المقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي جعل القرآن سفيراً دائماً من عند الله عز وجل في الأرض، ورسولاً للنفوس كافة يزيد ايمان المؤمن، ويبعث على الهدى والإيمان، وينذر الكافرين، وهو من اصـدق مفاهيــم قاعــدة اللطــف وملائمة أحكامه لجميع الناس على التباين في درجات الشرف والبصيرة والإعلان والسريرة، ومستوعب لجميع الأفعال والأعمال هادي للتي هي اقوم ، محاصر للقبيح والفاسد منها ، وفي الثناء على القرآن ، قال تعالى هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ مع أنه ليس من التحريف في التفسير والتأويل ، ولكنه الإجتهاد خارج النص .
ومن خصائصه ان تجد علوم التفسير والتأويل بعيدة عن الفرقة وتعدد المذاهب، ما ان تقوم فرقة بتفسيره وفق المباني والمرتكزات الخاصة بها حتى يبدو الخلل والنقص فيه وترى النفوس تعزب عنه،
ولا يبقى من التفسير الا الذي يحكي عالمية القرآن ويظهر جواهره ودرر كنوزه ويتعاهد اشراقة الملكوت على ضمائر العاشقين .
ويكون مناراً للأرواح السابحة في بحار المعرفة الإلهية السائحة في أسرار السماوات وينأى بالقلوب عن الحجب الظلمانية وليل الضلالة ، وتبقى محترزة بدقائق كشفه من كيد الشيطان وشركه وحبائله.
ويتضــمن هذا الجزء تفسير خمس آيات من القرآن هي الآيات (258-261) من سورة البقرة وفيه اشراقة على موضوع الإنفاق في سبيل الله تعالى كوسيلة جامعة لتكميل المسلم وتهذيب النفوس من درن الأخلاق واغشية التعلقات التي تحول دون الإنجذاب الى المعشوق، لقانون الإنفاق في سبيل الله وسيلة للإرتقاء في درجات الإيمان ويكون على وجوه :
الأول : أنه دنو من عالم القدس.
الثاني : قانون الإنفاق طاعة لله إبتعاد من عالم الغرور.
الثالث: قانون الإنفاق قهر للنفس الشـهوية والغضــبية والوهمية وسلطان القوى الجسمية .
الرابع : قانون الإنفاق في سبيل الله انتصار للقوة العقلية في العالم الإنساني الصغير .
الخامس : قانون الإنفاق في سبيل الله مساهمة في الجهاد وحفظ الشريعة ومقومات الدين .
السادس : قانون بقاء الإنفاق تركة كريمة للأجيال اللاحقة بتعاهد الأخلاق الحميدة والسفر في عالم التجرد والنور والسعي الحثيث بالعلم والعمل لمقاصد الصـدق ومطاردة متصلة للشيطان وجنوده ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ] ( ).
السابع : قانون الإنفاق في سبيل الله بعث للفزع والخوف في قلوب المشركين ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ) الجواب نعم .
الثامن : قانون الفوز بالثواب العظيم بالإنفاق في سبيل الله ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ويزهو هذا الجزء بتفسير آية الكرسي ذات السيادة القرآنية والعز الملكوتي التي تتضمن انوار حقيقة التوحيد ومفاهيم قدسية من واسع رحمة الله تعالى ومصابيح الهدى وسراج الشفاعة الذي يطرد ظلمة اليأس والقنوط.
وفيها من أسماء الله تعالى الحسنى ما يبهر العقول وتضفي عظمتها قدسية خاصة وجلالة اضافية للمعاني القدسية لكل اسم منها وما يدل عليه من صفات حسنه وبهاء جماله وعظيم كبريائه تعالى، والاشارات الكريمة الى الذات التي تتصف بالوجــوب والغنى الذاتيين لتكون بشــارة ووعداًً لمن ينفق في سبيل الله تعالى ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
(عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } و { الم ، الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ( ).
وأخرج الديلمي عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ليس شيء أشد على مردة الجن من هؤلاء الآيات التي في سورة البقرة { وإلهكم إله واحد . . . } الآيتين)( ).
نسأل الله تعالى ان تكون قراءة وانشغال المسلم في علوم التفســير انفاقاً في سبيل الله ووقتاً معوضاً ببدل واضـافة الى أيامه في الدنيا من فضله تعالى وفي التنزيل [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( ).
قوله تعالى[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَـاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] الآية 258.
الإعراب واللغة
ألم: الهمزة للإستفهام التعجبي، لم: حرف نفي وقلب وجزم.
تر: فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة، والفاعل ضمير مستتر تقديره انت.
الى الذي: جار ومجرور، ولابد من تقدير مضاف أي موضوع أو مسألة الذي حاج إبراهيم.
حاج إبراهيم: حاج: فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو،
إبراهيم: مفعول به.
ان اتاه الله الملك: ان: حرف مصدري ونصب، آتاه: فعل ماض في محل نصب، الهاء: مفعول به، اسم الجلالة: فاعل.
الملك: مفعول به ثان.
اذ: ظرف لما مضى من الزمن.
ربي الذي: رب مبتدأ، وهو مضاف، والباء مضاف اليه، والاسم الموصول خبر، وجملة يحيي صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.
فان الله يأتي بالشمس: الفاء: فصيحة، وهي الواقعة في جواب شرط مقدر، واسم الجلالة: اسم ان، وجملة يأتي: خبرها.
فبهت الذي كفر: الفاء عاطفة، بهت: فعل ماض مبني للمجهول، الذي: نائب فاعل لفظاً، وفاعل بلحاظ المعنى، كفر: فعل ماض، والفاعل: ضمير مستتر والله لا يهدي القوم الظالمين، الواو: استئنافية، الله: مبتدأ، لا: نافية، يهدي: فعل مضارع، والفاعل ضمير يعود الى واجب الوجود، والجملة خبر المبتدأ، ومعنى بهت: انقطع وتحير ودهش وغابت عنه البينة.
القوم: مفعول به، الظالمين: صفة.
في سياق الآيات
بعد ان جاءت الآية السابقة ببيان ومقارنة لحال الإيمان والكفر وموضوع الولاية وعدمها واسباب النصر والظفر وطرق الرشاد والضلال والدعوة الى الله والحث على الإتكال عليه، جاءت هذه الآية لتبين مصداقاً من مصاديق الولاية وعدمها بمواثيق النبوة وعهد الرسالة وكيف ان الذي يكون الله وليه ينتصر وهو اعزل على الكافر صاحب البطش والبأس والسلطان.
وبعد آيات الجهاد والدفاع جاءت هذه الاية لتوكد وجهاً من وجوه الجهاد والصبر وبيان معالم الإيمان بسلاح الحكمة والموعظة.
لقد أختتمت الآية بقانون من الإرادة التكوينية ، وهل أن عاقبة الذين كفروا الخلود في النار لإنقيادهم إلى الشيطان وأعوانه فاضلوهم ، والقدر المتيقن من الآية هم الذين ماتوا على الكفر ، وغادروا الدنيا من غير توبة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ]( ) .
لبيان مصداق من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )
بالإنذار من الكفر والجحود ، ومحاربة النبوة والتنزيل ، ومن الإصرار على الكفر .
وابتدأت آية البحث بشاهد تأريخي على التضاد بيم الإيمان والكفر ، بين الملك الغاشم والرسالة السماوية ، وفيه مسائل :
الأولى : قانون سوء عاقبة الكفر .
الثانية : قانون الخزي للذي كفر في الدنيا .
الثالثة : قانون إقامة الحجة على الذي كفر .
الرابعة : قانون الحجة برهان ، ودعوة للذي كفر للتوبة والإنابة .
ومع أن نمرود كافر فان الآية أخبرت عن إتيان الله عز وجل له الملك لبيان قانون ليس من أمرة وسلطان لشخص إلا بأمر وأذن من الله للإمتحان والإبتلاء الخاص والعام .
وابتدأت الآية التالية بحرف العطف (أو) لإفادة الإتيان بخبر أخر في ذات موضوع المقارنة والتضاد بين المؤمنين والذين كفروا ، قال تعالى [أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
إعجاز الآية
تبين الآية لغة الإحتجاج واقامة البرهان التي اعتمدها إبراهيم في دحر الطاغوت وابطال حجته، وهي مدرسة في الجدال والإحتجاج قائمة الى يوم القيامة جاءت لتأديب المسلمين وارشادهم وتعليمهم صيغ نشر الإسلام وتثبيت اركان التوحيد وهو من مصاديق قوله تعالى [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( )
، وتظهر الآية وجهاً من وجوه ولاية الله ونصره لأنبيائه وللمؤمنين وتدعو الملوك والحكام الى التوحيد وخلع رداء الكبر.
انها مناسبة ولحظة في الجهاد والسعي في سبيل الله تعالى يكتب لها الخلود بواسطة التنزيل لتكون مناراً وضياء وعنواناً للصلاح والرشاد .
ومن الإعجاز الغيري للآية انها منعت من ادعاء الطواغيت الربوبية في ممالك الأرض المتباينة.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية(إبراهيم) وهي الآية الوحيدة التي ورد فيها إسمه ثلاث مرات، ولم يرد اسم نبي ثلاث مرات في آية من القرآن، فإن قلت جاءت سورة في القرآن بأسم(سورة إبراهيم)
والجواب ليس من مانع أن تسمى سورة وآية باسم إبراهيم لعظيم منزلته عند الله، وقد ورد ذكره في آية واحدة مرتين قال تعالى[وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً]( ).
الآية سلاح
الآية دعوة الى اتقان مدرسة الإحتجاج والإلتفات الى الآيات الآفاقية وبديع صنع الله تعالى في السماء والأرض والإطلاع على ملكوت السماء من خلال العقل والنتائج العلمية وتوظيف الحواس في عالم البرهان، والآية فخر وعز للمسلمين ونصر خالد وثقه القرآن ليكون ضياء ونبراساً ومرتكزاً عقائدياً.
وتكشف الآية عن قانون السلم في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل ، وقد صدر لنا والحمد لله ستة وعشرون جزء بخصوص قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً ) وهي الأجزاء : (159-160-161-163-164-165-166-167-169-171-172-173-175-176-177-178-182-185-188-192-200-208-212-218-226-238) .
وذكرت الآية قولين لإبراهيم عليه السلام قولاً واحداً لنمرود لبيان قانون رفعة أهل الإيمان ، وإباحة الإحتجاج والجدال والإتيان بالبرهان المتعدد لإقامة الحجة على وجود الصانع ، وعلى صدق النبوة والرسالة.
لذا ورد لفظ (قل) في القرآن (332) مرة كلها خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء اربعة منها ، لبيان وجوب تعاهد وتبليغ أحكام الشريعة ، والدعوة إلى الله [بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
مفهوم الآية
كما تتضمن الآية البشارة والسكينة للمؤمنين فانها تنزل بالإنذار والوعيد للكافرين والجاحدين وتبعث في نفوسهم الفزع والخوف والرعب والشعور بالخلل والنقص خصوصاً وان الإنسان من افراد الممكنات وكل ممكن ناقص ومحتاج لواجب الوجود.
وتنهى الآية عن التصدي لأهل الإيمان في دعوتهم لله عز وجل وحجب الآخرين عن الإنصات والإستماع لهم، فالآية وان اخبرت عن تمادي نمروذ بالغي والضلالة الا اذا اثبتت حقيقة تأريخية وقانون وهو ان الأنبياء لا يترددون في اعلان كلمة التوحيد ولو في حضرة اعتى الظالمين.
لم يتجه إبراهيم الى الدعوة السرية ولم يبق عندها بل اختار الإعلان والجهر بها.
وقد قام رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعلان الدعوة الى الله في مكة ثم اضطر الى الهجرة وترك الوطن وجوار البيت الحرام الى حيث الناصر والمستجيب لدعوته ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
لقد اراد إبراهيم توكيد قدرته وعظمته تعالى، ولم يزاحم الطاغوت في ملكه وسلطانه ولم يدعه للتنحي ولم يحمله كرهاً على الإٍسلام، ونقل اليه رسالة بسيطة ليست مركبة وهي ان الحياة والموت بيد الله تعالى، ولكن الطاغوت ابى الا العناد والجحود، وهذا الجحود بسبب الملك والشأن والسلطان.
وفي الآية توكيد على قانون سير الفلك بامر الله تعالى وان الله عز وجل لم يتخل عن العالم بعد ان خلقه بل لا زال يتعاهده ويحفظه ويأمره لذا ترى الآية جاءت بصيغة المضارع [يَأْتِي بِالشَّمْسِ] وتبين الآية قانون اقامة الحجة على الكافرين وكيفية الغلبة عليهم وابطال سحرهم .
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجارون إلى الله ، لوددت أني كنت شجرة تعضد)( ).
لقد اعتمد إبراهيم صيغة المناظرة للدعوة الى التوحيد والدلالة على اثبات الصانع والإرشاد الى نبوته، وتلك الصيغة اخطر وسيلة على حياته كما يظهر من رد فعل نمروذ وقسوته وبطشه وعزمه على احراق إبراهيم عليه السلام، ولكن الله عز وجل صرف عنه الأذى وحال دون قتله، والآية حرب على دعوى الطواغيت الربوبية واستئصال لها وهي في مفهومها تثبيت لأركان التوحيد في الأرض.
التفسير
تفسير قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ]
أختلف في أوان المناظرة وإقامة إبراهيم الحجة على نمرود على وجوه:
الأول: بعدما أخرج إبراهيم من السجن لإرادة حرقه في النار، وسلامته منها بقوله تعالى[قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا]( )، قال نمرود لإبراهيم من ربك الذي تدعونا إليه؟
قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت .
وقيل : كان هذا بعد إلقائه في النار وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمرود ، وكان الناس يمتارون من عنده الطعام فكان إذا أتاه أحد يمتار سأله من ربك؟
فيقول أنت فيميره فخرج إبراهيم عليه السلام إليه يمتار لأهله الطعام فأتاه فقاله له من ربك قال ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر .
فرده بغير طعام فرجع إبراهيم إلى أهله فمر على كثيب رمل أعفر فأخذ منه تطييباً لقلوب أهله إذا دخل عليهم فلما أتى أهله وضع متاعه ثم نام
فقامت زوجته سارة إلى رحله ففتحته فإذا هو طعام أجود ما رآه أحد فصنعت منه خبزاً فلما انتبه قربته إليه فقال لها إبراهيم من أين هذا؟ وكان عهد أهله وليس عندهم طعام فقالت من الطعام الذي جئت به .
فعلم إبراهيم أن الله قد رزقه فحمد الله تعالى: ثم إن الله تعالى بعث إلى نمرود الجبار ملكاً فقال له إن ربك يقول لك أن آمن بي وأتركك في ملكك قال وهل رب غيري فجاءه الثانية فقال له مثل ذلك ثم أتاه الثالثة فرد عليه مثل ذلك
فقال له الملك أجمع جموعك فجمع الجبار جموعه فأمر الله الملك ففتح عليه باباً من البعوض حتى سترت الشمس فلم يروها فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم وشربت دماءهم فلم يبق إلاّ العظام ونمرود ينظر ولم يصبه شيء من ذلك ثم بعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكثت في رأسه أربعمائة سنة)( ).
يظهر الإعجاز المركب المتعدد في هذه الآية اذ انها تبدأ بصيغة التعجب التي تتعلق بالذات والعرض، ومن الأول ان الإنسان ذاته مخلوق لله عز وجل وقد آتاه العقل وهداه الى التوحيد على الفطرة ونصب له الدلائل والبراهين في نفسه وفي الآفاق على لزوم الإقرار بالربوبية لله تعالى الذي ارسل الأنبياء والرسل [مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ]( ).
قانون الجحود ضلالة وهلاك
الجاحد في آية البحث لم يكن فقيراً بائساً بل ان الله عز وجل قيض له اسباب الملك ومكنه من الإستحواذ عليه فالأولى به ان يكون شاكراً لله عزوجل، كما ان اضرار كفره وجحوده لا تنحصر بشخصه او بأسرته بل انها عامة تشمل الأعوان والجنود والرعية، وتهدد بسيادة قيم ومفاهيم الكفر وعبادة الفرد وشيوع الضلالة والفجور ، لبيان قانون النبوة حاجة لأهل الأرض .
ان لغة الإستفهام الإنكاري والتعجب في الآية تذكير للمسلمين بحال الأمم السالفة وتردي احوال الناس العقائدية واتجاههم جماعات ودولاً نحو الكفر والجحود وحاجتهم الى الإسلام، كما انها تبين اهلية المسلمين لوراثة الأرض في تثبيت اركان الدين وتأسيس الكيانات العقائدية المانعة من تسرب الكفر الى مجتمعاتهم بل والى اهل الأرض فبالإسلام اصبح الكفر محاصراً مفضوحاً لا يستطيع ان يمتد ويطال بلاد المسلمين او ذراريهم وكانت احكام الردة وعقوباتها نوع رادع لهم ومانعاً من تعديهم على المسلمين او الطمع في تسرب افكار الضلالة الى نفوسهم واجيالهم اللاحقة.
وتعطي الآية درساً في لزوم التوجه الى الملوك والحكام وبذل الوسع في وعظهم وتحذيرهم وشكرهم على أسباب الصلاح ، ونهيهم عن التمادي في الغي واسباب الضلالة مع الأمن على الذات والغير لما تترتب على فسادهم من الأضرار العامة التي لا تنحصر بزمانهم بل تمتد الى الأجيال الأخرى سواء بذاتها ام بما يضيف عليها الملوك اللاحقون وشيوع صيغ الكفر والإنغماس في الضلالة، واتجاه الناس نحو الإنشغال بالدنيا وارضاء الملوك والملأ .
فأنعم الله عز وجل على الناس بتعاقب الأنبياء لوقف تمادي الطواغيت ، وما قصة إبراهيم ونمروذ إلا موعظة ، وهل تكررت شواهد مثلها بين الأنبياء والصالحين من جهة وبين الملوك الكفرة ، الجواب نعم ، ومنه قصة فرعون وماشطه ابنته ، وكما في أسيا زوجة فرعون ، قال تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( )، وفي حين ذكرت الآية الكافر بالكناية والإبهام والإشارة احتقاراً وازدراء له، جاء ذكر إبراهيم بالاسم تشريفاً وثناء عليه في جهاده ولبيان عظيم منزلته عند الله.
قانون الجهاد بالكلمة
لقد ادرك إبراهيم عدم حصر التوجه الى العامة في التبليغ لإنقيادهم للملك وهيمنته على الحالة الفكرية للمجتمعات ولا سبيل لتبليغهم الابالواسطة، بمعنى ان يتخذ الملك واسطة لتبليغ الناس ودعوتهم للتوحيد ولكن هذا الطريق يؤدي الى الموت والقتل فاختاره إبراهيم عشقاً لواجب الوجود واخلاصاً لوظائف النبوة ولا دليل على انه اراد اختصار الطريق والتوجه مباشرة الى رأس الضلالة خصوصاً وان الصبر من دأب الأنبياء وقد اوصوا به وان لم يكن يتعارض مع الجهاد في سبيل الله تعالى والتضحية بالنفس والمال لإثبات التوحيد.
ولكن إبراهيم ادرك ان لا سبيل الى اعلان كلمة التوحيد الا بمخاطبة الملك نفسه واقامة الحجة عليه وفضحه امام الوزراء والقواد والملأ والخاصة بعد ان بذل الوسع مع غيره من عامة الناس.
كما ان الدعوة تكون حينئذ شخصية في ظاهرها ولكنها عامة في الواقع والخطاب والإنذار فيها موجه الى كل سامع، بالإضافة الى اتخاذ الملك وسيلة لنشر الدعوة خصوصاً عند اقامة الحجة على الملك واثبات عجزه عن الرد وان كان هذا العجز مناسبة لإثارة الروح الغضبية عنده ومبادرته الى البطش والفتك بابراهيم وباتباعه ايضاً لو كان له فاتباع النبي فالأتباع معرضون للإنتقام حالما يظهر امر الدعوة فلذا قصد إبراهيم الملك بنفسه وتحمل اعباء وتبعات الإحتجاج.
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قيامه بدعوة رؤساء قريش إلى الإسلام بآيات القرآن ، وتلاوته لها على وفق قبائل العرب في موسم الحج ، وتتصف السور المكية بالقصر ، ولغة الإنذار ، وقانون التخويف في الدنيا ، وقانون الوعيد في الآخرة .
كما كان يقيم الصلاة في المسجد الحرام في بدايات البعثة النبوية بمرأى ومسمع من كفار قريش ، قال تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى*عَبْدًا إِذَا صَلَّى]( ).
و(عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي عند المقام فمر به أبو جهل بن هشام فقال: يا محمد، ألم أنهك عن هذا؟ -وَتَوعَّده-فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانتهره، فقال: يا محمد، بأي شيء تهددني؟
أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديًا! فأنزل الله: { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته)( ).
قانون الدعوة السلمية للإصلاح و الصلاح
ويخشى الملوك خروج بعض المتمردين والثوار عليهم في انحاء وثغور المملكة، اما ان يأتي نبي او مصلح لدعوتهم للإسلام فلا يستطيعون ادراك ماهية الدعوة وانها تهدد غرورهم وطغيانهم بصورة وكيفية أخطر وأكبر من تهديد الثورات الداخلية، فقد جاء إبراهيم بشخصه من غير أعوان واتباع وليس عنده سلاح، مما يوحي بسهولة الأمر الا ان هذا الإحتجاج تحد من نوع جديد يحمل أموراً :
الأول : قانون الإنذار بهدم اركان ملك الكفر وسيأتي في الجزء الستين بعد المائتين كيف أن قوله تعالى [قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ]( ) .
الثاني : قانون تفرق الأنصار في الأمصار معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وآية في الدعوة إلى الله عز وجل .
الثالث : قانون بعث روح الفزع والخوف في نفس من يبقى مع الملك لإنكشاف زيف الكفر وضعف القواعد العقلية والأخلاقية لنظام الملك المشرك وافتقاره الى اسباب البقاء والإستدامة وهي الإقرار بالتوحيد والإعتراف بوجود الصانع واللجوء اليه تعالى في المهمات والشكر على النعم باتيان العبادات كل بحسب نبوة زمانه والشريعة السائدة والتطلع الى الرسالة الكاملة والكتاب السماوي الجامع للشرائع والأحكام وهو القرآن ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
بحث عقائدي
الهاء في ربه في عائديته وجهان:
الأول : انه يعود الى إبراهيم عليه السلام.
الثاني : انه يعود الى نمروذ.
لقد ورد لفظ (ربه) بالإضافة الى المفرد الغائب في القرآن ست وسبعين مرة، منها اربع وثلاثون مرة في انبياء الله، ومن ضمنها ما تعلق موضوعه بابراهيم والباقي خطابات تكليفية عامة، وليس فيها لفظ (ربه) لخصوص شخص معين من الكفار، نعم ورد على نحو الذم والتقبيح للظالم والكافر بارادة النوع كما في قوله تعالى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ]( ) وقوله تعالى [وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا] ( ).
لذا فالأقوى ان الضمير يعود الى إبراهيم وفيه دلالة على ثبات الإيمان في قلب إبراهيم وسط سلطانه وبطش الكافر واعوانه وجنده وانصاره، واخبار عن عدم طرو الشك والتردد على قلبه او ظهور الخذلان على لسانه او فعله وبذا تتجلى معاني عقائدية ومفاهيم جهادية في نسبة الضمير الى إبراهيم ولا ينحصر الأمر بالقراءة اللغوية للحرف والوقوف عند المتعلق وفق الإصطلاح النحوي.
ومن اعجاز القرآن قانون احاطة كلمات القرآن المحدودة باللامحدود، وقانون تعدد فروع المعرفة الإلهية من الحرف القرآني .
فلا غرابة في القول بان في كل كلمة من القرآن اعجازاً .
بل يتجلى هنا بالحرف القرآني الواحد وما فيه من الدلالات، فان ارادة إبراهيم بالضمير الهاء تدل على انتهاء الإحتجاج يخزي الطاغوت وبقاء إبراهيم عزيزاً شامخاً في منازل الإيمان .
وقد يميل الطاغوت واعوانه الى حل وسط، وتدارك ونوع برزخية بين الطرفين يحفظ للملك بعض شأنه واعتداده بكرسيه وتورية على ما يدعيه من الربوبية ولكن نسبة الخلق والأمر لله تعالى يتضمن وجوهاً:
الأولى : نفي الحلول الوسطية .
الثاني : المنع من البرزخية .
الثالث : قانون كشف الغطاء عن الباطل ويدعو المؤمنين الى الجهاد بكلمة الحق.
الرابع : قانون دعوة المؤمنين إلى الصبر وبيان كلمة الحق .
الخامس : قانون الدعوة الى الله عز وجل بالحجة والبينة من غير خوف او وجل او تردد، قال تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
قانون أولوية التفقه
وتعطي الآية اولوية للبصيرة والتفقه والثبات على الإيمان عند ولوج ميادين الإحتجاج او الجهاد وتدل بالدلالة الإلتزامية على الحاجة الى الصبر في مواطن الإبتلاء والإفتتان مع حسن التوكل على الله في المهمات، والسعي الى المغالبة وطلب النصر بالقول والبرهان وقانون الإحسان العام.
وفي حديث الإسراء (عن الإمام علي ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما اسري بي مرت بي رائحة طيبة فقلت يا جبريل ما هذه الرائحة الطيبة؟
قال: ماشطة بنت فرعون واولادها، كانت تمشطها.
فسقط المشط من يدها.
فقالت بسم الله .
فقالت ابنة فرعون: أبي .
قالت بل ربي وربك ورب أبيك .
قالت: ألك رب غير أبي؟
قالت نعم قالت: فاخبر بذلك أبي؟
قالت: نعم فاخبرته فدعاها، فقال: ألك رب غيري؟
قالت: نعم ربي وربك الله الذي في السماء فامر ببقرة من نحاس فاحميت ثم أمر بها لتلقى فيها واولادها قالت ان اليك حاجة .
قال وما هي؟
قالت تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنها جميعاً، قال ذلك لك لما لك علينا من حق فالقوا واحداً واحداً حتى بلغ رضيعاً فيهم قال قعي يا أمة ولا تقاعسي فذاك على الحق( ) فالقيت هي وولدها).
بحث كلامي
تمنع آية البحث من القنوط والإرباك والعجز عند رؤية من يجادل في آيات الله ويرتدي الكبرياء والجحود ، فهذه الشواهد القرآنية من القصص التي اخبر عنها القرآن، بأنها أحسن القصص وهذا الحسن لا يتعلق بالذات فحسب بل بدلالتها وآثارها ونتائجها، في النشأتين .
ومما يؤيد هذا القول الخطاب القرآني في الآية، [أَلَمْ تَرَ] الذي ينحل بعدد المسلمين ويدعوهم الى قانون التنزه عن الباطل .
كما انه موجه للناس جميعاً ليكون واقية لهم من سلطان الغواية وتأثير الطواغيت، فالطاغوت لا ينال هذه الصفة والعنوان الا بالرجال والمال.
فالآية تقطع عنه موارده واسباب حصول سلطانه ودعوته الربوبية وغالباً ما تأتي مقدمات دعوى الربوبية والتجبر من الأعوان والأنصار وتماديهم بلغة التفخيم والتعظيم للطاغوت رجاء نواله وبغية الحصول على منافع شخصية محدودة فيسيئون لأنفسهم وللأجيال ويتركون ندبة سوداء في التأريخ ويساهمون في بث مفاهيم الكفر والجحود ويكونون سبباً في ضعف العقائد الدينية عند الناس والتخلف عن اداء الفرائض والمستحبات، فيتفضل سبحانه بنعمة بعث الأنبياء والرسل [مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ]كل بحسب تكليفه وزمانه وما يحتاج اليه من مستلزمات الجهاد ، قال تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ .
قوله تعالى [أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ]
اختلف المفسرون في متعلق الهاء في آتاه، فمنهم من قال انه عائد الى إبراهيم، احتج له لوجوه وهي:
الأول: المفهوم اللغوي وعودة الضمير الى الأقرب وهو إبراهيم.
الثاني: قوله تعالى [فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا] ( ) وان الملك هنا النبوة والإمامة.
الثالث: عدم جواز اتيانه تعالى الملك للكافر الذي يدعي الربوبية.
ويمكن الإجابة على هذه الوجوه، اما الأول فهو صحيح اذا انعدمت القرينة الصارفة الى غيره، والقرائن الصارفة في المقام عديدة منها ان الذي حاج إبراهيم كان ملكاً، وان التعجب والإستفهام الإنكاري بسبب جحوده لعظيم النعم التي رزقه الله اياها.
اما الوجه الثاني فان الآية أعلاه تخبر عن الملك الذي آتاه الله آل إبراهيم وليس شخص إبراهيم، بالإضافة الى ان الملك العظيم اعم من الحكم وكرسي الحكم وحده بقرينة الكتاب والحكمة .
نعم يمكن الرد على هذا الإشكال بان الملك يكون لإبراهيم حينئذ من باب الأولوية سواء ان ملك آل إبراهيم تفرع عن ملكه او ترشح عنوان الملك عليه من خلال النبوة والأبوة والنسب والإلتصاق، او ان ملك آل إبراهيم يعني ملكه ايضاً ويصدق عليه من غير اللجوء الى مفهوم الإستصحاب القهقري حسب اصطلاح علم الأصول، وان نسبة الحكم لآل إبراهيم في الآية تفيد نوع خصوصية لإبراهيم في الملك أي انهم نالوا الملك لأنهم ابناء إبراهيم وآله ومن ذريته سواء على نحو الإطلاق او الموجبة الجزئية وتم اكراماً منه تعالى لإبراهيم او بدعائه.
اما بخصوص الوجه الثالث فان الملك مطلقاً لا يناله شخص الا باذن من الله تعالى، وهو للمسلم والمؤمن ومن يحكم بما انزل الله فضل ولطف به وبالناس ايضاً سواء رعية مملكته او غيرهم، اما بالنسبة للكافر ومن يحكم بغير ما انزل الله تعالى فانه استدراج وابتلاء وباب للفتنة والإنتقام من الملك وغيره ان لم يكن عاجلاًَ فآجلاً، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ]( ).
وهو بالنسبة للمؤمنين الصابرين باب للإمتحان والثواب .
وتفيد الآية حصر العلة الفاعلية بالله تعالى، وان الملك لا يكون الا من الله تعالى وبارادته واذنه سبحانه.
والمختار ان الهاء تعود الى الملك وهو نمروذ من خلال القرائن والنصوص والأخبار، مسائل في الآية انحصر بحث أكثرعلماء التفسير في عائدية الهاء في (آتاه) وهي مسألة صغروية اما الكبرى فهي العبر والدروس التي تستقرأ من هذه النسبة وفيها مسائل :
الأولى : الآية انذار وتحذير وللظالمين وائمة الكفر والطواغيت وان نيلهم الملك ليس بقدرتهم او بسلطانهم.
الثانية : فيها موعظة للسملمين بان الكافر يتولى الحكم اختباراً وفتنة.
الثالثة : انها تحذير لهم من اتباع الطاغوت اوالإنقياد اليه، اوالإقرار به وبملكه وسلطانه الزائل.
الرابعة : ان الملك لا ينال بالأسباب المادية الظاهرية، بل انه فضل منه تعالى او نقمة وعذاب.
الخامسة : هذه النسبة دعوة للمسلمين بالتوجه الى طلب الملك منه تعالى، وهذا التوجه لا يتعارض مع اتخاذ الوسائل والأسباب لتحقيق البغية والوصول الى الغاية.
السادسة : الإعتبار والتدبر ما دام وصول الكافر الى الملك بامره تعالى فلابد ان وجوده لحكمة الهية، وليقضي الله امراًُ كان مقضياً.
السابعة : ان الملك فرع الخلق والحياة بمعنى ان الإنسان لا يكون ملكاً الا ان يكون مخلوقاً وحياً، والخلق والحياة بقدرته تعالى، فالإتيان هنا بالواسطة وما يسمى في المنطق بالفطريات.
الثامنة : الحث على الصبر والتحمل في جنب الله، وان البلاء اذا كان نازلاً من عنده تعالى فانه يهون لأنه تعالى يخفف وطأته على المسلمين ويمنع من استمراره ويعجل في زواله ورفعه.
التاسعة : ان الملك والمنصب والجاه والغنى في الدنيا ليست ملازمة للإيمان فقد ينالها الكافر والفاسق والظالم.
العاشرة : الآية تحذير من الإنقياد للملوك فيما يدعون او يفعلون فيجب ان يكون ميزان الأعمال هو تقوى الله والصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
من طرق إتيان السلطان
يأتي الملك بفضل من الله على وجوه متعددة منها:
الأول: الوراثة كما لو خلف الابن اباه في الملك، او الأخ اخاه.
الثاني: السطوة والبطش واتخاذ القوة لإزاحة الملك السابق او لإستحداث مملكة او سلطنة.
الثالث: اختيار الملأ او اختيار عامة الناس والذي يسمى الإنتخاب والإقتراع، وفي الوجه الأول يظن الملك انه اخذ حقه وليس لأحد المنة عليه في الملك انما جاءه عن ابيه اواخيه حقاً موروثاً وتركة محصورة به.
وفي الوجه الثاني يظن انه انتزعه بقوته ومعونة جنوده وانصاره واشتراه بالدم والتضحية.
وفي الثالث يعتقد الملك او الحاكم ان الشعب هو الذي اختاره وهذا الإختيار يدل على امتلاكه لمؤهلات خاصة ينفرد بها دون غيره من بين الملايين من ابناء شعبه وهذه الظنون مجتمعة ومنفردة، تدفع الملك الى العتو والغرور ان لم يكن متسلحاًً بسلاح الإيمان وضوابط وقوانين معينة، فجاءت الآية لتوكيد نسبة اعطاء الملك منه تعالى، فهو الذي ينصب الملوك وان كان بالأسباب والوسائط الظاهرية.
ومن الآيات في المقام ان الملك يصل احياناً من لا يتوقعه، او من لا يظن الناس انه سيكون ملكاًُ او رئيساً ومن كان مغموراً ومستضعفاً.
واذا جاء الملك الى الظالم والكافر مع نسبته إلى الله تعالى فانه اعتبار وتذكرة وحجة مركبة، حجة على الكافرين والظالمين وعلى الملك نفسه وحجة للمسلمين بان ينهضوا بالوظائف الشرعية ضمن الممكن ويستعدوا لتلقي البلاء والأذى في جنب الله مع الثواب.
ومن معاني المرابطة أداء الصلاة في أوقاتها ، إذ ورد (عن أبي أيوب قال : وقف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هل لكم إلى ما يمحو الله تعالى به الذنوب ويعظم به الأجر؟ فقلنا : نعم يا رسول الله قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة . قال : وهو قول الله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا]( )، فذلكم هو الرباط في المساجد)( ).
ونسبة إتيان الملك إلى الله دعوة للملوك والأمراء والقادة واصحاب المناصب العليا للصلاح والتقوى وادراك ان الملك ليس بجهود شخصية او جماعية بل انه فضل من الله تعالى، وهو مناسبة للإمتحان والإختبار لذا ترى بعض الملوك في آخر ايامه او عندما ينحى عن الملك يتمنى لو لم يكن قد تربع على كرسي الحكم وتحمل اعباءه واوزار غيره من الأعوان والجنود الذين يأتمرون ويعملون باسمه وسلطانه فحينما يقترب الإنسان من حافة القبر ويدنو منه الأجل يتمنى ان يغادر الدنيا من غير تبعات وآثام واساءة للغير عالقة بشخصه واسمه وسمعته، والمؤمن يتمنى ذلك ايضاً الا انه يرجو رحمة ربه ويخشى عقابه.
فجاءت الآية لتنبيه الإثنين معاً سواء كانا ملكين او من الرعية وان الملك ثوب يلبسه الله عزوجل من يشاء ابتلاء وامتحاناً، رحمة او عذاباً ، وفي التنزيل [تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، وهو في كل الأحوال عبرة وموعظة ودرس كما ان نسبة الملك إلى الله تعالى دعوة وارشاد للمؤمنين لطلبه منه تعالى بالدعاء والتضرع من غير ان يتعارض هذا مع لزوم السعي وبذل الوسع واستثمار الفرص واستعمال الوسائل على الوجه الأحسن .
لبيان قانون إنتفاء التعارض بين الدعاء والسعي ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
وفيه توكيد لقرب الملك من المؤمن من باب الأولوية، ودعوة لإتخاذ المقدمات الشرعية والعقلية والعرفية وعدم ترك المقدمات المفوتة وتهيئة الفرصة للكافر والظالم ان يصل الى كرسي الحكم ثم يحاجج في الله عز وجل .
وهذا الإحتجاج جاء من باب المثال الأسوء وليس الحصر، بمعنى انه حينما يتجرأ ويعلن احتجاجه وجحوده وعناده فانه بالأولوية لا يتورع عن ايذاء الناس وظلمهم بالأحكام والقوانين والأفعال فتراه يقود رعيته الى حروب طاحنة بغية توسعة مملكته وضم اراضي ومدن اخرى لها، او انه يحملهم على دفع الضرائب ومشاركتهم في رزقهم وكسبهم ويمنع من تعظيم الشعائر واداء المناسك، وهو فحوى الإحتجاج وما فيه من التجرأ والتعدي واظهار الجحود.
مناظرة إبراهيم (ع)
لقد اراد إبراهيم ايجاد موضع قدم للإسلام في المملكة واظهار مفاهيم التوحيد فتصدى له الملك بنفسه، فكانت مجابهة بين القطبين بين رأس الإيمان وبين رأس الضلالة ، قال تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
وظاهر المناظرة انها باختيار إبراهيم مما يعني انها ضرورة وحاجة وخارج موضوع التقية وخشية الظالمين، وهذا الخروج له وجهان:
الأول : الأمن والإطمئنان وعدم خشية الضرر من الإحتجاج واعلان الإيمان.
الثاني : اتخاذ المناظرة صيغة للجهاد في سبيل الله تعالى .
والظاهر هو الثاني لما في الإحتجاج من لغة التحدي والمواجهة الفكرية وهو الذي يدل عليه العقل وجاءت الأخبار بنتائجه، مما يبين حقيقة عقائدية وهي عند شيوع الكفر وطغيان الشرك وهجران مبادئ التوحيد فلابد للعالم من اخراج علمه والنداء باعلى صوت بالتوحيد واستثمار الوسائل الشرعية الممكنة لمنع التمادي في الفجور، والإنتفاع من وسائل الإعلام لجذب الناس للهداية وبيان ما فيها من الحلاوة والعذوبة وملائمة الإسلام لإدراك العقل.
لقد جعل إبراهيم عرش الملك منبراً لقول الحق والإعتراض على منهجه وتوكيد خطأ مبناه وضلالة الناس بانقيادهم واتباعهم له.
لقد اراد الله عز وجل لإبراهيم ان ينهض بالأمة ويحررها من غي وطغيان المخلوق ويخرج بها الى عز عبادة الخالق، وانحصر التبليغ بانذار الملك نفسه ومن خلاله الناس جميعاً، ولا يختلف اثنان ان إبراهيم يعرض نفسه بهذا التبليغ للقتل.
واظهر بالإحتجاج الإستعداد للتضحية في سبيل الله، وتارة يدخل المسلمون في المعركة للدفاع في سبيل الله تعالى وفيه تعرض الى الموت والشهادة ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، وسيأتي بيان قيود القتال بلحاظ هذه الآية الكريمة.
ولكن حالة إبراهيم اكثر قرباً من الموت، فالذي يدخل المعركة يفوز باحدى الحسنيين اما النصر واما الشهادة، واحتمال القتل في المعركة.
والجهاد مطلقاً من الكلي المشكك وتتباين درجاته بحسب الحال والكيفية والأسباب والمقدمات فمن يتقدم للمبارزة الشخصية اكثر عرضة للقتل ممن يأتي في عامة الجيش.
وفي مبارزة علي عليه السلام وحمزة وعبيدة بن الحارف يوم بدر للمشركين الذين طلبوا المبارزة وهم عتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة وشيبة بن ربيعة نزل قوله تعالى [َذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ]( )، فنزلت الآية بخصوصهم مع وجود الجيشين للقناء على أهل البيت ، وكأنه مقدمة لنزول قوله تعالى [قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ]( ).
ومن يبادر للهجوم والمبارزة يعرض نفسه للإصابة اكثر من المدافع في موضعه .
ولكن إبراهيم تحدى بنفسه الملك وابهته وعدته وجنوده وليس معه الا سلاح الإيمان لتبين لنا المناظرة وجهاً من وجوه القوة والعزم، وان القوة ليست بالسيف وحده بل بالعقيدة والإيمان لذا جعل الله عزوجل عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين القرآن سلاحاً دائماً ينفذ الى شغاف القلوب ويخاطب العقول ويدعو النفوس الى نبذ الهوى واجتناب نزغ الشيطان.
قوله تعالى [إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ]
بدأت المناظرة والإحتجاج بقول إبراهيم مما يعني انه هو الذي افتتح المناظرة واختار الإحتجاج والجهاد، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الايمان( )”.
فهل يكون احتجاج إبراهيم من السعي للتغيير باليد او باللسان، الجواب انه باليد والبدن والنفس لأنها تؤدي الى القتل وان كان الإحتجاج باللسان، كما انه لم يأت مستقلاً ومنعزلاً، فمن الجهاد باليد في المقام ان إبراهيم استطاع ان يخترق الحواجز والحجب ويصل الى الملك مع معرفتهم بايمانه ورفضه لنهج الملك وما يدعيه من الربوبية، ان سعي إبراهيم للوصول الى الملك ومناظرته من الجهاد باليد.
انها مدرسة النبوة في باب الجهاد والتضحية، فلا ينتظر النبي انصاراً واعواناً وجنوداً يخرج بهم على السلطان عندما يتعلق الأمر بالتوحيد وضرورة التصدي لشيوع الضلالة خصوصاً مع احتمال ندرة الجنود وعدم وجود الأتباع لأن الجميع يتبعون الأعيان والملأ في الإنقياد للملك والطاغوت.
فاذا وجد النبي اعواناً فانهم افراد ولن يغيروا من الواقع شيئاً فاتجه إبراهيم الى جذب الأنصار والأعوان من خلال الملك نفسه بابطال حجته واظهار عجزه، كما ان موسى حينما اراد الله ان يظهره احتضنه فرعون وزوجته آسيا في وقت كان فرعون يقتل من يولد من ابناء اليهود لأن الكهنة اخبروه بانه سيولد فيهم من يأتي على ملكه.
قال تعالى [وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ]( )، ولم يرد لفظ (نتخذه) في القرآن إلا مرتين ، كل منهما بقوله تعالى [نَتَّخِذَهُ وَلَدًا] ووردت الآية الثاني بخصوص يوسف عليه السلام [وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ]( ).
لبيان فضل الله على الأنبياء والناس في حفظ النبي وسلامته في طفولته واصلاحاً لمقامات النبوة .
بل ان إبراهيم نفسه اخفته أمه في بعض المواضع لأن نمروذ اراد ان يقتله، وفي حوار الإمام الرضا مع المأمون بخصوص الأنبياء قال: لما اخرج إبراهيم من السرب الذي اخفي فيه فلما جن عليه الليل رأى الزهرة فقال: هذا ربي، على سبيل الإنكار والإستخبار الذي يقود الى البرهان العقلي وفق قوانين العلة والمعلول والسبب والمسبب.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء)( ).
فلقد كان ابتلاء إبراهيم بالأمة اكثر منه في نمروذ بن كنعان، فنمروذ طاغية يريد الإستحواذ على الملك ومواصلة التفرد به بالعتو ولكن قومه على ضلالة وشرك في اتباعه وهجرانهم الوظائف العبادية الضرورية لدوام الحياة على الأرض قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ومن طرق الجهاد هذه المناظرة وقيض الله عز وجل اسبابها ووصول إبراهيم الى نمروذ، اذ ان وصول انسان من عامة الناس ويعرف بانه معارض للحكم للقاء الملك امر ليس سهلاً لولا العناية الإلهية بتهيئة مقدمات هذا اللقاء وحصول المناظرة.
بحث منطقي
البرهان هو قياس مؤلف من يقينيات وقضايا واجب قبولها وغايته تمييز الحق عن الباطل فلا يؤدي البرهان الا الى الصدق والحق، لذا يعتمد الأنبياء والرسل البرهان لبيان الحق واعلان الحقائق والجهر بالمبادئ، لأن البرهان عبارة عن حجة مترشحة عن مقدمتين يقينيتين وكأن النتيجة معلول لعلته فلا يتخلف لذا قالوا بان نتيجة البرهان ضرورية.
وينقسم البرهان الى قسمين:
الأول : برهان لمي – بتشديد الميم – مأخوذ من كلمة لم، وهو الإستدلال من العلة لإثبات المعلول او بعدم العلة لإثبات عدم المعلول.
الثاني : البرهان الإني: وهو مأخوذ من الحرف المشبه بالفعل (ان) الذي يدل على الثبوت، وهو الإستدلال على المعلول على العلة، وبعدم المعلول على عدم العلة.
ولقد جمع إبراهيم قسمي البرهان في مسألة واحدة، وبذا تظهر صيغ الإعجاز والوحي في كلام الأنبياء ومناظرتهم وفيه حث على دراسة قصص الأنبياء وما فيها من العلوم والبديهيات ووسائط الإثبات والثبوت، وتثبت تجاوز اسس التقسيم الإستقرائي العقلي، فقول إبراهيم [رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ] برهان لمي وإني، فهو برهان على اثبات الصانع من خلال ظهور قدرته في مخلوقاته بالأحياء والإماتة.
وهو برهان إني لأن بعث الحياة بالمعدوم واماتة الحي امران وجوديان ومعلولان ولابد لهما من علة، وهذا العلة منحصرة بامره وارادته تعالى، فالأحياء والإماتة من اهم الأمور التي تدل على وجود واجب الوجود، واختاره إبراهيم لأن الحد الأوسط فيه يكون واسطة في الإثبات وواسطة في الثبوت ويساعد في الوصول الى النتيجة والمطلوب من غير تركيب او تعقيد، وفيه ايضاً انذار وتخويف ووعيد للملك بانك ميت وان الله عز وجل سينتقم منك كما ان فيه تذكيراً بخلقه وان الإنسان ليس له الإرادة في خلق نفسه والظهور إلى عالم الموجودات.
وقوله تعالى [يُحْيِي] لا ينحصر بالإيجاد وبداية الخلق بل يشمل استدامة الحياة فتكون فيه حجة مركبة على نمروذ متكونة من خلقه واستدامة حياته بفضل وقدرة الله تعالى مما يعني بالضرورة ان الملك الذي يتنعم به نمروذ منه تعالى لأن الأصل وهو خلقه واستدامة حياته منه تعالى ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
وجاءت الآية بصيغة المضارع (يُحْيِي) فبالإضافة الى تعاهده للمخلوقات باستدامة الحياة، فانه سبحانه يبعث الحياة في المعدوم ويخلق من يأتي على ملك نمروذ ويزيحه عن السلطنة .
ومن وجوه الأحياء في المقام نماء روح الإيمان واماتة الباطل والكفر، أي ان إبراهيم أراد توجيه الإنذار لنمروذ بان دولة الإيمان قادمة والظاهر انه يشير هنا الى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودولة الإسلام وسيادة احكام الشريعة والحنيفية السمحاء وانتهاء دعوى الربوبية بشروق الشهادتين وهو مضمون دعائه وإسماعيل كما ورد في التنزيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ).
قانون الأنبياء أكثر الناس علماً
وصحيح ان نمروذ فهم الأحياء بمعناه الظاهر الا ان قول الأنبياء اعم واوسع واكثر شمولاً وذو معان متعددة وله تأويلات مختلفة تعرف بالقرائن والمفهوم وآيات القرآن الأخرى اذ ان القرآن يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه بتأويل وتفسير البعض الآخر ، وعجز نمروذ عن هذا المعنى دليل على عدم اهليته للملك فضلاً عن زيف ادعائه الربوبية، وهذا المعنى وان لم نجده في عالم التفسير الا انه ليس ببعيد .
