانية عشرة : هذا الترديد والتساؤل من النبي ساهم في عدم زيادة عدد الذين شربوا من النهر والذين قالوا [ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ ] وان ظلوا هم الأكثر، بمعنى ان الأكثرية من الكـلي المشكك فهناك اكثرية مطلقــة وغالبة واكثريــة ضئيلة وكل من هذه العناوين انحلالية تقــع تحتــها عناوين انشـــطارية متعددة، والآية تبين انهم اكثريـــة غالبــة بقرينـــة القليل المستثنى، الا ان كلام النبي ســاهم في وجود هذا القليل ونمائه فان ســــؤال النبي وتحديه لهم اثـــر في كيفيـــة ردهم واســـتحياء بعضهم من الرد فكأن النبي اراد الاخــبار عن قاعدة كلية وهي ان بعث الملك من عند الله فليس لهم ان يمتنعوا عن القتال لأن وظيفته حصراً هي قــتال الظالمين والله عز وجل حكيم منزه عن الباطل لا يفعل الا ما فيه المصلحة والنفع.
الثالثة عشرة : تبين الآية ان الرغبة في خوض القتال دفاعاً او رفعاً للظلم او انتصاراً للحق غير خوض غماره، فالقتال يستلزم عقيدة وايماناً وتهيئة لمقدماته واسبابه ومؤنة ابتداء واستدامة.
الرابعة عشرة : ظاهر المسألة انهم لم يزاولوا القتال والكر والفر وكانوا اهل دعة وفي حالة اجتماعية مستقرة ولكنهم تلقوا اسباب الظلم والحيف فلم يستطيعوا تحملها اباء وعزة، اوانهم رأوا تفشي المنكر ولم يصبروا عليه، او هما معاً فغالباً ما ترى توجه الظلم لأهل الإيمان عند اتساع رقعة المنكر الذي تظهر وجوهه مع انتشار حال الجحود والضلالة.
الخامسة عشرة : ظاهر الآية ان امر القتال ليس بيد النبي بل انه يتوجه الى الله تعالى بسؤال النبي، فاراد النبي اقامة الحجة، ومراجعة الملأ لأنفسهم واسباطهم وقبائلهم.
السادسة عشرة : لقد خشي النبي ان يرجع بنو اسرائيل عليه ويحملوه مسؤولية دخولهم الحرب وخوضهم القتال خصــوصاً مع ما ورد من غلظتهم مع انبيائهم في بعض الأحيان، فاراد ان يشهدوا على انفسهم بانهم الحوا عليه واظهروا التوكيد العام بانهم هم الذين اختاروا القتال وطلبوه وان الهزيمة لا تكون الا بسبب التخاذل والوهن.
السابعة عشرة : اظهر النبي ما هو مظنون ومحتمل من النكوص والفرار عند الزحف سواء كحالة متوقعة في القتال او لظن مخصوص بطبائع الذين سألوه.
الثامنة عشرة : ان النبوة اكبر درجة من الملك وان بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً وليس عموماً وخصوصــاً من وجه فالملك تابع للنبوة وليس العكس.
قبل ان يخبر القــرآن عن الإســتجابة ببعث ملك لهم ذكر مســألة كتابة القتال عليهم، لأن بعث الملك اعم من القتال فقد يأتيهم ملك ولا يقاتل الأعداء او انهم لا يقاتلون معه الأعداء، او يحملونه وزر القتال وتولي شؤونه كما قالوا لموسى [قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ] ( ) لذا ورد في الآية السابقة [مِنْ بَعْدِ مُوسَى ], واستحضار هذه الآية اشارة الى فضله تعالى عليهم مع الجحود والصدود، وتجرأهم فيما قالوه لموسى فان الله عز وجل استجاب لهم، ولكن بعد ان اخذ عليهم موثقاً ان يقاتلوا في ســبيله وهذا الميثاق هو الآخر فضل منه تعالى فهو عون لهم على حســن الإمتثال واختيار ما فيه عز ونفع لهم وعدم تضيـيع الفرص، وفيه بالدلالة الإلتزامية اخبار منه تعالى على المدد الإلهي والنصر، فاذا فرض سبحانه امراً على العبد اعانه على ادائه بالإضافة الى عمومات قاعدة اللطف.

تفسير قوله تعالى [وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا]
لقد اعلنوا انتفاء موانع القتال، والعلة التامة تتكون من وجود المقتضي وفقد المانع فلابد ان هناك مقتضياً لسؤالهم القتال لقد كانت الأسباب التي تدفعهم للقتال ملحة وشديدة بحيث بادروا الى الإخبار عن اصرارهم على القتال وعدم وجود ما يمنعهم دونه.
كما تظهر الآية اهليتهم له وتوفر العدة والسلاح الكافي لمواجهة العدو خصوصاً وان القائل هم الملأ والأشراف والوجهاء ممن يكون على دراية بحال قومه وامكانياتهم ليعلنوا برضا وقناعة عدم وجود مصلحة او منفعة في ترك القتال الأمر الذي يدل بالدلالة الإلتزامية على انه اصبح من احكام الضرورة وان الحاجة تدعو اليه.
كما ان قولهم يتصور على عدة وجوه وهي :
أولاً : أي شيء لنا في ترك القتال، وان (ما) هنا للجحود وليس للإستفهام، وبه قال الكسائي ومال اليه ابو علي الفارسي.
ثانياً : اعطاء العهد على ترك القتال.
ثالثاً : ليس من مانع لنا دون القتال، وبه قال الفراء أي باحتمال حرف الجر وتقديره ما يمنعنا من ان نقاتل.
رابعاً : انعدام العذر في ترك القتال.
ولا مانع من تداخـل هذه الوجــوه واجتماعها لذا تــرى جوابهم جاء قاطعاً وسريعاً كما هو الظاهر، وتبين الآية الحاجة الى القائد في المعركة وادارة شـؤون البلد وتهيئة اســـباب القتال ورفــد المقاتلين بالجنود والعتاد، لأن وظيفة الملك اعم من قيادة الحرب وفي احيان كثيرة يوجه الملك القواد والجنود الى سوح المعارك، لذا جاء تركيب الفاظ الآية على نحو الإعجاز [ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ] ولم يقولوا نقاتل معه،او يقاتل هو، بل نحن الذين نقوم بالقتال، ولكن لابد من ملك وقائد، نعم بســؤالهم النبي ملكاً ارادوه ملكاً صــالحاً لأن القتـال في سبيل الله وصلاح الملك من اهم مقومات واسباب النصر واحراز الظفر.

تفسير قوله تعالى [وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا]وفيه وجهين :
أولاً : لقد اتجه بنو اسرائيل الى بيان العلة التي تجعلهم مصرين على خوض القتال.
ثانياً : في الآية موعظة للمسلمين مركبة من امرين:
الأول: الجهاد في سبيله تعالى عند الأخراج من الديار والأهل كما حصل في فتح مكة.
الثاني: اجتناب اخراج الأعداء من ديارهم واراضيهم وابنائهم، لذا جاء القرآن بالجزية وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمصالحة اقوام كثيرين على بقائهم في ديارهم من غير اخلال باستقرارهم وازاحتهم عن مساكنهم، لتتجلى الحكمة الإلهية في حروب الإسلام ومعارك المسلمين، ومضامين الرأفة في الدين الإسلامي التي تستغرق الناس جميعاً ولم تنحصر بالمسلمين وان كانوا اكثر نفعاً منها لإستدامة العيش في كنفها كاحكام وقواعد كلية تشمل ميادين الفقه والسياسة والإقتصاد والإجتماع والأخلاق.
الثالث : ورد الإخراج من الديار والأبناء مطلقاً من جهة سبب وحيثية الإخراج، والظاهر انه جاء لإيمانهم ورفضهم الكفر والجحود والظلم بقرينة ان القتال في سبيل الله، أي لإقامة الشعائر ودفع الظلم.
الرابع : من اسباب القتال تعاهد الأبناء على الملة والشريعة السماوية فان ترك الأبناء في ايدي الظالمين قد يؤدي الى حملهم على انكارهم لسنن التوحيد ودعوتهم لمعتقداتهم الوثنية ومفاهيم الضلالة.
الخامس : تبين الآية ما كان يعانيه المسلمون من ظلم آل فرعون ونحوهم من الفصل بين الآباء والأبناء، وحجز الأبناء للإنتفاع من طاقاتهم وتربيتهم وفق مفاهيم الظالمين.
السادس : وقد عانى المؤمنون في ايام الدعوة الإسلامية من ذات الأمر فجاهدوا في سبيل الله وتحقق النصر والظفر.
السابع : قدم بنو اسرائيل الديار على الأبناء وظاهره بيان الأهمية ولكن ليس بمعنى تفضيل الديار على الأبناء بل لأن الديار تذهب ملكيتها الى الغير ولا تعود ملكاً او ارثاً، اما الأبناء فهم على نسبهم وهذا المعنى لا يمنع من خشيتهم على ابنائهم من تجدد السبي والقتل او الطرد عليهم ومن اسباب التقديم ان اعادة الديار تفيد اعادة الأبناء معها، بينما اعادة الأبناء قد لا تؤدي الى اعادة الديار ولا تحصل بسهولة وعلى نحو مستقل، أي ان استرداد الابناء لا يتم الابدحر الظالمين واذا تم دحرهم حصلت اعادة الديار.
الثامن : تظهر الآية التحدي الكبير الذي يواجه المسلمين في ملتهم وبلادهم واولادهم، وما يفعله الكــافرون من فصلهم عن ابنائهم واراضــيهم بمعنى نســخ الملة والدين واعداد الإبناء على غير عقــيدة التوحيد وما جــاء به الأنبياء وما بشــروا به من نبوة محمــد صلى الله عليه وآله وسلم، فاصبح القتال ضــرورة وحاجــة عقائدية لوجود المقتضي وفقد المانع ولابد ان المؤمنين يظنون النصر بعونه ومدده تعالى.

تفسير قوله تعالى [ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ]ويحتمل وجوه :
الأولى : في الآية ان الله استجاب دعوتهم وانه بعث لهم ملكاً بواسطة النبي.
الثانية : في الآية درس وعبرة للمسلمين في وصول المؤمنين الى كرسي الملك، وانه لم يأت الا بدعاء النبي وتوسطه والظاهر انه ليس من القضية في الواقعة بل انه منهجية ايمانية ومن مظاهر واعراف النبوة عند بني اسرائيل، ولكن النبوة انقطعت بانتقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى فكيف يكون الملك، الجواب انه وفق الكتاب والسنة والتقيد باحكامهما.
الثالثة : القتال في سبيل الله رحمة متجددة لما فيه من الأجر والثواب واسباب الظفر والنصر وما يبعثه في قلوب الأعداء من الرعب والخوف.
الرابعة : تولي الاكثر منهم عن القتال نوع ضعف وما يحث على الوهن في نفوس القلة منهم الا ان يكون هناك مدد غيبي وعون الهي لتحقيق النصر.
الخامسة : فرض وكتابة ولزوم القتال غير مرحلة حصوله وتحققه في الخارج، لأن خوضه يستلزم الإرادة والعزم وبذل النفس والمال، وتحتمل الآية وجهين:
الأول: انهم خاضوا القتال عندما كتب وفرض عليهم أي ان في الآية حذفاً تقديره فلما كتب عليهم القتال قاتلوا ثم تولوا.
الثاني: انهم لم يقاتلوا باستثناء القليل منهم.
السادسة : الضمير في (منهم) هل يعود للملأ ام لعامة بني اسرائيل بمعنى ان اكثر الوجهاء نكصوا او القليل منهم حاربوا وقاتلوا مع عامة الناس، ام ان الضمير في (منهم) يتعلق بعموم بني اسرائيل وان القليل منهم الذين قاتلوا، الأقرب هو الثاني لحمل الكلام على اطلاقه لإصالة الإطلاق ولقرينة الحــال اذ ان قتال عامة الناس مع تخلف بعض الوجهاء لا يضر في سير المعارك خصوصاً وان القتال الفعلي غالباً ما تقع اعباؤه على العامة وليس القلة من الوجهاء .
السابعة : في الآية ذم صريح لبني اسرائيل لأن النكوص بعد فرض القتال يؤدي الى الخسارة والذلة وزيادة الضرر بالملة.
الثامنة : تبين الآية الحاجة الى الإسلام ولزوم قيام الرجال الاشداء بتعاهد الشريعة واحكام الدين.
التاسعة : الآية مدح وثناء للمسلمين اذ انهم لم ينكصوا ولم يتخلوا عن مواطن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
العاشرة : في الآية مدد وقوة للمسلمين باظهار ضعف عدوهم وخذلانه عند وقوع القتال والحرب، أي ان بيان تخلف بني اسرائيل عن وظائفهم العقائدي وتوجيه اللوم لهم كاهل شريعة سماوية لا يتعارض مع حث المسلمين على قتال الجاحدين لرسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الحادية عشرة : قوله تعالى [تَوَلَّوْا ] بيان لقبيح ما فعلوا وذم لسوء ما قاموا به بعد العهد الذي قطعوه على انفسهم بخوض القتال.
الثانية عشرة : في الآية مندوحة وسعة للمؤمنين بان لا يعزموا على القتال ويشهروا السيوف الا مع الإستعداد له.
الثالثة عشرة : لزوم ابداء حسن التوكل على الله عز وجل، فحينما يكتب القتال على المسلمين يكون قد ضمن لهم احدى الحسنيين اما النصر واما الشهادة.
الرابعة عشرة : التولي هو الإعراض والتخلف عن القتال وهو وان كان فعلاً مذموماً ولكنه يختلف عن الفرار من الزحف فالظاهر انهم لم يخوضوا القتال ولم يتركوه عن عجز او ضعف او سأم وشدة بطش لضراوته ولما فقدوه من الأنفس وكثرة الإصابات، بل انهم امتنعوا عنه اصلاً باستثناء القليل منهم.
الخامسة عشرة : في الآية اعجاز عقائدي فان الملأ والوجهاء والأشراف هم الذين يسألون القتال وحينما يتخلون عنه فان الله عز وجل ينصر دينه ولو بفئة قليلة، وكأن المستثنى مع قلته يدفع عن الكثير المستثنى منه البلاء والعقوبة رأفة ورحمة منه تعالى.
السادسة عشرة : الآية دراسة اجتماعية ونفسية للأحوال العامة، واندفاع الناس ورغباتهم، فقد يقترحون شيئاً شديداً يشعرون بالحاجة اليه، وعند اجتماع شرائطه وتهيئة اسبابه ينكصون عنه.
السابعة عشرة : يميل الإنسان بطبعه الى الدعة والسكينة، وقد يرضى بالخسارة القليلة، ولا يقدم على المجازفة لتداركها اذا رأى اذى ومشقة اضافية الا ان يكون حائزاً على درجة من الإيمان والتقوى، فالآية تبين شرطية الإيمان لخوض غمار الحرب ودفع وجوه الذلة والمسكنة والهوان.
الثامنة عشرة : تمدح الآية القلة التي تتبع الحق وتفي بوعدها والتزامها، وفيه بالدلالة الإلتزامية حث للمؤمنين على عدم الإستيحاش من طريق الحق وان لم يسلكه الا القلة.
التاسعة عشرة : استثناء القليل بصيغة المدح لهم يظهر منطوقاً ومفهوماً التقصير والذنب من الأكثرية وهو باب لإستحقاق العقاب.
العشرون : لا ملازمة بين القتال وعدم التولي، أي لا يخوض القليل المستثنى من التولي القتال ضرورة وحتماً ولكن اظهار الإمتثال بحسن الإستعداد لمواجهة العدو والشواهد في التأريخ كثيرة فقد يخلد الإنسان موقف الصمود والصبر على الإيمان ويبعث الله الفزع في قلب العدو قبل مباشرة القتال، فيتحقق الثواب والأجر بل والنصر بامرين فرض القتال، واظهار صدق النية بالإستجابة وعدم تضييع الأمر الإلهي بدليل عمومات ما ورد في الحديث ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: انما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند الله فقد وقع اجره على الله عز وجل، ومن غزا يريد عرض الدنيا او نوى عقالاً لم يكن له الا ما نوى.
الحادية والعشرون : اظهار الإستعداد للقتال يحول دون تسرب اسباب الخوف والفزع الى النفس.
الثانية والعشرون : الظاهر ان القلة بلحاظ العدد والجمع، والا فان هذه القلة تحمل صفات التحدي والثبات على الإيمان، فهي مع نقص العدد اكثر قوة وصلابة واثراً.
الثالثة والعشرون : قد يبقى القليل من الجماعة او الفئة على الإيمان والحق والهدى ثم يأخذ بالإزدياد والتكثر وجذب المترددين ولكن ظاهر الآية ان هذه القلة هي المحصلة النهائية.
الرابعة والعشرون : الآية عز للمسلمين لإندفاعهم الى سوح القتال وعدم ترددهم في قبول الأمر والإستجابة، نعم ورد ذم ارشادي وتأديبي لبضع رجال وهم ثلاثة على نحو التحديد اذ تخلفوا في واقعة واحدة وهي تبوك قال تعالى [ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( ) وقد بادروا الىالإستغفار في قصة مشهورة عند المسلمين وفي بيان ودراسة مقارنة بين المسلمين وغيرهم.
الخامسة والعشرون : من احكام الإسلام حرمة الفرار من الزحف، وحال المواجهة وعند رؤية بريق السيوف وسيلان الدماء وتطاير الرؤوس والأعضاء اشد من النكوص حال فرض القتال وكتابته، ومع هذا فان المسلمين يحرم عليهم ترك ميادين القتال ولم يسجل التأريخ لهم حصول الفرار وخــزي الإنهزام مما يعنــي ان وظائف المسلمين اعــم واوســع واكبر مما تحمله غيرهم من الأمم، وانهم القــادرون على تحمــل اعبــاء الخــلافـة في الأرض.
تفسير قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ] وفيه وجوه :
الأول : الآية قاعدة كلية جاءت خاتمة للآية الكريمة، فهو سبحانه يعلم ما يفعل الظالمون وما يقترفون من الذنوب والمعاصي.
الثاني : الظاهر ان الآية تبين قسماً من اقسام الظلم وهو سلبي ويتعلق بالإعراض عن المسارعة الى الخيرات في مقابل الظلم الإيجابي الذي بعني التلبس بالظلم والتعدي على الآخرين، فالإمتناع عن القتال نوع ظلم.
الثالث : الآية جاءت على نحو الإطلاق من جهة الظلم أي انه سبحانه يعلم بوجوه الظلم وايذاء الغير، ويحذر من التخلف عن القتال الذي يكون موضوعاً وحكماً في سبيله تعالى.
الرابع : جــاءت الآية على نحــو الإطــلاق من جهــة الظلم أي انه سبحانه يعلم بوجوه الظلم جميعها وهو سبحانه احاط بكل شيء علماً، ويدل ســـياق الآية وما فيها من الــذم على ان التولي عن القتال ظلــم ســـواء صدر من الفـــرد او الجماعة، نعم صــدوره من الجماعـــة اشـــد خطـراً واكــثر ضــرراً، لذا جاء التحذير بصيغة الجمع [ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا].
الخامس : ورد في الحديث ان الظلم ثلاثة: ظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم مغفور لا يطلب فاما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله تعالى، واما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات الصغيرة من الزلات، واما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضاً.
السادس : فاي نوع من انواع الظلم التولي عن القتال بعد فرضه الجواب انه من ظلم الغير وظلم النفس وظلم العقيدة، وظلم الغير لا ينحصر بالمعاصرين بل يشمل الأجيال اللاحقة لما يمثل التولي من التراجع وما يلحق المؤمنين بسببه من الذل والهوان خصوصاً وان فرض القتال جاء عن سؤال منهم لشديد ما لا قوه من الظلم والأذى.
السابع : موضوع الآية وصيغة الذم والتهديد فيها لا تنحصر بالذين تولوا بل تشمل وبالأولوية الذين ظلموهم وتعدوا عليهم بصفتهم مؤمنين اذ ان الذين اخرجوهم من ديارهم وابنائهم اشد ظلماً وعتواً وهم السبب في العناء والبلاء.
الثامن : لعل في الآية اشارة الى بطشه تعالى بالظالمين للمسلمين في مختلف الأزمان والأمصار فاذا تولى فريق من المسلمين وخافوا من القتال والتزموا جانب التقية والصبر فان الله عز وجل يعلم ما يفعل الظالمون.
التاسع : في الآية سر الهي وهو ان علمه تعالى بالظالمين نوع تهديد ووعيد وتخويف واخبار عن حتمية نزول العقاب الإلهي لأنه تعالى يمهل ولا يهمل.
العاشر : متى ما ادرك المسلم انه بعين الله وانه سبحانه يعلم بما يفعـل الظالمون فانه يندفع في دروب الجهاد ولا يأبه بزينة الكــافرين وتمتعهم بالحياة الدنيا لأنه متاع قليل.


قوله تعالى
[وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ] الآية 247
الإعراب واللغة
وقال: الواو: عاطفة، قال: فعل ماض، طالوت: مفعول به، ملكاً: حال، انى: اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب على الحال.
ونحن: الواو حالية، نحن: مبتدأ، احق: خبره.
لم يؤت: لم: حرف نفي وقلب وجزم، يؤت: فعل مضارع مبني للمجهول مجزوم بلم، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو، سعة: مفعول به ثان، واصل سعت وسعة حذفت الواو حملاً على المضارع.
والله واسع عليم: الواو: استئنافية، اسم الجلالة مبتدأ، واسع عليم: خبراه.
والإصطفاء: الإختيار والإنتقاء.
وطالوت اسم اعجمي ممتنع عن الصرف لسببين التعريف والعجمة، ووردت بسطة بالسين، بينما وردت في سورة الأعراف بالصاد [وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصطَةً]( ) والمعنى واحد والمدار على رسم المصحف والقراءة ولا يعتبر عند القراء خلافاً لأنه ليس من زيادة او نقيصة كلمة او حرف خصوصاً مع التواتر في النقل، وفي لسان العرب البسطة: السعة، والبصطة – بالصاد – لغة في البسطة، والزيادة في الطول والجسم تبعث الرعب في قلب العدو، ولعل هناك فارقاً بين البسطة للفرد الواحد والبصطة للجماعة، او البسطة المتعددة كما في طالوت، والبصطة الخاصة بالخلق والجسم كما في الآية في سورة الأعراف.
في سياق الآيات
بعد ان سأل بنو اسرائيل نبيهم ان يبعث الله لهم ملكاً يقاتلون معه في سبيل الله وبينوا اسباب السؤال وعلة القتال وبعد كتابة القتال عليهم جاءت هذه الآية لتخبر عن استجابته تعالى لهم ببعث نبي لهم يقاتلون معه في سبيل الله وكيف انهم اظهروا الإعتراض والتردد.
اعجاز الآية
تبين الآية صفحةجديدة من تفضيله تعالى لبني اسرائيل واكرامه لهم سواء باستجابته لسؤالهم او باعانتهم في رفع الظلم والأذى عنهم او ببعثة ملك يقاتلون معه، والآية وثيقة سماوية في ترددهم وردهم لفضله تعالى وصيغة الإستنكار التي واجهوا بها فضله تعالى.
كما تظهر الآية فضلاً الهياً اضافياً في ذات الموضوع، فجزاء الرد والجحود هو البيان والدليل والبرهان اذ بينت الآية اسباب اهليته للملك واستحقاقه للقيادة وما خصه به تعالى من الإكرام.
الآية سلاح
الآية دعوة للمسلمين للتسليم بامامة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإلتفات الى ما خصه الله عز وجل به من الفضل، انها تمنع من الجحود والتحزب والفرقة والإنشطار داخل المؤسسات الإسلامية لذا كان المسلمون جميعاً تحت قيادته وامرته وكل يتلقى الأمر منه بتوفيق ووحي منه تعالى، والآية حجة على بني اسرائيل وتوكيد لعظيم فضله تعالى وتوالي نعمه ووجودات فضله عليهم ومقابلتها بالتشكيك والصدود.
مفهوم الآية
في الآية بيان النفع العظيم للنبوة وكلام النبي وما يأتي به من الوحي والأمر الإلهي، ومنع من الاجتهاد في استنباط عناصر الترجيح واسباب الأفضلية من غير راجح شرعي، والميل الى تقديم الذات ومحاولة سوق المنافع والمناصب لها، ونهي عن الجحود وعدم المبادرة الى الإمتثال.
وتبين الآية النعم الالهية المتتالية على بني اسرائيل فالنبي لا يأتي بالوحي ابتداءً فحسب، بل انه يكون واسطة بينهم وبين الله عز وجل، فيأتي بالاجابة الالهية على مسألتهم وتلبية حاجتهم ودفع البلاء والاذى عنهم، كما انها تبين كيفية تعامل بني اسرائيل مع الانبياء وما فيها من الثنائية فاذا جاءهم جواب غير مناسب لهواهم سارعوا الى الرد والاحتجاج.
ان تفضله تعالى ببعثة ملك لبني اسرائيل نعمة خاصة من النعم التي فاز بها بنو اسرائيل، فمع كثرة الانبياء بين ظهرانيهم فان الله عز وجل يستجيب لسؤالهم وينصب لهم ملكاً، الأمر الذي يعني اعانته وتكفله في سيرته وسنته والحيلولة دون الظلم والتعدي والاضرار بالناس، ومن الآيات الالهية ان النعمة على بني اسرائيل مركبة وتتفرع عنها نعم اخرى، فحينما ردوا الكلام على الملك، أجابهم بالحجة والبرهان ولم يؤاخذهم على ردهم ويمنع من تنصيبه او يعاتبهم لجرأتهم.
وفي الآية تأديب للمسلمين ولحكامهم واهل الحل والعقد عندهم بلزوم اتباع صــيّغ الاقناع والبرهان والمنع من فرض الرأي او الفعل، فمع انه سبحانه لا يُسئل عما يفعل وتنصيب طالوت جاء من عنده تعالى فانه تفضل وجعل النبي يبين لهم اسباب ترجيحه وتنصيبه للملك، وهذه الاسباب لصالح بني اسرائيل وهي نعمة اخرى عليهم، أي ان الاضافة في العلم الوهبي والكسبي الذي نالها طالوت انما هي فضل منه تعالى على بني اسرائيل وآلة كريمة لينتصروا بها على عدوهم.
ومن مفاهيمها ان الظفر والانتصار على عدوهم يستلزم قوة اضافية ومدداً الهياً وعلماً حضورياً وكشفاً غير موجود عندهم، وان الزيادة في الجسم من قوة البدن والطول والعافية أمور تصلح للأمرة والسلطنة، وفيها حث للمؤمنين ان لا يختاروا لمواقع القيادة من ابتلي بمرض يحول دون ادائه لوظائفه العامة.
وجاءت خاتمة الآية تأديباً وزجراً لهم بانه ليس لكم حصة في الملك، وكنتم مستضعفين أذلاء للظالمين الكافرين، فحينما نصب الله عز وجل عليكم واحداً منكم وجعله مؤهلاً علماً وبدناً ترددتم وتساءلتم، والملك لله تعالى في الحياة الدنيا والآخرة.
ومن الناس من يســتحوذ عليهم جــرأة او تعدياً ويبتلى به، ومنهم من يصل اليه بتوفيــق منه تعالى وهــذا الوصول على مراتب متعددة، بحســب الطريق الذي اتبعه للوصول الى الملك، وحســب المدد الإلهي، وفي طالــوت كان المــدد الإلهي علة تامة لوصــوله الى الحكم، ومــنه دفاع النبي عنه، فالنبي اراد تثبيت أمر طالوت وتهيئة مقدمات قبول الجيش له، والمنــع من التردد وما يتــرتب عليه من اثــارة الوهــن والشك.
التفسير
قوله تعالى [ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا]
بعد ان اخذ منهم نبيهم موثقاً ان يقاتلوا في سبيل الله اذا فرض عليهم القتال وهذا الفرض واللزوم يأتي بواسطة النبي او الملك الذي ارادوه.
والضمير (هم) في نبيهم يفيد ان هذا النبي بعث لبني اسرائيل او لأمة او سبط من اسباطهم على نحو الخصوص، وهذا القيد لم يكن حصراً او صفة خاصة بطالوت، بل هو من باب المثال، لذا فمن الفوارق التي ذكرت بين الرسول والنبي ان الرسول يبعث بشريعة والى عامة الناس، والنبي يبعث الى بعضهم وقد يبعث الى قريته او قبيلته او اسرته.
والآية تبين تسليم بني اسرائيل بنبوة نبيهم وانه يستطيع ان يسأل الله وان يوحي له سبحانه، كما تدل على اعتيادهم المسألة والطلب في الامور الإبتلائية وذات الأهميــة وانهم كانوا معتادين على تلقــي الإجابة وعلى تفضله تعالى بالإستجابة واعطائهم سؤالهم وقضاء حاجاتهم.
انها نعمة ينفرد بها بنو اسرائيل في زمانهم ومن اهم افراد التفضيل واللطف والإحسان الإلهي، وان كان ظاهر سؤالهم توجيه المسألة الى النبي ذاته، وذكر ان النبي هو اشموئيل وهو بالعربية اسماعيل، ونسبه الطبرسي الى اكثر المفسرين وانه المروي عن الإمام الباقر عليه السلام، وعن السدي انه شمعون بن صفية من ولد لاوي بن يعقوب، وعن قتادة انه يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف بن يعقوب.
ومن الإعجاز ان تســمع جواب النبي صريحاً بان بعث الملك من عند الله تعالى وليس من اختياره هو مع كونه نبياً وهذا تشريف اضافي آخر لبني اسرائيل انهم يطلبــون من النبي اختيار ملك عليهم فيختــار لهم الله عز وجل الملك وهذا الإختيار رحمة بهم وتخفيف عنهم وهو ايضاً حجــة عليهم ومقدمــة نبوية كريمة تتضــمن النهي عن رفض هذا الإختيار او الإعتراض عليه او استنكاره لأنه تعالى لا يفعل الا الأكمل في الحسن والحكمة والدقة وجلب النفع ومنع الضرر.
لقد ورد سؤالهم مطلقاً وعلى نحو التنكير وبلا شرط ومن غير تقييد للملك بصفة او قيد او مانع معين، فجاء الجواب والأمر الإلهي بذكر اسمه على نحو الخصوص ومن غير ترديد بين اثنين او اكثر وهذا الإختيار الإلهي والتعيين والحصر رحمة ومناسبة لمنع الفرقة والخلاف والتشتت.
وتبين الآية تقسيم المسؤوليات عند بني اسرائيل والفصل بين النبوة والملك في الوقت الذي كان فيه موسى نبياً واماماً وكذلك الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الا ان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن معه نبي آخر مدة رسالته بل جاء بعد فترة انقطاع للنبوة .
ومادة بعث وردت في بعثة الأنبياء والرسل وهذه الآية الوحيدة التي تبين بعثة ملك من عنده تعالى وفيها نكتة وهي ان بعثة الملك جاءت بواسطة النبي مما يدل على افضلية النبي وان لم يكن ملكاً وحاكماً وهذه الأفضلية تترشــح من منزلة النبــوة الرفيعة وذكر (عن الربيع والكلبي انهم قالوا له: ان كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله)( )، وظاهر الآية بخلافه فهم يعلمون انه نبي وسؤال القتال كان مقيداً بانه (في سبيل الله)

قوله تعالى [ قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ]
بدل ان يقابل بنو اسرائيل الإختيار الإلهي للملك وتفضله بالإستجابة خصوصاً مع الحقيقة الثابتة عند جميع الخلائق وهي انه لا يفعل الا الخير والصلاح وما فيه السلامة والرشاد فانهم قابلوه بالإعتراض والإستنكار وطرح التساؤل المريب وبذا ظهر صدق نبوة نبيهم عندما حذرهم من التولي والإعراض عن القتال حينما يكتب ويفرض عليهم، فان قلت اذن لماذا يتوجه بالسؤال الى الباري عز وجل ببعث ملك لهم مع معرفته وترجيحه لإعراضهم.
الجواب: ان الرحمة الإلهية اعم من ان تخضع للقواعد العقلية، وتتصف المشيئة الإلهية بالرأفة والإحسان واقالة العثرة وتكرار الفرصة وتجديد المناسبة للمسألة والعمل، بل ان الموثق الذي اخذه عليهم نبيهم يساعد في وجود جماعة منهم على الحق تستجيب لأمره تعالى وتستحضر هذا الميثاق الأمر الذي تؤكده الآية التالية، كما ان السؤال والإستجابة يتعلقان باتصال فضله تعالى على بني اسرائيل ونعمه التي تترى عليهم بما هو اعم من النبوة والقتال اذ ان الملك لا تنحصــر وظائفه بالحروب وميادين القتال بل تشمل الأحكام والمعاملات وتنظيم شؤون البلاد والمجتمعات.
وفي سورة البقرة شددوا على انفسهم بتكرار السؤال عن اوصاف البقرة التي امروا بذبحها اما في المقام، فانهم سألوا النبي الملك ومن غير تقييد بصفة او نسبة او خصوصية ما، فجاءهم الإختيار والتعيين من عنده تعالى كي يزول أي شك او تردد عندهم لأنه سبحانه [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ]( ).
وفي توكيد النبي بان بعث الملك من عنده تعالى مقدمة عقلية وعقائدية لإعانة بني اسرائيل على قبول هذا التنصيب وعدم المبادرة الى الإستنكار او الجحود او التردد في القبول.
وتفضله سبحانه بتنصيب الملك لبني اسرائيل رحمة اضافية وهي وان لم تكن عند المسلمين الا ان الله عزوجل رزقنا اجتماع النبوة والإمامة والملك عند الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل ان ما قاله بنو اسرائيل في هذه الآية وردهم على الله يشبه قول الملائكة [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، الجواب: لا، لأن كلام الملائكة لم يصدر الا عن منازل الملكوت والطاعة لله فلابد من تأويله تأويلاً حسناً.
ان حصر الرد بالملأ من بني اسرائيل نوع رحمة منه تعالى خصوصاً وان العامة ينقادون في الغالب لأوامر النبوة اســرع من الملأ ويبادرون الى الإمتثال من غير رد او احتجاج او ســؤال البرهان والحجة فاذا آمنــوا بصدق النبوة فانهم يسلمون بما يأتي عن طريق النبي وهذا من منافع المعجزة فانها تجعل القلوب تنقاد للنبي.
ترى ما هي اسباب هذا الرد والإستبعاد لتنصيب طالوت ملكاً، ذكرت وجوه:
الأولى : ان النبوة كانت منحصــرة بسبط مخصوص من اســباط بني اسرائيل وهو سبط لاوي بن يعقوب ومنه موسى وهارون، وسبط المملكة في سبط يهود ومنه داود وسليمان، وطالوت لم يكن من هذين السبطين بل هو من سبط بنيامين لذا استغربوا تعيينه ملكاً عليهم.
الثانية : من شرائط الملك الغنى والثروة، وطالوت ليس غنياً ، ولعل الغنى امارة على الفطنة والإجتهاد وحسن التصرف وانه سبب في المنزلة الإجتماعية الرفيعة، بمعنى ان الإنسان لو كان يحسن التصرف في حياته اليومية لإستطاع جمع ثروة من المال، والى الآن يعطي اليهود اولوية للنشاط التجاري واعتباراً للثراء.
الثالثة : من وجوه الاهلية والأحقية للملك كثرة عدد الأعوان والأتباع، وطالوت ليس له اتباع يعينونه على تهيئة مستلزمات الملك.
الرابعة : ان الملك يدور مدار المطالبة به وبالعزم على قتال العدو، ونحن الذين بادرنا الى سؤال القتال وتعيين الملك لذا ترى من التخفيف في بدايات الدعوة الإسلامية انه اذا جاء وفد قبيلة الى المدينة المنورة ليعلنوا اسلامهم فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤمر عليهم رئيس القبيلة نفسه بعد ان يؤخره اياماً في المدينة ليتعلم كيفية اداء الصلاة وبعض الأحكام الشرعية ولو في الجملة، ويستمع الى القرآن ويعرف قدسيته وموضوعيته في العقيدة الإسلامية.
وذكر الرازي ان الله تعالى لما عين طالوت لأن يكون ملكاً لهم اظهروا التولي عن طاعته والإعراض عن ملكه( )، ولكن لابد من التفكيك بين استنكار او استغراب تعيينه، وبين الحال الذي سيكونون عليه اذا باشر مسؤوليات الملك واستدام حكمه أي ان الإعتراض يتعلق باسباب وعلة اختياره دون غيره مع ظنهم بحيازتهم اسباب الترجيح دونه.
انه نوع تشديد على النفس اعتاد بنو اسرائيل عليه بالإضافة الى ما فيه من الجحود والإبتعاد عن منازل الرق والعبودية، ومن رأفته تعالى بهم ان بينت الوقائع فيما بعد سلامة الإختيار لعلهم لم يذكروا هذا القول اعتراضاً واستنكاراً بل لإستحضار مستلزمات الملك من المال والأعوان وان الملك يحتاج الى مال للعتاد وجمع الأتباع ومؤن الملك والجنود.
وحرف الجر (على) يفيد الاستعلاء مما يدل على افادة قولهم معان اعم من الإحتمال اعلاه بدليل قولهم ونحن احق بالملك، أي انهم يشعرون باحقية لهم من خلال النسب او الحال والشأن ويدل كلامهم بالدلالة الإلتزامية على انهم كانوا متسالمين على كون الملك من بين الخاصة منهم، وتدل الآية على حصول فوارق بين بني اسرائيل بلحاظ الذين اعترضوا كانوا فئة او سبطاً او جماعة منهم وهم المقدمون عند بني اسرائيل وان طالوت لم يكن من بين الذين سألوا النبي ان يختار لهم ملكاً.
ان اعتراضهم هذا يدل على السجايا التي ابتنت عليها سيرتهم وادت بهم الى الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه ليس من بني اسرائيل فهم كانوا ينتظرون نبي آخر الزمان، ويستعدون لنصرته وحينما بعث من غيرهم بذلوا الوسع لتحريف الأخبار، وما ذكر من الصفات في الكتب السـماوية عنه، فمن يعترض على ملك يختاره الله بناء على طلبهم وحاجتهم الشديدة من بينهم ومن بعض اسباطهم فمن باب اولى ان يعترض لقصور في رأيه وضعف في ايمانه على اختيار نبي من غير خاصته.
ذكر ان قوله تعالى (ملكاً) أي اميراً على الجيش كما عن مجاهد، والظاهر ان الآية اعم من امارة الجيش وان دل عليها سياق وموضوع الآية، وفيه نكتة وهي عدم الفصل بين امارة الجيش ومطلق الملك أي المدني والعسكري وكذا الحياة في السلم وفي الحرب، وهذا لا يلغي دور ومقام النبي بين ظهرانيهم لكن وظائفه تتعلق بالوحي وتبليغ الأحكام والمحافظة علىالصبغة الإيمانية في المجتمع، ونسب الطبرسي الى القيل انه بعثه نبياً بعد ان جعله ملكاً، وهو امر يحتاج الى دليل، والقدر المتيقن من الآية انه بعثه ملكاً، والأقوى وجود صلة بين هذا الملك وبين السماء بقرينة ان الله عز وجل هو الذي بعثه وفيه وجوه محتملة:
الأولى : ان الله عز وجل يوحي اليه وحي ملك وليس وحي نبوة الا ان يدخل في وحي الصالحين ويحتاج الى دليل في المقام، ولم يثبت ان هناك قسما من الوحي هو وحي الملوك.
الثانية : ان الله عز وجل يوحي الى نبي زمانه ويتلقى الملك الوحي والأوامر بالواسطة اذ ان الوحي امر يختص به الأنبياء.
الثالثة : ان طالوت كان محدثاً – بفتح الدال- أي تحدثه الملائكة والتحديث قسم من اقسام الأخبار الإلهي وهو دون النبوة قال تعالى [ إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ]( )، وفي الحديث: “ان في كل امة محدثين من غير نبوة”.
الرابعة : انه ملك من غير وحي بل يتولى شؤون المملكة والقتال بقدراته اومؤهلاته الشخصية العقلية والبدنية، والأقوى الوجه الثاني وبالإمكان ترجيحه هو والوجه الثالث في حكاية عنه في الآية السابقة [ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي]( ) الا ان التحديث يحتاج الى دليل خاص، بينما تكون قرينة وجود النبي بين ظهرانيهم ونعته في الآية الكريمة بانه (نبيهم) باضافته ونسبته اليهم واخباره عن بعث الملك من عند الله على الوجه الثاني، وورد عن وهب عن الإمام الصادق انه قال: “كان الملك في ذلك الزمان هو الذي يسير بالجنود، والنبي يقيم له امره وينبئه بالخبر من عند ربه”.
وذكر انه قال اردشير لإبنه: “يا بني ان الملك والدين اخوان لا غناء لأحدهما عن الآخر فالدين اساس والملك حارس، وما لم يكن له اساس فمهدوم، ومالم يكن له حارس فضائع، ومشورتك لأهل الدين”.
ولكن الإسلام جاء بالنسخ لأعراف الملك واكد على اتحاد الدين والملك وهما ليس مما اذا اجتمعا افترقا واذا افترقا اجتمعا، بل انهما متداخلان خصوصاً وان الدنيا مزرعة الآخرة.

قوله تعالى [وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ]
تبين الآية الكريمة ان طالوت لم يكن من الملأ والوجهاء ولكنه ليس شخصاً مغموراً او غير معروف بل انهم يعرفونه على نحو الدقة والتفصيل من جهة النسب والشأن والحال المالية ولم يتطرقوا الى حالته الإجتماعية ومنزلته الا انهم ينظرون له بلحاظ النسب وقلة ما في يده، وهذه النظرة ليست مادية محضة بل انها تتعلق بتيسير دفة الحكم وتحمل نفقات الحرب او المشاركة فيها، لقد نظروا للامور وفق الحسابات الظاهرية والمادية المحضة ولم يلتفتوا الى الفيض الالهي والعون السماوي والرفد الملكوتي لمن اختارة الله عزوجل.
وهناك وجوه اخرى محتملة في احتجاجهم هذا:
الأولى : ان الذي ليس له مال لا يصلح للملك من ناحية المنزلة.
الثانية : ان الفقر وعدم جمع المال يدل على عدم الأهلية في الشـؤون المعاشية والأحوال الشخصية والكسب اليومي فكيف يدبر شؤون الملك.
الثالثة : ان الفقير لا يستطيع ان يؤثر بالناس ويقودهم نحو مراتب الرفعة والشأن.
الرابعة : ان الفقير لا يستطيع ان يأمر الأغنياء بالتوجه الىالقتال والمبارزة لتراكم حواجز نفسية عنده هيبة خاصة منهم.
الخامسة : ان الذي ليس عنده مال اذا جاءه الملك يميل الى جمع الثروة الخاصة لحاجته الىالمال ولأهميتها عند بني اسرائيل مطلقاً.
السادسة : ان الفقير تنفر منه النفوس ويصعب انقيادها له وان تم تعيينه فجأة ملكاً، كما ترى في حال حصول الإنقلابات ونوع بعض الثوار او المغامرين للاستحواذ على السلطة فان الناس لا تنظر له من خلال منصبه الجديد الا بعد فترة ومدة مديدة تعتاد خلالها على الحالة الجديدة.
السابعة : لعل اعتراضهم امر مستحدث ناتج كلاً او جزء عن اخبار النبي بان بعثته من عند الله وما يتضمنه من الدلالات.
الثامنة : وبعض هذه الوجوه يفيد ان اعتراضهم ليس رفضاً واحتجاجاً انما لطلب التوضيح والعلة وانهم ابدوا ملاحظاتهم مع ارادتهم النصر على الأعداء والحاجة الى قتالهم مع ملك منهم، وهذا الأمر لا يصلح ان يكون علة تامة للإحتجاج لأن الله عز وجل اعلم بالمصلحة والأحسن والأنفع فضلاً عن انه سبحانه يوفق العبد ويمده بالتأييد والنصر.
التاسعة : يحتمل ان يكون اعتراضهم على بعثة تشكيكهم في اصل البعث وانه قد لا يكون من عند الله عز وجل فلو كان الله عز وجل اراد له ان يكون ملكاً لجعل عنده مقومات الملك وما هو ادنى من الملك بان جعل عنده ثروة ومالاً يتزود به على امور دنياه ويجعله وسيلة خصوصاً وانهم توجهوا الى النبي بالإصالة في سؤالهم كما ورد في بداية الآية السابقة [لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا] وتبين الآية ان منصب الملك كان مرغوباً فيه عندهم مع ما فيه من المخاطر وتولي شؤون القتال، ولعل هذه الرغبة بسبب احراز التوفيق الإلهي لمن يكون بعثه من عنده تعالى.
العاشرة : ذكر ان طالوت كان فقيراً وهو ظاهر الآية الكريمة اذ انهم نفوا عنه الثروة والغنى وذكرت اقوال ثلاثة:
الأول : كان دباغاً.
الثاني : مكارياً.
الثالث : سقاء.

ولكن هذه الأقوال لم ترفع الىالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم او الى احد الصحابة او الىائمة اهل البيت عليهم السلام وفي خبر ابي بصير عن ابي جعفر ان بني اسرائيل بعد موت موسى عملوا بالمعاصي وغيروا دين الله عتواً عن امر ربهم وكان فيهم نبي يأمرهم وينهاهم فلم يطيعوه.
وروى انه ارميا النبي فسلط الله عليهم جالوت وهو من القبط، فاذاهم وقتل رجالهم واخرجهم من ديارهم واموالهم واستعبد نسائهم ففزعوا الى نبيهم وقالوا سل الله تعالى ان يبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، وكانت النبوة في بني اسرائيل في بيت والملك والسلطان في بيت آخر، لم يجمع الله تعالى لهم النبوة والملك في بيت واحد فمن ذلك [قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا] وكان كما قال الله [فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ].
فقال لهم نبيهم ان الله قد بعث لكم طالوت ملكاً فغضبوا من ذلك وقالوا [قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ] وكانت النبوة في ولد لاوي والملك في ولد يوسف وكان طالوت من بن يامين اخي يوسف لأمه ولأبيه لم يكن من بيت النبوة ولا من بيت المملكة [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] وكان اعظمهم جسماً وكان شجاعاً قوياً وكان اعلمهم الا انه كان فقيراً فعابوه بالفقر فقالوا [وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ] [وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ].
وكان التابوت الذي انزل الله على موسى فوضعته فيه امه والقته في اليم فكان في بني اسرائيل معظماً يتبركون به فلما حضرت موسى الوفاة فوضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آيات النبوة واودعه عند يوشع وصيه فلم يزل التابوت بينهم حتى استخفوا به وكان الصبيان يلعبون (به) في الطرقات فلم يزل بنو اسرائيل في عز وشرف ما دام التابوت عندهم فلما عملوا بالمعاصي واستخفوا بالتابوت رفعه الله عنهم، فلما سألوا النبي بعث الله تعالى طالوت عليهم ملكاً يقاتل معهم فرد الله عليهم التابوت كما قال [إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ] قال البقية ذرية الأنبياء.
الحادية عشرة : لعل الملأ والوجهاء ابدوا استغرابهم لأن الفقر يعتبر مانعاً من تثبيت الملك، أي انهم لم يعترضوا ولكنهم عبروا عن خشيتهم من عدم اتباع العامة لطالوت كملك يريدون القتال والنصر فيه وهو امر لا يتحصل الا بالإتحاد وحسن اتباع الملك واطاعة اوامره في ميادين القتال وعلى هذا يحمل قولهم [وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ] أي اننا اكثر قبولاً عند العامة، وسياق الآية ولغة الإنكار يدلان على ضعف هذا الإحتمال بالإضافة الى دلالة قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ] وللتسالم على تفسير الآية بما لا يتعارض مع موضوع احتجاجهم وانكارهم.

قوله تعالى [قال إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ]
الآية جواب على استنكارهم لتعيين طالوت ملكاً، وورود اسمه من السماء على نحو الخصوص وفيه رحمة ورأفة ببني اسرائيل لما يتضمنه من لغة الإقناع وحسن الإجابة وانعدام الغضب، وهل يمكن ان يكون هذا الجواب وما يتضمنه من اللطف دليلاً او قرينة على عدم اعتبار ردهم استنكاراً انما هو لطلب البيان والتفسير والإعانة، الجواب لا، لأن جواب النبي جاء لبيان رحمته تعالى ولطفه وفضله تعالى المتتالي على بني اسرائيل وعدم مؤاخذتهم على اسباب الجحود والتردد والتشكيك انذاك، لقد ظهرت اخلاق النبوة بهذا الجواب لما يتجلى فيه من آيات الإيمان والدعوة الى الإهتداء ومحاولة التخلص من الكدورات واسباب النفرة والخصومة.
انه وجه كريم من خصائص النبوة وعدم انحصارها بالوحي، وان تنصيب الملك لا يغنــي عن وجـــود النبي بين بني اســرائيل فان مــن لطفه تعالى ان تؤازر الملكية والأمرة العسـكرية النبوة عندهم، وكذا العكس في المؤازرة لتوجيههم نحو العبادة واسباب الطاعة والنجاة من الظالمين هذا كله بعد رسالة موسى وهارون عليهما السلام كما هو نص الآيات الكريمة، بينما اتخذ المســـلمون بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن هادياً ودليــلاً وعيناً وسنته الشـــريفة طريقاً وضياءً ومنهاجاً، بهما يتلمسون دروب الرشاد ويلتقون عند المحن والمشاق، ويدرءون الفتن، ويصدون كيد الأعــداء، ويواجهــون الظالمين والمعتدين.
والإصطفاء الإختيار والإنتقاء، وورد هنا بمعنى التفضيل ايضاً و(على) هنا تفيد الإستعلاء المعنوي كما في قوله تعالى [تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ]( ).
وقال الرازي هذه الآية تدل على بطلان قول من يقول ان الإمامة موروثة، وذلك لأن بني اسرائيل انكروا ان يكون ملكهم من لا يكون من بيت المملكة، فاعلمهم الله تعالى ان هذا ساقط( )، وفيه اقرار بموضوع الإمامة ولكنها غير الملك، وان طالوت ايضاً من ذراري الأنبياء، كما انه اذا حصــل استشهاد بالأمــم والشــرائــع الســابقة لصالح من يقول بوراثة الإمامة، يأتي الجـواب بان تلك الشرائع منسوخة.
وفي الجواب تأديب لبني اسرائيل وتوكيد بان الإختيار من عنده تعالى ولم يكن الا عن حكمة واختيار واصطفاء وتفضيل لتولي هذا المنصب خصوصاً وان القتال في سبيله تعالى فلابد ان يكون الإختيار للأنسب والأفضل والذي يقودهم فيما فيه قصد القربة بعيداً عن الرياء والأغراض الدنيوية والدنيئة.
ان الموضوع ذو صبغة ربانية، فجاء الإختيار والإنتقاء من عنده تعالى وبما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، فلابد ان لهذا الإصطفاء موضوعية واعتباراً في تحقيق النصر والفوز على الأعداء.
وقوله تعالى [اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ] فيه حذف أي اختاره ملكاً عليكم بالإضافة الى ما في (على) من الإستعلاء.

قوله تعالى [وَزَادَهُ بَسْطَةً]
بيان لعظيم فضله تعالى الخاص والعام، فالخاص هو تهيئة طالوت للملك واصلاحه للقيادة سواء كانت تلك الزيادة موجـودة عنده في اصل خلقته او انها مكتسبة في صباه او شبابه او انها مستحدثة وجاءت ساعة الإصطفاء والإختيار، او ان تلك الوجوه اجتمعت فيه وهو الأرجح، وهذا الإجتماع لا يعني انها بعرض واحد، فان الذي ناله عند الإصطفاء هو الأكثر والأهم، لأن احتجاجهم على تنصيبه ملكاً يدل على عدم اتصافه بمزايا خارقة قبلها، لذا يمكن استبعاد ما ذكـره الطبرسي (بانه كان اعلم بني اسرائيل في وقته واجملهم وافقههم واعظمهم جسماً واقوالهم)( ).
لقد وصفوه بالفقر وعدم الغنى والثراء ولم تكن عنده صفات تخفف من وطأة هذا الوصف، فجاء البيان والتوضيح بمضامين الإقناع من النبي نعم جاء الكلام بصيغة الماضي (زاده) ولا يعني بالضرورة انه سابق على وقت الإصطفاء والإختيار ولكن للاثبات والاحتجاج، ولعل هذه الزيادة حجة ودليل على ان اختياره من عند الله وانه اصبح يتصف بمؤهلات الملك والرئاسة، وفيه تخفيف عنهم واعراض كريم عن احتجاجهم ودعوة الى نقلهم للقبول والإستعداد للعمل معه وهو جزء من فضله تعالى المتوالي عليهم، كما يمكن ان تكون الواو في (وزاده) حالية وهي كل واو على تقدير (اذ) أي اصطفاه عليكم اذ زاده بسطة في العلم، ويمكن ان تكون واو المعية العاطفة، ان الآية تبين ان العلم كسبي ووهبي وانه تعالى يهب لمن يشاء العلم والسعة فيه.
والآية تحث على طلب العلم وعلى سؤاله من عنده تعالى فنيل المراتب العالية من العلم لا ينحصر بالكسب والسعي في اروقة الدراسة، وترى هذا الأمر ظاهراً في التباين بين الناس في الإستيعاب ومقدار الإنتفاع والإعتبار وقوة الذاكرة او عدمها والشوق الى طلب العلم وتهيئة اسبابه ومستلزماته والسعة في الوقت لتحصيله وانتقائه.
كما تبين حاجة الملك وتولي المناصب الرفيعة الى العلم ومؤهلات الإختصاص.
وهل في الآية تنبيه الى خصائص الذي يتم اختياره للرئاسة والملك عند حصول الإنتخابات وغيرها الجواب نعم ولكن أي علم هو، هل في فنون الحرب ام في الفقه والأحكام الشرعية ام في العلوم البدنية والإجتماعية او التأريخية، الجواب ان المراد من العلم المتعلق بالوظيفة والملك وما يحتاجه في عمله ومقدماته، والظاهر ان المراد من العلم في الآية الكريمة في قيادة الجيوش وتنظيم الصفوف وتوفير المؤن بالإضافة الى آلات وشؤون الملك ومعرفة احواله واظهار حسن التدبير كما اكدت الآية على شرف العلم وتقدمه في الرتبة على المال والجاه وبه يمكن الحصول عليهما.
وتبدو اهميته بتقديمه على الجسم في الآية الكريمة، فالملك رياسة وزعامة تحتاج الى التدبير والحكمة ووضع الاشياء في مواضعها المناسبة، والقوة في البدن مؤازر للعلم ومحل مناسب للإنتفاع الأمثل منه، وذكر ان طالوت كان طويل القامة اذا قام الرجل فبسط يده رافعاً لها نال رأس،ه ومن البسطة في الجسم القدرة الإضافية على الفعل، واستثمار الوقت، وقوة التحمل، وقلة ساعات النوم.

قوله تعالى [وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ]
ثم انتقل النبي من الخاص الى العام لبيان قواعد كلية ثابتة في الإرادة الكونية والتكوينية ولنفي أي موضوعية للناس بالإختيار، نعم جاء في موسى وبلحاظ الوحي والرسالة انه سأل الله عز وجل في هارون [ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي]( ) اما بنو اسرائيل فقد سألوا ملكاً من غير تقييد بشخص معين وفيه أمور :
الأول : انهم لم يتفقــوا فيما بينهم ولعل كل واحد منهم يريد ان يكون ملكاً.
الثاني : لم تكن عندهم منزلة تؤهلهم للطلب بالإسم والتخصيص.
الثالث : لقد جعل الله عز وجل عند الإنسان ملكة راسخة، بان الله عز وجل هو الأعلم بالمصلحة والنفع.
والآية تأديب لبني اسرائيل لا ينحصر بزمانه وموضوعه بل انه يتصل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي دعوة للتسليم بها والإيمان بما جاء به من عند الله تعالى.
وفي الاية بشارة للنصر على الأعداء وهو الأهم في المقام والغاية التي جاء من اجلها الملأ من بني اسرائيل باعتبار ان الملك في هذه الآية هو اعم من التنصيب.
ومن اسمائه تعالى “المالك” و”الملك” لذا قيل انه تعالى ملك الملوك أي ربهم وخالقهم ومالكهم للتباين الموضوعي في عنوان الملك بين واجب الوجود وبين الممكن.
اما الملك – بضم الميم – وهو يذكر ويؤنث فمعناه الرياسة والسلطان والعز وتظهر الآية حاجة بني اسرائيل الى النبوة واستدامتها بتعاقب الأنبياء عندهم من وجوه:
الأول : كيفية محاربة الأعداء والتصدي للظالمين والكفار.
الثاني : تلقي الوحي والقيام بتبليغهم بالأحكام.
الثالث : اثبات صحة النبوة بآيات تبقي بني اسرائيل في منازل الإيمان.
الرابع : معالجة شؤونهم وتعيين الملوك والأمراء بالوحي وعلوم النبوة.
الخامس : قذف الصبر في نفوسهم لتحمل صنوف البلاء والأذى، وتظهر الدراسة المقارنة ارتقاء المسلمين في سلم الكمالات الإيمانية واستحضارهم لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى بعد مغادرته للرفيق الأعلى وكأنه حاضر بينهم في اقواله واحكامه وسنته، ويهتدون بنور القرآن ويجتمعون تحت لواء آياته.
لقد اتجه النبي الى اقناعهم وارشادهم الى القبول بهذا الإختيار واشار الى ما في هذا القبول من النصر والظفر والملك، واتيان الملك في الآية على جهات :
الأولى : اتيان الملك الشخصي بتنصيب الملوك بواسطة الوحي، او بما هو اعم.
الثانية : استدامة الملك في بني اسرائيل بقبولهم لنبوة الأنبياء وما يأتون به من عند الله وهذه الإستدامة كان من الممكن ان تستمر حتى بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقبول نبوته ودخول الإسلام وبقائهم على عزهم وديارهم في المدينة وخيبر وفدك فقد جاءهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات والبراهين واكرمهم في المعاملة بغية ايمانهم وهدايتهم ولم يأمر باخراجهم من ديارهم الا بعد التعدي على الإسلام ونقض المواثيق، فقاتلهم المسلمون في سبيل الله، ولكن في هذه الآية سألوا ان يقاتلوا في سبيل الله الظالمين، وهكذا لا يكون القتال في سبيل الله الا مع النبي وخلفائه، فالقتال في سبيل الله يدور مدار الرسالة الناسخة، كانت معهم النبوة فقاتلوا اعداء الدين، اما بعد البعــثة النبويـة الشــريفة فان النبوة اصبحت مع المسلمين وانحصر القتال في سبيل الله بالإنتماء الى الإسلام، واتباع احكام القرآن لذا فان هذه الآية تتضمن البشارة برسالته صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : من معاني الملك العز والشأن ، وتكوين الأسرة والمال الشخصي والسلامة من الرق والإستضعاف ، ويشمله عموم قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ) .
الرابعة : سيادة الإسلام أي ان نبيهم يدعوهم الى اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته وانبساط الحكم للإسلام لصيغة الإطلاق ولغة المضارع في اتيان الملك.
والآية اخبار عن امكان وصول اهل الإيمان الى الملك وان لم يكــونوا من ذراري الملوك وان فضله تعالى لا يتعلــق بقوم او جماعة على نحو الخصوص، فهي دعوة للســعي والجهاد في ســبيله تعالى، وتولي المسؤوليات حسبة وامراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ان شاء سبحانه.

قوله تعالى [وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]
من اسمائه تعالى الواسع فهو الذي وسعت رحمته كل شيء يصيب بها البر والفاجر، وشمل رزقه جميع خلقه المؤمن منهم والكافر، الكبير والصغير، وهو الغني الذي لا تنفد خزائنه ويسع عطاؤه كل من سأله من غير ان ينقص منه شيء، وهو الذي يهب للعباد اكثر من حاجاتهم، واحاط بكل شيء علماً، فمن عطائه يهب الملك لمن لم يكن في آبائه الملك فضلاً منه تعالى.
ولعل في الآية انذاراً واخباراً عن قرب بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نسل اسماعيل ومن خارج بني اسرائيل.
وانه سبحانه يوسع على من يشاء ويهيء له اسباب المال اللازم له ووجود الأتباع والأعوان في بيان للملأ من بني اسرائيل ان الله عز وجل هو الذي وسع عليكم في المال والجاه وهو الذي يمد طالوت باسباب الملك، فانتم لا ترضون بطالوت وملكه على نحو مجـرد، بل انه يتلقى المدد منه تعالى، ان ما احتج به الملأ من مؤهلات وحيازتهم لأسباب التفضيل منه تعالى، وهو الذي يوسع على طالوت فيجعل ذات الاسباب عنده ويزيد عليه من فضله وبذا تنقطع حجتهم، ومن اسمائه تعالى العالم والعليم وهو الذي احاط بكل شيء شيء علماً ويعلم ما ينفعكم ويقوم اموركم ويصلح حالكم.
والآية دعوة لتفويض الأمر لله تعالى وترك الأهواء ونزع رداء حب الذات والجاه وترك الصغائر والتوجه لما هو اهم من التحديات التي تواجه النوع والإيمان واللجــوء اليه تعالى فهو العالم الكريم، ومن فضــله تعالى على بني اسرائيل ان تعيين قيادتهم في القــتال من عنده تعالى ولابد ان يقترن ذلك بآيات حسية وتخفيف في المؤونة وتحقيق النصر.
بحث كلامي
من صفاته الثبوتية انه سبحانه عالم فكل الأشياء حاضرة عنده على نحو مستديم قبل ان تكون واثناء وجودها من بعد اعدامها أي انها منكشفة لديه غير غائبة عنه لأن علمه حضوري وليس انطباعياً، وقد استدل على انه عليم بانه قادر مختار وكل فاعل مختار هو عالم، لأن المختار لا يفعل شيئاً الا وهو يقصده ويريده وبذا يختلف المختار عن الموجب وما لا يكون معلوماً لا يتوجه اليه القصد.
ومن علمه تعالى انه سبحانه لا يفعل الا الأفعال المحكمة المتقنة ويدل عليه مخلوقاته الحسية والآيات الظاهرة سواء الموجودة في العالم العلوي او العالم السفلي، وهو الذي يمتحن عباده.
ان خاتمة هذه الآية قاعدة كلية تبعث الأمل في النفوس وتنشر الرحمة بين الناس وتجعل القلوب معلقة بفضله تعالى وتنتظر نزول شآبيب رحمته الخاصة والعامة، والجامع بينهما، اذ ان اختيار طالوت نعمة لعموم بني اسرائيل واجيال المسلمين مع ان الإختيار شخصي كذلك بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانها رحمة للناس جميعاً.
لقد كان تنصب النبي ملكاً على الملأ من بني اسرائيل مدرسة في الإحتجاج والإقناع واذابة لروح الجحود والكفر والعناد، ولعلها مقدمة لقبولهم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوطئة للإمتناع عن الإحتجاج والتمسك بكون النبوة منهم وفيهم.
ان صيغة الرد ووجوه البرهان على اهلية طالوت ومحاولة تركهم لإستنكار اختياره امارة على صدق نبوته واجتنابه للغضب والإنفعال فان قلت ان موسى كان يغضب قلت: ان غضبه في جنب الله، وان موسى كان اماماً وقائداً، وهذا النبي يريد ان يأخذ قومه الى سبل الأمان والتوفيق والنجاح.


قوله تعالى[وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]الآية 248

القراءة
قرأ القراء جميعهم التابوت بالتاء وهي المرسومة في المصاحف وقرأ ابي وزيد بن ثابت التابوه بالهاء وهي لغة الأنصار.
الإعراب واللغة
أن يأتيكم: مصدر مؤول في محل رفع خبر ان، والكاف: مفعول به مقدم.
التابوت: فاعل يأتي، سكينة: مبتدأ مؤخر،
ان كنتم مؤمنين: ان: شرطية، كنتم: فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، التاء: اسم كان، مؤمنين: خبر كان منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم، وجواب الشرط محذوف تقديره: فاتعظوا واقبلوا الأمر.
والسكينة فعيلة من السكون، وهي عند الإنسان هيئة نفسانية تنشأ عن الطمأنينة وانعدام الخوف والفزع.
والتابوت معروف وهو الوعاء والصندوق الذي يحرز فيه المتاع والتابوت الذي يوضع فيه الميت، وتاؤه اصلية ووزنه فاعول واعتبر الزمخشري هذا الوزن مرجوحاً ورجح وزن معلوماً لأنه يقل في كلام العرب لفظ يكون فاؤه ولامه من جنس واحد لذا نعته بالفساد، ولكن القلة اعم ولا تعني فساد القول، وهو فعلوت من التوب أي الرجوع باعتبار انه حرز يحفظ فيه الشيء، ومعه يرجع الى صاحبه.
في سياق الآيات
بعد احتجاج الملأ من بني اسرائيل على الإختيار الإلهي لطالوت ملكاً عليهم وصيغة الحكمة التي قابل بها ردهم واستغرابهم واعطائهم دروساً في المعارف الإلهية جاءت هذه الآية وفيها الحجة والبرهان على اهليته للملك.
اعجاز الآية
في الآية توكيد عملي لقول النبي واخباره عن الله عز وجل وسلامة تنصيب طالوت ملكاً، وفي الآية بيان للإعجاز الحسي في ملكه وهو دليل على ان الملك يؤيد بآية فمن باب اولى ان تكون النبوة مؤكدة بالبرهان القاطع على صحتها.
الآية سلاح
تعتبر الآية عوناً على الإمتثال للأوامر الإلهية واتباع الأنبياء ومن ينصب من عنــده تعالى او من عند انبيائه، وهي ســلاح بيد بنــي اسرائيل لطلب الآيات من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته كما ان الآيات التي جاء بها حجة عليهم سواء العقلية منها او الحسية.
مفهوم الآية
اقامة الحجة على بني اسرائيل في توالي النعم علهيم ونزول الآيات والبراهين بالمناسبات وغيرها بما يؤدي الى منعهم من الزيغ والحيلولة دون الأضرار بهم، وتحثهم الآية على التزام دروب الإيمان وعدم الجحود والصدود.
وفيها اخبار عن آيات تصــاحب تنصيب الملك اذا كان هـذا التنصيب من عنده تعالى، مما يعني ان الآيــات الإلهية لا تنحصــر بالأنبياء بل هي شـــاهد على صـــدور البعثة من عنده تعالى ســواء كان المبعــوث نبياً او ملكاً.
وفي الآية تحذير من عدم قبول الآيــات او التردد والإمتنــاع عن الإمتثال، فلابد للآية من وظيفة وتأثير ويجب ان تجد قبولاً وحسن استجابة عند بني اسرائيل، فالنبي يسعى بالقول والفعل الى عدم تفــريط بني اسرائيل بالآيات، وهذا السعي قاعدة كلية في سنن الأنبياء، لأن التفريط سبب لإستحقاق العقاب وتفويت فرص النصر على جالوت وجنوده.
وبدأت الآية الكريمة بما افتتحت به الآية السابقة [ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ]، وفي هذا التكرار فضل ونعمة منه تعالى على بني اسرائيل بالذات وبالعرض، اما الأول أي التكرار بالذات فانه دلالة الإكرام والعناية الإلهية والتوفيق وقرب رحمته تعالى من بني اسرائيل في الدنيا واتصال الوحي عليهم نزولاً واسـتجابة، واما الثاني فانه تعالى يمن عليهم بالبرهان تلو البرهان لإقناعهم وحملهم على تلقي الأوامر الإلهية بالقبول والرضـا على نحو التعدد والأفراد المتعاقبة من فضله تعالى.
وفي الآية دلالة على وجود آية لتعضيد قبول الملك الذي يكون تنصيبه من عنده تعالى وان كان مجرد اخبار النبي به كافياً للتسليم بأمرته ولكن آية الملك توكيد اضافي واثبات عملي لصدق تنصيبه من عنده تعالى.
وهذه الآية لم تأتِ لتصديق ملكه فقط بل انها تتضمن الآيات والمضامين القدسية والإفاضات السماوية والنفع العظيم وهو أمر يعتبر بمفرده آية مستقلة تستحق الشكر، فالبرهان الذي يأتي امراً اضافياً وقطعاً لترددهم ومنعاً من تماديهم بالإحتجاج وجمعهم على الطاعة يؤدي وظائف قدسية عظيمة ويكون مقدمة لتحقيق النصر، وليس من ضرورة لملازمة الإعجاز لتنصيب طالوت ملكاً كما يمكن ان يأتي الإعجاز بعد توليه الملك وقيادة الجيوش وظهور النصر على يديه بآية منه تعالى، لكن الآيات جاءت لطفاً منه سبحانه قبل الملك ومقترنة مع بداياته لإعانة بني اسرائيل على التوجه لميادين القتال ومواجهة الظالمين ونزع حاجز الخوف من مقاتلتهم والتصدي لبغيهم وعتوهم.
ولو كانت آية ملك طالوت منحصرة في منافعها بإثبات ملكه وليس لها وظائف اخرى فهل يقبلها بنو اسرائيل ام لا، لقد خفف الله عز وجل ولم يجعلها ابتدائية ومتعلقــة بتنصــيبه ملكاً بل هي مســتديمة بفيض دائم مع حاجة بني اسرائيل اليها، ومن منافع اســـتدامتها منع بني اسرائيل من التمرد عليه واظهار الإحتجاج على ملكه فيما بعد، فالتابوت حارس سـماوي لملك طالوت ومانع من التعدي عليه او نكرانه.
فان قلت: لم هذه العناية بملك طالوت، الجواب: انه عنوان تثبيت حكم الإسلام في الأرض في الأرض وسبيل الى نجاة بني اسرائيل وهدايتهم الى سبل الرشاد وخلاصهم من الظالمين وحاجز دون تمردهم وعتوهم خصوصاً بعد هزيمة الظالمين واستقلال بني اسرائيل في الحكم والإقامة خصوصاً وان معاني الملك لا تنحصر بأيام الحرب بل تشمل حال السلم وما بعد ايام الحرب وهو ظاهر عنوان ولفظ الملك ولأنه سبحانه لا يعطي الا بالأوفى ولإتمام النعمة على بني اسرائيل والمنع من تشتتهم وتفرقهم ووقوع النزاع بينهم وعودة الظالمين لإستضعافهم خصوصاً وان كرسي الملك من أهم موارد الخلاف والنزاع وان الناس في حال السلم وابتعاد الخطر الخارجي تبرز عندهم روح التنافس والحسد وتستحوذ على بعضهم النفس الشهوية والغضبية.
لقد كان ملك طالوت مناسبة لتجديد الصلة مع رسالة موسى وهي آية وعلامة على وحدة النبوة وعدم غياب مفاهيمها وان الآخير منها متصل بالاول، والملك فرع النبوة.
ويمكن ان يكون ملك طالوت مقدمة لنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وملك الإسلام وان التابوت جاء ببقية مما ترك آل موسى وهارون، والقرآن جاء بما نزل على موسى وعلى الأنبياء الآخرين، والنزول اشرف مصاديق التركة ويتعلق بصفة النبوة، وفي القرآن سكينة للمؤمنين وأمان للناس مع مائز له في الرتبة عن التابوت، وهو ان القرآن آية عقليةتخاطب العقول ووسيلة لهداية الناس وتتضمن معاني البقاء والدوام والسعة والإستغراق وحمله جبرئيل من عنده تعالى.
وبعض السور نزلت معها الملائكة ففي سورة الأنعام مثلاً ورد عن ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “انزلت عليّ الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون الف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد، فمن قرأها صلى الله عليه وآله وسلم عليه اولئك السبعون الف ملك بعدد كل آية من الأنعام يوماً وليلة”، ويدل الحديث على استدامة وظيفة هؤلاء الملائكة بحفـــظ وتعاهــد ســورة الأنعام بواســطة الصلاة على من يقرأها.
التفسير
قوله تعالى [وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ]
الواو عاطفة، فبعد الإخبار عن استجابته تعالى لسؤالهم واجتهاد النبي لإقناعهم وحملهم على الرضا ببعث طالوت ملكاً جاءت هذه الآية للتوكيد العملي على صدق ما يخبر عنه ولزوم قبوله بان ذكر الآية الحسية التي تكون علامة على ملكه، وهذه الآية انما هي عز لبني اسرائيل وبشارة بالنصر أي انها تثبت ان ملكه من عنده تعالى وان الله يصلحه للملك بافاضات وبركات قدسية، وتلك نعمة مركبة على بني اسرائيل اتصفت بخصوصية وهي ان جحودهم وتقصيرهم وعدم مبادرتهم الى الإستجابة امور لم تمنع من توالي النعم واتصاف اللاحقة بالإرتقاء والتجلي اكثر من السابقة.
فقد يقول قائل ان طالوت بهذه الهيئة وحده قادر على النصر على الأعداء، وهذا الحصر تم بتوجه بني اسرائيل الى نبيهم بالسؤال ببعثة نبي واظهارهم الرغبة في القتال في سبيله تعالى، وفيه آيات للناس جميعاً من جهة انه حجة على بني اسرائيل ودعوة لأهل الإيمان واللجوء الى الله تعالى والى انبيائه.
ومع غياب النبوة في هذا الزمان فان التوجه الى الله تعالى باب مفتوح الى يوم القيامة لأن النبي كما يبدو في هذه الآية واسطة رسالية كريمة والا فان الله عز وجل قد سمع مسألتهم قبل ان يسمعها النبي وهو اعلم بها قبل ان ينطقوا بها، (وقال الطبرسي وفي هذا دليل على انهم قالوا لرسولهم ان كان ملكه بامر من الله ومن عنده فأتنا بعلامة تدل على ذلك فاجابهم بهذا) ( ).
ولكن الآية لطف الهي واخبار عن قاعدة كلية في المعارف الإلهية وهي ان كل من يبعث من عنده تعالى يأتي بعلامة ودليل يناسب موضوع بعثته ويدل على صدقه ويدعوالى مناصرته ومؤازرته ويمنع من الإختلاف فيه اوخروج اهل الإيمان عليه وهو من علمه سبحانه واتقانه للأمور، فالرحمة والبعث والفضل الإلهي يطرد الضرر بادنى توظيف للعقل واخلاص للنية.
ان مبادرة الملأ من بني اسرائيل الى الإستنكار قد يظهر بتمرد كبير على طالوت اثناء القتال خصوصاً اذا حمى الوطيس، وقول الملأ يؤثر بالعامة تأثيراً بالغاً خصوصاً في حالات الإضطراب والإرباك والضيق والحرج، فجاءت هذه الآية لمنع الفتنة، ومن الإعجاز فيها انها ليست ابتدائية ومؤقتة بوقت محــدد بل هي مســـتديمة وملازمة لطالوت في ميادين القتال مع انها حسية وتضاف الى نعمه تعالى على بني اسرائيل، فكما كانت عصا موسى عليه الستتلام آية حســـية ملازمة له، فان التابوت آية مصاحبة لطالوت، بالإضافة الى اعتبارها في ميادين القتال وتحقيق اسباب النصر والتوفيق، وان كانت آية العصا أكثر أهمية واعجازاً.
فمن فضله تعالى على بني اسرائيل توالي النعم وحضورها عند ادنى مفاهيم الحاجة لتكون عوناً لهم على الهداية وليتعاهدوا بقاء عقيدة التوحيد الى حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانقطاع النبوة بها ومحافظة المسلمين على بقائها بالمعجزة الباقية الى يوم القيامة وهو القرآن.
وجاء ذكر التابوت في الآية بصيغة الفاعل وانه هو الذي يأتي وليس طالوت مع انه الذي يأتي به، لتثبيت انه آية مستقلة وان طالوت ما كان بامكانه احضاره لولا فضله تعالى، ان مجيء التابوت على نحو مستقل اثبات لكونه خارقاً للعادة وانه كان مفقوداً او يتعذر على بني اسرائيل احضاره وان الإتيان به لا يكون الا بمعجزة ولابد ان المتعارف بينهم هو اقتران النصر بوجود التابوت.
وقال الرازي (والإتيان على هذا مجاز لأنه اتى به ولم يأت هو فنسب اليه توسعاً) ( ).
والأقوى ان نسبة الإتيان الى التابوت نفسه على نحو الحقيقة وليس المجاز لعدم انتفاء مضامين الحقيقة عما يأتي بقوة غيبية وفضل الهي، ولإصالة الحقيقة اذا دار الأمر بين الحقيقة والمجاز ولبيان وجه الإعجاز والتحدي في مجيئه واعطائه هيئة الإستقلال والفعل كافاضة الهية على الآية وقد تقدم في باب اعراب الآية في قوله تعالى [ أَنْ يَأْتِيَكُمْ ] بان المصدر المؤول في محل رفع خبر ان.
وفي التابوت مسائل واقوال:
الأولى : انه الصندوق الذي قامت أم موسى بوضع موسى فيه والقته في البحر لقوله تعالى [ أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ]( ) وقد وردت لفظ التابوت بصيغة التعريف بالألف واللام مما يدل على انه كان معروفاً محدداً وهو امارة على كونه آية من اجل اعداده للنبوة، بالإضافة الى الوظيفة العظيمة له في حفظ موسى ووصوله حيث يشاء الله، فكما وصل التابوت الى فرعون نفسه فانه في هذه المرة وصل الى طالوت وكأنه جزاء التضحيات الأنبياء والمسلمين من بني اسرائيل.
الثانية : ان هذا التابوت انزله الله عز وجل، لكي تضع أم موسى فيه موسى وتلقيه في اليم.
الثالثة : كان موضع تقديس عند بني اسرائيل يلتمسون فيه البركة.
الرابعة : اودعه موسى عند وصيه يوشع بن نون عند وفاته بعد ان وضع فيه الألواح وما عنده من آيات النبوة.
الخامسة : ان بني اسرائيل كانوا يقدمون في الحرب فينتصرون على الكفار.
السادسة : ان الملائكة هي التي تحمل التابوت احياناً.
السابعة : انه كان يدور في بني اسرائيل.
الثامنة : في الخبر ان فيه الطشت التي تغسل فيها قلوب الأنبياء.
التاسعة : ان الله تعالى انزل على آدم تابوتاً فيه صور الأنبياء وان اولاد آدم توارثوه من بعده الى ان وصل الى يعقوب وهو اسرائيل فاخذه من بعده اولاده وكانوا يقدمون في القتال يستفتحون به على عدوهم، وذكر ان الملائكة تحمله فوق العسكر اثناء القتال فاذا سمعوا صيحة تصدر من التابوت استبشروا وايقنوا بتحقيق النصر.
العاشرة : لما ركب بنو اسرائيل المعاصي وابتعدوا عن سنن الأنبياء وتركوا الجهاد في سبيل الله تمكن العمالقة من التغلب علىالتابوت واخذوه واستخفوا به وانتقصوا من شأنه فابتلاهم الله بالأمراض وعلموا ان هذا البلاء بسبب التعدي على حرمة التابوت، فعملوا على التخلص منه ووضــعوه على ثورين، فسارا به ووكل الله تعالى بهمــا اربعة من الملائكة يسوقونهما الى ان اوصلوهما الى منزل طالوت، وفي هذه الإثناء جاء الملأ من بني اسـرائيل فوجدوا التابوت عند طالوت، فكان دليلاً حاضراً على انه الملك عليهم وايقنوا بصحة اخبار النبي.
الحادية عشرة : في رواية ان التابوت رفعه الله بعد ما قبض موسى لسخطه على بني اسرائيل، ثم نزل من السماء الى الأرض والملائكة تحفظه حتى نزل عند طالوت، ونسب هذا القول الى ابن عباس.
الثانية عشرة : في خبر يونس بن عبد الرحمن: انه سأل الإمام موسى بن جعفر ما كان تابوت موسى وكم كان سعته؟ قال: ثلاثة اذرع في ذراعين قلت: ما كان فيه؟ قال: عصا موسى والسكينة، قلت: وما السكينة؟ قال: روح الله يتكلم كانوا اذا اختلفوا في شيء كلمهم واخبرهم، وقيل كان عليه صفائح الذهب.
الثالثة عشرة : في مرسلة حريز عن الإمام محمد الباقر في الآية قال: رضراض الألواح فيها العلم والحكمة العلم جاء من السماء فكتب في الألواح وجعل في التابوت.
الرابعة عشرة : في خبر العياشي عن محمد الحلبي عن الإمام جعفر الصادق قال: كان الملك في ذلك الزمان ، هو الذي يسير بالجنود ويقيم له امره، وبينه وبين الخبر من عند ربه فلما قالوا ذلك لنبيهم قال لهم انه ليس عندكم وفاء ولا صدق ولا رغبة في الجهاد، فقالوا ان كتب الجهاد فاذا اخرجنا من ديارنا وابنائنا فلا بد لنا من الجهاد ويطاع ربنا في جهاد عدونا، قال: فان الله قد بعث لكم طالوت فقالت عظماء بني اسرائيل وما شأن طالوت يملك علينا وليس في بيت النبوة والمملكة وقد عرفت ان النبوة والمملكة في آل لاوي ويهودا وطالوت من سبط بنيامين بن يعقوب فقال لهم [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ] والملك بيد الله يجعله حيث يشاء ليس لكم ان تختاروا وان آية ملكه ان يأتيكم التابوت من قبل الله تحمله الملائكة فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون وهو الذي كنتم تهزمون به من لقيتم فقالوا ان جاء التابوت رضينا وسلمنا.
الخامسة عشرة : في الخبر عن الإمام علي بن موسى الرضا قال: كان في التابوت الواح موسى التي تكسرت والطشت التي تغسل فيها قلوب الأنبياء.
السادسة عشرة : كان التابوت في برية النية خلفه هناك يوشع بن نون.
السابعة عشرة : ومع تعدد الأخبار في التابوت فلا تجد تعارضاً بينها، وفيها دلالة وتوكيد بانه آية من عنده تعالى سواء في بداية نزوله او ظهوره مرة اخرى، وهو سبحانه اذا انعم نعمة على اهل الأرض فانه اكرم من ان يرفعها ولكن معاصي بني آدم تحجب تلك النعمة وهو التواب الرحيم.
الثامنة عشرة : ان قدسية التابوت تترشح من ذاته كآية، ومما فيه كوعاء للسكينة ولما فيه مما ترك آل موسى وآل هارون والتابوت ايام موسى ليس فيه هذه البقية، بل كان موسى نفسه موجوداً.
والظاهر حصول التسالم بين بني اسرائيل بان التابوت آية من عنده تعالى سواء باحضاره الى بني اسرائيل او بتقديمه في الحرب او بما فيه من البركة والإفاضة الإلهية، وكأنه نعمة كانت معطلة ومخفية، وان أوان السؤال وبعث طالوت ملكاً مناسبة لظهوره وتجلي هذه الآية من جديد، وتخبر الآية الكريمة عن نوع ملازمة زمانية بين مجــيء التابـوت وبداية ملك طالوت وهو من الاتقان والحكمة التي تتجلى في مشيئته بالإضافة الى انه نعمة اخرى على بني اسرائيل.
وقيل ان طالوت كان نبياً واستدل بمجيء التابوت على يده وهو معجزة، ولكن القرآن وصفه بانه ملك والنبوة اعلى مرتبة وتحتاج الى دليل وظهور المعجزة، وعلى القول بان مجيء التابوت كان معجزة فيمكن نسبتها الى النبي لأنه هو الذي اخبر عنها كمصداق لقوله واخباره عن الله عز وجل وهو كرامة لطالوت وتثبيت لملكه، وهو أمر ظاهر لا تصل الشبهة اليه بمعنى ان بني اسرائيل يعرفون ان طالوت ملك وليس نبياً بدليل سؤالهم ورجوعهم الى النبي وتعيينه ملكاً باخباره.

قوله تعالى [فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ]
بعد الإخبار والبشارة عن مجيء التابوت لبني اسرائيل رحمة وفضلاً على بني اسرائيل ودعوة لهم للقتال في سبيل الله ومقدمة للنصر، وهذه الآية نفي للطيرة من لفظ التابوت وما فيه من الإشارة والكناية عن الموت ونعش الميت بل انه يبعث الرعب في قلوب الأعداء ويجعلهم يستحضرون الموت والقتل في الوقت الذي يبعث السكينة في نفوس المسلمين، ومن منافع السكينة انها تجعل بني اسرائيل يقبلون تعيين طالوت ملكاً ويرضون بملكه لأن بعث السكينة في النفس يؤدي بالضرورة الى الرضا بامره تعالى.
وبالإضافة الى ذكر (السكينة) هنا، فقد ورد ذكرها خمس مرات، مرتين في سورة التوبة وثلاث في سورة الفتح، كلها تتعلق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، والآية محل البحث هي الوحيدة التي تتعلق بنزول السكينة في بني اسرائيل ولكنها لم تنزل عليهم ولا على الملك طالوت ولا على نبيهم بل انها كانت في التابوت لبيان عظيم فضله علىالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المسلمين، قال تعالى [ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ]( ).
فالسكينة تنزل مباشرة على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، بينما نزلت على بني اسرائيل في التابوت وتترشح عليهم منه، وهذا الترشح قد لا يكون مطلقاً وامراً مفروغاً منه فقد يكون معلقاً على امور واسباب منها اظهارهم التسليم بملك طالوت والصبر في مواجهة الأعداء وعدم التولي عن القتال لأن التابوت والسكينة لا يقاتلان بدلاً عنهم بل هما عون ومؤازر.
ووظيفة السكينة بعث الإستقرار والثقة في النفوس وازالة الحواجز والكدورات الظلمانية في مواجهة العدو وعدم الفزع، كما انها عـون على الرضا بملك طالوت وتلك نعمـة اخرى على بني اســرائيل، فالله عز وجل يتفضل عليهم بالنعم والآيات ثم ينزل عليهم ما يصدهم عن الجحود وان اظهروا ميلاً له وجاهروا بمفاهيم التشكيك والريب واعلنوا التردد في القبول.
لقد ساهمت السكينة التي في التابوت في اصلاح بني اسرائيل ولم يبادروا الى التشكيك في موضوع التابوت ذاته او في كيفية احضاره الى دار طالوت او انتفاعهم في التابوت من غير ملك طالوت، وكأنها نهاية للجــدل والتردد وبداية السعي والجهاد في سبــيل الله من غير فترة بينهما.
وفي الخبر عن الإمام علي بن موسى الرضا قال: “السكينة ريح من الجنة لها وجه كوجه الإنسان، فكان اذا وضــع التابوت رجل بين يــدي المســلمين والكفــار فان تقــدم التابــوت رجــل لا يرجع حتى يقــتل او يغلب ومن رجــع عن التابوت كــفر وقتله الإمام”.
لقد اتجه نبيهم هذه المرة الى بيان تفاصيل المعجزة ففي بعث طالوت اخبر عن الأمر مجملاً من دون ذكر التفاصيل واسباب تفضيله الى ان اظهروا الإستغراب والإعتراض، اما في مسألة التابوت فانه لم يذكره مجرداً عن التفاصيل بل ذكر وجوه الإعجاز ومضامين النفع العظيم من التابوت وهو رأفة ورحمة منه تعالى على بني اسرائيل وفضل الهي عظيم يحول دون ترددهم في القتال، فاذا كانوا قد اعترضوا على تنصيب طالوت ملكاً فمن باب اولى ان يعرضوا عن مواجهة العدو ويحاولوا ايجاد العذر للإمتناع عن القتال ليس فقط بالتشكيك والإحتجاج بل باثارة الفزع والخوف في صفوف المقاتلين، الأمر الذي يؤدي الى التشتت والضعف والهزيمة.
فالإخبار عما في التابوت من الآيات اعجاز وبيان لتهيئة مقدمات النصر، وهذا الإخبار وحده نعمة اخرى على بني اسرائيل وكأنه بشارة لتحقق هزيمة العدو بمجرد العزم على القتال والتلبس بادائه.
وتظهر الآية فضله تعالى على المقاتلين والمجاهدين تحت لواء من اختاره الله ملكاً للقتال في سبيل الله، وفيها تحذير وتنبيه لبني اسرائيل ايام نزول القرآن والأزمنة اللاحقة له، فمن باب الأولوية ان يجعل الله عز وجل السكينة مع رسوله الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين يقاتلون معه وجنود الإسلام مطلقاً ما دام قتالهم في سبيل الله، فالآية اخبار عن خسارة من يحارب جند الإسلام ويسعى لمواجهتهم والتصدي للرسالة الاسلامية، وفعلاً ترى السكينة ظاهرة على المسلمين في حروبهم وهو الأمر الذي اكده القرآن والسنة.
فعندما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى خيبر نادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الناس ان لا يخرجوا معه الا رغبة في الجهاد، وعندما وصل خيبر ورآه اليهود وقالوا: محمد والله محمد والخميس، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله اكبر، خربت خيبر، انا اذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، وبعد ايام من المراماة والمواجهة بشر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بالفتح وقال: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فاعطاها علياً عليه السلام، وامره ان يدعوهم الى الإسلام قبل ان يبدأ القتال.
وكانت السكينة ظاهرة على جيش المسلمين افراداً وجماعات مع الجرأة والإندفاع في سبيل الله واصاب الفزع اليهود سواء في غزوة بني قينقاع او غزوة بني النضير اذ انتهت كل منهما بجلائهم وقد اسلم عدد كبير منهم لما رأوا من الآيات والبراهين في غزوة بني المصطلق مثلاً التي وقعت في السنة السادسة للهجرة وقبل الخامسة وقعت في السبي جويرية بنت الحارث بن ابي ضرار رئيس بني المصطلق فاعتقها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما رجع الى المدينة وتزوجها بعد ان اسلمت فقام المسلمون بعتق اهل مائة بيت من بني المصطلق كانوا قد اسلموا لأنهم اصبحوا اصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكانت جويرية اعظم النساء بركة على قومها، مما يدل على حسن معاملة المسلمين لليهود واطلاقهم بعد الوقوع في الأسر.
ويلاحظ في الآية ان السكينة وردت بصيغة التنكير وانها ليست من النبي او من الملك بل من عند الله فقال النبي لهم [سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ] وهذه الإضافة في الآية تبعث على السكينة ايضاً لما فيها موضوعاً وحكماً من التذكير برحمته ورأفته تعالى بهم، فمن معاني ربوبيته تعالى المكلية المطلقة زماناً ومكاناً لما هو مقدر او غير مقدر، وموجود او معدوم، والتدبير والقيمومة الشاملة والإنفراد بالإنعام على الخلائق جميعها وحاجتها الى هذا الإنعام.
وفي الآية تذكير بلزوم عبادته تعالى والإمتثال لأوامره واتباع من يبعثه رسولاً او نبياً او ملكاً، ان التقييد الوارد في هذه الآية ونسبة السكينة اليه تعالى رباً وخالقاً فيه نوع طمأنينة ورحمة وتثبيت لملك طالوت وطرد للشبهات والتردد، وشوق للقاء العدو او عدم الخوف والوجل منه.
فموضوع السكينة وما فيها من الآيات مركب:
الأولى : ذات السكينة.
الثانية : مجيؤها في التابوت.
الثالثة : اوان نزولها في حال التهيئة للقتال.
الرابعة : وظائفها السماوية المتعددة، فهناك حذف في الآية، والتقدير سكينة لكم من ربكم.
الخامسة : انها سلاح في المعركة والقتال.
السادسة : السكينة بشارة النصر على الأعداء.
السابعة : الآية دعوة للقادة العسكريين المسلمين لدراسة موضوعية السكينة في النفوس اثناء القتال واهميتها في تحقيق النصر وتدارك الخسائر.
والظاهر ان منافع السكينة لا تنحصر بميادين القتال بل تنفع المجاهدين في اهليهم ودورهم لإصالة الإطلاق وللتداخل في التأثير المتبادل ولإعتبار ما يواجه الأهل والعيال وظهوره على الحالة المعنوية والنفسية للمقاتل وقدرته على مواصلة القتال، فالسكينة تساعد في الثبات وتلقي الأمن والطمأنينة في نفوس المقاتلين، وتمنع من النفرة من طالوت وما يأمر به.
الثامنة : السكينة التي نزلت في التابوت ريح تخرج من الجنة طيبة لها صورة كصورة الإنسان تكون مع الأنبياءن ونزلت السكينة على ابراهيم حين بنى الكعبة فاخذت هكذا وهكذا وبنى الأساس عليها.
التاسعة : انها خلق من مخلوقاته تعالى لها وجه مثل وجه الإنسان ورأس مثل رأس الهر وذنب وجناحان فتأن وتصوت فينزف التابوت نحو العدو يعني يسير وهم يتبعونه، فاذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر، وعن مجاهد: كان له جناحان ورأس كرأس الهرة من الزبرجد والزمرد.
وفي صحيحة علي بن اسباط قلنا للإمام علي بن موسى الرضا اصلحك الله ما السكينة؟ قال ريح تخرج من الجنة لها صورة كصورة الإنسان ورايحته طيبة، وهي التي نزلت علىابراهيم، فاقبلت تدور حول اركان الكعبة وهو يضع الأساطين، فقيل له هي التي قال الله عز وجل [فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ] قال تلك السكينة في التابوت وكانت فيه طشت يغسل فيها قلوب الأنبياء وكانالتابوت يدور في بني اسرائيل مع الأنبياء ثم اقبل علينا فقال ما تابوتكم فقلنا السلاح قال صدقتم هو تابوتكم، أي على المسلمين ان يستعدوا للدفاع ولمواجهة الكفار باعداد العدة والعدد.
وظاهر الحديث ان السكينة التي نزلت علىابراهيم هي غير السكينة التي كانت في التابوت والجمع بين الأحاديث انها جزء من جنس الريح التي كانت مع ابراهيم وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام، ان السكينة التي كانت في التابوت ريح هفافة من الجنة لها وجه كوجه الإنسان.
العاشرة : انه آية يسكنون اليها عن عطاء.
الحادية عشرة : روح من الله يكلمهم بالبيان عند وقوع الإختلاف عن وهب والإمام الكاظم.
الثانية عشرة : كان في التابوت بشارات من كتب الله تعالى المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام، بان الله ينصر طالوت وجنوده، ويزيل خوف العدو عنهم.
ولا تعارض بين أكثر هذه الوجوه وتلتقي جميعها في اعتبار السكينة آية منه تعالى، ومدد سماوي وعنوان النصر على الكفار وفضل على بني اسرائيل.
قوله تعالى [وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ]
آية ونعم اخرى على بني اسرائيل وبيان لفضله سبحانه عليهم بان تأتي النعمة وهي تتضمن نعماً متعددة، وقد انعم سبحانه على المسلمين اذ جعل آية القرآن تتكون من عدة سور وكل سورة تتألف من عدة آيات وكل آية تتضمن آيات متعددة في موضوعها وقراءتها وتفسيرها وتأويلها واسباب نزولها وثوابها وغير ذلك من وجوه الفضل الإلهي.
فمع التابوت نازل من السماء فانه صلة وصل بين موسى وبين اجيال بني اسرائيل من بعده والآية تذكير لهم برسالة موسى ونجاته من فرعون وقومه وهذا التذكير اشارة الى النصر والخلاص من القوم الظالمين، والى الآن ترى الأمم تحيي امجادها ونذكر ايامها في التأريخ لتقوية العزائم وتنمية الثقة في النفس والقدرات الذاتية فهذه الآية تعيد لبني اسرائيل ايام النبوة، بالإضافة الى وجود هذه البقية فعلاً وقريبة منهم حسياً وليس عقلاً فقط وذلك بالبعثة النبوية خصوصاً وانهم يتأثرون بالأمور الحسية ويعطونها اهتماماً خاصاً في اعتقادهم وافعالهم.
و(الآل) في الآية تحتمل وجوهاً :
الأولى : المراد موسى وهارون انفسهما، واستدل بان العرب تقول آل فلان يريدون نفسه واستدل ببعض ابيات شعر لا تكفي شاهداً لإثبات هذا القول كما ذكر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي موسى الأشعري: لقد اوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود.
الثانية : المراد من الآل هم الأتباع لأن التابوت فيه اشياء توارثها انبياء وعلماء بني اسرائيل.
الثالثة : بقية من العلم وبعض ما كان عند الأنبياء.
الرابعة : آل الرجل: اهله، وقيل اصلها اهل ثم ابدلت الهاء همزة فصارت في التقدير أأل، فلما توالت الهمزتان ابدلوا الثانية ألفاً كما قالوا آدم وآخر.
الخامسة : الآل هم الأخص والأقرب والأشرف دون الكثير الأعم فيقال: اللهم صل على محمد وآل محمد.
السادسة : التفصيل في طبقات ورثة موسى وهارون على نبينا وعليهما السلام، فذريتهم الصلبية صاحبة الآيات وعاشت في ايام نزولها وتلقت التركة مباشرة بينما تلقتها البطون الأخرى بالوراثة، .
اما الأول فهو بعيد فالمدار ليس على الإحتمال اللغوي الذي هو خلاف الظاهر، بل المدار على الآية الكريمة وموضـوعها وظاهــرها لحجية الظواهر، فلو دار الأمر بين حمل الآل على الأهل او الأتباع ونحوهم ام على الشخص نفسه الذي ينسبون اليه، فالأصل هو الأول خصوصاً في باب النبوة والرسالة ولذا عرف التأويل على قول انه نقل ظاهر اللفظ من وضعه الأصلي الى ما يحتاج الى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ.
اما الوجوه الأربعة الأخرى فهي متقاربة في المعنى والمضمون، ولا تعارض بينها وتناسب ظاهر الآية وموضوعها كما تشمل ما ترك موسى وهارون ولكن بالواسطة أي بواسطة ورثتهما ومن جاء بعدهما من الأنبياء، وفي الآية اشارة الى اعتبار آل الرسول كما اكدت عليه الآيات القرآنية كآية حق القربى وآية المباهلة وآية المودة في القربى وآية الخمس بالإضافة الى السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية ومنها حديث الثقلين المشهور عند جميع المسلمين لذا تراهم يشتركون في حب ومودة واكرام اهل البيت عليهم السلام.
وتلقي الآية على بني اسرائيل آنذاك وظيفة حفظ التابوت وما فيه من الآيات وامارات النبوة وتركة الأنبياء العلمية والعملية والتأريخية.
وفي الآية اعجاز آخر وهو اخبارها عن وجود تركة لآل موسى وهارون ولكن تلك التركة لم تكن موجودة كلها في التابوت، بل الموجود منها بعضها لأن (مما) تتكون من حرف الجر (من) و(ما) وهي زائدة كافة، أي ان آل موسى وآ ل هارون تركوا وخلفوا تركة وآثاراً نبوية وقد بقت منها بقية ونعتها بالبقية لا يدل على تلف ما عداها من التركة فقد تكون ضاعت، او انها لم تكن ذات صلة باسباب النصر والآيات التي تحفظ وتورث عند الأنبياء والأوصــياء وهذه البقية القدسية:
الأولى : رضراض الألواح فيها العلم والحكمة، العلم جاء من السماء فكتب في الألواح وجعل في التابوت، وهو المروي عن الإمام الباقر عليه السلام.
الثانية : انها عصا موسى ورضراض الألواح، عن ابن عباس.
الثالثة : هي التوراة وشيء من ثياب موسى عن الحسن البصري.
الرابعة : لوحان من التوراة وقفيز من المن الذي كان ينزل عليهم ونعلا موسى وعمامة هارون وعصاه.
وتظهر الآية بالدلالة الإلتزامية اكرام بني اسرائيل لموسى وهارون على نبينا وعليهما السلام وفضله تعالى باستحضار الآيات الحسية التي تميل اليها نفوسهم أي ان الآيات والنعم التي رزقها الله عز وجل بني اسرائيل لا تتضمن الإعجاز فقط بل انها ملائمة لرغائبهم وهو جزء من السكينة التي جاءت مع التابوت.
وفي علم المعقول تعتبر الحواس عشرة خمسة من الحواس الظاهرية وهي السامعة والباصرة والشامة والذائقة واللامسة.
و خمسة من الحواس الباطنية وهي الحافظة والواهمة والمفكرة والمخيلة والحس المشتركة.
لقد جاءت نعمه تعالى على بني اسرائيل مستغرقة لهذه الحواس لتشترك جميعها في الإنقياد لأوامره تعالى وتساهم في رسوخ الإيمان في صدورهم لتستعد للتسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات التي جاء بها وهي تخاطب حواسهم الظاهرة والباطنة.
وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تتوجه الى اكثر هذه الحواس عبرة وموعظة وحجة ودعوة لنبذ الفرقة والخروج على طالوت.
وتدل الآية على اتصال النبوة وعدم انقطاع آثار الأنبياء السابقين، وتثبيت نبوة اللاحق ببقية تركة السابق، وتوظيفها لدوام الهدى والإيمان ونصرة الإسلام واتباع ما يأتي به الأنبياء خصوصاً وان من الأنبياء من يعمل بشريعة الرســول الذي سبقه ويبشــر برسالة الرسول الذي يأتي بعده، فالقتال في سبيل الله لصيانة النفس والعرض والمال والعقيدة وتعاهـد الإيمان استعداداً لبعثــة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
واطلق بعض الفقهاء اصطلاحاً اسمه (الضروريات الخمسة) واراد به حفظ النفس والدين والمال والعرض والعقل، والحق بعضهم بها حفظ النسل، الا ان الآية الكريمة تبين فرداً آخر لا يقل اهمية عنها وهو حفظ العقيدة واحكام الشريعة الذي يعتبر وعاء وحرزاً وحافظاً لها، فلقد اراد بنو اسرائيل القتال في سبيل الله ليشمل النفع في الدنيا والآخرة، لذا توالت عليهم النعم بتفضله تعالى ببعث ملك عليهم ومجــيء آيــة التـابوت وما فيها من دلالات النصر، بالإضافة الى ما يتضمنه ويحتويه من الآيات بالحمل الشائع الصناعي وهو الإتحاد وجوداً والتغاير مفهوماً، والتفصيل في الآية قاطع للشركة، فمن تلك الآيات ما يستمر نفعه واثره حتى في حال السلم والحضر، ومنها البقية من تركة آل موسى وآل هارون.

قوله تعالى [تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ]
الملائكة اجسام لطيفة وارواح نورانية صرفة لا تفعل الا الخير والطاعة وكاملة في العلم، ومن الفلاسفة من انكر وجود الملائكة واولها بالقوى الروحانية ينكرها بالعقل الذي هو جوهر بسـيط مفارق غير مادي ومغاير للأجسام مع هيمنته الذهنية على الموجودات المادية واستقلاله عنها، ووظيفة العقل في الأصل الإيمان بالملائكة كرســل لله عز وجل.
فالأخبار عن حمل الملائكة للتابوت دلالة على انه من عند الله فمن المتسالم عند الناس جميعاً المليين وغيرهم ان الملائكة مجبولون على الخير والإمتثال لأوامره تعالى عن اختيار وحسن انقياد.
ان حمل الملائكة للتابوت هبة لبني اسرائيل ونعمة عظيمة تحثهم على الشكر لله عز وجل وتحذرهم من المعصية والجحود.
ومن خصائص الملائكة القدرة على الأعمال الشاقة ومما يرجح ان احضار التابوت كان آية تستلزم قدرات خارقة تفوق طاقات البشر الفردية والجماعية سواء بانتزاعه في موضعه او احضاره اوتعاهده الى حين وصوله الى طالوت، او حفظه مدة غيابه او لثقله وكبره او في كيفية احضاره لذا ورد عن ابن عباس وان الملائكة حملت التابوت بين السماء والأرض حتى رآه بنو اسرائيل عياناً.
وذكر ان الكفار ادخلوا التابوت بيت الأصنام فاصبحت الأصنام منكبة منكوسة فاخرجوه الى ناحية من المدينة فابتلاهم الله بآلام في اعناقهم، وهكذا كلما نقلوه الى موضع من مدينتهم ابتلاهم الله بالإمراض وتفشي الوباء وظهور الموت فاتفقوا على التخلص منه واخراجه فوضعوه على عجلة وشدوها على ثورين وارسلوهما، فجاءت الملائكة وساقوهما الى بني اسرائيل فكما بينت هذه الآية بعثة ملك من عنده تعالى فانها اخبرت عن ان الملائكة لم تنزل بالوحي على الأنبياء فحسب بل انها تساعد في حمل الآيات المادية التي لها جرم ووجود خارجي نعمة اخرى على بني اسرائيل وشاهداً كريماً على فضله على بني اسرائيل وقد حضرت الملائكــة في معركة بــدر لنصــرة المسـلمين وهو فضل عظيم قابله المسلمون بالصدق في الجهاد والصبر على المقاتلة.

قوله تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ]
الآية تذكرة موعظة وتوكيد وبيان وتنبيه لعظيم الآيات المتداخلة التي ضمتها هذه الآية، والمراد من الآية في المقام هو اسم الجنس بقرينة ورود اسم الإشارة (ذلك) الذي جاء للتفخيم والتعظيم، ومن اغراض الإشارة تنزيل المدركات العقلية منزلة المحسوسات وللدلالة على قرب المشار اليه او بعده.
واختلف في تقسيم مراتب الإشارة فمنهم من قال انها ثلاثة: قرب، وسط، وبعد، فيشار الى القريب بـ(ذا) وعندما تأتي للتنبيه تضاف لها (هاء) في الغالب فيقال (هذا)، والوسطى تأتي (ذاك)باضافة الكاف وللبعد يقال (ذلك) أي باضافة الكاف واللام.
وذهب جماعة منهم سيبويه الى الإختصار على مرتبتين في الإشارة هما القرب والتراخي باعتبار ان ذلك تأتي للبعيد.
ويستعمل لفظ الإشارة للبعيد للدلالة علىالتعظيم والتفخيم، وقد جاء اسم الإشارة (ذلك) في الآية لبيان عظمة الآيات التي جاءت لبني اسرائيل.
ان هذه الآية تدل على صدق ما اخبر به النبي واهلية طالوت للملك، وهي حاجز دون الإمتناع اوالتردد او عدم قبول ملكه.
والضمير في (لكم) خطاب قرآني متوجه الى:
الأولى : الملأ والوجهاء او الى جميع بني اسرائيل الذين نزلت عليهم آية التابوت وما معها من الآيات الباهرات باعتبار ان الآيات حسية ولسياق خطاب نبيهم وإقامة البرهان عليهم.
الثانية : انه خطاب لبني اسرائيل في كل زمان، في اوان نزول الآيات وقبله لأن آية التابوت كانت موجودة في ايام موسى عليه السلام.
الثالثة : انها آية لبني اسرائيل ايام النزول والأزمنة اللاحقة للنزول، لتعاهد الإيمان، ولتكون هذه الآيات توطئة وعوناً على التسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : انها آية للمسلمين بالإتعاظ والإعتبار من الأمم السالفة، والإيمان بهذه الآيات خصوصاً وان الإيمان بالأنبياء على نحو العموم المجموعي والإستغراقي واجب.
والأقوى ان هذا الخطاب يحمل على اطلاقه فيشمل بني اسرائيل ايام مجيء الآيات وقبلها وبعدها، ويشمل المسلمين ايضاً، فالآية قاعدة كلية ودعوة سماوية لتوثيق الآيات والإتعاظ بها ومنها وفيها.
وفيها حث على الثبات على الإيمان ونزع رداء الجحود واخبار بان المؤمنين هم الذين يلتفتون الى الآيات وينتفعون منها، فالآية نعمة ورحمة ووسيلة لترسيخ الإيمان ونبذ الكفر ومجاهدة اعداء الدين.


قوله تعالى[فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]الآية 249

الإعراب واللغة
فلما: الفاء حرف عطف يفيد التعقيب بغير فاصل بينهما، وظاهره ان العطف على جملة محذوفة.
لما: حرف وجود لوجود وتسمى (لما الحينية)
فمن شرب: الفاء فصيحة، من: اسم شرط جازم مبتدأ، شرب: فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو.
فليس مني: الفاء رابطة لجواب الشرط، ليس: فعل ماض ناقص، واسمها مستتر تقديره هو، مني: جار ومجرور في محل خبر ليس.
الا من اغترف: الا: اداء استثناء، من: اسم موصول في محل نصب على الإستثناء من قوله (فمن شرب منه).
غرفة: مفعول به وقيل مفعول مطلق باعتبار ان غرفة مصدر مرة ونسب ابن منظور الى القيل ان الغرفة – بالفتح- المرة الواحدة( )، والغرفة بالضم ما اغترف، لذا ورد عن الجوهـري: ان الغرفـة بالضم اسم المفعول منه ما لم نعرفه تسميه غرفة.
كم من فئة قليلة: (كم) خبرية في محل مبتدأ، وسميت خبرية للاخبار بها عن العدد الكثير، والكلام معها ليس على نحو الإستفهام.
من فئة: جار ومجرور في محل جر تمييز كم، قليلة: صفة لفئة.
غلبت فئة: فعل وفاعل على خبر كم.
والفصل: الحاجز بين الشيئين، وفصل بينهما يفصل فصلاً فانفصل وفصلت الشيء فانفصل: أي قطعته فانقطع.
وفصل من الناحية: أي خرج، وفي الحديث: “من فصل في سبيل الله فمات او قتل فهو شهيد”، أي غادر بيته قاصداً الجهاد في سبيل الله، واختيار كلمة فصل في المقام من الإعجاز فمن معانيها انه لا رجعة فيه ولا مرد له، أي ان الخروج للقتال على نحو الحقيقة والصدق وانه لا رجعة فيه وان حصل تلكؤ من شطر من الجيش، ففي حديث وفد عبد القيس: “فمرنا بأمر فصل”، أي لا رجعة فيه ولا ترديد.
وابتلاه الله: اختبره وامتحنه، والإسم البلوى والبلــوة والبلية، والبلاء على قسمين، فمنه البلاء الحسن كتوالي النعم، ومنه البــلاء السيء كالفقر والمرض، وفي الحديث: “اللهم لا تبلنا الا بالتي هي احسن”.
والغرفة- بالضم- على اليد يقال غرف الماء والمرق ونحوهما يغرفه غرفاً واغترفه واغترف منه، والجمع غراف مثل نطفة ونطاف.
وتجاوز عن الشيء: اغضى وعفى عنه، وتجاوز فيه: افرط، والجواز: التساهل والتسامح في البيع والإقتضاء ومنه الجواز وهو احد الأحكام التكليفية الخمسة، وجاز الشيء تجوزه: تعداه وعبر عليه، وتجوز الدراهم: قبلها مع ما فيها من نقص او شائبة.
واطاقة الشيء: القدرة عليه، وهو في طوقي أي في وسعي.
والفئة: الطائفة والفرقة، مثل فئات وفئون، واصله فاوت أي فرقت وقيل غير ذلك.
في سياق الآيات
بعد بذل النبي الوسع لإقناع الوجهاء من بني اسرائيل بالإنقياد الى طالوت في القتال ومجيء البراهين والعلامات والبينات الإلهية الدالة على تمليكه من عنده تعالى رحمة ببني اسرائيل جاءت هذه الآية لتخبر عن الشروع العقلي في سلطنة وملك طالوت والتوجه الى ميادين القتال.
اعجاز الآية
كما ان في منطوق الآية اعجازاً فان مفهومها يتضمن وجوهاً اخرى من الإعجاز وتدل الآية على التوجه الى القتال عن قناعة ورضا وتعرض الجنود الى اختبار وامتحان، وتبين اخلاص المؤمنين وثقتهم بالنصر بفضله تعالى، ومن المفهوم ان الآية تبين الإستجابة للآيات وحصول الإستعداد للقتال والتوجه لمحاربة الأعداء.
ومع الحاجة الى الجنود تظهر الآية اقدام الملك على اختبار جنوده بما فيه فشل اكثرهم، فمما يؤكد صدق تنصيب طالوت من عند الله انه يريد صدق العزيمة وعشق الشهادة ويفضله على الكثرة التي تشكو ضعف الإيمان مع تعلق ذهن القائد بالكثرة.
الآية سلاح
تنهى الآية بالدلالة التضمنية عن كثرة الجدال، وتدعو للإستجابة لما يأتي به الأنبياء من عنده تعالى، كما تقلل من اعتبار الكم والعدد والعدة في القتال، وتجعل موضوعية لإذنه وفضله تعالى، الأمر الذي يعني الحث علىالصدق واخلاص النية والعزم على القتال في سبيل الله، ونبذ الرياء.
مفهوم الآية
تظهر الآية وجهاً من وجوه الإختبارات والإمتحانات التي يتعـرض لها المؤمنون عند الشـدائد والمحن، بل ان الشـدائد نفسـها من اهم مصاديق الإبتلاء، وتدعو الى الحرص على التوفيق فيها فليس من أمر بعد الإختبار الا الفوز والظفر والسعادة، بمعنى ان الإختبار والإمتحان في الأصل مقدمـــة للتوفيق ولكنه وسيلة لإظهار صدق العزيمة واخلاص النيـة، وتدعو القيادة الرسالية الى التمـييز بين المؤمن وغيره، بين المخلص الـذي يسـتطيع الثبات والصمود وبين الذي يخذل وينـخذل.
وتدعو الآية الى تفويض الأمور اليه سبحانه والظن الحسن بفضله ونسبة النصر والظفر له تعالى وعدم القنوط من رحمته تعالى، كما تمنع من الجزع عند البلاء، وتعطي المسلمين دروساً متعددة في المعرفة الإلهية، وتساعدهم على مواجهة الكفار والأعداء، فصبر المؤمنين من أهل الملل السابقة يستلهم المسلمون منه العبر ويتخذون مناهج إيمانهم سلاحاً وطريقاً لدحر اعدائهم بعد انحرافهم عن سنن النبوة.
ولم تجعل الآيات فاصلة زمانية تتخللها افعال واستعدادات ومقدمات للحرب، فبعد التنصيب جاء الإخبار الإلهي عن خروج طالوت بالجنود، وفيه آية اضافية على المدد الإلهي لتهيئة مقدمات ومستلزمات القتال، والمؤون الخاصة بالجنود، وعدتهم وعتادهم، وهو امر يحتاج الى وقت ليس بالقصير وجهود مضنية خصوصاً وان الإستعداد يكون لمقاتلة طغاة ظالمين، وان بني اسرائيل كانوا في حال استضعاف.
ويعني بدلالته التضمنية عدم وجود مستلزمات القتال عندهم، وغياب التأهيل العسكري للمواجهة، وضعف القدرة على التحمل والمبارزة والدقة في الرماية، وعدم معرفة فنون الحرب أو تهيئة اسبابها، وقلة الصبر عند اللقاء وضعف العزائم، وعدم اعتياد طول المرابطة والقدرة على مفارقة الأهل والعيال وترك حياة الدعة.
ومن النعم الالهية في تنصيب طالوت سرعة المبادرة ومباغتة العدو لانه اطمئن الى حال استضعاف بني اسرائيل ولم يأخذ أهبته للاستعداد للمواجهة ولم يتوقع خروجهم عليه.
وفي الدراسات العسكرية الحديثة تعطى أهمية خاصة للمعنويات، والحساب يكون بالعدد والعدة والسلاح مضروباًٍ بالمعنويات، وجاء الابتلاء بالنهر مقدمة لدخول القتال واصــلاحاً للمقاتلين وتهذيباً للنفوس وكشفاً للنوايا، وحرص طالوت ان ينسب الابتلاء بالله عزوجل حثاً لهم على بذل الوسع لتجاوز ها الامتحان ومنعاً للتردد، ويظهــر انهم لم يعودوا عليه بالسؤال المتكرر كما فعلوا مع موسى حين قال لهم [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً]( ) لانهم في طريقهم الى الحرب والمواجهة، وليس ثمة وقت للترديد والشك وان كانت حال الشرب من النهر اشد واكثر ضرراً من كثرة السؤال، لان كثرته قد تقود الى الهداية والامتثال.
والآية مدرسة في الجهاد والاختبار وتدعو المسلمين الى عدم التأثر بحال اكثر الناس الذين يختارون الكفر سواء من عشيرتهم او ابناء بلدتهم او غيرهم، وان النصر بيده تعالى.
التفسير
قوله تعالى [فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ]
يتجلى في الآية اعجاز بلاغي وعقائدي في آيات القرآن، بما تخبر عنه الآية في مفهومها ودلالتها الإلتزامية، فالفاء في (فلما) تفيد التعقيب أي ما بعدها جاء متعقباً للذي قبلها بغير زمان زائد وخارج عن المدة المتعارفة بينهما ويمكن تقسيم التعقيب الى:
الأول : التعقيب القصير: رأيت الهلال فاخرجت زكاة الفطرة.
الثاني : التعقيب المتراخي: مثل: طلق زيد زوجته، فتزوجها عمر فولدت منه، فلابد من مدة ووقت بين الأحداث الثلاثة، فلا اقل انه بين الأول والثاني مدة العدة وهي ثلاثة قروء، وبين الثاني والثالث اقلها مدة الحمل وهي تسعة اشهر، ومع هذا يصدق على كل حدث انه متعقب للذي قبله بغير فاصل بينهما.
فالآية تخبر عن عدم التفريط في افراد الزمان الطولية وهو آية في باب الحكم، فعندما بعث الله عز وجل طالوت ملكاً فلابد له من مُلك وجنود، أي ان تنصيب الملك لا يبقى معلقاً على موافقة الملأ ورضاهم وان كانت الآية في مفهومها تظهر اذعانهم ورضاهم، فامره تعالى ليس رخصة او انه يتضمن التخيير والتردد فقوله تعالى [ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ] اخبار على نحو الحتم والقطع بان يصبح ملكاً في الوجود الخارجي، ويقود الجيوش للجهاد في سبيله تعالى.
لقد تحدثت الآيات السابقة عن الملأ ولكن موضوع هذه الآية هو طالوت والجنود سواء كان الجنود من الملأ او من غيرهم فان الصفة والعنوان قد تغير، وهناك قاعدة في علم الأصول تقول ان الحكم يتبع الموضوع فاذا تغير الموضوع تغير الحكم، وفي حالات القتال والحروب تظهر أهمية المقاتلين ويتعزز شأنهم في المجتمع والسياسة، ولكن الآية تبين اموراً:
الأولى : الصفة العسكرية القتالية المحضة للجنود.
الثانية : ان الأمر بيد طالوت، وانه اصبح قائداً للجيوش وباشر مسؤولياته.
الثالثة : ظاهر الآية ان طالوت يتولى القيادة والملك ولا يصدر الجيش الا عن امره.
الرابعة : ان العساكر خرجت من المدينة وانفصلت منها وهو يدل على اذعان بني اسرائيل وسيرهم تحت لواء وقيادة طالوت.
واختلف في عدد الجنود على وجوه:
الأول : انهم ثمانون الف مقاتل، عن السدي.
الثاني : انه سبعون الف، عن مقاتل.
الثالث : عن ابي بصــير عن الإمام محمــد الباقر في قولـه تعالى [ فَلَمَّا كُــتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَـــالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيــلاً مِنْهُمْ ] قال: كان القليل ستين الفاً.
وذكر ان طالوت قال لقومه: لا يخرج معي رجل بني بناء لم يفرغ منه و لا تاجر مشتغل بالتجارة ولا رجل متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا ابتغي الا الشاب النشيط الفارغ.

قوله تعالى [قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ]
الظاهر ان القائل هو طالوت لسياق الآية واللغة، ولأنه فصل بالجنود بمعنى انه باشر مسؤولياته وسلطانه للإخبار الإلهي، وهذا القول فيه وجوه محتملة :
الأولى : ان الملك تلقاه بالتحديث أي باخبار الملائكة له وهو ادنى رتبة من الوحي، ومن التحديث ما ورد في قوله تعالى [ وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ ]( ) اذ ان مريم لم تكن نبية.
الثانية : ان طالوت كان نبياً بالإضافة الى ملكه واثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فاخبار الآيات بانه ملك لا يعني انه ليس بنبي، فالنبوة يمكن ان تستقرأ من ظاهر الآيات خصوصاً وان الغالبية من الأنبياء لم يرد ذكرهم في القرآن.
الثالثة : ان طالوت تلقى هذا القول من النبي وهو اشمويل عليه السلام، فهو وحي بالواسطة أي ان النبي اخبر به طالوت.
الرابعة : ان القائل هو النبي نفسه باعتبار دلالة الأخبار عن الوحي قرينة على النبوة.
والأقوى هو الأول وان طالوت تلقى الأمر بالتحديث فلم يقل (ابتلاكم) لبيان فضله تعالى على بني اسرائيل ويتوكد لهم الملك انه لم يبعث ملكاً فقط بل ان الله عز وجل يهديه ويوجهه نحو اسباب النصر والظفر على الأعداء، فهو سبحانه اذا انعم على الناس تأتي نعمه متكاملة متصلة وان بعث طالوت ملكاً من عنده تعالى لا ينحصر بالتعيين والإختيار فقط لأن البعث يتعلق بأمور:
الأول: طالوت.
الثاني: الملك.
الثالث: النبي واثبات صدقه وصحة اختياره.
الرابع: بنو اسرائيل ورفع الظلم عنهم.
الخامس: قهر الظالمين.
وتدل الآية على اصلاحه للملك والحكم وقيادة الجيوش سواء بالوحي عن طريق النبي او بالتحديث او الإلهام او عن طريق الملائكة او بالمعارف الإلهية والعلوم النظرية والملكات الإنسانية.

قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ]
والإبتلاء هو الإمتحان والإختبار، وهذا الإبتلاء آية منه تعالى لما فيه من مقدمات الإستعداد للقتال ومواجهة الأعداء.
وذكر الزمخشري ان الوقت كان قيضاً، وسلكوا مفازة فسألوا ان يجري لهم نهراً [قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ] بما اقترحتموه من النهر( )، والخبر ضعيف سنداً ودلالة، فلم يذكر سنده ولم ينسبه الزمخشري، وهو من رجال القرن السادس الهجري واكتفى بالقول (ورد).
اما دلالة فان ظاهر الآيات لا يفيد ذلك، فطالوت لم يكن نبياً رسولاً ولا نبياً يأتي بالمعجزات بل ان وظائفه تتعلق بالملك والعسكر، الا ان تكون المعجزة بالواسطة أي من عند النبي، ويتولى طالوت الاعلان، ثم ان وجود النهر يحتمل امرين، الأول: وجود نهر اصلاً، الثاني: حصوله بمعجزة، والأول هو الظاهر والأقرب، وحتى آية موسى في العصا فانها لم تحدث نهراً قال تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذْ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ]( ) ففي الآية اربعة عناصر:
الأولى : ان موسى نبي رسول ومن الخمسة اولي العزم.
الثانية : كانت معه آية وهي العصا.
الثالثة : جاء انفجار الماء عن سؤال قومه واستسقائهم.
الرابعة : لم يخرج الماء على نحو النهر الجاري بل كان عيوناً، والفرق بينهما ليس بالقليل اذ ان النهر له امتداد وروافد ومصب، والحاجة تتعلق بالشرب واقامة البرهان.
والأقوى والأصح ان النهر موجود وقد وردت فيه اقوال :
الأول : انه نهر فلسطين وهو قول ابن عباس.
الثاني : انه نهر بين الأردن وفلسطين.
الثالث : قال القاضي: ان النهر الممتد من بلد الى بلد قد يضاف الى احد البلدين.
وقد ورد لفظ (نهر) بصيغة التنكير مما يدل على عدم اعتبار تعيينه بنهر مخصوص معلوم عندهم بل انه نهر يمرون عليه في طريقهم وان الإبتلاء يتعلق بشرب الماء منه او عدمه، نعم ان الإبتــلاء غـير متعدد، فهو متحد ومناسبة لن تتكرر في تحــذير وتنبيه بعــدم تفويت هذه الفرصة.

قوله تعالى [فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي]
ثم بين طالوت موضوع الإبتلاء وما يتفرع عنه من تقسيم عقائدي، وهو آية في بني اسرائيل، اذ اعتمدت آية حسية وشاهداً يخرج ما في الصدور من النوايا والعزائم ويكشف الصدق من الزيف، فالإبتلاء بالشرب من النهر جاء للتمييز بينهم واظهار حقائق الإيمان ومنازل الرجال، الأمر الذي يبين ان الإبتلاء لا يتعلق بالمعركة التي يتوجهون اليها فحسب بل هو اعم واكبر وابعد زماناً وموضوعاً، ان شرب الماء امتحان تترتب عليه آثار متشعبة لذا قال (فانه مني) ومن هذه الآثار ما يكون في باب الحكم والقيادات والولاية والصلة والمودة كما ان عدم الشرب نوع طاعة وانقياد ومقدمة عملية لإستجابة أوامره في القتال، فالآية زجر حسي وحجة ظاهرة ووثيقة تأريخية.
وقد ورد عن وهب ان سبب ابتلائهم بالنهر شكايتهم قلة الماء وخوف التلف من العطش، وقيل انما ابتلوا به ليصبروا عليه فيكثر ثوابهم ويستحقوا به النصر على عدوهم ولكن ظاهر الآية ان الإبتلاء جاء ابتداء ومتعقباً لإنفصال الجنود وخروجهم ولو انهم شكوا قلة الماء فان توالي النعم على بني اسرائيل في حضرهم وسفرهم وتعيين الملك منه تعالى يرجح الإستجابة وتوفر الماء ونفي الحرج والله واسع عليم، أي ان تخوفهم يقابل باللطف والإحسان منه تعالى خصوصاً وانهم استجابوا وخرجوا مع طالوت وتوجههوا لقتال الأعداء.
وهناك قواعد كلامية لابد من استحضارها في المقام وهي:
الأولى : انه سبحانه لايفعل الا الأفعال المحكمة المتقنة.
الثانية : انه تعالى عالم وغني ليس بمحتاج.
الثالثة : لابد ان الإبتلاء من الحكمة، وفيه نفع لبني اسرائيل وله اعتبار وموضوعية في القتال والنصر على الأعداء.
وهذه القواعد تجعل مسألة شرب الماء ليست مجردة ومطلوبة بذاتها وهي الغاية على نحو مستقل فهناك آيات في شرب الماء واثرة ولله جنود في الماء والهواء، وان شرب الماء يمثل تحدياً وعناداً ولعل فيه ضرراً على شاربه سواء كان ضرراً في العقيدة او البدن وهذا الضرر يتأتى مما في الشرب من المعصية والإستخفاف.
وفي الإبتلاء عبرة ودروس لأهل الإيمان الذين يمتنعون عن شربه فمن خلاله يعرف كل منهم صاحبه ويستطيع ان يتصرف معه في ساعات الحرج والشدة على ضوء فعله في الإبتلاء، فقد يظهر بعضهم الإخلاص والشجاعة ويتباهى بقوته وعدته ولكن عند المواجهة ينكص على عقبيه لا عن ضعف منه او قوة من العدو بل لعدم ايمانه لخوض القتال خصوصاً وانهم اظهروا الجحود والتردد عند اخبار النبي لهم بتعيين طالوت ملكاً عليهم مع ان هذا التعيين من عنده تعالى، لقد كان الإبتلاء بالنهر والشرب منه بياناً عملياً لإستجابتهم للآيات ومنها التابوت وما فيه من الإفاضات.
ويلاحظ في الآية اثر السكينة حتى قبل مواجهة العدو بان الإمتحان يتعلق بشرب الماء او عدمه وهم في طريقهم للقتال، أي انه لم يسبب عرقلة في مسيرتهم او تردد بعضهم ورجوعهم.
لقد قدم طالوت الشرب من الماء مع انه منهي عنه للتخويف والزجر والتحذير ولأن التقديم باثبات الشرب وليس نفيه.
ان هذا الإختبار لا يعني ان الكفر والإيمان يدوران مدار الشرب او عدمه، بل ان الشرب يكشف عن قلة الإيمان وضعف روح الاتكال، وبقاء سجايا الجحود والريب، وان عدم الشرب يدل على الولاء والإيمان وانتفاء النفاق، وفي الحديث النبوي: “ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا”، أي ليس على نهج وعقيدة الإسلام ولا يعني الخروج عن ملة الإسلام.
وتبين الآية معاني العز التي يمتلكها طالوت ويفتخر بها ويدعو الى الحرص عليها والإتصال بها لأنه ملك مبعوث من عنده تعالى، فكثير من القواد والجنود يظهرون الولاء لملكهم لا لشيء الا لأنه ملك سواء اخذ الملك بالوراثة او ابتداعاًً، اما طالوت فانه يختلف عنهم، لأن بعثه من عنده تعالى ملكاً عنوان شرف خالد له ولمن صاحبه ومن اطاعه وانقاد لأوامره وعدم شرب الماء امر ارادي لما فيه من الكف والإمتناع طاعة، والضمير في (منه) يعود لفظاً للنهــر، ولكنه في المعنى يعــود لما فيه من الماء، لأن النهر وعاء وشق في الأرض لجــريان الماء، وقــرينة الطعــم تــدل على ارادة الماء وليس النهر، لأن الطعم من متعلقات حاسة الذوق.

قوله تعالى [وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ]
اخبار وتمييز عن اهل الولاية والطاعة من المؤمنين والمجاهدين، ووسام عقائدي يترجل الى الخارج بالإمتناع عن شرب الماء في الطريق الى المعركة، وهذاالتمييز لم يأت بعدم الشرب بل بعدم الطعم منه، وهناك فرق ومرتبة بين الشرب والطعم، فالشرب يتعلق بالماء، اما الطعم فهو اعم ويتعلق بالذوق ويستعمل في الطعام اكثر منه في الشراب، ولكن ورد في الحديث في ماء زمزم انه (طعام طعم) مما يعني ان الماء له مذاق خاص، بمعنى ان الإمتناع عن الشرب يحتاج الى حبس للشهوة فهو امر وجودي وليس عدمياً وتتجلى فيه مفاهيم الطاعة وحب النبوة والإمامة والرياسة السماوية، وهذه المفاهيم سلاح في المعركة، وعون على الإقدام، وعشق للشهادة يملأ النفس والجوانح الأمر الذي يبعث الرعب في قلوب الأعداء، وبذا تتجلى منافع عرضية واضافية لبعثة الملك من عنده تعالى.
ان هذا الإختبار نوع تذكير بفضله تعالى ببعثة الملك لقد اراد الملك ان يبين لهم انه ليس ملكاً كباقي الملوك وان بعثته لا تنحصر باختياره بل انه يسير بامره وارادته تعالى وانه واسطة في تلقي الأوامر الإلهية سواء بالتحديث او عن طريق وحي النبوة الذي ينزل على النبي فيأمره ويخبره به، انه ترسيخ لقاعدة كلية في النفوس بان يأمرهم احياناً بامر من عنده تعالى فيلزم ان يتلقوا الأوامر بالطاعة، وهذا الإختبار ترويض على حسن الإنقياد الذي هو ضروري لتحقيق النصر على الأعداء خاصة وان سياق الآيات ودلالتها الألتزامية تدل الحاجة الى التهيء بالقوة والعدة والعدد لمواجهتهم.
ان هذا الإبتلاء مناسبة كريمة لأهل الإيمان، فهم يثبتون ولاءهم واخلاصهم بامر يسير ولكنه يدل على ملكة الإيمان ورسوخها في النفس، والآية تشريف لهم بالحاقهم بالملك الذي بعثه الله عز وجل لهم وصحبته والإقتباس من خصاله الحميدة وشجاعته وايمانه، انها وثيقة اكرام واجلال لهم بين قومهم وفي التأريخ، بالإضافة الى ان عدم الشرب هذا باب لتفاخر ذرايتهم، وحيازتهم ولو في الجملة ثقة الناس بالإستصحاب واعتبارات النسب.

قوله تعالى [إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ]
أي اخذ الماء بيده مرة واحدة وهو يحتمل امور:
الأول: الشرب من الماء بمقدار غرفة واحدة.
الثاني: انه اكتفى باخذ الماء بيده ثم رماه.
الثالث: انه وضعه في فمه ولكنه لم يبلعه ولم يصل الى الحلق كما لو تمضمض به والقاه فانه يحس بطعمه ولكنه لم يشرب منه.
والأرجح هو الأول تخفيفاً منه تعالى ورحمة وفرصة للنجاة وهو جزء من نعمه تعالى التي تترى على بني اسرائيل، والظاهر ان الإستثناء الوارد في الآية [إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ ] انما هو من قوله تعالى [فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ] واخرت الجملة ليكون الذي اغترف بمثل من لم يشرب، وقيل من استكثر من ذلك الماء عطش ومن لم يشرب الا غرفة روى وذهب عطشه.
ونسب الى ابن عباس انه كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منه، أي ان الله عز وجل يجعل البركة والإفاضات في هذه الغرفة خصوصاً وان الأمر في الآية صريح ومقيد بان الغرفة بيده وظاهره انه ليس بالآلة كالدلو الكبير او الإبريق او الآنية، فالحديث ضعيف دلالة، ونسبته لإبن عباس لم تثبت ، ويحمل مضمون الآية على الظاهر والوجدان الا مع الدليل على الخلاف.
لعل حكم الغرفة باليد في المقام كحكم من يمر على بستان غير محاط بجدار فيأكل منه وهو في طريقه والنص والإجماع على جواز الأكل حينئذ، فالغرفة باليد اثناء عبور النهر خصوصاً وانهم لا يستطيعون التأخر عن العساكر الا من تعمد الشرب والتزود والإغتراف على نحو متعدد أي ان مسير وزحف الجيوش وسيلة للتخفيف عنهم وان الشرب وجه من وجوه المعصية بالتأخر عن الملك وقواده، لقد ذكرت الآية الغرفة باليد وهو من اللطف الإلهي ولم تتعرض لها بلحاظ الشرب مع انه ظاهر بمفهوم الآية لبيان انه لا يحتسب من الشرب شرعاً.
لقد اراد الله عز وجل تهذيب النفوس والشرب من النهر كمثال للإنقطاع الى الدنيا وحب الشهوات والميل اليها عند التعارض بينها وبين الأمر المولوي، كمن يختار الجانب المرجوح ويترك الراجح ويلجأ الى الوهم، وفي هذا الإختبار تخليص من الكدورات الظلمانية ونفي لما جبلت عليه نفوس يعضهم من الجحود واللجاج بطلب الآيات الحسية والبراهين، أي ان هذا الإختبار برزخ دون مطالبتهم بالآيات وهم في ميادين القتــال واهمــية الوقــت واغتنــام الفرص حينئــذ انه احتــراز من ظهور التخلي الجمــاعي عن القتال في ســاعة الشــدة والحرج كما ورد في قوله تعالى [فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ]( ) فعدم الشرب من الماء توكيد عملي على الذهاب معه للقتال وخوض غمار الحرب.
ولعل في قوله تعالى [وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ] بيان لمنازل التقوى واليقين وان اهل الإيمان لا يحسون لهذا الماء طعماً وليس عندهم ميل او شهوة او رغبة لشربه لأن هواهم يخضع للشريعة واحكامها فالتذوق والإحساس باللذة والطعم يدور مدار الأوامر الإلهية فتراهم يفرون من السرقة والمال الحرام ويطعمون الحلال، ويجتنبون النظر بريبة الى المرأة الأجنبية ويحرصون علىالزواج، فلما منع الملك المبعوث عن الشرب من النهر لم يكتفوا بالإمتناع عن الشرب منه بل انهم لم يحسوا بتذوقه.
والآية تنهى عن اللهو وعن اللعب سواء على القول بالتفصيل بان اللهو يتعلق باللغو والكلام الذي لا معنى له وان اللعب يتعلق بالفعل الذي لا ثمرة ولا نفع عقلائي به، والأقوى ان بينهما عموماً وخصوصاً من وجه، فاللهو هو العمل او القول الذي لا تترتب عليه أي فائدة ويراد منه اتلاف الوقت وملأ الفراغ بما هو غير صحيح عقلاً وشرعاً، اما اللعب فهو ضياع الوقت من غير قصد الى اتلافه ولكنه يضيع بافعال لا ثمرة فيها وهو نوع اسراف في الوقت والجهد.
ان هذا الإختبار تخلية بين المقاتلين وبين سوح القتال ودعوة لشد العزائم وترك الدنيا وزينتها، وعدم قصد السلب والنهب وجمع الغنائم عند اشتداد القتال او الوغول في ارض العدو.
وقد يقول قائل لماذا الإختبار والتضحية بالأكثرية قبل زجهم بالقتال الجواب انه كشف للنوايا وتهيئة للنفوس واحتراز من الفرار الجماعي من الزحف وتقوية للقلوب، ولتكون هناك فرصة لضعيفي الإيمان واهل الريب للتدارك والإستغفار والإنابة والأخلاص في الجهاد، وتوثيق وبيان للآيات وان النصر لم يأت الا بآية منه تعالى سواء بمقدماته او بداياته او موضوعه وكيفيته، هذا بالإضافة الى دلالة خاتمة الآية في غايات الإختبار بمعنى ان فئة قليلة متكاثفة تقاتل كالبنيان المرصوص خير من جماعة كثيرة تتشتت وتنهزم امام العدو حال بدأ القتال.
لقد اظهر طالوت بهذا الإختبار عظيم ثقته بالله عز وجل والا فان القائد يحتاج الى الكثرة والسواد ويأمل بزجهم في القتال ويكتفي بالظاهر وهو مسيرهم معه وتركهم للعيال والأموال ولكن الإختبار لصالح الذين لم يشربوا منه ايضاً وصالح ذويهم، لأن الإختبار مقدمة للنصر والظفر الذي تنبسط نتائجه على جميع بني اسرائيل ليتخلصوا مما عانوا منه لدرجة الشكوى والإستغاثة [وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا] وغلبة الجبابرة واستيلائهم على اراضيهم وسبيهم لكثير من ذراريهم.

قوله تعالى [فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ ]
قد تقدم قبل ثلاث آيات قوله تعالى [فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ] وفي هذه الآية جاء ذكر القلة في عدم شرب الماء مما يدل على وجود التشابه في الحالتين وان موضوع شرب الماء مرآة للنوايا والعزائم، الا ان الشرب من الماء اعم من عدم القتال، فليس كل من شرب من الماء لم يقاتل وليس كل من ينطبق عليه قول الملك ممن شرب الماء [فَلَيْسَ مِنِّي] بانه لا يقاتل، وهل يدخل الذين غرفوا غرفة بايديهم في الذين شــربوا ام في الذين لم يشـربوا، الجواب: انهم مع الذين لم يشربوا، ولا عبرة بالغرفة الواحدة، وفي عددهم ذكرت اقوال:
الأولى : ان الذين شربوا منهم غرفة كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً وهو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام، وعن الحسن وقتادة وجماعة.
الثانية : كانوا اربعة آلاف رجل، ونافق سـتة وسبعون الفاً أي شربوا ثم نافــق الأربعة آلاف الا ثـلاثمائة وبضــعة عشــر، عن السدي.
الثالثة : القليل الذي لم يشرب اربعة آلاف، نسبه الرازي الى القيل.
والمشهور هو الأول لما ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال لأصحابه يوم بدر: انتم على عدة اصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاز معه الا مؤمن، قال البراء بن عازب: وكنا يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً.
وقيل من استكثر من ذلك الماء عطش، ومن لم يشرب الا غرفة روي وذهب عطشه، وقد ورد في الصـحيح عن الإمام الرضا [إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ] في هذه المفازة [فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ] فليس من حزب الله [إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ]، فلما وردوا النهر اطلق الله لهم ان يغرف كل واحد منهم غرفة بيده [فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ] فالذين شربوا منه كانوا ستين الفاً، وهذا امتحان امتحنوا به كما قال الله.
وظاهر الحديث ان النهر حادث في الموضع آية منه تعالى، لأن المفازة هي البرية المهلكة والصحراء وسميت مفازة تفاؤلاً بالفوز والخلاص من الموت، وفي لسان العرب: “انها من فوز أي هلك، وقال ابن شميل: المفازة التي لا ماء فيها، واذا كانت ليلتين لا ماء فيها فهي مفازة، واما الليلة واليوم فلا يعد مفازة( ).

قوله تعالى [فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ ]
الآية الكريمة بيان للحالة العقائدية والسجايا النفسية لبني اسرائيل فهي توبيخ وذم لهم، كما تؤكد مسألة كلامية وهي ان التسليم بالمبعوث من عنده تعالى يجب ان يكون مستديماً ولا يكفي ان يكون ابتداء او ظاهرياً، فلا يحتاج المؤمن توالي الآيات في كل واقعة وحادثة او ملازمتها لكل امر وطرو كل شأن، بل يكتفي بالآية الواحدة والبرهان التعجيزي للإذعان للنبوة والإمامة.
كما تظهر الآية الحاجة الى ملك معين منه تعالى يحسن التوكل علىالله مع القلة ولا يصاب باليأس والقنوط لإظهار الكثرة عدم الطاعة فمن يقدم على شرب الماء مع نهي وزجر الملك المبعوث عنه لا يتردد في الفرار عند الزحف.
والآية مواساة للمسلمين وفيها منع من استغراب عدم استجابة اكثر بني اسرائيل لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وان العرب اخذوا يجرون دراسة فطرية فلو كان وفق القياس الإقتراني وهي ان بني اسرائيل اصحاب كتاب، فلو كان محمد نبياً رسولاً لآمنوا به واعلنوا اسلامهم، فجاءت هذه الآية من بين الآيات الكثيرة التي تظهر ما جبلت عليه نفوسهم من الميل الى الهوى واجتناب المواجهة لاسيما وان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يوجه اصحابه الى الغزو في سرايا التبليغ والفتح.
فمن الناس من يعرف منازل الحق ولكنه يعزف عن اهله او اللحوق بهم لأنه يستلزم العناء والأذى ويحتاج الى الصبر وبذل الوسع والجهاد، ومنهم من يركب جادة العناد والإصرار.
فالآية دعوة للمسلمين بعدم الإلتفات الى اعراض اليهود عن الرسالة والقرآن لأنه لا يتعلق بنقص بالنبوة بل بقصور عندهم وميل الى حب الدنيا واللذة ولكن هذا القصور ليس مطلقاً لذا ترى بعض كبار علماء اليهود آمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واحسنوا اسلامهم كما ان الآية تنهى عن اليأس من اسلام وهداية الباقين منهم مطلقاً.
وان كان الموضوع مختلفاً فهو قياس مع الفارق، فالآيات والبراهين التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرة وبينة وفي اتباعه خلاص من أذى الدنيا وعذاب الآخرة.
لا يخرج معي رجل بني بناء لم يفرغ منه و لا تاجر مشتغل بالتجارة ولا رجل متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا ابتغي الا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع اليه ممن اختار ثمانون الفاً، وفيه امور:
الأول: حسن الوثوق بالله عز وجل وعدم اعتماد كثرة الجنود وحدها.
الثاني: قطع الطريق امام اهل الأعذار ومنع ربيب روح روح الملل الى النفوس.
الثالث: اظهار العزة وعدم الخوف.
الرابع: بيان روح الجزم والقطع واهميتها في بعض مقدمات القتال.
الخامس: تجلي الإفاضات السماوية بالمبادرة الىالحرب بغير ما اعتاد عليه الملوك من جمع الناس وظهور الأسماء للتغير من غير اعتبار للأحوال الشخصية.
السادس: اظهار الرحمة بعامة المسلمين والتخفيف عمن ابتلي بالإنشغال.
السابع: دعوة الجنود للإنقطاع عن الدنيا.

قوله تعالى [فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ]
قد تقدم في بداية الآية ان طالوت فصل بالجنود، وهنا تجاوز طالوت النهر مما يدل على اعتبار هذا التجاوز وقد ورد قوله تعالى [وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ]( ) ولا يعني هذا التجاوز حصول الأمن، نعم هو خطوة وسعي باتجاه النصر لما فيه من العزم الأكيد على القتال، ويرد المجتاز بمعنى الذي يحب النجاء، كما في قول الشاعر:

ثم انشمرت عليها خائفاً وجلاً

والخائف الواجل المجتاز ينشمر

وهذا الإجتياز لا يختص بالنهر بل يشمل في مفهومه موضوع الإختبار وحصول التمييز بين المؤمن المستعد لبذل النفس في سبيل الله وبين غيره.
والآية درس وموعظة وتنبيه لقواد الجيوش والسرايا الإسلامية بمعرفة القدرات القتالية للجنود والنوايا ومدى الصدق والأخلاص في النوايا، صحيح ان المائز الذي استعمله طالوت غير متيسر للقواد بعد انقطاع النبوة الا انه يمكن ان يعرف ولو في الجملة سواء بالصراحة والثقة والإستشارة او بالإبتلاء في صنوف التدريب او بملاحظة الهمم او شرائط الإشتراك والمقاصد ونحوها.
ويمكن النظر للأمر بمنظار اسلامي وهو مراتب الايمان ورسوخ مفاهيم فلسفة الشهادة في النفوس، خصوصاً وان سرايا المسلمين التي رافقت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم او التي ارسلها لم تكن تخضع لمثل هذا الاختبار لعدم الحاجة اليه وتلك خصوصية يمتاز بها المسلمون، ان تجاوز طالوت بالجنود يدل في مفهومه على احتمال تحقيق النصر وان الحال يؤهلهم لخوض الحرب والذين تخطى معهم النهر فيه وجوه:
انهم الذين لم يشربوا من النهر فصاروا فعلاً من اهل ولاية طالوت واصحابه المخلصين.
الأولى : جميع الجنود سواء من اطاع واحسن الإمتثال ام من عصى واخفق في الإمتحان وشرب من النهر.
الثانية : اصطحب معه الذين لم يشربوا، ومن لم يشرب الا الذين ارادوا العودة منهم، او ان طالوت اعاد بعضاً منهم الظاهر هو الثاني، لعدة وجوه:
الأول : قول طائفة منهم [ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ ].
الثاني : ان اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، بمعنى ان إخبار الآية الكريمة عن تجاوزه والمؤمنين لا يعني انحصار التجاوز بهم.
الثالث : ان اطلاق عنوان (الذين آمنوا) اعم من الإيمان بالمعنى الأخص، فقد ورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في تسعة وثمانين موضعاً من القرآن في خطاب يشمل المكلفين من المؤمنين والمسلمين مطلقاً فيدخل فيه المنافقون.
الرابع : ليس في منطوق الآية او مفهومها الظاهر ما يدل على رجوع فريق منهم عند النهر.
الخامس : قوله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ اسم يدل على المصاحبة وهو في المقام ظرف مكان يدل على موضع الإشتراك في التجاوز، ولو لم تأت (مع) في الآية لبقي المعنى تاماً وبيناً، فلابد لمجيء (مع) من دلالات، والظاهر انها اشارة الى تجاوزهم للنهر بنية الإنقياد لأوامر طالوت، ونعتهم بصفة الإيمان في الآية اظهار لعزمهم على خوض القتال في سبيل الله ولابد من النية وقصد القربة.

قوله تعالى [ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ]
من المعروف لغة ان الضمير يعود الى الإسم الذي قبله الا مع القرينة الصارفة، وهي ظاهرة في سياق الآية وما فيه من المعاني.
لقد اظهروا روح الضعف والفزع، واعلنوا صراحة نية التمرد وعدم الدخول في القتال عن اختيار ورضا، وهذا القول مدخل لبث روح الخوف والتردد في قلوب المقاتلين، فمن آثاره ونتائجه انه يقسم الجيش الى:
الأول : القائلين به.
الثاني : الذين يميلون الى هذا القول ويلتقون بالقائلين به.
الثالث : فريق يكون برزخاً بين القائلين وبين المقاتلين.
الرابع : فريق يتزلزل ايمانهم ويتطلعون لحسم القول.
الخامس : طائفة لا يلتفتون الى هذا القول ويبقون مخلصين ومستعدين للجهاد والشهادة.
فاذا كان الذين لم يشربوا هم القليل فكيف وقد ترك هذا القول اثراً سلبياً وضرراً في الجيش بالذات والعرض، بالذات على قسمين:
الأول بالنسبة للقائلين وما فيه من احتمال لتعطيل شطر من الجيش.
والثاني الضرر العام على الجيش مطلقاً في قوته وكثرته وقدرته على الهجوم او الدفاع.
اما العرض فيتعلق بغير القائلين من خلال مقدار الإستجابة لهذا القول واثره النفسي.
وعلى القول بانه لم يجاوز النهر الا طالوت والذين لم يشربوا من النهر فان فريقاً منهم دب الى نفوسهم الخوف والفزع وآثروا الحياة الدنيا وغلبت عليهم الكدورات الظلمانية وظنوا انهم يواجهون الهزيمة والقتل، وفريقاً ملأ الإيمان قلوبهم واحسنوا التوكل على الله وتجاهلوا الأسباب المادية وتأثيرها في سير المعركة فظنوا النصر.
وعلى هذا القول يظهر ان عدم الشرب لم يكن اختباراً تاماً بل جزء من اختبار وليس مائزاً بين المجهادين وغيرهم وهو بعيد، فالأقوى ان القائلين [ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ ] هم الذين شربوا من النهر، ولكن هل من تأثير لذات الماء على الجوارح والأركان والهمم ام لا، الظاهر انه لا تأثير له على البدن الا انه كاشف عن ضعف العزائم وحال الوهن والجحود عند من اقدم على شرب الماء منهم.
والآية موعظة وعبرة للمسلمين ودرس في جهاد الملل السابقة ومعاناة المؤمنين المركبة والتي ترد على نحو متعدد الموضوع متحد الزمان، فهم يواجهون في الخارج عدواً قوياً، وفي الداخل خوفاً ظاهراً وخدلاناً ومقدمة للتراجع والنكوص.
واحتمل بعضهم نسبة هذا القول الى المتخلفين عند النهر ممن شرب منه كاعتذار عن عدم مواصلة السير نحو سوح المعركة والجهاد او انهم ذكروه جواباً على السؤال عن تخلفهم عند النهر، ولكنه بعيد ولا مناسبة للإعتذار عن الشرب بعدم القدرة على مواجهة جالوت، وليس من سبب خاص لأن يكون التخلف عند النهر، فموضوع الإبتلاء هو شرب الماء وليس الإعتذار عن التخلف عن مواجهة جالوت.
وقيل ان جالوت اسم اعجمي لا ينصرف، ولكن يقال في العربية جلتّه الحد أي ضربته، وقيل اصله جلدته، فادغمت الدال في التاء ولكن المدار علىالظاهر لحجية الظواهر الا مع القرينة الصارفة او البينة التي تثبت هذا الأصل والإدغام.
وهذه الآية تظهر قاعدة كلية في القرآن وهي ان آياته بعضها يفسر بعضاً، فهي تبين العدو الذي آذى بني اسرائيل واضطرهم او اكرههم على الخروج من ديارهم وترك عوائلهم، وان عـدوهم يمتلك القوة والعدة والعدد، مما يدل على عظيم فضله تعالى على بني اســرائيل بتعيين طالوت ملكاً، فهذه الآية تظــهر ان تعيينه حاجة ومقدمــة لنصر بني اسرائيل ويبدو ان هذه المقدمة واجبة لوجوب ذيها، ووجــوبه يترشح من عمومات بقاء كلمة التوحيد في الأرض وتتعاهدها أمة مسلمة.
وتدل الاية بالدلالة التضمنية على كثرة جنود جالوت وبطشهم وان كانت خاتمة الاية تتعلق بالكثرة والقلة.
ومع ما في هذا القول من الوهن وروح الخذلان الا انه يؤكد ما كان يعانيه الموحدون من الإضطهاد وما يقع عليهم من الحيف ومعاناتهم وعدم قدرتهم على الرد.
وتظهر الآيات حاجة ثبات التوحيد الى المدد الإلهي بالملك بالإضافة الى النبوة، فلابد من امة مسلمة في كل زمان قلّ عدد افرادها او كثر لتكون ممهدة لخروج الرسول التالي الذي يأتي بشريعة ناسخة.

قوله تعالى [قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ]
من اعجاز هذه الآية تعدد الفاعل والقائل وما فيه من الدعوة الى الإستقصاء والإستقراء والإستنباط واعادة الضمائر واستحضار القرائن والتبحر في التفسير والتأويل ومعرفة فلسفة لغة القرآن في هذا الباب، فمن التعدد:
الأول : الجنود.
الثاني : فشربوا منه.
الثالث : الا قليلاً منهم.
الرابع : والذين آمنوا معه. 5
الخامس : قال لا طاقة.
السادس : قال الذين يظنون.
السابع : انهم ملاقوا الله.
الثامن : فئة قليلة.
التاسع : فئة كثيرة.
العاشر : الصابرون.
والثلاثة الأخيرة وان كانت من القواعد الكلية الا انها تتعلق بالمقام لإرتباطها بلقاء الجيشين.
وهل ان الذين يظنون انهم ملاقوا الله هم انفسهم المؤمنون الذين جاوزوا مع طالوت البحر ام اخص منهم ام غيرهم؟ الأقوى انهم اخص وانهم جماعة منهم وبينهما عموم وخصوص مطلق، فالمؤمنون على مراتب وكما ان الإيمان اعلى درجة من الإسلام فان اليقين اعلى رتبة من الإيمان، وصحيح ان الظن الوارد في الآية لا يرقى الى مرتبة اليقين الا انه يلحق به وهو من افراد التصديق.
فالآية بدأت بذكر الجنود مطلقاً وبصـفة الجندية والإنقياد والإستعداد القتالي والجندية صفة عامة يشترك فيها كل مقاتــل واختتمت الآية بقول اهل الإيمان منهم الذين بلغوا مراتب التقوى واحسنوا التوكل الى الله عز وجل، وهكذا عند الحرج وســاعات الشــدة والعسرة تبرز الحاجة الى اهل التقوى ليقودوا الأمة نحو النصر والفوز ويحققوا لها الأمن والسلامة، فقولهم هذا يشد ازر الذين آمنوا مطلقاً ممن هو ادنى مرتبة منهم في الإيمان، ويشــدوا من عزائمهم ويجددوا عندهم معالم الإيمان ويحببوا الى نفوسهم الجهاد والشهادة في سبيل الله.
ويلاحظ في الآية قول المجاهدين وليس قول طالوت لا عن قصور منه ولكن لبيان اهمية قول المؤمنين في المعركة الذي لا يقل كثيراً في اثره عن فعلهم، انه نوع قطع وجزم بالإستعداد للمواجهة ويدل وفق مفهوم المخالفة على النهي عن التراجع والهزيمة واظهار الضعف، ومن الإعجاز ان الآية بدأت بذكر الجنود ومسيرهم وانتهت بخاصة الخاصة واخلاصهم.
بحث نحوي
(كم) هنا خبرية يراد منها بيان الكثرة، وتستعمل في مواطن الإفتخار والعز، وسميت خبرية لأنها تحتمل الصدق والكذب ولا تحتاج الى جواب في مقابل (كم) الإستفهامية التي يسئل بها عن العدد والكمية وتحتاج الى جواب، ويعرف المراد من (كم) بلحاظ القرائن وسياق الكلام بالإضافة الى ان تمييز (كم) الخبرية يكون مفرداً مجروراً او جمعاً نمجروراً تقول (كم يوم صمت) (كم حجة حججت) واذا فصل بينها وبين مميزها بفعل متعد، لزم الإتيان بـ(من) كي لا يلتبس المميز بمفعول الفعل المتعدي كما في قوله تعالى [ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ] ( ).
اما (كم) الإستفهامية فان تمييزها يقع منصوباً (كم كتاباً قرأت) وتمييز (كم) الخبرية يقع مفرداً مجروراً او جمعاً مجروراً، (كم حاجة قضيت) (كم حوائج قضيت) ولكن الأفراد اكثر استعمالاً واوجز وابلغ في معناه بل ان دلالتها اكثر اذ ان المفرد المجرور يقع تمييزاً للمائة والألف فتقول مائة دينار، الف دينار، بينما يقع الجمع المجرور تمييزاً للعدد من الثلاثة الى العشرة أي لبيان القلة لذلك جاءت (فئة) بصيغة المفرد للدلالة على كثرة انتصار الجماعات القليلة على الكثرة.
والآية تدل على الثقة بالنصر والإطلاع على تأريخ الأمم والملل وجهاد المسلمين والموحدين في العصور الغابرة، فذيل الآية قاعدة كلية في باب الجهاد والتأريخ والملل وفي الآية نوع تصديق وامضاء للأخبار التأريخية التي تدل على انتصار المؤمنين في الملل السابقة مع قلة عددهم ازاء كثرة الكفار أي ان الآية تضفي صفة الإعجاز على تلك الأخبار وتمنع من التشكيك بها بالوقوف بلحاظ السند وحده مثلاً او بالنظر اليه وفق منظار عقلي وحساب رياضي.
وحرف الجر (من) في قوله تعالى [ كَمْ مِنْ فِئَةٍ ] لبيان الجنس للدلالة على الحدوث والتكرار والكثرة، فالآية تتجاوز قانون الأسباب والمسببات، وان كان المؤمن لا يرى في هذه الظاهرة وانتصار القلة على الكثرة خروجاً على هذا القانون لأنها قيدت هذا النصر باذنه تعالى، وقال ابن منظور: اذن بالشيء اذناً: عَلِم، وقالوا: واذن به اذناً: علم به)( ).
ولكن الإذن بالشيء اعم من العلم به فهو الرخصة والإمضاء وهو من مصاديق الإرادة وليس العلم، والباء في (باذن الله) تفيد الإستعانة وهي الداخــلة على آلة الفعــل، وفيه دلالـة على عــدم الإطــلاق في الأمر أي ليس كل فئة قليلة تغلب فئة كثيرة حتى وان كانت القليلة هي المؤمنة.
وهذا التقييد دعوة لجميع الجنود للإستعانة بالله عز وجل واظهار حسن التوكل والعزم على ملاقاة العدو من غير التفات الى كثرته، وفي الآية اخبار بان تحقيق نصر الجماعة القليلة على الكثيرة ليس من الممتنع او صعب المنال بل انه الأقرب اذا اذن الله عز وجل وقد يدرك الإذن بالدعاء والتضرع الى الله تعالى مع صدق الجهاد في سبيله تعالى وعدم ترك الخوف والفزع يدبان الى النفوس ويظهران بين الصفوف وفي السلوك النوعي العام، أي ان ظهور حالات فردية من الخوف لا تضر بمعنويات الجيش وقدراته ولكن ظهور الفزع على الأكثرية مقدمة للهزيمة، فجاء قول اهل التقوى وارباب منازل اليقين لشحذ الهمم ومنع تردي الحالة النوعية العامة خصوصاً وان الحظر اصبح يهددهم حتى في حال عدم القتال، بل هو اقرب عندها من المواجهة.

قوله تعالى [وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]
الأولى : جاءت خاتمة الآية قاعدة كلية ووثيقة سماوية واحدى الثوابت الكلامية ومصداقاً للإرادة التكوينية.
الثانية : هل ان هذه الخاتمة من كلام الذين يظنون انهم ملاقوا الله عز وجل ام انها اخبار منه تعالى ودعوة للإيمان، الأقوى هو الأول وان هذا الكلام منهم لتوكيد ايمانهم وعزمهم على التحمل والصبر في القتال.
الثالثة : انهم يحثون اصحابهم على الصبر والمجالدة والمبالطة والمضاربة بالسيوف وعدم الإنهزام امام العدو عند القتال.
الرابعة : انه دعوة للمقاومة والثبات وليس عند بدء القتال فقط بل عند استدامته واشتداده وحينما يحمي الوطيس ايضاً، والحاجة حينئذ للصبر اشد، وفي غير حالات القتال ومنها مقدماته واسبابه وساعة تلك المحاورة.
الخامسة : جاءت الآية على نحو الإطلاق أي في مختلف الحالات والأوقات، ولم تحصر المراد من الصبر في المقام بالصبر في القتال وليس مطلقاً وان كانت القرينة الحالية وفحوى الخطاب تدل عليه، وهذا من الفضل الإلهي بارادة العموم وترتب الثواب على افراد ومصاديق الصبر.
السادسة : قد ورد قوله تعالى [وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] اربع مرات في القرآن ثلاثة منها في القتال والحث عليه والصبر عند المواجهة مع طاعة الله ورسوله، وواحدة تأمر بالإستعانة بالصبر والصلاة كما تقدم في الآية الثالثة والخمسين بعد المائة [اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ) مما يدل على موضوعية الصبر في العقيدة الإسلامية وانه نوع عبادة وفيه قربة الى الله عز وجل.
السابعة : بلحاظ تفسير القرآن للقرآن يمكن استقراء حقيقة النسبة بين المقاتلين وان صلة المسلمين ليست لدرجة كبيرة فعددهم يقارب النصف من عدة الكفار قال تعالى [فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
الثامنة : الآية تخفيف ورحمة وبشارة النصر والظفر بالأعداء، فالذين يكون الله عز وجل معهم لابد ان ينالوا الحسنيين او احداهما فلا خسارة بالصبر عند المواجهة، من يقتل في سبيل الله يدخل الجنة، ومن يبقى يحقق النصر وينال بغيته وينجو من الظلم.
التاسعة : فيها توكيد على قصد القربة وان القتال يجب ان يكون في سبيله تعالى وخالصاً لوجهه الكريم.
العاشرة : انها مدد نفسي وروحي وارتقاء في عالم الملكوت فمتى ما ادرك المؤمن ان قوى غيبية قاهرة تنصره فانه يثبت في مكانه ويستبسل في القتال وثوقاً بالنصر، والله عز وجل اصدق القائلين فيجعل المسلمين يرون الآيات ويحسون بالمدد حال التوكل عليه.
الحادية عشرة :لو استعرضت التأريخ لوجدت الإعجاز والمدد الملكوتي للمسلمين اذ يتبين لك ان الأسباب المادية والعدة والعدد عند المسلمين غير كافية وحدها لتحقيق النصر والظفر او البقاء في مواطن المقاومة والتحدي.
الثانية عشرة : جاءت الآية على نحو الإطلاق فهي تؤكد هذه القاعدة الكلية وملازمتها للإنسان في وجوده على الأرض واستمرارها الى يوم القيامة.
الثالثة عشرة : تبين الآية جانباً من المعارف الإلهية وهو ان الله عز وجــل يأمر بشيء وفيه منفعة الصبر الدنيوية والأخروية وهذا الأمــر عون وارشاد له.
الرابعة عشرة : لم تحدد الآية درجة الصبر التي يعين الله معها العبد خصوصاً وان الصبر على مراتب متفاوتة من القوة والضعف، ومدى العون والمدد الذي يتفضل به سبحانه، وعدم التحديد هذا رحمة وتخفيف اضافيان فلغة الإطلاق في الآية تبين انه تعالى ينصر الصابرين ما داموا متلبسين بالصبر ويظهرون التحمل والجلد في سبيله تعالى.
الخامسة عشرة : جاءت الآية بصيغة الجمع مع الصابرين لأن المواجهة تتطلب التعاون والتكاثف والتلاحم واظهار الجميع الصبر، وان الصبر في الآية ينحل الى صبرين احدهما شخصي وان كل مقاتل يختار الصبر والتحمل، والآخر نوعي عام يستوعب المقاتلين جميعاً في الزحف والثبات.
السادسة عشرة : ليس في الآية ذكر لطالوت الا في بدايتها وانه فصل بالجنود بمعنى ان الملك والقائد لا يتولى كل شيء فتقع مسؤوليات جسام على المؤمنين والمجاهدين لا سيما وان الصبر والعزم على المواجهة حالة نفسية وارادة خاصة وعامة وهو طريق الى الجنة.
السابعة عشرة : ان عنصر التفاؤل ظاهر في كلام المجاهدين من بني اسرائيل، وانهم يأملون تحقيق النصر ويسعون اليه، بينما ترى المسلمين يسعون لإحدى الحسنيين اما النصر واما الشهادة وبذا تتجلى مضامين اهلية المسلمين لتعاهد الشريعة الناسخة.


ردود كريمة على بعض الأجزاء الأخيرة من هذا السِفر المبارك
1- سماحة الإمام شيخ الأزهر.
2- سماحة العلامة الشيخ أ.د. مفتي جمهورية مصر العربية.
3- الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي.
4- سيادة رئيس مجلس القضاء الأعلى/ العراق
5- سيادة مستشار الأمن القومي السيد قاسم الأعرجي .
6- سيادة رئيس المحكمة الاتحادية العليا .
7- سيادة القاضي رئيس الادعاء العام .
8- الأمين العام لإتحاد المؤرخين العرب.
9- سيادة رئيس محكمة استئناف بغداد / الكرخ
10- سعادة أ.د .رئيس جامعة دمشق .
11- سعادة أ.د .رئيس جامعة ديالى .
12- سعادة أ.د. مدير جامعة الملك فيصل/ المملكة العربية السعودية
13- سعادة أ.د. مدير جامعة كردفان/ الجمهورية السودانية.
14- سعادة أ.د. مدير الجامعة الإسلامية/ المدينة المنورة.
15- سعادة أ.د. رئيس الجامعة العراقية.
16- عادة أ.د رئيس جامعة واسط / العراق .
17- سعادة أ.د. رئيس جامعة البصرة / العراق.
18- سعادة أ.د. رئيس جامعة ذي قار / العراق.
19- سعادة أ.د. رئيس جامعة القادسية / العراق.
20- سعادة أ.د. رئيس جامعة جدارا/ المملكة الأردنية الهاشمية.
21- كلية الإمام الاوزاعي للدراسات الإسلامية/ بيروت.
22- سعادة أ.د.مدير جامعة الأمير عبد القادر/ الجمهورية الجزائرية

السيد صاحب الفضيلة المرجع الديني الشيخ/صالح الطائي
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد،…..
فلقد تلقيت بحمد الله رسالتكم الرقيقة وبها الجزء الحادي والخمسون في تفسير آية واحدة من سورة آل عمران من القرآن الكريم.
نتضرع إلى الله العلي القدير أن يلهمكم العلم النافع وان يجعله في ميزان حسناتكم.
وشكر الله لكم حسن عملكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

المرجع الديني الشيخ/صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن وأستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…وبعد،
فإنه ليسعدني أن أتقدم لسيادتكم بخالص الشكر والتقدير والإحترام على تفضلكم بإهدائنا نسخة من من الجزء الثاني والثمانين.
وأتمنى من الله أن يديم عليكم نعمة الصحة والعافية وأن يسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنه وان يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
شاكرين لكم، ولكم تحياتي

سماحة المرجع الديني الشيخ صالح الطائي حفظه الله ورعاه
صاحب أحسن تفسير للقرآن الكريم
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…وبعد,
فقد تسلمنا بيد الشكر والتقدير نسخة من كتاب”معالم الإيمان في تفسير القرآن” الجزء التسعون-الآية 134 من سورة آل عمران، والذي تفضلتم بإهدائه إلى معالي البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلي، الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، ويشرفنا أن نتقدم إليكم بجزيل شكرنا على جهودكم المتواصلة لتفسير أي الذكر الحكيم، فجزاكم الله عنا خير الجزاء وبارك فيكم وفيما تقومون به من جهد مبارك خدمة للإسلام والمسلمين.

وتفضلوا بقبول وافر الشكر والتقدير.

سماحة الشيخ صالح الطائي “المحترم”

تحية طيبة
إشارة إلى كتابكم المرقم(7285/17) المؤرخ في 17/12/2017.
تلقينا ببالغ الإعتزاز إهدائكم نسخة من كتابكم الموسوم(معالم الإيمان في تفسير القرآن) الجزء التاسع والخمسين بعد المائة، نقدم شكرنا وتقديرنا متمنين لكم دوام الموفقية.
مع التقدير

السلام عليك عليكم ورحمة الله وبركاته
ببالغ الإمتنان والغبطة تلقينا هديتكم الكريمة (الجزء السادس عشر بعد المائتين ) من التفسير المبارك شاكرين حسن معالجتكم لهذا الموضوع المهم ونشد على عضدكم لتقدموا للأمة كل ما ينفعهم وينير بصيرتهم ويجلي الرين عن قلوبهم ليفهموا كتاب الله كما أراد سبحانه أن يفهموه ويعملوا بأحكامه ليكون لهم في الدنيا , مرشداً وفي الآخرة شفيعاً . ونضع أنفسنا وامكاناتنا لخدمة هذا المجهود المبارك سائلين المولى القدير أن يوفقكم لكل خير .

المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم

تحية طيبة

تلقينا ببالغ الاعتزاز اهدائكم القيم (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب ) معالم الإيمان في تفسير القرآن الجزء الخامس والعشرون بعد المائتين.
نقدم شكرنا وتقديرنا مع وافر التقدير .

مكتب المرجع الديني
الشيخ صالح الطائي

م/شكر
تحية طيبة
كتابكم ذي العدد 23/19 المؤرخ في 2/1/2019.

استلمنا هديتكم (الجزء الخامس والسبعين بعد المائة من تفسير القرآن الكريم) ونقدم لكم شكرنا آملين منكم المزيد من العطاء والتوفيق.
مع التقديــــر.

إلى/ سماحة المرجع الديني للمسلمين الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
م/شكر وتقدير

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
وأسأل الله تعالى ان يوفقكم ويحفظكم ويرعاكم انه سميعّ مجيب الدعاء.
عزيزي سماحة الشيخ المحترم :
تسلمت بمزيد من الفخر والاعتزاز الجزء (الواحد والعشرين بعد المائتين) من موسوعة (معالم الإيمان في تفسيرالقرآن) وهو الجزء الخاص بقانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) التي تدلل على ما حباكم الله تعالى به من رعاية ربانية علمية في انجاز هذا العمل العلمي الكبير ، وهو أول عمل علمي في العالم الإسلامي بهذا الحجم وبهذا العمق وبهذا المنهج ، وأسأل الله تعالى أن يديم عليكم نعمة العافية والستر والتوفيق والسداد من أجل تقديم المزيد من العطاء الفكري والعلمي في هذا التخصص النادر ، والله يحفظكم ويرعاكم بعين حفظه ورعايته إنه سميعّ مجيب الدعاء.
أكرر شكري وتقديري وامتناني العظيم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إلى/ مكتب المرجع الديني
الشيخ صالح الطائي المحترم

اشارة الى كتابكم ذو العدد 2250/21 في 21/11/2021.
تلقينا بمزيد من الفخر والاعتزاز الجزء (السادس والعشرون بعد المائتين) من موسوعة معالم الإيمان في تفسير القرآن لا يسعنا إلا ان نقدم شكرنا واعتزازنا بكم املين تقديم المزيد من العطاء الفكري والعلمي في مسيرتكم .
مع فائق التقدير …

سماحة المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب احسن تفسير للقرآن
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

أتقدم اليكم بجزيل الشكر والتقدير لهديتكم القيمة الجزء الحادي عشر بعد المائتين الخاص بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
وأتمنى من الله أن يديم عليكم نعمة الصحة والعافية والمزيد من النجاح والتوفيق ، نبارك لكم جهودكم ونقدر لكم هذا الإهداء…

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته …
تلقينا بكل تقدير وإمتنان إهدائكم نسخة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) الجزء السادس بعد المائتين ، ونتقدم بخالص الشكر والعرفان على هذا الاهداء ، لأدعو الله العلي القدير أن يمدكم بعونه وتوفيقه ، وان يسدد خطاكم ويكلل أعمالكم بالنجاح أنه سميع مجيب

فضيلة الشيخ/ صالح الطائي الموقر
مكتب المرجع الديني وصاحب أحسن تفسير للقرآن
وأستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
ص.ب -21168 مملكة البحرين

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد
تلقيت بكل الثناء والتقدير خطاب فضيلتكم رقم 1861/16 وتأريخ 20/5/2016م المرفق طيه نسخة من كتاب بعنوان “معالم الإيمان في تفسير القرآن ” الجزء الثاني والثلاثين بعد المائة.
يطيب لي ويسعدني أشكر فضيلتكم جزيل الشكر على إهتمامكم المتواصل بتزويد إدارة الجامعة بهذه النسخة ، وستحال إلى مكتبة الجامعة للإطلاع عليها، سائلاً المولى جلت قدرته للجميع التوفيق والسداد.
وتقبلوا خالص تحياتي وتقديري،،،

السادة/ مكتب المرجع الديني
الشيخ صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تهديكم جامعة كردفان أطيب التحايا ، وتغمرنا السعادة بالإصدارات التي تتوالى إلينا بإنتظام من مكتب المرجع الديني في (معالم الإيمان في تفسير القرآن) والذي كان آخر هذه الإصدارات (الجزء السادس والثلاثين بعد المائة) والذي تشرفنا بإستلامه بموجب خطابكم رقم 1535/16 الصادر في 13/7/2016م، وذلك إثراءاً للمعرفة في مجال تفسير آيات القرآن، خدمة للباحثين والمهتمين بأمر التفسير القرآني، والتي أضحت متاحة في الأقسام المختصة بالمكتبات الأكاديمية في الجامعات ومراكز البحوث وجامعة كردفان تحظى بأعداد وافرة منها في مكتبها المركزية.
ختاماً لكم الشكر والعرفان على هذا الصنيع، نفعنا الله به، وأثابكم عليه خير الجزاء .
وتفضلوا بقبول فائق عبارات التقدير والإحترام

معالي الشيخ/ صالح الطائي سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،، وبعد

فأسال الله لمعاليكم العون والتوفيق، ويسرني إفادتكم بأني تلقيت بكل تقدير وإمتنان إهداءكم للجامعة نسخة من الجزء التاسع بعد المائة من(معالم الإيمان في تفسير القرآن).
وإنني إذ أتقدم لمعاليكم بخالص الشكر والعرفان على هذا الإهداء، لأدعو الله العلي القدير أن يمدكم بعونه وتوفيقه، وأن يسدد خطاكم ويكلل أعمالكم بالنجاح إنه سميع مجيب يحفظكم الله ويرعاكم.
ولكم تحياتي وتقديري
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
تحية طيبة…
نشكر مبادرتكم الطيبة بإهدائكم لنا نسخة من كتابكم الموسوم الجزء الثلاثون بعد المائة من(معالم الإيمان في تفسير القرآن) سائلين الباري عز وجل أن يوفقكم في مسيرتكم العلمية والعملية خدمة لبلدنا العزيز.
ومن الله التوفيق…

إلى/ المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :ــ
قال تعالى ((نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)) أنه لفرح كبير وفخر أكبر ان احظى بأجزاء من تفسيركم للقرآن الكريم ، وهو تفسير واسع اضيف الى المكتبة الإسلامية ، وسيكون له اثره الطيب في فهم نصوص القرآن الكريم ولكم به أجر وثواب الآخرة ، ولا يسعنا في هذا المقام الا ان نقدم لكم شكرنا وتقديرنا على هذا الإهداء الفريد ، متمنين لكم التوفيق والمزيد من العطاء المبارك.
مع فائق الإحترام…

الشيخ محمد الشيخ صالح الطائي المحترم
مدير مكتب المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ صالح الطائي المحترم

نهديكم أطيب التحيات …

نتقدم بأجمل عبارات الشكر والتقدير على جهودكم المبذولة في إهدائكم إيانا نسخة من كتابكم (معالم الإيمان في تفسير القرآن/ الجزء الواحد بعد المائة) ….. متمنين لكم المزيد من التقدم والنجاح.
تفضلوا بقبول وافر الاحترام …

إلى/ مكتب المرجع الديني الشيخ صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته …
باعتزاز بالغ واعجاب شديد بالجهود الكبيرة لسماحة آية الله العظمى الشيخ صالح الطائي (دام ظله) في تفسير كتاب الله العظيم من خلال تلقينا اهداءكم المبارك للجزء (132 ،133، 134) من معالم الإيمان في استظهار كنوز من كتاب الله المجيد، سائلين المولى عز وجل ان يوفق الشيخ الجليل لما فيه خير الدنيا والآخرة وخدمة الإسلام والمسلمين .

 والله ولي التوفيق

إلى / مكتب المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
م/شكر على اهداء

تحية طيبة …
تسلمنا ببالغ الشكر والتقدير الجزء السابع بعد المائة من التفسير وهو القسم الأول من تفسير(أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس) شاكرين لكم اهداءكم متمنين لكم مزيداً من الإرتقاء والأزدهار والتطور.
…مع التقدير

سيادة الأخ الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن الكريم
وأستاذ الفقه والأصول والأخلاق
بكل فخر وإعتزاز تلقيت رسالتكم الموقرة التي تحمل العدد (532) تأريخ 26/5/2012م، ومرفقها الجزء التسعون من التفسير في الآية(133) من سورة آل عمران.
وانني إذ أشكركم جزيل الشكر وعظيم الإمتنان على اهدائكم هذا، سائلاً المولى عز وجل أن يديم عليكم نعمة الصحة والعافية، وأن يجعلكم سنداً وذخراً للأمة الأسلامية متمنياً لكم كل التقدم والإزدهار.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بيروت في 9/ربيع الأول/1440هــ
الموافق 24/11/2018م

سماحة المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
مكتب المرجع الديني الشيخ صالح الطائي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تتقدم كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية بأطيب تمنياتها، وتشكركم على الجزء(171) الذي وصلنا من جانبكم من كتاب: “معالم الإيمان في تفسير القرآن” والذي يتضمن قراءة في آيتين من القرآن بما يدل على أن النبي(ص) كان لا يسعى إلى الغزو ولم يقصده ولم يدع إليه.
آملين الإستمرار في إرسال الأجزاء التي ستصدر منها مستقبلا، شاكرين لكم حسن تعاونكم الدائم معنا وداعين الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما فيه خير الإسلام والمسلمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إلى السيد المحترم/الشيخ صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن
مكتب المرجع الديني
تحية طيبة وبعد :
تلقينا نحن أ.د/ عبدالله بو خلخال مدير جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية قسنطينة، هديتكم القيمة المتمثلة في كتاب(معالم الإيمان في تفسير القرآن) الجزء الثالث عشر بعد المائة.
وإذ نعبر لكم عن شكرنا على هذه الإلتفاتة الكريمة، نهديكم نحن بدورنا نسخة من مجلة الجامعة العدد 33 ونسخة من نشرية أخبار الجامعة.

تقبلوا فائق الإحترام والتقدير.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn