بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله وصلى الله على رسوله الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
من أسباب السعادة في الدنيا الشوق الى الله عز وجل وحب الفناء في مرضاته، واستيلاء حبه تعالى على القلب يتجلى عملياً بالمشاهدة في قراءة كلامه تعالى وتتبع الآيات وبيانها وتأويلها، وكأن القرآن صبر عن لقائه في الدنيا ونعيم مؤقت يكون مثالاً لنعيم الآخرة بالعيش في بحبوبة آياته، وفيه واقية للإنسان تبعده عن كل باطل، وآياته عون على الامتثال لأمره سبحانه.
ويتناول هذا الجزء من معالم الإيمان سبع آيات من سورة البقرة هي (250-257 )من سورة البقرة .
ويتضمن آيات تبعث اللذة والسرور في النفس بتلقي أحسن القصص من عنده تعالى ففيه جانب من إخبار بني إسرائيل وتوجههم الى القتال، وفضله تعالى على الأنبياء وعلى الأمم بالنبوة، وعظيم نفعها كاشرف واسطة في الممكنات، وتلاحظ في كل آية دراسات مقارنة تبين رجحان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأفضلية المسلمين على غيرهم في تلقي الأحكام وحسن الإمتثال [وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ].
النجف الأشرف 3/3/1425هـ
قوله تعالى[ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ] الآية 250
الإعراب واللغة
الواو: استئنافية، لما: حرف وجود لوجود وتسمى الحينية، لأنها بهذا التركيب تكون ظرفاً بمعنى حين.
وجنوده: الواو عاطفة، جنود: معطوف على الإسم المجرور جالوت، والضمير الهاء مضاف اليه ويعود لجالوت.
ربنا: رب منادى مضاف، والضمير مضاف اليه.
افرغ: فعل طلب وسؤال.
والإفراغ: الصب، يقال فرغ عليه الماء وأفرغه: صبّه، قال الشاعر:
فرغن الهوى في القلب، ثم سقينه
صبابات ماء الحزن بالأعين النُّجلِ
وافرغ علينا صبراً: أي انزل علينا صبراً.
والبراز- بفتح الباء- المكان الواسع من الأرض والفضاء البعيد الخالي من العمران .
والبراز –بكسر الباء- مصدر المبارزة في الحرب يقال بارز القرن مبارزة وبرازاً: تقدم لقتاله ومواجهته بالسيف وأصل البروز الظهور.
في سياق الآيات
بعد توجه المؤمنين من بني إسرائيل الى القتال تحت أمرة طالوت وبعد الإبتلاء والإمتحان والتمحيص، جـاءت هذه الآية لتخبر عن حصول المواجهة مع الكافرين ومقدماتهـا وتظــهر الآيات تعاقب الأحداث بسرعة وتدافع.
وقد يقال من الحكمة التأني في الإقدام على مواجهة العدو ولزوم اخذ الحائطة وتهيئة العدة والعدد والتأهيل والتدريب وسد الثغرات وتأمين الداخل والكيانات السياسية والإجتماعية، ولكنها لا تصلح ان تكون سبباً للتواني والتأخير والتسويف فقد يكون الضرر بالتأخر كبيراً أو التواني مهلكاً لما فيه من دبيب روح الخمول والكسل وبث أسباب الخوف والذعر من العدو، أو انه يؤدي الى معرفة العدو للإستعدادات والتهيء للقتال فيبطش بالمسلمين او ان التأخر مناسبة لقوة شوكة العدو تلقائياً او حيطة.
ولقد كانت السرعة في التوجه للقتال مقرونة بعنصر التوكل على الله عز وجل ومن معاني التوكل انه طلب الشيء من فضل الله تعالى وبالوجه الذي أباح الطلب به، وتفويض الأمور الى الله عز وجل وان لا يقع جزع أو يأس عند فوته، لقد كان التنصيب الإلهي لطالوت ملكاً وتتابع الآيات مناسبة كريمة للإندفاع والإجهاز على العدو من غير إهمال لسلاح الدعاء الذي تبدو الحاجة اليه جلية في ساعة الإبتلاء والمحنة والمواجهة.
ومن مفاهيم [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( )، الوعد والعهد بإقامة شعائر الله ، والإستعداد لقبول نبوة من يأتي من الأنبياء والرسل والتصديق بما ينزل من السماء الى جانب إظهار الإخلاص في مواجهة العدو وابتغاء وجهه تعالى وعدم التفريط بالفرائض.
وقد تجب المبارزة الشخصية مع العدو المشرك وقد تستحب أو تكره أو تباح أو تكون محرمة بحسب الحال والأسباب.
فمن الواجب ما إذا كان في المبارزة الحفاظ على بيضة الإسلام، أو انها جاءت بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الإمام، أو كان الوجوب عينياً، والمستحب ما إذا كان الأمر بالمبارزة ندباً أو أنه لا يغير في مجريات وسير المعركة كثيراً.
والمكروهة ما إذا كانت من غير إذن الإمام، أو ان المبارز ضعيفاً أو ان المواجه له أقوى منه على نحو ظاهر وان المبارزة توجب الوهن في صفوف المسلمين وانهم يحتاجون المقاتل في ساعة أخرى والمبارزة المباحة مع عدم وجود راجح شرعي أو عقلي للمبارزة .
اما المحرمة فهي التي ينهى عنها الإمام، أو التي ليس فيها نفع وتجلب الإذى والضرر على المسلمين.
وفي الخبر عن الإمام الصادق ”دعا رجل بعض بني هاشم الى البراز فأبى ان يبارزه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما منعك ان تبارزه؟ قال: كان فارس العرب وخشيت ان يغلبني، فقال له أمير المؤمنين: فانه بغى عليك ولو بارزته لغلبته ولو بغى جبل على جبل لهد الباغي( ).
إعجاز الآية
تظهر الآية أهمية سلاح التوكل على الله والإستعانة به سبحانه وهو أمر يتجلى للعبد عند الشدة وساعة العسرة وتبين العزم على القتال عند الراجح الشرعي واللجوء الى الدعاء، وموضوعية الصبر في المواجهة والتحدي والثبات في وجه المشركين .
وصيغة الجمع في الدعاء والعزم باب من أبواب النصر وسبيل لقهر الأعداء وبلوغ الفتح واشارة الى التخلص من الكدورات وأسباب النفرة والخلاف، لأن وحدة المقاتلين من مقومات الغلبة على العدو.
ومن نظم الآيات ورود لفظ (جالوت) ثلاث مرات في القرآن ، جاءت في ثلاث آيات متتاليى من سورة البقرة ، منها آية البحث ، ومع قلة كلمات آية البحث فقد سأل المؤمنون من بني اسرائيل ثلاث مسائل هي :
الأولى : سؤال المؤمنين الصبر من عند الله ، لبيان أن هذه الملكة من مصاديق عظيم قدرة الله ، قال تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وعن أنس قال (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك . قالوا : يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا؟ قال : نعم . قال : إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها)( ).
وهو الصبر الذي سأله المؤمنون في هذه الآية خاص بالقلوب أم يشمل الجوانح والأركان ، الجواب هو الثاني ، ولا يقدر على بعث السكينة في جسم الإنسان وجوارحه إلى الله عز وجل وهي من مصاديق ملك الله عز وجل الوارد في الآية أعلاه ، والشامل للكليات والجزئيات.
وهل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، خاص بالمسلمين في مواجهة مشركني قريش وحلائهم ، أم أنه شامل للمؤمنين من الأمم السابقة المختار هو الثاني وهو ظاهر آيات البحث ، وإن كان خلافاً لقول الأصوليين بعدم الإستصحاب القهقري ، وكذا بالنسبة لقوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( )، وهو من أسرار كتابة الصلاة على المؤمنين من أيام أبينا آدم عليه السلام.
والصبر لغة هو الحبس والكف ، وهو في الإصطلاح حبس النفس والجوارح عن فعل شئ أو تركه ابتغاء مرضاة الله عز وجل ، وفي التنزيل [وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ]( ).
الثانية : سؤال طالوت وأصحابه من الله عز وجل تثبيت أقدامهم في ميدان القتال ، وعدم الفرار خاصة مع كثرة جنود جالوت ووحدة أسلحتهم وكثرة أسلحتهم وخيلهم ، وما يعرفه الناس عن شدة بطشهم وفتك جالوت نفسه.
وقد أنعم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بأن نهاهم عن الفرار من ميدان القتال ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه الأستثناء المتعدد من الفرار المحرم ، لبيان في المتعدد من الفرار المحرم ، لبيان السعة في الدين وأولوية سلامة المؤمن وهو من عمومات قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ).
الثالثة : مع أن طالوت ليس نبياً ولكنه أدرك هو وأصحابه المؤمنون أن النصر بيد الله عز وجل فتوجهوا بالدعاء والمسألة بالنصر ، وكأنه يقولون علينا الصبر فتفضل علينا بالنصر ، وفي التنزيل وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
ومن إعجاز آية البحث دلالة اسئلة طالون وأصحابه هذه على الفقاهة في الدين ، وهل أرشدهم نبي زمانهم إلى هذا الدعاء ، المختار نعم .
ويمكن تسمية الآية آية [وَلَمَّا بَرَزُوا] ولم يرد لفظ (وَلَمَّا بَرَزُوا) في القرآن إلا في آية البحث.
الآية سلاح
في الآية تنمية لملكة الصبر وبيان لموضوعيته في حياة المسلمين الجهادية، والآية دعوة لتحدي العدو المشرك ونهي عن التردد والإنسحاب خصوصاً مع استمرار التعدي من الكافرين.
وعن (البراء بن عازب قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر : أنتم اليوم على عدّة أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاء معه إلاّ مؤمن قال : وكنّا يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً)( ).
ومن معاني آية البحث أن طالوت وجنوده من مؤمني اسرائيل لم يقوموا بغزو جالوت وبلداته إنما برزوا له في ميدان القتال دفاعاً وضرورة ، وطلباً لسلامتهم ومنعاً لأسرهم وسبيهم وهو من الدلائل على قانون (لم يغز النبي محمد (ص) أحداً) والذي صدرت بخصوصه أجزاء عديدة من هذا التفسير وهي (159-160-161-163-164-165-166-167-169-171-172-173-175-176-177-178-182-185-188-192-200-208-212-218-226-228-238) والحمد لله.
لقد اثنى الله عز وجل على الذين يتحلون بالصبر سواء الصبر في طاعة الله ، أو الصبر عن معصية الله ، أو الصبر على المصيبة ومرّ القدر .
ومنه صبر طالوت وأصحابه في مواجهة المشركين المعتدين ، وقد وعد الله الصابرين بالثواب العظيم ، قال سبحانه [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
بحث نحوي
الشرط كلام يتكون من جملتين لا يتم معنى ومفهوم الأولى الا بالإتيان بالأخرى وكأنهما مبتدأ وخبر ولكن بصيغة الجمع والتركيب وليس بصيغة الجملة المفردة ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ]( ) وتسمى الجملة الأولى جملة الشرط، وتسمى الثانية جواب الشرط وجزاءه.
وسمي بالشرط للسببية والربط بين الجملتين، وكأن موضوع الجملة الأولى معلقاً على الثانية ولا يتم الا بها فاذا وجد الثاني وجد الأول وكذا إذا امتنع الثاني انعدم الأول.
ومن وجوه الشرط:
الأول : الشرط الإجتماعي: والرابطة فيه بين الجملتين السببية فموضوع الجملة الأولى سبب للثانية لأن السبب متقدم على المسبب، وسمي بالإجتماع لأنه تعليقي يحتمل الوجود والعدم، كما لو قلت ان اتحد المســلمون أصــبحوا أقويــاء فهي كالجملة الخبريـة التي تحتمل الصــدق والخبر في مقابل الإنشــائية، وقــد ثبــت في علم النحــو القول بالملازمة بين الشــرط الإجتماعي وموضوعية الإستقبال في الزمان ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثاني : الشرط الإمتناعي: وهذا الشرط يقوم ايضاً على قانون السببية والربط بين حدثين بمضامين الشرط الا انه يختص بمفهوم الإمتناع، فاذا كان السبب ممتنعاً وغير موجود فان المسبب يتبعه، لذا فان اداة هذا القسم من الشرط تنحصر باداة واحدة هي (لو) وهو حرف امتناع لإمتناع، ومنهم من قال انها لا تدل على امتناع الشرط أو الجواب وانها لا تفيد الا التعليق في الماضي وهو ضعيف.
الثالث : الشرط الوجودي: وهو يتحد مع الشرط الإمتناعي أعلاه بالماهية ويختلف بالمفهوم فالرابطة السببية الا ان السبب هنا أمر وجودي وليس عدمياً، ولهذا القسم بالشرط اداة واحدة هي (لما).
الرابع : الشرط الإمتناعي الوجودي: ويمتنع فيه الجواب بسبب وجود الشرط وادوات لولا، لوما، و(لو) حرف امتناع واضيف اليها حرف نفي لينتفي امتناع شرطها، فينقلب الإمتناع الى وجود باعتبار ان نفي النفي اثبات.
الخامس : الشرط الوصلي: وهذا القسم يختلف عن الأقسام الأخرى لعدم اعتبار السببية فيه، بل انه ينفي السببية بين الحدثين وسمي بالوصلي لأن اداته تنعت في صناعة الإعراب بالوصلية كما يمكن تسميته بالشرط اللاسببي لأنه ينفي وجود علاقة سببية بين الحدثين كما في قوله تعالى [ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ]( ).
السادس : شبه شرط: ويتعلق هذا القسم بالربط بين حدثين أو جملتين ولكن ليس بالسببية وادواتها بل ان الربط يكون بالذاتيات أو الصفات أو الإعتبارات الخارجة عنها أو الإضافات وظرف الزمان والمكان فمن الذاتيات قولك: من يجتهد ينجح، والزمان: متى يدخل وقت الفريضة أُصلي.
مفهوم الآية
الآية عز للمؤمنين وأمل دائم بتحقيق النصر في حال صبرهم وإجتهادهم بالدعاء مع النقص والقلة، والكفار في غاية القوة والعدة والعتو والزهو ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
وتظهر الآية المــدد الإلهي للمؤمنين الحاســم للأمور في ســاعة الضيق والشــدة عند العـزم على البذل واخلاص النية وتحث على التوجه الى الدعاء واللجوء الى الله تعالى رجاء النصر والفرج من عنده سبحانه.
وبخصوص معركة بدر وأحد نزلت البشارة بالمدد الملكوتي ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( )، ومع التقوى والثبات على الإيمان أمدهم الله بخمسة ألاف من الملائكة.
وقال الحسن البصري (وهؤلاء الخمسة آلاف رد للمؤمنين إلى يوم القيامة)( ).
وتبين الآية لوحة قتالية وصورة لبدايات المواجهة مع الكفار ومقومات تلك المواجهة التي يلجأ اليها المؤمنون ولم تكن عدة اضافية وقوات احتياطية وخطط بعيدة الأجل بل انهم اتجهوا صوب الدعاء واظهروا حسن التوكل على الله سبحانه ، وفي التنزيل [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا]( ).
ومن مفاهيم الآية تحذير المؤمنين من القنوط والرضا بالذل والهوان، لأن الفوارق بين الأطراف والقوى نسبية، ولكن جبهة المؤمنين تمتلك سلاحاً حاسماً تنفرد به وهو سلاح الدعاء والتوكل على الله.
ويتعذر على المشركين مجاراتهم أو الوقوف بوجههم، نعم انه يستلزم التقوى وإظهار الوحدة والتعاون ونبذ الخلافات وترك الخصومة وأسباب الشقاق .
ولقد تجلت معاني الإقدام والعزم على النصر أو الشهادة في هذه الآية مما يجعل العقلاء يدركون حتمية حصول النصر ودحر العدو.
التفسير
قوله تعالى [وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ]
تخبر الآية الكريمة عن توجه المؤمنين للقتال فهــم الذين تصدوا لمواجهة جالوت وخرجوا لملاقاته، وتدل بالدلالة التضمنية على انتهاء مرحلة الإمتحان والإبتلاء وانتفاء الفرقة والإختلاف بخصوص المواجهة والقتال وانهم تخلو عن أسباب الشقاق واســتعدوا للقتال، بمعـنى من كان متردداً في القتال اصــبح في الواقع مقاتــلاً .
لأن النكــوص والإمتنـــاع الشـخصي عن القتال يــؤدي الى قتل الممتنع نفســه واصحابه ولا يعني هذا انه اصبح يتعامل مع القتال كأمر واقع لابــد منه، بل ان نزعة الدفاع ومحاربة العدو هي التي انتصرت على النفس البهيمية والغضبية، فلم يبق متسع للتردد وطرح لإشكالات وأسباب الخوف والذعر من العدو.
لقد كان جهاد المؤمنين مركباً وعلى وجوه متعددة :
الأولى : انتصروا في داخل نفوسهم واخلصوا النية للمواجهة.
الثانية : جادلوا غيرهم من اهل التردد.
الثالثة : ساهموا في طرد روح الوهن والخوف من النفوس.
الرابعة : اظهروا العزم على مقاتلة العدو من منازل القلة والنقص.
الخامسة : جاهروا بالتوكــل على الله واعلنوا التحـدي ببيان أهمية التوكل في تحقيق النصر ، وفي قوله تعالى [فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ]( )، وقال ابن عباس في النهي الذي ابتليوا بالشرب منه (هو نهر بين الأردن وفلسطين يعني: نهر الشريعة المشهور)( ).
ومن الإعجاز أن الذي اغترف منه غرفة بيده روي وكأنه شرب ماءً كثيراً ، ومن شرب منه لم يرو .
السادسة : اتمام مقدمــات لقــاء العــدو والإستعداد لدخــول الحرب بجد وثبات.
ويظهر قوله تعالى [ بَرَزُوا ] العزم والإخلاص في الدفاع والسعي الحثيث لتحقيق النصــر ورفع الحيف ودفع الأذى الذي لحق بالمسلمين من بني اسرائيل .
وجاء البروز بلغة الجمع، وفيه اشارة لتضامنهم واتحادهــم وإرادتهم المشــتركة على القتال، وفيها تنبــيه للمســلمين وحــث لهم على مواجهــة الأعداء وعــدم الخــوف من سطوتهم وقوتهم ، قال تعالى [انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
ويبدد التوجه الجماعي العام للدفاع التركة الثقيلة للظلم والأذى المتراكم فاذا كان طرف هو الظالم وعلى نحو متصل ومتعاقب فانه قد يسبب حالة من الإستضعاف والخنوع عند الطرف الآخر تمنعه من المجابهة والتحدي وتجعله يميل الى اعتياد الخضوع ويستحضر عوائق التخلص منها ويبالغ في حجمها وما يستلزمه كسرها وتجاوزوها من الأســـباب والمقدمــات، ولكن الإيمان هو ســلاح النهـوض بالنفس للثورة على حال الهــوان والتردي في منــازل التبعية وتلقي الظلم وقبوله .
لذا تــرى الآية الســـابقة [فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( )، تؤكـــد على عنصر الإيمـــان واللجوء الى الله تعالى لما يترشح عنه من قوة تملأ الجوانح والأركان، ونفاذ في البصيرة.
وليس في آية البحث ذكر لطالوت مع موضــوعية وجــوده بين المقاتلين وكما يظهر في الآية السابقة ارتقاء المسلمين بالسعي لأحدى الحسنيين، فان هذه الآية وبلحاظ الســنة النبوية الشــريفة تظـــهر حقيقة عقائدية وهي اشتراك الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال بنفسه وبروزه على نحو متميز للأعداء وكان المسلمون إذا حمى الوطيس لاذوا به.
صحيح ان قوله تعالى [ بَرَزُوا ] يدخل فيه ضمناً طالوت لصيغة الجمع المستوعبة للجميع وللأولوية لأنه الملك والأمير، ولكن ذكر العدو جاء على نحو التفصيل بجالوت وجنوده.
ان التردد والإعلان عن العجز [ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ] ( )، لم يمنع من الدفاع ولم يلتفت اليه ومن اهم الأسباب التعجيل بفصل الجنود والخـروج بالمقاتلين من المدن والعيال بحيث يكون فرع التوكل على الله عز وجل ويخلى بين المسلمين وبين مستلزمات القتال بتهيئة الصفوف والتأهيل العسكري وتهيئة المؤن وتنظيم الكتائب واصلاح النفس لمواجهة المشاق ومنازلة الفرسان والإحتراز بالدعاء والإستجارة بالله تعالى.
فمن الحقائق التكوينية المطلقة ان الإنسان عند الشدة والبلاء ومداهمة الهلكة يتوجه كمخلوق وممكن محتاج الى الله تعالى، فمن باب اولى ان يلجأ المؤمنون الى الله عز وجل في ساعة المواجهة والدفاع في سبيله تعالى.
والعرف العام في المبارزة ان يبرز كل مقاتل الى من يقابله من الأعداء في المعركة لذا اقتبس معنى البراز وهو الفضاء الواسع لأنه مبارز يكون وجهاً لوجه مع صاحبه ليس بينهما فاصــل يحول دون القتال والضرب بالسيف.
وبلحاظ قلة عدد بني اسرائيل فان البروز هنا يدل على الإنكشاف أي انهم انكشفوا، وعلم جالوت وجنوده من الكفار قلة عدد بني اسرائيل الأمر الذي يؤدي الى استهانته وجنوده بهم وبعددهم.
ولم يعلموا المدد الغيبي الذي يترشح من الإيمان وحســن التوكـل والعزم على الإنتقام للدين والنفس والأولاد والديار والأمــوال والأعراض فبدل ان يؤدي هذا الإســـتخفاف الى اندفاع جنــود طالوت في القتال فانه كالشـــبهة البدوية التي تزول بادنى تحقــيق فبمجــرد حصول المواجهة واشــتداد القتال يصــاب العدو بانتكاســة ويحدث عنده ارباك لما يفاجـئ به من القوة والعزيمة وكأن الذين يقاتلهم اضعاف عدد جنوده ، ومن المدد ما هو على نحو القضية الشخصية كما تدل الآية التالية بقوله تعالى [وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ]( ).
وكما في قتل الإمام علي عليه السلام لحملة لواء المشركين يوم أحد واحداً تلو الآخر بعد إصرارهم على المبارزة والقتال .
وكما في قتله لفارس قريش عمر بن ود العامري في معركة الخندق بعد تحديه للمسلمين واصراره على القتال ، فنزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
وقد التفتت المؤسسات العسكرية في هذا الزمان الى مسألة الإستعداد للعدو فاخذت تبالغ بقوة العدو وتفخيم قدرته مع معرفتهم بضعفه وان كان دولة صغيرة أو جماعة صغيرة لا تمتلك الا اسلحة قديمة لا تستطيع صد طائراتهم وقواتهم البرية الكاسحة، ويظن المحللون انهم يريدون بهذا تصوير انتصارهم بما يبعث الرعب والفزع في قلوب الآخرين والسبب الخفي هو ادراكهم للقوة الإضافية للإيمان ومفاهيم الشهادة عند المسلمين لكي يأخذ جنودهم الحذر والحيطة عند المواجهة وبعدها.
ان الإيمان والشوق الى الجنة من أقوى الأسلحة في المعارك ودفاع المؤمنين عبر التأريخ والأحقاب المتعاقبة وينفرد به أهل الإيمان واتباع الرسل وهو في هذا الزمان عند المسلمين حصراً ، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
وفي الآية اشارة الى ما يجب عمله عند المواجهة بخصوص الدعاء والإستعداد النفسي بلحاظ الشرط الوجودي الذي تدل عليه (لما) بلحاظ انها حرف وجود لوجود أي ان وجــود الثاني تابع ومترشح عن الوجود الأول.
قوله تعالى [قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا]
جاء القول بصيغة الإطلاق والتنكير (قالوا) مما يفيـد ارادة عموم المقاتلين لأصالة الإطلاق والحاجة من منازل الإيمان ، انها ساعة التداخل والتقارب ونبذ الإختلاف وتعدد الأقوال، فالميدان للعمل والجهاد ، ويحتاج إلى الإتحاد في مواجهة المشركين.
و[أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا] أي احببه علينا صباً بتغشانا ويملأ جوارحنا كصب الماء الذي يغمر الإنسان.
ومن إعجاز القرآن عدم ورود لفظ (افرغ) إلا مرتين في القرآن ، إحدهما في آية البحث والأخرى بخصوص إيمان سحرة فرعون بعدما رأوا المعجزات من موسى عليه السلام ومنها إلقاؤه العصا وتولها إلى ثعبان ، قال تعالى [فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ]( ).
إذ خاطب السحرة فرعون كما ورد في التنزيل [وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ]( ).
وكلاهما بخصوص الصبر وسوؤاله من عند الله لبيان اتحاد الموضوع في تنقيح المناط بين ميدان الدفاع ، والثبات على الإيمان في مواجهة الطاغوت .
وسيأتي مزيد كلام في باب التفسير ، وورد ذكر الصبر بصيغة التنكير (صبراً).
وتفيد النكرة في سياق الإثبات الأطلاق ، لأنها اسم جنس ولا تقيد العموم ، فاذا قلت صم يوماً فانها مطلقة ولا تدل على صيام كل يوم لتكون الآية دليلاً على تفقه طالوت وجنوده في المعرفة الإلهية وأنهم يعلمون بأن أنهار الصبر التي ينزلنا الله عز وجل كالجبال ليس لها منتهى فسألوه سبحانه صبراً يكون من فضله كماً وكيفاً.
وعن السدي (قال : كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة ، وكان ملك العمالقة جالوت ، وأنهم ظهروا على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ، وكانت بنو إسرائيل يسألون الله أن يبعث لهم نبياً يقاتلون معه ، وكان سبط النبوة قد هلكوا فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى ، فأخذوها فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدله بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها ، فجعلت تدعو الله أن يرزقها غلاماً ، فولدت غلاماً فسمته شمعون .
فكبر الغلام فاسلمته يتعلم التوراة في بيت المقدس ، وكفله شيخ من علمائهم وتبناه ، فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبياً أتاه جبريل والغلام نائم إلى جنب الشيخ ، وكان لا يأتمن عليه أحداً غيره ، فدعاه بلحن الشيخ يا شماؤل ، فقام الغلام فزعاً إلى الشيخ فقال : يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع الغلام ، فقال : يا بني ارجع فنم . فرجع فنام ، ثم دعاه الثانية فأتاه الغلام أيضاً فقال : دعوتني؟ فقال : ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني .
فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال : اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك ، فإن الله قد بعثك فيهم نبياً ، فلما أتاهم كذبوه وقالوا : استعجلت بالنبوة ولم يأن لك ، وقالوا : إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آية نبوتك . فقال لهم شمعون : عسى أن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا [قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ….الآية]( ).
فدعا الله فأتي بعصا تكون على مقدار طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكاً . فقال : إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا . فقاسوا أنفسهم بها فلم يكونوا مثلها .
وكان طالوت رجلاً سقاء يسقي على حمار له ، فضلّ حماره ، فانطلق يطلبه في الطريق ، فلما رأوه دعوه فقاسوه بها فكان مثلها . فقال لهم نبيهم [إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا]( )، قال القوم : ما كنت قط أكذب منك الساعة ، ونحن من سبط المملكة وليس هو من سبط المملكة ، ولم يؤت سعة من المال فنتبعه لذلك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم } قالوا : فإن كنت صادقاً فأتنا بآية ان هذا ملك . قال [إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ…الآية]( )، فأصبح التابوت وما فيه في دار طالوت ، فآمنوا بنبوة شمعون وسلموا بملك طالوت)( ).
بحث عرفاني
لقد اشترك طالوت وجنوده بالدعاء والتضرع ولم يفتهم الإلتفات الى الدعاء ولأن الدعاء سلاح الأنبياء وربما جاء بتوجيه من طالوت الذي اصبح ملكاً باخبار نبيهم وهو المختار ، وهو مبرز خارجي لملكة التقوى التي نمت في نفوسهم.
لقد توجه المسلمون بسفر روحي الى عالم الملكوت ولم يقصدوا الوسائط ولم يلجأوا الى طالوت أو الى النبي أو الى بعض من اولياء الله من خاصة الجند بل توجهوا مباشـرة الى الله عز وجل الذي [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
ومع انهم عزمــوا على ملاقــاة العدو فانهم التجئوا اليه سبحانه في سـاعة مباشرة القتال دفاعاً لإعلان الإقرار بالقدرة الإلهية القاهرة التي تستجيب لها الأشياء كافة وان كانت خــارج ميدان القواعد الكونية والطبيعية المتعارفة.
ولقاعدة عدم تخلف المعلول عن علته وجه غيبي يفوق تصورات البشر ومداركهم العقلية واوهام الخلائق وهذا الوجه يناله العباد، لقد اصلح المسلمون قلتهم بالدعاء، وسعوا باللجوء الى الله عز وجل لتدارك الفارق بينهم وبين جالوت وجيوشه في العدة والعدد.
وتبدأ ثورة المستضعفين دائماً بالقلة من الغيارى وارباب الإباء والتحدي ورفض الباطل ليقابلوا بالإستخفاف والهجوم العنيف والبطش الســريع من العــدو ويتخلف عنهم اصحابهم وافراد جماعتهم ومن يشــاطرهم منازل الإضطهاد والأذى ويُوجه لهم اللوم من بعض العامة ، ولكن صبرهم يؤدي الى وفود آخـرين عليهم وورود بعض اخوانهم فيزدادون قوة وربما ينحاز نفر من الكافرين الى نصرتهم لما يقذف الله في قلوبهم من الهداية.
ولا يتعارض الدعاء مع السعي فانهما يسيران متوازيين احدهما متمم للآخر، فالدعاء لا يتزاحم مع الإجتهاد في ابتغاء الحوائج من اســـبابها الواقعية وطــرقها المادية بل انه يســـاعد عليها لما يبعثــه في النفس من الإندفاع والأمل وحسن الظن بالله عز وجــل بالإضافة الى المــدد الغيبي الـذي يترشح عن الدعاء من تيسير الأمور ورفع الموانع ودفع الحواجز ، وفي الحرب ببعث الله عز وجل الملائكة عوناً ومدداً.
وفي معركة بدر وبعد أن اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء وسؤال النصر والغلبة على المشركين نزل قوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
وبروزهم للقتال يعني اقتران العمل بالدعاء وتلمس طرق النصر بالأسباب وعن الإمام جعفر الصادق قال: الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر( ).
والدعاء في هذه المناسبة شاهد على المعرفة واستحضار ذكر الله تعالى وقصد القربة في الدفاع وهذا من اهم اسباب الفوز في النشأتين لما فيه من الإيمان وحسن الإرادة والتنزه من الرياء.
لقد كانــت المعركـــة مناســبة للتخلص من الكـــدورات الظلمانية وشــاهداً على معــرفة اهــل الإيمان لزيــف مباهـج الدنيا وما فيها من الغرور.
والآية مدرسة في العرفان والمعرفة الإلهية بتقديم الدعـاء واللجوء الى الله في حال الشدة والإقدام على أشق الأحوال، ومن أهم المواطن الذي يدرك الإنسان حاجته الى واجب الوجود ساحة المعركة وعند الأهوال والمخاطر والمباغتة.
ويتجلى في السنة النبوية في معركة بدر ، وبآيات القرآن والسنة النبوية في معركة الخندق ، وبخصوص معركة حنين ، قال تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( )، ولم يرد لفظ (حنين) في القرآن إلا في الآية أعلاه وكذا بالنسبة لاسم معركة بدر فانه لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، ولكن الآيات التي تخص هذه المعركة متعددة وكثيرة ، وكذا بالنسبة لمعركة أحد ، ولكن اسم هذه المعركة لم يذكر في القرآن ، وبخصوصها ورد قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
وقد ورد لفظ [اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] أربع مرات اثنتين في سورة البقرة( )، منهما الآية السابقة [فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( )، واثنتين في سورة الأنفال هما :
الأولى : قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
والنسبة بين )إن الله مع الصبرين) وبين مع الصابرين في ميدان الدفاع عموم وخصوص مطلق ، لبيان إعجاز قرآني في هذه الآيات وهو صبغة العموم ومصاحبة لطف وفضل الله عز وجل للمؤمنين الصابرين في طاعته ، وفي التنزيل [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
والنسبة بين المحسنين والصابرين عموم وخصوص مطلق ، فالمحسنون أعم ، ومنه الإحسان للذات والغير وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي الصدقات والإعانة وكل من الإحسان والصبر من الأخلاق الحميدة التي ندب إليها القرآن ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
بحث اخلاقي
سمي الصبر صبراً لما فيه من حبس النفس عما تشتهي وتميل اليه، وصبر الشيء: اعلاه، لذا فان الصبر مــرتبة متقدمة من مراتــب الكمال والرفعة ، وليكون من معاني قوله تعالى [بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( )، اتخاذ الصبر وقاة للإرتقاء في سلم المعركة الإلهية.
ان تقديم سؤال الصبر سر عقائدي لما فيه من الدلالات على موضوعية الصبر والحاجة اليه عند المنازلة .
والصبر أمر وجودي مركب من الإمتناع عن الإنقياد للنفس الشهوية والبهيمية، ومن الإندفاع في المقاصد الإيمانية والغايات الجهادية.
لقد تحلى طالوت والمسلمون الذين معه بالفضائل الأخلاقية ساعة الدفاع باختيارهم الصبر، ولمعرفتهم بضعف النفوس والعجز عن مقاومة الهوى والفزع متحدين ومتفرقين توجهوا الى سؤال الصبر من الله تعالى، وهذا السؤال يدل على الحاجة الى العون الإلهي في الأمور الخارجية والحالة النفسية .
والصبر حاجة في القتال وهو الطريق والمقدمة الى النصر لضرورة الثبات في الدفاع والذي يكون الصبر شرطاً له.
لذا تضمنت الآية الدعاء [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا]( )، ومجئ هذا الشطر من الدعاء بعد سؤال الصبر ، وهو دعاء المؤمنين من أصحاب الأنبياء ، كما ورد فيدعاء الربانيين الذين قاتلوا مع الأنبياء دفاعاً في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ).
وفي الصبر مسائل :
الأولى : بعث النور في النفس.
الثانية : يرسخ مفاهيم اليقين عند الفرد والجماعة.
الثالثة : يحول دون الجزع والفزع.
الرابعة : يطرد الغفلة الأمر الذي يساعد على خوض المعركة بعزيمة وجد وسعي الى النصر.
والصبر ملكة نفسانية لا تنحصر بالمسلمين وحدهم خصــوصاً وانها تتعلق في جانب منها بالغايات والآمال، ولكن المسلمين يتخذونه رداء مركباً لأنه جزء من الفلسفة الأخلاقية في الإسلام، ويدخل ضمن المفاهيم الشرعية لما جاءت به الآيات القرآنية وللسنة النبوية الشريفة القولية والفعلية والتقريـرية، وبالصبر تزول الغشاوة والحجب عن البصائر فيدرك الناس فقر الحياة الدنيا ولزوم طــرق ابواب الآخرة بادخار الصالحات ، وفي التنزيل [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( ).
واذا نظرت الى حياة الأنبياء تجدها مبنية على الصبر في حال الرخاء والشدة، والحضر والسفر، والسلم والقتال، والدعوة السرية والعلنية .
وفي الحياة الإعتيادية ترى الأنبياء يمارسون الأعمال التي تتصف بمضامين الصبر كالزراعة والرعي.
وفي خبر الواسطي عن الإمام الصادق عليه السلام : وما بعث الله نبياً الا زراعاً الا ادريس فانه كان خياطاً( ).
لقد كان دعاء الأنبياء اللجوء الى الدعاء وسؤال الصبر والجنة من آفات النفس وأمراضها الكامنة والعرضية وتنقية السريرة من الشــوائب الأخلاقية، لقد كان المسير الى القتال مسيراً اخلاقياً وارتقاء للنفس في عالم الملكوت وهو أمر تتجـلى معانيه في سرايا الدفاع وفي توجيهات الرسـول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بنشر الأمن والأمان .
والآيــة تدل بالدلالة التضمنية على العزم على لقاء طالوت المشرك والإيمان والرضا بالقضاء.
لقد سألوا صب الصبر وافراغه على نحو دفعي لبيان الضعف الذاتي وليس الوهن او الخوف ولأن الله تعالى واسع كريم.
وارادوا امتلاك القدرة على التحمل بتلقي الصبر وتغشيه للجوانح والأركان والحواس .
ولم يطلبوا الصبر لذاته بل هو مقدمة وسلاح في المعركة وبذا تتجلى لنا الأسلحة التي ينفرد بها اهل الإيمان فترى المؤمن يصـبر ويقاتل دفاعاً مع قلة العدد والعدة، وغيره يدب اليه الجزع والملل بسرعة مع كثرته واسلحته وبطشه ، قال تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
لقد ورد في القرآن قوله تعالى [ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ] مرتين الأولى في هذه الآية والأخرى في الآية السادسة والعشرين بعد المائة من سورة الأعراف وتتعلق بالسحرة بعد إيمانهم بالآيات التي جاء بها موسى [ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ]( ).
وبين موضوعي الآيتين عموم وخصوص من وجه فمادة الإفتراق حضور الصبر في الأولى ليكون مقدمــة لثبات الإقـدام والمجالدة في القتال، وفي الأخرى سأل السحرة الصبر كعون على الثبات على الإيمان وتلقي البلاء والقتل من غير جزع .
أما مادة الإلتـقاء فهي الصبر والحاجة اليه لتتجلى حقيقة عقائدية وهي ان الصبر سلاح وملكــة يحتــاج اليها المؤمنون في كل الأحوال.
و(عن معاذ بن جبل : أنه مات ابن له ، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزيه بابنه ، فكتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى معاذ بن جبل ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فأعظم الله لك الأجر ، وألهمك الصبر ، ورزقنا وإياك الشكر ، فإن أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا من مواهب الله الهنيئة ، وعواريه المستودعة . متعك به في غبطة وسرور ، وقبضه منك في أجر كثير . الصلاة والرحمة والهدى . إن احتسبته فاصبر ، ولا يحبط جزعك أجرك فتندم ، واعلم أن الجزع لا يرد ميتا ، ولا يدفع حزنا ، وما هو نازل فكأن قد . والسلام)( ).
وفيه شاهد بلزوم استحضار الصبر في الوقائع العامة والخاصة ، وبيان لحقيقة وهي كتابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخطابات إلى أصحابه في الأمور الخاصة ، وقد أسست في هذا السِفر علم السنة التدوينية ، وجعلتها قسيماً مستقلاً للسنة القولية والفعلية والتقريرية.
قوله تعالى [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا]
بعد ان قدم بنو اسرائيل الصبر وسؤاله ادراكاً منهم للحاجة اليه جاء السؤال الثاني متعلقاً بالثبات عند اشتداد القتال ويدل هذا الدعاء على بغضهم للفرار والتولي والإدبار حال الزحف واشتداد القتال.
فالثبات مطلوب لذاته ولغيره فهو جزء من القتال ووجه من وجوهه وما دام الإنسان ثابتاً ساكناً لم يتزحزح عن موضعه يكون مدافعاً ومتوثباً لإغتنام الفرصة للكر على العدو وانتهاز الفرصة المؤاتية كما ان الثبات يساعد على تلمس الكيفية الأفضل والسبيل الأرجح للقتال وكأنه آلة لتولي زمام المبادرة زماناً ومكاناً وكيفاً وكماً وعدداً ، وهو من معاني صابروا في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
واستدل فريق من المتكلمين بآية البحث على خلق الله تعالى لأفعال العباد وان الإرادة من فعل العبد وبخلق منه تعالى، ومنهم من رد هذا القول وقال ان المراد خلق اسباب الصبر واسباب ثبات القدم ، وهو المختار.
والنزاع صغروي فالآية تظهر العزيمة على الدفاع والحاجة الى المدد الإلهي والتوفيق والإحتراز من دبيب روح التردد والهزيمة وهي لا تدل على انعدام الصـبر عندهـم اصلاً بل هو موجـود وملازم للإيمان ومترشح عنه، وعندما سئل الرسـول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان قال: “هو الصبر”.
ان الإســتدلال على قواعد كلامية ببعــض الآيــات يجب ان لا يكون معارضــاً بآيات اخرى ، لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، وهو خال من التزاحم أو التعارض.
فقد وردت آيـــات تحث على الصبر ورياضــة النفــس، قال تعــالى [ اصْـــبِرُوا وَصَـــابِرُوا ]( ) [ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ ]( ) [ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ]( ).
ان الصبر وافراغ الصــبر نوع تأديب وهداية وطــريق الى النصر ليكون هذا النصــر تعاهداً لعقيدة التوحيد في الأرض وتوطـئة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء بحفظ وتوارث الآيات التي تخبر عن نبوته او عن صفاته او باعانة الناس بالهداية إلى الإسلام والإيمان بالآيات التي يأتي بها ومنها القرآن الذي يتضمن توثيق الوقائع التي تعرض لها بنو اسرائيل والصفحات الحميدة والمشرقة في حياتهم وما يغايرها، من اسباب الجحود وغلبة القوة الغضبية والشهوية.
وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام بخصوص داود عليه السلام وامرأة أوريا ما يدل على أن أصل الخبر ليس من الأسرائيليات ويتضمن ذكر جالوت وزواج داود من امرأة أوريا انتهاء عدة الوفاة وفق أحكام الشريعة .
و(عن ابن أبي عمير، عن هشام،عن الصادق عليه السلام قال: إن داود عليه السلام لما جعله الله عزوجل خليفة في الارض، وأنزل عليه الزبور أوحى الله عز و جل إلى الجبال والطير أن يسبحن معه، وكان سببه أنه إذا صلى يقوم وزيره بعد ما يفرغ من الصلاة فيحمد الله ويسبحه ويكبره ويهلله.
ثم يمدح الانبياء عليهم السلام نبيا نبيا، ويذكر من فضلهم وأفعالهم وشكرهم وعبادتهم لله سبحانه، والصبر على بلائه، ولا يذكر داود عليه السلام، فنادى داود ربه.
فقال: يا رب قد أثنيت على الانبياء بما قد أثنيت عليهم ولم تثن علي، فأوحى الله عزوجل إليه: هؤلاء عباد ابتليتهم فصبروا، وأنا أثني عليهم بذلك.
فقال: يا رب فابتلني حتى أصبر، فقال: يا داود تختار البلاء على العافية ؟ إني أبليت هؤلاء ولم أعلمهم، وأنا أبليك وأعلمك أنه يأتيك بلائي في سنة كذا و شهر كذا في يوم كذا، وكان داود يفرغ نفسه لعبادته يوما، ويقعد في محرابه ، ويوم يقعد لبني إسرائيل فيحكم بينهم، فلما كان في اليوم الذي وعده الله عزوجل اشتدت عبادته وخلا في محرابه وحجب الناس عن نفسه وهو في محرابه يصلي .
فإذا بطائر قد وقع بين يديه، جناحاه من زبرجد أخضر، ورجلاه من ياقوت أحمر، ورأسه ومنقاره من اللؤلؤ و الزبرجد .
فأعجبه جدا ونسي ما كان فيه، فقام ليأخذه، فطار الطائر فوقع على حائط بين داود وبين اوريا بن حنان، وكان داود قد بعث اوريا في بعث، فصعد داود الحائط ليأخذ الطير .
وإذا امرأة اوريا جالسة تغتسل، فلما رأت ظل داود نشرت شعرها، وغطت به بدنها، فنظر إليها داود وافتتن بها ورجع إلى محرابه ونسي ما كان فيه، وكتب إلى صاحبه في ذلك البعث أن يسيروا إلى موضع كيت وكيت، ويوضع التابوت بينهم وبين عدوهم، وكان التابوت في بني إسرائيل كما قال الله عزوجل [فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ]( ).
وقد كان رفع بعد موسى عليه السلام إلى السماء لما عملت بنو إسرائيل بالمعاصي، فلما غلبهم جالوت وسألوا النبي أن يبعث إليهم ملكا يقاتل في سبيل الله – تقدس وجهه – بعث إليهم طالوت وأنزل عليهم التابوت وكان التابوت إذا وضع بين بني إسرائيل وبين أعدائهم ورجع عن التابوت إنسان كفر وقتل، ولا يرجع أحد عنه إلا ويقتل، فكتب داود إلى صاحبه الذي بعثه أن ضع التابوت بينك وبين عدوك، و قدم اوريا بن حنان بين يدي التابوت.
فقدمه وقتل، فلما قتل اوريا دخل عليه الملكان ولم يكن تزوج امرأة اوريا وكانت في عدتها وداود في محرابه يوم عبادته، فدخل عليه الملكان من سقف البيت وقعدا بين يديه، ففزع داود منهما، فقالا [لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ]( ).
ولداود حينئذ تسع وتسعون امرأة مابين مهيرة إلى جارية، فقال أحدهما لداود [إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ]( )، أي ظلمني وقهرني، فقال داود كما حكى الله عزوجل [لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ]( )، إلى قوله [وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ]( ).
قال : فضحك المستعدى عليه من الملائكة وقال: حكم الرجل على نفسه، فقال داود: أتضحك وقد عصيت لقد هممت أن أهشم فاك، قال: فعرجا .
وقال الملك المستعدى عليه: لو علم داود أنه أحق بهشم فيه مني، ففهم داود الامر وذكر القضية فبقي أربعين يوما ساجدا يبكي ليله ونهاره، ولا يقوم إلا وقت الصلاة حتى انخرق جبينه وسال الدم من عينيه)( ).
لقد ادرك بنو اسرائيل الحاجة الى ثبات الإقدام والصبر في القتال فاستعانوا بالله عز وجل على تحصيله، والله عز وجل يحب ان يدعوه العبد في كل صغيرة وكبيرة، وهذه المسألة لها موضوعية للظفر بالعدو والعز والحياة ايضاً بمعنى ان هذا السؤال يدل بالدلالة التضمنية على البقاء على قيد الحياة لأن تثبيت الإقدام أمر وجودي وفرع الحياة والحركة والفعل واشغال حيز على الأرض.
وظاهر الآية وخروجهم من ديارهم وتجاوزهم النهر يبين انهم كانوا بين أمرين لا برزخ بينهما فأما النصر وأما ان يتعرضــوا للقتـل والسبي على فرض الهزيمة كما هو معروف في اكثر المعارك لحال الإستكبار التي يتصــف بها جالوت وجنــوده وتماديهم في اضــطهاد بنـي اسرائيل وفرض الجزية عليهم من غير مسوغ شرعي او عقلي او عرفي فكيف وقد خرج بنو اسرائيل لقتالهم .
فلابد ان الجبابرة لا يرضون الا باستئصالهم أي ان عدم ثبات الأقـدام وتعرض طــالوت والمؤمنين للهزيمة يؤدي الى اجتثاث بني اسرائيل ورجوع الظالمين على اخوانهم الذين لم يشتركوا في القتال، فالذي قاتل إباء ودفاعاً ودفعاً للظلم انما يقاتل من اجل الأمة والجماعة والذب عن اولئك الذين ردوا كلام النبي او امتنعوا عن الخروج.
قانون اقتران ثبات الأقدام بالإيمان
جاء سؤال ثبات الأقدام لأن الصبر من الكلي الطبيعي وهو الماهية المأخوذة لا بشرط شيء موجود في الخارج، وهو اعم من موضوع القتال، ويعتبر من الكلي المشكك الذي له مصاديق متفاوتة في الشدة والضــعف والكثــرة والقلة، ولأن الثبـات في القتال لا يتوقــف على الصبر وحــده بل يســتتلزم قصد القربة، والعزم على مواصــلة القتال فقد يصبر الإنسان على القتل لذا يقال لمن يقتل على نحو الإكراه: قتل صبراً.
ومن أهم أسباب الثبات حسن التوكل على الله عز وجل وفي معركة أحد قال تعالى مخاطباً الصحابة [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ) ( ).
كما يسـتلزم ثبات الأقدام القوة والقدرة على الدفاع، والتدبير الحسن في صد هجمات العدو، وكسب عنصر الوقت في المقاومة بمعنى ان ثبوت حقيقة (ثبات الأقدام) تبعث في نفس العدو اليأس والفزع خصوصاً وان الظالمين وبعد استقرار الحال ورضوخ الآخرين لحكمهم يتجهون صوب الرخاء والحياة المدنية ذات الترف والإستقرار وادارة الأعمال وتصــريف الأمور والأهتمام بالملكيــة الخاصة وتوســعة المشاريع وكيفية زيادة نمائها، ويدب التنافس والخلاف بينهم فيصبح عندهم القتال أمراً ثانوياً ويركنون الى الراحة وتبدأ قدراتهم القتالية بالإضمحلال ويوكلون شــؤون الحرب الى القواعـد والموالي والأتباع فتتكسر قدراتهم الواهية أمام ثبــات الأقدام ويعمهم الحــزن واليأس والعناء، فتتهيء فرصة للمسلمين للهجوم عليهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
والدعاء يبين الأهلية القتالية لبني اسرائيل ومعرفتهم لأولوية الثبات في الواقع وعدم التولي وعدم التعجل في الهجوم أي ان القتال يستلزم التقيد بقاعدة لا افراط ولا تفريط، لا اقل في بدايات المعركة .
ولعل هذا الدعاء بالخصوص جاء بلحاظ التردد الذي اظهره شطر من الجنود كما ورد في التنزيل [لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ]( )، فالهجوم لا يكون نافعاً دائماً بل قد يكون ضاراً وثبات الأقدام لتقوية العزائم ورص الصفوف وايجاد ملكة قتالية راسخة على المواجهة.
ففي ثبات الأقدام تنظيم لجبهة المقاتلين وايجاد قواعد واضحة للتنسيق بينهم في الدفاع والتصدي للعدو والتخطيط للهجوم والوثوب على العدو، وفي هذا الدعاء وتحقيقه واقعاً توكيد عملي لجميع الجنود بان الفئة القليلة قادرة على الإنتصار على الفئة الكبيرة.
ويدل بالدلالة التضمنية على إحالة النصر الى أمر واذن الله سبحانه وان رجاء النصر منه تعالى مطلق ويفوق الأســباب الماديـة المحسوسة الظاهرة من الكثرة والقلة في العدة والعدد، فيبدو اعتبار وأهمية الدعاء والتضرع اليه تعالى فالمدد الإلهي قاهر وحاسم لسير المعركة ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ) ( ).
بحث عسكري
في الآية تأديب للمسلمين في ميادين الدفاع وتعليم لفنون الحرب ولزوم اختيار قاعــدة (ثبات الأقدام) في المعركة ابتداء وحتى عندما يحمي الوطيس ويشتد القتال مع امكان اللجوء اليها عند الحاجة والضرورة ووجود الراجح، ولعل نصف النصر في المعركة يتحقق بالتقيد بأحكام هذه القاعدة وليس من السهل الإلتزام بمضمونها بمعنى ان الجنود قلما يحافظون على مواقعهم فغالباً ما يتجهون الى الزحف والتقدم عند تراجع العدو، او يديرون وجوههم الى الوراء هرباً عند تقدمه.
وقد يحدث الأمران لأحد طرفي القتال في معركة واحدة ، لأن الحرب كر وفر ، وكما حصل للصحابة في معركة أحد ، ومع أن عدد جيش المشركين ثلاثة آلاف رجل وعدد الصحابة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبعمائة ، فان الصحابة من المهاجرين والأنصار هجموا على المشركين وازاحوهم عن أماكنهم ، وصاروا يهمون بالفرار والهزيمة ، واستحضروا وقائع معركة بدر ، وكثرة قتلاهم والذين وقعوا في الأسر منهم في تلك المعركة ، ولكن ترك الرماة مواضعهم الذي عينها لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل خيل المشركين تأتي من خلف المسلمين فتصيب الخسارة المسلمين ويسقط سبعون شهيداً ، ويفر من الميدان أكثر الصحابة لولا ثبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكانه مع نفر قليل من أهل البيت والصحابة لا يتعدى أثنى عشر على أكثر الروايات ، ليرجع إليه الكثير من الصحابة على جبل الرماة المعروف والظاهر في هذا الزمان ، وكأنه فرار و(عن البراء قال جعل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على الرماة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير ووضعهم موضعا وقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم قال فأنا والله رأيت
النساء يشددن على الجبل وقد بدت أسوقهن وخلا خيلهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون وقال عبد الله بن جبير فنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة سبعين أسيرا وسبعين قتيلا) ( ).
وربما يكون تراجع العدو مكيدة ومكراً وخديعة والشواهد التأريخية عليه كثيرة، او ان هجوم العدو يكون هشــاً وضعيفاً بمعــنى ان يزج بكل قوته في ضربة سريعة وخاطفة فالصمود له يشتت قواته ويخزيه ويفقده صوابه ويبتلى بتضييعه لقاعدة (ثبات الأقدام) فالذي يتعاهدها في الميدان يستطيع السيطرة على زمام أمور المعركة، قال تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
ولا يعني هذا بأحكامها حتى في حال رجحان الهجوم او التراجع والفييء الى فئة فهي مطلوبة بذاتها ولكنها مقدمــة لغيرهــا وقد يتفرع عنها الهجوم على نحو الموجبة الجزئية كما لو زحفت مقدمة وميمنة الخميس( ) دون القلب والميســرة والساقة .
وهذا الدعاء [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا] ( ) يكشــف عن خطة اعتمـدها طالوت والمســلمون وهي ترك العــدو يبادر للهجوم وامتصاص قوته وابطال تأثيره بالصمود والثبات في منازل الدفاع فجاء الدعاء لإنجاح الخطــة عملياً وللوقاية من المفاجئات الضـارة .
ومن منافعهــا نماء ملكة الثقة والقــدرة الذاتية والتخلص من الآثار النفسية المترشــحة عن تلقي الحيف والظلم في الأمس، بالاضــافة الى استخفاف الكافــرين ببني اســرائيل وعدم أخــذهم الحائطة للقتال واصابتهم بالخيبة والارباك والتشتت عندما يفاجأون بثبات الاقدام والعزم على القتال ، قال تعالى [ِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] ( ).
قوله تعالى [ وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ]
لقد جعلوا خاتمة الدعاء متعلقة بالغاية من القتال والأسباب التي سألوا من اجلها نبيهم كي يبعث لهم ملكاً، لقد سألوا النصر من عند الله تعالى لأن مقاليد الأمـور بيده تعالى وهو الذي ينصـر عباده المؤمنين ولابد ان النصر لا يتم في ثبات الأقدام وصد هجمات العدو وحدهما وان كانا من اهم اركان المعركة، بل في دحره وملاحقة فلوله وتشتيت جنوده، فالنصر اعم من تثبيت الأقدام كما انه يعني حسم المعركة وتحقيق الظفر الأمر الذي يترشح عنه قهراً وانطباقاً العودة الى الديار، وزوال الظلم والأذى والتشريد ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
ان خوض معركة واحدة وتقديم التضحيات فيها خير من القعود والوقوع تحت وطأة الإضطهاد والإذلال، وتلك قاعدة عقلية ولكن المسلمين على مر الدهور هم الذين يترجـمونها على صعيد الواقع والفعل وان عملوا بالتقية برهة من الزمن فانهم يتخـذونها مدخلاً لخوض غمار المعركة ان اصبح الإستمرار على التقية متعذراً وان الأضرار منه لا تحتمل.
ويبين سياق الآيات الإضطرار للجوء الى القتال وظهور التضرع والخشوع والتوجه بالدعاء إلى الله تعالى، وهو مناسبة لنزول الرحمة الإلهية والأمر بالنصر، سواء بالقوى الغيبية او المدركــات العقليـة او الأسباب المادية المركبة، كالقدرة والقوة والإقدام عند المسلمين، والخوف والرعب عند الكافرين، ولأن الله تعالى واسع كريم جاء الدعاء على نحو الإطلاق أي من غير حصر بتلك المعركة بدليل اسباب القتال التي ذكروها للنبي لذا فمن قواعد الدعاء الإتيان به على نحو الشمول والسعة والإطلاق والسؤال بالأعم وعدم التقييد إذ ورد (عن ابن عباس في قوله { ألم تر إلى الملأ }( ) يعني ألم تخبر يا محمد عن الملأ { من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم }( )اشمويل { ابعث لنا ملكاً نقاتل }( ) إلى قوله { وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا }( ) يعني أخرجتنا العمالقة ، وكان رأس العمالقة يومئذ جالوت ، فسأل الله نبيهم أن يبعث لهم ملكاً) ( ).
فكأن الدعاء ينحل الى أمرين احدهما عاجل وهو تحقيق الظفر في المعركة والآخر هو النصر النهائي ودحر الكافرين، بحيث يتعــذر عليهم جمع قواتهم واعادة الكرة مرة اخرى، وهو أمر ظاهر بالنسبة للدول المستبدة ذات السلطان الواسع فان سقوطها وخسارتها يؤدي جرياً الى تفكيك أوصالها ويجعلها عاجـزة عن الســيطرة على أطرافها المترامية وجمع جنودها.
ومواجهة كثرة جنودها بســلاح الإيمان تكشف عن زيف ما يدعون وبطلان الشهرة المتوارثة والهالة التي يحيطون بها أنفسهم ورب مشهور لا اصل له.
ولا تنحصر منافع الدعاء ببعث الأمل في النفس وتحصيل وجود ذهني للنصــر، بل انه باب للمدد الإلهي وتلمس الآيات الخارجية التي تساعد على تحقيق النصـر، ولا يعني الدعاء ان المسلمين لن يقاتلوا بدليل انهم سألوا تثبيت الأقدام وما يحتاجه من قوة المقاومة ورد هجمات العدو بل أرادوا التخفيف والرحمة وتحقيق النصر بفضل الله تعالى ، قال تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ] ( ) .
لقد نعتوا العدو بالكفر والجحود، ولم يقولوا انصرنا على جالوت وجنوده، ليؤكدوا قصد القربة في القتال وانهم لم يبرزوا للعدو لأمور شخصية ومصالح دنيوية بل لكفره وعتوه ولإحتمال تجدد الحاجة للدفاع ضد غير جالوت كان في سبيل الله وإعلاء كلمة الدين ومنع سيادة الشرك والكفر والظلم، لقد أرادوا إحراز الأجر والثواب وإعلان صدق النية وإصلاح السريرة ورجاء قبول الدعاء ونزول المدد واسباب الظفر.
ومن القواعد الفقهية في الجهاد في الإسلام عدم البدء بقتال الحربي الا بعد دعائه الى مناهج الإيمان والدخول في الإسلام خصوصاً اذا لم تبلغه الدعوة.
وفي الخبر عن الإمام عليه علي قال: ” ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوماً حتى يدعوهم وقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى اليمن فقال: يا علي لا تقاتلن احداً حتى تدعوه، وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت”( ) .
وانه صلى الله عليه وآله وسلم حينما اعطاه الراية يوم خيبر وبعثه للقتال امره ان يدعوهم مع ان الدعوة للإسلام قد بلغتهم “فعن عبد الله بن مسلمة القعنبى قال: حدثنا عبد العزيز بن أبى حازم عن ابيه عن سهل بن سعد سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم خيبر لاعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه فقاموا يرجون لذلك ايهم يعطى فغدوا وكلهم يرجو ان يعطى فقال أين على فقيل يشتكى عينيه فأمر فدعى له فبصق في عينيه فبرأ مكانه حتى كأنه لم يكن به شئ .
فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الاسلام وأخبر هم بما يجب عليهم فوالله لان يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم”( ).
فهل دعا بني اسرائيل جالوت وجنوده الى الإسلام؟ فيه وجوه:
الأول : الدعوة سابقة ومتقدمة زماناً على المعركة.
الثاني : انهم قاموا بدعوتهم ونصحهم وعرض الإسلام عليهم ، وبيان منافعه في الدارين.
الثالث : اليهودية دين خاص لبني اسرائيل وانهم لا يدعون غيرهم لها.
الرابع : لقد تيقنوا من عدم فائدة الدعوة.
الأقوى ان تقدم الإنذار والتحذير والدعوة الى الهداية على القتال أمر ثابت في الشرائع السماوية لإقامة الحجة على الناس وزيادة العزم عند المؤمنين وبعث الرعب في قلوب الكافرين وبيان خطأ ما هم عليه من الشرك وإصرارهم على العناد والجحود.
قوله تعالى[فَهَــزَمُــوهُــمْ بــِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتـَلَ دَاوُودُ جَــالُوتَ وَآتَــاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَــاءُ وَلَوْلاَ دَفْــعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ] الآية 251.
الإعراب واللغة
قرأ ابو جعفــر ونافع ويعقــوب (دفاع الله) بالألف وقرأ الباقون بغير ألف.
فهزموهم: الفاء عاطفــة على جملة محذوفــة والتقديــر: فوقعت المعركــة ، ويمكن أن تكون معطوفة على جملة تقديرها : فاستجاب لهم الله فهزموهم ، ويمكن عطفها على خاتمة الآية السابقة ، لبيان سرعة انتهاء المعركة بعد الإيمان والتوكل على الله والدعاء ، فلم تقل الآية (وهزموهم ) بل جاءت بالفاء التي تفيد التعقيب والتوالي .
هزموا: فعل ماضِ، واو الجماعة: فاعل، والضمير (هم) مفعول به.
وقتل: الواو عاطفة، قتل: فعل ماضِ.
داود، فاعل مرفوع بالضمة، جالوت: مفعول به.
ولو: الواو: استئنافية، لولا: حرف شرط غير جازم.
دفع: مبتدأ محذوف الخبر، واسم الجلالة مضاف اليه، الناس: مفعول به للمصدر، بعضهم: بدل من الناس، والضمير: مضاف اليه.
ببعض: جار ومجرور متعلقان بدفع، لفسدت الأرض: اللام للصيرورة والعاقبة جاءت واقعة في جواب لولا.
والهزيمة في القتال: الإنكسار والإندحار، واصل الهزم هو الإنكسار.
يقال للقربة اذا يبست وتكسرت: تهزمت( ).
والدفع: الإزالة بقوة، وتدافع القوم أي دفع بعضهم بعضاً، والفساد نقيض الصلاح، يقال فسد فساداً وفسوداً فهو فاسد.
في سياق الآيات
بعد مسير طالوت وجنوده من المؤمنين الى القتال والتصدي للعــدو وتقديم الدعــاء الذي يظهر العزم وصدق السريرة على المواجهة جاءت هذه الآية لتعلن تحقيق النصر والظفر لبني اسرائيل وهزيمة الظالمين.
لم يخرج بنو اسرائيل جميعاً إلى لقاء جالوت وجيشه للخشية منه ولكن الفئة القليلة التي خرجت مع طالوت الملك أظهرت حسن التوكل على الله ، والخشية من الله في لزوم الدفاع ، ورجاء لقاء الله عز وجل ، قال تعالى [أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ]( ).
لقد أوكلوا النصر في الميدان إلى (إذن الله) كما في الآية قبل السابقة ، وابتدأت آية البحث بتصديق حسن ظنهم بالله فتحقق لهم النصر باذن الله ، وصحيح أن الآية أخبرت عن هزيمة الظالمين إلا أنها تدل بالدلالة التضمنية على النصر المؤمنين وأنهم هم الذي انتصروا ، ففي قوله تعالى [فَهَزَمُوهُمْ]( )، أطراف :
الأول : الهازم .
الثاني : القتال .
الثالث : الهزيمة .
الرابع : المهزوم ، الذي لم ينهزم من تلقاء نفسه إنما إضطراراً وضعفاً.
وبلحاظ الآية السابقة فقد حضر مع طالوت وجنوده كل من :
الأول : سلاح الدعاء ، وفي التنزيل [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ).
وعن ابن عباس في الآية أعلاه قال (لولا إيمانكم . فاخبر الله أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين ، ولو كانت له بهم حاجة لحبب إليهم الإِيمان كما حببه إلى المؤمنين)( ).
الثاني : الصبر الحسن الذي يأتي بالدعاء والمسألة قال تعالى [وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
الثالث : ثبات الأقدام في الميدان ، والمناجاة بعدم الفرار ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
وتبين هاتات الآيتان أن المؤمنين في حال دفاع وليسوا غزاة أو مهاجمين ، إنما كانوا في حال دفاع .
الرابع : الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل بسؤال النصر على الكافرين ، وقيدت الآية العدو بأنهم كافرون لتأديب المسلمين بحرمة قتال بعضهم بعضاً وأن الدعاء للنصر يكون على الكافرين المشركين بالله ، الجاحدين بالنبوات .
ثم وصفت الآية التالية قصة طالوت وجنوده وقتل داود لرأس الكفر والشرك جالوت بمعجزة آيات من عند الله ، وبصيغة الجمع وليس الآية الواحدة ، لبيان تعلق موضوع آيات الله بالإخبار والقصص الواردة في الآيات السابقة.
وأختتمت بالشهادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رسول من عند الله عز وجل بقوله تعالى [وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ]( ).
لتتضمن البشارة له بالنصر على مشركين قريش وحلفائهم من عبدة الأوثان وهو الذي تحقق والحمد لله ، ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحقق نصره بالسلم والصلح كما في تسمية صلح الحديبية فتحاً ، قال تعالى بخصوصه [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
و(عن مجمع ابن جارية الأنصاري قال : شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إلى كراع الغميم إذا الناس يوجفون الأباعر فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجنا مع الناس نوجف ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته على كراع الغميم فاجتمع الناس عليه ، فقرأ عليهم [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )].
فقال رجل : يا رسول الله : أو فتح هو؟ قال : والذي نفس محمد بيده إنه لفتح فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانية عشر سهماً ، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة منهم ثلثمائة فارس ، فأعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهماً)( ).
وسيأتي مزيد كلام في الجزء السابع والثلاثين بعد المائتين من هذا السِفر.
إعجاز الآية
ليس من فاصلة وواســطة بين الدعاء للنصــر وبين الأخبار عن تحقيقه الا بانتهاء الآية وابتداء اخرى لبيان عظيم اثره وسرعة اســتجابة الله تعالى في اقسـى الأحوال لقد نالوا النصر سريعاً .
وزاد الله عز وجل من لطفه فأنعم عليهم بنبوة داود وتولية الحكم والسلطنة الى جانب النصر واضاف اليه التوفيق والتسديد والحكم بالوحي والعلم الحضوري.
لقد ابتدأت الآية بالفاء لبيان قانون وهو سرعة انتصار المؤمنين على الطواغيت الذين يصرون على القتال ،لتكون الآية من عمومات قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( )، والبشارة للمسلمين بسرعة إنتهاء المعركة مع المشركين ، إذ قاموا بغزو المدينة ، كما في معركة بدر ، ومعركة أحد التي أنتهت في نفس اليوم الذي ابتدأت به ، وهو الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية المباركة.
وابتدأت آية البحث بالإخبار والبشارة المتجددة للمؤمنين بهزيمة جالوت وجيوشه بأذن الله لبيان أن النصر لايتم إلا باذن الله عز وجل وفيه شاهد على منافع الإيمان والإجتهاد بالدعاء كمقدمة عقلية وعقائدية لدخول المعركة .
وبينت الآية قانوناً وهو دفع الله تعالى ببعضهم بما يثبت الإيمان في الأرض ويمنع من طغيان مفاهيم الكفر والضلالة ، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، حينما تساءلوا عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، مع أن طائفة من الناس تفسد في الأرض وتسفك الدماء ، وهو الوصف الذي ينطبق على جالوت وجنوده ، فمن علم الله هو في المقام هزيمتهم وقتل جالوت الطاغوت.
لذا أختتمت الآية بقانون فضل الله على العالمين ، لبيان أن هزيمة جالوت وانتصارات المؤمنين رحمة للناس جميعاّ وأن منافع هذه الهزيمة لا تختص بذت الواقعة ، وهل من منافعها البشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانتفاعه وأصحابه منها ، الجواب نعم ، وهذه المنافع متجددة في كل زمان لورود الآية في القرآن ، وسلامته من التحريف والتبديل والزيادة أو النقيصة.
ويمكن تسمية الآية آية (فهزموهم) ولم يرد لفظ (هزموهم) في القرآن إلا في آية البحث.
الآية سلاح
تشد الآية عضد المسلمين وتبعث في نفوسهم الأمل بالنصر وترغبهم بالإقدام على مواجهة الأعداء وعدم الفزع من كثرتهم وســطوتهـم وتنمي في صـدورهم الثقة وتحثهم على الرجــوع الى النبي محمد صــلى الله عليه وآله وسلم في الحكم والتشريع لما رزقه الله تعالى من الآيات والبراهين.
لقد ترددوا في قبول ملك طالوت وبعثته من عند الله، ولكنه قادهم للنصــر والظفـر، فانعم الله عز وجــل عليهم بان جمــع الملك والنبوة عند داود بعد آية حســية ظاهرة وهي قتــله لجالوت، وتلك نعمة اخرى على بنـي اســرائيل، فبعــد الرد على النــبي تأتيهــم الآيات بحجـــة ظاهرة وبما يخفف عنهم بالبرهان الذي يغنيهم عن الشك والريب والوهم.
مفهوم الآية
تدل الآية على إحكام واتقان الآيات منه تعالى وان تنصيب الملك منه مقدمة للنصر الأكيد، وتبين عز المسلمين بالأنبياء والبركات التي تتنزل معهم وهي وعد كريم للمسلمين وبشارة الإفاضات العظيمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللقرآن.
وفيها تحذير وتخويف للكافــرين من التعـدي على المسلمين في ديارهم وذراريهم والى يوم القيامة بقرينة ان الواقعة حصلت بعد انتهاء أيام موسى في الحياة الدنيا كما في قوله تعالى [ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ]( ) كما تدل الآية في مفهومها على تصور الأذى الذي يلحق بني اسرائيل لو حصلت هزيمتهم.
ولم تخبر الآية عن انتصار بني اسرائيل الا بذكر دحرهم للكافرين وتحقق هزيمة عدوهم، وفيه اعجاز وهو اظهار الفرق بين كسب معركة وبين بناء دولة، والدولة نعمة اخرى تجلت بقوله تعالى [ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ ] فالملك غير النصر في معركة، وهذا النصر مقدمة ضرورية للملك والسـلطنة، فالآية تبين النعم المتعــددة والمتوالية على بني اسرائيل، نعم انهم قاموا بوظائف المبارزة والمواجهة، وهي دعوة لهم للقيام بتلقي احكام التنزيل ورسالة الاسلام وفق الواجب العقائدي ليكون مناسبة لاقبال الدنيا والملك عليهم وتخليصهم من الاذى والاضطهاد.
ومن مفاهيم الآية حث المؤمنين على الجهاد والسعي للنصر وعدم الميل الى الهدنة مع الظالمين الا مع وجود الراجح العقلي او الشرعي، كما تظهر الآية حصول قتال بني اسرائيل وفق القواعد الشرعية والاخلاقية، فظاهر الآية يدل على عدم حصول الغدر او نقض العهد او ترك الوفاء، نعم تجوز الخدعة في الحرب وعلى جوازها اجماع علماء الاسلام.
(وعن البخاري قال حدثنا ابو بكر بن اصرم أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن ابى هريرة قال سمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحرب خدعة)( )، (وروي أن عمرو بن عبدود بارز عليا كرم الله وجهه فلما أقبل عليه قال علي ما برزت لاقاتل اثنين فالتفت عمرو فوثب عليه فضربه فقال عمرو خدعتني فقال علي الحرب خدعة)( ).
التفسير
تفسير قوله تعالى [ فَهَزَمُوهُمْ ]
بدأت الآية بذكر الموضــوع الأهم واقعاً في هذه القصــة التي تحكي حالــة عامة يواجهها المســلمون على مر الدهور والأجيال لديمومة الصراع بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر باعتبار ان الدنيــا دار ابتلاء وإمتحان فاخـــبرت الآية بكلمة واحــدة عن نتيجة الصــراع باندحار الكافرين وانهيار صرح الظلم الذي عانى منه المسلمون وابناؤهم لبيان احسانه تعالى في سرعة استجابته وعظيم عطائه وفضله وعلى نحو دفعي مباشــر من غير تأخير او مراحـل تدريجية وابتلاء متعــدد اذ ان الفرج يأتــي تـارة على دفعات يتضرع خلالها المؤمنون ويبذلون الوسع في الجهاد والعمل الدؤوب وتارة يأتي دفعة واحــدة وعلى نحــو الموجبة الكلية الحاســمة فضلاً منه تعــالى وتخفيفاً، خصوصاً وان الملأ من بني اسرائيل توقفوا في قبول رئاسة طالوت وشطراً منهم ترددوا في الخروج وشربوا من النهر تحدياً للإختبار والتحذير ليأتي النصر حســرة لهم مع انهم المسـتفيد الأول منه فتحقيق النصر في تلك المعركة له دلالات :
أولاً : انه نصر حاسم وليس انتصاراً في معركة بل هو دحر للظالمين وتخلص من استمرار تماديهم في الغي والتعدي.
ثانياً : فيه منع من دبيب الفزع وروح اللوم في صفوف المقاتلين.
ثالثاً : ان تأخر النصــر يجعل بعض المقاتلين يســتحضر قول المشـــككين، ومنهم من يأخذ بالمقارنة بين حال القتال وما فيه من القتل واحتمال الإبادة وبين حال الذلة في السلم باعتبار ان الرضا بالظلم على نحو الموجبة الجزئية والصبر عليه خير من الإقتحام في التهلكة والقتل الجماعي.
رابعاً : لقد انفصل الجنود عن اهلهم كما تقدم في قوله تعالى [ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ] فليس لهم مدد، وقصة رعي داود للغنم يمكن حملها على بداية اعداد الجيش وتعبئة الجنود او انه كان يرعى الغنم الخاصة بالجيش ومؤونته، بينما يكون مجيء المدد للظالمين أمراً راجحاً او ان مكان الرعي يمكن الوصـــول اليه اثناء المعركة كما هــو ظاهر خبر الحلبي الآتي.
خامساً : صحيح ان الآية لا تدل على حصول هزيمة العدو في معركة واحدة وانها تخبر عن النتيجــة النهائية ولكن الأخبــار الواردة في قصـــة المعركــة تبين حدوث النصر العاجل بقرينة حصول قتل جالوت وموضوعيته.
بحث قرآني
وردت مادة (هزم) في القرآن ثلاث مرات، في هذه الآية التي جاءت بصيغة الفاعل وتعلقت بالمسلمين، وفي آيتين آخريين تعلقتا بهزيمة الكفار بقوله تعالى [ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ]( ) وقوله تعالى [ جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الأَحْزَابِ ]( ) بالإضافة الى دلالة مفهوم الآية محل البحث على هزيمة الكافرين.
وصحيح ان هذا الاحصــاء والبيان العـددي لا يعني انتفاء طبيعي الهزيمـة والخســران عن حـــالات اخرى وان تلك الحــالات مطابقة للنسبة التي يظهرها هذا العدد، الا ان الدراسات الإحصائية في القرآن كلمات وموضــوعات وأحكامــاً واخباراً واستقراء المسائل والقوانين من الجمع بينها يظهر للأجيال المتعاقبة وجهاً من وجوه الإعجاز القرآني لم يكشـف عنه الغطاء بعد فهي كنوز وخزائن ، وهو من مصاديق [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( )، وتســتلزم تظافر الجهود وتســخير الطاقات العلمية لإستظهار قســم منها بما ينفـع الأجــيال المتعاقبة وتكــون شـــهادات علميــة واقعية متجــددة تدل على صدق نزول القرآن من عند الله تعالى، ان هذه الكنوز احتياط قــرآني لم ولن يستنفد ولكل أمة وكل جيل له منه نصيب.
وفي خبر الحلبي عن الصادق قال: “كان داود واخوة له اربعة ومعهم ابوهم شيخ كبير وتخلف داود في غنم لأبيه ففصل طالوت بالجنود فدعاه ابوه داود وهو اصغرهم فقال: يا بنــي اذهب الى اخوتك بهذا الذي قد صنعناه لهم يتقوون به على عدوهم وكان رجــلاً قصــيراً ازرق قليل الشــعر طاهــر القلب فخرج وقد تقارب القوم بعضهم من بعض”.
وعن ابي بصير قال: “سمعته يقول: فمرّ داود على حجر فقال الحجر: يا داود خذني قاتل بي جالوت، فانى انما خلقت لقتله، فاخذه فوضــعه في مخلاته( ) التي تكون فيها حجارته التي كان يرمـي بها عن غنمه بمقــذافه( ) فلما دخل العســكر ســمعهم يتعظـمون أمر جالوت.
فقال لهم داود: ما تعظمـون من أمــره؟ فوالله لئن عاينته لأقتلنه فتحــدثوا بخــبره حتى ادخـل على طالوت، فقال: يا فتى وما عندك من القوة وما جــربت من نفسك .
قال: كان الأسد يعدو على الشـاة من غنمــي فادركه فآخــذ برأســه فافــك لحييه عنها( ) فآخـذها من فيه .
فقال: ادع لي بدرع ســابغة، فأتى بدرع فقذفها في عنقه فتمــلا منها، حتى راع طالوت ومن حضره من بني اسرائيل .
فقال طالوت: والله لعسى الله ان يقتله به، قال: فلما ان اصـبحوا ورجعوا الى طالوت والتقى الناس .
قال داود: اروني جالوت، فلما رآه اخذ الحــجر فجعله في مقذافه فرما فصــك به بين عينيه فدمغه ونكس عن دابته .
وقال الناس: قتل داود جالوت وملكه الناس حتى لم يكن يسمع لطالوت ذكر .
واجتمعت بنو اسرائيل على داود وانزل الله عليه الزبور وعلمه صنعة الحديد فلينه له وأمر الجبال والطير يسبحن معه، قال: ولم يعط احد مثل صوته، فأقام داود في بني اسرائيل مستخفياً واعطى قوة في عبادته”( ).
وفي تفسير علي بن ابراهيم عن الصادق عليه السلام: “ان طالوت البس درع موسى فاستوت عليه ووقف داود حذاء جالوت وكان جالــوت على الفيـــل وعلى رأســه التــاج وفي جبهتــه ياقــوتـــة تلمع نوراً وجنـــوده بين يديـــه، وان داود رمــى جالـــوت فأصاب موضــع الياقـــوتــة في جبــهتـــه ووصــلت الى دمــاغــه ووقـــع الى الأرض ميـتـــاً”.
ونسب الطبرسي الى القيل: “ان جالوت طلب البراز فخرج اليه داود بحجر من مقلاع فوقع بين عينيه وخـرج من قفاه واصاب جماعة كثيرة من اهل عسكره فقتلهم”( ).
النهي عن طلب المبارزة
لقد وردت الآيات في مفهومها والاخبار بالنهي عن الدعوة للمبارزة وانه نوع بغي، وطلب جالوت يدل على غروره وعتوه بالاضافة الى ما تظهره الآيات من تماديه بالظلم واصراره على الكفر والجحود.
سجل ص74
وروي عن ابن عباس: “ان داود كان راعياً وله سبعة اخوة مع طالوت فلما ابطأ خبر اخوته على ابيهم ايشــا ارسل اليهم ابنه داود ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وهم في المصاف وبدر جالوت الجبار وكان من قوم عاد الى البراز، فلم يخرج اليه احد.
فقال : يا بني اسرائيل لو كنتم على حق لبارزني بعضكم، فقال داود لأخوته أما فيكم من يخرج الى هذا الأقلف؟ فسكتوا، فذهب الى ناحية من الصف ليس فيها اخوته فمر به طالوت وهو يحرض الناس.
فقال له داود: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ فقال طالوت: انكحه ابنتي، واعطيه نصف ملكي، فقال داود: فانا خارج اليه.
وكان عادته ان يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في الرعي، وكان طالوت عارفاً بجلادته، فلما هم داود بان يخرج الى جالوت مـرّ بثلاثة احجار، فقلن: يا داود خذنا معك ففينا ميتة جالوت، ثم لما خرج الى جالوت رماه فاصابه في صدره ونفذ الحجر فيه، وقتل بعده ناساً كثيراً، فهزم الله جنــود جالوت، وقتــل داود جالوت، فحسده طالوت واخرجه من مملكته، ولم يف له بوعده، ثم ندم فذهب يطلبه الى ان قتــل وملك داود وحصــلت له النبوة، ولم يجتمع في بني اسرائيل الملك والنبوة الا له”( ).
ان هذه النصوص وما تتضمنه من كيفية قتل جالوت وتفرق جنوده تدل على سهولة حصـــول النصـــر، وقلـة خســائر بني اسرائيل في المعركة وتلك نعمة اخرى عليهم، فقد جاء التخلص من الكافرين وظلمهم وأذاهـــم بأقل الخســـائر ليكــتب لبني اســرائيل العز والســعة في الحيــاة، الأمــر الذي يمــلي عليــهــم الشـكـــر لله والتـــوجــه الى عبادته والإستعداد لقبول بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
ان قبولهم لطالــوت ملكاً بأمــر نبيهم يعنـي لزوم قبولهم واسـتجابتهم لبعثته صـلى الله عليه وآله وســلم من بــاب الأولويــة ولمجيئه بالآيات والبراهين، واذا كان طالوت قائداً لمعــركة وحققوا الإنتصار فيها بإذن الله تعالى فإن النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم قاد المسلمين الى النصر في ميادين القتال وســاد الإسـلام بلداناً كثيرة في سنين معدودة بالإضافة الى احــراز الفــوز الأخروي بالإنضواء تحت لواء الإسلام , وهو من عمومات قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
تفسير قوله تعالى [ بِإِذْنِ اللَّهِ ]
يأتي الإذن بمعنى العلم وهو الغالب، وقد يأتي بمعنى الأمر قال ابن منظور (ويكون باذنه: بأمره) ( ).
وورد قوله تعالى [ بِإِذْنِ اللَّهِ ] ثماني عشــرة مـــرة في القرآن وستة أخرى (باذن ربه) او (اذن ربهم)، ودراسة هذه الآية تبين ان موضوعها يتعلق بالأمر الإلهي على نحو الإطلاق والإستيعاب وحين حدوث الفعـل على نحو الخصـوص كما في قوله تعالى [ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ]( ) وان التنزيل يستلزم إذن الله تعالى حتى في لحظة النزول.
وتبين الآية حاجة المسلمين الى نصـره وتوفيقه واذنه تعالى في دعوة الإنقياد الى حكمه وانتظار الفرج منه وعدم اليأس من رحمته قال تعالى [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( ) كما تؤكد قانون الملازمة حسن ظن المقاتلين المسلمين بالله عز وجــل وبين النصر وانهم علقوا انتصار الفئة القليلة على الكثيرة بإذن الله تعالى.
وتجلى في نصر المسلمين في معركة بدر , إذ كان عددهم أقل من ثلث جيش المشركين يومئذ , ولم يقصدوا القتال في خروجهم إلى بدر إنما كانوا في كتيبة استطلاع , قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وتمنع الآية من الغرور والزهو ونسبة تحقيق النصر للذات وقوة الجيش لأن النصر تم باستجابة الدعاء التي تجلت بمدد وعون الهي، ويكون قوله تعالى [ بِإِذْنِ اللَّهِ ] قيداً واقعــياً، والباء فيه للإســتعانة كما لو قلــت: تبخر الماء بحرارة الشمس، وليس هي للمصــاحبة نحو قولك: سافر بأمان الله.
فهذا القيد يؤكد الآيات في تحقيق النصر خصوصاً مع بلحاظ الفارق في القوة والعدد بالإضافة الى التباين في الحالة المعنوية والنفســية للجنود، فجيش الكافرين في زهــو وعتو وانقياد للســلطان، بينما ترى الخلل ظاهراً في بني اسرائيل بتردد شطر منهم.
فبارك الله عز وجل بالقليل منهم ورزقهم حسن التوسل والتوكل على الله وهو سبحانه وتعالى يسمع الدعاء ويستجيب للمؤمنين قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
وينزل رحمته ساعة الشدة والضيق ويمنع من الإنقضاض على الموحدين , قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
لقد ادرك بنو اسرائيل قانون الملازمة بين كل من :
الأول : تحقيق النصر .
الثاني : بقائهم على عقيدة التوحيد .
الثالث : الرجــوع الى الوحـي والنبــوة .
الرابع : التبشــير بخاتـم النبيــين صلى الله عليه وآله وســلم ، ووردعلى لسان عيسى عليه السلام في التنزيل [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ]( ) .
وقد ظـهر التحدي والتهديد في قوله تعالى [ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ]( ) فان فصــل الأبــناء عن الآبــاء يعنــي تربيتهم بكيفــية ونحــلة مقتبســة من البيــئة والواقع الفكــري الذي يعيشون فيه.
لقد اخرج بنو اسرائيل كموحــدين من قبل الكــافرين والظــالمين ولم يقصدوا كاشخاص بالتشريد والتضييق، بل انها حرب موجهة لعقيدة التوحيد بدليل انهم اخــرجـوا من الديار وان الأبناء فصــلوا عنهم ووضـــعت الحواجـــز بينهـــم .
والأرجح ان الأبنـــاء اصبحوا بلا مال ليحال بينهــم وبين الثروة والمــال ويمنعـوا مــن نيل مــنازل النفـــوذ والتأثير العقائدي والســياســـي والإجتماعــي، وقد ورد في التنزيل بخصوص قوم فرعون [ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ]( ) وملة الكفر واحدة وان حصــل تبايــن في الإضـطهاد فانه يتعلق بالكم والكيف وليس بالأصل والغايات الذميمة ومقاصد السوء وارادة المكــر والكيد بالمسلمين وعوائلهم وذراريهم.
والإستعانة بالله تعالى تأديب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين وتنبيه وحث على لزوم التقييد بأحكـام الإستعانة، وفي الحديث: “اللهم بك اصول وبك اجول” أي ادفع وامنع واتحــرك، وفي قــراءة اخرى: “بك اصاول وبك احاول”.
(عَنْ الإمام عَلِيٍّ عليه السلام أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا قَالَ اللَّهُمَّ بِكَ أَصُولُ وَبِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَسِيرُ)( ).
وفيها ايضاً تحد قرآني دائم وهــذا من وجوه الإعجاز التي تتجلى بوضوح بالفعل والواقع العملي اي ان القرآن رسم للمسلمين الذين يتعرضــون للأذى والتشـريد والقهر طريق الخلاص والنجاة والنصر ودفع العدو بالعزم الصادق على المواجهة المقرون بالدعاء والصبر والحزم , قال تعالى [إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
وفي آية البحث وقصتها وعد كريم واخبار متقدم عن تحقيق النصر والظفر، الأمر الذي يدل في مفهومه على وجود حرز وواقية عقائدية راسخة على مرّ العصور والأجيال وسلاح ينفرد به المسلمون لمواجهة التعدي قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
وفيه تحذير للكافرين والظالمين من التجاوز على المسلمين في ديارهم وســننهم وتوارث أحكام الشــريعة بين الأبناء، والشــواهـد التأريخية على ذلك كثيرة ومتعددة، فاي تعد على الثغور والبلاد الإســلامية لا يصــمد طويلاً ولا يمكث في الأرض والذاكرة وسرعان ما يزول، ولا يخرج المسلمون الا بحلة بهية من الوحدة والوئام والوفاق مع خيبة وخسران للكافرين وتولد حالة من الحذر والإجتناب النوعي للإعتداء على ديار المسلمين , قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
تفسير قوله تعالى [ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ]
الآية من عطف الخاص على العام، وقد تتحقق الهزيمة من غير قتل القائد، او ان القائد يقتــل ولكن قاتله جمــاعة او شـخص ما لا يستلزم ذكره وتخليده او انه يقتل بسهم غارب لا يعرف راميه، او ان راميه لم يقصــد القائد على نحو الخصوص، ولكن هذه الآية اخبرت على نحو مركب بان قاتل الطــاغوت نبي من أنبياء بني إسرائيل وان النصر كان حاسماً بقتله.
لقد سلم بنو اسرائيل بملك طالوت بعد تــردد واحتجاج ولم يعلمــوا ان النبوة سترافقهم في الحرب وان النصر سيكون بواسـطتها، انما كان طالوت آمرا وقائداً للجيش، وكأن في تنصــيبه ســتراً على داود وحفظــاً له حين ظهــور الآية على يــده كما حفــظ الله النبي محــمــداَ صلى الله عليه وآله وســـلم في صباه مع ســـعي اهل الكــيد المتصل للمكــر به والتخلص منه قبل بعثته لما عرفوه من علامات وأمارات النبوة , وكذا بعدها قال تعالى [لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وتدل الآية على وجه من وجوه اظهار النبوة فقد بدأ ملك داود بانجــذاب نفــوس بني اسرائيل اليه، وكذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما يتصف به من الأمــانة والصدق وحسن الهيئة والكمالات الإنسانية، وتبين الآيــة القاعــدة الكلــية بان النبـي اشجع اهل زمانه.
(وقال الرازي: ان الآية تدل على ان هزيمة عسكر جالوت كانت من طالوت، وان كان قتل جالوت ما كان الا من داود)( ).
ولكن الظاهر بخلافه وكذا النصوص والوقائع التأريخية والوجــدان، فان قتل الرئيس الجبار احدث ارباكاً وفزعاً بين جنوده بالإضافة الى رجحان عدم اتخاذهم أي خطط احتياطية عند حصول قتله ولو على نحو الإحتمال، ولعله لأمرين :
الأول : الإستخفاف بالعدو وما عليه من قلة العدد .
الثاني : عجـز الخواص والملأ من مفاتحة الطاغوت بما يتخذ عند احتمال قتله، وهو أمر غالباً ما يحصل في انظمة الجبابرة او ذات الســلطان المطلق الذي يكون فيه الوزراء والقواد ضعفاء بحضرة الملك فلا يجرأ احد ان يكلمه باحتمال قتله تعظيماً لشــأنه وخشــية البطش به ورميه بالتآمر او الخـوف والفزع من العدو.
وقد تقدم في الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام: “فرماه فصك به عينيه ونكس عن دابته وقال الناس قتل داود جالوت وملكه الناس حتى لم يكن يسمع لطالوت ذكر”.
ومن منافع تنصيب طالوت ملكاً انه مقدمة لظهور ملك داود بالحجة والبرهان بعد قيامه بقتل جالوت اذ ان المعركة مناسبة لاظهار قوة داود والحاجة اليها.
لقد كان داود وأبوه وإخوته من القليل الذين كانوا مع طالوت ولم يشربوا من النهر إذ قال تعالى [فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ] ( ).
وذكر الثعلبي عن المفسرين (عبر النهر فيمن عبر مع طالوت أيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابناً وكان داود أصغرهم، فأتاهم ذات يوم .
فقال : يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئاً إلاّ صرعته .
فقال : أبشر فإنّ الله جعل رزقك في قذافتك،ثم أتاه مرّة أُخرى
فقال : يا ابتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسداً رابضاً فركبته وأخذت بأذنيه ولم يهمّني, فقال : أبشر يابني فإنّ هذا خير أعطاكه الله.
ثم أتاه يوماً آخر فقال : يا أبتاه إنّي لأمشي بين الجبال فاسبّح فما يبقى جبل إلاّ يُسبّح معي.
فقال : أبشر يابني فإنّ هذا خير أعطاكه الله.
قالوا : فارسل جالوت إلى طالوت أن ابرز اليّ مَنْ يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم ، فشقّ ذلك على طالوت فنادى في عسكره مَنْ يقتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي، فخاف الناس جالوت فلم يجبه أحد. فدعا الله عزّ وجلّ في ذلك، فأتى بقرن فيه دهن، وتنور من حديد، فقيل : إنّ صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي الدهن حتى يدهن رأسه منه ولا يسيل على وجهه يكون على رأسه كهيئة إلاّ كليل، ويدخل في هذا التنور فيملأه لا يتقلقل فيه, فدعا طالوت بني اسرائيل فجرّبهم فلم يوافقه منهم أحد.
فأوصى الله تعالى إلى نبيهم إنّ في ولد أيشا مَنْ يقتل الله به جالوت، فدعا طالوت أيشا وقال : أعرض عليّ نبيك، فأخرج له اثني عشر رجلاً أمثال السواري، فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئاً فيقول لرجل منهم : بادع عليهم جسم ارجع فيردد عليه فأوحى الله تعالى إليه إنا لا نأخذ الرجال على صورهم ولكنّا نأخذ على صلاح قلوبهم.
فقال لأيشا : هل بقى لك ولد غيرهم؟
قال : لا.
فقال النبيّج : يا ربّ إنّه زعم أنّ لا ولد له غيرهم .
فقال : كذب.
فقال النبيّ : إنّ ربّي كذّبك.
فقال : صدق الله يانبي الله إنّ لي ابناً صغيراً يقال له : داود، استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته، فخلّفته في الغنم يرعاها وهو في شعب كذا، وكان داود ج رجلاً قصيراً مسقاطاً مصفاراً أزرق أمعد.
فدعاه طالوت، ويقال : بل خرج طالوت إليه فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزرب التي يريح إليها، فوجده يحمل شاتين شاتين يجيزهما السيل ولا يخوض بهما الماء، فلما رآه النبيّ ج قال : هذا هو لا شك فيه هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم، فدعاه ووضع القرن على رأسه ففاض.
فقال له طالوت : هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي؟
قال : نعم.
قال : وهل أنست من نفسك شيئاً تقوى به على قتله؟
قال : نعم.
أنا أرعى فيجيء الأسد والنمر والذئب فيأخذ شاة وأقوم له وأفتح لحييه عنها وأخرقهما إلى قفاه , فردّه إلى عسكره)( ).
ولابد من ملازمة بين اندفاع الناس نحــو داود وتنصـيبه ملكاً وبين اثر قتله جالــوت في تحقيــق النصــر وحســم المعركة، فلم يكن قتله مســألة شخصية بل كان عماد المعركة والشطر الأكبر وعليها توقف النصر.
وتظهر الآية ان بدايات مســير الجيش من النبوة وانتهاء المعركة بالظفر بالنبوة وبذا تظهر حاجة بني اسرائيل عند الشدائد وترى نعمة الله عز وجل على المسلمين ببعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتخاذهم القرآن اماماً وهادياً الى يوم القيامة بألوية السلام وأداء الفرائض العبادية , قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
تفسير قوله تعالى [ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ ]
الآية بيان لعظيم فضل الله تعالى على داود وعلى بني اسرائيل فيما رزقه، فبعد ان اظهر داود الطاعة وحســن الجهاد بتوفيــق وتســديد منه تعالى واعانه على قتل جالوت جاء الجزاء والإحسان.
فمن وجوه المعرفة الإلهية ان الله عز وجل يهدي العبد الى فعل الخير ثم يثيبه عليه ويجازيه عليه اضعافاً ، وفي التنزيل [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
لقد كان فعل داود قضية في واقعة غيرت مجرى الأحــداث والوقائـــع واعادت لبني اســرائيل الأمن ودفعـت عنهم الظلم .
لقد جاءت الآية الكبرى المتجــددة في الليل والنهار من أيام داود والتي ينتفع منها العام والخاص في اتيان الملك والحكمة، فلابد من ســلطان يحكــم بين الناس ويمنــع من تعدي بعضهــم على البعض الآخر، ، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
فلقد كان بنو اسرائيل مشتركين في الوقوع تحت نير الظلم والإستبداد كل منهم عاجز عن الذب عن نفســه وعياله وماله يدفعون الجزية لجالوت مه أهمية المال ونمائه وتوفيره عند بني إسرائيل .
فلما زال سلطان الظلم والحيف حصـــل فراغ يمكن ان يستغله بعض الجبابرة واهل الدنيا واتباع النفس الشهوية والغضبية فيتسلل الى مراكز القيادة والملك ويحكم بين الناس بغير ما انزل سبحانه وما جاء به الأنبياء من عند الله تعالى.
فتفضل سبـحانه على بني اســرائيل بداود ملكاً نبياً، أي ان هذه الآية تبين نعماً متتالية عليهم وتذكرهم بما آتاهم من الآيات والإحسان المتصل، فلم يتركهـم تحــت وطــأة القهــر والظلم وحال بينهــم وبين ولاية من يستحلب درهم، وتفضل عليهم بحضــور النبوة والحكمة لتكون افاضــاتها حجــة عليهم وبابـــاً للهداية والإيمـان ومناسبة للإنصات الى البشــارات بنبوة الرسـول الأكــرم محمـد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) .
وفي الآية دعوة للجهاد في سبيل الله تعالى والإخلاص في خــدمة الشريعة واحقاق الحق ودرء الظالمين والكافرين عن المسلمين مع الإمكان وتهيئة الأسباب فهذا الجهاد لا يتعارض مع مفاهيــم الصبر والتقية .
وتبين الآية قصر الطريق لنيل عظيم الفضل الإلهي باختيار طريق الصبر ودرء الفتنة ومحاربة الكفر وخصوصاً عندما يتجلى بمصاديق التحدي والتعارض مع الحد الأدنى للحقوق الشخصية والعقائدية ويتعدى على الأعراض والممتلكات.
من معجزات داود
تفيد الواو في [ وَآتَاهُ ] الترتيب وكأن قتل داود لجالوت كان ابان ظهــوره واوان حكــمه وملكه واعــانة لبني اسرائيل على قبوله وعدم رده كما في طالوت خصوصاً مع الفارق كما سيأتي بيانه، وفي الآية مسائل:
الأولى: ان ما اظهره داود عليه السلام من القوة وما باشره من الفعل والجهاد وما سببه من انتصار بني اسرائيل وهزيمة الكافرين أمــور منعت بني اســرائيل من الإعتراض على ملكه او التردد في قبوله فلم يبادر الملأ بالرجوع الى نبيهم والإكثار من الإحتجاج عليه.
الثانية: لقد رأى بنو اسرائيل الكرامات وايقنوا بأهلية داود للحكم والرئاسة العامة والظاهر ان قتله لجالوت كان بآيات باهرات وعناية الهية ظاهرة سـواء بتحقــق القتــــل او لكـونه سبباً لإنهزام جنود الكفر او بكيفيته فيندر ان تسمع في التأريخ مقتل قائد وهزيـمة جنــده بحجــارة مقلاع شاب يرعى الغنم ، وهو من المعجزات الحسية للأنبياء ، وسيأتي قانون ترشح المعجزات الحسية عن المعجزة العقلية لخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الجء الأربعون بعد المائتين ، ويمكن إستظهار واستقراء آلاف المعجزات من آيات القرآن ، منها آيات (قل) في خطال من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذي ورد في القرآن (328) مرة من(332) مرة منها [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ) [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ) [قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ]( )، فضلاً عن ان الجيش كان للجــبابـرة والظالمين وانهم كانوا الفئة الكثيرة، فلم يترك للمـلأ اظــهار اســباب الحســد والريبة والـشك بل اندفع العامة والأخيار من بني اسرائيل نحو داود لمبايعته وتنصيبه.
الثالثة: هذا الإندفاع وتهيئة مقدماته معجزة حسية أخرى لداود عليه السلام ، وحينما تعدد معجزات الأنبياء لا تذكر مثل هذه المعجزات ، مما يستلزم إعادة التحقيق والتوسعة فيها وفق الكتاب والسنة .
الرابعة : هل كان قتل داود لجالوت معجزة ، الجواب نعم .
ملك داود معجزة
ان حال بني اسرائيل بعد هزيمة جالوت تغيرت واتسعت المسؤوليات واصــبحوا بحاجة الى حاكـم يتولى تصـريف شؤونهم ويفصل بينهم، فرزقهم الله عز وجل نبياً حاكماً، وجمع لداود النبوة والحكم باعانة وتوفيق وهداية قلوب عامة بني اسرائيل لملكه ، وفيه مسائل :
الأولى : لقد كان الموضوع الأساسي لملك طالوت هو قتال الظالمين، أما حكم داود فهو اعم ويشمل الميادين العسكرية والسياسية والإجتماعية وفصل الخطاب.
الثانية: وجود داود ملكاً على بني اسرائيل يبعث الرعب في قلوب اعدائهم وفيه تحصين لمجتمعاتهم مما يكون مناسبة ومقدمة لتثبيت اركان التوحيــد وســنن النبوة عندهــم وانتشار معالم الفضيلة بينهم قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
الثالثة : بين ملك داود وطالوت عموم وخصوص مطلق، فملك داود اعم ويدل على وجود مملكة لبني اسرائيل وفيه توطئة لملك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيادة الإسلام ومنع لإحتجاج بني اسرائيل او جحودهم في رئاسة الرسول الأكــرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم العامة في أمــور الدنيا بمعنى انهم لا يستطيعون الإشكال على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بان الأنبــياء كانوا من قبله لا يتولون شــؤون الملك او ان وظيفتهم تنحصر بالتبليغ ونحــوه فقد كان في بنــي اســـرائيل من جمــع الله له الملـك والحكمة قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الرابعة : في الآية تخفيف ورحمة لبني اسرائيل فبعد الإحتجاج على ملك طالوت مع انه جاء باخبار النبي وكان تنصيباً وتمليكاً من عند الله تعالى، فجاء ملك داود بآيات ظاهرات وميل القلوب اليه بالحق.
الخامسة : انها دعوة عقائدية وبرهـان تأريخي لبني إســرائيل وغيرهم للإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتتبع تأريخ الرســالة وكتائب المسلمين يظهر لكل انسان الآيات والإعجاز في انتصارات المسلمين والمدد الغيبي في منعة الإسلام وعز المؤمنين ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
السادسة : جاء الملك مباشرة من عند الله تعالى لداود كما هو الظاهر، اذ لم ينصب من قبل نبي زمانه بل اختاره الله تعالى للملك والنبوة ، وهي معجزة أخرى لداود عليه السلام .
قانون فضل الله على داود معجزة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا داراً ومحلاً لفضله ورحمته بالناس مطلقاً ، ومن علو شأنه سبحانه جعل الناس عاجزين عن إحصاء فضله عليهم ، وهذا العجز ليس من باب الصدفة ، إنما لأن فضل الله على وجوه :
الأول : الكثرة المتوالية .
الثاني : قانون افراد الفضل الإلهي المستحدثة اسرع من العدّ والحساب من قبل الناس .
الثالثة : تعدد وجوه الفضل ، ومنها الظاهر والخفي ، ويتجلى للعبد يوم القيامة ، قال تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] ( ) .
ولقد كان فضل الله عز وجل على النبي داود عليه السلام معجزة له انتفع منها بنو إسرائيل ووثقها القرآن .
إن إندفاع الناس نحو سبل الحق وارباب النبوة وورثة علومها يحول دون ظهور اسـباب التردد ويقمع طموحات الملأ الشخصية والنفعية وميلهم الى التسلط والأمرة على الناس وخدمة مصالحهم الذاتية.
وفيه نعمة اخرى مركبة على بني اســرائيل فهي دعوة لعامة بني اسرائيل بالإنقياد النوعي الى النبوة والحق، وخاصة على الوجهاء واولي الشأن منهم بردعهم ومنعهم من التطاول والسطو على مواقع القيادة بغير الحق ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
فمع اندفاع الأمة الى النبوة والإمامة ينخفــض ويخفــت صوت الأنانية وحب الرياسة ويندفع التـنافس عليها وما يسببه من المواجهات والملاحاة وما يفرزه من الضعف والتشتت ففي ملك داود قوة اضافية وعون على توجيه الطاقات ومواجهة التحديات ، لبيان قانون فيوضات النبوة في مقام الملك والحكم ،وهو الذي تجلى بامامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للناس في العبادات والمعاملات والأحكام.
ومن إعجاز القرآن مجئ قوله تعالى [احْكُمْ بَيْنَهُمْ] أربع مرات كلها في سورة المائدة في ثلاث آيات منها اثنتان في آية واحدة ، وأثنتان في آيتين متجاورتين وهي :
الأولى : سورة المائدة 42 تكرر فيها [احْكُمْ بَيْنَهُمْ] قال تعالى[ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ).
الثانية : قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]( ).
الثالثة : قال تعالى [وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ]( ).
وفي الآية بيان لفضل المســلمين على غيرهم بالدراســـة المقارنة، اذ انهم آمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وســلم واتبعوه وانقادوا لأوامــره قبل ان يظهره الله عز وجـل في معاركه الدفاعية ضد الكفار .
كما ان داود جاء في واقع اسلامي وحضـــور ظاهر للنبوة واتباع لأوامرها اما النبي محمد صــلى الله عليه وآله وسلم فان بعثته جاءت على فترة من الرسل، وفي مجتمع يدين بالكفر والشرك ويتصف الملأ من قومه بالعتو والإصرار والجحود.
وتظهر الآية عظيم نعم الله تعالى على داود وبني اســرائيل باجتماع الملك والنبوة وعلى نحو دفعي وفي شخص واحد بعد التعدد وتحول نوعـي في حياتهم يتناسب وعز الإيمان ورفعة التوحيد.
النسبة بين النبوة والحكمة
والحكمة اعم من النبوة فكل من آتاه الله النبوة آتاه الحكمة وليس العكس الا انها ظاهرة في النبوة بدليل الوحي والتأديب والسنة والأخبار، وهناك قرينة وهي ان هبة الحكمة للأنبياء جاءت بمـادة “اتى”، أما منحها بالكســب للمؤمنين بواسطة الأنبياء فجاءت بمادة (علم) في الغالب وباضافة الكتاب معها، كما في قوله تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ) .
أما داود فقد آتاه الله مع الحكمة الملك مما يعني ان الحكمة من الكلي المشكك الذي له مصاديق متباينة وكلها من فضل الله تعالى، واعلاها واسناها الحكمة التي يؤتيها الله عز وجل للأنبياء والتي تكون من اقسام الوحي كما في قوله تعالى [ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ ]( ).
وهذه هي الآية الوحيدة التي يجتمع فيها (الملك والحكمة) بقوله تعالى في داود عليه السلام [وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ…] ( ) ، ولم يرد لفظ [الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ] في القرآن إلا في آية البحث ، وفيه إشارة إلى أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليس ملكاً .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (اللَّهُمَّ احْيِنِي مِسْكِيناً وَأمِتْنِي مِسْكِينَاً وَاحْشْرْنِي فِي زُمْرَةِ المَساكِين) ( ).
وعن عدي بن حاتم أنه (أَقْدَمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلْت عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ فَسَلّمْت عَلَيْهِ فَقَالَ مَنْ الرّجُلُ ؟
فَقُلْت : عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ ؛ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَانْطَلَقَ بِي إلَى بَيْتِهِ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَعَامِدٌ بِي إلَيْهِ إذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ فَاسْتَرْقَفْتُهُ فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلًا تُكَلّمُهُ فِي حَاجَتِهَا ، قَالَ قُلْت فِي نَفْسِي : وَاَللّهِ مَا هَذَا بِمَلِكِ قَالَ ثُمّ مَضَى بِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ حَتّى إذَا دَخَلَ بِي بَيْتَهُ تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوّةٍ لِيفًا ، فَقَذَفَهَا إلَيّ فَقَالَ اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ قَالَ قُلْت : بَلْ أَنْتَ فَاجْلِسْ عَلَيْهَا ، فَقَالَ بَلْ أَنْتَ فَجَلَسْت عَلَيْهَا ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِالْأَرْضِ قَالَ قُلْت فِي نَفْسِي : وَاَللّهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ ثُمّ قَالَ إيِهِ يَا عَدِيّ بْنَ حَاتِمٍ أَلَمْ تَكُ رَكُوسِيّا ؟
قَالَ قُلْت : بَلَى .
( قَالَ ) : أَوْ لَمْ تَكُنْ تَسِيرُ فِي قَوْمِك بِالْمِرْبَاعِ ؟
قَالَ قُلْت : بَلَى ، قَالَ فَإِنّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلّ لَك فِي دِينِك ؛ قَالَ قُلْت : أَجَلْ وَاَللّهِ وَقَالَ وَعَرَفْت أَنّهُ نَبِيّ مُرْسَلٌ يَعْلَمُ مَا يُجْهَلُ ثُمّ قَالَ لَعَلّك يَا عَدِيّ إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِي هَذَا الدّينِ مَا تَرَى مِنْ حَاجَتِهِمْ فَوَاَللّهِ لَيُوشِكَنّ الْمَالُ أَنْ يَفِيضَ فِيهِمْ حَتّى لَا يُوجَدُ مَنْ يَأْخُدُهُ وَلَعَلّك إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِيهِ مَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عَدُوّهِمْ وَقِلّةِ عَدَدِهِمْ فَوَاَللّهِ لِيُوشِكَنّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرَجُ مِنْ الْقَادِسِيّةِ عَلَى بَعِيرِهَا ( حَتّى ) تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ لَا تَخَافُ وَلَعَلّك إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِيهِ أَنّك تَرَى أَنّ الْمُلْكَ وَالسّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ وَاَيْمُ اللّهِ لَيُوشِكَنّ أَنّ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ قَالَ فَأَسْلَمْت
[ وُقُوعُ مَا وَعَدَ بِهِ الرّسُولُ عَدِيّا ]
وَكَانَ عَدِيّ يَقُولُ قَدْ مَضَتْ اثْنَتَانِ وَبَقِيَتْ الثّالِثَةُ وَاَللّهِ لَتَكُونَنّ قَدْ رَأَيْت الْقُصُورَ الْبِيضَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ وَقَدْ رَأَيْت الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنْ الْقَادِسِيّةِ عَلَى بَعِيرِهَا لَا تَخَافُ حَتّى تَحُجّ هَذَا الْبَيْتَ وَاَيْمُ اللّهِ لَتَكُونَنّ الثّالِثَةُ لَيَفِيضَنّ الْمَالُ حَتّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ) ( ).
لقد ورد ذكر [الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ] في آية البحث على نحــو الإطلاق فيصــرف الى القــدر المتيقن من الســلطة والنفوذ وســعة الملك وعلــوم النبوة ووردا بصــيغة الإتــيان وليس الوحي ولكن المعنى واحــد بعد ثبوت نبوة داود عليه السلام .
وهذه الآية تدخــل ضمن المعنى الســياقي للآيات المتتالية وبيان عظيم احسان الله تعالى على بني اســرائيل وتذكيرهـم بتوالي نعمــه الخاصــة والعامة عليهم .
فمن عظيم فضل الله تعالى انه ينجيهم من حيف الكافرين وظلم الظالمين ويرزقهم مَلكاً نبياً قوياً يتولى أمرهم وقيادتهم في جنب الله شديداً على الكافرين.
وفيه نكتة وهي تسخير الملك للنبوة ليكون مدرسة مناسبة لهدايتهم ورشادهم ومعرفتهم العامة بالنبي البشارة وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه ايضاً حجة على بني اسرائيل فبعد ان عانوا من ظلم الكافرين وبلغ ايذاؤهم لهم في المال والنفس جاء الملك الذي يرفع الحيف عنهم وينتصر لضعيفهم ويسير فيهم بالوحي والتنزيل ليكونوا مؤمنين مهديين.
وهــي تحذيــر وتنبيـه وانذار وتخويف من التصــدي بالعداوة لنبــوة محمد صلى الله عليه وآله وســـلم، فمن الإعجاز ان مضـامين الآية تدل بالدلالــة الإلتزامية على نبـوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من الإعجاز والآيـات، وتدفع الإنســـان الى ايجاد وجــوه الإلتقاء بين نبوة داود ونبـــوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيام نزول القرآن ، قال تعالى [ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا] ( ).
واذ ان منافع ملك ونبوة داود تعود لبني اسرائيل فان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعود بالنفع عليهم وعلى الإنسانية جمعاء لأنها رسالة عامة لا تنحصر بأمة مخصوصة، ففي هذه المعركة انهزم الكافرون وتركوا وشأنهم أما في معارك الإسلام فان الذي يقاتل المسلمين من الكفار يعرض على السيف أما ان يعلن اسلامه او يقتل لبيان رجحان رسالة الإسلام وعالميتها والأعباء الثقيلة الواقعة على عاتق المجاهدين بردع الكافـرين ومنعهم من تجديد التعدي على حرمات الإسلام.
لقد رزق الله عز وجل داود الحكمة ليسود الناس ويقودهم نحو سبل الهداية ويحبب لهم الصلاح والتوبة “وفي الخبر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان موسى بن عمران قال لإبليس: اخبرني بالذنب الذي اذا اذنبه ابن آدم استحوذت عليه قال: اذا اعجبته نفسه، واستكثر عمله، وصغر في عينه ذنبه .
وقال: قال الله عز وجل لداود: يا داود بشر المذنبين، وانذر الصديقين، قال كيف ابشر المذنبين، وانذر الصــديقين؟ قال يا داود بشــر المذنبين اني اقبل التوبة واعفو عن الذنب، وانذر الصديقين ان يعجبوا باعمالهم، فانه ليس عبد انصبه للحساب الا هلك”( ).
تفسير قوله تعالى [ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ]
بعد اخبار الآية عن تفضل الله تعالى برزق داود الملك والحكـمة اخبرت عما آتاه من العلم مع ان الحكمة تعني النبوة.
والعلم رحمة وأول آية نزلت من القرآن هي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( ) وهو من عطف الخاص على العام وللدلالة على ان وظائف الملك تستلزم علوماً خاصة بادارة شــؤونه وفن الســياسة ومعــرفة احوال الناس وتنظيم معايشهم ومسؤوليات الدفاع .
والعلم اعم من الوحي ويشمل التأويل والتطبيق ووجوه العمل والعلم بالجزئيات المدركة بالحواس الخمس والذي يسمى بالمعرفة، ومنه العلم بصفات الله تعالى الجلالية والجمالية.
وفاعل يشاء في الآية هو الله تعالى أي ان مقدار العلم ووجوهه وموضوعاته انما هي بمشيئته، وعطاؤه تعالى لا ينفذ وابوابه مفتوحة للسائلين ونعمه المتصلة على بني اسرائيل.
وتدل الآية على توالي نعم الله تعالى على داود وبواسطته على بني اسرائيل وعدم انقطاع الوحي والعلم عنه لبيان انه يحكم بالمعرفة الإلهية والأسرار الملكوتية التي تترا بمشــيئته تعالى بحســب اللحاظ والحاجـة والمناسبة والموضوع.
ويعني حكم بني اسرائيل من قبل النبي ســـلامة الأحكام من الخطأ او الزلل لعصــمة النبي وصــحة اقوالــه وافعاله والوثــوق المطـلق به وبما يأتي به من عند الله عز وجــل .
ولا تنقاد النفوس الى احد كما تنقاد الى النــبي وتلــك قاعــدة كلية في كــل زمان .
كما ان إتباع الأنبياء لا ينحصــر بأيام زمانهـم وكذا الأحكام التي يأتــون بها فيــتوارثــها الذين يأتـــون من بـعدهم كقــواعد وانظــمة باحترام واجــلال وحرص لما تحملــه من صــفــة قدســية وصـبغة ســماويــة، ومــلك داود كنــبي حجة على الأجيال المتعاقــبة من بني اسرائيل وليس على أهل زمانه فقط ، قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ومما علم الله عز وجــل داود صــنعة الدروع وكان الحــديد يلين له كالشــمع ليكون هذا التعليــم قوة ومنــعة لبني اسرائيل بالإستعداد للدفاع وبعث الرعب والفزع في قلوب جيوش جالوت ومنع تعديهم على اراضيهم واهليهم وليتركوا يأتـــون بعباداتهم ولتــكون هذه الصــنعة حجة عليهم كما علم الله تعالى منطـــق الطــير والنـــمل كآية مــن عنده تعالى.
ولتحصيل الإرتقاء الفكري عند الإنسان بمعرفة اســرار الخليقة يعني ان الإعجــاز يترجـــل حتى في الصوت وتفرد النبـــوة بخصـــوصية في حبائله يتعـذر على الناس محــاكاته في طيبه ووقعــه في النفـوس بما يفيــد الهـــداية والإنصـــات فكما كانت الحروف المقطعة في القرآن مدخلاً لإنصــات المشـــركين واصــغائهم للقــرآن كـــآية عقلية، فان حســن صوت داود آية حســـية لجذب بني اسرائيل الى الزبور وهـــو مــن الفرق والاختلاف بين آيـــات نبـــوة محمد صـلى الله عليه وآله وســـلم وآيـــات نبوة بني اســـرائيل، وان الأولى عقلية والثانية حســـية والعقـلية هي الأشــرف والأبقــى، وان كانت تـــلاوة القرآن آيـــة عقليـة حسية متجددة.
تفسير قوله تعالى [ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ ]
لولا: تمنع الشيء من اجل وقوع غيره، أما لو فتوجب احياناً الشيء من اجل وقوع غيره، فالآية بشارة وأمن إخبار سماوي متجدد عن عدم غلبة الفساد في الأرض.
وقد ذكرت في الآية أقوال:
الأول: ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ان الله ليدفع بالمسلم الصالح نحو مائة الف بيت من جيرانه البلاء ثم قرأ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ الآية.
الثاني: ورد في صحيحة جميل ان الإمام الصـادق استدل بهذه الآية( ) بما يفيد استغراق فضل الله تعالى على المؤمنين فيدفع بمن يصلي عمن لا يصلي، و بمن يزكــي عــمن ترك الزكاة، ومن حرص على أداء الحج واجباً او مندوباً عمن لم يؤده، وان اجماعهم على ترك فريضة بعينها يعرضهم للهلاك والفناء مما يدل على ان تعاهد الفريضة حفظ لأهل الارض والحياة الانسانية على سطحها.
الثالث: لولا دفع الله بالمؤمنين المشركين ومعّرتهم لغلبـوا وخــربوا البلاد ، و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم} يدفع الله العذاب بمن يُصلّي عمّن لا يُصلّي،
وبمن يُزكّي عمّن لا يُزكّي،
وبمن يصوم عمّن لا يصوم،
وبمن يحجّ عمّن لا يحج،
وبمن يجاهد عمّن لا يجاهد. ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما ناظرهم الله طرفة عين. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية.) ( ).
وعن ابن عباس (لولا دفع الله بجنود المسلمين وسراياهم ومرابطيهم لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين وخرّبوا البلاد والمساجد) ( ).
الرابع: يدفــع الله بالبر الهلاك عن الفاجــر، عن أميــر المؤمنين عليه الســلام.
والآية قاعدة كلية في الفلسفة التشريعية ، وسر من أسرار نظام الحياة في الأرض وصيغ المعاملة بين الناس وتنحل الى عدم اقسام:
الأول: الدفع على نحو القضــية الشخـصــية بان يكون الدفـع والتدافع بين شخص وآخر وهذا من الكلي المشكك فتارة يكون بين أميرين او متنافسين على الإمارة وتارة بين الوزراء واخرى بين ارباب الصناعات او التجارات او الزراعات او عامة الناس، او بين طلبة العلم بالتنافس الحسن لإظهار الورع والتقوى ومظاهر العدالة وحسن السمت، قال تعالى [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ] ( ).
وتنفع هذه الظاهرة في الدعوة الى الصلاح والإعمار وانخفاض الأسعار وارتقاء الصناعات وتوفير الحاجات وايجاد الفرص الكثيرة للعمل.
الثاني: الدفع النوعي العام بين الأمم والشعوب والجماعات لنيل مناصــب الرياســة والتقرب الى قلوب الناس باظــهار العدل ونبذ الفســاد ودرء الفتن لحسـن العدل وقبح الظلم عقلاً وشرعاً.
والرعية نفسها ترفض الباطل وتنفــر من الطغــيان والتعدي فيخشاها السلطان ويتجنب العتو والتمادي بالغي والفساد لأنهما يفقدانه كرســـيه، وقراءة سـريعة للتأريخ تظهر ان اكثر الثورات والإنقلابات في العالم جاءت بسبب الظلم ورفضه مع ادعاء الصلاح وارتداء قميصه لا اقل في بدايات الدعوة.
والبعض الطائفة من الشــيء، ويشمل القليل من القليل، والقليل من الكثير والشطر والأكثر منه , فالتسعة بعض من العشرة.
الثالث: الدفع بين الملوك والسلاطين للسيطرة والأستحواذ او للدفاع ورد الظلم وهذا الدفع له تأثير على الأقسام الأخرى لأن الملك يحتاج الرعية في الدفاع او في الهجوم وتحقيق التوسع في السلطان وتثبيت الحكم كما انه لا يقاتل بنفسه بل يستعين بالجنود والمرابطين وارباب الأموال والصناعات.
منافع فلسفة الدفع
الدفع: الإزالة بقوة، يقال دفعـه يدفعــه دفعاً ودفاعــاً وبلحاظ المعنى اللغــوي لمادة (دفع) تبين الآيــة التغيير والتــبدل الحاصل بين الناس في منازلهم وتعاقب الملوك والرؤساء والأنظــمة والرئاســات مطــلقاً .
وتلك ســـنة الحيـاة في التغير وعدم البــقاء على حال وفي التنزيل [وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] ( ).
ويقــال فلان ســـيد قومه غير مدافـَع أي لا يزاحمه ولا يدفــعــه عن موقعــه احد .
ولقد جاءت الآية على نحو الإطلاق الزماني والمكاني وان كان الدفـع متبايناً ولا يعــني حصـــوله على نحــو الموجبـــة الكلية والتغير التام، فقد يندفع الإنسان او الجماعة عن بعض منازلهم او افعالهم او آرائهم واقوالهم، واحياناً يأتي الدفع للموضوع المهم ليحافظ على الموضوع الأهم.
ترى ما هي النسبة بين قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( )، وبين قوله تعالى [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ]( )، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فتداول الأيام أعم في الموضوع والحكم .
تبين الآية (فلسفة الدفع) وانها علة لتعاهد الأمن والسلامة في الأرض والحيلولة دون تفشي الفساد وسيادة مبادئ الطغيان وعـادات القهر البغيضة، وموضوع الفساد في الأرض انحلالي فالآية تقرأ بحذف وبدون حذف، فالأول يعني لفسـد من على الأرض، والثاني ذات الأرض بامتناعها عن اخراج كنوزها والطيبات وتمتنع السماء عن المطر وهما متداخلان ويؤثر احدهما بالآخر سلباً والأصل هو الأول أي لفسد من على ارض الإتيان بالمحل وإرادة الحال .
والفساد ودفعه على اقسـام منها:
الأول : ما يخص ذات الإنسان.
الثاني : ما يخص القيم والمفاهيم.
الثالث : ما يتعلق بالأخـلاق العملية.
الرابع : ما يتعلق بالأنظــمة والقوانين.
الخامس : ما يشمل المجتمع والمعاملات والمعايش.
السادس : ما يتعلق بشؤون الدين والمعارف.
وكل واحد منها يؤثر بالآخر ويتأثر به ويحكمها قــانون الأسـباب والمسببات وقانون عدم تخلف المعلول عن علته، والأثر والمؤثر.
والدفع بين الناس نحو الأحسن ليحول دون تردي الحالات اعـــلاه ويســاهم في انقاذ الإنســـانية من الوقـوع في الرذيلة والكفر ويمنع من استحقاق اهل الأرض للعذاب والبلاء الشديدين، فهذا الدفع وسيلة سماوية لحفظهم ولطف الهي للعناية بهم وان رافقته بعض مظاهر الفتنة والضرر مما كسبت ايدي الناس او انه مناسبة للثواب بالنسبة لمن لم يسيء ولم يقترف جرماً يكون سبباً للإبتلاء ، قال تعالى [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً..] ( ).
ومن معاني آية البحث موضوعية الدفع بين الناس في دوام الحياة ورفعــة الدين ، اذ ان اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره .
ولكن الدفع احد أسباب حفظ وتعاهــد الحياة في الأرض وله اسباب اهمها الصراع بين العقل المستفاد والشهوة البهيمية .
وبين النفس المطمئنة ذات الإعتقاد اليقيني الصحيح التي لا يصـــدر منها أي ذنب، وبين النفس الشهوانية التي يمتلكها الكبر وتتحكم باختياراتها اللذات الحسية وحب الذات والشوق الى حاجات البدن والحواس.
وكما ورد التحذير والإنذار بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) وتكرر لفظ [عَدُوٌّ مُبِينٌ] في وصف الشيطان سبع مرات في القرآن( ) ، فقد ورد التحذير من إتباع الشيطان بذات كلمة [لاَ تَتَّبِعُوا] ، قال تعالى [فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا] ( ) وقال تعالى [وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ]( ).
كما ان الدفع من الكلــي المشكك الذي له مراتب متفاوتـة في الشــدة والضــعف والكثرة والقلة والظـهور والخفـــاء، وقد يكون الدفع :
أولاً : الصراع.
ثانياً : التعارض.
ثالثاً : التزاحم.
رابعاً : التنافس.
خامساً : آفة الحسد ، قال تعالى [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا]( ).
سادساً : التسابق في جلب المنفعة .
وكل مرتبة من هذه المراتب لها اقســام أعلى وأدنــى فالصراع مثلاً قد يكون بالحرب والسلاح، او باللسان والقلم، والسلاح ايضاً على مراتب ودرجــات في شدة ضرره وقوة اثره ومدة الصراع وســعته ودائــرته وموضـوعه وكيفيته، وكذا بالنســبة للكلام والجدال والجرح .
ولو شـاء الله عز وجل لهدى الناس جميعاً ومنع من الفســاد بالهداية المطلقة واتباع الناس للأنبيـــاء وامتثالهم لما جاءوا به من عند الله عز وجل ولكن الدنيا دار ابتلاء وإمتحان تغلب فيها احياناً قوى الخير واحياناً قوى الشر ، ومع غلبة احدهما تحاول الأخرى دفعها كما ان الدفع الذاتي بين قوى الخير ذاتها او قوى الشر ذاتها غير منقطع لسنن الإختبار والإمتحان ومن منافعها منع الفساد وطغيان الشرور والظلم والأفعال القبيحة ، إذ أن الرجحان يكون لأهل التقوى والصلاح ، وقال تعالى [وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وقال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
وتبين الآيــة منافـــع الدفع بين الناس وتمنع من ظهــور الجزع النــوعي والشــك والجحـــود واليأس من روح الله.
فمتـــى ما علم الإنسان ان الصـــراع بين الناس في الأرض باذنه وعلمــه تعالى , قال تعالى [وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( )، وان منافعه اكثر من ضـرره وخيره اكثر من شره فانه يستعين بالصبر على البلاء ويلجأ الى الله تعالى.
ومتى ما ادرك العبد ان مقاليد الأمور بيد الله تعالى وانها تجري بحكمة له في الخلق ضمن الإرادة التكوينية والتشريعية فانه أي العبد يســتطيع الإهتـداء بالبصيرة ويميز بين الحق والباطل ويساهم في اصلاح النفس والغير ويساعد في درء الشرور وابعاد مضامين الفساد عن الأرض ليصبح جندياً من جنود الله تعالى ويحرز الثواب والأجر ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
فالآية الشريفة من كنوز المعرفة الإلهية , والأخبار الواردة في المقام مدرسة تتفرع عنها عدة مباحث.
ان الدفع بين الناس موضوع للإستدراج ولإظهار ما تخفيه النفوس بما ينقدح أمام الأبصار من الآمال وبما تمنعه الغشــاوة من الحقائق، لذا ترى الإنسان يندفع للمواجهة والتصدي.
ولكنه عندما يخوض غمار المجابهة واللقاء تتجلى له المشاق والأخطار وقد يقدم على التعجل واقتحام الفتن، وكثير من الملوك والقادة يتوصلون الى نتيجة وهي تمني ركوب زمام القيادة وتحمل اعباءها خصوصاً اذا كان فيها صراع ودفع بعض الناس والجماعــات عن مواقعهم او البطــش بهم، ومنهم من يكون في منزل المدفــوع فيتــجه الى الباري تعالى شاكياً لاجئـــاً مستــغيثاً وفي التنزيل [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ]( ).
وربما لو كان في موقــع الدافع لبغــى في الأرض ولظلم غيره أي ان الله عز وجل رحمه وخفــف عنه في دنياه وآخرته اذ جعله مدفوعاً ولم يكن دافعاً للغير.
كما تبين الآية مسؤولية الأخيار والمؤمنين والمؤمنات في التصدي للحسبة ولأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وعدم ترك الباطل من غير دفع وردعٍ لأهله، لذا وردت النصوص بالحث على فعل الخير وتحبيب اعلى مراتبه وهو استعمال اليد باعتبارها عنواناً للقوة والبطش مع الاستطاعة والإمكان وعدم ترتب الضرر.
لقد جاء قتل داود لجالوت وانتصار بني اسرائيل على الكافرين مصداقاً كريماً (لآية الدفع) هذه وان الله عز وجل يلطف بالمسلمين ويمدهم باســباب النصر والظــفر لمنع الفساد في الأرض وفيه كمثال وقصة من [أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، التي يذكرها القرآن وعد كريم للرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين بان النصر حليفهم وانه ليس من قوة في الأرض تمنع بقاء عقيدة التوحيد فان الله عز وجل سـيسخر نفراً من اهل الإيمان لإزاحتهم عن مواقعهم واستئصال الفساد وسنن الباطل والجحود.
وقد ورد قوله تعالى [دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ]( )، في آيتين من القرآن إحداهما آية البعث ، والأخرى قوله تعالى [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]( ).
كما تبين الآية الحاجة الى النبوة وبعثة الرسل ليجتمع تحت لوائهم الأنصار والأتباع ويندفعون بقوة لتحقيق الصلاح عن رؤية الآيات والمعجــزات التي يأتي بها الأنبياء، فمــن منافع المعجزة ان الناس خصوصاً من امتلأ قلبه بالإيمان فينقادون للأنبياء ويعشــقون الجهاد في سبيل الله وتهون عندهم الحياة الدنيا لعظيم الغايات التي يســعون لتحقيقها في الأرض، فالنبوة والمعجزة من اهم أسباب الدفع ورجحان كفة الخير فيه.
وصحيح ان الآية لم تذكر بالنص المدفوع عنه الا ان عدم الذكر اجزل في المعنى واعم في الموضــوعات فهو نــوع إعجـاز ليس بلاغياً فحســـب بل هو اعجاز موضــوعي ويدل على تعدد مفاهيم الدفع لتشمل ما هو ذاتي وما هو غيري، فالدفع للأحسن والأصلح مطلوب لحسنه الذاتي ولما فيه من الثواب والأجر للمسلمين وشقاء واذى للكافــرين، فالظالم وان دفع المؤمن عن حقه وازاحه عن موقعه فانه يحس بالأذى لقبح الظلم بذاته.
وقد يكون الظلم باباً لرجوع وانابة الظالم نفسه لأنه يعرف قبح الظلم عند مزاولته وبعد ان يشبع حاجة النفس الغضبية والبهيمية.
كما ان لفظ (الناس) في الآية جاء عاماً بلحاظ الجنس ويشمل الأنبياء بالمرتبة الأولى فهم المدافعون عن الحق الذابون عنه والداعون الى الله عز وجل بالحكمة والموعظـة وهم اكثر الناس تحملاً وصــبراً في جنب الله.
فقـــد يسعى الظالم لمحاولة تغيير المبادئ والمناسك والسنن في الأرض بالقمع والبطش والوعيد تارة وبالمال تارة وبالإغــراء والفحشــاء تارة اخرى ولكنه لا يســتطيع ان يؤثر على الأنبياء والأولياء فيبقون المنــار ويرجع اليهــم الغالي ويلحق بهم المتخلف، ويأتون بالشرائع وأحكام الحلال والحرام فيكون المدار في العمل عليها ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
كما ينحل لفظ (الناس) بلحاظ الدفع الى قسمين الى اهل الخير واهل الشر أي ان كلاً منهما يكون مرة دافعاً ومرة مدفوعاً، والمؤمن يثاب في الحالتين والكافر يؤثم في كل منهما.
ومن مفاهيم اطلاق لفظ (الناس) ان الإنســان نفسه تراه مرة يدفع او يــدافع من مـــنازل الكـــفر ومبادئــه، ومـرة اخرى يدفع او يــدافــع من منازل الإيمان ويكون فيها اشــد مما كان في أيام الكفــر فضــلاً من الله تعـالى على العباد ، قال تعالى [فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ]( ).
وبلحاظ ان (لولا) يأتي حــرف امتنــاع الشــيء بسبب حصول غيره، فان الآيـــة الكريمة بشـــارة عــدم حصــول الفســـاد في الأرض وإخبار عن توالي الدفع بين القوى المتناحرة في الأجيال المتعاقبة وان ما نـراه من النعم واستدامة الحياة انما هو بفضل الله تعالى وتعاهده للأرض والخلائق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وتدل الآية أعلاه على حفظ الله عز وجل للأرض وبقائها صالحة لسكن الناس وعمارتهم لها ، وجريان أرزاقهم فيها ، قال تعالى [وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ]( ).
وفي الآية اشــارة الى تعاهد الله عز وجل لعقــيدة التوحـيد في الأرض وحفظ المســـلمين في مجتمعاتهم ومبادئهـم وذراريهم، فلو تعرض بنو اسرائيل للهـــزيمــة لقام جالـــوت وجنــوده باســتئصالهم وقتل مقاتليهم وســـبي نسائهم واولادهم واســــتعبادهم، أي انه لا يبقى عند مراتب الظلم الســـابقة للمعــركة من الإخــراج من الأراضي والجزية والعزل عن الأولاد بل يتعـــداها وهو منهج ثابت في حياة الظالمين ومظهر من مظاهر بطشهم وعتوهم فانهم سيلجأون الى صيغ واساليب اضطهاد ويظنون معها حجب بني اسرائيل على الخروج على جالوت وورثته في الحكم مرة أخرى.
قوله تعالى [ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ]
لكن: حرف استدراك وتحقيق يوجب بها بعد نفي ، فازالة بعض الناس البعض الآخر عن منازلهم او آرائهم انما هو من فضل الله تعالى لديمومة صيغ الحق والعدل بين الناس وفيها منع لشيوع الفواحش والتعـــدي لذا تظـــهر الشــواهد التأريخـــية عدم اســتدامة الظلم والطغيان ، بل حتى اثناء أيامه ترى الناس تتطلع الى الفرج وتنتظره وتدرك بالفطرة حتـــمية حصــوله ســواء من جهة معلومة وأسباب متوقعة أو من أســباب مفاجئة غير متوقعــة وتارة تكون الإزالة دفعية وأخرى تدريجية.
وهل يدخل الدعاء في مصاديق الدفع بمعنى ان الذي يتوجه الى الدعاء للتخلص من سلطان الظالم والكافر يكون دافعاً أم لا، الجواب هو الأول لأن الدعاء سلاح الأنبياء وهو ليس من الدفع بالقلب بل أرقى مراتبه ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) وان كان ظاهراً ادنى من الدفع بالفعل او القول ولكنه أمر مختلف له تأثير يفوق تأثير اليد والقول، نعم ان الله عز وجل يحب المؤمن الصابر الذي يدافع بيده ولسانه.
وتظهر هذه الآية وظيفة الدعاء في المقام، فقد جــاء مقارناً لمقـابلة الأعداء وتحديهم والعزم على مقاتلتهم مع كثرتهم وقلة عدد المؤمنين فالدعاء عون على تحقيق النصــر ولا يعني هذا انه دائماً لا يرقـى عن مراتب الإعانة والتعضيد فقد يكون مستقلاً في سلطانه وتأثيره، وعلة تامة للنصر وتحقيـق الرغائب سواء بالأسباب المادية او من دونها فضلاً منه تعالى.
والآية دعــوة للصـــبر لأن ما يلاقيه المسلمون من العناء والشــقاء انما هو مناسـبة للثواب، وفيها ادراك لفلسـفة التدافع والتبديل في منازل السـلطنة والحكم قال تعالى [ وَتِلْــكَ الأيـــام نُــدَاوِلُهَـــا بَيْنَ النَّاسِ ]( ).
ويدل الإســتدراك في الآيــة الكــريمــة علـى عدم حتمــيــة الدفــع فقــد تحصــل ازالة الظـــلم من غيــر مجــاهــدة ومدافعـــة فضــلاً وتخفيفاً من الله تعالى ، وفي التزيل [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ).
والآية دعوة للدعاء والتخفيف عن المسلمين في الدفاع ومراتبه والوقاية من الظلم ومن ذهاب ريح ودولة وقيم الإيمان.
ان فضـــل الله تعالى اعم من ان ينحصــر بالمــدافعــة بين الناس، فهو ســـبحانه يحــول دون انتشـــار الفســـاد والفحشــاء وطغيان الظلم بغيرها.
فالدفع لا يستوعب أيام الحياة ومتاع الأرض كلها ، وفضل الله تعالى متصل بمصــاديق تعجــز الخلائــق عن احصائها او معــرفة جهتهــا وكيفيتهــا وأوانها.
والآية تذكير واستحضار لعظيم فضل الله على بني اسرائيل وعلى الناس جميعاً من خلال هذه الحوادث والآيات ونصــرة المسلمين ولما فيها من الدلالة بان فضله سبحانه قريب من المؤمنين وغيرهم بنصره ويدفع عنهم الظالمين وان إفاضاته وإحسانه سبحانه لا تنفرد به أمة او اهل زمان دون غيرهم بل هو نعمة متدلية في كل زمان وأن الآيات من باب المثال والحجة وليس من باب الحصر والتقييد ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
لقد توجه بنو اسرائيل الى الله عز وجل لينصرهم كفئة قليلة على الفئة الكثيرة فاستجاب لهم وزاد عليهم من فضله بان النصــر كان سريعاً وحاسماً وتم على يد صبي فقير بمقلاع ليتهاوى عرش الظلم والكفر فضلاً من الله سبحانه.
وليكون الجزاء خاصاً وعاماً، خاصاً على داود بان رزقه الله الآيات والنبوة والملك، وعاماً على بني اسرائيل بالعز وتهيئة اسباب ومقدمات عبادتة الله تعالى وشكره بالقول والفعل، وتهذيب النفوس واصلاحها لقبول ما يأتي به الأنبياء من عنده تعالى ، وقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالنصر يوم بدر مع أن عددهم أقل من ثلث عدد جيش المشركين ، أما بخصوص الأسلحة والظهر فالحال أشد على المسلمين ، فاجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء عشية وصبيحة يوم بدر ، وهو السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) ونزل النصر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصا وأسروا سبعين من المشركين ، كما سيأتي بيانه في تفسير قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
كما يأتي في بعض من :
الأولى : الأجزاء الخاصة بقانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) وهي (159-160-161-163-164-165-166-167-169-171-172-173-175-176-177-178-182-185-188-192-200-208-212-218-226- 238).
الثانية : أجزاء قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب وهي (-180-83 1- 191- 194 – 195- 198-206-207-216-234-235-237).
الثالثة : أجزاء قانون (آيات الدفاع سلام دائم ) وهي (201-202-203-203-228- 230).
الرابعة : أجزاء قانون ( آيات السلم محكمة غير منسوخة وهي (202-203-204-210-211 -231).
الخامسة : أجزاء قانون ( النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب ) وهي (220-221-222-225-227) .
قوله تعالى
[تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ] الآية 252.
الإعراب واللغة
تلك : تي : اسم إشارة مبني على السكون الظاهر على الباء التي حذفت لإلتقاء ساكنين في محل رفع مبتدأ .
اللام : للبعد : الكاف : للخطاب .
آيات : خبر ، مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره ، وهو مضاف .
اسم الجلالة : مضاف إليه مجرور بالكسرة .
تلك آيات: مبتدا وخبر، ويجوز ان تكون آيات بدلاً والجملة الفعلية (نتلوها) هي الخبر : نتولها : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الواو ، والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن لتعظيم مقام الربوبية ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) والضمير (ها) مفعول به .
عليك: جار ومجرورمتلق بـ (نَتْلُوهَا).
وانك لمن المرســلين: الواو عاطــفة، انك: حرف مشبه بالفعل واســمه، اللام: المزحــلقة وتفيد التوكيد ، والجار والمجــرور متعلقـان بمحذوف خبر انك.
التلاوة: المتابعة بين الأشياء، وهي في المقام قراءة الكلمة بعد الكلمة والآية بعد الآية من كتاب الله.
ومن أسمائه تعالى الحق وهو واجب الوجود المتحقق وجوده وربوبيته للخلائق كافة في كل الأزمنة المقدرة وغيرها.
الحق ضد الباطل: وحق الأمر يحق حقاً وحقوقا: ثبت وصار حقاً وصدقاً، والحق: اليقين والقطع.
في سياق الآيات
المعنى السياقي في هذه الآية ظاهر بتعليق موضوعها على الآيات السابقة وتعضيدها لتلك الآيات في إشارة الى حصول النصر والظفر والعز بفضل الله وآياته ومدده سبحانه وتربط الآية بين نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونبوة الأنبياء السابقين ، قال تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ] ( ).
وقد تقدم قبل ست آيات الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ]( )، ثم تجدد الخطاب إليه في آية البحث فهل من صلة وعطف بينهما ، الجواب نعم ، فما ورد في الآيات السابقة عن قصة الملك المؤمن طالوت ، ومعجزة قتل داود عليه السلام لجالوت العملاق بالمقلاع مع أنه مدجج بالحديد لم تخرج منه إلا عيناه وحينما رماه صكت الحجارة بين عينيه.
وانهزم جيشه بمعجزة والقاء الرعب في قلوبهم ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( )، أم أن هذه الآية خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي معركة بدر وأحد ، المختار هو الأول لذا قالت آية البحث أن الآيات المتقدمة تتضمن وقائع ومعجزات من عند الله ، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من المرسلين ، لبيان اتحاد سنخية النبوة .
لتأتي الآية التالية ببيان قوانين من الإرادة التكوينية بخصوص المرسلين الذين اختتمت بهم آية البحث وهل هذا النظم من بلاغة القرآن أم أن سياق الآيات خارج مصاديق البلاغة ، الجواب هو الأول مع ذم الذين اختلفوا واقتتلوا بعد الرسل لبيان قانون وهو مجئ رسل الله بما يحتاج إليه الناس ، ويمنع من الخلاف والإقتتال بينهم وهو من الشواهد على أن الأنبياء لا يقصدون القتال ولا يسعون إليه ، ومن الدلائل عليه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ) ( ).
لبيان القبح الذاتي للقتال وسفك الدماء ، إلا أن يكون دفاعاً عن عقيلة التوحيد وعن التقوى والعرض والمال .
وهل يصح تقدير الآية أعلاه : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة كما دخله الرسل والمؤمنون من قبلكم ، الجواب نعم ، لإتحاد سنخية الإيمان.
ولأن النبوة مطلقاً رحمة للناس ، ويأتي كل نبي ورسول بمعجزة تشهد له بالنبوة يبينها للناس بالسلم وهي حجة وبرهان ، ويقوم بالإحتجاج في الدعوة إلى الله ، وبيان قبح الشرك والضلالة .
إعجاز الآية
في الآية توكيد للمعجزات التي جاء بها الأنبياء ونفي وهم او ظن بان هزيمة الكافرين كانت بالأسباب المادية والأمور الطبيعية، وحسابات كثرتهم وقوتهم في مقابل قلة وضعف بني اسرائيل.
ويظهر تردد اكثرهم في ولوج سبل القتال موضوعية الآيات والنصر الإلهي، قال تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
والآية حجة على صدق رسالته صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد فيها ذكر الآيات كموضـــوعات واخبار ســـماوي واسم الإشــارة تلك للبعيد يشـير الى اعجاز القرآن الذاتي والغيري وان آيات القرآن اعم من ان تنحصر بالفاظه وبلاغته.
إن ما يســتظهره العلماء من هذه الآيات أمس واليوم وغداً من كنوز هذه الآيات دليل صـــدق على رسالته صلى الله عليه وآله وسلم أي ان الآية دعوة لعلمــاء المسلمين للسعي العلمي الدؤوب لتوكيد صدق نزول القرآن وسلامته من التحريف من خلال اظهار وجوه الإعجاز في هذه الآيات وتفاصيل موضــوعاتها والأســـرار الغيبية فيها على نحـو الإجتماع والتعدد.
وفي الآية تنبيه لقدسية قصص القرآن وعظيــم منافعــها ولزوم الإنتفاع الأمثل منها.
لقد ابتدأت الآية بالإشارة للبعيد [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ]( )، ويحتمل المقصود وجوها :
الأول : ذات آيات القرآن المتقدمة بخصوص قصة داود عليه السلام وطالوت ، وقتل جالوت الجبار .
الثاني : إرادة آيات القرآن كلها .
الثالث : المقصود الوقائع التي جرت بين بني إسرائيل والعمالقة برئاسة طالوت صارت آيات يتلوها الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي والتنزيل .
والمختار لا تعارض بين هذه الوحي .
ويمكن تسمية آبة البحث [وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ] وقد ورد هذا اللفظ مرتين في القرآن ، والثانية آية مستقلة في قوله تعالى [إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ]( )، من غير واو العطف في أول آية البحث .
الآية سلاح
الآية حجة وبرهان لما فيها من التوكيد على عظيم فضل الله تعالى عليهم ودلالتها على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحث المسلمين على تدبر الآيات وما فيها الدروس والعبر.
فكل آية من هذه الآيات كنز عقائدي جعله الله عز وجل عند المسلمين لينتفعوا منه في حياتهم وتوحيد صفوفهم ومواجهة المشركين بعزم وقوة وحسن توكل.
لقد تضمنت آية البحث توثيق قصة من قصص الأمم السالفة وموضوعية النبوة في إنقاذ المسلمين من بني اسرائيل وغيرهم من سلطان وطغيان الجبابرة ، بقيام داود بقتل جالوت ، ثم توليه الحكم لتجتمع عنده النبوة والحكم في مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحكمه بين الناس بالحق.
وقد ورد لفظ [احْكُمْ بَيْنَهُمْ] أربع مرات ثلاث آيات في القرآن كلها خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووردت في سورة المائدة وهي من آخر سور القرآن ، وهذه الآيات هي :
الأولى : قوله تعالى [سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ]( ).
وقيدت آية البحث تلاوة الآيات بأنها (بالحق) لبيان الصدق والدقة في إخبار القرآن عن الواقع ، وكشفه لأمور وتفاصيل لم تكن معلومة وإن وردت ذات الأخبار والموادث في الكتب السماوية السابقة.
ولبيان مسألة وهي لو تعارض الخبر في الموضوع والمتحد بين ما في أيدي الأمم السابقة وبين القرآن فان الحق والصدق هو الذي في القرآن ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ]( ).
مفهوم الآية
تحث الآية على اللجوء إلى القرآن فيما يخص انباء وقصص الأمم السابقة وترك القصص والأخبار المحرفة او الموضوعة ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( )، وفيها تحـــد لأولئك الذين يترددون في قبول شـــرائع الاسلام لأن القـرآن يوثق ويبين اخبارهم بنحـــو اعجازي ويحول دون ضياعها او تحريفها او سوء تأويلها.
وجــاءت الآيـــة بصـــيــغة الخطاب للنــبــي صـلى الله عليه وآله وسلم بعد الإخــبار عن الآيات وهو مما يســـمى في علم البلاغة بالالتفــات، لتكــون كــل آيــة مدرســـة وعبــرة وموعــظــة للنـاس جميعاً.
والآية من مصاديق قوله تعالى [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ]( ) وهي دعوة للمسلمين والناس جميعاً لتلقي ما يأتي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول من الله والتسليم ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، لتبين الآية أعلاه موضوعية الوحي والتنزيل في التقي والقبول.
ومن صفات الرسول من عنده تعالى انه يأتي بالآيات والتنزيل وسنن الشريعة وأحكام العبادات والمعاملات اذ ان الرسالة سفارة بشرية وبرزخية ملكوتية بين الله تعالى وبين الناس لبيان مصالحهم في الدنيا وسبل نجاتهم في الآخرة، وهي تأسيس لقوانين عبادية واخلاقية عملية وفق قواعد التنزيل والإفاضة السماوية.
لقد أعطت الآية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حصانة واخبرت عن عصمته فيما يبلغ به من الآيات وانها من عند الله تعالى وليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم التصرف والاختيار فيها موضوعاً وحكماً وكلمات وأوان نزول ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
كما تضفي الآية قدسية خاصة على ما في القرآن من القصص وتبين انفرادها بخصـوصيات سامية وبركات متصــلة، وهي دعوة للاســتغناء بها او جعلها الاساس والمرتكز في فهم الوقائع والاحداث، وقراءة القصص الاخرى بلغة الايمان والاحتراز من اسباب الشقاء والجحود والكدورات الظلمانية.
التفسير
قوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ]
(تلك) اسم اشـــارة للبعيــد في دلالة على عظــمــة تلك الآيات وانها خافـية على الناس لتقادم الزمان عليها او للتعتيم وتدخل الســـلاطين والرهـبان لتوجــيه الأخبار بما يناســب مصالحهم او لإعراض الناس عنها فجاء القرآن ليبين تفاصيلها والدروس والعبر المستفادة منها ، قال تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ]( ).
وداود وسليمان عليهما السلام من الأنبياء الذي ذكروا في آيات متعددة من القرآن ، وفيه مسائل :
الأولى : التوثيق السماوي لقصص الأنبياء .
الثانية : إكرام الله عز وجل للأنبياء .
الثالثة : حفظ قصص وجهاد الأنبياء من التحريف أو الضياع إلى يوم القيامة .
الرابعة : إتخاذ المسلمين والناس جميعاً قصص الأنبياء موعظة ومدرسة وعبرة ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
الخامسة : دعوة المسلمين إلى الصبر وتحمل الأذى في مرضاة الله والعصمة من التعدي ، قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
ويدل عنوان البعد في اسم الإشارة على اعجاز اضافي وهو ان موضوع الآيات والبراهين لا ينحصر ببلاغة القرآن وحدها بل يشمل موضوعاته وهذا من الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن ولو كانت المقصودة هي الألفاظ.
وجاءت الآيات بالإضافة الى اسم الجلالة ولم تأت بالإضافة الى القرآن ولكن القرآن كله آيات، والإضافة إلى الله تعالى نوع اكرام وتوثيق سماوي للقرآن.
فالآيات هنا تنحل الى عدة آيات :
الأولى : الفاظ القرآن وكلماته وآياته.
الثانية : الوقائع والأحداث.
الثالثة : سرد الأخبار وأحسن القصص في القرآن.
الرابعة : الإعجاز الإلهي في تلك القصص والأنباء.
وكما يترجم القرآن المدركات العقلية الى امور حسية فانه يأتي بالبعيد ويستحضره في القرآن، ليكون محســوســاً قريباً، لذا ترى المسلم ينظر الى قصـص القرآن وكأنها واقعة بالأمس القريب، وفيه تجديد بالعهد بأولئك القوم بطي الأزمنة كما تطوى الأرض للراكب بالراحلة الآلية الحديثة.
واسم الإشارة (تلك) يفيد في المقام التفخيم والتعظيم والدعوة الى الإلتفات اليها ونعت الآيات بانها آيات الله تعالى يدل على فضله تعالى على بني اسرائيل وانهم لم يحافظوا على كياناتهم ومجتمعاتهم بقدرتهم وقوتهم الذاتية بل ان آيات الله كانت تترى عليهم وبها بلغوا المراتب التي هم عليها الآن مما يملي أموراً :
الأول : الشكر لله تعالى بتعاهد سنن الأنبياء وتلقي رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول وحسن الإستجابة.
الثاني: اجتناب التصدي للإسلام او محاربته فمع ان قريشاً اهل كفر وضلالة فان بعض وجهائهم دعا الى ترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشأنه وانه اذا كان حقاً نبياً فان الله عز وجل سيظهر امره وينصره فمن باب اولى ان يتخذ اليهود هذا الرأي لأنهم أهل كتاب وان كانت وظيفتهم هي الإيمان والتأييد.
لذا ترى يهود المدينة من بني النضير وقينقاع وقريظة أبرموا عقود الصلح والموادعة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند دخوله المدينة مهاجراً وكانوا يأتونه ويسألونه عن مسائل كثيرة منها السؤال عن الروح والبرزخ.
و(عن ابن مسعود قال : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في خرب المدينة وهو متكئ على عسيب ، فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح . وقال بعضهم : لا تسألوه . فسألوه فقالوا : يا محمد ، ما الروح؟ فما زال يتوكأ على العسيب ، وظننت أنه يوحى إليه فأنزل الله وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً( ).
و(عن طفيل بن سخبرة : أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مرّ برهط من اليهود فقال : أنتم نعم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيراً ابن الله فقالوا : وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد . ثم مرَّ رهط من النصارى فقال : أنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله قالوا : وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد . فلما أصبح أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فخطب فقال : إن طفيلاً رأى رؤيا ، وإنكم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم ، فلا تقولوها ولكن قولوا : ما شاء الله وحده لا شريك له)( ).
لقد تلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا الصحابي بالقبول ورتب عليها حكماً صحيحاً بما ينفع المسلمين في دينهم ، وفي الإحتجاج ، وهل يدخل الخبر في السنة القولية أم التقريرية ، الجواب هو الأول.
وعن (عامر بن واثلة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نبوة بعدي إلاّ المبشرات ، قيل : يا رسول الله وما المبشرات ، قال : الرؤيا الصالحة)( ).
لبيان المنافع العظيمة تعبير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للرؤيا في إصلاح المنطق ، وأن الرؤيا عون ومدد من عند الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا]( ).
الثالث: استحضار الناس لتلك الآيات واخذها من عين صافية ونبذ السرد الخاطئ والتحريف الذي طرأ عليها واستلهام الدروس والعبر منها، واستظهار وجوه المقارنة بينها وبين الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع: ذكـر هــذه الآيــات لم يكن مقصــوداً بذاته بــل هو نــوع طريق لإستنباط الأحكام والإتعاظ والتذكرة وهو سبيل هداية ورشاد ، قال تعالى [إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً]( ).
الخامس : اسم الإشارة وما فيه من البعد والتفخيم حث للناس على متابعة الآيات وعدم تضييع ما فيها من الدروس، وردع من يحاول التخلي عن تأريخ الأمم المسلمة.
السادس: الآية دعــوة لتوثــيق قصــص القرآن وتناولها بالتفســـير والشرح والتحليل والإستنتاج والإستدلال والبرهان والإستنباط.
السابع: الجمــع بين صـــدر الآيــة وذيلها يظـــهر ان آيات الله تعالى متتابعة ولابــد انها ملازمة لنبـــوة الرســول الأكـــرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبلحاظ تقدم الرسالة على النبوة في الرتبة والمنزلة وعظيـــم الآيات والحجـــج، بالإضافة الى ان النبــي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ، وعنده كل ما عند الأنبــياء من قبله فضــلاً من الله تعالى .
وقد ورد (عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أعطيتُ خمساً ولا أقول فخراً : بُعثت إلى الأحمر والأسود ، وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، وأُحل لي المغنم ولم يحل لأحد كان قبلي ، ونُصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر وأُعطيت الشفاعة فادّخرتها لأُمتي يوم القيامة ، وهي إن شاء الله نائلة من لم يشرك بالله شيئاً)( ).
قوله تعالى [ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ ]
تشريف للقرآن بنسبة تلاوة آياته لله سبحانه وعز للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته بواسطته بان التلاوة منه تعالى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأتي بها جبرئيل من عنده تعالى فانه سبحانه اكرم النبي بنسبة التلاوة اليه وعدم ذكر الواسطة مع شرفها وقدسيتها.
وهذه النسبة توكيد للإعجاز القرآني وان جميع آيات القرآن من عند الله تعالى وليس للملك او الرسول التغيير او التبديل في الأحرف او الكلمات النازلة وقد اجمع المليون على امانة الملائكة.
(وعن معاوية بن قرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لجبرئيل: ما أحسن ما أثنى عليك ربك ” ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ” ما كانت قوتك ؟ وما كانت أمانتك ؟ قال: أما قوتي فإني بعث إلى مدائن قوم لوط وهي أربع مدائن وفي كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، حملتهم من الارض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب، وهويت بهن فقتلتهن وأما أمانتي فلم أومر بشئ فعدوته إلى غيره)( ).
وتدعو الآية الإنسان الى القرب الإلهي فيعرف من خلالها بالتحقيق عظيم قدرة الله وفضله وبديع صنعه سبحانه.
وتجمع الآية بين التوحيد النظري والتوحيد العملي فالآية تدعو للإيمان بالآيات التي نزلت على بني اسرائيل والآيات الظاهرة عند الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم حسن الإمتثال والإنصياع للأوامر الإلهية.
وجاءت مادة (تلى) بلفظ المضارع للدلالة على تتابع التلاوة نفسها وعدم انقطاع الآيات وما فيها من الأخبار كما في قوله تعالى [ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( ).
وفي الآية نكتة بلاغية وهي الإلتفات من صيغة الغائب الى صيغة المتكلم والمخاطب.
وهي دعــوة للمسـلمين لتعاهد آيات القرآن وحفظها والإتعاظ بما فيها وعدم الإلتفات الى ما في ايدي اهل الكتاب بخصوص قصص الأنبياء، فلو اجــريت مقـــارنة بين القرآن والكتب السماوية الأخرى التــي بايــدي اهــل الكتاب لـرأيت اختلافاً كثيراً فيما يتعلق بحياة الأنبياء.
الإعجاز التأريخي للقرآن
تتضمن قصص القرآن احياء الآلاف بعد اماتتهم وقتال بني اسرائيل بعد المعاناة من الظلم والقهر، وتفضله تعالى بتنصيب طالوت ملكاً وقائداً للجيش ومجيء الآيات وحمل الملائكة للتابوت وانتصارهم في المعركة على جالوت وجنوده مع كثرتهم وقوتهم والآيات التي رزقها الله لداود عليه السلام.
وتشير الآية الى الآيات والقصص واخبار النبوة التي تضمنها القرآن وآياته وتؤكــد اهميتها وانها ليســـت اخباراً مجـردة او سرداً تأريخــياً او وثــائق تأريخــية بل انها اعجاز إلهي في بيانه ومضمونه وتلاوتــه وموضــوعه ومناســـبته ودلالته، وهــي حــجـة خالدة للمسلمين ، وشاهد على المدد الإلهي للأنبياء والمؤمنين من الأمم السابقة ، لتكون بشارة للمهاجرين والأنصار ، وإنذاراً لكفار قريش بأن الله عز وجل سيمد النبي محمداً بالملائكة في حال إصرارهم على القتال ، وهو الذي وقع في معركة بدر وأحد والخندق ، وفي معركة بدر وبعدها إجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء نزل قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
و(عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاس قَالَ : قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ: عَلَيْكَ بِالْعِيرِ لَيْسَ دُونَهَا شَيْءٌ، فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ وَهُوَ أَسِيرٌ : لا يَصْلُحُ لَكَ ذَاكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلِمَ ، قَالَ : لأَنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ أَعْطَاكَ مَا وَعَدَكَ)( ).
وهو بعيد رواية ودراية ، فالحديث ضعيف سنداً ، كما أن العباس بن عبد المطلب كان أسيراً بعد قدومه مع جيش المشركين من مكة ، وكانت العير يوم معركة بدر قد وصلت إلى مكة لأن رئيس القافلة أبا سفيان أرسل إلى قريش من وسط طريقهم إلى بدر أن رجعوا فقد سلمت القافلة.
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنّهُ قَدْ أَحْرَزَ عِيرَهُ أَرْسَلَ إلَى قُرَيْشٍ : إنّكُمْ إنّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ فَقَدْ نَجّاهَا اللّهُ فَارْجِعُوا ، فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَاَللّهِ لَا نَرْجِعُ حَتّى نَرِدَ بَدْرًا وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ ، يَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهِ سُوقٌ كُلّ عَامٍ فَنُقِيمُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا ، فَنَنْحَرُ الْجُزُرَ فتسمع الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا وَجَمْعِنَا ، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا بَعْدَهَا ، فَامْضُوا)( ).
وتتضمن الآية في مفهومــها الوعــد والوعيــد، وفيـها معاني الرأفة والرحمة الإلهية وملازمتها للمسلمين في كل زمان وتتجلى فيها آيات النبوة والمدد الملكوتي لهم في صبرهم وحياتهم العامة والخاصة، وكيفية تأهليهم لمنازل التقوى والصلاح بالعلم الحضوري والوهبي وليس الكسبي.
واللطف الإلهي في انجذاب قلوب الناس لهم وتصديهم للباطل ومحاربتهم للشرور الطارئة على النفس والمجتمع وتهذيبهم للأخلاق ووضعهم لأسس المعارف الإلهية لتكون غذاء متوارثاً وضياء تهتدي به الأمم والأجيال وتوقد شموعه بين الحين والآخر ببعثة رسول او نبي او آيات كونية تعيد الناس طوعاً او قهراً الى سنن الأنبياء الى ان توجب السلسلة الذهبية المباركة ببعثة الخاتم.
قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( )، ولم يرد لفظ (خاتم) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
وفي قصص القــرآن غنى وكفاية وتمام الهداية، وفيها التوثيق والضبط الدائم والى يوم القيامة لقصص الأنبياء والآيات التي انعم الله عز وجــل بها على الناس وعلى بني اســرائيل خاصــة لإستلهام الدروس والعبر واستظهار بها غيرها من القصص سواء في كيفية الأخبار عن قصــص الأنبياء والأمم المسلمة او القصــص الأخرى المتعلقة بالوقائــع التأريخية لأنها اعـم من قصص الأنبيــاء ولكن بالإمكان ارجاعها الى قصص القرآن في الموضوع والحكم والإعتبار ، قال تعالى [وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا]( ).
وهذا اعجاز اضافي لآيات القرآن فان ما فيها من العدد المحدود من الأخبار والأحوال قواعد كلية وسنن تشريعية تحيط باللامحدود من الوقــائع والأحــداث، فلذا تجــد لكل حــادثة ما يناســبها من آيات القرآن ويمكن الإستعانة به في فهم الحال واتخاذ الحكم والقرار المناسب بشأنها.
ان قراءة في البيان القرآني للتأريخ تظهر عظيم فضله تعالى على الأمم بحفظ قصصها ووقائعها بكتاب سماوي نازل الى الأرض وهي تشريف لأهل الإيمان والأخيار والمصلحين .
فليس من شرف يسمو على ذكر الله تعالى للامة او الجماعة او الشخص بالمدح والثناء وليس من عار ونقيصة اقبح من ذكر القرآن لسوء فعل صادر من جماعة او حزب او شخص لذا كان نفر من المسلمين في ايام النزول يحــذرون من نزول القرآن بذمهم لمعرفتــهم بما يترتب عليه من العار والشنار ولكن الله لطيف بالعباد.
وقد ذم الله عز وجل أبا لهب في القرآن ، مع أنه عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصنو أبيه ، ونزلت سورة كاملة بذمه وزوجه وبيان استحقاقه لهذا الذم ، قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍوَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ]( ).
كما نزلت آيات في المدينة بذم المنافقين خاصة عبد الله بن أبي بن أبي سلول من غير أن تذكر اسماؤهم كما ورد نعت الوليد بن عقبة بالفاسق ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ).
لبيان قانون وهو أن نطق الإنسان بالشهادتين برزخ دون ذكره بالذم بالإسم وإن كان مستحقاً للذم بخلاف أبي لهب الذي مات على الكفر .
و(أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإِسلام.
فدخلت فيه وأقررت به ، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها ، قلت يا رسول الله : ارجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإِسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إليَّ يا رسول الله رسولاً يبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الابان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه إحتبس الرسول فلم يأتِ فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله فدعا بسروات قومه .
فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتاً يرسل إليَّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة ، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطه فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة ، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث.
فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا : هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك ،
قال : ولم .
قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله .
قال : لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته ولا أتاني ، فما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال : منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني وما أقبلت إلا حين احتبس عليَّ رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن تكون كانت سخطة من الله ورسوله ، فنزل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا]( ) إلى قوله تعالى []، [حَكِيمٌ])( ).
ولدراسة البعد التأريخي في القرآن لابد من بيان مقدمة بقراءة مذاهــب تفســـير التأريخ، فمنهم من اعتمــد قوانين العــلـية والسبــبية وان المعلــول لا يتخلف عن علته، وان مجــريات التأريــخ كقوانين الفيزياء، ومنهم من اعطى الموضوعــية للإنســان حضــوراً وحاكماً ومنهم من جاء بالجامع منهما وان الإنسان يشترك في صنع التأريخ من غير ان يلغي تماماً مسألة الأسباب والمسببات بلحاظ انه لا تعارض بينهما.
والمختار موضوعية عظيم قدرة الله وسلطانه ، وقوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وتبين لكن هذه الآية العـناية الإلهية واثــرها في تحديد او تغــيير مجـــرى التأريــخ او المنــع من حصـــول خــروقات فيه تخــرجــه عما يــريده الله عز وجـــل لأهــل الأرض وبقــاء فلســــفة التــوحيــد بين الناس بمعنى ان التعــدي والظــلم يحصـل الى درجــة معينة فلا يتجــاوزها ويسـتأصــل من الأرض بفضـــله ولطــفــه تعالى وباســـباب مادية واهية لا تصـــلح بحســـاب قوانــين العلية للأثر والتأثيـر في مجريات الأمور.
وفيها انذار ووعــيد لأعداء الديــن فقد يتمكـن الظـالم من الوصـــول الى الحكم او احتـــلال بعض ثـغور المسلمين وبلادهم الا انه لا يســـتطيع الإستمرار ولا يمكن ان يصل مرتبة عالية من الظلم والتعدي .
اما كيــف تحدد تلك الدرجـــة وملاكها ومقدارها فهذا من علم الله تعالى .
ويمكن اســــــتقراؤه من خـــلال الآيات التي تبين نزول الفرج بعد الضــيق، والنصــر للمؤمــنين، ومنــها هذه الآية فبــعــد ان أحس بنو اســـرائيل بالغـــدر وعانــوا من الاضطــهاد والمهــانة عزمــوا على ملاقاة المــوت وفضــلوا القتال على البقاء على حياة الذل جاء النص لتعود مســـيرة التأريخ الى حالتهــا الطبيــعــية والــتي ارادها الله عز وجل ، وكان بين ظهرانيهم نبي يهديهم الى الصراط.
فالحاكم في التأريخ هو الإرادة الإلهية وهو مناسبة للإعتبار والإتعاظ والتقوى واجتناب محاولة تغيير سنن الأنبياء لأن تلك المحاولة لا تؤدي الا الى الفشل والخسران في النشأتين، ومن راح ضحية من المؤمنين في التصدي للظلم فانه ينال الدرجات العلى.
لقد جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، ولابد من تفضل الله بالعناية والمقدمات والمدد الذي يؤهله لمراتب الخلافة، ويلاقي الفشل من يحاول التغيير وتحريف مسار التأريخ في الإرادة التكوينية وهي تفشي رحمته تعالى لجميع الناس وينال المؤمنون وعامة المسلمين تلك الرحمة بالأولوية فلا يمكن ان يستمر وقوع الظلم عليهم ، وفي التنزيل [وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( ).
لقد أراد الله عز وجــل بالقـــرآن الغنــى للمســـلمين والإســـتغناء ولم يكـــن هذا الإستغناء منحصـــراً في باب الفقه والتشريع والأحكام بل انه يشــمل المياديـــن المخــتلفــة ومنهـــا علم التــأريخ الذي يحتل اهميــة خاصـــة في حيـــاة الأمم والأنظـــمة السياسية وتزداد حاجة الإنسان له مع ارتقائه في المسؤوليات والمناصب.
كما ان العرض القرآني للتأريخ يمنع من استمرار التحريف والتوظيف السلبي للتأريخ في الحياة الدينية والسياسية ، وكثيرة هي الشواهد التي تسجل محاولات السلاطين والحكام في سُدة الحكم والباس كراســـــيهم الرداء الشرعــي والقانوني والاصالة التــأريخـــية وربما هــناك من ســــعى لنسخير التأريخ ليكون عونــاً على وراثــة الســلطان وبقــائــه.
وينفرد التأريخ القرآني بعدم وصول يد التحريف اليه، وسعته وشموله والإختيار السماوي لموضوعاته بلحاظ انها تمثل السجايا المتأصلة والعرضية عند بني آدم، كما انه يختص بالصدق والإحاطة فالتأريخ الوحيد الخالي من الجعل والوضع والظن والراجح هو الذي تتضمنه آيات وقصص القرآن التي جاءت بأرقى اساليب الفصاحة والبلاغة لتكون بلاغتها مدرسة مستقلة لإستنباط الدروس، وكذا الكتب السماوية ، ولم تنحصر موضوعات قصص القرآن باخبار الأنبياء او المؤمنين بل شملت غيرهم بما يكمل الحجة ويحكم البرهان ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
قوله تعالى [بِالْحَقِّ]
أي باليقين لتوكيد صدق قصص القرآن وخلوها من الإحتمال او التردد او الترجيح لأحد طرفي الخبر واللاخبر وما يسمى بالإصطلاح بالظن وهو ترجيح احد طرفي التصديق.
وفي الآية تعريض ببعضهم بلحاظ التفاوت بين ما مذكور في القرآن وما يروونه عن كتبهم واخبارهم.
والآية دعوة للناس للرجوع الى القرآن والصــدور عنه، كما انها تبعث الرعب والفزع في قلوب المشركين الذين يحـــاولون التحـــريف والسرد غير الموضــوعي والمبـــالغــة في الأخبار التي تســــاعد تحقــيق اغراض شـــخصية ومذهبــية تتــنافى والحق والصدق.
وتنفي الآية تأثير الســـحرة ومردة الجـــن في نزول الآيات لوصفها بانها بالحـــق ولأنها اخبرت بان التلاوة جـــاءت من عند الله تعالى وان الملك المرسل والواســـطة لم يبلـــغ الا بعلمه تعالى واذنه، وفي مفهومها ذم لأولئك الذين يرجــعون الى الكهنة والسحرة للأخذ منهم او التصــديق بهم وتحثهــم على اللجــوء الى القــرآن لمعـرفة أحسن القصص ، وفي التنزيل [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وفيها تشريف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما تتضمنه من الوصف الكريم والقطع واليقين والثبوت كما ان قوله تعالى [ بِالْحَقِّ ] اعم في دلالته من تلاوة الآيات وما فيها من الأخبار السماوي لأنه يتضمن الإشارة الى الإستثمار المستقبلي لهذه التلاوة والغايات السامية لها في اعداد اجيال المؤمنين واقتدائهم بسنن الأنبياء واجتناب الناس لمسالك الظلم والجحود اذ ان الدنيا دار اعتبار وتذكرة، وقدجعل الله عز وجل العقل شرعاً داخلياً يوظفه الانسان في الأخذ من العبر والدروس التأريخية، كما ان تلك التلاوة تظهر حقيقة النفس الإنسانية ولزوم تأديبها بالحكمة والموعظة.
وفيه ترغيب بقراءة قصص القرآن وتشويق وانجذاب لها وايجاد حقيقة راسخة في النفس ان هذه الآيات لا لبس فيها وانها نزلت من عنده تعالى وكلها حق وصدق.
والباء في [ بِالْحَقِّ ] تحتمل ان تكون حرف جر زائد حسب الصناعة النحوية بمعنى انه يفيد التوكيد والمصاحبة كما تقول لشخص سافر بحفظ الله أي مع حفظه تعالى، فيكون المراد حينئذ ان تلاوة الآيات يصاحبها تجلي الحق والبراهين في الواقع بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم واندحار كفار قريش وان الآيات لم تكن وحدها في ميدان العمل العقائدي بل يلازمها فعل وجهاد وظفر , قال تعالى بخصوص معركة أحد [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
تفسير قوله تعالى [ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ ]
اكرام آخـر للنبي صــلى الله عليه وآله وسلم بشــهادته تعالى له بالنبوة والرسالة اذ ان كل رسول هو نبي وليس العكس، فذكر سبحانه الصفة الأكبر والأسمى ولأن موضوع الآية توكيد نزول التلاوة منه تعالى، وتخبر الآية عن تعدد الرسل لصيغة الجمع التي جاء بها، والآية تثبيت لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومدح للمسلمين للإيمان برسالته.
وتدل الآية بالدلالــة التضـــمنية على ان النبي الأكــرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتعرض للأذى مثلما تعرض له الرسل من قبل وسيواجه المشاق والعناء في سبيل الله، فبلحاظ الجمع بين صدر الآية وآخـــرها يتبـــين لنا ان الآيــة اخبار عن مــلازمــة الإبتلاء للنبــوة وتصدي الرسول لقوى الشر والبغي في زمانه كما تؤكد الآية نزول الآيات على كل رســول من عنده تعالى وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً.
ومن بين الفروق بين الرسول والنبي ان الرسول يجمع الى المعجزة والكتاب المنزل عليه، والنبي لم ينزل عليه كتاب، والرسول ينسخ بالكتاب الذي ينزل عليه شريعة من قبله اما النبي فيعمل بكتاب الرسول الذي سبقه، وبما ان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو آخر المرسلين وحسب السبر والتقسيم فان شرائع الاسلام ناسخ للشرائع السابقة، وانه يظهر قصص الأنبياء والقرآن يبين اخباره وقصصه ويشهد على رسالته، والرسول ينزل عليه جبرئيل ويسمع كلامه ويتلقى الوحي من عنده تعالى.
فذيل الآية تصديق لصدرها فما دام صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً من عنده تعالى فان الآيات تنزل عليه، وتنفي الآية نيل هذه الأســرار الغيبية بالكسب والتحصيل فهي شهادة سماوية بان الرسول ينبأ من عنــده تعالى والآيـــات بذاتها تؤكــد هذه الحقيقة ونزولها من عنده الله عز وجل وعجز البشر عن ضبطها او توثيقها او بيانها بهذا الإعجاز.
ونعت النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم نوع تشريف واكرام اضافي له باعتبار انه شهادة سماوية لنيله أعلى مراتب الشرف والرفعة، وهو دعوة للناس للانصياع له وقبول ما يأتي به من عند الله تعالى، والآية حجة على الكفار والجاحدين.
وفي الآية مواســاة وتســـلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يلقاه من قومه ومن اليهود من الصدود والرد والإنكار، وفيها تخفيف عن المسـلمين واثر جحود اليهود برسالته على شطر من المســـلمين، فالعــرب كانوا ينظــرون الى اليهود كيف يقــابلون رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم اهل كتاب ويقتبسون منهم ويتأثـرون بهــم في هذا الباب، فجاءت هذه الآية لتنبيه المسلمين وتحذيرهم والعرب جميعاً وغيرهم من الناس ودعوتهم الى عدم الإلتفات الى رد اليهــود لتأريخهــم الطويل بالجــحود بالنبوة وكثرة شكهم وترددهم وايذائهم للأنبياء فالآية تحول دون تثبيط الهمم أو الإرتداد او التأثر السلبي بمواقف اليهود وفعلاً لو قرأت وقائع ايام النزول لوجدت اعراض الناس عن صــدود بني اسرائيل وعدم الإلتفات اليه.
كما تؤكد عظيم المسؤوليات التي يتحملها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والرسل مطلقاً في زعامة الأمم والأخذ بالنفوس نحو الهداية والرشاد ودعوتها الى سبل الجنة.
وفي الآيـــة بشـــارة لظـــهــور أمـر نبـــوتــه صـــلى الله عليه وآله وســـلم وانتصــاره على الكــافرين خصـــوصـــاً كما انها اخــبار عن انقياد الناس لرســالته وانتشـــار الإســـلام في بقاع الأرض خصــوصاً وان الآية جاءت بعد بيان انتصار داود بآية منه تعالى وميل الناس الجمــعــي له وتــولـيــه الملك واحتـــرازه بالحــكمــة والعــلم فضــلاً منه تعالى.
وتثبت الآية العصمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلاوة الآيات والإخبار عنه تعالى وتشهد باجتماع الفضائل والكمالات عنده وانه أفضل اهل زمانه.
كما تؤكــد امانته وصـــدقه وانه منـزه عن الكذب والإفتراء والتعـــدي، كما ان في الآيـــة اخباراً عن خــلافة محمد صلى الله عليه وآله وســـلم في الأرض من بعـــد الأنبياء والمرســـلين، وهي دعــوة للناس جميعاً للرجوع اليه والأخذ منه وتلقي ما ينزل اليه بالقبول والرضا والإمتنان، انه نعمة الله في الأَرض والواسطة بينه تعالى وبين البشر الى يوم القيامة فالإيمان برسالته يتعبد الناس، وتفيد الآية دوام الإكـــرام لخاتم النبــيــين صــلى الله عليه وآله وســـلم وتمام الحجة وغــايــة التشريف.
بحث بلاغي
الكلمة التي تكون في آخر الآية يطلق عليها رأس الآية والجمع رؤوس الآي، وتسمى ايضاً الفواصل ومنهم من شبهها بقافية الشعر وقرينة السجع.
ويمكن القول ان بين الفاصــلة القرآنية ورأس الآية عموماً وخصوصاً مطلقاً، فكل رأس آية هو فاصلة وليس العكس، فقد لا تكون الفاصلة رأس آية، فالفاصلة نوع تمهل ووقوف في الخطاب للبيان والإعجــاز والتنويه عن المســائل المســـتقلة في كل شطر من كلمات القــرآن من الفاصـــلة وما قبلها، ومنها بعد الفاصـــلة، فهي سميت فاصلة لأنها تفصل بين كلامين ولا يخلو من تسامح لأن الفاصلة ذاتها ليست برزخاً بين الكلامين بل هي جزء من الكلام الأول وبها يتم المعنى.
واستشهد على فواصل القرآن بقوله تعالى [ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ]( ) وقيل ان ختم كلمة القطع من الفاصلة بحروف المد والسين والحاق النون، ومن وجوه حكمته التمكن من التطريب به، ولكن مباحث اعجاز القرآن لا تنحصر ببلاغته بل تشمل تصريف الكلام وهيئته ومادته، ولكل منها دلالات خاصة كما ان مفاهيم البلاغة مغايرة للتطريب، والقرآن تسمعه القلوب وتعيه الإفهام قبل ان تصل النوبة الى طرب الإذن ونحوه.
قوله تعالى
[تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ] الآية 253.
الإعراب واللغة
ورفع بعضهم درجات: الواو: حــرف عطف، رفع: فعل ماض فاعله مستتر تقديره هو يعود لله عز وجل، بعض: مفعول به مضاف والضمير: مضاف اليه، درجات: منصوب بنزع الخافض أي: في درجات.
واعربها ابو البقاء بانها حال مؤولة من بعض أي: ذا درجات، وهو بعيد لأن الدرجات هنا لها موضوعية في الآية واعتبار في المعنى ولبيان عظيم فضــله تعالى على الأنبيــاء وعلــى اممهـم، ولم يعــربهــا النحاس المتــوفي سنة 338 في كتـــابــه (اعــراب القرآن) ولكــنه ذكــر عنــدها خبراً عن ابن عباس ان الآية تتعلق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
عيسى: مفعول به، ابن: بدل من عيسى، ويجوز ان يكون صفة له والأول اقرب لما فيه من الإعجاز، مريم: مضاف اليه.
البينات: مفعول به ثان وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم.
ولو شاء الله: الواو: استئنافية، لو: شرطية، شاء الله: فعل وفاعل، والمفعول محذوف اجتناب اقتتالهم.
ما اقتتل: ما: نافية، اقتتل الذين: فعل وفاعل، من بعدهم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول.
ولكن اختلفوا: الواو: استئنافية، لكن: حرف استدراك لا عمل له.
لأنها :
أولاً : واقعة بين مفردين.
ثانياً : مسبوقة بنفي.
ثالثاً : مجئ الواو معها فيكون العطف للواو وليس لها، فلو لم تكن معها الواو يكون العطف بها.
فمنهم من آمن: الفاء للسببية وهي التي تكون (ان) مضمرة بعدها وهذا المعنى غالب عليها اذا عطفت جملة على اخرى.
منهم: جار ومجرور.
من: اسم موصول مبتدأ مؤخر، آمن: فعل ماض وفاعله هو.
لكن الله: الواو استئنافية، لكن: حرف مشبه بالفعل اسم الجلالة اسمها، جملة يفعل خبرها.
ما: اسم موصول مفعول به، جملة يريد: صلة الموصول.
في سياق الآيات
بعدما جاءت الآيات السابقة بذكر قصة بني اسرائيل وما عانوه من الاذى والظلم وكيف ان الله عز وجل استجاب لهم على نحو متعدد ومتتالي لتتوّج بنصر حاسم وسريع وتترشح عن النصر آيات اضافية اخرى انتقلت هذه الآية لبيان حقيقة في فلسفة النبوة ومراتبها في اشارة الى بشارات النبوة بعد هذا النصر ولزوم التهيء لها بالقبول والرضا والتسليم.
فموضــوع الآية يقــود الناس جـرياً وانطباقاً الى الآتي في عالم النبــوة، فبعد ان اخبرهـــم نبيهم بان الله عز وجل بعث لهم ملكاً، جاءت الآيــة الأخرى ببعثــة داود جــامعــاً للنبــوة والملك، وهذا الإرتــقـاء عنــوان تفضــيل وهو متصل ليــأتي فيما بعــد داود بفترة رسول من الخمســـة أولي العزم مؤيـد بروح القدس، ومن بعده الرسول الذي فُضــل على الأنبــياء الآخــرين الخـــاتم محمداً صـلى الله عليه وآله وسلم.
إعجاز الآية
تبين الآية مراتب النبوة وان الأنبــياء ليسـوا على مرتبة واحدة واعتبار التفضيل بحاظ القرب منه تعالى وكيفية تلقي الوحي والتأييد والمدد الإلهي، وفيها اخبار عن قدرته تعالى في صرف النزاع والخلاف بين المذاهب والملل مما يدل بالدلالة التضمنية على الحكمة في الإبتلاء والإستدراج والإختبار كمناسبة لثواب المؤمن واستحقاق الكافر للعقوبة.
الآية سلاح
الآية حجة في تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على غيره من الأنبياء بلحاظ السياق والآيات الآخرى والبراهين ونزول القرآن عليه واجتماع الملك والنبوة والرسالة له، والآية عون للمسلمين في فهم فلسفة النبوة وواقية دون الشك او الريب الذي يبديه اليهود وغيرهم كما انها تزيد من انقياد المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من عند الله عز وجل.
مفهوم الآية
تدعو الآية الى الفهم السليم لمراتب النبوة وان تفضيل الأنبياء على عامة البشر بالوحي والأخبار السماوي وقد انعم عليهم بدرجات من الرفعة فأكرم عدداً منهم بآيات خاصة.
وتنبه الآية الى لزوم الأخذ بالبينات والتصديق بالمعجزات وعدم التفريط بها والتسليم بأمره وقضائه سبحانه، والآية دعوة للإيمان بالأنبياء على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي وعدم الوقوف عند نبي معين بلحاظ القومية او الآية المخصوصة لأن الآيات واسباب التفصيل متعددة.
بعد اختتام الآية السابقة بأمرين:
الأول: ان النبي محمدصلى الله عليه وآله وسلم رسول من عنده تعالى الى الناس جميعاً.
الثاني: ان الله عــز وجــل بعث قبلــه رســلاً متعددين الى أممهــم مبشــرين ومنذرين وبشرائع تدعو الى التوحيد واخلاص العبادة لله تعالى.
جــاءت هذه الآية بالتفصــيل الذي يظــهر شــرف الرسالة والتفضــيل الخالي من المفضــول، فكل رسول له أفضلية بموضوع الرسالة وحــده ويلحق به تفضيل واكرام اضافي بحسب زمانه ومسؤوليات النبوة، فالآيات الخاصة لبعض الأنبياء موضوع للرفعة والســمو لهم ولكـل الأنبياء والرســل وان لم ينالها الآخــرون لأنها فيض خاص بالرسالة، وهي ايضاً اكرام لبني آدم ولأتباع الرسل في الشرائع المتعاقبة.
وبعد ان بينت الآية سعة موضوع التفضيل ذكرت بعضاً من وجوه التفضيل بقوله تعالى [ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ] لتبين الآية ان التفضيل جهتي وان ما ذكرت الآية من وجوه التفضيل انما هو من باب المثال والفرد الأمثل والآية الخاصة، وقد لا تنحصر آية التفضيل برسول واحد فقد يتفضل بها سبحانه على أكثر من رسول، كما ان التفضيل لبعض الأنبياء لا ينحصر بآية واحدة فقد ينعم الله عز وجل على بعض الرسل بأكثر من آية ويصدق عليه تفضيل ايضاً اذ لا دليل على حق التفضيل بآية واحدة.
وهناك تباين بين الآيات، موضوعاً وكيفاً وأثراً واعجازاً وتحدياً وخرقاً للعادة، لذا ابتدأ بيان الآيات بقوله تعالى [ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ] للدلالة على عظيم آية تكليمه تعالى وصلاحيتها للتفضيل، وفيه اكرام لموسى بالاضافة الى اكرام عيسى وكل منهما من الرسل الخمسة أولي العزم وهؤلاء نالوا هذا العنوان للتفضيل الخاص والرتبة العالية.
ولكن ما هي المناسبة بين صدر الآية وذيلها، بين ذكر الرسل وتفضــيلهم وبين الاقتــتال والاختلاف الذي حصــل بين أممهــم فيما بعد، الجواب: ان الآية جاءت لبيان الحجــة واستيفاء اســباب الانذار والتبليغ وان الآيات كانت جلية واضــحة والبراهــين سـاطعة الا ان شـــطراً من الناس غلبت عليهــم النفس الأمارة بالسوء واختاروا الضــلالة والجحودولم يعجــزوا الله عز وجـل، ولكنها ســنة الله في الحياة الدنــيا كدار ابتـلاء وامتحان، ولتوكيد ان الآيات سواء كانت عقلية او حســــية فان موضــوعــها أعم من زمان حصــولها، وان الاجيــال المتعــاقبة بتلقــيهـــا تلـك الآيات ودلائل النبوة، فمنهم من تلقاها بالتسليم ومنهم من جحد وكــفر فكــفره لم يكــن عن جـهل وعدم وصــول التبلــيغ ومجــيء الرســل بالآيـات بل لاختياره الامتناع عن الايمــان، لذا ورد في قولــه تعــالى [ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَــا الَّذِينَ آمَنُوا صَــلُّوا عَــلَيْــهِ وَسَلِّمُوا تَــسْلِـيمًـا]( )، وفي قوله تعالى ورد في الخبر بأن معنى [ وَسَلِّمُوا تَــسْلِـيمًـا] أي التسليم له فيما ورد عنه.
وتبين الآية محل البحث جانباً من المعرفة الإلهية وفلسفة وأسرار الاختلاف بين الناس، وان اشراقات الرسالة ظاهرة في كل زمان بثبات أمة على الهدى، وان الايمان باق في الارض ويتخذ من تلك الآيات التي نزلت على الرسل واسباب التفضيل مادة لتعاهد قيم الاسلام ورسوخ الايمان في نفوسهم.
كما ترتبط بداية الآية مع خاتمتها، والبداية وتفضيل بعض الرسل انما هو جزء من فضله ومشيئته وارادته تعالى، فالخاتمة أعم وهي قاعدة كلية وهي بشارة لأنه سبحانه لا يفعل القبيح، وكل ما يفعله هو حسن ورحمة وفيض متصل، ومنه بعث الرسل والآيات التي أنعم الله عز وجل بها عليهم وعلى أممهم.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ تِلْكَ الرُّسُلُ ]
يشــار بـ(تلك) الى المؤنث البعــيد كما في قوله تعالى [ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ]( ) والمعروف ان المؤنث القريب يشار له بهذه ونحوها، واصل هذه ذه لحقتها ها للتنبيه، ولكن قد تستعمل تلك للقريب ويراد من استعمالها التفخيم كما في قوله تعالى [وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى]( ) وفيه دلالة على ما فيهــا من الدلالات والإعجاز وتضمن السؤال الإشارة الى ما فيها من الآيات كمقدمة لظــهورها، ولخلق حالة من الإستعداد عند موسى لما سيراه منها وقد تستعمل (تلك) للجمع القريب والبعيد وقد تفيد التفخيم وبيان الأهمية [ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ]( ).
لقد وردت (تلك) في القرآن احدى واربعين مرة، ويراد منها القريب والبعيد، والمفرد والجمع وكأن المراد جماعة الرسل وفيه نكتة عقائدية الى جانب البلاغية، فمن دلالات مجيئها ان الأنبياء والرسل متحدون في العقيدة والمبادئ والعمل ويشتركون في تلقي الوحي وان تفضيل بعضهم على بعض لا يضر باتحادهم في التفضيل وتوارثهم لمسؤوليات التبليغ والإنذار.
والأقوى ان المراد من الرسل جميعهم وان قيل من تقدم ذكرهم من الأنبياء كابراهيم وداود واسماعيل واسحاق ويعقوب وموسى، وهذا القول بعيد لأن سياق الآيات منفصل عن الآيات التي جاءت في بداية سورة البقرة او في النصف الأول منها ولم تثبت الحجة بان موضوع آية تتعلق بموضوع جاء في اكثر من مائتي آيــة سبقتها دون غيرها بالإضافة الى حجيــة اصــالة الإطلاق فلو تردد الأمر بين الإطلاق والتقييد فالأصل الإطلاق وان المراد كل الرسل.
وقال الأصم: تلك الرسل الذين ارسلهم الله لدفع الفساد وجاءت الإشارة اليهم بقوله تعالى [ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ ]( ).
ولكن كل نبي يجتهد في دفع الفساد والتباين نسبي بينهم وبحسب الحال والمجتمع، ثم ان الآية اعلاه لا تشير الى انبياء مخصوصين بل هي قاعدة كلية تبين سراً من اسرار الخليقة ووسيلة وفق المشيئة الإلهية لديمومة الصلاح في الإرض وعدم سيادة الباطل والرسول لغة هو المبعوث بأمر ما الى شخص او جماعة، وفي لسان العرب: معناه في اللغة الذي يتابع اخبار الذي بعثه اخذاً من قولهم جاءت الإبل ترسلاً أي متتابعة.
والرسول في الإصطلاح هو النبي المبعوث بشريعة مبتدأه والرسول اخص من النبي، فكل رسول هو نبي وليس العكس( )، ومادة الإلتقاء بينهما هي نزول الوحي والأخبار عنه تعالى من غير واسطة احد من البشر وجاءت الآية بصفة الرسل وارادة الخاص من الأنبياء ولكنها لا تعني انحصار موضوعها بالرسل دون الأنبياء او انهم خارجون بالتخصيص او التخصص لأنهم ليسوا برسل فالظاهر ان الآية تستغرق الأنبياء والرسل جميعاً بلحاظ الرسالة والبعثة منه تعالى وفي الآية نوع اكرام للأنبياء جميعاً بشمولهم بعنوان الرسالة.
والآية دعــوة للإيمــان بالأنبيـاء والرســل على نحــو العمــوم المجموعي فلا يجوز الإيمان ببعض والكفر بالبعض الآخر فلابد من التسليم بان كل واحد منهم رسول من عند الله تعالى وهذا التسليم مقدمة للإيمان بالرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه رحمة اضافية على بني اسرائيل بتهيئة اذهانهم ومجتمعاتهم لبعثته صلى الله عليه وآله وسلم وفيها تنبيه ودعوة للمسلمين لإكرام الرسل والأنبياء جميعاً.
تفسير قوله تعالى [ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ]
بعد المدح والإكرام الإلهي للرسل بتفضله بالأخبار بانهم مبعوثون من عنده بدليل وصفهم بانهم “رسل” جاءت آية التفضيل، وهذا السياق في الآية لمنع التمييز بين الرسل او التفريق بينهم من جهة الإيمان والتسليم بما جاءوا به، فكل ما جاءوا به هو فضل الهي ونعمة ورحمة وتشريف لهم وللإنسانية بواسطتهم.
ولكن التفضــيل فيما بينهم يتــعلق بالآيــات التي رزقها الله لكل منهم وبحســب الزمان والحال والمناســبة ولطفـه ومشــيئته تعالى، والإخــبار عن التفضــيل بعد توكيد صــفة الرسالة لهم والشـــهادة القرآنية النازلة عنده تعالى بها اعجـــاز قرآني يمنع من التفريط باي آية جاء بها الأنبياء وهي اخبار عن تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان درجته ارقى من غيره في دعوة الى الناس جميعاً للإيمان برسالته.
وفي الآية دعوة الى دراسة قصص الأنبياء ومعرفة وجوه التمييز بينهم بلحاظ الآيات التي جاءوا بها، أي ان الأخبار عن التفضيل فيما بينهم مدرســة كلامية ومصــداق من الإرادة التكــوينية يبين عــظيم فضـله تعالى والآيات الباهرات المتعددة التي جاء بها الأنبياء لأممهم وللناس جميعاً.
فهذه الآية دعوة للتحقيق واستظهار المسائل واستنباط الأحكام واستخراج العبر والمواعظ من قصص الأنبياء والإعتبار من سنن الأنبياء، انها منع للغفلة وحث على عدم ترك الإنتفاع من هذه الثروة العقائدية والفكرية والأخلاقية والعقائدية والإصلاحية التي ليس لها مثيل في التأريخ.
ويجب ان لا ينظـر الى موضــوع التفضــيل بخصــوص درجات الأنبياء بل هو دليل على عظيم قــدرته تعالى وانه يهب المتعدد من الآيات تلــو الآيات وبعضها يختلف عن البعض الآخر وهذه ارقى واعظم من تلك كما يظهر في التفضيل لبيان تكليمه تعالى لبعضهم او تأيــيده لعيــســى بـروح القدس او لتشــريفــه لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعدد الآيات النازلة عليه والتقائها عنده رحمة بالناس وعزاً للمسلمين واعانة لهم على تعاهد الشريعة الباقية الى يوم القيامة.
والآية تبين ان التفـضــيل بين الأنبيــاء مســــتمر ويتــجـلى بعظــم وكــبر الآيات والبراهين الـتـي يأتون بها ليكون خاتمهم افضلهم واعظمهم آية قال تعالى [ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا]( ).
وقد انفرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن الذي تحدى الله عز وجل الخلائق بالإتيان بسورة من مثله، وهذا التحدي لا ينحصر باهل زمان دون غيرهم لأن الآية القرآنية حية حتى يوم القيامة والقرآن معجــزة عقلية اثبتــت ووثقت معجــزات الأنبياء التي انقضت بزمانها ولم يبق الا الإعتبار بها وذكرها من خلال القرآن وذلك من اعجاز وفضل القرآن الغيري فهو حافظ سماوي لآيات الأنبياء وشاهد على رسالاتهم وسبب لذكر المسلمين وغيرهم لهم بل والإقتداء بهم وبسننهم الشريفة.
فالآية تهذيب لأخلاق المسلمين وارشاد للخصال الحميدة والسلوك الحسن بما يترشح من الإطلاع على سيرة الأنبياء ومواضيع تفضيلهم على الناس ثم تفضيل كل منهم على الآخر لأن الإطلاع ليس مجرداً خالياً من الفوائد، بل هو دراسة قرآنية وقراءة ايمانية بروح الإعتبار والتعلم ونية الأتباع فكل مسلم ينظر الى الأنبياء على انهم القادة والسادة الهداة.
وهذه الآية الكريمة تدل على ما جاءوا به من عند الله وهو ملك للمسلمين قال تعالى [ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ ]( ) وما دام التفضيل بلحاظ الآيات فان هذا التفضيل مناسبة كريمة لإحصاء آيات الأنبياء والحرص على الإتعاظ بها كما انها دعوة للتقوى ومحاسبة النفس بعرض العبد لأعماله على سنن وهدى الأنبياء وما جاءوا به من الآيات.
فمن رحمته تعالى ان الإنسان يتخذ هذه الآيات موضوعاً لمحاسبة النفس، فالإنسان حينما يحاسب نفسه يحتاج الى قانون ونظام يهتدي به ويقيس اعماله وفق فصولها، لتستطيع النفس اللوامة الإهتداء للأفضل والأحسن بما فضل الله عز وجل به الأنبياء والرسل وورد في الحديث: “حاسبوا انفسكم قبل ان تحاسبوا، وزنوها قبل ان توزنوا، فان الناقد بصير”.
فلقد اقام الله عز وجل الحجة علينا بالقرآن وما فيه من الآيات والدلالات وقصص الأنبياء والدروس المستقرأة وما يمكن اقتباسه منها مما يلائم الوقائع والأحداث في كل زمان.
فهذه الآيات ووجوه التفضيل نعمة على بني اسرائيل وعون لهم للتبصر بامور دينهم ودنياهم واتمام للحجة عليهم، وهي نعمة عظيمة على المسلمين الذين استطاعوا تعاهدها وتوظيفها في حياتهم واعمالهم ويجعلونها نبراساً وضياء يهتدون به.
وبعض الشــيء الطائفة والجــزء والقسم منه واختلف في اضافة الألف واللام الى بعض، وذهب اليه الزجــاجي واعتبره من المجاز، وانكر الأصمعي بشدة دخول الألف واللام في بعض وكل، فلا يقال البعض، والكل لأنهما معرفة، واستشهد بقوله تعالى [ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ]( ).
وقال ابو حاتم: ولا تقول العرب الكل ولا البعض، وقد استعمله الناس حتى سيبويه والأخفش في كتبهما، ولكنه يدل على استعمال النحويين للبعض والكل بالألف واللام، وقال هشام: ان بعض الشيء كله واستدل بقول لبيد:
او يعتلق بعض النفوس حمامها
ولكن القدر المتيقن ارادة نفسه كأنه اني اسعى في طلب الرزق والكسب، اما احصل على ما ابتغيه من المال ونحوه او يحل بساحتي الموت.
(لذا قال ابو العباس احمد بن يحيى ان البعض شيء من الأشياء او شيء من شيء)( ).
والآية الكريمة تدل على الجزئية بدليل حرف الجر (على) الذي يفيد الإستعلاء ووجود المائز بين الطائفة والاخرى من الرسل وما يدل على المغايرة والتعدد بين الفاضل والمفضول وان كان التفضيل جهتياً وبآية مخصوصة.
وفي قصة مؤمن آل فرعون ورد قوله تعالى [ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ]( )، ان موسى وعدهم بامرين: عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، وان مؤمن آل فرعون اخبرهم عن تعرضهم لعذاب الدنيا من غير ان ينفي عذاب الآخرة.
وقال الليث: المراد يصبكم الذي يعدكم، وقيل: أي يصبكم كل الذي يعدكم لأن الرسل وعدهم غير مكذوب، وقال أبو إسحق في قوله تعالى [ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ]: من لطيف المسائل أن النبي صلى الله عليه وسلم، إذا وعد وعدا وقع الوعد بأسره ولم يقع بعضه ، فمن أين جاز أن يقول بعض الذي يعدكم وحق اللفظ كل الذي يعدكم ؟ وهذا باب من النظر يذهب فيه المناظر إلى إلزام حجته بأيسر ما في الأمر وليس في هذا معنى الكل وإنما ذكر البعض ليوجب له الكل لأن البعض هو الكل، ومثل هذا قول الشاعر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
لأن القائل إذا قال أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض الحاجة ، وأقل ما يكون للمســتعجل الزلل، فــقد أبان فضـل المتأني على المستعجل بما لا يقــدر الخصــم أن يدفــعــه، وكأن مؤمــن آل فــرعون قال لهم : أقل ما يكــون في صــدقـه أن يصــيبكــم بعض الذي يعدكـــم، وفي بعض ذلك هــلاكــكم ، فهذا تــأويل قــولـه تعالى [ يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ]( ).
ولكن الكلام العربي يحمل على ظاهره ولا تصل النوبة الى وضع قواعد كلية ثم تأويل الكلام بحســبها، كما ان ابــيات الشعر التي استشهد بها القائلون بان بعضاً هو كل، ويمكن حمله على الطائفة والجزء من الشيء وهو الأقرب، والظاهر فانها تبين مسألة في علم الكلام وهي ان رحمتــه تعالى اوســع واعظم من رحمة النبي للناس، وان الوعد وان كان صادراً من موسى وهو كليم الله الا ان رحمته سبحانه سبقت غضبه، وان الآية تبين فضل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بانه لم يدع بالوعيد وتعدد العذاب لذا سماه الله عز وجل [ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ) ومن معاني بعض العذاب عدم استغراقه للمتخلفين والمقصرين جميعاً، فمنهم الجاهل والمستضعف والذي يكتم ايمانه، وقد يكون العذاب تدريجياً وبعضهم يؤمن مدته والله واسع كريم.
بحث بلاغي
التنوين نون تثبت لفظاً لا خطاً، وهو على اقسام منها:
أولاً : تنوين التمكين: وهي التي تلحق الأســماء المعــربة كما في قوله تعالى [ فِئَةً كَثِيرَةً ]( ).
ثانياً : تنويــن المقابلــة: وهو اللاحـق بجمع المؤنث السالم كما في قوله تعالى [ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ]( ).
ثالثاً : تنوين التنكير: وهو اللاحق لأســماء الأفعال للتمييز بين معرفتها ونكــرتها، واسم الفعل كلمـة تدل على ما دل عليه الفعل ولكنها لا تقبل علامته وتصريفه فهو يدل على الحدث، وبلحاظ اوانه وزمانه، ولأنه لا يقبل علامات وتصاريف الفعل فانه يبقى على صيغة واحدة لجميع الأشخاص ويقسم الى المرتجل والمنقول والمعـدول وســيأتي بيانه، ومن المرتجــل اف، وهو اسم فعل مضارع بمعنى اتضجر وفيه لغات هي افَّ، افٍّ، افاًَ، افٌ، افٍ، افّ، افّي بالإمالة، افَ، افّة، ويعتبر من اقسام تنوين التنكير في قراءة من نونه.
رابعاً : تنـــويــن العــوض: ويكــون عــن حــرف آخــر كفــاعل المعتــل نحو [ وَالْفَجْــرِ وَلَيَــالٍ ]( ) او عــن اسم مضـــاف الــيه [ كُــلٌّ لَـهُ قَانِتُونَ ]( ).
قوله تعالى [ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ]
الآية بيان لأحد مصاديق التفضيل والتشريف لبعض الأنبياء وهو تكليمه سبحانه له كما في موسى قال تعالى [ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا]( ).
ووردت الآية بلفظ حرف الجر (من) وهو يفيد التبعيض والجزئية وارادة طائــفة من الرســل ويصــدق على الواحد ايضــاً كما تقول ذهبت بعض اصابعه (لأن بعض الأصابع يكون اصبعاً واصبعين واصابع)( ).
ومع هذا فان الأخــبار القرآني عن تفضــله تعالى بتكليمــه موسى لا يعني ان التكليم انحصــر به عليه الســلام، لأن اثبات شــيء لشـيء لا يدل على نفيه عن غيره، وقد ورد قوله تعالى [ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ]( ) ولكن التلقي اعــم من التكــليم، كما ان التكــليم ليس مباشراً من غير وســـيلة بدليل قوله تعالى [ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ]( ) والشــــطر التـــالي من الآيــــة ورفـــع بعضــهم درجات اشارة الى عدم انحصار التكليم، والرفع لم ينحصــر بواحــد من الأنبيــاء ومــع هـــذا جــاء الأخــبار بصيغة التبعيض.
ومنهم من قال ان التكليم هو الوحي، وصحيح ان الوحي سور جامع لكل الأنبياء فكل نبي يتــلقى الوحي من عنده تعالى ولكن التكليم اخص وهو من الوحي الا انه مرتبة تشـــريفية رفيعة، فبين الوحي والتكليم عمــوم وخصوص مطلق، فكل تكليم هو وحي وليس العكس، ولقد كان تكليــم موسى من وراء حجاب وهو سبحانه منزه عن المحل والجهــة ولا يتكلـم بآلة كما ورد في التنزيل مجــيء موسى الى النار [ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
والآية تبين فضل موسى لثبوت التكليم له وهو من الرسل الخمسة اولي العزم ومن الإعجاز ان التكليم جاء على نحو التنكير من غير ذكر اسم الرسول الذي كلمه الله وان كانت الآيات الأخرى والنصوص تبين ان موسى كليم الله، بينما جاء الشطر اللاحق بذكر عيسى على نحو الخصوص وبالإسم.
بحث كلامي
لقد قسمت الصفات التي تنسب اليه تعالى الى صفات ذاتية وفعلية، وكل واحدة منها تدل على الكمال الوجودي اللامتناه الخالي من النقص او المحدودية وتدل على التنزيه المطلق من غير ان يضر بها استعمالها في الممكنات ومن غير ان تكون أي من الصفات امراً زائداً على الذات او مغايراً لها.
والصفات الذاتية هي المنتزعة من مقام الذات التي تدل على وجه من وجوه الكمال الوجودي المطلق وتؤكد انحصار وجوب الوجود به تعالى.
وذهب جماعة من المعتزلة الى نفي الصفات عنه تعالى واعتبروا اضافتها للباري عز وجل نوع مجاز، ولكنه يتعارض مع نسبة الكمالات له تعالى خصوصاً ان بعض العلماء قال بان القرآن خال من المجاز وان المجاز كذب وان كنا نقول بخطأ هذا القول وان المجاز ليس كذباً، ولعل المعتزلة اعتمدوا ما نقل عن امير المؤمنين عليه السلام: كمال التوحيد نفي الصفات عنه.
ويمكن حمــل كلامهم على ارادة نفــي الصـفات الزائدة على الذات، او لأن ذكر الصفات امر عقلي مستقرأ من النظر الى احد الكمالات الإلهية الوجودية لأن وجوب الوجود بسيط ومتحد لا يقبل التجزئة او الإثنينية وذكر الصفات مفاهيم عقلية واقتباس وبيان تفصل لوجوه العظمة والكمال اللامتناه لمصداق واحد سرمدي ابدي ازلي، والموحدون جميعاً متفقون على الوحدة والبساطة في الذات الإلهية، فالنزاع لفظي.
وقال الأشاعرة بان الصفات الإلهية خارجة عن الذات وهي غير مخلوقة وان كلامه سبحانه معنى قديم قائم بذاته، وليس هو بحرف ولا صوت ولا امر ولا نهي ولا خبر وسمي بالكلام النفساني، لأن الكلام اللفظي حادث وزائد على الذات فهو قديم عنده تعالى، وحادث عند الإنسان.
ومنهم من قال بانه سبحانه متكلم بلسان وشفتين، وهو سبحانه منزه عن الجسمية وورد في نهج البلاغة عن امير المؤمنين عليه السلام: الذي كلم موسى تكليماً واراه من آياته عظيماً، بلا جوارح ولا ادوات ولا نطق ولا لهوات.
اما الصــفات الفعلية فهي المنتزعة من مقام الفعل فكل ايجاد خارجي لمخلوقاته هو صفة فعلية للدلالة على تعلق وجود جميع الخلائق وماهياتها جواهر واعراضاً تتعلق به سبحانه فتنتزع مفاهيم الخالق والمبدع والرازق.
ويمكن اعــادة الصــفات الفعلية الى الذاتية، فصفة الرازق تعني القــدرة على الإعطــاء والإيجــاد فهو القادر فتعود الصفات الفعلية حينئذ الى الصفات الذاتية وهكذا بالنسبة للفاطر والمبدع.
والكلام لغة هو حروف مسموعة منتظمة من الفاظ تفيد معنى معين ويتخذه الإنسان وسيلة لتوضيح مراده وافهام المخاطبين بما يريد، وفي الكلام ثلاثة اطراف:
الأولى : المتكلم.
الثانية : الكلام.
الثالثة : التكلم.
لذا لابد من اعتباره من الصفات الفعلية ويمكن اعادته الى الصفات الذاتية بلحاظ ارجاع الكلام الى القدرة خصوصاً وانه تعالى يخلق الأصوات في الأجسام، وقيل ان معنى المتكلم هو ايجاد الكلام في جسم من الإجسام، ولقد اجمع المسلمون على انه تعالى متكلم كما اجمعوا بان الكلام ليس هو القدرة او العلم ولكنهم اختلفوا اختلافاً كبيراً في معنى وكيفية كلامه تعالى وهل هو قديم ام حادث وطريق اثباته حتى سمي علم الكلام به.
وقال المعتزلة ان صفة الكلام تثبت له تعالى بالسمع كما في قوله تعالى [ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا]( ) والآية محل البحث، اما الأشاعرة فقالوا انها تثبت بالعقل كما اختلفوا فيما تقوم به صفة الكلام على قسمين:
الأول: قول الأشاعرة ان الكلام صفة قائمة بذاته تعالى لأنهم يقــولون بانه متكلم بالمعنى وانه معنــى واحــد ليس بأمـر ولا نهي ولا خبر.
الثاني: الذي ذهب اليه القائلون بانه عبارة عن حروف واصوات مفهومة، هؤلاء اختلفوا ايضاً فيما بينهم، فالحنابلة والكرامية( )، قالوا انه قائم بذاته وان التكلم بالحرف والصوت.
اما الإمــامية والمعتزلة فقـــالوا انه قائم بغيره لا بذاته واســتدل بصدور كلامه ســبحانه الى موسـى بواسطة الشــجرة أي انه سـبحانه فعل الكلام وانه سبحانه قادر على كل مقدور ومن قدرته ان يخلق الأصوات في الأجسام بما يدل على المراد كما اختلف المتكلمون في قدم الكلام وحدوثه، فقال الأشاعرة بقدم المعنى، وقال الحنابلة بقدم الحروف.
وقال المعتزلة بالحدوث وهو الأنسب لأنه يأتي في احقاب الزمان والوجود الحادث والله تعالى منزه عن الحوادث فلا يكون محلاً للحوادث، نعم الكلام صادر من عنده تعالى كصدور الضياء وعن الشمس، والقائل بالحــدوث اشــكل على القائل بالقدم بانه يلزم تعدد القدماء.
وقال العلامة: وهو باطل، لأن القول بقدم غير الله كفر بالإجماع، ولهذا كفرت النصارى لإثباتهم قدم الا قنوم( )،
ولكنه قيــاس مع الفـارق فان الأقنــوم يفيد التعدد، اما القــائل بقدم الكــلام فبلحــاظ انه صــفة للـذات المقدســة وليس هــو من الكفر او الشــرك انمـا هــو مـــن الإختــلاف والإجتــهاد في التــأويل والتفــســير.
وفي الآية الكريمة تشريف لموسى لأن الله عز وجل كلمه وهذا التشريف حجة على بني اسرائيل في لزوم الشكر له سبحانه بالجهاد في سبيله والإلتزام باحكام الشريعة التي جاء بها موسى واطاعة الله باتباع من بشر به موسى من بعده وهو عيسى ثم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين والذي جاء بالآيات التي تثبت صدق ثبوته، كما انها تمنع من تفضيل موســى على النبي محمــد صلى الله عليه وآله وسلم بسبب التكليم لوجوه:
الأول : ان التكليم جاء على نحو الإجمال في الجزئية والتبعيض وليس على نحو التعيين والتخصيص وظاهره اعم من القضية الشخصية ولا ينحصر بموسى الا بدليل خاص مقيد سواء من الكتاب او السنة.
الثاني : ان الآية الكريمة تشير الى ان التكليم قسم من اقسام التفضيل فيما بين الأنبياء و لا يعني ان الذي كلمه الله عز وجل هو افضل الأنبيــاء بدليل ذكر المصــاديق الأخرى للتفضيل في الآية الكــريمة كرفع بعضهــم درجات والتأييد بروح القدس وغيرها الا ان يرد دليــل خاص بان التكليم هــو اشــرف اقسام التفضــيل بين الأنبيــاء وهو مفقـود والتحقــيق بخلافه فان الأفضلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بامور عديدة.
الثالث : لقد ورد ذكر التفضــيل في بداية الآيــة على نحــو القاعدة الكلية والقضية المهملة ثم جاء البيان الذي يفيد المثال وليس الحصر.
الرابع : تدل الآية على وجود وجوه عديدة للتفضيل بين الأنبياء وهي دعوة لتلمسها في القرآن والسنة ومعرفة ما رزق الله عز وجل بعض الأنبياء من المعجزات والكرامات كما في اتيان العلم والحكمة والنجاة من الظالمين واتباع الناس للنبي.
الخامس : الآية السابقة تفيد تفضيل داود بقتله لجالوت واتيانه الملك والحكمة مما يدل على ان التفضيل متعدد.
السادس : ان الله عز وجل واسع كريم ونعمه تترى على الناس جميعاً وعلى الأنبياء بصورة خاصة لأن نعمه الخاصة على الأنبياء ينتفع منها الناس جميعاً.
السابع : انه سبحانه اذا انعم نعمة على اهل الأرض فانه اكرم من ان يرفعها عن الأرض، والمعجزة والكرامة التي تكون عند الرسول فانها قد تكون عند الذي يأتي من بعده وقد شرف الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالأسراء والعروج به الى السماوات العلا لينال الرفع الوارد في الآية والتكليم كما في النصوص.
الثامن : لقد جاء التفضيل في الآية بعنوان النبوة والمعجزة وليس بالعنوان الشــخصي، وهو امــر خاص بالأنبياء وما لهم من عند الله والتفاخــر بما عند انبياء بني اسرائيل حجة على اولئك الذين يتخذون هذا التفضيل للتفاخر والتباهي امام الأمم الأخرى لأنه صغرى بالنســبة للكبرى وهي بعثة الأنبياء وانهم لا ينحصـــرون ببني اســرائيل وان آيات النبوة متصلة وفي ارتقاء وان التفضيل لا ينحصر بمصداق واحد فمن الغايــات الســـامية في هـــذه الآية الإيــمان بالأنبــياء جمــيعاً من غير تفريط ببعضــهم خصـــوصــاً اللاحق بعــد السابق، لأن هذا التــفريط يــؤدي الى تفـويت وجه من وجوه التفضيل.
التاسع : ان الذي فضل الله عز وجل به بعض الأنبياء جعله الله عز وجل عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكما انه خاتم النبيــين فهو الجامــع للآيات والمعــجزات والبراهــين التي جــاءوا بها لإقامة الحجــة على الناس ولإعانتهــم على اســباب الهداية ولقطع الطريق اما اهل الجحود والشك والريب.
العاشر : اسباب تفضيل الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة ومتعددة منها معجزة القرآن الخالدة وبعثته للخلائق كلها وان شريعته هي الناسخة والباقية الى يوم القيامة.
الحادي عشر : اذا كان التفاضل بين الرســل بالآيات الحســية فان تفضيل الرســول الأكــرم محمد صـلى الله عليه وآله وسلم جاء بالآيات العقلية والحسية، والأولى اشرف واسمى وارقى وابقى.
الثاني عشر : تبين الآية ما لاقاه الأنبياء من الأذى مع انهم اشرف الناس واعلاهم منزلة عند الله عز وجل باستحضار اذى قومهم لهم وعدم تصديقهم.
الثالث عشر : الآية دعوة للمسلمين للإيمان بالأنبياء والرسل جميعاً وهذا من تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الباقين وتفضيل امته على الأمم السابقة، فالنبوة واكرام الرسل لم يحفظ الا بالإسلام وما جاء في القرآن ومن وجوه التفضيل دين الإسلام لشريعة متكاملة وعدم حاجة الناس بعدها الى شريعة اخرى.
الرابع عشر : هناك نصوص كثيرة في السنة تدل على تفضيله صلى الله عليه وآله وسلم، روى البيهقي انه ظهر علي بن ابي طالب من بعيد فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا سيد العرب، فقالت عائشة: ألست انت سيد العرب؟ فقال: انا سيد العالمين وهذا سيد العرب، أي انه صلى الله عليه وآله وسلم افضل الناس جميعاً ومنهم الأنبياء وبه بلغت الكمالات الإنسانية ذروتها فهو سيد الكائنات.
الخامس عشر : التفضيل بين الرسل لا يعني التخيير بينهم فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : “لا تخيروا بين الأنبياء”، فالتفضيل بينهم عنوان القدرة الإلهية وعظيم الرحمة والرزق الكريم الذي تفضل به على بني آدم.
السادس عشر : التفضيل اعم من ان ينحصر بالحياة الدنيا فيشمل منازل الآخرة وهو الأهم، وقد ورد في باب الشفاعة نصوص تدل على انفراد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالتصدي للشفاعة يوم القيامة، وعن سماعة عن الإمام الصــادق عليه الســلام: “إنه ســئل عن شــفاعة النــبي صلى الله عليه وآله وســلم يوم القيامـــة فقال أملج الناس يوم القيامة العرق فيقولون إنطـــلقوا بنا إلى آدم يشـــفع لنا فيأتون آدم فيقولــون له إشفع لنا عند ربك فيقول إن لي ذنب وخطــيئة فعليكم بنوح فيأتون نوحا فيردهــم إلى من يليه ويردهم كل نبي إلى من يليه حتى ينتهوا إلى عيسى فيقول عليكم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله فيعرضون أنفسهم عليه ويســألونه فيقــول إنطلقوا فينطــلق بهم إلى باب الجنة ويستقبل باب الرحمن ويخر ساجدا فيمكث ما شاء الله فيقول إرفع رأسك وإشفع تشفع وسل تعط وذلك قوله تعالى [عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا]”( )( ).
السابع عشر : وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة، والمراد من دونه بلحاظ الزمان واوان البعثة وليس الرتبة والدرجة، فالحديث يدل على ان كل الأنبياء والرسل تحت لواء الحبيب يوم القيامة كما يشمل التفضيل منازل الآخرة فانه يتعلق باصل الخلق.
الثامن عشر : النبوة لطف وكذا الإمامة وقد يجتمعان عند بعض الرسل وقد اجتمعا عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بابهى واسمى صورة تجلت بالرئاسة العامة في امور الدين والدنيا ودعوة الناس جميعاً للإسلام.
التاسع عشر : من آيات التفضيل الحسية للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الإستجابة لدعوته خلال سنين معدودة من قومه ومن غيرهم وانتشر الإسلام بالفتح والحكمة والآيات، وكان شطر من القبائل تأتي ابتداء لتعلن اسلامها عندما يبلغها خبر الآيات والمعجزات التي جاء بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
العشرون : لقد لاقى من الأذى ما لم يلقه احد من الأنبياء وهو نوع تفضيل في باب الصــبر والتحــمل، ومع هذا فمن وجوه تفضــيله صلى الله عليه وآله وسلم الصرفة أي ان الله عز وجل صرف عنه التأثير السلبي الضار لشرور اهل الكفر والشرك.
الحادي والعشرون : من وجوه التفضيل اصل الخلق وبداياته وقد وردت النصوص بتوكيد تقدم خلقه صلى الله عليه وآله وسلم ففي خبر سفيان الثوري عن الإمام الصادق عن آبائه عن علي عليه السلام: ان الله تبارك وتعالى خلق نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل ان يخلق السماوات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار وقبل ان يخلق آدم ونوحاً.
الثاني والعشرون : عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خلقني الله نوراً تحت العرش قبل ان يخلق آدم باثني عشر الف سنة فلما ان خلق الله آدم القى النور في صلب آدم فاقبل ينتقل ذلك النور من صلب الى صلب حتى افترقنا في صلب عبد الله بن عبد المطلب وابي طالب، فخلقني ربي من ذلك النور لكنه لا نبي بعدي.
الثالث والعشرون : ويكون التفضيل بالمبادرة الى الإيمان وقد ورد الخبر عن الصادق عليه السلام: ان بعض قريش قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأي شيء سبقت الأنبياء وفضلت عليهم وانت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: اني كنت اول من أقر بربي جل جلاله، واول من اجاب وحيث اخذ الله ميثاق النبيين واشهدهم.
الرابع والعشرون : من التفضيل والإكرام الخاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ان الأنبياء السابقين بالدعوة له والتبشير بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم ومن يدعى افضل من الداعي.
الخامس والعشرون : من الشواهد الظاهرة للعيان في هذه الأزمان ان الإسلام لا ينفصل عن السياسة، وانه حاضر في كل الميادين بينما تجد الملل الأخرى لم يبق منها في حقول السياسة والزعامة الا الاسم فقط وتراجعت احكام الدين وانحصرت باماكن العبادة.
السادس والعشرون : لقد كانت الأنبياء تترا وتتوالى وربما يكون اكثر من نبي في زمان واحد وبلدة واحدة، اما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه جاء على حين فترة من الرسل وقد صاح وولول ابليس عندما اشرقت انوار بعثته على الأرض، وعن الإمام جعفر الصادق ومن ابليس اربع رنات، او لهن يوم لعن وحين اهبط الى الأرض، وحين بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم على حين فترة من الرسل، وحين انزلت ام الكتاب، ونحن نخر نخرتين حين اكل آدم من الشجرة وحين اهبط من الجنة( ).
السابع والعشرون : لقد شرف الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذكر اسمه مع اسم الله عز وجل في الأذان ليكون شعاراً للمسلمين في كل بقاع الأرض وهو مصداق من مصاديق قوله تعالى [ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ]( ).
الثامن والعشرون : ان الإسلام ناسخ للأديان الأخرى والناسخ افضل من المنسوخ لأن الفاضل لا ينسخ الا بما هو افضل دائم واكمل منه.
التاسع والعشرون : منزلة النبي صــلى الله عليه وآله وســـلم يـوم القيامة وشــفاعته وحمله للــواء الحمد، وعن جابر بن عبد الله عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “انا قائد المرســلين ولا فخر، وانا خاتم النبيــين ولا فخــر، وانا اول شــافع ومشــفع ولا فخــر”( ).
وروى ابو داود عن ابي كعب ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اذا كان يوم القيامة كنت امام الأنبياء وخطيبهم وصاحب شفاعتهم من غير فخر، وانا اول من يحرك حلقة الجنة فينفخ لي فادخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وانا اكرم الأولين والآخرين ولا فخر.
الثلاثون : تدل الآية على تفضــيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على داود فان الســنة النبوية الشــريفة التي هي فرع الوحــي وعنوان العصمة جاءت بما يدل على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليه، روى البرقي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وســـلم اعطيت خمساً لم يعطها احد قبلي جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، ونصرت بالرعب، واحل لي المغنم واعطيت جوامع الكلم، واعطيت الشفاعة”، فداود تفرد باحـــدى هذه الخصـال وانتصــر بالمقلاع على جالوت، والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم نصره الله عز وجل بقذف الرعب في قلوب اعدائه قبل ان يصــل اليهم، والشـواهد التأريخية في هذا الباب كثيرة وظاهرة.
قوله تعالى [ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ]
الرفع خلاف الوضــع ويتــعلق الرفع بالأجســام وحركتها الى الأعلى يقال رفعته فارتفع والفاعل رافع، وقد يرد بالمعاني والمفاهيم فيكون بحسب الحال، فرفع عمله أي قبله، وفي الحديث رفع القلم عن ثلاثــة عن الصــبي حتى يبلغ والنــائم حتى يستــيقظ والمجنــون حتى يفيق، والمراد بالرفــع هنا عدم ترتب العقاب في الآخرة.
ومن اســمائه تعــالى (الرافع) وهــو الذي يرفــع المؤمــنين ويعــزهم في الدنيــا ويرفع درجــاتهم في الآخرة، وهو الذي رفع الأنبياء في النشأتين وتبوأوا مقامات زعامة الأمم وارتقوا في عالم السماء بدليل هذه الآية.
والرفع في الآية على قسمين:
الأول: الرفع المادي والإرتقاء وفي عالم السماء كما في اسراء ادريس وهو اول نبي عرج به الى السماء وبطلب منه حمله الملك الذي كان يصعد له عمله على جناحه.
ورفع الله عز وجل ابراهيم من على صخرة بيت المقدس، وسخر الله عز وجل لسليمان الريح تنقله الى الأماكن البعيدة، وفي القرآن اشارة الى معراج مستمر للسيد المسيح وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ … ويظهــر فضــل النبــي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإسراء وبلوغه المراتب العالية في السماء ورؤيته الآيات الباهرات في السماوات العلا وتلقيه الأحكام هناك وصلاته بالأنبياء، وهو عنوان تفضيل مادي ومعنوي.
الثاني: رفع المنزلة والدرجة والإرتقاء والعلو في مراتب النبوة وعلومها والشأن كما في قوله تعالى نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
وهذا الرفع ينقسم الى ثلاثة أقسام:
أولاً : المنزلة في الدنيا.
ثانياً : في الآخرة.
ثالثاً : الرفع الجامع لهما أي في الدنيا والآخرة.
وكل واحـد من هــذه الأقسام ينشــطر الى عــدة اقســام بحســب الجهة وموضــوع وماهــية وكيفــيـة الرفع، وهو مــن الكــلي المشكك الذي له مراتــب متفاوتـة بذات الجهة والكيفية الواحدة، ففي الدنيا وجـــوه الأتبـــاع وكثــرة الآيـــات التي يأتــي بهــا ونحــوهــما، وفي الآخــرة حــق الشـــفاعــة والمنــزلــة الرفــيعــة في الجــنــان والقــرب مــنـــه تعــالى.
ومن الجامع الرفعة والإكرام الخاص في الدارين ولفظ (الدرجات) جاء على نحو التنكير والإبهام، ولكن معناه ظاهر لدلالته على المقارنة والتباين في المنزلة وفيه دعوة لمتابعة منازل الأنبياء ودراسة قصصهم وتتبع مراحل علو شأنهم وما عانوه مع قومهم والعلل المادية المستقرأة في رفعهم درجات وما هي آثار ومزايا هذا الرفع عليهم في الدارين وعلى اممهم واتباعهم ومعرفة مقدار ومدى درجات كل منهم وكيف ان الرفع في تصاعد وزيادة الى ان انتهى عند الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فهو ارفعهم درجة.
والآية مدح للرسل وثناء عليهم ودعوة الى اكرامهم وتعظيم شأنهم ومعرفة ما لهم من المنزلة الرفيعة عند الله عز وجل، وما نالوه بعنوان الرسالة والإنتفاع من البركات النازلة عليهم واتباعهم في شرائعهم وسننهم واطاعتهم في اتباع الرسول الذي بشروا به فاكرام الأنبياء يتجلى بالإنقياد لدعوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام لأنه الجامع لما عندهم واعلاهم درجة.
بحث بلاغي
من بديــع البلاغــة ما يســمى في الإصــطلاح (العنوان) وهو ان يذكر المتكلم غرضاً، ثم يقوم ببيانه وتوكيــده وايصــال معــناه الى السـامع بامثلة واخبار تكــون عنواناً عن الزمــن الماضــي ووقــائع قد حــدثت وتــارة يكون العنــوان علمياً بان يذكر الفاظاً تفتح ابواباً للعلوم.
وهذه الآية جامعــة للأمــرين فهــي تبين منازل الأنبياء مع العلوم التي تتــفــرع عما آتــاهــم الله عز وجـــل، ففي هذه الآيــة عنــاوين النــبوة وعلم الكـلام وعلم الهيئة وعلم الجدل وعلم الإجتماع والسياسة.
وفائدة العنوان في القرآن لا تنحصر بالمعاني البلاغية بل هو مدرسة عقائدية تبين السعة في فضله تعالى وعظيم ما انعم به على الأنبياء وفيه حث على استظهار علوم القرآن واستنباط المسائل المختلفة منها، ومن علوم البيان ما يسمى اصطلاحاً “الإيضاح بعد الإبهام” ومنه التفصيل بعد الإجمال.
وهو ان يأتي المتكلم بالمعنى مجملاً ثم يوضحه لبعث الشوق في النفس على متابعته وللمساعدة في بيانه وترسيخه في الذهن والواقع فكأنه نوع جدل وبرهان واحتجاج ذاتي من غير ان يحتاج الى الطرف الآخر وكأنه ايضاً جواب على سؤال محتمل في طلب التفصيل واثبات القول بالإضافة الى ما فيه من اشباع لرغبة النفس بالإتيان بالكلام بطريقة تناسب المزاج بان يذكر على نحو التدريج وليس دفعة واحدة فان الإنسان اذا علم جانباً من الأمر تطلعت نفسه الى معرفة الجوانب الأخرى، وفيه مندوحة من الوقت يترك للإنسان خلالها التدبر والفهم وتثبيت المعنى في الذاكرة.
ومن وجوه البلاغة علم المبهمات وقد تقدم بيانه( )، وقال مجاهد في الآية ان المراد في قوله تعالى ورفع بعضهم درجات: محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
تفسير قوله تعالى [ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ]
الضمير في [ وَآتَيْنَا ] يراد منه الله عز وجل جاء بصيغة الجمع لإفادة التفخيم والتعظيم ليس فقط لمقام الربوبية بل للنعمة التي انعم على عيسى بما آتاه من الدلالات والآيات الباهرات والحجج التي تدل على صــدق نبوته وما يســتطيع معــه مواجــهــة النفــرة والجحود والحســد الذي عليه بنو اســرائيل واعتياد رهبانهم على الأمرة والرياسة.
والآيــة تبين عظــيم قدرتــه تعالى وبديــع صــنـعه والســـعة في المواهــب الجزيلة التي يهبها للأنبياء وتتجلى بصفة المعجزة الخارقة للعادة.
لقد ورد ذكر البينات في هذه الآية على نحو الإجمال وتبينها الآيات الأخرى والسنة الشريفة فلقد خلق الله عز وجل عيسى من غير اب وتكلم بالمهد، وآتاه الله عز وجــل الإنجيل وعلــمه الحكمة والتوراة، واذن له ان يخــلق من الطــين طيراً ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيى الموتى وحجــب عنه شــر واذى وعداوة بنــي اسـرائيل، وانزل عليه مائدة من السماء، وهذه الآيات نوع تفضيل لعيسى وهو من الرسل الخمسة اولى العزم وقد جيء ذكره بالاسم ولابد له من دلالات منها :
الأول : بيان عظيم الآيات التي جاء بها.
الثاني : ظهور نبوته واشتهار الحجج والمعجزات التي جاء بها.
الثالث : لتوبيخ بني اسرائيل على الجحود بنبوته مع ما رزقه الله من البينات.
الرابع : الشهادة السماوية والتوثيق الخالد للآيات التي جاء بها عيسى عليه السلام.
الخامس : التصــدي للإفــتراء علــيه ومحــاولات طــمـس الآيات الــتي جاء بها وذلك من فضل القرآن الغيري ان منع الناس من التعــدي على مــنازل الأنبياء وتشويه الحقائق وتحريف التأريخ.
السادس : الدعوة للتصديق بعيــسى وهو مدخل للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن عيسى بشر به.
السابع : انها جهاد قرآني لإكرام الأنبياء ودعوة لدراسة الآيات التي جاءوا بها ومناسبتها للحال والزمان والمكان.
الثامن : فيها دعوة لإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما جاء به من الآيات والبراهين الواضحة وتحذير للناس عامة من التفريط والجحود ومنهم اليهود.
التاسع : ان النبوة والرسالة مصدر الإعجاز وتوالي الآيات وان الرسول لابد ان يأتي بالبينة او البينات التي تؤكد انه مبعوث من عنده تعالى، وهذه القاعدة الكلية حجة وتحريض للناس لمعرفة ما عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات التي تدل على صدق نبوته.
تفسير قوله تعالى [ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ]
اكرام آخر لعيسى بان ايده الله عز وجل في نبوته ودعوته الناس لإتباعه بروح القدس منه تعالى.
وروح القدس هو جبرئيل اضيف الى القدس وهو الطهر والعصمة كقولهم حاتم الجود وزيد الخير والمراد الروح المقدس وقد ورد ذكر روح القدس في القرآن اربع مرات ثلاثة في عيسى عليه السلام.
والرابعة فيما انزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ]( ).
وفي علم الكلام عرف الروح القدسي بان الذي يختص به الأنبياء وتعرف من خلاله علوم الغيب واسرار الآخرة وجملة من معارف السماوات فهي هبة منه تعالى وارقى رتبة من الروح العقلي الا ان الآية الكريمة بينت ان روح القدس قوة ملكوتية لمؤازرة بعض الرسل وفيه غاية الإكرام.
وهو غيـر الروح الذي ورد ذكــره في بعض الآيات كما في قولــه تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ، وفي الخبر عن الصادق عليه السلام: “انه خلــق من خلق الله اعظـــم من جبرئيل وميكــائيل كان مع رســول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبره ويسدده”.
وتظهر الآية المدد الســماوي والغيبي الذي يكــون مع الأنبياء بما يجعل أي قوة لا تستــطيع الصمود امام ســـعيهم لتثبيت دعائم التوحيد فهي توبيخ لأولئك الذين حاربوا عيسى في رسالته وتحذير للذين يحاربون الرسول الأكرم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وفيها اخبار عن فشلهم في حربهم وعجزهم عن الوقوف بوجه الإسلام وانتشار احكامه.
تفسير قوله تعالى [ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ]
الضمير (هم) في [ بَعْدِهِمْ ] يعود للرســل فتشمل مشيئته افعال العــباد خيرها وشــرها وهو الذي يقــود العباد نحــو ما فيه الاصح والأنفع ويدفع عنهــم ما فيه الضــرر والأذى، وهذا الدفـع تارة يكون على نحو الموجبة الكلية وتارة يكون على نحو الموجبة الجزئية بلحاظ اعمال العباد وفعلهم الخيرات وابتعادهم عن مواطن الهلكة وسبل المعصية.
فقد يدفع الضرر والإقتتال تماماً عندما يعم الصلاح ويتبع الناس الأنبياء والرسل، وتارة يكون القتال سبيلاً للهداية والرشاد وتعاهد التوحيد فيكون ضرورة وحاجة وعلاجاً، نعم في القتال والمعارك زهوق للأرواح وخسارة في الأموال ونزول البلاء والمصائب على الفريقين، ولكن هذه الخسـارة اقل كثيرة من الخســارة المركبة لو ترك الناس والأمور تتجه نحو الأسوء، اذ ان الخسارة تكون بالعقيدة ولا تؤدى المناسك الا من القلة، ويشــيع المنكر وينحسر المعروف كما تكون الخسارة في الأرواح والأعراض والأموال ايضاً لما يترشح عن الظلم من التعدي والحيف.
ولا يعني هذا ان الله عز وجل حملهم على القتال او ان المشيئة الإلهية تتدخلت لإيجاد اسباب الحرب والصراع بل ان الأسباب موجودة اصلاً عند البشر للصراع المستديم بين الخير والشر بل وللنزاع الشديد بين افراد البشر، فكل يريد ان يستحوذ على ما عند غيره مما يؤدي الى اعياء الفريقين ويرجع الإنسان الى رشده ويسخر الرسول الباطن وهو العقل في التدبر والإستنتاج والرجوع الى اصل الرشد والهداية ونبذ الكدورات واسباب الخصومة والتوجه الى القيم والمعارف التي جاء بها الأنبياء لأنها الحل الوحيد لديمومة الحياة.
اما الخســارة في الأرواح والأموال بســبب هذه الصراعات فهي على قسمين:
الأول: ما يفقده الكافرون والظالمون.
والثاني: ما يفقده المؤمنون.
والأول يكون عقوبة ووبالاً على اهله، والثاني يكون باباً للثواب والأجر.
اذن فلا خسارة في الأصل هذا من جهة، ومن جهة اخرى فان المنافع التي تعقب الإنابة والصلاح وغلبة قوى الخير اكبر بكثير من تلك الخسارة في الكم والكيف والنوع انها جزء من فلسفة المشيئة الإلهية في الأرض ومن اسرار ديمومة الحياة ومبادئ التوحيد على الأرض، انه اصلاح لخلل محدود زماناً ومكاناً.
والبعد ضد القرب، ويأتي في المسافة والتباعد، ولكنه يأتي ظرف زمان لا يعرف معناه الا بالإضافة الى غيره، وهو زمان متراخ عن السابق فاذا قرب منه قيل بُعيد – بالتصغير- والمراد من الذين بعدهم اعم من الذين جاءوا بعدهم مباشرة من غير فصل بل المراد الأجيال المتعاقبة كما ان موضوع الآية لا ينحصر بالفترات المتباعدة بين الرسل، بل تشمل وجود انبياء آخرين في اماكن اخرى والمهم في الأمر ان احد الطرفين او كليهما لا يرجعان الا النبوة، اما ان الفريقين يرجعان الى النبوة فلا يحصل الإفتتان.
تفسير قوله تعالى [ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ ]
الضمير في (جاءتهم) يعود للذين اقتتلوا بعد مجيء الرسل لقد كانت الآيات التي جاء بها الأنبياء دلالات ظاهرات وبرهاناً يستضيء بنوره كل انسان مع الإختلاف في المدارك ودرجة الرشد والعلم او الجهل لأن وضعها بالبينة جاء على نحو الإطلاق من غير تقييد مما يعني انها واضحة المعالم جلية لكل ذي بصيرة او بصر لذا تراها على قسمين عقلية وحسية وهذا من اللطف الإلهي.
وفي الآية اشارة الى اقامة الحجة على الناس جميعاً بهذه الآيات لأن المجيء ذكر في الآية على نحو العموم وليس خصوص اتباع الرسل ولكن الأتباع هم الذين استفادوا وانتفعوا من تلك الآيات، ولذا ترى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوصي قواد السرايا والجيوش بان لا يبدأوا القوم القتال الا بعد الإنذار والوعد والوعيد والتخويف من غضب الجبار.
وكان المسلمون حريصين على الصلاة حتى في المعركة لذا شرعت صلاة الخوف وصلاة المطاردة ولو ركباناً ليعلم الكفار ان المسلمين لا يتركون العبادة في اشد الأحوال وفيه لفت نظر لهم ومناسبة للإتعاظ وهناك شواهد تأريخية تخبر عن اسلام بعض رؤوس الكافرين لما يراه من الزهد والعبادة عند المسلمين.
ومن اسمائه تعالى (الحكيم) فهو الذي يحكم ويتقن آياته ومن الأتقان ان يصل التبليغ الى الناس جميعاً خصوصاً اطراف القتال في الأزمنـــة المختلفة باعتــبار ان القتـال يحصــل بين فرقتــين كبيرتين فلابد ان كل فرقة منهـا تضــم طائفــة وجمـاعة يعلمون تلك الآيات ويعرفونها ولو عــلى نحـــو اجمالي وان هنــاك رسلاً بعثهــم الله مبشـــرين ومنــذرين فيخبرون اصــحابهم، وفي حال الحـرب يكون الإنسان مطلقاً بـراً او فاجــراً اكثر ميـــلاً نحو علــوم الغيب واســرار الخلق والحياة ما بعد الموت.
والآية تبين جانباً من فلسفة الإبتلاء في الأرض وانها دار امتحان واختيار وقد يكـون الفريقان اللذان يتقاتلان كافرين وظالمين فيكون القتال سبباً للتخلص منهما او لإضعافها او لهداية بعضهم، فيكون موضوع القتال باباً للرشاد ومناســبة لبروز الإيمان وعلو رايته، ولا يعني هذا ان القتال بامــر محض منه تعــالى فانه لا ينافي القدرة الإختــيارية للعبد، بل ان هــذه الآية تبــين ان الله عز وجــل قادر على ان يحــول دون قتالهــم وان الحكم والأمــر له تعالى ولكــن افعال العبـاد منهــم وفق القضــاء الثابت والقدر اللاحق كل بحسبه وما ينتظره في الآخرة وهو ســـبحانه يعلــم ان القتال الــذي اختــاروه لن يضر الدين والإسلام.
ولا ينحصر موضوع الآية بما قبل بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بل هو ماض وباق الى يوم القيامة لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، وهذا من اعجاز القرآن الغيري بتقديمه تفسيراً لما يقع من الحوادث المستقبلية وفيه اعانة للمؤمنين وشد لعضدهم وتحذيرهم وهو تخويف للكافرين.
انها مدرســة القرآن الملازمة للحياة اليومية والتي تبعث الأمل والغبطة في قلوب المسلمين حتى في اشق الأحوال، كما انها مدد وعون لهم عنــد الشدائد ومعترك القتال وهذه الآية تطرد عنهم اليأس والقنوط.
تفسير قوله تعالى [ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ]
آية اعجازية في سبر القرآن لأحوال المجتمعات ومعتقدات الناس وتحليلها وبيان العلل والأسباب الكامنة وراء الإختلاف الفكري والعقائدي عند الناس، ومن الإعجاز ايضاً احتواء الآية على الإشارة للحجة البالغة له تعالى في هداية الناس وبعثة الرسل وان الناس لم يختلفوا الا من بعد ما جاءتهم البراهين والآيات وايقنوا بها وادركوا انها نازلة من عنده تعالى.
وان اتباع الأنبياء حق ولكن الإنسان عرضة للنسيان والخضوع لســلطان الهــوى والنفس الغضــبية والإبتعاد التدريجــي الفردي والنوعي عن الشــرائع خصــوصاً وان الشــرائع تتضــمن التكليف وما فيه من مشـــاق العبادة واداء المناسك، والنفس تسعى للعزوف الى الراحة ان تركت وشــأنها او من يتحمــل عنها مســؤولية الأداء واطمئنت له.
واظهرت الآية ان الإيمان والكفــر ضدان وامران مختلفان لا برزخ بينهما، وتقسيم الناس هذا دعوة لكل انسان ليراجع نفسه ويعرف منزلته وفي أي الفريقــين هو، وهل ابـــواب الجنة مفتحة له، ام ان النار تنتظره فوارة.
وتبين الآية موضـــوعية الإيمـــان والكفر في حصول الإقتتال بين الأمم والفرق والجماعات، كما تدعو المؤمنين الى التعاضد واجتناب القتال بينهم لأنه لا اختلاف بينهم، والقتال فرع الإختلاف، او هو اختلاف ويشتد ليصبح نزاعاً وخصومة باللسان والوعيد والتهديد ثم يبلغ ذروته باستعمال السلاح والمواجهة العسكرية.
وهل الإيمان والكفر علة تامة للإختلاف والنزاع والقتال ام انها علة ناقصة، والعلة التامة هي عبارة عن جميع ما يتوقف عليه وجود الشيء وتكون مؤثرة بحصول المقتضي وفقد أو ارتفاع المانع، اما العلة الناقصة فهي طائفة وبعض مما يتوقف عليه وجود المعلول سواء كان بخصوص المقتضي او من جهة فقد الموانع.
الجواب انهما علة ناقصة لأن الله عز وجل رزق الإنسان العقل وجعله آلة للإختيار، وان اسباباً وطبائع اخرى لها تأثير احياناً مثل الطمع والشره والغضب والشهوة.
بالإضافة الى الأمر الأهم وهو مشيئته تعالى والذي يظهر جلياً بتوكيد خاتمة الآية بانه تعالى [ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ].
وفي الآية نكتــة كلامية وهـــي ان المشـيئة لم تقترن بحالة الإختلاف بين الناس، ولكنها اقترنت بالإقتتال بينهم وعلى نحو التكرار [ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ] وقوله تعالى [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا] وهذا لا يعني ان الإختلاف ليس بمشيئته بل ان الآية تدل عليه بالأولوية، ولتوكيد اهمية موضوع الإقتتال وانه لا يحصل في الأرض الا بمشيئة واذن منه تعالى [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ]( ).
وتبين الآية ان الناس هم الذين اختاروا الإختلاف فيما بينهم ولكن هذا لا يعني انهم بعرض واحد وان الفريقين معاً على صواب او انهما على خطأ، فالآية نص في بيان التقسيم وان فريقاً على الحق والهدى، وفريقاً على الضلالة.
فمن الإعجاز ان التقســيم يتضمن المـدح والذم، المدح لأهل الإيمان، والذم لأهل الكفر والجحـود، الأمر الذي يدل بالدلالة الإلتزامية على حث المؤمنين على ا لثبات على ا لإيمان وتحذير الكافرين من البقاء على الكفر، كما ان الآية مدح للمؤمنين في الدفاع الذي هو موضوعها فهي تثبت اقدام المؤمنين على الجهاد وتجعل لهم واقية فكرية من تسرب الشك بسبب ما اختاره اهل الكفر او قوتهم او اصرارهم على الكفر.
ومن اعجاز الآية انها لم تشر الى نسبة معينة لأهل الإيمان او اهل الكفر بل اطلقت صفة التبعيض والجزئية، وفيها اخبار على استمرار الإيمان والكفر متوازيين في عالم الحياة الدنيا وانهما لن يتصلا او يتقاربا او يتحدا.
وذكرت الآية مادة الإفتراق بين الإيمان والكفر بادنى مراتبها واكثرها اجمالاً وشمولاً وهو الإختلاف، فالإقتتال اعلى مراتب الإختلاف، والإفتراق والتباعد والضغائن امارات على الإختلاف بل ان اختيار الإيمان او الكفر نوع اختلاف.
والآية تحليل قرآني وعلاج سماوي للتخلص من الحروب، وتحث المؤمنين على الإجتهاد والســعي الحثيث لمنع تفشي الكفر بين الناس، لأن الكفر يعـرض المؤمنين انفسهم الى الخسارة في الأرواح والأموال وقد يكون سبباً لإخراجهم من ديارهم واهليهم وتحملهم الأذى ولا ينحصر الضرر بهم بل ان ما يقع على ابنائهم وذراريهم منه اكبر وادهى الا ان يشاء الله نجاتهم، فتضيق دائرة الكفر وتبقى الحيلولة دون اتساعه وظيفة كل مؤمــن والجامــع المشترك هو الإقرار بما جاء به الأنبياء من عند الله.
وتخبر الآية عن اتصال مسيرة الإيمان وعدم وجود فاصلة زمانية خالية من امة مؤمنة، فالإيمان متوارث في الأرض، ولا تمنع الآية من انتقال الكافر الى صف الإيمان وكذا العكس بالنسبة للذي يكون ايمانه متزلزلاً.
وجاء ذكر الإختلاف على نحو الإطلاق في موضوعه وكمه مما يعني الشمول والتعدد وان المدار على حصول الإختلاف وعدم الوئام والوفاق وان الإختلاف اذا لم يتدارك وتضيق دائرته فانه قد يتسع ليصل الى القتال، وظاهر الآية يفيد ان اسباب الإختلاف تتعلق بالإيمان بعد ان جاء الرسل بالبينات.
تفسير قوله تعالى [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا]
تكرار لإعتبار المشيئة في امكان امتناع حصول القتال بين اهل الإيمان والكفر، ولابد ان هذا التكرار له دلالات منها توكيد اهمية وخطورة القتال والتوكيد بانه لا يحصل الا باذنه تعالى وهو القادر على منع القتال بل ومنع الخلاف.
وفيها بيان التداخل بين الإرادة التكوينية الإلهية التي تتجلى بآثار مشيئته تعالى في الخلائق لتكون انعكاساً للخير المحض والكمال المطلق، وبين الإرادة التشريعية التي تتعلق بصدور افعال الخير من الفاعلين وانتساب التشريعات اليه تعالى.
والمشــــيئة هنا لا تعني العلة التامـــة للقتال بل هو عدم المانع من القتال وسببه وان المصلحة والنفع في حصول القتال لأنه علاج كالكي او اســتئصال بعض الأعضــاء لما فيه صلاح البدن ودوام حياة الإنسان، وان كان السبب المباشــر للقتال هو الاختيار من العباد، فكأن الحياة الدنيا تدوم ببقاء الإيمان وان ادت الضرورة الى قطع بعض الأفراد والأطراف من اجل بقاء الإيمان للملازمة القطعــية الدائمة بين الحياة والإيمـان، وتلك المـــلازمة هــي قوام اســتمرار الحياة والمعايش والكيانات الإجتماعية والسياسية، ولو شاء الله عز وجل لأبقى الناس على فطــرة الهدى والإيمان ولكنها سنة الحياة الدنيا في الإبتلاء والإختبار.
والمعروف في لسان العرب ان تكرار النكرة يدل على التعدد بخلاف تكرار المعرفة.
فاذا قلت: جاء فرض وصليت فرضاً، فان الفرض نفسه الذي جاء غير الذي قمت بادائه لأن التنكير يدل على الإثنينية، اما لو قلت: جاء الفرض وصليت الفرض فان الثاني هو الأول لأنهما جاءا معرفة.
والإقتتال حالة متعددة متكررة هنا وهناك بين الحين والآخر، ولكن المشيئة الإلهية تتكرر في ذات الموضوع، أي في كل مرة من القتال تكون المشيئة حاضرة في اسباب القتال من جهة ازدياد كيفية القتال، والثاني عند حصول القتال وعدم الحيلولة دونه كما ان ذكر المشيئة يتعلق بما بعدها .
تفسير قوله تعالى [ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ].
تظهر الآية امكان الإســتدلال عــلى تعلق قـدرته تعالى باحوال الناس واسباب القتال بالبرهان الإني والبرهان اللمي، والأول هو الإستدلال من المعلول على العلة، والثاني الإستدلال من العلة على المعلول.
فالمشــيئة الإلهية لا تحــول دون القتــال وهو في مفــهومــه يدل على ان القتال لم يحصل الا بمشــيئــته تعالى ولكن افادة المعــنى بالمــفهــوم باب لترتب الثواب والعقــاب وان فـعل الإنسان هو الذي يقود الى القتال وان لطفه تعالى اعم فالصــلاح قد يحصــل بالقتال وقد يحصل بدون قتال.
والأول هو الملائم لفضله ولطفه تعالى ولكن الشيطان يوسوس للإنسان فيبعثه على الجحود ولكنه تعالى غير مغلوب ولا مستكره، وهو من معاني الإرادة وعلمه تعالى بما في الفعل من المصلحة الداعية الى الإيجاد زماناً ومكاناً يدل على ارادته تعالى اذ لابد من مخصص للقدرة المطلقة مع تساوي نسبتها لجميع المقدورات والممكنات، فالقتال في وقت دون آخر وفي موضع دون غيره لا يكون الا بارادته تعالى وان كان من فعل البشر.
وخاتمة الآية قاعدة كلية لا ينحصـــر موضــوعها بالقتــال ولا بمضامين هــذه الآيـــة فهي شـــاهد ودليل على انه تعالى قادر وانه ســبحانه المؤثر في هذا العالم ابتداء واستدامة من غير واســطة بينها، وهو ليس من التأثير الموجــب والعلة والمعلول اذ يســتحيل تخلف المعلول عن علتــه ولكنــه سبــحانه قادر مخــتار يفعل ما يريـــد ويمحــو ما يشاء ولا تســـتــعصي عليه مســـألة، فالقــدرة تتعــلق بالممكنـات وليس بالممتنع.
ومن صـــفاته القـــادر الذي يســتطيع الفعل والترك وهــو ما تشير اليه الآية فهي في منطوقها تدل على الفعل، وفي مفهومها تدل على الترك.
وقال المجوس ان الله لا يفعل الا الخير لأنه خير محض اما الشر فانه من فعل ابليس فجاءت الآية لتوكيد حقيقة كونية ثابتة وهي ان مقادير الأمور بيد الله عز وجل، وان ما يجري من الوقائع والأحداث والفتن هي بعلمه تعالى وانه لايريد الا الخير والصلاح ولكن النفوس الشهوية والغضبية والاخلاق الذميمة تسيطر على افعال بعض الجماعات فينشط ابليس بينهم.
ويريد ســبحانه بقاء عــقيدة التوحـــيد في الأرض ووجــود أمة مســلمة تذكر الله وتسـبحه وتحمده وتكون سبيلاً لإستقطاب الآخرين من الناس لمسالك الأمــن في الآخرة، فالفعل هنا يتعلق بالسبب والمسبب، والعلة والمعلول من الممكنات، فالله عز وجل يقيض اسباب تحصيل وجود ملة التوحيد ولو اختار الناس القتال فيما بينهم، ولا تقف الآية عند التحذير من غلبة الطباع الشريرة بل انها تمنع من سيادة سلطانها.
والآية بيان لعظيم منزلة الأنبياء والرسل ودعوة الناس للإيمان بالرسل وبما جاءوا به من عند الله وتثبيت حقيقة ذهنية وخارجية وهي ان الناس لم يتركوا ســدى وان كل انســان متصل على نحو دائم بالسماء بواسطة الرسل والكتب المنزلة، وفي الآية عرض كريم لما فضل الله عز وجل به الرسل من الآيات الباهرات وبيان علل الإقتتال واسباب الإختلاف وكيفية تداركه، فالسبيل الوحيد لنبذ الحروب هو الإيمان واتباع الرسل، فمع اتباع الرسل وما جاءوا به من عند الله لا يحصل خلاف ولا نزاع لإنقيادهم لأئمة الهدى، لأن كل واحد يؤدي ما وجب عليه ويتجنب ما نهي عنه، وفي الآية ثناء على الباري عز وجل لعظيم قدرته وحضور مشيئته في اعمال العباد.
قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْــعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّــَةٌ وَلاَ شَــفَاعَةٌ وَالْكَــافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] الآية254
الإعراب واللغة
انفقوا: فعل امر، والواو: فاعل، مما رزقناكم: مما: جار ومجرور متعلقان بانفقوا.
رزقناكم: رزق: فعل ماض، والضمير (نا) فاعل، والضمير كم مفعول به.
من قبل ان يأتي: جار ومجرور، وان وما بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالإضافة ومعناه من قبل اتيان.
يوم: فاعل يأتي.
لا بيع فيه ولا خلة: لا، النافية للجنس وهي التي تدخل على النكرة فتنفيها نفياً عاماً ويكون الاسم بعدها منصوباً او مبنياً على الفتح الا اذا تكررت كما في هذه الآية لم يتعين اعمالها وانما هو جائز، ولو كان مفصولاً بينها وبين اسمها بفاصــل فانها تهمل وجوباً كما في قوله تعالى [ لاَ فِيهَا غَوْلٌ ]( ).
والكافرون هم الظالمون: الواو: استئنافية، الكافرون: مبتدأ، هم: مبتدأ ثان، الظالمون: خبره والجملة الإسمية خبره الكافرون، ويمكن ان يكون (هم): ضمير فصل، والظالمون: خبر، الكافرون.
والخلة: المودة والصداقة والآخاء، يقال انه لكريم الخل – بكسر الخاء- أي حسن الصداقة والمودة سميت بذلك لأنها تخللت القلب وصارت في داخله.
في سياق الآيات
بعد ذكر قصص موسى وداود وغيرهما من الأنبياء وكيف ان الله عز وجل ايدهم بنصره وجعــل الناس ينقـادون اليهم ومجيء الآية السابقة وكأنها جامع واشارة قرآنية الى منزلة الأنبياء كما تبين ما يقع بين الناس من الإختلاف وتطور النزاع واسباب حدوث الحروب، جاءت هذه الآية لتحث على الإنفاق في سبيله تعالى وتظهر الملازمة بينها وبين الآيات السابقة بلحاظ منافع انتشار الإيمان والقضاء على الشر وقوى الضلالة وانه يحتاج الى مؤونة واموال سواء قبل بلوغ مرحلة الإقتتال او عند حصوله.
إعجاز الآية
من اعجاز القرآن الملازمة بين هذه الآية والآيات السابقة وان لم يلتفت اليها، فانفاق الأموال في سبيله تعالى يمنع من انتصار الكفر ويحول دون انتشاره، وفيه عز للمؤمنين.
وتؤكد الآية بان ما عند الناس هو من فضله ورزقه تعالى وتهذيب للنفوس وتحريض على اخراج الحقوق الشرعية ومنع للمنة باعتبار ان المالك والمعطي هو الذي أمر بالإخراج، كما تربط الآية بين عالم الدنيا والآخرة باحسن وجوه الصلات لتأمين جسر يوصل الإنسان الى ساحل النجاة.
والآية دعوة لتطهـير النفس من رذيلة الشــح والبخل ووســيلة مباركة لنمو ملكة الجود والفضيلة وتنزيه المجتمعات الإسلامية ودعوة لدخول الإسلام وترسيخ للقيم السامية والمعارف الإلهية التي تحكم المعاملة فيه، وفيها تطهير للمال من الأقذار المادية مثلما هي تنقية للنفوس من الأقذار المعنوية، وفيها تحصين له باخراج الحقوق واقراض الله عز وجل منه وهو المالك الغني، وفي الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام: “ما من طير يصاد الا بتركه التسبيح، وما من مال يصاب الا بترك الزكاة”.
الآية سلاح
والآية عون على مواصلة الجهاد في سبيل الله وتأمين لموارد القتال المالية ومحاربة للفقر واصلاح للمجتمعات وارتقاء في انظمة التكافل الإجتماعي في الإسلام وتذكير بعالم الآخرة ونواميسه لأنه عالم حساب بلا عمل.
مفهوم الآية
تنهى الآية عن الشح والبخل في جنب الله وتمنع من امساك الحقوق الشرعية الثابتة في القرآن والسنة النبوية الشريفة وتخوف من تبعات حجبها في الآخرة وتبين حاجة العبد يوم القيامة الى ما ينفعه في الحياة الدنيا.
ومن مفاهيم لغة التشريف في الخطاب بصفة الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ان الدعوة تفيد الحصر وشرط الإيمان وان الله عز وجل غني عن الكافرين والجاحدين واهل الضلالة، لأن الإنفاق في سبيله تعالى رحمة بالعبد وباب فتحه الله للمؤمنين بالرسالات السماوية والذين يتلقون ما ينزل من الســماء من الوحــي والأحكـام بالقبول والتسليم فاثابهم الله عز وجل بدعــوتهم للإنفاق في سبيله لإقتناء الصالحات وتحصيل الثواب، والكفار حجبوا عن انفسهم نعمة الإنفاق واتخاذ الدنيا مزرعة للآخرة.
والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار، والإيمان هنا شرط للإنفاق في سبيله تعالى، والشرط كل امر يتوقف عليه الحكم نفياً او اثباتاً، لأن الكفار خرجوا بالتخصيص من خطاب الإنفاق، كما انه نوع شكر واعتراف بنعمته تعالى على الإيمان والهداية مع ضرب من التعظيم، والإنفاق من اسباب الوقاية والإحتراز وكأن المؤمن يساهم في تأمين استدامة العبادة وحكمة التوحيد ويمنع من استحواذ الكفار على مصادر القرار او السلطنة، والمؤمنون يدركون وجود مصلحة عامة وخاصة بالإنفاق في سبيله تعالى، ليجتمع الواعز الشرعي والعقلي لإختيار البذل والعطاء واخراج الحقوق الشرعية، ويدرك اضرار حبسها وان عدم الإنفاق أمر قبيح يجب اجتنابه.
وتدعو الآية الى اســتثمار الحياة الدنيـــا وما فيها من الإمتحان وتؤكد بان فلســـفة الإختـــبار والإبتلاء في الدنيا انما هي رحمة وفضل منه تعالى، فالله عــز وجل وهب الإنسان العقل وخاطبه بالتكاليف ودعاه للإيمان، وووسع عليه من رزقه واحسانه وحثه على الإنفاق منه في سبيل الله ليكون زاده ومتاعه في الآخرة، ويتفضل في هذه الآية بتذكيره بخلو الآخرة من العمل وانها دار حساب يتعقبه ثواب دائم او عقاب دائم.
ولم تحصــر الآية الإنفـــاق بالواجب او المسـتحب او ذكر مقدار معين بلحاظ حال وغـــنى الشخص او بما يكـون مالاً معتبراً، او له تأثير في الواقع الخارجي او اشتراط حصول نفع عام منه، بل جاءت الآية على نحــو الإطـــلاق لإبقـــاء باب الجزاء مفتوحاً ولإعتبار عنصر الإختيار في التكليف وما يترتب عليـــه الثواب، ولأنه سبحانه يقبل القليـــل ويجزي بالكثـير، نعم النفقة والصدقة الواجبة من الزكاة والخمس لها أحكام وقواعد ونصــاب مخصــوص، كما جاءت الآية بصفة الإيمان.
ومن المؤمنين من هـــو فقير ليس عــنده ما ينفقه فهل يخرج بالتخصص من الخطاب في الآية، الجواب لا، لأن الإنفاق لا ينحصر بالمال والإســتـطاعة بل يشـــــمل البذل والتضحية والمســارعة الى الخيرات والجهاد في ســـبيله تعالى، كما انه لا يختــص بزمان معين من عمر الإنسان، فمن كان فقيراً قد يصبح غنياً في يوم ما، فالخطاب التكليفي بالإنفاق الوارد في الآية الكريمة انحلالي، موجه الى المؤمن القادر على الإنفاق من مــاله، والمؤمــن الفقير ايضاً لأن موضــوع الإنفاق اعم من المال، كما ان الفقير في معرض الغنى خصوصاً وان الإيمان والعزم على الإنفاق عند حيازة المال سببان من اسباب الثروة والغنى.
ومن الإعجاز في الآية وجوه المقارنة والتباين الموضوعي بين ابتداء الآية وخاتمتها فقد افتتحت الآية بخطاب اهل الإيمان والصلاح وامرهم بالإنفاق والإعطاء من اموالهم واختتمت بقاعدة كلية فيها ذم ووعيد للكافرين ونعتهم بانهم ظالمون لأنهم حبسوا عن انفسهم نعمة الإنفاق واختاروا العذاب الأخروي.
ولغة الإخبار والوعيد الواردة في الآية لها معنيان متغايران فقوله تعالى [ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ ] اخبار عن حال يوم القيامة وفيه وعد كريم للمسلمين بلحاظ الإيمان، وان الإيمان وحده من موجبـات الثواب، والإنفاق عنوان اضــافي للنجاة يومــئذ، وفيه وعيد وتخويف للكافرين باصرارهم على الجحود وامتناعهم عن الإنفاق في سبيله تعالى، وجاء نعت الكافرين بالظلم على نحو الإطلاق وفيه وجوه:
أولاً : ان اختيار الكفر ظلم.
ثانياً : الملازمة بين الكفر والظلم.
ثالثاً : انهم ظالمون لأنفسهم.
رابعاً : ظالمون للمؤمنين.
خامساً : عدم الإنفاق في سبيله تعالى ظلم، ومن وجوه الكفر الجحود وعدم الشكر.
سادساً : الكفر لغة هو التغطية والستر، وفي الإصطلاح عبارة عن انكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، والإنفاق في سبيله تعالى مما جاء به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
سابعاً : من وجوه الكفر الجهل بالله تعالى وعدم التصديق بالنبوة وفعل القبيح والإخلال بالواجب.
ومن مفاهيم الآية انها تبعث النفرة عند المسلمين من الكافرين وتمنع من محاكاتهــم في القبض على أموالهم وعــدم الإلتفات الى استهزائهم بمن يبذل امواله في سبيله الله لأن هذا الإستهزاء من الظلم للنفس والغير.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]
خصت الآية الذين آمنوا دون غيرهم بخطاب النفقة وفيه اكرام وتشريف لهم، فكما ان الزكاة هي اخراج للمال واعطاء للغير من المال الذي جمع بالجهد والعناء والشقاء ومع هذا تسمى زكاة أي نماء ليدل الاسم والمسمى على ان الإعطاء في سبيل الله يزيد المال الشخصي ويجعله يتكاثر وينمو.
فهذه الآية تشــريف للمؤمنـــين وجـاءت لمنفعتهــم واصلاح احوالهم، فخصـهم بالخطاب لينتــفعوا دون غيـرهــم من كنــوز هـذه الآية وما فيـــهــا من الأوامر التكليفية والوضعية، فالخطاب انحلالي يتوجه الى كل مؤمن ومؤمنة من المكلفين، وهو في ظاهره يدل على اشـتراط قصــد القربة في الإنفاق الواجب لأن الواجبات العبادية لا تتقــوم الا بقصــد القــربـة، ولا يشــترط في الخطــاب المطلق وجود المنادى على نحو العموم الإستغراقي بل يكفي الوجود العلمي الإقتضائي بلحاظ التكاثر والتناســل، وهو آيــة اعجـازية تدل على احاطة نداءات القرآن بالتالي من الأجيال والعلم بتوارث الإيمان في الأجيال المتعاقبة.
ولكن المراد من الإيمان هو المعنى الأعم من المفهوم الإصطلاحي وليس المراد الحصر بالذين صــدقوا بقلوبهم وجوانحهم برسالته صلى الله عليه وآله وسلم بل يشمل كل من نطق بالشهادتين أي الإسلام الظاهري لأنه الحد الأدنى للإيمان بمعناه اللغوي ولأن الآية بصدد بيان التكليف وهو يستغرق كل مسلم ومسلمة.
وفي الآية حث كريم على اداء الواجبات على نحو الإطلاق، فصحيح ان الآية تتعـلق بالواجبــات المالية الا انها دعــوة كــريمــة الى عدم اهــمـال الإســتعداد للآخـرة وعدم التفــريـط بمقــدماتهــا باعتــبار ان الدنيا مــزرعة الآخــرة، وافـضــل انـواع الزراعات هو اداء الواجبات.
ومن اشق التكاليف على النفس الحقوق المالية لأنها تستلزم الغلبة على النفس الشهوية وحب الأنا وملكة الملكية والخوف مما يدخره المستقبل للإنسان، مما يستلزم امتلاء النفس بالإيمان بما يقهر هذه الموانع ويدفع النفس والجوانح الى لفظ ما ليس لها في الأصل وتنمية ملكة الفضيلة عند المعطي والآخذ لما فيها من دلالات الإيمان وحسن الإمتثال والبراءة من الشح بالإعلان العملي للتخلي عن الإستحواذ على الحقوق الشرعية.
وهذه دعوة لإجتناب الإعراض عن الواجبات وتحذير من الإنغماس في عالم الأعمال اليومية ونسيان الواجبات، فقد يكون الإنسان مستعداً لإخراج الحقوق الشرعية ولكنه ينسى حلول اجلها او يميل الى التسويف والتأجيل، او لا يلتفت اليها سهواً او لمباشرته المتصلة لمسؤوليات العمل والتجارة فلا يلتفت الى وجوب اخراج الحقوق، والآية نوع تشريف واكرام للمسلمين لما فيها من الإقرار باهليتهم للقيام بالمسؤوليات الشرعية وانجاز الحاجات المالية للمجاهدين وتوفير قوت الفقراء والمعوزين من المسلمين.
وفي صيغة الخطاب مقدمة كريمة من الترغيب والمدح للحث على اداء الحقوق، وهي شهادة متقدمة لهم بالإيمان وحسن الإسلام، وهل تنحصر هذه الشهادة وتثبت في حال الإنفاق فقط دون عدمه، الجواب: لا، لظاهر الآية بامكان التفكيك بين الإسلام وبين الإنفاق الذي هو صفة زائدة على الإسلام ويؤدي التقييد باحكامها الى العلو رتبة وشأناً في منزل الإيمان.
وخطاب [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] نزل في المدينة المنورة لتثبيت الأحكام الشرعية بعد ظهورالإسلام ودولته.
تفسير قوله تعالى [ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ]
تتضمن الآية صيغة الأمر بالإنفاق والإعطاء ويحمل على المعنى الأعم من الوجــوب والنــدب لوجــود قــرائن على الوجوب واخرى على النــدب مــع عــدم ورود دليــل على التخصــيص بالوجــوب وحده.
فصحيح ان الأصل في الأمر هو الوجوب كما هو المختار والمشهور الا ان القواعد القرآنية اعم من القواعد الأصولية وتحمل الآية على معانيها المستقرأة بلحاظ التفسير بالآيات الأخرى والنصوص الشريفة والأحكام الشرعية خصوصاً وان الآية القرآنية تأخذ بالمعنى الأعم لما لها من الظاهر والباطن والحد والمطلع.
ومنهم من ذهب الى حصر موضوع الآية بالإنفاق الواجب لما في الآية من الوعيد والتخويف، وخاتمة الآية اعــم من ان تتعلق بصدرها كما سيأتي، لقد شاء الله عز وجل ان يظهر دينه ويعز المؤمنين وهذه المشيئة ليست اقتضائية تعليقية بل هي حتمية، فهي لا تتوقف على انفاق الناس وبذلهم، ولكن الإنفاق ينفع صاحبه ويعود عليه بالخير في الدارين، لذا اخبرت هذه الآية عن العوض والنفع العظيم في الآخرة لمن ينفق في سبيل الله.
وقولـه تعالى [ ومِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ] قيــد للدلالــة على ان ما عنــد الإنسان هو من عنــد الله وان الذي ينفــقــه ليس ملكـاً طلقاً له بل انه حازه بفضــله تعالى ليكــون ملكــاً متزلزلاً وباباً للإختبار والإمتحان، والرزق ما صح ان ينتفع به وليس للغير منعه منه بل انه محظور على الغير.
وقال الأشاعرة بالإطلاق في مفهوم الرزق ليشمل كل ما يتغذى به الإنسان سواء كان حلالاً او حراماً، متعدياً بانتفاعه او غير منتفع، وكذا بالنسبة للمجبرة ما اكل سواء كان حراماً او حلالاً.
اما المعتزلة فقالوا بانه كل ما صح انتفاع الحيوان به بالتغذي وان لا يكون حراماً، فرزق كل موجود ملكه.
وبغض النظــر عن هـذا الخــلاف فان الآيــة ظاهــرة في الــرزق الحلال فالحــرام من اقبح ما تنفر منه النفــوس ولا يصــح التقــرب بالمبغوض، والآيــة لطف في صـيغة الأمر والموضوع والبيان فان الأمر على الصالحات تذكير بالواجبات وحث على الإلتفات اليها وطرد للغفلة.
تفسير قوله تعالى [ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ ]
دعوة الى استثمار الحياة الدنيا بفعل الصالحات واتيان الواجبات العبادية والمندوبات، فالإنفاق جاء من باب المثال والفرد الأهم في المقام ومما تتصف به وجوه العبادات ان كل فرد منها هو اهم وبعرض واحد من غير تعارض بينها ولا يزحزح اهمية احدها الآخر عن اهميته، وهذه الآية تؤكد هذه الحقيقة فكما يحتاج الإنسان الإنفاق في سبيله تعالى في الحياة الدنيا كزاد للآخرة فانه يحتاج اداء الصلاة بذات الأهمية ويحتاج الصيام والحج كذلك.
فالآية اخذت فرداً من العبادات ولكنها في الأصل تدعو لجميعها لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، والمراد من اليوم في الآية هو يوم القيامة أي أوان البعث ووقت الحساب في عالم الآخرة ولم يذكر اسمه على نحو الخصوص ولكن ذكر بالصفات والكناية وهو ابلغ في الأثر والتأثير كما في علم البلاغة.
والبيــع في الآيــة كنايــة عن العمل والكســب لأن الآخرة دار حســاب بلا عمــل، فليس من سبـيل الى فعل الصالحات وشراء الحسنات بالصدقة وعمل المعروف، وعدم البيع في الآخرة بسبب فقد الملكية الشــخصية وعــودة الملك لله تعالى [ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ]( ).
والكناية بالبيع باعتبار انتفاء العمل مطلقاً لأن البيع والشراء اهم وجوه العمل واسباب الكسب ولبيان حقيــقة عـقــائدية وهــي ان الصــدقة تجــارة غير خاســرة قال تعالى [ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ] ( ).
كما تؤكد الآية على التخفيف في الآخرة لأن البيع والشراء احد وجوه الإبتلاء والإمتحان في الدنيا، ولكن التخفيف ليس مطلقاً بل خاص بالـذين بــادروا في الدنيــا الى اداء ما علــيهم من الحقــوق الشرعية وقدموا لآخرتهم بالإنفاق اما الذين بخلوا وامتنعوا عن الإنفاق واعرضوا عن داعي الحق فان عدم البيع في الآخرة يكون حسرة ووبالاً عليهم.
والآية حجــة عليهم فقد اســتوعبهم التبليغ ووصـلهم النداء لأن الآية خطاب انحلالي لكل الناس وان خص به الذين آمنوا، وغيرهم امتنع عن تلقي مضمون الخطاب في الآية باختياره وارادته والإمتناع بالإختيار لا ينـافي الإختيار، وتســـاهم الآية في ايجاد تصور ذهني لأحــوال الناس يــوم القيامة وانهم مجتمـعون من غير كسب ولا تجارة ولا معاملــة ولا اســواق، مما يعني ان اذهانهم غير مشغولة بالبيع والشراء اليومي، فالكل متوجه للحساب خائف من الحساب وجل من العقاب.
والبيع استبدال المتاع بالثمن، والمراد هنا من البيع الصدقة، والآية تمنع من طرو اسباب التدبير عند الهمّ بالإنفاق في سبيله تعالى اذ انها تزيل الحواجز التي تضعها النفس اللوامة والشهوية وحب الذات عند الإنفاق في سبيل الله لأنها تجعل الثمن الأخروي اعظم من المتاع الذي يقدمه المسلم للإنفاق بقصد القربة.
تفسير قوله تعالى [ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ ]
في الآية بيان لبعض معالم يوم القيامة وماهية الصلات فيه، ففيها دعوة لنقل الذهن الى عالم آخر مباين للذي نعيش فيه، فالإنسان حينما يعيش واقعاً ويعتاد عليه حياته كلها ويراه نوعياً عاماً في كل المجتمعات يستصحبه في ظنه وفكره على العوالم الأخرى قصوراً واستصحاباً فاقداً لبعض مقدماته، فجاءت الآية لتبين سمات الآخرة واتصافها بحقيقة وهي انعدام الصداقة والمودة والشفاعة.
ولكن وردت آيات اخرى مخصصة لهذه الآية وهي استثناء اهل الإيمان ودوام المودة بينهم يوم القيامة، قال تعالى [ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ]( ) وفيها موضوعان:
الأول: العداوة بين الإخلاء.
الثاني: نفي العداوة عن المتقين.
ونفي العداوة اعم من بقاء الخلة، أي انه لا تعارض بين هذه الآية وبين الآية محل البحث التي تنفي الخلة يوم القيامة، لأن المستثنى وهو الأكثر تتبدل الخلة بالعداوة بين افراده، اما اهل التقوى والإيمان، فالقدر المتيقن من الآية هو نفي العداوة فيما بينهم الا ان يدل دليل آخر على بقاء الخلة بينهم يوم القيامة.
فالمودة بين الكافرين في الدنيا تنقلب الى عداوة في الآخرة وكذا بالنســــبة للظــالمين والفاســــقين والجاحـدين والمنافقــين والضــلال لحصــر الإستثناء بالمتقين، والسبب ظاهــر فهو التباين في اســباب وموضوع المــودة فاسبابها بين الكفار ونحوهــم هي حب الدنيــا والغــي والرياء والهوى وما يؤدي الى سوء العقاب بخلاف اهل التقوى فان سبب المودة هو الإيمان بالله عز وجل وانعدام التغرير والإعانة على الإثم بينهم.
تفسير قوله تعالى [ وَلاَ شَفَاعَةٌ ]
الشفاعة لغة تعني الإثنينية مأخوذة من مادة الشفع وهو ضد الوتر، فالشفيع يدفع عن صاحب الحاجة ويعينه في جلب النفع.
ويستعمل في الإصــطلاح للمقربـين الى حضرة القدس ليكونوا وســيلة الى الله تعالى لتفــضــله بمغـفــرة ذنوب العبد ومحــو ســيئاته ورجـاء اســقاط العقاب، كما تأتي الشـــفاعة في زيادة الدرجات والمنزلة، وقد يجتمع الأمران بالشفاعة أي الإرتقاء في المنزلة والتجاوز عن الخطايا.
وذهب جــمع الى القــول بان شــفاعة النبي صلى الله عليه وآله وســلم لمذنبي الأمــة ممن ارتضى الله دينــهم ليســقط عــقابهــم بشــفاعــته واصل والشفاعة لله تعالى فهو المالك وبيده مقاليد الأمور وهي فيض من فضله تعالى ورشحة من رشحات نوره فيأذن لمن يشاء ان يشفع ولا تكون الشفاعة حينئذ الا لمن ارتضى سبحانه أي ان الإذن الإلهي في باب الشفاعة مركب في اصل الإذن بالشفاعة وفي قبولها ومصداقها قال تعالى [ يَوْمَئِذٍ لاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ]( ).
والى جانب الآيات القرآنية العديدة التي تؤكد الشفاعة فان النصوص التي وردت بالشفاعة كثيرة ومتواترة، فتحمل الآيات التي تدل في ظاهرها على نفي الشفاعة على جهة مخصوصة كالوعيد للكافرين الذين لا تنالهم الشفاعة، او انها ليست مطلقة في مواطن الحساب بالنسبة لشطر من الناس، او نفي اقتراحها من الناس ابتداء من غير اذنه تعالى فلابد من الإذن وكل هذه الوجوه محتملة، الا انها لا تتعارض مع حقيقة الشفاعة ولكنها تؤكد حقيقة وهي ان الشفاعة لا تخرج عن مصاديق قانون الأسباب والمسببات.
فهذه الآية [ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ ] تتعلق باصل الشفاعة، وبلحاظ سياق الآية يمكن تأويلها بان الذي لا ينفق في سبيل الله ولا يخرج الزكاة لا تدركه الشفاعة، وفي بعض الأخبار: “ان مانع الزكاة كافر”، وهناك حقوق فرضها الله عز وجل في اموال الأغنياء غير الزكاة بحسب السعة والشأن والحال وحاجة الآخرين، قال تعالى [ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ]( ).
والإنفاق اعم من دفع المال فقد يقع بالإعارة والنفع المؤقت والهبة المشروطة والقرض الذي له من الثواب اكثر من ثواب الصدقة بنسبة ثمانية عشر لعشرة امثال، ومن الإنفاق المعروف والإحسان وقضاء الحوائج والشفاعة في الدنيا وتوظيف الجاه للإصلاح بين الناس وغيره، ومنه الماعون والمتاع فالمدار على صدق انه اعطاء مما انعم الله عز وجل به على العبد، بما يؤدي الى الخير ونزول البركة وطرد النفرة والبغضاء واليأس والقنوط، ويطهر المال من الأوساخ.
والآيــة في مقام الإنذار والوعيد والتخويف فجاءت على الأصل وهو عــدم الشـــفاعة الا ان يــأذن الله عز وجــل وهذا من اعجاز القرآن انك تــرى بعض الآيات وكأن تعارضــاً ظاهــرياً بينها ولكن كلاً منها بيان للأخرى وتفســير لها، وعند الجمع بينها تتضح الأبعاد الدقيقة للحكم الشرعي ولا تنحصر معرفة هذه الحقيقة بالحكماء والعلماء بالتأويل بل ان اشعاعات انوارها تراها كل عين ويدركها كل ذي بصيرة.
تفسير قوله تعالى [ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ ]
الآيــة قاعــدة كلاميــة وكشــف لواقع الكــفر ومدى خطــورته وقدرته على النفس وعلى الغير وجاءت بصيغة الجمع لإفادة الصفة الدائمة المســتوعبة لجمــيع الكــفار من غير اســتثناء، وفيها ذم وتحد لهم لما لها من الــدلالات الخارجيــة الواقعــيــة، فقد ينــفي الكافر عن نفســه صفة الظلم جــحــوداً وعتواً او جــهــلاً وتقصــيراً واسـرافاً، ولكن القرآن يثبت بانه اشــد الناس ظــلماً سواء في ظلمه لله عز وجل او للناس او لنفسه قال تعالى [ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ]( ).
وتضيف الآية عيباً ونقصاً للكافرين فالكفر اعتقاد ذاتي، والظلم نوع مفاعـلة مع الغير بل حتى مع الذات هو مفاعلة ايضاً بظلم النفس باعتبار ان الإنسان مركب من روح وبدن وعقل وانه يستعمل عقله ليضر به نفسه في النشأتين فيكون الظلم صفة زائدة ترسخ الكفر ومن ظلم الكافر انه يقود نفسـه الى النار كلما تقدمت به ايام العمر فانه يقترب من العذاب كما انه يغري غيره ويغرر به بالإقتداء به واتباعه في سنته.
ومن وجوه استحقاق الكافر لصفة الظلم انه منع نفسه من الإنفاق في سبيل الله باختياره الكفر وعدم الإلتزام بالأوامر الإلهية واخراج الحقوق الشرعية، ولو تصدق بصدقة فانها لا تقبل منه فاما ان يكون تصدق بها رياء او مساعدة لا يرجو فيها مرضاة الله، واما ان تكون صدقة بقصد القربة وهي في هذه الحال لا تقبل منه لإشتراط قصد القربة بالإسلام وتكون حجة عليه فانها تثبت اقراره بالربوبية ولكنه لا يتبع الرسل فيما جاءوا به من عند الله قال تعالى [ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ]( ).
والآية في مقــام التعليل لإنعدام البيع والخلة والشفاعة يوم القيامة وان السبب في حجـبها على الكافر أنه ظلم نفسه باختياره، فرحمته تعالى وسعة كل شيء ولكن الكافر اختار حجبها عن نفسه لأنه لم يؤمن، لذا جاء الخطاب في الآية بصفة الإيمان والتسليم بالرسالة، وجاءت لغة الإطلاق في الآية لبيان ان ظلم الكفار لا ينحصر بالدار الآخــرة وحرمــانهم من الشــفاعة بل يشــمل الحياة الدنيا لأنهم لا ينفقون من اموالهم في سبيل الله، فظلمهم في الدنيا هو الدنيا هو الذي جعلهم يســتحقون هــذه الصــفة باعتبار ان الآخرة دار حساب بلا عمل.
في الآية اكرام وتشــريف للمسـلمين بصيغة الخطاب ونعتهم بالمؤمـنين وبالحث على الإنفاق في سـبيل الله، وتحذر الآية من البخل والشح وعدم الإنفاق وتـؤكد ان حجــب الحقــوق الشـرعية وعدم اعانــة المحتـاج وعدم المبادرة الى الصدقة امور تسبب الخسران في الآخرة.
كما ان الآية مدح للمسلمين لحسن امتثالهم في دفع الزكاة وشيوع الأخلاق الحميدة في باب الصدقة المندوبة ومساعدة الآخرين بقصد القربة الى الله، لأن قصد القربة وحده حافز نحو الخيرات، وفيها تنزيه لهم واشارة الى ان الصدقات تساعد في محو الذنوب بل وتهذيب النفوس وتلقي نفحات الهداية.
ومن مفاهيم [وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] ( ) عصور وتخلف الطواغيت والظالمين عن مواصلة الجدال والخصومة مع النبي والرسول ، لقانون مصاحبة الحجة للنبوة ، وقانون حرمان الطواغيت من الحجة والبرهان .
قوله تعالى[اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْــفَعُ عِنْــدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِــهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُــونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ] الآية 255.
الإعراب واللغة
الله لا اله الا هو: اسم الجلالة مبتدأ، لا: نافية للجنس، اله: اسمها وهو مبني على الفتح الا: اداة حصر، هو: بدل، والجملة الإسمية لا اله الا هو، خبر اسم الجلالة.
الحي القيوم: خبر ثان وثالث، ويصح اعرابهما صفتين لله عزوجل، لا تأخذه: لا نافية، تأخذ: فعل مضارع والضمير مفعول به.
سنة: فاعل تأخذ.
له ما في السماوات، ما: اسم موصول في محل رفع مبتدأ مؤخر.
من ذا الذي يشفع: من: اسم استفهام انكاري وهو مبتدأ، ذا: اسم اشارةفي محل رفع خبر، الذي: اسم موصول بدل، ولا يحيطون بشيء من علمه: الواو عاطفة، لا: نافية، يحيطون: فعل مضارع، الواو: فاعل، من علمه: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ليس.
الا بما شاء: الا: اداة حصر، بما: جار ومجرور متعلقان بمحذوف بدل من شيء.
وسع كرسيه: وسع: فعل ماض، كرسيه: فاعل مضاف، الهاء مضاف اليه، السموات: مفعول به، والأرض: الواو عاطفة، الأرض: معطوف على السماوات.
ولا يؤده حفظهما: الواو: حرف عطف، لا: نافية، يؤده: فعل مضارع، الهاء: في محل مفعول به.
حفظهما: فاعل، الضمير: مضاف اليه، وهو العلي العظيم: الواو: عاطفة، هو: مبتدأ، العلي: خبره، العظيم: خبر ثان.
ومن اسمائه تعالى ” القيوم” من قام بالأمر اذا دبره واحسن تدبيره وهو سبحانه القائم بامور الخلائق واصله (قيووم) فقلبت الواو ياء وادغمت مع الياء، قال أمية بن ابي الصلت( ):
لم تخلق السماء والنجوم
* والشمس معها قمر يعوم
قدره المهيمن القيوم
* والحشر والجنة والنعيم
الا لأمر شأنه عظيم
والســنة: النعاس، وابتداء النوم بفتور يدب في الأعضاء قبل استيلائه على القلب، والوسن: اول النوم، والكرسي: السرير وعنوان الملك، وفي الإصطلاح هو العلم والإحاطة وقيل هو الملك وجسم بين يدي العــرش محيــط بالســماوات والأرض وما بينهــما وما تحــت الثـرى.
وأده الأمر يؤده ويئده: اذا دهاه وثقل عليه وبلغ منه المجهود والمشقة، والإد: الشدة.
وفي حديث علي عليه السلام: “رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، فقلت: ما لقيت بعدك من الإدد والأود”، والإدد: الدواهي العظام، والأود: العوج.
في سياق الآيات
لقد جاءت الآيات السابقة ببيـان عظيم فضله تعالى بالنبوة على الأمم السالفة خصوصاً بني اسرائيل بقصص تتضمن الإعجاز وتقود الى الإقرار بالربوبية، مع التوكيد على الإنفاق في سبيل الله وهو جزء علة لتحقيق النصر والعز للإسلام ثم جاءت هذه الآية الكريمة لتدعو الناس الى الإسلام بما فيها من معاني التوحيد والصفات الربوبية، فبعد اختلاف بعض الأمم على انبيائهم جاءت هذه الآية لتتضمن تشريفاً للمسلمين لدعوتهم للتوحيد.
إعجاز الآية
من الإعجــاز الغيـــري ان تــرى شياعاً لهذه الآية عند عموم المسلمين والكل يعــرفها باسمها ويحرص على قراءتها كما ان منافعها اكثر من ان تحصــى، وهذا من فـضـــل القرآن ان تجد آية منه لها هذه المنزلــة والأهمــية العظيمة، وهي مرآة لأهمية آيات القرآن الأخرى، فذكر فضائلها الدنيوية والأخروية امارة على وجود فضائل لكل آية من القرآن وان لم تبلغ في الكثير منها ما لآية الكرسي كما انها تتضمن معالم فلسفة التوحيد بلسان العظمة والجبروت والثناء عليه تعالى.
والشــواهد التي تــدل على فضــائل هـذه الآية كثيرة ومنافعها متعددة ومنبســطة على كل زمان ومكان، والآية من كنوز المعرفة الإلهية والحكمــة المتعالية، ومن اعجاز الآية انها تبدأ باسم الجلالة وتختتم باســمين من اســمائه الحسنى وبينهما ثناء ومدح وبيان لما ينفرد به واجب الوجــود من مظـــاهــر العظمة والملك المطــلق، انها آية الملك والقــدرة والســلطان والجــبـروت وآية الرحمة والبشارة والوعد والوعيد.
الآية سلاح
لا يختلف اثنان من المسلمين في تعدد وكثرة وظائف ومنافع آية الكرسي قراءة وحملاً وحفظاًَ عن ظهر قلب ووضعها في البيت، ومن تلك الوظائف انها حرز وامان ويتلقى تلك الحقيقة كل مسلم ومسلمة بعين الرضا والقبول.
وهي هبة ســماوية وكنز ملكوتي ومدد حاضــر عند الحاجــة والشــدة والضــيق، وترى النفس تميل في حال الرخاء الى ما تحتاج اليه في ساعة الشدة لما جعل الله عند الإنسـان من حال الخوف والرجاء وتدافعها في النفس الانسانية بحسب العوارض والاعتبارات الاضافية والتباين بحسب الطبائع كثافة ورقة، وغلبة النفس المطمئنة او النفس الشهوية والغضبية.
وعندمــا تأتي سـاعة الشدة لتندفع النفس الى الداخل في حال الخوف والفــزع والحزن ليصبح الانسان فجأة في مواجهة الحدث والواقعــة والمصيــبة فيشعر بانغلاق السبل الا ما يفتحــه له الله عز وجل فيلجأ اليه طوعاً وانطباقاً وقهراً، ويدرك المؤمن الحاجة الى الدعاء واللجوء اليه ســبحانه، ومن افضل صــيّغ الالتجاء له تعالى قراءة آية الكرسي لأنها صلة بين العبد والعرش لنزولها من كنز تحت العرش، لتنزل معها البركة والســكينة والأمان والوقاية.
مفهوم الآية
تعتبر آيـة الكرســي حــديقة مباركــة لأهــل العرفان وعشــاق التوحيد وافاضة سماوية يقتبس منها علماء الكلام انواراً من المعرفة الإلهية.
ومن مفاهيم الآية اختلاف اهل الشرك وخروجهم على الأنبياء، وتحذير من يشرك بالله ويرتكب المعاصي بانه لا يضر الا نفسه لأن التوحيد حقيقة ازلية دائمة.
وتبعث الآية الأمل بالنصــر في قلوب المسلمين لأن الغلبة لله عز وجل لأنها فرع الملك والقوة والتدبير، وتمنع من تسرب اليأس الى نفوسهم وتنهى عن القنوط في النشأتين، أما في الأولى فلحصر القدرة وتعاهد الخلائق به تعالى، وأما في الثانية فبالشفــاعة كباب فتحه الله عز وجل للمؤمنين رحمة وفضلاً منه تعالى، وفيها دعوة للسعي في سبل العلم والارتقاء في منازل التحصيل والرفعة والسمو في ميادين الصلاح والتقوى.
ومع ايجــازها فــقد تضمنت عدداً من اسمائه تعالى لذا يمكن اعتــبارهــا اكثر آيــات القــرآن احتـــواءً لاســماء الله عز وجل والضــمائر العائدة له خصوصاً بلحاظ قلة عدد كلماتها، وهي وفق الترتيب :
الأولى : اسم الجلالة (الله)، ومن الإعجــاز والدلالــة العــقائــديــة ان تبدأ الســورة والأسماء باسم الجلالــة الذي هــو خاص به تعالى، وتميل اليه قلوب العارفــين وتنقـطـع اليه الأفــئـدة، واذا دعوت الله عز وجل بصـــفة من الصــفات فـقــد سألتــه سبحـانه واظــهرت كـمال تلك الصـــفــة واعلنت الإقرار بها، واذا دعـوته باسم الجلالة فقـد وصـفــتــه بجـميـع الصــفات وشــهـدت له بالـربـوبيــة المطـــلقــة، لذا فان قول الإنسان لا اله الا الله يعصم دمه ويخرجه من الكفر الى الإسلام.
الثانية : (هو) ضمير الرفع المنفصل في توكيد لإنفراده تعالى بالحياة والبقاء والأبدية والأزلية وقد جاء في القرآن بمعناه اللغوي وفق دلالته كاسم مضمر بحسب ما قبله او القرائن، الا ان مجيئه اسماً مقروناً بلذة المعرفة الإلهية، فهو وحده الإله وهو المطبوع في القلوب، والمرسوم في الأذهان وتدين به الخلائق كلها فالضمير (هو) سور جامع يلتقي فيه كل الموحدون في عرصات الحضرة الإلهية، ومعرفة ذاتهم بحقيقة العبودية واذا قلت (يا هو) علمت انه الحاضر وحده وان غيره غائب او معدوم فهو ضمير للغائب الا بالنسبة له تعالى لأنه حاضر لذا يشعر بعض اهل العرفان بلذة الحضور حينما يقول (يا هو) لأنه سبحانه وحده له نداء الخطاب مع ضمير الغائب، انه عنوان الذكر بالصفات الحسنى ومناسبة لإستحضار صفات الجلال والإكرام.
والقول (يا هو) شوق الى المحبوب واشارة الى التوحيد، الا ان هذا النداء لم يرد في القرآن ولا في احاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان المأثور هو النداء والدعاء باسمائه الحسنى وهو الأصل مثل (يا رحمن، يا رحيم، يا غفار، يا رب) تيسيراً للعباد وتأديباً لأهل المعرفة وحثاً على طلب المسائل المتعددة وانواع النعم واقراراً بعظيم قدرته وسلطانه سبحانه فكل اسم من اسمائه تعالى مدرسة وبرهان ومناسبة للنظر الدقيق في الآيات الباهرات، والإنشغال بالذكر وهو اشرف المقامات واحسن الرياضات.
الثالثة : الحي: ورد لفظ الحي اسماً لله تعالى خمس مرات في القرآن ثلاثة منها جاءت مقترنة باسم القيوم، وفي كل منها يتقدم لفظ الحي على القيوم، وقال الرازي (فان قيل الحي معناه الدراك الفعال او الذي لا يمتنع ان يعلم ويقدر، وهذا القدر ليس فيٍه مدح عظيم، فما السبب في ان ذكره الله تعالى في معرض المدح العظيم؟ ان المدح لم يحصل بمجرد كونه حياً، بل بمجموع كونه حياً قيوماً وذلك لأن القيوم هو القائم باصلاح حال كل ما سواه، وذلك لايتم الا بالعلم التام والقدرة التامة، والحي هو الدراك الفعال، فقوله [ الْحَيِّ ] يعني كونه دراكاً فعالاً وقوله “القيوم” يعني كونه داركاً لجميع الممكنات فعالاً لجميع المحدثات والممكنات، فخص المدح من هذا الوجه( ).
وصحيح ان هناك موضوعية للملازمة المتكررة في القرآن للحي والقيوم الا انها لا تعني عــدم استقلال اسم الحي بدليل ورود اسم (الحي) وحده ليكون آية وشاهداً على الألوهية ومقام الربوبية، والقيوم وحده شاهد ايضاً واجتماعهما معاً شاهد آخر مستقل وعنوان ثناء اضافي متجدد، فصفة الحي وحدها على محل الفناء والتعلق والعشق قال تعالى [ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ]( ) وصفة الحياة دلالة على الدوام ووجوب الوجود واتصال القدرة وعدم انقطاعها وانه سبحانه يعلم ويقدر لأن القدرة ملازمة للحياة، كما تفيد صفة الحياة والقيمومة انعدام الشريك ونفي المثل وان الماهيات المختلفة مخالفة لذاته فلا شيء يساويه وهو القديم وغيره محدث.
الرابعة : القيوم: وهو الذي يتولى شؤون جميع الخلائق باحسن تدبير ويتعاهد الموجودات، وهو قائم بذاته ومستغن عن غيره مقوماً للخلائق جميعاً في وجودها.
الخامسة : الضمير الهاء في (لا تأخذه) وهو دليل على نفي الحواس عنه، وما يسلب القدرة كلاً او جزءً.
السادسة : الضــمير الهاء في قـوله تعالى [ له مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ] وهذه اللام للملك كما في قوله تعالى [ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ]( )، وقولك (الكتاب لزيد) وهذا الضمير اخبار عن الملكية المطلقة له تعالى وهو دعوة للجوء اليه والتوكل عليه وطلب الرزق والفضل منه تعالى.
السابعة : الهاء في قوله تعالى [ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَه ] حصر للشــفاعة ورجـوعها اليه سبحانه، وتقييدها باذنه تعالى يفيد أمرين:
الأول: حصول الشفاعة.
الثاني: توقفها على اذنه سبحانه، وقيد الإذنية يؤكد مسألة الشفاعة والحاجة الى اللجوء اليه سبحانه.
الثامنة : الضمير في قوله تعالى [ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ] ان تتابع الضمائر العائدة للذات المقدسة في هذه الآية انوار ملكوتية يشع ضياؤها على القلــوب التائهـة في بديع صنعه، وتبين الآية موضوعية اذنه سبــحانه، وهو دعــوة للإلتفات الى رضـاه ولزوم التضرع له تعالى.
التاسعة : الضمير المستتر في قوله تعالى [ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ] أي يعلم هو سبحانه ما بين أيديهم، والضمير جاء مستتراً، والعلم أمر ظاهر بين، لتطرد الآية الغفلة عن القلوب ولمعرفة انه تعالى موجود يعلم كل معلوم، وكل ممكن يرجع في وجوده ابتداء وبقاء اليه تعالى والعلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول.
العاشرة : الضمير الهاء في قـوله تعالى [ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ] ويدل على العظمة والجبروت والسلطان وتخلف الخلائق عن درك ما يحيط بشيء من علمه تعالى في المغيبات واسرار السماوات والأرض وتظهر المغايرة جلية بين واجب الوجود والممكنات في العلم، فانه سبحانه لا يعزب عن علمه شيء، بينما يمتنع عن الخلائق أي شيء من علمه الا ان يشاء الله، فان قلت ان الإنسان يسمع ويرى ويعلم بعض الحقائق ويسعى في اكتشاف شطر مما في عالم الفلك والأمور الكونية.
فهل هذا العلم ليس من علمه المقصود في هذه الآية، الجواب انه منها فهو تعالى يعلم بكل معلوم ولكن بمشيئته تعالى يعلم الناس بعض جوانب الطبيعة واسرار البدن كمركب ويرون الشمس والقمر، فهو من الإذن العام المحدود الذي اذن به تعالى للإنسان منذ ان خلق آدم وقال [ وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ]( )، وما وهبه الله تعالى للعباد لا يغادر الأرض لكرمه وجوده واحسانه سبحانه.
انه تعالى عالم بالكليات والجزئيات وعليه قول المتكلمين وفساد قول شطر من الفلاسفة بعدم علمه تعالى بالجزئيات، وان كان خلافهم صغروياً وانهم قالوا بان علمه تعالى بها ليس من الإحساس والتخيل.
ان كثرة اسمائه والضمائر العائدة له تعالى في هذه الآية نوع تشريف اضافي للآية وتوكيد لتضمنها اسرار خاصة.
الحادية عشرة : الضــمير المســتتر في الجملة الفعلية شــاء، واجماع المسلمين على انه تعالى مريد وهو سبحانه غير مغلوب، يفعل ما يشاء، وانى يشاء، وكيف يريد وهو العالم بما في الفعل من النفع والمصلحة في ايجاده.
الثانية عشرة : الضمير الهاء في [ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ] لبيان عظيم سلطانه وسعه ملكه وعائدية الكرسي له تدل على وجود الصانع وقدرته المطلقة وهو دعوة للخشوع والخضوع لسلطانه واللجوء اليه، والجهة منفية عنه تعالى، لأن كل ذي جهة مفتقر للمكان محل للحوادث وما كان مفتقراً للغير او محلاً للحوادث فليس بواجب.
الثالثة عشرة : قوله تعالى (وهــو) توكيد لضـمير الغائب بصيغة التعظيم والإجلال والتقاء صدر الآية وخاتمتها بهذا اللفظ الكريم عنوان تعاهده تعالى للخلائق واشراقة جلالية لآية الكرسي ودليل على شرفها.
الرابعة عشرة : الضمير الهاء في (ولا يؤده) دليل على قوته سبحانه وحاجة السماوات والأرض في بقائها لقدرته وهو عنوان الملكية المطلقة له سبحانه وعدم استغناء الموجودات عن فضله.
الخامسة عشرة : العلي: هذا الاسم دعوة للتصديق بالكتب السماوية المنزلة من عنده تعالى وحث على حسن الإمتثال وانه سبحانه العزيز مع نفي الجهة عنه تعالى بخلاف قول المجسمة.
السادسة عشرة : العظيم: ان عظمته تعالى تترشح على كلامه وقدسيته، وتبعث في النفس الخشوع وتجعل الإنسان ويشعر بذل كله فخر لأنه يصدر من منازل العبودية.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ]
بعد ذكر قصص الأنبياء والدعوة الى الإنفاق في سبيله تعالى جاءت هذه الآيــة لتــؤكد معالم التوحيد التي جــاهد الأنبياء والرسل من اجل تثبيتها، وتبــين الآية جانباً من اســرار فلســفة التوحيد وتدعو المسلمين الى اجتــناب ما كانت عليه بعــض الأمم من الإختلاف على انبيائهم كما انها تؤكد خيبة وخسران وفشل كل محاولة للخروج على احكام النبوة.
فالآيــة تبعث الأمل في النــفـــوس لما فيـها من الأخبار عن حقائق ثابتــة ازلـيـة ولقد بدأت الآية باسم الجلالة فهــو العنوان الجامع لأمهات الأسماء وللأخبار عن انفراده سبحانه بوجوب الوجود مما يعني بطلان عمل المشركين والجاحدين بالرسالات، انها دعوة للناس جميعاً للرجوع الى العلة الفاعلية والكمال اللامتناهي واقتباس الحصانة والتوفيق من انوار الرسالات التي لا تصدر الا عن واحد احد حصراً وتعييناً.
وابتداء الآية باسمه تعالى بعد ذكر الإختلاف والدعوة الى الإنفاق وسيلة لجعل النفوس تنجذب اليه تعالى وتمتلأ حكمة بتسليمها بالتوحيد، وليكون هذا التسليم مقدمة لمعرفة صفاته تعالى، ولمنع دبيب الشرك الخفي في الخلط في الصفات بين الخالق والمخلوق، فجاءت الآية اولاً لترســيخ قاعــدة فلســـفية وكلامية ثابتة وهــي ان صــفاته تعالى لا ينظر لها الا بلحــاظ الذات الإلهـية التي لا تقبل الإنفعال او التعدد او التركيب لأنها بسيطة.
ويستقرأ شرف الآية بالإبتداء وموضوعه، فالآية تبدأ باسم الجلالة وما له من الدلالات والوقع والأثر النفسي فحينما يسمع الإنسان اسم الله عز وجل يصغي متطلعاً الى التبليغ والبيان والأخبار فيأتي الموضوع بعده مباشرة ببيان قاعدة كلامية تقوم عليها فلسفة الخلق والتشريع وهي التوحيد، ان ذكر اسمه تعالى وحده عنوان التوحيد ولكن الإتيان بقوله تعالى [ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ] نوع تنبيه وانذار للكافرين وهي فخر وعز للمسلمين لإيمانهم وتصديقهم.
وهــذه الآيــة دعــوة لحمل لواء التوحيد والجهاد في سبيله تعالى وعــدم الميــل الى الدنيــا ومشاغلها لما فيها من اللهو والإشغال عن الذكر.
وتعتبر الآية علماً مستقلاً لما فيها من مضامين التوحيد والقواعد الكلية للمعرفة الإلهية وهي مانع مستديم من عبادة غيره فلا يستحق العبادة الا الله عز وجل ولا اله موجود غيره، وهي دعوة للتقديس والخشوع لمقام الربوبية وحسن الإمتثال لأوامره تعالى، والآية عون على التصدي لنزغ الشيطان واصوات الضلالة والشرك ومنع لتسرب الشك الى النفوس انها آية تدعو الروح للإنجذاب الى سبل الرشاد وتطرد الوهن والتكاسل في العبادات لأنها تنمي ملكة العبودية لله عز وجل في النفوس.
وكما ان اصل إله يأله اذا تحير فان الآية تجعل العقول تسبح في عالم الملكوت مذهولة لعظيم خلقه سبحانه وبديع صنعه لتسلم مقهورة بانه لا يستحق العبادة الا هو سبحانه.
ومن علماء التفسير من الف في غرائب التفسير بقصد التحذير منها وبيان الخطأ في الإعتماد على الرأي والموضوعات وما ليس له دليل من نقل او عقل او لغة.
ومنه ما ذكره ابن فورك في تفسيره للآية الكريمة ان ابراهيم كان له صديق، وصفه بانه (قلبه) فمعنى الآية أي ليسكن هذا الصديق الى هذه المشاهدة اذا رآها عياناً( ).
وهو بعيد عن المضامين القدسية للآية ولا دليل عليه وخلاف الأخبار والنصوص الواردة في الآية.
بحث نحوي
(لا) تأتي نافية وعلى عدة وجوه منها:
الأولى : انها تعمـل عمل (ان) لإرادة نفس الجنس وتســمى تبرئة لأنها تنفي الحكم عن جميع افــراد جنس اسمها، نحو قوله [ ُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ] وان تكررت جاز التركيب واعماله والغاؤها نحو قوله تعالى [ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ ] ( )، ونحو لاحولَ ولا قوةَّ الا بالله، أو لا حولٌ ولا قوةٌ الابالله، ويجوز اعماله في احداهما، واهمال الأخرى.
ويكثر حذف خبر (لا) النافية للجنس نحو ( لا خير)، (لا شك)، (لا ريب)، (لا بأس).
الثانية : تأتي نافية تعمل عمل ليس، ولا يشترط فيها الا تأخر خبرها وعدم انتقاص نفيها بالا.
الثالثة : تكون نافية عاطفة، ويشترط ان يسبقها اثبات او أمر نحو “صليت الظهر لا العصر”.
الرابعة : نافية جوابية، نحو رأيت الهلال؟ فتقول: لا، والأصل لا لم يهل.
الخامسة : ناهية جازمة أي تأتي لطلب الترك وتختص بالمضارع، وتقتضــي جــزمه وتجــعله مســتقبلاً نحو [ وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ]( ).
السادسة : تكون زائدة وهي التي تأتي للتوكيد كما في قوله تعالى [ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ ]( ).
بحث بلاغي
ومن اعجاز القرآن (مفردات القرآن) والخصوصيات التي ذكرت لبعض آيات وسور القرآن ومنها آية الكرسي وهي كالقمر بين الكواكب في هذا الباب بالنسبة للآيات الأخرى ذات الفضل والخصوصية.
عن الشعبي قال: لقي عمر بن الخطاب ركباً في سفر، فيهم ابن مسعود، فأمر رجلاً يناديهم: من اين القوم؟
قالوا: اقبلنا من الفج العميق، نريد البيت العتيق، فقال عمر: ان فيهم لعالماً، وأمر رجلاً ان يناديهم: أي القرآن أعظم؟
فاجابه عبد الله [ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ] قال نادهم: أي القرآن أحكم؟
فقال ابن مسعود: [ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ]( ) قال: نادهم: أي القرآن أجمع؟
فقال: [ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه *َ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ]( ) فقال: نادهــم، أي القرآن أحزن؟
فقال: [ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ]( ) فقال نادهم: أي القرآن أرجى؟ فقال: [ قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ]( ) الآية، فقال: افيكم ابن مسعود؟
قالوا: نعم، اخرجه عبدالرزاق في تفسيره بنحوه( ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن ابي بن كعب قال: قال رسول الله الله صلى الله عليه وآله وســلم: “يا ابا المنذر: اي آية في كتاب الله اعظم؟
قلت: الله لا الله الا هو الحــي القيــوم، قال: فضــرب في صدري، ثم قال: ليهنئك العلم يا ابا منذر والذي نفس محمد بيده ان لهذه الآية لساناً وشفتين، تقدس الملك عند ساق العرش) ( )، وكأن الذي يقرأها يسبح الله عند في الملأ الأعلى فهي تحكي حال من يقرأها وتعكس صوته وذكره فقراءتها عروج في عالم الملكوت ونداء مسموع من قبل الكروبيين وادخاركريم ليوم تتطاير فيه الصحف وتكشف السرائر.
وورد في الخبر ان الاسم الأعظم في آية الكرسي وأول آل عمران، [ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ] وقيل ان الاسم الأعظم هو الله، وقال صدر الدين الشيرازي وهو قول منصور( ).
وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: ” لما كان يوم بدر قاتلت شيئاً من قتال ثم جئت مسرعاً لأنظر الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما فعل فجئت فاجده وهو ساجد يقول يا حي يا قيوم لا يزيد عليها فرجعت الى القتال ثم جئت وهو سـاجد يقول ذلك ثم ذهبت الى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك، فلم يزل يقول ذلك حتى فتح الله له( ).
ويمكن ان يناقش سنداً ودلالة فالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن منشغلاً طيلة ساعات القتال بالسجود بل كان يتولى قيادة المعركة كما تدل عليه الأخبار والآثار ويمكن استقراؤه من قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( )، نعم يمكن ان يكون النبي يسجد بين الحين والآخر، وانه كان يكرر ( يا حي يا قيوم).
تفسير قوله تعالى [ الْحَيُّ ]
من اسمائه تعالى (الحي) وحصــر للحياة به تعالى على نحو الإستدامة والثبوت والحقيقة، وهو مانح الحياة للخلائق ومن اسرار الخلق ان آدم لم تدب فيه الحياة الا بعد ان نفخ الله فيه من روحه، والآية ثناء ومدح لمقام الربوبية وتحد لأهل الشرك والذين اتخذوا انداداً وشركاء لله عز وجل، اذ بينت انه تعالى وحده الحي وهناك ملازمة بين الحياة والمعبود.
والحياة من الصفات الثبوتية الوجودية، وقال الأشاعرة: ان حياته سبحانه صفة زائدة على الذات، وقال بعض المعتزلة بانها عبارة عن صحة اتصافه بالقدرة والعلم، والله عز وجل قادر عالم، فهو حي بالضرورة والقدرة والعلم مترشحان عن الحياة وهما مجردان، ومن لوازم الحياة.
وتؤكد الآيــة على انه تعالى قديم لا اول له يحده ببداية، وباق لا نهاية لوجوده في الزمن الحاضر وابدي سرمدي لا نهاية لوجوده في المستقبل.
وفي مفهوم الآية اشارة الى الموت الذي ابتلى الله عز وجل الناس به لبيان عظيم قدرته وفيه حث للعقول لإستحضار المائز بين واجب الوجود والممكنات فالموت نقص وآفة كما ان الحياة في الممكنات متوقفة على الغذاء والحاجة الى الغير ويطرأ عليها النمو والتغير ولو بالأجسام ومن لا يستطيع دفع الموت عن نفسه فيجب ان لا يكون معبوداً وعليه ان يكون عابداً.
وتطلق الحياة على الممكنات بلحاظ الوصف بحال المتعلق ولتلبس الروح في البــدن والا فان الحياة في الأصــل مرتبــة من التجـرد، وهي نــوع كمال وشــرف للمخــلوقــات، ولابـد ان تكــون العلـــة الفاعلية التي تفيض بالحيــاة على المخـلوقات مالكة للحياة باسمى واتم الكمالات.
ومجيء صفة الحياة مع كلمة التوحيد دلالة على موضوعيتها في العبادة والخلق والقدرة والعلم.
تفسير قوله تعالى [ الْقَيُّومُ ]
مدح وثناء له تعالى بذكر بعض اسمائه الحسنى التي تفيد استحقاقه للعبادة، وحاجة المخلوقات المستديمة لفضله سبحانه في تعاهدها ومنع فنائها بالحفظ والإصلاح والتدبير ومدها باسباب قوام بقائها وديمومتها لحكمته وبديع صنعه.
ان تعاهد المخلوقات امر يستلزم الحياة والإختيار والقدرة عند القوة الفاعلية وانه سبحانه يحفظ الكائنات والأنظمة الكونية بعناية وتجلي ولابد انها تصدر عن كمالات غير متناهية وهي برهان لإثبات وجود الصانع وحياته وعظيم قدرته.
والآية تبين حاجة الممكنات جميعاً الى من يتولى شؤونها ويحفظ كياناتها ويمنع من زوالها واضمحلالها قبل آجالها، لذا فهي تبين للإنسان حقيقة بانه كائن لا ينفك عن الإحتياج الفعلي المتصل لمن يقوم له اموره، وان الملائكة مع عظيم خلقها ادركوا هذا النقص الذاتي فتاهوا وتحيروا في صفات واجب الوجود الجمالية والجلالية واذعنوا خاضعين لسلطانه وجبروته سبحانه.
والآية ليست تعييراً للإنسان بل مدحاً له ايضاً بالدلالة الإلتزامية، ومن مفاهيم العز والتشريف لبني آدم انهم محتاجون اليه سبحانه في كل شيء ولأن قيمومته تعالى رحمة بهم وسد لنقص لا يستطيعون التغلب عليه بقدراتهم المحدودة والآية رد على النظرية القائلة بان الله عز وجل خلق الكون ثم تركه وشأنه، اذ انها تثبت توليه لشؤون الكون ورجوع مقاليد الأمور اليه سبحانه، والوجدان يشهد بان المخلوقات والأكوان تحتاج الى من يحفظها ذاتاً ويمنع من وقوع الصدام والتزاحم فيما بينها ولابد ان هذا الحافظ له القدرة على ذلك، وهو امر محصور به سبحانه، وهذا الدليل يسمى في علم الكلام بالبرهان الإني بالإستدلال من المعلول على العلة.
فهو سبحانه المدبر والمتولي للأمور لذا فان القيمومة من صفات الفعل لوجــود متعلق لمفهومهــا خــارج الذات فلا يتصــور وجود للأشياء الا بدوام وجوده وقدرته وسلطانه، كما ان اسم القيوم يدل بالدلالة الإلتزاميــة على البقاء والدوام وهــو من صفات الذات، فلم تذكر الآية الحياة للذات المقدســـة فقط، لأنها لا تفيــد معنى تولي شؤون الخلائق لذا جاء اسم القيوم بعد الحي لدعــوة العباد للإنجذاب اليه وعشق سبــحات جــلاله وادراك ما ينفــرد به سبحانه ولزوم عبادته والخشوع له.
واسم القيوم يدل على الإستغناء عن الغير وعدم الحاجة، وهي صــفة ينفــرد بها ســبحانه فما دام كل شـيء يحتاج اليه في وجوده وحفظــه فلابد انه غني عن الغير والا لأستلزم الدور وهو باطل، فسلسلة الحاجات تنتهي عنده سبحانه لأن الممكنات جميعاً مفتقرة اليه سواء كانت اعياناً او اعراضاً مادة او جسماً او عقلاً مجرداً وارواحاً، والقيمومة لا تنحصــر بالإرادة التكوينــية بل تشــمل التشـريعية سواء وفـق قانون الأسباب والمسببات او العلة والمعلول أو المؤثر والأثر ونحوها.
ويدل اسم (القيوم) على حضور جميع الأشياء عنده سبحانه وعلمه بها، فالقيمومة صفة لاحقة للعلم فلابد للقيوم ان يعلم تفاصيل وماهية القائم عليه وكيفية حفظه وتعاهده.
وجاءت صــفة القيــوم على نحــو الإطــلاق مما يعــني اســتيعابها لكافة الأزمنــة المقــدرة وغير المقدرة، وللممكــنات الموجــود والمعدوم فما كتب الله عز وجل له الحياة يتعاهده سبحانه بأسباب ايجاده واستدامته.
تفسير قوله تعالى [ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ]
تنزيه لمقام الربوبية ومدح وثناء للباري عز وجل وبيان لإنفراده بانتفاء الغفلة والنعاس عنه، والآية من الصفات القدسية السلبية، وتنزيه وتقديس عما ينافي القدم.
وبين السنة والنوم عمــوم وخصــوص مطلق فكل نـوم هو سنة وليس العكس، والسنة النعاس ومقدمة النوم فجاء التنزيه بنفي ادنى المراتب عنه مما يعني بالأولوية عدم طرو النوم على الذات المقدسة، ولكن الآية ذكرت النوم ايضاً وهو من الإعجاز المركب بذكر السنة وتعقبها بذكر النوم لتوكيد عدم حصول النوم مطلقاً سواء الذي يأتي بعد مقدمة السنة والنعاس او النوم الذي يأتي على نحو دفعي وبلا مقدمة.
وقالوا ان الأصل في البلاغة هو الإبتداء من الأقوى الى الأضعف بينما بدأت الآيــة من الأضعف الى الأقــوى، ولكن التحقــيق يثبــت عدم معارضــة نص الآيــة مع قواعد البلاغة فهي لم تبدأ من الأضعف بل بدأت من الأقوى، فالتنزه والإمتناع عن السـنة اصعب واقوى، فالقوة بلحاظ الذات والفاعل وهو الأنسب والأليق مع مقام الربوبية وعناوين المدح والثناء.
وفي الآية تحد وحجة، وتوكيد لما ينفرد به واجب الوجود، وهو برهان لإثبات الضعف والوهن عند الإنسان لأنه لا يستطيع ان يدفع عن نفسه ما ابتلاه الله عز وجل به من الوسن والنوم، بل ان العقل والأخبار والوجدان وعلوم الطب تؤكد حاجة الإنسان الى النوم وانه نافع للبدن والعقل والروح ومن ضرورات الجسد.
وفي الصحيح عن هشام بن سالم عن الامام جعفر الصادق قال: “ان قوماً اتوا نبياً لهم فقالوا: ادع لنا ربك يرفع عنا الموت فدعا لهم فرفع الله تبارك وتعالى عنهم الموت، وكثروا حتى ضاقت بهم المنازل وكثر النسل، وكان الرجل يصبح فيحتاج ان يطعم اباه وامه وجده وجد جده ويرضــيهم ويتعاهـدهم، فشغلوا عن طلب المعاش فاتــوه فقالوا: ســل ربّك ان يردّنا الى آجــالنا التي كنا عليها فسأل ربه عز وجل فردّهم الى آجالهم.
أي ان الموت رحمة للناس وركن من عالم التكوين وزينة للحياة الدنيا لمن يعلم انه مرحلة انتقال الى عالم الخلود ويحرص على اقتران العمل اللازم بالعلم والادراك.
والقيمومة على الخلائق تدل بالدلالة الإلتزامية على عدم الغفلة السنة والنوم ولكن الآية ذكرتهما على نحو الخصوص لبيان عظيم صفاته تعالى ولطرد الشك والوسوسة من الصدور.
وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه وقع في نفس موسى هل ينام الله تعالى ام لا، فارسل الله اليه ملكاً فأرقه ثلاثاً، ثم اعطاه قارورتين في كل يد واحدة وامره بالإحتفاظ بهما، وكان يتحرز جهده الى ان نام في آخر الأمر فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان، فضرب الله تعالى ذلك مثلاً له في بيان انه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السماوات والأرض.
تفسير قوله تعالى [ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ]
الآية اشـارة الى الأمر والخلق والتكــوين والعــوالم المــادية والــعقـول والنفوس والمركبات والاجناس والانواع وانها تبتدء منه وتنتهي اليه.
وتحصر الآية الملكية به تعالى وعلى نحو الإطلاق الذي تدل عليه لفظاً (ما) وكذا الجمع بين الأرض والسماوات على نحو العموم المجموعي والإستغراقي، انه انذار وتحذير للكافرين واهل الدنيا الذين يظنون ان لهم الشأن والقرار والتصرف فيما بين ايديهم وتحت سلطانهم من الماء والعدد والقوة والملك.
والآية الكريمة تنفي ملكية غيره فلا تنطبق على المقام قاعدة اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره لأن الموضوع وهو السماوات والأرض، متحد لا يقبل التعدد والإثنينية والشركة في الملكية، وملكيته تعالى جاءت على نحو الإطلاق الزماني فلم تنحصر بزمان دون زمان وليس من دليل على ملكية غيره من الخلائق على نحو الإشتقاق كما في قوله تعالى [ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ]( ).
وقد ورد موضــوع العـزة في قوله تعالى [ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ]( ) فعزتهم مشتقة من عزته تعالى بفضله ورحمته ولأنهم جنود له.
نعم ورد لفظ الملك بخصوص بني آدم سواء ما يتعلق ببعض الأنبياء واتباعهم، او في الكافرين كفرعون، ولكن اللفظ لا يتعلق بالملكية بل الملك بمعنى السلطان والقوة والحكم فيترشح عنه الإستيلاء على المال وهذا الإستيلاء لا يتعدى التصرف وهو امر يتعقبه الحساب جرياً وانطباقاً.
ان اخبار الآية الكريمة بحصر الملكية به تعالى يحول دون الغرور والعتو والإرتداد ويساعد في انكشاف زيف الدنيا وانها غير مؤهلة للعهد والميثاق والركون اليها لأن ما فيها لا يستطيع الإنسان امتلاكه وان الإباحة الشرعية والعرفية انما هي عرضية غير دائمية لأن الإنسان نفسه هالك وزائل ومنتقل الى عالم آخر ليس فيه الا الحساب، فالآية تأديب وتفقه في الدين وهي مدرسة اخلاقية تمنع التكبر والترفع عن الناس بسبب الملكية وكثرة الأموال وتؤكد بان الإنسان نفسه مملوك لله عز وجل، وفاقد الشيء لا يعطيه.
وفيها دروس كلامية لأنها تبين المائز بين واجب الوجود والممكنات وان ما عداه تعالى ممكن محدث يحتاج اليه في اصل وجوده واستدامته، وان المملوك محدث.
ولفظ (ما) يستعمل لغير العاقل في الغالب ولكنه جاء في المقام ليشمل المخلوقات جميعاً ومنها الإنسان والملائكة للغلبة والإطلاق وبلحاظ اصل الخلق ولبيان حال الضعف والحاجة التي عليها الخلائق جميعاً.
انها دعوة للإيمان والهداية تحبب الى النفس الخضوع والخشوع اليه تعالى لأنها تكشف حقيقة الصلة بين المخلوق وخالقه التي تتقوم بالعبادة والخشية منه تعالى.
تفسير قوله تعالى [ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ]
استفهام انكاري يتضــمن التقرير والإمضاء للشفاعة على نحو الموجبة الجزئية وهذا من اعجاز القرآن وعظيم رحمته تعالى فحتى في موارد النفي تجد شآبيب الرحمة والإستثناء الذي تتجلى فيه مضامين الرحمة والفضل الإلهي والآية تبين الحاجة اليه تعالى أي انها لا تنفصل في موضــوعها عن الشــطر السابق من الآيـة واطلاق ملكيته تعالى للأشياء جميعاً.
والشــفاعة تبدأ عــادة من الشفيع ومبادرته لضم جاهه الى المشفوع له مسـتثمراً منزلته عند المشفوع عنده، فجاءت الآية لتبين جانباً من نواميس الشفاعة في الآخرة وانها تختلف عما هو متعارف في الدنيا فقد يشفع قائد او وجيــه عند الســلطان والملك ويتقرب اليه بحسن الأدب والكلام وينظـــر الســلطان حاجتــه الى هذا القائد او ما قدمه من خدمات وامكان الإستجابة للشفاعة او ردها بحسب الفرد الأهم من مصلحته وما ينفع دوام حكمه او بلحاظ موضـوع الشفاعة ونوع الفعل المشفوع به.
اما الشـفاعة في الآخــرة فلا تخضــع للمصالح والمفاســد ولا الحاجات والمنافــع، فهو سبحانه الغني عن العباد لذا قدمت الآية الإســتفهام لإثبات حقيــقة تكــوينيـة دائمة وهي ان كل المخلوقات محتاجة اليه وان الشفيع محتاج على نحو الإطلاق والإستدامة ولا يمكن تصور الحاجة اليه، فالشفاعة برهان على واجب الوجود واستغنائه وسرمديته.
وفي الآية تحد وتوبيخ لأولئك الذين يرجون الشفاعة ويعتبرونها حتمية وصائرة لأن الذين يتطلعون الى شفاعتهم لهم منزلة عند الله عز وجل كالملائكة والأنبياء فالآية تضع شرطاً للشفاعة بالإضافة الى المنزلة وهو اذنه تعالى بالشفاعة وهذا الإذن اعم من ان ينحصر بالشفيع أي انه يفتح باباً واسعاً للمباحث الكلامية التي تتعلق باذنه تعالى باصل الشفاعة والشفيع والمشفوع له وموضوع الشفاعة ومناسبتها وعددها فيما يخص كلاً منهم واوانها.
والإذن لا يدل بالضرورة على قبول الشفاعة فالآية دعوة للجوء اليه في موضوع الشفاعة وهذا لا يمنع من رجاء الشفاعة من الأنبياء خصوصاً الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة والأولياء الا ان موضوع الشفاعة معلق على اذنه سبحانه ليندفع العباد الى التوجه اليه سبحانه للتفضل بقبول الشفاعة.
ومن اسمائه تعالى (الشفيع) وما يأذن به سبحانه من الشفاعة انما هو اشتقاقاً من شفاعته ورشحة من افاضاته على الشفيع والمشفوع له، والإذن بالشفاعة اعم من قبولها، فليس كل شفاعة يؤذن بها تكون مقبولة ويترتب عليها الأثر التام.
وهذا يعني تعدد المراحل والمراتب فالشفاعة لا تحصل الا بالإذن الإلهي وقد يستجيب لها سبحانه او لا يستجيب، او قد تتأخر الإستجابة كقوله تعالى[ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ]( )، نعم ورد ذكر لحصول النفع في قوله تعالى [ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ]( ).
وهي بشارة ورحمة واخبار عن منافع الإذن ولكنه لا يعني الإسـتجابة الكاملة لمضــمون الشــفاعة فقــد يكون النفع على نحــو الموجبة الجزئية، مما يعني حث العبد على اتيان الفرائض واجتناب السيئات في دار الحياة الدنيا واغتنامها لإكتناز الصالحات وحسن الإمتثال.
لقد بينت الآية ان الشفاعة نعمة اخروية يهبها الله عز وجل في الآخــرة لمن يشــاء من عباده بطــرفيهــا الشــفيع والمشــفــوع له، فهي دعوة لإستثمار الحياة الدنيا لفعل ما يستطيع العبد نيل هذه النعمة في الآخــرة، وهذا المبحــث الكلامي في الآيــة اهم مما انشـغلوا به من الخلاف في انحصار الشفاعة بالمطيع وحصول العفو لصاحب الكبيرة او عدمه.
فالآية بصيرة في الدنيا ومنع من الإتكاء على الشفاعة المتولد من مباني خاطئة، فهي تخبر عن فتح باب الشفاعة وتدعو الى السبل الصــحيحة لإستثماره وعدم تفويته او محاولة تضييعه ان كانت الشفاعة قد تــرد على العبد ابتداء من غير ســعي له منها على نحو الخصوص، فقد يأذن ســبحانه في شـفاعة بلحاظ فعل او انتماء او ولاء لم يعرف العبد ان هذا الفــعل يؤهـله لنيل الشفاعة، لأن الإذن الإلهي في الآية اعم من ان يكون اســتجابة لســؤالها فقد يــأذن سبحانه ابتداء وفضلاً منه تعالى.
بحث بلاغي
ينقسم الإطناب الى قسمين بسط وزيادة، والأول تعدد الجمل وذكر المصاديق، ومنه قوله تعالى [ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ]( ) لإرادة التفصيل وانحلال الخطاب للأجيال المتعاقبة على التباين في مدارك الناس واختلاف مداركهم.
اما اطناب الزيادة فهو على وجوه متعددة منها البدل ويأتي للبيان والتوكيد والإفهام ومنع الجهالة والغرر، وازالة اللبس ودفع الوهم فالذي في قوله تعالى [ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ ] سواء كان اعرابه بدلاً او انه خبر باعتبار ان [ مَنْ ذَا] كلها اسم استفهام يدل على دفع الوهم وتوكيد حصر الشفاعة به تعالى من باب التحدي والبرهان والوعيد والوعيد، الوعد للمؤمنين بالسعي لمرضاته تعالى وتحصيل اسباب الشفاعة والوعيد للكافرين.
والآية دعوة لتلمس وجوه الإذن ومعرفة سبل نيله التي تتجلى بطــاعته تعالى والتقرب اليه بالعبادة والإخلاص وصدق النية وعدم الرياء واجتــنــاب صــيغ الشرك الظاهــر والخفي، اذ ان الآية تدل بالدلالة الإلتزامية على حصول الشفاعة وامكانها وعدم امتناعها الا انها متعلقـة على الإذن الإلهــي، وموضوعية الإذن تنفــي شــفاعة الأوثان وما يعــبد من دون الله كما انه محــجوب عن اهل الضلالة والكـفر، فالآية تقطع امــل الكفار وتمنعهم من التطـلع الى الشفاعة بعيداً عن رضاه تعالى.
وتدل الآية على علمه تعالى بالشفيع والمشفوع له وان اعمال العباد تحضر معهم يوم القيامة.
لقد جاء الإذن على نحو الإطلاق من غير تقييد بشرط معين مما يعني التعدد في جنس وشخص الشفيع فيشمل الملائكة والرسل والأنبياء والصالحين والكتب المنزلة.
وفي خبر السكوني: عن الإمام الصادق قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله (في حديث) إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وما حل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهــره أنيق وباطنــه عميق ، له نــجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلــى غرائبــه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعــرفة لمن عــرف الصــفة، فليجـل جال بصــره وليبلغ الصـفة نظره ينــج من عطــب ويتخلص من نشــب، فإن التفكـر حياة قلب البصــير كما يمشــي المستنير في الظلمات بالنــور، فعليكم بحسن التلخلص وقلة التربص( ).
نعم فيها تقييد بلحاظ النوع والفعل فاعتبار الإذن الإلهي يخرج الأوثان وما يعبد المشركون من دون الله كما انه يدل بالدلالة الإلتزامية على الحاجة الى احراز ما يستحق به العبد هذا الإذن.
وفيها نوع تشريف للمخلصين من عباد الله وانهم سينالون يوم القيامــة مرتبة كــريمة بأهليتهم للشفاعة، وهذا الإذن عز لهم في الدنيا ايضاً من خــلال ما يضــفيه عليهم من الفخـــر والمائـز التشــريفي عن باقي الناس، وهي دعـــوة للإرتقاء بالكسب والإجتهاد في الطاعة والسعي الدؤوب لحصول الإذن بالشفاعة للغير او الأهلية لأن يكون العبد مشــفوعاً له فتحصيلها وامكان نيل شفاعة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وســلم والشــفعاء مرتبة وارتقــاء للعبد يغبطه عليه الخلائق.
وتثبت الآيــة عائدية الشفاعة اليه تعالى وانها تتم بقدرته ولا تكون الا بأمره تعالى، وفي آيات الشــفاعة تتجــلى القاعدة الكلية القائلة بان القــرآن يفســر بعضــه بعضــاً، فآيات القرآن الأخرى تدل على حصول الشــفاعة وليس امكــانها فقط، كما انها تبين صــفة الشـفيع بقوله تعالى [ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ]( ) وحددت شرائط المشفوع له بقوله تعالى [ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى]( ).
ومضمون الآية يدل عليه حكم العقل فلا تصح الشفاعة من غير رضا وقبول المشفوع عنده، ولقاعدة تنزيهه سبحانه من القبيح فان الشفاعة من موارد النظام الأحسن وفيها اصلاح للنفوس والأحوال في النشأتين، فان التسليم بالشفاعة والسعي لها فرعا الإيمان والإقرار باليوم الآخر وهي مدخل للدعاء والتوسل الى الله تعالى بنيل الحظوة عنده تعالى.
وتؤكــد الآية اختصاص الشفاعة به تعالى وعائدية ملكيتها له ســـبحانه بالإصــالة وعلى نحــو الثبوت فهــو الشــافع الحقيقــي، قال تعالى [ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( )، وانه ســبحانه يتفضل علــى من يشــاء مــن خاصة عبــاده بالشــفاعة.
والشفاعة باب للعز والرفعة والمقام المحمود عنده تعالى، وقد ورد في صحيح مسلم عن انس ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: انا اول شفيع في الجنة لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وان من الأنبياء نبياً لم يصدقه من امته الا رجل واحد.
واخرج البيهقي بالإســناد عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “انا قائد المرسلين ولا فخر، وانا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا اول شافع ومشفع ولا فخر”( ).
وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى [مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ]، قال: من يتكلم عنده الا باذنه، ولكن الشفاعة اخص والكلام يحمل على ظاهره، الا ان يدل دليل على خلافه وهو مفقود في المقام، كما ان موضوع الكلام له آية اخرى تخصه [ لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ]( ).
بحث كلامي
من اهم مباحث علم الكلام موضوع الشفاعة واجماع علماء الإسلام على امكان ووقـوع الشــفاعة وان اختلفوا في موضــوعها، فمنهم من قال ان الشفاعة للفساق من هذه الأمة لإسقاط عقابهم والعقاب حق لله عز وجل وله ان يتفضل باسقاطه عن عبيده وهو الغني عنه وعنهم.
وقال الكعبي وهو من رؤساء المعتزلة ان العفو عن المعاصي قبيح عقلاً، ولكن رحمته تعالى اوسع من ان تحيط بها اوهام البشر ونواميس العقول والنقاش في الكبرى ان العفو حسن عقلاً وعلى نحو الإطلاق سواء كان عن المعاصي او غيرها بل ان افضل مصاديقه ماكان عن المعصية والسيئة والذنب.
ومنهم من قال ان الشــفاعة طلـب زيادة المنافــع للمؤمنين المســتحقين للثواب ونسب هذا القول الى الوعيدية، واشكل الطوسي (597-672)هـ في تجريد الإعتقاد والعلامة الحلي المتوفي سنة 762هـ، على هذا القول بانه لو كانت الشفاعة تعني زيادة المنافع لا غير لكنا شافعين في النبي عليه وآله السلام حيث نطلب من الله تعالى علو الدرجات، ولكن هذا الإشكال لا يكفي لإسقاط هذا القول لأن مسألة سؤال الدرجات العلى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج بالتخصيص من موضوع الشـفاعة، فمــن شــرائط الشــفاعة ان الشـــافع اعلى من المشــفوع فيه، وهذا الســؤال يرد بصــيغة الدعــاء كما ورد “وابعثه المقام المحمود الذي وعدته “، ثم ان القائل بان الشفاعة طلب زيادة المنافع للمؤمنين لم يخــرج عن الإجــماع في ثبوت شــفاعته صلى الله عليه وآله وسلم، أي انه يسأل الله عز وجل يوم القيامة زيادة الدرجة وعلو الرتبة في الجنة للمؤمنين.
نعــم يشكل على هذا القول بان الشــفاعة اعم من ان تنحصــر بهذا الوجــه بل ان وقوعها في حق العصاة هو مصداق مهم من مصــاديقها والقائل بحصر الشفاعة بزيادة المنافع للمؤمنين استدل بوجوه :
الأول : قوله تعالى [ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ]( )، فالآية تنفي الشفاعة عن الظالمين والفاسق ظالم فلا تناله الشفاعة.
الثاني : قوله تعالى [ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ]( ) والشافع ناصر للمشفوع به ولا تصح نصرة الظالمين.
الثالث : قوله تعالى [ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ] ( )[ وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا] ( ) [ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ]( ).
الرابع : قوله تعالى [ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى ]( ) والفاسق غير مرضي عنده تعالى فلا تشفع له الملائكة.
والجواب على الوجه الأول ذو شعبتين:
الأولى: ان الآيــة قيدت الشــفيع المنفــي بانه مُطــاع وليس يوم القيامــة من مـطــاع الى الله تعالى، وهناك فرق بين الشفيع المجاب والشفيع المطاع ولا يحتاج الناس يوم القيامة الا تفضله تعالى بالإستجابة للشفاعة.
الثانية: ان الشفاعة اعم من تحقق الإستجابة لها على نحو الموجبة الكلية فقد تحصل الشفاعة ولكن موضوعها ممتنع او ان القابل لا يصلح لها.
وبالنسبة للوجه الثاني فان عنوان (الظالمين) من الكلي المشكك ويشــمل الكفار والذين ظلــموا الغـير وتعدوا على الحرمات قال تعالى [ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ ] ( ).
كما ان الإستدلال بالآية لابد ان يكون بلحاظ موضوعها ومناسبته فقد ذكر قوله تعالى [ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ] مرتين في القرآن كلاً منهما تتعلق باهل النار قال تعالى [ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ]( ) وقال تعالى [ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ]( ) فالمراد من الظالمين في الآيتين الذين ادخلوا النار ولم تنفعهم الشفاعة او انهم خارجون عن اســتحقاقها بالتخـصيص فلا يشمل موضوع الآيتين الذين تنالهم الشفاعة ممن لم يدخل النار.
وكذا بالنسبة للوجه الثالث فان قوله تعالى [فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ] ( ) وردت في المجرمين بعد تكذيبهم بالدين وتساؤل اهل اليمين عنهم [ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ] ( ) اما قوله تعالى [ وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا] ( )، فان الجزاء اعم من الشفاعة ولا يتحــمل الشــفيع شــيئاً مما فعل المشفوع له لأن موضوع الشفاعة هو ســؤال الشــفاعة والتوســل لإســقاط العقــاب وليس احالتــه على الغـير.
اما الوجـه الرابع فهو استدلال وجيه الا ان موضوع الآية هم الملائكة [ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ]( ).
والشفعاء اعم من الملائكة وفي الآية منع من الإسراف في الذنوب اعتماداً على الشفاعة فهي لا تخلو من تخويف وانذار.
ولا يمكن فصــل رضــاه يوم القيامة عما ينشـر من واسع رحمته تعالى فقد ورد في الحديث عن الإمام علي عليه السلام: “الله رحيم بعباده ومن رحمته انه خــلق مائة رحمة جعل منها رحمة واحدة في الخلق كلهم، فبها يتراحم الناس، وترحم الوالدة ولدها ، وتحنن الأمهات من الحيوانات على اولادها، فاذا كان يوم القيامة اضاف هذه الرحمة الى تسعة وتسعين من رحمة فيرحم بها امة محمد صلى الله عليه وآله وسلم”( ).
والحق ان الشــفاعة تشمل زيادة المنافع للمؤمنين واسقاط العقاب عن اهل المعصــية من المسـلمين رحمة وعفواً منه تعالى الا ان هذا لا يعني اغراءهــم بالمعصــية وتماديهــم فيها وعــدم ردعهم عنها بل انها بيان لعظيم رحمته تعالى وبرهان للكمالات المطلقة وهذه الحقيقة تدل بالدلالة الإلتزامية على مبغوضية المعصية وحاجة صاحبها الى شفاعة غيره من المقربين واحتمال عدم اهليته لنيلها.
وقد ورد في الحديث المشهور عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله: “ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من امتي”.
وتأتي آيات الشفاعة احياناً مع التوكيد على ملكية الله عز وجل المطلقة للســماوات والأرض وعلمــه تعالى بخـفايا الأمور واسرار الخلائق لبيــان ان الشــفاعة فضــل وافاضــة مــنه تعالى وليس حقاً للشفيع او المشــفوع له، فذكر الشفاعة في آية الكرسي جزء من سياق الآيــة في الثناء عليه سبحانه وبعث للأمل في النفوس باغتنام نعمة الشفاعة وما فيها من مضامين اللطف ودرء العذاب والأذى يوم الحسرة الأكبر.
تفسير قوله تعالى [ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ]
ذكرت في الآية وجوه:
الأول : [ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ] ما كان قبلــهم من امــور الدنيا، [وَمَا خَلْفَهُمْ ] ما يكون بعدهم من امر الآخرة، قاله مجاهد وعطاء والسدي.
الثاني : [ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ] يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها [وَمَا خَلْفَهُمْ ] الدنيا (انهم يخلفونها وراء ظهورهم، قاله الضحاك والكلبي.
الثالث: [ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ] من السماء الى الأرض [وَمَا خَلْفَهُمْ ] يريد ما في السماوات، ذكره عطاء عن ابن عباس، وفي الدر المنثور عن ابن عباس [ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ] ما قدموا من اعمالهم، [وَمَا خَلْفَهُمْ ] ما اضاعوا من اعمالهم.
الرابع: [ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ] بعد انقضاء اجالهم، [وَمَا خَلْفَهُمْ ]، أي ما كان من قبل ان يخلقهم.
وهذه الوجوه كلها من مصاديق الآية ولا تعارض بينها لإحاطته سبحانه علماً بكل شيء ومنها الوقائع والأحداث والأفعال، وتقلبات الأحوال وما يجري في الليل والنهار وفيها اخبار بان ملكيته تعالى للسماوات والأرض يلازمها العلم بدقائق الأمور، وانها تختلف عن ملوك الدنيا فان الملك لا يستطيع ان يحيط علماً بها يجري في مملكته وحتى في قصره.
وصحيح ان شطر الآية هذا جاء بعد موضوع الشفاعة وتقييده بالإذن الإلهي الا ان موضــوعه اعــم وهو قاعدة كلية تكوينية وبيان لعلــمه تعالى المطــلق واحـاطته بجميع الأشياء وعدم غياب شيء منها وان كان معدوماً، او غائباً او مشهوراً او لم يحدث بعد، وهو تعليل للشفاعة بانها لم تأت الا عــن علم مــنه تعالى باحوال الشافع والمشفوع له وما عند الشافع من الصالحات ما يؤهــله للشفاعة، واستحقاق المشفوع له للعقاب والشفاعة التي تحجب العقاب الأخروي عنه بفضله ولطفه سبحانه.
ولقد جاء الضمير في (ايديهم) و(خلفهم) على نحو التنكير ويحتمل وجوهاً:
الأولى : الشافعون والمشفوع لهم.
الثانية : الملائكة.
الثالثة : الأنبياء والرسل.
الرابعة : الصالحون والصديقون.
الخامسة : المسلمون.
السادسة : المؤمنون في كل زمان، فيشمل ازمنة الماضي والمضارع والمستقبل.
السابعة : العصاة ومرتكبوا الذنوب.
الثامنة : الكفار وعبدة الأوثان.
التاسعة : الناس جميعاً.
العاشرة : الخلائق جميعاً.
ويحمــل الكلام على الإطــلاق لاصــالته ولأنه تعالى عالم بكل ما هو معلــوم فيشـــمل الخلائق جميعها، وجاء ضمير جمــع المذكر للتغليب ولمناســـبة الموضــوع وتعلق الأمر بالذوات العاقلة بالأولوية، ولأن الآية في مقام الثناء والمدح له تعالى وبيان صفات الربوبية التي يختص بها والإخبار عن ثبوت الشفاعة مع علمه تعالى بما يفعله الناس فانه تعالى ينشر رحمته بما يفوق تصور الخلائق وكما في خلق آدم فان الملائكة قالوا [ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فقد لا يســتحق الانســان الشـــفاعة لقيــام الحجــة عليه واصراره على المعصية او ان العبد لا يستحق الإرتقاء في الجنة بواسطة الشفاعة لأن درجـــته التي هو فيها لم ينلــها عن اســتحقاق بل انها جــاءت بالعفو واللطف والفضل الإلهي، فجاءت هذه الآية لتؤكد ان الشفاعة جــاءت مع علمه تعالى بما فعله ويفعله الناس وانها مصداق لعظيم قــدرته وانها من شــؤون التشـــريع الخاصة به تعـالى ولا يقدر عليها غيره.
كما ان فيها انذاراً وتخويفاً وتحذيراً من الإسراف في الذنوب والركــون الى الدنيا وتــرك التوبة اتكالاً على الشفاعة ونيلها، أي ان الآية من الأضداد وهذا من اعجاز القرآن فهي بشارة للمؤمنين ومدح لهم وذم للفساق والكافرين وان فعل الصالحات والتزود بالتقوى في الدنيا خير من العروج الى الآخرة بالذنوب والخطايا والتطلع الى الشفاعة.
تفسير قوله تعالى [ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ ]
اثبات لحقيقة كلامية وبيان للكمال المطلق للذات المقدسة وسر من اسرار الخلق فلابد ان الممكن والمخلوق يعجز عن الإحاطة بما يعلمه الخالق، وكل ممكن متناه، والمعلومات غير متناهية فلا يمكن ان يحيط المتناهي بغير المتناهي.
والمراد من علمه تعالى في الآية هو المعلومات والأمور الحاضرة عنده سبحانه وليس صفته تعالى.
ولكن هناك معلومات ظاهرة للعيان وهي جزء مما احاط به علماً سبحانه فهل تشملها الآية ام انها خارجة بالتخصيص وانها ليست مقصودة بداهة او لأنها من وجوه المعرفة بالجزئيات وليس العلم بالكليات والمفاهيم، الجواب ان الآية تشملها لأن الحواس لم تدرك شيئاً الا باذنه سبحانه، وفي خلق الإنســان بدأ هذا الإذن بتعليمه تعالى الأسماء لآدم ثم علمها آدم الملائكة، فما تعلمه الخلائق انما هو اشتقاق من علمه ورشحة من رشحات فضله سبحانه فموضوع الآية لا ينحصر بعلوم الغيب بل هو اعم لذا ترى الملائكة ينفون العلم عن انفسهم الا ما افاضه الله عز وجل عليهم كما ورد في التنزيل [ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا]( ).
ومن العلم الحكمة والكتب المنزلــة واتباع الأنبيــاء والهــداية الى سبل الرشاد ومعرفة فلســـفة الشـــفاعة وكيفيــة الإنتـفاع منها في النشأتين، والإحتراز من الضلالة والفتنة وعدم توظيف العلم للضرر والإضرار.
نعم لقد حاز الملائكة والأنبياء القسط الأسمى والحظ الأوفر من العلم لإطلاعهم على جانب من علوم الغيب، وكذا المسلمون بما رزقهم الله من العلوم في ثــنايا القرآن وآيـاته وما فيه من المعارف الإلهية والكنوز والأسرار، وفي الآية بشارة ودعوة لإكتناز العلوم والإرتقاء في مراتبها.
فحسب القياس الإقتراني فان علوم الخلائق معلقة على مشيئته وهو الواسع الكريم، والنتيجة ان ما تحرزه الخلائق من العلوم في ازدياد واطراد قال تعالى [خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ] ( ).
وتمنع الآية من الـغــرور ونســبة الإنسان العلم الى نفسه وسعيه في ســبل الكسب والتحصيل فالله عز وجل جعل العقل عند الإنسان وسخر له الأشياء وقيض له الأسباب والوسائل ليقهر بالعلم الأمراض والبلايا ويسيح في عالم السماوات واعماق الأرض عسى ان يوظفها وفق حكم العقل والمنطق واحكام النبوة وما جاءت به الكتب المنزلة من عنده تعالى.
والآية تذكير واعتبار فما دام العلم الذي نتوصل به الى المنافع والســلطان من عنده تعالى، فمن لوازمه الشكر له تعالى، وهذا الشكر يتجلى بابهى مصاديقه بتسخيره لخدمة الشريعة والإنسانية.
ان في الآيــة انذاراً وتحذيراً من توظــيف العلم لغير مرضاته تعالى لأنه يــؤدي الى ســـخطه في الدارين، وقد يؤدي الى ارتفاع العلم وحجـب وسائطه عن الناس عقوبة ومنعاً للتمادي في المعاصي والحروب.
وتمنع الآية من الجحود فحينما يعلم الإنسان ان كل ما عنده هو من الله عز وجل ولم يأت الا بمشيئته فانه يزداد خشوعاً لله، لذا ترى الأنبياء ومع ما امتازوا به عن البشر من العلوم هم اكثر الناس خشوعاً وتذللاً لله وامتثالاً لأوامره سبحانه واقرارأ بفضله، وكانوا يحرصون على ان ما عندهم منه تعالى.
ومن علمه تعالى الذي تفضل به على اوليائه العلم بالشفاعة والسعي لإستثمارها والإنتفاع منها للذات وللغير.
تفسير قوله تعالى [ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ]
الكرسي معروف وهو الشيء الذي يصنع للجلوس سواء كان من الخشب او الحديد او جريد النخل او غيرها، سمي به لتركب بعضه على بعض، ولكنه في المقام له دلالات عقائدية وكلامية وعرفانية فهو تعالى منزه عن التجسيم والتشبيه والجسمية فلابد ان المراد منه مقاصد سامية بحسب صفاته الحسنى ولكن هذا لم يمنع من القول بالوصف المادي للكرسي لذا ذكرت في الكرسي اقوال :
الأولى : انه جسم عظيم.
الثانية : الكرسي هو العرش وان الفارق بينهما بحسب اللحاظ.
الثالثة : ان الكرسي دون العرش وانه فوق السماء السابعة وقيل انه تحت الأرض.
الرابعة : عن ثعلب: ان الكرسي هو ما تعرفه العرب من كراسي الملوك.
الخامسة : هو قدرته تعالى التي جاء بها يمسك السماوات والأرض، كما يقال: اجعل لهذا الجدار كرسياً، أي للحيلولة دون وقوعه اذا كان مائلاً للسقوط.
السادسة : هو العلم باعتبار ان العلم هو المعتمد عليه.
السابعة : السلطان والملك.
الثامنة : روى سعيد بن جبير عن ابن عباس انه موضع القدمين، ويحمل على الاستعارة وتقريب المعنى لأن الله عز وجل منزه عن الجسمية والجوارح وشؤون المادة.
وصحيح ان ظاهر الكلام يحمل على التشبيه المادي بالكرسي الا ان تنزيهه تعالى عن المادية واستغناؤه عن الكرسي وقرينة الآية في بيان وصف الكرسي بانه يسع السماوات والأرض امور تصلح ادلة لحمل الكلام على التأويل والمعنى ومنهم من ذكر البيت الحرام كمثال من جهة نسبته اليه تعالى وانه بيته، ولكنه قياس مع الفارق لثبوت المادية في البيت الحرام والمراد قصد المسلمين لحجه والطواف به تقرباً اليه، فالبيت وضع للناس والملائكة، اما الكرسي فهو عنوان الملك والقدرة والعظمة.
فالأقوى ان لفظ الكرســي جــاء هنا عنواناً للملك والسلطان والقدرة والعلم والجبروت، وقيل لبيان دخول الشفاعة ضمن ملكه وســلطانه وانه يســقط عمن يشــاء العقاب، فله الملك المطلق ولا يسئل عما يفعل، كما تدل الآية على الضبط ودقة النظام في السماوات والأرض وان سلطانه تعالى يمنع من اصطدام الكواكب والأجرام الســماوية ونحــوه مما يــؤدي الى الفــناء والــزوال، ومن اعجـاز القرآن ان الثنــاء عليه تـعالى تتــفرع عنه البشــارات والسكينة والمسائل العقائدية.
ان كثرة ورود لفظ العرش في القرآن دليل على موضوعيته واهميته في عالم التكوين، وقد ورد الثناء عليه تعالى في القرآن [رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ] ( ) وليس في القرآن الإضافة الى الكرسي مما يدل على ان العرش اكبر من الكرسي.
فالآية تحذر من الظلم والجحود وتمنع من الغرور والعتو والإغترار بالدنيا وتدعو الى الإمان وحسن الإمتثال في اداء الفرائض والإمتناع عما نهى عنه تعالى، فمن يعيش في ملك غيره يحرص على اجتناب ما لا يرضيه وهذا الوجه من الأمور التي يجب الإلتفات اليها في نظريات القرآن واسرار آياته باعتبار انه موجه للناس عامة وللمسلمين على نحو الخصوص.
ومن بديع آيات القرآن انها تقرب المعقول الى الأفهام بصيغ المحســـوس فجــاء ذكــر الكرســي لبيان عظيم ســـلطانه وكــبريائــه وتدبيره لشـــؤون السماوات والأرض وهو امر لا يقدر على معشاره غيره سبــحانه، وتقطع الآيــة الأمل بالشفاعة من غير اذنه سبحانه، أي ان هذا الجــزء من الآيـــة يدل بالدلالة التضــمنية على انحصـار الشفاعة به تعــالى وباذنه، فكل شيء هو في ملكه وان المخلوقات خاضعة لسلطانه.
ومن الصحيح عن ابراهيم عن ابيه عن الحسين بن خالد انه قرأ الإمام علي بن موسى الرضا (الله لا اله الا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه).
وهذا تفسير لما بين السماوات والأرض وبيان لعظيم علمه تعالى واحاطته بالأمور وليس هو قراءة اخرى للآية، وفيه نوع اطناب للتوكيد وتثبيت المعنى وبيان آيات الافاق ودفع الايهام.
تفسير قوله تعالى [ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ]
في هذا الشطر من الآية الكريمة اشارة الى موضوع الكرسي وانه جاء للبيان والتشبيه وتقريب المعنى وليس الوصف المادي المطابقي لأنها بينت ان الله عز وجل هو الذي يحفظهما ويمنع من زوالهما من الضمير في (يؤده) يعود اليه سبحانه.
وحفظه تعالى للسماوات والأرض ظاهر للعيان وتدركه كل الخلائق لذا جاءت الآية بنفي الإجهاد او الثقل او المشقة في حفظهما لأنه تعالى منزه عن الجسمية وتغير الحال انما حفظه لهما بامره وارادته سبحانه، كما ان السماوات والأرض وما فيهما مستجيبة لمشيئته، قائمة بسلطانه وعظيم قدرته، وقيل ان الضمير يعود الى الكرسي باعتبار ان السماوات والأرض على الكرسي والأول اصح.
وتدل الآية على اســتدامة وجود السماوات والأرض منه تعالى فليس من تعب او جهد يؤدي الى تداعيهما او زوالهما بل ان الله عزو وجل يمسك بهما ويتعاهدهما الى الأجل المحتوم والوقت المعلوم بامره وحسن تدبيره وفي التنزيل [ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
ان بديع صنعه يتجلى في احسن مصاديقه الظاهرة في خلق السماوات والأرض والنظام الدقيق الذي يضبط سير الكواكب والأفلاك كآية خالدة تلح على الناس بالتفكر في خلقه تعالى وتدعوهم كل يوم للإيمان والهداية ولتبقى مظهراً من مظاهر عظيم قدرته.
وفي الآية بيان لعظيم فضــله تعالى وان تسخير الأشياء للناس لا يكون الا بحفظ الســـماوت والأرض، الذي يعتبر الأصل في ديمومة الحياة وهي مادة دوام العبادة في الأرض، وكأن عبادته تعالى شكر له على حفــظ الســـماوات والأرض، وتفيد الآيـة بالأولوية بان حفظ جنس الإنســـان لا يكــون الا بفضله تعالى ومن غير مشقة او جهد او ثقل في وجوده.
واخرج الطبراني عن ابن عباس “ولا يؤده حفظهما” يريد ولا يفوته شيء مما في في السماوات والأرض.
وتبعث الآية السكينة في النفس وتحول دون تسرب الخوف والفزع الى النفوس من احتمال زوال السماوات والأرض، فانت ترى الرعب الذي تبعثه الأسلحة النووية والجرثومية عند الناس جميعاً ومنهم رعايا الدول المصنعة لها مع انها ذات اثر سلبي محدود ومؤقت وقد يمكن الحيلولة دونه والوقاية منه والمنع من حدوثه اما السماوات والأرض فانه لا تستطيع الخلائق وان اجتمعت حفظهما فالله عز وجل وحده القادر على حفظهما ومنع انهيارهما.
وتدحض الآية شبهة احد الفلاسفة اليونانيين القدامى الذي قال ان الله خلق العالم ثم تركه، اذ انها تتضمن ثلاثة معاني:
الأول: حاجة العالم والسماوات والأرض وما فيهما للحفظ.
الثاني: تفضله تعالى بحفــظهما وضــبط انظــمة سـيرهما والحياة فيهما.
الثالث: انه تعالى لا يثقله ولا يجهده شيء لأنه سبحانه ليس بمادة ولا عرض ولا جوهر وغير متحيز ولا تطرأ عليه الحوادث.
وتدل الآية على انه سبحانه قديم باق لا نهاية لوجوده في الزمن الحاضر، وأبدي لا آخر له، وانه تعالى مدرك أي عالم بالمدركات، والثناء الذي تتضمنه الآية درس عقائدي وبيان لخصائص واجب الوجود وعظيم قدرته.
تفسير قوله تعالى [ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ]
جاءت خاتمة الآية مدحاً له تعالى وتوكيداً لما تضمنته من مظاهر العظمة والقدرة التي ينفرد بها سبحانه عما سواه كما انها لا تخرج عن سياق وصيغ الثناء الواردة في الآية، انها عز للمؤمنين وملاذ كريم وبرهان على ربوبيته سبحانه وحجة دامغة على الكافرين واهل الضلالة والجحود.
وفي خاتمتها تحــد دائم واثبــات لعجز الخلائق عن درك كنه حقيقته او الإحـاطة بعظيم صفاته اذ انها تؤكد عجزها عن الإحاطة ببديع صنعه وعما فيها بالذات من الأٍسرار والإعجاز مع ما بلغه الانسان من مراتب العلم لم يستطع معرفة اسرار خلقه ومزايا تركيبه من البدن والروح.
ومن الإعجاز ان تكون خاتمة الآية تعليلاً لمضامينها القدسية، فانه سبحانه لا يقربه النوم ويقبل الشفاعة ويعفو عن السيئات ولا يغيب عن علمه شيء وان دق وصغر وملكه يستوعب ما في السماوات والأرض لأنه سبحانه العلي الذي لا يرقى اليه شيء وهو سبحانه منزه عن الجهة والمكان.
وهو العلي الذي علا فوق كل شيء وقهر العباد بقدرته، فالعلو هنا ليس المكاني لتنزه سبحانه عن المكان والحيز والجهة بل هو المتعالي عن افك المفترين ووساوس المتحيرين وله كل الصفات العُلى والشرف والرفعة والعز والسلطان والجبروت، والعلو هنا من العظمة والتجبر، انه العلي الذي لا يبلغه ثناء او مدح، وهو المتعالي عن الأضداد والأنداد والأمثال والمنزه عن النقص.
والآية دعوة للتفكر في مخلوقات الله ومعرفة عظيم قدرته وسلطانه وملكه وكبريائه وجلاله وعدم الإنشغال في التفكر في الذات المقدسة لأن اوهام البشر لا تبلغ كنه ذاته سبحانه.
وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: “لا تتفكروا في الله ولكن تفكروا في خلقه”.
وأخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ في العظمة والاصبهاني في الترغيب عن عبد الله بن سلام قال: “خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتفكرون فقال لا تفكروا في الله ولكن تفكروا فيما خلق”( ).
ومن صفاته تعالى “العلي العظيم” وهو العظيم الذي لا يمكن الإحاطة بحقيقته والمنزه عن صفات الأجسام كالطول والعرض والعمق والكيف والأين والمتى ونحوها من المقولات العشرة، وينفرد سبحانه بالعظمة والكبرياء على نحو الحقيقة، ولو تعظم العبد فانه قبيح ومذموم منه.
وفي الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ” يقول الله عز وجل الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما ألقيته في جهنم “( ).
ومن عظمته تعالى سعة ملكه وانفراده به واحاطة علمه بكل شيء وديمومة سلطانه وجبروته وقدرته فالآية دعوة للفناء في جنب الله والسياحة في عالم صفاته وهي موضوع لتنمية ملكة العبادة والصلاح في النفوس وتهذيب الأخلاق بالإنقطاع اليه تعالى ونبذ المكروهات الشرعية والعقلية.
بحث عقائدي
لقد وردت بعض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شرف وفضل بعض سور القرآن منها: فاتحة الكتاب افضل القرآن، ومنها قل هوالله احد تعدل ثلث القرآن، ويس قلب القرآن، كما وردت اخبارعن فضل بعض آيات القرآن وهي اكثر خصوصية فبيان فضل آية بالخصوص من بين آيات للسورة يدل على شرف تلك الآية وليس من آية وردت فيها نصوص مستفيضة وتؤكد على شرفها وفضلها وموضوعيتها كآية الكرسي، فهي اكثر آيات القرآن ذكراً في الأخبار، وتوارث المسلمون من ايام الصحابة والى الآن النظر باهمية وقدسية الى آية الكرسي، وقد ينسى او يسهو شطر من المسلمين بعض اسماء سور القرآن ولكن الجميع يعرفون آية الكرسي، ويواظب على قراءتها عدد كبير منهم، لتتجلى معاني الإتحاد والإتصال بين النبوة والأجيال اللاحقة للمسلمين، وحضور السنة النبوية القولية والفعلية بين ظهرانيهم وتنقدح في اعمالهم ويعتبرونها في حياتهم اليومية، ان الأولوية التي يمنحها المسلمون في جميع بلدانهم لآية الكرسي دلالة على الإلتزام النوعي العام بالسنة، وبقاء المناهج التي وضعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حية مؤثرة، فالإهتمام العام بالثوابت التي اكد عليها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم دليل على سلامة الطريق الذي يسلكه عامة المسلمين، لقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: آية الكرسي سيدة آي القرآن، واذا كان ذكر سورة الفاتحة على نحو الخصوص وبيان فضلها لأنها فاتحة الكتاب وتتضمن مفاهيم التوحيد والربوبية والثناء والشكر له تعالى والدلائل العقلية على لزوم عبادته تعالى، وسورة الإخلاص لما فيها من مفاهيم التوحيد ومعرفة الصانع مع ان كل آية بل كل كلمة في القرآن له فضل وشرف وخصوصية وفيها من المعارف الربانية والمقاصد الإلهية، فان آية الكرسي من كنوز العرش جعله الله عز وجل سلاحاً مدخراً عند كل مسلم.
تحقيق روائي
عن أبى بن كعب: “ان النبي صلى الله عليه وسلم سأله أي آية في كتاب الله أعظم قال آية الكرسي الله لا اله الا هو الحى القيوم قال ليهنك العلم أبا المنذر والذى نفسي بيده ان لها لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش”( ).
ويدل الحديث على ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبين لاصحابه فضل آية الكرسي وانه أمر متعارف بينهم، وأراد هنا تثبيت هذه الحقيقة، وهذا التثبيت لا يتعلق بزمان واشخاص الصحابة فالمقصود الأمة بأجيالها المتعاقبة، كما ان الصحابة أنفسهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أفضل آية، (فقد أخرج البخاري في تاريخه والطبراني وأبو نعيم في المعرفة بسند رجاله ثقات عن ابن الاسقع البكري ان النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله انسان أي آية في القرآن أعظم فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله لا اله الا هو الحى القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم حتى انقضت الآية) ( ).
وأخرج النسائي وأبو يعلى وابن حبان وأبو الشيخ في العظمة والطبراني والحاكم وصححه وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن أبى بن كعب انه كان له جرن فيه تمر فكان يتعاهده فوجده ينقص فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة شبه الغلام المحتلم قال فسلمت فرد السلام فقلت ما أنت جنى أم انسى قال جنى قلت ناولنى يدك فناولني فإذا يداه يد كلب وشعره شعر كلب فقلت هكذا خلق الجن قال لقد علمت الجن ان ما فيهم من هو أشد منى قلت ما حملك على ما صنعت قال بلغني انك رجل تحب الصدقة فاحببنا ان نصيب من طعامك فقال له أبى فما الذى يجيرنا منكم قال هذه الآية آية الكرسي التى في سورة البقرة من قالها حين يمسى أجير منا حتى يصبح ومن قالها حين يصبح أجير منا حتى يمسى فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاخبره فقال صدق الخبيث( ).
ان الجن يشتركون في توكيد أهمية آية الكرسي وجاءت الواقعة لدعوة المسلمين على الاستعاذة والاحتراز من شرور الجن بآية الكرسي، وقراءتها لا تدفع الأذى عن صاحبها فقط بل تنفع غيره من دويرة أهله ومن ذريته والله واسع كريم، كما تنفعه ايضأ في غير أوان القراءة، فقد يكون في زمان محتاجاً لها ولكنه يغفل عنها فالله عز وجل ينعم عليه ببركاتها.
وآية الكرسي باب للرزق الكريم وقراءتها سبب للتحصيل والسعة على النفس والعيال، ووسيلة لقضاء الحوائج وتذليل الصعاب وانتفاء الخوف من الفقر والفاقة.
وقد أخرج أحمد وابن الضريس والهروى عن أنس: “ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجلا من أصحابه هل تزوجت قال لا وليس عندي ما أتزوج به، قال أو ليس معك قل هو الله أحد، قال بلى، قال ربع القرآن، أليس معك قل يا أيها الكافرون، قال بلى، قال ربع القرآن، أليس معك إذا زلزلت، قال بلى، قال ربع القرآن، أليس معك إذا جاء نصر الله، قال بلى، قال ربع القرآن، أليس معك آية الكرسي، قال بلى، قال ربع القرآن، فتزوج”( ).
والحديث يدل على المنزلة العظيمة لآية الكرسي، والحديث ذكرأربع سور وآية الكرسي وكل واحدة منهاتعدل ربع القرآن فيكون المجموع خمسة أرباع وليس أربعة أرباع.
ويمكن مناقشة الخبر سنداً ودلالة واحتمال ان الربع الخامس أمر اضافي بعيد وربما كان جمعاً بين حديثين في فضل بعض السور، وهو يدل على فضل آية الكرسي ومنزلتها في القرآن لتعلق احتمال الزيادة باحدى السور دون آية الكرسي.
وأخرج البيهقى في شعب الايمان عن أنس قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قرأ في دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي حفظ إلى الصلاة الاخرى ولا يحافظ عليها الا نبى أو صديق أو شهيد”( ).
ويبين الحديث ان قراءتها أمر مستحب وليس بواجب، ولكن تعاهد قراءتها لا يستطيعه الا من امتحن الله قلبه للايمان وارتقى في درجات التقوى، وان قراءتها بشارة نيل المراتب العالية في الجنة.
والحديث لا يعني ان من يقرأها يكون حتماً شهيداً ويُقتل في سبيل الله بل انه يرزق درجة الشهيد بمحافظته عل قراءة آية الكرسي كل يوم خمس مرات بعدد الصلوات اليومية، ولو رزق القارئ درجة الشهادة فهل يبقى ثواب اضافي لآية الكرسي، الجواب: نعم والله واسع كريم ويضاعف لمن يشاء.
وأخرج الطبراني بسند حسن عن الحسن بن على قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الاخرى”( ).
لقد تعددت الاخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منافع قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة يومية، وهي دعوة نبوية متكررة لتعاهد قراءتها وعدم الغفلة عنها او تركها تهاوناً وهي كموضوع السواك اذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لولا ان أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة).
وفي الاخبار انها طريق لدخول الجنة وقد أخرج البيهقي باسناده: “ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة لم يكن بينه وبين ان يدخل الجنة الا ان يموت فإذا مات دخل الجنة”( ).
ويدل الحديث على ان آية الكرسي واقية سماوية وحرز بين الصلاتين مما قد يتعرض له الانسان من الشرور والأذى، ولا ينحصر أثر آية الكرسي بالتوقي والاحتراز بل هي باب لزيادة الرزق والنماء في المال والبركة في الزاد والطعام، و عن عائشة: “ان رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه ان ما في بيته ممحوق من البركة فقال أين أنت من آية لكرسي ما تليت على طعام ولا ادام الا أنمى الله بركة ذلك الطعام والأدام”( ).
وأخرج ابن السنى في عمل اليوم والليلة من طريق على بن الحسين عن أبيه عن أمه فاطمة: :ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما دنا ولادها امر أم سلمة وزينب بنت جحش أن ياتيا فاطمة فيقرآ عندها آية الكرسي وان ربكم الله إلى آخر الآية ويعوذاها بالمعوذتين”( ).
وفي الحديث عدة مسائل منها حاجة المرأة أثناء الطلق لآية الكرسي لتيسير الولادة ولطرد الجن ودفع البلاء، والحرص على مباشرة المولود بآية الكرسي عند خروجه الى الحياة الدنيا، وتشترك آية الكرسي والمعوذتان في الاستعاذة وحفظ المولود وأمه، وتنفرد آية الكرسي بخصــوصيات ومنافـع عديدة، كما يبين الحديث حرص أهل البيت عليهم السلام على تعاهــد آية الكرسي وفيه حث للمسلمين على الاقتداء بهم.
فقد أخرج الديلمى عن على بن أبى طالب قال: “ما أرى رجلا أدرك عقله في الاسلام يبيت حتى يقرأ هذه الآية (الله لا اله الا هو الحى القيوم) ولو تعلمون ما فيها لما تركتموها على حال ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش ولم يؤتها نبى قبلى قال على فما بت ليلة قط منذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقرأها”( ).
وفي رواية البيهقي في الشعب عنه عليه السلام: “وما بت ليلة قط حتى اقرأها ثلاث مرات اقرؤها في الركعتين بعد العشاء الآخرة وفى وتري وحين آخذ مضجعي من فراشي”( ).
ولا تعارض بين الروايتين من جهة موضوع القراءة، فقد وردت الرواية الأولى بارادة الجنس والاطلاق، والثانية بالتفصيل وبيان عدد المرات.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة أو آية الكرسي ضحك وقال انهما من كنز الرحمن تحت العرش وإذا قرأ من يعمل سوأ يجز به استرجع واستكان”( ).
مما يدل على الشرف العظيم الذي ناله المسلمون بنزول آية الكرسي بلحاظ مصدرها وموضعها تحت العرش، وانها نفحة مدخرة لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن خلالها تعرف منزلة القرآن بين الكتب السماوية وعظيم الثواب في قراءته.
وأخرج ابن مردويه عن أبى موسى الاشعري مرفوعا: “أوحى الله إلى موسى بن عمران أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة فانه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعل له قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب النبيين وأعمال الصديقين ولا يواظب على ذلك الا نبى أو صديق أو عبد امتحنت قلبه بالايمان أو أريد قتله في سبيل الله” قال ابن كثير منكر جدا( ).
هذا وقد أخرج ابن الانباري في المصاحف والبيهقي عن علي في حديث: “ولم يعطها أحد قبل نبيكم”( ).
فالآية هبة اختص الله بها رسوله الكريم لتكون درة سماوية مدخرة في قلوب المسلمين لا تزيد قراءتها والانتفاع منها الا اتصال وزيادة فضله تعالى.
وأخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس ان بنى اسرائيل قالوا يا موسى هل ينام ربك قال اتقوا الله فناداه ربه يا موسى سألوك هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا فقال يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والارض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك وأنزل الله على نبيه آية الكرسي( ).
وأخرج ابن الانباري عن ابن عباس ان نافع بن الازرق قال له أخبرني عن قوله (لا تأخذه سنة) قال السنة الوسنان الذى هو نائم وليس بنائم قال وهل تعرف العرب ذلك قال نعم أما سمعت زهير بن أبى سلمى وهو يقول:
ولا سنة طوال الدهر تأخذه * ولا ينام وما في أمره فند( )
وعن الدارمي عن ايقع بن عبد الله الكلاغي، قال: “قال رجل يا رسول الله أي آية في كتاب الله اعظم؟ قال: آية الكرسي، الله لا اله الا هو الحي القيوم …” الحديث.
ويشــاهد في النصوص تسمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها بآية الكرســي مما يدل على ان اسمها هذا كان متعارفاً في ايام النبوة وعهد الصحابة واخبار عن عظيم منزلتها واعتبارها وانها من وجوه التحدي ومفردات الإعجاز في القرآن في بلاغتها وفصاحتها او في موضوعها او مضامينها ومنافعها في النشأتين، ان افرادها بنصوص وتسمية خاصة دعوة نبوية كريمة للإهتمام بها وتلمس بركتها وعدم التفريط بها.
وهذه الأحــاديث دعــوة وتوكيــد على التعاهد اليومــي لآية الكرسي والإحــتراز بها من آفات الليل وما يخفيه ظلامه وسكونه وغلبة النوم على الإنســان من شـــرور وطـوارق، فهي سلاح غيبي وواقية قرآنية في الليل والنهار وهناك اخبار كثيرة في تأريخ المسلمين تؤكد منافع الآية ونزول البركة ودفع الأذى والكيد عن قارئها وانها حصن يلجأ اليه في حال الرخاء والشدة.
بين الكرسي والعرش
ان كثرة ورود العرش في القرآن دليل على موضوعيته واهميته في عالم التكوين، وقد ورد الثناء عليه تعالى في القرآن [َ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ] وليس في القرآن الإضافة الى الكرسي مما يدل على ان العرش اكبر من الكرسي.
من بديع صنعه تعالى وجود عوالم لا متناهية متباينة في النوع والجنس كل عالــم وجـــزء منــها لــه خصـــوصــية وشــأن عظـــيم من غير تعـــارض او تزاحــم بينها في الحيـــز او الجهــة او الكيف قال تعالى [ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ]( )، وقد ورد ذكر الكرسي في القرآن مرتين، واحدة في هذه الآية ومرة تعلقت بملك سليمان قال تعالى [ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ] ( ).
اما مادة (عرش) فقد وردت في القرآن ســتاً وعشـــرين مرة، واحدة وعشـــرون منها وردت في عرشـــه تعالى وتمثـل كنزاً علمياً للتحقيق والإستنتاج واستنباط الدروس العقائدية والمسائل الكلامية تنطلق من قوله تعالى [ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ]( ).
وموضوعية الإبتلاء تبدو في تسخير السماوات والأرض لمنفعة بني آدم، وتلك المنفعة لا تنحصر بالحياة الدنيا بل انها تشمل الآخرة من باب الأولوية القطعية لأنها الحياة الدائمة الخالدة ولتعدد النعم فيها ووجوه العذاب وطول مدته.
وعرف العرش في مصطلح الكلام على القول :
الأولى : انه اعلى السماوات.
الثانية : السرير الذي تحمله الملائكة.
الثالثة : العرش وفق معناه اللغوي وهو الملك وان المراد من عرشه تعالى هو ملكه.
الرابعة : الجسم المحيط بجميع الأجسام وسمي به لإرتفاعه وان معنى الإستواء على العرش هو استيلاؤه تعالى على الملك.
الخامسة : العرش هو العلم الذي اطلع الله عليه انبياءه ورسله.
السادسة : اخرج عن أبى مالك قال الكرسي تحت العرش.
السابعة : أخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال الشمس جزء من سبعين جزأ من نور الكرسي والكرسي جزء من سبعين جزأ من نور العرش.
وفي المرسل عن الإمام الصادق عليه السلام: “قال ابو ذر: يا رسول الله ما افضل ما انزل عليك؟ قال آية الكرسي ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي الا كحلقة بارض فلاة وان فضل العرش على الكرسي كفضل فلاة على الحلقة، واخرجه ابن جرير وابو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي( )، مما يدل على عظمة العرش وانه اكبر من ان تحيط به اوهام البشر.
ان البحــث عن المعــاني النورانية والصــبغة العلمية للعرش والكرسي لا تمنع من التقدير المادي لهما كجزء من الإقرار ببديع صنعه تعالى وهو بيان عملي لما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “لا تفكروا في الله ولكن تفكروا فيما خلق الله”، فالتحقيق بما في الكرسي والعـــرش من الأســرار يفتــح آفـاقاً علمية امام الناس ويجعلهم يســيحون في مخلوقاته كطريق لمعرفة واجب الوجود والاقرار بالربوبية والســياحة العـقلــية في خــزائن قدرته الظاهرة للحواس وما حجب عنها.
فالعرش أعم واكبر من الكرسي وهو محيط بعوالم متعددة وهما معاً من بديع صنعه وعظيم آياته تعالى.
وعن زرارة عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: ان امير المؤمنين سئل عن قول الله [ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ] فقال: ان السماء والأرض وما فيهما من خلق مخلوق في جوف الكرسي وله اربعة املاك يحملونه باذن الله.
وعن الإمام محمــد الباقر عليه السلام: من قرأ آية الكرسي مرة صرف الله عنه الف مكــروه من مكاره الدنيا، والف مكروه من مكاره الآخرة، ايســر مكروه الدنيــا الفقــر، وايســر مكـروه الآخرة عذاب القبر.
قوله تعالى[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] الآية 256.
الإعراب واللغة
لا اكراه: لا: نافية للجنس، اكراه: اسمها.
في الدين: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (لا)
قد تبين الرشد: قد: حرف تحقيق، تبين: فعل ماض،
الرشد: فاعل مرفوع بالضمة.
فمن يكفر بالطاغوت: الفاء: الفصيحة، من: اسم شرط جازم وهو مبتدأ، يكفر: فعل شرط مجزوم، وفاعله ضمير مستتر يعود لاسم الشرط (من)
فقد استمسك: الفاء: رابطة لجواب الشرط، قد: حرف تحقيق.
استمسك: فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر يعود على (من)
والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر (من)
لا انفصام لها: لا: نافية للجنس، انفصام: اسمها، لها: جار ومجرور في محل خبر لا.
والله سميع عليم: الواو استئنافية واسم الجلالة مبتدأ.
سميع عليم: خبر ان، والطاغوت وزن لاهوت الأخير غير مقلوب، وطاغوت مقلوب لأنه من طغى، وتاؤه زائدة، وهوكل معبود من دون الله وقيل هو الشيطان والكاهن ورواد الكفر والضلالة.
ويقع الطاغوت على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث: طواغيت، وعروة الدلو والقدر: مقبضه، يقال: عرى اكلت الماشية العروة، وانشد ابن السكيت:
ما كان جرب، عند مد حبالكم
ضعف يخاف، ولا انفصام في العرى
والوثيقة: الأحكام في الأمر ويقال: واخذ الأمر بالأوثق أي الأشد الأحكم.
في سياق الآيات
بعد ذكر اخبار الأمم واختلافهم على رسلهم والدعوة الى التوحيد وبعد آية الكرسي المتضمنة لدلائل التوحيد ورد في حديث انها سيدة آي القرآن، جاءت هذه الآية في سياق الدعوة الى الإيمان ولكن بلحاظ عدم الإكراه والإجبار، ولو شاء الله لحمل الامم السالفة على الإسلام واتباع الرسل والانفاق في سبيله تعالى.
إعجاز الآية
تبين الآية استغناؤه تعالى عن الناس، وان اختيارهم الهدى خير لأنفسهم ونجاة لهم من العقاب، كما تدل بالدلالة الإلتزامية على كمال الدين بالإسلام وبلوغ الناس الحجة، وان الآيات التي جاء بها الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم كافية لإختيار طريق الإيمان لمختلف المدارك والطبقات والأمم، ومن اعجازها تجلي آيات الهدى والرشد وذم الكفر والضلالة، واحتواؤها علىالوعد الكريم الذي يتفرع عنه حث على الإيمان ووعيد على الجحود.
الآية سلاح
تعتبر الآية مدرسة عقائدية تحول دون الإفراط في حمل الناس على الهدى واكراههم على الإسلام تقرباً الى الله عزوجل وحرصاً عليهم ورعاية لمصالحهم الدنيوية والأخروية، وهذا الإفراط والتشديد لا يمكن ان يمتنع عنه المؤمنون المتحمسون في مرضاة الله والراجين عظيم ثوابه الا بآية قرآنية صريحة فجاءت هذه الآية الكريمة لتخفف عنهم ولكنها لم تسقط الدعوة تماماًً سواء بلحاظ الآيات الأخرى التي تحث على الدعوة الىالإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة او بمضمون هذه الآية وما فيها من بيان منافع الإيمان.
أسباب النزول
ذكرت في الآية ثلاثة اقوال:
الأولى : ان الآية نزلت في رجل من الأنصار يدعى ابا الحصين وكان له ابنان فقدم تجار الشام الى المدينة يحملون الزيت فلما ارادوا الرجوع من المدينة اتاهم ابنا ابا الحصين فدعوهما الى النصرانية فتنصرا ومضيا الى الشام فاخبر ابو الحصين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانزل الله تعالى لا اكراه في الدين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ابعدهما الله هما اول من كفر فوجد ابو الحصين في نفسه على النبي حين لم يبعث في طلبهما فانزل الله [ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ….]( ) وكان هذا قبل ان يؤمر النبي بقتال اهل الكتاب في سورة براءة رواه الطبرسي عن السدي، واخرج قريباً منه ابن اسحق وابن جرير عن ابن عباس.
الثانية : ان الآية نزلت في رجل من الأنصار كان له غلام اسود يقال له صبيح وكان يكرهه على الإسلام، عن مجاهد.
الثالثة : ان امرأة من الأنصار تكون مقلاتاً فترضع اولاد اليهود فجاء الإسلام وفيهم جماعة منهم فلما اجليت بنو النضير اذا فيهم اناس من الأنصار فقالوا يا رسول الله ابناؤنا واخواننا فنزلت لا اكراه في الدين، فقال: خيروا اصحابكم فان اختاروكم فهم منكم وان اختاروهم فاجلوهم، عن ابن عباس، وليس في الحديث ما يدل على تعلق الخبر باسباب نزول الآية، واخرج قريباً منه اين جرير وابن المنذر عن مجاهد.
مفهوم الآية
تنهى الآية على حمل الناس على الإنتماء للعقائد على نحو الإكراه والإجبار وتبين ان الدين من افعال القلوب يتقوم بالإختيار، ولأن الله عز وجل رزق الإنسان رسولاً باطنياً وهو العقل يهتدي به في الظلمات فان الإختيار مناسبة كريمة لإختيار الرشد والإيمان واجتناب الضلالة والغي، وهي حث على الإيمان ودعوة الى الإسلام وذم وفضح لأولئك الذين يختارون اتباع الشيطان وفيها وعد كريم باعانة المسلمين وارشادهم الى مسالك الإيمان بمجرد اختيار الإسلام.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ]
تعتبر الآية قاعدة كلية في باب الإعتقاد والإنتماء الديني وفيها دلالة على ان القرآن هو اول من رفع لواء حرية الفكر ولكن هذه الحرية فيها امران :
الأول : انها مقيدة بلزوم اختيار الإيمان بالله عز وجل وما جاء به الأنبياء من عنده تعالى، وهذا القيد لا يخرج القاعدة عن مضامين الإختيار ولكن يبين مفاهيم الحرية في الإسلام بغير ما هو متعارف في هذا الزمان من الإطلاق فيها وعدم تقييدها بواعز اخلاقي او رادع عقلي او حكم شرعي.
الثاني : تعلقها بالأدلة التفصيلية واصول الدين واصل الإنتماء باعتبار ان الإنتماء تترتب عليه احكام فرعية واعتقادات اضافية وثانوية.
فصحيح ان مضمون الآية جاء مطلقاً الا ان مقتضى الصناعة الكلامية تفكــيكـه على طريقة السبر والتقسيم، فلا يجوز الإكراه والإجبار للانتقال الى ملل الكفر، اما الإنتماء الى الإسلام فهو الدين الحق وهو يخرج من موضــوع الإكــراه بالتخـصص لأنه دين الفطرة الذي اراده الله تعالى للعــباد، فالــذي يطلب منه الدخول في الإسلام ولو بوســائل الضـغط والتشديد لا يقال انه مكره، بل ان موضوع الإكراه هو الإجبــار باعتبار ان الرشــد موافق للعقل والفطرة وللحكمة في الخلق.
وفي الآية وجوه:
الأولى : ان الآية رحمة للمسلمين مطلقاً لما فيها من الشهادة والإمضاء لإسلامهم فكل من دخل الإسلام يعتبر اسلامه عن اختيار ورضا وتمكن، وهو من اللطف الإلهي ولكنه ليس من باب تزيين الأمر وتغيير الماهية والسنخية واصل الإنتماء، بل لأن الذي ينتمي للإسلام طوعاً او كرهاًً يرى الآيات ومضامين الرشد وسبل النجاة فيه، فيكون ايمانه تدريجياً وليس دفعياً ومراتب الإيمان هذه لا تأتي بالإكراه لأنه يتلقاها بما هو مسلم، ومنها الفرائض والتكاليف كموضوع للإيمان ومدخل له، فليس المراد من (الدين) في الآية هو الإنتماء وابتداء الدخول وحده بل يشمل العقيدة والفعل.
الثانية : الآية مرآة للتكليف في الدنيا وبيان بان دخول الإسلام لا يكون بالإجبار بل بالإختيار والتمكن.
الثالثة : في الإنتماء للإسلام خير الدنيا والآخرة وهو اسمى مراتب السمو والرفعة والعز وهذه المراتب لا يستحقها من يدخل الإسلام مكرهاً.
الرابعة : تتعلق الآية باهل الكتاب وعدم اكراههم على الإسلام لذا شرعت الجزية وهي مقدار معلوم من المال يدفعه الكتابي ليبقى على دينه ويكون في ذمة الإسلام، بخلاف الوثني غير الكتابي فان الجزية لا تقبل منه.
الخامسة : في الآية اكرام للمسلمين مطلقاً وازالة للفوارق بينهم بلحاظ الدخول في الإسلام من جهة الإختيار او الإكراه، فقد يعرض بعض الأسرى والوثنيين على السيف ويخيرون بين الإسلام والقتل فيختارون الإسلام، فجاءت الآية لمنع تسميتهم بالمكرهين ونعتهم بخصوصية تتعلق بكيفية دخولهم الإسلام وتثبت انهم دخلوه مكرهين وعند الخوف من بريق السيف.
وهذا النعت في حال شيوعه يؤثر سلباً عليهم شخصياً وعلى ابنائهم ويحول دون مشاركتهم الكاملة في بناء الإسلام او في الإختيار للمناصب الرفيعة ووظائف القيادة، مما يضر بمصالح الإسلام، ثم ان الدين لا ينحصر موضوعه ومسائله بالإنتماء الإبتدائي بل هو امر منبسط على جميع افعال العبد وايامه وادائه للفرائض لذا يشترط قصد القربة في العبادات كما انها لا تتقوم الا بالنية، فحينما يصلي من دخل الإسلام مكرهاً فانه لا يعتبر مكرهاً وكذا من صام يومه، والصيام فعل بين العبد وبين ربه وخالص لله تعالى، لذا ورد في الحديث القدسي: “الصوم لي وانا اجزي عليه”( ).
فهناك ساعات يخلو بها العبد مع نفسه ولا يراه الا الله فتعاهده فريضة الصيام وحرصه على ادائها دليل على انتفاء موضوع الإكراه، والحكم يتبع الموضوع فلا يصح بعدئذ نعته بالإكراه بمعنى ان الإنتماء للإسلام انحلالي ويتألف من اجزاء زمانية وفعلية يكون الإنتماء واحداً من اجزاء طولية متكثرة، والمدار على الحال الذي فيه العبد فعلاً وهو مقتضى حكم العقل والشرع والإنصاف.
السادسة : تنهى الآية عن الإكراه في الملل الأخرى، فهناك اختلاف بين الإسلام وغيره من الملل والمذاهب فمن ينتمي للإسلام يشعر بالرضا والغبطة بهذا الإنتماء، اما الذي يبقى على الكفر فانه يشعر بالأسى والإنقباض والحسرة لبقائه في منازل الإعراض عن الآيات وعدم لحوقه بدعوة الحق، فتمنع الآية من الإنقياد للنفس الشهوية والغضبية واسباب العصبية.
السابعة : تنهى الآية عن قيام رؤساء الملل الأخرى بمنع اتباعهم عن دخول الإسلام وقد كانت قريش تضع العيون وتبعث بالرجال حول المدينة لمنع الناس من القدوم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورؤية الآيات ودخول الإسلام، وكان بعض كبار وزعماء اليهود يبذلون الوسع في تحريف صفات نبي آخر الزمان ويصدون اصحابهم عن الإسلام.
الثامنة : ذكر في تأويل الآية ان الإكراه ان يقول المسلم للكافر: ان آمنت والا قتلتك فقال تعالى [ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] وهو تأويل حسن الا ان الشريعة بينت هذا الحكم على نحو التفصيل، فالكتابي تقبل منه الجزية ان اختار البقاء على دينه وعدم الدخول في الإسلام، والمراد من الكتابي هو اليهودي والنصراني والحق بهما المجوسي.
فيكون القتل ساقطاً عنهم ولا يكرهون على الإسلام في اصل الشريعة، اما الوثني فلم يقل احد بان الآية تمنع عنه الإختيار بين الإسلام والقتل الا ان يقال ان هذا التخيير ليس من الإكراه لإعتبار عنصر الإختيار فيه.
التاسعة : الآية دعوة لدخول الإسلام بالإختيار والعزم والإرادة، وهي تخلق في النفس كيفية نفسانية وتصوراً وشوقاً مؤكداً نحو الحق واسباب الرشد والهداية.
العاشرة : صيغة الإكراه تتعارض ومفاهيم التكليف الذي هو صبغة الحياة الدنيا، وجحود وكفر الإنسان لن يضر الله شيئاً.
الحادية عشرة : في الآية بيان خالد لكيفية الدعوة الى الله عز وجل، ونهي عن اللجوء الى القسوة والغلظة والإكراه في الهداية الى الإيمان.
الثانية عشرة : تظهر الآية صدق الرسالة الإسلامية لما تدل عليه بالدلالة التضمنية في الدعوة الى الإسلام بالآيات التي جاء بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم واعجاز القرآن، وحينما يتعطل جانب الإكراه يلجأ المسلم الى الوسائل العقلية للإحتجاج والبرهان فيكون نفع الدعوة مركبا للنفع الخاص والثقة بالنفس ورسوخ الإيمان واقامة البينة على الغير.
الثالثة عشرة : تدل الآية على اكرام الإسلام لكل انسان واتاحة الفرصة له لتوظيف عقله وعنصر الإختيار بتحديد الإنتماء والولاء.
الرابعة عشرة : الذي يدخل الإسلام عن ايمان وتسليم ورضا افضل من الذي يدخله عن اكراه واجبار.
الخامسة عشرة : اذا زال الإكـراه مطلقاً في الإنتماء الى الملل والعقائد فستكون الغلبة للديانة الحقة ذات الآيات الباهرات وهي الإسلام حصراً وتعييناً.
السادسة عشرة : الآية اخبار وبشارة بان كل من دخل الإسلام يمتلئ قلبه رضاً بمعارفه وسننه وتلك حقيقة تكوينية وتشريعية.
السابعة عشرة : تعتبر الاية مدرسة كلامية واخلاقية في باب العقيدة والمذهب وتدل على اكرام الإسلام للإنسان واختياره من غير تفريط بالدعوة لحسن الإختيار ودخول الإسلام.
وقد ورد لفظ (الدِين) في القرآن نحو تسعين مرة وكلها تتعلق بالإسلام ومنها وصف يوم القيامةبيوم الدين، ولم يأت لفظ الدين وصفاً باعتقاد الكافرين الا بآيات لا يتجاوز عددها اصابع اليد وهذا الوصف يحتمل امرين:
الأول: ان الوصف جاء على نحو الحقيقة وان لفظ الدين يصدق على اعتقادهم كتابيين كانوا او وثنيين.
الثاني: انه جاء على نحو المجاز والبيان المشابهة والمحاكاة كما في قوله تعالى [ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ]( ).
والدين في الإصطلاح هو وضع الهي يقود ارباب العقول باختيارهم الى ما هو خير محض، وهو الطريقة والشريعة وموضوعه الإهتداء للطاعات واجتناب المحرمات، ويتجلى بكل ما يدعو له الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد جاءت الآيات بمدح المسلمين على دينهم وان الدين وضع منســوب الى الله تعالى كما في قوله تعالى [ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ]( ) [ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ]( ) [ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ]( ).
كما جاء القرآن بتقسيم يدل على افادة معنى الدين حقيقة بالإسلام [ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ]( ).
وبخصوص الآية محل البحث فان قوله تعالى [ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] يحمل على الإطلاق فاذا كان النهي عن الإكراه في الدين في الإسلام فانه من باب الأولوية ينطبق على غيره من الملل والمذاهب، فليس لهم اكراه الناس على البقاء على ديانتهم او الإنتماء الى اليهودية او النصرانية او المجوسية بل ان الآية ظاهرة في هذا المعنى لأن استبانة الرشاد ووضوح الرؤية يجعل الإنسان يتجه صوب الإيمان من غيره اكراه ولا يبقى في مسالك الضلالة الا نتيجة الإكراه او الطمع ونحوه من الكدورات الظلمانية ومفاهيم حب الدنيا.
والإكراه في الدين له معنيان بلحاظ الجهة:
الأول : الدخول اليه بالقسر والإجبار.
الثاني : عدم الدخول اليه بسبب الإكراه، كما لو يمنع شخص او جماعة من الإنتماء الى الإسلام، والمعنى الثاني يخرج منه بالتخصيص ترك الإسلام والدخول في الأديان الأخرى لأمرين:
الأول: ان الإسلام هو الدين الحق وهو الذي يقبل الدخول اليه ويمنع من الخروج منه بالأدلة النقلية والعقلية فهو الديانة الناسخة والباقية الى يوم القيامة.
الثاني: الاحكام التكليفية والوضعية الخاصة بالنهي عن الارتداد سواء كان ملياً او فطرياً.
بحث كلامي
ينقسم الفاعل الى قسمين:
الأول: ما منه الوجود وهو العلة التامة للوجود، ومنحصر بواجب الوجود سبحانه فكل شيء في الوجود فيض منه تعالى، وارادته ومشيئته تعالى هي العلة الفاعلية للخلائق لأن وجودها ابتداء واستدامة بأمره ومشيئته، والممكنات جميعها تنتهي في وجودها اليه تعالى ولكنه لا يستلزم الجبر في افعال بني آدم.
الثاني: ما به الوجود: وهو الذي يباشر الفعل ويتلقي الفيض والفضل الإلهي وهو الممكن مطلقاً اذ انه مجرى الفيض الإلهي، والممكن وان كان لا يمتلك القدرة على افاضة الوجود فانه فاعل مختار، لذا لا تعارض بين انتهاء الأفعال الى ارادته تعالى واتيان ما به الوجود وهو الممكن الفاعل عن اختيار وقصد، ففعل العبد لا ينتهي اليه تعالى انتهاء ما به الوجود مباشرة ضرورة وجود فرق بين خلق الإنسان الذي ينتهي اليه تعالى على نحو الإطلاق، واتيان العبد للفعل الذي يتعلق بقصده وتوظيفه للعقل او تغليبه لشهوته، كما ان فعل العبد ليس ضروري الوجود، لذا فان فالعبد غير مجبور على افعاله فالله عز وجل اولى بحسنات العبد، والعبد اولى بسيئات نفسه.
وما ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “الشقي من شقي في بطن امه والسعيد من سعد في بطن امه”، فقد ورد في الصحيح عن الإمام موسى بن جعفر تفسير له لما سئل عنه اذ قال: “الشقي من علم الله وهو في بطن امه انه سيعمل اعمال الأشقياء، والسعيد من علم الله وهو في بطن امه انه سيعمل اعمال السعداء”.
فالسعادة والشقاوة ليس امرين ذاتيين بالإصالة وليس علة تامة للسلوك فالقدر المتيقن انهما امن باب الذاتي الإقتضائي فلا يلتزم الجبر بالإضافة الى الآيات والسنة النبوية التي تنفي الجبر.
وهناك تقسيم آخر للفاعل بلحاظ الفعل منها :
الأول : الفاعل بالطبع: وهو الذي يصدر منه الفعل لا عن قصد خاص لذات الفعل بل انه يأتي ملائماً لطبعه الأصلي، كالذي اعتاد كثرة اليمين، او اكل وجبة غذاء في وقت محدد لا عن جوع او رغبة، وكالذي اعتاد التدخين مع انه لا يرى أي فائدة فيه.
الثاني : الفاعل بالرضا: الذي يكون علمه بذاته سبباً لوجود شيء، وعلمه بوجود الشيء ذات علمه بوجوده كما في تصورات الإنسان واحلامه.
الثالث : الفاعل بالقسر: من يصدر الفعل منه، وليس من شأنه الإختيار، ويكون فعله على خلاف طبعه وماهيته كالحجر الذي يلقى الى الأعلى.
الرابع : الفاعل الموجب: الذي يصدر الفعل عنه من غير ان يمتلك القدرة على منعه وعدم صدوره وليس له داع الى احد الطرفين الفعل او عدمه كالنار في احراقها، والفيضان في تغطيته لسطح الأرض، والمصباح في ضيائه.
الخامس : الفاعل المختار: وهو الذي يؤثر في غيره وبامكانه ان لا يؤثر وان لا يفعل ولا يفيد الوجود.
فالإنسان ليس فاعلاً موجباً بل انه فاعل مختار ومؤثر في الأمور وذلك الفعل جاء معلولاً لخلقه تعالى له وجعله قادراًعلى الفعل وفي طــريقين متباينين وهـما الخير والشــر وبصورة محدودة وليست مطلقة والا فان شطراً من اهل الخير يود ان يؤتى ما يجعله يفعل اضعاف ما يقوم به ولكن قدراته محدودة، وكذا بالنسبة للأشرار انها فلسفة الإمتحان في النشأة الأولى، والإنتهاء الى ارادته تعالى انما هي في فعل العبد لا تعني الجبر للتمييز بين الفاعل القريب والفاعل البعيد، فقد جعل الله عند العبد حق الإختيار، وان مسألة القضاء والقدر لا تعني الجبر والإكراه.
وفي رواية الكافي والصدوق في التوحيد عن الإمام الحسين عليه السلام: “كان أمير المؤمنين عليه والسلام جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفين اذ أقبل شيخ فجثا بين يديه، ثم قال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا الى الشام أبقضاء من الله وقدره؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أجل يا شيخ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد الا بقضاء من الله وقدره، فقال له الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين، فقال له: مه يا شيخ، فوالله لقد عظم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين، ولا اليه مضطرين، فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا اليه مضطرين؟ وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا، فقال له: وتظن انه كان قضاءً وقدراً لازماً انه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله، وسقط معنى الوعد والوعيد، فلم تكن لائمة للمذنب، ولامحمدة للمحسن،ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب، تلك مقالة اخوان عبدة الاوثان،وخصماء الرحمن، وحزب الشيطان، وقدرية هذه الأمة ومجوسها، ان الله تبارك وتعالى كلف تخييراً، ونهى تحذيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يطع مكرهاً، ولم يملك مفوضاً، ولم يخلق السموات والارض وما بينهما باطلاً، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاُ، وذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار”.
وتقريب الإستدلال بهذا الخبر هو ان امير المؤمنين لم يرض للشيخ الإطلاق في فهم القضاء والقدر حينما قال عند الله احتسب عنائي وكأن المسير أمر حتمي وقهري وان القضاء ليس حتمياً كي لا يبطل الثواب والعقاب ولكنه لا يعني التفويض بل منزلة بين المنزلتين، فالإحسان والثواب لمن أدى الفرائض والطاعات وجاهد في سبيله تعالى، والعقاب لمن تخلف عن الواجبات، والأمر على نحو الإقتضاء وليس الإمضاء، وفي النبوي المشهور: القدرية مجوس هذه الأمة.
وسبب التشبيه بالمجوس هو اشتراكهما في سلب الإختيار عن العبد، فالمجوس ينسبون فعل الخير الى الله تعالى، والشر الى ابليس.
والتفويض باطل لأن الإنسان محتاج في افعاله الى المبدأ الفياض كما هو محتاج له في حدوثه واستدامة وجوده واستقلال العبد في اعماله مناف للسلطان المطلق لله تعالى، كما انه سبحانه منزه عن القبيح والأمر بالفحشاء والمعاصي وفي الخبر عن الإمام الصادق ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “من زعم ان الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم ان الخير والشر بغير مشيئة الله فقد اخرج الله من سلطانه، ومن زعم ان المعاصي بغير قوة الله فقد كذب على الله، ومن كذب على الله أدخله النار”.
تفسير قوله تعالى [ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ ]
الآية حجة سماوية ودلالة على رفعة الإسلام، وظهور الحق، وتجلي صدق نبوة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبلوغ مرتبة اقامة الحجة على الناس، واتضاح المائز الكبير بين الإسلام وبين غيره من الملل والمذاهب، وحصول البينونة بين المسلمين وغيرهم وتشريف المؤمنين بنعتهم بصفة الرشد واصابة الخير واسباب الهداية والفوز، وفيها ذم لأعداء الإسلام والجاحدين نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، وتجعل الآية اعتباراً للعقل وحكمه في معرفة الحق والنظام الأحسن واختيار السلامة في النشأتين.
ومن اسمائه تعالى الرشيد فهو الذي ارشد الخلق الى منافعهم ودلهم على مصالحهم، بلطفه ورحمته واحسن كل شيء خلقه، وفي الآية دلالة على تفضله بارشاد الضالين واصلاحهم لقبول الحق ودخول الإسلام.
والآية قاعدة كلية تتغشى ايام الحياة الدنيا منذ عهد التنزيل وتنبسط على اقطار الأرض كافة ولا عبرة بالشاذ النادر، فهي حجة على الناس جميعاً.
وتفتح الآية الباب للدراسات العقائدية في كيفية وضوح الرشد والهداية وظهور التضاد والتباين والإختلاف بينه وبين الغي والضلالة ومن اسباب حصوله:
الأولى : اعجاز القرآن وما فيه من الآيات الدالة على نزوله من عند الله ولزوم الإيمان به.
الثانية : تكامل الشريعة الإسلامية وما فيها من السنن ومناسبتها للعقل والحكمة.
الثالثة : الدراسة المقارنة بين الإسلام وغيره من الأديان والملل، بين الناسخ والمنسوخ في باب الأديان والشرائع.
الرابعة : اعتبار العقــل كحجـة في التمييز وان الآيات والبراهين التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كفيلة بتبيان الحق وظهوره.
والغي هو الضلال والخيبة، وقال ابن الإعرابي انه الفساد وفي الحديث: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، فبالإلتزام باحكام القرآن واتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتحقق الرشد والهداية وبالإعراض عنهما يحصل الضلال والفساد.
والآية تحذير من الضلالة وتوكيد على افتضاح امر الجاحدين والمارقين لوجــود مائــز ظــاهري هو الإنتماء الى الإسلام كعنوان للرشد.
كما انها مدح وثناء على المسـلمين وحث على استدامة الإيمان والبقاء على الإسلام وعدم التفريط في احكامه وهي بشارة الأمن والأمان في الدارين للملازمة بين الهداية وبين اسباب النجاة اما في الآخرة فظاهر ولا يحتاج الى دليل لأن الدنيا مزرعة الآخرة والهداية طــريق مبارك الى الجنة، واما في الدنيا فللملازمة بين حكم العقل والشرع وان الهداية تعني السداد والصلاح وتبعث على السكينة والطمأنينة.
وتدل الآية على انعدام البرزخ بين الإيمان والكف فلاواسطة بينهما، ومع انفصالهما حصل التباين بينهما واصبح بمقدور كل انسان التمييز بينهما وهذا من اعجاز الآية ومن افراد الإرادة التكوينية واقامة الحجة على الناس ومن مصاديق قاعدة اللطف فهذا التبين والتجلي تسهيل لدخول الناس الى الإسلام والإقرار بسماوية القرآن، لذا ترى المسلم يستغرب جحود الآخرين الآيات وتفويتهم الفرصة الكريمة بالإعراض عن الإنخراط في صفوف الراكعين والصائمين.
فمن الإعجاز انك ترى المسلم يزداد ايماناً وهداية مع تقادم الأيام عليه في ظلال الإسلام وادائه للفرائض، بينما ترى اصحاب المذاهب الأخرى يصيبهم الإحباط والقنوط مع الزمان الا ما قل مما ادى الى ظهور التحريف في مللهم وكتبهم بينما تعاهد المسلمون القرآن والفرائض لأنهم يتوارثونها امة عن امة ويقبلون عليها بشوق ورغبة ومن غير قسر والجاء.
تفسير قوله تعالى [ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ]
قدمت الآية الجحود بالطاغوت والتخلي عن مضامين الكفر والضلالة كمقدمة ضرورية للإيمان والإعتقاد السليم ولأن الكفر بالطاغوت ملائم للفطرة الإنسانية وحكم العقل ومفاهيم الحكمة وفي معنى الطاغوت يدل وجوه:
الأول : انه الشيطان عن عمر ومجاهد وقتادة، وقال الطبرسي: وهو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام.
الثاني : الكاهن، عن سعيد بن جبير.
الثالث : الساحر.
الرابع : الأصنام.
الخامس : مردة الجن والإنس.
السادس : كل رأس في الضلال.
ولا تعارض بين هذه الوجوه فلفظ الطاغوت وموضوعه ومواضعه في القرآن من الإعجاز القرآني لأنه عنوان جامع لأسباب الكفر والضلالة والجحود ويدل على تعدد مفاهيم الكفر ولزوم الحذر من مقدمات الضلالة وملتبسات الأمور، وفيه حث على اجتناب الشبهات ومقولات الكفر ومنازل الجهل، اذ ان الآية نوع علم وتعليم لتوكيدها على ضرورة الكفر بالطاغوت الذي يحتاج الى تحديد وتعيين للطاغوت وتشخيص لمواقعه مع معرفة اجمالية باضراره.
واسم الشرط (من) نوع حث على ترك منازل الكفر والإبتعاد عن الطاغوت ويدل بالدلالة التضمنية على مدح المسلمين والثناء عليهم لإختيارهم الإسلام وعدم التفاتهم الى المقولات الباطلة وصيغ الصد عن الشريعة الناسخة والجامعة للأحكام والسنن السماوية.
ومن معــاني الجملة الشـرطية في المقام دعوة الكفار والضالين الى ترك رؤوس الضلالة والمذاهب الباطلة واجتناب اللجوء الى السحرة والمردة.
وقد ورد ذكر الطاغوت في ثمانية مواضع من القرآن، اثنتان منها في سورة البقرة وثلاثة في سورة النساء، وفيها عدة مفاهيم منها:
الأولى : ان الكفار يتخذون الطاغوت ولياً.
الثانية : ذم فريق من اهل الكتاب لإيمانهم بالجبت والطاغوت.
الثالثة : الكفار يقاتلون من اجــل الطــاغوت، كما تضـمنت هذه الآية الحــث عــلى اجتناب الطاغوت وعبادته سواء كان صنماً او ملكاً او كاهــناً، ومن وجــوه العبادة هـنا الإنقياد والطاعة في معصية الله.
وفي اشتقاق لفظ الطاغوت قيل انه من الطغيان اشارة الى لزوم بغضه واجتنابه والإلتفات الى عتوه وتعديه والحيلولة دون ظلمه ونحو قوته وجبروته، فلا يصل الطغاة الى منازل القوة والجبروت والسلطان الا باعانة الآخرين، ويسخرون الناس لضرب بعضهم البعض الآخر، فجاءت الآية لتحذير الجميع منهم والكفر بهم ويعني بالأولوية عدم الركون اليهم او اعانتهم على الظلم واستدامة الطغيان خصوصاً وان الإنقياد لهم يحول دون توجه الناس لعبادته تعالى واشغالهم عن ذكره سبحانه وكذا بالنسبة للجوء الى الكاهن والساحر والظن بعلمهما بالوقائع وقدرتهما على تغييرها وتحقيق الآمال ودفع النحوسة.
بحث فقهي
تحرم الكِهانة وهي ادعاء معرفة الأسرار والإخبار عنها وما يحدث بمستقبل الأيام بزعم تلقيها من الجن.
ويحرم السحر عملاً وتعليماً وتعلماً وتكسباً وسواء كان بكتابة او تكلم او نفث او عقد او دخنة او تصوير، وكان تأثيره في المسحور عقلياً او بدنياً او نفسياً او مالياً، وحباً او بغضاً، ويلحق به تسخير الجن، والحق به في بعض الرسائل العملية استخدام الملائكة واحضار الأرواح وهو أمر يحتاج ثبوته الى دليل وان كثر ادعاؤه.
يستثنى من حرمة السحر ما يؤتى به لحل السحر وابطاله وما يكون للعلاج ودفع الإفتتان.
تحرم الشعبذة عملاً وتعليماً وتعلماً وكسباً وهي ملحقة بالسحر وعبارة عن خطفة وسرعة ومخاريق واراءة غير الواقع واقعاً هذا اذا لم يكن فيها غرض شرعي صحيح، ولا تشمل الشعبذة ما تسببه الآلات الكهربائية من فعل فيه سرعة خارقة او نحوها الا مع قصدها.
ولا بأس بالإخبار عن الكسوف والخسوف ودرجات الكواكب وبروجها واقتران بعضها مع بعض ومنازل سيرها وطلوعها وافولها.
وفي الآية تحذير من الشيطان واغوائه ووسوسته، وانذار لجميع الناس الى يوم القيامة لذا جاء الفعل (يكفر) بصيغة المضارع.
وفي الحديث: “من رفع راية ضلالة فصاحبها طاغوت”، وفي الدعاء: “واعوذ بك من شر كل باغ وطاغ”.
وسواء على القول المشهور بين الفلاسفة بان ادراك الماهية يتحقق بتجريد الذاتيات عن عوراضها الخاصة او على قول المدرسة الإفلاطونية بان ادراكها بتجلي واحساس بالحقائق المجردة او استحضارها في الذهن، فان الآية الكريمة تحذر من المفهوم الكلي للكفر والضلالة والإنقياد للطواغيت وهي دعوة.
لقد اختلف الفلاسفة في الكلي الطبيعي من جهة وجوده في الخارج بذاته ام انه الموجود في الخارج افراده، والأصح هو الثاني وهو المشهور فبالأفراد يتحقق الكلي الطبيعي فجاءت الآية الكريمة للنهي عن التعلق باي مصداق من مصايق الكفر والضلالة وتحذر منها مجتمعة ومتعددة.
فقد جاء الكفر بالطاغوت (بلا شرط) وعلى نحو الإطلاق في العقيدة والقول والفعل والوجود الذهني، اما الإيمان فقد جاء (بشرط لا) شرك ولا ريب ولا ارتداد وعدم الكفر بما جاء به الرسل من عنده تعالى.
تفسير قوله تعالى [ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ]
في الآية نكتة عقائدية وهي عدم الإكتفاء بالكفر بالطاغوت والبقاء في حال اللا ايمان فلابد من الإيمان بالله كما انها تنهى عن الرياء والجمع بين الكفر والإيمان والخلط بين الصالحات وما يتنافى معها.
وبينما جاء صدر الآية جملة شرطية متضمنة في دلالتها الأمر بالكفر بمصاديق الطاغوت المتعددة والتي تتعلق بالعقيدة والقول والفعل والإنقياد والطاعة وتنفيذ الأوامر جاء هذا الشطر من الآية دعوة للإيمان بالله عز وجل وعدم الشرك به.
فالآية نهي عن الإلحاد والزندقة وانكار الخالق ووجود الصانع ومن وجوه الإيمان التسليم بالرسالات والنبوات والكتب المنزلة وعدم تعطيل الكون او انكار احدى ضروريات الدين كالصلاة والزكاة والصوم والحج.
تفسير قوله تعالى [ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى]
الآية بشارة وامان وعهد دائم ويدل في مفهومه على التعريض بالكافرين واهل الضلالة وعبدة الطاغوت.
ان الإستمساك بالعروة الوثقى يستلزم القصد وبذل الوسع في نبذ الشرك ورموزه وعدم الإكتفاء بالنية والقصد القلبي، والتمثيل في المقام يفيد الفوز والظفر وعدم التعرض للخسارة والتفريط ويعني ان الإيمان بالله عز وجل ونبذ الطاغوت ومصاديقه حاجة دنيوية واخروية.
وصفة الوثقى هنا كافعل تفضيل لا تعني وجود عروة اخرى ادنى منها رتبة، فليس من عروة الا عروة واحدة وجاء الوصف بالوثقى اخص من الموصوف، كما لو قلت اكرم العالم العامل فان وصف العامل اخص من العالم، وانتفاء القيد عن الموصوف وهو العروة يقتضي انتفاء طبيعي الحكم عنه، لعدم امكان تجزئة الإيمان ولأن طريق النجاة متحد وليس متعدداً.
والآية وعد كريم وترغيب بالإيمان بالله مع وجوبه على الإنسان عقلاً وشرعاً.
وهي حث على استدامة الإيمان وعدم طرو الشك او حصول الإرتداد او الإستماع الى جنود الشيطان وما يبثون من الريب وهي دعوة للوثوق بالآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم التفريط باحكام وسنن القرآن، وفيها توكيد على قوة وسلامة شرائع الإسلام وانها احسن وافضل الشرائع لأنها الناسخة للشرائع السابقة.
بحث بلاغي
في الآية استعارة كريمة وبيان المعقول بصيغة المحسوس وفيها اعجاز وهو الوصف بما يكون ملموساً ومعروفاً لدى الجميع، فعروة الإناء من مستلزمات الطبخ واعمال الأسرة، وحاجة الأكل والشرب ولم تغب العروة عن الأواني في الصناعات الحديثة.
ومن الآيات ان الآية القرآنية تذكر بالعروة وتنبه على موضوعها ووجودها وتسبب في تعاهد اسمها والإستمساك هو شدة اٌلإمساك والقبض ويستلزم الفطنة والإلتفات والعزم الأكيد ويدل على حسن التعلق والإختيار وتحول دون تغييره ووضع اسماء جديدة لها، والوثقى مؤنث الأوثق.
تفسير قوله تعالى [ لاَ انفِصَامَ لَهَا ]
الآية توكيد للبشارة وتثبيت لحقيقة عقائدية وحكم سماوي وفصل للمعقول عن المحسوس المستعار للبيان والإيضاح لأن وعده تعالى لا يقبل النقض او الخلل او النقص.
والإنفصام هو اعوجاج الشيء او كسره من غير ابانة، وذكر الإنفصام يعني بالأولوية عدم الكسر او زوال العروة او انفصالها سواء عند الإستمساك بها او مطلقاً بمعنى ان العروة الوثقى متيسرة وموجودة دائمة وفي متناول كل انسان ان يستمسك بها لا يحجب عنها الا الجحود والفسوق والشرك.
وعدم الإنفصام يبعث على السكينة والإطمئنان أي ان الإيمان بالله عز وجل والإعراض عن الطاغوت يطرد الخوف عن النفوس وتبين الآية عظيم سلطانه سبحانه واستدامة فضله على الناس وهدايته الناس الى سبل الرشاد والإيمان.
واضمر الاسم الموصول (التي) فلم تقل الآية الكريمة العروة الوثقى التي لا انفصام لها، واكتفت بصلتها والضمير البارز العائد عليه في (لها) لتوكيد ان العروة الوثقى واحدة لا ثانية لها وانه ليس من عروة اخرى سواء كانت تنفصم او لا تنفصم.
فلا شيء غير الإيمان بالله يستحق وصف العروة ابداً، في تشويق الى الإيمان والحث عليه وعدم تفويت ايام الحياة الدنيا فحياة الإنسان بغير الإيمان ضياع وعدم استقرار خصوصاً وان الإنسان يحتاج الى غيره لأنه ممكن ومفتقر الى من يلجأ اليه وليس من ملجأ ولا ملاذ غيره سبحانه فمن فضله تعالى ان يدعو الناس الى حاجاتهم بلطف وترغيب، ويكشف لهم زيف الباطل ويبغض اليهم الشرك والضلالة.
وفي الآية اخبار عن بلوغ مراتب الكمال الإنساني بالإيمان بالله والتخلي عن الغشاوات الظلمانية واسباب الكدر والحجب القاتمة التي تأتي مع الطاغوت واتباعه، والآية حرب على الظلم والطغيان وازالة ومحو للطواغيت، فمع اختيار الناس للإيمان ينعدم الطواغيت.
فصحيح ان الطاغوت وصف ذاتي واسم لأفراد العتو والضلال فانه لا ينال هذا الاسم الا بالأعوان والأنصار فالآية تحول دون اجتماع الأتباع والجنود والأموال التي تنمي حزب الطاغوت وتسهل على الناس اختيار طــريق الإيمان لأن وجــود الطاغوت وحزبه يكون برزخاً وغشاوة دون الفهم الصحيح والفطرة السليمة التي لا تختار الا الإيمان بالله عز وجل.
وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على المعاني القدسية ومفاهيم العروة الوثقى في عالم البرزخ ويوم القيامة والإطلاق الزماني لمضامينها ولعظيم احسانه وحسن جزائه تعالى.
تفسير قوله تعالى [ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ]
من اسمائه تعالى (السميع) وهو يسمع المؤمنين ويعلم ما يفعلون من الصالحات، و يسمع قول الكافرين ويعلم جحودهم وكيدهم بالمسلمين من غير آلة بل الاشياء والاصوات حاضرة عنده.
وهو سبحانه الذي يتعاهد الإيمان واهله ويجعلهم يتنعمون بفضله تعالى، ويجعل ايمانهم به سبحانه تمسكاً بالعروة الوثقى وسلامة وحرزاً لهم في الدارين، وواقية من الكيد واغواء الشيطان واذى النيران.
والآية قاعدة كلية واخبار عن احاطته تعالى بافعال العباد ومعتقداتهم ومتى ما ادرك الإنسان ان الله عز وجل يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يفعل وما يضمر في قلبه من الإعتقاد والنوايا فانه يجتهد في تهذيب نفسه واصلاح اعماله استحياء منه تعالى او طلباً لمرضاته او اجتناباً لسخطه او للثلاثة مجتمعة اذ انه لا تعارض او تزاحم بينها.
وروى عطاء عن ابن عباس انه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب اسلام اهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة، وكان يسأل الله تعالى ذلك سراً وعلانية، وان معنى قوله تعالى [ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ] أي انه سبحانه يسمع دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم واجتهاده وحرصه على اسلامهم”، ولكن الآية اعم في موضوعها واسباب نزولها سواء بلحاظ معانيها او سياق الآيات.
وورد قوله تعالى [ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ] في القرآن اثنتين وثلاثين مرة مع التعريف بالألف واللام وعدمه لبيان عظيم قدرته وعظمة اسمائه الحسنى، وللوعد الكريم للمؤمنين، والوعيد والتخويف للكافرين.
وفي الآية بشارة الحفظ الإلهي للمؤمن وتقوية القلوب في الثبات على الإيمان مع صدق النية والعزيمة كما انها انذار من قول وفعل ما يؤدي الى الكفر والضلالة وتعطي الآية موضوعية للإعتقاد والإيمان القلبي وتخبر عن علمه تعالى بما تخفي الصدور.
قوله تعالى[اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] الآية 257.
الإعراب واللغة
اسم الجلالة مبتدأ مرفوع: ولي: خبر مرفوع، الذين: مضاف اليه وجملة آمنوا صلة الموصول، يخرجهم: فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة خبر ثان.
من الظلمات: جار ومجرور.
والذين كفروا: الواو: عاطفة، الذين: مبتدأ، وجملة كفروا: صلة الموصول، اولياؤهم الطاغوت: اولياء مبتدأ مرفوع وهو مضاف، والضمير (هم) في محل مضاف اليه.
الطاغوت: خبر مرفوع: والجملة الإسمية خبر الذين.
اولئك اصحاب النار: اولئك: مبتدأ مرفوع، اصحاب: خبر مرفوع وهو مضاف، النار: مضاف اليه مجرور بالكسرة، والجملة الإسمية حالية.
هم فيها خالدون: هم: مبتدأ مرفوع، فيها: جار ومجرور، خالدون: خبر مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه جمع مذكر سالم.
من اسمائه تعالى (الولي) وقد ورد اسماً له تعالى في القرآن وهو الناصر والمتولي لشؤون الخلائق والقائم بها، فهو سبحانه خلق العالم ولم يتركه سدى بل انه قائم بتدبيره واسباب استدامته وهو الكافي، فالولاية عنوان القدرة والعظمة والفاعلية ومن اسمائه تعالى الوالي، والولاية – بفتح الواو وكسرها – النصرة والإعانة.
والولي له معان متعددة وفي الإصطلاح العقائدي يتضمن معنى الولاية مالك الشيء والمتصرف فيه وقال تعالى [ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ]( ).
وفي حديث الغدير المتواتر عند المسلمين قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “من كنت مولاه فعلي مولاه”، أي من كنت وليه.
في سياق الآيات
بعد نفي الإكراه في الدين والنهي عنه والحث على الإيمان ولزوم اجتناب الطاغوت، جاءت هذه الآية توكيداً للآية السابقة واخباراً عن المدد الإلهي واعانته تعالى للمؤمنين وتخليصهم من سوء العقيدة والفعل وهدايتهم الى سواء السبيل، وتبين الآية الضرر الفادح الذي يسببه اتباع الطاغوت على تعدد واختلاف افراده.
إعجاز الاية
تبين الآية الكريمـة جانــبــاً من الإرادة التكوينية وفضــله تعالى في بلوغ شــطر من الناس مراتــب الإيمان ورأفتــه تعالى بهم باحاطتهم بواقــيــة وحصـــن وحرز من عمــى البصيــرة والغشــاوة على البصــر او الســمع ويدفــع عنهــم الحيــرة والتــردد ويطــرد عنهــم الشــك والريــب.
ومن اعجاز الآية انها وعد كريم وعهد تتجلى آياته في الواقع اليومي وفيها حث على تلمس الآيات والبراهين والمصاديق التي تؤكد موضوع هذه الآية بشطريه سواء بانقداح النور وظهور العناية الإلهية في فعل المؤمن وما يناله من الخير، او الحجب الظلمانية والكدورات التي تصيب الكفار واتباع الطواغيت.
وهذه المصاديق تذكر الإنسان على نحو يومي متكرر بهذه الحقيقة القرآنية والقاعدة التكوينية والتشريعية الثابتة سواء لما تتعرض له الذات او الغير، ومن اعجاز الآية انها تطلب من الإنسان الإيمان والإعتقاد القلبي السليم وتبشره بالتوفيق والسداد منه تعالى.
وتكرر لفظ(النور) ولفظ(الظلمات) مرتين عكسي ليكون الناس فريقين كل واحد منهما يسير ويحمل بخلاف الآخر، مما قد يؤدي أحياناً إلى التصادم والقتال بين أهل الإيمان والكفار وجاء لفظ النور في الآية مفرداً ووردت كلمة(النور) ثلاثاً وأربعين مرة مستقلاً ومضافاً مرة في القرآن كلها بصيغة المفرد.
ولم يرد في القرآن بصيغة الجمع(أنوار)، بينما ورد لفظ(الظلمات) بصيغة الجمع في القرآن ثلاثاً وعشرين مرة، ولم يرد لفظ(ظلمة) ليكون التضاد بين النور والظلمات في للف والماهية وللتخفيف عن المسلمين وتقريبهم والناس جميعاً لسبل الطاعة ببيان أن الفلاح والنجاح والتوفيق أمور قريبة منهم لأن النور بسيط، وكل فرد منه ينفع في موضوعه وغيره، وفي النشأتين.
وجاءت ولاية الله عز وجل للمسلمين والمسلمات جميعاً، بينما ذكرت الآية ولاية الطاغون للكفار بصيغة الجمع(أولياؤهم الطاغوت) (والطاغوت فعلوت من الطغيان)( ) وهو كل ما عبد من دون الله، لبيان إتحاد المسلمين وعدم حصول الفرقة والشقاق بينهم قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، فإن قلت د تحصل بينهم خصومة وإقتتال.
والجواب إن ولاية ونصرة وإعانة الله عز وجل لهم سبيل وقاية من آثار أو إستدامة تلك الخصومة والخلاف، ومن الآيات أن كل مسلم تنفر نفسه من الخصومة التي تحصل بين المسلمين، ويرى لزوم إجتنابها، وهذه الآية من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
الآية سلاح
تبعث الآية السكينة والطمأنينه في نفوس اهل الإيمان وتحذر الكافرين والجاحدين وتنذرهم من الخلود في النار وهذا الإنذار في مفهومه عون للمسلمين وواقية ومادة للصبر على اذى الكافرين.
هل النور الذي يخرج إليه المسلمون حقيقة أو مجازاً، الجواب هو الأول، لإرادة الحقيقة في الكلام العربي إلا مع القرينة الصارفة إلى المجاز وقصد الحقيقة في الآية لا يتعارض مع معنى المجاز فيها أيضاً وهو من الشواهد على الإصطلاح الذي أسسناه في هذا التفسير وهو(المعنى الأعم) للحقيقة والمجاز في اللفظ القرآني، وهو من إعجازه ودلالات سموه وإختصاصه بفرائد متجددة في علومها وتحديها ومن مصاديق النور الذي يخرج الله المسلمين له وجوه:
الأول: الإيمان والتنزه من الكفر.
الثاني: إختيار الحق وترك الباطل.
الثالث: أداء الفرائض وإجتناب المعصية.
الرابع: النجاة من ظلمات العذاب في الآخرة، والفوز باللبث الدائم في النعيم.
الخامس: النطق بالشهادتين نور وضياء يملأ القلب والجوانح، ويفيض على الجوارح والأركان بأسباب التقوى.
مفهوم الآية
تجمع هذه الآية بين البشارة والإنذار، والوعد والوعيد، والأمل والتخويف، وتبين الصراع في الدنيا بين الحق والباطل وتعطي للحق صفة النور فتنجذب النفوس للنور والحق بعرض واحد، فاعمال الصلاح واداء العبادات في حقيقتها نور يملأ الجوانح وتشيع بها اعماق النفس الإنسانية وتكون لصاحبها ضياء يهتدي به في مختلف احواله، اما الضلالة والكفر فانها تجعل القلب يعتصر الماً في مقدمة لبلاء الآخرة، والتذكير به رحمة منه تعالى على العبد حتى في حال الكفر والضلالة.
لقد بدأت الآية باسم الجلالة والإخبار عن ولايته للمؤمنين وفي صيغة الخير للتوكيد وتحريض الناس على دخول الإسلام والسعي لنيل ولايته ومحبته والفوز برضاه واجتماع اسباب الهداية والإحتراز من الضلالة، واخراجه تعالى المؤمنين من الظلمات الى النور ليس هو الأمر الوحيد لموضوع الولاية بل انه جاء من باب البيان والمثال كفرد ضروري واكيد وثابت من افراد ومصاديق ولايته تعالى.
ومن وجوه الولاية النصرة والإحسان والرزق الكريم والدفع عن المؤمنين والوقاية من الرجوع الى المعاصي والسيئات، والتوثيق لنصح وهداية الآخرين، وهو سبحانه المتولي لأمور المؤمنين وحاجتهم والقائم بها لأنه سبحانه يسمع دعاءهم حين يتوجهون اليه بمسائلهم الخاصة والعامة.
ومن اسمائه تعالى “الوالي” فهو مالك الأشياء جميعاً والمتصرف بها وهو تعالى الذي يكفي المسلمين امورهم ويدبر احوالهم، ومن معاني الولي الحليف الذي ينضم اليك فيكون عزك من عزه ومنعتك من منعته، وقد ورد قوله تعالى [ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ] ( ) وورد قوله تعالى [ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ]( ).
التفسير
تفسير قوله تعالى [ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ]
من الثوابت في علم الكلام انه تعالى يتعاهد المخلوقات كافة بالتدبير والعناية والإصلاح ومنها المؤمنون ولكن هذه الآية نسبت ولايتهم على نحو الخصوص له تعالى وفيها تشريف واكرام لهم الا انها تتعدى حدود التشريف وابعاد الإكرام لتتجلى عنها مدارس كلامية مهمة، فهي وثيقة قرآنية تخبر عن عظيم قدرته وسلطانه وانه يفعل ما يريد ولا يسئل عما يفعل سواء استحق المؤمنون هذه الولاية ام جاءت فضلاً منه تعالى الا ان ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم، وان كانت هذه القاعدة ليست مطلقة في باب المعارف الإلهية لعظيم فضله تعالى ولنزول الرزق منه تعالى ابتداء فهو سبحانه الذي يهدي العبد الى الإيمان ثم تتغشاه ولايته ونصرته تعالى.
ولإستحالة تخلف المعلول عن علته ولعظيم قدرته وسلطانه عز وجل فان الآية إخبار عن المقامات السامية التي يتبوءها المؤمنون في الدارين، فالآية لا تخص عالم الآخرة وحده وان كان الأهم بل تشمل الحياة الدنيا ايضاً لإصالة الإطلاق ولأنه سبحانه يعطي بالأوفى والأتم والأكمل.
وتنفي الآية الكريمة الواسطة بين الله عز وجل والمؤمنين في اشرف موضوع وهو الولاية، كأن الإيمان يجعل الحواجز القدسية بين العبد وخالقه تتباعد او ان الإيمان مفتاح ملكوتي يفتح الأبواب ليكون المؤمن في حضرة القدس، وفي الآية دلالة على قرب المؤمن منه تعالى وانه سبحانه يقضي حاجته ويجيبه اذا دعاه ففيها نوع تحذير وتخويف من التعدي عليه وعلى ماله وعرضه وحرمانه.
ومن ولايته تعالى حصول العز والرفعة للمؤمنين اذ ان العزة تأتيهم بالعرض وهي من رشحات فضله عليهم لاختيارهم الايمان والهداية، ومنها ظهور صيغ المودة والمحبة بين المؤمنين، قال تعالى [ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ]( ) لتكون هذه الآية من اعانته ونصرته لهم وباباً لنجاتهم واحرازهم الثواب فالمؤمن جندي من جنود الحق، ومنها وراثتهم للارض وللانبياء في الاحكام وافعال العبادة والطاعة له تعالى.
وجاءت الآية بصيغة الجمع [ الَّذِينَ آمَنُوا ] أي ان موضوعها اعم من القضية الشخصية وان الولاية تشمل المؤمنين في دولتهم واسرهم وسمعتهم ومنتدياتهم واموالهم وذراريهم، ففي هذه الآية عز الدنيا والآخرة، انها تنبئ عن سلطان للمؤمنين سواء على النفوس او في المناصب والشأن الرفيع.
وفيها ترغيب بالإيمان ودعوة الى عدم التفريط بالولاية الإلهية والمعارف القدسية فالآية وان كانت جملة خبرية الا انها خطاب ينحل الى قسمين:
الأول: بشارة وسكينة متوجهة للمسلمين.
الثاني: انذار ووعيد للكافرين وترغيب لهم بالإيمان وحجة عليهم في الدنيا والآخرة.
والإيمان في قوله تعالى [ الَّذِينَ آمَنُوا ] يحتمل وجهين عاماً وخاصاً، اما الأول فهو الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويشمل المنافقين ونحوهم ممن ينطق بالشهادتين كما في قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ]( ) فكل مسلم يجب عليه الصيام اما الوجه الخاص فهو التصديق بالقلب بالوحدانية بالإضافة الى الإقرار باللسان.
وفي الخبر عن الإمام علي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “الإيمان معرفة بالقلب، واقرار باللسان، وعمل بالأركان”.
وهناك اقوال في الإيمان منها:
الأول : الإقرار باللسان، عن الكرامية.
الثاني : هو المعرفة فقط، عن الجهمية.
الثالث : تصديق الرسول بكل ما علم مجيئه به، الحدود والحقائق، للمرتضى.
الرابع : جميع الطاعات والواجبات مع اجتناب الكبائر، قاله بعض المعتزلة.
الخامس : خصلة من خصال الدين والشريعة والملة، عن الأشعرية.
السادس : هو التصديق بالقلب واللسان والعمل بالجوارح، عن المفيد.
السابع : هو التصديق بالقلب واللسان معاً عن المرجئة.
الثامن : قال بعض الخوارج ان الإيمان هو الطاعة وقال جماعة من الأشاعرة ان الخوارج قالوا ان الإيمان اعتقاد بالقلب واقرار باللسان كما قلنا وزادوا – أي الخوارج – معهما الإجتناب عن الذنوب اجمع.
التاسع : نسب الى بعض القدماء انه المعرفة بالقلب والإقرار بها.
العاشر : هو التصديق بالقلب عن ابي الحسن الأشعري.
وهناك اقوال كثيرة اخرى مقاربة لها، وتلتقي هذه الأقوال في الجملة بتعريف الإيمان بانه تصديق بالقلب.
والمراد من الآية هو الوجه الأول وارادة المسلمين جميعاً وليس المؤمنين منهم فقط، للإطلاق وعظيم فضله تعالى ولمضمون الآية وتفضله سبحانه باخراجهم من الظلمات.
واستدل الاشاعرة بهذه الآية بان لطفه تعالى في حق المؤمن اكثر منه في الكافر، لأنها تدل على ولايته تعالى للمؤمنين على نحو التعيين والتخصيص كما جعلوها شاهداً على بطلان قول المعتزلة بانه سبحانه ساوى بين المؤمنين والكفار في الهداية والتوثيق ثم ذكروا وجوهاً اربعة لتأويل التخصيص والولاية الواردة في هذه الآية وهي باختصار :
الأولى : زيادة اللطف الإلهي للمؤمنين.
الثانية : ثواب المؤمنين في الآخرة، والخلود في النعيم.
الثالثة : انه تعالى ولي الناس جميعاً، ولكن المؤمنين هم الذين ينتفعون من هذه الولاية.
الرابعة : ان الولاية هنا بمعنى حبه تعالى للمؤمنين.
وقد رد الأشاعرة على هذه الوجوه التي حمل عليها المعتزلة معنى الولاية، ولا تعارض بين قوليهما والنزاع بينهما صغروي، ولكن الآية اعم في موضوعاتها ودلالتها كما ان معناها ظاهر وهو ان الولاية في هذه الآية جاءت بحصة زائدة وهي الإيمان واختيار العبد له، والطافه سبحانه بالمؤمن اكثر كنوع جزاء وفضل منه كما ان هذه الإلطاف لا تنحصر بشؤون الدين بل تشمل كل جوانب الحياة الدنيا والمنزلة الرفيعة في الآخرة.
وفي تلخيص الشافي: “الولي من كان متحققاً بتدبيركم والقيام باموركم، وتجب طاعته عليكم”.
وعلى هذا المعنى فالآية حث للمؤمنين على التقيد باحكام الفرائض والطاعات وتنبيه للكافرين لييأسوا من المؤمنين ويتجنبوا ايذاءهم بسبب ادائهم للمناسك والعبادات.
وتبين الايــة ما يمتــاز به المؤمنــون من الولاية والتوفيــق وما يفتقر اليه الكافرون، مما لا يســتطيعــون الإســتغناء عنــه من النصرة والعون لأن الإحتياج ملازم للإمكان والإنسان ممكن الأمر الذي يجعلهم في ضــياع وتيه وحيرة قال تعالى [ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ]( ).
والآية عز وقوة ومنعة للمسلمين لتعدد مفاهيم الولاية وانبساطها على المعارف والعلو والرفعة والشأن، قال تعالى [ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ]( ).
تفسير قوله تعالى [ يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ]
وفي اسباب نزول الآية ذكرت اقوال:
الأول: انها نزلت في قوم آمنوا بعيسى وقوم كفروا به فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم آمن به من كفر بعيسى وكفر به من آمن بعيسى عليه السلام.
الثاني: نزلت في قوم آمنوا بعيسى على طريقة النصارى، والقول بالإتحاد ثم اصبحوا مسلمين،
الثالث: نزلت في كل كافر اسلم وآمن برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والآية اعم في موضوعها وهي وعد كريم لكل مؤمن وحث على الإيمان وعهــد بالإعانة لما بـعــد الإيمان من الواجبات والفرائض والنوافل ولأسباب الوقاية والإحتراز من الكفر والكبائر ومطلق الموبقات لأنها من الظلمات ايضاً وجاءت الآية بصــفة الإيمان أي انها مطلقة بغض النظر عما سـبق حياة الإيمان وهل العبد كان كافراً ثم آمن ام انه ولد على الإيمان والفطرة، وفي هذا الإطلاق نوع تشريف واكرام للمؤمن ويدل بالدلالة التضمنية على عفوه ورحمته ومغفرته، والإٍسلام يجب ما قبله.
كما انها تشمل عالم الآخرة وهي بشارة نجاة المؤمن من النار فقد يستحق المؤمن بعمله العذاب والعقاب ولكنه تعالى ينجيه ويدخله الجنة بفضله.
كما تشمل الآية الظلمات المادية في الحياة الدنيا وملتبسات الأمور والشبهات وحالات الضيق والحرج والإفتتان والإبتلاء ويمكن تقسيم الظلمات الى قسمين قسم يكون الإنجاء فيه عاماً فضلاً منه تعالى كما في دفع المهالك والمفاوز والأوبئة والفياضات وساعات الشدة لأنه هو الرحمن وكما يمن على المؤمن يمن على الكافر استدراجاً او املاء او درساً وتذكيراً واعتباراً ومناسبة للتوبة قال تعالى [ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً]( ).
اما القسم الآخر فهي الظلمات العقائدية ووجوه الضلالة والغفلة والإنجاء فيه خاص بالمؤمنين قال تعالى [ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( ).
وجملة[ يُخْرِجُهُمْ ] خبر ثان للمبتدأ وهو اسم الجلالة، وكأنها من عطف الخاص على العام.
وفي علم البلاغة قالوا ان قوله تعالى [ يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] من الاستعارة التصريحية والمراد الضلال والهدى، ولكن الكلام يحمل على ظاهره الا مع القرينة على انصرافه عنها الى المجاز والاستعارة، ولا دلالة على حصر المعنى به هنا لامكان حمل لفظ النور على مفاهــيمه اللغــوية والعقائدية، بالاضافة الى قاعدة المعنى الأعم التي تعني حمل اللفظ القرآني على معناه الأعم ومفهومه الاوسع والاكثر شمولاً.
لقد ورد لفظ [ الظُّلُمَاتِ ] بصيغة الجمع ولفظ [ النُّورِ ] بصيغة المفرد وهو من مفاهيم ولايته تعالى واثبات لها، فان انواع الضلالة متعددة وابواب الذنوب كثيرة، وجاءت الآية للاخبار بانه تعالى ينجي ويحفظ ويخرج المؤمن منها وان تعددت وانغمس فيها، فانه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة.
ان صيغة الجمع للظلمات بشارة وسكينة وطرد لليأس القنوط من رحمته تعالى فهو سبحانه مع عبده المؤمن في كل احواله ويخلصه من الشدائد.
ان الله عز وجل يهذب نفس المؤمن ويدفعه عما يسبب البعد عن رحمته، ويهيأ له اسباب اتيان الفرائض واحراز الصالحات، ويطرد عنه اسباب الشقاء ويجعل نفسه تميل الى الطاعات وتنفر من الشهوات وزينة الدنيا وما فيها من الغرور.
وتتضمن الآية الوعد منطوقاًُ والوعيد مفهوماً فولايته تعالى للمؤمنين وعد وحث كريم على دراسة وتبيان منافع الإيمان والأسباب الغيبية في حفظ المسلم وتعاهده في نفسه وولده وماله وعرضه وماله ومناهج حياته التي تكون الفرائض فيها كالأوتاد والركائز لتنمية ملكة الصلاح والفلاح، وهي وعيد للكافرين وتحد لهم لما فيها من المدح والثناء والفضل الإلهي على المؤمنين.
وربما يقال ان الاية سبب لحسد الكافرين ونقمتهم من المسلمين والجواب انه تعالى ضمن نجاة المسلم من هذا الحسد وما يحتمل من الكيد، وان هذه النجاة فرد ومصداق من مصاديق اخراجه من الظلمات، اذ ان الإخراج اعم من ان يتعلق بالمسلم بالذات وبلحاظ قوله وفعله بل يشمل طرد اسباب الأذى وتهيئة سبل الوقاية والإحتراز ودفع الشرور والكيد والمكر خصوصاً وان الحسد والكيد امور قد تسبب للإنسان ارباكاً في حياته وتمنعه من الرؤية السليمة.
وقـال الــرازي: وعنــد المعتزلــة انه تعـالى ســوى بين الكفار والمؤمنين في الهداية والتوفيق والإلطاف، فكانت هذه الآية مبطلة لقولهم( ).
ولا تعارض بين قول المعتزلة وقول الرازي للتباين الموضوعي بينهما، فظاهر كلام المعتزلة خصوص اسباب الهداية والتوفيق الإبتدائية للناس جميعاً بما هم خلق وعبيد لله تعالى ومن المساواة والإشتراك في رؤية آيات الآفاق وذات الإنسان والآيات الشخصية التي تتجلى لكل انسان وتأتي تنبيهاً وتذكيراًُ وتحذيراً ولطفاً منه تعالى فانه سبحانه يقرب عباده الى طاعته على نحو العموم.
اما التباين في اسباب الهداية فيتعلق بحال ما بعد اختيار الإيمان أي ان الآيات تأتي للناس جميعاً، فمن آمن تتنزل عليه اسباب اضافية للهداية والتوفيق والرشاد لإختياره الإيمان بالله تعالى وبرسله، ففي الآية شكر منه تعالى للعبد ويتجلى هذا الشكر بتثبيت اقدامه على الإيمان ومنعه من الإرتداد او الرجوع الى مواطن الكفر وهو احد افراد الخروج من الظلمات ثم نقله الى منازل الإيمان وتهيئة مقدمات ارتقائه في مراتبه وصولاً الى درجات المتقين، اذ ان النور الوارد في الآية من الكلي المشكك وله مراتب متفاوتة قوة وضعفاً فمن مراتبه :
الأولى : الثبات على الإيمان.
الثانية : زيادة البصيرة في الدين.
الثالثة : الإنفاق في سبيله تعالى.
الرابعة : الهجرة في سبيله الله.
وسواء كانت الهجرة للنجاة في الدين كما في هجرة لوط [ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ]( )، ومنها هجــرة جعفــر الطــيار ونفــر من المسلمين الى الحبشة، او الهجرة للجهاد في سبيله تعالى كما في هجرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه من مكة الى يثرب، تلك الهجــرة التي تـدل على الإعجاز العملي في الإسلام لما تنفرد به من الخصائص العقائدية ولأنها غيرت مجرى التأريخ وسير الأحداث في العالم الى يوم القيامة، كما انها لم تكن بذاتها بسيطة وسهلة بل كانت جهاداً شاقاً تتكشف من خلالها خيوط الأمل والنور الذي ورد في هذه الآية الكريمة اذ انهم خرجوا من ظلمات مكة وما فيها من وجوه الكفر والشقاق والضلالة والبلاء الى نور الهداية وحكم الإسلام وعز الإيمان.
وجاءت بصيغة الجمع (يخرجهم) وهي انحلالية تتعلق بالقضية الشخصية وبالعموم المجموعي والإستغراقي، فكل مؤمن ينتفع من الآية على نحو شخصي باعتباره جزء وفرداً من مجتمع الإيمان ومعاشر المسلمين وكما ينتفع المسلمون عامة من هذه النعمة والفيض الإلهي، والإخراج من الظلمات يكون على وجوه وبصيغ متعددة وبآلات ووسائل مختلفة من غير تعارض بينها والله سبحانه واسع كريم، وتحث الآية على الإيمان وتظهر الوعد الكريم عليه فما ان يتجه الإنسان صوب منازل الإيمان ويصدق نيته ويتخلى عن مفاهيم الكفر حتى يرى عونه تعالى واسباب اللطف والهداية ومنهم من قسم المؤمنين بلحاظ اخراجهم من الظلمات الى النور الى ثلاثة اقسام:
الأول: عوام المؤمنين الذين يخرجهم الله من ظلمات الكفر والضلالة الى نور الإيمان والهداية.
الثاني: الخواص يخرجهم الله من ظلمات الصفات النفسانية والجسمانية الى نور الروحانية والربانية.
الثالث: خواص الخواص يخرجهم من ظلمات حدوث الخلقة الروحانية الى نور تجلي صفاته تعالى.
ولا دليل على هذا التقسيم، والآية أعم وليس من تباين في افراد ووجودات النور الذي ينتقل اليه المؤمنون وان كان من الكلي المشكك الذي يتباين في قوته وضعفه ولكنه قد يكون عند بعض عوام المؤمنين اكثر من غيره بلحاظ الفطرة واقباله على طاعة الله واجتناب محارمه.
وبالإسناد عن أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: “يُبْعَثُ أَهْلُ الأَهْوَاءِ أَوْ تُبْعَثُ الْفِتَنُ، فَمَنْ كَانَ هَوَاهُ الإِيمَانُ، كَانَتْ فِتْنَتُهُ بَيْضَاءَ مُضِيئَةً، وَمَنْ كَانَ هَوَاهُ الْكُفْرُ، كَانَتْ فِتْنَتُهُ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةً، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: “اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)( )، وفيه إشكال من وجوه:
الأول: مضامين الآية أعم وتبدأ مصاديق النور بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الإسلام وإتيان الواجبات.
الثاني: جاءت الآية بالإخبار عن فضل الله على المسلمين وأنه سبحانه هو الذي يخرجه من الظلمات إلى النور.
الثالث: لو شككنا أن نعمة الخروج إلى النور في الدنيا أو في الآخرة أو فيها معاً، فالصحيح هو الثالث، فليس من برزخ أو تأخير في فضل الله في إخراج المسلمين إلى نور التوحيد قال تعالى[اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الرابع: مجيء الآية بالإخبار عن إغواء الطاغوت للكفار، قال تعالى[شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ]( ).
بحث فلسفي
لقد خلق الله عز وجل آدم ابا البشر من غير واسطة ونفخ فيه من روحه، ثم تفضل وخلق افعاله بالواسطة وبالهداية والتوفيق وجعل عنده ملكات محدودة واستقلال محدود، ليكون معلول العلة علة ايضاً، وليبقى العالم في خلقه واستدامته معلولاً لقدرته سبحانه وتنحصر الخالقية والإستقلالية الحقيقيتان به تعالى، فكل موجود مفتقر اليه سبحانه ولا يستطيع الإستغناء عنه في وجوده وافعاله ومختلف شؤونه.
وتدل هذه الآية على الترابط في النظام الكوني وتعلق الموجودات بعضها بالبعض الآخر وقابلية الإنسان للتغير نحو الأصلح والأفضل وهذا التغير يتم بافاضة من الذات الإلهية المقدسة من غير ان يكون الإنسان مجبراً في افعاله واختياراته او ان الفعل الواحد يصدر من فاعلين لعمومات ادلة التكليف ولأن الإنسان يكتسب وجوده وتدبيره لشؤونه وافعاله الإختيارية من واجب الوجود، لذا ورد في الخبر ” لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين”.
فالله عز وجل يفيض على العبد ويخرجه من الظلمات بعد اختيار العبد للإيمان والمعرفة بالقلب والإقرار باللسان والتسليم لله ورسله فيما جاءوا به من عند الله ومنها الفرائض وهي عنوان الخضوع لله تعالى، وهذا الإختيار يستحق عليه العبد الثناء وهو دليل العلم والله عز وجل يجازي عليه في الدنيا والآخرة، ومن مصاديق الجزاء تفضله سبحانه باخراجه من الظلمات الى النور.
ولا ينحصر موضوع الآية بالحياة الدنيا بل يشمل الآخرة اذ ينجي الله المؤمنين ويقيهم من عذاب النار ويدخلهم الجنة، والإخراج يكون بالنبوة واسباب الهداية قال تعالى [ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] ( ).
والنور كيفية ظاهرة بنفسها، مظهرة لغيرها، كما يكون النور ضوء عارضياً، ولكن النور في الآية أعم وأكبر فهو وعاء ملكوتي وآلة مباركة وسلاح وحرز قال تعالى [ اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ]( ) وان المؤمن يستضيء بنوره تعالى ويهتدي بضياء الحكمة وما جاء به في القرآن من احكام وسنن قال تعالى [ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ]( ).
وذكرت الآية (الظلمات) بصيغة الجمع وفيه امور ثلاثة:
الأول: متعلق بعظيم قدرته تعالى واحسانه المتصل على المؤمنين، فالآية تدل على استمرار انجاء المؤمن وتخليصه من المهالك واستمرار فتح باب التوبة وهوالواسع الكريم.
الثاني: ذات العبد وامكان نقله من الواقع الفاسد وتصحيح اعماله وان تغشاها الخطأ.
الثالث: الظلمات ذاتها وكثرتها، وشمولها لميادين متعددة كالإعتقاد والفعل وهو ايجاد الشيء والعمل وهو ايجاد الأثر في الشيء، وتدل صيغة الجمع على ان كل فرد من افراد الضلالة والجهل والغفلة ظلمة وضياع ومانع من الرؤية والإدراك.
والظلمــات باعتبار ذواتهــا وماهيـاتها او بلحاظ عوارضها واضافتها، ومن الذوات الكفر والجهل، ومن العوارض الفسوق والغفلة، والآية لا تنحصر بأيام البعثة النبوية الشريفة وما بعدها من ايام الحياة الدنيا اي انها لا تختص بالمسلمين بل هي ارادة تكوينية ثابتة تشمل المسلمين على نحو العموم الإستغراقي منذ ان خلق الله تعالى آدم عليه السلام.
ومن الإخراج من الظلمات ايمان الناس برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واقرارهم بما جاء به من عند الله عز وجل وان القرآن كتاب سماوي ووحي وتنزيل.
تفسير قوله تعالى [ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ ]
بدأت الآية بالإخبار عن ولايته تعالى للذين آمنوا، اما بالنسبة للكفار فذكروا كموضوع مستقل وقبل ان يذكر الطاغوت فلم تقل الآية والطاغوت ولي الذين كفروا، تنزيهاً لمقام الربوبية ولأن الموضوع يتعلق بالناس ووعظهم وتحذيرهم وانذارهم، ولبيان ان الولاية بين الطاغوت والكافرين انما هي باختيارهم وارادتهم وليس باختيار الطاغوت خصوصاً وان الصنم والوثن من مصاديق الطاغوت وهما جماد لا ارادة له، وحتى السلطان الجائر فانه لا يستطيع التأثير على قلوب اتباعه الكثيرين، كما جاءت الآية لذم الذين كفروا وبيان اسباب تخلفهم عن الإيمان واظهار المائز بين المؤمنين والكافرين وما يترتب عليه من الآثار في النشأتين.
ومن الإعجــاز في الآية ان موضوعها يتعلق بالولاية والنور والإخراج منه، دون غيره من اسباب الرزق والصحة والمال والأولاد فان الله يـرزق البر والفاجر فالآية لا تنفي عبودية الناس ولزوم خشوعهم وطاعتهم لله تعالى وانه تعالى رحيم بالناس، وافاضات رأفته تتغشــى الناس جميعاً اذ جعلتهم في منازل النور ولكنهم اخرجوا انفسهم منها.
فان قلت: لماذا المؤمنون يخرجون من الظلمات ولا يكونون اصلاً في النور، وكذا الكافرون لماذا لا يكونون اصلاً في الظلمات ويأتي الطاغوت ليثبتهم على حالهم.
قلت: ان الآية جاءت بقواعد كلية تبين اقصى حالات الفعل والتأثير وللإخبار عن العلية في حصول التمايز بين المؤمن والكافر ثم ان الظلمات من الكلي المشكك وتدخل فيه الى جانب الكفر والضلالة الجهالة والرياء وحب الدنيا واتباع الشهوات وقساوة القلب والظلم والإستكبار وترك المروءة ونحوها من الأخلاق الذميمة.
وفي الآية حجة على الكافرين واستحقاقهم العذاب بما كسبت ايديهم وان الله عز وجل ليس عدوهم بمعنى ان الله عز وجل ينصر المؤمنين ويقيض لهم الأسباب التي يرتقون معها في منازل التقوى وتسوقهم نحو السعاة الأبدية ولكن الكافرين حرموا انفسهم من هذه النعمة العظيمة باتباعهم الطاغوت.
ولا تعارض بين هذه الآية وبين اخبار الطينة والميثاق.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ان خلق احدكم يجمع في بطن امه اربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله اليه ملكاً باربع كمات فيكتب عمله واجله ورزقه وشقي او سعيد”( ).
فاخبار الطينة اخبار عما سيصل اليه الإنسان في عمله.
وتتعلــق الآية بالطاغــوت، وقال المعـتـزلة بان هــذه الآية تدل على ان الكفر ليس من الله لأنه تعالى اضاف الكفر الى الطاغوت، ولكن اســتحضار المــراد من الطاغـوت واحكام التكليف لبني آدم يظهر ان هذه الإضافة ليست من باب الحقيقة بل ان الكافر بنفسه ترك سبيل الايمان.
ونسبة فعل الإخراج الى الطاغوت فمثلاً اذا كان المراد من الطاغوت هو الوثن فمن البديهي انه فاقد لسلطان التأثير ولا يمتلك القوة والفعل فلابد حينئذ من فهم الإخراج بقراءة مناسبة ولا تصل النوبة الى تأويله فالإخراج هنا يعني انهم مادة الإخراج وسبب الإفتتان والإنشغال عن ذكر الله، كالذي يداوم على عبادة الوثن، فان الوثن لا تأثير له في اخراجه من منازل الإيمان ولكنه صار سبباً بمعنى ان الآية في حقيقتها لا تدل على نسبة الإخراج الى الطاغوت بل انها تخبر عن مادة الإخراج وموضوعه مع نسبة الإخراج شرعاً وعقلاً الى الكافر نفسه لأنه اعرض عن ذكره تعالى واتجه الى اعداء الدين واسباب الشرك والضلالة، وكذلك يفســر قــوله تعالى [رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ]( ).
ان الأصنام مادة للكفر والضلالة وليس لها تأثير مباشر على الإنسان في اختياره وارادته وفعله.
والخلاف صغروي اذ ان الإجماع على اعتبار هذه الإضافة من المجاز، لذلك ترى شطر الآية بدأ بالذين كفروا، بمعنى انهم اتخذوا الطاغوت ولياً فكانت هذه الولاية والإختيار سبباً في الخسارة والغواية اما في الحالات التي يكون المراد من الطاغوت هو رؤساء الضلالة كما عن مجاهد فانه يكون جزء من الإخراج كما لو كان يقود الكافرين لمحاربة المسلمين سواء ايام الأنبياء السابقين ام بعد البعثة النبوية المباركة، فهذا الطاغوت يتحمل قسطاً من اسباب ضلالة اتباعه، لذا فانه يبوء باثمه واثمهم، وحتى في هذه الصورة يعود الإخراج ابتداء الى المكلف نفسه واختياره الركون الى الظالم والإنقياد اليه.
وفي باب الفقه الجنائي يتحمل الإثم والجزاء المباشر للجناية وليس السبب، الا ان يكون للسبب تأثير في وقوعها فحتى على فرض تحمل الطاغوت قسطاً من مسؤولية ضلالة اتباعه فان الأتباع يؤاخذون على سوء اختيارهم، ولو تخلوا عنه او انهم لم يؤازروه ويناصروه لما استطاع ان يصبح متسلطاً ظالماً لأنه حينئذ سالبة بانتفاء الموضوع.
ان الآية تحكي التقسيم العقائدي للناس واسبابه ونتائجه وتحدد منازل الناس في النشأة الآخرة وتمنع من الجهالة والضلالة والغرر فالآية وان جاءت بصيغة الخبر الا انها تتضمن الإنذار والتخويف.
كما تحذر الآية من العمى في البصيرة والبصر وتدعو الى التخلص من ظلمات النفس كالغضب والشهوة والطمع ونحوها من الأخلاق الذميمة والصفات القبيحة التي تكون حاجزاً دون رؤية نور الهداية وسبل النجاة وفي الآية ذم لأولياء الشيطان وتحذير منه وما يدعون اليه من الرذائل في باب الفكر والأخلاق والأفعال، وهي دعوة الى التحلي بالصفات الروحانية الحميدة، وهداية الى الحياة الأبدية والفناء في ذات الله والسياحة في عالم الملكوت وانوار العلم والكمال والارشاد لاختيار الإيمان واتباع الرسول الأكرم.
فمع اختيار الإيمـان يتخلص الإنسان من متعلقات الدنيا وما فيها من الظلمات والكثافة والقساوة ويشعر بالإنفصال عن الطاغوت واسباب الضلالة مما يعني حصول حالة جديدة تتناسب مع الفطرة، وتتلألأ صفاء ولطافة شوقاً للمعرفة الإلهية واستعداداً لقبول الدليل والبرهان على وجود الصانع ولزوم الإنقياد للأنبياء والمرسلين والإنتقال الى منازل العمل الذي يعني الإرتقاء في مراتب النور والهداية والخروج من النقص وقصور الذات الى الكمال وصفات اصحاب اليمين واخلاق الربوبية.
وتعتبر الآية ميزاناً لتقسيم الناس ومعرفة منازلهم ودرجاتهم وفيها علاج لكدورات الضلالة والجهالة باللجوء الى الإيمان وقاية من الطواغيت وسبباً للهداية والنجاة لذا ورد في سورة الفاتحة التي يكررها المسلم كل يوم في صلاته [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ]( ) ثم جاء تفسير الإستعانة في جانب منها وشطر من مواضيعها في الآية التالية لها [ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ]( ) فالإستعانة مدخل للهداية.
ورد لفظ ظلمات في القرآن ثلاث وعشرين مرة للتحذير منها، اما لفظ النور فقد ورد نحو ثلاث واربعين مرة، في بيان لغلبة النور وزحفه على الظلمات واتساع طرقه وكثرة ابوابه ومداخله ان خروج الإنسان من الظلمات الى النور ايسر واسهل عليه من الخروج من النور الى الظلمات، لمناسبة النور الى العقول ولأن الله عز وجل هو الذي يخرج الإنسان الى النور ويهديه الى سبله ومسالكه.
وقال الواقدي: كل ما كان في القرآن [ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ] فانه اراد به الكفر والإيمان، غير قوله تعالى في سورة الأنعام [ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ]( ) فانه يعني به الليل والنهار( ).
ولكنه تقيــيد من غير مقيد وخلاف المعنى الأعم للآيات وموضوعاتها ودلالتها، وكل آية ينظر لها على نحو الإستقلال تفسيراً وتأويلاً.
والآية توبيخ وتقبيح لكل من اصرّ على الكفر ورفض الإستجابة لدعوة القرآن باتباع الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من عنده تعالى، والآيات التي جاء بها القرآن نور وهدى بمعنى حتى الذين لم يغادر منازل الكفر والجحود فان النور انقدح في قلبه آناً ما وعند لحظة رؤية الآيات والبراهين الدالة على صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم ولكن انقياده الى الطواغيت حجب عنه تلقي نور الإيمان وقبول الهداية والتجأ الى الظلمات.
واذا كان الإيمان على قسمين مستقر ومتزلزل، فان الكفر قسم واحد متزلزل غير مستقر فيكون الكافر ضعيفاً شاكاً مضطرباً يشعر بمواطن الخلل في اختياره وفعله كما ان الظلمات سهلة الإختراق او خيط ضئيل من النور يتجلى فيها ضياء هدى ويبعث في النفس السرور والأمل.
اما النور فان الكثير من صيغ الظلمة لا تؤثر في تغيير عنوانه وصدق موضوع النور عليه، أي ليس من تعادل وتوازن بين النور والظلمات فالنور اقوى ثباتاً واكثر منعة واطول اجلاً فاذا داهم النور الظلمة انزاحت من موقعها وتراجعت وانكشفت وبان عيبها، اما النور فانه يمتص كثيراً من الألوان القاتمة، لذا فان الذنب الذي يقترفه المؤمن لا يغير من عنوان الإيمان وان استحق الإثم والعقاب، ولكن يبقى باب التوبة مفتوحاً له وجعل الله عز وجل عنده سلاح الإستغفار والتدارك والإبدال أي ابدال السيئة بالحسنة.
ولو جاء الكافر بالحسنة فلا تقبل منه لفقده قصد القربة ونية الرجاء والأجر والثواب وهو باق في الظلمات وان فعل الحسنة الا ان يشاء الله، والمؤمن باق في النور وان اقترف السيئة وان كانت مرتبته ادنى، بل ان الآية تخبر في مفهومها عن فضله تعالى في تخليص المؤمنين من السيئات وحجبها عنهم، ومتى ما اعتاد الإنسان على حياة النور والبصيرة فانه ينفر من صيغ الظلمة وما يبعث في النفس الوحشة وتكون عنده منعة ذاتية خاصة للوقاية من التعدي والظلم والكفر والجحود.
تفسير قوله تعالى [ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ]
لا يعني الإطلاق والإســتدامة والثبــات في منازل الظلمة، فلا يكون هذا الإخراج مستديماً دائماً لأن البقاء في الظلمات أمر متزلزل، ولأن قوله تعالى [ يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ] أمر دائم ومستديم، أي ان ادخل الطواغيت شطراً من الناس في الظلمات فان الله عز وجل يخرجهم الى نور الهداية والأمل والسعادة لا يستلزم ذلك منهم الا الإقرار بالتوحيد والإيمان بالرسالة.
ويظهر من مضمون الآية عظيم النعم التي تأتي مع الإيمان في النشأتين والأذى والبلاء الذي يرد على اهل الجحود والكفر في الدنيا والآخرة لقصورهم وعتوهم وظلمهم بالإمتناع عن الإيمان، فبالإيمان تنقدح البصــيرة وتزول الغشــاوة عن الأبصــار ويأتي المدد الإلهي وتحضــر الآيــات لصــد المؤمن عن السـيئات واعانته على اتيان الصالحات كما في قوله تعالى [ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ]( ).
فالبرهان وان جاء في الآية اعانة ومدداً لنبي من انبياء الله عز وجل الا انه بـيان لعظيم فضله تعالى على المؤمنين وانه حاضر لنجدتهم ودفعهم عن مواطن الإفتتان والبلاء، خصوصاً وان الإخراج من الظلمات الى النور يكون في الغالب بالأسباب المادية الظاهرية وبالواعز الروحي وتنمية الملكة والقــوة الذاتية على التمييز بين الحق والباطل ونفاذ البصيرة.
ان لغة الجمــع في الإخــراج (يخرجونهم) تظـهر تعدد مواطن الإفتتان وان الإخراج لايكون على نحو القضية الشخصية فحسب، بل يكون نوعياًُ ايضاً فترى الكافرين يتآزرون على الظلم والتعدي، ويجتهــدون في ســبل الغــي، وكما يكون كل مؤمن آلة مباركة لنقل المؤمن الآخر الى منازل اكثر رفعة وارتقاء في مراتب التقوى، فان الكافرين بعضهم يؤثر سلباً بالبعض الآخر لإلتقائهم على اتباع الطاغوت، بمعنى ان خروج المؤمن الى النور ينفعه وينفع غيره من المؤمنين وغيرهم، اما دخول الكافر في الظلمات فانه يضره ويضر الكافرين الآخرين ولكنه لا يضر المؤمنين لأن الله عز وجل اخرجهم الى النور وجعل عندهم الحصانة من الرجوع الى الظلمات ودروب الغي ومسالك التيه.
بحث بلاغي
في علم البلاغة ذكر في قوله تعالى [ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ] انه من نفي الشيء بايجابه، وان النفي في باطن الكلام هو الذي اثبته، فالذين كفروا لم يكونوا يوماً في نور وهداية كي يصدق عليهم انهم خرجوا منه، وان المراد من الآية نفي النور عنهم اصلاً وذكر مثلاً قول أبي الطيب المتنبي:
أفدي ظِباءَ فلاةٍ ما عَرَفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمّام ماثلة
اوراكُهُنّ صقيلاتِ العراقيب
فظاهر الكلام انهن برزن من الحمام ولكن ليس بهذه الكيفية وما فيها من التكلف.
واستدل بالعرف كما لو أنفق الأب جميع ماله فيقول له الابن (اخرجتني من مالك) أي لم تجعل لي فيه شيئاً، مع انه لم يكن له فيه حصة ثم اخرج منه.
ولكن اللفــظ القــرآني يحمل على حقـيقته ولا تصل النوبة الى الكناية والاستعارة الا مع القرينة الصارفة، فالاخراج من النور يؤكد حقيقة وهي ان اناس ولدوا على الفطرة والهداية ولكن الغواية واتباع الشيطان والطواغيت يؤدي الى الخروج من نور الفطرة والايمان الابتدائي، فيمكن تشريع قاعدة كلامية وهي: الاصل هو الايمان وانما يكون الكفر عرضاً.
وان قلت: ان وصول المؤمنين الى النور يأتي بالإخراج من الظلمات ايضاً.
قلت: المراد نجاتهم من المعاصي والضلالة واسباب الهلكة.
وتبين الآية اقصـى الاحوال وأشدها، ثم ان الظلمات عنوان جامع لا ينحصر بالضلالة بل يشمل الاذى والمكر والكيد وظلم السلطان والفقر والشدة وضغطة القبر وعذاب البرزخ واهوال الآخرة وشدة الحساب.
ولا مانع من النظر للفظ القرآني في وجوه البلاغة والاستعارة والمجاز واستنباط العلوم واستخراج الدرر العقلية والعلمية والدلالات العقائدية من كنوز القرآن وبلاغته وما فيه من الاستعارة والمجاز، وبين ارادة المعنى الظاهر وما يتبادر الى الذهن من اللفظ وبين المعنى المجازي، وهذا الذي اطلقنا عليه اصطلاح (الجامع بين الحقيقة والمجاز) باعتباره باباُ علمياً يمتاز به اللفظ القرآني.
ان النظر للآية القرآنية بلحاظ الاستعارة والمجاز يجب ان لا يؤدي الى ترك المعنى الحقيقي، وأنكر بعضهم وجود المجاز في القرآن، والحق ان المجاز موجود في القرآن ولكن ليس بديلاً عن المعنى الحقيقي بل هو في طوله وامتداده من غير ان يزاحمه او يتعارض معه، وفيه اشراقات من المعارف الإلهية.
وقيل: (فقد يوهم ظاهر الكلام لنه كان لهم نور في الاصل، ثم خرجوا منه).
ولكن ظاهر الكلام يخبر عن اخراجهم من النور، والآية لم تضف النور اليهم او أنه كان لهم نور بل أخبرت عن كونهم كانوا في نور، فحرف الجر (من) جاء لابتداء الغاية كما يشمل النور الى جانب الهداية السعادة والتنعم بطيبات الدنيا، لأن الكفر يصاحبه الخوف والوجل، فالنور سور جامع ووعاء وافاضة تشمل الناس جميعاً ولكن الكافرين اختاروا مغادرته.
تفسير قوله تعالى [ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ]
[ أُوْلَئِكَ ] اسم اشارة للبعيد، جاء هنا على نحو الذم والتقبيح في دلالة على نفي تأثيرهم على المؤمنين، فمن وجوه اخراجه تعالى للمؤمنين من الظلمات ان يجعل لهم واقية من الكافرين وتأثيرهم، فاسم الإشارة هذا بشارة الأمن والسلامة من استدراج الكافرين ومحاولاتهم لتخلي المؤمن عن اعتقاده، وقوله تعالى [ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا ]( ) يمثل هذا القتال الظلمات والنور، هم يقاتلون من منازل الكفر والظلمة والجحود ولإكراه المسلمين على الدخول معهم في غيهم، والمسلمون يقاتلون من اجل البقاء في منازل النور والهداية، والآية تبين ان الكفار هم الذين يقومون بالقتال والتعدي.
والجمع بين هذه الآية والآية محل البحث يؤكد خيبتهم وخسارتهم القتال وعدم فلاحهم في نيل بغيتهم لأن الله عز وجل خير حافظاً وهو الذي يتولى المؤمنين ويتعاهدهم بعنايته قال تعالى [ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ]( ).
ومن اعجاز القرآن ان الآية لم تكتف بالإخبار عن حال الكافرين بل بينت بجلاء ووضوح سوء عاقبتهم وخسارتهم الأبدية وخلودهم في الجحيم، فكأن ظلمات الدنيا والتيه في الغواية واتباع الشهوات والإعانة على اهل الإيمان مقدمة للظلمة القاتمة والحزن الدائم والحسرة الملازمة لهم.
ان لغــة الإنـذار والوعيد تمثل احترازاً للمؤمنين ودعوة لهم لإجتنــاب سـبل الغواية ومسالك الكافرين، فخاتمة الآية جزء من اخــراجه تعــالى للمؤمنــين من الظلمات وسـبيل لإدخالهم الجنة بمعنى انه من وسـائل الهداية والدلالة على منازل النور ذم الكافرين وبيان سوء عاقبتهم وخسارتهم في الدار الآخرة، والمؤمن يعلم ان الدار الآخرة هي الأبدية وانه يسعى للحصول على النعيم فيها والفوز بالجنة ومن اسباب الفوز الثبات على الإيمان والهداية، والآية دعوة للمؤمنين للابتعاد عن الكافرين وعدم محاكاتهم في سجاياهم ومخالفتهم في عاداتهــم واجتنــاب نواديهـم، كما انهــا تبعث في نفس المؤمنين النفرة من الكافرين وابطال سحرهم وغوايتهم وانكشاف خداعهم وزيف ما هم فيه.
والآية شاهد صدق على ان الكافرين في الظلمات وحتى على فرض نظرة الناس الى نعيم الدنيا بانه سعادة وغبطة وان الغنى فيها افضل من الفقر فان الآية تجعل المسلم يرى ما فيه الكافر من بحبوحة العيش وحالة سريعة الزوال وفعلاً ترى كثيراً من النعم التي يتمتع بها الكافرون عنها في الدنيا قبل الآخرة فلا تستديم عندهم واحياناً تراها تختفي بسرعة مع ذلة وهوان كمقدمة وصورة دنيوية من حساب الآخرة وتذكير بخواتيم الأعمال ودعوة للهداية والرشاد ولكي يزداد المؤمن ايماناً ويتمسك بمواطن السكينة التي يبعثها نور الهداية.
والآية مركبة من امور:
الأول: اسم الإشارة للذم والتقبيح والبعد.
الثاني: انهم اصحاب النار، والصحبة الملازمة للشيء سواء كان الملازم انساناً او حيواناً او مكاناً او زماناً، والأصل فيه ان تكون المصاحبة بالبدن كما هو في المقام، فالآية تبين ملازمة ودوام سكن واقامة الكافرين في النار، وحصر صحبة النار بالكافرين ووصفهم بانهم اصحابها، بشارة نجاة المسلمين منها لما تدل عليه الصحبة من المعاني.
الثالث: خلودهم في النار والعذاب والشدة والنار اهم مصاديق وافراد الظلمات، فان قلت: ان النار ضياء ولهب، قلت: تعتبر من الظلمات لما فيها من العذاب والعقاب.
وفي حديث الصلاة: “قوموا الى نيرانكم التي اوقدتموها على ظهوركم فاطفؤها بالصلاة”، والنيران جمع نار وهي مؤنثة، والمراد محو اثر الذنوب والأعمال القبيحة التي هي سبب لحصول العقاب من اطلاق المسبب وارادة السبب، ومنهم من حمل اللفظ على حقيقته وان المراد بالنيران الحقيقية لأن عمل الإنسان وبلحاظ العاقبة يكون في حقيقته جنة او ناراً الا انهما لا يدركان الا بعد المفارقة.
والآية في مقام الوعد والعهد وكما انه سبحانه اذا اعطى اعطى بالأوفى، فانه اذا وعد يعد بالأتم والأكمل، واتى لفظ [النور] لبيان وحدة طريق الحق والمنع من الحسد بين المؤمنين والاخبار بانهم جميعاً في ولايته ونور هدايته وعظيم رحمته.
وتنفي الآية البرزخية بين الظلمات والنور بين الضلالة والهداية في بشارة للمسلمين وخزي وفضح للكافرين، وعدم الرضا عن الكافرين بالايمان على نحو جزئي كما لو قالوا بانا نؤمن ببعض الرسل دون البعض الآخر، او نأخذ من العبادات شطراً منها ونترك شطراً آخر مع الاقرار بانها واجبات وفرائض جاء بها القرآن.
واذ تقدم اسم الجلالة في الآية وجاء اخبارها بانه ولي الذين آمنوا تشريفاً وتوكيداً لحقيقة ثابتة في نواميس الدنيا والآخرة، فانها قدمت الذين كفـروا على الطاغوت ولم تخبر بان الطاغوت ولي الذين كفروا بل ذكرت ان الذين كفروا هم الذين اتخذوا الطاغوت ولياً، لأن الطواغيت ليس لها سلطان على بني آدم او التعدي على موجودات مملكته سبحانه والتصرف في اشرف مخلوقاته وهو الانسان، ولكن الذين كفروا هم الذين اختاروا ولاية الطاغوت ومالوا اليه، وامتناع الكفار عن الايمان والهدى بالاختيار لا ينافي اختيارهم الطاغوت ولياً، لذا ورد قوله تعالى [ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ] ( ).
ولا تعارض بين الآيتين من وجوه :
الأولى : ان الكافرين هم الذين اختاروا هذه الولاية.
الثانية : لا قدرة للطاغوت على الولاية وليس له ملك او تدبير او مملكة.
الثالثة : ان ولايــة الطاغوت لا واقــع لها ولا تأثيـر على الانسان، ولكن الكافر تغلب عليه النفس الشهوية والغضبية وينقطع الى الدنيا.
وتبين الآيــة ان الكافــر اختار الجحــود والغرور واتباع الهوى فيخــلي الله بيـنه وبين الشــيطان، اما المؤمن فان الله عز وجل يتكفله، لذا أخبــرت الآيــة عن ولايته تعالى ابتداءً لتكون حصناً ووقاية للمؤمنين.
ومن مفاهيم الآية انها مقدمة لمقاتلة الكافرين واخبار عن الانتصار عليهم ودحرهم، وفيها بيان عن ضعفهم وخذلانهم وعدم وجود ناصر او معين لهم، فالآية تحــث المؤمنين على مواجهة الكافرين وعدم خشيتهم وتؤكد ســهولة الغلبة عليهم، والوقائع والشواهد التأريخية تشهد بتحقيق نصــر المسلمين بسـهولة ويسر، وهذا النصر لم ينحصر بأيام البعثة النبوية بل يشمل وجودات وافراد الزمان كلها، وقد تقدم قبل بضع آيات كيف ان المؤمنين من بني اسرائيل انتصروا على القوم الظالمين مع قوتهم وبطشهم قال تعالى [ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ]( ).
وجاءت الآية بالإخبار عن سوء عاقبة الكافرين وهو توكيد لخسرانهم ولخلودهم في اشد مصاديق الظلمات زماناً ومكاناً وموضوعاً وحكماً، فمع التحذير من الطاغوت جاء الوعيد والتخويف والإنذار.
وهل المراد بـ[ أُوْلَئِكَ ] الكفار ام هم والطاغوت معاً، تعتبر اصالة الإطلاق نعم يمكن تقسيم الطواغيت الى اقسام فمنها رؤساء الضلالة فاولئك في نار جهنم, وقسم يتعلق بالحجارة والوثن فهذا القسم ايضاً في النار بدليل قوله تعالى [ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ]( ) وحينئذ يكون لفظ اولئك للغالب ولأن اصحاب النار هم الكفار والطاغوت فرد من الكفار ايضاً فهو يدخل النارككافر يتحمل ذنوبه وذنوب من كان سبباً في اغوائهم وضلالتهم.
وتبين الية في مفهومها حتمية انتصار الإسلام وخزي الكافرين في الدارين فمن كان وليه الله فقد استمسك بالعروة الوثقى ولن يضل ولن يخسر ومن اعرض عن ولايته تعالى ولم يسع لنصرته ولم يلجأ الى كنفه فقد خسر الخسران المبين وتلاقفته أيادي الضلالة واعوان الشياطين.
فالآية بشارة النصر والظفر وفيها حث على التقيد باحكام الإسلام وانه الطريق الوحيد للنجاة والفوز.
ردود كريمة على بعض الأجزاء الأخيرة من هذا السِفر المبارك
1- سماحة الإمام شيخ الأزهر.
2- سماحة العلامة الشيخ أ.د. مفتي جمهورية مصر العربية.
3- الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي.
4- سيادة رئيس مجلس القضاء الأعلى/ العراق
5- سيادة مستشار الأمن القومي السيد قاسم الأعرجي .
6- سيادة رئيس المحكمة الاتحادية العليا .
7- سيادة القاضي رئيس الادعاء العام .
8- الأمين العام لإتحاد المؤرخين العرب.
9- سيادة رئيس محكمة استئناف بغداد / الكرخ
10- سعادة أ.د .رئيس جامعة دمشق .
11- سعادة أ.د .رئيس جامعة ديالى .
12- سعادة أ.د. مدير جامعة الملك فيصل/ المملكة العربية السعودية
13- سعادة أ.د. مدير جامعة كردفان/ الجمهورية السودانية.
14- سعادة أ.د. مدير الجامعة الإسلامية/ المدينة المنورة.
15- سعادة أ.د. رئيس الجامعة العراقية.
16- عادة أ.د رئيس جامعة واسط / العراق .
17- سعادة أ.د. رئيس جامعة البصرة / العراق.
18- سعادة أ.د. رئيس جامعة ذي قار / العراق.
19- سعادة أ.د. رئيس جامعة القادسية / العراق.
20- سعادة أ.د. رئيس جامعة جدارا/ المملكة الأردنية الهاشمية.
21- كلية الإمام الاوزاعي للدراسات الإسلامية/ بيروت.
22- سعادة أ.د.مدير جامعة الأمير عبد القادر/ الجمهورية الجزائرية
السيد صاحب الفضيلة المرجع الديني الشيخ/صالح الطائي
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد،…..
فلقد تلقيت بحمد الله رسالتكم الرقيقة وبها الجزء الحادي والخمسون في تفسير آية واحدة من سورة آل عمران من القرآن الكريم.
نتضرع إلى الله العلي القدير أن يلهمكم العلم النافع وان يجعله في ميزان حسناتكم.
وشكر الله لكم حسن عملكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المرجع الديني الشيخ/صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن وأستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…وبعد،
فإنه ليسعدني أن أتقدم لسيادتكم بخالص الشكر والتقدير والإحترام على تفضلكم بإهدائنا نسخة من من الجزء الثاني والثمانين.
وأتمنى من الله أن يديم عليكم نعمة الصحة والعافية وأن يسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنه وان يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
شاكرين لكم، ولكم تحياتي
سماحة المرجع الديني الشيخ صالح الطائي حفظه الله ورعاه
صاحب أحسن تفسير للقرآن الكريم
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…وبعد,
فقد تسلمنا بيد الشكر والتقدير نسخة من كتاب”معالم الإيمان في تفسير القرآن” الجزء التسعون-الآية 134 من سورة آل عمران، والذي تفضلتم بإهدائه إلى معالي البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلي، الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، ويشرفنا أن نتقدم إليكم بجزيل شكرنا على جهودكم المتواصلة لتفسير أي الذكر الحكيم، فجزاكم الله عنا خير الجزاء وبارك فيكم وفيما تقومون به من جهد مبارك خدمة للإسلام والمسلمين.
وتفضلوا بقبول وافر الشكر والتقدير.
سماحة الشيخ صالح الطائي “المحترم”
تحية طيبة
إشارة إلى كتابكم المرقم(7285/17) المؤرخ في 17/12/2017.
تلقينا ببالغ الإعتزاز إهدائكم نسخة من كتابكم الموسوم(معالم الإيمان في تفسير القرآن) الجزء التاسع والخمسين بعد المائة، نقدم شكرنا وتقديرنا متمنين لكم دوام الموفقية.
مع التقدير
السلام عليك عليكم ورحمة الله وبركاته
ببالغ الإمتنان والغبطة تلقينا هديتكم الكريمة (الجزء السادس عشر بعد المائتين ) من التفسير المبارك شاكرين حسن معالجتكم لهذا الموضوع المهم ونشد على عضدكم لتقدموا للأمة كل ما ينفعهم وينير بصيرتهم ويجلي الرين عن قلوبهم ليفهموا كتاب الله كما أراد سبحانه أن يفهموه ويعملوا بأحكامه ليكون لهم في الدنيا , مرشداً وفي الآخرة شفيعاً . ونضع أنفسنا وامكاناتنا لخدمة هذا المجهود المبارك سائلين المولى القدير أن يوفقكم لكل خير .
المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم
تحية طيبة
تلقينا ببالغ الاعتزاز اهدائكم القيم (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب ) معالم الإيمان في تفسير القرآن الجزء الخامس والعشرون بعد المائتين.
نقدم شكرنا وتقديرنا مع وافر التقدير .
مكتب المرجع الديني
الشيخ صالح الطائي
م/شكر
تحية طيبة
كتابكم ذي العدد 23/19 المؤرخ في 2/1/2019.
استلمنا هديتكم (الجزء الخامس والسبعين بعد المائة من تفسير القرآن الكريم) ونقدم لكم شكرنا آملين منكم المزيد من العطاء والتوفيق.
مع التقديــــر.
إلى/ سماحة المرجع الديني للمسلمين الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
م/شكر وتقدير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
وأسأل الله تعالى ان يوفقكم ويحفظكم ويرعاكم انه سميعّ مجيب الدعاء.
عزيزي سماحة الشيخ المحترم :
تسلمت بمزيد من الفخر والاعتزاز الجزء (الواحد والعشرين بعد المائتين) من موسوعة (معالم الإيمان في تفسيرالقرآن) وهو الجزء الخاص بقانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) التي تدلل على ما حباكم الله تعالى به من رعاية ربانية علمية في انجاز هذا العمل العلمي الكبير ، وهو أول عمل علمي في العالم الإسلامي بهذا الحجم وبهذا العمق وبهذا المنهج ، وأسأل الله تعالى أن يديم عليكم نعمة العافية والستر والتوفيق والسداد من أجل تقديم المزيد من العطاء الفكري والعلمي في هذا التخصص النادر ، والله يحفظكم ويرعاكم بعين حفظه ورعايته إنه سميعّ مجيب الدعاء.
أكرر شكري وتقديري وامتناني العظيم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إلى/ مكتب المرجع الديني
الشيخ صالح الطائي المحترم
اشارة الى كتابكم ذو العدد 2250/21 في 21/11/2021.
تلقينا بمزيد من الفخر والاعتزاز الجزء (السادس والعشرون بعد المائتين) من موسوعة معالم الإيمان في تفسير القرآن لا يسعنا إلا ان نقدم شكرنا واعتزازنا بكم املين تقديم المزيد من العطاء الفكري والعلمي في مسيرتكم .
مع فائق التقدير …
سماحة المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب احسن تفسير للقرآن
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
أتقدم اليكم بجزيل الشكر والتقدير لهديتكم القيمة الجزء الحادي عشر بعد المائتين الخاص بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
وأتمنى من الله أن يديم عليكم نعمة الصحة والعافية والمزيد من النجاح والتوفيق ، نبارك لكم جهودكم ونقدر لكم هذا الإهداء…
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته …
تلقينا بكل تقدير وإمتنان إهدائكم نسخة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) الجزء السادس بعد المائتين ، ونتقدم بخالص الشكر والعرفان على هذا الاهداء ، لأدعو الله العلي القدير أن يمدكم بعونه وتوفيقه ، وان يسدد خطاكم ويكلل أعمالكم بالنجاح أنه سميع مجيب
فضيلة الشيخ/ صالح الطائي الموقر
مكتب المرجع الديني وصاحب أحسن تفسير للقرآن
وأستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
ص.ب -21168 مملكة البحرين
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد
تلقيت بكل الثناء والتقدير خطاب فضيلتكم رقم 1861/16 وتأريخ 20/5/2016م المرفق طيه نسخة من كتاب بعنوان “معالم الإيمان في تفسير القرآن ” الجزء الثاني والثلاثين بعد المائة.
يطيب لي ويسعدني أشكر فضيلتكم جزيل الشكر على إهتمامكم المتواصل بتزويد إدارة الجامعة بهذه النسخة ، وستحال إلى مكتبة الجامعة للإطلاع عليها، سائلاً المولى جلت قدرته للجميع التوفيق والسداد.
وتقبلوا خالص تحياتي وتقديري،،،
السادة/ مكتب المرجع الديني
الشيخ صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تهديكم جامعة كردفان أطيب التحايا ، وتغمرنا السعادة بالإصدارات التي تتوالى إلينا بإنتظام من مكتب المرجع الديني في (معالم الإيمان في تفسير القرآن) والذي كان آخر هذه الإصدارات (الجزء السادس والثلاثين بعد المائة) والذي تشرفنا بإستلامه بموجب خطابكم رقم 1535/16 الصادر في 13/7/2016م، وذلك إثراءاً للمعرفة في مجال تفسير آيات القرآن، خدمة للباحثين والمهتمين بأمر التفسير القرآني، والتي أضحت متاحة في الأقسام المختصة بالمكتبات الأكاديمية في الجامعات ومراكز البحوث وجامعة كردفان تحظى بأعداد وافرة منها في مكتبها المركزية.
ختاماً لكم الشكر والعرفان على هذا الصنيع، نفعنا الله به، وأثابكم عليه خير الجزاء .
وتفضلوا بقبول فائق عبارات التقدير والإحترام
معالي الشيخ/ صالح الطائي سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،، وبعد
فأسال الله لمعاليكم العون والتوفيق، ويسرني إفادتكم بأني تلقيت بكل تقدير وإمتنان إهداءكم للجامعة نسخة من الجزء التاسع بعد المائة من(معالم الإيمان في تفسير القرآن).
وإنني إذ أتقدم لمعاليكم بخالص الشكر والعرفان على هذا الإهداء، لأدعو الله العلي القدير أن يمدكم بعونه وتوفيقه، وأن يسدد خطاكم ويكلل أعمالكم بالنجاح إنه سميع مجيب يحفظكم الله ويرعاكم.
ولكم تحياتي وتقديري
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
تحية طيبة…
نشكر مبادرتكم الطيبة بإهدائكم لنا نسخة من كتابكم الموسوم الجزء الثلاثون بعد المائة من(معالم الإيمان في تفسير القرآن) سائلين الباري عز وجل أن يوفقكم في مسيرتكم العلمية والعملية خدمة لبلدنا العزيز.
ومن الله التوفيق…
إلى/ المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :ــ
قال تعالى ((نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)) أنه لفرح كبير وفخر أكبر ان احظى بأجزاء من تفسيركم للقرآن الكريم ، وهو تفسير واسع اضيف الى المكتبة الإسلامية ، وسيكون له اثره الطيب في فهم نصوص القرآن الكريم ولكم به أجر وثواب الآخرة ، ولا يسعنا في هذا المقام الا ان نقدم لكم شكرنا وتقديرنا على هذا الإهداء الفريد ، متمنين لكم التوفيق والمزيد من العطاء المبارك.مع فائق الإحترام…
الشيخ محمد الشيخ صالح الطائي المحترم
مدير مكتب المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ صالح الطائي المحترم
نهديكم أطيب التحيات …
نتقدم بأجمل عبارات الشكر والتقدير على جهودكم المبذولة في إهدائكم إيانا نسخة من كتابكم (معالم الإيمان في تفسير القرآن/ الجزء الواحد بعد المائة) ….. متمنين لكم المزيد من التقدم والنجاح.
تفضلوا بقبول وافر الاحترام …
إلى/ مكتب المرجع الديني الشيخ صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته …
باعتزاز بالغ واعجاب شديد بالجهود الكبيرة لسماحة آية الله العظمى الشيخ صالح الطائي (دام ظله) في تفسير كتاب الله العظيم من خلال تلقينا اهداءكم المبارك للجزء (132 ،133، 134) من معالم الإيمان في استظهار كنوز من كتاب الله المجيد، سائلين المولى عز وجل ان يوفق الشيخ الجليل لما فيه خير الدنيا والآخرة وخدمة الإسلام والمسلمين .
والله ولي التوفيق
إلى / مكتب المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
م/شكر على اهداء
تحية طيبة …
تسلمنا ببالغ الشكر والتقدير الجزء السابع بعد المائة من التفسير وهو القسم الأول من تفسير(أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس) شاكرين لكم اهداءكم متمنين لكم مزيداً من الإرتقاء والأزدهار والتطور.
…مع التقدير
سيادة الأخ الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن الكريم
وأستاذ الفقه والأصول والأخلاق
بكل فخر وإعتزاز تلقيت رسالتكم الموقرة التي تحمل العدد (532) تأريخ 26/5/2012م، ومرفقها الجزء التسعون من التفسير في الآية(133) من سورة آل عمران.
وانني إذ أشكركم جزيل الشكر وعظيم الإمتنان على اهدائكم هذا، سائلاً المولى عز وجل أن يديم عليكم نعمة الصحة والعافية، وأن يجعلكم سنداً وذخراً للأمة الأسلامية متمنياً لكم كل التقدم والإزدهار.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بيروت في 9/ربيع الأول/1440هــ
الموافق 24/11/2018م
سماحة المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
مكتب المرجع الديني الشيخ صالح الطائي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تتقدم كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية بأطيب تمنياتها، وتشكركم على الجزء(171) الذي وصلنا من جانبكم من كتاب: “معالم الإيمان في تفسير القرآن” والذي يتضمن قراءة في آيتين من القرآن بما يدل على أن النبي(ص) كان لا يسعى إلى الغزو ولم يقصده ولم يدع إليه.
آملين الإستمرار في إرسال الأجزاء التي ستصدر منها مستقبلا، شاكرين لكم حسن تعاونكم الدائم معنا وداعين الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما فيه خير الإسلام والمسلمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إلى السيد المحترم/الشيخ صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن
مكتب المرجع الديني
تحية طيبة وبعد :
تلقينا نحن أ.د/ عبدالله بو خلخال مدير جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية قسنطينة، هديتكم القيمة المتمثلة في كتاب(معالم الإيمان في تفسير القرآن) الجزء الثالث عشر بعد المائة.
وإذ نعبر لكم عن شكرنا على هذه الإلتفاتة الكريمة، نهديكم نحن بدورنا نسخة من مجلة الجامعة العدد 33 ونسخة من نشرية أخبار الجامعة.
تقبلوا فائق الإحترام والتقدير.