وهل يحتمل ان نمروذ فهم مقصود إبراهيم هذا ولكنه تظاهر بعدم ارادة هذا الوجه خصوصاً وانه بعيد عن اذهان المستمعين والملأ ممن حوله، الأقوى لا، لقصور في الرؤية وعجز في البصيرة وغشاوة على البصر، وفيها حجة عليه واثبات لعدم اهليته للملك.
ومن مؤهلات الملك ان يدرك السبب الغيبي وراء وصوله الى كرسي الحكم وانه لم يتم الا باذن الله تعالى، وقد ثبت في علم الأصول وعند العقلاء ان شكر المنعم واجب، وشكره تعالى يتجلى بالإقرار له بالعبودية والخشوع والتسليم ، وفي التنزيل [مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا]( ).
ان اعلان قدرة الله تعالى على بعث الحياة يدل بفحوى الخطاب والأولوية على قدرته تعالى على بعث الأنبياء والرسل والإيحاء اليهم، لتوكيد ان إبراهيم نبي ولدفع وهم عند الملك انه مع مقامه وشأنه لم يأته الوحي فلابد ان من هو ادنى منه لا يوحى اليه بالأولوية.
ومن معاني الحياة في المقام الإيمان والإسلام لعمومات قوله تعالى [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ] ( ) وان إبراهيم يرجو اسلام الملأ من قوم نمروذ ولم ييأس من إسلام نمروذ نفسه في جواب على سؤال مقدر وهو ما الفائدة من هذه المناظرة والطاغوت مصر على جحوده وعناده، فباب التوبة مفتوح لكل انسان وان لم ينتفع الملك من الإحتجاج والمناظرة فان غيره قد ينتفع منه سواء الذي سمع مباشرة من إبراهيم وحضر المناظرة او الذي نقل اليه موضوعها وهو عام يشمل بلد وزمان الملك والبلدان الأخرى الأزمنة اللاحقة والى يوم القيامة ببركة توثيق القرآن وتثبيته لهذه المناظرة وكيفية اقامة البرهان، كما ان الأمر لا ينحصر بهداية الضال بهذا الإحتجاج بالذات بل انه مدرسة للمؤمنين والمجاهدين في كيفية الإحتجاج واقامة الدليل.
وهو لا يمنع من الإندفاع في سبل الدعوة والتبليغ ، وفيه زجر عن الإنتقال الى الجهاد بالسيف من رأس لعدم نفاذ وسائل النصح والإرشاد والإحتجاج مطلقاً .
فلو لم يتجه إبراهيم الى المناظرة واختار القتال بالسيف لما وجد الأنصار ولخرج بنفسه، واجتمعوا على قتله باستكبار واصرار على الباطل، ولكنه اتجه الى مخاطبة العقول، وفي هذه المناظرة يظهر فضل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جلياً واضحاً اذ انه استطاع ان يناظر قريش ويقيم عليهم الحجة ثم يجمع الأصحاب من المهاجرين والأنصار ليقضي على حكمهم ويزيل سلطانهم ويتوجه بالخطاب الإسلامي والدعوة الى كسرى وقيصر بلسان النبوة ومن موقع الحكم والرئاسة.
قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( )، وقد صدرت لنا والحمد لله سبع وعشرون جزءاً في قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) وهي :
((164-165-166-168-169-170-171-172-174-176-177-178-180-181-182-183-187-193-196-204-212-216-221-229-239-256).
قوله تعالى [وَيُمِيتُ]
اخبار عن اتخاذ إبراهيم الموت وسيلة لإثبات الصانع لأن الإماتة خارجة عن قدرة الإنسان كممكن فلابد ان موجوداً آخراً يؤثر بالإنسان ويجعل روحه تغادر الجسد وينتقل الى عالم الآخرة.
والإماتة هنا امر وجودي وليس عدمياً وفيه اشارة للحساب بعد الموت ، قال تعالى [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ]( )، وجاء الإحياء مقدماً على الإماتة في الآية الكريمة، ولابد ان له اسراراً ودلالات منها:
الأولى : الترتيب وان الأحياء وخلق الإنسان يأتي قبل الموت، والفناء فالتقديم هنا بلحاظ الرتبة الزمانية.
الثانية : الحياة افضل من الموت، والوجود اشرف من العدم فلذا ابتدأت الآية بالأفضل والأحسن.
الثالثة : الآية ترغيب بالإيمان وحث على الهداية واجتناب للنفرة من الدعوة الى الله عزوجل.
الرابعة : تبعث الآية الأمل عند السامع لأنها بدأت بالحياة وماتعنيه من مضامين العمل والفكر وتحقيق الغايات القريبة والبعيدة.
الخامسة : تبدأ الآية بالقريب والواقع المحسوس، فالقائل والمخاطب في الحياة الدنيا يتنعمان بآية الأحياء، فالاية من عمومات قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ] ( ).
السادسة : الآية تذكير بنعمة الحياة وديمومتها ولما ثبت في علم الأصول بان شكر المنعم واجب.
السابعة : الآية ترغيب بالإيمان لما يعنيه الإحياء من الهداية والتوفيق والرشاد.
الثامنة : في الآية بشارة دوام السلطان للملك ان آمن مع احتمال تعاقب ذريته عليه.
التاسعة : الإحياء امر كلي مستديم لا يتعلق بيوم او مدة محصورة، فالآية تذكير بحاجة الإنسان لرحمته وقدرته تعالى في استدامة الحياة.
العاشرة : في الآية اخبار ضمني بانفتاح ابواب الحياة على الملك بايمانه، وما يتعلق بالملك منها توسعة ملكه وتحبيب حكمه الى قلوب الناس، وحصد الثواب والأجر.
الحادية عشرة : من الإحياء النعيم الخالد في الآخرة، فالآية دعوة الى الحياة الخالدة في نعيم الآخرة.
الثانية عشرة : الإبتداء بالإحياء ويظهر لغة اللطف والتودد التي يخاطب بها الأنبياء الناس والوسيلة التي يتخذونها لدعوتهم الى الإسلام بان يبدأ بذكر الأمر الحسن والذي تنجذب اليه النفس، ولم يوجه للملك لوماً على الكفر والشرك وجحود وعظيم النعمة بالملك بل ذكر مسألة عقلية كلامية انه سبحانه يحيي ويميت وتدل في مفهومها على ان مقاليد الأمور بيده تعالى.
الثالثة عشرة : الإبتداء بالإحياء لا يعني انحصار الحياة بايام الإنسان في الدنيا خصوصاً وان الإحياء بعث يأتي بعد الموت، فالآية انذار وتحذير من عالم ما بعد زهوق الروح ودعوة للإستعداد به بالإيمان واعلان التوحيد، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ] ( ).
الرابعة عشرة : لقد ورد قوله تعالى [يُحْيِي وَيُمِيتُ] نحو اثنتي عشرة مرة يتقدم فيها الإحياء على الإماتة، والإحياء اشرف من الإماتة.
قانون الحياة والموت بيد الله وحده
لقد ذكر إبراهيم قدرة الله تعالى على الإماتة وفيه وجوه :
الأول : انه أخر ذكر الإماتة لأنها تأتي متعقبة للحياة.
الثاني : فيها اخبار للملك بان الموت ينتظره ولابد انه صائر اليه فعليه ان يستعد له كفاية وانتقال الى عالم الآخرة ، قال تعالى [أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ]( ).
الثالث : الآية انذار وتحذير من عواقب الموت على الكفر والجحود.
الرابع : قد وردت النصوص باستحباب استذكار الموت ، وفيه درس وموعظة، وهذا الإستذكار يحتاجه المؤمن والكافر، فهو مناسبة لزيادة ايمان المسلم، وعبرة وموعظة للكافر ودعوة للإسلام.
الخامس : من فلسفة الخلق الإماتة بعد الإحياء وهو أمر لا يقدر عليه الا الله، واستدلال إبراهيم بالإماتة لإثبات وجود الصانع ولزوم عبادته.
السادس : الإماتة قهر للإنسان وتعني مغادرته للحياة الدنيا من غير اذنه ومن لم يستطع ان يتحكم باهم افراد حاجاته الذاتية ومقومات وجوده اولى له ان يخشع ويخضع لمولاه.
السابع : تنفي الآية البرزخية بين الرب والمربوب، والخالق والمخلوق والمتوفي والمتوفى إذ تخبر عن قدرة الله تعالى المطلقة على العبد، وبما ان الله عز وجل هو الذي يحيي ويميت، فلابد ان نمروذ وأصحابه ممن يميتهم الله وتأخر اجلهم الى حين انما هو باذنه تعالى.
لقد ورد كلام إبراهيم بصيغة التنكير وعدم الحصر، فلم يقل (ربي الله الذي يحيي ويميت) كما ورد قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( )، بل اخبر بأن الله تعالى يحيي ويميت ولعل فيه زجر وتوبيخ للمغرور المتكبر بان اشرك نفسه في ذات موضوع وقال [أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ] فكأن إبراهيم استدرجه الى البرهان القطعي واقام الحجة عليه ، وفيه تنبيه وإنذار للملأ من حول نمرود وعامة الناس .
قوله تعالى [قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ]
حينما سمع الملك كلام إبراهيم وحجته كان امامه عدة خيارات منها :
الأول : الإقرار بما قاله إبراهيم عليه السلام.
الثاني : السكوت عما قال واجتناب الرد مطلقاً سلباً او ايجاباً.
الثالث : الدخول في حوار مع إبراهيم بخصوص ما قاله.
الرابع : سؤال إبراهيم عن قصده من قوله واعلانه.
الخامس : اخبار إبراهيم بحقه في عبادة ربه.
السادس : الأمر باخراج ابراهيم من حضرته.
السابع : التوجه الى الملأ والحاشية ممن حوله وسؤالهم عن رأيهم فيما يقول إبراهيم، او احالة إبراهيم الى هيئة من اركان حكمه.
ان مناظرة إبراهيم لم تكن جزء من وظيفة الملك لأنها لا تتعلق بمواضيع الحكم، ولكنه بادر الى الرد بصيغة المغالطة والجدل، وظن امكان رد إبراهيم بحجة ظاهرة تنطلي على عقول الناس الذين يميلون الى قوله لموضوعية واعتبار السلطان وهيبة الملك واعتياد اتباعه والإنتفاع المتصل منه وعدم تكلف العامة للدخول في خلاف مع السلطان.
ان الغرور والعتو وادعاء الربوبية أمور تحرض الملك على الرد على إبراهيم بالجحود والتصدي لدعوته ومنع تأثيره على الناس، فقال الملك انا ايضاً أحيي وأميت، وبذلك اوقع نمروذ نفسه في ورطة لا يستطيع ان يخلص نفسه منها لأن الذي حاوره نبي ورسول من عند الله تعالى.
وذكر انه امر بحضور رجلين، فاطلق سراح احدهما وقتل الآخر .
لقد اراد من فعله هذا اظهار قدرته على نحو واقعي وفعلي، وكأن إبراهيم اكتفى بالدعوى والقول، اما نمروذ فانه قرن قــوله بالفعــل والأسبـــاب الذي يخدع به اعـوانه في بدعته، ويحافظ على اتباعهـم له فلابد ان إبراهيم لم يسكت عنها ، قال تعالى [وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا]( ).
ولم يرد لفظ (يأتونك) و(تفسير) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ليدخل إجتهاد العلماء في كل جيل في علم تفسير القرآن في قوله تعالى [َأَحْسَنَ تَفْسِيرًا].
مثل الحسن الأمثل في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ]( ).
لقد اراد نمروذ النجاة من الفضيحة واثبات العجز ويحفظ سلطانه بالباطل فاتجه الى المغالطة، وسعى الى مدافعة إبراهيم واحراجه وارباكه باوهام واسباب مادية ظاهرية وحاول نقض كلام إبراهيم والإيهام واثارة الشبهة والمغالطة، وان الموت قريب منه وان كان ملكاً.
قانون البرهان سلاح الأنبياء
لم يقف إبراهيم عند ذات مسألة الإحياء والإمانة ويتيه معه في صناعة الجدل ويحاول ابطال مغالطته فلم يقل له ان هذا الذي فعله من اطلاق شخص وقتل الآخر انما هو على نحو القضية الشخصية ، والقضية في واقعة على نحو التعدي والله عز وجل يحيي ويميت بقدرته على نحو مستديم وكل باجله ، او انك واسطة وآلة وان الأحياء والإماتة يرجعان إلى الله تعالى وانما انت ايها الملك سبب لتنفيذ امر الهي مكتوب في السماء وان الموت ينتظرك وانك لابد وان تموت والله عز وجل حي لا يموت ، قال تعالى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
فهذا الكلام قد لا ينفع مع الجاحد الذي يدعي الربوبية ويحكم بغير ما انزل الله، ولو استمر ابراهيم يجادل في ذات الموضوع لتجرأ عليه القوم وقابلوه بالسخرية والإستهزاء واعلنوا نصرهم لملكهم وهم يسدون آذانهم عن دعوة ابراهيم وانذاراته بل اختار ابراهيم الإنتقال الى موضوع آخر بعيد عن الوهم واللبس والحيلة، لا تتكرر افراده واشخاصه، انتقل الى عالم الفلك وموجودات العالم العلوي التي سخرها الله عز وجل للإنسان ويشعر كل فرد بحاجته اليومية لها.
والملك يحتاج الشمس اكثر من غيره، فيها يعرف صديقه من عدوه، ويحافظ على أمن دولته، وتطلب معها المعايش، وتصلح الإبدان وتنمو المزروعات، وتزدهر التجارة والمكاسب، لذا فان الإحتجاج اشارة الى لزوم شكر الله تعالى على استدامة الملك بالآيات الكونية والكواكب وفيه بيان لضعف اللإنسان وعجزه عن التصرف بعالم الفلك.
لقد تحدى ابراهيم الملك بآية حاضرة، في رده على تطاوله واتيانه بما يلبس على الناس في موضوع الإحياء والإماتة، فمن مفاهيم احتجاج إبراهيم ان كنت صادقاً فات بالشمس من المغرب الآن والظاهر ان الكلام والإحتجاج حصل عند الصباح وان التحدي ليس مطلقاً بمعنى آت بها في أي وقت او أي يوم فما دمت قد ادعيت الإحياء والإماتة بمثال فعلي آني فتصرف في الكون ان كنت صادقاً في ادعائك الربوبية.
فلم يقف ابراهيم عند مسألة الإحياء والإماتة ولم يرجع اليها نمروذ نفسه، ولو اجاب بخصوص مسألة الشمس لنقله ابراهيم الى برهان اكثر بياناً وحجة دامغة تؤدي الى الإستخفاف به من قبل رعيته وتسفيه قوله وملكه.
ان كلام الملك ودحضه وثيقة سماوية تمنع من التخفيف من الأهمية التأريخية للمناظرة، وتحول دون ادعاء ان الملك كباقي الكفار والجاحدين، اذ ان الآية تدل في ظاهرها على ادعاء الملك للربوبية والقدرة على التصرف في الخلق مما يعني ان مناظرة ابراهيم معه جهاد بالنفس واللسان ومواجهة لخطر شيوع الضلالة وتوارثها وان اظهار العلم والتصديق للباطل اصبح واجباً عينياً على ابراهيم فليس فيه القاء للنفس في التهلكة، واتخذ من عرش الملك منبراً ومناسبة للدعوة الى الله عزوجل واستطاع ان يوصل صوت الإسلام الى الملأ والوزراء ويزلزل مواقعهم ويجعلهم يتفكرون في خطأهم وضلالتهم بالإنقياد الى نمروذ.
وقول نمروذ بانه يحيي ويميت واتيانه المصداق العملي الزائف لفعله هذا فيه ترغيب وترهيب لإبراهيم فهو يدعوه الى وقف دعوته واحتجاجه ويهدده بالقتل ان واصل المحاججة والدعوة الى الله، [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
قوله تعالى [قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ]
علم ابراهيم ان الشبهة التي جاء بها نمروذ سبب لأغواء اتباعه اذ تكون عندهم نقضاً لحجته ما دامت الغشاوة على ابصارهم فلم ينشغل باسقاطها بل بادر بالإنتقال الى دليل آخر اكثر وضوحاً ومنعة من الشبهة، وابعد عن لبس الجاحدين ليكون حجة على الملك وعلى اتباعه وجاء القرآن ليجعلها حجة على الكافرين الى يوم القيامة ودرساً جهادياً ودعوة للناس جميعاً للتدبر في آيات الآفاق، فاحتجاج ابراهيم آية حسية جاء القرآن ليلبسه لباساً عقلياً.
وهذه الآية تظهر وظائف النبوة وعظيم بركة ابراهيم في حياة المليين والى يوم القيامة، وضرورة وجود القرآن وحفظه وتوثيقه لقصص الأنبياء لتكون ضياء وشاهداً على توظيف الآيات الكونية لإدراك الكليات والإيمان بالغيب، وقد ورد في دعاء الإمام السجاد في الصلاة على اتباع الرسل : اللهم واتباع الرسل ومصدقوهم من اهل الأرض بالغيب عند معارضة المعاندين لهم بالتكذيب، والإشتياق الى المرسلين بحقائق الإيمان في كل دهر وزمان ارسلت فيه رسولاً واقمت لأهله دليلاً من لدن آدم الى محمد صلى الله عليه وآله وسلم”.
لقد اراد الله عز وجل للناس الأجر والثواب في باب صحبة الأنبياء واتباعهم فليس للإنسان ان يقول انما فاز اصحاب النبي لإتفاق زمانهم مع زمانه وهدايتهم للإيمان، فباب التصديق بالأنبياء مفتوح الى يوم القيامة وهو سبحانه اذا فتح باباً من الرحمة والفضل لا يغلقه بل يبقيه مفتوحاً ينهل منه المؤمنون وطلاب الحقيقة.
لقد جعل القرآن احتجاج ابراهيم بالآيات الآفاقية والدلائل الكونية حياً متصلاً دائماً وفيه تأديب وردع لكل من اراد العتو والطغيان إذ يواجهه ابراهيم بذات الإحتجاج ولكن عبر القرآن وبعثة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فالقرآن الوسيلة السماوية المباركة لترسيخ الإيمان في الأرض واتصال انتفاع الأجيال المتعاقبة من جهاد وسيرة الأنبياء مطلقاً، وهذا من اسرار افضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على باقي الأنبياء، فببعثته وأمته يتعاهد الناس سيرتهم ويقتدون بهم .
لقد اراد ابراهيم من الإحتجاج على نمروذ التوصل الى استنتاج عقلي بان الملك لا يختلف عنهم في حاجته الى ما سخره الله للناس من الآيات الكونية ومنها الشمس والقمر.
واستدلال ابراهيم بالشمس من باب المثال في الآيات الكونية وليس الحصر فان الأمر ينطبق على القمر وسير الكواكب وحركة الريح واوان نزول المطر وحدوث الزلازل والصواعق في مكان دون آخر، أي ان ابراهيم فتح باب الإستدلال بالآيات واسرار الكون وعالم الغيب والملكوت ، قال تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ.
واختلف في انتقال ابراهيم للإستدلال بالشمس هل هو من باب الإنتقال من مثال الى مثال، او من دليل الى دليل فعلى الأول يكون كل من الأحياء والإماتة ومسير الشمس واتجاهها مثالاً على عظيم قدرته تعالى، وعلى الثاني يكون كل منها دليلاً مستقلاً.
نسب الرازي الأول الى المحققين ومال اليه، ونسب الثاني الى اكثر المفسرين.
وكلاهما صحيح وليس من تعارض بين الدليل والمثال فقد يتداخلان ويكون المثال دليلاً ينحل بالإمثلة الى عدة ادلة خصوصاً مع الشواهد والآيات الظاهرة ووجود اختلاف جهتي بين كل مثال وآخر، والدليل هو السبب العقلي الذي يتوصل فيه الى معرفة الغائب عن الحواس وما ينصب من الإمارات لكشف الحقائق وما يرشد الى المطلوب ويفضي الى العلم وما يلزم من العلم به العلم بالمدلول وما يفيد انتقال الذهن من المعلول الى العلة.
وفي قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ) جاء ذكر الآيات بصيغة الجمع التي تعني التعدد والكثرة، بالإضافة الى ان موضوع كل آية ينشطر الى عدة أدلة وبراهين.
ولو تنزلنا وقلنا انه انتقال من مثال الى مثال فان كل مثال دليل بل انه دليل مركب، فالإحياء وحده دليل والإماتة وحدها دليل.
جواب إشكال
ذكر احد كبار المفسرين خمس اشكالات اوردها في الآية وهي:
الإشكال الأول: “ان صاحب الشبهة اذا ذكر الشبهة، ووقعت تلك الشبهة في الأسماع وجب على المحق القادر على الجواب ان يذكر الجواب في الحال ازالة لذلك التلبس والجهل عن العقول، فلما طعن الملك الكافر في الدليل الأول، او في المثال الأول بتلك الشبهة كان الإشتغال بازالة تلك الشبهة واجباً مضيقاً، فكيف يليق بالمعصوم ان يترك ذلك الواجب( ).
وجوابنا على هذا الإشكال ان النقاش في الكبرى من وجوه:
الأول : وقوع تلك الشبهة في الأسماع.
الثاني : الإشتغال بازالة تلك الشبهة واجب مضيق.
الثالث : لزوم عدم ترك المعصوم للواجب.
الرابع : وجود رد الشبهة في آيات أخرى من القرآن.
وبالنسبة للأول فان وقوع الشبهة في الأسماع اعم من التصديق بها وليس كل ما يقع في الأسماع يتولد عنه تصديق كلي او جزئي بل بالعكس فقد يكون سبباً للتكذيب والفضح أي ان الشبهة تفضح صاحبها وتظهر عجزه وضعفه فالضعف ليس ملازماً للسكوت، ولا البرهان ملازماً للكلام، خصوصاً اذا كان الكلام شبهة .
فحينما يقر صاحب الإشكال بان كلام نمروذ شبهة فانه يعترف ضمناً بعدم استحقاقه الجواب دائماً.
ثم ان السامع على مراتب:
الأول : اعوان الملك ممن حوله وحاشيته وهؤلاء يتبعونه على الباطل، ولا يلتفتون الى دعوة الحق الا ان يهديهم الله عزوجل.
الثاني : رعايا المملكة وهؤلاء اقرب الى التأمل في كلام ابراهيم وتدبره.
الثالث : الكفار مطلقاً، والى الآن لم يستدل احد من الكفار بقول نمروذ هذا، مع ان القرآن يعرضه للناس جميعاً بتنزيل ملكوتي لبيان قانون إبطال القرآن لدعوى الطاغوت الربوبية.
الرابع : المسلمون من زمان ابراهيم الى ايام البعثة النبوية المباركة وحتى يومنا هذا.
والجميع يعرفون بطلان شبهة نمروذ وان موضوعها مختلف عن دليل ابراهيم عليه السلام، وحتى الكفار يدركون من ظاهر المناظرة ان ابراهيم اراد احياء الناس واماتتهم بالقوة الغيبية والأمر الإلهي، فالموت امر عارض ومتوقع لكل انسان في أي لحظة من غير علة او سبب مادي ، قال تعالى [اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
فشبهة نمروذ ولدت ميتة فلا تستحق الإجابة، فاي انسان يدرك بادنى تأمل وتمييز بطلانها وزيفها .
وبقاء حجة ابراهيم على حالها دليل على وجود الصانع، ولعل في الإجابة على الشبهات تضييعاً لوقت وفرصة مناسبة.
وبالإضافة الى اعتبار القرائن الحالية والمقالية فان محاورة ومحادثة الملوك لها ضوابط وآداب خاصة، وترى فيها تحديداً لمدة المقابلة وموضوع الزيارة ووجاهة اسبابها ووجود المقتضي، والتحذير من بعض الأمور لإجتنابها.
ولم يترك ابراهيم الرد على هذه الشبهة ولكنه أجاب بالدليل العام الداحض لها والمانع من غيرها لذا قال تعالى [فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( )، ولأن القرائن والأسباب والحال لا تسمح بالإطالة والتفصيل، بالإضافة الى الحاجة لتعدد الدليل فان الإنشغال بدليل واحد قد ثبت بمجرد ذكره امر مرجوح بالنسبة لتعدد الدليل ومجيء دليل اضافي يعجز الجاحد عن الرد عليه بشبهة ونحوها.
لم يترك إبراهيم (ع) الرد
الإشكال الثاني : انه لما اورد المبطــل ذلك الســؤال، فاذا ترك المحق الكــلام الأول وانتقل الى كــلام آخر، أوهــم ان كلامه الأول كان ضــعيفاً ســاقطــاً، وانه ما كان عـالماً بضــعفه، وان ذلك المبطل علم وجــه ضــعفه وكــونه ســاقـطـاً، وانه كأنــه عالماً بضــعفه فنــبه عليه، وهذا ربما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وانه غير جائز”( ).
والجواب ان الإنتقال الى كلام آخر يعرف من خلال موضوعه واسبابه وغاياته وهل هو ترك للكلام الأول او عجز عن ا لرد ام توكيد للأول واثبات له.
وابراهيم لم ينتقل الى كلام آخر مباين ومختلف عن الكلام الأول بل جاء ما يؤكد كلامه الأول لأن الغاية واحدة وهي اثبات الصانع وبيان ضعف وعجز نمرود ، قال تعالى [وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا]( )، فلا مانع من الإكثار من الأدلة لتحصيل الغاية .
فبين برهان الإحياء والإماتة وبرهان الشمس عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هي الغاية واثبات الصانع وفضح الملك في دعواه، اما مادة الإفتراق ففي الأول دليل الإحياء والإماتة، وفي الثاني الآية الكونية بجهة شروق الشمس واتجاه مسيرها.
ان ترك سؤال وشبهة نمروذ دليل على تجاهلها والإعراض عنها وعدم نهوضها للحجة، وكأن ابراهيم في تلك الساعة هو الملك وهذا من وجوه العز التي تتغشى الأنبياء والمؤمنين في ساعات المواجهة والتحدي.
ان النظر الى الدليل الأول على نحو مستقل خلاف الإنصاف فلابد من النظر الى مجموع المناظرة كوحدة متكاملة ينعكس اثر بعضها على البعض الآخر ، ولا ينفصل التالي منها على المتقدم .
فالإنتقال الى دليل آخر يراد منه تثبيت الدليل الأول، وتوكيد عدم صحة اجابة نمروذ لأن الملاك هو اثبات وجود الصانع وانحصار القدرة المطلقة بالله تعالى فالدليل الثاني لم يطلب لذاته فقط بل لنفسه ولغيره وجاء لتوكيد بطلان اجابة نمروذ على الأول، ثم ان ابراهيم لم يجب نمروذ على سؤاله الا بايراد هذا الدليل، بمعنى ان دليل الشمس رد ضمني على سؤال نمروذ، و يتضمن معنى الإحياء ايضاً كما سيأتي في ردنا التالي على الإشكال الثالث.
قانون الوضوح في البرهان النبوي
الإشكال الثالث : وهــو انه وان كان يحســن الإنتـقـال من دليل الى دليل، او من مثال الى مثال، لكنه يجب ان يكون المنتقل اليه اوضح واقرب، وههنا ليس الأمر كذلك، لأن جنس الإحياء لا قدرة للخلق عليه، واما جنس تحريك الأجسام، فللخلق قدرة عليه، ولا يبعد في العقل وجود ملك عظيم في الجــثـة اعظم من السماوات، وانه هو الذي يكون محركاً للسماوات، وعلى هذا التقدير الإستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع اظهر واقوى من الإستدلال بطلوع الشمس على وجود الصانع فكيف بالنبي المعصـوم ان ينتقل من الدليل الأوضح الأظــهر الى الدليل الخفي الذي لا يكون في نفس الأمر قوياً( ).
والجواب ان الوضوح والقرب في كلا الدليلين ظاهر وان تحريك الأجسام دليل على وجود الصانع من خلال الإقرار بقدرة الله تعالى وان الأشياء جميعاً مستجيبة له سبحانه، واطلاق مسألة تحريك الأجسام في المقام لا تخلو من ايهام ومغالطة ومخالفة لموازين العقل، للتسالم بين البشر عن عجزهم في التأثير في عالم الأفلاك، كما ان المراد من الإتيان في الآية اعم من التحريك بل يشمل:
الأول : ابتداء خلق الشمس.
الثاني : بعثها للضياء والنور.
الثالث : دقة سيرها.
الرابع : المنازل والمواقع التي تسير بها، وفي الخبر ان للشمس ثلاثمائة وستين برجاً.
فهذا الدليل يتضمن الإحياء والتحريك واستدامة الحياة وعدم قدرة الإنسان نفسه على تغيير مسار الشمس فضلاً عن محوها كآية، واذا عجز الإنسان عن تحريك الشمس او وقف سيرها ونظامها فمن باب اولى انه عاجز عن التصرف فيها وان دعواه في الإحياء والإماتة لا اصل لها.
وقد توجه ابراهيم الى الناس واتباع نمروذ وخاطب عقولهم بهذه الآيــة والبرهان لدرء شبهة نمروذ الأولى، وقواعد البرهــان لم تصــل الى هذا الإرتقــاء الذي يتــجــلى في جهــاد الأنبـيـاء.
ان الدليل الذي اورده ابراهيم جعله الله عزو جل آية من آيات الكتاب السماوي الخالد في الأرض وهو القرآن مما يعني ان مضمون الدليل خطاب للأجيال المتعاقبة وللناس على اختلاف مشــاربهم وانتماءاتهم وتتجلى موضوعيته مع العلوم الحديثة وانكشاف شطر من اسرارها مثل حجمها الذي يعتبر اكبر من حجم الأرض نحو 1404928 مرة، ونصف قطرها اكبر من نصف قطر الأرض 112 مرة.
لقد اراد ابراهيم نقل الأذهان الى عالم النجوم السابحة في الفضاء والكواكب السيارة وان الآيات في الآفاق تتعدى قدرة البشر وهذا الإستدلال ليس منفصلاً عن استدلاله على عدم اهلية القمر للعبادة [فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ]( )،
وحيث ان الإنســان يموت ولا يبقى على قيد الحياة وان طالت ايامــه في الدنيا فــانه آفل والى زوال فلا يكـون مؤهلاً للربوبية والعبادة.
وجاء هذا الإســتدلال بان سير الكواكب يحتاج الى القادر والصــانع وهو امــر ينحصـر به ســــبحانه بما لا لبس فيه، وآيــاته ســبحانه متعددة واكثر من ان تحصــى ولكن ابراهيم احتاج لــدرء شبهة نمروذ بما يعجز عن وضع نفسه كقادر على التصــرف والتغيير، فذكر ابراهيم حــركة واتجــاه الشمس لإثبات بطلان شــبهته الأولى، فمن الآيات ان وظيفة هذا الدليل مركبة من بيــان قدرته تعالى في حركة الشمس ومن توكيد صدق ابراهيم في اثبــات انحصـــار الإحياء والإــماتة به تعالى وسيتضح في تفسير (فبهت) أي اظـهر عجــزه عن الثاني واقــر ببطلان ســؤاله وشبهته على الأول.
الإشكال الرابع: “ان دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصانع اقوى من دلالة طلوع الشمس عليه وذلك لأنا ترى في ذات الإنسان وصفاته تبديلات واختلافات والتبدل قوى الدلالة على الحاجة الى المؤثر القادر، اما الشمس فلا ترى في ذاتها تبدلاً، ولا في صفاتها تبدلاً، ولا في منهج حركاتها تبدلاً البتة، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع اقوى فكان العدول منه الى طلوع الشمس انتقالاً من الأقوى الأجلى الى الأخفى الأضعف وانه لا يجوز”( ).
الجواب ان المقام ليس من باب المقارنة والأكثر اهمية بل كل آية هي الأهم على نحو الإستقلال والشأن الخاص، ولو كان الأمر يتعلق بموضــوع واحد يكون احياؤه واماتته أهم من تحريكه، اما حينما يختلف ويتعدد الموضوع ويتعلق برهان الإحياء والإماتة بشيء، وبرهان التحريك بشيء آخر فلا سبيل للمقارنة للتباين الموضوعي واختلاف الحيثيات والخصوصيات، كما يظهر في هذا المثال فليس الأمر مقارنة بين تحريك ذات الشيء واحيائه واماتته كما في الشخص الواحد، بل ان التحريك يقع على جرم عظيم يعجز الإنسان حتى عن النظر اليه.
ولعل في الآية اشارة الى عالم الإستنساخ البشري في هذا الزمان فجاء البرهان متعدداً ويتخطى مسألة احياء الإنسان نفسه، وان كان ابراهيم جاء ببرهان الإحياء والإماتة على نحو الإطلاق وعدم حصره بشخص معين بمعنى ان شبهة نمروذ لا تنهض لمعارضة دليله الا انها جاءت للبس والمغالطة فذكر دليل الشمس ليس انتقالاً من الأقوى الى الأضعف بل انه استمرار وتوثيق واثبات للبرهان الأول باطلاقه وحقيقته، وكل برهان الأول والثاني كان هو الأقوى والأجلى بذاته وموضوعه ومناسبته، بمعنى ان المجيء ببرهان الإحياء والإماتة اولاً والمجيء ببرهان الشمس ثانياً ولاحقاً له دلالات وفيه حجة اضافية ومناسبة لإسكات وتبكيت الخصم والعقل يدرك اهمية وقوة برهان سير الشمس بدليل ظهور عجز الكافر.
ان مناسبة البرهان تختلف عن الأول بأمر اضافي اعتباري وهو دخول نمروذ بمغالطة وما يسمى في اصطلاح علم المنطق (عناداَ) وهو الإصرار على الباطل واظهار العناد لمدافعة وتعجيز الخصم، فاراد ابراهيم توكيد الدليل الأول واثبات وجود الصانع وفضح الكافر بتحديه بما هو اكبر من ان تناله يد الإنسان ويعجز فيه عن الحيلة والبهتان ومحاولات تغطية النقص وستر الفقر والحاجة الى الغير التي هي من صفات الممكن مطلقا.
لقد كان الإنتقال الى برهان ثان تخليصاً للناس واتباع الملك من مغالطة وشبهة الملك.
الإشكال الخامس: “ان نمروذ لما لم يستح من معارضة الأحياء والإماتة الصادرين عن الله تعالى بالقتل والتخلية، فكيف يؤمن منه عند استدلال ابراهيم طلوع الشمس ان يقول: طلوع الشمس من المشرق منى فان كان لك اله فقل له حتى يطلعها من المغرب.
وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك فقالوا: انه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب ان تطلع الشمس من المغرب ومن المعلوم ان الإشتغال باظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة اسهل بكثير من التزام اطلاع الشمس من المغرب، فبتقدير ان يحصل طلوع الشمس من المغرب، الا انه يكون الدليل على وجود الصانع هو طلوع الشمس من المغرب، ولا يكون طلوع الشمس من المشرق دليلاً على وجود الصانع، وحينئذ يصير دليله الثاني ضائعاً كما صار دليله الأول ضائعاً.
وايضاً فما الدليل الذي حمل ابراهيم على ترك الواجب عن ذلك السؤال الركيك والتزم الإنقطاع واعترف بالحاجة الى الإنتقال الى تمسك بدليل لا يمكنه تمشيته الا بالتزام طلوع الشمس من المغرب، وبتقدير ان يأتي باطلاع الشمس من المغرب فانه يضيع دليله الثاني”( ).
والجواب على هذا الإشكال انه قياس مع الفارق، فقد ادعى نمروذ انه يحيي ويميت ايضاً بقيامه بقتل شخص وتخلية آخر فأراد ابراهيم الإستدلال بان الإحياء والإماتة الذين ارادهما غير ما فعله نمروذ، وان الله عز وجل يحيي ابتداء ومن غير واسطة ويميت فجأة وقهراً ومن غير غلبة لغيره، فاذا كان له سلطان في التأثير في الأشياء الخارجية فليأت بمصداق.
وهذا المصداق يتجلى بتقييد حركة الشمس وفيه اسقاط لظنه وابطال لزعمه بان التخلية والقتل احياء واماتة، فمقتضى اصول المناظرة ان يأتي بها نمروذ من المغرب ان استطاع لأنه ادعى الإحياء والإماتة فكان موضوع التحدي وهو اثبات قدرة نمروذ وارادته وتسخيره للأشياء، أي ان هذا البرهان جاء على ضوء ادعاء نمروذ ولفضحه وتكبيته واثبات عجزه، فقولهم انه لو رد السؤال خلاف سير المناظرة وقواعدها العقلية والعرفية.
وبذا تظهر ضرورة انتقال ابراهيم الى البرهان الثاني للتشنيع على الملك وبين عجزه أي ان نمروذ حينما قال انا احيي واميت اوقع نفسه في ورطة واستحق الإستهزاء به وفضحه بين اعوانه وانصاره فاذا ثبت عجزه عن تغيير مسار الشمس فانه يعني عجزه عن الإحياء والإماتة، لثبوت عدم المقدرة.
وليس في مقدور نمروذ ان يقول انا أأتي بالشمس من المشرق لظهر عجزه عن ذلك والتسالم على عدم اهلية الإنسان لهذا الفعل العظيم، وعلى فرض انه قاله فان موضوع التحدي هو الإثبات الواقعي الآني لقوله وادعائه، فكما قام بمحاولة التخلية والقتل الشخصية كان عليه ان يقوم بفعل آني يدل على صدق قوله.
لقد انحصر مدار المناظرة على اثبات قدرة نمروذ على الفعل والإرادة والخلق وانه هو الذي اقحم نفسه بها، فليس له ان يقول ليأت بها ربك من المغرب لأنه ايضاً تسليم لعجزه وضعفه حينما بطلت دعوى نمروذ بالربوبية والخلق.
تنحصر الربوبية والخلق به تعالى وهو المطلوب، لقد كان موضوع احتجاج ابراهيم هو ابطال دعوى نمروذ الربوبية بوجوه:
الأولى : اعلان التوحيد.
الثانية : بيان الآيات في النفس والآفاق.
الثالثة : ابطال دعوى نمروذ الربوبية.
وعندما اعلن التوحيد وابتدأ بذكره تعالى مع بيان شطر من الآيات وقال [رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ] جاءت المغالطة واللبس من نمروذ جحوداً وعناداً حفاظاً على ملكه، ذكر ابراهيم الآيات الأخرى لإبطال دعوى نمروذ وتحمل الناس على الرجوع الى الآيات والتدبر والتفكير فيها.
وكان الأولى ان تتنزه كتب التفسير من هذه الإشكالات لعدم موضوعيتها والخلل في مبناها او التعقيب عليها، ومع صدورها منذ اكثر من ثمانمائة عام جاء ابطالها هنا لبيان سلامة نهج النبي وصحة عمله، اذ ان مدار البحث يجب ان يرتكز الى قاعدة وهي عصمة النبي وعدم الخطأ في قوله وفعله وان قول ابراهيم في المقام حجة ونحن اقل من ان ندرك ابعاده ومضامينه ومفاهيمه.
ولو تنزلنا وقلنا ان نمروذ رد سؤال وتحدي ابراهيم بطلب وسؤال فهو دليل على عجزه وانتقاله الى مقام السائل والمستفتي كما كان اليهود وكبار المشركين يسألون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن صــدق نبوته فهذا الســؤال يعني بالدلالـة الإلتزامية الإقرار بالخالق عز وجل وان السؤال يدور حول النبوة وبعض مصاديق القدرة ولكن نمروذ لا يريد آية تدل على الربوبية بل انه يدعي لنفسه الربوبية والقدرة.
فجهاد ابراهيم كان في تلك الساعة لابطال ربوبية نمروذ ونقل الناس الى منازل التوحيد والذي يتبين بجلاء في عجز نمروذ وفضحه واثبات عدم قدرته عما يتعدى المسائل الشخصية وقرار الحكم.
ان نمروذ برده لبرهان ابراهيم نقل نفسه الى حالة الدفاع واخلها في ورطة واستلزم منه الأمر اثبات برهان القدرة والربــوبية فتحــداه ابراهيم بما يبطــل قوله ويجعله عاجزاً.
وهل يمــكن حــمل قــول نمـروذ على انه لم يدع الربوبية ولكنه اراد القــول بان الإحــياء والإمـــاتة لا يدلان على الإنفراد بالربوبية وان حجة ابراهيم ليست كافية لإثبات وجود الصانع وقــدرته المطــلقــة كما لو كان شـخص يدعي التفوق في باب من ابواب الصــنائــع فيقال له ان فلاناً مثلك وهو حاصل على الذي عندك ولست الوحيد الذي تتصف بهذه الخصائص، الجواب: لا، بدليــل خاتمة الآيــة وان الكافــر بهت وظهر عجــزه وضعــفه، فلو قصد البحث عن الدليل الذي يثبت وجود الصانع لأستحسن قول ابراهيم حينما تحداه ببرهان الشمس ولما بقي بحال المغلوب الذليل.
لقد كان جهاد ابراهيم مع نمروذ مركباً من امرين من الدعوة الى الله عز وجل وابطال دعوى نمروذ الربوبية وبذا تتضح منزلة ابراهيم بين الأنبياء ويظهر انه تصدى لإدعاء الربوبية ومهّد للأنبياء من بعده كموسى في مناظرته مع فرعون، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تصديه للكفر والضلالة وعبادة الأصنام لذا تظهر افضلية الإنتقال من دليل الى آخر ويؤكد نتيجة هذا الإنتقال واصابة الملك بالدهشة والتحير.
بحث بلاغي
من المحسنات المعنوية واللغوية المطابقة او الطباق وهو الجمع بين لفظين متقابلين في المعنى، ويكونان اسمين كما في قوله تعالى [ هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ]( ) او فعلين متقابلين كما في هذه الآية اذ ان الحياة والموت ضدان ينافي احدهما الآخر ولا يجتمعان في محل او زمان واحد، والتنافي بينهما بالذات لذا فان الآية تبين قدرته تعالى على المتضادين والمتقابلين والمتناقضين.
والطباق على قسـمين حقيقي ومجازي، والثاني يسمى التكافئ، وهذه الآية تجمع بين الحقيقي والمجازي، اما الحقيقي فهو قول ابراهيم وان الله عز وجل يحيي ويميت على نحو الحقيقة والواقع، ومن الطباق المجازي قوله تعالى [ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ]( ) أي كان ضالاً فهداه الله للإيمان.
ويمكن ان نضــيف قسماً آخراً وهو الوهمي الذي لا يرقى الى المجاز الى الحقيقة بالأولوية القطعية، ومن الوهمي قول نمروذ [ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ].
بحث بلاغي آخر
من بدائع القرآن المزج والتداخل بين البلاغة وعلم الكلام وتعضيد احدهما للآخر الذي يتجلى بآيات الإحتجاج وصيغ البرهان العقلي، كأن يأتي النبي بحجة دامغة وآية باهرة او يذكر مقدمات تؤدي الى نتيجة تفيد المطلوب على نحو القطع والتبيان، كما في هذه الآية لظهور مقدماته واسبابه على وجه الحقيقة ويدرك بالوجدان، ولبيان بطلان ما ادعاه نمروذ بانه يحيي ويميت، لأن لازمه باطل وهو قدرته على الإحياء والإماتة، فكذا الملزوم وهو ادعاؤه الربوبية.
وهذا النوع من المحســنات النوعية والشـواهد البلاغية يسمى “المذهب الكلامي” لإعتماده قواعد علم الكلام والبراهين العقلية لإثبات وجود الصانع.
تفسير قوله تعالى [ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ]
لقد دهش وتحير الملك وانقطعت مغالطته واستبان بطلان الشبهة التي جاء بها بالإحياء والإماتة الشخصيين مما يدل على قوة برهان ابراهيم وحسن اختياره لمواضيع المناظرة وان الغاية كانت اثبات عجز الملك وتظهر الآية سرعة انتهاء المناظرة وهزيمة الملك وتعرضه للخزي وادراك الجميع هزيمته وضعفه وهوانه.
ومن الإعجاز في الآية انها جاءت في بدايتها برداء الحكم والسلطنة والملك اما هنا فقد نعت بالكافر وفيه دلالات منها:
الأولى : انه سكت وعجز وكذا شأن الكافرين عند ظهور الحجة واتضاح البينة.
الثانية : ان الملأ من قومه ادركوا عجزه وكذبه وافتراءه وبطلان حجته.
الثالثة : كانت المناظرة بين الإيمان والكفر، وان نتيجة الكفر هي الحيرة والدهشة والخسارة.
الرابعة : الآية بشارة وسكينة للمؤمنين، وفيها تعليم وارشاد لكيفية الإحتجاج على الكافرين.
الخامسة : صار الملك الظالم ضعيفاً متحيراً امام سلطان الحق والبرهان.
السادسة: في الآية تحذير وتخويف للطواغيت ورؤساء الضلالة والشرك لأن البرهان على بطلان ادعائهم قريب وظاهر.
السابعة : بكلمتين انهـارت حجة الملك واضطر الى الصمت مقهوراً مغلوباً.
الثامنة : تظهر الآية قرب البرهان وحسن الإنتقال من دليل الى آخر لأن التعدد يزيد في اظهار الآيات ووضوح البينات.
التاسعة : نعت الملــك (بالــــذي كفر) تقبيح لفعــله واســتهزاء به وفيه شــفاء لصدور المؤمنين وايجاد حالة من التصور الذهني لما دخل القوم من السخرية به وتولد حالة جديدة من التفكير الجدي بلــزوم عبادته تعــالى واتباع ابراهيـم فيما جاء به، فلا غــرابــة ان يبـادر الملك الى جمــع الحطــب لحرق ابراهيم عليه السلام.
العاشرة : الآية مناسبة لإستحداث دراسات اخلاقية ونفسية تبين اثر البرهان على الكفار فقد كان تحدي ابراهيم كالصاعقة التي هزت اركان عرشه.
الحادية عشرة : موضــوع البهــت والإنقـطــاع اعــم من ان يختص بالملك بل يشــمل اعــوانــه واتـبــاعــه، اذ ان الحيرة والدهشة تغشت الجميع.
الثانية عشرة : تبين الآية قبح لباس الكفر والتجاهر به.
الثالثة عشرة : الآية حجة على الكافرين الى يوم القيامة، ومن يدعي الربوبية تأتيه هذه الآية متحدية فاضحة لزيف قوله كما انها تمنع من وجود الأعوان والأنصار وتصدُ الناس عن اتباعه وتأييده وتصديق دعواه.
الرابعة عشرة : الآية تزجره وتنهاه عن التمادي في ضلالته وغروره وادعاء الربوبية وان كان ملكاً وسلطاناً، فحينما يحاول التفكير بادعاء الربوبية يستحضر موضوع الآيات الكونية فيصاب بالدهشة والحيرة ويمتنع او يتراجع عن ادعاء ما ليس له، كما ان الآية تردع اهل الرياء والمنافع عن التقرب الى الملك باخراجه من صفة العبودية الى المعبودية والتأليه واذ جاء احتجاج ابراهيم في مملكة معينة وفي واقعة مخصوصة فان القرآن البسها لباس العالمية والدوام والتوثيق، لأن القرآن عالمي الوظيفة وهو باق الى يوم القيامة وما فيه حق وصدق.
وفي نعــت الملك بصــفة الكـفر بعد المحاجــجة اشــارة الى قلة شأنه عنـد الملأ وقومــه وهكذا شــأن المتحير الذي يظهر عجزه عن الرد، مما يعني تهيء مناســبة لبث مفاهيم التوحـيد والدعوة الى الإسلام بين الملأ وسادة القوم وهؤلاء سيكونون رسل التوحيد الى من خلفهم وان لم يكونوا مؤمنين بما قاله ابراهيم اذ انه يكفي في الرسالة في المقام نقل المحاجة وبيان وقائعها وأدلة ابراهيم وغلبته وعجز الملك عن الرد.
ان الآية تحكي خاتمة المحاجة باصدق وصف، فبعد المحاجة ذهبت هيبة الملك وانسلخت عنه الهالة التي جعلها حوله بهتاناً وزوراً لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع العقائدي بينه وبين ابراهيم، اذ ان هذه المحاجة تعتبر بحق منازلة الإيمان والكفر، والمعركة الفاصلة بينهما وقد انحسرت بسرعة لصالح الحق والعقل، وترى فيها قلة الكلمات التي استعملها ابراهيم مع ان مقام الملك وجلالة شأنه وهيبته بين قومه تستلزم العناية والتفصيل والنقض والإبرام طرداً وعكساً، والبيان المناسب للحال والمقام.
خصوصاً وان مخاطبة الملوك لها لغة خاصة لمنع نفرتهم او استيائهم، ولزوم اجتناب احراجهم والإساءة اليهم صراحة او كناية او تعريضاً خشية بطشهم، ومن اجل الإنتفاع منهم وايصال المسألة لهم بأدب ولطف، ولكن ابراهيم عليه السلام كان خصماً للملك واخذه بقوة وواجــهة بالحجــة الدامغة لأنه بجحوده اختار فقد الهيبة ونزع رداء الوقار، ولأن الأهم هــو الموعظــة والنصـح والذكرى، وتكون ابلغ في نفسه ونفوس الملأ من قومه اذا جاءت بلسان مبين، وفي الحديث: ” المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير”( ).
ان الإحتجاج انذار عام وعقوبة عاجلة للملك ودرس تأديبي واخبار بان اتيانه تعالى الملك لبعض العباد لا يعني اطلاق يده في القول والفعل وموازين الحكم، وانه اذا انحرف عن جادة الحق انحرافاً فادحاً وضاراً يأتيه الإنذار والإبتلاء في ملكه او نفسه وصحته ليعتبر ويتعظ ويرجع عن عناده وجحوده.
ان سكوت وتحير الملك نصر للإسلام ودعوة لأعوانه بالتخلي عنه وخدلانه.
ويجب ان لا ينظر الى المحاجة على نحو مستقل وخاص بالمناسبة واشخاصها بل هي دعوة الى الله الى يوم القيامة ونداء حاضر وصرخة احتجاج ضد الكفر وحرب على الطواغيت ورؤساء الضلالة، ورد وجواب الملك يبدو بطلانه وعدم صحته لكل ذي عقل، وإنتقال ابراهيم الى آية جهة طلوع الشمس حجة على الملك ودعوة للناس جميعاً للإسلام فلا موضوعية لإي من الإشكالات الخمس المتقدمة.
و ذكران نمروذ بن كنعان بن كوش كان جباراً مســتبداً في الملك في بابل لم يتورع عن ادعاء الربوبية، فلما نازع الله في سلطانه تعرض لسلسلة من انواع الابتلاء والوعيد والانذار والتحذير كان اولها ان رأى في منامه كأن كوكباً طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء، ففزع من ذلك فزعاً شديداً.
وفي رواية السدي انه دعا السحرة الكهنة والقافّة وهم الذين يخطون في الارض ويمشون فسألهم عن ذلك فقالوا: هو مولود يولد في ناحيتك هذه السنة يكون هلاكك وهلاك اهل بيتك على يديه، فأمــر بذبح كل غـلام يولــد في تلك الناحية ســنتها وكان مــن قصة ابراهيـم المولــود في تلك الســنة ان جعل الله عليــه حجبـاً للنجــاة.
تفسير قوله تعالى [ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]
خاتمة الآية قاعدة كلية ومدرســة قرآنية تبين سـنة ثابتة في المعرفة الإلهية وقد وردت في القرآن ثمان مرات، ومن الآيات ان تأتي دائماً بصــفة القوم ولم تأت مجـردة من ذكر كلمة القوم فليس في القرآن (والله لا بهدي الظالمين) او (ان الله لا يهدي الظالمين).
فلماذا هذا القيد والنعت، الظاهر ان المراد هو بيان تعاونهم على الظلم واشتراكهم فيه واجتماعهم في زمان وموضع واحد يكون مناسبة لتعاطي الظلم والتعدي، ولإخراج الظلم الشخصي والقضية الفردية فقد يدرك الشخص الندم ويسعى الى التوبة لأنه ينفرد بمعصــية، اما اذا كان القــوم ظالمين فان بعضهم يحث ويؤازر البعض الآخر على ظلمه، لا اقل في اقامته على الظلم ومواصلته التعدي.
ولغة الجمع في المقام تفيد الذم لقوم نمروذ ايضاً وفيها اشارة الى اصرارهم على الكفر حتى بعد ظهور الحق بهذا الإحتجاج وهو دعوة للمؤمنين لعدم القنوط او اليأس عندما يرون عدم استجابة الكفار للآيات والبراهين.
وفي الآية اخبار عن حصول مقدمات ايذاء ابراهيم وسعي الظالمين للبطش به ومؤاخذته على احتجاجه، فان قلت اذا كان الإحتجاج لم ينفع في التأثير على الملك واعوانه فما هي فائدته خصوصاً وان وجود المستمع والمنتفع من شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وان الأولى والحال هذه ان يحفظ ابراهيم نفسه وينتظر فرصة اخرى سانحة لإعلان التوحيد او القيام بطرق ووسائل اخرى للجهاد.
الجواب: ان تبليغ الأنبياء اعم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فانه انذار وبشارة وتبليغ واقامة الحجة، وتصد للكفر والإحتجاج ولا يخلو من فوائد ومنافع وهي متعددة ومركبة، اما المنافع الآجلة فتفوق حد الإحصاء، لقد فتح ابراهيم باباً للجهاد وساهم في منع الملوك من ادعاء الربوبية واما العاجلة فانه اقام الحجة على الكافرين، وادى رسالته بتبليغهم ودعا من خلالهم الأمة الى الهدى والرشاد.
وتتضمن الآية ما يفيد اطلاق عدم الهداية ولكنها تقيده بالظلم والتعدي وليس اهل المملكة كلهم ظالمين، كما انها خالية مما يفيد غلق باب الهداية عن الناس جميعاً بما في ذلك الظالمين لإطلاقات رحمته ورأفته تعالى وانفتاح باب التوبة للناس جميعاً، ولكن القدر المتيقن منها ان الله عز وج لا يهدي القوم الظالمين حال تلبسهم بالظلم والتعدي، لذا جاءت خاتمة الآية لتخبر عن بقاء نمروذ وجنوده على غيهم وكفرهم فحجبوا عن انفسهم نعمة الهداية وما يقربهم من منازل التقوى والإعتبار بالآيات والبراهين.
والاية شاهد على لزوم الجهاد في سبيله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة واقامة البرهان وان لم يستجب الطاغوت لنداء الإيمان ودعوة الصلاح والشكر له تعالى على الى سبل الجنة والمغفرة والتوبة لأنهم اغلقوا على انفسهم دروبها وركبوا جادة العناد.
وفي الآية اخبار عن خسارة الكافرين للإحتجاج والمباهلة وعدم قدرتهم على ابطال ادلة التوحيد، وهذه الآية لا تعني الصرفة، وان الله عز وجل يصرفهم عن نتيجة الاحتجاج وسلوك طريق الهداية، بل لأنهم اصبحوا باختيارهم عاجزين عن بلوغ منازل الإيمان لسدهم الذرائع على انفسهم وامتناعهم عن ايجاد مقدمات الهداية والرشاد.
ومن مفاهيم [وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] ( ) عصور وتخلف الطواغيت والظالمين عن مواصلة الجدال والخصومة مع النبي والرسول ، لقانون مصاحبة الحجة للنبوة ، وقانون حرمان الطواغيت من الحجة والبرهان.
ان نمروذ يستحق وصفاً اشد من الظالم فهو كافر جاحد مدع للربوبية كما انه ليس بمنزلة واحدة في الظلم مع قومه بل هم على درجات لأنه يبوء بآثامه وأوزار الآخرين ممن اتبعه، ولكن الآية جاءت جامعة وغير مانعة، جامعة بلحاظ صفة الظلم ولم تمنع من دخول غيرهم معهم ممن هو ادنى في مراتب الظلم والكفر.
كما تبين خاتمة الآية عدم نهاية الصراع بين الإيمان والكفر، وفيها اشارة الى الحاجة الى السيف وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت سنن التوحيد في الأرض ومنع الإرتداد والباطل وشيوع الظلم وادعاء الربوبية، فمع البينة والبرهان القاطع والدليل الدامغ الذي اقامه ابراهيم لم تظهر استجابة من الملك ولا من الملأ من قومه، ولم تحك الأخبار ميل جماعة من اصحاب الملك الى جهة ابراهيم سراً اوعلناً، فاخبرت الآية عن عدم هدايتهم ولزوم الإصلاح بوسائل اخرى اكثر تأثيراً من الإحتجاج.
فان قلت ان الآية تخبر عن حقيقة تكوينية ثابتة وهي عدم هداية الظالمين فانه حتى في حال استعمال السيف فانهم يبقون على حالهم.
الجواب: إن وسائل الجهاد المختلفة والمتعددة تمنع من مقومات الظلم وتردع الناس عن التعدي، ومن وجوه هذا المنع انها تحول دون وصول طاغوت الى الحكم يجمع حوله الأعوان ويدعي الربوبية، ومن سعى في ذلك فلن يجد الأنصار والأعوان الذين يستطيع ان يضطهد الناس بهم كما ان المقاومة والتصدي له في ظلمه وزيف ادعاءاته يشارك فيه شطر من الناس وتجد النفوس تميل الى فكرة محاربته.
ان بزوغ شمس الإسلام وشيوع مبادئه وافكاره وضع في الأرض ثوابت عالمية للتوحيد وساهم في تهذيب النفوس وانتفاء الكفر وزوال سلطانه من على وجه الأرض الى يوم القيامة، وبقى رواده على خوف ووجل تصلهم الآيات وتقام عليهم الحجة كل يوم سواء بالتذكير بالآيات او برؤية المناسك والأفعال العبادية واخذت بعض مذاهب الضلالة تدعي اقرارها بالتوحيد والعبودية لله تعالى وتسعى أحياناً للتخلص من مظاهر الشرك.
قوله تعالى[أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] الآية 259.
القراءة
قرأ الأعمش وحمزة وعيسى: {رَبِّيَ الَّذِى} بإسكان الياء، وقرأ الباقون بفتحه لمكان الألف واللام)( ).
وفي يتسنه قيل أصله(يتسني) فحذفت الياء بالجزم ووضعت الهاء بدلاً منها في الوقف.
الإعراب واللغة
أو: حرف عطف، وتقدير العطف على الآية السابقة أرأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه أو مثل الذي مرّ على قرية، الكاف: حرف جر زائد، وقيل: اسم بمعنى مثل جاء للتعجب وتقديره: أو مثل الذي مرّ، وعلى القول بأن الكاف اسم يكون (الذي) إسماً مبنياً في محل جر مضاف إليه، وجملة [ مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ] صلة الموصول.
مرّ: فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، على قرية: جار ومجرور متعلق بمرّ.
وهي خاوية: الواو حالية، هي: مبتدأ، خاوية: خبر مرفوع على عروشها: جار ومجرور متعلقتا بخاوية والضمير(ها) مضاف إليه.
فأماته: الفاء: عاطفة، أماته الله: فعل وفاعل ومفعول به.
مائة: ظرف زمان، عام: مضاف إليه.
كم لبثت: كم: اسم استفهام في محل نصب على الظرفية الزمانية.
لبثت: فعل ماض والضمير فاعل تقديره أنت.
فانظر: الفاء الفصيحة، انظر: فعل امر، ولنجعلك: الواو استئنافية وقيل عاطفة، اللام: للتعليل، نجعل: فعل مضارع منصوب بان مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن، الكاف: مفعول به اول.
لم يتسنه: لم: حرف نفي وقلب وجزم.
كيف ننشزها: كيف: اسم استفهام في محل نصب حال، ننشزها: فعل مضارع مرفوع، الهاء: مفعول به، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو.
ثم نكسوها لحماً: ثم: حرف عطف للترتيب وتفيد التراخي، نكسوها: فعل مضارع، الهاء: مفعول به اول، لحماً: مفعول به ثان.
فلما تبين له: فلما: الفاء عاطفة على مقدر بلحاظ السياق ظرفية غير جازمة، تبين: فعل ماض مبني على الفتح، والفاعل ضمير مستتر يتعلق بكيفية حصول الأحياء.
ومعنى خاوية مهدومة وساقطة من خوى النجم أي سقط، كما انها تفيد معنى الخلو أي خالية يقال خوى المنزل من اهله اي خلا من اهله، ولا تعارض بين الأمرين لأن المعنى انها خلت من سكانها وخرت على أركانها.
والعروش جمع عرش وهو ما يستظل به، قال الأزهري: وقد رأيت العرب تسمي المظال التي تسوى من جريد النخل ويطرح فوقها التٌمام عٌرُشاً)، بضم العين والراء والعرش والعروش والعرائش واحد، والعروش السقوف، (قالت الخنساء:
كان أبو غسان عرشاً خوى … مما بناه الدهر دان ظليل)( ).
والنشـز: المكان المرتفع، وكيف ننشزها أي نرفعها الى مواضعه.
وعن ابن الأنباري في المصاحف عن هانىء البربري مولى عثمان قال: لما كتب عثمان المصاحف شكوا في ثلاث آيات، فكتبوها في كتف شاة وأرسلوني بها إلى أبي بن كعب و زيد بن ثابت، فدخلت عليهما فناولتها أبي بن كعبقق، فقرأها فوجد فيها (لا تبديل للخلق ذلك الدين القيم) فمحا بيده أحد اللامين و كتبها {لا تبديل لخلق الله}.
ووجد فيها (أنظر إلى طعامك و شرابك لم يتسنن) فمحا النون وكتبها {لم يتسنه}، وقرأ فيها (فأمهل الكافرين) فمحا الألف و كتبها {فمهل}، و نظر فيها زيد بن ثابت، ثم إنطلقت بها إلى عثمان فأثبتوها في المصاحف كذلك)( ).
في سياق الآيات
بعد ذكر المحاججة بين النبي إبراهيم والملك الكافر، جاءت هذه الآية لتبين صفحة مشرقة أخرى من البرهان والحجة التي تتقوم بطرف واحد من البشر، بينما يكون الإحتجاج بين طرفين، لإظهار سعة فضل الله تعالى وتعدد الدليل وطرق إقامة الحجة كما أنها جاءت هنا على نحو برهان عقلي محسوس مدرك بالواقع والوجدان.
ويدل إبتداء الآية بحرف العطف والترديد (أو) على وحدة السياق والموضوع بينها وبين الآية السابقة، ومن وجوه الشبه والإلتقاء مسألة الإحياء والإماتة إذ جاءت هنا بصيغة الواقع والبرهان العملي، وإذ جاءت الآية السابقة ببرهان حواري مع الملك فان هذه الآيــة تتعلق بموضــوع ودليل يدركــه ويحــس به كل إنسان.
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة وهي على شعبتين:
الشعبة الأولى: صلة هذه الآية بالآيات السابقة، وفيها وجوه:
الأول: صلة هذه الآية بالآية السابقة[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ….]( )، وفيها مسائل:
الأولى: الإتصال الموضوعي بين الآيتين بلحاظ إبتداء آية البحث بحرف العطف(أو) ويحتمل العطف والإتصال بين الآيتين وجوهاً:
الأول: العطف في اللفظ والمعنى على نحو الموجبة الكلية.
الثاني: العطف بين الآيتين على نحو الموجبة الجزئية وإرادة بيان الصلة والتشابه في موضوع مخصوص مشترك بين الآيتين.
الثالث: العطف بخصوص أمر خارج عن مضامين الآيتين.
والصحيح هو الثاني، أما الثالث فهو أمر ممتنع في لغة العطف والدلالة.
وجاء العطف بين الآيتين لتأكيد التعجب من حالتين خلاف الأصل والواقع مع التباين الموضوعي بينهما، فذكرت الآية السابقة جحود نمرود وإدعائه الربوبية، بينما ذكرت هذه الآية الذي إستعظم إحياء القرية بعد خرابها وإندثارها، مع تسليمه وإقراره بأن الله هو الذي يحيها.
الثانية: إتحاد لغة الخطاب في الآيتين، إذ يتوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته إلى المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة فإذا تضمنت الآية التعجب من إحياء القرية، فإن الله عز وجل جعل آية في هذا الموضوع ظاهرة للناس، بلغة الخطاب في القرآن، لتحيى بها نفوس الأجيال المتعاقبة من المسلمين وتكون سبب هداية للناس جميعاً، وهو من عمومات قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
وتقدير الخطاب في الآية: ألم تر يا محمد) فإن قلت جاءت آيات القرآن بالنهي عن مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإسمه، ولابد من مخاطبته(يا أيها النبي) (يا أيها الرسول) والجواب إنما يتوجه النهي للمسلمين، والخطاب من الآية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة العبودية والنبوة مجتمعتين قال تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً]( ).
فذكرت الآية أعلاه في منطوقها صفة العبودية، ودلّت على صفة النبوة في مفهومها بلحاظ أن الإسراء تشريف إختص الله عز وجل به نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إكراماً وتشريفاً له وللمسلمين.
وهل يمكن إعتبار حديث الإسراء من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، الجواب نعم، لأن نعمة وآية الإسراء مدرسة عقائدية وتأسيس لأحكام شرعية يعمل بها المسلمون، ويخرجون بها للناس بصيغة التقوى والصلاح، وليس من حصر للشواهد التي تأتي فيها الآية بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمقصود الأمة وإرادة الإتعاظ والإعتبار، كما في آية البحث والسياق، وما فيها من الدروس والعبر، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
الثالثة: بين آية البحث والسياق عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: بيان عظيم قدرة الله، وسعة سلطانه.
الثاني: ورود قصة لنبي من الأنبياء في كل من الآيتين، ففي آية البحث ورد ذكر إبراهيم عليه السلام، وفي آية البحث ذكر أن الذي(مرّ على قرية وهي خاوية) هو نبي من الأنبياء.
الثالث: التشابه المضوعي بين الآيتين الذي يدل عليه كل من حرف العطف والتشبيه في قوله تعالى(أو كالذي) وقيل أدخل حرف التشبيه(الكاف) أعلاه لأن المنكر للإحياء كثير، ولا دليل عليه إنما الظاهر إخبار الآية عن موضوع على نحو القضية الشخصية والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج وإلى الذي مرّ) لذا قال الأخفش: أن الكاف زائدة)( ).
ولكن كثرة المنكرين للبعث وإحياء الناس بعد موتهم تستقرأ من آيات أخرى وسيأتي أن المقصود هو أرميا النبي وأنه أتي إيليا ورأى ما حلّ بها من الخراب، وقيل أن الذي مرّ على القرية هو عزير، و(إن بخت نصّر لما خرّب بيت المقدس وأقدم بسبي بني إسرائيل إلى أرض بابل كان فيهم عزير وكان من علماء بني إسرائيل، ودانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود.
فلما نجا عزير من بابل إرتحل على حمار حتّى نزل على دير هرقل على شط دجلة، فطاف في القرية فلم يرَ فيها أحد وعلم بخبرها، فأكل من الفاكهة وعصر من العنب فشرب منه وجعل فضل الفاكهة في سلّة وفضل العصير في زق فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال: {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ} لم يشك في البعث ولكن قالها تعجبّاً)( ).
الرابع: إتحاد لغة الخطاب في الآيتين، وتوجهه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإبتداء آية السياق بقوله تعالى(ألم ترى) وعطف آية البحث عليها.
الخامس: ذكر اسم الجلالة(الله) ثلاث مرات في كل من الآيتين.
أما مادة الإفتراق فهي على وجوه:
الأول: ذكرت آية السياق الرسول إبراهيم عليه السلام بالاسم والتعيين، أما آية البحث فلم تذكر اسم النبي، لذا تعددت فيه الأقوال، وأخرج ابن عساكر عن عطاء بن أبي رباح قال: كان أمر عزير بين عيسى ومحمد)( ), ويحتاج هذا التعيين والحصر الزماني إلى دليل.
الثاني: ذكرت آية السياق الرسول إبراهيم الخليل عليه السلام وتكرر إسمه في الآية ثلاث مرات، أما آية البحث فلم تذكر اسم الذي مرّ على القرية سقطت سقوفها لم تهدمت جدارنها عليها.
الثالث: ذكرت آية السياق جباراً وهو نمرود وجداله مع إبراهيم عليه السلام، أما آية البحث لم تذكر إلا شخصاً واحداً تكلم بكلام تعجب بخصوص إحياء الموتى.
الرابع: أختتمت آية السياق بصيغة الإنذار والوعيد للظالمين، بينما أختتمت آية البحث ببيان عظيم قدرة الله وسلطانه.
الثالثة: إنفردت آية البحث بورود لفظ(أنظر) ثلاث مرات وإنفردت آية السياق بورود إسم(إبراهيم) عليه السلام ثلاث مرات فيها.
الرابعة: تتضمن كل من الآيتين موضوع الموت والإحياء مع التباين الجهتي فيه، فتذكر الآيتان إحياء الله للموتى وبعثهم من جديد، وتختص آية السياق بنسبة نمرود الحياة والموت لإرادته وسلطانه غروراً وعتواً منه.
الخامسة: لقد جعل الله عز وجل كلاً من نمرود وعزيراً آية للناس مع التباين في سنخية الآية، إذ بطش بنمرود، ولحقه الذلّ والهوان، وأحيا عزيراً بعد مائة عام ليتلو الكتاب.
الثاني: صلة هذه الآية بقوله تعالى[اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ……]( )، وفيها مسائل:
الأولى: بيان الربوبية المطلقة لله عز وجل في الدنيا والآخرة، قال تعالى[هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ]( )، إذ تخبر آية السياق عن ولاية ونصرة الله للمؤمنين في الدنيا، وإحيائه الموتى ووقوفهم بين يديه يوم القيامة.
الثانية: أخبرت آية السياق عن إخراج الله عز وجل المسلمين من الظلمات إلى النور، وجاءت آية البحث مصداقاً عملياً لهذا الإخراج بالإخبار عن آية عظمى في إماتة نبي مائة عام ثم بعثه من جديد في زمان غير زمانه.
وفي الجمع بين الآيتين تأكيد بأن فضل الله قريب من العباد، وأنه سبحانه إذا وعد تأتي مصاديق الوعد متعاقبة بلحاظ أن كل آية قرآنية تتضمن أفراداً منها وفيه ثناء على المسلمين، وشكر لهم على إيمانهم، قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( )، فإن قلت ما هي مصاديق ولاية الله للمسلمين التي تتضمنها آية البحث، الجواب من جهات:
الأولى: مجيء الآية بصيغة الخطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتسليم بأن المسلمين جميعاً مخاطبون به أيضاً.
الثانية: في الآية تذكير بالبعث والنشور، ولزوم الإستعداد له، وعن حذيفة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: اللهم باسمك أموت وأحيا، وإذا إستيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)( ).
الثالث: بيان عظيم قدرة الله، فمع النظام الملكوتي الدقيق، تتجلى آيات من عند الله بخلاف هذا النظام للتذكير بقدرته ولدعوة الناس للهداية والصلاح لتصبح تلك الآيات جزء من النظام الكوني بتوثيقها وذكرها في الكتاب الخالد إلى يوم القيامة بلحاظ تقسيم الآيات إلى أقسام:
الأول: الآيات العامة المستديمة في الكون.
الثاني: الآيات الطارئة على الكون.
الثالث: معجزات الأنبياء.
الرابع: الآيات التي يستبين فيها بديع صنع الله عز وجل.
نعم لا مانع من صيرورة الآية الواحدة مصداقاً لأكثر من قسم من الأقسام أعلاه بلحاظ الجهة والموضوع.
الرابعة: إتعاظ المسلمين من مضامين آية البعث وبيانها لكيفية البعث وإعادة الروح والحياة بالمعدوم، وتحتمل آية الإحياء هذه وجوهاً:
الأول: إنها آية حسية يراها ويدركها الناس بأبصارهم وأسماعهم.
الثاني: إنها معجزة عقلية يتدبرها الناس ويتعظون منها بالإستنتاج والإستنباط.
الثالث: إرادة المعنى الأعم فهذه الآية حسية وعقلية.
والصحيح هو الثالث، فهي حسية في زمانها، وصارت جامعة للتحدي في باب الحس والعقل بنزول القرآن من عند الله، وتوثيقه لواقعة إماتة المتعجب ثم بعثه بعد مائة سنة مع حفظه من الهوام والوحوش فما دامت القرية خربة ومهجورة فإنها تكون محلاً لعش وبيوت الحيوان البري والطير والحشرات، وفي سورة النمل ورد الحوار والتحذير بين النمل بقوله تعالى[قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ]( )، لتأتي في هذا الزمان صنوف المبيدات التي تحطم الحشرات النافع منها والضار، وعن شعور ومصداق الإنسان، وتتعالى الأصوات للحفاظ على أصناف الحيوان وتجد صدى وقبولاً من الناس الحكام، وكأن القرآن بلحاظ الآية أعلاه سابق ومؤسس لقواعد الحفاظ على عالم الحيوان كمخلوقات لله عز وجل وشاهد على بديع صنعه وللمنافع الظاهرة والخفية لها في حياة الإنسان وإستدامتها.
الخامسة: من ولاية الله للمسلمين صيغة الخطاب في آية البحث وبيانها لصفحة مشرقة من علم الغيب تتعلق بذات الإنسان، وتكون مادة وموضوعاً للتذكير بعالم النشور، ومن مصاديقه في باب ولاية الله للمسلمين وجوه:
الأول: إقرار وتسليم المسلمين باليوم الآخر.
الثاني: تأكيد تصديق المسلمين بالتنزيل، وتلقيهم لما فيه من الأخبار والقصص بالقبول والتدبر، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
الثالث: تنمية ملكة الإيمان عند المسلمين، وبعثهم لأداء الفرائض والواجبات قال تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الرابع: إحتراز المسلمين من الكفار وأوليائهم.
الخامس: تفقه المسلمين في الدين، وفضحهم لمفاهيم الضلالة والجحود لأن إحياء الميت بعظيم قدرة الله عز وجل.
السادس: إقامة الحجة على الكفار في باب الحياة بعد الموت بآية حسية في عالم الدنيا، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
السابع: أخبرت آية السياق عن إخراج الله عز وجل المسلمين من الظلمات إلى النور، ومن مصاديق هذا الإخراج في آية البحث وجوه:
الأول: عطف آية البحث على آية إحتجاج إبراهيم على الجبار نمرود، ليكون هذا العطف مدرسة جهادية، وسبيلاً لبعث النفرة في نفوس المسلمين من الكفار الظالمين، قال تعالى[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
الثاني: عصمة المسلمين من الشك والريب، في الخلق وفي عظيم قدرة الله، قال تعالى[لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ]( ).
الثالث: صيرورة المسلمين قادرين مجتمعين ومتفرقين على فضح مفاهيم الكفر.
الرابع: خروج المسلمين من الظلمات إلى النور بفضل الله من مقدمات إصلاح المسلمين لأمور:
الأول: صيرورة المسليمن خير أمة.
الثاني: إستدامة بقاء المسلمين في منازل الهداية وضياء الرشاد.
الثالث: جذب المسلمين للناس لمقامات الهداية والصلاح، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادسة: بيان التباين والتضاد بين المسلمين والكفار، فالكفار يعرضون عن النبوة وأسباب الهداية، أما المسلمون فأنهم يتلقون الخطابات من الله، وتترى معها الأحكام والقصص ذات الموعظة والإعتبار، فإن قلت جاء التباين بين المؤمنين والكفار جلياً في آية السياق ذاتها بالطرد والعكس فمن يدخل الإسلام يخرج من الظلم إلى النور، ومن يصر على الكفر يكون أعمى في مستنقع الرذيلة.
وهذا القول صحيح ولكن الجمع بين الآيتين يفيد تعدد مصاديق التباين والتعدد بين الفريقين.
السابعة: أخبرت آية السياق عن اللبث الدائم للكفار في النار، وأختتمت آية البحث بإخبار الله للمسلمين بأنه سبحانه على كل شيء قدير، وفيه بعث لهم لسؤال حاجاتهم من الله، والإجتهاد في طاعته، وكل من الطاعة والعاء من مقامات النور التي أخرجهم الله عز وجل لها.
الثامنة: أختتمت آية السياق بالوعيد للكفار، وإنذارهم من النار والخلود فيها، بينما أختتمت آية البحث ببيان عظيم قدرة الله عز وجل وقدرته على إحياء الموتى، وفيه إنذار إضافي للكفار، لأن بعثهم بعد الموت، وبقائهم الدائم في العذاب من عمومات خاتمة آية البحث[أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ].
الثالث: صلة هذه الآية بقوله تعالى[اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت آية السياق وهي آية الكرسي باسم الجلالة ثم أعقبتها كلمة التوحيد، وإبتدأت آية البحث بذكر قصة النبي الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه من جديد وأحيا له حماره، وحفظ له طعامه.
الثانية: تتضمن كل من الآيتين الثناء على الله عز وجل وبيان سعة سلطانه، وعظيم قدرته، وبديع صنعه.
الثالثة: من سعة كرسي وعرض الله أن الذي أماته الله لم يخرج عن سلطانه تعالى لا في الحياة ولا الممات، وفيه دعوة للناس للتسليم بالعبودية لله عز وجل والإقرار بربوبيته المطلقة.
الرابعة: وردت نصوص كثيرة في فضل آية الكرسي، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إن أعظم آية في القرآن الكرسي)( )، إذ تبين حقيقة وهي إنحصار الإلوهية بالله عز وجل، وأنه تعالى هو المعبود القائم على الأشياء كلها، ومنها النفوس والإماتة والإحياء، فجاءت قصة النبي الذي أماته الله ثم أحياه لبيان مصداق عملي لمضامين آية الكرسي وإن السموات والأرض والحياة والموت في ملك وسلطان الله عز وجل.
الخامسة: لما أخبرت آية الكرسيعن عجز الناس عن الإحاطة بجزء يسير من علم الله إلا بمشيئته وإرادته تعالى، تضمنت آية البحث جزءً من علم الغيب في الإماتة والإحياء في الدنيا، وفيه دفع وهم فلا يستطيع أحد القول أن أمر الإحياء منحصر بعالم الآخرة.
إذ تبين الآية حقيقة وهي أن الله قادر على إحياء الميت في الدنيا، ومن إعجاز آية السياق أنها وصفت الله عز وجل بأنه(الحي القيوم) لبيان إقتران الحياة بالإرادة المطلقة في الخلائق لله تعالى، ليكون في قوله تعالى(الحي القيوم) إبطال لقول بعض الفلاسفة بأن الله خلق العالم ثم تركه وشأنه أي أن الله عز وجل أحكم صنعه في قانون بديع خال من التعارض والتصادم بين أجزائه وأفراده، وجاءت آية البحث لتأكيد قيمومته تعالى على الخلائف وأنه سبحانه يأتي بالآيات والمعجزات التي تؤكد ربوبيته، وتدعو الناس للتصديق بأنبيائه.
السادسة: أخبرت آية السياق بسعة سلطانه الله، وشموله للسموات الأرض لقوله تعالى[وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ]، وجاءت آية السياق لتبين مصداقاً عملياً لسلطانه تعالى، وإن كان كل شيء في الوجود من مصاديق الآية أعلاه، إلا أن آية الإماتة والإحياء تذكير للناس بمضامينها.
الشعبة الثانية: صلة هذه الآية بالآيات المجاورة التالية، وفيها وجوه:
الأول: صلة هذه الآية بالآية التالية[وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى….]( )، وفيها مسائل:
الأولى: بعد أن جاءت الآية السابقة بخصوص مناظرة وإحتجاج إبراهيم عليه السلام للجبار الذي إدعى الربوبية وجاءت هذه الآية بخصوص الذي أماته الله مائة عام ليكون آية للناس جاءت الآية التالية في ذكر مناجاة إبراهيم عليه السلام وسؤاله الله عز وجل أن يريه آية إحياء الموتى، وفي هذا التعدد لذكر إبرايهم وجوه:
الأول: بيان منزلته عند الله.
الثاني: وإتخاذ المسلمين سيرة وجهاد إبراهيم أسوة وموعظة، قال تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]( ).
الثالث: جمع إبراهيم بين المناجاة وجهاد الجبابرة، والدعوة إلى الله.
الثالثة: بيان فضل الله عز وجل على الأنبياء والناس جميعاً في بيان المصداق المتعدد للإحياء، فخصت الإماتة والبعث لصاحب المسألة، أما في آية السياق فحصل الإحياء لطيور متعددة، ترى آي آية منهما أكبر وأعظم أثراً، الجواب كل منهما آية عظمى في الخلق إلا أن آية البحث هي الأكبر من وجوه:
الأول: عموم الآية لقوله تعالى(ولنجعلك آية للناس) من غير تقييد بالناس ولو دار الأمر هل الألف واللام في الناس للعهد وإرادة أهل زمانه أم أنه للجنس وتقيد الإستغراق، الجواب هو الثاني لأصالة العموم، وتجلي الشواهد بإنتفاع المسلمين والناس من هذه الآية ويشمل ذات المعنى آية سؤال إبراهيم الله عز وجل إحياء الموتى.
الثاني: إستدامة الإعجاز والتحدي في آية البحث مائة عام مدة الموت ما قبل الإحياء.
الثالث: وقوع الإماتة والإحياء في آية البحث على الإنسان، وهل سلبت الروح منه وغادرت الجسد، أم أن الإماتة على نحو المجاز كما في قوله تعالى[اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا]( )، الجواب هو الأول، لأصالة الحقيقة في قوله تعالى(أماته الله مائة عام) وطول المدة، والظاهر أن كيفية إماتته تختلف عن حال أهل الكهف إذ لم يذكر القرآن أنهم ماتوا، قال تعالى[فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا]( ).
الرابع: تعدد الآيات في آية البحث من جهات:
الأولى: آية إماتة وإحياء النبي.
الثانية: سؤال الله عز وجل له عن مدة مكثه ميتاً.
الثالثة: آية حفظ الطعام ومن التلف.
الرابعة: بقاء الشراب سائفاً مع مرور مائة عام عليه.
الخامسة: عدم وصول هوام الأرض إلى السائل وطعامه.
السادسة: آية نشوء العظام من جديد وعودة الحياة إلى الحمار.
السابعة: رؤية النبي لنشوء العظام جديد، لقوله تعالى(وإنظر إلى حمارك).
الرابعة: جاءت آية السياق معطوفة على آية البحث مما يدل على أمور:
الأول: إتحاد جهة الخطاب في الآيتين، وتوجهه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: بيان الآيات الباهرة التي تجلت للناس بما يدل على عظيم قدرة الله.
الثالث: مجيء الآيات بخصوص قصص الأنبياء، وفضل الله عليهم وأصلاحهم للنبوة بالبرهان والحجة القاطعة.
الرابع: زيادة إيمان المسلمين المسلمين بمعرفة جهاد الأنبياء وإنقطاعهم إلى عبادة الله، وتلقي المسلمين لآيات النبوة بالتصديق والقبول قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
الخامسة: مجيء خاتمتي الآيتين بالثناء على الله، وبيان صفاته وعظيم قدرته، وأنه تعالى يؤتي أنبياءه الآيات لما فيه صلاح وهداية الناس، بدليل إتعاظ المسلمين من آية البحث والسيق وما أنعم الله عز وجل به على أرميا وإبراهيم عليهما السلام من المعجزات والدلالات الباهرات.
الثالث: صلة هذه الآية بقوله تعالى[قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى]( )، وفيها مسائل:
الأولى: جاءت آية البحث بخصوص الذي تعجب من بعث القرية وأهلها بعد فنائهم وخرابها، وجاءت آية السياق لدعوة المسلمين للأخلاق الحميدة، ويفيد الجمع بينهما مجي القرآن بقصص الأمم السالفة وبالهداية إلى سبل الرشاد، وسنن الصلاح، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الثانية: مجيء قصص الأنبياءفي القرآن موعظة وبيان لما فيها من الحكمة، ومنها آية البحث التي هي مناسبة في أصل الخلق وحتمية بعث الناس بعد الممات وفيه دعوة للصلاح وقول المعروف الذي جاءت به آية السياق إن معرفة الإنسان بالإحياء بعد الموت وإستحضار الأعمال الأعمال في عالم الحساب سبب للإحتراز من الإساءة للغير والتعدي باليد أو باللسان.
الثالثة: من قول المعروف الذي ذكرته آية السياق التذكير بالآخرة، والحث على الإستعداد للموت وما بعده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحتجاج بمضامين آية البحث، وهو من مصاديق قوله تعالى في ذات الآية(ولنجعلك آية للناس).
الرابعة: آية البحث تذكير بعالم الآخرة، والإحياء بعد الموت والوقوف بين يدي الله للحساب، وفيه بعث للصلاح والمبادرة إلى الصدقة، والأمر بالمعروف وإنكار المنكر، ومن يتحلى بهذه الخصال الحميدة يحرص على إجتناب إيذاب الناس، لتكون آية البحث عوناً للمسلمين في نشر مفاهيم الصلاح والرشاد.
الخامسة: تلتقي الآيتان في موضوع خاتمة الآية بالثناء على الله عز وجل وبيان صفاته وعظيم سلطانه.
إعجاز الآية
تجتــمع في هذه الآية مفاهيم إعجازية عديدة بلحاظ لغة التحــدي والبرهــان وعظيم قدرة الله تعالى، وحصــول البعث على نحو القضية الشخصية في آية أخرى للناس، تحملهم قهراً على التفكر بآيات الله، وتلح عليهــم بالدعــوة إلى الإيمان والخشــية منه تعالى.
وفي الآية مدرسة في الإحتجاج مع الكفار لأنها حجة نوعية مطلقة وظاهرة للعيان، وفيها تخفيف عن المسلمين، ومن إعجاز الآية قراءة الآثار قراءة إيمانية وتسليط الأضواء على دلالتها ومعانيها قبل أن يهتم العالم الحديث بالآثار.
ومن إعجاز الآية أن التعجب لم يصدر بخصوص إحياء الموتى، بل بخصوص القرية التي إندثرت معالمها، وفيه وجوه:
الأول: كان السائل يظن بأن الإحياء والبعث في الآخرة بخصوص الناس ليقفوا بين يدي الله للحساب فجاءت الآية لتأكيد المعنى الأعم للإحياء.
الثاني: المراد من موضوع التعجب هو إحياء أهل القرية بحذف المضاف، كما في قوله تعالى[وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ]( )، أي وإسأل أهل القرية.
الثالث: إرادة المعنى الأعم وأن المراد هو إحياء أهل القرية، وذات القرية وعمارتها وبيوتها لتكون حجة على الناس في أفعالهم، قال تعالى[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
والأرجح هو الثالث بلحاظ أن القائل هو نبي ومن الصالحين، كما سيأتي بيانه في باب التفسير.
وهذه الآية هي الوحيدة التي ورد فيها لفظ (أنظر) ثلاث مرات، من أصل ست وعشرين مرة وفيه دعوة للمسلمين للإتعاظ بآية الإحياء هذه وإتخاذها موضوعاً للإحتجاج فإن إحتج إبراهيم على نمرود في الآية السابقة بالموت والحياة من جديد، جاءت هذه الآية لتضاف إليها في تنمية ملكة التوى عند المسلمين، وإرشادهم إلى سبل الإحتاج على منكري البعث والنشور.
ويمكن تسمية الآية الكريمة آية (أو كالذي مرّ) ووردت ألفاظ في هذه الآية لم ترد في آيات القرآن الأخرى وهي:
الأولى : مرّ على .
الثانية : فاماته .
الثالثة : ثم بعثه .
الرابعة : طعامك .
الخامسة : شرابك .
السادسة : يتسنه .
السابعة : حمارك .
الثامنة : ولنجعلك .
التاسعة : ننشزها .
العاشرة : نكسوها .
الآية سلاح
الآية عون لكل مسلم ودعوة الى الله عز وجل وهي برهان حاضر نوعي ولا تســتلزم مخاطرة المؤمــن بنفسه وتعريضها للتهلكة بمواجهة ملوك الضلالة والشرك وتذكيرهم بوظائفهم العــبادية، لأنها وحــدها تذكــرة وموعظــة وانذار ووعيد وتخويف.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا(دار للمؤمنين) إذ يتفضل عليهم بالآيات التي تزيدهم إيماناً، وتكون هذه الآيات على وجوه:
الأول: الآيات الشخصية التي تكون في ذات المؤمن وحاله، وبما فيه نفعه في النشأتين، فإن قلت قد يبتلى المؤمن بالمرض والفقر والآفات، والجواب نعم، ولكنه ثبات على هذا الإبتلاء وما يمحى منه أشد وأكثر، قال تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثاني: الآيات التي تخص المسلمين وأمصارهم وثغورهم بإعجاز ومدد ظاهر.
الثالث: الآيات التي تلحق الكفار، بما يكون فيه ضعفهم وهوانهم.
وتأتي هذه الآيات ومجتمعة بفضل من الله، ومن الشواهد على إجتماعها قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، إذ تدل الآية بالدلالة التضمنية على المدد من الله للمسلمين، وإلحاق الهزيمة بالكافرين مع كثرة عددهم ومؤنهم وجاءت آية البحث وما فيها من قصة حياة أحد الأنبياء، لتكون آية للمسلمين والناس جميعاً فلم تقل الآية لترى آية، أو لنجعلك آية للمؤمنين، بل جاءت بصيغة العموم(لنجعلك آية للناس) وفيه وجوه:
الأول: أهل الزمان الذي فقد وغاب فيه ولم يعلموا له أثراً، وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على ماله من شأنه بين الناس.
الثاني: الطبقة والجيل من الناس مدة المائة عام التي كان فيها ميتاً ومجهول العاقبة خصوصاً وإن القتل كان أمراً نادراً مستهجاً في بني إسرائيل، بدليل في قصة ذبح البقرة لإحياء الميت كما في قوله تعالى[قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً]( )، والآيات القليلة التي بعدها.
الثاني: أهل الزمان الذين بُعث بين ظهرانيهم.
الثالث: الأزمنة اللاحقة، وتناقلهم لقصته وآية إحيائه.
الرابع: أجيال المسلمين المتعاقبة في حين نزول القرآن وإلى يوم القيامة لتوثيقه لمعجزة الإحياء، فإن قلت جاء قوله تعالى(ولنجعلك آية للناس) عند الإحياء، مما يفيد إختصاص زمان الآية بما بعد بعثه وإحيائه لإفادة اللام في(ولنجعلك) العاقبة، والجواب لا دليل على هذا الحصر، لإحتمال إرادة قصته كاملة.
مفهوم الآية
لا يخفى على احد ان كل ما في الكون آية تدل على بديع صنعه سبحانه وان هذه الآيات تجذب العقول وتحثها كرهاً على التدبر في الخلق بما تتصف به من الحركة والتقلب والسكون، والتغير وما تجلبه من النفع او الضرر الطارئ.
فليس من آية منها الا وهي شاهد وبرهان يؤكد وجود الصانع ويمنع من الغي والكفر والجحــود، واذ تســتحوذ على الإنسان اهواؤه ويغلب عليه الشيطان ويلهث وراء الدنيا وزينتها يفوته الإلتفات الى الآيات واسباب التذكير والموعظة فيأتي البرهان من داخله ومن ذاته كانسان سواء جاء هذا البرهان بشخص ونفس النبي او المؤمن او الكافر، فكل واحد منهم يصلح ان يكون درساً وعبرة وموعظة نعم المؤمن يثاب ويؤجر، والكافر يؤثم ويتلقى اشد العقاب.
وتبين الآية تعدد صــيغ البرهان لتكــون رحــمة متجددة ومرقاة للهداية والإيمان وباباً للتوبة والإنابة، لقد جاءت الآية بموضوع للبرهان يراه كل انسان ويمر به كل ذي عينين ولا يعني هذا التباين بين موضوع الآية السابقة التي تتعلق بالإحتجاج على الملك ودعوته وقومه الى الإسلام، فالآية السابقة خاصة ولكن حكمها عام وهي دعوة للناس جميعاً من خلال الملك الكافر واعوانه.
ومن مفاهيم الآية انها دعوة للتفكر فيما على الأرض من معالم واعمار وخراب، وعدم تضييع أي مناسبة يمكن ان توظف للهداية والرشاد، وتمنع الآية من اليأس والقنوط ولزوم استحضار الآخرة واهوال الآخرة.
ان قدرته تعالى على الإحياء امر لا ينحصر بيوم القيامة وعالم البعث والنشور بل ان الإماتة والإحياء امر ممكن في أي ساعة من ساعات الدنيا وايامها.
ان الإنسان بذاته آية ولكــن هذه الآية تخــبر عن آيات مستحدثة متفرعة من ذات الآية بلحاظ الإعجاز الإضافي الذي تمثل بالإماتة والإحياء المتأخر زماناً عن الإماتة والآية تنهى في موضوعها وأحكامها عن مفاهيم الشرك وتحذر من الضلالة والجحود.
ومن مفاهيمها انها تحذر من الشك في قدرته والتعدي بالتساؤل المنافي لأدب العبودية ولزوم التســليم بعظيـم قدرته تعالى وصحة الأخبار عن البعث والنشور وان بعث الإنسان بالأولوية.
موضوع الآية
في الآية اخبار عن حصول واقعة لشخص ما جاء القرآن لتوثيقها وجعلها آية خالدة وموعظةوعبرة من خلال ذكرها في كتابه الخالد الى يوم القيامة واختلف في الشخص الذي مر على القرية على اقوال:
الأول: انه كافر وشاك في البعث والنشور، ونسب هذا القول الى مجاهد.
الثاني: كان مسلماً، وهو المشهور واختلف في شخصه على اقوال :
الأولى : انه عزير، وبه قال قتادة وعكرمة والسدي، وهوالمروي عن الإمام الصادق عليه السلام.
الثانية : هو ارميا وبه قال ابن عباس وعطاء ووهب، وهو المروي عن الإمام الباقر عليه السلام.
الثالثة : هو الخضر عن ابن اسحاق، وقال ان أرميا هو الخضر.
وروي عن ابن عباس في الآية قال: ان بختنصر قد أقبل هو وجــنوده يريدكم فأرســل الملك إلى أرميا فجاءه فقال يا أرميا الملك أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى اليك ألا هلك أهل بيت المقدس حتى يكــون منك الامر في ذلك فقال أرميا الملك ان ربى لا يخلف الميعـاد وأنا به واثق فلما اقترب الاجل ودنا انقطاع ملكهم وعــزم الله تعالى على هلاكهــم بعث الله عزوجل ملكا من عنده فقال له اذهب إلى أرميا واستفته وأمره بالذى يستفتيه فيه.
فأقبل الملك إلى أرميا قد تمثل له رجلا من بنى اسرائيل فقال له أرميا من أنت قال أنا رجل من بنى اسرائيل أستفتيك في بعض أمرى فأذن له فقال له الملك يا نبى الله أتيتك أستفتيك في أهل رحمى وصلت أرحامهم بما أمرني الله به لم آت إليهم الا حسنا ولم آلهم كرامة فلا تزيدهم كرامتي اياهم الا إسخاطا لى فأفتني فيهم يا نبى الله، فقال له أحسن فيما بينك وبين الله وصل ما أمرك الله أن تصل وأبشر بخير.
قال فانصرف عنه الملك فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذى كان جاءه فقعد بين يديه، فقال له أرميا من أنت قال أنا الرجل الذى أتيتك أستفتيك في شأن أهل رحمي، فقال له نبى الله أو ما طهرت لك أخلاقهــم بعد ولم تر منهم الذى تحب قال يا نبى الله والذى بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمه الا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك.
فقال النبي: ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم واسأل الله الذى يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم وأن يجمعكم على مرضاته ويجنبكم سخطه فقام الملك من عنده فلبث أياما وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجــراد ففزع منهم بنو اســرائيل فزعا شـديدا وشق ذلك على ملك بنى اسرائيل فدعا أرميا فقال يا نبى الله أين ما وعــدك الله فقال إنى بربي واثق.
ثم ان الملك أقبل إلى أرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذى وعده فقعد بين يديه فقال له أرميا من أنت قال أنا الذى كنت أتيتك في شأن أهلى مرتين فقال له النبي أو لم يأن لهم أن يفيقوا من الذى هم فيه فقال الملك يا نبى الله كل شئ كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه وأعلم ان مآلهم في ذلك ســخطى فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضاه الله ولا يحبه قال له النبي على أي عمل رأيتهم قال يا نبى الله رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه من قبل اليوم ولم يشتد غضبى عليه وصبرت لهم ورجوتهم ولكني غضبت اليوم لله ولك فأتيتك لاخبرك خبرهم وانى أسألك بالله الذى هو بعثك بالحق الا ما دعوت عليهم أن يهلكهم الله، قال أرميا يا ملك السموات والارض ان كانوا على حق وصواب فأبقهم وان كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكم.
فلما خرجت الكلمة من في أرميا أرسل الله عزوجل صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبو اب من أبو ابها فلما رأى ذلك أرميا صاح وشق ثيابه ونبذ التراب على رأسه وقال يا ملك السماء ويا أرحم الراحمين أين ميعادك الذى وعدتني فنودى يا أرميا إنه لم يصبهم الذى أصابهم إلا بفتياك التى أفتيت بها رسولنا النبي انها فتياه التى أفتى بها ثلاث مرات وإنه رسول ربه وطار أرميا حتى خالط الوحوش.
ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس فوطئ الشأم وقتل بنى إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس فقذفوا فيه التراب حتى ملؤه ثم انصرف راجعا إلى أرض بابل واحتمل مع سبايا بنى اسرائيل وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بنى اسرائيل فاختار منهم مائة ألف صبى.
فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمهم فيهم قالت له الملوك الذين كانوا معه أيها الملك لك غنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصــبيان الذى اخترتهم من بنى اسـرائيل ففعل فاصاب كل رجل منهم أربعة غلمة وكان من أولئك الغلمان دانيال وحــنانيا وغــزاريا وميشايل وسبعة آلاف من أهل بيت داود وأحد عشــر ألفا من ســبط يوسف بن يعقوب وأخيه بنيامين وثمانية آلاف من سبط أشر بن يعقوب وأربعة عشر ألفا من سبط زبالون بن يعقوب ونفثالى بن يعقوب وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوى ابني يعقوب وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب.
ومن بقى من بنى اسرائيل وجعلهم بختنصر ثلاث فرق فثلثا أقرا بالشام وثلثا سبى وثلثا قتل وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل وذهب بالصبيان السبعين الالف حتى أقدمهم بابل وكانت هذه الوقعة الاولى التى أنزلها الله ببنى اسرائيل باحداثهم وظلمهم.
فلما ولى بختنصر عنهم راجعا إلى بابل بمن معه من سبايا بنى اسرائيل أقبل أرميا على حمار له معه عصير من عنب في ركوة وسلة تين حتى غشى ايليا.
فلما وقف عليها ورأى ما بها من الخراب دخله شك فقال أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام وحماره وعصيره وسلة تينه عنده حيث أماته الله وأمات حماره معه وأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد ثم بعثه الله فقال له [ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ] يقول لم يتغير [ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا].
فنظر إلى حماره يتصل بعض إلى بعض وقد كان مات معه بالعروق والعصب ثم كيف كسى ذلك منه اللحم حتى استوى ثم جرى فيه الروح فقام ينهق ثم نظر إلى عصيره وتينه فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير فلما عاين من قدرة الله ما عاين قال أعلم أن الله على كل شئ قدير، ثم عمر الله أرميا بعد ذلك فهو الذى يرى بفلوات الارض والبلدان.
ثم ان بختنصر أقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم ثم رأى رؤيا فبينما هو قد أعجبه ما رأى إذ رأى شيئا أصابه فأنساه الذى كان رأى فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا وميشايل من ذرارى الانبياء فقال أخبروني عن رؤيا رأيتها ثم أصابني شئ فانسانيها وقد كانت أعجبتني ما هي قالوا له أخبرنا بها نخبرك بتأويلها قال ما أذكرها وإن لم تخبروني بتأويلها لانزعن أكتافكم فخرجوا من عنده فدعوا الله واستغاثوا وتضرعوا إليه وسألوه أن يعلمهم إياها فأعلمهم الذى سألهم عنه.
فجاؤه فقالوا له رأيت تمثالا قال صدقتم قالوا قدماه وساقاه من فخار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضة وصدره من ذهب ورأسه وعنقه من حديد قال صدقتم قالوا فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك فارسل الله عليه صخرة من السماء فدقته فهى التى أنستكها قال صدقتم فما تأويلها.
قالوا تأويلها أنك رأيت ملك الملوك فكان بعضهم ألين ملكا من بعض وبعضهم كان أحسن ملكا من بعض وبعضهم كان أشد ملكا من بعض فكان أول الملك الفخار وهو أضعفه وألينه ثم كان فوقه النحاس وهو أفضل منه وأشد ثم كان فوق النحاس الفضة وهى أفضل من ذلك وأحسن ثم كان فوق الفضة الذهب فهو احسن من الفضة وافضل ثم كان الحديد ملكك فهو كان أشد الملوك وأعز مما كان قبله.
وكانت الصخرة التى رأيت أرسل الله عليه من السماء فدقته نبيا يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الامر إليه.
ثم ان أهل بابل قالوا لبختنصر أرأيت هؤلاء الغلمان من بنى اسرائيل الذين كنا سألناك ان تعطيناهم ففعلت فانا والله لقد انكرنا نســاءنا منذ كانوا مـعنا لقد رأينــا نســاءنا علقـن بهم وصرفن وجوههن إليهم فاخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم قال شأنكم بهم فمن احب منكم ان يقتل من كان في يده فليفعل فاخرجوهم.
فلما قربوهم للقتل تضرعوا إلى الله فقالوا يا ربنا اصابنا البلاء بذنوب غيرنا فتحنن الله عليهم برحمته فوعدهم أن يحييهم بعد قتلهم فقتلوا إلا من استبقى بختنصر منهم وكان ممن استبقى منهم دانيال وحنانيا وعزاريا وميشايل.
ثم ان الله تبارك وتعالى حين أراد هلاك بختنصر انبعث فقال لمن كان في يده من بنى اسرائيل أرأيتم هذا البيت الذى أخربت وهؤلاء الناس الذين قتلت من هم وما هذا البيت قالوا هذا بيت الله ومسجد من مساجده وهؤلاء أهله كانوا من ذرارى الانبياء فظلموا وتعدوا وعصـوا فســلطت عليهم بذنوبهــم وكان ربهم رب السموات والارض ورب الخلق كلهم يكرمهم يمنعهم ويعــزهم فلما فعــلوا ما فعــلوا أهلكهم الله وسـلـط عليهم غيرهم.
قال فأخبروني ما الذى يطلع بى إلى السماء العليا لعلى أطلع إليها فاقتل من فيها وأتخذها ملكا فانى قد فرغت من الارض ومن فيها قالوا له ما تقدر على ذلك وما يقدر على ذلك أحد من الخلائق قال لتفعلن أو لاقتلنكم عن آخركم فبكوا إلى الله وتضرعوا إليه.
فبعث الله بقدرته ليريه ضعفه وهو انه سلط عليه بعوضة فدخلت في منخره ثم ساخت في دماغه حتى عضت بأم دماغه فما كان يقر ولا يسكن حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه فلما عرف الموت قال لخاصته من أهله إذا مت فشقوا رأسي فانظروا ما هذا الذى قتلني.
فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة بأم دماغه ليرى الله العباد قدرته وسلطانه ونجى الله من كان بقى في يديه من بنى إسرائيل وترحم عليهم وردهم إلى الشام وإلى ايليا المسجد المقدس فبنوا فيه وربوا وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه فيزعمون والله أعلم ان الله أحيا أولئك الموتى الذين قتلوا فلحقوا بهم.
ثم انهم لما دخلوا الشام دخلوها وليس معهم عهد من الله كانت التوراة قد استلبت منهم فحرقت وهلكت وكان عزير وكان من السبايا الذين كانوا ببابل فرجع إلى الشام يبكى عليها ليله ونهاره قد خرج من الناس فتوحد منهم وإنما هو ببطون الاودية وبالفلوات يبكى فبينما هو كذلك في حزنه على التوراة وبكائه عليها إذ أقــبل إليه رجــل وهو جالس فقال يا عــزيز ما يبكيك قال أبكى على كتاب الله وعهده كان بين أظهرنا فبلغت بنا خطايانا وغضب ربنا علينا أن سلط علينا عدونا فقتل رجالنا وأخرب بلادنا وأحــرق كتاب الله الذى بين أظهرنا الذى لا يصلح دنيانا وآخرتنا غيره أو كما قال فعلام أبكى إذا لم أبك على هذا.
قال أفتحب أن يرد ذلك عليك قال وهل إلى ذلك من سبيل قال نعم ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك ثم موعدك هذا المكان غدا، فرجع عزير فصام وتطهر وطهر ثيابه ثم عمد إلى المكان الذى وعده فجلس فيه فاتاه ذلك الرجل باناء فيه ماء وكان ملكا بعثه الله إليه فسقاه من ذلك الاناء فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بنى اسرائيل فوضع لهم التوراة يعرفونها بحلالها وحرامها وسننها وفرائضها وحدودها فاحبوه حبا لم يحبوه شيئا قط وقامت التوراة بين أظهرهم وصلح بها أمرهم وأقام بين أظهرهم عزير مؤديا لحق الله ثم قبضه الله على ذلك ثم حدثت فيهم الاحداث حتى قالوا لعزير هو ابن الله( ).
وعدم ذكر اسم المار ولا ملته وصفاته ومدى ايمانه من اعجاز القرآن، والإبهام من وجوه البلاغة.
وفي تفسير القمي عن الإمام الصادق في حديث طويل: “فخرج ارميا على حماره ومعه تين قد تزوده ، وشئ من عصير، فنظر إلى سباع البر وسباع البحر وسباع الجو تأكل تلك الجيف، ففكر في نفسه ساعة ثم قال أنى يحيى الله هؤلاء وقد أكلتهم السباع ، فأماته الله مكانه مائة عام ثم بعثه أي أحياه فلما رحم الله بنى اسرائيل وأهلك بخت نصر رد بنى اسرائيل إلى الدنيا ، وكان عزير لما سلط الله بختنصر على بنى اسرائيل هرب ودخل في عين وغاب فيها.
وبقى ارميا ميتا مائة سنة ثم أحياه الله ، فأول ما أحيى منه عينيه في مثل غرقئ البيض فنظر فأوحى الله إليه [ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا]، ثم نظر إلى الشمس قد ارتفعت فقال [ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ] فقال الله تبارك وتعالى قد[لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ] أي لم يتغير [ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا]، فجعــل ينظــر إلى العظــام الباليــة المنفطــرة تجتــمع إليــه، والى اللحـم الذى قد أكلته السباع يتألــف إلى العظام من هنا وهيــهنــا، ويلتزق بها حتى قام وقام حمـاره، فقال [قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ].
التفسير
تفسير قوله تعالى [ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ ] اطلالة جديدة تبعث النشاط الذهني عند الإنسان وتجعل في آية اعجازية يومية يشهدها الإنسان في سفره، وهي اليوم اعم من السفر اذ تواجه الإنسان حتى في عند حضره واقامته لوسائل الإعلام.
ومن الإعجاز ان هذه الآية جاءت متقدمة في زمانها لتكون سلاحاً ايمانياً يواجه الناس وحرزاً يمنع من الضلالة والإنشغال بالآثار والخراب من غير اعتبار بها، او الميل الى تمجيد الآباء والأجداد والتفاخر بافعالهم وتأريخهم وربما كانوا من الوثنيين والكفار كما هو حاصل في هذا الزمان، فارادت الآية تصحيح القراءة التأريخية للآثار وجعل موضوعية للإيمان في دراستها والبحث التأريخي عنها.
انها دعوة لإضافة الجانب العقائدي والإعتبار من الآثار واتخاذها مناسبة للتدبر والتفكر في النشوء والبعث من جديد فيمكن تسمية هذه الآية (بمدرسة ألآثار) وكل انسان يشاهد في سفره مدناً مندثرة وقرى خربة ومساكن مهجورة تنبأ عن وجود امة او جماعة او حضارة منقرضة وانهم عاشوا مدة من الزمن مباينة ومختلفة عن زماننا الا اننا نلتقي معهم يوم القيامة في محشر واحد وموقف واحد.
وموضوع الكاف في [ْ كَالَّذِي] على وجوه:
الأول: ان الكاف حرف جر زائد، كما في قوله تعالى [ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ]( ).
واستبعد هذا المعنى الطبرسي باعتبار ان الحرف الزائد يأتي للتوكيد ولا يحكم به الا لضرورة.
الثاني : قال جماعة منهم الأخفش والفارسي: يجوز اعتبار كل كاف جارة اسماً فيكون المعنى: (أرأيت مثل الذي مر على قرية).
وقالوا في (زيد اسد) ان الكاف في موضوع رفع خبر للمبتدأ، والأسد مضاف اليه، ورد ابن هشام هذا المعنى وقال لم يسمع “مررت بالأسد” ولكن هذا الإشكال لا يرد على المقام.
الثالث: ان الكاف وردت للتعجب، وبه قال الطبرسي، والأقوى هو المعنى الأول.
بدأت الآية بحرف العطف (أو) وله ثلاث معان هي :
الأول : ان يكون عنوان الدوران بين شيئين او اشياء متعددة نحو قوله تعالى [ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ]( ).
الثاني : ان يكون لمطلق الجمع كالواو، كما في قول الشاعر:
قوم اذا سمعوا الصريخ رأيتهم
ما بين ملجم مهره او سافع
أي رأيتهم بين هذا وذاك، والسافع أي الآخذ بناصية الفرس من غير لجام، وقد تكون أوكد من الواو كما في قوله تعالى [ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا]( )، يقال: سفعت بالشيء أي اخذته وجذبته جذباً شديداً.
الثالث : يأتي للإضراب بمعنى (بل) في توسعة الكلام، واستشهد الفراء وغيره بقوله تعالى[ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ]( )، ومعنى الآية أعم وقال ذو الرمة:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى
وصورتها، أو انت في العين أملح
الرابع : يأتي (او) للشك والإبهام، ومن الشك صليت الظهر أو العصر، ومن الإبهام قوله تعالى[ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
وذكرت لها معان اخرى منها الإباحة ومرادفة (الا) ومرادفة (الى) والشرط والتبعيض، وتعرف هذه المعاني بلحاظ القرائن وملابسات الكلام الا انها لا تتعارض مع المعاني الأخرى للحرف فقد يكون له اكثر من معنى، وفي هذه الآية يمكن ان يكون التفسير على وجوه :
الأولى : ان شئت فانظر في قصة ابراهيم واحتجاجه وجحود الملك وبهته، وان شئت فتدبر في قصة الذي مرّ على القرية الخاوية على عروشها.
الثانية : انظر في الآيات المتعددة والقصص المختلفة التي تؤدي مجتمعة ومتفرقة الى اثبات وجود الصانع.
الثالثة : اذا كان احتجاج ابراهيم مع الملك جاء بذكر آيات حسية تتعلق بالآفاق والوجود الذهني وادت الى بهت الكافر، وفيه حجة وبرهان لكل عاقل فان هذه الآية تتضمن الآيات الحسية الملموسة.
والخطاب في الآية متوجه الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كرسول ونبي ولعموم أهل الأرض، ولكنه انحلالي موجه الى كل مسلم بل الى كل انسان ذكراً كان او انثى للإعتبار والإتعاظ والتزود بمقدار ضروري من المعرفة الإلهية والتفقه في علم التوحيد واحكام التكاليف ليكون طريقاً للإيمان والإلتزام بسنن التشريع وأحكام الفرائض.
ان هذه الآيات رحمة الهية تتغشى المسلمين من خلال القرآن لما فيها من الدروس والعبر والحجج وآفاق المعرفة، انها سياحة في عالم التوحيد ومسالك الرشاد وجاءت من باب المثال والتذكرة بالشواهد الكثيرة التي تواجه الإنسان في ليله نهاره واقامته وسفره لتذكره بوظائفه وواجباته وتساعد المؤمن وتزيد من ايمانه وتخزي الكافر وتدحض مغالطته وتفضح شبهته.
واختلاف المفسرين في هوية الذي مر على القرية وهو مسلم او أخص كونه احد الأنبياء ام لا انه كافر لا يخلو من نكات مستقرأة من ظاهر الآية باعتبار ان المدار على موضوع الآية وما فيها من العبر والموعظة وان كل انسان في معرض رؤية حال الخراب والقرى التي باد اهلها وانقرض سكانها، فالآية جواب عن سؤال يطرأ على الذهن في الإحياء بعد الإماتة وهذا السؤال قد يصدر عن مسلم يؤمن بيوم الحساب بدليل انه يعترف ضمناً بان الله عز وجل هو الذي يحيي هذه القرى.
وهذا الإحياء اعم من معنى بعث الأرواح والناس من جديد للحساب، باعتبار ان بعث القرى يعني ارجاع حال الناس الى ما كانوا عليه في الدنيا سواء بقيام هذه الأشياء بالشهادة عليهم او لإتمام الحجة واستحضار الوقائع والأحداث او لبيان عظيم قدرته تعالى ورؤية الخلائق للآيات.
والقائل بان الذي مر على االقرية كافر احتج بوجوه:
الأول: قوله تعالى [ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ] وانه يفيد استبعاد الإحياء من الله عز وجل بعد الإماتة، ولكن الكلام يحتمل وجوهاً اخرى وهو انه:
الأولى : سؤال عن كيفية الإحياء بعد الإماتة وليس انكار الإحياء اصلاً.
الثانية : الإستفهام عن اوان وزمان الإحياء وهل في عالم الدنيا ام في الآخرة ومتى يكون في دوران الفلك.
الثالثة : ينتظر المؤمن يوم القيامة لقيام الحجة على الكافرين وعلى اولئك الذين لا يؤمنون بالبعث والنشور.
واذا ورد الإحتمال بطل الإستدلال.
الثاني: قوله تعالى [فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ] وهذا يدل على مجيء وحصول التبيان بعد رؤية الآية، وهذا ضعيف ايضاً لما يرد عليه من وجوه منها :
الأولى : احتمال كون التبيين نوع اكرام له وهو الأرجح، لأنه تخصيص وتشريف ومشاهدة خاصة للآيات.
الثانية : التبيين اعم من حصوله ابتداء ولكنه تعلق بموضوع مخصوص وقيام حجة معينة.
الثالثة : ان التبيين لطف واحسان منه تعالى.
الثالث: مجيء الآية بعد ذكر قصة نمروذ وكفره وعناده والجواب عليه من وجوه:
أولاً: ان المعنى السياقي لا دلالة له على المقارنة والتشابه الا بلحاظ القرائن وحضور وجوه الشبه.
ثانياً: ان الآية السابقة حكت قصة محاججة ابراهيم مع نمروذ فهي نوع مفاعلة واختلاف عقائدي بين الإيمان والكفر ولا تتعلق بالجحود والكفر وحده، كما انها اكدت انتصار الحق والإيمان.
ثالثاً: اكدت خاتمة الآية السابقة تحير وسكوت نمروذ واخبرت عما لحقه من الخزي، اما هذه الآية فجاءت بالإخبار عن ايمان الذي مرّ على القرية مع احتمال ان تكون قصة هذا المار مشابهة لإحتجاج ابراهيم عليه الســلام، ومع التـعارض بين الإحــتمالين يكــون التسـاقط.
ان موضوع الآية قضية في واقعة، اراد الله عز وجل منها ان تكون درساً وعبرة للناس جميعاً فهو آية للشخص ولأهل زمانه، وهم على قسمين:
الأول: الذين كانوا معه في ايام حياته.
الثاني: الذي عاش معهم بعد بعثه واحيائه.
والآية تتعلق بالقسم الثاني بصوره اوضح واجلى لأنه عاش معهم وهو من الطبقة السابقة والجيل المنقرض، ولا تختص الآية باحيائه بل ببيان وتفصيل احوال الأمم المنقرضة وحياتها وديانتها ومعايشها واشخاص وطبائع افرادها وتثبيت الأنساب وذكر الدول والمجتمعات واحوال الناس واجراء دراسة مقارنة بينها واختيار الأفضل والأحسن للمجتمع والأفراد، بمعنى ان الآية اصلاح للمجتمعات وتهذيب للنفوس.
وهذا الأمر من مرجحات كون الشخص المار على القرية نبياً، وهذا القول منا يفتح آفاقاً جديدة في عالم النبوة ويظهر آيات ومعجزات ذاتية ملازمة لفلسفتها ووجودها في الأرض فشخص النبي يختفي سنوات عديدة على نحو خارق للعادة ثم يأتي لمجتمع جديد بعد ان انقرض اهل زمانه وتغيرت العادات والعملات والممالك ولكن الحق وحده هو الباقي.
وقد جاء القرآن بقصة اهل الكهف وكيف ان الله عز وجل بعثهم من رقودهم بعد اكثر من ثلاثمائة سنة، ولكن هذه الآية جاءت على نحو القضية الشخصية وليس من طلب وراء الذي مرّ على القرية.
انه من تعدد الآيات واظهارعظيم قدرته سبحانه وزيادة البراهين والحجج واداء النبي لوظائف مركبة وقيامه بالجهاد المتعدد في زمـانه وصيغة وافراده وخصوصياته، فمرة يبعث سبحانه نبياً لكل زمان ولكل امة، ومرة يبعث ذات النبي لأمتين معاً، ولابــد ان هذا التباين له خصـوصيات واسباب تتعلق بالزمان واهله وكيفية دعوتهم الى الإيمان، فبعثة نبي من الأمة المنقرضــة اكثر حجــة على الناس واقــوى في البرهــان والدعوة الى الله.
ولعل في سياق الآيات ومجيء هذه الآية بعد آية نمروذ دلالة على عتو اهل الزمان الذي بعث فيه هذا النبي وانهم احتاجوا نبياً يكون آية في شخصه وحياته ولا يتحداهم بالبرهان لأنه يتعرض الى القتل في الحال كما حصل مع ابراهيم في اعداد الحطب لحرقه او مع عدد كثير من انبياء بني اسرائيل، فهو لا يدعوهم الى الإيمان بالتحدي وابطال ما يذهبون اليه من مضامين الكفر، بل انه بذاته آية عقلية وحسية ظاهرة تلح على كل انسان وتدعوه للتدبر والتأمل والتفكر في بديع خلقه تعالى، بالإضافة الى ما يظهر عليه من الدعوة الى الله في سمته وسيرته وفعله، ويدل على ذلك قوله تعالى [وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ].
فلفظ الناس يفيد الاطلاق وما هو أعم في زمانه ومكانه، فكما يرد في القرآن خطاب [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ ] ويراد منه المسلم وغير المسلم وفي كل زمان، كذلك هذه الآية فهي خطاب متجدد لكل أهل الأرض الموجود منهم والمعدوم.
والــذي قال أن الذي مــرّ على القــرية وهــو أرمياً إذ بعثــه الله عــز وجل إذ بعثه الله عز وجل نبياً إلى بني إسرائيل، وأوصى إليه إن ذكرّ قومك نعمي وعرّفهم أحداثهم فادعهم إليّ.
فقال أرميا : إنّي ضعيف إنّ لم تقوّني عاجز إن لم تنصرني، فقال الله تعالى : أنا ألهمك، فقام أرميا فيهم ولم يدر ما يقول، فألهمه الله عزّ وجلّ في الوقت خطبة بليغة طويلة بيّن لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية.
وقال في آخرها : وإنّي أنا الله بعزتي لأقضين لهم فتنة يتحيّر فيها الحليم ولأسلطنّ عليهم جبّاراً قاسياً ألبسه الهيبة وأنزع من قلبه الرحمة يتّبعه عدد مثل سواد الليل المظلم فأوحى الله تعالى إلى أرميا : إنّي مهلك بني اسرائيل بيافث ويافث، أهل بابل وهم من ولد يافث بن نوح، فلمّا سمع ذلك أرميا صاح وبكى وشقّ ثيابه ونبذ الرماد على رأسه فلما سمع الله تضرّع أرميا وهو الخضرج وبكاه ناداه: يا أرميا أشق عليك ما أوحيت إليك؟
قال : نعم يارب، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسرّ به فقال الله عزّ وجلّ: وعزّتي لا أهلك بني اسرائيل حتّى يكون الأمر في ذلك من قبلك، ففرح بذلك أرميا وطابت نفسه، وقال : والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني اسرائيل، ثم أتى الملك فأخبره بذلك وكان ملكاً صالحاً فاستبشر وفرح وقال : إن يُعذّبنا ربّنا فبذنوب كثيرة لنا وإنّ عفا عنّا فبرحمته.
ثم إنّهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلاّ معصية وتمادياً في الشر وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي ودعاهم الملك إلى التوبة فلم يفعلوا، فسلّط الله عليهم بخت نصّر فخرج في ستمائة ألف راية تريد أهل بيت المقدس، فلما فصل سائراً أتى الخبر الملك فقال لأرميا : أين مازعمت أن الله أوحى إليك؟
فقال أرميا: إنّ الله لا يخلف الميعاد وأنا به واثق فلما قرب الأجل وعزم الله تعالى على هلاكهم، بعث الله إلى أمريا مَلَكاً قد تمثّل له رجلاً من بني إسرائيل، فقال : يا نبي الله أستعينك في أهل رحمي وصلت أرحامهم ولم أت إليهم إلاّ حيناً ولا يزيدون مع إكرامي إياهم إلاّ اسخاطاً لي فأفتني فيهم، فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله وصلهم وأبشر بخير.
فانصرف المَلَك فمكث أياماً ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل فقعد بين يديه، فقال له أرميا : أوماظهرت أخلاقهم لك بعد؟ قال: يانبي الله والذي بعثك بالحقّ ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمة إلاّ قدّمتها إليهم وأفضل.
فقال النبي: أرجع إلى أهلك وأحسن إليهم واسأل الله تعالى الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم، فقام المَلَك فمكث أياماً وقد نزل بخت نصر وجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجرّاد ففزع بني اسرائيل وشقّ عليهم.
فقال المَلِك لأرميا : يا نبي الله أين ما وعدك الله؟ قال : إنّي بربّي واثق.
ثم أقبل المَلَك إلى أرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس فضحك واستبشر بنصر ربّه الذي وعده فقعد بين يديه وقال: أنا الذي أنبأتك في شأن أهلي مرّتين فقال النبيّ: ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال المَلَك : يانبي الله كلّ شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم أصبر عليه فاليوم رأيتهم في عمل لا يرضى الله عزّ وجلّ به.
فقال النبي : على أي عمل رأيتهم؟
قال : عمل عظيم من سخط الله فغضبت لله ولك وأتيتك لأخبرك وإنّي أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلاّ ما دعوت الله عليهم ليهلكهم.
فقال أرميا : يا مَالك السماوات والأرض إنّ كانوا على حق وصواب فابقهم وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم.
فلما خرجت الكلمة من فم أرميا أرسل الله عزّ وجلّ صاعقة من السماء في بيت المقدس والتهب مكان القربان وخسف سبعة أبواب من أبوابها، فلما رأى ذلك أرميا صاح وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه، وقال : يا مَالك السماوات والأرض أين ميعادك الذي وعدتني؟
فنودي أنّه لم يصبهم الذي أصابهم إلاّ بفتياك ودعائك،
فاستيقن النبيّ أنّها فتياه التي أفتى بها، وأنه رسول ربه.فطار أرميا حتّى خالط الوحوش، ودخل بخت نصّر وجنوده بيت المقدس ووطىء الشام وقتل بني إسرائيل حتّى أفناهم وخرّب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كلّ رجل منهم ترسه تراباً ثم يقذفه في بيت المقدس فقذفوا فيه التراب حتى ملاؤه، ثم أمرهم أن يجمعوا مَنْ كان في بلدان بيت المقدس كلّهم فاجتمع عنده كلّ صغير وكبير من بني إسرائيل واختار منهم مائة ألف صبي فقسّمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كلّ رجل منهم أربعة أغلمة، وفرّق بخت نصّر مَنْ بقى من بني إسرائيل ثلاث فرق : فثلثاً أقرّ بالشام، وثلثاً أسر، وثلثاً قتل
فكانت هذه الواقعة الأولى التي أنزلها الله ببني إسرائيل بظلمهم فلما ولّى بخت نصّر عنهم راجعاً إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل، أقبل أرميا على حمار له معه عصير عنب في زُكرة وسلّة تين حتّى أتى ايليا فلما وقف عليها ورأى خرابها قال : {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ خاوية})( ).
وذكرت في الذي مرّ على القرية أقوال:
الأول: نبي الله عزير بن شرخيا وهو المروي عن ابن عباس( )، وهو مشهور المفسرين.
الثاني: أنه النبي أرميا، وبه قال وهب، وعن أبي بصير عن الإمام جعفر الصادق في الآية قال: إن الله بعث على بنى إسرائيل نبياً يقال له إرميا، فقال : قل لهم ما بلد تنقيته من كرايم البلدان ، وغرس فيه من كرايم الغرس ونقيته من كل غريبة فاخلف فانبت خرنوبا قال : فضحكوا وإستهزئوا به فشكاهم إلى الله ، قال : فأوحى الله إليه: أن قل لهم إن البلد بيت المقدس والغرس بنو إسرائيل تنقيته من كل غريبة ونحيت عنهم كل جبار فأخلفوا فعملوا بمعاصى الله فلاسلطن عليهم في بلدهم من يسفك دمائهم وياخذ أموالهم ، فان بكوا إلى فلم أرحم بكائهم وان دعوا لم أستجب دعاءهم ـ فشلتهم وفشلت ـ ثم لاخربنها مائة عام ثم لاعمرنها ، فلما حدثهم جزعت العلماء
فقالوا : يا رسول الله ما ذنبنا نحن ولم نكن نعمل بعملهم ؟ فعاود لنا ربك ، فصام سبعا فلم يوح إليه شئ فأكل أكلة ثم صام سبعا فلم يوح إليه شئ فأكل أكلة ثم صام سبعا فلما أن كان يوم الواحد والعشرين أوحى الله إليه لترجعن عما تصنع أتراجعنى في امر قضيته او لاردن وجهك على دبرك؟ ثم أوحى اليه قل لهم : لأنكم رأيتم المنكر فلم تنكروه ، فسلط الله عليهم بخت نصر فصنع بهم ما قد بلغك، ثم بعث بخت نصر إلى النبي فقال: أنك قد نبئت عن ربك وحدثتهم بما أصنع بهم فان شئت فأقم عندى فيمن شئت وان شئت فاخرج فقال : لا بل أخرج فتزود عصيراً وتيناً وخرج ، فلما أن غاب مد البصر إلتفت إليها فقال: “انى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام “أماته غدوة وبعثه عشية قبل أن تغيب الشمس.
وكان أول شئ خلق منه عيناه في مثل غرقئ البيض ثم قيل له: ” كم لبثت قال لبثت يوما” فلما نظر إلى الشمس لم تغب قال: “أو بعض يوم قال بل لبثت مأة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ” قال: فجعل ينظر إلى عظامه كيف يصل بعضها إلى بعض ويرى العروق كيف تجرى ، فلما أستوى قائماً قال: “أعلم أن الله على كل شئ قدير)( ).
الثالث: إنه الخضر وهو قول ابن إسحاق( ) وفيه مسائل:
الأولى: وبه قال ابن عطية، قال ابن عرفة : هذا بناء منه (أي ابن عطية) على أنّ الخضر عليه السلام مات والنّاس يقولون : لم يزل حيا إلى الآن ( ).
الثانية: المراد من الخضر صاحب موسى أبقاه الله حياً.
الثالثة: اسم الخضر موافق للخضر الذي كان صاحباً لموسى كما في سورة الكهف[فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا]( ).
الرابعة: قال ابن إسحاق: أرميا هو الخضر.
الرابع: عن مجاهد هو رجل كافر شك في البعث)( ).
ولكن الآية تنفي بدلالتها التضمنية هذا المعنى من جهات:
الأولى: إقرار المتعجب بالتوحيد لذكره الله عز وجل في موضوع إحياء الموتى.
الثانية: جاء السؤال للذات ومع النفس.
الثالثة: لم يأت السؤال بخصوص الناس وبعثهم، بل ورد بخصوص القرية، وصحيح إمكان إرادة بعث الناس، ولكن إنتقال المعنى من الحقيقة إلى المجاز يحتاج إلى قرينة كما في قوله تعالى[وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ]( )، فإن السؤال إلى القرية لا يصح، فحمل المعنى على إرادة حذف المضاف وحصول الإحتجاج بسؤال أهل القرية، والمختار في الآية أعلاه جمع هذا اللفظ بين الحقيقة والمجاز فيجوز سؤال النبي لذات القرية .
أما آية البحث فالمعنى فيها أعم ويشمل أهلها الذين بادوا، وأطلال تلك القرية وإعادة بيوتها التي سقطت سقوف أبنيتها على الجدران.
الرابعة: إكرام الله عز وجل للسائل المتعجب بأماتته مائة عام ثم بعثه من جديد.
الخامسة: تشريف الله عز وجل للمتعجب بسؤال الله عز وجل له عن طول مكثه، مع تعدد مواضيع كلام الله عز وجل معه، وكل واحد منها برهان وحجة حسية ظاهرة.
السادسة: حفظ المتعجب في ماله ودابته وشرابه.
السابعة: إرادة جعله آية من الله عز وجل، وشاهداً على عصره وإعانة الناس بإقتباس الدروس من التباين والمقارنة بين زمانين بينهما أكثر من مائة، والأكثر هنا بلحاظ بقائه حياً مدة بعد بعثه.
الثامنة: أختتمت الآية بقوله تعالى[قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]، وفيه دلالة على إيمان الذي تعجب من كيفية إحياء الموتى، وإستغراق إيمانه للزمن الماضي والحاضر فعندما تجلت له كيفية الإحياء بعد الموت، لم يقل(علمت) كما قال فرعون عندما أوشك على الغرق والهلاك[قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ* أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ]( ).
التاسعة: أختتمت آية السياق بذم الذين يظلمون أنفسهم بالإصرار على الكفر، وجاءت آية البحث لبيان موضوع آخر.
فإن قلت يفيد إبتداء آية البحث بحرف العطف(أو) والجواب العطف جهتي بلحاظ بيان أحسن القصص والمواعظ للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، خصوصاً وأن الحرف(أو) يفيد الترديد الذي يدل على التعدد والتباين كما في كفارة اليمين التخييرية ثم التعيينية قال تعالى[فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ]( ).
العاشرة: لقد جعل الله هذا البعث موعظة وعبرة بقوله تعالى في آية البحث(ولنجعلك آية للناس) ومن مصاديق الآية في المقام أنه شاهد على عصر وجيل من الزمان منقرض، فلابد أن يكون الشاهد أميناً عادلاً مخلصاً.
الحادية عشرة: كانت آية الإحياء معجزة متعددة والمعجزات من إختصاص الأنبياء لما فيها من التحدي والأمر الخارق للعادة.
الثانية عشرة: دلالات قوله تعالى(ولنجعلك آية للناس)أعم من الإحياء فقد أراد الله عز وجل أن يجعله داعية إلى الله، وحجة في بديع صنعه، قال تعالى في عيسى عليه السلام[وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا]( ).
الثالثة عشرة: إكرام السائل برؤيته نشوء العظام، وعودة الحياة من جديد للدابة.
الرابعة عشرة: تكرر الأمر الإلهي(أنظر) ثلاث مرات في الآية الكريمة، وكلها متوجهة إلى السائل، وفيها آية من الإكرام والتشريف، وإخبار عن لزوم دعوته إلى الله عز وجل بين الناس.
الخامسة عشرة: قوله تعالى[أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا] إقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل، وتسليم بأن الله تعالى هو الذي يحي الموتى.
السادسة عشرة: يدل التساؤل عن إحياء القرية على الإعتراف بالعلة الغائية لهذا الإحياء وهي الوقوف بين يدي لله للحساب وأن هذا الحساب حاضر في الوجود الذهني للسائل.
السابعة عشرة: لما ذكرت الآية السابقة جحود وعتو نمرود في ملكه وإدعائه الربوبية، وإحتجاج إبراهيم عليه بقدرة الله عز وجل على الإحياء والموت، جاءت هذه الآية لتبعث السكينة في نفوس المسلمين وتبين حتمية زوال الطغيان والجحود، بأن يأتي من يسأل عن كيفية الإحياء فيميته الله مائة عام ليكون آية وموعظة وعبرة.
وتبين هذه الآية أنه لم يكن هناكمن يحتج ويقيم البرهان فإن الله عز وجل هو الذي يتولى بيان الحجة بالمصداق العملي الملموس ذي النفع العام.
الثامنة عشرة: جاءت الآية اللاحقة في سؤال إبراهيم عليه السلام لله عز وجل بإحياء الموتى، وصدور هذا السؤال عن هداية وإيمان، وفيه دلالة مجيء التساؤل عن كيفية إحياء الله للموتى الوارد في هذه الآية من منازل الإيمان والإقرار بأن الله عز وجل قادر على إحياء الموتى.
التاسعة عشرة: من إعجاز السياق مجيء الآية السابقة بتأكيد إبراهيم بحضرة الظالم بأن الحياة والموت بيد الله، وأنه تعالى يحي الموتى، ومجيء هذه الآية بالسؤاعن كيفية الإحياء، وإخبار الآية التالية عن آية الإحياء الآني للطيور بعد ذبحها للنفع العظيم في آية إحياء الميت وبعثه بعد مائة عام.
تفسير قوله تعالى [عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا]
القرية موضع سكن جماعة من الناس ومجمع بيوتهم ومساكنهم، وقد تطلق على المصر الجامع، ووصفت مكة في القرآن بانها قرية قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ]( )، واختلف في القرية الوارد ذكرها في هذه الآية على اقوال :
الأولى : انها ايلياء وهي بيت المقدس، وبه قال قتادة ووهب وعكرمة.
الثانية : الأرض المقدسة عن الضحاك.
الثالثة : القرية التي خـرج منها الألوف حذر الموت، عن ابن زيد.
لقد ذكرت مادة (قرى) في القرآن ست وخمسين مرة تتضمن اكثرها صيغة الإنذار والتخويف والعقاب، ومنها هذه الآية فانها تذكير بالموت والفناء سواء بالإنعدام الشخصي بالموت، او النوعي باندثار البلدة وانقراض اهلها او عزوفهم عنها.
وتنقل الآية قارئ القرآن الى واقع قصتها وتجعله يستحضر في ذهنه صورة قرية او بلدة كبيرة او صغيرة مرّ عليها وبيوتها ساقطة وخالية من سكانها، كما انه يستحضر الآية عندما يمر على قرية او خرائب ودور بالية باد اهلها او هجرتها ذراريهم، وفي زمن العولمة يكون هذا الإستحضار اكثر واقعية وظهوراً، فقد يرى الإنسان هذه القرية في الصور او أجهزة الإعلام المسموعة والمقروءة، فيعيدنا الواقع اليومي الى القرآن كما يضفي القرآن على هذه الصور والمشاهد صبغة عقائدية تكون وسيلة للتدبر والتفكر والإتعاظ، والإنسان يعلم بفطرته انه لابد وان يتعرض لما اصاب غيره بمفارقة الحياة.
انها سياحة ضمن التصور والوجود الذهني الذي يقرب المفاهيم الكلية بالشواهد المحسوسة، واستحضار المدركات العقلية بالواقع العملي الذي يراه كل انسان ويستطيع ان يستنتج منه الدروس والعبر.
انها مدرسة القرآن التأديبيــة التي تجــعل من الحــياة الدنيا حلقة للدرس وجامعة متنــقلة تتخذ من معالم الأرض وحالات الناس وآيات الآفاق برهاناً وموعظة ومناسبة للتدبر في الخلق واســتظهار النتائج التي تكون وسيلة للصلاح والإصلاح والرشاد.
ومن الآيات والشواهد ما لا يلتفت اليها الإنسان بسبب العادة والإعتياد ويغفل عن لزوم الإلتفات لها فتأتي الآية القرآنية تذكيراً له وتنبيهاً ودعوة للإعتبار وتحذيراً من الغفلة وما تجلبه على الإنسان من الضرر والأذى، فهذه الآية رحمة مزجاة وهبة سماوية مركبة من امرين:
الأول: وجود الشواهد من الآثار والخراب الى جانب العمران، وهي حالة موجودة في كل زمان ومكان.
الثاني: مع الإرتقاء العلمي وبدل ان يميل الناس الى ازالتها ومحوها والقيام بتجديد البناء على ارضها باحدث كيفية وطريقة خصوصاً مع توفر اسباب وصيّغ حديثة للبناء فانهم يبالغون بحفظ تلك الأطلال والعروش على حالها والتفاخر بوراثتها والانتساب اليها، ومع رخصها، وامكان الحصول عليها من غير بدل، وعدم وجود اهل لها وزهد الناس بها، لم يفكرأحد باحيائها واعمارها بل اتجه الناس الى العناية النوعية العامة بالآثار التأريخية وتعاهدها والحرص عليها والاعتزاز بها كتراث وتأريخ وتسخير وسائل الإعلام والنشر لحث الناس على زيارتها، وهذا كله من مصاديق هذه الآية الأرضية الأنسية، وفيه دليل على بقاء موضوع كل آية قرآنية الى يوم القيامة، فالآثار والعروش الخاوية والحيطان المندرسة شواهد على العصور والأزمنة السالفة.
واندفاع وحرص الدول والمؤسسات الثقافية والانسانية والإعلامية على تعاهدها وكثرة زوارها وما تدره من أموال اسباب ســماوية لجعــلها آيــة باقيــة ودرساً وموعظة للناس جميعاً.
وهذه الآية دعوة لفلسفة اسلامية في علم الآثار وتوجيه الأفكار نحو الإعتبار العقائدي منها بما يؤدي الى زيادة الإيمان والصلاح.
وهذه الدعوة مطلقة في موضوعها فهي موجهة للناس جميعاً ولا يشترط تقييدها بارادة دخول الإسلام، وموافقة لما جاءت به كل الكتب والديانات السماوية لأنها مناسبة للتدبر في عظيم قدرته تعالى، ودلالة واقعية على ضعف الإنسان منفرداً ومتحداً وحاجته وعدم قدرته على حفظ نفسه او تعاهد نسله او بقاء مجده.
واذا كانت الجماعة والأمة والقرية واهل البلدة قد تعرضت للمحو والزوال، فمن باب اولى ان يتعرض الإنسان كفرد الى الزوال ويؤيده حصول الموت وعدم استثناء شخص ما منه، وهذه المقدمة تقود الى نتيجة حتمية وهي ضرورة وجود مدبر للخلق ولزوم اللجوء اليه.
وبذا تكون هذه الآثار والقرى الخاوية على عروشها والاطلال البالية من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( )، فهي آية تدل على وجود الصانع سواء بذاتها او بواسطة دلالتها على ضعف الإنسان وحاجته الى من يتعاهد شؤونه ويحفظه في ماله وذريته وثروته.
وانه مع الإرتقاء العلمي تأخذ مصاديق هذه الآية القرآنية صوراً علمية ملائمة لصيّغ التفكير في هذا الزمان وتكون اكثر نفعاً، ففي هذا الزمان يكون اطلاع الناس على الآيات بصورة اكثر اتساعاً وأوضح بياناً وأسهل طريقة واقرب الى الأذهان، ومنها معــاني الآثــار وايلائها عــناية خاصة ووجود منظمات تعــتني بها وتدعــو للمحافظــة عليها وتكون مجتمعة ومنفردة اســباباً لتبــقى القـصــة حيــة متجــددة وشــاخصة أمــام كل انسان.
فمن اعجاز هذه الآية ان موضوعها يتعلق بشخص واحد بينما يكون كل انسان في هذا الزمان ذكراً او انثى هو الذي يمر على هذه القرية برؤية الآثار وعرض وسائل الإعلام المرئية حالات القرى والمدن ليراها الناس كافة.
فلا غرابة ان يكون من اعجاز الآية عدم الإتفاق على هوية الذي ذكرت مروره على تلك القرية وهل هو نبي او احد المؤمنين مطلقاً ام انه كافر، فكل انسان يرى هذه الآيات وتتعد هذه الآية الرؤية في عالم اليوم والآثار واقعاً في السفر وبواسطة كل الإعلام والكتب والصحف للتذكير ورأفة منه تعالى بالناس، فمع تزاحم الأمور والأعمال وكثرة التأثير على الإنسان واغواء الشيطان يتفضل سبحانه بتعدد الآيات وكثرتها، فمثلاً كان الإنسان يكثر من التأمل في عالم النجوم والكواكب في الليل ويعتبر من الآيات طوعاً وقهراً وانطباقاً.
عن الصادق عليه السلام: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤتى بطهور فيخمر عند رأسه ويوضع رأسه ويوضع سواكه تحت فراشه ثم ينام ما شاء الله فاذا استيقظ جلس ثم قلب بصره الى السماء وتلا الآيات من آل عمران [ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ ]( )، ثم يستن ويتطهر، ثم يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءته ركوعه، وسجوده على قدر ركوعه، يركع حتى يقال: متى يرفع رأسه ؟
ويسجد حتى يقال: متى يرفع رأسه. ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ثم يستيقظ ويجلس ويتلو الايات من آل عمران ويقلب بصره في السماء، ثم يستن ويتطهر ويقوم إلى المسجد ويصلى الركعتين ثم يخرج إلى الصلاة ( ) “
انها دعوة للتدبر في آيات الآفاق وأسرار السماء، والآن اخذت الحياة المدنية صبغة جديدة وارتقى الإنسات في سكنه ومبيته الى البناء والمسقفات المحكمة وعالم التكييف والتدفئة والتبريد، فقد يغفل عن سحر وجمال وهيبة آيات السماء الليلية احياناً فجعل الله الآيات تصل الى بيوتهم بواسطة الإعلام المرئي والمقروء وان كان شطره من اسباب المنكر.
ولفــظ العروش وهــو جمع عــرش فيه اشــارة الى العز والرفعة التي كان يتمتع بها اهلها وساكنوها في بيوتهم وبين اهليهم واولادهم وما يمثله الإستقرار والأمن من ملك ونوع ســلطان، ليكــون التذكير بـهـا حثـاً على التأمل وزيادة في الإعتبار.
كما ان مجيء لفظ العروش بصيغة الجمع يؤكد ما كانوا يتنعمــون به من الســيادة والجــاه والوقار لمنع غرور الإنسان وليعلم ان الذي كان عند من سبقه اكثر مما عنده، وهو دعوة للتواضــع والإنقياد للأوامــر السـماوية واجتناب النواهي الشرعية.
لقد جعل الله عز وجل العقل رسولاً باطناً ينبه الإنسان الى الآيات التي تدل على وجود الصانع واعانه بالدلالات والبراهين الثابتة منها والمتحــركة، والمسـتقرة والمتزلزلة والكونية والطارئة التي هي من فعل الإنسان ومنها القرى المندرسة والتي انقرض اهلها.
كما ان الآية لا تنحصر بالقرى والمدن بل تشمل كل خربة مهجورة، لذا تجد في كل مدينة من العالم بعض الخربات المتروكة التي تحكي قصة اسرة وذراري متعاقبة بادت وهلك افرادها او ان حالهم تغير وانتقلوا الى موضع او بلد آخر، وهذا المشهد يعطي صورة للدنيا بانه لابد من تركها ومغادرتها، ولا ينحصر موضوع التساؤل بذات القرية وابنيتها بل انه يشمل اهل القرية الذين بادوا كما في قوله تعالى [ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا]( ).
فالمراد اهل القرية بحذف مضاف ويدل عليه ان الإماتة جرت على شخصه، كما ان إماتة الحمار ثم اعادة خلقه من جديد امارة على ان البعث في الآخرة لا ينحصر بالناس.
كما تبين هذه الآية شرف الإنسان بين الكائنات واهليته لخلافة الأرض واعمارها وبنائها وازدهارها والتنعم بخيراتها والتصرف الحسن بها واخراج بهائها ومعالم زينتها، وكيف انه اذا غادرها عادت خراباً.
فكأن الاية تخبر عن طي الأرض عند البعث لأنها وجدت لسكن الإنسان [ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ ]( )، وتظهر اهمية الإنسان في عالم الخلائق وحاجتها اليه وهو الذي يزين الأرض لأهل السماء بعبادته وصلاحه واعماره للأرض، فهذه القرى تذكرة بعالم السكون وحياة البرزخ والإنتقال من الدنيا الى الحساب والسؤال وعرض الأعمال.
وفي الآيــة تقريب لحال الإمــاتة والإحيــاء كمصداق من الصيّغ الاعجازية في القرآن بتقريب المعقول بالباسه لباس المحسوس.
ومن وجوه تأويل قوله تعالى [ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا] ان مساكن القرية وسقوفها سقطت وتهدمت ولكن اشــجارها بقيت معــروشــة في آيـة منه تعالى وللحجة ولفت الإنتباه ولتكون فيـها موعظة بان الإنسان يموت ويبقى ذكره وعمله.
وعمله ينقسم الى قسمين:
الأول: ما كان للدنيا وزينتها ومثاله المنازل المهدمة والسقوف الخاوية.
الثاني: ما كان للآخرة وعملاً صالحاً ومثاله عروش الأشجار النامية.
تفسير قوله تعالى [ قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ]
تبين الآية اثر القرى الخاوية والأماكن المهجورة على النفوس والتفات الناس لموضوعها كما انها تحكي التأمل والتساؤل الذي يعيشــه الإنســان عند رؤيتها ويتخــذها موعظــة قهـراً وانطباقاً، لقد بادر عندئذ الى التفكير المستقبلي بحالها وكيفية اعادتها وبعثها، وأقر بالدلالة التضمنية ببعث الله عز وجل للخلائق واعادتها.
فيحــمــل التســاؤل عن كيفيــة البـعــث والإعادة، وان معنى [ أَنَّى] أي من اين، وارادة الزمان وأوان البعث، ولكنه بعيد بدلالة موضوع التساؤل وقرينة ما بعده واماتته ثم بعثته لا يتصل موضوعها بالبعد الزماني للبعث.
وظاهر الآية ان قول المار على القرية ليس حديثاً نفسياً وتساؤلاً داخلياً لأن الآية ذكرته على انه قول [ قَالَ أَنَّى] خصوصاً وان الله عز وجل لا يؤاخذ على حديث النفس، وهذا القول يحتمل امرين:
الأول: التحدث مع الآخرين، أي وجود شخص او اكثر سمعوا الكلام.
الثاني: التحدث بصوت مسموع ولكن من غير ان يستمع احد للكلام.
واذا كان جماعة يسمعون الكلام، كانت اماتته بعد مفارقته الجماعة او وهو معهم ولكن الله حجب عنهم الأمر، او انه تخلف عنهم ثم اماته الله، او انه مات فتركوه من غير دفن وغير ذلك من الأسباب المتعددة والمحتملة.
وهذا النقاش صغروي لأن الآية تخبر عن حصول القول وذكر القول في القرآن يجعله مسموعاً ومعروفاً على الظاهر الا مع القرينة الصارفة،وقد يقال ان القرينة موجودة وهي عدم ذكر شخص آخر معه.
والظاهر انه كان مسموعاً وفي رفقة خصوصاً وان الناس لا يســافرون في الفيافي والبراري والمفاوز الا جماعات وليس فرادى، والآية تخبر انه مرّ على تلك القرية مروراً، والإنسان في ســفره يكون اكثر تحـرراً من هموم الدنيا ومشاغل العمل والعيال، ويكون عنده متسع من الوقت والتفكر والتأمل للحديث.
ان ذكر القول في القرآن يجعله مسموعاً وان جاء بصورة شخصية وفردية بمعنى انه مسموع من أجيال المسلمين وأهل الأرض، فقوله تعالى [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ ] خطاب للناس جميعاً وهو أعم من خطاب [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]، مما يعني ان الناس يسمعون ما في القرآن من المواعظ والبشارة والإنذار والوعد والوعيد، وكذا في هذه الآية فان مسموعاً من قبل اهل الارض بواسطة القرآن.
ان الطيرة والوسوسة تراود نفس المؤمن ولكنه لا يؤاخذ عليها، اما هنا فانه قول والظاهر انه سؤال عن الكيفية والبعث، ثم ان الأخبار جاءت بخصوص بعث الأموات واخراج الناس من قبورهم وعرضهم للحساب يوم القيامة، وهذا موضوع يختلف عن موضوع القرى الخاوية.
والإيمان بالبعث والنشور لا يستلزم الإيمان باحياء القرى واعادتها الى حالها، فيكفي الإنسان ان يؤمن ببعث الأرواح والأبدان والأجساد البالية، ولكن هل يمكن ارادة الذي مرّ بعث الإنسان، وفي قوله وجوه:
الأولى : اذا كان بعث القرى من جديد يحصل بقدرته تعالى فلابد من قدرته تعالى على بعث الناس بالأولوية ولكن كيف تكون بعثتهم.
الثانية : إنه اراد ببعث القرى بعث مساكنها من جديد.
الثالثة : إنه سأل هل يكون بعث الناس بقراهم وبيوتهم اتماماً للحجـة ،وانه يـقـر ويعترف ببعث الناس ولكنه تساءل عن كيفية وموضوعية بعث القرى واعادة بنائها من جديد.
ان التفكيك بين بعث الناس وبعث القرى يبعد تهمة الكفر عن الذي مر لورود شبهة وهي ان القدر المتيقن من موضوع البعث الناس وحدهم، ومساكنهم ليست معهم، ومع هذا فان ظاهر التساؤل يتضمن الدهشة ولا ينكر ان قدرته تعالى لا تحيط بها عقول البشر وتتحير وتتيه الأوهام في عظمتها، فاراد سبحانه ان يريه آية منها تتعلق بموضوع تساؤله لتكون موعظة للأمم من بعده وتذكرة.
لقد اطلق هذا الرجل صفة الموت على القرية فهل هو من الحقيقة ام من المجاز، الأقوى الثاني.
بحسب أصل الكلمة فان الموت في كلام العرب يطلق على السكون وانعدام الحركة يقال (ماتت الريح أي سكنت) وكما يقع على القوة الحسية فانه يقع على القوة النامية في الحيوان والنبات، والمراد من موت القرية اندثارها واندارسها وغياب الحياة عنها اذ ان وجود اهلها وحركتهم وسعيهم ونشاطهم انما هو حياة، فالحياة فيها مركبة من حياة الناس وحياتها بالذات.
فالموت قد يستعار للجهل والفقر والحزن والذل والهرم والمعصية، وفي الحديث:”اول من مات ابليس لأنه اول من عصى” ونعت القرية بالموت في الآية الكريمة بلحاظ البعث والنشور، فالبعث يأتي بعد الموت، والحياة بعد الفناء وان الإنسان يرى الأشياء بلحاظ حاله وشأنه.
ففي هذا التساؤل دلالة التفات القائل لحقيقة الموت وموضوعه بالنسبة له وللخلائق وجاء بصيغة التساؤل لإيجاد صلات الربط بين بعثه وبعث هذه الأشياء او انه يريد ايجاد وسيلة لفهم البعث والنشور وكيف ان الإنسان يبعث من باب الأولوية بالنسبة للموجودات الأخرى.
ونسبة الإحياء في الآية الى الله عزوجل ينفي احتمال ارادة اعادة بناء القرية واعمارها من جديد، وحتى الإعمار لا صلة مطلقة له بحقيقة الإحياء الإلهي، لأن الإعمار موضوع جديد مستقل ومؤقت وبالوسائل والأسباب والمقدمات، اما الإحياء الإلهي فانه يأتي دفعياً وبأمره سبحانه كن فيكون.
وقوله تعالى [ بَعْدَ مَوْتِهَا ] هل يعني انها حال المرور عليها كانت ميتة، ام ان موتها يفيد زوال جميع اطلالها وانقاضها واندثارها بحيث لا يستطيع احد رؤية آثار تدل عليها.
الأقوى هو الأول فمجرد هجران اهلها لها وانها صارت متهدمة وسقوفها ساقطة على جدرانها، واصابها السكون الدائم فانها اصبحت ميتة وان أدت عمليات التنقيب الى اكتشاف بعض معالمها المندرسة.
والآية مدرسة عقلانية وعقائدية في عام البعث وبيان بعض اســراره واظهار لجوانب من خفاياه ليتعظ الإنسان ويستعد للموت ومن ثم البعث من جديد، فقد يرى الإنســان موضوع المدن والقرى وكيفية بعثـها من جديد اكبر من بعث الإنسان او انها اقــل، فجاء التساؤل من باب التقرير وليس الإستنكار والنفي.
بحث بلاغي
انّى – بالفتـح والتشــديــد – تأتي اســماً مشــتركاً بين الإستفهام والشــرط، ومــن الإســتفهام ورودهــا في هـذه الآية بمعنى كيف [ أَنَّى يُحْيِي] والفرق بين اين، ومن اين، ان الأول سؤال عن المكان وموضع الشيء اما من أين فهو سؤال عن جهة صدور الشيء.
وقد تأتي (انّى) بمعنى متى واستشهد بقوله تعالى [ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ]( ) وان كان معناه اعم من الزمان.
تفسير قوله تعالى [ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ]
لم يذهــب هذا التساؤل ســدى، او يترك مــن دون اثــر ورد فعـل، وتلك آيــة اخــرى تتضــمن ســـمعه تعالى للقول ونزول الإبتلاء وترتب الأثر وحصول الموت المؤقت، وفيه مسألتان:
الأولى: تتعلق بالزمان المنصرم والآية السابقة وفيها رد على الملك الذي قال انا احيي واميت، فانه سبحانه يميت حين يشاء ويبعث الميت حين يشاء في الدنيا والآخرة.
الثانية: انها ذات موضوعية في المســتقبل والتالي من الأيام فقد يكون فيها اخبار وآية امكان الإماتة المؤقتة في حال حصولها وسكون الأعضــاء لفترة محدودة من الزمان، ومع هذا فان التجارب في هذا الباب لن تكون تامة وســليمة وخالية من الخــلل والخطــأ وهي تــأتي بالوســائل والأسباب، اما بالنسبة للإماتة في هذه الآية فانها اعجاز وتحد وأمر خارق للعادة يقصد به الموعظة والعبرة لـ :
الأولى : الشخص ذاته.
الثانية : قومه.
الثالثة : الأمة التي يبعث فيها.
الرابعة : الناس جميعاً.
اما الثلاثة الأولى فتدخل في الحسيات والدلالة المباشرة الظاهرة للعيان، اما الرابعة فهي التي يتكفلها القرآن موضوعاً وحكماً ودراسة وتحقيقاً وبذا تظهر جلية اهمية القرآن وحاجة الأولين والآخرين له، فالأولون بتثبيت قصصهم وما فيها من الدروس والحكمة والبراهين، والآخرون بالإعتبار والفهم والإتعاظ.
لقد حددت الآية عدد سني موت الذي مرّ على القرية بمائة عام، وعدم وجود زيادة او نقيصة على عدد المائة له دلالات على قدرته تعالى بضبط السنين والأيام وان البعث يكون بموعد محدد وعلى رأس عدد من السنين، كما ان لفظ المائة وخلوه من الكسور والنيف سبب في الحفظ والإلتفات والتسهيل لمعرفة القصة وما فيها من الآيات.
وكانت مدة الإماتة كافية لإنقراض من طبقة وجيل من الناس ليأتي الإحياء في طبقة وجيل آخر، ومن خصائص الآية انها خارقة للعادة، ولو بعث بعد عشرين او ثلاثين عاماً، لقال الناس انه كان مسافراً كما ان الحمار من الفصيلة الخيلية والتي تعيش نحو خمسين الى ستين سنة.
فان قلت: ان الإنسان قد يعيش اكثر من مائة سنة ويكون معمراً.
قلت: ان هذا فرد قليل، كما ان علامات الشيخوخة والهرم تبدو عليه واضحة، بينما يأتي الإحياء في ذات السن التي مات فيها الإنسان لبيان عظيم قدرته تعالى واظهاراً للآية فحينما بعث يراه ابنه او حفيده اصغر منهما سناً وهيئة.
لقد خلق الله عز وجل آدم بالنفخ فيه من روحه ولم يتكون في رحم، وخلق عيسى من غير أب لإظهار قدرته وعظيم فضله واحسانه، وجاءت هذه الآية الإماتة الموقتة للدلالة على تعدد وجوه رحمته وانه قادر على المقدورات جميعاً وانها متساوية في الاستجابة.
وهذه الآية تختلف عن آية أهل الكهف من وجوه :
الأولى : جاءت هنا بلفظ الإمـاتة، وفي ســورة الكهف بلفظ [ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ ]( )، والإمــاتـة اخص واكثر دلالة وحجة.
الثانية : حددت الآية مدة الإماتة بانها مائة عام، اما في سورة الكهف فقد ورد بانها [ سِنِينَ عَدَدًا ]( ) ورد قوله تعالى [ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ]( ).
الثالثة : الآية هنا شخصية تعلقت بفرد واحد، اما في صورة الكهف فتعلقت بجماعة وهم سبعة وقيل غير ذلك.
الرابعة : الإماتة هنا في مكان مكشوف وتلك في كهف وحرز.
الخامسة : البعث هنا جاء لأغراض متعددة للشخص نفسه وللناس، وفي أهل الكهف قال تعالى [ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا]( ).
السادسة : في هذه الآية جاء ذكر الطعام والشراب وعدم تغيره، وفي أهل الكهف ارادوا شراء الطعام عندما بعثوا وكان سبباً في معرفةالناس لهم، وكان المار يحتاج الطعام والزاد في سفره وترحاله، فحفظه الله عز وجل له من التلف ليصل الى مأمنه، وهكذاكل انسان يضمن له الله عز وجل رزقه الى حين أجله.
السابعة : لقد اعاد الله عز وجل الحياة الى الحمار بكسو العظام لحماً من جديد، اما في سورة الكهف فكان معهم حيوان ايضاً وهو الكلب ولكنه [ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ]( ).
وهل مـدة المائة عام عـلى نحو الدقة العقلية بحيث انها انتهــت في مــثل اليــوم الذي اماتــه الله فيــه وعند تمـام المائة عام ام انـه يكفي شــطر من العــام الأخير ليصــدق عليــه انه عام كامل.
وبين العام والسـنة عموم وخصــوص من وجـه، فمادة الإلتقاء ان كلاً منهما حول كامل ومدة ايامهما متشابهة، وكل منهما اثنا عشــر شهراً، ومــادة الافتراق العام حول يأتي على شــتوة وصــيفة، اما السـنة فتبدأ من يوم وتنتهي بمثله من قابل، وقد تبدأ الســنة من نصف الشتاء او نصف الصيف، اما العام فلابد ان يكون فيه شتاء كامل وصيف كامل متعاقبين، وتبرز اهمية الفرق بينهما في النذور والإيمان ونحوهما، وقيل ان العام يطلــق على الخصــب والرخــاء، والســنة يـراد بها الشدة والجدب.
لقد جاءت الإمــاتة متعــقبــة لقـول الذي مر [ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا] ولم يتوجه الإعجاز الى موضوع التساؤل نفسه بحصول الإحياء للقرية وابنيتها وتكون فيه آية للسائل وللناس ايضاً، بل حصلت الآية والإعجاز في ذات السائل نفسه باماتته ثم بعثه فلابد له من دلالات عقلية وشرعية وموضوعية وحكمية.
اما بالنسبة للدلالة العقلية في الإماتة الشخصية اكثر منها في البناء الثابت لأن البعث والمعاد يتعلقان بالناس وحسابهم، فقد لا يهتدي العقل الى ادراكه بواسطة اعادة البناء والقرى فجاءت الآية بالفطريات وما لا يحتاج الى واسطة.
اما الــدلالة الشــرعية فان بعث الإنســان بعد الإمــاتة يجعـله آية وشاهداً على زمانه والزمان الذي يبعث فيه وسبباً لهداية الآخرين والوصول اليهم وتبليغهم فهو آية ناطقة متحركة تدعو الناس الى الإيمان بالإضافة الى ما ورد من اعادة كتابة التوراة بهذا البعث.
ويتعلق موضوع الآية بجنس الإنسان وخلقه وهو بعث شخصي يذكر الفرد والجماعة بيوم النشور وامكان وحتمية حــدوثــه ويمنـــع من الإنشــغال بالأســباب والكــيفيات التي يحصل بها، ويــزيل الحـواجــز والمــوانــع المحــتمـلــة في التصــور الـذهـني.
لقد جعلت هذه الآية مسألة البعث حية في اذهان المؤمنين وامراً متصوراً وقريباً من التصديق واسقطت الشبهات ومنعت من الجدل واثارة المغالطات في مسـألة كلامية ذات اهمية خاصة وتعتبر من اصول الدين، فان توظيف قوى الشر للصيغ العقلية باتجاه النقض والتشـكيك في المعاد يجعل شــطراً من الناس يشك في حقيقة المعاد او انه يلتبس عليه الأمر، ولكن هذه الآية وما شابهها رد متقدم على شبهاتهم وابطال لأقوالهم واضعاف لتأثيرهم على النفوس ومنع من حصول الإرباك في هذه المسألة، لذا ترى الناس يقبلون على هذه الآية بالفهم والإعتبار وتستلهم منها الدروس ويتلقــونها بالتســليم لتكون مقدمـة للتصديق بالبعث والإستعداد له، فالوظائف العقائدية لهذه الآية اكثر من ان تحصى.
وهل بدأت هذه الآية من زمان الإماتة ام انها بدأت بعد مائة عام وعندما حصل البعث والإحياء، الجواب انها بدأت من زمان الإماتة بحفظه وتعاهده وعدم وصول السباع له ولحماره، ولكن البراهين العامة التي ينتفع منها هو والناس جاءت حين بعثه وخروجه في زمان غير زمانه.
لقد جاءت الآية على نحو المثل الواقعي الذي يصلح خطاباً عقائدياً لجميع الناس على اختلاف مداركهم وتعدد مشاربهم فهو يحمل الإنسان على التفكر في الإماتة ثم البعث وامكان حصوله ودلالاته ليصل الى النتيجة قهراً وانطباقاً والتي تلح عليه بضرورة الإيمان بالله والإستعداد لليوم الآخر.
وهل الإنســان طيـلة المائة عام كان يتنفس ام ان نفسه انقطع عنه، الأقوى هو الثاني لحمل لفظ الإماتة على معناه الظاهري ولتمام الآية فهو لم يكن في حال سبات وتعطيل للحواس فقط.
قال تعالى [ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا]( )، أي ان الموت غير النوم، ولقرينة قوله تعالى [ ثُمَّ بَعَثَهُ] الدالة على البعث بعد الموت.
وقد ورد لفظ اماتة مرتين في القرآن، في هذه الآية وفي قوله تعالى [ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ]( )، فجاء القبر والمواراة في الأرض بعد الإماتة مع ان القبر نوع اكرام للإنسان وتشريف له لأن سائر الحيوانات تلقى على وجه الأرض، وبلحاظ المائز مع قصة أهل الكهف وانهم رقود.
تفسير قوله تعالى [ ثُمَّ بَعَثَهُ ]
ثم: تفيد التشريك والترتيب والتراخي، وقد لا تدل على التراخي بحسب القرائن، وفي المقام يصلح الأمران معاً، أي تفيد الترتيب كما تفيد الترتيب والتراخي معاً، فبلحاظ المدة وزمان الإماتة فانها تفيد التراخي وطول المدة، وبلحاظ قدرته تعالى وقصر المدة عنده سبحانه فـ(ثم) تفقد التراخي.
ومن فلسفة خلق الإنسان ان البعث والنشور بعد الموت وانقطاع ايام الدنيا، وان الموتى يبعثون من قبورهم ولكنه سبحانه أبى الا ان يري الناس آيات من العالم الاخر، كما يريهم في الآخرة آيات من عالم الدنيا فجاءت آية البعث شخصية وفردية لتكون عبرة وموعظة ليراها الناس بابصارهم ويحسون بها، اما المسلمون فقد تلقوها بالقبول والتســليم بما في القرآن من التنزيل، وهذا تشــريف واكرام المسلمين انهم يؤمنــون بالآيــات الحسية ولم يروها ويتعاهــدونها ويتصـورون حدوثها وكأن وقائعها شاخصة امامهم.
ويمكن استقراء قاعدة كلية وهي ان القرآن كآية عقلية يكون واسطة لتثبيت وتوثيق الآيات الحسية ويعيشون فصولها كافة بايمان وتصديق منذ اول وقوعها.
لقد بعث الله عز وجل الذي مرّ على القرية رحمة لأهل زمانه ولنا وللناس جميعاً كآية للتذكير بالآخرة وهل يدل هذا البعث على الرجعة وامكان حصولها لبعض البشر، الأقوى لا وان كان أمر الرجعة مما يقدر عليه سبحانه، فهذه آية خاصة ولم يتعرض هذا المار على القرية الى الدفن في القبر، بل حجبه الله عز وجل عن الأنظار وحال بينه وبين السباع والبهائم.
وهذا البعث لم يكن خاصاً بالبدن والروح بل انه بعث عقائدي واخلاقي وتأريخي، لقد كان بعثه رسالة للناس وحجة على العباد الى يوم القيامة، ولابد ان بعثه ساهم في ايجاد امة مؤمنة واجيال من الصالحين الذين يقرون بالبعث والمعاد وكان سبباً في زيادة ايمان بني اسرائيل الى ان جاء القرآن فحفظ بعثه ومنع من التفريط بهذه الآية والنعمة.
ومن مفاهيم الآية انها اخبار عن حتمية البعث بعد الموت، وهذا المعنى مستقرأ من اللغة يقال بعثه يبعثه بعثاً: ارسله وحده، والبعث الرسول، والبعث: خروج الجند الى القتال، ومن اسمائه تعالى الباعث، وهو الذي يبعث الخلق أي يحييهم ويخرجهم من قبورهم يوم النشور.
لقد اصبح المار على القرية رسولاً الى الناس سواء كان نبياً او ليس بنبي، اما بالنسبة للأول فان الرسول أعلى رتبة من النبي، واما بالنســــبة للثاني فان رســالته ليس بكـتاب او بوحـــي وهو ليس من مراتب النبوة، بل انه رسول ببدنه وحاله آية بشرية وكأنه خارج بنفسه الى الغزو والجهاد، ولكن ليس بالسيف بل باحيائه بعد الإماتة في غير زمانه، ليكون شاهداً على عصره والزمان التالي.
تفسير قوله تعالى [ كَمْ لَبِثْتَ ]
تنقسم (كم) الى خبرية واستفهامية، والأولى يخبر بها عن العدد الكثير كما في قوله تعالى [كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ]( )، أي تركوا الكثير من البساتين وعيون الماء والخيرات، مع (كم) يفيد الأخبار وليس الإستفهام.
اما كم الإستفهامية فيطلب بها تعيين العدد كما في قوله تعالى [كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ]( )، وكل من الإستفهامية والخبرية اسم مبهم وكناية عن ارادة عدد ويفتقر الى التمييز ومبني على السكون والتمييز هنا محذوف.
و(كم) في هذه الآية اسـتفهامية ففيها سؤال عن طول المدة التي قضاها في الموت وتعيين عدد ايامها او سنيها، وهذا السؤال يدل على درجة من الوحي، والأرجح ان السؤال جاء بواسطة احد الملائكة وفيه دلالة على ان الذي مر على القرية كان نبياً، او انه نال درجة النبوة عند بعثه، نعم من الوحي ما هو وحي الصالحين وهو ادنى درجة من وحي النبوة ولكن الأصل في الوحي المخاطبة الإلهية للعبد مباشرة من غير واسطة بشر هو وحي النبوة.
والسؤال موجه الى الشخص نفسه وهو نوع تشريف له وابتداء مبارك لدخوله الحياة الدنيا في عالم جديد مختلف عما كان فيه، وكأنه خلق جديد كما شرّف الله عز وجل آدم وخاطبه عندما نفخ فيه من روحه [ قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ]( )، فهل يمكن استقراء قاعدة كلية هي ان الله عز وجل نفسه يخاطب الإنسان عند البعث ايناساً له وتخفيفاً من وطأة الموت وافتتاحاًَ للحياة الجديدة التي يطل عليها ليدخلها بفضل ولطف منه تعالى ولطرد وحشة الموت والعدم وللإستعداد للآتي من الإبتلاء او الحساب يخاطب الله الناس عند بعثهم.
الأقوى نعم، لبيان سلطانه وقدرته وللأخبار بانهم رجعوا اليه الا ان يكون هناك ما يجعل الإنسان يعلم بالآية وحصول البعث كما في قصة أهل الكهف فان السؤال حصل بالواسطة [وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ]( )، وهذا الخطاب يحتمل وجوهاً :
الأول : انه متحد ومشترك بين الناس جميعاً.
الثاني : كل انسان له خطاب مستقل.
الثالث : ينقسم الخطاب الى نوعين، خطاب للمؤمنين الذين عملوا الصالحات ويتضمن الوعد والبشارة، وخطاب الى الكافرين والمشركين ويتضمن الوعيد والتخويف والإنذار.
والأقرب هو حصول هذه الوجوه الثلاثة كلها، نعم بالنسبة للثاني يكون على نحو الجزئية أي وجود خطابات مستقلة لشطر من الناس وافراد منهم وجاء السؤال للإنتفاع الشخصي من الآية وعدم التفريط بها وللحجة، وبعد البعث جاء السؤال الإلهي مما يدل على اعادة الحواس كالسمع والبصر.
تفسير قوله تعالى [قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ]
لقد اجاب في الحال على السؤال الإلهي وفيه اعجاز مركب ومتعدد :
الأولى : امكان الإستماع والإجابة بعد الإماتة سواء كانت مدتها معينة وقصيرة او طويلة.
الثانية : كانت الإماتة بالنسبة له كالنوم.
الثالثة : عدم الإحساس بطول المدة.
الرابعة : لم يلتفت الى الآثار الطارئة على القرية خلال تلك المدة فلابد انها اندرست واندثرت اكثر خلال المائة عام، وفيه وجوه:
الأول : حصول الإماتة في موضع بعيد عنها.
الثاني : كانت جدرانها سميكة لا تندثر بسرعة، ولفظ القرية يجعل هذا الاحتمال بعيداً لما له من المعاني الاجمالية في بساطة البنــاء في القرية، الا ان يراد من القرية معنى البلدة، ولكن حجية الظواهر حاكــمة في المقام فيحمــل معنى القرية على المتعارف وليس على المدينة، فلا ينصرف الى المدينة الا مــع القرائن، وهــل يمكن اعتبار العروش الخاوية امــارة على إرادة البلــدة والمديـنة، الـجـواب: انه ضعيف.
الثالث : ان حال القرية لا يسمح بملاحظة المائز خلال المدة الا بعد امعان النظر والتدقيق، والناس يلتفتون الى العمران والبناء او الى انتقاله لحال الخراب، اما التغيير في ذات الخراب وزيادته فيحتاج الى مؤونة زائدة لا تتحصل بلحظة الاستيقاظ.
لقد جاء السؤال في الحال وقبل التفاته الى ما حوله بدليل انه لم ينظر الى حماره وما حل به الا بعد الإجابة.
والأقوى هو الأخير للقدر المتيقن من الآية.
ترى لماذا سأله الله سبحانه مع علمه بان الميت لا يعلم ولا يدرك مدة موته، فيه وجوه :
الأولى : لإقامة الحجة.
الثانية : لبيان المعجزة والأمر الخارق للعادة.
الثالثة : الاظهار العملي لعظيم فضله تعالى.
الرابعة : لإثبات ان الإنسان لم يعلم مدة الإماتة وانه لم يتهيء للموت او يستعد له.
الخامسة : لتوكيد حصول البعث بفضله تعالى فله ان يبقيه ميتاً وله ان يبعثه.
السادسة : ليس من وعد الهي بالبعث من جديد في الحياة الدنيا بعد الإماتة بل هو لطف منه تعالى.
السابعة : هذا الســؤال من عمومات قوله تعالى [ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ] فمن الآيات في المقام جوابه بانه لبث [ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ] فالسؤال وجوابه عبرة وموعظة للناس جميعاً لما فيه من العلوم والمعارف الربوبية.
الثامنة : انه مدرسة حوار وضوء مبارك على حال الإنسان عند الموت.
التاسعة : التداخـل بين حال النوم والموت عند الإنسان وعدم تمييزه بينهما الا ان يشاء الله، كما في النصوص والأخبار الواردة في عالـم البرزخ سواء في اكرام المؤمن او عذاب الكافر.
العاشرة : بيان اللطف الإلهي في جعل الإماتة كالنوم بالنسبة لمن يشاء من عباده.
الحادية عشرة : الجواب من مصاديق حديث رفع القلم من باب الأولوية، فانه لم يكذب حين قال [ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ]، فاذا كان القلم مرفوعاً عن الإنسان في حال نومه فمن باب اولى ان يكون مرفوعاً عنه حال اماتته.
فان قلت:انه نطق بالجواب في حال اليقظة وليس الإماتة.
قلت: بانه أخبر عن حال بحسب علمه، ويلاحظ انه لم يقل لم أعلم ولم يحل مقدار المدة الى علمه تعالى بل أخبر وكأنه واثق من أمره.
وذكر ان اماتته حدثت في اول النهار فقال [ يَوْمًا] أي لحال الإسترخاء والإكتفاء من النوم التي يحس بها ولما نظر الى بقايا ضوء الشمس قال [ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ]، ولكن المعنى اعم فانه يدل على عدم استحضاره لأوان ابتداء نومه والمعروف ان الإنسان حينما يستيقظ من النوم يسـتحضر اوان نومه وهل هو في اول الليل او وسطه او عند الســحر او الفجر او الصباح او انه نوم قيلولة او بعد الظهر او عند العصر، ولكنه ذكر مردد بين طرفيه تباين ليس بالقليل لأن بعض اليوم جزء منه وتنطبق على الكثير والقليل منه، مما يعني تأثير طول المدة عليه في عدم معرفة أوان ابتداء النوم من غير ان يضر في ظنه بقصر مدته.
والمراد من اليوم هو النهار من طلوع الفجر الى مغيب الشمس وقيل انه من طلوع الشمس الى مغيبها، فالإماتة حصلت في وقت غير متعارف للنوم وهو حجة اخرى فالإنسان لا ينام نهاره كله والنهار جعله الله للعمل والكسب والسعي، خصوصاً اذا كان الإنسان على سفر.
ان السؤال والإجابة عليه نوع اكرام ومناسبة للحجة والدلالة واظهار عظيم قدرته تعالى، ولقد شرفه الله عز وجل بان سأله عن مدة لبثه، ولم يأتي السؤال بصيغة النوم بل جاء بعنوان اللبث والمكث في المكان يقال: لبث بالمكان يلبث لبثاً: اقام، واللبث الإبطاء والتأخر، كما في الحديث: “فاستلبثه الوحي”، من اللبث أي استبطأ الوحي، فالسؤال ذاته اعم من النوم، ودلالة على المكث والتأخر في المقام ومن طبع الإنسان ان يستكثر مدة الإقامة لميله الى الحركة والإنتقال والتغيير ولكن اللبث كان قهرياً.
قوله تعالى [ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ]
(بل) حرف اضراب واستئناف، وهو على قسمين فتارة يأتي لإلغاء الحكم الذي قبله وتقرير الذي بعده ويسمى الإضراب الإبطالي، واخرى لتقرير الحكم الذي قبله والإنتقال الى حكم آخر بعده كما في قوله تعالى [ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى *وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا]( ).
وهو في الآية من القسم الأول أي لإبطال قوله بتحديد مدة اللبث بيوم او جزء من اليوم، ولبيان سعة الفارق والإختلاف والتبايــن بين اليوم الواحــد والمائــة عام، والظــاهر ان المراد بالعام هــنا الســنة الشمســية وليس القـمرية لإشــتراط تضمن العام لشتاء وصيف تامين، فلو كانت الأعوام قمرية، لإبتداء بعضها في منتصف الشتاء او منتصف الصيف الا ان يراد المجموع الإجمالي.
وتنقص السنة القمرية عن الشمسية باحد عشر يوماً تقريباً، وكل ثلاث سنين شهراً واحداً وثلاثة أيام ونصفاً، وكل ثلاث وثلاثين سنة سنة واحدة تقريباً.
وبهذا الإخبار الإلهي تجلت الآية العظمى بالإماتة ثم البعث في الدنيا بعد هذه المدة والكواكب تجري في نظامها وسيرها على انتظام ليشهد استمرار حركتها بذات الدقة والنظام على وجود الصانع والمدبر لهذه الخلائق.
ان طول اللبث رسالة سماوية الى الناس جميعاً للإخبار عن عظيم قدرته سبحانه وقهره للأسباب الطبيعية وخروج بعض الأفراد من القواعد الكلية في نظام الحياة والموت لتكون موعظة وعبرة، فمع لبث العبد وإماتته مائة عام فان الله عز وجل اعاد له الحياة وكأنه لم ينم الا ساعات معدودة، أي ان هذا الموت لم يؤثر في هيئته وبدنه وصورته ولم يغزوه الشيب والهرم، وتلك آية اضافية للدلالة على ان الله يبعث الناس بهيئاتهم وصورهم بحيث يعرفهم من كان يراهم في الدنيا.
ان مائة عام مدة طويلة تمثل حقبة من الزمان تتغير فيها الأحوال والبلدان والشواهد والوقائع، وجاءت كمثال على البعــث وان لم يــأت الا بعــد مئــات او آلاف الســنين، لأن الــتذي يقــدر على الإعـادة بعد مائة عام قادر على الإعادة والخلق في مــدة وزمــان اطول وانه سبــحانه إله حــي وقــادر في كل زمان.
تفسير قوله تعالى [ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ]
يقال ســنِه الطعام – بكســر النون – أي تغــير وتعــرض للتلف، (وقال الأصــمعي: ارض بني فــلان سَنَه) اذا كانت مجدبة.
وفي دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم اعني على مُضر بالسنة) والمراد من السنة الجدب، ويقال: اخذتم السنة: اذا اجدبوا واقحطوا، (والتسنه: التكرج الذي يقع على الخبز والشراب تقول منه خبز متسنه) ومشهور المفسرين في الآية: لم يتسنه، أي لم يتغير بمرور السنين عليه( )، مأخوذ من السنة، وتكون الهاء اصلية.
لقد تفضل سبحانه بان دعاه الى النظر الى ما كان معه من الزاد والشراب وكيف انهما لم يتغيرا خلال مرور هذه المدة الطــويلة، ومع ان هذا الحفظ بالإعجاز فان وسائل الحفظ والتبريد والخزن الحديثة لا تستطيع حفظ الطعام والشراب هذه المدة من غير تغيير، وترى الآية جاءت بلغة التغيير والتبدل وهو ادنى درجة من التكرج وآثار التلف الظاهر في توكيد لعظيم قدرته سبحانه.
لقد بُعث وهو يظن انه لم يبق الا يوماً او بعض يوم في حال الموت، وعدم تغير الطعام والشراب امران يدلان على قصر المدة على الظاهر، فلماذا ذكر الطعام والشراب في الآية اولاً ولم يؤمر بالنظر الى الحمار وكيفية اعادة خلقه ليكون قرينة على بديع صنعه في عدم تبدل حال الطعام والشراب.
الجواب ان القرائن لا تنحصر بالحمار بل هي شاملة في الآفاق وما حوله من التبدلات ومنها ما يعرفها في ذات الوقت ومنها ما يعرفها فيما بعد عندما يدخل الى المجتمعات ويرى معالم المدن ودوران الفلك وتقلبات الأحوال كما ان النظر الى الطعام والشراب مقدمة لرؤية الآيات في الحمار.
وهل يمكن القول ان الآية في حفظ الطعام والشراب اقوى واكبر من اعادة الحياة في الحمار، لا دليل عليه، وعلى القول بموضوعية الترتيب وذكر آية الطعام قبل آية اعادة خلق الحمار، فانها معارضة ببعث الروح في الحمار وحصوله بمرأى منه وهي آية أكبر من حفظ الطعام.
نعم قد يتمكن العلماء في هذا الزمان من استنساخ الحمار ولكنهم لا يستطيعون حفظ الطعام والشراب مائة عام من غير تبدل في ماهيته وسنخيته وطعمه ومذاقه ومنافعه واضراره، وان كانت قدرة الإنسان على حفظه بصورته النوعية في حال تحققها علمياً لم يغير من موضوع الآية لأنها جاءت على نحو التحدي والأمر الخارق للعادة.
ان الإبتداء بذكر هذه الآية دعوة للإهتمام بها واستنباط الدروس والعبر منها واعطاءها الأولوية وهي بشارة حفظ الإنسان للطعام والشراب بوسائط علمية متعددة كما هو حاصل في هذه الايام وان لم يرق في مدته الى السنوات المتعددة لأن الله عز وجل اذا أنزل نعمة فانه اكرم من ان يرفعها بل تبقى في الأرض لتتيسر للناس اسباب ومقدمات الإنتفاع منها ولو على نحو الموجبة الجزئية.
ولقد بدأت الآية بذكر الطعام قبل الشراب لأن التلف اسرع اليه من الشــراب في الغالب خصــوصاً مع عدم عناية الناس بحفظــه ولأهــمية الطعام عند الإنســان وحاجته له، ولفظ المفرد لم يتسنه وعائديته الى الطعام والشراب معاً دليل على اتحاد موضوع حفظهما.
وفي قراءة ابن مسعود: (وانظر الى طعامك، وهذا شرابك لم يتسنن) أي عدم التغيير خاص بالشراب.
وذكر ان طعامــه كان تينـاً وعنباً، وشرابه اللبن وعصير العنب، وهما عنوان توفير حاجة الإنسان من الأكل والشرب، فانه تعالى يتكفل ارزاق العباد، وبعد ســماع السؤال والأخبار عن مدة الإماتة انتقلت الآية من حاسة السمع الى حاسة البصر لتوكيد سلامته وعدم تبدل او تلف الحواس وان الإحياء جاء مع سلامة الحواس.
وفي الآية تمرين لذاكــرته واخبار عن احتفاظه بها بعد هذه المدة المديدة وتلك آيــة اخرى، بمعــنى ان آية بعثه تتشـعب الى آيات عديدة منها ذات البعث واعادة النطق والسمع والبصر والذاكرة.
وتبين الآية قدرته تعالى على بعث الخلائق مطلقاً ومن الآيات ان الإحياء يتعلق بذوات الأرواح، وان الحفظ يتعلق بالطعام والشراب وهو غير احضاره من جديد او تركه يتلف ثم اعادته على حالته وهيئته الأولى وان كانت الإعادة امراً ممكناً ايضاً، ولكن الآية جاءت لبيان تعدد وجوه قدرته سبحانه وعدم امتناع شيء من الممكنات عنها.
وفي القصة عالم مصغر للبعث وعدم انحصاره باعادة الحياة وان الحفظ والتعاهد وجه من وجوه عالم البعث والنشور، وفي الآية درس عقائدي يتعلق بنواميس الحياة الدنيا وهو ان الإنسان اذا لم يمت موتاً نهائياً فان رزقه يبقى بانتظاره موقتاً كجزء من لطفه ورحمته تعالى بالناس جميعاً.
تفسير قوله تعالى [ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ]
جاء العطف والأمر الثاني بعد النظر الى الطعام والشراب وهناك تباين كبير بين الموضوعين فالطعام والشراب لم يتغيرا، بينما تعرض الحمار للهلاك والتلف، ولو ظل الحمار حياً لجاء على الطعام والشراب وعلى الشخص نفسه من الأيام الأولى الا ان يشاء الله، ولكنه سبحانه اراد ان يريه الآيات المتباينة وكيف ان هلاك الحمار وذهاب لحمه يؤكد طول المدة وحصول التناقض في موضوع واحد وان قالوا في الفلسفة بعدم اجتماع الضدين.
فاحد الطرفين وهو الطعام والشراب لم يتغير بينما الحمار اصابه التلف وفقد لحمه، ومع هذا بقي بعناية خاصة وحجب منعت من اكل السباع له او تعرض عظامه للتلف والنخر وآفات الأرض في طول تلك المدة.
ان آيــة تلف الحمار تبـين بوضوح الإعجاز في عدم طرو التغــيير على الطعــام والشــراب وكذا العكـس، أي آية بقاء الطعام والشراب على حالهما تدل على الإعجاز في حال الحمار ولا ينظر له كحيوان بل كواسطة وآلة للنقل وجر الأثقال ووسيلة للنجاة من المفاوز وزينة [ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً…]( ).
فكما ان الطعام والشــراب يحتاجــهما الانسان في سفره وانتقاله وابتداء حياته الجديدة كذلك الراحلة يحتاجها للسفر والإنتقال من الموضع الذي اماته الله عز وجل فيه سواء عند القرية المندرسة او في مكان آخر، والأرجح هو الأول بقرينة (الفاء) في [ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ ]، بالإضافة الى القرائن المقالية والحالية وسنخية الموضوع.
فمن فضله تعالى ان بعث المار على القرية مع تهيئة مستلزمات سفره واقامته من الزاد والراحلة وعدم جعله متحيراً، والظاهر ان الإنتقال من القرية لم ينطو على مخاطر كثيرة او انه يحتاج الى رفقة وسلاح، الا ان يقال بان الموجود معه اعم من الطعام والشراب والحمار وان السلاح وهو السيف في الغالب لم يطرأ عليه التغير والصدأ.
ولكنه بعيد لأن القدر المتيقن تعلق الآيات بذات الشخص وحمــاره وطعامه وشرابه، ولقد جاء ذكر الشراب على نحو التعدد لبيان آية حفظه وللتباين بينه وبين الطعام في الكثافة والسيولة، وان حفظ كل منهما يستلزم أمراً خارقاً للعادة وعلى نحو الاستقلال والتعدد.
لقد جاءت الآية بالنظــر للحمار بحالته وهيئته من التلف وهذه النظرة الأولى ولم تقترن باكساء العظام باللحم، بل لتوكيد صورته وتلفه في ذهنه وعدم طرو الشك له مستقبلاً او الظن بانه كان في حال حلم او ارباك في بداية بعثه او ان هذا الحمار غير حماره الأول، وهذا التفصيل والتعدد في النظر الى الحمار آية اخرى غير اعادة خلقه، ليترسخ في ذهنه التباين الكبير بين حال الطعام وحال الحمار.
ومن دلائل الآية ان الإنسـان قد يفقد وسائط النقل ولكن رزقه يأتيه بحســـب ما مكتوب له، فالإمــاتة المؤقتــة لا تتعارض مع بقاء مقدار من الرزق لحين بعثته وعــودته الى الحياة الدنيا فليس ثمة مدة بين احرازه وادخاره للرزق ليومه وبين بعثه بعد مائة عام.
واضافة الحمار اليه بضمير المخاطب الكاف [حِمَارِكَ ] لتوكيد انه ذات الحمار ولإعانته على استحضار موضوعه خصوصاً وانه اصبح عظاماً نخرة مجردة، فالإنسان لا يستطيع ان يميز الحيوان في هذه الصورة الا بمشقة وعلى سبيل الظن الذي له مراتب متعددة من الإعتبار فقد يرقى الى التصديق او لا يرقى، فجاءت الآية لتنبيهه وتذكيره به وتعيين عائدية هذه العظام انها لحماره الذي كان يتخذه وسيلة للنقل.
ولم يمت معه الحمار او يكون بدرجة وحال مماثلةلحاله كما في قصة اهل الكهف [ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ]( ) بل اصبح رميماً، الجواب: للتباين الموضوعي بين اختيار اهل الكهف ولجوئهم الى الكهف، وبين قول هذا المار وما صدر منه على نحو الإستغراب، وتعدد الهيئات والصور في ذات الموضوع دليل على بديع خلقه وعظيم قدرته سبحانه.
وبينــما امــات الله المار على القــرية وحفظ له طـعامه وشــرابه فان الحمار لم يبــق منه الا العظـام، فلماذا لم يمتــه الله معه او يبقيه نائماً او حياً تلك المدة، لقد اراد الله عز وجل ان يبين له كيفية بعث الإنسان بمثال من عالم الحيوانات ليكون شــاهداً امامه وحجة على الناس، ولنفي شــبهة الآكل والمأكول التي اثيرت في موضوع البعث وهي ان انحلال اعضاء الإنسان وتحوله الى مادة في غذاء النبات ودخوله في العناصر الغذائية المكونة لإنسان آخر يختلف عنه في السنخية العقائدية والإيمان والكفر بجعلها مشتركة بينهما، فالى من ترجع هذه الأعضاء، وهذه الشبهة باطلة من وجوه تقدم الكلام عنها.
وان قولــه تعالى [ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ] يفيد في ظاهره انه قد ربط الحمار في موضع محدد ويكون معنى الآية وانظر الى موضع حمارك، بحذف مضاف، وهذا الربط يجعل الحيوان لا يعيش طــويلاً لعــدم قــدرته على الحــركة وتنــاول العلف والماء من حوله، وكأن الآية تحد له وابطال لقوله، فاذا كنت تزعم انك لم تلبث الا يوماً او بعض يوم فانظر الى حمارك معك لم يبق على حاله اذ المفروض انه مربوط الى جانبك ولا يطرأ عليه تغيير وانه لا زال حياً يرعى الى جانبك وينتظر منك الحركة والإنتقال الى موضع آخر.
وبالنظر الى ما حلّ بالحمـار يعلم الإنســان ضعفه وجهله بنفســه وغياب ارادته تحت سلطان النوم وانه لا يمتلك القدرة على حفظ ممتلكاته وما حوله من الأشياء لفقدانه الحس والإرادة عند النوم لأنه يصبح تحت سلطانه، ومن يكون تحت سـلطان غيره كيف يكــون له أمر وشــأن مستقل، وما دام النوم هكذا يعمل بالإنسان فان حاجته وضعفه يدفعانه للجوء الى القوي العزيز القادر على البعث والإحياء وهو [ خَيْرٌ حَافِظًا ]( ) حفظ الحمار والأكل والشرب بعد مرور مائة سنة.
وكما في الحج تكون الإستطاعة هي الزاد والراحلة بمعناهما الاصطلاحي المناسبة للحال والشأن والزمان، فكذا بالنسبة للأكل والشرب والحمار فانها عناوين لحفظ المال والأعيان للذات وللذرية، وانه سبحانه اذا اعطى يعطي بالأوفى والأتم، فلم يبعثه بشخصه وحده ويتركه يبحث عما يستر عورته ويسد رمقه ويدفع الجوع والعطش عنه بل هيئ له حاجته من الغذاء كما يجد المولود حليب الأم في انتظاره عند خروجه الى الدنيا.
ان الأمر بالنظر الى الحمار اعم من وجوده على حاله، بل انه امر بتفقده والنظر الى ما صار اليه، بدليل ان الأمر بالنظر الى الطعام والشراب جاء مقيداً بالحفاظ عليه وعدم اصابته بالتلف والنقص، اما بالنسبة للحمار فجاء مطلقاً ويحمل على عدة وجوه منها:
الأولى : انظر الى موضع حمارك.
الثانية : تفقد حمارك.
الثالثة : انظر الى حال حمارك وما اصبح عليه.
الرابعة : الأمر بالتحدي ومعناه هل تجد حمارك على حاله التي تركته بها.
الخامسة : انظر له كمقدمة علمية لاعادة اللحم والحياة اليه.
السادسة : ان الله عز وجل لا يحيي القرى وحدها بل يعيد الكائنات والإحياء التي كانت فيها فمن مقومات الحياة في القرية استخدام الحمير للنقل والركوب.
لقد اراد الله عز وجل ليريه آية بعث الإنسان بكيفية نشر الحمار واعادة الحياة له بعد تثبيت حقيقة وهي انه اصبح عظاماً نخرة مما يؤكد ان المدة لم تكن يوماً او بعض يوم، خصوصاً وان بقاء الطعام والشراب على حالهما لا يدل على طول المدة بل بالعكس ولابد من اسباب اخرى لمعرفتها وعلتها.
فجاءت آية الحمار شــاهــداً ودليـلاً وبرهاناً على طول استمرار المدة لعشرات السنين، وان كان مجرد الإخبار منه تعالى [ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ]، يفيد التصديق والقبول منه بدليل ان الأمر الإلهي بالنظر الى آيات الطعام والشراب والحمار لم يكن لإثبات هذه الحقيقة على نحو الخصوص بل جاء لتوكيدها وامضائها.
ودعوة الذي مرّ وغيره للإستعداده للعالم الجديد والإقرار بالبعث والنشور والإستعداد له والدعوة الى الله عزوجل، مع اعتبار المائز في سنخية الإنسان عن الحيوان وان الله عز وجل شرفه بان نفخ فيه من روحه وجعله خليفته في الأرض، فحينما اماته على نحو مؤقت تعاهده وحفظه وأكرمه بالإماتة ولم يتركه ليكون عظاماً نخرة، اما الحمار فانه مخلوق لحاجة الإنسان وانتفاعه منه وليس فيه روح الآدمي لذلك اصبح عظاماً بالية على القول بان المراد [ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ ] أي الى عظام الحمار وليس عظام الشخص نفسه.
وتدل الآية على شرف الإنسان ولطفه تعالى به وعدم تركه يبلى ما دام البعث في الدنيا ينتظره، فالآية الكريمة تظهر الفارق بين الإنسان والحيوان في الخلق والحفظ وتبين منافع وجود الروح عند الإنسان ونفخه تعالى فيه من روحه.
وتشترك افراد الآية الأربعة الإنسان والطعام والشراب والحمار بآية الحفظ من آفات الحشرات التي تنمو بالآلاف في الجيـفة والبدن الساكن وتنجذب الى الطعام والشراب، وبينما بقت الفاكهة والعصير على حالهما لم تصل اليهما فان العالم اليوم بعلومه ووســائله التقنيــة الحديثــة يئن من اذى الحشار ويظهر العجز في مكافحتها خصـوصاً مع قدرتها على التكيف للبيئة والعيش في المناطق القطبية المنجمدة وفي خط الاستواء والبحار.
تفسير قوله تعالى [وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ]
لقد جاءت الآية بلفظ الناس أي على نحو الإطلاق المؤمن والكافر، والذكر والأنثى، والكبير والصغير، والعالم والجاهل، كما انها لا تنحصر بزمان دون زمان بدليل توثيق القصة في القرآن ومعرفة المليين بموضوعها امساً واليوم وغداً، ولا ينحصر ما في هذه الآية من المسائل بصاحبها او ببلدته او ملته او زمانه، ومن هذا الإطلاق تعرف عظمتها واهميتها وحاجة الناس لها كدرس عقائدي في البعث والمعاد.
لقد اصبح هذا الشخص علامة باهرة تدل على عظيم قدرته تعالى لأنه يعيش في زمان غير زمانه وهو اصغر من احفاده ولا بد ان الآية تتعدى موضوع مدة الإماتة بل تشمل حفظ عقيدة التوحيد ومنع الناس من الغفلة والجهالة، ودعوتهم الى التدبر في قدرته تعالى كما تبعث الخوف والخشية منه تعالى مع الأمل والرجاء، وتنهي الجدل حول المعاد وتحول دون تفشي الشبهات في موضوعه بين الناس فهي آية حاضرة في كل زمان ومثال بين يؤكد امكان حصول البعث.
وهذه الآية حث للمسلمين على استثمار موضــوعها والتحقـيق بتفاصيلها واســتخراج كنوزهــا وجــني ثمـارها وجعل فوائدها تعم الناس جميعاً، واستثمار وسائل الإعلام الحديثة المقروءة والمسـموعة وادوات الأدب والشـعر للتوكيد عليها كحقيقــة واعجاز وجعلهــا قــريبة من الواقع اليــومي للناس لتكون دعوة للصلاح والرشــاد والتذكير بالمـوت والإستعداد لليوم الآخر.
ولغة الخطاب في الآية والإخبار الإلهي بانه صار آية عنوان تتشريف واكرام ودلالة على ان الذي مرّ على القرية كان مؤمناً وان ايمانه مستصحب عند استيقاظه وبعثه بعد اماتته.
والآية في المقام على عدة وجوه:
الأولى : الإحياء والإماتة.
الثانية : بعثه في غير زمانه.
الثالثة : سيرته وصلاحه بعد بعثه.
الرابعة : كونه شاهداً على زمانه الأول.
الخامسة : اسباب الإماتة بعد تسالؤه حول احياء القرية التي صارت مندرسة وخراباً.
السادسة : حفظه في بدنه مدة الإماتة.
السابعة : انه آية من قدرته تعالى وسلطانه وعدم استعصاء مسألة عليه.
الثامنة : الإحياء علامة ودلالة على المعاد وحصول البعث.
التاسعة : ان الإحيــاء بعد الإمــاتة لا ينحصــر بزمان دون زمان فليس من خصوصية ولكن الواقعة تأتي لتكون عبرة وموعظة.
العاشرة : حجة في حفظ التوراة وتدوينها من جديد.
والآية متعددة الجوانب والحيثيات كثرة وقلة وشدة وضعفاً وهي انحلالية بالنسبة للناس جميعاً فكل انسان ينتفع من بعض جوانبها او من الجميع وبعد امره بالنظر الى حماره وقيامه بالإمثتال والنظر اليه عظاماً بالية جاء الاخبار عن طول مدة الإماتة في لطف منه تعالى بتقريب العبد الى الإيمان والتصديق بالآيات، فحينما قال اني كنت نائماً ولم يستغرق نومي الا يوماً او بعض يوم.
لقد اراد الله عز وجل ان يساعده في معرفة حاله وطول مدة اماتته بان امره بالنظر الى الطعام والشراب وهما على حالهما لم يتغيرا، وظاهر الأمر اعتباره عدم التغيير مصداقاً لقوله لولا الأخبار الإلهي عن الواقع الحاصل، فجاء الأمر الإلهي الثاني بالنظر الى الحمار لبيان قدرته تعالى على الحفظ والتلف في وقت واحد، وان كلاً منهما امر وجودي يحصل بمشيئته سبحانه، فلا حفظ الأكل والشرب أثر على سريان التلف في الحمار، ولا طول المدة سبب تلف الأكل والشرب، اما بالنسبة للشخص نفسه فكان برزخاً بينهما، لقد اماته الله مع حفظه في بدنه وسلامته من الآفات وهوام الأرض والسباع ليكون هذا الحفظ وحده آية للناس ودعوة لهم للإيمان والهداية.
لقد جاء السؤال عن كيفية إحياء القرية ترى لماذا أماته الله، ولم يبين له كيف يحي تلك القرية، والجواب من وجوه:
الأول: أراد الله عز وجل أن تكون الآية في نفس السائل، وبما فيه حجة عليهم، قال تعالى[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
الثاني: كان بعثه بعد الممات صورة ومصداقاً لعالم القرية بأهلها ودوابها ومؤنها، فقد أمات الله عز وجل الحمار ثم بعثه وحفظ الطعام والشراب.
الثالث: إحياء القرية آية خاصة بالسائل في منطقة مهجورة، أما أمانته وبعثه للناس بعد مائة عام فهو آية عامة ينتفع ويعتبر منها الناس جميعاً لذا قال تعالى[وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ] ومن أسرارها بقائه حياً بعد البعث يخبر الناس عن الأجيال السالفة، ويملي عليهم التوراة ويدعوهم إلى إخلاص العبادة لله عز وجل.
تفسير قوله تعالى [وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ]
تكرر الأمر بالنظر في الآية ثلاث مرات، فبعد مائة عام من الإماتة جاء فعل الأمر (انظر) متعاقباً متتالياً مرة بعد سؤاله [ كَمْ لَبِثْتَ] مما يدل على إمتلاكه لقدراته العقلية كاملة، وبعد النظر الى الطعام والشراب والنظر إلى الحمار، جاء النظر إلى العظام وتحتمل وجوهاً:
الأول : عظام الشخص المار نفسه.
الثاني : عظام الحمار.
الثالث : عظام شخص او حيوان آخر.
اما الثالث فبعيد وخلاف سياق الآية، واما الأول فذهب اليه قتادة وهو ضعيف لأن الله عز وجل خاطبه ابتداءً وسأله عن طول مدة مكثه وامره بالنظر الى الطعام والشراب ثم الحمار للإعتبار والتصديق بل ان النظر تعلق بما حوله مما يمتلكه وكأن الآية تبين حفظه تعالى للعبد وما يملك وانه يوم القيامة يحضر مع ما عنده من الملك والأعيان ليسئل عن كيفية اقتنائها واستعمالها ولتكون شاهداً عليه او عوناً له.
وموضوع الآية هو الثاني أي عظام الحمار نفسه، فالنظر الأول الى الحمار جاء لتثبيت حالة موته وهلاكه وتلف لحمه وهوخير شاهد ساعتها على طول مدة الإماتة في اعانة للعبد للتصديق بطول مدة الإماتة ولينظر الى فضله تعالى عليه بالفارق بين بعثته واعادة الحياة في الحمار.
مما يعني ان الإنسان لا يختلف عن سائر الحيوان بالعقل فحسب وانه لم يكن حيواناً ناطقاً فقط كما عليه تعريف المناطقة، بل ان خلقه وتركيبه وشرفه وما نفخ الله عز وجل فيه من روحه يجعله وتركيبه جنساً آخر عن عالم الحيوان وان هذا المائز يتجلى في البعث والنشور لذا جاءت النصوص بان الناس ينشرون دفعة واحدة لطفاً منه تعالى وتخفيفاً عن العباد في عملية البعث والنشور مع انه يمر بمراحل الإعادة.
لقد اكرم الله عز وجل هذا المار وكل انسان بان بعثه من الإماتة دفعةواحدة بينما جعل اعادة الخلق تجري امامه بحماره، الذي هو مسخر له كانسان ومالك.
وفي المرة الأولى جاءت الآية [ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ] وهنا جاءت بقوله تعالى [ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ ]، ولا تعارض بينهما مع اتحاد الموضــوع ومتعلق الأمــر والنظر فالمراد في الأول ما آل اليه حمــارك من التلف وكيف انه شــاهد على طــول مدة الإماتة وللإعتبار بان نتيجة الملك هي التلف والزوال، وان الخراب لا ينحصر بالمساكن والقرى بل يشمل سائر الممتلكات مع وجــود الفــارق فبعضها من الجمادات كالبنـاء، وبعضـها من الأجسام النامية المتحركـة التي تتوالد وتتكاثر، والتلف يتعلــق بالأفراد وبالجنـس، ولكن الآية جاءت بخصوص فرد منها.
لقد اراد الله سبحانه ان يريه كيفية اعادة الحياة بمراحلها التفصيلية من اعادة هيئة العظام الى حالها قبل ان يكسوها باللحم مع تلفها بعد هذه المدة التي لا تبقى معها العظام وهي معرضة للهواء والريح عادة سواء كان الحمار صغيرا في عمره وتتلف عظامه بسرعة او كبيراً وتقاوم الذوبان عدة سنوات اخرى للتكلس الزائـد الحاصل فيهــا ومنها عظـم العصعص الذي يبقى آخرها لأنه اضخمها واكثر اجزاء الهيكل العظمي قوة وسمكاً.
فالنظر الأول جاء بلحاظ الاسم والعائدية وبيان الأثر، اما النظر الثاني فجاء بحسب الحال، وهذا التفصيل لتثبيت حقيقة اعادة الخلق والمنع من الخلط والإشتباه في التفسير والتأويل خصوصاً وانه آية للناس والآية لا تنحصر باماتته واحيائه بل تشمل طعامه وحماره وملبسه ايضاً، فكما حفظ الله عز وجل الأكل والشرب فانه حفظ له ملابسه التي عليه رأفة به وهو امر مستقرأ من قوله [ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ] لأنه نظر الى نفسه وبدنه وملبسه على حالها لم يطرأ عليها تغيير او تحويل او تبدل وهو اكرام اضافي بستره تعالى للإنسان وعورته، وقد وردت النصوص بان الناس يبعثون باكفانهم لذا تستحب امور في الكفن منها انه ابيض ومن القطن.
ان المرور على القرية جاء كناية عن حال السفر وان السؤال عن الحيوانات الهالكة، او انه عنهما معاً عن القرى والحيوانات الهالكة.
فان قلت: ان العظام ذاتها تتآكل وتنخر وتتلف والآية جاءت بكسوتها لحماً.
قلت: ان قوله تعالى [ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ ] اعم من وجودها هذه المدة على حالها فقد تكون اعيدت بقدرته تعالى ساعة الإحياء والسؤال، وانهناك حذف تقديره (انظر الى اعادة العظام او الى العظام كيف نعيدها)، او انها حفظت بقدرته تعالى.
بحث فلسفي
اختلف الناس في ايجاب المعاد وحصول عالم آخر بعد الموت او عدمه والمليون على اختلاف مذاهــبهم مجمعون على حصوله لم يشــذ احد منهــم وان تباينــت اراؤهم واخــتلفوا او تقاتلوا فيما بينهم.
واستدل على وجوبه بالنقل والعقل، فمن النقل الآيات التي جاء بها كل كتاب نازل من السماء ليكون موضوع المعاد وعنوان الوحدة بين الملل السماوية وشاهد صدق على نزولها من عنده تعالى واتحاد الموضوع والجهة والعنوان قال تعالى [ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ]( ).
اما بالنسبة للعقل فاعادة بناء العالم امر ممكن عقلاً باعتباره من افراد الممكن والموجود، اما الممكن فان الله عز وجل قادر على الممكنات والمقدورات جميعاً، واما الموجود فهو شاهد على امكان حصوله من جديد لأن ما صار ابتداء يمكن حدوثه مرة اخرى ولإتحاد الحكم في المثلين.
واحتج المنكرون للمعاد بانه لو وجد عالم آخر فان طلب عناصره من الأرض والماء والنار ومواضعها يلزم القسر والإختلاف ويلزم حصــول الخلاء بينهــما، ولكن هذين الإشكالين لا يضــران في اصــل الموضـوع والمعاد لأن الإختلاف في العرض والشــكل دون المضــمون وليس من دليـل على حصول الخلاء.
والله عز وجل قادر على الإعادة بذات الهيئة او بصورة اخرى، ثم ان موضوع المعاد يتعلق بالناس، وبعثهم مباين ومختلف عن حالهم في الدنيا فهم في النشأة الأولى على نحو الأجيال والتعاقب فانهم يبعثون دفعة واحدة، وكأن هذه الصحارى والمفاوز والبحار اعدها الله عز وجل ليوم النشور كالبناء الذي يهيئ لمناسبة او ندوة او يعده شخص لإبنائه من بعده.
فكذا هذه الصحارى التي يعجز الإنسان عن اصلاحها والقرى التي تصبح [ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ] يمر بها الإنسان ليعتبر فانما هي جزء من العالم الآخر وموضوع لبعض الأجيال من المتقدمين او المتأخرين ليحشروا عليها ويحاسبوا عليها او ليقيموا فيها خصوصاً وان يوم القيامة ليس كأيام الدنيا [ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ]( ).
لقد تكرر النظر في الآية والظاهر انها الآية الوحيدة التي يرد فيها فعل امر بلفظ واحد يتكرر ثلاث مرات (انظر) للتوكيد على تعدد الآيات وان كل آية منها برهان وحجة.
تفسير قوله تعالى [ كَيْفَ نُنشِزُهَا ]
قرأ حمزة والكسائي (ننشزها) بالزاي وهو المرسوم في المصاحف والمراد نرفع العظام بعضها الى بعض، ويقال انشزته فنشــز أي رفعــته فارتفــع، ويــقال لما ارتفع من الأرض نشــز، لبيان كيفية اعادة العظام وانتزاعها من الأرض بعد انحلالها واستهلاكها فيها فترد الى الجسد ويركب بعضها على بعض في آية اعجازية تشهد على عظيم قدرته تعالى مما يعجز عنه علم الطب والجراحــة الحديث الذي يعالج الكـســور ويقوم بوظائف التجميل ونحوه.
فجاءت الآية للإخبار عن اعادة ايجاد العظام ثم تركيبها بعضها على بعض من خلال المفاصل والروابط، أي انها ليست عظاماً صناعية او من حيوان آخر لتزرع في جسم الحمار بل انها عظامه الأصلية ذاتها.
فان قلت: اذا كانت العظام رفعت من الأرض لتتصل بعضها ببعض في انتظـام والعظام هي اصل هيكل الحيوان، وقوله تعالى [ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ] ظاهره انه نظر الى موضع الحمار.
قلت: ان الموضع لم يكن خالياً من بقايا الحمار وعظامه بل ان بعضها كان موجوداً مفككاً لذا لم تأت الآية بصيغة الإطلاق وتقول وانظر الى عظامه، بل قالت الى العظام وانه حينما نظر الى حماره امتثالاً لأمره تعالى كانت هناك بقايا من بدن الحيوان ليعاد الباقي على تركيبته الأصلية بالإضافة الى غضارتها وما فيها من نخاع وتجويف ودم ومناعة.
والنظر الى العظام فيه اكرام اضافي للإنسان لأن الله اماته نفس المدة ولكن حفظه من تفكك الأوصال والعظام، وكما ننظر الى التباين بين آية الطعام والشراب وحفظهما من جهة، وآية تلف الحمار من جهة اخرى، فكذا يجب ان ننظر الى التباين بين بقاء الإنسان ميتاً في هيئته ذاتها وبين تفكك اوصال الحمار وتناثر عظامه ولحمه، اي ان النظر الى الحمار كان مناسبة لشكره تعالى على الحفظ والتعاهــد وما فيه من التشــريف والاكرام للانسان حياً وميتاً.
قوله تعالى [ ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ]
(ثم) تفيد الترتيب والتراخي ولكن الآية والأمر بالنظر جاء واحداً بمعنى ان الأمر يستلزم استدامة النظر كي تلتئم العظام ويتصل بعضــها ببعض وبـعدئــذ تبدأ مرحــلة اكسائها اللحم، وهو سبحانه قادر على ارجاع حال الحمار الى هيئته الأصلية في الحال بمشــيئته وقولــه (كن فيكون)، ولكنه شــاء ان يجعــل الإعادة على مرحلتين وكل مرحلة تدريجية وليس دفعية للبيان والحجة، لأن امره تعالى (انظر) يفيد الإعتبار والإتعاظ وهما امران يتحققان مع التدريج وتعاقب اعادة الحمار الى حالته الأصلية اكثر منه في حال الدفعة الواحدة، فحينما بقي الطعام على حالــه، فان الحياة تعــود للحمار على مرحلتين متصـلتين ليس بينهما فاصل زماني، فجعل الله عز وجل مرحلة للعظام ومرحلة للحم.
وجاءت بلفظ الكساء وهو اللباس والساتر أي ان اللحم يكون واقية وستراً ولباساً ووقاء للعظام، وان اكتساء العظام باللحم من بديع صنعه تعالى واكرامه للإنسان، وجعل اللحم يكسو العظام فلا تستبين في هيئتها وحركاتها، كما انه سبحانه تفضل بجعل اللحم يكسي عظام الحيوانات ليكون منظرها جميلاً عندما ينظر اليها وليحسن استخدامها والإنتفاع منها وتسخيرها في قضاء حوائجه فلو كان الحمار بهيكله العظمى فقد يشق عليه ركوبه ويهلك قبل اوانه.
وبينما تنمو العظام واللحم والعروق والأعصاب بعرض واحد عند الحيوان في بطن امه وحالات نموه المختلفة فانه في هذه الآية جاء على مراحل خلافاً للمتعارف في خلق وحياة الحيوان فجاءت الآية خارقة للعادة على نحو مركب وبدأت بالعظام واعادة تركيبها والمفاصل ملحقة بالعظام ثم ثنت باللحم وموضوعه لا يتعلق بالإكساء فقط بل بالإيجاد والإعادة وهو امر اهم من الإكساء ولم تذكر ايجاد اللحم الا انها دلت عليه بالإضافة الى ادراك العقل وهل هو نفس اللحم الأصلي للحمار ام انه لحم جديد.
ظاهر الآية هــو الثاني لأنها وردت بصــيغة التنكير والمضارع [ نَكْسُوهَا لَحْمًا ] كما لو تناثر اللحم او هزل الحيوان فان لحماً جديداً ينمو علبه ولا يتعارض هذا مع اعادة ذات الحيوان، والعروق والأوردة تابعة للحم ولم تتعرض الآية للأحشاء كالقلب والمعدة مع اهميتها ولكنها تدل على اعادتها بالدلالة التضمنية لأن الإكساء باللحم والجلد هو آخر مراحل الإعادة والخلق فتبارك الله احسن الخالقين.
لقد اراد الله عز وجل للعباد بهذه الآية الخروج من ظلمة الجهالة الى نور المعرفة، ومن غيابت المعاصي الى بهاء الطاعة، ومن وحشة الكفر والجحود الى السعادة التي تملأ الجوانح بسبب الإيمان والرشاد.
تفسير قوله تعالى [فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ]
جاء البيان في الآية الكريمة عملياً واعجازياً، بالإماتة والخلق والإعادة والنشور، فلابد ان يؤدي الى نور الإيمان وثباته في النفس الإنسانية، (ويتبين) فعل مضارع وفاعله مضمر غير مذكور في الآية وهو على وجوه محتملة منها :
الأولى : تبين له كيف تكون الإعادة والخلق.
الثانية : إن الله على كل شيء قدير.
الثالثة : إن الله يحيي الموتى ويبعث من في القبور.
الرابعة : احياء القرية أمر ممكن بدليل اماتته واحيائه واعادة خلق الحمار.
الخامسة : حتمية احياء الموتى وحصول الحساب.
السادسة : ان الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة.
السابعة : تبين له ان الإماتة كانت لمائة عام وليس ليوم او لبعض يوم.
لقد اخبرت الآية عن تحقـق البيان وحصــول المعرفة وان الآيات جاءت برهاناً ساطعاً ودليلاً قاطعاً على امكان الإحياء، وعلى فرض ان الذي مرّ على القرية هو مؤمن وهو الأرجح وانه نبي فان هذا التبين لا يدل على انه كان كافراً شاكاً بالإعادة والخلق، بل جاء كدرس للإتعاظ وان الله عز وجل تفضل عليه بالإخبار العملي.
وتدل الاية على فضل المسلمين واهليتهم لأخذ دروس الإيمان بالسمع وآيات القرآن، وورد لفظ (يسألونك) في القرآن خمس عشرة مرة كلها عن احكام الشريعة ومسائل الحلال والحرام والروح كما كانوا يتلقون الجواب القرآني بالقبول والإكرام والإمتثال الحسن والفوري.
وحتى هذه الآية استفاد منها المسلمون وكأنها واقعة لهم خصوصاً وان كل مسلم يعلم انها خطاباً وارشاداً موجهة له في مقاصده وغاياته السامية وان كان بصيغة القصة والخبر، وهذا من خصائص قصص القرآن ان تـأثيرها على النفوس متصل ومستمر ويشعر المسلم بحضورها في ذاكرته وذهنه وواقعه ويتلقفها بالتسليم.
وهذا الأمر من مصاديق الحسن الوارد في الوصف السماوي بقوله تعالى [ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ]( )، فمن حسنها انها تنفذ الى شغاف القلوب وتؤثر في اختيار الفعل وترســخ في الجــوانح والأركان، وقوله تعالى [ فَلَمَّا تَبَيَّنَ] اعم من القضية الشخصية فانه تبين للناس جميعاً من خلاله، وهكذا الخطــابات القرآنية توجه للأفراد ولكنها تهم الناس جميعاً.
والوقائع تحدث لأشخاص معدودين ولكن الله عز وجل يجعلها قريبة من اذهان واوهام الناس وتعيش في مداركهم ومخيلتهم وتحتل احداثها حيزاً من محادثاتهم والنقاشات العامة التي تدور بصددها مع الأكرام لمقام النبوة وشخص النبي، وكذا بالنسبة لهذه الآية وان كانت بمرتبة اقل فان النقص في قلة استثمار موضوعها وكيفية توظيف قصة الإعادة والبعث الدنيوي هذه في الواقع اليومي لأنها تصد متقدم لشبهات محتملة تطرأ على الأذهان وردع لأهل الضلالة والجحود ومنع لهم من استغلالها ومحاولة بث روح التشكيك في حقيقة المعاد ولإقامة الحجة على الناس بانه أمر حتمي.
والى جانب الآيات التي تؤكد على البعث والنشور وما اخبر به الأنبياء من حتمية احياء من في القبور فان هذه الآية جاءت بلغة القصة والواقعة لتقريب امر البعث الى الأذهان وجذب الناس الى الإطلاع على تفاصيلها وكيفيتها واستيعاب وفهم مضامينها لتنعكس على الجوانح والأفعال وتكون سبباً للإيمان وباباً للهداية ومناسبة لحياة القلوب.
فاذا كانت القصة تتناول احياء شخص وحماره فانها وسيلة لحياة القلوب واعمارها بالتقوى وهي مادة روحانية لصلاح المجتمعــات بالإقرار النوعي العام بالبعث والحساب وما يترشح عن هذا الإقرار من الإستعداد للنشأة الآخرة بالعمل الصالح والتقوى واسباب الرشاد، ومن طبيعة الإنسان ان الشيء اذا كان حاضراً عنده، وفي ذهنه فانه يتهيء له ولا يغفل عنه وهذه الآية بيان مصغر لعالم الآخرة ودعوة عملية انطباقية لعدم تركه او الإعراض عنه.
لقد جاءت هذه الآية رحمة للناس جميعاً فكل واحد منهم ينتفع منها بمقدار معين بحسب ادراكه وايمانه والتفاته وبيئته، كما انها سلاح بيد المصلحين والعلماء والوعاظ ورجال الفكر والتعليم للتفقه بمضامينها وتبيان مفاهيمها وجعل العالم الآخر قريباً من الأذهان ظاهراً في الأفعال.
قوله تعالى [ُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
قرأ حمزة والكسائي (قال إعلم) على صيغة الأمر، أي ان الله عز وجل امــره بان يعلم بان الله على كل شــيء قديــر وهو موافق لقراءة عبد الله بن مســعود والأعمش، قيل اعلم ان الله على كل شيء، والأرجح ما مرسوم في المصاحف وهو مناسب لسياق الآية وموضوعها ولا يتعارض مع كون الشخص مؤمناً او نبيا.
وفي الآية وجوه :
الأولى : هذا القول لا يدل على سبق الكفر عليه او ان حال الإيمان والعلم امر جديد حاصل مما تبين له بعد الإماتة والأحياء.
الثانية : انه سبب لزوال الهاجس والشبهة التي تطرأ على النفس، وما يخالجها من تساؤل استنكاري عن البعث.
الثالثة : انه رد عملي كريم عن السؤال عن كيفية البعث بعد التسليم به وبحتمية حصوله.
والجواب هو الثالث فالآية لطف الهي وفضل عظيم على الذي مر القرية وعلى الناس جميعاً وهو دعوة للكف عن مثل هذا التساؤل بعد ظهور الآيات الباهرات في قصة واحدة، وقوله [ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ] تقرير وامضاء لإعتراف وتجديد للشهادة وتوكيد للتسليم بعظيم قدرته تعالى، فهذه الشهادة ليست شهادة مستحدثة بعد الاية بل انها ثناء على مقام الربوبية.
انه اظهار للتسليم بقدرته تعالى في ابهى الصيغ وجوامع الكلم، (وحينما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم سرية من اهله وقال اللهم لك عليّ ان رددتهم سالمين ان اشكرك حق شكرك، فقال حينما عادوا الحمد لله على سابغ نعم الله).
ان خاتمة الآية قاعدة كلية وحقيقة عقائدية تنبسط على جميع الممكنات، وان هذه الآية مصداق من مصاديقها وفيها اخبار عن عدم استعصاء مسألة عليه تعالى وان آياته في الكون والآفاق والنفوس، ومن قدرته تعالى استمرار الحياة فاذا كانت الإماتة آية منه تعالى فان بقاء الإنسان حياً آية اخرى تدل على بديع صنعه تعالى وعظيم قدرته سبحانه.
ففي كل استيقاظ بعد النوم بعث جديد، وكل ساعة تمر على الانسان يحتاج فيها الى من يبقيه على قيد الحياة ولا يقدر على ذلك الا هو سبحانه، فهذه الخاتمة جاءت للاعتراف بالآية ذاتها وبما هو أكثر وأعظم منها، انها مقدمة كلامية لمسائل متشعبة في سلطانه وجبروته وقدرته سبحانه.
كما تدل الآية على ان المار على القرية كان مقراً بالذات المقدسة ابتداءً وانتهاء، اما الإبتداء فقوله تعالى [ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ] فقد أقر بوجود الصــانع وتســاؤله تعلق بالإعادة وليس بابتداء الخلق، وهنا ايضاً اظهر التسليم بقدرته المطلقة سبحانه وهو يدل بالدلالة التضمنية على الإعتراف بالربوبية لأن الإقرار بالصفات يأتي متأخراً عن الإعتراف بالذات.
ومن صفاته الثبوتية سبحانه انه قادر مختار وانه ان شاء فعل وان شاء ترك، وقدرته تتعلق يجميع المقدورات ونسبتها الى الجميع متساوية لأن الأشياء جميعها مستجيبة لأمره.
وقوله (اعلم) قرينة مقالية وحالية على استدامة الإيمان عنده وان العلم بعظيم قدرته تعالى مستديم وثابت عنده، وانه لم يقل ما قال قبل الإماتة عن شك او شبهة، وفيه ثناء على مقام الربوبية واعلان عن ثبوت الإيمان في نفسه قبل القول ومعه وبعده.
فمع فضله سبحانه عليه بالآيات فانه سبحانه اخبر عن ايمانه وان الذي رأى هذه الآية مؤمن، لذا وردت النصوص بانه نبي خصوصاً وان موضوع الآية التي قبلها والتي بعدها جاء متعلقاً بابراهيم وبالإماتة والإحياء.
بحث بلاغي عقائدي
في قوله تعالى[ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ] آية 258
في باب المبهمات في القرآن واسبابها ذكر في هذه الآية ان المراد نمروذ ولم يتعين لإشتهاره لأنه المرسل اليه، (قيل: وقد ذكر الله فرعون في القرآن باسمه ولم يسم نمروذ، لأن فرعون اذكى منه، كما يؤخذ من اجوبته لموسى، ونمروذ كان بليداً ولهذا قال انا احيي واميت، وفعل ما فعل من قتل شخص والعفو عن آخر، وذلك في غاية البلادة)( ).
ولكن هذه الآية جاءت بصفة الملك [ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ] مع قرينة تدل على انه ملك بقوله [ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ]، كما ان فرعون ليس اسماً خاصاً لملك مصر الذي ناظره موسى ودعاه الى الإسلام، بل ان اسم فرعون لقب لكل من ملك مصر، ومعناه في العربية التمساح، واسمه الوليد بن مصعب وكنيته ابو العباس وقيل ابو الوليد، كما في اسم كسرى لقب لكل من ملك بلاد فارس آنذاك، واسم تُبّع وانه لقب لملوك اليمن سمي به لأنه يتبع ويتعقب من قبله من الملوك او لكثرة الأتباع والأعوان.
وكل عات فرعون يقال تفرعن وهو ذو فرعنة أي انه صاحب مكر ودهاء، وفرعون على وزن برذون، وقيل انه اسم أعجمي والواو والنون زائدتان، ولوعرف في حال تنكيره لانصرف، وجمعه فراعنة.
وذكر ان فرعون ابراهيم الخليل اسمه سنان، وفرعون يوسف اسمه الريان بن الوليد، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف عليه السم مصر، اليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام.
وقيل ان اسم تُبّع هو اسعد بن ملكي – كِرب – ولا دليل على ان نمروذ كان بليداً او ان فرعون كان ذكياً، فالذكاء ملكة وقوة عند الإنسان وفضل منه تعالى لإعانته على الإهتداء الى الحق وتصديق الرسالات.
والذكاء في الإصطلاح هو سرعة تلقي الشيء لحدة القلب وانقداح النتائج وسهولتها على النفس وقد يطلق على الفطنة، وضدها الغباوة، نعم الناس مختلفون في القرائح والطبائع، واللطافة والكثافة، والفطنة والغباوة، ولكن أدلة التوحيد وظهور الصفات الجمالية والجلالية تتجلى بالآيات الباهرات في النفس والآفاق وتصلح لكل مراتب الذكاء او الغباوة لأن كلاً منها يصدق عليه انه عقل.
ولو شككنا بالملك هل هو ذكي او غبي، فالأصل الذكاء والإبتعاد عن الغباوة لمستلزمات ادارة الملك وتولي شؤونه ولما في التلبس به من تنمية للمدارك العقلية والخبرة والفهم، نعم قد تستحوذ على الانسان وان كان ذكياً النفس الغضبية والشهوية وحب الرئاسة وزينة الدنيا ودوام وجود الأتباع، فيتجه الى العناد ويركبه الغرور والزهو ولا يلتفت الى واجباته التكليفية وبكون موضوعاً لاغواء الشيطان.
ومغالطة نمروذ [ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ] لا تدل على البلادة بل هي من المكر والدهاء والتدليس على الأعوان والأنصار والعتو والكبرياء وتوظيف سلبي لنعمه تعالى الخاصة والعامة، الخاصة بالعقل والصحة،والعامة بأمانة الملك ومسؤولياته الجسام وتحمل وزر الآخرين من اعوانه واتباعه لا اقل بالتسبب ومحاولة حجب الحق عن قلوبهم.
قوله تعالى[وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] الآية 260.
الإعراب
واذ: الواو استئنافية، اذ: ظرف بما ذكر وهو هنا مضاف الى جملة فعلية فعلها ماض لفظاً ومعنى.
رب ارني كيف تحيــي المــوتى: رب: منـادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، والجملة في محل نصــب مـقول القـول، ارني: فعل طلب وسؤال، وياء المتكلم مفعول به اول، كيف: اسم اســتفهام حال، تحيــي: فعل مضـارع وفاعله مستتر، الموتى: مفعول به، وجملة كيف تحيي الموتى في محل نصب مفعول ارني الثاني.
أو لم تؤمن: الهمزة للإستفهام التقريري، الواو: عاطفة.
لم: حرف نفي وقــلب وجـزم، تؤمن: فعل مضارع مجزوم بلم.
قال بلى: جملة مستأنفة للإقرار بالتوحيد، بلى: حرف جواب مختص بالنفي ويأتي لإبطاله كما في قوله تعالى [أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى]( ).
أي انهم اكدوا مجيء النذير بنفي النفي، ولو انهم اجابوا بنعم لكذبوا لأنه يدل على انكار ونفي مجيء النذير والأنبياء.
فخذ اربعة من الطير الفاء هي الفصيحة، خذ: فعل أمر الفاعل ضمير مستتر تقديره انت، اربعة: مفعول به، من الطير جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأربعة.
ثم ادعهن يأتينك سعياً: ثم: حرف عطف يفيد الترتيب والتراخي، ادعهن: ادع: فعل امر مبني على حذف حرف العلة، والفاعل انت، الهاء: مفعـول به، النون: علامة التأنيث لا محل لها، يأتينك: فعل مضــارع مبني على السـكون في محل جزم جواب لطلب، النون: فاعل، الكاف: ضمير في محل مفعول به، سعياً: مفعول مطلق.
في سياق الآيات
بعد محاججة ابراهيم لملك زمانه وبيان قصة اماتة الذي مرّ على القرية وما فيها من مضامين التعجب والبرهان القاطع على البعث والنشور، جاءت هذه الآية متعلقة بابراهيم وهو من الرسل الخمسة اولي العزم، وتتعلق هذه الآيات بشواهد عن كيفية البعث واحياء الموتى لطفاً منه تعالى ولتقريب موضوع الإحياء والنشور الى الأذهان.
ان تتابع الآيات في موضوع واحد يدل على أهميته في الحياة اليومية والعبادية للمسلمين خصوصاً وانها جاءت بصيغة تقريب المدركات العقلية بالأمور الحسية، والأمثلة التي يستنتج منها كل انسان الدروس والعبر، فان الله عز وجل جعل الإيمان بسيطاً في متناول كل انسان لا عوائق تحول دون تحصيله.
فجاءت البراهين الواقعية والأمثلة العملية برهاناً وحجة ودليلاً شخصياً يؤكد حصول البعث النوعي العام بغية التنبيه على لزوم اخذ الحائطة والتفقه في الدين وعدم الغفلة عن الواجبات والفرائض بعد جهاد ابراهيم في الإحتجاج على الملك ودعوته الى التوحيد وتحديد في ملكه وتقبيح فعله امام وزرائه وحاشيته جاء الإكرام منه تعالى بالإستجابة لسؤال ابراهيم عليه السلام.
وبينما تضمنت الآية السابقة آية الحفظ على الطعام والشراب، والإماتة على الإنسان والتلف على الحمارجاءت هذه الآية بخصوص الطير ليدل على هذا التعدد والتنوع على واسع قدرته وعظيم سلطانه سبحانه فما في البر او البحر او الجو لا يتخلف عن الإستجابة لمشيئته.
إعجاز الآية
تظهر الآية المنزلة العظيمة التي نالها ابراهيم عند الله تعالى وامكان السؤال عن كيفية احياء الموتى وتفضله سبحانه بالإجابة العملية لتكون مناسبة لزيادة الإيمان والإرتقاء في مراتب التقوى والصلاح، كما تبين واسطة الوحي بين الله عز وجل وبين الأنبياء، والسؤال عن كيفية الإحياء ويدل بدلالته التضمنية على الإيمان والتسليم بحدوثه.
الآية سلاح
تطــرد الاية الشــك والوســوسة من النفــوس وتردع اهل الزيــغ وتحــول دون اثـارة الشبهات في موضوع البعث والمعاد وتمنــع من تـفــشــيها بين الناس، فهــذه الآيــة ســلاح بيد كل مــؤمــن ومثــال حــي ودليــل حاضــر على امكـان حصول البعث.
مفهوم الآية
لمسألة احياء الموتى شأن عظيم عند الناس قديماً وحديثاً وتعتبر من اهم المواضيع التي يتولى الأنبياء مسؤولية التبليغ والإنذار فيها، ولها عدة جوانب وحيثيات منها:
الأول : التخويف والوعيد.
الثاني : الوعيد والبشارة.
الثالث : الإستعداد لليوم الآخر.
الرابع : جعل البعث حالة قريبة ذهناً وحساً وواقعاً.
الخامس : اتخاذ موضوع النشور وسيلة للصلاح والهداية.
والبعث بعد الموت حقيقة حتمية ولم يكن الأخبار عنه للإصلاح والتخويف فقط، لذا تفضل سبحانه وجعل كل انسان من بني آدم والى يوم القيامة يبلغه امر البعث والنشور سواء كان مسلماً او كتابياً او كافراً جاحداً.
فان قلت: ان الناس أعم من بني آدم، لأن عنوان الناس يشمل آدم وعنوان بني آدم لا يشمله.
قلت: ان آدم كان نبــياً يـؤدي وظــائف التبليغ وأســكنه الله عز وجل هو وحواء الجنة وعاشافي بحبوحتها ورأيا الآيات الباهرات.
وهذه آية من آيات الخلق وعالم التكوين ومن مصاديق رأفته تعالى بالناس ولإقامة الحجة عليهم يوم القيامة، فليس لأحد يومئذ ان يعتذر بعدم العلم والنشور والبعث من القبور.
وترى الكافرين في كل زمان يثيرون الشبهات حول البعث وامكان حصــوله وهــذه الإثارة تــدل في مفهومها على وصول امر البعث الى اسماعهم، لأن طرح الشبهة والإشكال يدل على المعرفة بالموضــوع ولو على نحو اجمالي وليس تفصيلاً، لقد بلغتهم حتمية وقوع البعث والإعادة للحساب فاجتهدوا في المغالطة والجدل والتشــكيك، فجــاءت هذه الآيات امثلة حسية حية على وقوعه وعوناً للمؤمنين للثبات على الإيمان وايجاد الحصانة الكافية من شبهات الجاحدين واهل الضلالة ودعوة للناس جميعاً للإيمان بالبعث وانذاراً وبشارة، انذاراً للجاحدين وبشارة للمؤمنين.
والإيمان بالمعــاد يطــلب بذاته لــذا اعتبر مــن اصول الدين كما يكون مقــدمـة ووســيلة لأداء الفرائض والواجــبات لما ثبت في علم الأصــول من وجـوب مقدمة الواجب، والعقل يدرك لزوم الإستعداد للقادم من الوقائع، والعقلاء يستعدون للمناسبات التي تنتظرهم سواء كانت مناسبات فرح أم حزن، ربح ام خسارة، بناء ام خراب، سعة ام ضيق، فيأخذون الإحتياطات الملائمة ويعدون العدة ويدخرون الأموال والأعيان الكافية والمناسبة.
وللأولوية في الموضوع والحكم والماهية فان مسألة النشور والحساب تملي على كل انسان ذكراً او انثى الإستعداد لها واخذ الحيطة والحذر، وهذا الإستعداد لا ينحصر بمدة معينة او بافعال مخصوصة بل تشمل جميع جوانب الحياة وكيفية التصرف فيها وتدخل في وجوه العبادات والمعاملات المختلفة لذا ترى احكام التكليف الخمس الوجوب والإستحباب والإباحة والكراهة والحرمة تتغشى جميع افعال الإنسان، فما من فعل الا ويكون فرداً من احداها.
وفي الآية بيان لإباحة ســؤال الأنبياء وتفضـله تعالى بالإستجابة وعدم ترك سؤال النبي وتظهر الآية علو مرتبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لم يسئل ربه عن كيفية الخلق بل تلقاها بالتسليم والإنقياد ومن خلفه المسلمون جميعاً وهذا لا يعني النقص او الخلل بسؤال كيفية احياء الموتى بل انه مبادرة كريمة من ابراهيم انتفع منها الناس جميعاً لما فيها من العبرة والموعظة والدروس المستنبطة وفيها دلالة على عظيم منزلة ابراهيم عن الله عز وجل التي تتجلى بالسؤال والإجابة التفصيلية والبرهان، ولغة الحوار واللطف الإلهي التي سبقت الإحياء.
وتدعو الآية الى اجتناب الشك والحيرة والتردد وتعاهد الســكينة في النفوس والاطمئنان في القلوب، وهي خالية من الأذى بالطيرة والوسواس وظاهرها لا يدل على وجودهما او القرينة الدالة عليهما بل العكس، لأن السؤال جاء عن ايمان محض.
وتبين الآية ان هذه الكيفية في البعث جاءت من باب المثال وليس الحصر، كما انها تتضمن تعدد مراحل الإعادة ونفي شبهة الآكل والمأكول.
لقد جاءت هذه الآية بعد دخول ابراهيم في احتجاج جهادي مع الطاغوت وائمة الكفر، عرض فيه نفسه للقتل والهلاك، مما يعني ان الشك لم يساوره وانه كان على يقين من ربه ينتظر الإياب والرجوع اليه.
فالمحاججة العقائدية ومناسبتها وموضوعها وكيفية اقامة البرهان فيها ودحض مغالطة الملك على رؤوس الأشهاد امور تثبت بلوغ ابراهيم اعلى مراتب اليقين وهو امر يفتخر به المسلم والنصراني واليهودي وكل ينتمي الى ابراهيم ويفتخر بمعجزاته الا ان هذا لا يتعارض مع تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رتبة.
وفي هذا التفضــيل دعـوة لكل من بنتمي الى ابراهيم في النسب والولاء والعقيدة والمذهب لإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وســلم خاتم النبـوة وسيد الأنبياء الذي رسخ مسألة المعاد والبعث في الأرض الى يوم القيامة واصبح اهل الكفر والضلالة عاجــزين عن ازاحــة موضــوعه عــن اقرب الناس اليهم وانشــغلوا باثارة الشبهات التي سرعان ما تتبدد امام الحقائق الناصعة والأدلة الدامغة على حصول البعث واحياء الموتى.
وبينما جاءت الآية السابقة بإماتة الذي مرّ على القرية لسؤاله عند مروره على اطلالها( ) [ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ] فان هذه الآية سؤال من عند ابراهيم يتضمن الإقرار بالبعث ولكن موضوعه انحصر بالكيفية، فاستجاب له ربه وفي الإستجابة اكرام منه تعالى الى عدة اطراف وهي :
الأول : شخص النبي بماله من المنزلة العظيمة عنده سبحانه.
الثاني : النبوة كوعاء للوحي ورتبة عالية ورسالة السماء في الأرض وموضوع كريم للتنزيل والأحكام.
الثالث : نبي الله ابراهيم لمنزلته وجهاده واخلاصه العبودية لله تعالى.
والآية شاهد على سعة سلطانه تعالى وان الإماتة لا تنحصر بالإنسان والحيوان بل تشمل الطيور في السماء، وبعثه هذه الحيوانات للشــهادة على الإنســان واقــامة الحجة عليه يوم القيامة، ومن فضله واحسانه سبحانه انه يجري الأحياء على الطــيور في اثبــات قدرته على البعــث، وهذا كاف لكل انسان كبينـة ودليــل على بعثــه مــن في القبــور ولم يســتشـكل احد بتباين الموضوع.
كان الســؤال عن احيــاء الموتى وجــاء المثال بخصــوص الطــير، لصدق حصول الموت على الطــيور وتعطــل الحياة فيها لغة وعقلاً وحكماً وعرفاً وموضوعاً، والقادر على احياء الطير قادر على احياء الإنسان لوحدة موضوع الإحياء، فالمطلوب في السؤال هو الإحيـاء ومثاله يتحقق بالإنسان وغيره، بل اجراء المثال على الطــير فيه اكرام اضــافي للإنســان بأن يجــري المثال على جنس آخر، وفيه دلالة على كفاية هــذا المثـال لمخاطبة العقول ليبقى احياء الطير شــاهداً على حصـول الإحياء للإنسان بعد موته.
ان تعاقب الآيات بخصوص البعث والنشور دليل على موضوعية المعاد في سنن التوحيد ومفاهيم الإيمان، وهو أي التعاقب لطف منه تعالى في توكيد حقائق التكوين بامثلة عملية تصلح للحجة والبرهان، فابراهيم جاهد بنفسه وتحدى الطاغوت في ســلطانه فرزقه الله آية تكون وثيقة قرآنية وشرفاً خالداً وعزاً دائماً ووسيلة لإيمان الناس ونفرتهم من دعوات الضلالة والكفر.
انه جزاء دنيوي حاضر وسبب لنيل ابراهيم الحسنات والثواب بافعال الأجيال اللاحقة من المسلمين فابراهيم لم يحاجــج الملك وحده بل انه احرز بهذه الآية محاججة الجاحدين وسيظل الى يوم القيامة يشارك المسلمين جهادهم في طرد الشبهات ودفع المغالطات التي تتعلق بالنشور وحتمية الحساب.
التفسير
تفسير قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى]
بدأت الآية بذكــر قول ابراهيــم وهــو نبي ورسول من الخمسة اولي العزم الذين اختارهم الله على العباد، وتتجلى معاني الإختيار والإصطفاء بذكر قوله في القرآن ثم الإستجابة له، والواو في (واذا) حرف عطف أي ان موضوع القول معطوف على الآية السابقة وقصة الذي مر على القرية فاماته الله.
وقال الزجاج ان عامل (اذا) محذوف وتقديره اذكر اذ قال ابراهيم.
والأرجح الأول لان العطف له دلالات منها ما يترشح من هذه الآية على الآية السابقة، فيمكن ان يكون العطف امارة على ان الذي مر على القرية نبي وفيه تصديق للنصوص الواردة بانه نبي الله عزير، وان الأنبياء لهم تأريخ مبارك في القصص والشواهد التي تثبت الإحياء عملياً وكأنهم يتوسلون الى الله تعالى ببيان العبر التي ينتفع منها الناس ويستقرأون منها الدروس التي تساعد في صلاح النفوس وطرو الغفلة عنها.
وهذه القصص والوقــائع عون للنبوة وسلاح بيد الأنبياء لهداية الناس وارشادهم الى اصول الدين ومعالم التوحيد، اما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد رزقه الله عز وجل القرآن وهو هدى ورشاد وبذا تتضح المنزلة الرفيعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسـلم ودرجة التشــريف السامية التي نالها من بين الأنبياء وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم”ما من نبى الا وقد أعـطى من الآيات ما مــثله آمــن عليه البشر وانما كان الذى اوتيته وحــيا أوحاه الله إلى فأرجو أن اكون أكثرهم تابعا يوم القيامة”.
هذا بالإضافة الى انتفاع الأولين والآخرين من القرآن وهو اعجاز ينفرد به القرآن من بين الكتب السماوية لتتخلف القواعد الأصولية عن علوم القرآن، فالأصوليون لا يقولون بالإستصحاب القهقري وهو استصحاب يقين حال وموجود الآن على الزمان السابق، ولكن القرآن وسيلة سماوية مباركة ينال الإنسان السابق في زمانه لنزول القرآن الثواب والأجر كما يناله المصاحب والمتأخر في عالم الدنيا عن أوان التنزيل.
فكل مسلم يتعظ بهذه الآية ويجعل الأنبياء قدوة واسوة له ويدرك اتصال حبل الإيمان ووشائج الأخوة بين المؤمنين على اختلاف الأزمنـة وتــعدد الشرائع ومع حصول النسخ بينها، ونسخ الشريعة اللاحقة للسابقة فان احكام البعث والمعاد من الثوابت العقائدية الباقية على حالها، يتغير شخص النبي والرسول صاحب الشريعة ولكن احكام المعاد ذاتها لم تتغير وتحافــظ على لحــوقها باحكــام التوحيــد وكأنها فــرع ثابت منها، مما يــدل على حتمية الحسـاب وموضوعيته في خلق الإنسان وواقعه اليومي، فلا غرابة ان تجد مسائلة متحدة، وجاءت في الأنبياء والأمم السالفة ليترتب عليها الأثر في كل زمان وتكون حاضرة في كل ملة وجيل.
وهناك مذاهب تنعت بالكفر والشرك وحينما تبحث في مناهجها وتاريخها تجدها تؤمن بالبعث والنشور، نعم قد تصيب الغفلة افــراد تلك الأمـم ويعرضــون عما في كتبهم ويزداد الإبتعاد عنها مع تقادم السنين والأيام وقلــة الإكتراث بما عندهم من الفكر الديني، فيأتـي القرآن ليكون حاجزاً سماوياً مباركاً دون تفشي الغفلة وانتشار افكار الضلالة ويتعاهد الإشراقات والمعارف الإلهية التي نالها سادة الأمم السالفة من الأنبياء والصالحين، ومنها ســؤال ابراهيم الذي جاءت به هذه الآية.
لقد اراد الله عز وجل لإبراهيم العز والفخار بعد جهاده ضد الطواغيت ومفاهيم الشرك والضلالة ليكون اماماً للمؤمنين، ويعرف الناس عظيم الثواب الذي يتنزل على المؤمن عندما يخلص العبادة ويسخر نفسه ولسانه وجوارحه لله عز وجل.
لقد ورد لفظ [ َإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ] ست مرات في القرآن اثنتين منها دعاءه [ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ]( )، واثنتين في تقبيح عبادة الأوثان، واحدة منهما خطاب لأبيه آزر والأخرى له ولقومه.
والخامسة في محاججة نمرود، والسادسة هذه الآية بالإضافة الى اقوال اخرى له في التوحيد والجهاد.
والتقسيم الإستقرائي لهذه المرات الست يبين انه جاهد قومه مرتين في عبادتهم الأوثان وذكر له القرآن آيتين في الدعاء للبيت الحرام ومكة المكرمة، ومرة جادل نمرود في لسانه وبدنه واقام عليه الحجة واسكته فيما يتعلق بالحياة والموت ولزوم نسبتهما الى الله عز وجل ويقابلهما سؤاله ان يريه سبحانه احياء الموتى مما يدل على انه لم يسأل لنفسه بل لمن حوله ومن بعده من ذريته والمسلمين كافة فلا غرابة ان يصفه القرآن بانه ابو المسلمين [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ]( ).
بعد الجهاد اراد ابراهيم الجزاء ليوظفه في منفعة الناس وهدايتهم الى سبل الرشاد وايجاد المقدمات العقائدية المناسبة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمساهمة في ازاحة الغواشي الظلمانية واسباب الجحود والشك.
لقد تفضل ســبحانه واذن لإبراهــيم بهذا السؤال ليمنحه الذكر الحســن في الملل والأجيال اللاحقة وليجعله اسوة في الجهــاد، وفيه درس وموعظــة وهــو ان الله عز وجل يثيــب المؤمن على صبره وجهاده وان الثواب على الجهاد لا ينحصر بالنشأة الآخــرة بل يشـمل الحياة الدنيا ايضاً، والشرف في الآية يتجلى بذكـر قول ابراهيم في الكتاب السماوي الجامع والناسخ والذي فيه تبيان كل شيء والإخبار عن الإستجابة لقوله.
ولم يكن قول ابراهيم امراً مجرداً وكلاماًَ محضاً بل هو سؤال ووعاء ومسألة، ولقد ورد النهي في القرآن عن سؤال ما ليس فيه منفعة [ لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ]( )، بينما جاءت الإستجابة لسؤال ابراهيم مما يعني ان اراءة احياء الموتى امــر نافــع، وان الســؤال لم يخــرج عن سنن العبودية وعلم التوحيد.
نعم هذا السؤال جاء من احد الرسل الخمسة اولي العزم وهو عنوان اعتباري تشريفي يؤهله لمثل هذا السؤال، والدنيا دار امتحان وبلاء ومن خصائص الإمتحان فيها ان الإنسان يتخذ سبيل العقل كرسول باطني ويتبع النبي كعقل خارجي في عبادته تعالى بالإضافة الى الآيات الباهرات في الآفاق وفي ذات الإنسان واسرار خلقه، فلا تصل النوبة لأن يطلب كل انسان آية تكون شاهداً على وجود واجب الوجوب.
ومــثل هــذا الطلب وقــع بــه بنــو اســرائيل فجاءت الآية اعلاه لتنهى المسلمين عن كثرة السؤال وهل كان بمقدور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان يسأل مثل سؤال ابراهيم الجواب نعم، ولكن الآية محل البحث اغنت المسلمين واظهرت قــدرته تعالى على البـعث والنشور، وهي دعوة للإيمان والتصديق.
وكما تساءل النبي الذي مرّ على القرية عن كيفية احيائها فجاء الجواب القاطع والبرهان الساطع باماتته مائة عام ليدل بالأولوية على اعادة القرية، فكذا في هذه الآية فان ابراهيم سأل عن كيفية احياء الموتى وبعث الحياة فيهم من جديد افراداً وجماعات، فجاءت الآية بخصوص الطيور واحكامها، والطير اقل خلقة وشأناً وتركيباً من الإنسان الا انه يصـدق على موضـوعه احياء بعد اماتة، وفي تعلق المثال الإلهي بالطير مع ان السؤال منصرف الى الإنسان آية اكرام اضافي للإنسان، أي انه تعالى اكرم الانسان بان لم يجعله مثالاً.
وهو عنوان اكرام اضافي للإنسان ان لا يبعث في الحياة الدنيا وان التشبيه يجري على غيره بما يفيد المطلوب وتحصيل الغايات وحسن الجواب على السؤال.
وفي الآية السابقة لم يذكر اسم الذي مر على القرية وتعددت الأقوال فيه اما في هذه الآية فجاء الاسم صريحاً.
وقال الرازي: (انه تعالى لم يسم عزيراً قال [ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ] وسمي هــهنا ابراهــيم مع ان المقصــود من البحث في كلتا القصــتين شيء واحد، والسبب ان عزيراً لم يحفظ الأدب، بـل قال[ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا] وابراهــيم حفظ الأدب فانه اثنى على الله اولاً بقوله (رب) ثم دعا حيث قال (ارني) وايضاً ان ابراهيم لما راعى الأدب جعل الإحياء والإماتة في الطيور، وعزيراً لما لم يراع الأدب جعل الإحياء والإماتة في نفسه)( ).
ولكــن مقتـضــى قواعد المقـارنــة في بــاب النبـوة تنــزيه الطرفين بالقراءة وفــق قواعد وسنن النبوة والإقتداء بهداهم، فالآية السابقة ابهمت الاسم وهنا اظهرته وفي كل منهما أي الإبهــام والإظــهار اسرار ودلالات تلتقي في توكيد اعجاز القرآن.
والإبهام لا يضر في بيان الموضوع خصوصاً وانه مطلوب بذاته، وهو باب للبحث والتحقيق والتأويل والوصول الى شخص المار من خلال النصوص والقرائن الحالية والمقالية الموجودة في الآية الكريمة واستحضار الآيات الأخرى وفق قرائن تفسير القرآن بالقرآن.
وينفي ظاهر الآية كون المار على القرية كافراً، وهذه الآية وذكر اسم ابراهيم فيها قرينة قرآنية على ان المار على القرية احد الأنبياء باعتبار ان الآيات العظيمة هبة خاصة للأنبياء وزيادة في شرفهم ودعوة للناس لأتباعهم وثواب عاجل على جهادهم وتحملهم العناء والمشاق في سبيله تعالى.
وعلى القول بعصــمة الأنبياء وهـو المشهور بين المسلمين والذي يقول به الرازي ايضاً لابد من تأويل سؤال المار على القرية بما لا يتنافى مع الأدب عند الشك والتردد والإحياء والإماتة عن نفس عزير كانت نعمة عظيمة عليه وآية انفرد بها، مما يدل على اكرام خاص له وباب للثواب والجهاد في امة وجيل غير الجيل الذي ولد فيه.
لقد ورد “اذ قال ابراهيـم” في القرآن ســت مرات وورد “اذ قال موسى” تسع مرات، وورد مرة واحدة لكل من يوسف وعيســى عليهما الســلام ولقمــان، وهـذا التــعدد يبين عظـيــم قــدر ابراهيــم وكثرة دعــائـه وســؤالـه، وقد مدحه الله في القــرآن بقــولــه تعــالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ ]( )، والأواه: الدعاء.
لقد بدأ الخطاب في الآية بلفظ “رب” وهو من امهات الأسماء المقدسة مما يدل على غاية الأدب والإنبعاث من مقام العبودية والذل.
لقد كان كل من الإماتة والإحياء مناسبة لنجاته وحرزاً لسلامته من العداوة والإنتقام والإفتتان، فالإماتة تغييب عن الأعداء وكف لأذاهم عنه، والإحياء الإعجازي حاجب نوراني ومانع سماوي دون وصول اذى الناس له مما يمكنه من نشر احكام الإسلام، وفعلاً فقد استطاع اعادة كتابة التوراة وتصديق الناس به لظهور الآية في ذاته وبدنه وشخصه وزمانه.
ومن بين مقدمات هذه الإستطاعة كف الناس ايديهم عنه وامنه من بطشــهم وغيلتهم وقد اشـتهر في تلك الأزمنة الجرأة على الأنبياء والتعدي عليهم والوشـاية بهم عند السلطان قال تعالى [ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، وبينما نجى ابراهيم من طاغوت زمانه بعد الإحتجاج بآية منه تعالى فانه سبحانه اختار لعزير الإماتة ثم الإحياء، ليأتي رسولاً لقومه بخصال تكوينية تملي على الجميع اكرامه وتقديسه وتقذف في نفوس السلاطين والملأ الرعب منه وتجعل الجميع يذعنون لما يأتي به وكأنه برزخ بين الملك والإنسان.
ولقد ورد عن ابراهيم في التنزيل [ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي] ( )، وحمل تأويله على اقامة الحجة على قومه وبيان ضلالتهم، فكذا بالنسبة للآية السابقة على القول بان عزيراً هو الذي مر على القرية وهو الأرجح فلابد من تأويلها واراد اقامة الحجة على قومه وتطلع الى رحمته تعالى في تعجيل البعث او في اراءة قومه آيات تكون عوناً لهم على الإيمان والتصديق بنبوته.
لقد طلب المدد الإلهي بالآية الحاضرة وهي احياء هذه القرية او انه كان قد اخبر بحصول احياء في تلك القرية فسأل عن اوانه ووقته وهو لم يعلم ان الإحياء انما يتعلق بشخصه اثناء مروره على تلك القرية، كما في قصة ملك الموت مع نبي الله ادريس وقد ورد في حديث الإسراء ” ان ادريس كان له خليل من الملائكة فسأله ادريس ان يكلم ملك الموت ليؤخر قبض روحه فحمله الملك بين جناحيه وصعد به الى السماء فلما كان في السماء الرابعة فاذا ملك الموت يقول: بعثت وقيل لي اقبض روح ادريس في السماء الرابعة وانا اقول كيف ذلك وهو في الأرض، فالتفت ادريس فرآه ملك الموت فقبض روحه هناك”.
فكذلك عزير كان يظن حصول الأحياء في تلك القرية لأنها اصبحت كالميتة باطلالها وتهاوي مساكنها واضمحلال معالمها فجاء الإحياء في ذات الموضع لتكون الآية اعم مكاناً وزماناً والنفع يتعدى الحس والنظر فيشمل الحواس الأخرى الى جانب اشتراك العقل بتوظيف تلك النعمة.
ان هذه الآية والآية السابقة مجتمعتين ومتفرقتين بيان لعظمة قدرتــه وبديع صنعه تعالى وان سلطانه يتجلى بتعدد وتباين الآيات في موضوع واحد وهذا التعدد والتباين دعوة للإيمان ومناســبة لتلقــي دروس الحكمـة من بين ثنايا آيات القرآن المباركة.
وعن محمد بن اسحاق ان سبب السؤال ما جاء في مناظرة ابراهيم مع نمــروذ وقوله [ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ] وقيام نمروذ باطلاق محبوس وقتل آخر، وانكر ابراهيم ان يكون هذا احياء واماتة وتحداه بآية اخرى، عندئذ سأل ابراهيم ربه [ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى] لتكشف هذه المسألة عند نمروذ واتباعه.
ولكن قصة ابراهيم مع نمروذ وقومه تحكي اصرارهم على قتله وقيامهم بجمع الحطب لحرقه واشعلوا النار فيه لإرادة قتله لولا ان انجاه الله عز وجل بآية منه، لقد كان خروج ابراهيم من النار سالماً آية اخرى لنمروذ وقومه.
وظاهر الإحياء انه آية خاصة بابراهيم الذين يتبعونه على الهدى والإيمان.
لقد كان ابراهيم في احتجاجه مع نمروذ واثفاً من امره لم يخامره الشك، لذا فالسؤال هنا جاء عن ايمان واطمئنان لعظيم قدرته تعالى على احياء الموتى.
وليس في الآية ما يدل على حصول السؤال قبل الإحتجاج او بعده الا بلحاظ الترتيب القرآني للآيات وانها جاءت متعقبة لآية المحاججة، والأرجح ان السؤال جاء بعد الإحتجاج، وسواء كان قبله او بعده فانه آية مســتقلة بذاتها بين العبد وربه، وتلك الآية بين النبي ونمروذ، لبيان وظيفة المؤمن وجمعه بين لغة السؤال والدعاء والتضرع الى الله وبين الجهاد ومنع الظلم وسيادة مفاهيم الكفر والجحود.
الأول: ما روي عن الحســن البصري وقتادة والضحاك وعن الإمــام جعفر الصادق عليه السلام: “ان ابراهيم رأى جيفة مطروحة تمزقها السباع، فيأكل منها سباع البر، وســباع الهواء، ودواب البحــر، فســأل الله إبراهيم فقال : يا رب قد علمت أنك تجمعــها من بطــون السـباع والطــير ودواب البحر، فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك”( ).
الثاني: ما روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي: “أن الملك بشر إبراهيم بأن الله قد اتخذه خليلاً، وأنه يجيب دعوته، ويحيي الموتى بدعائه، فسأل الله تعالى أن يفعل ذلك ليطــمئن قلبه، بأنه قد أجـاب دعوته، واتخذه خليلاً”.
الثالث: إن ســبب الســؤال منازعــة نمــروذ إياه في الإحياء، إذ قال: ( أنا أحيي وأميت ) وأطلق محبوساً، وقتل إنساناً. فقال إبراهــيم: ليس هــذا بإحـياء. وقال: يا رب أرني كيف تحيي المــوتى، ليعلم نمرود ذلك. وروي أن نمروذ توعده بالقتــل إن لم يحيـي الله الميت بحيث يشاهده، فلذلك قال ( ليطمئن قلبي) أي: بأن لا يقتــلني الجـبــار”( ).
وهذه آية في الخلق ودرس فيما بعد الموت ومغادرة الروح للجسد، ولكن ذكره كســبب للســؤال محتاج الى دليل من كتاب او سنة.
وذكر ان ابراهيم سأل الله تعالى ذلك امتثالاً لسؤال قومه كما في سؤال بني اسرائيل لموسى [ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً] ( ) فاراد ابراهيم ايمان قومه بمشــاهدة الآيات ولتكون حجة عليهم ويرسخ الإيمان في قلوبهم، أي ان الآية لم تكن شخصية بل كانت له ولقومه وانهم رأوا احياء الطير ولا مانع من هذا الإحتمال ولكن لا دلالة عليه حسب ظاهر الآية، والآية السابقة كانت شخصية حصلت لعزير وحده في آية جمعت معه طعامه وشرابه وحماره ولكنه كان آية ظاهرة للناس جميعاً، اما هذه الآية واعادة خلق الطير فانه يحتمل وجوهاً:
الأول : انها آية شخصية لإبراهيم عليه السلام.
الثاني : انها له ولنفر من المؤمنين كانوا حاضرين الآية.
الثالث : انها نوع تحد وشاهدها جمع من الكافرين ايضاً.
الرابع : انها له ولذريته وللمسلمين من بعده.
ظاهر الآية انها لإبراهيم خاصة لأنها جاءت عن سؤاله هو نفسه وجاء الرد الإبتدائي منه تعالى [أَوَلَمْ تُؤْمِنْ] ولكن عمومات نزول الآية قرينة على الإنصراف عن هذا الظاهر وهذا الظاهر معارض بظاهر مطلق الآيات وانها تأتي للنفع العام ولحصول الآيات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع قومه وبين المسلمين لتكون شواهد يراها الناس كانشقاق القمر وانين الجذع.
فالأقوى ان هذه الآية حدثت لإبراهيم مع رؤية جماعة من الناس لهذه الآية.
وقال الرازي: (ما خطر ببالي فقلت: لا شك ان الأمة كما يحتاجون في العلم بان الرسول صادق في ادعاء الرسالة الى معجز يظهر على يده فكذلك الرسول عند وصول الملك اليه واخباره اياه بان بعثه رسولاً يحتاج الى معجز يظهر على يد ذلك الملك ليعلم الرسول ان ذلك الواصل ملك كريم لا شيطان رجيم وكذا اذا سمع الملك كلام الله احتاج الى معجز يدل على ان ذلك الكلام كلام الله تعالى لا كلام غيره، واذا كان كذلك فلا يبعد ان يقال: انه لما جاء الملك الى ابراهيم واخبره بان الله تعالى بعثك رسولاً الى الخلق طلب المعجز فقال: [رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي] على ان الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم) ( ).
ولكن هذا الإحتمال بعيد والآيــة اعم واشمل موضوعاً واظــهــر دلالة على ان الخطاب بين الله عز وجل وابراهيم وهو من مصــاديق النبــوة وانه لا اختــبار بين الملك والنبــي، والمعجز لم يأت لشــخص النبــي بل يأتي للأمــة من خــلاله، ثـم ان الله عز وجل يتفضــل على النـبــي ويجعــله يعلــم ان الـذي يأتـيــه ملك وليس شــيطاناً او غيره، وتلك من مقــدمات النـبوة ومراحــلهــا الأولى ولا شــك اثـناءها بل تأتي الآيات تترى وتتصل صيغ الوحــي حتى يدرك النبي ان الذي يــأتيــه ملك من عنده تعالى.
لقد رأى ابراهيم في المنام انه يذبح ولده فهمّ بذبحه من غير تردد او ريب، كما ان ابنه اعتبره امراً واجباً كما في التنزيل [يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ] ( )، ومجيء الملك مـرتـبــة اعلى من رتبــة الرؤية في باب النبوة.
وحتى على فرض طلب العجــز فلا صــلة له بـنـوع الملك الذي يأتيه وانه ليس شيطاناً رجيماً حتى على القول بتوسط الملك في آية الإحياء على نحو ظاهر ومحسوس، ومن آيات النبوة ان الله عز وجل يجعل نفس النبي تطــمئن تمامــاً الى ان الذي يأتيه وحي من عنده تعالى، وان الشــيطان لا يستطيع النفاذ له جملة وتفصيلاً، وهو من مقدمات نزول الآيات وتلقي الأوامر الإلهية والأحكام.
وذكر على لسان اهل التصوف: ان المراد من الموتى القلوب المحجوبة عن انوار الكاشفات والتجلي، وانه طلب لذلك التجلي والمكاشفات) ( ) وهذا القول مناف للآيات موضوعاً وحكماً، كما ان الكلام يحمل على الظاهر والواقع المحسوس وان كان من المدركات العقلية.
ويجب ان لا يكون التأويل والتفسير سبباً للإنتقاص من الآيات وما يؤدي الى الإنتفاع الأعم والأوسع منها.
ولا صلة واقعية بين ذبح الطيور وتوزيعها على الجبال وبين مسألة القلوب المحجوبة عن الكشف، بل ان الآية خطاباً ايمانياً لجميع الناس على اختلاف مداركهم وتباين طبقاتهم وتعدد مذاهبهم انها آية حسية قاهرة ويكون حملها على ظاهرها جزء من الإقرار والتسليم بها.
ومما يفتخر به المسلمون على غيرهم انهم يتلقون الآيات المذكــورة في القرآن بالتصــديق لأن العلم بها يصــبح ضرورياً ومن البديهـيات باعتبار انها من التنزيل، واذا ذكرت تأويلات قلبية تؤثر سلباً على الغايات الســامية من الآيــة وموضــوعها فلابد من التعــليق عليها وابطــالها والمنع من جعلها التأويل الوحيد للآية.
وقــريب من هــذا الوجــه ما ذكره الرازي قال: نـظــر ابراهيم صلى الله عليه وآله وســلم في قلبــه فــرآه ميــتــاً يحب ولده فاستحيى من الله وقــال: ارني كيف تحيــي المــوتى، أي القلب اذا مـات بســبب الغـفـلــة كيف يكــون احياؤه بذكر الله تعالى( )، وهذا ابعد.
لقد اظهر ابراهيم الرضا والقبول بالأمر بالذبح وباشره من غير تردد او شك [ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ]( )، وقال تعالى[ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاه ] ( ) ، فهو لم يشك بان الأمر الأول من عنده تعالى مع انه جاء بصورة الرؤيا، ورؤيا الأنبياء وحي، اما العفو ورفع الأمر فجاء بواسطة النداء الإلهي مما يدل على ارتقاء في مراتب النبوة ناله ابراهيم بسبب حسن الإمتثال.
لقد امر الله عز وجل بالدعاء والسؤال قال [ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ]( )، والأمر بالدعاء ينبسط على الجنس البشري مطلقاً أي قبل نزول القرآن وبعــده، وســؤال ابراهيم لم يخــرج مــن عمومات الدعــاء وادب العبودية، لقد اراد ابراهيم استثمار الخلة والقرب من رحمته تعالى فسأل ما يكون باباً لهداية الناس الى دروب الإيمان، وجعل الإذن بالدعاء مقدمــة لإزالة الإنكار من قلوب الناس وطرد الجحود عن النفوس.
لقد اظــهر ابراهيم في سؤاله التسليم بقدرته تعالى على احياء الموتى لأنه لم يسأل عن ذات الإحياء بل عن الكيفية والهيئة التي تعني بالدلالة التضمنية الإقرار بعظيم سلطانه وقدرته سبحانه بالإضافة الى قرينة جداله مع الملك وحصر الإحياء به تعالى كما ورد في التنزيل [ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ] ( ).
لقد اختار اختار ابراهيم وهذا السؤال رحمة بالناس ورأفة بهم لأنه من اهم السبل المحسوسة للإيمان اختار سؤال المعجزة ليؤمن الناس بالبرهان الإني وهو الإستدلال من المعلول الى العلة وان الإحياء دلالة على واجب الوجود ولزوم عبادته، فالبحث في هذه الآية يجب ان لا ينحصر بذات السؤال بل باسبابه وغاياته.
لقد طلب ابراهيم العون منه تعالى على هداية وارشاد الناس برؤيتهم المعجزات الحسية واحياء الموتى، واختار هذه الآية لما فيها من بعث الخوف منه تعالى وتثبيت المعاد في اذهانهم ولاتصالها بآية تحدي نمروذ.
فعند شــيوع مفاهيم الكفر ينحسر الإهتمام بالمعاد وتسود الغفلة عن الحساب ويميل الناس الى التعدي ويتركون العبادة لإنعدام خصــلة الخــوف في النفــوس وغيـاب الرادع الأخلاقي عن السـيئات وضعف الواعز الداخلي الذي يندب الى الصــالحات، ويغيب عنصــر الرجـاء والأمل في الثواب ولا يبقى له اثــر على اعمــال بنــي آدم فجاء ســؤال ابراهيــم لإرجاعهم الى الإيمان بواسـطة دعوتـهــم العمــليــة الى الإقرار بالمعاد بالشاهد الحسي وكأن ســـبل الهداية بــرؤية آيـة الإحياء فاراد ابراهيم حمل الناس على الإســلام ومســـاعدتهم على تلقي مبادئ الإيمان بالإعجــاز في باب الإماتة والإحياء للتبصرة في الخلق والتكوين.
فالأولوية في تحقيق مدلولات هذه الآية تتعلق باهل زمانه وحاجتهم لهذه الآية وموضوع الآية شيوع الكفر في زمانه بدليل مناظرته مع نمروذ، وليس قول ابراهيم ذاته واسبابه الشخصية، انه سؤال يعكس حال الناس والنبوة في ذلك الزمان ويبين اعلان الرسول الحاجة الى المدد الإلهي بالبرهان القاطع الذي يعيد الناس الى اصول الدين.
لقد ادرك ابراهيم ان المناظرة مع نمروذ وهزيمته وتركه مشدوهاً أمام وزرائه وقواده والملأ من قومه لم تؤثر في الناس وتدفعهم الى الإيمان بل اصروا على الكفر والجحود وآزروا نمروذ في جمع الحطب لحرق ابراهيم كما ان نجاته من النار التي تعتبر آية اخرى ظاهرة للعيان لم تجعلهم ينقلبون ويتجهون جماعات وافرادا الى الإسلام والإيمان بما جاء به ابراهيم بل طلبوا منه مغادرة بلادهم، فاضطر الى الإلتجاء له تعالى لطــلب المـدد والعــون بان يريهــم آية حســية تتعــلق بابدانهم وانفسـهم وتقذف الخوف والرجاء في نفوسهم وهما امــران ضــروريان لقــوام افعال الإنســان وصـبغتها بصـبغة الهداية والرشاد.
وانت ترى القائد في جبهة القتال عندما يشرف على الهزيمة او ان النصر يتأخر عليه يطلب المدد من الملك ليبعث له الجنود والعتاد.
ولكن لماذا قال ابراهيم (ارني) ولم يقل ارهم، او أر هؤلاء الكفار كيف تحيي الموتى، الجواب ان الكفار لا يستحقون الآيات وقد اقامــوا الحجة على انفســهم باعراضـهم عن النبوة وآياتها، انما تأتـي الآيات مع الإستعداد للقبول فاراد ابراهيم ان ينتفعوا من وجوده بين ظهرانيهم ويستفيد من جهاده في سبيل الله واظــهاره اليقــين بقدرته تعالى واســتثمار عظيــم منزلته عنده تعالى لتكــون مجتمعــة ومتـفرقة اسباباً لنزول آية الإحياء فينتفع منها الناس، وهــذا من فلســفة النبــوة واخلاق الأنبياء مع اممهم بان يكون النــبي والنبــوة اســباباً مباركـة لهداية الناس الى الرشاد.
ان ذكر اسم ابراهيم في الآية نوع تأديب للمؤمنين وللناس جميعاً باعتبار ان ابراهيم حاز مرتبة في الإيمان والجهاد والنبوة أهلته لهذا السؤال ولا يحق لكل انسان مثل هذا السؤال، نعم الكرامة التي نالها ابراهيم ينتفع منها الناس جميعاً وحالات الأنبياء مع مقام الربوبية فيض سماوي يتغشى الأجيال.
ولم يســأل ابراهيم احـيــاء ميت كمثال، بل سأل بصيغة الجمـع لعلمـه بان الله واســع كريم وانه يعطي بالأوفى والأتم ولعلــه يطـمــع بان يــرى معالم يوم الحشر والنشــور، وجاء الجـواب بصورة الجمع ايضاً فضلاً منه تعالى ولكنه متعلق بالطيور.
تفسير قوله تعالى [ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي]
يتجــلى الإكــرام الإلهي لإبراهــيم بالجــواب على سؤاله وعدم الإكتفاء بسماعه، ولغة الحوار هذه بين العبد والمعبود، والمخــلوق والخــالق، تدل على انعدام البعد بينهما فليس ثمة مســافة وهــو قريب ســبحانه، وان التبـاين بين الممكن والواجب لا ينفــي القـرب والوصــل، ان هذا الجواب وحده عنوان عز وفخر وشاهد على الربوبية والقدرة الإلهية كما يدل في دلالته الإلــتزاميــة على احتمــال الإستجابة بل رجحانها وان هذا الســؤال مقـدمـــة مشــروطة لها، لقــد كان ابراهــيم يــؤمـن بقدرته تعالى على احـيــاء المـوتى، فموضـوع الإيمان في الآية يحتمل وجوها:
الأول : الإيمان بانه تعالى يحيي الموتى.
الثاني : اعادة نشر المؤمنين والكافرين واثابة المؤمنين ومعاقبة الكافرين.
الثالث : ان احياء الموتى في الحياة الدنيا غير ممتنع ذاتاً.
الرابع : عدم الإيمان باستجابته تعالى لمسألته ودعائه.
الخامس : عدم الإيمان بالخلة وان ابراهيم هو خليل الله.
السادس : عدم الإيمان باقامة الحجة الحسية على الإحياء واراءة الملأ كيفيته.
السابع : عدم الإيمان باعانته بالآيات الحسية والدلالات الظاهرة لإيمان الناس.
الثامن : قدرته تعالى على اصلاح النفوس وتقليب القلوب وجعل الناس يميلون الى الإيمان بالآيات الخاصة أو مطلقاً.
ولا تعــارض بين هذه الوجــوه بعد الإقــرار بقدرتـه تعالى على احيــاء الموتى بدليـل ورود الحرف (بلى) لتثبيت ايمان ابراهيم ونفي الإنكار عنه، فاي كان موضوع الإيمان الوارد في السؤال فان الجــواب ببلى يفيـد نفي النفـي وارادة الإيجاب أي نفي عدم الإيمان واثبات الإيمــان بانه تعــالى يحيــي الموتى وانه يثيب المؤمنين ويعاقب الكافرين، ويســتجيب لدعائه، ان ذكر اسم ابراهيم في الآية ينفي أي وجه من وجوه الإنكار او الشك في الآية الكريمة.
لقد اظهر الجواب عناية الهية خاصة بابراهيم وفي هذا الجواب لطف الهي وتأديب للخليل واصلاح لنفسه لتلقي الإستجابة واخبار عن ارتفاع الحجب بين الله عز وجل وبين انبيائه وانتفاع الناس كافة من هذه النعمة، أي انها نعمة شخصية لها ابعاد وتأثير عام.
ان هذا الجواب يفيد بلوغ ابراهيم اعلى مراتب الإيمان وكمال الإخلاص له تعالى ويعتبر الحوار والسؤال والجواب بين الباري وبين العبد في الحياة الدنيا قاعدة كلية تدل على امور:
الأول: الهوية الإيمانية للسائل.
الثاني: رضاه تعالى على السؤال والسائل.
الثالث: ان السائل نبي من الأنبياء الا ان يكون هناك دليل بان السائل من الصالحين ولم يبلغ مرتبة النبوة.
لقد ســأل ابراهيــم اعجازاً من عالم الأمر ليكون شــاخصاً كـريماً وســط مفردات عالــم الخلق، يبعث الرعب والفزع في قلوب الكافرين ويرسخ الإيمان في قلوب المسلمين.
ان انتشار مضامين الكفر في بعض الأزمنة يجعل الأنبياء يلجأون الى الله عز وجل ويرجون اغاثته ونصرته على القوم الكافرين وهناك شواهد كثيرة في القرآن وفي التنزيل وقال نوح [رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي] ( ) [ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ]( ).
وفي التجاء ابراهيم اليه تعالى مستغيثاً طالباً آيةٌ تكوينيةٌ اعجــازية فجــاء الجواب الإلهي [ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ] بصيغة السؤال، وتعقبه جواب ابراهيم لنفي الريب والأقاويل عن ابراهيـم ولتهيـئــة الأذهان للإســتجابة الكــريمة وتلقـيــهتـا باطمئـنــان اذ ان الجواب نوع سـكيـنــة، قــال رســول الله صــلى الله عليه وآله وســلم: “من عـرف نفســه فـقــد عــرف ربــه”.
فهذه الآية توكيد لمعرفة ابراهيم لنفسه وقدرته تعالى وهي دعوة للناس ليعرفوا مرتبة اليقين التي نالها ابراهيم عليه السلام.
وفي العيـون عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: “ان الله تعالى اوحى إلى إبراهيم انى متخذ من عبادي خليلا ان ســألني احياء المــوتى أجبته فوقــع في نفس إبراهـيم انه ذلك الخليل فقال رب أرنى كيف تحيــي المـوتى قال أولــم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي على الخلة قال فخذ أربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم ان الله عزيز حكيم.
فأخذ ابراهيم نســرا وبطــا وطــاووسا وديكا فقطعهن وخلطــهن ثم جعــل على كل جـبــل من الجبال التي حــوله وكانت عشــرة منهــن جزء وجعل مناقيرهن بين أصابعه ثم دعاهن بأسمائهن ووضع عنده حباوماء فتطايرت تلك الأجزاء بعضها إلى بعض حتى استوت الأبدان وجاء كل بدن حتى انضم إلى رقبته ورأسه فخلى إبراهيم عن مناقيرهن فطرن ثم وقعن فشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحب وقلن يا نبي الله أحييتنا أحياك الله فقال ابراهيم بل الله يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير”( ).
تفسير قوله تعالى [ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ]
بعد الإقرار واعلان التسليم بعظيم قدرته تعالى والسفر من الخلق الى الحق، جاءت مرحلة الإستجابة الفعلية ونزول الفضل من الحق الى الخلق.
لقد امر الله ابراهيم باخذ اربعة من الطير وجاء التقييد بالعدد من غــير ذكر نــوع الطير، وهــل الطـيور من نوع واحد او من انــواع واصناف مختلفـــة، وهل هي مــن الذكــور ام الإنــاث ام لا اعتبــار للجنس هنا لأن الآية تتــعــلق بالإحــياء وهي عامة للذكور والأناث، ولا يلتفت الناس احياناً في باب الطيور الى جنس الذكر او الأنثى، الاقوى هو الأخير لقاعدة نفي الحرج وللتخفيف عن ابراهيم في جميع الطيور، ولصدق الاسم على الذكر والانثى، وفي نوع الطيور التي اخذها ابراهيم اقوال :
الأول : اخذ طاووساً ونسراً وغراباً وديكاً، عن ابن عباس.
الثاني : اخذ حمامة بدل نسر، عن مجاهد.
الثالث : اخذ الطاووس والديك والحمامة والغراب، عن الإمام الصادق عليه السلام، وفي رواية عنه بدل الغراب الهدهد.
لقد سأل ابراهيم اعادة الأموات الى الحياة ولو للحظة واحدة وبيان مراحل هذا الإحياء بعد تلاشي اجزاء الميت واستحالة صورته النوعية واختلاط اعضائه مع التراب والمكونات الأخرى واظهار القدرة الإلهية ليعتبر الناس ويرجعوا الى سبل الرشاد فجاء الجواب متعلقاً بعالم الطيور والحيوانات من غير ان يضر بأصل المطلب.
وهذه مسألة اعجازية اخرى فالثابت هو احياء الموتى من الناس، فاخبرت الآيــة عن قدرتــه المطلقة سـبحانه وشــمول مسألة الإحياء للطيـور ايضـاً رأفة بالناس الإحياء منهم والأموات، وعدم ايذائهم بالنشور وما فيه من تجدد الخوف من الحساب والعقاب.
وفيه دلالة سماوية بان الإنسان ليس محلاً للتجارب والإختبارات ومن نواميس عالم البرزخ عدم الإعادة للحياة الدنيا، وان الله عز وجل واسع كريم يتفضـل باستجابة الدعاء انى يشــاء وحيث يشــاء مع تحقق المشــاهدة والعيـان وادراك قدرته الأزلية.
لقد اختار الله عز وجل لإبراهيم الطيور لأنها مسخرة للإنسان وخدمته فشرف الله عز وجل هذه الأفراد والأصناف من الطيور بان جعلها موضعاً لآية البعث، وجاء اختلاف صنف الطيور الأربعة لبيان قدرته تعالى وللتيسير على العباد في الإدراك والإرتقاء في المعرفة الإلهية.
واختيار الطير للتعدد والكثرة وسهولة التقطيع ولسرعة انتقاله وطيرانه وهبوطه من الشجر.
واصل الصر: الجمع والشد، ومنه صرة الدراهم وهي الوعاء الذي تحفظ فيه، ويقال اصررت الصرة أي شددتها، والصر الحبس والمنع، وكل شيء جمعته فقد صررته.
لقد امر الله عزوجل ابراهيم بجميع الطيور اليه ليألف حضورهن ويتعرف على الوانهن واوصافهن الخاصة وما بهن من شية او علامة تميز كل فرد منها عن باقي افراد صنفه.
وعلى فرض عموم الآية ورؤيتها من قبل الآخرين وهو الأرجح فان الناس سيتعرفون على تلك الطيور وعلى نحو الخصوص وصفاً ولتأنس تلك الطيور بالقرب من مشكاة النبوة وتسمع الدعاء والصلاة والنسك لتكون مؤهلة للبعث والنشور بعد الذبح، وفيه دلالة على عدم التعجل بالآية بل انها حصلت بعد التثبت من افرادها للمنع من طرو الشك والريب.
ويمكن حصول الآية والإكتفاء باخذ الطيور من غير ان يصرهن ابراهيم له، فلابد ان في حبس الطيور وجمعهــن اليــه من دلالات وان البعث في الحيــاة الدنيا انما يجــري على الطـيور والحـيــوانات على نحـو الخصوص وان الذي مات من الناس قد التجــأ اليه تعالى ومنعــه سبـحانه فلا يحصل البعث له في عالم البرزخ وقبل قيام الساعة الا ان يأذن سبحانه، والآية تحصل بالأدنى وهو الطير، وهي مجزية عند كل عاقل مع تضمنها لاكرام الانسان وهو في عالم البرزخ.
وعن ابن عباس والحسن ومجاهد ومعنى صرهن اليك: قطعهن، وعلى فرض ثبوت هذا المعنى فيكون في الآية اضمار والتقدير اجمعهن اليك فقطعهن، فحذف القطع من الآية لدلالة اول الكلام وآخره عليه.
وبينما قرأ القراء صرهن بضم الصاد، قرأ حمزة (فصرهن اليك) بكسر الصاد، وقال الأخفش معناها: قطعهن وبه ورد الخبر عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وقال الفراء: اظن ان ذلك مقلوب من صرى يصري اذا قطع ياؤها ولكنه بعيد، والأصل في الكلام حمله على ظاهره.
ومن منافع الابتداء بجمعهن اليه ان الإنسان يفرح بعودة الطيور اليه بعد ذبحها ورجوعها الى ملكه بعد تلفها، ويرأف بها، وكذا بالنسبة للعباد فانهم بعد البعثة يعودون الى ملكه تعالى وهم في حال الحياة ولا يرجون الا رحمته وعفوه وهو باب من ابواب رأفته ورحمته تعالى.
تفسير قوله تعالى [ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ]
بعد الجمع جاء التقطيع ثم جاء توزيع اعضاء الطيور على الجبال على نحو الخلط والتداخل، وفي الجبال وعددها اقوال:
الأول : انها جبال الدنيا، وبه قال مجاهد والضحاك لإصالة العموم بحسب الإمكان، أي وزع اعضاء الحيوانات على عدد من الجبال بحسب امكانك وقدرتك.
الثاني : الجبال اربعة بلحاظ عدد الجهات الأربعة وعدد الجبال، وهو المروي عن ابن عباس والحسن وقتادة.
الثالث : انها سبعة من الجبال لأن ابراهيم كان يشاهد سبعة جبال، فتسمع الطيور دعاءه من الجبال السبعة.
الرابع : عدد الجبال عشرة، وهو المروي عن الإمام الصادق قال: “فاخذ ابراهيــم الطاووس والديـك والحمــام والغراب فقال الله عز جل: فصرهن اليك أي قطعــهن ثم اخــلط لحمهن وفرقهن على عشرة جبال، ثم خــذ مناقيرهن وادعهن يأتينك سعياً ففعل ابراهيم ذلك وفــرقهن على عشــرة جبال، ثم دعــاهن فقال: اجبني باذن الله فكانت تجتمع وتتآلف لحم كل واحد وعظمه الى رأسه، فطارت الى ابراهيم فعند ذلك قال ابراهيم: [ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ]”.
والأخبار واجماع علماء التفسير على ان ابراهيم قطع الطيور الأربعة ووزع اعضاءها على الجبال وخالف ابو مسلم فانكر التقطيع وقال بان المراد من صرهن اليك الإمالة والتمرين على الإجابة، فاذا اعتادت الطيور العودة وعرفت كيفية الإستجابة والمبادرة اليها حينما تدعوها حينئذ اجعل على كل جبل طائراً منها وهو حي، ثم ادعهن يأتينك سعياً للدلالة على عودة الأرواح الى الأجساد وبيسر وسهولة واحتج بالمعنى اللغوي لصرهن، وبعائدية حرف الجر (الى)، ويجاب بوجوه:
الأول : حجية الإخبار.
الثاني : ظهور الإجماع على حصول الذبح، وابو مسلم من رجال القرن الثالث الهجري.
الثالث : وجود حذف واضمار في الآية وهو من اقسام البلاغة خصوصاً مع ظهور المعنى كما في قوله تعالى [ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ ]( )، وقولــه تعالى [ أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ ]( ).
الرابع : ورود تفسير لمعنى صرهن بانه القطع فيكون المعنى ان كيفية تقطيع الطيور واعضائها وكومها راجع اليك في الكم والمقدار فلا يشترط التســاوي في عدد الأعضــاء ولا حجمها للتخــفيف وعموم الآية ومنع الحرج وتحصيل اليقين، وهل يمكن القول بان في الكلام تقديماً وتأخيراً وان التقدير هو: [ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ] انه بعيد وخلاف الظاهر ولا تصل النوبة اليه.
لقد كانت آيــة سماوية واعجــاز الهي تجلـت فيه قدرته سبحانه على الخلــق والإعادة، واســتجابة الدعــاء، فهذه الآية تبين كـرمه سبحانه في زوال الحدود وحواجز الكم والكيف والأين في نزول الوحــي واســتجابتــه لدعــاء عباده الصــالحين، انه حــث قرآني كريم على التمسك بسلاح الدعاء وسؤال ما يخطر في البال مما لا يتعارض مع القواعد الكلية في الشريعة الإسلامية.
وتدل الآية على ارتفاع الحجب عن الدعاء وامكان تحقيق الغايات النبيلة به، بل انه وسيلة لتحصيل مقدمات الهداية والإيمان، فحينما يعجز الإنسان عن دعوة الغير الى الإسلام يتوسل الى الله تعالى بالدعاء لإراءته البراهين التي يزول معها الشك، ولتبقى هــذه الآيــة دليــلاً عقليــاً ثابتاً ينتـفع منه الناس على اختلاف مذاهبهم وازمنتهــم بواســطة القرآن وتثبيته لتفاصيل هذا الإعجـاز ويدعو الى التخلص من الغواشي الظلمانية والإنتقال الى حال النظر الى البعث وكأنه امر حاصل وقريب فمتى ما ادرك الإنسان امكان تحقيق الشيء وقربه فانه يستعد له.
لذا ورد تأويل لإختيار الطيور الأربعة بحسب الخصال المذمومة والتخلــص منها، فالطــاوس يزهــو ويتباهــى ويحب الزينة والترفــع، وروي ان الطاوس كان رجــلاً جميلاً فكابر امرأة رجــل مؤمــن فوقــع بها ثم راســلته بعد ذلك فمسخهما الله طاوسين ذكراً وانثى، وفي الخبر ان الطاوس يدعو بالويل لخطيئتــه، وان خطيئـتــه هـي حمله الحيــة الى الجـنـة والشيطان فيها.
والديك رمز الشهوة والشغف، والحمامة عنوان الهدر والدعة، والغراب اشارة الى الحرص والطلب.
وعلى القول ان النســر احــد الطــيور الأربعــة فانه رمز البطش والتعدي، فان اجتماع صفات الشر والشهوة في هذه الطيور اخبارعن صيرورة الجميع الى الموت وحتمية البعث والنشور، ويدل بالدلالة التضمنية على ان الآية السماوية ذات منافــع متعددة منها ما هو بالذات ومنها ما يكون بالعرض، والجزء من الشيء الطائفة منه، والجمع اجزاء ويأتي بمعنى النصيب.
وجاء الجزء لإرادة الطيور الأربعة في ظاهره للغة الجمع في الجار والمجرور (منهن)، ولا يعني هذا ان الجزء هو الطير الواحد من الطيور الأربعة كما ذهب اليه ابو مسلم.
ولكنه من الإجمال واللف والنشر أي من كل واحد من الطيور الأربعة، ثم ان التقطيع والخلط يجعل من الصعب الفصل بين اعضاء ولحوم الطيور، فهو يحتمل وجوهاً :
الأول : انه جزء من كل طير.
الثاني : اصبحت اجزاء الطيور مختلطة ولحومها متداخلة.
الثالث : كانت الجبال متعددة وجاء الأمر بتوزيعها على الجبال بعدد الأجزاء وليس بعدد الجبال.
الرابع : لبيان عظيم قدرته تعالى وان ابراهيم له الخيار في كيفية التقطيع وكثرة الأجزاء لكل طير اتماماً للحجة فله ان ينظر الى الجبال القريبة ويجعل الأجزاء بعددها.
الخامس : المراد من الجبال كل موضع من الجبل فيمكن ان تكون الجبال ثلاثة ولكن الأجزاء التي توضع عليه متفرقة عشرين جزءً من المجموع المختلط.
تفسير قوله تعالى [ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا]
في هذا الشطر من الآية يتجلى الإعجاز وقد جاء الإخبار عنه قبل حصوله وقبل البدء بالذبح، أي ان ابراهيم يزاول ذبح الطيور وهو يعلم ان الحياة سترجع اليها من جديد، في عوض وثناء عليه حينما اراد ذبــح ابنه وهــو يعلم انه سـيموت ولا يرجع اليه.
وهل هو قياس مع الفارق لأن الابن ثمرة القلب، والطيور لا اعتبار لها ان لم ترجع، الجواب: ان اتحاد الموضوع جهتي يتعلق بباب الإعجاز والإكرام والثواب.
وبعد ان قام ابراهيم بذبح الطيور ونتف ريشها وتقطيع كل طير منها الى عدة اجزاء وخلط لحومها وعظامها ودمائهــا، وامســك برؤوســها عنده، ثم قــام بوضــع الأجزاء على الجبــال ثم صــاح بها: تعالين باذن الله تعالى، فاخــذ كل جزء يطير الى الآخــر حتى تكاملـت الجثث، ثم اقبلت كل جثة الى رأسها وانضــم كل رأس الى جثتــه فرجعت الطيور احياء باذنه تعالى، انها مدرســة النبــوة وما يتــنزل في ســاحتها من الفضل الإلهي.
وقال الرازي: “إحتج اصحابنا بهذه الآية على ان البنية ليست شرطاً في صحة الحياة وذلك لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حياً فاهــماً للنداء، قـادراً على السعي والعدو، فدل ذلك على ان البنية ليس شرطاً في صحة الحياة، قال القاضي: الآية دالة على انه لابد من البنية من حيث اوجب التقطيع بطلان حياتها”( ).
والنزاع صغروي لأنها قضية في واقعة اعجازية وامر خارق للعادة فلا يكون الحكم العام في المسائل الإبتلائية مستنداً اليها لوجود الفارق والمائز، فمن شرائط الإستدلال وحدة الموضوع او وجوه الشبه والتماثل، ففهم وسعي الأجزاء كان دليلاً على استجابة الأموات والجمادات له تعالى وهو جزء من استجابته لإبراهيم وطرد للشك والوهم.
فالمتسالم بين العقلاء ان الموتى لا يسمعون الكلام ولا يتحركون، فجــاءت الآية لتثبت فهم وسماع وحركة اجزاء الموتى، كل جــزء يــفهــم بذاتــه ســواء كان عـظـمــاً او لحماً او دماً او ريشــاً او جلـداً خصــوصــاً وان ســياق الآيــة اعجــازي محض.
وشــرطية البنيــة كــلاً او جزء يمكن معــرفتها بالوجدان والواقع وقول اهل الخبرةوهم اطباء الأبدان والحيوان، وجاءت الآية بلفظ الدعــاء والنــداء أي من غير صراخ او صياح مع كونهن على الجبال وفي حال التقطيع والتجزئة، فمن الآيات ان تشترك الملائكة في نقل الدعاء او انها تهيء وتصلح الطيور وتصلحها للسعي وسرعة السير والطيران فاختيار لفظ الدعاء وحده آية اعجازية.
بحث فلسفي
القديم واجب بذاته ويستحيل عليه العدم، اما ممكن الوجود فهوحادث قابل للعدم والزوال، والإنسان من عالم الممكنات فاراد ابراهيم النظر الى كيفية اعادة الممكن في ماهيته الأولى، والماهية لفظ من الإجابة عن سؤال (ما هو) لبيان ذات وحقيقة الشيء المعقول وهي اسم ذي الأبعاد الثلاثة من غير ملاحظة الوجود والإضافات كما في حقيقة الإنسان انه حيوان ناطق وانسان فلا يدخل في مفهومها الوحدة والتكثر والصحة، والمرض، والوجود والعدم، والكلية والجزئية.
وتنقسم الماهية عدة تقسيمات منها قسمتها الى البسيطة والمركبة، والأولى ما لا جزء لها تتقوم منه ومن غيره، والثانية تتكــون من جـزئين او اكثر لا تتقوم الا بها، فالإنسان والطير ماهــيــة مركــبــة لأنه يكــون من اجـزاء البســيط كالجـوهــر الذي لا جزء له.
وهذا التقســيم اســتقرائي عقـلي فانه لا بسيط في عالم التحقيق والتحليل، وقد ينظر الى الماهــيــة بلحاظ جــهــتي، فيـكـون الطــير بســيط بالنســبة للإنســان كمركــب ولكـنه لا يتحقق لأن الإنســان والطير والحيوان مطــلـقــاً تشــترك بالمكــونــات الجزئية في الجملة وانها تغادر الحياة عند الذبح والتقطيع.
وكل جزء في الماهـيــة المركــبـــة محتاج الى الجزء الآخر المغاير لها ولا يستغني كل منهما عن الآخر، كما ان المركب ذاته يحتاج الى كل جــزء من اجـزائه، ويســتحيل ان يكــون الكل هو الجزء او حمل الجزء على المجمــوع المركب منه ومن اجزاء مغايرة له ذاتاً وموضوعاً.
والتركيب على قسمين خارجي كتركيب الأعداد مثل الخمسة من الآحاد وعقلي وهو الذي يتكون من الجنس والفصل ولابد من تناهيهما كالحيوانية والجسمية، وبالذبح والتقطيع لم يعد جسماً ولا يصدق على الأجزاء المتفرقة بانها حيوان.
قوله تعالى [وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]
من اسمائه تعالى العزيز والحكيم، فهو القوي الذي لا يعادله شيء، والغالب الذي يقهر كل شيء والمنفرد بالربوبية وباقي الخلائق بمشيئته كانت واليه تعود.
وهو الحكيم الذي اتـقن كل شيء خلقه والعالم بوجوه الحكمة وافضــل الأشــياء واتمـهــا ومنها انه خلق الإنسان في احســن تقويم، وجعــل المعــاد حقــاً والبعث والنشـور امراً حتمياً، فاعــادة الموتى فرع قدرته المطلقة وسلطانه وليأتي احياء هذه الطـيور اشراقة تكوينية واشارة عقلية وحسية للنظام الأحسن، ونفي للإمتناع العقلي او الواقعي لمسألة الإحياء بعد الموت.
وخاتمة الاية قاعدة كلية تدل على اتصال الايات منه تعالى وحســن تدبيره للخــلائق وعـدم استعصاء مسألة عليه، وهي دعوة للجــوء اليه سبـحانه والخشــية منه والتضــرع اليه والإستجابة له تعالى.
قوله تعالى
[مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] الآية 261.
الإعراب واللغة
مثل، مبتدأ، الذين: مضاف اليه، وجملة ينفقون لا محل لها لأنها صلة الموصول.
اموالهم: مفعول به، والضمير: مضاف اليه.
كمثل حبة: الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر، ويجوز تقدير مضاف أي كمثل باذر حبة، حبة: مضاف اليه.
انبتت: فعــل ماض، والفاعل ضمير مســتتر تقــديره هي، سبع: مفعول به، وهو مضــاف، سنابل: مضاف اليه مجرور بالفتحــة لأنه ممنــوع مــن الصــرف جـاء على صيغة منتهى الجموع.
مئة حبة: مبتدأ مؤخر، وحبة: مضاف اليه، والجار والمجرور (في كل) متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
والله يضاعف: الواو استئنافية، اسم الجلالة: مبتدأ، يضاعف: فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر يعود الى الله تعالى، والجملة الفعلية (يضاعف) في محل رفع خبر لاسم الجلالة.
لمن: جار ومجرور.
جملة يشاء: لا محل لها لأنها صلة الاسم الموصول (من)
والله واسع عليم: الواو: عاطفة، اسم الجلالة: مبتدأ.
واسع: خبر اول، عليم: خبر ثان.
والسنبلة ساق نبت الحنطة ونحوها من الحبوب وهي مفرد السنبل من الزرع.
في سياق الآيات
بعد آيات الإحياء والبعث والإعجاز والتحدي انتقلت الآيات القرآنية الى موضوع الإنفاق في سبيله تعالى لأنه عنوان الإيمان ومبرز خارجي يدل على استيلاء التقوى على القلب ومعرفة الإنسان بالمعاد.
وهذه الآية تمنع من التحير والدهشة والفزع من النشأة الآخرة وما بعد النشور لما فيها من الأخبار ضمناً عن امكان واحراز الأمان بالتوطئة به بالبذل والعطاء في سبيله تعالى.
فبعد بيان اصل المعاد ولزوم الإقرار به جاء الحث على الإنفاق كوجــه من وجــوه الحكـم الشرعي، وهو سبيل للإحياء في الدنيا والآخـرة، اما في الدنيا فان الصدقة منسـأة للأجل، واما في الآخـرة فان الإنفاق في سبيله تعالى وسيلة لنيل رضوانه سبحانه، وبذا تظهر وجــوه الإلتـقــاء بين هــذه الآية وآيات الإحياء السابقة.
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة على شعبتين:
الأولى: صلة هذه الآية بالآيات السابقة، وفيها وجوه:
الأول: صلة هذه الآية بالآيات السابقة[وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى……]( )، وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين تأسيس الأنبياء لمفاهيم الإيمان في الأرض بما يبعث على الإنفاق في سبيل الله.
الثانية: تتضمن آية السياق الإخبار عن البعث والحياة بعد الممات ومغادرة الدنيا، وجاءت آية البحث للثناء على المسلمين وحثهم على الإنفاق في سبيل الله، وإتخاذه بلغة لعالم البعث.
الثالثة: تبين كل من الآيتين عظيم قدرة الله في الخلق والإيجاد وموارد الثواب العظيم، فلا يقدر على إحياء الطير بعد ذبحه في الدنيا أو الآخرة ولا على الثواب يوم القيامة إلا الله عز وجل، وفي التنزيل[الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ]( )، وتلقتي الآيتان بصيغة التعدد في فضل الله.
الرابعة: جاءت آية السياق في موضوع متحد وهو تجلي آيات حسية لإبراهيم عليه السلام بعد سؤال الله عز وجل، أما آية البحث فجاءت مطلقة لتشمل المسلمين والمسلمين جميعاً، وبعثهم للإنفاق في سبيل الله.
الخامسة: من الإعجاز في نظ الآيات أن الإخبار عن إحياء الموتى باعث للبذل في سبيل الله رجاء الثواب، وهل ينحصر الثواب في الآية بعالم ما بعد الموت الجواب لا، فهو يشمل الحياة الدنيا والجزاء العاجل.
السادسة: يفيد الجمع بين خاتمتي الآيتين إن من قدرة الله عز وجل الزيادة والتوسعة في الرزق للعباد والخلق والإيجاد، وفيه دعوة للمسلمين للدعاء وسؤال الزيادة والفضل الإلهي، قال تعالى[وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
إعجاز الآية
بعد بيان قــدرتـه تعالى على البعث والنشور جاء الوعد الكريم بالمجازاة العظيمة التي لا يقدر عليها غيره سبحانه، وفي الآية توظيف سماوي كريم للمثل وتقريب الكلي العقلي الى الأذهــان بلغـة المحســوس، والواقــع القــريب الماثل امــام الأبصار في كل زمان ومكان، مع اعجاز اضافي وهو توكيد الآية على زيادة الأجــر والثــواب على نحــو المضــاعـفة والتعدد والكثرة، فبعــد بيــان العــدد المتنـاهي جاء الوصف غير المتناهي لنفي الحــدود عــن كــرمــه وفضــلــه تعــالى وهو دعوة للهداية والرشاد.
والسبعمائة من الحبات من حبة واحدة في زراعة نبت الجاورس وهو الدخن، وهي نبتة تنمو إلى إرتفاع خمسين سنتمتراً، ويشتمل على(600) نوع منتشرة في العراق وسوريا واليمن وروسيا وشرق آسيا، وأفريقيا وهذا التعدد في أنواعه وأماكن زراعته شاهد على إعجاز القرآن ومجيئه بالمثل القياسي الموجود في أماكن كثيرة من العالم، وأمارة على إنتشار الإسلام وبلوغه مشارق ومغارب الأرض، وتداخل الأمصار وإطلاع الناس على أحوال الدول، وحصول الإستيراد والتصدير بين دول العالم ليتبادر إلى الذهن المصداق العملي للآية عند تلاوتها، وفيه ترغيب بالإنفاق ورجاء للثواب العظيم.
ترى لماذا لم تقل الآية(كمثل حبة أنبتت سبعمائة حبة)والجواب من وجوه:
الأول: إرادة البيان والتفصيل في وصف النبات.
الثاني: بيان بديع صنع الله عز وجل في عالم النبات، والنظام الدقيق فيها.
الثالث: تعدد السنابل وإستقلال كل سنبلة برزق كريم، وكأن في الآية إشارة إلى تعدد مواضيع وميادين الثواب وأنها لا تختص بجهة واحدة.
الرابع: الآية إخبار عن حال النبت وتعدد السنابل فيها.
الخامس: بيان رحمة الله بالمسلمين في باب الثواب، وصيرورة الإنفاق في سبيل الله باباً للرزق الكريم، وواقية من المجاعة.
ومن الإعجاز في دلالات آيات القرآن ورود ذكر(سبع سنبلات) في سورة يوسف وما لحق أهل مصر في السنين الشداد من الفاقة والقحط.
الآية سلاح
يعتبر موضــوع الآية من مقومات تثبيت اركان الإسلام فالإنفــاق وبذل المال مادة ووسيلة لتحقيق الغايات وتهيئة الأســباب والمـقــدمــات، وجــاء الإنـفــاق بقيد (في ســبيل الله) من غــير تحــديد او حصــر لوجــوهــه ليشــمل كـل ما يصــدق عــليـه انــه نــافــع في احـكــام الشـــريــعــة وفــيـه تعظيـم لشــعـائــر الله.
مفهوم الآية
تمنــع الآية من الشــح مطلقاً وحبس الحقوق الشــرعــيــة وتدعــو بقــوة الى الإنفـاق والعطاء وصرف الأموال تعظيماً لشـعائر الله وفي رفعــة الدين واعــزاز المؤمنين، ولكنها لا تدل على حصر نصر الإسلام بقيام المسلمين بالإنفاق في سبيله تعالى فهو الواسع الكريم الذي لا تستعصي عليه مسألة واذا اراد امراً هيئ اسبابه ومستلزماته ومقدماته بمشيئته تعالى، ومن قدرته سبحانه ان يجعل المعدوم موجوداً من غير اسباب ومقدمات، والآيات السابقة تشير الى موضوع البعث في غير اوانه ومن غير علة مادية.
لقد تضــمنت الآيــة المدح والثناء على الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ويعطون الحق الشرعي ويخرجون الزكاة من اموالهم، ومن مفاهيم هذا المدح حثهم على الإستمرار على الإنفاق وردع الذين يحاولون نهيهم عنه ويدعونهم الى الإمساك خشــية الفــاقـة والحاجة والخسارة او تعرض المسلمين للهزيمة سواء كانوا من داخل بيوتهم او ارحامهم او من المعارف والأصدقاء، كما انها تكبت المنافقين والجاحدين الذي يستهزؤون بمن ينفق امواله في سبيل الله ويسعون لثنيه وصده عن البذل وتيسير الحوائج.
ان الإنفاق في ســبيله تعالى جــهــاد بالمال واحـيـاناً يكون جهاداً بالنفس لما فيه من التضحيــة وتعريض النفس والعيال لإحتمــال الحاجة في المستقبل، فجاءت الآية القــرآنيــة لتنــفي العــوز عن المنفــق وتعـد بالعوض الجزيل والثواب العظيم، وتدعو الى التطلع المستمر الى فضله تعالى وانه يسع كل شيء وليس لعطــائه وكــرمه سـبحانه حدود، ومتى ما تعلق العبد بما عند الله هانت عليه الدنيا وتوجه بعشق وانجذاب الى اداء العبادات والفرائض.
التفسير
تفسيرقوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]
جــاءت الآيــة بصــيغة المثل ولكنها خطاب تكليفي وتشــريــعي لكل مسـلم ومسلمة في كل زمان ومكان، وفيه حث على الطاعات ببــذل المال الشــخصي كواسـطة وسـبب وعون للآخرين على دنياهـم وآخرتهم، فمـنافع الإنفـاق في سبيله تعالى لا تنحصــر بشخص المنفق بل تشمل الذي يستفيد منه والذي يعلم به رؤية او سمعاً او نقلاً وحكاية كما ينفــع ورثة المنفق بما يعــود عليهم من الجــاه وحسن الصيت بالإضافة الى الأثر المعــنوي وترشح الثواب من الإنفاق عليهم وهو من مصاديق مضاعفة الثواب للمنفق بان ينتفع منها المنفق نفسه ولكن في ذريته وعقبه.
والآية دعوة للإنفاق بذكر المثل المشرف والشبيه الجذاب، وفيه انتقال للذهن من حكم مضاعفة الزرع والحاصل الى ثواب الإنفاق، لينفذ الأمر المولوي الى اعماق النفوس ويخلصها من حب الدنيا والتمسك بزينتها ويزيح سلطان الطمع عنها ويحثها على الكسب الأخروي.
وكما يحتــاج الإنسان الزراعة للغذاء ولا يستطيع الإستغناء عن الطعام فان الإنفاق حاجة لقوام الشريعة وسنن الحياة، وبالإنفاق في سبيل الله يتحقق النصـر ويطرد الكفر وتضعف شوكة النفاق.
واخـتيـار الســنبلة امــر له خصـوصية تبين الإلتقاء ووجوه الشــبه بين موضــوعية سنبلة الحنطة والشعير في زاد الإنسان اليــومي وبين الأثر الفعــلي المتصــل للإنفــاق في ســبيلـه تعالى على الفــرد والأمــة والناس مطـــلقاً، فكما انه لا يســتغني احد عن الحنــطـة ونحــوهـا من الحبوب فكذا الإنفاق كل انســان يحـتاجــه مســلماً كــان او غير مســلم أي ان وجــوه الحاجة للإنفاق اربعة :
الأولى : حاجة المنفق نفسه.
الثانية : المنفق عليه او الذي يصله الإنفاق.
الثالثة : الساعي والوسيط بالانفاق.
الرابعة : الناس الآخرون الذين يؤثر بهم الإنفاق.
ان الإنفاق في سبيل الله دعوة الى الإيمان والهداية وباب للتوفيــق وتشــجيع على الصــالحات، فحينما يقوم انسـان بالإنفــاق فانه يدعـو ويحث غــيره على الإنفــاق لما فيه مــن الأسوة والقدوة، وهو مناسبة ليرى الناس ما يترتب على الإنفاق من الأثر الحسن.
وقد يقع الإنفاق على الكافر فيكون له اذى، كما في الذي ينفق الأموال لتجــهيز الغــزاة بالعــدة والسلاح، فهذا الكـافر يخرج بالتخـصــص لأنه اختار بنفســه الإعــراض عــن الحق وتحمل الأذى في الداريــن.
وقد ينتفع من الإنفاق في الدنيا سواء باســلامه عند رؤية قوة وعز الإسلام او بالترغيب الذي يمثله نكران الذات والسخاء الذي عليه المسلمون، الا ترى ان لبس الحرير لا يجوز في الشريعة الا انه جائز في ميدان المعركة ليبدو المسلمون بحــال من النعــمــة والســعة وكأنه دعوة للآخرين لدخول الإسلام.
وهذا المثل يحكي رضــاه سبحانه عن الذين يبادرون الى اخــراج الزكاة والصــدقات الواجبة والمندوبة، ويبين قدرته سبحانه على الجزاء والثواب وعدم وجود مانع او حائل دونها، كما تبين الآية احاطته علماً بكل شيء، وعظيم كرمه واحسانه، فالمال الذي ينفقه العبد من عنده تعالى، وحينما يتصدق العبد بجزء منه يأتيه الجزاء الأوفى.
لقد اراد الله عز وجل بهذا المثــل من المسـلمين ان ينزعوا رداء الدنيــا عن كواهلهــم ويتخلصــوا من الطمــع والشح والبخــل وما فيها من الكدورات التي تحجـب الإنسان عن رؤية ما في الإنفاق من السعادة الذاتية والمعنوية والآثار الكريمة، فبمجــرد ان يقــوم الإنسـان بالإنفاق يحس بغبطة ورضا عن النفس ويكون في مقام الشكر له تعالى على التوفيق للإنفاق والعطاء.
ومن الإعجاز والدقة في الآية انها لم تذكر الإنفاق على نحو الإطلاق بل قيدته (في سبيل الله) ولو لم تقيده لأستغلها اعداء الدين والمنافقون ومن في قلوبهم مرض لتحقيق غاياتهم الدنيئة ومقاصدهم الخبيثة ولجعلوا الإنفاق في الشهوات وما تميل له انفسهم من عمومات الآية تعدياً ولحصل النزاع في مصاديقها وأحكامها.
ولكن الآية جاءت لبناء الإسلام واصلاح المجتمعات ودرء الفتن ودفع الخصــومة والشقاق فلابد ان تتصف بالكمال موضــوعاً وحكماً وامــراً فهــي من الآيات المحكمات التي لا تحتمل تأويلاً آخرا،ً فلم تدع الا للإنفاق في سبيله تعالى وهو عنوان وسور جامع للخيرات ووجوه البر.
فيدخل فيه كل ما يقصد به وجه الله تعالى وطاعته والتقرب اليه واعانة المسلمين والصابرين ومســاعدة الحجــــيج ومد يد العون للفقراء والمساكين من المسلمين، وبذل المال واخراجه من اليد في كل ما يرضي الله عز وجل، ومنه ايضاً بناء المساجد والمستشفيات والجسور والمدارس واعمارها واصلاحها واعانة طلبة العلوم الدينية لتعاهد احكام الشريعة والتفقه فيها والتبحر في علوم القرآن ومنع اندراس العلوم الإسلامية واعانة ابن السبيل واكرام الضيف ونصرة المظلوم وبذل المال في درء الفتن والإصلاح بين المتخاصمين.
بحث أخلاقي في المثل القرآني
لقد جاء المثل في هذه الآية بصيغة الحكمة لذا اعتبرت الأمثال حكمة العرب في الجاهلية والإسلام، ولقد احسن القرآن توظيفه ليرتقي باستعمال المسلمين للمثل بما لم تبلغه امة او ملة من الملل، فهذا المثل مدرسة وحكمة يتصف بالإيجاز واصابة المعنى والتشبيه الكريم وايصال المفهوم وتيسير معرفة المطلب وقد تقدم في الجزء السادس بحث مفصل عن الإعجاز في المثل القرآني.
وصحيح ان هذا المثل جاء للحث على الإنفاق وبيان عظيم نفعه فانه في مفهومه يدل على الزجر والنهي عن الشح وحبس الزكاة وتأخير اخراجها ولا ينحصر الأمر بالحقوق الشرعية فقد لا تقوم بالحاجة الآنية من خلال امتناع بعض الناس عن ادائها فجاءت الآية للدعوة الى الإنفاق مطلقاً أي الواجب والمستحب ومن غير تقييد وتحديد لمقداره وكمه وكيفيته وهو من الكلي المشكك الذي يقع على مراتب متفاوتة كثرة وقلة.
ويأتي المثل من حادثة او واقعة ويصبح مشهوراً بين الناس وتتداوله الألسن ليكون كناية وتعريضاً او مدحاً متعلقاً بصفة او فعل معين، اما المثل القرآني فهو تأسيس لمدرسة بلاغية وجهادية وعقائدية واخلاقية تتعدى اوهام البشر وبينما تتهاوى امثلة الشعوب مع التداخل بين الأمم والتزاحم والتبدلات الموضوعية والحكمية فان امثلة القرآن باقية خالدة تستنبط منها الدروس والعبر وتأخذ منها جميع الأمم على اختلاف مشاربها لأنها لم تبتن على الهوى او العاطفة او المزاج ولم تأت عن واقعة بل انها نازلة من السماء واحكمت اطرافها بدقة اعجازية فهي حجة ونبراس ودعوة.
وبينما تحكي امثلة الشعوب واقعة او تعكس حالة معينة، فان المثل القرآني يتضمن الوعد والوعيد فهذه الآية اخبار عن الثواب العظيم في النشأتين لمن ينفق في سبيل الله وتخويف وانذار لمن يشح بها، انه وسيلة لحفظ النظام وتعاهد القيم المتعارفة وعون على سيادة الإسلام.
ان الإنفاق في سبيله تعالى حياة في النشأتين لذا جاءت آية الإنفاق في سبيله تعالى بعد آيات الإماتة والإحياء، أي من شاء الحياة وطــول العمر فلينفق في سبيله وكذا بالنسبة للبخل والإمساك فيه اماتة وقصر العمر وعدم صرف البلاء والمرض وموت الفجأة، فمن مفاهيم هذه الآية شراء طول العمر وحسن العاقبة بالإنفاق في سبيله تعالى واجتناب البخل وهو من اسرار سياق الآيات.
وجاء في دلائل الإمامة عن الإمام الحسين عن أمه الزهراء عليها السلام انها قالت: (قال لي أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إياك والبخل فانه عاهة لا تكون من كريم، وإياك والبخل فانه شجرة في النار، واغصانها في الدنيا فمن تعلق بغصن من اغصانها ادخله النار).
والبخل: الشح في الشيء وخلافه الجــود، وللبخل معنيان، ففي العرف منع السائل وقلة الكرم، وفي الشرع منع الواجب، ومعناه العام منع العطاء والشح بالعلم والنصيحة، واهل البيت عليهم السلام للعصمة وتاديب النبي صلى الله عليه وآله وسلم منزهون عن وجـوه البخل والشــح مطلقاً، ولقد جادوا بأرواحهم الطاهرة في سبيل الله وشوقاً للقائه وتثبيتاً لاركان الاسلام في الارض.
وعملاً بأصالة الاطلاق في علم الاصول فان المراد من البخل المنهي عنه في الحديث هو المعنى الاعم الشامل لوجوه الشح والامساك في الميادين المختلفة وعلى كافة مراتبه، اذ انه من الكلي المشكك الذي له مراتب متعددة ومتفاوتة ولكنها تشترك بمعنى وموضوع واحد.
قوله تعالى [كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ]
الحبــة واحـــدة حبـــة الحنطــة ونحــوهــا مــن الحبــوب كالشــعير والعدس والأرز، وذهب ابن منظور الى التفصيل بين الحبة – بفتـح الحــاء- وهــو بــزر ما بذر بذراً، اما الحبة – بالكســر- فهــو بــزر كــل نبــات ينــبـت وحــده مــن غــيـر ان يُبذر.
وقال ابن دريد: انه بزر العشب( ).
ومن اعجاز القرآن ان تواجهك في كل آية مسألة تستلزم التحقيــق واســتنباط الأحكام وتتعـدد فيها الأقوال مع ادراك اولي الألباب بان تلك الأقوال لم تستوف البحث ولم تعط موضوع واحكام الآية حقها، لتبقى الآية تعرض نفسها على أهل المعرفة وحملة العلم.
واختلف المفســرون في امكان حصــول ما ورد في الآية من مثل السنابل السبع وحمل كل واحدة منها مــائة حبة، ولم ينحصر الخلاف والنقاش بهم بل شمل عامة المسلمين في منتدياتهم ومجالسهم مع اقرارهم بنزول الآية من عند الله تعالى وفي الآية وجوه :
الأولى : ان المثل ممكن التحقيق وهو ليس معدوماً واقعاً.
الثانية : شــوهــد المثــل في ســنبلة نــبـت يســمى الجـاورس .
الثالثة : انه مجرد مثل والأمثلة تضرب ولا تقاس.
الرابعة : ان السبعة والمائة والسبعمائة عنوان الكثرة والزيادة والعرب تعتمد السبعة والسبعين والسبعمائة للدلالة على الكثرة والتعدد.
الخامسة : بشارة العلوم الحديثة في الزراعة .
المختار الثانية والخامسة أعلاه , وأن المثل في هذه الآية حاضر أيام التنزيل في نبتة الجاورس ( الدخن ) كما أنه متقدم على زمانه في الحبوب مطلقا , وهو بشارة التحصــيل العلمي وتحــقيق هــذا العــدد من الناتــج للحبة الواحدة مستقبلاً سواء بالإستنساخ النباتي او نباتات الأنابيب وزراعة الأنســجة او الهندســة الوراثية، والأخـير هو الأصلح لهذا الباب في انشــطار الخلـيــة الخضريــة واجـراء دراسات وعمليات مختبرية لأحداث طفرات للحبة تجعلها تعطي هذا العدد من الحبات.
فحينما يحصــل هذا الأمــر قريبــاً يدرك الناس اعجاز القرآن في هذه المســألة وانه اخبر عن حصــولها وامكان تحقيقــها قبـل اكثر من الف واربعمائة سنة ويمكن ان يزيد العدد في بعض الحالات على سبعمائة حبة ليكون مصداقاً لقوله تعالى [وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] ولمنع الشك والريب، وترك باب العلم مفتوحاً للمزيد من الدراسات والتحصيل والنفع العام، بل ان هذه الآية دعوة لتحسين الناتج من الحبوب ونحوها واستثمار العلــوم في باب الزراعة، وهو حاجة ورد عملي على اولئك الذين يقولون بتحديد النسل خشية الفقر والإملاق.
وعدم وجود هذا الصنف من الحاصل في الحبوب زمن النزول في موضع النزول وهو الحجاز لا يضر باصل الموضوع لأن القدر المتيقن من المثل بيان عظيم فضله واحسانه تعالى وانه يفوق حد التصور وان نواميس السماء اعظم واكبر من القواعد الكلية في الأرض وعالم الدنيا، والإخبار عما في الأمصار وسعة الأرزاق وبشارة انتشار الإسلام .
وفي الآية اشارة الى ثمار الجنة وما لها من خصوصيات كريمة مما لم تره عين او تسمع به اذن.
ومن الإعجاز في الآية عدم ذكر البذر في الأرض بل جاء المثل بلحاظ الحبة مطلقاً سواء بالبذر في الأرض او بما ينبت من غير عمل من الإنسان كما في العشب او من المعالجة الصناعية، وعلى فرض عدم وجود مثل هذا العدد من السنابل وثمار البذر فانه اعجاز آخر للدلالة على ان ثوابه تعالى اعظم مما في الدنيا، وان عطاء الآخرة وما في الجنة من الثمار اعظم واكثر واكبر مما في الدنيا.
وتعقب الإنبات للحــب يتضــمن الإخــبار عــن الثواب العاجل وعــدم انحصاره بالثــواب الأخــروي، فالآية بشــارة الســعة والغنــى للمنفقــين في ســبيل الله، ومن اراد الثروة والمال في الدنيا فلينفــق في سبيل الله، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وســلم: “التوحيد نصــف الدين واســتنزلوا الـرزق بالصــدقــة”، وعــنــه صــلى الله عليه وآلــه وســـلم: “تصــدقــوا فـان الصــدقــة تــزيــد في المــال كثـــرة فتصــدقــوا رحــمــكــم الله”.
والصدقة بعض مصاديق الإنفاق في سبيله تعالى، واذا قسمنا الإنفاق تقسيماً استقرائياً فمنه الإنفاق تعظيماً لشعائر الله ومنه ما يكون باباً من ابواب الجهاد والرباط، وما يحتل موضوعية في حفظ أحكام الشريعة.
ومن منافع الإنفاق انه حــرب على خصلة الطمع الذميمة عقــلاً وشــرعاً، وعن الإمام علي عليه السلام: “اكثر مصارع العقــول تحــت بــروق المطــامــع”، وفيه شــكر لنعـمة الإيمان والمال.
والآية ترغيب بالإنفاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقاً.
وهذه الآية بشارة دخول الجنة بالإنفاق لأن عدم حصول هذا الثمر والتكثر في الدنيا اخبار عن نيل المؤمن عظيم الثواب في الآخرة، فهذه الآية تدل على طريق من طرق الجنة وباب من ابوابها يدخله المسلم بانفاقه في ســبيل الله تعالى ولكن الإخبار جاء على نحو الإشارة والترغيب والتحريض لموضوعية الفرائض في حياة المســلم ولــزوم ادائها، لذا جــاء قيد (في سبيل الله) ليكون الإنفاق بنية القربة والطاعة لله وليس رياء او فخراًُ او لأغراض دنيوية.
وتبين الآية الدقة في مقدار الثواب المقرونة بالكثرة والتعدد والله عز وجل اذا وعد وفى.
تفسير قوله تعالى [ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ]
احسان وثواب اضافي لا يقف عند حد محدود ومن الإعجاز فيه انه جاء بعد ذكر الكم الهائل من الثواب والسبعمائة ضعف وورود مثل الســنابل بيـاناً وتذكيراً بمنافــع وثواب الإنفاق في سبيله تعالى.
ولم تجعل الآية للمضاعفة وصفاً معيناً او مقداراً معلوماًبل ذكرت على نحو الإطلاق والتنكير مما يعني عدم الحصر، وعدم الحصر هذا لا يتعلق بالحكم وحده بل يشمل الكيف والزمان والمكان والأشخاص فمن الزمان توالي الثواب مع تقادم الأيام والسنين فقد يثيب الله عز وجل العبد على انفاقه في سبيل الله بعد سنة او سنتين او عشر او عشرين سنة او خلال هذه المدة كلها وما زاد عليها.
وتعدي موضوع المضاعفة ايام الحياة الدنيا وشموله للآخرة مما لا يختلف فيه اثنان من المليين لأن المدار على الآخرة وحاجة الإنسان لرحمته وفضله تعالى حينئذ اشد واقوى.
ومن الأشخاص ان المضاعفة تشمل الذرية وقد تشمل الأرحام والجيران والأصدقاء لذا جاء المثل بالحبة والسنبلة الملكوتية لأن المنافع من الطعام لا تنحصر بالشخص نفسه باذراً اوزارعاً او مالكاً والثواب من الكيف والنوع لأن العوض لا يكون بالمال وحده بل بالمال والأجر ومحو الذنوب وطول العمر ودفع البلاء والأذى وصد المكر والكيد ورفع المرض والوهم واسباب الحزن والخوف.
بالإضافة الى التوفيق واستدامة الهداية والإعانة على امور الدين والدنيا، وهذا التباين الموضوعي بين الأعيان التي تنفق وبين مصــاديق الثواب لا يمنــع من معرفة المضاعفة بموازين السماء والعقل، فلو اتفق ان ابتلي الإنسان بمرض يعاني معه من الألم ويجعل النوم يغيــب عن عينيه فانه يــود لو انفــق كل ماله من اجل الشــفاء العاجل، اما الإنفاق في سبيل الله فانه سبيل لدفع المرض وحائل دون الإبتــلاء به وهو ســبب في محوه وان كان مكتوباً.
وقد اختلف الفلاسفة وعلماء الأخلاق بامكان او استحالة تغيير الأخلاق المذمومة عند الإنسان الى اضدادها من الأخلاق الحميدة والصفات الحسنة.
والحق انه امــر ممكن وان الإنسان في حال تلقي وتأديب مستمر في ليله ونهاره وايام عمره، نعم هو امر مختلف بلحاظ السجايا والعادات ودرجة ترشح بعض المفاهيم في الذهن وبروزها على الجوانح والأركان، فكلــما كانت اكثر ثباتاً في النفس تحتاج تعليماً وتأديباً اكثر، لذاجــاءت الآيـة القرآنية بالبشارة العظيمة التي يسعى لنيلها كل انسان سواء كان مؤمناً او كافراً ولكنها اخرجت الكافر بالتخـصص بذكر قيد (في سبيل الله) من غير ان تحجبه نهائياً عن الإنتفاع منها بل دعته الى الإسلام اولاً كي يصــدق منه قصــد القربة ونية الإخلاص والسعي لإقامة الدين.
وهذه الكثرة في افراد الثواب حجة على الناس جميعاً ودعوة لهم لعدم التفريط بها ولزوم استثمار الحياة الدنيا لإرادة الربح الأخروي وللعلم بان افضل التجارات ما كان في سبيل الله كما ان انتظار الثواب بعد الإنفاق مناسبة كريمة للتعلق برحمته تعالى والتطلع الى اياديه الكريمة، والأمل بنزول الفيض والبركات منه سبحانه وهذا الإنتظار يقترن بالدعاء والصلاح واداء العبادات، فالآية منهاج متكامل لتهذيب نفس المسلم والأخذ بيده الى سبل النجاة والفوز في النشأتين.
وضعف الشيء مثلاه، وقال الزجاج: واضعاف الشيء: امثاله، وقال ابن منظور: اما كتاب الله عز وجل فهو عربي مبين، يرد تفسيره الى موضوع كلام العرب الذي هو صيغة السنتها، ولا يستعمل فيه العرف اذا خالطته اللغة، والضعف في كلام العرب اصله المثل الى ما زاد، وليس بمقصور على مثلين وقال ان الضعف في كلام العرب زيادة غير محصورة( ).
فقوله تعالى (يضاعف) يحمل عدة وجوه:
الأول : المضاعفة بالمثل فيكون المراد منها ان الثواب الف واربعمائة مرة.
الثاني : المضاعفة بمثلهن، وهو مقدار السبعمائة مع ضربه في ثلاثة، ويقول العرب هذا ضعفه أي مثلاه وثلاثة امثاله.
الثالث : المقصود من المضاعفة عشرة امثال لقوله تعالى [ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( ).
الرابع : (اقل الضعف محصور وهو المثل، واكثره غير محصور)( ) فيكون المراد ان المضاعفة في الآية قد تكون بالمثل وقد تزيد عليه مرات عديدة، فلو انفق اثنان كل منهما مائة دينار، والأول لا يملك غيرها او انها شطر ماله، بينما لا اعتبار لها بالنسبة لأموال واملاك الآخر فان الثواب يختلف كثرة وقلة الا ان يشاء الله.
الخامس : الضعف هو الزيادة مطلقاً، يقال ضعف الشيء يضعفه اذا زاد، وفي الحديث: “تضعف صلاة الجماعة على صلاة الفرد خمساً وعشرين درجة” أي تزيد عليها بهذا العدد من الدرجات.
ومن الإعجــاز في الآيــة الكريمة ان هذه الوجــوه الخمســة كلها من مصاديــق المضــاعفة في الآيــة ولا تعارض بينها، بل ان التعدد ووجود طرفي الكثرة والقلة فيها دعــوة للإجتهاد في الإنفاق في سبيل الله وعدم التردد فيه وهذه المضاعفة مقيدة موضوعاً وحكماً بمشيئته سبحانه، أي بعد ان اخبرت الآية عن الأجر العظيم للإنفاق وان الدرهم بسبعمائة درهم وهو اجر من ينفق بنية القــربة مطلقاً سواء كان غنياً او فقيراً رجلاً او امرأة، حراً او عبداً.
وجاءت المضــاعفة مقيــدة بمشــيئته تعالى، وهذا التقيـيد لا يعني التشــديد ووضع الشرائط وايجاد الموانع، بل انه في حقيقة دعــوة لنيــل هذه المضاعفة وهذا من لطفه وكرمه تعالى ومن اسرار المعارف الإلهية فالآية تحث على نيل مضاعفة الأجر، وتلك التي جعلها الله عز وجل بيده ولكنها كالثمر المتدلي من السماء يدعو المنفقين الى اقتطافه واحرازه من غير ان يضر اقتطاف البعض بحق الآخرين في نيله بالذات او غيره لأن خزائنه سبحانه لا تنفذ.
ونيل الأجر المضاعف بوجوه:
الأول : الدعاء.
الثاني : الإخلاص وحسن القصد والنية الصادقة.
الثالث : ما يتعلق بمواضع الإنفاق وهل هو على نحو القضية الشخصية ام انه جاء لبناء دعائم الدين والحفاظ على احكام الشريعة وابواب الجهاد.
الجواب: كلاهما معاً من غير تعارض بينهما مع الاقرار بالتباين الرتبي وان الأولى فرع الثانية وجزء منها.
وفي الآية حذف وتقــديره والله يضاعف الثواب لمن يشاء من المنفقــين، انه ترغيــب كريم بالإنفـاق وهو من اللطف الإلهي الذي يعني في الإصطلاح تقريب العبد الى الطاعة وابعاده عن المعصــية، فان النفوس تميــل الى الجـزاء الحسن وتحب ولوج اســـبابه ومقدماته، فالآيــة تضــفي نــوع غبطــة وسرور على المـؤمن ساعة الإنفاق وتجعــلــه يقبــل بشــوق على مواطــن الإنفاق وهو ينزع رداء الشح والبخل ويمتنع عن الإلتفات الى النفس الشهوانية وما يدعوه الى الخشية من المستقبل المجهول، ويدل مضمون الآية على قهر النفقة لغدر الأيام وغواشي المصائب والفواجع، فالنفقة تدفع البلاء وما يستلزم الإنفاق القهري.
ان قوله تعالى [ لِمَنْ يَشَاءُ] حث على التقوى وفعل ما يؤدي الى نيل المضاعفة، وهو مناسبة لإصلاح النفس وتعاهد الإنفاق بحسن السمت واداء الفرائض وعدم خلط الحسنة بالسيئة، وهل ينحصر الإنفاق في الآية الكريمة بالمال والأعيان ام يشمل الإعتباريات، الجواب: هو الأخير فانه يشمل من ترك الجاه والمنصب في سبيله تعالى وترك الراحة والدعة، واختار الهجرة والغربة وما فيها من الوحشــة والمشقة والعناء وما يحتمل من الأذى والإبتلاء.
تفسير قوله تعالى [ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ]
من اسمائه تعالى “الواسع” وهو الذي وسعت رحمته كل شيء ولا تنفذ خزائنه، ولا يخرج عن قدرته شيء وهو العليم الذي احاط بكل شيء علماً، وجميع الأشياء حاضرة عنده يعلم ذاتها وماهيتها وحقيقتها وما كان وما يكون.
فهـو الــذي يســع فضــله جميــع المحســنين ولا تضــره مضــاعفة الثواب اضعافاً كثيرة، والمضاعفة لا تنحصر بالكم والمقدار بل تشمل الكيف والإستدامة وهو العالم بكل ما يبذل في سبيله ومن يجاهد بماله ونفسه وجاهه واجتماع صفة الواسع والعليم في هذه الآية له دلالات تتعلق بالعطاء الإلهي غير المتناهي وباحاطته علماً بكل شي، ومنه الدعاء والتضرع من اجل قبول الإنفاق ومضاعفة الأجر واتصاله وتفرعه وتعدد ميادينه وعدم الوقوف عند الإنفاق نفسه، والله هو الشكور الذي يجازي على الإحسان والجود.
بحث روائي
اخرج ابن ماجة عن الحسن بن على بن أبى طالب وأبى الدرداء وأبى هريرة وأبى امامة الباهلى وعبد الله بن عمرو وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: “من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة ســبعمائة ألــف درهــم ثم تلا هذه الآية [وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ]”( ).
أي ان المضاعفة تكون بالجهاد بالنفس فاذا خرج المنفق نفسه الى الدفاع والمرابطة فمن بركات هذا الخروج ثوابه الذي يترشح على المال الذي ينفقه بزيادة الأجر ومضاعفة الجزاء الحسن، وهذا سر من اسرار فلسفة الجهاد في سبيله تعالى وبيان موضوعية واهمية المبادرة الى الجهاد بالنفس خصوصاً وانه يكون احياناً واجباً عينياً على المكلف.
ويبين الحديث الشريف ان الإنفاق على مراتب وارقاها واسناها ما يطرأ عليه الإنفاق بالخروج الى القتال والمخاطرة بالنفس وهي اغــلى ما عنــد الإنسان، ويمكن القول انه من موازيــن يوم القيامــة ان يكون ملاك وقدر انفاق مالي لبذل النفس والجــهــاد بالسيف في ســبيله تعالى، كجــزء من موازين يوم القيامة وما لهــا من ضـوابط وقواعد مبنية على الرأفة والرحمة ولا يكون التبايــن في الماهيــة مانعـاً من التمايز الاجمالي، لو ان المقادير تعرف بلحاظ مقدار الأجر والثواب فيستقرأ منه المائز.
فيأتي شخص يوم القيامة وقد انفق ديناراً في سبيل الله، ويأتي آخر قد خرج بالسيف وجاهد بنفسه في سبيل الله ليكون تقديراً لإنفاق مالي له بخروجه هذا، ولابد ان يكون مقداره اضعاف ما ينفق غيره من ماله لأن الجود بالنفس غاية الجود، وما يصلح ان يكون ضميمة ومرجحاً يصلح ان يكون بذاته ذا اعتبار وشأن في نفس الموضوع.
وقد ورد في الخبر عن الإمــام الصادق عليه السلام: “اذا احســن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف فذلك قول الله: [وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] فأحسنوا اعمالكم التي تعملــونها لثواب الله، قلت: وما الاحسان ؟ قال: إذا صليت فأحســن ركوعــك وسـجودك، وإذا صمت فتوق ما فيه فســاد صــومك ، وإذا حجــجت فتــوق كــل ما يحــرم عليك في حجتك وعمرتك، قال: وكل عمل تعمله فليكن نقيا من الدنس”.
وفيه عن الصادق ايضاً: “اذا احسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف وذلك قول الله [وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] فاحسنوا اعمالكم التي تعملونها لثواب الله”، وفيه مسائل:
الأولى: ان المضــاعفــة اعــم مـن الإنفاق وبذل المال بل انها اعم وتشمل كل عمل صالح يعمله المؤمن وهو مصداق لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتقدم.
الثانية: الحث على اتيان الصالحات والإكثار من الحسنات رجاء الثواب العظيم.
الثالثة: ان الأفعال العبادية على مراتب متفاوتة في الحسن واعلاها ما جاء عن اخلاص وحسن اداء وحرص على تمام الإمتثال والاستجابة.
ولا ينحصر الأمر بالعبادات بل يشــمل جميع ابواب البر واصلاح ذات البين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحمل الإنفــاق في الآية على اطلاقه لإصالة الإطلاق ولسعة وعظيم فضله تعــالى.
(والتعبد: التنسك والمواظبة على العبادة لذا يقال للدائم على العبادة العابد والمتعبد، والعبادة في اللغة هي الخضوع والتذلل، وبحسب الاصطلاح إتيان المأمور به طاعة واستجابة وبقصد القربة، والفاعل عابد والجمع عُبَاد، ويمكن تقسيم العبودية من حيث متعلق الاداء الى وجوه ثلاثة:
الأول: ما يجب على الابدان كالصلاة والصوم والعمل بالفروع الشرعية الأخرى.
الثاني: ما يجب على النفوس في باب العقيدة والفكر والمباديء السليمة واكتساب العلوم الدينية واخضاع السلوك والأخلاق والصفات النفسية لاحكام الشريعة.
الثالث: ما يجب من انماط السلوك والمعاملة في ابواب التجارة والزراعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واداء الامانة والتزام الصدق ونبذ القبائح.
ومن مفاهيم الإطلاق في مفهوم التفقه ما دلت عليه بعض النصوص بشــمول الكسب والطــلب للعــيال بعمــومات السعي في ســبيل الله، وقد اخرج عبد الرزاق في المصنف عـن ايــوب قال: “اشرف على النبي صلى الله عليه وآله وســلم رجل من رأس تل، فقالوا: ما أجلد هذا الرجل لو كان جــلده في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو ليس في سبيل الله الا من قتل، ثم قال: من خرج في الارض يطلب حلالا يكف به والديه فهو في ســبيل الله، ومن خــرج يطــلب حلالا يكف به أهــله فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب حلالا يكف به نفسه فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب التكاثر فهو في سبيل الشيطان”( ).
ويدل الحديث على سعة مفاهيم سبيله تعالى وتشمل السعي والكسب للعيال واجتناب الذل والحاجة الى الناس، لأن الغنى عما في ايدي الناس مناسبة كريمة للنظر الى الأمور بتدبر وبصيرة ومن غير حواجز ظلمانية مترشحة عن الطمع والفاقة والعوز والرياء ونحوه من الإخلاق الذميمة التي تكون مقدمة اومصاحبة او نتيجة لما يتفضل به الناس.
بحث بلاغي
يقسم الكلام بلحاظ معاني الجمل وكيفية ايصال المطلوب وتحقيق الإفهام منه الى ثلاثة اقسام :
الأولى : الإيجاز: وهو الذي يأتي فيه المعنى بكلمات قليلة تفي بالغرض وتحقق ايصال المعنى مع الإبانة كما في قوله تعالى [ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] وما فيه من الكثرة والزيادة والتعدد في الثواب، واقترانها بالمشيئة والإرادة الإلهية.
ينقسم الى ايجاز قصــر وايجاز حذف، وهو مــن اســرار البلاغة ويدفــع العقل للمشــاركة في الفــهم وايجاد وسائط بين اللفظ المتحد ومعانيه المتعددة قال الإمام علي عليه السلام: “ما رأيت بليغاً قط الا وله في القول ايجاز، وفي المعاني اطالة”
وقيل لشاعر: لم لا تطيل شعرك؟ فقال: حسبك من القلادة ما احاط بالعنق.
الثانية : المساواة: وهو الذي يكون فيه اللفظ مساوياً للمعنى في البيان والأخبار وهو الأصل في الكلام والميزان الذي يعرف بالمقارنة به الإيجاز او الإطالة.
الثالثة : الإطناب : وهو عبارة عن الزيادة في اللفظ والتفصيل في التعبير, والإكثار من الدلالة , والإيضاح لإفادة المعنى أي ان الزيادة ذات فائدة ولها معنى .
اما اذا لم يكن لها نفع في الأفهام فهي حشو او تطويل، فبين الحشو والاطناب عموم وخصوص من وجه، مادة الإلتقاء وهي الزيادة ومادة الإفتراق هي الزيادة ذات النفع في الإطناب والزيادة الخالية من النفع في الحشو والتطويل.
ومن وجوه المضاعفة لحاظ اوان الإنفاق وزمان الحاجة الى المال سواء في صورة الدفاع والمحافظة على بيضة الإسلام او في حال القتال وارادة الفتح، ويظهر هذا التفصيل جلياً في القرآن بقوله تعالى [ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى].