معالم الايمان في تفسير القرآن – سورة البقرة – ج 46

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدمـــــــــة

الحمد لله الذي جعل تلاوة القرآن عمارة للقلوب ونقاء للنفوس ، وتنزيهاً للأفراد والجماعات من الخبائث والأخلاق الذميمة، وصلى الله على رسوله الكريم محمد وآله الطيبين.
لقد تفضل سبحانه واظهر على الأنبياء كمال العبودية ليكونوا أسوة وقدوة ، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] ( ) ويساهموا في إزاحة الغشاوة عن القلوب والتصدي باليد واللسان للبدع ووجوه الضلالة ويذكروا الناس بالمن الجسيم والإحسان المتصل العظيم ويبينوا مسالك العبودية بحقائق الأشياء وعلاماتها ومظاهرها، ويظهروا الخلافة في العالم السفلي والنيابة الإلهية بعلو الهمة وكمال العقل وتمام الإخلاص في منازل العبودية لينال من يقتدي بهم درجة الشهداء وتحسب له الحسنات بعدد أنفاسه لإنشغاله بالنظر الى الحضرة الإلهية والوقوف على أسرار الحكمة ودقائق العلوم مع استيلاء الخوف والرجاء على القلب مقترناًُ بالشوق الى النعيم الدائم.
ويتحرك النبي بجسمه وشخصه وينتقل للتبليغ والإنذار والتبشير ليجبر القلوب المنكسرة ويوقظ من ماتت قواه الباطنية، فجاء احتجاج إبراهيم مع نمروذ وتبكيته واظهار عجزه في دعوة له وللناس للهدى والرشاد، وانتفع المسلمون من هذه الدعوة بالقرآن كشاهد على الأزمنة المقدرة والأجيال المتعاقبة، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
وعن عبد الله بن مسعود (قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا عبد الله : قلت : لبيك يا رسول الله ثلاث مرات ، قال : هل تدري أي عرا الإِيمان أوثق؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : أوثق عرا الإِيمان الولاية في الله بالحب فيه والبغض فيه ، قال : هل تدري أي الناس أفضل؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : أفضل الناس عملاً إذا تفقهوا في الدين ، يا عبد الله هل تدري أي الناس أعلم؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس ، وإن كان مقصراً بالعمل ، وإن كان يزحف على استه ، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فِرْقةً نجا منها ثلاث وهلك سائرها فُرْقَةً ، وزت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم حتى قتلوا ، وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام معهم ، فساحوا في الجبال ، وترهبوا فيها وهم الذين قال الله : { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } الذين آمنوا بي وصدقوني { وكثير منهم فاسقون } الذين كفروا بي وجحدوني) ( ).
ويتضمن هذا الجزء تفسير الآيات (269-273) من سورة البقرة ليحكي تقابل لذة المعرفة الإلهية مع لذة الرياسة مع ان الأصل عدم التناقض بينهما ولكن الكفر مانع من التقائهما .
فجاء القرآن ليهدم بناء الشرك ويبقيه خاوياً ضعيفاً، ويؤسس صرحاً خالداً للإيمان ويثبت فلسفة المعاد كأصل من أصول الدين كما يتجلى في مضامين الآيات الخمس التي خصص هذا الجزء لتفسيرها مع البشارة بالسعادة الدائمة للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وطلباً لمرضاته قال تعالى [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] ( ).

قوله تعالى[يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] الآية 269.

الإعراب واللغة
(يؤتي الحكمة من يشاء) جملة مستأنفة، وقيل انها خبر ثالث لاسم الجلالة .
يؤتي: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر تقديره هو .
الحكمة: مفعول به أول .
من: اسم موصول في محل نصب مفعول به ثان، جملة يشاء صلة الموصول.
(ومن يؤت الحكمة) الواو: استئنافية، من: اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ .
يؤت: فعل الشرط مبني للمجهول مجزوم بحذف حرف العلة، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) عائد الى اسم الجلالة .
الحكمة: مفعول به منصوب بالفتحة الظاهرة على آخره .
(فقد أوتي خيراً كثيراً) الفاء: رابطة لجواب الشرط، قد: حرف تحقيق، أوتي: فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو، خيراً: مفعول به ثان، كثيراً: صفة منصوب لتبعية الصفة للموصوف ..
(وما يذكر) الواو: عاطفة، ما: نافية، يذكر: فعل مضارع مرفوع بالضمة.
(الا اولوا الألباب) الا: اداة حصر، أولوا: فاعل مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم وهو مضاف .
الألباب: مضاف اليه.
والحكمة مقتبسة من حكمة اللجام وهي ما أحاط بحنك الدابة يمنعها الجماح والجري السريع عن السيطرة .
والحكمة فهم المعاني، وآلة لدفع الجهل والمنع من تسربه الى عالم الأعمال، وسيأتي مزيد بيان في تفسير الآية.
في سياق الآيات
بعد الحث على اداء العبادات المالية كالزكاة والدعوة الى الإنفاق في سبيل الله تعالى، والإخبار عن عظيم الثواب الذي ينتظر المحسنين، والتحذير من مكر الشيطان ومحاولاته صد الإنسان عن المعروف وسبل الخير، جاءت هذه الآية لبيان عظيم فضله تعالى بهداية الناس واتيان شطر منهم الحكمة والعلم ومعرفة مكر الشيطان وزيف وعوده وكذب ادعائه واغوائه، وكيف ان الله سبحانه يعين العباد على الرشاد ليتوجهوا للإنفاق في سبيل الله بما يضمن لهم احراز رضاه وبلوغ المراتب العالية في الجنة والنعيم الدائم.
ومن فضل الله تعالى وجزائه العاجل على الإنفاق ان يرزق المحسن الحكمة والبصيرة في دينه، وبعد وعد الشيطان بفقر النفس ومحاولاته اضعاف العزائم وتثبيط الهمم وبث الأوهام والتخيلات الظلمانية، جاءت هذه الآية بافاضات وينابيع الحكمة والإرتقاء في سلم الكمالات.
ان المبادرة الى الانفاق بذاتها حكمة وفعل حسن، وصلاح وتحد للشــيطان واعراض عنه قال تعالى [وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ] ( )، وبذا يبدو التداخل بين الآيات القرآنية، كما ان الصدقة والانفاق مقدمة لكسب وجوه اخرى من الحكمة ، منها اصلاح والخلق الحميد ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) وقال سبحانه [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
إعجاز الآية
تظــهر الآية احســان وتفضل الله على المؤمنين بالهداية الى الإسلام وتبين وجوه الرزق وانه لا ينحصر بالمادة والمال بل يشمل البصيرة وتوظــيف العقل في ملاكـات الأمور.
وتبين عظيم احسانه في باب الحكــمة وانها غايــة كل عــاقل لما فيها من التخــلص من اوهام الخيال وعبــادة الطــاغــوت واتباع الشــــيطان.
وتــدل الآيـة على حرز للنجاة من الضــلالة وان الله تعــالى يرزق الحكـمة جزاء وثواباً على الإنفاق ويرزقها ابتداء لتكون عوناً على اختيار الإنفاق في سبيله تعالى .
وفيها اخبار عن كيفية اصلاح الله عز وجل للعبد وتهيئة الجماعات والأفراد للإستقامة في الدين وجعلهم قادرين على قهر الشيطان والتخلص من وسوسته، قال تعالى [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا] ( ) ولم يرد لفظ [كَيْدَ الشَّيْطَانِ] في القرآن إلا في هذه الآية وفيه وجوه :
الأول : قانون ذم أولياء الشيطان .
الثاني : قانون خيبة وخسارة من يتبع الشيطان في مكره وخبثه .
الثالث : قانون ضعف ووهن مكر وكيد الشيطان .
ووصف الحكمة بانها خير كثير يبعث الشوق في النفس من وجوه :
الأول : قانون الحسن الذاتي للخير .
الثاني : صيغة التنكير .
الثالث : قيد الكثرة .
وفيه دعوة لطلب العلم وتحصيل المعرفة واللجوء الى الله تعالى باداء الفرائض والدعاء والإنفاق للإرتقاء في ميادين المعرفة الإلهية، ومن الحكمة الهداية الى الإسلام والتقيد باحكامه .
وتظهر الآية رجحان العقل ولزوم توظيفه في واقع الأعمال وجعله رقيباً على اللسان.
وفيها مدح للمسلمين لرضاهم وفرحهم بالإنتماء الى الإسلام , وصيرورة هذا الإنتماء كنزاً وذخيرة العلم .
وتدعو الآية الى عدم حصر النظر في باب الجزاء العاجل بالعوض المالي، فمن فضله تعالى منح العبد الحكمة وسلامة الإختيار وصحة الفعل واجتناب السيئات والذنوب وفيه خير كثير وفي النشأتين وقد جاء تعليق مجيء الحكمة على المشيئة الإلهية ليسعى العبد في طلب مرضاته بالإنفاق في سبيل الله تعالى ، وفي دعاء إبراهيم عليه السلام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ورد في التنزيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
ويمكن ان نسمي هذه الآية ( يؤتي الحكمة) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث .
الآية سلاح
تدعو الآية الى انتهاج سبل الحكمة واتخاذ وسائل الكسب لبلوغ مراتب المعرفة والتوجه الى الله تعالى بنيل العلم الوهبي والكسبي، وتحث على التدبر والتمييز والفصل بين العلم والجهل، وتدعو إلى قانون النهل من مواعظ القرآن والإتعاظ مما فيه من الحكمة المتعالية .
والحكمة في الإصطلاح القول السديد والفعل الرشيد المتصف بالإحكام والإيمان ، ونفاذ البصيرة ، والإمتناع عن الزلل والخطأ العمدي.
وسيأتي مزيد في الجزء السابع والأربعين بعد المائتين فصل (قانون الحكمة زاجرة عن الإرهاب).
قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) ولما أختتمت الآية السابقة بالثناء على الله عز وجل بقوله تعالى [وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ) ابتدأت هذه الآية ببيان فضل الله عز وجل على الأنبياء وما يشاء من الأولياء والمؤمنين ، لتكون الحكمة مقدمة وسلاحاً لتعاهد عبادة الله في الأرض ، ليتجلى قانون ذات العبادة حكمة وصلاح ، قال تعالى في بيان فضله على المسلمين [وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ) .
افاضات الآية
الاخبار عن اتيان الحكمة في آيات الانفاق، وبعد الوعد بالفضل والزيادة من عنده تعالى فريدة قرآنية تشير الى مصاديق الفضل والثواب على الانفاق ومنها الحكمة، وهي رزق كريم يعشقه أرباب العقول، ويفني الفلاسفة وطلاب الحقيقة أعمارهم للارتقاء في منازلها، ولكن الله عز وجل يرزقها المؤمن لامتثاله العملي.
مفهوم الآية
ان الخير بيد الله تعالى وانه يهب ويعطي عباده ما يشاء من كنوز رحمته وذخائر فضله فيرزقهم المال والجاه والثروة، ويجعلهم يعيشون في بحبوبة من العيش بين الأهل والأحبة ومنها اداء العبادات والتوفيق للإمتثال في باب الفرائض وهو من النعم الظاهرة والباطنة معاً ومن الحكمة، فلذا جاء وصفه بانه خير كثير، ويترشح عنه الإنفاق في سبيل الله تعالى.
فمن الحكمة القدرة على كشف الغطاء والنظر الى الأمور بخواتيمها، ومعرفة التضاد بين الإنفاق والبخل والنتائج الإيجابية العظيمة للإنفاق، والأضرار الوخيمة للبخل والشح، فالحكمة تتجلى في معرفة المقدمات والطرق المؤدية للفعل الحسن وتلك التي تقود الى الفعل السيء واتباع الشيطان، كما تتجلى في الأقوال وعدم اتباع الإنفاق بالمن والأذى واختيار القول المعروف والإعتذار الجميل والدعاء بديلاً عن نهر وزجر السائل.
وتظهر الحكمة بوضوح في عالم الأعمال وتبرز على الجوارح والأركان وما يختاره العبد في يومه وليلته من المتضادات التي ترتسم امامه كل لحظة، اذ تتدافع مشاريع ورؤى النفس اللوامة وأحلام النفس الشهوية وسطوة النفس الغضبية فتتدافع وتعكس الصراع الداخلي بينها واسرار الإبتلاء فيكون الإنسان محتاجاً الى الحكمة ليرجح جانب العقل والهدى، وتتبدد مطامع الشهوة وفضاضة الغضب، فيبقى طريق الايمان معبداً يشع ضياء، ليس من طريق آخر يوازيه في عرضه او يجعل الانسان يشتبه بينها.
فالحكمة تطرد الجحود وتعصم العقل من الضلالة وتحبس الهوى وتقيد الشهوة بقيود الشريعة، ومن مفاهيم الآية انها تخبر عن ملك الله تعالى لكنوز الحكمة وانها تتدلى لتكون حصة من يشاء الله عز وجل ان يرزقه اياها، كما انها تحث على الدعاء لنيل الحكمة والتزود منها، قواعد واحكاماً وسنناَ، وهي مناسبة لشكر الله تعالى على الهداية ، قال تعالى [وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ] ( ).
وتفضل الله برزقه المسلمين الحكمة أمر لا يعادله شئ من المال في باب المقارنة، فغير المسلم قد يرزق السعة في المال .
أما المسلم فيرزق السعة في المال مع الحكمة وقصص الامم المسلمة السالفة في القرآن والتي تدل على اختيارهم النهج السليم المبني على الحكمة والرشاد مما ادى الى حفظ الاسلام على مر وتعاقب السنين .
وبالحكمة استطاع الناس ان يميزوا الحق من الباطل، ويتبعوا النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من عند الله ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
قانون الدعاء لسؤال الحكمة
وتدعو الآية للتوجه الى الله عزوجل في نيل المعارف النظرية لتعلقها بالمشيئة الالهية بما فيها ذات الاسباب والمقدمات، وهو القادر على تهيئة مستلزمات الدراسة فيما يخص العلوم الكسبية والتي لا يتم تحصيلها الا بالمواظبة والاجتهاد والرياضة واتباع القواعد والانظمة.
ومن وجوه التوجه إلى الله تعالى الايمان والدعاء والانفاق في سبيله ورجاء ثوابه والاتجار بالصدقة، كما تدل الآية على ان العلم نعمة من الله تعالى يهبها لمن يشاء من عباده.
و(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن لقمان قال لابنه : يا بني عليك بمجالسة العلماء ، واسمع كلام الحكماء ، فإن الله يحيي القلب الميت بنور الحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر) ( ).
ومن مفاهيم الآية النهي عن الحسد والغيلة والمكر والدعوة الى اللجوء اليه تعالى للإغتراف من معين الحكمة الذي لا ينضب، ومنها ان اغصان شجرة الحكمة متدلية للناس جميعاَ بمضامين آيات القرآن، فكأن مفهوم الآية: ومن يأخذ بالقرآن فقد أوتي خيراَ كثيراَ، والآية تقبيح وتوبيخ للكافرين لاتباعهم الشهوات وعدم تحكيم العقل في اقوالهم واعمالهم.
وفي الآية ترغيب بالدعاء لنيل مرتبة الحكمة ، وهل الحكمة من الكلي المتواطئ أم المشكك ، الجواب هو الثاني ، قال تعالى [ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ]( ) .
(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها).( ).
لبيان فضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وهل أداء الصلاة والصيام والحج ، والزكاة ، والخمس من الحكمة أم أنها أفعال وأداء عبادي في الجوارح والأركان ، الجواب هو الأول ، لذا تجب النية وقصد القربة في العبادات.
الصلة بين أول وآخر الآية
مع أن الفعل [يؤتي] مبني للمعلوم فان الفاعل ضمير مستتر يراد منه الله عز وجل ، ولا تصل النوبة في المقام لصيغ الصناعة النحوية والفاعل ضمير مستتر وتقدير معاني الآية من جهات :
الأولى : قانون لا يؤتي الحكمة إلا الله .
الثانية : قانون الله وحده القادر على إتيان وهبة الحكمة لمن يشاء .
الثالثة : عطف آية البحث على خاتمة الآية السابقة التي تضمنت ثلاثة من الأسماء الحسنى.
ويكون تقدير الجمع بين الآيتين : والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ، فكأن الفاعل في آية البحث متقدم .
وهل يحتمل تحصيل الحكمة بالكسب والتعليم ، الجواب نعم ، وهذا التحصيل من عمومات قوله تعالى [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ] ( )، لبيان عدم بلوغ الإنسان مراتب الحكمة إلا بفضل ورحمة من عند الله عز وجل .
وقد أتى الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الحكمة وجوامع الكلم ، وأصلحه لتبليغ الرسالة والتنزيل ، والحكم بين الناس ، وفي داود عيله السلام ورد قوله تعالى [وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ] ( ).
وأخبرت آية البحث عن النعمة العظمى في إتيان الحكمة وأنها خير كثير بقوله تعالى [وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا] ( ) لبيان وجوه:
الأول : قانون ذات الحكمة خير كثير .
الثاني : قانون تفرع البركة والمنافع والخير عن الحكمة .
الثالث : قانون بالحكمة يجلب الخير الكثير .
الرابع : قانون الحكمة طريق للفوز بحب الله .
الخامس : اتيان الحكمة مناسبة لشكر العباد لله عز وجل .
وهل يختص هذا الشكر بالذي يؤتيه الله الحكمة ، الجواب لا ، لأن الإنتفاع من الحكمة عام وإن جاءت على نحو القضية الشخصية ، ومن الآيات في المقام مجئ الحكمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتنتفع منه الأمة .
السادس : قانون الملازمة بين الحكمة والهدى ، لتكون الحكمة وسيلة لإستدامة عبادة الله عز وجل في الأرض ، ويكون من معاني قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] ( ).
(وفي خبر وهب بن منبه أوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السلام أنك تكثر مسألتي ولا تسألني أن أهب لك الشوق، قال: يا رب وما الشوق؟ قال: إني خلقت قلوب المشتاقين من رضواني، وأتممتها بنور وجهي، فجعلت أسرارهم موضع نظري إلى الأرض، وقطعت من قلوبهم طرقاً ينظرون به إلى عجائب قدرتي فيزدادون في كل يوم شوقاً إليّ.
ثم أدعو نجباء ملائكتي فإذا أتوني خرّوا لي سجّداً.
فأقول : إني لم أدعكم لعبادتي، ارفعوا روؤسكم أُرِكُمْ قلوب المشتاقين إليّ فوعزّتي وجلالي إنّ سمواتي لتضيء من نور قلوبهم كما تضيء الشمس لأهل الدنيا) ( ).
وقد ورد لفظ [خَيْرًا كَثِيرًا] مرتين في القرآن إحداهما آية البحث ، والأخرى في باب الخلاف وكراهيته بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا] ( ).
وأختتمت آية البحث بقانون إنحصار التذكر والتدبر بارباب العقول الذين يسخرون عقولهم في التفكر ببديع صنع الله ، والإقرار بفضله العظيم على الناس .
وقد ورد لفظ [أُولُو الْأَلْبَابِ] سبع مرات في القرآن في الآيات :
الأولى : قوله تعالى [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ]( ) .
الثانية : قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
السادسة : قوله تعالى [أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
السابعة : قوله تعالى [الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
لبيان قانون وجوب تسخير نعمة العقل في التدبر والصلاح والإصلاح .
التفسير
قوله تعالى [ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ]
قد ورد ذكر الحكمة في سورة البقرة سبع مرات، وفي مجموع القرآن عشرين مرة، منها مرتان بلا ألف ولام ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا] ( ).
وجاءت الآية على نحو البشارة والاخبار والفضل المتدلي الذي يستطيع كل انسان ان يناله على نحو الموجبة الكلية او الجزئية بحسب الاستعداد والمجاهدة والسعي ومنه :
الأول : صدق الاعتقاد .
الثاني : حسن الامتثال .
الثالث : الانفاق في سبيل الله تعالى، وتعلق الحكمة بمشيئته تعالى فيه وجوه:
الاولى : قانون يهب الله عز وجل الحكمة ابتداء ومن غير استحقاق لمن يشاء من عباده، فالخير كله بيده ولا يُسئل عما يفعل وهو اعلم بالمصالح والمفاسد، وقد تقدم في خاتمة الآية السابقة قوله تعالى [ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ].
الثانية : قانون تأتي الحكمة جزاء عاجلاَ لفعل عبادي، وبلحاظ الآيات تكون ثواباَ على البذل والانفاق في سبيل الله تعالى وطلب مرضاته ببذل المال واخراج الزكاة وعن (النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير ، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد دعي من أبواب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) ( ).
الثالثة : قانون يرزق الله الحكمة بالدعاء والمسألة والتضرع اليه تعالى ، ليكون من وجوه تقدير قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( )، ادعوني في طلب الحكمة استجب لكم .
الرابعة : تقترن الحكمة بالايمان والاعتقاد الصحيح، فمع الاقرار بالنبوات والكتب المنزلة تأتي الحكمة دفعة او تدريجياَ.
الخامسة : قانون الحكمة مقدمة للايمان، يحتاجها الانسان لمعرفة الآيات واكتشاف الحقائق وبلوغ مراتب الكمال المنشود.
السادسة : ان الله عزوجل يصلح النفس الانسانية ويجعل الانسان موفقاَ في اموره الدنيوية والدينية، ويجعله يحسن الاختيار مطلقاَ .
لتكون الحكمة عنده ملكة ثابتة وميزاناَ للاقوال والاعمال فلا يصدر منه ما يتنافى مع حكم العقل، ولا يعني هذا العصمة من الزلل للتفاوت الرتبي والموضوعي بين النبوة والحكمة، وبين النبوة والحكمة عموم وخصوص مطلق، لقانون كل نبوة هي حكمة وليس العكس، وقانون كل نبي حكيم وليس العكس.
وكل هذه الوجوه من المشيئة الالهية في اتيان الحكمة ولا تعارض بينها وهو سبحانه الواسع الكريم، فقد يرى صلاح الامة والافراد باتيان الحكمة لبعضهم ابتداء او استحقاقاَ، وهو الذي يتعاهد الناس بقواعد اللطف ويقربهم من الطاعات ويبين لهم بلغة العقل والمنطق والشواهد الحسية ضرر المعصية والفواحش والاثار الضارة للبخل والشح، والتقصير في اعانة المحتاجين.
ومن الحكمة الانفاق طاعــة لله وهو جزء من مقومات حفظ الجنس البشري وليس الايمان وحده، فقد يحفظ مجتمع الكفار بالانفاق في سبيله تعالى لان الله عز وجل يعلم بان مؤمنين يخرجون منه ويساهمون فيما يحفظ كلمة التوحيد، وهذا من رأفته وحلمه تعالى.
وتثبت الآية وجود الحكمة بين الناس من وجوه:
الأول: مجئ الآية بصيغة المضارع.
الثاني: تعليق الاختيار على المشيئة، فالاية لم تقل ان شاء ابل جعلت الشرط متعلقاَ بالاشخاص والاختيار بينهم او بلحاظ الاسباب والغايات.
الثالث: ورود آيات عديدة تخبر عن اتيان الحكمة على نحو القضية الشخصية للانبياء والصالحين وعلى نحو القضية النوعية، ومن الاول قوله تعالى[ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ]( ).
والآية بيان لفضله تعالى على الناس لينتفع منه الذين يتلون القرآن مع انه اعم، وقد تقدم ان الله عزوجل يهب الحكمة ابتداءً، او تكون مقدمة للهداية والايمان، وهو جزء من تعاهده تعالى للاسلام وبقاء كلمة التوحيد ودوام العمل باحكام الشريعة.
والحكمة عنوان جامع يتضمن مصاديق عديدة يشع كل واحد منها بضياء المعرفة، ويساهم في بناء النظام الاحسن وسعادة الانسان في الدارين، ولا تنحصر منافعها بصاحبها والعامل باحكامها وسننها، بل تترشح فوائدها على الناس جميعاَ فينتفع منها حاملها وسامعها وقارئها، فطيبها وعطرها العرفاني يخترق شغاف القلوب، ويبحث دائماً عن مستقر له لتحير القلوب المنكسرة به، وتحترز مما يسوله الشيطان، وتتخلص من بذاءة اللسان وقبيح الافعال.
ومن الإعجاز القرآني ان تتعقب هذه الآية الآية التي يذكر فيها وعد وعد كريم الله عز وجل وأمر ووعد شر وضرر من الشيطان مما يدل على ان ترتيب الآيات القرآنية توقيفي بوحي من الله سبحانه، لقانون نزول واتيان الحكمة مانع من تأثير إبليس وغوايته وهو سبيل لإدراك الحقائق والتسابق في احراز رضا الله تعالى.
وقد يخضع العقل لتخيلات الشيطان والنفس الشهوية ويميل الى البخل والشح ويمسك الإنسان الحقوق الشرعية ويرى حاجة اخيه المسلم او اخيه في الإنسانية فلا يدفعها ولا يساعد في رفعها والتخفيف من وطأتها لأنه لا يفكر الا بنفسه والخشية من التعرض لذات الإبتلاء فيستعد له، فتأتي الحكمة لتبين له وهم ما يظنه وان مصلحته تتعلق باعانة غيره سواء كانت المصلحة الدنيوية او السعادة الأخروية، وان البخل والشح مذمومان ومما يجب تركه والاعراض عنه قولاً وفعلاً.
و(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : مَسَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْحِكْمَةِ)( ).
وعن عبد الله بن عمرو (عن النبي صلى الله عليه وسلم رواية قال : لا ينتزع العلم انتزاعا ينتزعه من قلوب الرجال ، ولكن يقبضه بقبض العلماء ، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا)( ).
لبيان قانون إعداد علماء في كل جيل وعند كل طائفة من المسلمين ، بالتعاون بين المسلمين ، وإكرام العلماء وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
وبذا تكون الحكمة سلاحاً للتخلص من الشيطان ومكره، وهي حرز عند صاحبها وعند من يتأثر به من العقلاء فتسود مفاهيم الحكمة في الأقوال والأفعال ويأتي بهــا من ليس بحكيم ولكن له القدرة على الفهم والمعرفة ومحاكاة وتقليد اهل الحكمة ومريدي الخير والصلاح.
وتبعث الآية الشوق في النفس الإنسانية لنيل عطاء وفضل الله سبحانه ، واصلاح الذات لتلقي الحكمة خصوصاً وانه تعالى جعل النفوس تعشق الحكمة وتميل الى اهلها وتسعى للتزود من مفاهيمها وتسكن الى ظهورها في الأقوال وبروزها في عالم الأفعال.
لذا ترى من يتصرف بحكمة يحظى باحترام القريب والبعيد، والصديق والعدو ، ترى أيهما أهم وأولى في نيل الحكمة القضية الشخصية ام النوعية بمعنى ان الذي يؤتى الحكمة ينتفع منها لذاته اكثر ام للجماعة والأمة والعقيدة.
الجواب : هو الثاني ، فالحكمة ضــرورة انســانية وعقائدية واخلاقية تمنع الأمة من الزلل ، وتحول دون سيادة افكار الضلالة والأخلاق الذميمة، واذ وردت بعض آيات القرآنية باتيان الحكمة للأنبياء الذين تصدوا للطاغوت واوقفوا السلوك الجمعي نحو الكفر والجحود.
وقد تأتي الحكمة بواسطة الأنبياء والرسل وتتضمنها الكتب السماوية المنزلة قال تعالى [وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ]( )، وتظهر الآيات القرآنية وجوه اتيان الحكمة ومنها:
الأول : قانون الدنيا دار التعليم والكسب والتحصيل ، قال تعالى [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ).
الثاني : نزول الحكمة من عند الله تعالى بالكتاب والوحي والبراهين الإلهية قال تعالى [وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ]( ).
الثالث : وقد يكون تنزيل الحكــمة بالواسطة فتنزل على الرســول ليعلمها امته وتكــون ميراثاً كريماً للأجيال المتعاقبة يأخذها الخلف من السلف.
ترى ما هي النسبة بين الحكمة والوحي ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالوحي أعلى مراتب الحكمة ، وهل هو فرع اسم الله عز وجل (الحكيم) المختار نعم ، قال تعالى [ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ]( ).
الرابع : قانون تجلي الحكمة في قول وفــعل النبي محـمد صلى الله عليه وآله وسلم وظهورها في أنظمة الحكم والتشريعات، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الخامس : قانون اقتباس الحكمة من احوال النبوة واحكام التنزيل، وتضمن الآيات القرآنية النازلة من عند الله تعالى لمفاهيم وقواعد الحكمة، لذا فمن الثابت عقلاً ونقلاً ان من عمل بالقرآن نجى وفاز وحاز على الشرف والسبق في النشأتين وغبطه الآخرون ومالت له النفوس ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( )، ومن اعرض عنه خاب وخسر ونفرت منه النفوس.
قانون الحكمة من الكلي المشكك
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الحكمة ومنه قانون دخول أغصان الحكمة لكل بيت ، لتكون الأسرة وحدة اجتماعية تتصرف بحكمة واتقان وتتعاون في ذكر الله وأداء الفرائض العبادية ، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
وهل الحكمة الإنسانية من الكلي المتواطئ الذي يكون بمرتبة واحدة، ويصدق على افراده على السواء، أم أنه من الكلي المشكك الذي له أفراد ودرجات متعددة وكلها بمعنى الحكمة الا انها تختلف بالشدة والضعف، والظهور والضمور، ومقدار التجلي في القول والفعل.
الجواب : إنها من الثاني فهي على مراتب متباينة، منها:
الأولى : الحكمة التي أعطاها الله للأنبياء وهي أسمى درجة وأرقى مرتبة منها عند غيرهم ، لأنها نوع وحي ولطف نازل من عند الله عز وجل.
الثانية : ما يتلقى بواسطة الوحي والتنزيل وهذا خاص بالأنبياء.
الثالثة : ما يتلقاه الصحابة وأهل البيت بواسطة الأنبياء والكتب السماوية.
الرابعة : ما يقود له العقل.
الخامسة : الذي تدل عليه التجربة والبرهان العملي.
السادسة : الاعتبار والاتعاظ من تجربة الغير افضل ممن اتعظ من نفسه.
وهذا التباين لا يضر في شــرف كل مرتبة من مــراتب الحكمة وشـوق النفوس لبلوغ أي منها وان كان أدنى مراتبها، فليس فيها إلا الحسن عقلاً شرعاً وما هو ممدوح وباعث على الرضا والطمأنينة.
قانون منافع الحكمة
ليس من حد لسبل ووجوه الإنتفاع من الحكمة ، ومصاديق الرشاد منها ، وأسباب دفع الأذى عن الفرد والجماعة في أمور الدين والدنيا.
من منافع آية البحث [مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ]( ) :
الأولى : المنع من ظهور الحسد بين الناس بسبب تفضل الله تعالى بالحكمة رزقاً لأوليائه والصالحين، قال تعالى [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
الثانية : تحــذير الإنســان من الغرور والزهــو بما عنده من الحكــمة والعقـل، وحســن الإختيار، والتوفيق في القول والعمل، وليعلم انه من عند الله تعالى، وان الحكمة شـجرة غذاء للروح واللسان يطعــم الله عز وجــل من يخــتاره من عباده منها، فتظــهر ثمارها على لســانه وفعله، ويوظفها لأمور :
الأول : قانون الحكمة وسيلة تنجز المنافع الخاصة والعامة.
الثاني : قانون في الحكمة مصلحة الدنيا .
الثالث : الهداية والرشاد ، والسعي في سبل الآخرة لقانون الملازمة بين الحكمة والهداية.
الرابع : قانون الحكمة الخاصة في القول والفعل مصدر ضياء للآخرين.
الخامس : قانون إدخار العبد الحكمة لغده القريب والبعيد، فيما يتعلق بمستقبل أيامه وكبره كما تقدم قبل آيتين [وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ]( ).
الثالثة : تدعو الآية للسعي لاكتساب الحكمة بالدعاء والتقوى ، وهي أكبر هبة وشهادة ووثيقة ينالها الانسان في حياته، ويبلغ بها مراتب وغايات لا يمكن له دركها الا بسلاح الحكمة ، ومن الحكمة حسن التوكل على الله .
و(عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)( ).
ومن الآيات انك لا تجدها الا عند الله تعالى.
ومن الناس من حجب عن نفسه الحكمة باختياره الكفر فتراه يتخبط في مسالك التيه ولا يصيب الرشاد في اعماله الا اتفاقاً وبنعمة العقل.
قانون سؤال الحكمة من الله
تدل الآية بالدلالة التضمنية على أمور :
الأول : قانون الحكمة نعمة عظمى ، وهي من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا]( )، إذ تحضر الحكمة في كل قول وفعل.
الثاني : قانون الحكمة هبة وفضل من الله .
الثالث : قانون لا يقدر على منح وإعطاء الحكمة إلا الله عز وجل.
فان قلت هل تنال الحكمة بالإكتساب والتعلم ، الجواب نعم ، ولايتم هذا الإكتساب إلا بحكمة ولطف من عند الله عز وجل .
ان الفضل كله بيد الله تعالى ، وهل تنهى الآية الإنسان عن البحث عن الحكمة عند غير الله تعالى ، الجواب لا لقوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، فقد تأتي بالواسطة .
ولكن من يتبع السلطان الجائر ويجتهد في مصالح الدنيا ويقتدي باخوان السوء يضل درب الحكمة، وتصاحبه غشاوة تحجبه عن رؤية الحق والصواب.
وهذه الآية من عمومات ومصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً]( ).
ولم تقيد الآية اتيان الحكمة بفعل مخصوص من العبد او اوراد يؤديها او ســن وعمر يبلغه او منقــبة يقـوم بها، بل جاء القيد فقط بالمشيئة والإحسان من الله تعالى.
وليس برغبة الإنســان وتمنيه، وهذا لا يمنــع من البحـث عن اســباب ووســائل نيل الحكمة وكيفية تهــيئة الإنسان نفسـه لإكتسابها.
ووجود الآية بين آيات الإنفاق يدل على كون الإنفاق في سبيل الله تعالى احد طرق نيل الحكمة.
ومن إعجاز القرآن أن تأتي آية أو آيات متصلة تحكي أقوالاً وأفعالاً وصفات يدل كل فرد منها على الحكمة وبلوغ مراتب الهداية والصلاح ، كما في قوله تعالى [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ]( ).
ويشترط في الإنفاق ان يكون في سبيل الله تعالى وبقصد القربة وهو امر لا يصح الا مع الإيمان والتسليم بالنبوات فيكون الإيمان مقدمة للحكمة كما ان الإهتداء الى الإيمان ذاته حكمة ورحمة، ولا ينحصر اتيان الحكمة بالرجال دون النساء بل هو عام يشمل الجنسين معاً.
وفي التنزيل بخصوص مريم قال تعالى [وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى]( )، والذي يدل على اتصاف بعض النساء بالحكمة والأدب.
قانون كثرة مصاديق الحكمة
من الحكمة البصيرة في الدين ، ومعرفة التأويل ، والإقتداء بالأنبياء والمرسلين وأداء الفرائض والواجبات، وان يُرزق الإنسان فهماً للأمور ويضع الأشياء في مواضعها، ويجتنب التعدي على حقوق الآخرين ويبتعد عن الغضب وما تدل عليه الشهوة، ولا يصدر عنه الفعل الا بما يوافق العقل والعلم بالأمور وخواتيمها قدر الإمكان ووفق القدرة البشرية وما يمكن ان تراه العين ويدركه العقل.
ومن حكمة لقمان تأديبه لولده ، وتعليمه له ضروب الحكمة والصلاح كما في قوله تعالى [وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ]( ).
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم سادات أهل الجنة : لقمان الحكيم . والنجاشي . وبلال المؤذن)( ).
ويلاحظ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطلق صفة الحكيم على لقمان في الحديث أعلاه وأحاديث أخرى ، ومنها (عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن لقمان الحكيم كان يقول : إن الله إذا استودع شيئاً حفظه)( ).
ومن الحكمة التدبر في آيات في الآفاق وفي النفس بالعقل والحواس ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
وهناك مرتبة من الحكمة خاصة بالأنبياء ولكنها في معرض الطلب للناس جميعاً لينهلوا منها في اقوالهم وافعالهم الا درجة النبوة قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
فالله سبحانه اذا انعم نعمة على اهل الأرض فهو اكرم من ان يرفعها، فما في النبوة من الحكمة باقية في الجملة بين ظهرانينا تتجلى في آيات التنزيل وقصص الأنبياء وسيرتهم وجهادهم والنتائج والغايات التي سعوا الى تحقيقها ومــنها ثبات لــواء التوحيــد في الأرض، وبــقاء الناس مقرين بالعبودية لله تعالى.
لقانون في كل زمان هناك أمة مؤمنة ترث مبادئ النبوة ، وتقيم الفرائض العبادية فانعم الله عز وجل على المسلمين وجعلهم ورثة الأنبياء ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ]( ).
فمع دخول زمان العولمة تجد اكثر الجماعات كفراً في التصنيف العقائدي للملل الموجودة في الأرض يقر بالوحدانية ويتجنب ذكر مفاهيم الشرك والتحريف الموجود في ملته وشريعته .
فالمشيئة الإلهية في منح الحكمة لا تنفصل عن واقع الدين بين الناس إذ يؤتي الله عز وجل الحكمة لمن يختاره من عباده بما يجعل الناس ملتزمين في الجملة بسنن التوحيد، وتكون الحكمة سلاحاً نوعياً عاماً يحول دون طغيان مفاهيم الشرك والضلالة.
ومن الحكمة ما هي ذات معنى سلبي نافع تتجلى بالصبر والصمت وقانون اللجوء إلى الدعاء ، وذكر قصص الطواغيت وملوك الجور للإعتبار والإتعاظ منها وبها وفيها ، فيرى الإنسان كيف آلت اليه عاقبة الطاغوت وهلك هو وجنوده وأصبحت أرضه ملكاً للمسلمين كما في فرعون ونمروذ الذي ادعى الربوبية، وكسرى والملأ من قريش وغيرهم ، قال تعالى [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ]( ).
فمدرسة الحكمة جامعة تضم المضامين الإيجابية من قصص الأنبياء والصالحين والشهداء، والسنن والاحكام التي تعطي العبرة والموعظة من قصص الطواغيت وان كانت طرفاً مناقضاً ومقابلاً لقصص الأنبياء ولكن كلاً منهما من وجوه الحكمة ودروس في المطالب الربانية وتساهم في اعمال الفكر لصلاح الذات واجتناب الزيغ ، قال تعالى [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
عن أبى مسعود الانصاري قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال انى أُبدع( ) بى فاحملني قال ما عندي ما أحملك عليه ولكن ائت فلانا، فأتاه فحمله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله)( ).
قوله تعالى [وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ]
توكيد قرآني لعظيم فضل الله على الأنبياء وعباده الصالحين وتذكير للمؤمنين بما انعم به عليهم فقد يســهو الإنسان ويغفل عما عنده من النعم وقد يظن أنها جزء من قوامه وانه بلغ منازل الحكمة بالإجتهاد والكسب والرياضات نعم أداء العبادات والإنفاق في سبيل الله تعالى وسيلة لكسب الحكمة بتوفيق وعناية خاصة منه تعالى لإيجاد الأمثل والأخلاق الفاضلة والكمالات الإنسانية وما يسميه الفلاسفة النظام الأحسن، قال تعالى في الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وجاء لفظ (خيراً) بصيغة التنكير ومن غير ألف ولام، وهو تنكير تعظيم لوصفه بأنه كثير وفيه اشارة لسعته وتعدد لوجوهه، وترغيب بالحكمة ومصاديقها، والتودد الى أهلها.
وورد لفظ (خير) في نحو ســتة وســبعين ومائة موضع من القرآن، ولم يرد بصفة وقيد (كثيراً) الا في آيتــين، هذه الآيـة وقوله تعالى [فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا]( ) ويمكن القول ان من الحكمة الصبر على المرأة مع كره الزوج لها ، والصبر على المكاره مطلقاً اذا احتمــل فيها منافع وفــوائــد، وبذا تتجــلى معان اضـــافية للحكمة وقانون لزوم تحــمل المشـاق اذا وقعت في طريق الحكمة، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
والخير وحده نعمة عظيمة وفضل من الله تعالى وهو النفع الحسن، فكيف اذا كان خيراً كثيراً، والكثرة تحمل على التعدد والزيادة والكم والكيف والحضور المتصل في الإختيار والإستقراء والإستنتاج والإستنباط والإهتداء لسبل النجاح والفوز والنجاة من المهالك والشدائد والإحتراز للصعاب، والقدرة ضمن الإمكان لدفع البلاء واجتياز الإمتحان والســـعي لإحراز الســعادات الدنيوية والأخروية ونمو ملكة الخوف منه تعالى واحياء القلب بذكر سبحانه، وتنامي الأمل والإنبعاث عن همة وجد في العمل والكسب والسعي في مرضاته تعالى، والإبتعاد عن مسالك الحرام، واجتناب ما هو مبغوض عقلاً وشرعاً.
كما تنبئ الآية عن الثواب الجزيل الذي يحرزه صاحب الحكمة وحامل صفاتها اذ تزاح عن وجهه غشاوة الإنشغال بالدنيا، ويهرب الشيطان من امامه فلا حاجب دون ادائه الفرائض والإنفاق في سبيل الله تعالى فيتخذ الحياة الدنيا مزرعة للآخرة وتكون افعاله عنواناً للشكر له تعالى، خصوصاً وان الآية تحث على ظهور الحكمة في عالم الأعمال، ومن وجوهها الشكر لله، وقد ثبت في علم الأصول ان شكر المنعم واجب.
قانون تجليات الحكمة (بحث منطقي)
وتتجلى الحكمة بالوحي والإلهام والمكاشفة والمشاهدات وحتى بالعقل والحس الذي يذهب اليه الفلاسفة فالمبادئ التصديقية للفلسفة ومناهج علم المعرفة تثبت الحاجة الى حصول الحكمة بالعلم والعمل وقواعد الوصول الى البديهيات وفق الأسس المنطقية، وادراك المقدمات للإستدلال والوصول الى النتائج الحميدة، وهذا لا يتم الا بالحكمة وهي رزق كريم من الله تعالى للناس والأفراد، فكأنها نهر جار لا يشرب منه الا من يأذن له الله عز وجل بمقدار وكم يكون له اثر وفعل ونتيجة حميدة، وقد نهل منه الأنبياء، واغترف منه الصالحون وعامة المسلمين، ويجري اثره ونفعه في البدن ويتجلى بالعلم المقترن بالعمل.
وتدعو الآية المسلمين للإفتخار بما انعم عليهم به من الهداية لدينه والتوفيق الى سبيله ، إذ أن قانون آيات القرآن أسمى وجوه الحكمة وافضل مناهلها، وتتجلى فيها انوار المطالب الربانية مما يعني ان الله عز وجل قد عرض الحكمة للناس جميعاً بالقرآن وجعلها في متناول الجميع، لطفاً منه تعالى وحجة على العباد واعانة لهم في دروب المعرفة ، ولعلم الله تعالى بضعف الإنسان ومحاولات الشيطان لإغوائه والوسوسة له، فليس للكافر ان يقول يوم القيامة ان فلاناً استحق الجنة لأن الله آتاه الحكمة وانا دخلت النار لأن الله عز وجل لم يرزقني الحكمة، لاقامة الحجة عليه بالعقل، فلذا ختمت الآية بقوله تعالى [وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
ولأنه لا جبر ولا تفــويض، بل منزلة بين المنزلتين وان كان بامكــان الإنسان بلوغ مراتب الصلاح واحراز دخول الجنة بالعقل الذي رزقه الله تعالى قبل ان تصل النوبة الى الحكمة، ومع هذا فان الحكمة متيسرة لكل انسان بالكتب السماوية المنزلة وبعثة الأنبياء وبقصصهم التي هي احسن القصص ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ]( ).
والحكمة عنوان وسلاح اضافي يقود لشاطئ النجاة وبه يتوقى الإنسان من امواج مباهج الدنيا العاتية ويتخلص مما يوهن عزيمته، ومن الحكمة اتخاذ الإستغفار سلاحاً وعدم الأصرار على الذنب والميل الى استشارة الآخرين من اهل الدراية والنصح.
وقال الرازي (ثبت انه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء فتكون الحكمة مغايرة للنبوة والقرآن، بل هي مفسرة اما بمعرفة حقائق الأشياء او بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة)( ).
ولكن لفظ الحكمة اعم من لفظ الحكيم، ولم يستعمل لفظ الحكيم في الأنبياء لأن النبوة اكبر ولإعتبار وموضوعية الوحي والتنزيل في النبوة وصفة النبي، ولمنع الإشتباه وطرد الشبهة، وردع اهل الريب والجحود، والا فان الأنبياء سادة الحكماء من بني آدم، وكيف تكون الحكمة غير القرآن وقد جعله الله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، [يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وفي قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
وقال المعتزلة ان الحكمة قوة الفهم ووضع الدلائل ولكنها اعم وهي رزق كريم وعنوان جامع لسنن النبوة وحسن الإمتثال لأوامر الله تعالى، والآية ترغيب بالحكمة ودعوة للجوء الى القرآن والأخذ منه والتعلم من سنن النبوة، وتفتح باباً جديداً للمقارنة بين الناس في الحياة الدنيا فليس المال والجاه وحدهما سبب التفضيل والتمايز بينهم.
فالمؤمن الفقير باقتنائه الحكمة افضل واحسن حالاً من الغني الكافر.
قوله تعالى [فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا]
تتجلى تبدو معالم الحكمة باختيار الإيمان وتعاهد الفرائض والإقتداء بالأنبياء، وقد يأتي (الخير) بعنوان المال قال تعالى [وانه لحب الخير لشديد ] ( ).
والخير الكثير الحكمة وما يترشح عنها وهي افضل وانمى وازكى لوجوه :
الأول : قانون الحكمة لا تأتي بالمال ، وعن الإمام علي عليه السلام قال (العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الانفاق)( ).
الثاني : قانون المال لا يأتي بالحكمة .
الثالث : قانون الحكمة تجعل المال مطية لها فيجعله صاحبه في الصالحات قال تعالى [فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ] ( ) أي الصالحات والإنفاق في سبيل الله تعالى، وفي قوله تعالى [وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، تسخير للحكمة في ميدان القول والعمل.
و(عن سلمان قال : إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذارىء إلى يوم القيامة ، فكتب الآجال والأرزاق والأعمال والشقوة والسعادة ، فمن علم السعادة فعل الخير ومجالس الخير ، ومن علم الشقاوة فعل الشر ومجالس الشر)( ).
وفعل الخير اشــارة الى صلة الرحم ومكارم الأخلاق، مما يعني ان الحكمة عبارة عن أمور :
الأول : القربات .
الثاني : قانون اتيان المندوبات والمستحبات.
الثالث : قانون السمو في القول، والرفعة في الأفعال وتهذيب النفس من ذميم الأخلاق، والســعي الفردي والنوعـــي لإصـــلاح المجتمعات وتنقيتها من أسباب الزيغ والميل عن الحق .
وفي الدعاء : ولا تزغ قلبي بعد اذ هـــديتني.
إذ ورد (عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال : لا إله إلا أنت سبحانك اللهم إني أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك ، اللهم زدني علماً ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)( ).
الرابع : قانون الحكمة حاجة وضرورة لقوام المجتمعات واصـــلاح الناس للعبادة قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ] ( ).
عن الإمام الصادق عليه السلام : الخير نهر في الجنة مخرجه من الكوثر، والكوثر مخرجه عن ساق العرش( ).
وكذا الحكمة فانها خير نازل من عند الله تعالى بالقرآن والنبوة والعقل ومدارس الدنيا وما فيها من الدروس والعبر والنعم المتتالية.
والخير ضد الشر بمعنى ان الشر لا يجتمع مع الحكمة، ولا يتصل بها وبينهما بينونة وتضاد، فمن اراد النجاة من الشر في قوله وفعله وعامة شؤونه فليتجه الى الله تعالى ويتلقى منه الحكمة ، ومن أتاه الله الحكمة ابتداءً فهذا من فضل الله تعالى عليه وعلى ذريته ودويرته وغيرهم.
قانون الحكمة دعامة الإسلام
ترى ما هي الصلة بين خلافة الإنسان في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وبين الحكمة.
الجواب هي الملازمة والتآخي والتداخل ، فحينما أنعم الله عز وجل على الإنسان بمسؤوليات الخلافة رزقه الحكمة ليكون مؤهلاً لأدائها ، لذا تفضل الله عز وجل بأن علم آدم الأسماء كلها من أول خلقه ، وأقام بها الحجة على الملائكة في اهليته للخلافة ، قال تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
وهناك مسائل :
الأولى : قانون الحكمة ركيزة الإيمان.
الثانية : قانون الحكمة سلاح النجاة.
الثالثة : قانون الحكمة سبيل الوصول إلى الغايات الرشيدة ومقامات الأولياء والصالحين.
وعلى القول بأن الحكمة من الكلي المشكك وانها على مراتب متفاوتة، فهل الخير الكثير في مراتبها العالية ودرجاتها الرفيعة، ام انها مطلقة، وكل مرتبة منها خير كثير.
الجواب : هو الأخير فقليلها يصدق عليه انه حكمة، وعن الإمام الباقر  في الآية (ان الحكمة هي المعرفة).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: (الحكمة ضياء المعرفة، وميراث التقوى، وثمــرة وما أنعم الله على عبد من عــباده نعمة أنعم وأعظم وأرفــع وأجــزل وأبهــى من الحكمة، قال الله عــز وجل [ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَـاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ]( ).
ومن الحكمة جعل العمل مقروناً بالعمل، فمتى ما علم الإنسان فعليه ان يعمل بعلمه، ولا يركنه ويتركه ويجعله في حدود التصور والوجــود الذهني والإحتــراز من الزلـة المنافية للعلم، كما تدعو الآية الى اكرام العلماء والإنصات الى مواعظهم وقد ورد عن النبي محمد صــلى الله عليه وآله وســلم انه قال: “علماء امتي كانبياء بني اسرائيل”( ).
وفي منية المريد قال: “فان العالم الصالح في هذا الزمــان بمنزلة نبي من الأنبياء بل هم في هذا الزمان اعظم لأن انبياء بني اسرائيل كان يجتمع منهم في العصر الواحد الوف، والآن لا يوجد من العلماء الا الواحــد بعد الواحـــد، ومتى كان كذلك فليعلم انه قد علق في عنقه امانة عظيمة”( ).
والحق ان المقارنة غير تامة للمائز الذي ينفرد به الأنبياء وهو النبوة والوحي والعصمة ولاختبار من عند الله لأسمى المراتب ، كما ان العلماء كثيرون في كل زمان، والقرآن يجعل من أفواج المؤمنين علماء في الدين، والسنة تساعدهم على التفقه في الدين ولكن انفراد الأنبياء بمرتبة تشريفية خاصة باق على حاله.
لقد تفضل سبحانه لتكون الحكمة في متناول المسلمين كافة، وعن الإمام جعفر الصادق  قال : قام عيسى بن مريم خطيباً في بني اسرائيل فقال: يا بني اسرائيل لا تحدثوا الجهال بالحكمة فتظلموها ولا تمنعوها اهلها فتظلموهم( ).
وقد لا تكون الحكمة والعلم عند الإنسان فليكثر من الإستغفار وليكون مستعداً لقول لا ادري، وقد ورد في الأخبار ترغيب باعلان عدم معرفة المسألة التي يسئل عنها الشخص وهو لا يعرفها لأن اعلانه هذا لا يتعارض مع العلم، وعن عبد الله بن مسعود (إياكم وأرأيت فإنما هلك من كان قبلكم بأرأيت ، ولا تقيسوا الشيء بالشيء [فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا]( )، وإذا سئل أحدكم عما لا يعلم فليقل : لا أعلم ، فإنه ثلث العلم)( ).
وعدم الإحاطة بكل العلوم سمة من سمات الممكن والقاصر، فلابد ان يظهر جهل الإنسان وعجزه عن الإحاطة في كل الأمور بل مرضى الأمر الواحد من جهاته المتعددة ، وفي اقراره بانه لا يدري مسائل :
الأولى : إنه نوع حكمة.
الثانية : فيه تواضع لله عز وجل.
الثالثة : إنه تحصيل للعلم.
الرابعة : فيه دعوة للآخرين لطلب العلم والتزود من المعرفة وتعدد مصادرها وبذا يختلف النبي لأنه يمتلك سلاح الوحي والتنزيل.
ليهتدي بِسنته من يطللب الحكمة ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
قوله تعالى [وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]
ورد اللفظ [أُوْلُوا الأَلْبَابِ] في القرآن ست عشرة مرة جاءت بصيغة الغائب اثنتي عشرة مرة منها هذه الآية، وبصيغة الخطاب (يا أولي الأَلْبَابِ) اربع مــرات، وجاءت كلها من باب التذكرة والدعوة الى التقوى والهدى والاعتبار من الآيات الكونية، كما انها تتضمن المدح لهم فمن هــم اولو الالباب الذين جــاء هذا العــدد من الآيــات بذكرهم ليزدادوا شرفاَ وتكون لهم موضوعية في سلم المعارف ومنازل الايمان.
ولب الشئ: خالصه وما عداه قشر أو كالقشر، ومنه لب الجوز واللوز، واللب بالنسبة للإنسان عقله، واللبيب العاقل، فأولو الألباب الذين اتخذوا العقل آلة لادراك المعارف والارتقاء في مراتب العلم ونيل مصاديق الحكمة.
فالآية دعوة لاهل العقول للاعتبار والاتعاظ والتذكرة والإنتفاع مما في الآية من الحكمة والموعظة والمسائل وهي:
الأولى : قانون موضوعية وأهمية الحكمة بالنسبة للإنسان.
الثانية : قانون الحكمة رزق كريم من عند الله تعالى.
الثالثة : تؤتى الحكمة لمن يشاء الله ان تكون عنده ، وهذه المشيئة دعوة للناس لنيلها وبلوغ مراتبها واحراز شرائطها، قال تعالى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
الرابعة : قانون الحكمة رحمة ونعمة وفضل عظيم ومن حصل على شطر منها فقد حاز على خير كثير ، وهو من مصاديق قوله تعالى [رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الخامسة : ان موضوع الحكمة وموضعها والمؤهلين لنيلها والساعين لبلوغ منازلها أمر يدركه ارباب العقول.
وكل انســان عنده عقل، فلماذا هذا التخصــيص، الجواب : المراد هـم من وظفوا عقولهم للاتعاظ والتدبر ، وإختيار المناسب في القول والفعل.
والآية دعوة لجعل العقل وســيلة الفهم والتمييز وارشاد الذين لا ينشــغلون بالقشــور والمشاغل اليومية التي تحول دون رؤية طرق الهداية وسبل الرشاد.
والتذكر الوارد في الآية اعم من اتيان الحكمة ومن موضوعها، فليس في الآية ما يدل على وجود ملازمة بين الحكمة وبين ارباب العقول، ولكنهم يتذكرون ويدركون اهمية الحكمة , وانها رزق كريم من عند الله تعالى ويتعلمون كيفية نيلها ويسعون للحصول عليها فهي علم مكتسب، وقد تكون هبة كما عند الانبياء، والتذكر والاستحضار الذهني هنا مقدمة وسبب ومدخل لاحراز الحكمة.
قانون الحكمة ملكة
آية البحث مدح للمسلمين وثناء عليهم لاتباعهم احكام القرآن والسنة النبوية، وفيها نوع ذم وتبكيت لاولئك الذين لم يتخذوا من نعمة العقل آلة للتذكر والتعليم والتدبر.
والحكمة لطف من الله ، وملكة عند العبد ينالها بالتعلم والإكتساب والفطنة والوجدان ، وهبة من عند الله ليكون أولو الألباب حفظة للشريعة في الأرض ، وآمرين بالمعروف لقانون التضاد بين الحكمة واتباع الهوى ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ]( ).
فقد ذكرت الآية أعلاه الدعوة إلى الخير بينما أخبرت آية البحث عن قانون الحكمة خير كثير ليكون من معاني الجمع بينهما الدعوة العامة وبالحكمة إلى الحكمة ومصاديقها لبيان أن مراتب الحكمة من الكلي المشكك والمتعدد ، وكل فرد منها نعمة وخير كثير ، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) ، والملكة كيفية كالكرم ملكة حسنة يقابله البخل ، والإيمان وضده الكفر .
وقد يقبح ما زاد عن الملكة في ذات الكيفية والحال ، مثل ملكة الشجاعة ، والتهور ، فالتهور قبيح ، لتكون الحكمة ميزاناً ومقياساً واستقامة ، وهي أعم من الملكة وعدمها ، ويدل عليه قوله تعالى [قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ] ( ).
وجاء الخطاب بلغة الاطلاق أي ان كل ذي عقل يدرك الحقائق الواردة في هذه الآية والآيات السابقة من عند الله تعالى بالمغفرة , وقدرته على هبة الفضل والزيادة ولزوم انفاق الطيبات في سبيل الله ، واجتناب التصدق بالخبيث والردئ، مع لزوم قانون الاحتراز من الشيطان وعدم تصديقه في وعوده أو إتباعه في اغوائه.
ويدل نهي القرآن عن إتباع خطوات الشيطان على قانون التحلي العام بالحكمة ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) ومن دلالات الحال بانه خبر كما في قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( )، فان الحكمة رزق أسمى وأعظم من المال ، فلابد من تعاهدها باجتناب اتباع الشيطان وأهل الشر والفسوق ، والدعوة إلى الإرهاب .
الآية إنذار
الآية تمثل انذاراَ للكافرين وتقبيحاً لهم لاعراضهم عن الدعوة الى الله لوجوه :
الأول : قانون الحكمة حاجة .
الثاني : قانون ذات الحكمة دعوة إلى الله .
الثالث : قانون الدعوة إلى الله وسيلة لنيل مرتبة الحكمة ، واتخاذ الحكمة سلماً في المعارف الإلهية ، وفي التنزيل [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) .
الرابع : قانون الدعوة إلى الله بصيرة ، وهي فرع الحكمة .
والآية مواساة للمسلمين، فان استغرب بعضهم هذا الإعراض وظهور المنكر والبخل والشح على سلوك بعض الجماعات يأتي الجواب في هذه الآية بان الذي يتذكر ويعتبر ويحترز هم اولو الالباب واصحاب العقول.
ولقد جاء موضوع التذكر مبهماَ مما يعني ان له مصاديق متعددة تعرف بالقرائن وبلحاظ سياق الآيات، فمن التذكر الذي يمليه العقل الاقرار بالربوبية ووجوب الامتثال لاوامر الله تعالى، واقتران العمل بقصد القربة، والحرص على اداء الزكاة لقانون الزكاة من ضرورات الدين، واتخاذ السبل الكفيلة بالحصول على الحكمة وجعلها المنية والغاية والوسيلة، الغاية التي يدرك العقل الحاجة اليها في عالم الاقوال والافعال خصوصاَ وان الدنيا دار ابتلاء تتصارع فيها قوى النفس وفي التنزيل [إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي] ( )، والوسيلة لاصلاح الذات والنفوس الناقصة , وهي مناسبة كريمة لبلوغ مراتب رضا الله تعالى ، وفي الآية إنذار للذين يعرضون عن مفاهيم الحكم وأسبابها ، ويمتنعون عن إتخاذها منهاجاً .
وفي الآيــة بدلالتــها الالتزاميــة توكيد على بقــاء الاسـلام ووجود من يجــعل العقل وسـيلة للايمان وباب هداية ورشاد، وان هناك من ينتفــع من الآيات ويســعى للحصـــول على الحكمة، وينشر لواءها بالزهــد والورع والتقــوى وفعل الصواب باعتباره احد مصاديق الحكمة.
والتذكر هنا لم يطلب بذاته كغاية بل هو مقدمة ومدخل للعمل الصالح وللاعتبار والاتعاظ، وهــو ظاهر في مضــامين الآيـات التي وردت فيها مادة (ذكر) التي وردت نحو مائتين وثلاثين مرة في القرآن بصيغة التذكر والذكرى ولغة الماضي والحاضر، والمفرد والجمع، وهو جزء من قاعدة اللطف وتقريب العبد الى الطاعة لكي يثاب ويؤجر عندما يتخذ التذكر وسيلة للصلاح وسبيلاً للرشاد ومناسبة للشكر والثناء عليه تعالى.
وفي مرسلة الكافي: (ان رســول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما قســم الله للعباد شــيئاً أفضل من العقل، فنــوم العاقـل أفضل من سهر الجاهل، وإفطار العاقل أفضل من صوم الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث الله رسولاً ولا نبياً حتى يستكمل العقل، ويكون عقله أفضل من عقول جميع أمته، وما يضمر النبي في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العاقل فرائض الله حتى عقل منه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، إن العقلاء هم اولوا الالباب الذين قال الله عزوجل: (إنما يتذكر اولوا الالباب).
وجاءت الآية بابهام موضوع (التذكر) مع وجود قرينة حالية ومقالية عليه، اذ وردت الآية بخصوص الحكمة وان التذكر أمر خاص بأرباب العقول الذين لم يتبعوا الوهم والخيال، ولم ينظروا الى الدنيا الا كدار مرور ومزرعة للآخرة، وابتعدوا عن سلطان الشهوة فرأوا الأشياء بمنظار الحكمة والعقل، وأدركوا لزوم الانفاق ومحاسن الصدقة المستحبة، زيف ما يعد به الشيطان.
وجاءت الاية بصيغة الجمع [أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ولم ترد بصيغة المفرد في القرآن، مما يدل على موضوعية التعاون في مرضاة الله، وكل مسلم يذّكر نفسه ويأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر، ويأمر غيره وينصحه في سبل الصلاح والهداية.
كما تدعو الآية الى سيادة أحكام الشريعة في المجتمع، وان المسؤولية الشرعية ليست شخصية فحسب بل هي نوعية عامة، وان المكلف يتحمل أعباء وظائفه وامورا اخرى عامة، سواء كانت من الواجبات العينية التي تجب عليه بالذات كما لو كان عملاً فيه تعظيم شعائر الله ولا يقدر عليه غيره، او الكفائية التي تجب على الجميع ولكن ان جاء بها أحدهم سقطت عن الباقين، وان لم يأت بها أحدهم أثم الجميع، وخاتمة الآية عون على ادائها بصورة فردية او عامة، وعلى نحو الاتحاد او التعدد.

قوله تعالى[وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أو نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ] الآية 270.

الإعراب واللغة (وما انفقتم) الواو: عاطفة، ما: اسم شرط جازم في محل مفعول به مقدم، انفقتم: فعل ماض وفاعل.
من نفقة: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ، أو نذرتم من نذر : عطف على ما تقدم.
(فان الله يعلمه) الفاء: رابطة لجواب الشرط، ان: حرف مشبه بالفعل ينصب الاول ويسمى اسمه، ويرفع الثاني ويسمى خبره، واسم الجلالة اسمه، وجملة يعلمه خبره ، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط.
(وما للظالمين من انصار) الواو: استئنافية، ما: نافية، للظالمين: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم .
من : حرف جر زائد، انصار: مبتدأ مؤخر.
النذر لغة هو الوعــد، وفي الاصطلاح الشرعي التزام المكلف بفعل أو ترك أمر بقصد القربة الى الله ورجاء الاستجابة، والانصار: الأعوان.
وقد أكرم الله عز وجل أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسمّاهم المهاجرين والأنصار في تسمية لم ينلها قبلهم ولا بعدهم فرد أو جماعة ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
في سياق الآيات
بعد الآيات التي تحث على الإنفاق في سبيل الله تعالى وتخصيص مادة الإنفاق بجعلها من الطيب والحسن ، والنهي عن تقديم الاعيان الرديئة للفقير والمحتاج وجهات قبول الصدقات والخيرات ، وقانون التحذير من وعد الشيطان بالفقر.
والاخبار عن وعد الله تعالى بالمغفرة ومجئ آية [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ]( )، وانها خير كثير ، جاءت هذه الآية لتبين علم الله تعالى بالإنفاق في سبيله وموارد النذر، وتؤكد قانون وهن الكفار وعدم وجود اعوان لهم، وهذه الآية مقدمة للآية التالية [إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]( )، ودعوة للاكثار من الصدقات سراً وعلانية.
إعجاز الآية
الآية اشراقة ملكوتية تبعث على الإنفاق في سبيل الله تعالى ، وترغب فيه باخبارها عن علم ورضا الله تعالى به.
والكل يعلم ان الله عز وجل [أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا]( ).
فلماذا الاخبار بعلمه بالإنفاق على نحو الخصوص في هذه الآية.
الجواب :
الأول : التوكيد .
الثاني : التذكير ، وفي التنزيل [فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى]( ).
الثالث : الدعوة للعناية بالندر عند إنعقاده ، وعدم التفريط به .
الرابع : قانون الترغيب بالنذر .
الخامس : قانون النذر وسيلة لنيل الرغائب ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ]( ).
السادس : الحث على المبادرة للإنفاق.
السابع : استحضار ذكر الله تعالى ، وفي التنزيل [وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ]( ).
الثامن : تنمية لملكة في النفس تتقوم بالمعرفة بانه سبحانه يطلع على كل شيء ، فلابد من توجيه الأقوال والأفعال الى ما فيه مرضاة الله تعالى.
وفي الآية تصدِ للشيطان في وعده الفقر، وفي علم الله تعالى بالفعل الصالح مسائل :
الأولى : قانون ترتب الثواب على العمل الصالح .
الثانية : فيها إعطاء موضوعية قرآنية للنذر، وقانون شرعية النذر في طاعة الله .
الثالثة : مجيء الوعيد للظالمين في ذات الآية التي تعد الجزاء الحسن على الإنفاق واخبار عن عظيم قدرة الله تعالى.
الرابعة : قانون إنفراد الله بالملك تخويف لأولياء الشيطان.
الخامسة : الآية من وجوه ضعف كيد الشيطان ، قال تعالى [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا]( ).
فعلم الانسان بان الله تعالى يحيط بأفعاله علماً تنقية للنفس وخطوة في صلاحها واعدادها لفعل الخيرات قال تعالى [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]( ).
وقد ورد هذا اللفظ أربع مرات في القرآن ، ولم يرد في أول الآية ألا في آية البحث ، إذ ورد في الآيات :
الأولى : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ).
الثانية : قوله تعالى [قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
وآية البحث الوحيدة التي تجمع بين النفقة والنذر لبيان اتحاد السنخية ، والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق ، فالإنفاق أعم.
ويمكن ان تسمى هذه الآية آية (وما انفقتم).
الآية سلاح
الآية عون للمسلمين في باب الإنفاق والصدقة واخراج الزكاة، فمتى ما علم الانسان والمؤمن خاصة ان الله عز وجل يعلم ما يفعل من الخير فانه يبادر اليه، ولا يتردد ويبطل تأثير ابليس والشيطان مطلقاَ على كلامه وفعله وجوارحه، وهو من مصاديق ودحر كيد الشيطان وابقائه ضعيفاَ.
ليأتي الخير والبركة وفي قصة آل زكريا ورد قوله تعالى [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ]( ).
والنذر عبادة قديمة ، يتجلى معها قانون إدراك الإنسان لضعفه ، ورجاء بلوغ الأماني ، وصرف البلاء من عند الله عز وجل .
وفي مريم ورد قوله تعالى [فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا]( ).
ومن ألفاظ النذر مثلاً (لله علي أن أذبح شاة إن نجح ولدي) أو (لله علي صيام ثلاثة أيام إن شفيت من المرض) أو (أني نذرت لله إن رزقت حج بيته الحرام أنفق ألف دينار).
ويكون النذر واجباً بالعرض عند تنجز متعلقه ، ومن الفوارق بينه وبين الفرائض العبادية كالصلاة والصوم أنها واجب بالذات والأصل ، ولا تكون معلقة على أمر ، لذا تسمى التكاليف ، ولابد من قيد كون النذر في طاعة الله.
و(عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه)( ).
مفهوم الآية
في الآية اخبار عن إستدامة الإنفاق عند المسلمين، ويعني دوام دفع الزكاة واخراج الحقوق الشرعية ودفعها الى مستحقيها، مما يعني توفير المقومات المالية لاصلاح احوال المجتمع الاسلامي وتهيئة شطر من مقدمات الفعل الإيماني الهادف، والتقيد بضرورات الدين.
فمن يحرص على دفع الزكاة يقيم الصلاة بالاولوية لانه يعلم انها عمود الدين واهم من الزكاة ولانها اخف من الزكاة بلحاظ البذل والانفاق.
وقد تقدم الأمر بها على الأمر بالزكاة عند الإقتران بينها في مواضع متعددة من القرآن من جهات :
الأولى : صيغة الأمر للمنفرد ، قال تعالى [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ]( )، والخطاب في الآية موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمراد الأمة وأجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
الثانية : صيغة الأمر للجمع وإرادة أجيال المسلمين والمسلمات وهي الأكثر في المقام ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثالثة : صيغة الأمر لجمع الإناث ، قال تعالى [وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( ).
الرابعة : صيغة الخبر والمراد منه الأمر كما في قوله تعالى [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ]( ).
وسيأتي مزيد كلام في هذه الصيغة في الجزء السابع والأربعين بعد المائتين من هذا السِفر المبارك .
والإنفاق في سبيل الله عبادة بدنية محدودة يشعر الانسان خلالها بالسعادة والغبطة والرضا مع عدم سهولة اخراج المال الذي جمع بعناء وجهد هذا اذا ما استثنينا وسوسة ابليس ووعده الكاذب، ومعه يزداد التردد وتطرأ على النفس الخشية من الفقر والفاقة ولو آناَ ما.
إذ تقدم قبل آيتين الإنذار من زيغ الشيطان ، قال تعالى [الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
ومن منافع النذر انه اقرار بان مقاليد الامور بيد الله تعالى، وهو القادر على تحقيق الرغائب وصرف الشدائد .
وعلمه تعالى بالنذر وعد كريم وثناء على العبد لتوسله الى الله.
ويعني في مفهومه دعوة العبد للتخلي عن الجفاء والاصرار والاتكال على الذات والاسباب المادية وحدها ولزوم الإقرار بمشيئة الله تعالى في الافعال والمسائل الشخصية والحوائج المستديمة والعارضة للشخص، فالنذر لجوء الى الله تعالى ورجاء لرحمته ومحو ما مكتوب من الابتلاء، وكتابة واستحداث المعدوم من النعم ووجوه السعة.
وتبين الآية موضوعية الاعوان والانصار، ونفيهم عن الظالمين يدل في مفهومه على وجودهم واثرهم بالنسبة لغير الظالمين، وتدعو الآية لأمور :
الأول : قانون النفرة من الظلم.
الثاني : قانون اجتناب الركون الظالمين ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ]( ).
الثالث : قانون الاحتراز من التقرب إلى الظالمين ومشاركتهم في ظلمهم .
الرابع : تأكيد آيات القرآن بامتناع نصرة الظالمين في الآخرة ، قال تعالى [وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ]( ).
فالوعيد للظالمين يعني في مفهومه أمرين:
الأول: تنبيه وتحذير المسلمين منهم، ومن الظلم مطلقاَ.
الثاني: الوعد الكريم للمسلمين بأن الله وليهم وناصرهم لخلوا اعمالهم من الظلم بتقيدهم بأحكام الشريعة والقواعد التي جاء يها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
وفي الآية بشارة الشفاعة والمدد والعون للمؤمنين في النشأتين.
وقد تجلت الآية ونصرة الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وفي معركة أحد بنزول ثلاثة ألاف من الملائكة لنصرتهم ومنع المشركين من تحقيق النصر مع أنهم أكثر من أربعة أضعاف عدد الصحابة في الميدان ، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
إفاضات الآية
من صفات الممكن الملازمة له الاحتياج، والانسان من الممكنات وعندما يستجيب في باب الانفاق فانه يتطلع الى العوض سعياً منه للكمال، تأتي هذه الآية للاخبار عن علمه تعالى بانفاقه، ولتبعث الأمل في نفسه وتجعله يقبل على الانفاق بشوق وهو يرى بعين البصيرة العوض وحسن العاقبة، وكذا حين يعقد النذر لله تعالى فان الآية تخبره بانه لم ولن يكون وحده في مواجهة الوقائع والأحداث، بل ان الله يتفضل بمدد يعينه على بلوغ الغايات الشرعية.
وييسر له قضاء الحوائج ، ويقرب البعيد النافع ، ويصرف القريب الضار وتبعث الآية على الصدقة في حال اليسر والعسر ، وإعانة الفقراء.
(وفي الصحيح : أفضل الصدقة أن تَصَدّقَ وأنت صحيح، شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر)( ).
لقد أخبرت آيات القرآن بأن [َلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، فالإنسان وما يملك من المال والعروض هو ملك لله عز وجل ، ولكن تفضل الله عز وجل وهداه إلى الإنفاق من ماله في سبيل الله وفي الصدقات وإعانة الفقراء والمحتاجين ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
والنسبة بين الإنفاق الذي تذكره آية البحث وبين الصدقات عموم وخصوص مطلق ، فالإنفاق أكثر وأعم.
وذكرت الآية النفقة بصيغة المفرد ، وتحتمل وجوهاً :
الأولى : صدق اسم النفقة على القليل ، و(عن عدي بن حاتم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما منكم أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه حجاب يحجبه ولا ترجمان يترجم له ، فيقول : ألم أوتك مالاً؟ فيقول : بلى .
فيقول : ألم أرسل إليك رسولاً؟ فيقول : بلى . فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار ، وينظر عن يساره فلا يرى إلا النار ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار ، فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة ، فإن لم يجد فبكلمة طيبة)( ).
الثانية : التعاون والإشتراك بدفع النفقة المتحدة ، أو المتعددة ولكنها في موضوع متحد مقل بناء فنظرة ، أو طبع كتاب إيماني ، أو علاج مريض ونحوه.
الثالثة : إرادة اسم الجنس .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وإن كان الأصل هو الثالث أعلاه ويجوز التشارك في النذر ، وبه قال الشافعية والحنابلة ، فمثلاً يشترك سبعة في النذر لذبح عِجل لأن العجل يعادل سبع شياه.
الصلة بين أول وآخر الآية
لقد ابتدأت الآية بحرف العطف الواو ، للإشارة إلى صلة الآية بالآية السابقة التي أثنت على الذين يتفضل الله عز وجل عليهم بالحكمة ليكونوا دعاة إلى الله وإلى الإنفاق في سبيله.
وأختتمت بقوله تعالى [وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( )، أي الذين يختارون قولهم وعملهم بما يمليه العقل والحكمة ويهدي إلى الصواب ، ومنه الإنفاق والبذل في سبيل الله ، وهو من تذّكر الحاجة العامة والخاصة لهذا الإنفاق.
و(عن أبي مسعود أن رجلا تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة)( ).
وبين الإنفاق والنذر عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء الإنفاق والبذل في سبيل الله ، ومادة الإفتراق أن الإنفاق يشمل الواجب كالزكاة والخمس وزكاة الفطر ، ويشمل المستحب الإختياري أما النذر فهو واجب بالعرض ومنه تنجز موضوعه.
وذكرت الآية النذر مطلقاً سواء تحقق موضوعه كشفاء مريض أو نيل شهادة علمية ، أو لم يتحقق موضوعه فان الله عز وجل يعلمه ، ويكتب فيه الأجر والثواب لما فيه من الإقرار بأن الأمور كلها بيد الله تعالى ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
وأختتمت الآية بالإنذار للظالمين من المشركين والمنافقين والفاسقين ، بأنه ليس لهم أنصار وشفعاء يوم القيامة ، لبيان قانون الدنيا دار التوبة من الشرك والنفاق والفسوق .
وقد ورد قوله تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار]( ), في ثلاث آيات:
الأولى : آية البحث .
الثانية : قوله تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ]( ).
وبينما نزلت الآية بالإنفاق في سبيل الله وأن الله يعلمه ويثيب عليه أختتمت بالوعيد للظالمين ، لبيان سوء عاقبة الذين يمتنعون عن الإنفاق في سبيل الله ، وعن أخراج الزكاة والحقوق الشرعية ، والذين ينفقون أموالهم بالباطل ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ]( ).

من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان قانون الحسن الذاتي للإنفاق .
الثانية : قانون هداية المسلمين والمسلمات إلى الإنفاق في سبيل الله.
الثالثة : قانون محاربة الجريمة بالإنفاق .
الرابعة : قانون الإنفاق فرع التكافل الإجتماعي في الإسلام.
وهل يشمل قوله تعالى [وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ]( ), إنفاق الدولة ومؤسساتها وبين المال في إعانة الفقراء والمحتاجين ، وتشريع القوانين بهذا الخصوص أم أن القدر المتيقن من الآية هو القضية الشخصية وإنفاق الأفراد.
الجواب هو الأول ، لأصالة الإطلاق وصدق الإنفاق العام ، وكثرة منافعه والحاجة إليه في تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات.
الخامسة : قانون النذر عبادة يلزم الإنسان بها نفسه من غير أن يكلف بها ولكن إيماناً ورجاءً.
وفي أم مريم ورد قوله تعالى إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ,
السادسة : يشترط في النذر البلوغ والعقل والإختيار وأنه في طاعة الله ، لتأكيد قانون حرمة نذر المعصية.
وعن ابن عمر عن عمر (قال نذرت نذرا في الجاهلية ثم أسلمت فسألت النبي صلى الله عليه و سلم فأمرني أن أوفي نذري)( ).
السابعة : قانون القطع بانعدام الناصر للظالمين وعيد لهم لإمساكهم عن الإنفاق في سبيل الله ، ولبيان قانون عدم إنتفاع الظالمين والمشركين من أموالهم يوم القيامة.
والقرآن يفسر بعضه بعضاً [وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ]( ).
التفسير
قوله تعالى [وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ]
هذه الآية واحدة من الآيات المتعاقبة في باب الانفاق، ودراستها مجتمعة ومتفرقة تظهر الاعجاز القرآني في بيان أحكام الإنفاق وجعله سجية ثابتة عند المسلمين وجزء من حياتهم اليومية يحرصون عليه، خصوصاً وان مجتمعاتهم لا تتقوم الا بالانفاق، فالحق والصدق يراد له بيان وتبيان وعون وعدد.
ومن معاني علم الله عز وجل بالإنفاق في آية البحث علم الله تعالى بمقدار وكم وكيف الإنفاق والغايات منه ، فلابد من قصد القربة ، كما تحذر الآية الكفار والمنافقين في إنفاقهم.
و(عن ابن عباس قال : قال الجد بن قيس : إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى افتتن ولكن أعينك بمالي . قال : ففيه نزلت [قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ]( ) قال : لقوله أعينك بمالي)( ).
لأن هذا المنافق خشي الخروج إلى تبوك وقعد وعرض ماله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، والآية عامة فيمن انفق ماله ، مع بقائه على الكفر في قرارة نفسه إذ ذكرت الآية التي بعدها علة عدم قبول نفقاتهم بقوله تعالى [وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ]( ).
وقد تشيع افكار الضلالة بسبب المال الذي ينفق لرواجها، وتتراجع عقائد الهدى عند بعضهم بسبب الفقر والعــوز الذي ينهش بأهله ويشل حركتهم ، فيتقدم من ينفق في سبيل الله لتستنير الأمة بأنوار جهــاده وتتفاعــل مع صـرخته ورفضه للكفر باشرف وأغلى ما عنده من المال والنفس ، وتزيح اضواء الإيمان ظلمة الضلالة ، ويعطل الصبر والثبات على الإيمان سلطان المال ويفضح الرياء والنفاق، ويدحض الغرور والعتو، والكذب.
وقد يكون الإنفاق سابقاَ لمرحلة الدفاع ويغني عنها أو يضيق دائرتها ويقلل من افرادها ويقصر من مدتها، وقد يكون مقارناَ لها وتابعاَ لها، والحق ان الإنفاق في سبيل الله تعالى لا يمكن الاستغناء عنه، وان تباينت تلك الحاجة في الكم والمقدار.
وقد قرنت الزكاة بالصلاة في نحو ثلاثين موضعاَ من القرآن منها بصيغة الأمر وبصيغة الخبر ، وفي الثناء على المحسنين قال تعالى [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ]( ).
وجاء فرضها في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ليجتمع التكليف بالعبادة البدنية والمالية في زمان واحد.
ويكون شاهداَ تأريخياَ على الارتقاء العقائدي عند المهاجرين والانصار، ودليل رسوخ الإيمان في صدورهم.
وفي الآية تخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمجيئها والمؤمنين بصيغة الحث والترغيب، وهي تأديب للائمة والســعاة والدعاة بارشادهم لانتزاع الحقوق الشرعية باللين والتشجيع والمدح والإكرام والدعاء لاصــحابها، كما انها ترغــيب لآخــذ الزكــاة ان كان مستحقاَ لها لانه يدرك بان النفقة تنفع صاحبها اكثر مما تنفع آخذها ومستحقها.
وهذا من اعجاز الشريعة الســماوية بان يكــون فاقد الشــيء ومعطيه اكثر نفعاَ به من آخــذه والذي تنتقل ملكيته لــه، وتلك الحقيقــة يعرفها كل مسلم.
ومن فضل الله تعالى ان الشواهد العملية والمصاديق الفعلية تبدو ظاهرة للعباد بما يساعد في استدامة الإنفاق ودفع الزكاة، فترى النماء في المال والسعة في الرزق يتعقبان اخراجها ودفعها الى مستحقيها، بالاضافة الى وجوه :
الأول : قانون النفقة تطهير للنفس.
الثاني : قانون الإنفاق تخلص من شوائب البخل.
الثالث : قانون النفقة وسيلة للمغفرة لما وعد الله تعالى عليها.
الرابع : النفقة والبذل والغطاء نوع تقرب إلى الله سبحانه.
وجاءت الآية بصيغة الجمع ( انفقتم) مع ان الملكية في الغالب فردية ولكل شخص استقلاله بالتصرف في امواله، ولغة الجمع هنا دلالة الكثرة والزيادة والتعدد، وهي حث على المشاريع الخيرية والاشتراك والتعاون في إنشاء مؤسسات ومعامل وعمارات واوقاف خاصة ونحوها بالزكاة والصدقة ، وفيه وجوه :
الأول : قانون الحض على الشراكة في الإنفاق ، فقد لا يقدر شخص واحد على الإنفاق في موضوعه كزواج شاب ، أو قضاء دين معسر فيتعاون جماعة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الثاني : قانون تقوية عرش الأخوة الإيمانية ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثالث : قانون الشراكة في الإنفاق عون في طرد شبح الفقر .
الرابع : هذه الشراكة شاهد على تعاهد المسلمين للصدقة والزكاة.
الخامس : قانون دعوة للأجيال اللاحقة بالمواظبة على الإنفاق والاقتداء بالسلف الصالح .
السادس : إنها من المسارعة في الخيرات ، بما يناسب الحال والشأن والزمان ، قال تعالى [عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا]( ).
السابع : فيها إقرار باليوم الآخر وعالم الحساب ، ورجاء الثواب يوم القيامة ، قال تعالى [وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
الثامن : إنتفاء التعارض بين الإنفاق الشخصي والشركة في الإنفاق ، والأكثر هو الأول ، ومن معاني صيغة الجمع في الآية قانون دعوة المسلمين لإنشاء جمعيات خيرية واستثمار وأوقاف لخصوص الإنفاق.
قانون قيام المؤمنين عامة بالإنفاق
يتوجه الخطاب في الآية للذين آمنوا، أي للمسلمين والمسلمات جميعاَ من تعلقت بذمته الزكاة ومن لم تتعلق بذمته خصوصاَ وانها جاءت بصيغة الترغيب والوعد الكريم وهل تتضمن قانون إنفاق الفقراء من المسلمين، أم انهم خارجون بالتخصيص لانها سالبة بانتفاء الموضوع لعجزهم عن الزكاة والإنفاق في سبيل الله تعالى ، الجواب : ان الآية تشملهم ايضاَ من وجوه :
الأولى : انهم من الذين آمنوا فيشملهم الخطاب القرآني الا مع الدليل الصارف عنهم، وهو معدوم.
الثانية : قانون الفقر أمر قابل للزوال، فيكون خطاب الإنفاق بالنسبة للفقير تعليقياَ إلى حين زوال الفقر.
الثالثة : قانون الفقر ليس مانعاَ من الإنفاق في سبيل الله تعالى فمن لا يملك قوت ثلاثة اشهر مثلاَ يصدق عليه انه فقير ويستحب له الإنفاق على اخيه المسلم الذي لا يملك قوت يومه وقد يجب.
الرابعة : قانون النفقة والصدقة من اقوى الوسائل والاسباب للحصول على الثروة والانتقال الى حال الغنى.
الخامسة : قانون الإنفاق من الكلي المشكك فيصدق بأدنى مراتبه اذا كان من طيبات كسب الانسان .
ومعلوم ان نوع الطيب عند الفقير كمالك غير الطيب عند الغني ، بمعنى انه تصح النفقة من الفقير على قدر حاله وشأنه.
السادسة : ان الله تعالى يحب لعباده التقرب اليه بالعبادات، وافشاء اسباب الرحمة واظهار الطاعة وحسن الامتثال بالإنفاق في سبيله تعالى لذا فان ثواب الفقير باقدامه على الصدقة عظيم عند الله لانه يدل على الإيمان والايثار قربة اليه تعالى بأشق الاحوال ، قال تعالى [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ]( ).
السابعة : يأتي ثواب اضافي للفقير بجعل نفسه أسوة للغني، فحينما يرى الغني ان الفقير قد انفق مع قلة ما في يده، تبرز أمامه اولوية مبادرته للانفاق، فاقتداء الغني به باب للثواب والجزاء العاجل ، لكل منهما .
الثامنة : كأن الفقير بانفاقه يعطي وعداَ بالإنفاق واخراج الزكاة اذا اصبح غنياَ، وفيه اخبار عن رجائه الغنى من عند الله تعالى ، وفي التنزيل [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا]( ).
لبيان قانون تعدد الأشخاص الذين يأتيهم الثواب بفعل أحدهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
فالأخوة ليست في ذات العمل وفي الدنيا وحدها ، بل تتجلى معاني الأخوة أيضاً بتعدد الذين يأتيهم الأجر والثواب على الفعل المتحد ، لذا فان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عبادي ، ويكون من معاني قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
أي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يثاب كل من :
الأول : الآمر بالمعروف .
الثاني : الذي يتلقى الأمر بالمعروف .
الثالث : الذي يسمع هذا الأمر أو يبلغه .
الرابع : الذي يقتدي بالآمر بالمعروف في أمره .
الخامس : الذي يستجيب للأمر بالمعروف وإن لم يتوجه له الخطاب بما هو أعم من مقولة (إياك أعني واسمعي ياجارة) إذ ينتفع من الأمر بالمعروف من لم يقصد إبلاغه ، قال تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ]( ).
السادس : الذي يتوجه له الأمر بالمعروف ، ويستجيب له في الحال أو فيما بعد ، ومثل هذه الوجوه الستة ، ستة أخرى يشملها قوله تعالى [وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ), ولم يرد لفظ (لتكن) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
التاسعة : إنفاق الفقير حرب على الشيطان وتكذيب عملي صادق لوعده الزائف والتماس للمغفرة من عند الله تعالى، وما من عبد غني أو فقير الا ويحتاج المغفرة ويدرك اقتضاء مصلحته تلمس كل الوجوه لنيل مغفرته ومرضاته تعالى، ومنها انفاقه القليل المتحد رجاء الكثير المتعدد ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
العاشرة : ان قيام الفقير بالإنفاق في سبيل الله تعالى من غير تفريط أو اسراف من الحكمة، وفعل الصواب وهو خير كثير ، فيكون الفقير بالإنفاق غنياَ بما عنده من الحكمة.
وهو من أسرار تعقب آية الإنفاق والنذر هذه الآية الحكمة ، ليكون من معاني [وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا]( )، أن إنفاق القليل من المال سبب لجلب الخير الكثير ومنه المال بلحاظ أن من معاني (الخير) المال كما في قوله تعالى [وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ]( ).
الحادية عشرة : الكلمة الطيبة صدقة (قال صلى الله عليه و سلم : الكلمة الطيبة صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق)( ).
قانون تعدد المثابين من الإنفاق الشخصي
من الإشارات في صيغة الجمع ان الإنفاق يكون شخصياَ والثواب يكون نوعياَ عاماَ لما يدل عليه لفظ العموم من الاستغراق، ويدل عليه الواقع والنصوص فمن ينفق في سبيل الله تعالى يشاركه الثواب آخرون من غير ان ينقص من ثوابه شيء وثواب من يشاركه :
الأول : الساعي في الخير، والدال على مواطن الانفاق.
الثاني : الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، الذين يحثون على دفع الزكاة ، واعانة الفقراء وضرورة عدم حبس الحقوق الشرعية.
وعن ابن عباس (أنه جاءه رجل فقال : يا ابن عباس إني اريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر قال : أو بلغت ذلك؟ قال : أرجو . قال : فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل . قال : وما هن؟ قال : قوله عز وجل [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ]( )، أحكمت هذه الآية ، قال : لا . قال : فالحرف الثاني قال قوله تعالى [آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ]( )، أحكمت هذه الآية .
قال : لا . قال : فالحرف الثالث قال قول العبد الصالح شعيب [مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ]( )، أحكمت هذه الآية؟ قال . لا . قال : فابدأ بنفسك)( ).
الثالث : عيال المنفق باعتبار أنهم ساهموا في النفقة أو حثوا عليها أو تخلوا عن جزء من تبعاتها بفقدان جزء من مالهم أو ما هو تعليقي ويكون من مالهم الخاص مستقبلاَ كتركة، أو انهم سكتوا عنها ولم يبدوا اعتراضاَ ولم يكونوا جنوداَ لابليس في وعده بالفقر وليأتي التحدي لابليس من اضعف المسلمين حالاَ واكثرهم فقراَ وأقلهم مالاً ونصيباً في الإنفاق فيصاب باليأس والقنوط، وبذا تتجلى منافع لغة الجمع وما لها من الفوائد العظيمة.
وهل تشمل النفقة هنا الكلمة الطيبة، القدر المتيقن من الآية هو بذل المال والاعانة المادية ولكن تكرار الصدقة قد لا يتمكن منه كل مسلم وتصح بصرف الطبيعة ومسمى الانفاق، وجاءت الآية بالاطلاق فيما يخص نفقة العلانية ونفقة السر والخفاء، وهو الأمر الذي تؤكده الآية التالية.
وهل يشمل الإنفاق الوارد في هذه الآية صرف المال في المعصية كما قيل (والآية عامة تشمل جميع انحاء الإنفاق سواء كان قليلاَ أم كثيراَ في الطاعة أم في المعصية)، الجواب: لا، فصحيح انه سبحانه يعلم كل شيء الا ان الآية مختصة بالإنفاق في سبيله تعالى لانها جاءت في باب الترغيب والحث بقرينة ما قبلها وما بعدها وما معها، فمن الاول ورود الأمر بالإنفاق من الطيبات والنهي عن إنفاق الخبيث، ومن الثاني مجئ الآية التالية عن الصدقات، وجاء في الآية التي بعدها [ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأنفسكُمْ ]( )، ومن الثالث وهو ما معها عطف النذر على النفقة، والنذر لا يكون الا فيما هو راجح عقلاَ وشرعاَ، بالاضافة الى ما فيه من معاني العبادة والتقوى.
قوله تعالى [أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ]
النذر هو عهد التزام باتيان عمل مخصوص قربة لله تعالى، ورجاء تحقيق غاية أو النجاة من أمر مبغوض كما لو قال المكلف على نحو الاطلاق ( لله عليّ ان تزوجت ان افعل كذا)، أو انه معلق (لله عليّ ان شُفيت من مرضي ان اصوم يوماَ).
وقال المرتضى ببطــلان النــذر المطــلق طــاعة كان أو معصــيــة وادعى عليه الاجماع، وقال ان العرب لا تعرف من النذر الا ما كان معلقاَ.
والاصح صــحته مطلقاَ كان أو مقـيداَ ولا ملازمة بين ما تعرفه العرب وبين ما جاءت به الشــريعة الســماوية السـمحاء، وهو باب لقضاء الحــوائج لما فــيه من لغة التوســل والاتجاه الى الله تعالى والشكر له على تفضله بالاستجابة بالاداء عند انعقاده، ويدل على مشروعيته القـرآن والســنة النبويــة، كما انه موجــود عند المسلمين قبل نزول القرآن، وفي التنزيل حكاية عن مريم ابنة عمران [ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ]( )، وقال تعالى حكاية عن امرأة عمران [ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ]( ).
ولم يرد موضوع (النذر) في القرآن الا في الآية محل البحث والآيتين اعلاه، واذ جاء النذر بالنسبة للامم السابقة بخصوص القضية الشخصية فان وروده بالنسبة للمسلمين على نحو القضية النوعية العامة وصيغة الجمع (نذرتم).
وجاء النذر في الآية بصيغة الاطلاق من غير تقييد بموضوع معين أو بمقدار موضوع النذر ومقداره وكيفيته، كما جاء بصيغة الفعل الماضي للدلالة على الحدوث والاستدامة.
وأتى هذا الاطلاق في طول اطلاق النفقة وعدم تقييدها بقيد مخصــوص، مما يدل على موضوعية النذر وعظيم ثوابه وكثرة نفعه، وكأن ابواباً من الفضــل الإلهي تفتـح بالنذر، كما انه أمر اختياري وتعهد أدبي والتزام عقائدي، وهل هو من الحكمة التي ذكرتها الآية السابقة أم لا ؟ الجواب: انه من مصاديق الحكمة لما فيه من الدلالة على الإيمان.
ترى ما هي الصلة بين آيات الإنفاق هذه والنذر الذي ذكرته آية البحث ، الجواب النذر إنفاق وطاعة لله عز وجل ، ولبيان وجوب الوفاء بالنذر ، ولا يصح النذر في قطيعة الرحم كأن ينذر ألا يزور أخاه أو لا يكلم ابنه .
و(عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ، ولا في معصية الله ، ولا في قطيعة الرحم ، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليدعها وليأت الذي هو خير ، فإن تركها كفارتها)( ).
وهل يشمل النذر المنهي عنه في قطيعة الرحم الزوجة كأن يقول لله علي نذر ألا أكلم زوجتي ، الجواب نعم ، هذا النذر لا ينعقد ، لقوله تعالى [وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ]( ).
ولألحاق الزوجة في المقام بذوي الأرحام ، ولا نذر في حال الغضب ، إذ ورد (عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نذر في معصية ولا غضب ، وكفارته كفارة يمين)( ).
ولا يصح نذر صوم يوم عيد الفطر أو الأضحى إذ نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه.
بحث عقائدي
يعتبر النذر جزء من الواقع العام للمجتمعات الاسلامية، وكما انه عهد فانه معهود ومتعارف بينهم (وورد عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: النذر لا يقدم شيئاَ ولا يؤخره وانما يستخرج به من البخيل)( ).
والمراد ان السخي والكريم يبادر الى النفقة والتقرب الى الله بالصدقة والعطاء في سبيله تعالى، أما البخيل فانه يمسك ماله ولا يســتخرجه الا عـند العهد والنذر، فانعقاد النذر يكون رحمة بالبخيل كي يفــي بالنذر، وهو مناســبة لنزول الرحمة الإلهية وقيامه بالإنفاق وفــاء للنــذر فيكتبــه الله عز وجل انفاقاَ في ســبيله، وهــذا من رأفته تعالى ان يجــعل تلفظ العبد بالنذر وميله اليه نوع إيمان واستعداد للانفاق.
ولعل النهي عن النذر جاء منعاَ لكثرته، وخشية التهاون بأمره والاعتماد عليه دون المواظبة على الدعاء والاستغفار، وتخفيفاَ عن المسلمين، واجتناباَ للتشديد على النفس، والاضطرار الى المسألة للوفاء بالنذر، أو ان يؤدي بالمسلم الى الحاجة والفاقة لإنفاق كل ما يملك للنذر أو يستدين له خصوصاَ عندما يحصل التباري والتسابق في مقدار وكم وكيفية النذر وظهور امارات اجتماعية تقرن بين كثرته وتعدده وبين الإيمان، ولمنع المسلمين من اللجوء الى النذور وحدها لتحصيل المنافع ودفع المضار، وحثهم على الإنفاق العاجل قربة الى الله وفق قواعد الإنفاق والقــدرة والاســـتطاعة، ويلاحــظ في نذر مــريم ابنة عمران وأمها انه لم يكن نذر مال أو ذبح انعام وابل، بل تعلق بالصوم وبالحمل في البطن.
وجاء بالاســناد (عن عبد الله بن عباس قال: استفتى سعد بن عبادة رســول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نذر كان على أمه انه توفيت قبل ان تقضيه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فاقضه عنها)( ).
بحث فقهي
يمكن تقسيم النذر تقسيماً استقرائياً:
الأول: النــذر المعــلق على شرط ولا اشكال في انعقاده، وعلى صــحة صــيغته الإجماع، ان كان كذا فلله عليّ كذا، وينقسم الى قسمين:
الأول : نذر المجازاة: وهو ما كان شكراً على نعمة كما لو قال: ان أديت فريضة الحج هذه السنة فللّه عليّ كذا، وقد يكون شكراً وتوسلاً والتماساً لدفع بلاء كقوله: ان نجوت من هذا الحادث فللّه عليّ كذا.
الثاني : نذر الزجر: ويكون لمنع النفس عما منهي عنه شرعاً، واضافة النذر الى اسباب انزجارها، كما لو قال ان أخرت صلاة الصبح الى ما بعد طلوع الشمس عمداً فلله عليّ كذا.
الثاني: نذر التبرع وهو الذي يبتدأ به من غير ان يكون معلقاً على شرط كما لو قال: لله عليّ كذا، واستدل بقوله تعالى [ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ]( ) بأن نذرهــا مطلق لم يعلق على شرط، ومع قولنا بانعقاد الشرط المطلق فأن الآية الكريمة أعم من المدعى ولا تدل على الاطلاق بل كانت ترجو ولادته ذكراً سليماً مباركاً.
وتعتبر قدرة الناذر على الوفاء به مطلقاً كان النذر أو مشروطاً، وسواء كان شكراً أو زجراً أو تبرعاً، فمع عدم القدرة لا يجب الوفاء بالنذر.
ولا يصح النذر الا ان يكون في طاعة الله من الواجب كالصلاة أو المستحب كالصدقة المندوبة وعيادة المرضى سواء كان كفائياً كوجوب رد السلام أو تجهيز الموتى، كما يصح في المباح اذا كان له قصد راجح كما لو قصد بالأكل القدرة على المواظبة على العبادة، أو بقلته منع النفس من الانغماس في أسباب الشهوة.
ويعتبر في النذر والعهد قصد القربة كما في اليمين اي بارادة وجه الله واضافة النذر اليه.
والأقوى صحة النذر بالإضافة الى الأسماء الحسنى لله عز وجل وعدم الحصر باسم الجلالة لإفادة ارادة الذات المقدسة، وان قلنــا بأن الاسم غير المسمى، ولظاهر النصوص بل لإطـلاق ما ورد في التنزيل [ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ]( ) وان نسب الى جماعة اعتبار النطق بلفظ الجلالة.
وينعقد النذر باي لغة كانت لأنه التزام وانشاء، ولعدم ورود دليل على اعتبار العربية خصوصاً لمن لم يحسنها.
ويشترط في الناذر البلوغ والعقل لأنهما شرطا كمال، والإختيار فلا يترتب أثره مع الإكراه لحديث الرفع، والقصد لعدم اعتبار كلام المغمي عليه وغير الملتفت والغضبان غضباً يرفع قصده اليه، وانتفاء الحجر في متعلق النذر فلا ينعقد نذر الصبي وان كان مميزاً ولا المجنون، وكذا السفيه ان كان المنذور مالاً ولو في ذمته، والمفلس ان كان المنذور من المال الذي حجر عليه وتعلق به حق الغرماء.
ولابد ان يكون متعلق نذر الشكر والزجر أمراً يستحق الشكر لما فيه من طاعة لله عز وجل سواء كان بميسور العبد فعله أو من أمره تعالى فيؤدي الى الواجب أو المندوب أو الى ترك حرام أو مكروه ليكون الإتيان بالمنذور وفاء وعرفاناً ونوع اقرار بتفضله تعالى بالإستجابة وقضاء الحاجة.
من أحكام النذر
(المسألة الأولى) لو نــذر التصدق بعين شخصية تعينت ولا يجزي مثلها أو قيمتها مع وجــودها وامكان الوفــاء بها، أما لــو كانت تالفــة ففيــه صور( ):
الأولى: ان كان التلف قهرياً وليس منه تسبيباً أو مباشرة انحل النذر ولا شيء عليه لزوال موضوعه .
الثانية: لو كان التلف بعد لزوم النذر وتحقق المطلوب وتوانيه في الوفاء فالأقوى الإنحلال ايضاً وان اثم بسبب التقصير الا ان يدل دليل على الخلاف كالحق الخاص الذي يثبت معه الضمان أو ملكية المهدى له ثواب النذر للعين المنذورة.
الثالثة: لو كان الإتلاف راجعاً اليه ضمنها بالمثل أو القيمة ويتصدق بالبدل.
(المسألة الثانية ) لو تردد المنذور بين الأقل والأكثر كما لو نسي هل هو نذر صيام يوم أو يومين، أو شـــاة أو شاتين لا يجــب الا الأقــل، ولو تردد بين المتباينين كما لو لم يعلم هــل نذر صــلاة ركعتين أم صيام يوم أو تردد بين التصــدق بدينار أو بصــاع من التمر فالأقــوى الإجـزاء بأي فرد منهمــا، وادعي الإجماع على عدم الإحتياط في الماليات ولقاعدة نفي الحرج.
(المسألة الثالثة )لو نذر الصدقة على شخص معين لزم كما لو قال ان رزقني الله ولداً فللّه عليّ ان أعطي فلاناً صدقة قدرها كذا، فلا يملك المنــذور له ابــراءه أو حله من النذر لما لله عز وجل من حق في النذر، نعــم لو لم يقبل المنــذور له كما لــو كان فيه نــوع منة وحــرج فيحل النذر للتعذر.
(المسألة الرابعة ) لو مات الناذر قبل ان يفي بالنذر يخرج من اصل تركته لأنه واجب مالي.
(المسألة الخامسة ) يكــره الإيجاب على النفس واشغالها بالواجب بالعرض كالنذر واليمين ويستحب الإلحاح بالدعاء عند الإبتلاء والمصيبة بل مطلقاً.
(المسألة السادسة) لا يتحقق الحنث الموجب للكفارة الا بمخالفة النذر اختياراً وعن قصــد، فلو جاء بها جهلاً أو نسياناً أو اضطراراً لا يترتب عليه شــيء ولكن لا ينحــل نــذره فيجــب الإلتــزام بالــنذر عند ارتفاع العذر.
(المسألة السابعة ) كفارة حنث النذر كفارة اليمين، والأحوط استحباباً انها كفارة افطار شهر رمضان ، قال تعالى [لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
(المسألة الثامنة) من نذر شاة ونحوها فلا يجوز ان يستبدلها بقيمتها من المال الا على نحو الوكالة في الوفاء بالنذر أو تعذر الشاة.
(المسألة التاسعة) اذا نســـي مقدار وجنس النذر فيجزي الأقل، والاحوط الاكثر، وكذا لــو شك بين موضــوعين، وفي الضــدين القــرعــة.
قوله تعالى [ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ]
اخبار عن علم الله تعالى بالامور وبافعال العباد، لقد احاط الله علماً بكل الخلائق وهي جميعاَ حاضرة عنده مستجيبة لأمره، فلماذا هذا التخصيص بالنسبة للنفقة والنذر، فيه وجوه:
الاولى : إنه نوع وعد كريم لما يعنيه الاخبار عن علم الله تعالى بالصالحات من الجزاء.
الثانية : بشارة قانون الثواب العظيم في الآخرة، قال تعالى [إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ]( ).
الثالثة : إشارة إلى العوض والنماء في المال بسبب النفقة وتيسير الأمور وازاحة العقبات فيما يخص متعلق النذر.
الرابعة : التخصيص دعوة للإنفاق في سبيل الله تعالى ، قال تعالى [لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ).
الخامسة : حث على تحدي الشيطان لان الاخبار عن علم الله تعالى بالإنفاق حرز ضد الشيطان ووسوسته، وعدم الانصات له فيما يدعيه من التعرض للفقر والحاجة.
وورد الإخبار عن علم الله تعالى بالنفقة والنذر على نحو الاطلاق فيتضمن العلم بالنية والاخلاص والعزم عليها ومقدار كل منها وجهة المتعلق وقصد القربة والابتعاد عن الرياء والعجب والزهو والسمعة مع الحرص وخلو النفقة من الأذى.
وفي الاخبار عن علم الله تعالى بالنفقة والنذر دعوة للارتقاء الى مراتب الحكمة واصابة الواقع وجعل الإنفاق من الحكمة العملية.
وفي الآية اشارة الى عظيم الثواب الذي ينتظر الذي ينفق ماله طلباَ لمرضاته تعالى، ومما في الآية من الوعد الكريم ان الله تعالى يخلف النفقة ويتفضل بالاستجابة لموضوع النذر ويعين على الوفاء به عند انعقاده، والرزق الكريم البديل عنه ان لم يحصل موضوعه وما فيه من المُنية والمسألة.
وما ورد من التحذير من النذر عن الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وســلم لا يتعارض مع وجوب الوفاء بالنذر عند تحقق متعلقه لامكان التفكيك بينهما، بمعنى كراهة التقيد بالنذر، ولكن لو نذر الانســان فعلــيه الاداء عنــد انعقاده وحصول متعلقه الا مع العجز ونحوه.
ومع ان موضوع النفقة والنذر جاء بصيغة الفعل الماضي فان علم الله تعالى بهما جاء بصيغة الفعل المضارع (يعلمه) وعلم الله تعالى ازلي وسابق للاشياء في حدوثها وفيه دلالات منها ان النفقة والنذر يبقيان حاضرين في علم الله تعالى بما يفيد ترتب الاثر عليهما بنماء الصدقة والاستجابة للنذر أو الثواب عليه كالإقرار بالربوبية والتسليم بان مقاليد الامور بيده تعالى، فالآية تخبر عن دوام فضله تعالى وزيادة ثواب النفقة بعد انقضاء زمانها وموت صاحبها.
والضمير في (يعلمه) يعود لاسم الشرط (ما) في حث على النفقة ودعوة للوفاء بالنذر، وذهب الأخفش إلى القول بعودة الضمير إلى الأخير أي النذر.
قوله تعالى [ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ]
الآية وعيد وانذار، المسلم ينذر لله ويلتزم بايجاب شيء على نفسه طاعة لله ورجاء الاستجابة، ومقابل هذا النذر يتلقى الكافر انذاراَ يتضمن التخويف والتحذير والتقبيح لسوء فعله واقدامه على الظلم.
وجاءت الآية على نحو الإطلاق بأن الظالمين جميعاَ ليس لهم أنصار وأعوان.
وورد نفي النصير عن الظالمين في ست آيات وبصيغ متقاربة وأكثرها بخصوص حال الكفار يوم القيامة وفي عالم الجزاء وهي حسب نظم القرآن :
الأولى : آية البحث .
الثانية : قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ]( ).
السادسة : قوله تعالى [وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ]( ).
والظلم على وجوه :
الأول : ظلم الانسان لربه باتخاذه الند والشريك في العبادة ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
الثاني : ظلم الإنسان لنفسه في تقصيره بواجباته وامتناعه عن الزكاة والنفقة في سبيل الله تعالى .
وقد وردت بعض النصوص التي تفيد بان مانع الزكاة كافر.
الثالث : ظلمه للناس بالتعدي والظلم وحبس حقوقهم وأكل اموالهم بالباطل ، وفي الإنذار والنهي عن أكل أموال اليتامى قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا]( ).
وذكرت الآية أموال اليتامى لضعفهم وسهولة التجرأ عليها لولا التقوى وليكون الإمتناع عن أكل أموالهم على وجوه :
الأول : إصلاح اليتامى ، وعن ابن عباس قال (إن الله لما أنزل [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا…]( )، كره المسلمون أن يضموا اليتامى وتحرجوا أن يخالطوهم في شيء ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله [قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ]( )، يقول : لأحرجكم وضيق عليكم ، ولكنه وسع ويسر)( ).
الثاني : تنمية ملكة الإمتناع عن أكل المال بالباطل عند المسلمين .
الثالث : إشاعة مفاهيم التقوى بين الناس.
والصدقة والنفقة تأتي على وجوه الظلم الثلاث بفضل الله ورحمته تعالى ، ففيها مسائل :
الأولى : قانون الإنفاق في سبيل الله شاهد على التنزه عن الشرك.
الثانية : قانون تقوم الصدقة بقصد القربة وابتغاء مرضاة الله تعالى ، قال تعالى [أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
الثالثة : الصدقة هي أداء لواجب أو مستحب .
الرابعة : قانون تطهير للنفس ، قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الخامسة : قانون الصدقة تنقية للأموال .
السادس : قانون الصدقة طرد للآثار والأضرار المترتبة على اختلاط الحلال بالحرام بفضل من الله ، وفيها تخلص من الرياء والسمعة.
أما دفع الظلم للناس بالصدقة فلما فيها من الحسنات والثواب الجزيل لذا جاءت هذه الآية بالاخبار عن علم الله تعالى بالنفقة والصدقة، فثوابها حاجز دون العذاب وباب للاذن بالشفاعة ووسيلة للتدارك، نعم حقوق الناس لا تمحوها الصدقة ولكنها تنفع في التخلص من عواقبها الوخيمة بوجوه:
الأولى : وعد الله تعالى على النفقة في سبيله مطلقاَ وعداً كريماً بغض النظر عن الافعال الاخرى، نعم كل فعل له قدره في موازين الحساب.
الثانية : ثواب الصدقة ينمو ويزداد الى يوم القيامة، أما الذنوب والمعاصي فباقية على حالها، قال تعالى[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).
الثالثة : من يحرص على الإنفاق في سبيل الله تعالى بفوز بأمور :
الأول : يهتدي غالباَ الى الاستغفار ويسعى للتفقه في الدين ويحاول نيل رضا من ظلمهم واساء اليهم، ورد حقوقهم لهم.
الرابعة : في مفهوم الآية اشارة الى نيل المحسنين والمنفقين في سبيل الله شفاعة الانبياء والصالحين ان شاء واذن الله سبحانه.
ويكون الإنفاق في سبيل الله تعالى حرزاً من الظلم وبرزخاً دون ايذاء الآخرين، لان الذي يجمع المال ببذل الجهد وتحمل العناء ثم يخرجه امتثالاَ لامر الله تعالى لابد ان يكون حريصاً على عدم افساد ثوابه، وتضييع عبادته المالية بالتعدي على الاخرين ، وتنمي النفقة عنده ملكة الرأفة بالاخرين والعطف عليهم والخشية من الله في التعامل معهم خصوصاً الفقراء والمساكين فتتجلى هذه الملكة من باب الاولوية القطعية في اجتناب الظلم والتعدي، لانه قد سعى في اعانتهم واخرج لهم ما يستحقونه من ماله فلابد ان يتجنب الاساءة اليهم وظلمهم وابطال أو نقص صدقته بالأذى والظلم.
وهذا من فلسفة دفع الزكاة والتوكيد عليها كضرورة من ضرورات الدين والحث على الإنفاق في سبيل الله تعالى.
وجاء نفي الأنصار في الآية على نحو الاطلاق الزماني فيشمل النشأة الأولى والآخرة وان كانت الآيات القرآنية تشير الى عالم الآخرة في الجملة، فقد ورد قوله تعالى [ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ] في آيتين أخريين من القرآن هما :
الأولى : [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار]( ).
الثانية : [ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ]( ).
وقد وردت بلغة المفرد وما يتضمن ذات المعنى في آيات عديدة منها قوله تعالى [ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ]( ).
والآية وان جاءت بصيغة الجمع الا انها تحمل على المفرد ايضاَ من طرفي الظلم والنصرة، فالظالم لا يجد نصيراَ ولو كان ظلمه لشخص واحد.
ومن الظلم الكفر والجحود وعدم التصديق بالرسالة والنبوة، قال تعالى [ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ]( ). فمن السبيل اداء العبادات والتقرب الى الله بالمندوبات والإنفاق طلباَ لمرضاته تعالى.


 قوله تعالى [إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَــفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيــِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَـعْمَلُونَ خَبِيرٌ] الآية 271.

القراءة
في (نعماَ) ثلاث قراءات وهي:
الأولى : بفتح النون وبكسر العين، وهي قراءة عبد الله بن عامر وأهل الكوفة غير عاصم.
الثانية : بكسر النون وسكون العين، وهي قراءة أهل المدينة غير ورش.
الثالثة : بكســر النون والعين وهــي قــراءة نافع وابن كـثير، وعاصم في رواية حفص عنه، (وقال: ابن الاثيــر: وفي نعم لغات، اشهرها كسر النون وسكون العين، ثم فتح النون وكسر العين، ثم كسرها)( ).
أما قوله تعالى (نُكَفِّرَ) ففيه قراءات:
الأولى: نكفر بالنون ورفع الراء، وبه قرأ ابن كثير وابو عمرو وعاصم.
الثانية: بالنون والجزم، وهي قراءة حمزة ونافع والكسائي.
الثالثة: بالياء وكسر الفاء ورفع الراء، وهي قراءة ابن عامر وحفص عن عاصم، وهي المرسومة في المصاحف.
الرابعة: (قال الزمخشري: وقرأ وتكفر بالتاء مرفوعاً ومجزوماً والفعل للصدقات) ( ).
الخامسة: (وقراءة الحســن بالياء والنصب باضمار ان، ومعناها ان نخفــوها لكن خير لكم، وان تكفر عنكم سيئاتكم فهو خير لكم)( ).
الإعراب واللغة
(ان تبدوا الصدقات) ان : حرف شرط جازم، تبدوا : فعل الشرط مجــزوم بحذف النــون لأنه مضــارع، الواو: فاعــل، الصدقات: مفعول به منصوب بالكسرة .
(فنعماً هي) الفاء: رابطة لجواب الشرط، نعم: فعل مضارع جامد لإنشاء المدح، ما: نكرة تامة بمعنى شيء في محل نصب على التمييز، هي: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ خبره جملة نعماً.
(وان تخفوها) الواو: عاطفة، ان: حرف شرط جازم، دخل على المضارعين فجزمهما لفظاً، تخفوها: فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون، الواو: فاعل، الهاء: مفعول به.
(وتؤتوها الفقراء) الواو: للحال، وهي كل واو على تقدير اذ نحو صليت الصبح والفجر طالع، تؤتوها: معطوف على تخفوها، الهاء: مفعول به اول، الفقراء: مفعول به ثان.
(فهو خير لكم) الفاء: رابطة لجواب الشرط، هو: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ، خير: خبر، لكم: جار ومجرور متعلقان بخير، والجملة الإسمية (هو خير) في محل جزم جواب الشرط.
(ويكفر عنكم) الواو: استئنافية، يكفر: فعل مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر يعود لله تعالى، وقيل ان الجملة خبر لمبتدأ محذوف والتقدير {والله يكفر عنكم}، عنكم: جار ومجرور.
(من سيئاتكم) جار ومجرور، وفيه قولان:
الأول: انهما متعلقان بمحذوف صفة لمفعول به محذوف، أي: {يكفر عنكم شيئاً من سيئاتكم}( ).
الثاني: ان حرف الجر (من) زائد، وبه قال جماعة منهم ابو البقاء.
والأول اصح وفق القواعد العقائدية.
(والله بما تعملون خبير) الواو: استئنافية، اسم الجلالة: مبتدأ، تعملون: جملة من فعل وفاعل لا محل لها لأنها صلة الموصول (ما) وهو بمعنى الذي، خبير: خبر مرفوع بالضمة.
ويُقال بدا الشيء يبدو بدواً وبداء: ظهر: ويقال: بادى فلان بالعداوة أي جاهر بها.
وقال الازهري: اذا قلت نعم ما فعل أو بئس ما فعل، فالمعنى نعم شــيئاَ وبئس شـــيئاَ فعل، فنعـــماً عنــوان مـــدح للفعل وثناء على صاحبه.

في سياق الآيات
بعد الوعــد الكــريم بالعلم بالإنفاق وما فيه من الحث على الصــدقات واخراج الحقــوق الشــرعية المقــترن بالوعيد للكافرين في الآية السابقة، جاءت هذه الآية بالإخبار عن حصول الجزاء مع التباين في كيفية الإنفــاق في الســر أو العلانية ورجحان صدقة السر، والدعوة الى الإنفاق وايصال الصدقة الى الفقراء.
فترى الإعجــاز في ســياق الآيات فيمكــن تســميتها بمجــموعها (آيات الإنفاق) والتي بدأت من الآية الســتين بعد المائتــين بقــوله تعالى [ مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( )، وكــل آيــة منــها أكــدت على موضوع الإنفاق وضرورته واختصت بوجه مستقل من وجوهه فمنها:
الأول : التقييد بانه في سبيل الله.
الثاني : قانون مجئ المثل القرآني لبيان عظيم الثواب.
الثالث : قانون لزوم عدم اتباع الإنفاق والصدقة بالمن والأذى.
و(عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يدخل الجنة عاق ، ولا منان ، ولا مدمن خمر
قال ابن عباس : فذهبنا ننظر في كتاب الله ، فإذا هم فيه في العاق [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ]( )، إلى آخر الآية . وفي المنان [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى]( )، وفي الخمر [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ]( )، إلى قوله { من عمل الشيطان })( ).
الرابع : قانون البشارة بعظيم الأجر على الصدقة كثيرة كانت أو قليلة .
الخامس : اختيار القول الحسن والإعتذار على الصدقة المقترنة بالأذى.
السادس : قانون التحذير من ابطال الصدقات بالمن والأذى ولزوم الإبتعاد عن الرياء.
(وعن عبد الرحمان السليماني مولى عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتّى يفرغ منها ثم ردّوا عليه بوقار ولين أو بذل يسير أو بردَ جميل فإنّه قد يأتيكم مَنْ ليس بأنس ولا جان ينظرون كيف صنيعتكم فيما خوّلكم الله عزّ وجلّ.
وعن بشر بن الحرث قال : رأيت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ج في المنام فقلت : يا أمير المؤمنين تقول شيئاً لعلّ الله عزّ وجلّ ينفعني به.
فقال : ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء رغبةً في ثواب الله،
وأحسن منه تَيْهِ الفقراء على الاغنياء ثقةً بالله عزّ وجلّ.
فقلت : يا أمير المؤمنين زدني،
فولّى وهو يقول :
قد كنت ميّتاً فصرت حيّاً
وعن قليل تصير ميتاً
فاضرب بدار الفناء بيتاً
وابن بدار البقاء بيتاً)( ).
السابع : الترغيب والحث على الإنفاق في سبيل الله وبيانه بالمثل الإعجازي الهادف.
الثامن : قانون النهي عن إنفاق الخبيث والردئ.
التاسع : قانون الدعوة الى استثمار الحياة الدنيا لإنفاق الطيب والحسن ، قال تعالى [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ]( ).
العاشر : التخويف والتنبيه من شرور ابليس والتحذير من وسوسته، وقراءة ضياء الأمل بالمغفرة والفضل من الله تعالى.
وقد ورد حديث إبليس الطويل عن ابن عباس ، ولا أصل لهذا الحديث وهو بيّن الكذب ، إنما يذكر للتنبيه والتحذير والتذكير ، وأوله (فبينما نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت أبي أيوب الأنصاري حتى سمعنا منادياً ينادي من وراء المنزل وهو يقول : فان الحاجة بنا لكم).
الحادي عشر : قانون المبادرة الى الإنفاق نوع حكمة واستثمار للحياة الدنيا واستنزال للرزق.
الثاني عشر : قانون تلقي الترغيب والحث من الله تعالى على الإنفاق بالإمتثال .
الثالث عشر : قانون الإتعاظ من توبيخ وذم الظالمين.
وجــاءت هذه الكيفيــة لبيان تعدد وجوه الصدقة وامضائها وصحتها.
إعجاز الآية
تظهر الآية لغة التسهيل في دفع الصدقات وعدم حصرها بصورة واحدة وتخلص النفوس من الشك بالرياء عند الصدقات، فلولا هذه الآية ونحوها لخشى الإنسان التصدق علانية خوفاً من رميه بالرياء، وهذه الخشية تسبب له حرجاً وضيقاً وهو لا يريد الا الإحسان وقد يمتنع عن الصدقة وتفوت الليالي والأيام دون اعطاء الفقير لأنه لا يستطيع الإنفاق الا علانية.
فجاءت الآية لبيان صحة الإنفاق علانية أو خفاء، وتدعو لتلمس فوائد كل منهما، والآية تدل على علم الله واحاطته تعالى بالأمور وعدم خفاء شيء منها عنه، كما تظهر الدرجة التي تنفرد بها صدقة السر للترغيب بها.
وفي الآية بشارة قانون صيرورة المسلمين بحال من الغنى يستطيعون معها أداء الزكاة من النصب الشرعية لها وهو من مصاديق ورود الآية بصيغة الجمع في لغة الخطاب وواو الجماعة في (تبدوا) ولفظ الصدقات الجامع للصدقة الواجبة والمستحبة ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
وتحت الآية على الصدقة المستحبة من الغني والفقير رجاء الأجر والثواب ، لقانون الصدقة الواجبة لا تسقط الصدقة المندوبة وكل منهما من مصاديق قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
ومن إعجاز الآية جمعها بين أمرين :
الأول : قانون إخفاء الصدقات .
الثاني : قانون اتيان الزكاة للفقراء .
وقد يتبادر إلى الذهن أن الفقير والمسكين واحد ، ولكن العطف بالواو يدل المغايرة ، فهل هناك تعدد في الواقع .
وتبين الآية نكتة وهي استلام الفقير للزكاة والصدقة مطلقا ليس ذلاً أو انتقاصاً له ، كما أنها تمنع الفقير من الإمتناع عن قبول صدقة العلانية ، لبيان قانون إصلاح الله لطرق دفع الزكاة وقبولها.
وقانون المنع من الخصومة والفتنة في باب الزكاة إذ أراد الله عز وجل لها أن تكون رحمة عامة في الدنيا والآخرة .
وهل فيه دلالة على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل ، الجواب نعم.
ويمكن ان تسمى هذه الآية آية [إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ].
الآية سلاح
تجعل الآية الصدقات أمراً مألوفاً عند المسلمين وتحثهم على المبادرة اليها، وهي سلاح لكل من :
الأول : الأغنياء لقانون دفع الزكاة والصدقة مطلقاً تطهير وباب لمغفرة الذنوب .
و(عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة ، وآخر ما يبقى الصلاة ، وأول ما يحاسب به الصلاة ، يقول الله : انظروا في صلاة عبدي ، فإن كانت تامة كتبت تامة ، وإن كانت ناقصة.
قال : انظروا هل له من تطوّع ، فإن وجد له تطوّع تمت الفريضة من التطوّع.
ثم يقول : هل زكاته تامة؟ فإن وجدت زكاته تامة كتبت تامة.
وإن كانت ناقصة قال : انظروا هل له صدقة؟ فإن كانت له صدقة تمت زكاته من الصدقة)( ).
الثاني : عموم المجتمع لقانون الزكاة صلاح وتهذيب ونشر لشآبيب الرحمة .
الثالث : الزكاة سلاح للفقراء والمحتاجين وعون لهم في دروب الحياة وتحول دون تأذيهم أو حقدهم على الأغنياء بسبب صدقة العلانية، لأن الله تعالى اذن بها وهي نعمة ورحمة.
لقد ورد لفظ (تبدوا) أربع مرات في القرآن وهي حسب نظم القرآن:
الأولى : آية البحث .
الثانية : قوله تعالى [لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا]( ).
الرابعة : قوله تعالى [إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
وفي كل من هذه الآيات ورد الحرف إن في (ان تبدوا) والنسبة بين موضوع آية البحث والآيات الثلاثة الأخرى أعلاه عموم وخصوص مطلق ، فموضوع هذه الآيات أعم وأكبر .
لأن أبواب الخير كثيرة ، ومنها الصدقات والإحسان بالقول والفعل لبيان أن الدنيا دار عمل الصالحات واكتناز الحسنات ويختص الجزء السادس والأربعون بعد المائتين والجزء الثامن والأربعون بعد المائتين من هذا السِفر بـ(علم الإحصاء القرآني غير متناهِ).
أسباب النزول
ذكر ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سُئل: صدقة السر افضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت الآية، مما يعني أهمية الموضوع والحاجة الى بيان الحكم في القرآن لمنع الاختلاف وتأثير الأهواء والتشدد في الاحتياط.
مفهوم الآية
الصدقة موضوع مبارك يوليه القرآن عناية خاصة لما ينفرد به من المعاني السامية والمنافع الجليلة للفرد والجماعة والأمة في الدنيا وفي الاخرة، وهو عنوان الإيمان والإقرار بالمعاد، وشاهد على علمه تعالى بأفعال العبد، فمن يؤدي الصدقة يخشى ان يراه الله فيما يخالفها من مواطن المعصية.
والآية تقسم موضوع الصدقة الى قسمين:
الأولى : الذاتي.
الثانية : العرضي.
أما الذاتي فهو الذي يخص ذات الصدقة ومقدارها واخراجها وإيصالها الى المستحق، أما العرضي فهو كيفية الإعطاء وهل هي علنية أم خفية.
وتظهر آيات الترغيب القرآني في الصدقة بالإخبار الإلهي عن جواز الوجهين معاً لأن الأولوية للذات وليس للعرض، والذات هو الصدقة، ولكن كلاً من الإعلان والإخــفاء له منافــع وخصائص من الحسن يتصف بها.
إفاضات الآية
تدعــو الآيــة المســلمين الى المبادرة الى الأفعال مع صحة الصدقة بأي كيفيــة جــاءت ما دام القصــد هو القربة وطلب مرضاته تعالى، وتبــين الآيــة الســعة والمندوحــة في قوانــين الصــدقات من جــهـة الكيفية، وتتجــاوز قيود الحسد والكيد والرياء فتعلن عن صحة الانفاق العلنـي من غير ان تنســى التــوكيــد على حقــيقــة ثابتــة في الملل الســـماوية وهي صــدقة السر، وفي هذه السعة رحمة بالفقراء ايضاً وجزء علة لوصــول الصـدقات اليهم في كل الأحوال، وعدم اليأس من فضله تعالى.
التفسير
قوله تعالى [إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ]
في الآية اخبار عن استجابة المسلمين لآيات الإنفاق ومبادرتهم الى الإنفاق بقصد القربة ونية اعانة المحتاجين امتثالاً لأمره تعالى واخراج الزكوات والحقوق الشرعية والكفارات واعطاء الصدقة المندوبة، لأن الصدقة أعم من الواجبة فتشمل المستحبة والمندوبة.
وقد ورد ذكر (الصدقة) في القرآن بصيغة المفرد خمس مرات وبصيغة الجمع تسع مرات، والجمع عنوان الكثرة ولأنه في المقام يحمل عنوان التعدد في العلانية والسر، ولإرادة الكثرة في كل منهما على نحو الإستقلال، فلم يقل احد بان المراد الصدقة مرة علانية، ومرة خفية، ولكن المراد هو الإطلاق في الجواز وعدم ملاحظة أو اعتبار التناوب بل الخيار متروك للمتصدق وشأنه وحاله ومناسبة المقام مع وجود راجح لصدق السر، ومن الآيات ان هذا الراجح لم يؤثر سلباً على صدقة العلانية وقد تأتي موارد يكون فيها نفع صدقة العلانية اكثر أو ان الحاجة تقود اليها.
آية (ان تبدوا) رحمة عامة
من خصائص الآية القرآنية أنها رحمة من جهات :
الأولى : المخاطبون في الآية .
الثانية : المسلمون والمسلمات ، سواء توجه الخطاب القرآني لهم أم لغيرهم .
الثالثة : الذين ينتفعون من مضامين الآية القرآنية لذا جعل الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً.
وجاء الثناء على المؤمنين بعشر صفات لهم في قوله تعالى [التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابعة : قانون نهل الناس من الآية القرآنية في كل جيل وإلى يوم القيامة ، وهو من أسرار بقاء القرآن غضاً طرياً ، وسلامته من التحريف أمس واليوم وغداً.
وفي الآية وجوه :
الأول : الآية حجة وبرهان في لزوم الإنفاق ومنع الحرج في صدقة العلانية أو السر لإرادة الجواز في كيفية الصدقة والإنفاق إلا ما دل الدليل على النهي عنه ، كما في المنّ والأذى والتعيين .
الثاني : قانون آية (ان تبدوا) دعوة للصلاح والتكافل الإجتماعي.
و(عن النعمان بن بشير أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم المؤمنون كرجل واحد.
قال : المؤمنون كرجل واحد لجسد إذا اشتكى رأسه تداعى له سائره بالحمى والسهر)( ).
الثالث : قانون الآية موضوع لتهذيب النفوس ونشر المودة بين الناس.
الرابع : تمنع الآية من إشاعة الفساد والسرقة والعتو لما فيها من سنن التأديب .
الخامس : قانون الآية القرآنية باعث للإحسان وصيرورة أمة من المحسنين .
وسمع أعرابي عبد الله بن عباس وهو يقرأ [فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( )، فقال الأعرابي (والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها. فقال ابن عباس : خذوه من غير فقيه)( ).
السادس : ملائمة آية البحث للشأن مع إختلافه بين الناس ، ولحاظ الخصوصية في المقال والحال.
منافع الصدقة علانية
ومن منافع صدقة العلانية:
الأولى : حث الآخرين على الصدقة بالمبادرة الشخصية اليها، فالغني الذي يرى صاحبه وشبيهه يتصدق يحاكيه ويقلده في الصدقة، ومن كان اغنى منه يشعر بلزوم قيامه بالصدقة من باب الأولوية، ومن هو أدنى منه يشتاق الى محاكاته ويميل الى الإقتداء به رجاء المماثلة في حال الغنى ، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط فكل منهما غني، ورجاء الزيادة في الغنى ولأن المتصدق يكون له كالمؤدب والمعلم وكأنه وصل الى مرتبة الغنى بالصدقة والنفقة.
الثانية : اشاعة الصدقة وافشاء موضوعها وجعلها جزء من واقع المسلمين وامرا متعارفاً، وظاهرة محسوسة.
الثالثة : إعلان التقيد بأحكام القرآن واظهار اقتران العمل بالعلم والتباهي بفضل الله تعالى على المسلمين وعلى الشخص نفسه بالتوفيق للصدقة والقدرة عليها ، وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
الرابعة : إنه نوع شكر لله عز وجل فالقيام بالتصدق وبصورة علانية اظهار عملي لنعم الله تعالى وتذكير للذات بانها من عند الله عز وجل كرزق وقدرة على الإنفاق واختيار للصدقة، وهو حرز من الرياء والسمعة، فمتى ما أدرك الإنسان ان عمل الله في الخيرات من عنده تعالى ينعدم عنده الرياء ويغيب موضوعه.
الخامسة : طرد الشــك ومنــع الغيبة والإفتراء والظن السيء، فانحصار الصــدقة بالخفــاء والإعطاء للفـقــير سراً قد يجعل بعض الناس يقول ان فلاناًً لا يتصــدق ولا يدفع الزكاة، ويكثر القيل والقال وهو ســـاكت يحرص على التقيد بصفة السر في صدقته طلباً للثواب واختيار الراجح، فجاءت الآية للتخفيف عن صاحب الصــدقة وعــن الناس جميــعــاً ببيــان منافــع وصحة صدقة العلانية.
السادسة : من الفقراء من ينـظر الى الغــني واخــراجــه الصدقة بلحاظ ما يقدمــــه له دون غيره، خصوصاً اذا كان رحمه أو جاره أو تربطه معه صلة ما، والغني يدفع لغيره لموازين واسباب للتفضيل والأولوية ظاهرة عنده مما قد يؤدي الى حصول الغيبة والكدورة في الصلات، فتأتي صــدقة العلانية واقية للغني، مؤدبة للفقير، مصلحة للحال.
السابعة: صدقة العلانية تجعل الأولويات ظاهرة ومعروفة فقد تدفع لمن تظنه فقيراً، فيأتيك من يخبرك بمن هو اكثر حاجة واولى بالمساعدة والصدقة، وقد يكون اقرب رحماً ولكن التعفف والعز حالا دون معرفة فقره وفاقته.
عن(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أنفق على نفسه نفقة ليستعف بها فهي صدقة ، ومن أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهي صدقة.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن جابر قال : قال رسول الله : ما أنفق المرء على نفسه وأهله وولده وذي رحمه وقرابته فهو له صدقة) ( ).
الثامنة : قانون منع صدقة العلانية من ثوران المفسدة ومن التعدي.
التاسعة : قانون صدقة العلانية شاهد عملي وحجة ورحمة وباب صلاح للمجتمعات.
العاشرة : قانون بعث صدقة العلانية الأمل في نفوس الجياع والمحتاجين لما فيها من ضياء المدد واتصال العون واحتمال بلوغه للجميع.
الحادية عشرة : قانون صدقة العلانية رفق ومواساة لأن هناك من يتفقد احوال الفقراء ويعيش همومهم ويساعدهم في معيشتهم وامور حياتهم.
(عن النعمان بن بشير أنه قال للنبي {صلى الله عليه وآله وسلم} المؤمنون كرجل واحد.
قال : المؤمنون كرجل واحد لجسد إذا اشتكى رأسه تداعى له سائره بالحمى والسهر) ( ).
الثانية عشرة : اصلاح النفوس وتهذيب الصلات الاجتماعية وتنمية إكرام الغني لسخائه وكرمه وتقربه الى الله تعالى بماله ورزقه.
قانون الصدقة تهذيب
الزكاة والصــدقة مطلقاَ مدرســة اخــلاقية تساهم في تهذيب المجتمعات وهذا ما لا يختلف فيه اثنان، وقد تجلى للعالم الحديث والدول الصناعية اهمية مــد يــد العــون للــدول الفقيرة واطفاء ما عليها من الديون مع كثرتها، ولزوم المبادرة بارسال الإعانات الى المناطق المنكوبة واماكن الجدب والجفاف، لما جعل الله عز وجل من الأخوة الإنسانية ولإدراك تلك الدول لحاجتها ونفعهــا باعـانة الدول الفقيرة وتقليص الهوة بين الأغنياء والفقراء أو لا اقل ايجاد حالة من الشــعور باداء الوظيــفــة الأخــلاقيــة ازاء الفقراء واعانتهم على النهوض لأن فيه ديمومة الحياة واستمرار الرقي والتجارة العالمية.
ومن الإعجاز ان يأتي القرآن قبل أكثر من الف واربعمائة سنة بالأمر بالصدقة واخراج الزكاة ومكافحة الفقر باموال الأغنياء وعلى نحو المبادرة الشــخصية والجمعية التي تدل عليها لغة الجمع في الآية الكريمة، وذكر الصدقات، ولغة الخطاب بصيغة الجمع ايضاً.
وجاء القرآن بوجوب الصدقات فهي , حق الله في الأموال الشخصية الذي لابــد وان يخرج ويـدفع الى مستحقيه، فلا غرابة ان يخبر سبــحانه بانه هـو الذي يأخــذ الصدقات لأنها حــقه وعطــاؤه وفضــله وحصة وجزء من رزقه للعبد خص به الفقير، قال تعالى [ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ]( ).
الصدقة والأحكام التكليفية الخمس
صدقة العلانية تبين التزام المسلم بانفاقه للطيب واجتنابه إعطاء الفقير الخبيث والردئ من المال.
وقوله تعالى [ فَنِعِمَّا هِيَ ] أي فنعم الشيء هي صدقة العلانية وهذا الحسن يحتمل وجوهاً:
الأول : ان المدح والحسن لذات الصدقة.
الثاني : الحسن مركب من ذات الصدقة ومن العلانية في ادائها.
الثالث : انحصار المدح بالتجاهر وابدائها.
الرابع : الثناء والذكر الجميل لذات الصدقة، والعلانية أمر غير حسن، ولكنه لا يضر بالحسن الإجمالي العام للصدقة.
أما الوجه الثالث فهو ممتنع ومناف للقواعد والأحكام موضوع الصدقة.
والأصح هو الأول والوجه الثاني وهو تعدد وتركيب الحسن واستحقاق المدح من وجهين الصدقة واظهارها، وان العلانية ليست نوع اضرار عرضي بذات الصدقة بل هو عرض تنطبق عليه الأحكام الخمسة:
الأول : قد تكون العلانية واجباً اذا توقف عليها حفظ النفس أو المال أو العرض، كما لو كان المال معرضــاً للتلف أو للتعــدي وتكون صــدقة العلانية حفظاً له وان لم تكن على نحو الحصر والتعيين بمعنى ان موضوع حفظه لا ينحصر بالعلانية ولكنها احد وجوه السلامة والأمن.
الثاني : قد تكون العلانية مســتحبة كما في دفع الشبهة عن النفس ومنع الغيبة والتعدي والأقاويل ولتبرئة المكلف لساحته ويثبت انه يقوم بدفع الزكاة ولا يتوانى عن الصدقات المستحبة، أو لتشجيع الآخرين على دفع الزكاة وللمواساة والمساهمة في نشر الأخلاق الحميدة.
الثالث : صدقة العلانية المباحة التي يتساوى فيها طرفا الفعل والترك فيختار المكلف العلانية.
الرابع : العلانية المكروهة وهــي التي يترجــح فيها جــانب ترك العلانية والميل الى صــدقة الخفاء، كما لو تحـرج الفقير وكان من اولي الشــأن فيســتحي من تلقي الصــدقات علانية ولكــن حاجته شديدة، وهذه العلانية تدخل في عمومات الفعل الجائز، لان كل مكروه جائز.
قال تعالى [لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ] ( ).
ولم يرد لفظ (يَحْسَبُهُمْ) و (التَّعَفُّفِ) و(تَعْرِفُهُمْ)و(إِلْحَافًا) في القرآن إلا في الآية أعلاه لترغيب الناس بالزكاة والصدقة , وإكرام الفقراء ودعوتهم للصبر , وبيان أن المدار في المنزلة على الإيمان , قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الخامس : العلانية المحرمة، وهي التي يؤتى معها بالصدقة رياء وسمعة ولأغراض دنيوية غير مرضاة الله تعالى، نعم لا يكون الرياء مبطلاَ لو كان عرضاَ زائلاَ واخطاراً في القلب ولم يكن جزء من الداعي مستقلاَ أو تابعاَ، ولو شك حين العمل ان داعيه محض القربة أو مركب منها ومن الرياء فالعمل صحيح لإصالة الصحة، وكذا لو شك بعد إتمام العمل لقاعدة الفراغ ، قال تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
والوجوه الاربعة الأولى من مصاديق الآية، أما الوجه الخامس فخارج بالتخصيص وتدل عليه عمومات بطلان العمل بالرياء لما فيه من مضامين الشرك، ولا يضر طرو موضوع اراءة الناس للصدقة على نحو عرضي مع صدق البينة في الاصل ، قال تعالى [فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
(قال شهر ابن حوشب : جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال : أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله عزّ وجلّ ويحب أن يحمد عليه ، ويصوم يبتغي وجه الله عزّ وجلّ ويحب أن يحمد ، ويتصدّق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد عليه ، ويحجّ يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد عليه .
فقال عبادة : ليس له شيء ، إن الله عزّ وجلّ يقول : فمن كان له معي شريك فهو له كله ولا حاجة لي منه)( ).
فمدح الفعل والاتيان بالصدقة يتغشى ذات الصدقة، واعطاءها بصورة علنية ايضاَ سواء مع وجوب أو استحباب العلانية أو مع عدم وجود مانع منها وما يدل على حرمتها لقاعدة نفي الحرج في الدين ولاصالة الصحة في عمل المسلم وللاباحة ولدلالة هذه الآية، بالاضافة الى قواعد الشريعة الحنيفية السهلة السمحاء.
المراد من الصدقات في الآية
والمراد بالصدقة على جهات :
الأولى : الواجب وهي الزكاة وزكاة الفطر.
الثانية : المندوب كالصدقات على الفقراء واعانة المحتاجين مما ليس بواجب.
الثالثة : المعنى الجامع للواجب والمندوب.
وقد جاء لفظ (الصدقات) في الآية بصيغة الجمع، ويراد منه الصدقة الواجبة تارة، واخرى المعنى الاعم ، والثاني هو الأنسب في المقام لأصالة الاطلاق ولان المسألة تتعلق برحمة الله واحسانه تعالى وأحكام الأجر والثواب ، قال تعالى [لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
وكما تنهى هذه الآيات المحسن عن اتباع الصدقة بالمن والأذى، فان هذه الآية تمنع الفقير والمحتاج من مؤاخذة المنفق والمعطي لانه اختار الصدقة المعلنة أو التي تكون علانية أو تلحق بالعلانية فيعلم بها غير طرفيها من المعطي والآخذ.
ولولا هذه الآية قد يتجرأ غير الفقير ايضاَ من اهل الحسد والبخل على المحسن بحجة انه يتصدق علانية وان اجره قليل، أو ان العلانية تبطل ثواب الصدقة، ويقول بعضهم حينما لا نتصدق افضل منه لانه يتظاهر بالصدقة، فجاءت هذه الآية رحمة للجميع وللاخبار بان العلانية لا تضر في صدق النية والتوجه لطلب مرضاة الله تعالى.
والعلانية في الآية تحتمل جهات :
الأولى : اتيان الصدقة على نحو علني وبمرأى من الناس.
الثانية : اعطــاء الصــدقة من غير التــفات الى مسـألة العلانية والاخفاء وارادة اختــيار احــداهما، فقد يتفــق ان تكون مرئية ومسـموعة من الناس.
الثالثة : إعلان موضوع الصدقة والتجاهر به سواء قبل دفعها للفقير أو اثناءه أو بعده، كما لو وضع في لوحة اعلانات مكتبه قائمة باسماء الفقراء الذين يساعدهم، أو انه اعلن فيما بعد اسماء الذين يدفع لهم الحقوق الشرعية والصدقات المستحبة ومقاديرها، أما لو اضطر للإعلان فهل يعتبر من الاعلان، الجواب: لا، لحديث الرفع وأحكام الضرورة، ومع هذا فالثواب لا يتضرر في الإعلان من غير ان تصل النوبة الى الاعتذار بالضرورة، وهذا من السعة والمندوحة في الآية الكريمة.
وهل الإعلان عن الصدقة من مصاديق الابداء والاظهار، أم ان الاظهار منحصر بساعة الدفع، الأصح هو الاول لعمومات اللفظ وارادة المعنى الأعم وللتخفيف واليسر، من غير ان يتعارض الأمر مع النهي عن الإعلان بقصد الرياء والسمعة، أو الإعلان الذي يؤدي الى المن والأذى أو يكون بذاته مناً وأذى.
وهل يكون الإخبار والإعلان عن وجود مال للصدقة، وفتح سجل لتسجيل اســماء المحتاجين والفقراء الراغبين بالاخذ منه من وجوه العلانية لصدق الإعلان والاجهار، أم انه ليس منها لعدم تعيين الفقير وذكره، وان الإعلان لا يتقوم الا بمعرفة الفقير.
الجواب : إنه من العلانية ولا دليل على اشتراط معرفة الفقير ولو على نحو التشخص في موضوع العلانية، لانها تدور مدار الإخبار عن العزم على الصدقة والقيام بها فعلاً، وقد يكون الإعلان أكثر نفعاً وسبباً في حصول الفقراء الأكثر حاجة على مال الصدقة.
قانون آية البحث تخفيف
والآية من وجــوه رحمة الله تعالى بالعباد واعانتهم على اخراج الحقوق الشرعية وتسـهيل الدفــع والعطاء، فلولا السعة التي تظهر في هذه الآية والتيسير على الدافع والآخذ والساعين في الخيرات لتعطل جانب من الحقوق والصــدقات وحصــلت مشكلات اجتماعية واخلاقية، فحتى السعاة في الخيرات يواجهون بالكتمان وعدم الإخبار عن مقدار الدفع وجهته ونوعه خشية احتسابه من الإبداء والاعلان.
فجاءت هذه الآية لتساهم في جعل موضوع الصدقات امراً مألوفاَ ويخضع لضوابط كلية من جهة الدفــع والتوزيع سواء بلحاظ الاشخاص أو المؤسسات.
لقد قدمت الآية الإبداء والإظهار على الاخفاء وهو ليس صدفة أو إتفاقاَ فلابد له من دلالات، وتعتبر هــذه الآية بشـارة ومصدر سعادة وباباَ لتسهيل الانفاق.
والاظهار من الكلي المشكك الذي له مراتب متفاوتة في الإعلان وكيفيته، ومدى اعلانه اجتماعياَ وعرفاَ ووسيلة الإعلان خصوصاَ وان وسائل الإعلان تتنوع وتتعدد.
وهل يعني الاذن بالإعلان والجهر التمادي فيه، الجواب: لا، فالمدار على عدم خروجه من أحكام الوجوب والاستحباب والندب، ولا يصل الى درجة الرياء واسباب الحرمة.
لقد أراد الله عز وجل بآية البحث التخفيف عن الغني والفقير وتيسير وصول الزكاة إلى المستحق علانية أو سراً ، وفي التنزيل [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى]( ).
قوله تعالى [فَنِعِمَّا] هل هو متعلق :
الأول : بالإبداء ككيفية.
الثاني : بالصدقات لمناسبة الضمير المؤنث [هِيَ].
الثالث : بالإبداء والصدقات معاً.
الجواب: هو الثالث، أي يتعلق بهما معاً، فالصدقات بذاتها ممدوحة ذاتاً وحسنها هذا يترشح على الكيفية التي تُعطى بها ما دامت بقيد القربة الى الله، والإعلان ايضاً أمر حسن لأنه لا ينظر اليه على نحو مجرد بل هو إعلان الصدقة، وسيأتي مزيد كلام في التفسير.
ومن مفاهيم الآية اجتناب الامتناع عن الصدقة لعدم حصول الكيفية المناسبة، بل يستحب المبادرة اليها ولو بالإعلان والابداء، وهذا الإعلان على مراتب متفاوتة، فمنه ما هو إعلان للجماعة أو للعائلة أو لفرد آخر، والآية تنفي الحرج عنها وتأذن بها مع اجتماع الشرائط الاخرى كقصد القربة وعدم الإيذاء والمن.
وجاء لفظ [الصَّدَقَاتِ] بصيغة الجمع وفيه وجوه :
الأولى : للدلالة على تعدد أفراد الصدقة وان بعضها يؤتى به علانية وبعضها سراً.
الثانية : يصح التخيير على ذات الفرد من الصدقة، فيجوز علانية ويجوز سراً، فأحياناً تكــون عنده صــدقة ويتردد هـل ينفقها علانية أو سراً، فيأتيه الجواب في هذه الآية بصحة أي من الطريقين، لأنه احسان محض، ولقاعدة نفي الحرج في الدين وللحسن الذاتي للصدقات الا مع القرينة التي تدل على الخلاف وحصر الجواز بواحد منهما.
الثالثة : الجمع يدل على كثرة الصدقات والحث على المداومة عليها.
قوله تعالى [وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]
بعد الاذن والترخيص باظــهار الصدقات، جــاء الشطر الثاني للآية بالاذن باخفائها مع حصة زائدة وهي التفضيل.
ومن الآيات ان يجتمع الامران معاً في آية واحــدة ببيان ونـص واضح لا يحتاج الى التأويل والاستشهاد بآية اخرى أو حديث نبوي، مما يدل على اهمية الموضوع والحكم وحـاجة المسلمين الى بيان التشريع في كيفية دفع الصدقة وطــريقة قبضها واخذها.
فمع ارادة المحســنين وارباب الحقوق الشرعية في الخطاب الوارد في الآية الكريمة فان الفقراء والمحتاجين مشمولون بمفرداته على نحو المفهوم وفحوى الخطاب ولانهم طرف في الموضوع.
فالصدقة نوع مفاعلة لا تتم الا بين طرفين المعطي والآخذ، وقد تشمل أطرافاَ اخرى ، ومن اعجاز القرآن انك ترى احكامه وموضوعاته ومعروفة وظاهرة عند عموم المسلمين والمسلمات في الجملة، بل ان الأمر أعم من اعجاز القرآن وانه من المدد الإلهي والاعانة الملكوتية للقرآن واحكامه، [ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُو ]( ).
ومما هو شائع بين المسلمين جواز التجاهر بالصدقة أو اعطائها سراَ مع الاجماع العام على افضلية اعطائها سراَ وبالخفاء، واصطلاح الاجماع أمر فقهي يراد منه اتفاق علماء الإسلام خصوصاَ من المتقدمين على مسألة أو قول أو حكم، والاجماع حجة لدلالته على الاتفاق في الحكم المستقرء من الكتاب والسنة، أما اجماع المسلمين على معرفة حكم والتسالم عليه فهو أمر ينفرد به القرآن والسنة وفرد من اعجاز القرآن .
فقد يجمع الفقهاء على حكم ولكنه غير معروف الا من ذوي الاختصاص واهل العلم أو الذي يبتلى بموضوعه ويحتاج معرفة حكمه.
أما بالنسبة لعلوم القرآن فمنها ما يعرفه كل مسلم ومسلمة، وهذه المعرفة ركيزة لتثبيت أحكام القرآن والعمل بسننه وتشريعاته، وهي مانع من الاعراض عنه أو هجرانه كما انها دعوة الناس للجوء للقرآن، وترغيب بتلاوته والاطلاع على مضامينه القدسية.
لذا ورد نداء [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] عشرين مرة في القرآن منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
وينفرد القرآن وحده من بين الكتب السماوية بهذه الخصوصية مما يدل على اهليته للبقاء وديمومة العمل باحكامه، كما ان هذا الاجماع مادة وســبب من بين الاســباب التي قيضها الله عز وجـل لبقائه حياَ طــرياَ يأخذ الناس منه مــن دون واســطـة أو حاجــة الى الاستعانة بالغير، وأحكام هذه الآية واضحة حتــى عند ترجمتها للغات الاخرى، ومضامينها مقبولة للاسماع وموافقة للطباع والقرائح في كل زمان ومكان.
آيات (خير لكم)
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ (خير لكم) تسع عشرة مرة في القرآن كلها خطاب للمسلمين إلا ثلاثة بخصوص الأنبياء السابقين ، وهي :
الأولى : في قصة شعيب ودعوته قومه للإيمان ، وفي التنزيل [بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ]( ).
الثانية : في إبراهيم عليه السلام ، قال تعالى [وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
الثالثة : في موسى عليه السلام ، قال تعالى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( ).
ولا بأس بتأليف كتاب مستقل بخصوص آيات (خير لكم) والجمع بينها موضوعاً وحكماً ودلالة .
ومنها ما يتعلق بالعبادات كما في قوله تعالى [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ]( ), ومنها ما يتعلق بالمعاملات كما في قوله تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
ومنها ما يكون جامعاً للواجب والمستحب كما في آية البحث ، والإعجاز فيها بذكر لفظ (الصدقات) الشامل للواجب والمستحب منها، ومن معاني (خير لكم) أي في الدنيا والآخرة ، ومتفرقين ومجتمعين.
ومنها مناجاة الصحابة وأهل البيت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
(قال مجاهد : نهوا عن مناجاة النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يتصدّقوا ، فلم يناجه إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام قدّم ديناراً فتصدّق به ثمّ نزلت الرخصة.
وقال عليّ بن أبي طالب عليه السلام : إنّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً]( )، فإنّها فرضت ثم نسخت)( ).
اختلف في معناها والجهة المخاطبة بها ، بقوله تعالى [إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ]( )، على وجهين :
الأول : توجه الخطاب لمشركي قريش يوم بدر (أنّ أبا جهل قال يوم بدر : اللّهمّ أينا كان أفجر وأقطع للرحم وأتانا بما لا نعرف فانصرنا عليه،
فاستجاب الله دعاءه وجاء بالفتح وضربه ابنا عفراء : عوف ومسعود ، وأجهز عليه عبد الله بن مسعود.
وقال السدي والكلبي : كان المشركون حين خرجوا الى النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا : اللّهمّ انصرنا على الحزبين وأهدى القبتين وأكرم الجندين وأفضل الدينين فأنزل الله هذه الآية.
وعلى فرض صحة الخبر فانه إقرار من المشركين بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهناك شواهد عديدة على هذا الإقرار.
وقال عكرمة : قال المشركون اللّهمّ لا نعرف ما جاء به محمد فأفتح بيننا وبينه بالحق فأنزل الله تعالى [إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ]( )، أي أن تستقضوا فقد جاءكم القضاء)( ).
الثاني : إرادة البشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه (وقال أُبي بن كعب وعطاء الخراساني : هذا خطاب أصحاب رسول الله قال الله للمسلمين {إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ} أي تستنصروا الله وتسألوه الفتح فقد جاءكم الفتح أي بالنصرة)( ).
قانون إخفاء الصدقة حسنة
معنى اخفاء الصــدقات اعطاؤها للفقراء بالكتمان وعدم الإعلان أو معرفة الاخــرين واطلاعهم على الأمــر، وهو وجه آخر من وجوه دفع الصدقة، والظاهر من الآية عدم وجود برزخ بين الاظهار والاخفاء، فأما ان تكون ظــاهرة وأما تكـون خفية، نعم الظهور والإعلان على مراتب متفاوتة كما تقدم.
أما الاخفاء فهو من الكلي المتواطئ في الغالب وقد تكون له مراتب اخـرى بسبب طرو امور عرضية باتخاذ الواسطة أو بالحذر والخشية على النفس أو الفقير المحتاج الذي يكون بمرتبة واحدة وتشابه افراده فلا يعرف للخفاء درجات ومراتب، نعم قد يتفضل الله سبحانه ويحتسب ثواب العلانية والخفاء لفــرد صــدقة واحدة تأتي جامعة للأمــرين معاً على نحــو التداخل واتحاد المقاصد.
وجاء وصف الخير والتفضيل على ذي المرتبة الواحدة ليكون مقصوداَ وبغية ويطلب بذاته، فكما ان كيفية الاعطاء مقدمة لدفع الصدقة ويترشح عليها الوجوب أو الإستحباب من ذيها فنقل المال ودفعه الى الفقير مقدمة عقلية وشرعية للانفاق، الا ان هذه الكيفية لا تنحصر بوجه واحد، لا لانها نــوع طــريقية للاذن في تعددها، مما يعني ان الطريق والوســيلة يخضــع لأحكام خاصة به، وله موضـوعية في الأجر والثواب مما يحتم الاعتناء بالطرائق والوسائل وابتغاء مرضاته تعالى في كيفيتها، فالصدقة ذاتها، ولكن كيفية اعطائها تتعلق عليها مسائل:
الأول : تمام الأجر والثواب.
الثاني : نقصان الثواب وبطلان الصدقة، كما لو جاءت مع المن والأذى ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
الثالث : زيادة الأجر بحسن الاداء واختيار الطريقة الافضل كما لو اعطاها الفقير بالخفاء.

فضل إخفاء الصدقة
ولابد لتفضيل الاخفاء من اسباب ومقاصد سامية خصوصاَ مع ابتداء الآية بالثناء على المتصدق الذي يتجاهر في صدقته، وهذه المقاصد تستحق ان تكتب فيها المصنفات والدراسات وتكون موضوعاَ ومناسبة لاستقراء الدروس ومنها:
الأول : جاءت الآية على نحــو الاطــلاق، فلم تخــص فريقاَ من المســلمين بالإخـفــاء ســواء كان في طرف الأغنياء أو طرف الفقــراء، وهذه آية تدل على اتحاد المسلمين في الحكم والموضوع وان كــلا الأمــرين من الإجهــار والإخفاء حسن بالذات وبالعرض.
الثاني : قانون الإخفاء مصداق للعز الذي خص به الله المؤمنين وان كانوا فقراء ومحتاجين قال تعالى [ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
ودفع الصدقة للفقير سراً يحفظ له ماء وجهه ويصون كرامته، مما يدل على مسألتين كبرى وصغرى :
أما الكبرى : فهي قيام أحكام الإسلام على إكرام المسلم وافراده.
والصغرى : إكرام المسلم في اشد حالات الفاقة والمسكنة.
الثالث : في اخفاء الصدقة تأديب للمسلمين في المعاملات والأحكام ولزوم التستر على الإخوان عند الحاجة أو كشف اسرارهم أو معرفة عيوبهم واسباب الخلل والنقص في معايشهم وهمومهم وما يتعرضون له من الإبتلاء.
الرابع : يمنع الإخفاء من هتك سمعة المسلم والإطلاع على خلته وما اصابه من المصيبة والجوع.
الخامس : قانون الإخفاء برزخ دون الرياء والسمعة، ولأن الرياء لا يتقوم الا بالإجهار والتباهي أمام الآخرين، ودخول قصد اراءتهم والسمعة في اصل نيته وعزمه على التصدق.
و(عن رجل من الصحابة . أن قائلاً من المسلمين قال : يا رسول الله ما النجاة غداً قال : لا تخادع الله قال وكيف نخادع الله؟ قال أن تعمل بما أمرك به تريد به غيره ، فاتقوا الرياء فإنه الشرك بالله ، فإن المرائي ينادي به يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء : يا كافر ، يا فاجر ، يا خاسر ، يا غادر . ضل عملك ، وبطل أجرك ، فلا خلاق لك اليوم عند الله ، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع ، وقرأ آيات من القرآن [فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا]( )، وإِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ( ).
السادس : في اخفاء الصدقة دعوة للفقراء للتعفف واحترام أنفسهم.
السابع : فيه تأديب للمسلمين عامة ومنهم الفقراء بالتستر والكتمان في الخيرات واتيان المعروف.
الثامن : في اخفاء الصدقة باب للمغفرة والرضوان، وقد ورد عن الباقر عليه السلام: “ان علي بن الحسين كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به، قال أبو حمزة الثمالي وسفيان الثوري كان يقول: إن صدقة السر تطفئ غضب الرب”( ).
التاسع : في صدقة العلانية تعظيم لشعائر الله وتحريض للاخرين وافشاء للصدقات، ودرء للشــبهة ومنــع للغيبة والتعرض للذات، فهل تبقى صدقة الســر والخفاء افضل وارجح، أم انها تكون مساوية، أم صدقة العلانية هي الافضل في هذه الصور، الجواب: كل له حسنه، وقد تكون صدقة العلانية هي الافضل عند اجتماع اسباب التفضيل.
معنى (خير) في الآية
لقد جاءت الآية الكريمة بلفظ( خير) ويحتمل وجهين:
الأول : انه اسم تفضيل ، أصله (أخير) ذخفت همزته لكثرة الإستعمال ويجوز اثباتها ، وكذا في شر فيقال ، أشر .
فيقال فلان خير الاصحاب، ولا يقال أخير، وخير لا يثنى ولا يجمع لانه في معنى افعل.
الثاني: اسم بمعنى الحســن وضد الشــر، وجمعه خيور، قال النمر بن تولب :
وقيت الخيورُ، وأخطأتني
خطوب جمة، وعلوتُ قرني
فيرد خير كاسم ويدل على الوصف الحسن بحسب المقام والحال، قال تعالى [ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ]( ).
ومن الاعجاز القرآني امكان حمل اللفظ على المعنيين فتكون الصور خمسة:
الأول : يكون لصدقة السر معنى التفضيل والترجيح بالمقارنة مع ابداء الصدقة الذي يستقل بحسنه ايضاً.
الثاني : يتصف الاخفاء بحسنه على نحو الاستقلال.
الثالث : تكون صدقة العلانية في حالات مفضولة وتترجح عليها صدقة السر.
الرابع : تكون فاضلة وحسنة ولكن حسنها هذا لا يجعلها ترقى على صدقة السر وان لم تبق في مقام المفعول والأدنى، لان من شرائط التعادل والتراجح وحدة الموضوع، والموضوع هنا متباين لوجود اسباب عرضية لصدقة العلانية، بمعنى ان الاصل هو تفضيل صدقة السر ورجحانها ولكن تأتي اسباب بالعرض تجعل صدقة العلانية راجحة ولها حسن ذاتي واضافي ، ومن فضل الله تعالى ان يجعل باب التخيير بين الامرين مفتوحاَ، وكل له فضل واجر بشرط اتيان الصدقة في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، وفي التنزيل [أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( ).
الخامس : الصدقة الواجبة حق الله في المال الشخصي، فاعطاؤه للفقراء سراَ افضل وأولى، وروي عن ابن عباس انه قال: “صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفاَ، وصدقة الفريضة علانتيها افضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاَ.
نية إخفاء الصدقة حسنة
قد ورد ذكر الإخفاء في اتيان الصدقة ثم عـطــف عليــه وتؤتوها الفقراء وكأن الاخفاء متقدم رتبة وزماناَ.
والواو هنا للحال أي ان الاخفاء يكــون حال اتيان الصـدقة الفقراء ويتعلق بكيفية وصيغة الاعطاء بان لا يعلم به الآخرون.
أو انها تكون واو المعية العاطفة التي ينتصب المضارع بعـدها بـ(ان) المضمرة ويكون معطوفها هو المصدر المؤول من (أن) وصلتها، وهذا العطف والتعدد في الوصف والكيفيــة مع وحــدة الموضوع وتعـلق الحكم بالصدقة الواحدة فيه وجوه:
الاول: الآية اشارة الى النية والعزم على اخفاء الصدقة، كي يؤجر المسلم على نيته ، (وعن عمر بن الخطاب قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)( ).
ففي الصدقة صور أربع:
الاولى: نية الإخفاء مع تحقق الدفع بذات النية وكيفية الاخفاء.
الثانية: نية الإخفــاء ولكن دفع الصدقة للفقير يكون علانية وظاهراَ.
الثالثة: نية الاجهار والإعلان ولكن الصدقة تأتي بالخفاء والكتمان.
الرابعة: النيــة والدفــع للفقــير كلاهـما بصيغة الجهر والاعلان، فهــو ناو ان يعطيــهــا علانية، ويقــوم فعــلاً بتسليمهــا للفقير علانية ، وفي التنزيل [وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى]( ).
ويتجلى قانون كل من صدقة السر والعلانية من التقوى ، وفي الخبر (قال سليمان بن داود عليهما السلام : أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتوا ، وعلمنا مما علم الناس وما لم يعلموا ، فلم نجد شيئاً هو أفضل من تقوى الله في السر والعلانية ، والعدل في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر)( ).
وافضلها الصورة الاولى ثم الثالثة الا مع وجود الراجح، أو طروه ما بين النية والفعل.
الثاني: من وجوه تعدد الوصف والكيفية ان اخفاء الصدقة يمنع غير المستحق من السؤال، وفيه تخفيف واجتناب للحرج والالحاح، وليكون عند الغني متسع لمعرفة الفقير الاكثر حاجة والاكثر ورعاَ وتعففاَ ، قال تعالى [لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ).
الثالث: في الآية تنبيه الى نكتة عقائدية واجتماعية وهي ان الاخفاء قد يؤدي الى عدم وصول الصدقات الى مستحقيها، كما لو كان الغني يحرص على عدم اظهارها رجاء الثواب، فيعمد الى وسيط وقد لا يقوم هذا الوسيط بالايصال الى الفقراء والمحتاجين، أو انه يوصــل الصدقة لهم ولكن مــن غير احراز درجة الإيمان والصــلاح، مـع موضوعية الوسيط في الصدقة في احيان كثيرة ويكون ســبباَ للتخلص من الرياء وشعور الفقير بالمن والحرج والحياء.
الرابع: تمنع الآية من المبالغة في الاخفاء للاحتراز من الرياء فيعتمد طرق الاخفاء كالقاء الصدقة في طريق الفقير، وربما ظنها الفقير لقطة وتردد في أخذها وتقتضي وظيفته حينئذ التعريف بها والسؤال عن صاحبها اذا كانت قيمتها اكثر من درهم فضة ، قال تعالى [مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ]( ).
الخامس: الآية دعوة لتولي صاحب الصدقة بنفسه ايصالها الى الفقير، وله فوائد عديدة انسانية واخلاقية واجتماعية وتفيد احراز الثواب.
السادس: التأكــد من قبــض الفقــير لها خصــوصــاَ وانها حــق الله في أمــوال الاغنيــاء وقد جعلهــا سبحانه للفقراء، فيكون الايصال الى الفـقــراء نوع امانــة مالكيــة، ومــن ســمات الأمين ان يؤدي الحــق الى اصــحابــه، قــال تعــالى [ أَنْ تُــؤَدُّوا الأَمَــانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ]( ).
السابع: معرفة الغني لاحوال الفقير عن قرب مما يجعله يعتز ويفتخر بفعله وقيامه باداء ما عليه من الواجب ويحرص على التقيد باداء الحقوق الشرعية.
الثامن: كما ان الصــيام له منافــع عديدة منها مواساة الاغنياء للفقــراء ومعــرفة ما هــم عليه من الجوع والفاقة، فكذا بالنسبة لمباشــرة الغــني اعطــاء الفقير الصدقة فانه يشعر بلزوم مواساة الفقير.
التاسع: انها مناسبة لشكر الغني للخالق عز وجل على نعمة الغنى وعدم الحاجة وانتفاء الفقر، وحث على الدعاء لاستدامة حال الغنى.
العاشر: تبعث الآية الرضا في نفس الفقير وهي مناسبة لنيل دعائه.
صيغة الجمع في الآية
من إعجاز الآية تعدد صيغة الجمع فيها ، ولم يرد اسم منفرد إلا اسم الجلالة ، واسم خبير ، وجاءت صيغة الجمع من وجوه :
الأول : الخطاب العام الى المسلمين ، لعطف موضوع الآية على ماورد قبل أربع آيات [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]( ).
الثاني : تعدد وكثرة الصدقات وفيه بشارة السعة في الرزق المسلمين والمسلمات .
الثالث : تعدد وكثرة النعم باظهار الصدقات سواء الواجبة أو المستحبة.
الرابع : الفقراء ، ولزوم العناية بهم ، وعدم التضايق أو الحرج ، ويجب أن لا يدّب الملل إلى المسلم لقيامه بكثرة الإنفاق .
الخامس : قوله تعالى [خَيْرٌ لَكُمْ] لأن خير اسم جنس وهو في المقام وعد من الله عز وجل وهو سبحانه يعد بالكثير كماً وكيفاً.
السادس : تفضل الله عز وجل بمغفرة الذنوب للقيام بالصدقات.
السابع : محو السيئات وإن كانت كثيرة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ]( ).
ونداء الإيمان أعلاه وصيغة الخطاب في آية البحث تنفي الشرك عن المسلمين والمسلمات ، لتكون المغفرة قريبة منهم بالصدقة وضروب العبادة الأخرى .
الثامن : إحاطة الله عز وجل علماً باعمال المسملين والناس جميعاً.
إنحلال صيغة الجمع
لغة الجمع في صيغة الخطاب في الآية وكذا لفظ الصدقات وموضوعها وهم الفقراء تنحل الى صيغة الافراد، وما هو أعم منها فتكون فيها وجوه :
أولاً: جماعــة من الاغنياء يعطون صدقاتهم الى جماعة من الفقراء ، ويدخل فيه عمل المؤسسات والجمعيات الخيرية وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
ثانياً : جماعة من الاغنياء يعطون الى فقير واحد، وهذا الفقير على شعبتين:
الاولى: فقير متحد وبنفسه.
الثانية: فقير يعيل عائلة من الاولاد والزوجة ويصدق عليهم عنوان الفقر.
ثالثاً: غني واحد يدفع الزكاة، الى فقراء متعددين وهذه الحالة لها صورتان:
الاولى: ان ذمة الغني مشغولة باموال كثيرة من الزكاة أو الخمس أو كليهما بحيث تسع فقراء متعددين وبما يكفي مؤونتهم لأيام أو اشهر أو لسنة كاملة.
الثانية: كثرة عدد الفقراء والمحتاجين مع قلة اموال الزكاة أو زكاة الشخص نفسه فيقوم بتوزيعها على مجموعة الفقراء بما يكفي لسد الرمق لكل منهم أو زيادة عليه.
وترد هذه المسألة في زكاة الفطرة وتقسيمها على المحتاجين مع كثرتهم ، قال تعالى [ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى]( ).
رابعاً: غني وصاحب زكاة واحــد يدفع الى فقير واحد ليوزع المنفرد على مثله وتشــمله عمومات الآيــة، وفي لغة الجمع اشارة الى تعدد الاغنياء واصحاب الحقوق الشرعية وتعدد الفقراء والمحتاجين وان تشريع الزكاة باق ومستديم، نعم هذا التعدد فيه تباين جهتي، فالتعدد في طرف الاغنياء عند المسلمين بلحاظ صــيغة الخطاب وتوجهه للذين آمنوا، أما الفقراء والفقر فهو أعم من المسـلمين لجواز اعطاء الصـدقة للمحتاج والفقير من الملل الاخرى.
مصاديق إخفاء الصدقة
من إعجاز آية البحث تقسيم الصدقة إلى قسمين :
الأول : صدقة العلامية .
الثاني : صدقة السر .
وأكدت الآية بأن كلاً منهما حسن ومن أسرار هذا التقسيم الإعجاز باستدامة قانون الإنفاق والصدقات عند المسلمين ، وهو شعبة الإيمان ، لمجئ صدقاتهم بقصد القربة إلى الله .
وقال تعالى [يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ]( )، ويحتمل نماء وزيادة المال بصدقات العلانية والسر وثوابها من عند الله ، وجوها :
الأول : نماء وزيادة المال بصدقة السر أكثر منه علانية .
الثاني : انماء صدقة العلامية هو الأكثر .
الثالث : التساوي في الثواب ، و(عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تبارك وتعالى يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا الطيب ، ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله حتى أن اللقمة تصير مثل أحد ، وتصديق ذلك في كتاب اللهيَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ( ).
الرابع : ليس من قاعدة ثابتة في المقام ، فقد تكون صدقة العلانية هي الأحسن في أحوال مخصوصة ، ولكن الأكثر هو صدقة السر هي الأفضل.
والمختار هو الأخير ، فقد تدخل الصدقة وعلانيتها بمصاديق قوله تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
ومن معاني صدقة السر عدم إشاعة الإنسان قيامه بالصدقة ، والإخفاء في الصدقة على أقسام :
الأولى : الاخفاء عن الناس.
الثانية : عمن يظن انه يحول دون الصدقة.
الثالثة : عن الفقير نفسه.
الرابعة : الإخفاء عن فقراء آخرين لمنع داء الحسد والغيبة.
قانون الصدقة تأديب واصلاح
في الآية مسائل :
الأولى : الآية دعوة لتحري موضع الصدقة والإعتناء به وعدم التفريط به والقيام بدفعها الى من يدعي الفقر أو الوكالة عنه، وهذا التحري فيه نفع عظيم منه كتابة اجر وثواب اضافي لصاحبه ومعرفة احوال المجتمع واحتمال التصدق بالمندوب مع الزكاة الواجبة بعد الإطلاع على احوال الفقراء وشدة ما يعانونه من الفقر أو السعي عند ارباب الحقــوق الآخــرين لإخـراج الزكاة والإعانة على ايصالها لمستحقيها.
الثانية : فيه تــأديب للفقــراء وجعلهم يتصــرفون بما يفيــد عزهم واحترامهم فمتى ما ادركوا ان رزقهم من الحقوق الشرعية يصل اليهم ويأتيهم فانــهم يحافظــون على كرامتهم ويلتفتون الى عباداتهم ، قال تعالى [َلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وليس العزة في المقام وفق مفاهيم الجاهلية إذ كانوا يقولون : من عزّ بزّ ، أي غلب واستلب عدوه ، بل العزة هنا الشأن والرفعة بالإيمان وإن كان المؤمن فقيراً ، بدليل قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا]( ).
وقد ورد في شعر (الخَنْساء بنت الشَّريد، مخضرمة :
تَعَرَّقَنِي الدَّهْرُ نَهْساً وحَزّاً … وأَوْجَعَنِي الدَّهْرُ قَرْعاً وغَمزا
وأفْنَى رجالي فبادُوا جَمِيعاً … وأَصْبَحَ قَلْبِي بِهِمْ مُسْتَفَزَّا
كَأنْ لم يَكُونُوا حِمىً يُتَّقَى … إذِ النّاسُ إِذْ ذاكَ مَنْ عَزَّ بَزّا)( ).
وفي المرسل (أن عمر بن الخطاب قال للخنساء: ما أقرح مآقي عينيك؟ قالت: بكائي على السادات من مضر، قال: يا خنساء إنهم في النار، قالت: ذلك أطول لعويلي)( ).
الثالثة : دفع الصدقات الى الفقراء على نحو متعدد مانع من معرفة مقدار الزكاة لتفريقها بينهم، بالإضافة الى الإخفاء، وقد يأتي زمان وحال مخصوصة على بعض المسلمين يُمنعون من ايصال الزكاة الى الفقراء ويؤمرون باعطائها الى اناس مخصوصين وان كانوا اقل حاجة وفقراً.
فيأتي الاخفاء لاجتناب الأذى من غير تفريط بايصال المال الى مستحقيه مع التقية.
الرابعة : الآية مناسبة لانشغال الفقراء بالدعاء، فالاصل بالمال انه رزق من عند الله تعالى وان الله عز وجل أمر باعطاء الفقراء نصيبهم، ومعرفة الفقراء بوصول المال والصدقات اليهم تجعلهم يتوجــهون الى الله عز وجل فهــو الذي بيده قلوب العباد يقلبها كيف يشاء.
و(عن أسماء بنت يزيد : أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم} كان يُكثر في دعائه : اللهم (يا) مقلَّب القلوب ثبَّت قلبي على دينك.
قالت : فقلتُ : يا رسول اللّه وإنَّ القلوب لتقلب.
قال : نعم ما خلق اللّه من بني آدمَّ من بشر إلاّ وقلبه بين اصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ فإن شاء أزاغه ، وإن شاء أقامه على الحق)( ).
الخامسة : قد يدفع الورع المؤمن الى كشف امواله واظهار قدرها، أو انها تعرف من خلال النصاب ومقدار الزكاة، وهذا الكشف يسبب له الأذى والضرر والتعدي، فيأتي الإخفاء لدرء الضرر والافتتان من غير ان يتعطل دفع الزكاة ، لقاعدة لاضرر ولا ضرار في الإسلام ، وقاعدة نفي الحرج في الدين.
الصدقة بين الإخفاء والدفع
يمكن النظر للآية على نحو التفكيك بين الاخفاء واتيانها الفقراء، وان واو العطف في (وتؤتوها ) تفيد مطلق الجمع على ما هو المشهور في معناها كحرف عطف، وانها لا تفيد ترتيباَ ولا معية، فيكون حال الاخفاء مستقلاَ عن اتيانها الفقراء ويستلزم الوقوف عنده، والمراد من الاخفاء الى جانب ارادة صدقة السر فيه مسائل:
الاولى: ان بعض الحالات تستلزم اخفاء الصدقات سواء بلحاظ المال الشخصي أو خشية التعدي والسرقة والحسد.
الثانية: الخوف والحذر من السلطان الذي يستحوذ على اموال الصدقات بصناديق خاصة بالصدقة، أو لجعلها في خزائنه أو لحاجات ملكه ومشاريعه، أو لقيامه بتوزيعها على خاصته، أو فقراء يختارهم وفق ضوابط خاصة به وبحكمه.
وفي قصة موسى عليه السلام والخضر ورد قوله تعالى [أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا]( ), ورد لفظ السفينة في القرآن أربع مرات ، ثلاثة منها في قصة موسى والخضر عليهما السلام ، اثنتين منها في الآية أعلاه .
وورد مرة واحدة بخصوص سفينة نوح مع أنها مشهورة عند كل أهل الملل السماوية ، قال تعالى [فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالثة: جاءت الآية لبيان السعة والتخيير، فقد يتأخر اخراج الزكاة ودفعها للفقراء بسبب عدم وجود المستحق.
فالآية تمنع الحرج من تأخر الحق الشرعي عند المالك، نعم لابد من عزل الزكاة واحتسابها مالاَ للفقراء ويلحقها النماء الخاص بها، فلو كانت شاة وولدت فان ولدها يتبعــها في عائديتــه للفقراء ايضاَ.
هذا الى جانب تأويل الآية بانها تتعلق بصدقة السر وهو الذي عليه الاجماع، ولكن التفكيك والتعدد في المعاني ووجوه التأويل لا يتعارض مع ما عليه الاجماع بل هو في طوله ويدل على الاعجاز القرآني وصيغ التخفيف والرحمة ان الله عز وجل يوسع على الغني في ادائه ودفعه المال الى الفقراء كما وسع عليه في كسب وتحصيل المال.
وقد يقول قائل ان العزل أعم من الاخفاء فقد يعزل الزكاة ولكنه يعلن عنها وهذا وجه آخر يشمله الشطر الاول للآية، وهو ابداء الصدقات لان الابداء أعم من موضوع الدفع والتسليم الى الفقير وتعيينه.
فيشمل جواز اعلانها بالذات كأن يقول عندي زكاة أو تعلق بمالي أو في ذمتي مقدار كذا من الزكاة.
و لو نظم ســجلاَ خاصاَ بالزكاة ودون ما فيه مقــدارها وما يخرج منها وأســماء الفقراء الذين يقبضــون نصيبهم منها فهل هذا من الإبداء أم من مقدمات الإبداء والإعلان أم من الاخفاء.
الجواب ان الوجوه الثلاثة تنطبق عليه بحسب الحال والشأن والكيفية.
فقد يستلزم عمله اختصاص موظف أو اكثر بمسك وضبط سجل أو سجلات الصدقة فلا يتعارض مع الاخفاء، مع توصية الموظف الخاص بالاحتراز والكتمان ولو افشى الموظف المختص الاسرار والمعلومات الخاصة بالزكاة واسماء الفقراء تقصيراَ منه، فلا يكون من الافشاء , مع صحة مقدمات اختياره للوظيفة.
ومن إعجاز الآية التعدد بين الإخفاء وإتيان الصدقة للفقراء ليكون من وجوه الآية :
الأول : إخفاء الصدقة ثم دفعها للفقير خفية .
الثاني : إخفاء الصدقة ثم دفعها للفقير علانية فهو لا يخرج من مصاديق الإخفاء .
الثالث : صدقة العلانية وكله من مصاديق الخير في قوله تعالى [فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ].

قوله تعالى [فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]
حث على الصدقة مطلقاً وخصوصاً صدقة السر وبشارة عن عظيم ثوابها والضمير في (لكم) عائد الى المخاطبين في الآية من اهل الصدقات.
وفي صدقة السر إعلان للتسليم بعلمه تعالى بالصدقة ومنع لاحتمال حصول السمعة أو ميل النفس لها ومشهور علماء الإسلام قال بالتفصيل بان الاظهار في الزكاة افضل، والاخفاء في صدقة التطوع افضل.
وعن ابن عباس: “صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفاَ، وصدقة الفريضة علانيتها افضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاَ”.
(وفي الخبر عن الإمام الصادق في الآية: ليس تلك الزكاة، ولكن الرجل يتصدق لنفسه، والزكاة علانية ليس بسر).
وعن الباقر في قوله عز وجل [ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ] قال عليه السلام: هي الزكاة المفروضة قلت: [ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ ] قال: يعني النافلة انهم كانوا يستحبون اظهار الفرائض وكتمان النوافل.
وقد قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببعث السعاة لجلب الزكاة وكذا فعل الخلفاء من بعده، وفي دفع الزكاة للسعاة وجوه:
الأولى : انه من اظهار الصدقة.
الثانية : من اخفائها لان السعاة يأخذونها لبيت المال، وبيت المال يقوم باعطاء الفقراء.
الثالثة : منهما معاَ , الإعلان والاخفاء بلحاظ جهتي.
الرابعة : ليس من الاظهار أو الاخفاء بل هو برزخ بينهما أو أمر مستقل لا صــلة له بهما، وتنطبق هذه الوجوه كلها على دفع الزكاة الى السعاة سواء بالدفع ذاته أو بما يلازمه ويصاحبه أو بالإعلان والاخبار عنه قبل دفعه أو بعده، ويمكن ان ينال المسلم ثواب الاخفاء حتى عند الدفع الى السعاة بان يكون الأمر بينهم وبينه على نحو الخصوص الا ان يرد أمر عارض يستلزم الإعلان وقد لا يتعارض مع صدق الاخفاء عليه، كما لو كان الإعلان لابراء الذمة وتوكيد الدفع.
والآيــة الكريمة أعــم موضوعاً وحكماَ، أما بالنسبة للموضوع فانها تشمل احقاباَ ليس فيها ســعاة واماكن لا يصــل اليها السعاة واموالاَ لا يحصونها، كما تشمل الصدقة المندوبة والمستحبة، فتتعدى النصاب والصدقة المفروضة، خصوصاَ وان حال الفقراء ظاهر للعيان.
والصــدقة من الكلي المشــكك منهــا ما هو كثــير ومنها مــا هـو قليل، والجميع من مصاديق الآية، وجاء قيد التفضيل بخير باعطائها للفقــراء فلا فائدة من الاخفاء وحده خصوصاَ على مبنى التفكيك وعودة الضمير في (تخفوها) الى الصدقات كأموال وليس اخفاء دفعها.
فالتفضــيل والثــواب يكــون باتيانهــا الفقــراء وهــو شــرط في الترجيح مع المســـارعة في الاعطاء لعمومات استحباب المسارعة في الخيرات، ولمنــع غــلبــة النفــس الشــهويــة والميل الى دفعــها الى مــن تكــون الحــاجــــة عنــده قــليلــة وعلــى نحـــو صـرف الـطــبيـعــة أو التســويــف في دفعها.
كما جــاء قوله تعالى [َخَيْرٌ لَكُمْ]( )، على نحـو الاطلاق فيشمل الخير في الدنيا وفي الآخرة، أما في الآخــرة فالمغفرة والثواب العظيم قال تعالى [قُــلْ مَتَــاعُ الدُّنْيــَا قَـلــِيلٌ وَالآخِرَةُ خَــيْرٌ لِمَنْ اتَّــقَى وَلاَ تُظــْلَمُونَ فَتِيلاً]( )، وأما في الدنيا ففيه منافع ومصالح وتشمل صلاح النفوس وتهذيب المجتمعات وعز المؤمنين المحتاجين واتيان الفعل العبادي على الوجه الأتم في الزكاة المفروضة باخراج مال الزكاة ثم ايصاله الى مستحقيه ومحاربة الفقر، وقوله تعالى [لَكُمْ ] لا ينحصر بالمنفقين بل يعم المسلمين جميعاَ ومنهم الفقراء.
قانون الإنفاق حياة
في النفقة في سبيل الله تعالى مسائل :
الأولى : احياء للنفوس المنكسرة.
الثانية : باب هداية وطريق للتــقوى.
الثالثة : إنها دعــوة للتخلص من الغشاوات الظلمانية.
وهل يشــمل موضــوع الصـــدقات في الآيــة الإنفــاق على العيال لعمومات قول النبــي صــلى الله عليه وآلــه وســلم (نفقة الرجل على عياله صدقة) ( ).
وهل يختص هذا الحديث بالرجل أم يشمل المرأة ذات الكسب ، الجواب هو الثاني .
الاقــوى ان الآية مختصــة بالإنفاق على الفــقراء والمسـاكين، والصــدقة الواجــبــة لا يجــوز اعطاؤها لمن تجب نفقته على صاحب الزكاة نفســه، نعــم للإنفاق على العيال ثــواب عظــيم واجر جزيل، وجــاء الحديث النبــوي للحــث على الإنفاق عـلى العيال وكفاية مؤونتهم والاخبار عما له من الثواب العظيم [وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( )، القادر على الحــاق النفــقــة على العـيال بالصدقات خصــوصاَ عند الأسر المؤمنة.
صدقة العلانية نعمة
الأصل عدم ترتب الأذى أو الضرر على الفقير بصدقه العلامية ، وتدل عليه آية البحث وما فيها من الإذن والإستحباب بقوله تعالى [إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]( ).
وقد وردت كلمات في هذه الآية لم ترد في غيرها من آيات القرآن وهي (فنعماً) (تخفوها) (تؤتوها).
ومن إعجاز الآية ومنعها للجدال في المقام ابتداؤها بالثناء على صدقة العلانية فلا يصح ذمها.
ولكن ذكر الرازي وجــوهاَ خمســة لمضـار صدقة العلانية وهي:
الاول: ان في الاظهار هتك عرض الفقير وإظهار فقره، وربما لا يرضى الفقير بذلك.
الثاني: أن في الإظهار إخراج الفقير من هيئة التعفف وعدم السؤال، والله تعالى مدح ذلك في الآية التي تأتي بعد هذه الآية، وهو قوله تعالى [ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا]( ).
الثالث: أن الناس ربما أنكروا على الفقير أخذ تلك الصدقة، ويظنون انه أخذها مع الاستغناء عنها، فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة .
الرابع: أن في اظهار الإعطاء إذلالا للآخذ وإهانة له، وإذلال المؤمن غير جائز.
الخامس: أن الصدقة جارية مجرى الهدية.
وقال عليه الصلاة والسلام : من أعطى إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها”، وربما لا يدفع الفقير من تلك الصدقة شيئا إلى شركائه الحاضرين فيقع الفقير بسبب إظهار تلك الصدقة في فعل ما لا ينبغــي فهذه جملة الوجوه الدالة على إن إخفاء صدقة التطوع اولى)( ).
أما بالنسبة للوجه الاول اعلاه فلا هتك في اظهار الصدقة خصوصاَ وان القرآن ورد بحسنها ومدحها، وليس عاراَ على الانسان ان يعرف بانه فقير اذا كان بالفعل والقوة ، ولا تعني الصــدقة اســتحداث الفقــر عنده، بل هي تدارك للـفقر واظهار لاعانته.
وكل انسان يفرح ويستبشر اذا رأى شخصاَ ما يساعده، فكــيف اذا كانـت المساعدة بالمال الشخصي، والمشــاركة في التخفيف عنه بشطر من الجهد والعناء الذي بذله لجمع هذا المقــدار من المال ولانه امتــثال لامر الله تعالى واخراج حق شرعي.
والزكاة ودفعها من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ), ويدرك الفقير معاني الأخوة عند استلامه الزكاة والصدقة.
وعلى فرض ان الفقير لا يرضى بذلك فان الاظهار ورد حسنه الذاتي في هذه الآية، ورجحان صدقة السر لا يمنع أو ينفي أو ينسخ صــدقة العلانيــة، نعم لــو كان فيها مـنّ أو أذى فانــه يـؤذي الفقــير لـذا ورد النهـي عنهـا، وقــد يـأتي المــن والأذى بصدقــة السـر ايـضاَ.
أما الوجه الثاني ليس في الاظهار اخراج للفقير من حال التعفف ابتــداء من غيــر ســؤال.
فليس من تعارض بين هذه الآية والآية التالية عندما يبادر المحسن الى اعطاء الفقير أو استدعائه واستحضاره فيأتي وهو لا يعلم ما يراد منه، فيفاجئ بالاعانة والصدقة، فيكون درساَ للاغنياء والفقراء ومناسبة لإكرام الفقير لانه لم يسأل مع حاجته، وخروج الفقير من حــال التعــفف وعـدم السؤال يكون بالسؤال واظهاره المسكنة، قبل ان تصل النوبة الى اظهار الصدقة، وقد يقدم السؤال مع الحاجة على عدم السؤال لأحكام الضرورة، ولا يخرج الفقير عن مفاهيم التعفف بل هو غاية التعفف لأنه لم يسأل الا عند الاضطرار.
ولو اعطى المحسن في هذه الحالة صدقته علانية للفقير فهي لا تخرج عن مفاهيم الحسن الذاتي للصدقة علانية لانها اخبار عن الاستجابة لحاجة الفقير وسؤاله، وفي ابداء الصدقة واعطائها للسائل تنبيه له للكف عن السؤال عند حصول كفايته وسد حاجته.
و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأيدي ثلاث . فيد الله العليا ، ويد المعطي التي تليها ، ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة ، فاستعفف عن السؤال وعن المسألة ما استطعت ، فإن أعطيت خيراً فليُرَ عليك ، وابدأ بمن تعول ، وارضخ من الفضل ، ولا تلام على الكفاف)( ).
أما بالنسبة للوجه الثالث فان حسن الاظهار يتعلق بالمنفق وليس بالفقير، ولابد ان هذا الحسن يترشح على الطرف الآخر ولا يمكن ان يكون معارضاَ بقبح يسقطه عن الاعتبار.
والأحكام لا تبنى على الظن الذي يحتمل خطأه.
ولا يصح ان يمتنــع الفقير من ابانة الحق خشية الشك والغيبة، فالفقير أما مســتحق للصدقة وعلى الناس اجــتناب ســوء الظن والغيبة.
و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس المسكين بالطوّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد ما يغنيه ويستحي أن يسأل الناس ، ولا يفطن له فيتصدق عليه)( ).
وأما متظاهر بالفقر والفاقة وعند الناس دليل أو امارة تؤكد عدم فقره وحاجته للصدقة، عندها يكـون السؤال عن غير ضرورة أو احتياج، كما يكون اظهار الصدقة وسيلة لردع غير الفقير عن السؤال أو التظاهر بالفقر المقرون بالتعـفف، فاذا ظنه احد انه فقير ولكنه متعفف واعطاه علانية فأنه يأبى ان يأخذ الصدقة لمعرفة الناس بغناه، وبامتلاكه لمؤونة سنته، أو عدم فقره.
وفي كل زمان ومكان تسمع الناس يقولون ان فلاناَ السائل، الفقير يملك كــذا وكذا، أو يظــهر حين موته امتلاكه لعقار ومال مدخر معتد به، فمــن الحســن الاضافي لصــدقة العلانــية تنقيح عالم المسألة، وقد يرى المنفــق اختبار الفقير والتأكــد من حـالة فقره باعطــائه الصدقة علانية خصــوصاَ اذا كان المنفــق من غير أهــل البلد.
نعــم قد يأخذ الفقير صدقة السر ولكنه يأبى أخذ صدقة العلانية، وهذه الحال على ثلاث شعب:
الاولى: التعفـف والحــياء من تلقــي الصــدقات كما لو لم يكن يليق بشأنه وعندها يستحب اعطاءه الصدقة سراَ وبما يناسب اكرامه.
الثانية: يخشــى الفضــيحة والشــماتة لان الاخرين لا يعلمون انه فقير لتستره على حاله واخفاء شأنه فيبيت طاوياً، ويضع قدر الغداء على النار وليس فيه الا الماء ولا يعلم به احد، ويظن الآخرون انه يمتلك قوت يومه، ويحرص على ثياب التجمل ولا يملك غيرها ، وورد في الآية التي بعد التالية [لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ).
الثالثة: إنه غني غير محتاج ويخشى لو اخذ الصدقة علانية الفضيحة وكشف امره، وقد تفضحه اسرته، زوجته واولاده لما في السؤال أو استلام الصدقة من غير حاجة من الذل أو قلة الشكر لله تعالى على نعمه.
وفي الصورتين الأوليتين يستحب اعطاء الصدقة سراَ ولا يرقى الى الوجــوب لجــواز الإعــلان والاخفاء بالنسبة للمكلف المنفق، كما لا يجوز للفقير الامتناع عن صدقة العلانية مع حاجته لها وضرورة اخذها، ففي ردها حرج وضيق والقاء للنفس في التهلكة ، قال تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( )، وإذا كان دفع الزكاة من الدين ، فهل قبول الفقير لها مع حاجته من الدين ، الجواب نعم.
أما بالنسبة للوجه الرابع الذي ذكره الرازي فقد جاءت الآية بمدح اظهار الصدقة، ولابد ان اظهارها خال من الاذلال ولا عبرة بالشاذ النادر، والمفاهيم العرفية المحدودة، وليس فيه اهانة للآخذ، حتى على فرض انه يستحي من الصدقة أو انها ليست لائقة بشأنه من جهة المقدار أو الكم أو الكيفية والاعلان، فان كان يظن الحرج فهو ظن على نحو القضية الشخصية في الغالب، والأهم والأولى تعظيم شعائر الله، ثم ان المال منه تعالى والمنفق واسطة مباركة.
أما بالنسبة للوجه الخامس فانه قياس مع الفارق في الموضوع والحكم فالصدقة غير الهدية، لذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة .
والفقير يأخذ الصدقة للحاجة وليست هي زائدة عن مؤونته، وقد أمر الله عز وجل باعطائها له ليسد بها رمقه ويدفع حاجته ولتعينه على أمور دينه ودنياه ، كما الجمع بين الهدية والصدقة في المقام مناف للعرف.
فلو قام شخص باعطاء الفقير صــدقة، فالآخرون أما ان يعطوه ايضاَ أو يثنوا على صاحب الصدقة.
ان الإخبار الإلهي عن رجحان صــدقة الســر اعجاز قرآني وارتقاء في العقائد لم تبلغه الشرائع السماوية والقوانين الوضعية إلى الآن خصــوصاَ وانه لا يبطــل أو يتناقص مع فضل صدقة العلانية.
والنسبة بين صدقة العلانية والسر عموم وخصوص من وجه .
فمادة الالتقاء اتحاد الذات والماهية واخــراج المال صدقة، ومــادة الافتراق الكيفية والعرض، بالاظهار في الأولى، والإخفاء في الثانية، وهما مما اذا اجتمعا افترقا واذا افترقا اجتمعا.
قوله تعالى [وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ]
وعد كريم من عند الله تعالى جزاء للإنفاق سواء جاء الإنفاق في العلانية والظاهر أو السر ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( )، والخفاء بشرطين :
الاول: ان يكون الإنفاق والصــدقة في سبيل الله تعالى وطــلباَ لمرضاته.
الثاني: خلو الإنفاق من المن والأذى المقارن أو التابع له.
وتبين الآية جانباَ من فلسفة الترغيب السماوية، فما من شيء دعا له القرآن والسنة النبوية الا وله منافع منها:
الأول : قانون الأجر العظيم للإنفاق لحسنه الذاتي ولما فيه من مضامين الامتثال والاستجابة للأمر الإلهي.
الثاني : قانون الإنفاق عــنوان الصــلاح والاصــلاح وديمـومة كلمة التوحيد في الأرض.
الثالث : قانون الإنفاق في سبيل الله شهادة ارضية على تلقي القرآن بالعمل باحكامه وعدم الاعراض عنها.
الرابع : قانون الإنفاق تركة كريمة للاجيال اللاحقة من المسلمين والناس جميعاَ.
الخامس : قانون الإنفاق دليل على اداء وظائف الخلافة في الأرض ، قال تعالى [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ]( ).
ويقال كفر الشــيء أي غطاه وســتره، ومنه سمي الزارع كافراَ لانه اذا ألقى البذر كفره أي ستره، ولقد جاءت الآيات القرآنية بالوعد الكــريم بتكفير الســيئات ومغفرة الذنوب لمن يتقي الله ويعمل الصالحات.
إعجاز التبعيض في العفو
لقد ورد قوله تعالى [ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ] بلغة الخطاب والغائب المفرد اربع عشرة مرة في القرآن، لم يرد فيها حرف الجر من (منسَيِّئَاتِكُمْ) الا في هذه الآية ، فهل هو من الصدقة والإنفاق ، الجواب : نعم ، القرآن خال من خطأ النساخ ، وليس فيه مخالفة، بل انفرد باسرار وعلوم خاصة بالآية، وهو آية اعجازية للتدبر بما في القرآن من الحكمة والبلاغة ذات الدلالات العقائدية.
مجئ حرف الجر (من) يفيد التبعيض والجزئية وان الإنفاق علانية وسراَ سبب لمحو شطر من السيئات والذنوب، قال تعالى[ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ]( ) أي بعض مما تحبون.
فالتكفير والستر والمحو لبعض الذنوب والسيئات وليس لها كلها لبعث المسلمين والمسلمات على أداء الفرائض العبادية ، وجاءت الآيات الاخرى الخاصة بتكفير الذنوب من غير حرف التبعيض (من) لانها وردت بصفة التقوى مطلقاَ وعمل الصالحات واهمها الصلاة والصيام واداء العبادات، بينما الإنفاق يمثل أمرين:
الاول: العبادة المالية وهي الزكاة المفروضة ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الثاني: الصدقة المستحبة .
وكل منهما لا تكون بديلاَ عن الفرائض الاخرى كالصلاة والزكاة والحج التي هي من مقومات الإيمان والتقوى.
ويمكن استقراء قاعدة كلامية جديدة من الآية، وهي ان العمل الصالح يهدم ويستر شطراً من الذنوب، وهذه القاعدة مناسبة لموازين الحساب والعدل الإلهي، فلا تتوقف مغفرة الذنوب على اتقان واداء تمام الاعمال الصالحة ومستلزمات التقوى ووجوه العبادات كلها، بل كل له ثواب ولكن الانسان يحتاج جميع الفرائض ومضامين التقوى على نحو العموم الاستغراقي والمجموعي والبدلي ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
والآية دعوة لاتيان الصالحات وعدم التفريط بأحكام الشريعة، فيكون الإنفاق في سبيل الله تعالى مدخلاَ لاداء الفرائض، فاذا كان الانسان يحرص على ستر ومغفرة بعض ذنوبه فمن باب اولى ان يسعى لمغفرتها والتخلص منها مجتمعة ومنفردة، واذا علم ان الإنفاق يؤدي الى التجاوز عن شطر من خطاياه ومعاصيه فانه يبحث عما يؤدي الى تجاوز الشطر الآخر، فتكون الزكاة والصدقة مطلقاَ مطلوبتين بذاتهما، وهما مقدمة لغيرهما من الصالحات والعبادات.
ومنهم من احتمل ان يكون حرف الجر (من) زائداً والتقدير: {ويكفر عنكم جميع سيئاتكم} و(من) تزاد بشروط مخصوصة، منها ان يتقدمها نفي أو نهي أو استفهام.
والأصح هو المعنى الاول وهو التبعيض وفيه إخبار عن جهاد الانسان في الحياة الدنيا لنيل المغفرة والعفو ، لذا جاءت الآيات التالية ببيان وجوب الصلاة والا ان قواعد تعدد معاني الحــرف القرآني لا يمنع من حمل اللفظ على توكيد المغفرة ومنافع الإنفاق في محو الخطايا والذنوب.
تعدد صيغ الإنفاق
المنفقون على أقسام أربعة بلحاظ الذنوب:
الاول: من كانت ذنوبه أكبر من انفاقه.
الثاني: من كانت ذنوبه بمقدار انفاقه وفق الموازين الإلهية.
وسيأتي في الجزء السادس والأربعين بعد المائتين من هذا السِفر أي بعد مائتي جزء تماماً بيان لقوله تعالى [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( ).
قانون لكل شئ من قول وفعل وأعيان وعروض رقم خاص عند الله عز وجل لتحصى أعمال بني آدم بالأرقام ، لبيان الإنفاق ومضاعفة أجره على الآثام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثالث: انفاقه أكـبر وأكثر أجراَ من ذنوبه، وهذا ينقسم الى شعبتين:
الاولى: من يأتي بالفرائض والعبادات.
الثانية: من لم يأت بالفرائض، وهذا القسم غير متحقق لان الاخلال بالفرائض لا يكون الإنفاق بديلاَ عنه وان كان كثيراَ، وهذا من اسرار وجود (من) التبعيضية في الآية في مضمون العفو الوارد في الآية.
الرابع: من لم تكن عنده ذنوب وهو يحرص على اداء العبادات والإنفاق في سبيل الله تعالى ويواظب على الاستغفار ، قال تعالى [وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
والآية تشــمل هذه الأقسام جميعاَ وما من عبد الا ويحتاج الى المغــفرة والعفــو الوارد في هذه الآية الكريمة، وكأن شـطراً من الذنوب لا يمحــوهــا الا الإنفاق الا ان يشــاء الله عز وجــل، ومن كان انفاقه اكبر من ذنوبــه التي يشملها العفو والستر بمضمون هذه الآية فان الإنفاق يكون له ثواباَ وأجــراَ اضافياَ ومنــزلة في الجنــة وعزاً ورفعة، وصرفاً للبلاء ونمــاءً في المال في الحياة الدنيا.
فأجر الإنفاق غير منقطع ولا منحصر بمال أو نــوع من الذنــوب لانه تعالى واسع كريم وهو الذي وعد بالمغفرة.
دلالة الضمائر في آية (ان تبدوا)
في الآية ثلاثة من الضمائر متشابهة أو متقاربة في المعنى:
الأولى : فاعل تبدوا الصدقات.
الثانية : المفعول به في (يكفر عنكم).
الثالثة : المضاف اليه في (سيئاتكم).
فهل يراد منها معنى وجهة واحدة وهم الاغنياء الذين يقومون بالصدقة وهو ظاهر سياق لغة التخاطب والكلام، أم ان القرآن يأتي بمعان اعجازية تفوق انظمة وقواعد الكلام بين الناس.
الجواب : هو الثاني، وبذا تتجلى اشراقة في باب اعجاز القرآن اللغوي والبلاغي والعقائدي والاخلاقي.
فالضمير الاول يعود للاغنياء، أما الضمير الثاني فيمكن ان يعود للمسلمين الذين نزل القرآن لهدايتهم الى منازل الإيمان والتقوى.
قانون عموم الثواب على الإنفاق الشخصي
وان إنفاق شــطر من المسلمين يكــون عــوناَ وسبباَ لمغفرة غير المنفق سواء كان:
الأول : ناصحاَ ومرشداَ وداعياَ الى الخير لعمومات لما ورد في احراز الساعي في الخيرات من الثواب والأجر , قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الثاني : معيناَ للمنفق في انفاقه ومساعداَ له في عمله.
وهو من عمومات قوله تعالى [فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( ).
(عن أبي موسى قال : قال رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)( ).
الثالث : والدا المنفق لان الولد من كسب أبيه، وهو العلة المادية لوجوده وتربيته ونشأته.
الرابع : عيال المنفق من انتزع من الرزق الذي لهم فيه حصة آنية أو تعليقية، فمع بقائه وعدم انفاقه يحتمل ان يكون ارثاَ للذرية والاسرة وان كان لا يتعارض مع النفقة على العيال لحصول الكفاية عندهم وتوفير مؤونتهم.
الخامس : المسلمون الآخرون من اهل محلته أو قبيلته أو بلدته فضلاَ منه تعالى ولشيوع الصدقة فيما بينهم.
ويمكن تقسيم التبعيض الوارد في الآية والنظر اليه على نحو انحلالي، فالسيئات منها ما هي شخصية ومنها ما هي عامة كالتخلف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتقصير في الواجب الكفائي التي يتوجه فيه الخطاب الى الجميع، ويسقط ان اداه احدهم، ولكن يؤثم الجميع في حال عدم التأدية.
وهل يمكن تفسير الآية على النحو الآتي: ان الصدقات خير محض لكم كمنفقين ومحســنين، وفيها تكفــير لبعــض ذنــوب الأمة ، الجواب نعم بمعنى ان المنفــق ينال ثواباً عظيماً يأتي على ســيئاته ويحــرز له دخــول الجنـة، وفــوق هذا فهناك ثواب اضــافي للأمة والنــوع يتمثل بمفغرة بعض الذنوب والســيئات العامــة ومن هذا الثــواب الشــفاعــة للمذنبين، كما لو أذن للمنفــق ان يشــفع للمذنبين مــن اهــله واخــوانــه واصــحابه واهل بلده.
وعلى هذا المبنى فان المنفــقين يدخلون في افــراد الضمير في (سيئاتكم) لان قيامهم بالتصدق سراَ وعلانية جلب لهم الخير والذي يعني الفضل والثواب العظيــم ومغفــر ة الذنــوب وتترشح من عملهم مغفرة لشطر من ذنــوب الاخــرين ممــن يتصــل بهم من قــريب أو بعــيــد، وان الضــمير في (ســيئاتكم) شــامل للمنفقين أنفسهم ايضاَ، نعم يمكن احتساب موضوعه أعم من الضــمير الاول في (خيــر لكم) والله واسع كريم.
ويمكن اجراء دراسات موضوعية قرآنية معضدة بالسنة النبوية الشــريفة لمعرفة الطــرق والمسالك لنيل المغفرة وستر الذنوب ومنها الإنفاق في سبيله تعالى واجتناب الكبائر كما في قوله تعالى [ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا ] ( )، ومنه تصــديــق الانبــياء والتلبس بالتــقــوى، والإيمان والعمل الصالح كما في قــوله تــعـالى [ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ] ( ).
وقد يعطي المؤمن صدقته سراَ ومع هذا يتعرض للأذى ظلماَ وجوراَ وعتواَ، فجاءت هذه الآية بالبشارة والمغـفرة، كما انها تدعو الى اليقظة والحيـطـة والحــذر باخــفاء الصدقة وايصالها بطريقة لا تتنافى والسلامة.
تفسير قوله تعالى [ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ]
(الخبير) من أسماء الله تعالى وقد ورد في القرآن أربعاَ واربعين مرة، اسماَ له تعالى، وورد قوله تعالى (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وبذات المعـنى بوجــود الحــرف المشــبه بالفــعل [إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ) وقــولــه تـعــالى [إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا]( ) وهكذا نحو اربع وعشــرين مــرة، لتــدل على احاطتــه تعالى علمــاَ بافعال العــباد وما تــؤول اليه امــورهم وعاقبـة افعالــهم، وكيفية اعانتهم بقــواعد اللطــف الإلهي التي تقربهـم من الطــاعة وتبعــدهم عن المعصية.
لذا وردت صفة اللطيف مقترنة مع الخبير في قوله تعالى [اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]( )، و[لَطِيفًا خَبِيرًا] ( ) خمس مرات في القرآن مما يعني ان اسم الخبير يأتي في القرآن لافادة الاعانة واللطف وأن الله تعالى يعلم بماهية الانسان وضعفه وبروز حب الدنيا عنده.
فجعل سبــحانه وجــوه الصدقة متعددة وكيفياتها ذات افضلية وتجمع المتنافي بالشــدة والضعف، والعلانية والخفاء، ومع هذا التناقض فان كلا منهما له حســنه الذاتي، ليكون فعل العبد وسيلة للثواب ولا تكون كيفــية اداء الصدقة وطــريقة دفعها للفقير سبباَ في نقص الثواب، ولم يتركها سبحانه من غير بيان تخفيفاَ عن العباد، ولمنع التعدي والافتراء والقول على الله بغير علم، وايذاء المؤمنين عامة والمحسنين والفقراء بصورة خاصة.
فلولا هذه الآية لسمعت في كل زمان أصواتاَ تدعي بأن صدقة العلانية لا ثواب لها، وتشنيعاَ وذما لمن يعطي صدقته علانية.
فحينما يعطيها بالخفاء يقولون لا يخرج الزكاة والخمس، وعندما يقوم بدفعها علانية طرداَ للتهمة وسوء الظنة، يزداد ذمه ويصبح علنياَ ايضاَ وينعت بالرياء والسمعة، فيكون الإنفاق حرجاَ وابتلاء ولا يسلم المحسن في الحالتين من كلام الناس، وعلى فرض انه قام باعطاء الفقراء المحتاجين من ذوي القربى والجيران واهل المحلة ودائرة الاقاويل من حوله فهل يسلم من الذم واللوم.
الجواب: لا، لان من الفقراء من يريد الأخذ بحسب مرتبة القربى والصــلة، ومنهم يــريد التوزيع بحســب الحاجــة والمسكنة ويظن نفسه اكــثر حاجــة من غيره، وغــير الفقراء يظــنونه لا يفي بما عليه من الحقوق، الى جانب آثار آفة الحسد.
والتحاسد موجود بين الناس , (وأخرج الأرزقي عن علي بن الحسين . أن رجلاً سأله ما بدء هذا الطواف بهذا البيت؟
لم كان ، وأنى كان ، وحيث كان ، فقال : اما بدء هذا الطواف بهذا البيت فإن الله تعالى قال للملائكة { إني جاعل في الأرض خليفة }( ) فقالت : رب أي خليفة من غيرنا ممن يفسد فيها ويسفك الدماء ويتحاسدون ويتباغضون؟!
أي رب اجعل ذلك الخليفه منا فنحن لا نفسد فيها ولا نسفك الدماء ولا نتباغض ولا نتحاسد ولا نتباغى ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونطيعك ولا نعصيك . قال الله تعالى { إني أعلم ما لا تعلمون }( )
قال : فظنت الملائكة أن ما قالوا رد على ربهم عز وجل ، وإنه قد : غضب عليهم من قولهم فلاذوا بالعرش ورفعوا رؤوسهم وأشاروا بالأصابع يتضرعون ويبكون اشفاقاً لغضبه ، فطافوا بالعرش ثلاث ساعات ، فنظر الله إليهم فنزلت الرحمة عليهم ، فوضع الله سبحانه تحت العرش بيتاً على أربع أساطين من زبرجد وغشاهن بياقوتة حمراء وسمي البيت الضراح ، ثم قال الله للملائكة : طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش ، فطافت الملائكة بالبيت وتركوا العرش فصار أهون عليهم ، وهو البيت المعمور الذي ذكره الله يدخله كل يوم وليلة سبعون ألف ملك لا يعودون فيه أبداً ، ثم أن الله تعالى بعث ملائكته فقال : ابنوا لي بيتاً في الأرض بمثاله وقدره ، فأمر الله سبحانه من في الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت كما تطوف أهل السماء بالبيت المعمور)( ).
وهنــاك مــن الحــالات ما لا يمكن فيـهــا الا وجه واحــد في الانفاق، أما العــلانية أو الاخفـــاء، فجـاءت الآية للامضاء ومنع العسر، وللحيلــولة دون تضــييـع فرصة وثواب للمحسن، ومنفعة وصلاح للفقير.
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “ان العبد ليعمل عملاَ في الســر يكتبه الله له ســراَ، فان اظهــره نقله من السر وكتب في العلانية، فان تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب في الرياء”.
والقدر المتيقن ارادة قصد الرياء، فهل يشمل الحديث الانفاق، الجــواب: لا، الا مــع ارادة الريــاء الظاهر ، وقــد يتـرتــب عليه أمر ضار فيــما يخص الإنفــاق اذا كان التحــدث به يسـبب له مناَ أو أذى، أمــا اذا لــم يقصـــد الريــاء ولا الأذى بل اراد الحــث على الإنفاق ودرء الظــنــة والتهمــة عــن نفســـه فان الموضــوع يختلــف فلا اثــم عليــه.
ولو شك حين العمل ان داعيه محض القربة أو مركب منها ومن الرياء، فالعمــل صحيــح لاصــالة الصـحة، وكذا لو شك بعد إتمام العمل لقاعــدة الفراغ، وبذا تتجلى لنا آيات عقائدية في خاتمة الآية وتتبين اهميــة خواتيـــم الآيــات وما فيهــا من الكنــوز كما انها تبقى دعــوة متصــلــة للعلمــاء لاســتنباط الدروس واســتخراج الدرر واللآلئ، وفي الخاتمة حث على الإنفاق طــلباَ لمرضاتــه تـعالى واخــبار عن علمــه تعالى بما يعــطــى ويفــعل من اجــلــه تعالى وحباَ له وجـهاداَ في سبيله.
وموضــوع خاتمــة الآية لا ينحصــر بالإنفـاق ولا المنفقين بل هو مطلق وشــامل فالخاتمة قاعــدة كلية واخبار سماوي عن علمه تعالى بادق التفاصــيل التي تتعلق باحوال الناس واعمالهم ونياتهم، فالإنفاق في ســبيله تعالى يتحقــق بالنية والقـصـد انه تعالى خبير وعالم بكيفية العفو عــن المسلمين وتكفــير ذنوبهم ومحو خطاياهم ومنها جعلهم قادرين على الإنفاق والصدقة وحثهم عليه مع وجود فقراء ومساكين كموضع للنفقة مع ما جعــل الله في النفوس من الشفقة والرأفة والرحمة بين الناس.
فمن الناس من لم يفكر بالإنفاق ويشعر بعدم وجود زائد على مؤونته المســتديمــة والــطارئة والمحتملة، ولكنه حــينما يــرى حالة من الفــقر والفاقة تمتلأ نفسه شــفقة ويبادر الى الإنفاق ومد يد العون والمساعدة للفقير متحداَ كان أو متعددأ، فهو سبحانه الخبير الذي يعين المسلمين على دخول الجنة بتيسير اسباب دخولها وبما يناسب عقولهم ومداركهم وضعفهم.
وفي الآية اخــبار واعــلام عن علمه تعالى باسباب اختيار نفقة العــلانية أو السر ســواء بالنية والقصــد أو المقــدمات والطريقة التي تؤدى فيها الصدقة، وهــي تنبيه وتحــذير من الرياء والســمعة، فخاتمة الآية رحــمــة ورأفة ودليل على عظيم فضــل الله تعالى واحاطته سبحانه بكل شيء , وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : (“إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”)( ).
بحث فقهي
الأولى : النية: وهي لغة الإرادة بالقلب والعزم والقصد على اتيان الفعل وفي العبادات هي مركبة من الإرادة وقصد القربة واتيان الافعال العبادية امتثالاً لأمر الله ولا يشترط التلفظ بها أو استظهار كلماتها في البال بل يكفي وجود الداعي في القلب، ويكون ملتفتاً في الجملة الى اشتغاله بالفعل.
ومعناها الاصطلاحي مطابق للمعنـى اللغوي، وهي شرط في العبادات، وكيفية النية على وجوه:
الأول : النية الاخطارية: فيكفي اخطارها وتصورها في البال وعليه المشهور، ولا يشترط بقاؤها في الذهن الى آخر العمل العبادي بل يكفي بقاؤها حكماً.
الثاني : التلفظ بالنية: ولا يجب التلفظ بها وهو مستحب في بعض مناسك الحج.
الثالث : الداعي الى الفعل الموجود في القلب لا في الذهن والالتفات في الجملة الى اشتغاله بالفعل العبادي، بحيث لو سئل ماذا يفعل لأجاب.


 قوله تعالى

[لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأنفسكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] الآية 272.

الاعراب واللغة
(ليس عليك هداهم) ليس: فعل ماض ناقص، عليك: جار ومجرور خبر مقدم لليس، هداهم: هدى: اسم ليس المؤخر، وهو مضاف، والضمير هم مضاف اليه.
(ولكن الله يهدي من يشاء) الواو: اعتراضية، لكن: حرف مشبه بالفعل واسم الجلالة اسـمها، يهدي: فعل مضارع، والفاعل ضمير يعود لله عز وجل، والجملة الفعـــلية خبر (لكن)، من: اسم موصول مفعول يهدي، وجملة يشاء لا محل لها لانها صلة الموصول.
(وما تنفقوا من خير) الواو: عاطفة، ما: اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم لتنفقوا، تنفقوا: فعل الشرط، من خير: جار ومجرور في محل نصب حال.
(فلأنفسكم) الفاء: رابطة لجواب الشرط، لأنفسكم: جار ومجرور في محل خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: {فهو لأنفسكم}، والجملة في محل جزم جواب الشرط.
(فان الله به عليم) الفاء: رابطة لجواب الشرط، ان: حرف مشبه بالفعل واسم الجلالة اسمها، به: جار ومجرور متعلقان بالصفة عليم، عليم: خبر ان مرفوع بالضمة.
واختلف في (ليس) هل هو حرف بمنزلة (ما) لعدم تصرفها أم فعل، والثاني هو المشهور والارجح لانها لا تنصرف، ويقال لست ولستما ولستم، وهي من اخوات كان فترفع اسمها وتنصب خبرها، وتستعمل ليس للنفي وهو ظاهر ومتعارف في معناها الا انه اختلف في النفي كماً ومناسبة على اقوال:
انها للنفي مطلقاَ من جهة الأزمنة الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل.
لا يصح نفيها للمستقبل ويجوز للحال وللزمن الماضي، وبه قال الزمخشري.
اذا اجتمعــت (ليس) مــع (قد) فلا يصح نفيها للماضي ولا للمســتقبل فلا يقال: ليس الشمس قــد زالــت، أو ليس الشـمس قد تزول.
لنفي الحال في الجملة اذا لم تكن مقيدة بزمان وأما المقيدة بزمان فيعتبر التقييد والقرائن.
في سياق الآيات
بعدمــا جاءت الآيات السابقة بالأمر بالإنفاق وبيان ما فيه من الثواب بصريح القول والبشارة وبالمثل القرآني الاعجازي، وتناولت صفات وأحكام الإنفــاق بعدم اتيانه بالمن والأذى، ولزوم جعله من الجيــد والطيب وعــدم كونه من الخبيث، وجواز ان يكون علانية أو سراَ.
وجاءت هذه الآية لتبين جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ترســيخ ملكــة الإنفاق في النفوس وجعلها واقعــاً يومياَ ثابتاَ ومتعارفاََ عند المسلمين يصبح الفقير وهو يعلم ان رزقه سيأتيه بما جعله عند الاغنياء من المال، والإنفــاق والرأفــة والحرص على المبادرة الى الصدقة، ويدرك ان الغني يحتاج الى هذه الصدقة من وجهين اخراج الحــق الشــرعي الذي كتــبه الله في ماله وحــاجته الى متاع الآخرة والتزود مــن الدنيا، فتمتــلأ نفســه امــلاً بنيل الرزق وحصوله على مــؤونة يومــه، وفي الآيـة اخبار عن منافع الإنفاق العظيمة التي تعود على صاحبه.
إعجاز الآية
في الآية بيان لمصدر الهداية ونسبة مقاليد الأمور اليه تعالى وانه يتعاهــد عبــاده بالاصـــلاح والرشاد والتوفيق، وفيها ثناء على النبي صلى الله عليه وآله وســلم وتخفيـــف عنــه وتحد دائم في موضوع الانفاق، فمع ان الإنفاق اخــراج للاموال فان منفعــتــه وربـحـه لصــاحبه، ومــن الاعجــاز ان هذا الاخبار يتقوم بالوعد الكريم بالايفاء.
وقد بينت الآيات السابقة المضاعفة الكثيرة في موضوع الايفاء، وتبعث الآية الشوق في النفس لرؤية الوفاء والثواب الجزيل، وتلمس دروب الهداية ورجاء بلوغ مراتبها بفضله تعالى، وتقذف السكينة في النفس للوعد بعدم تعرض الانسان للظلم وتدل الآية على كون الحكم سماوياَ ومن عنده تعالى بالنهي عن منع الصدقة عن غير المسلمين أو اشتراط دفعها بدخول الاسلام، فالملاك هو وجه الله وطلب مرضاته في عباده وعامة خلقه.
ويمكن ان نسمي هذه الآية (آية إنفاق الخير).

الآية سلاح
تعتبر الآية عوناَ اضافياَ ومدداَ ملكوتياَ للإنفاق ودعوة الى المسارعة في اعانة الفقراء والمحتاجين، والمتاجرة بالصدقة، وهي حرز من الغرور والعجب بالنفس عند الانفاق، لان الهداية للإيمان والعطاء والبذل احسان منه تعالى وموضوع للتقرب لرحمته.
أسباب النزول
ذكرت في نزول الآية اسباب ووقائع منها:
الأول: كان لجماعة من الانصار اقارب واصهار ورضاعة من قريظة والنضير، وكانوا يمتنعون على الإنفاق على هؤلاء الاقارب ويجعلون اسلامهم مقدمة للإنفاق عليهم في دعوة وحث لهم على الإيمان فنزلت الآية.
الثاني: أخرج عبد بن حميد والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقــي في ســننه والضــياء في المختــارة عن ابن عباس قال: كانوا يكرهون ان يرضخوا لانسابهم من المشركين فسألوا فنزلت هذه الآيــة (ليس عليك هــداهم إلى قوله وأنتم لا تظلمون) فرخص لهم( ).
الثالث: وأخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه والضياء عن ابن عباس: ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن لا نتصدق الا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية (ليس عليك هداهم إلى آخرها) فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتصدق على المشركين فنزلت (وما تنفقون الا ابتغاء وجه الله) فتصدق عليهم، وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: كانوا يعطون فقراء أهل الذمة صدقاتهم فلما كثر فقراء المسلمين قالوا لا نتصدق الا على فقراء المسلمين فنزلت (ليس عليك هداهم) الآية( ).
الرابع: ان اسماء بنت ابي بكر حجت فجاءت امها نتيلة وهي مشركة تسألها فابت ان تعطيها فنزلت، وقيل جاءت مع امها جدتهــا وهي ايضــاَ مشــركة فأبت اســماء ان تعطيهمــا حتى تستأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستأمرته فنزلت الآية.
مفهوم الآية
الآية تنزيه لمقام النبوة وحصانة سماوية لها بمنع التصدي والافتراء وتوجيه اللوم الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بقاء شطر من الناس على الكفر، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشير ونذير وداعية الى الله عز وجل مؤيد بالملائكة والقرآن.
واجمع المسلمون وغيرهم على انه بذل الوسع في الجهاد في سبيل الله ولم يقصر اويتردد أو يتلكأ، وجاءت الآيات القرآنية بمدحه صلى الله عليه وآله وسلم والثناء عليه، وهذه الآية بشارة له واخبار عن رضاه تعالى لأدائه لوظائف النبوة وان الله يتكفل هداية الناس الى الإيمان والإنفاق ومن سبل الهداية هذه الآية الكريمة، والنبي واسطة بينه تعالى وبين البشر، فهي لا تنفي جهاد الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم في هداية وارشاد الناس.
وتمنع الآية من المــن والأذى بكيفيــة عقائديــة خاصة ينفرد بها القرآن وهي ان النفع يعود له اولاَ وانه المستفيد يسعى بنفسه لاعطاء الصدقة ويحرص على احــراز شــرائطها وانه يجتهد في ايجاد اصل الصــدقة وموضــوعها فيمتنع عن الاسراف والزيادة في النفقة ليوفر لنفسه وآخرته النفع والثواب الجزيل، وفي الآية مدح للمسلمين بان انفاقهم يأتــي طلباَ لمرضــاته تعالى بما جعله في نفوسهم من التقوى، وحث عليه بقيد قصد القربة ورجاء رضاه تعالى.
وتدعو الآية في مفهومها الى عدم التفريط بموضوع الإنفاق وتحث على استثماره لما يعود من النفع على ذات المنفق واستيفائه كاملاَ لتكون هذه الآية حسرة في قلوب الذين يبخلون بالاموال ولا يعطون الزكاة، وصفة الخير في الآية دعوة لاجتناب إنفاق الخبيث وتوكيد على اعطاء المال لمستحقيه والمتاجرة به مع الله عز وجل.
إفاضات الآية
تبين الآية جانباً من فلسفة الهداية وقواعد العبادة في الارض، وبقاء الناس بين مهتد وضال، ولكنها تظهر رجحان جانب الهداية بالبعثة النبوية والسعي الدؤوب لانبساطه على جميع الناس، وهذا عنوان تشريف ومدح للنبي صلى الله عليه وآله والمسلمين.
وبعد افتتاح الآية بالخطاب الى النبي صلى الله عليه وآله في نفي وتعليق، انتقلت الآية الى الخطاب للمسلمين في ثناء وبشارة وحث على الإنفاق، كــي لا يُقال ان ثــواب الإنفاق ينقص بسبب عدم هداية الناس، بل انها اخبرت ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنجز ما عليه، وان معالم ثبوت الاســلام أصــبحت جلية بالإنفاق النوعي العام والمتعــدد لأن الآية جــاءت بصيغة الجمع وتوكيــد الإنفاق وبيان منافعه في النشأتين.
ويمكــن اعتبار الآيــة تصحيحــاً للقصــور في نيــة الإنفاق، وان الله عز وجل يحتسب كل إنفاق ابتغاء لمرضاته تعالى، ويدخل معه النفقة على العيال وان كان المسلم ساهياً عن استحضار النية وقصد القربة، ان اخبار الآية عن الوفاء ونيل أجر الإنفاق كاملاً بشارة ودعوة للمبادرة للإنفاق والاكثار منه.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ]
الخطاب في الآية موجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا من اعجــاز القرآن ان يأتي الخطــاب القــرآني بصيغة المخاطب المنفرد من وجوه:
ان المسلمين والناس جميعاَ يعلمون ان المقصود هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
انه يشمل المسلمين بالتبعية سواء العلماء منهم أو اولياء الامور أو الآباء أو الامهات والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر مطلقاَ كل بحسب جهده وعمله.
في الآية توكيد لبقاء باب الهداية مفتوحاَ ومتجدداَ زماناَ ومكاناَ، فالآية وان بدأت بالفعل (ليس) الدال على النفي الا انها تفتح ابواباَ من العلم والعمل.
تبعث الآية الامل في هداية الناس واصلاح المجتمعات ودوام الإنفاق قربة الى الله خصوصاَ وان الإنفاق فرع الإيمان لانه مقيد بقصد القربة الى الله وهو أمر لا يتحصل الا مع الإيمان والتسليم بالثواب، ان الله عز وجل يؤلف بين القلوب ويدفع الاضرار الجانبية للفقر والجوع.
فالإنفاق ودفع الزكاة لا يعالج الفقر ويقضي عليه قضاء تاماً ويجعل الناس بمستوى واحد أو متقارب من الغنى ويعرف هذا الأمر من مقدار الزكاة والتي هي في المال الصامت وهو النقدان من الذهب والقضة، وفيها ربع العشر أي اثنان ونصف بالمائة (2,5%) عند إتمام النصاب وهو عشرون ديناراَ.
ويلحق بها العملات الورقية المستعملة في هذا الزمان على الاقوى اذا كانت قيمتها تعادل (عشرين ديناراَ ذهبياَ مسكوكاً واحراز الشرائط الاخرى لإطلاق الأدلة وانطباقها على الموضوع البدلي وللرواج المعاملي، ولتعلق التشريع بالموضوع لا المصداق المقيد، وللإحتياط في عدم تضييع حق الفقراء وحجب الثواب والنماء في الأموال، اذ لا ملازمة بينه وبين كون النقد بالمسكوك الذهبي والفضي، ولإجتناب تعطيل بعض الأحكام بسبب تغير المصاديق والحكم يتبعها قهراً.
وأما في الغلات فالزكاة تخرج عند بلوغ الحاصل النصاب الشرعي وهو خمسة اوسق أي نحو ثمانمائة وسبعة واربعين كيلو غراماً تقريباَ، ومقدارها على ثلاثة اقسام:
الأولى : العشر اذا كان الزرع يسقى بالماء الجاري أو بماء السماء أو يمص عروقه من الأرض كالنخيل والشجر.
الثانية : نصف العشر أي 5% اذا سقي بالآلة والنواضح والدلو ونحوه.
الثالثة : ثلاثة ارباع العشر أي 5’7% اذا كان السقي بالاشتراك مرة بالامطار والماء الجاري ونحوه ومرة بالسقي بالآلة.
وزكاة الانعام كل بحسبه، وهذا المقدار من الزكاة يدفع شبح الموت جوعاَ عن الفقراء وييسر له قوت يومهم ويدفعهم الى العمل ويعينهم على التغلب على مشــاق الفاقة، ويقربهم الى العبـادة بالذات وبالعرض، فالزكاة بالنســبة للفقير امل يسعى لنيله خصوصاَ وانه مســتحق له فيتوجــه الى الله بالدعــاء والرغبــة والمســألة، والحصول عليها مناسبة للشكر والثناء عليه تعالى لاكرامه للفقير بان جعل له حصة في مال الغني، وهــذا الشعــور يطــفئ ثورة النفس الشــهويــة ويمنع النفس الغضبية من التعدي وفيه حث على الاقتداء بالغني في وجوه الصلاح والهداية.
فتحصل عند الفقير قاعدة كلية في باب الافعال بالاولوية القطعية، فيقول: اذا كان الغني يتقيد بأحكام الهداية على نحو مركب ويقوم باعطائي المال الذي كسبه ويقوم باداء العبادات والفرائض الاخرى، فمن باب اولى ان اؤدي الفرائض لذا فان الضمير المضاف اليه في قوله تعالى [ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ] أعم من ان ينحصر بالاغنياء وارباب الحقوق الشرعية بل يشمل الفقراء والناس جميعاَ، فلا غرابة ان يأتي في باب اسباب النزول اطلاق النفقة أو ما يدل عليها ليشمل المحتاجين من غير المسلمين.
فالإنفاق في سبيله تعالى سبيل للهداية والصلاح وهو من اعجاز القرآن، والآية تحمل على عــدة وجــوه متبــاينة ومختــلفــة من غير تعارض بينها لانها تلتقي جميعاً في الغاية والمقاصد السامية من الآية الكــريمة، وفيهــا اخبار بعدم الملازمة بين الهداية وقبض الحقوق الشــرعية، بمعنى انها تحــذر المسلمين من تعليق اعطاء النفقة على الإيمان، ودعوة للتفكيك بين الإيمان والانفاق، نعم الإنفاق مقدمة ووســيلة للهدايــة وليس شـــرطاَ مسبقاَ لدفع الحق الشرعي الى مستحقيه، فالاستحقاق يتعلق بالفقر والمسكنة والحاجة وليس بقيد الإيمــان الا ان يــرد دليل مقيد ومانــع من الاطــلاق فالاصل في الحكم هو الاطــلاق والاخــبار الــواردة في اسباب النزول تفيد رفع القيد والنهي عنه.
ولابد ان هذا الرفع مرتبط بالهداية فما هي وجوه الصلة بين الهداية وبين رفع قيد الإيمان عند المستحق، انه اللطف والرحمة الإلهية في الابتداء بالاحسان واقامة الحجة على العباد ودعوتهم الى الإسلام بالانعام واسباب التقريب الى الطاعة، كما ان الإنفاق لا ينحصر بموضوع الهداية وحده بل هو حزء من تكفله تعالى لاسباب الرزق والمعيشة للناس قال تعالى [ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا]( ).
ويأتي تفضيل المسلم بالصدقة إكراماَ له لاسلامه ولزيادة إيمانه وهو جزء حسن له في الدنيا واخبار ومقدمة وبشارة للجزاء الاوفى يوم القيامة، وهذا التفضيل لا يتعارض مع شمول غير المسلم بالصدقة والنفقة التي يبتغى بها وجهه تعالى.
وفي الآيــة تأديب للمســلمين ببيـان تعدد وحوه الانفاق، ورفع الحــرج والعســر عنهــم ومنع الاربــاك في المعامــلات، أو ظهور اللوم فيما بينهم، فلولا هــذه الآيات لرأيـت المنفق يتعرض للذم أو الغيبة بسبب اختــياره لجهــة الانفاق، وهــو أمر يؤثــر على النفقـات سلباَ ويجعل بعض ارباب الحقوق يمسك عن اعطائها، أو انه لا يدفعها الى اهلها ووفــق ما يــراه من المصــلحــة، فجاءت الآية لتجعل سعة في الإنفاق وتمنع من طغيان التشكيك وكثرة السؤال وطلب الشهادة والتزكية ونحوها.
وتبين الآية عظيم قدرته تعالى وانه لا تستعصي عليه مسألة وان العبد لا يستطيع ان يخالف ارادته تعالى، وان الله جعل الهدى اختياراَ للعبد وفي ميسوره وارشده اليه بالآيات واللطف.
وقال الزمخشري في تفسير الآية ( لا يجب عليك ان تجعلهم مهديين الى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك، وما عليك الا ان تبلغهم النواهي فحسب)( ).
و موضوع الهداية في الآية متعدد، وجاءت مطلقة وجهتية بحسب اللحاظ والموضوع والجماعة أو الشخص، وكذا بالنسبة للضمير في (هداهم).
فموضوع الهداية بالنسبة للكفار هو توجيههم وارشادهم لدخول الإسلام ونبذ الكفر ومفاهيمه، أما بالنسبة للمسلمين فانهم احرزوا الهداية بدخــول الإســلام والاقبال على العـبادات، والله يتم لهم اسباب الهداية باصلاحهم للعبادات وهدايتهم لأحكام الشريعة التفصيلية ويظهر من اسباب النزول مع تعددها ان المراد هو هداية الكفار الى الإســلام بالنفقــة والصــدقة عليهـم وهل يستحقونها مع الكفر أم لا.
ولابد من اشتراط الهداية وهي الاسلام والنطق بالشهادتين، وربما اشترط بعضهم العدالة في المستحق وحسن ظاهره وسيرته واحرازه لملكة اتيان الواجبات وترك المحرمات والاصرار على الصغائر ومنافيات المروءة فجاءت الآية للفصل بين الهداية وقبض الصدقة وعدم تعلق الاخيرة بالاولى، فيما يخص تكليف المسلم والا فانهما غير منفصلين بالمعنى الأعم وحقيقة الافعال وخواتيم الاعمال.
فالاذن الإلهــي بالنفقة علــى المهتدي دعـوة له بالهداية، كما انها تؤثر في نفسه قهراَ وانطباقاَ لان المحسن أعطى الصدقة باعتباره مسلماً فعقيدته وإيمانه دفعاه للتصدق، واكتفى بالاخوة في الخلق والانسانية وقطع من رزقه وكده وجهده ليســاهم في انقاذ الكافر من الجوع ليدرك ان الله معــه حتــى وهـو في حال الكفر والضلالة فيستحي من الله ويصبح مؤهلاَ ولو على نحو الموجبة الجزئية للإسلام ومعرفة اصول الدين، ويدرك ان هذا المسلم بادر الى الصدقة لاقراره باليوم الآخر ووقوف الناس فيه للحساب.
فالنفقة ترويج لأحكام الشريعة ودعوة عملية للإسلام وتضحية وجهاد بالمال للقضاء على الكفر، وهذا من اعجاز القرآن فعندما لا تكون هناك مــعارك وقتــال في ســبيل الله، يكـون جهاد اخف منه واوســع واكثر تأثيراً من جهــة العــدد والكم، واقــل خسارة وضرراَ وهو الإنفاق بالمال، لجذب الكفار الى الإسلام وهذا الإنفاق جزء من هدايته تعالى للناس لانه هو الذي أمر بالإنفاق وحث عليه ووعد بالاثابة عليه.
وصحيح ان لفظ الهدى ورد مطلقاَ وشاملاَ للناس جميعاَ حتى المتقين فكل انسان يحتاج الارتقاء في سلم الهدى قال تعالى [ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ]( )، الا ان الهداية تصدق بأدنى مراتبها على العبد حال اسلامه قال تعالى[ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ]( ).
وورد لفظ (هداهم) ثلاث مرات في القرآن، في هذه الآية، وآيتين اخريين، قال تعالى [ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ ]( )، وقوله تعالى [ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ] ( ).
والقـرآن يفســر بعضــه بعضــاً فالآية تخــفيف ورحمة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلــم والمســلمين ومــدح له بجـهاده في هداية الناس جميعـــاً وحرصه على هدايتهم، واخبار للاجيال بانه بذل الوسع في دعوة الناس للاسلام، وانه ادى الرسالة وفعل ما أمر به، وان إنفاق المســلمين الطـيب دون الخبيث من مصاديق الهداية الواردة في هذه الآية، واذا كــان الإنفــاق يتعــلق بالواجــب منه والمستحب فان النصوص وردت بحصــر اعطــاء الزكــاة الواجـبــة الى مستحقيها من المسلمين فتشــمل الآيــة صــدقة التطــوع التي لا تنحصــر بالمسـلمين المحتاجين فقط.
ومن اصناف المستحقين للزكاة المؤلفة قلوبهم وهم الملأ والوجهاء الذي يراد من اعطائهم إلفتهم وصرف زيغ قلوبهم وجذبهم الى الإسلام والى معاونة المسلمين في الدفاع أو الجهاد ضد الكفار، فيعطون من هذا السهم، والظاهر انهم من المسلمين وممن ضعف إيمانه وبدا النفاق والتردد عليه فيعطى لتقويــة إيمانه ولدفــع أذاه وإمالته الى المعاونة والنصرة وحسن اسلامه.
وقيل ان المؤلفة قلوبهــم من الكفــار ولكــن لم يعــهــد ان النبي صلى الله عليه وآلــه وســلم اعطــى المشــركين والكفار من الصدقات، والله عز وجــل حينمــا ذكـر في آية الصدقات وجوه القسمة والمستحقين).
تفسير قوله تعالى [ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ]
قد ورد هذا الشــطر من الآيــة في عدة مواضع من القرآن، وهو في مفهومه تشريف وإكرام للمسلمين لان الله عز وجل خصهم بالهداية واعانهــم عليها، أمــا في منطــوقه فانــه اخبـار عن حال الكافرين وذم لهم لانهم لم يســتجيبوا للنبي صــلى الله عليه وآله وســلم في دعــوته وحرصه على هــدايتهم للاسلام، ولكنها تخبر عن عدم اليأس منهم وبقــاء بــاب الهداية مفتوحاًًًًً لهم على نحو العموم الاستغراقي والمجمــوعي والفــردي، ولا تعـني الآية تخلــي المســلمين عن العمل لدعوة غيرهــم للإسلام بل انها تبــين عائديــة ومصــدر الهداية وانها بيده تعالى.
وهذه الآية مصداق لقاعدة كلية يدركها كل مسلم وموحد، وهي ان الأمور والأشياء كلها منقادة له تعالى، وهو سبحانه يقلب قلوب العباد كيــف يشــاء، فالآيــة ثناء كريم منــه تعالى على النــبي صلى الله عليه وآله وســلم وانه أدى ما عليه وبلغ الامانة والرسالة التي جاء بها من عنــده تعالى، ولكن طريق إيمان الناس وهدايتهم جميعاَ طويل وشاق ولا يقدر عليه الا الله عز وجــل، والبعثة النبوية من أفضل الطرق المباركة لإيمانهم.
وكذا القرآن وما فيه من آيات البشارة والانذار، والوعد الوعيد، ومنها الإنفاق في سبيله تعالى ليكون درساَ وموعظة وعبرة للفقير غير المسلم ودعوة له لدخول الاسلام، فقيام المسلمين بالإنفاق في سبيله تعالى من بين الأمور التي ترغب الناس بالاسلام، فمثلاَ لبس الحرير محرم على الرجال في الإسلام ولكنه جائز في ساحة المعركة ليبدو المسلمون اغنياء في أعين الكفار ولترغيبهم بالاسلام.
والإنفاق في سبيله تعالى فيه وجوه.
الأول : الإسلام في حال غنى وأنتم قادرون على العطاء والتصدق.
الثاني : يعكس السمو الاخلاقي الذي يتمتع به المسلمون.
الثالث : فيه تأكيد للعناية الإلهية بالمسلمين في الدنيا كمرآة للآخرة.
الرابع : يبين الإنفاق التزام المسلمين بأحكام الشريعة وحسن امتثالهم للأوامر الإلهية باخراج الصدقات من اموالهم الخاصة.
الخامس : الإنفاق دعوة للاقتداء بالمسلمين في الاقرار بالنشور والحساب يوم القيامة باعتبار ان الإنفاق ذخيرة.
السادس : جعل الإنفاق في سبيله تعالى سمة ثابتة للمسلمين وعلامة تفرقهم عن غيرهم، وصحيح ان الامم الاخرى والافراد يقومون باعانة الاخرين جماعات وافراداَ، الا ان الذي يختص به المسلمون هو اتصاف انفاقهم بانه راتب وثابت ودائم ويأتي استجابة لأمره تعالى.
السابع : قيام المسلمين بالإنفاق على غيرهم عز ورفعة للاسلام، ودليل على سماحة الشريعة الاسلامية.
الثامن : تقييد الإنفاق بانه في سبيل الله ينفي ويمنع من وجود شروط ومصالح دنيوية للإنفاق فيخفف عن الفقراء وان كانوا غير مسلمين، كما ان النهي عن المن والأذى في الصدقات جاء مطلقاَ يشمل الجميع.
ولا تنحصر منافع الإنفاق في سبيله تعالى بالنسبة للكفار بالفقراء منهم بل تشــمل الاغنياء الذين يحاولون الاقتداء بالمسلمين ولن يستــطيعوا، للمائــز وهــو الإيمان الذي يبرز على الســلوك بالإنفاق امتثالاَ لأمــره تعالى في وجــوب الزكـاة وادراك انها من ضرورات الدين، وتلمســهم للأجر العاجل ورؤيتهم بعــين البصــيرة للثواب الآجــل في الآخــرة، فــاذا ذكــروا مضــاعــفــة الإنفــاق التــي وعد الله عز وجل تصــوروها وكأنها حاضــرة أمامهــم، واشــتاقوا الى قطــف ثمار الجنة التي وعدهم الله عز وجــل بها، فيثبــتون في منازل الإيمان ويزدادون هدى.
أما الكافر فانه قــد يحاكي المسلم مرة أو مرات قليلة و لكنه لا يســـتطيع المواظبــة لعدم وجــود الدافع الروحــي والواعــز الإيماني والعلة الشرعية، فيتخلف عنه وفي نفسه حسرة وحسد للمسلم على مواظبــتــه على اخراج الحقــوق الشــرعيــة وشــعوره بالســعادة عند الدفع وايصــال المال الى مســتحقيه، لتكــون هــذه الحســـرة بــاب أذى له مما هــو فيـــه من الكــفــر، ومناســبة للتفكير بالانتقــال الى مــنازل الســعادة التي تمــلأ اركان المســلم بالإنفــاق طاعة لله تعالى وابتغاء وجهه.
واختلف المعتزلة والأشاعرة في معنى الهداية في هذه الآية وتعلقها بالمشيئة، فقال المعتزلة في الوجوه المحتملة للهداية:
الأولى : ان تعالى يهدي باللطف، وهو تقريب العبد الى الطاعة.
الثانية : بالإثابة وحسن الجزاء.
الثالثة : (الله يهدي بالاكراه من يشاء على معنى انه قادر على ذلك، وان لم يفعله) ( ).
بمعنى انهم يذهبون الى التفريق بين الامكان والحدوث لان الاكراه ينفي موضوع والعلة المادية للهداية.
وقال الاشاعرة: ان الله هو الذي يخلق الهدى عند من يشاء وان طلاق الهدى ونسبته اليه تعالى على نحو الحقيقة وليس المجاز وما يحتاج الى تأويل، وان الاهتداء يكون على سبيل الاختيار لانه متعلق بما نفي اولاَ [ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ] والمراد منه الاهتداء بالاختيار فلابد من تعلق الاثبات به.
والخلاف صغروي، اذا انه سبحانه يهدي ابتداءً ويهدي بالاسباب وبالعلل المادية التي لا يتخلف معلولها عنها، ويقرب العبد الى الطاعة ويبعده عن المعصية أو يمنعه عنها ويجعلها مفقودة، ومن العصمة عدم المعصية، وهذه الوجوه كلها من اللطف الإلهي وهو الاقرب لقواعد اللطف في بابه.
والآية وعد كريم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بان المسلمين اذا اجتهدوا في هداية الناس فان الله عز وجل يتكفل هدايتهم واعانة المسلمين على اسلامهم فالمدد الإلهي يأتي في ساحة المعركة بصفة النصر والظفر كما يأتي بكيفيات متعددة في حال السلم والاستقرار، ومنها الإنفاق في سبيله وكيفيته وجعله سلاحاَ للهداية، بمعنى ان الدعوة الى الله عز وجل مستمرة في جميع الاحوال.
كما ان الصلاة اليومية مناسبة للدعوة وخطاب عملى عقائدي للاخرين لدخول الإسلام واثبات حقيقة في الأرض انه تعالى يجب ان يُعبد كل يوم بافعال مخصوصة يؤديها كل مكلف ومكلفة والعبادة في الإسلام تمثل افضل الطرق لدعوة الاخرين وهي من المصاديق العملية لقوله تعالى [ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ]( )، ولا تعارض بين ما نذهب اليه وبين ما ورد بان الحكمة هي النبوة، والموعظة هي القرآن.
فكأن الآية في مفهومها تقول بان عليكم الالتزام بالإنفاق وشرائطه من عدم اتباعه بالمن والأذى، وبلزوم كونه من الطيب والجيد وليس من الردئ والخبيث وان يؤتى به بقصد القربة سواء كان علانية أو سراَ، وتبدو في هذا المضمار وهو هداية الكفار وجذب الناس للإسلام مزايا ومنافع كل صفة وقيد من قيود الإنفاق التي ذكرتها الآيات السابقة والحصر بالشرائط اعلاه باستثناء التخيير بالاظهار اوعدمه وان كان مقيداَ بعدم الرياء والسمعة.
فإنفاق الخبيث لا يجــذب الطــرف الآخــر فقيراَ كان أو غنياَ ولا يقضي حاجته، والمــن والأذى يبعــث النفرة في النفوس، وقد يجعل الفقير يميــل الى عــدم قبول الصدقة خصوصاَ مع تحريض الآخرين ومنهم اهــل الجحود والضــلالة الذين يحــاولون التصدي لنفاذ اشعاعات الإيمان في النفوس المنكســرة، واستضاءة القلوب بأنوار الرسالة السماوية.
والإنفاق في سبيله تعالى يبعث الشوق في النفوس للقائه عز وجل، وهو مدخل لمعــرفة الآيات في الافــاق وفي النفس وتثوير للمسائلة الذاتية لمعرفة موضع الشخص فيما يتعلق بالعقيدة وقربه أو ابتعاده عن الإيمان والمقارنة بين ما يجب عليه، وما هو عليه من الحال والعمل وكيفية الاصلاح والتدارك.
واعطاء الانســان الصدقة سواء كان مسلماَ أو غير مسلم باب للهداية ودعــوة للتدبر في الحــال ومراجعــة وظائفه الشرعية فهو من صيــغ هدايته للناس الى جانــب انه من رحمتــه على عـباده وهو الرحمن الرحيم، يرحم الغني لان النفقة باب لزيادة رزقه ومغفرته ويرحــم بالفقــير باعــانــته في امــور حياته ويجعــلــه يتلمس اسباب الهداية باشــفاق الآخـــرين عليه بأمــر منه تعــالى فالذين اعانوه وقدموا له المال الكــافي لمؤونتــه من غير ان يبذل جهـد لكسبه، أو انه حاول العمل وســعى ومــع هذا لم يجــد عملاَ أو وجـد عملاَ ولكن ما يـأخذه من عــوض عنه لا يكفــي لســد رمقــه وتوفير مســـتلزمات معيشته ومعيشة عياله، فتأتي الصدقات التي أمر الله بها ووعد عليها الخير العظيم والثــواب الجــزيل لتكـون نجــاة له وسبيلاَ لتخلصه من آفات الجوع والفقر.
فمن معاني الآية اخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمســلمين بان عليهـم الإنفاق في سبـــيله تعالى وهو باب لهداية الناس التي تكفــلها ســبحانــه، كما تظـــهــر الآيــة التبايـن بــين علمه تعالى وعلم العــباد وانه احــاط بكل شيء علماَ، وان اختيار الناس للهداية عائــد اليه تعــالى ويتــم بمشــيئتــه، وهذا لا يتــعارض مع سعي النبي صــلى الله عليه وآله وســلم والمســلمين لهــداية الناس والتوجــه الى فريق أو جماعة منهم للدعوة الى الاسلام، أو مخاطبة بعض الوجهاء على نحو الخصــوص ودعوتهــم وارشــادهم، فهــو من مصــاديق المشــيئة ســواء بالتوجــه والدعــوة أو بلحــاظ خواتيــم الاعمال، وتحصيل الهداية.
ولكن الآية جــاءت للتخفيــف وانه لا يجب على النبي صلى الله عليه وآله وســلم هدايــة النــاس جميعاً للإيمــان، وليس من وظائف النبي صــلى الله عليه وآله وســلم حملهــم على دخــول الإسلام وان كان يرى الحــق بيناَ ويــرأف بهــم ويريد مشاركتهم له فيما وعد به الله عز وجــل، وان العقــل يحكــم بصــدق مــا جــاء بــه مــن عنــد الله تعالى، وفيهــا اخــبار بــان النبـي صــلى الله عليه وآله وســلم أدى ما عليه في التبليــغ والانــذار والدعـوة الى الله عز وجل، وترك أنوار الدعوة الى الاســلام تصل الى القلوب العطشى والنفوس التي تبحث عن الحق.
تفسير قوله تعالى [ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأنفسكُمْ ]
الخير عنوان جامع تتصف مصاديقه وافراده بالحسن الذاتي، وتبعث الشوق في النفس لاتيانها، والسكينة عند متلقيها وسامعها، وتكون وسيلة لإدراك المقاصد الشريفة، وهو غاية للقول والفعل المحمود، ويعرف المراد من الخير في الكلام بحسب اللحاظ والقرائن، فقد يراد منه الفرائض والواجبات أو المندوبات والقربات وصلة الرحم ومكارم الاخلاق، والمراد منه هنا المال كما في قوله تعالى [وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ]( ).
ان ارادة المال اكــثر ظــهوراَ في الآيــة محل البحــث بقــرينة الإنفاق [ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ] فالإنفاق يدل على اخراج المال، وسياق الآيات يحصر الإنفاق بالمال وليس مطلق العمل والكلام الحسن، ان الله عز وجل يحب اطعام الطعام وإنفاق المال ودفعه للفقراء والمساكين لذا جعله فرضاَ على الاغنياء وفرعاَ من فروع الدين، كما ان تشريع الزكاة جاء في السنة الثانية للهجرة النبوية الشريفة، أي في بدايات تأسيس الدولة الاسلامية وتثبيت أركان الدين.
وتبين هذه الآية جانباَ من فلســفة الإنفاق وفـق المعرفة الإلهية وموازين السماء، وهو من اعجاز القرآن الغيري اذ تأتي الآية بنظرية تبدو انها مخالفة للواقع وفق حسابات العقل الانساني لولا الفطرة والإيمان، فلا يمكن معرفة مضامين هذه الآية من دون الاقرار بالتوحيد واليوم الآخر وعالم الجزاء والعقاب، ويستطيع المؤمن ان يقرأ المعاني القدسية والافاضــات الملكوتية التي تتضمنها القواعد والسنن التي جاءت فيها، ليعطي المسلم جــزء مما يملك نفقة في سبيله تعالى وهو مبتهج للتوفيق للاعطاء، بينما تراه يتجنب في موارد اخرى الإسراف والتلف لان الشريعة تنهى عنهه ويجعل المدار في صرف امواله مرضاته تعالى واحراز النفع.
والنفع على قسمين:
الأول : مادي ظاهري ومنه التنعم بالطيبات والحيازة والتملك.
الثاني : الثــواب الاخروي وهو النعيم الدائم والنجاة من عذاب النار، ومــن وجــوه احــرازه اداء العبادات والإنفاق في سبيله تعالى وعمل الصالحات مطلقاَ واجتناب الظلم والتعدي.
والإنفــاق في سبيله تعالى وسيلة لنيل القسمين اعلاه من النفع واحــراز المكاســب العاجــلة والعوض الكريم الى جانب الثواب الآجل.
والآية لا تنفي انتفاع الفقير من الصدقة واثر الإنفاق في المجتمع وتهذيــب النفــوس وتنقــية الصلات بين الفئات والجماعات والافراد حــين تخبر عن حصول النفع للذات، فاثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، ولكن ذكر النفع الذاتي وان الإنفاق خير للنفس جاء بالنظــر للجــانب الاهم في موضوع الإنفاق وهو الثواب ومضاعفة الاجــر، واعتبار الكم والكيف والمقدار والزمان، بل لا وجه للمقارنة بين الثــواب الاخروي وغيره لعظيم وكبر الفارق بين الامرين، أما شمول النفع للحياة الدنيا فلاصالة الاطلاق ولصيغة العموم والشمول التي يحمل عليها الوعد الإلهي ولانبساط قدرته تعالى على الافراد الطـــولية للنشــأتين، ولعمــومات قاعدة اللطف والحث على المواظبة على الصالحات.
ومن عظمته وسلطانه تعالى ان يرى عباده فضله عاجلاَ وظاهراَ، لذا ترى بعض النعم تأتي ابتداء من غير اسباب وعلل مادية كافية وعدم حصول الشرائط، اللازمة، وكثير من البلاءات تصرف بآية منه تعالى مع اجتماع اسبابها وانعدام الموانع، ومن الخير الظاهر والعاجل ان ترى الذين يبادرون الى الصدقات اقل الناس ديوناَ وانشغالاَ للذمة للآخرين بالمقارنة مع اقرانهم في العمل والموارد المالية، وتريد الآية اغتنام الحياة الدنيا في مرضاته تعالى.
وجاء الخطاب في الآية بصيغة الجمع ولكنه انحلالي، تقابل الفرد مع الفرد، والمجموع على المفرد فتكون الوجوه فيه متعددة وهي :
الأولى : إنفاق الجماعة، وتنتفع منه الجماعة والأمة.
الثانية : إنفاق الجماعة والأمة، وينتفع منه الفرد.
الثالثة : إنفاق الفرد لتنتفع منه الجماعة والأمة .
الرابعة : إنفاق الفرد، وينتفع منه الفرد.
لذا ترى الآية انتقلت من الخطاب للرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم وصيغة المفرد (ليس عليك) الى لغة الجمع وما تنفقوا لبيان السعة في لطفه تعالى وعظيم فضله واحسانه، فكما ان سبحانه يعطي الكثير بالقليل ويهب ابتداء من غير استحقاق أو مسألة، فانه تعالى يعطي الجماعة الكثيرة بفعل الفرد والواحد، ولا ينحصر هذا الفرد بذات الجماعة وشرط كونه احد افراد الجماعة أو القبيلة أو البلدة، بل هو عام يشمل المعدوم ايضاَ ممن مات أو لم يولد بعد وتلك مسألة وثواب ينفرد به مقام الربوبية من وجوه:
الاول: ان الثواب مستديم.
الثاني: كثرته وكيفيته بما يفوق حد التصور فضلاَ عن زيادته كماَ وكيفاَ عن ذات الفعل.
الثالث: ان الله عز وجل يفي بوعده ويزيد عليه من فضله.
الرابع: ان النفع للذات وللغير ولكن العطاء والجزاء منه تعالى.
الخامس: ترشح الفضل على الغير.
السادس: يمكن مجازاة المعدوم ولا يقدر عليه الا الله سبحانه.
كما يمكن ملاحــظة منافع الإنفاق بحسب الموضوع والأثر المادي وهو:
النفع للمنفق نفسه.
النفع للمنفق عليه.
لغيرهما.
ولا تعارض بين هذه الوجــوه، فالثـلاثة ينتفعون من الإنفاق مع قلتــه، ومن منافــع الإنفاق على الفــريق الثاني اعلاه اذا كان كافراَ الدعــوة الى الإســلام واقامة الحجــة عليه واحاطــته علماَ بما يأمــر به الله من الاخــلاق الحميــدة، ومقابلته بجحود الانسان وظلمه لنفسه وللآخرين بالاحسان والمدد والاعانة، ولا يرضى أحد ان يعين ويساعد عدوه بما يوظفه لاســتمرار العــداوة خصــوصاَ اذا كانت عداوتــه على باطل وبغير حق.
وليس هناك اكثر ظلماَ من الكافر ومع هذا تأتي الآيات بجواز الإنفاق عليه لان الأمر لا يتعلق به على نحو الخصوص، بل ان النفع يعود للمسلم اذ يتخذ من قضاء حاجة الفقير طريقاَ الى الجنة ويقيم الحجة على الكافر، ترى ايهما اكثر نفعاَ الصدقة على الفقير المسلم أم الفقير الكافر.
الجواب: للاول حسن ذاتي وعرضي بحسب الحال والشأن، والصدقة على المسلم هي الافضل والاحسن، وقد تكون للصدقة على الفقير الكافر مزايا حسن اضافية كما لو كان القصد هدايته للإسلام واعانته للتخلص من الكفر.
كما انه ليس من تعارض بينها في كثير من الاحيان لما جعله الله عز وجل من سعة في المال والإنفاق مع الاقرار بان الاولوية للمحتاج المسلم، الا مع وجود اسباب وعناوين ثانوية اضافية، والصدقة على المسلم نفســها دعوة للكافر للإيمان وبيان لقبح ما عليه من الكفر والجحود لان الصدقة تظهر الاخوة الإيمانية وان الإسلام موضوع مبارك لنيل المساعدات، وهو افضل وسيلة للمحبة والتعاون والتكامل الاجتماعي والاقتصادي.
ويُراد من لفظ (النفس) الجوهر المتعلق بالأجسام تعلق التدبير والتصرف، ولكن هل يمكن وجود معاني اخرى للنفس في حال مجيئتها بصيغة الجمع وبلحاظ مناسبة موضوع الانفاق، لا يبعد هذا ليكون من ضمن المعاني الإسلام والدين، والنظام الاجتماعي والاخلاقي للمسلمين بل للناس جميعاَ لما يضفيه الاحسان والإنفاق والكرم من الرضا والود والمحبة.
ومن معانى النفس ذات الشيء فالنفع يأتي للمسلمين على نحو مباشر ويتعلق بالبدن والصحة والسلامة من الآفات والزلازل والفيضــانات، واذا كان حبس الزكــاة يســبب حبس السماء لقطرها، فان اعطاء الزكاة لمستحقيها يؤدي الى الخير والبركة ونزول الامطار وازدهار التجارات وصلاح المعاشات، وفي الآية الى المعفرة والعفو الإلهــي فانه سبــحانــه يدفــع بمن يــزكي وينفــق مــن امــواله عـمــن يقصـر ويبخل في الصدقة الواجبة والمســتحبة في الحياة الدنيا امهالاَ وحلماَ ورحمة.
وجاءت الآية باطلاق صفة الخير على كل انفاق، وهل يخرج منه الخبيث والردئ سواء لان القرآن نهى عنه كما في قوله تعالى [ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ]( ) أم لانه ليس من افراد الخير ويخرج منها بالتخصص أو التخصيص، بمعنى انه لو انفق الانسان من الردئ فهل يقبل منه، وهل يحتسب من الخير أم فيه تفصيل، فيحتسب من الخير اذا لم يملك الانسان غيره، ولا يحتسب منه اذا كان يملك غيره وقادراَ على الإنفاق من الجيد.
الاقوى انه يحتســب من الخيــر مطــلقاَ خصــوصاَ وانــه ورد صــفة بانه إنفــاق بقــوله تعالى (مِنْهُ تُنفِقُونَ) وان النهــي عن الإنفــاق منــه نهي ارشــادي تنزيهــي لا يتعــارض مع عمــومات الثواب، ثم ان الآية الكريمة تشـــير ضمناَ الى موضوع النـفــقــة ومادة الإنفاق بقوله تعالى (لاِأنفسكُمْ) أي ان النفــع الــذي يعــود لكــم بمقــدار ما تنفـقــون ونــوعــه.
فليس من ينفق القليل مع قدرته على الكثير كمن ينفق الكثير من امثاله وأقرانه، أو من ينفق القليل وهو لا يستطيع الإنفاق الا بقدره، الا ان يكون في الخبيث ضرر أو اهانة أو اساءة فيتغير الموضوع ويتبعه تغير الحكم قهراَ وانطباقاَ، وقد تقدم ان النهي عن إنفاق الخبيث انما هو لمنفعة المنفق والأمة، وتبعث النفقة على الود والمحبة للمنفق وتجعل النفوس تميل الى نصرته واعانته والذب عنه لان انفاقه عنوان تزكية له في اخلاقه وسمته وهو شهادة له عند الناس والملائكة.
جاءت (ما) حرف نفي ولا تعمل شيئاَ لانها دخلت على جملة فعلية، كما ان نفي النفي اثبات، فالآية تؤكد استدامة قيام المسلمين بالإنفاق في سبيله تعالى واخراجهم للزكاة وعلى نحو عام واستغراقي لان الآية جاءت بصيغة الجمع، ولا عبرة بالشاذ والقليل النادر، يعطي شخص فيحتسبه الله عز وجل عن الأمة والجماعة من غير تضييع أو تفريط لثواب الفرد بل يأتيه ثواب اضافي وفق هذه القاعدة لانه رائد قومه الى الخير وداعية الى الله بنفسه وماله ومن يخرج حقوقه الشرعية بين اناس مقصرين أو من يبادر قبل اصحابه له ثواب اضافي للاسوة والمبادرة التي تدل على الإيمان، والثقة بفضله تعالى، والتقيد بأحكام الشريعة لذا يعود النفع على النفس.
وتنفي الآية عن الذات الضرر من افعال المشركين والمقصرين فقد يقول قائل ان انفقت على هذا فانه يستعمل ما تعطيه في غير مرضاة الله أو انه لا يستحق الصدقة لتقصيره او عدم حاجته وفاقته، فجاءت الآية للاخبار بان النفع من النفقة يعود للانسان المنفق ذاته، نعم لو ثبت ان الفقير يستعمل الصدقة في المعصية والكفر والجحود، كما لو كانت الصدقة تساعد الكافر على البقاء والاصرار على كفره، أو انها تعطى لمن ينفقها بالمحرم ويشتري بها النواهي وآلات المعصية فلا يجــوز اعطــاؤه وهــو خارج بالتخصص من آيات الإنفاق شرعاَ وعقلاَ واصناف المستحقين حتى بالنسبة لصدقة التطوع بالعنوان الثانوي وقاعدة تقديم الاهم على المهم.
فالآية بشارة وسكينة ورفع للحرج ومانع من التردد في الإنفاق واخبار بان الخلل والنقص في تصرف الفقير المحتاج لن يضركم، وكذا لا ضير على المنفق من كفر المنفق عليه ما دام القصد وجه الله ورجاء الثواب، وفي الآية حرز وسلامة للمنفقين من الاقاويل والتصدي واساءة اهل الحسد وعداوة البخلاء والذين يحجبون الحقوق الشرعية.
ان الإنفاق في سبيل الله متعدد الوجوه، وهو جهاد ضد النفس وكما ان التملك والرغبة في الحيازة غريزة متأصلة في النفس، فان الإنفاق يواجـه بالمقاومة من النفس الشهوية والغضبية، وهو جهاد في مواجهة اهل الحسد والجهل، وفي اختيار مواطن الانفاق.
فجاءت هذه الآية لقهر اسباب المقاومة للجهاد ومنعها من التأثير على النفس، ولتكون محرضاَ على رفع الصدقة الى الفقير عند حصول امارات ظنية تظهر استحقاقه وعدم التردد والتأخر بانتظار ادلة قطعية وما يمنع سوء الظن واقاويل الاخرين وبينت الآية موضوعية الغاية والقصد وهو ان تكون الصدقة لوجهه تعالى وطلباَ لمرضاته.
وتطرد الآية الوهم والشك من النفس الانسانية فقد تحتاج النفس اوهـام الرياء وارادة الســمعة والشهرة بالعرض أو على نحــو الخاطــر فجــاءت الآيــة بعدم الالتفات اليه وعــدم اعتبار مثل هــذا الوهــم اذا طــرأ على البال او جــاء مقارناَ للصـدقة، فقد يشعر الانسان بلزوم الصدقة في مناسبة يجتمع بها الناس ويدرك انه لن يستطيع ان يساعد هذا الفقير الا في هذه الساعة وحضــور هذا المحفل مع أولــوية قضاء حاجته، ولكنه يحجم عن التصدق خشية الرياء في ذات نفسه أو اتهامه بالرياء فيفوته الثواب.
وقد لا تتجدد الفرصة له بذات الإنفاق لان الفرص الاخرى مناسبات مستقلة يتصدق بها هو سواء تصدق هنا أو لم يتصدق، فلا يحتسب عوضا أو بديلاَ لما فاته من مناسبة كريمة للتصدق، كما ان الذين يرمونه بالرياء والسمعة ان تصدق أمامهم هم أنفسهم ينعتونه بالبخل وحبس الحقوق الشرعية ان لم يتصدق أمامهم وبحضورهم، ويضرون أنفسهم ويسببون في فوات الثواب وتعطيل الأحكام والحيلولة دون الصلاح.
فجاءت الآية الكريمة لمنع الضرر ونفي الحرج ورفع الموانع فالآية مواجهــة وتحـد وعــون للتغــلب على عوائق الإنفاق في ســبيله تعالى وتظــهر اعانته تعالى لمن يريـــد وجهــه تعــالى وانه يمده بما يجعــله يــؤدي وظــائفــه الشــرعية ويقــوم بالإنفاق في سبيله تعالى.
وتدعو الآية الى عدم التطلع الى العوض من المستحق نفسه سواء باظهاره للصلاح أو بثنائه وشكره أو باجتنابه للذنوب والمعاصي لان الله عز وجل هو الذي يجازي وهو الغاية في التصدق.

بحث بلاغي
جاءت الآية بصيغة الخبر وتتضمن ارادة النهي عن الإنفاق في غير مرضاة الله كما انها تحمل معاني الأمر بان يكون الإنفاق بقصد القربة والطاعة لله تعالى.
وصيغة الخبر تفيد الثبوت والدوام والإتصال في صيغ الإنفاق واجتناب الخلط في الأعمال والإنفاق.
فالنهي عن الإنفاق في غير وجوه الطاعة ومرضاة الله مستديم وثابت.
بحث بلاغي آخر
وذكرت هذه الآية في اطلاق الخبر على الطلب أمراً أو نهياً، وقيل انه أبلغ من صريح الأمر أو النهي، وجاء الخبر لتوكيدها، ولكن الآية القرآنية أعم من المفهوم البلاغي.
فالآية تعني حسن استجابة المسلمين، والدعوة الى المبادرة الى الإنفاق والحث عليه، والاخبار عن علمه تعالى بما يتصدق به المسلمون، وان شرائع الإسلام راسخة ومتوارثة يتعاهدها المسلمون، ومن منافع قصد القربة حصول التكافل الاجتماعي في القرآن.
بحث اصولي
يقسم الواجب بلحاظ القصد والنية الى قسمين، واجب توصلي، وواجب تعبدي، وفيه مسألتان:
الأول: ان النقاش في الكبرى وهو افادة الصيغة الوجوب بعد الإختلاف فيها وانها قد تفيد الندب أو الجامع المشترك بين الوجوب والندب.
الثاني: ان تقسيم الواجب الى التعبدي والتوصلي أعم من ان ينحصر بالصيغة، بل يشمل الجملة الخبرية التي تتضمن البعث والداعــي الى الفعــل وتشــمل الجملة الإنشائية وما يقصد به الأمر.
والواجــب التوصلي مطلوب بذاته من غير صفة زائدة وقصد الداعــي الإلهي للأجـــزاء بمجــرد وجــوده في الخارج بلا شرط سواء كان في اصــل التشــريع أو في قصــد الإمتثــال، وقيل: وقد تطلق التوصلية ويراد منها “عدم اعتبار المباشرة أو عدم اعتبار الإرادة والإختيار”.
ولكنه من اوصاف ومفاهيم الواجــب التوصــلي وليس هو تعريفاً له، فعــندما يقال يســقــط بمجرد وجــوده في الخــارج فانه يــدل في مفهومه على عدم اعتبار المباشرة وان كان عدم الإعتبار هذا ليس مطــلقاً، فقد تعــتبر المباشــرة بحســب الدليل واللحاظ والمناسبة والموضوع.
وكذا بالنسبة لإعتبار الإرادة والإختيار، فانها من لوازم الإيجاد المطلق الخالي من الشرط والقيد، فالمدار والمائز بين الواجب التعبدي والتوصلي هو قصد القربة وارادة ابراء الذمة بالإمتثال.
وقيل: “ان التوصلية هي ما لم يكن تشريعه لأجل اظهار العبودية” ولكنها ليست مجردة من صفة العبودية وطلب مرضاته تعالى ولو بقصد الرجاء والتوسل، ويجب ان يكون طلب مرضاته سوراً جامعاً لأفعال العباد والبحث عن مائز آخر بين التعبدي والتوصلي ثم ان المدار في التقسيم على فعل العبد وشرط وكيفية الإمتثال وليس اصل التشريع، واستدل برد التحية وانه لا يعتبر فيه قصد التعبد ومع ذلك يعتبر فيه المباشرة، مع ان رد التحية واجب، وغالباً ما يقصد به العبد رجاء الأجر والثواب، ويتجنب الانسان الإمتناع عن ردها لما فيه من الإستكبار والعصيان للأمر الإلهي، قال تعالى [ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا ]( ).
وقد ذكرت في التوصــلي والتعبــدي والفــرق بينهما وجوه وتعريفات:
الأول: ان التوصلي هو الذي يكون الغرض منه معلوماً للمأمور، والتعبدي هو الواجب الذي لا يكون الغرض من الأمر به معلوماً للمأمور.
ونسب هذا التعريف الى القدماء باعتبار ان المأمور اذا لم يعرف غرض الأمر يفعله امتثالاً لأمره لا لأجل تحصيل غرضه أما اذا عرف الغرض فانه يفعله لأجل ذلك الغرض.
ولكن هذا التعريف يحول دون وجود تقسيم خارجي عقلي، ويســتلزم اســتحضار مصاديق الواجب والبحث في كل منها بلحاظ الغـــرض والملاك والمصــلحة في تشريعه والإمتثال له، ومعرفة هذا الغرض أمر متعذر في الغالب وقد يحصل على نحو جهتي، صحيح انه وردت بعض الأخبار في علل الشرائع واسرار الأحكام ولكنها لا تصلح للتمييز والتفريق بينها بل انها تفيد التداخل الى جانب تخلف الأوهام عن ادراك الغرض من التكليف، كما ان هذا التعريف يختلف عن التعريف المشهور للتعبدي والتوصلي.
الثاني: ان التعبدي لا يحصل الا بقصد القربة ويؤتى به للتعبد، أما اذا كان يحصل باتيانه سواء قصد به القربة أو لم يقصد ولا يؤتى به للتعبد، فهو توصلي.
وهذا التعريف هو المشهور ويستلزم معرفة مواطن قصد القربة في الأفعال والإمتثال.
الثالث: التعبدي هو الواجب الذي تعتبر فيه المباشرة والإختيار، أما التوصلي فلا تعتبر فيه المباشرة ولا ارادة، ولو حصل بلا ارادة واختيار كزوال النجاسة عن الثوب الملقى تحت المطر فتحصل طهارته مع عدم الإختيار والإرادة، وكذا فان التوصلي قد يتحقق بالمحرم كما لو غسل الثوب في المكان المغصوب بخلاف التعبدي وهذا من لوازم المعرف وليس هو التعريف.
الرابع: التوصلي ما تفرغ الذمة باتيانه في الخارج ولو بغير قصد القربة أو المباشرة، أما التعبدي فيشترط لابراء الذمة فيه المباشرة والعزم وقصد القربة عقلاً وشرعاً فلا يسقط الأمر في التعبدي الا بقصد القربة أي ان قصد القربة شرط في المأمور به، أما التوصلي فيسقط الإتيان به.
والمراد من قصد القربة هو قصد الإمتثال للأمر الإلهي تعبداً وطاعة، وان يشعر المكلف بالعبودية وان الأداء عليه واجب شرعي وطاعة للخالق وسعي في رضاه.
ومنهم من قيد التعبدي بانه الواجب الذي لا يتحقق الغرض منه بمجرد اتيانه ووجوده في الخارج بل لابد من قيد قصد القربة وامتثال الأمر عند الإتيان بمتعلقه وهو الأصح في التقسيم، ولابد من ارادة ونية كما في الصيام فلو نام نهار الصوم واستيقظ منه الغروب ولم يتناول المفطرفلا يصح اعتباره له يوم صيام اذا لم تسبقه النية في ذات الليلة أو في اول شهر رمضان.

قصد القربة
وهو الاتيان بالفعل بقصد الامتثال لأمره تعالى وارادة التقرب الى رحمته ونيل رضاه سبحانه لأن الفعل محبوب له، أو رجاء نيل ثواب الفعل كالصلاة في الآخرة أو للنجاة من عذاب النار، واجماع المسلمين على ارادة قصد القربة عند الإمتثال على وجوه :
الأول : ان قصد القربة شرط شرعي من متعلق الأمر.
الثاني : انه أمر اضافي آخر مع الواجب المأمور به، وكأن الواجب التعبدي مركب وينحل الى الأمر بالإمتثال وقصد القربة.
الثالث : انه قيد عقلي لصدق الإتيان بالمأمور به.
ولا مانع من تداخل هذا الوجوه، واختلف في مفهوم قصد القربة على اقوال:
الأول : انه عبارة عن قصد الأمر فقط، لذا أنكر بعض العلماء الثمرة من بحث الضد لعدم مدخليته في قصد الأمر لكفاية عدم الأمر بالضد على فساده ولإستحالة الأمر بالضدين، وبما ان الضد غير مأمور به فيقع كعبادة فاسداً.
الثاني : قصد الله تعالى سبحانه كما قال في الروض، ويكفي عن الجميع قصد الله سبحانه الذي هو غاية كل مقصد.
الثالث : الإتيان بالواجب التعبدي امتثالاً لأمره سبحانه.
الرابع : قصد المصلحة التي صارت سبباً للأمر.
الخامس : موافقة طاعته تعالى، وفسرت الإطاعة بالإرادة، وقال في الروض “بمعنى موافقة ارادته” كما ان الطاعة والإمتثال من المترادف في الجملة.
السادس : ما يكون موجباً لمرضاة الله.
السابع : المراد من قصد القربة هو التشبيه بالقرب المكاني، فيكون العبد ساعة الواجب التعبدي منقطعاً الى الله تعالى.
الثامن : الإتيان به بقصد التقرب الى الآمر.
التاسع : ان الفعل حسن ذاتاً، وللملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.
العاشر : ان الآمر مستحق لأن يطاع واهل لأن يعبد ولا تجوز معصيته.
الحادي عشر : رجاء الثواب والطمع في بلوغ منازل النعيم في الآخرة.
الثاني عشر : الخوف من عقابه سبحانه، واجتناب النار التي اعدها للكافرين والجاحدين والعاصين لأوامره، وما ورد عن الإمام علي عليه السلام: “ان قومــاً عبــدوا الله رغبــة فتلـك عبادة التجــار، وان قوماً عبــدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وان قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار”(1)، لا يعني الذم لمن عبد الله رغبة أو رهــبة ولكــن الحديث جـاء لبيان مراتب العبودية وصيغ الكمال فيها.
الثالث عشر : الإتيان بالفعل شكراً له تعالى على نعمة الخلق والإيجاد والرزق والصحة وغيرها.
الرابع عشر : الأمل في نعم اضافية مستحدثة.
تفسير قوله تعـالى [ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ]
بعد ذكر غاية الإنفاق في سبيل الله وابتغاء وجهه تعالى جاءت هذه الآية لبيان الجزاء والوفاء به.
ورد لفظ (خير) ست وسبعين ومائة مرة في القرآن، وجاء مكرراَ في تسع آيات، ولابد لهذا التكرار من دلالات تتعلق بمادة الخير وذوات الآيات وعلة وغايات التكرار وموضعه خصوصاَ وان الخير عنوان جامع لوجود المعروف والصلاح والحسن الذاتي، كما ان هذا التكرار ليس قليلاَ.
وقراءة في الآيات والموضوعات التي ورد فيها التكرار تظهر اهمية الانفاق، لان التكــرار ورد في خير الآخرة، وفي فريضة الصيام بقوله تعالى [ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ]( ) وهذه الآية وردت اضافة الخير للأنفس، وورد في مدح المسلمين كخير أمة اخرجت للناس، والإنفاق من الباقيات الصالحات، قال تعالى [ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً ]( ).
وفي الآية شرط ومدح وأمل ووعد وجزاء، وتخفيف عن المسلمين فقد ورد في الامم السابقة قوله تعالى [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، أما بالنسبة للمسلمين فقد جاء الوفاء والجزاء بالإنفاق في ســبيله تعالى لان دخــول الإسلام واتيــان الفرائض من الوفاء بالعهــد والامتثال للاوامــر الإلهية، كما ان الوفاء جاء في الآية على نحو الشرط والعهد الإلهي، بضمان الجزاء وعدم تضييع الإنفاق كثيراَ أو قليلاَ لان (من خير) وردت للتبعيض والجزئية.
فالآية لم تقيد الجزاء بالإنفاق الكثير أو الواجب منه دون المستحب، باعتبار ان اداء الزكاة الواجبة افراغ للذمة وبقصد القربة واستجابة للأمر الوجودي الذي لا يحتمل الترك أو التخيير وهو عبادة وفرع من فروع الدين وضرورة من ضروراته، ولا المستحب دون الواجب باعتبار ان المستحب تطوع وجاء عن اختيار العبد للتصدق رجاء الجزاء والثواب وهو تجارة مع الله وادخــار كريم، فلغة الاطــلاق ظاهرة في الآية، والوفاء يشمل الصدقة الواجبة والمستحبة، والوفاء في الآية بحسب زمانه يحتمل وجوهاَ:
الأول : الوفاء والجزاء في الحياة الدنيا.
الثاني : الوفاء والجزاء في الدار الآخرة.
الثالث : الوفاء في النشأتين الدنيا والآخرة.
والاصح هو الوجه الاخير لانه تعالى واسع كريم، ولو تردد الأمر بين الاقل والاكثر، فانه سبحانه يعطي بالاوفى والاكثر والاتم، وهل يختلف الجزاء في الدنيا عنه في الآخرة، الجواب: نعم في الكم والمقدار والزمان وطول المدة واذا كان الجزاء في الآخرة غير ظاهر للعيان، فانه والجزاء في الدنيا ظاهران للقلوب والابصار، ولكنه جزء من فلسفة الحياة الدنيا والابتلاء فيها، واذا كان من مصاديق الجزاء في الآخرة الرزق الكريم والنعيم الدائم فانه في الدنيا عبارة عن النماء في المال والزيادة في الرزق وصرف الامراض والبلاء الا ما شاء الله.
وجاء قوله تعالى ( اليكم) للتوكيد ونيل المسلمين الجزاء مجتمعين ومتفرقين لما فيه من مضامين الاداء ، وظاهر الوفاء ان ذات الشيء المنفق هو الذي يوفى، ولكن هذا لم يقل به احد في خصوص موازين المعرفة الإلهية، ولكنه امارة على المثل والجزاء في الدنيا الى جانب الثواب الاعظم والجزاء الاكبر يوم القيامة.
وفي الآية اشارة الى فقر وحاجة الناس يوم القيامة اليه تعالى، لذا سمي يوم القيامة بانه يوم الفاقة، فالملك حينئذ لله عز وجل وعلى نحو الاطلاق فلا اشتقاق للغير من ملكه وليس من اجارة أو بيع، فلابد ان الجزاء حينئذ يكون رحمة ومغفرة لذنوب متعددة وستر للعيوب والفوز بالنعيم الخالد، ومن الجزاء النجاة من النار.
وتبعث الآية الصبر في قلوب المؤمنين، فقد ينفق المسلم أمواله ويرى نوع بلاء وداء يتعرض له، فيتطلع الى الجزاء أو انه لا ينفق في سبيل الله أو يحصر صدقته على الواجبة، وهي دعوة للإنفاق وهداية الى طرق النجاة والسلامة، وتعتبر الصدقة من افضل الوسائل لدفع البلاء وصرف الأذى.
ولجهة صدور الوعد موضوعية في فعل الانسان، واتيانه بما ينال معه الوعد يتوقف على أمور تتعلق بالوعد منها:
الأول : صدق الوعد.
الثاني : كبر ومقدار الموعود به.
الثالث : زمان الوعد.
الرابع : الحاجة الى الموعود به.
الخامس : الفعل الذي يتعلق به الوعد.
السادس : المقارنة بين الفعل ونوع الوفاء والجزاء.
وكما ان هناك فارقاً عظيماً بين الخالق والمخلوق، والواجب والممكن، والغنى والمحتاج، فان الوعد الإلهي يختلف عن أي وعد آخر في جميع الوجوه الستة اعلاه، وهو فرصة لان يسبح الانسان في عالم الملكوت ويعيش احلاماَ حقيقية يعجز الخيال عن تصورها وليس من عالم غريب يعيشه الانسان مثل الرؤيا في المنام والسياحة في فضاء الخيال الرحب، ولكن السعادة بالرؤيا الحسنة منه تتبدد لغة الاستيقاظ.
والحزن من الرؤيا المحزنة والمؤذية يستمر حتى بعد اليقظة لما تعقبه في النفس من الانذار والفزع والخوف، أما الوعد القرآني فانه سعادة في اليقظة وحافز للعمل وهو من اللطف الإلهي بالترغيب في الطاعة وبيان منافعها.
وفي علم الاصول قاعدة تسمى (قبح العقاب بلا بيان) ويمكن ان نضيف لها وجهاَ آخراَ وهو ان البيان أعم من صيغ الانذار والوعيد، فيشمل الوعد الكريم بالثواب على الامتثال وبيان المنافع العظيمة للصالحات والإنفاق في سبيله تعالى.
ولقد تكرر لفظ ( تنفقوا) ثلاث مرات في آيتين من القرآن هذه الآية، وقوله تعالى [ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ]( )، ولكن الإنفاق فيها يتعلق بمؤونة الزوجة وأحكام النفقة عند الفصل بين المسلم والكافرة، والمسلمة والكافر، وهو نوع جهاد وتنظيم للحياة الاجتماعية للمسلمين.
أما الآية محل البحث فجاءت بالبحث على الإنفاق وعلى نحو الاطلاق والعموم الشامل لكل المسلمين والمسلمات واعانة الفقراء والمحتاجين ومحاربة الفقر والفاقة قربة الى الله تعالى، فجاء التكرار للتوكيد والاخبار عن اهمية الإنفاق والترغيب فيه والوعد الكريم بالجزاء الاوفى.
وهل يحق للانسان ان يتطلع الى التأدية والوفاء في الدنيا، واذا كان الجواب بنعم فهل يكون هذا الجزاء هو الوحيد وكانه استعجل واستوفى جزاءه في الدنيا، الجواب: يحق له ان يتطلع للجزاء في الدنيا ولمن يكون هذا الجزاء بديلاَ عن جزاء الآخرة وما يعنيه من الثواب الجزيل والنفع العظيم.
وتدعو الآية الى المسارعة في الخيرات والمسابقة في الصدقات ضمن الممكن والتنافس في الإنفاق والمبادرة الى الصالحات، وكما ان الإنفاق الواجب في ذاته عبادة فانه مقدمة ومدخل لاداء العبادات الاخرى وهذا من الاعجاز القرآني ان تأتي الآيات القرآنية بالترغيب بدفع الزكاة، وهذا الترغيب يكون بالاخبار عما أعد الله للمنفقين، فيقوم المسلم بالإنفاق وهو يتطلع للتأدية والوفاء الإلهي سواء كان الإنفاق قليلاَ أو كثيراَ لان الآية جاءت مطلقة، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “افضل الصدقة جهد المقل الى الفقير في سر”.
تفسير قوله تعالى [ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ]
جاءت خاتمة الآية قاعدة كلية واخباراَ كريماَ ومصداقاَ للعدل الإلهي، ومع وروده في هــذه الآية فقد ورد قوله تعالى [ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ] في آية اخــرى من القــرآن وجــاءت بخصوص الإنفاق [وَمَا تُنفِقــُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبــِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
مما يعني ان هذا الشطر من الآية لم يأت الا بخصوص الإنفاق وقيدته هنا انه في سبيل الله لتكون بياناَ وتفسيراَ وقصد الإنفاق الوارد في الآية محل البحث، وكونه في سبيل الله لا يعني حصره بالمسلم الفقير والمحتاج فقد يكون الإنفاق على الكافر بقصد دعوته الى الإسلام وترغيبه باحكامه واظهاراَ لسننه واحترازاَ وتقية من أذاه.
وفي الآية اشارة الى الجزاء على العطاء والإنفاق في سبيله تعالى وايصال الثواب لهم وتنزيه مقام الربوبية عن فعل القبيح والاحلال بالوعد ومن عدم الظلم استيفاء الحق من الغير، فالآية تحث على تأدية الوعد والوفاء به وعدم حصول النقص في ثواب الإنفاق بل مطلق الاعمال الصالحة التي يأتي بها المسلمون، وعدم الظلم لا ينحصر بمقدار الجزاء بل بالكيف والنــوع وترتــب الاثر، والحــق ان الجزاء أعم من عدم الظلم فهو اضعاف الاستحقاق وفق موازين العدل وحسابات العوض وبدل الانفاق، فلماذا اخبرت الآية عن الحد الأدنى هو عدم الظلم فيه وجوه:
الأول : ان الفضل العظيم في ثواب الإنفاق يظهر في ثنايا الآيات القرآنية لاسيما مجموع هذه الآيات التي جاءت خاصة بالإنفاق في سبيله تعالى والترغيب فيه وبيان منافعه وفوائده العامة والخاصة وكيف ان الثواب يأتي مضاعفاَ واكبر من حد التصور والاحصاء.
الثاني : الآية ضابطة عامة في فلسفة الثواب والعقاب وان الظلم منتف ومعدوم عنده تعالى، فالظلم قبيح، وواجب الوجود منزه عن القبيح.
الثالث : عدم الظلم جاء مطلقاَ ويشمل الدنيا والاخرة.
وبخصوص ثواب الإنفاق وعلى فرض انه في الدنيا والآخرة كما تقدم وليس في الآخرة فقط كما هو المشهور، فان الثواب هل يكون واحداَ منبسطاَ ومنقسماَ على الدنيا والآخرة، كما لو جاء العبد بالحسنة والنفقة، وكتبت بعشر امثالها أو اكثر كثيراَ كما هو ظاهر الآيات فيكون ربع الثواب مثلاَ في الدنيا وثلاثة ارباعه في الآخرة، أم ان الثواب في الدنيا غير الثواب في الآخرة، وكل منها مستقل عن الآخر ولم ينقص منه شيئاَ، الجواب: هو الاخير والله واسع كريم، فمن مضاعفة الثواب تعدده وتباين موضوعه وكيفيته.
وهل يكون الثواب في الدنيا العوض والبدل بمقدار النفقة ذاتها كما ورد العوض المماثل في قوله تعالى [وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]( )، الجواب: لانه قياس مع الفارق، لان الآية تتعلق بالتوبة والمعاملات بين الناس وعدم الظلم في التعامل بين الناس غير عدم الظلم في موازين العدل الإلهي، سواء كان يعني زيادة الأجر والثواب أو المقدمة لها.
والضمير (انتم) في عائديته وجوه:
الأولى : المسلمون جميعاَ.
الثانية : الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله منهم.
الثالثة : الناس جميعاَ.
الرابعة : المنفقون لاموالهم والفقراء والمحتاجون الذين يأخذون الصدقات.
والاصح هو الوجه الاول لان كل فرد من المسلمين أما انه في ماضي حياته في سبيل الله، او انه سينفق في المستقبل، كما انها تشمل الفقراء منهم لان ثواب الإنفاق يتغشى الجميع وتنتفع منه الأمة جميعاَ كأمة وكأفراد، ولا مانع من شمول الآية للناس ولكن بالمعنى الأعم وهو عدم تعرضهم للظلم والله عز وجل هو الغفور الرحيم.

قوله تعالى[لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ] الآية 273.

الاعراب واللغة
(للفقراء الذين احصروا) للفقراء: جار ومجرور في محل خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: صدقاتكم للفقراء، الذين: اسم موصول، صفة للفقراء، أحصروا: فعل ماض مبنى للمجهول، الواو: فاعل، والجملة لا محل لها من الاعراب لانها صلة الموصول.
(في سبيل الله) في: حرف جر، سبيل: اسم مجرور مكسور، وهو مضاف، ولفظ الجلالة مضاف اليه.
(لا يستطيعون ضرباَ) لا: نافية، يستطيعون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، الواو: فاعل، ضرباَ: مفعول به منصوب: والجملة في موضع نصب على الحال.
(يحسبهم الجاهل اغنياء) يحسبهم: فعل مضارع، الهاء: مفعول اول، الجاهل: فاعل مرفوع، اغنياء: مفعول به ثان.
(تعرفهم بسيماهم) تعرف: فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر تقديره انت، والهاء: مفعول به، والجملة حال ثالثة للفقراء، بسيماهم: الباء: حرف جر، سيما: اسم مجرور وهو مضاف، والهاء: مضاف اليه.
(فان الله به عليم) الفاء: رابطة لجواب الشرط، ان: حرف مشبه بالفعل، لفظ الجلالة: اسم ان، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، به: جار ومجرور، عليم: خبر ان مرفوع بالضمة.
وقرأ عاصم وعبدالله بن عامر وحمزة (يحسبهم) بفتح السين، وهو المرسوم في المصاحف، وقرأ القراء الآخرون بالكسر، والفتح هو اجود اللغتين.
وفي التهذيب قال بالعكس، وكل فعل ماضيه مكسور، يكون مستقبله مفتوح العين مثل رغب يرغب، وذكر حسب من الشواذ بالكسر.
وروى الازهري عن جابر بن عبد الله الانصاري: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ: (يحسِب ان ماله اخلده) بكسر السين، وما في المصاحف بالفتح.
الحصر: الحبس يقال حصرني الشيء واحصرني أي حبسني، وحصره حصراََ: ضــيق عليه وأحــاط بــه، وقــد تقــدم ان الاحصار اصطلاح لتعذر اداء الحاج المناسك بسبب طرو المرض ونحوه)( ).
وضرب في الأرض يضرب ضرباَََ وضرباناَ: خرج فيها وغادر بلدته ساعياَ، والضرب على وجوه:
الأول : الخروج للتجارة ومنه المضاربة في المال وهي القراض التي تتقوم بطرفين، مالك للمال، وعامل يتجر به ويباشر العمل.
الثاني : للغزو والقتال .
الثالث : للكسب وطلب الرزق والعمل في بلد غير بلده.
الرابع : السفر (يقال: ضرب في الأرض اذا سار فيها مسافراَ فهو ضارب)( )، ويقال ضرب في سبيل الله يضرب ضرباَ: نهض.
والجهل نقيض العلم، وقد يأتي في مقابل المعرفة، وبينهما عموم وخصوص من وجه، فقد يكون عالماَ غير جاهل ولكنه لا يعرف شيئاَ مخصوصاَ ولا علم له بعلم معين كالطب مثلاَ، فلا يُقال لمن لا يعرف اسراره انه جاهل.
ويُقال: (مثلي لا يجهل مثلك) ( ).
وفي الحديث: (ان من العلم جهلا) أي بذل الوسع لتعليم ما لا تنفع معرفته ولا يضر جهله، أو الاحاطة بالبدع في الدين مما لا يحتاج اليه في حياته، او تكلف ما لم يحصل على مقدماته.
وحسب الشيء كائناَ يحسبه حساباَ ومحسبة: ظنه.
ويقال يعف عفه وعفافاَ وعفافة فهو عفيف، أي كف عن المحارم وسؤال الناس واختار الصبر والزهد، ويقال تعفف واستعفف.
والسومة والسيمة والسيماء: العلامة، وفي الحديث ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم بدر للمسلمين: “سوًّموا فان الملائكة قد سوّمت) أي ليجعل كل واحد منكم علامة تميزه اقتداء بالملائكة واســتعداداَ للقتــال واعتزازاَ بمنازل الإيمــان وتحدياَ للكفر وبعثاً للفزع والخوف في قلوب المشركين، ولكي تعرفكم الملائكة.
ويقال سوّم فلان فرسه: اذا اعلم عليه بحريرة او بقطعة من قماش ولون وعلامة يعرف بها.
وفيه اعجاز ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم اراد توثيق الاعمال القتالية للمسلمين الاوائل لحفظها في التأريخ، ويدل بالدلالة التضمنية على العلم بحصول الظفر والنصر على المشركين.
ويقال أنشد لأسيد ابن عنقاء الفزاري يمدح عُميلة حين قاسمه ماله:

غلام رماه الله بالحسن يافعا

له سيمياء لا تشق على البصر

كأن الثريا علقت فوق نحره

وفي جيده الشعرى، وفي وجهه القمر

له سيمياء لا تشق على البصر أي يفرح به من ينظر إليه.
قال ابن بري : وحكى علي بن حمزة أن أبا رياش قال: لا يروي بيت ابن عنقاء الفزاري : غلام رماه الله بالحسن يافعا إلا أعمى البصيرة لأن الحسن مولود ، وإنما هو: رماه الله بالخير يافعا)( ).
والحف الرجل: ألحّ، ومنه الإلحاف أي شدة الإلحاح في المسألة، قال بشار بن بُرْد:

الحر يُلحى، والعصا للعبد

وليس للملحف مثل الرد

وفلسفة التنزيل والنصوص في خصوص السائل أعم واوسع، وكذا بالنسبة للعبد خصوصاَ بلحاظ اسلامهما، روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “من سأل وله أربعون درهما فقد ألحف”.

في سياق الآيات
بعد بيان أحكام الإنفاق والحث عليه والاخبار عن ثوابه العظيم وما يؤدي اليه من الصلاح والهداية، وبعد ان ذكرت الآيات جواز اعطاء الصدقات للفقراء مطلقاَ، جاءت هذه ا لآية للتخصيص والتوكيد على الفقراء الذين ارصدوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله والدفاع عن الاسلام، وشغلتهم المناضلة عن الكسب والسعي في ابواب الرزق.
ويبين الاسم الموصول في هذه الآية والآية التالية طرفي الإنفاق والزكاة.
إذ تذكر آية البحث مستحقي الزكاة الذين احصروا أي حبسوا لبيان أنهم ليسوا كسالى ولا تاركين للعمل ، وورد الاسم الموصول في الآية التالية لخصوص الذين ينفقون في سبيل الله ، بقوله تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ]( ).
والنسبة بينهن وبين دافعي الزكاة عموم وخصوص مطلق ، إذ يشمل الإنفاق في سبيل الله الصدقة المستحبة والهبات ، والنذر والكفارة ، وصلة الرحم.
إعجاز الآية
تنفي الآية الحرج في اختيار وتعيين جهة الإنفاق والمستحقين الذين تعطى لهم الصدقات، ويعتبر الوصف الكريم للمؤمنين من ذوي الحاجة غاية في البلاغة وسبر اغوار النفس الانسانية، كما يساهم في ايجاد الثقة في النفس وتنمية العز في صدور الفقراء والمحتاجين، ولا ينحصر هذا الوصف بالفقراء بل يشمل الآخرين من الاغنياء واهل السعة فيرمى الذي يغفل عن حاجتهم بالجهل والقصور والعجز عن معرفة حقائق الاشياء.
وتخبر الآية عن علمه تعالى بما ينفقه المسلمون ليكون هذا الإخبار تحريضاَ على الصدقة ووسيلة للاقبال على اعانة هذا الصــنف من الفقــراء، لان اعانتهــم نصــر للدين وتثبيــت للأحكام ومشاركة فيما يستحقونه من الأجر والثواب، ومن اعجاز الآية انها تعالج مسألة فرعية لاصلاح الأمة وانظمة المعاملات فيها، وتمنع من الاضرار العقائدية لعدم التوفيق باختيار موضع الصدقة.
ويمكن ان تسمى هذه الآية (آية الفقراء والتعفف).
الآية سلاح
تعتبر الآية سلاحاَ مركباَ وعيناَ للمسلمين اذ ترشدهم لمواضع الإنفاق وتمنع من التفريط واعطاء الصدقات لغير مستحقها، فقد يحرص المسلم على اخراج زكاة امواله ولكنه لا يحسن ايصالها الى مستحقها، فتبقى آثار الفقر تهدد كيان المجتمعات وتسبب في حصول اضرار عقائدية واخلاقية، لان ما قصد لم يقع، وما وقع لم يقصد.
والآية عون للفقراء عامة لانها تبين مراتب الأولوية في الحاجة واستحقاق الصدقات، ودعوة للمسلمين كافة للإنفاق في سبيله تعالى لانه سبحانه يعلم الإنفاق وعلمه به يعني الثواب العظيم وعدم تضييعه.
مفهوم الآية
تنهى الآية في مفهومها عن اعطاء الاولوية لغير المجاهدين في سبيل الله لان فيها تضييع لحق المجاهدين واضرار جسيم بالدين، لان اهمال حاجتهم وتفضيل غيرهم عليهم يسبب انكسار قلوبهم، ويساهم في بث الفرقة والشقاق ويجعل الوهن والضعف يتسرب الى جماعة المقاتلين ويضعف قدرتهم القتالية.
فاذا علم المرابط في الثغر أو الخارج في سبيل الله ان عياله يتضــورون جــوعاَ وليس عندهم ما يسد رمقهم، ويفتقرون للثياب واللباس الذي يقيهــم البرد والحر، وتبلغه اخبار بان غيرهم يتنعم بالحقوق الشرعية واموال بيت المال وينال النصيب الاوفى من الغنائم عند قسمتها، أو الاجور والعطاءات الشهرية عند توزيعهــا، فان قدرتــه على القتال تضعف ويتســرب السأم الى نفسه.
وكذا بالنسبة لمن اختار الهجرة في سبيل الله وترك الوطن ومحل العمل والكسب وقصد البلد والموضع الذي يحرز فيه سلامة دينه وينجو ببدنه من المشركين والكفار، فانه الأولى بالصدقات وبما يناسب شأنه، وتحذر الآية من تجاهله والاعراض عنه واعطاء الاولوية لغيره.
وتبين الآيــة آيــات العز التي يتمــتع بها المسلمون، وان فقيرهم يبدو غنياَ وهــو عنــوان قــوة للاسلام، كما تخــبر الآيــة عن وجــود حالات من البطالة عن العمل بسبب الاضطهاد والظلم والاضــطرار للهجــرة، ويجب ان لا يعاني هؤلاء من الحسرة والالم والتمييز الى جانب ما تحملوه من الفقر والجوع في سبيل الله.
ولم تذكر الآية العدد أو مقدار الاعانة لان العدد غير ثابت فقد يزداد عددهم في حالات الحروب والهجرة وشدة الابتلاءات العقائدية، فيكون من الضروري التبرع بالصدقات المستحبة والمندوبة لان الملاك هو تهذيب النفوس واصلاح المجتمعات ومنع التداعي والارباك وتفاقم الضرر وتحوله من القضية الشخصية الى قضية نوعية.
وتأمر الآية في مفهومها هؤلاء الفقراء بالصبر واظهار الصفة وارادة التحمل والرضا بما كتب الله لهم والتطلع الى فضله ورحمته تعالى، وتخبر بان السؤال ليس هو الطريق الوحيد لحصول الفقير على قوته، وان الله عز وجل ناصره وكافل رزقه، ومن وسائل هذه الكفالة دعوة الاغنياء الى اعانته واعطائه ما له من حق في اموالهم.
وفي الآية اشارة الى اهمية موضع الصدقات واختيار الفقير المستحق لها ودفعها اليه، فالزكاة قد تعطى الى الحاكم الشرعي ليقوم بصرفها في مصارفها حسب المصلحة، أو يقوم صاحب المال الذي تعلقت بذمته بتوزيعها على المستحقين، فجاءت هذه الآية امراَ للجميع ببيان الاولوية لما في الاعطاء لهؤلاء الفقراء من عز للإسلام وتقوية لشوكته ورص لصفوف المسلمين.
وقد وصفت الآية هؤلاء المستحقين بصفات ست هي:
الأول : الفقر.
الثاني : الاحصاء في سبيل الله.
الثالث : عدم القدرة على السعي في الأرض.
الرابع : التعفف وعدم اظهار حال الفقر.
الخامس : معرفتهم بعلاماتهم الظاهرة.
السادس : لا يسألون الناس الحافاَ.
وتدعو الآية المسلمين عامة الى التجمل والظهور بمظاهر العز والوقار وما يبعث على الهيبة ويقذف الفزع في قلوب الاعداء، فالآية في منطوقها تبين الصفات الكريمة لمستحقي الزكاة والصدقات عامة، وتجعل في مفهومها قواعد لضبط جانب من السلوك الاجتماعي بما يؤدي الى اصلاح المجتمع وارشاد الناس نحو العبادات ومنع التعدي والأذى.
وتخبر الآية عن وجود فقراء بين المسلمين ومنهم من يتصف بعلامات خاصة تؤهله للاولوية، الا ان تلك العلامات ليست ظاهرة لعامة الناس، فاشارات الآية الى صفاتهم في اعانة على معرفتهم والتأسي بهم بالصبر، فكما ان الأمة مدعوة للتعلم من هؤلاء الفقراء السعي في سبيل الله وما فيه من مفاهيم المعرفة الإلهية، فان اظهار هؤلاء الفقراء التجمل والتعفف مع الحاح الحاجة عليهم وشعورهم باداء ما عليهم مدرسة في الاخلاق والسمو.
ومن الأمور الفطرية عند الانسان ان يتطلع الى الثواب والجزاء ورد الجميل بل حتى الهدية يتوقع ان يسدى له مثلها أو احسن منها، فهولاء الفقراء يشعرون بمشاركتهم في بناء المجتمع وتثبيت دعائم الدين ويرجون من المسلمين الجزاء الجميل بشمولهم بالزكاة كحق وواجب، ولكن هذا الرجاء لم يظهر على ألسنتهم أو في افعالهم، بل لم يتركوا أثراَ يدل عليه بالدلالة التضمنية أو الالتزامية، وجاهدوا من جديد ولكن مع أنفسهم باخفاء فقرهم وعوزهم فاستحقوا من الله الذكر الجميل في القرآن وتوثيق فعلهم الحسن ليكون اسوة للمسلمين كافة، خصوصاَ وان كل انسان يحتاج الصبر وهو في معرض الحاجة، لأنها من الصفات الملازمة للممكن، والانسان من عالم الامكان.
ومن مفاهيم الآية انها حث على الدعاء وطلب الرزق منه تعالى، فان التعفف مع الحاجة من افضل وجوه التوكل على الله ورجاء احسانه، ومن الاعجاز في الآية انها لم تحصر الإنفاق بهؤلاء الفقراء فاخبرت عن علمه تعالى بكل إنفاق مما يعني الثواب الجزيل لمطلق الإنفاق ما دام خيراَ في مادته وموضوعه وموضعه وحكمه.
ومن الفقراء الذين احصروا في سبيل الله من لا يستطيع السعي والكسب ولكنه يسأل الناس أو تبدو عليه امارات الفقر بسبب عدم اختياره التعفف فهل تشمله الآية، الجواب نعم، لاجتماع الفقر واسبابه الإيمانية عنده، ولكن الاولوية تبقى لمن اجتمعت عنده الصفات الستة وعدم الغفلة عنه، فقد يظن بعض الناس ان الصدقة للفقير الذي يسأل الناس، فجاءت هذه الآية لتمنع حصول قاعدة وملازمة بين الفقر والسؤال.
إفاضات الآية
لكل آية بركة وافاضة تترشح على خصوص من يتلوها أو يستمع اليها او يسمعها والمسلمين كافة بل الناس جميعاَ بحسب اختلاف الناس وتعدد وجوه منطوقها ومفهومها وموضوعها وحكمها.
والبركات في هذه الآية اكثر من تحصى، فقد ذكر فريق من الفقراء بأوصاف غاية في المدح وهو تشريف قرآني، ودعوة لإكرام الفقراء مطلقاَ والصابرين في جنب الله منهم خاصة، تعففوا عن السؤال فكساهم الله من نوره، ولا تنحصر بركات الآية بهؤلاء بل تشمل الفقراء جميعاَ لان البحث عن الفقير الممدوح بهذه الصفات يؤدي الى اعانة غيره من الفقراء لاكتشاف حاجته أو لحيازته بعض صفات المدح.
وتشمل الاغنياء بهدايتهم الى مواضع قبول الصدقة ولزوم اعانة اخوانهم الذين حبسوا في ذات الله لتزكية وتطهير اموالهم، ولمشاركة الصابرين في ثوابهم وليأتيهم الأجر والثواب لانهم حالوا دون اللجوء لسؤال الناس.
ومن بركات الآية الإخبار الكريم بعلمه تعالى بالصدقة والإنفاق والذي يعني بالدلالات الثلاث المطابقية والتضمنية والالتزامية العوض العاجل والثواب الدائم.
والآية حث على مزاولة العمل وعدم الاعتماد على الآخرين، لان عدم السؤال يدفع الانسان الى الاجتهاد والابتكار، وقيل الحاجة أم الاختراع، فالآية تأمر المحسنين والاخيار معرفة هؤلاء الفقراء لإعانتهم، وفيها اشارة الى ازدهار العمل والصناعات في الاسلام.
بحث تأريـخي
ذكر ان الآية نزلت في فقراء المهاجرين، وكانت بدايات الإسلام درساَ عقائدياَ للمسلمين في كل زمان يقتبسون منها سنن التشريع والمعاملة وكيفية معالجة ما يواجههم من الامور والابتلاءات، فقد اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة المنورة داراَ لهجرته ومحلاَ لبث دعوته في الجزيرة والعالم مع ان بلده الاصلي هو مكة وهو اشرف بقاع الأرض لان فيه البيت الحرام وهو اول بيت وضع للناس، اختارها والتجأ اليها من اضطهاد وبطش قريش وتعنتهم وكفرهم وجحودهم مع ما له من المكانة الاجتماعية سواء من خلال اسرته وقومه وعظيم منزلتهم في مكة، او من خلال شخصه الكريم وما عرف عنه من الامانة والصدق والخلق الرفيع، والآيات التي جاء بها لاثبات نبوته.
فلابد ان اصحابه الذين اسلموا وصدقوا به يلقون العناء أشد منه بالاولوية القطعية لعدم احرازهم الصفات السامية التي عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءت الهجرة نجاة وسلامة لهم من العذاب، وهناك شواهد كثيرة على تعرض افراد من المسلمين الى التعذيب الشديد وقد مات بعضهم تحت طائلة التعذيب لانه أبى مغادرة الإسلام والتخلي عن مبادئه.
وقد توجه بعض المهاجرين كعبد الرحمن بن عوف الى السوق وميادين العمل والكسب، وقام الانصار بقسمة اموالهم معهم ولكن سوق العمل في يثرب لم تستطع استيعاب المهاجرين الذين يتدفقــون عليها، كما ان المهاجــرين ليســوا جميعاَ مــن اهل العمل والتجارة، فتعتبر هذه المسألة من اكبر المسائل الاجتماعية التي تواجه الإسلام في أيام الدعوة، ويمكن ان تهدد الحالة الاجتماعية وتكون مناســبة لنشاط المنافقين والجاحــدين ونشر حالة من التذمر والاستياء منهم خصوصاَ وان اليهود كانوا موجودين في المدينة ولهم تأثير في شؤون التجارة وما يتفرع عنها من الاعمال.
لقد وصل عدد فقراء المهاجرين الى اربعمائة تقريباَ ويمكن معرفة عمــق المشكلة بلحاظ صــغر المدينة وقــلة الموارد فيها وهؤلاء ليس لهم عشائر وذو قربى أو مساكن في المدينة، فجمعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صُفة، – بضم الصاد، وهو موضع مظلل في باب المسجد ليكون مكاناَ يأوى اليه الغرباء والمساكين عندهم منزل، وهذا الجمع آية في التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والعسكري والاخلاقي والعقائدي والسياسي والفقهي والمعاشي.
أما بالنسبة للاجتماعي فانه مناسبة للتعارف بين المسلمين وتدارس شؤونهم وتفقد احوالهم وايجاد صلات اخوية بينهم، اما الاقتصادي فان تجمعهم هذا مناسبة لأخذ الايدي العاملة وتوظيف بعضهم كل حسب اختصاصه وقدرته، وهو دعوة لايجاد مشاريع زراعية واعمال لاستثمار الطاقات، وفي اجتماعهم في باب المسجد تخفيف عن أهل المدينة وطرقاتها.
وأما العسكري ففيه وجوه:
الأول : انهم حرس وحماية وعين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمسجد النبوي، وعون لعامة المسلمين في المدينة.
الثاني : لو تعرض المسلم للاعتداء فان هؤلاء يهبون لنجدته ونصرته.
الثالث : الصُفة معسكر دائم في انذار مستمر للتصدي لأي تعد على الإسلام أو شخص الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهي قوة لتهديد الاعداء.
الرابع : يعرف اهل الصُفة القادم الى المدينة من القبائل الاخرى فيكونون عيناَ وحصناَ ومانعاَ من وجود الجواسيس والاعداء بين المسلمين، لان المهاجرين من قبائل شتى، وجاءوا من مناطق مختلفة.
الخامس : يستطيعون تقديم المعونة والنصيحة بخصوص القبائل التي تحيط بالمدينة وعدد رجال كل منها وكيفية دعوتهم للاسلام، والطرق المؤدية للقرى والمدن القريبة، وصيغ مباغتة الممتنعة منها ووسائل فتحها.
السادس : كان اهل الصُفة يخرجون في كل غزوة، واعلنوا انهم يخرجون في كل سرية، وهذا من الآيات في التنظيم فقد كان جمعهم في الصُفة لمنع الاضرار بهم وبالمجتمع، وايضاَ للانتفاع منهم في اهم القضايا التي تواجه الاسلام، علماً بانهم لا يلحون على العودة من الغزو فلا مساكن وعوائل واولاد يحرصون على العودة اليهم قبل الأوان والفتح.
أما الاخلاقي فان جمعهم مناسبة للاصلاح والهداية واجتناب النفس الشهوية والسبعية الغضبية، وهو عون على التخلص من العادات القبيحة والاخلاق الذميمة، وفيه حفظ وتعاهد لأمــن المدينة، وقطــع الطــريق أمــام الذين يحــاولون الكيد للإسلام ونسبة بعض الحوادث كالسرقة والاعتداء الى الغرباء من المسلمين، فلا احد من اهل الصُفة يغادرها ليلاَ، بل ان بعضهم يذكر ويشجع البعض الآخر على صلاة الليل وتلاوة القرآن.
أما الجانب العقائدي ففيه وجوه:
الأول : جمعهم في باب المسجد مناسبة كريمة لتلقي أحكام الدين والاحاطــة بالتنزيل وامكــان رؤيــة الرسـول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم والاستماع منه مباشرة أو من كبار الصحابة.
الثاني : حضور الصلوات اليومية الخمسة جماعة ليكونوا عنوان الكثرة وكبر الجماعة وما فيه من الثواب، فكلما كانت اعداد المصلين في الجماعة اكثر كان الثواب اكثر، الى جانب ما تعنيه الكثرة من القوة والمنعة، وتبدو تلك الكثرة في بدايات الإسلام حاجة ووسيلة للدعوة للإسلام.
الثالث : تبعث كثرتهم السكينة والطمأنينة في قلوب المسلمين والمسلمات، لان الكثرة عنوان القوة والمنعة، ومجيئهم من مناطق مختلفة يدل على انتشار الإسلام والإيمان بالرسالة.
الرابع : الحضور الدائم في باب المسجد دعوة للناس لدخول الاسلام، وشاهد على قوة المسلمين، وتظاهرة فكرية ودينية مستديمة.
الخامس : الاجتماع المستمر مناسبة لتلقي الأحكام والتفقه في الدين والانقطاع الى العبادة، وتعليم بعضهم البعض الآخر.
السادس : يعتبر اهل الصُفة نواة ثابتة للجيش الاسلامي.
السابع : اتخاذ موضعهم ومسكنهم مكاناَ لتعليم من يدخل الإسلام أحكام الصلاة والعبادات، خصوصاَ وان القادم من المدن والقرى الاخرى غالباَ ما يحل ضيفاَ عليهم.
الثامن : يظهر هذا الاجتماع والسكن حال التواضع التي عليها المسلمون ورضاهم بالقليل مما يدل على صدق الاسلام، وقد خرج من الصُفة من اصبح والياَ في الامصار أو قائداَ للجيش.
التاسع : في الصُفة واجتماع المسلمين هذا مناســبة كريمة لتدارس القرآن وحفظ الآيات وتعليم الكتابة والقراءة بعد ادراك اهميتها.
أما السياسي ففيه مسائل:
الأول : ان الصُفة قوة ومنعة للإسلام، ومن خلالها تظهر المواهب والقدرات السياسية، وتبرز المؤهلات الشخصية وتعرف الأنساب.
الثاني : يحصل ود ومحبة واخوة إيمانية بين المسلمين ويألف كل منهم الآخر.
الرابع : يمتنع اختراقهم أو ايقاع الفرقة بينهم.
الخامس : من اهم الاخطار والمصاعب التي واجهت الإسلام في بداياته ان العرب كانوا قبائل متفرقة يكثر بينها الغزو والمعارك واسباب العداوة، والتفاخر بالانساب واعطاء الاولوية للانتماء القبلي، وتلك امور راسخة لا تزول بسهولة سواء من عالم الافعال أو الاقوال، فجاءت الصُفة وباجتماع المئات من المسلمين دعوة عقائدية للاتحاد باسم الإسلام ونبذ الفرقة والخصومة والشقاق، وهجر الولاءات القبلية والعشائرية.
السادس : فيه تحد لاعداء الإسلام واثبات عملي لوحدة المسلمين وان اختلفت اصولهم القبلية والبلدية والقومية، لان الصراعات القبلية آنذاك مثال مصغر لاسوء احوال التباين بين الامم والبلدان، ومع هذا فان الإسلام آخى بين ابناء القبائل المتناحرة من الوهلة الاولى، فكذا بالنسبة للأمم والشعوب فان الإسلام هو السبيل للتخلص من النزاعات والصراعات ليس لحلها فحسب بل ان الإسلام يقضي عليها ويمنع من أثرها ويحول دون ظهورها مرة اخرى.
السابع : تعتبر الصُفة مقدمة لدخول المعارك والتوجه نحو الغزو والمرابطة في الثغور والوجود الإيماني في المدن، فلو ظل العرب على تشتتهم واولوية الانتماء القبلي لانشغلوا بالخلاف بينهم وسهل على العدو التغلب عليهم، أو لا اقل يحصل عندهم ميل وانحياز وفق اعراف العشيرة فيفزع لنجدة من كان من قبيلته، ويتخلف عن نصرة غيره، ولا يستجيب لأمر الاول ويعصي أمر الثاني، ولا يرضى بالأمرة الا ان تكون له أو لاخيه وابن عمه، ويمنع التشتت والفرقة وقد يحول دون دخول الاقوام الاخرين في الإسلام والانخراط في صفوفه، لانه يعكس صورة سيئة عن الواقع السياسي والاجتماعي للمسلمين، فجاءت الصُفة لتنقية الصلات وتهذيــب الافعال وترســيخ مفاهيم وقيم الإسلام في النفوس.
أما الجانب الفقهي ففيه مسائل:
الأول : ان اجتماع اهل الصُفة مدرسة فقهية نظرية وعملية يتلقى فيها المسلمون شيوخاَ وشباباَ أحكام العبادات والمعاملات ويتعلمون اداء الصلاة وواجباتها وكيفية الوضوء.
الثاني : متابعة مراحــل التنزيل وما يستحدث من الوقائع والاحداث، ويتلقون بشوق تفسير الآيات القرآنية وما لها من دلالات.
الثالث : الاستماع بانصات الى خطب واحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد النبوي.
الرابع : يرجع اليهم بعض الصحابة ممن يفوته استماع كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر أو احاديثه الاخرى، ويسألونهم عن آخر ما نزل من القرآن.
الخامس : الصُفة مجمع وثائقي لحفظ القرآن والسنة ولكن في صدور المؤمنين، لذا ورد وصف المسلمين في الكتب السماوية السابقة بان (صدورهم اناجيلهم)، ومناسبة لتعلم القراءة والكتابة.
السادس : الصُفة مدرسة اعداد رسل الإسلام الى البلدان والقبائل لتعليمهم أحكام الشريعة وتلاوة القرآن.
السابع : ان جمع المسلمين في باب المسجد وباعداد غفيرة ومن غير تقييد بعدد، وفتح باب الدخول لهم من غير اشتراط الحصــول على اذن في السكن الا النطق بالشــهادتين يدل على صدق الرسالة الاسلامية واعجاز القرآن، لان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جعلهم قريبين منه ليشهدوا بأم اعينهم آيات الرسالة ويدركوا صدقها، ولم يحاول تغييبهم أو اشغالهم بمسؤوليات كبيرة أو يسكنهم بعيداَ عن المسجد.
الثامن : لقد كان مسكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجاوراَ للمسجد النبوي الشريف، مما يعني ان اهل الصُفة جيران رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه مسائل:
الاولى: إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للفقراء وسروره بمجاورتهم.
الثانية: نفي الغربة والوحشة عنهم لانه قريب منهم وهو لهم أب رؤوف.
الثالثة: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتابع شؤونهم ويلحظ احوالهم ويعطف عليهم وهو أمر يختلف كماً كيفاً مع البعد وعدم الجوار.
الرابعة: امكان ايصال حوائجهــم وما يعــانون منـه الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دون حواجز أو حاجب .
الخامسة: خشية الآخرين من ايذائهم أو تعييرهم أو النظر لهم باستخفاف لانهم بلا سكن ولا مأوى، وفعلاَ لم تر في التأريخ ما يفيد توجيه اهانة أو اساءة لهم .
السادسة : الصُفة جامعة لحفظ وتعلم السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية، واستمر المسلمون بعد انتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الاعلى بالرجوع الى أهل الصُفة لتلقى احاديث الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفة سنته واستنباط الدروس والمواعظ والأحكام منها.
وأما بالنسبة للجانب المعاشي فان القدوم الدفعي للمسلمين الى المدينة ومجيئهم جماعات وافراداَ يعتبر مشكلة معاشية كبيرة للحاجة الى توفير مستلزمات معيشتهم، ولكن البركات الإلهية تتغشى الإسلام في بدايات الدعوة وأيام الحياة الدنيا، فوجودهم في باب المسجد يومياَ يسهل اطعامهم ويمنــع من ازعاجهم للآخرين واهل المدينة مطلقاَ ويحفظ لهم عزهم، فكانوا ينتظرون مجيء الغزاة أو من يأتي لهم بالطعام أو يتصدق عليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتفقدهم في دخوله وخروجه من المسجد.
وعن ابن عباس: (وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماَ على اصحاب الصُفة، فرأى فقرهم وجدهم فطيب قلوبهم، فقال:ابشروا يا أصحاب الصُفة فمن لقيني من أمتى على النعت الذي أنتم عليه راضياَ بما فيه فانه من رفاقي) ( ).

السنة النبوية وأهل الصُفة
أخرج ابو نعيم عن الحسن قال:” بنيت صُفة لضعفاء المسلمين فجعل المسلمون يوغلون إليها ما استطاعوا من خير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهم فيقول السلام عليكم يا أهل الصُفة فيقولون وعليك السلام يا رسول الله، فيقول كيف أصبحتم فيقولون بخير يا رسول الله فيقول أنتم اليوم خير أم يوم يغدى على أحدكم بجفنة( ) ويراح عليه بأخرى ويغدو في حلة ويروح في أخرى، فقالوا نحن يومئذ خير يعطينا الله فنشكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنتم اليوم خير”( ).
وتعتبر الصُفة مدرسة جهادية وأخلاقية واجتماعية في الاسلام، فهي موضوع مبارك لإلقاء الضوء على جانب من السنة النبوية، وبيان المنهجية للتعامل مع أمثالهم ولزوم العناية بهم، فالقرآن أوصى بهم، وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفسير عملي للقرآن.
ويبين الحديث حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تفقدهم، وفي حديثه معهم اخبار غيبي عن تحسن أحوالهم والنعم والبركات التي ستتغشى المسلمين، وكأن في حديثه إنذاراً من الإنشغال بها عن الجهاد، او ان تكون سبباً للخلاف والفرقة، أو انهم في خير يوم كانوا في الصُفة لوجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم.
ان السنة النبوية وسيلة إيمانية لترســيخ مضمون الآية في الوجود الذهني، وسبب للعمل بها ودعوة لعدم التفريط بأحكامها.

التفسير
تفسير قوله تعالى [ لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ]
ذكرت في الآية وجوه:
الأولى : انهم منعوا أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش خوف العدو من الكفار لان الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة، وكانوا متى وجدوهم قتلوهم)( ).
الثانية : الذين اصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصاروا زمنى فاحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في الأرض، وبه قال سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير.
الثالثة : انهم قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله فعذرهم الله، عن ابن عباس.
الرابعة : هم مهاجروا قريش بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمروا بالصدقة عليهم، عن مجاهد.
الخامسة : حصروا أنفسهم للغزو فلا يستطيعون تجارة، عن قتادة.
السادسة : هم أصحاب الصُفة، عن ابن عباس.
وهذه الوجوه من مصاديق الآية وتتعلق بأسباب النزول ولا تعارض بينها في الجملة، ولكن الآية أعم موضوعاَ وحكماَ وزماناً مكاناً من وجوه:
الأول : بقاء أحكامها الى يوم القيامة.
الثاني : السعة والعموم الذي يظهر من قوله تعالى [ أُحْصِرُوا ].
الثالث : قيد الفقر لأنه عنوان الحاجة واستحقاق الصدقة.
الرابعة : يكفي في الاحصار مسماه وصرف الطبيعة لينطبق الحكم على المسمى.
الخامسة : الآية ترغيب في الجهاد.
والآية اعجاز قرآني آخر في باب الانفاق والصدقات من وجوه:
الاول: التخفيف عن المسلمين في تعيين الجهة التي تستحق الزكاة والصدقة.
الثاني: حصول حالة من الارتقاء الفقهي عند المسلمين بمعرفة اصناف المستحقين.
الثالث: الالتفات الى علة الأولوية في الإنفاق لتكون قاعدة كلية ومدرسة في معرفة الضوابط التي تجري عليها الأولويات وشرائط التقديم والاستحقاق في الإعانة والتقديم في الرتبة والمنزلة والشأن.
الرابع: قيد في سبيل الله يدل على ارادة الفقراء المسلمين الذين آمنوا بالرسالة وتحملوا الأذى في جنب الله.
الخامس: المواساة لفقراءالمسلمين، والدعوة للصبر على الفقر والحاجة.
السادس: معرفة المسلمين كافة لموضوعية الجهاد في سبيله تعالى ولزوم تدارك ما يلحق المجاهدين جماعات وافراداَ من الاضرار والعوز والفاقة بسبب الانقطاع للجهاد والانشغال عن كسب المعاش.
السابع: بعث الطمأنينة في نفس المنفق عند الاعطاء فلا يبقى قلقاَ أو في شك من القبول، بل يدرك احرازه باختياره للمجاهد الذي اصبح فقيراَ بسبب جهاده .
الثامن: تحريض المسلمين للجهاد في سبيله تعالى واختيارهم بتأمين ضرورياتهم وحاجاتهم المعاشية عند مواصلتهم للجهاد أو طول الغيبة في الغزو، فقد يتخلف المزارع عن الغزو حتى موسم الحصاد والحاصل، او يضطر للرجوع ليدرك أيام الحرث والبذر، فتأتي هذه الآية لتسد الخلة، وتمنع من الارتباك والنقص في ميادين القتال والثغور وتبعث السكينة في نفوس المقاتلين، وتجعل لهم نوع ضمان نسبي عند عودتهم الى مدنهم وقراءهم بعد انتهاء الغزو، وان لم يرجعوا الى زراعة أو حرفة أو صنعة تؤمن معيشتهم، وكان الرجل من اهل المدينة اذا أكل وعنده فضل أتى به اهل الصُفة اذا أمسى.
التاسع: الآية دعوة للحكومات الاسلامية لتغطية نفقات وحاجات المقاتلين والمجاهدين والمرابطين في الثغور، وتأمين المعاش لهم في بقية ايام عمرهم عندما يكونون عاجزين عن العمل خصوصاَ وانهم لم يستثمروا شبابهم لتعلم الصنائع والمهن وجمع الاموال، واعانة الشباب منهم في فرص العمل وسد حاجاتهم.
العاشر: تنفي الآية حصول المقاتلين على غنائم شخصية تغطي حاجاتهم وعلى نحو مستديم، أي انها تبين في مفهومها وجهاَ مشرقاَ وهو ان المسلمين لم يكونوا يقصدون في غزوهم وقتالهم النهب والسلب انما كانوا يبغون نشر كلمة التوحيد وحمل الناس على الهداية والإيمان، الا ترى ان من قال لا اله الا الله عصم في دمه وماله وعرضه، بالاضافة الى قواعد الذمة وعدم التعرض لاهل الكتاب معها.
الحادي عشر: الآية جواب عن سؤال محتمل من قبل المسلمين لمن نعطي الصدقات ومن هم الأولى بها الذين لا يمكن ان يطرأ شك باستحقاقهم لها.
الثاني عشر: الاولوية الواردة في الآية لا تمنع من استحقاق غيرهم، لعمومات الآيات الاخرى، وقد ورد في آية الصدقات قوله تعالى [ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ] ( )، وهل يمكن تقييد آية الصدقات بهذه الآية، وان المراد من الفقراء فيها هم الفقراء الذين احصروا في سبيل الله باعتبار ان القرآن فيه مطلق ومقيد، الجواب: لا، لعمومات الادلة والنصوص والسنة النبوية الشريفة، وكفاية الاستحقاق بالفقر كصرف للطبيعة ومعلم للحاجة، ولكن هذه الآية تفيد الاولوية والاهمية خصوصاَ وان هذا الصنف من المحتاجين من مقومات دوام الزكاة نفسها باعتبار انهم حماة الإسلام والذابون عن مبادئه.
الثالث عشر: تبعث الآية اليأس في قلوب اعداء الإسلام من جهة حصول الخذلان في صفوف المقاتلين بسبب الفقر والحاجة.
الرابع عشر: لقد كان اليهود في المدينة وبعضهم يتربص بالمسلمين، فلعله كان ينتظر تشتت الجنود والمقاتلين بسبب الفقر، فتأتي هذه الآية لتقطع أمله وتبث الرعب في نفسه، وتخبره وغيره ان القرآن نازل من عنده تعالى لانه يسد الفرج ويمنع من الخلل وحصول النقص الذي يتوقعونه.
الخامس عشر: أحكام هذه الآية دعوة للآخرين لدخول الإسلام باظهار قوته ومنعته وضمان حاجات المقاتلين والمحتاجين والأمر الإلهي بالتكافل الاجتماعي.
السادس عشر: الآية دعوة للرفق والاحسان الى الجرحى والزمنى من المقاتلين لشمولهم بأحكام الآية، وهي في مفهومها حث للمقاتلين على الاستبسال في القتال وعدم خشية الجرح والاعاقة والاصابة، بالاضافة الى الشوق الى الشهادة.
السابع عشر: الآية مانع من التجافي عن نداءات الجهاد في سبيل الله، وهي حائل دون تذمر الاسر والعوائل من خروج أوليائها الى الجهاد وفي سرايا القتال، لان الآية نوع سد لحاجاتهم، وفعلاَ فانك ترى المسلمين يبادرون الى العناية بأسر المقاتلين وابناء الشهداء واعطائهم اولوية وحصة في موارد التنافس وقضاء الحاجات.
الثامن عشر: ذكرت الآية الاحصار على البناء للمجهول، أي انهم لم يختاروا الاحصار للاعتماد على الصدقات، بل ان الاحصار كان قهرياَ وبسبب انهم سخروا أنفسهم في سبيل الله.
وتبين الآية وجود مسلمين محتاجين وفقراء يستحقون العون والمدد، وهذا الفقر يحتمل وجوهاَ:
الأول : انهم بالاصل فقراء قبل ان يدخلوا في الإسلام .
الثاني : لا صلة بين فقرهم واسلامهم، بمعنى ان أسباب وموضوع الفقر جاءتهم بنحو منفصل عن الإسلام كاختيار وعقيدة متوارثة.
الثالث : ان الفقر بسبب اسلامهم واختيارهم الاسلام، أو تحملهم الأذى والعناء في سبيل الله، أو اختيارهم الهجرة من الاوطان والهروب من الظالمين حرصاَ على سلامة الدين والنفوس.
الرابع : انهم فقدوا اموالهم في الجهاد في سبيل الله والإنفاق في الخيرات.
الخامس : الذين اصيبوا بعاهات وجراحات جعلتهم عاجزين عن الكسب.
السادس : الذين جندوا أنفسهم للجهاد في سبيله تعالى، وفعل الخيرات والمساهمة في الاعمال والمشاريع التي يراد منها وجه الله وتعظيم شعائره.
السابع : من افنى شبابه في الجهاد والاعمال الخيرية والسعي في مرضاته تعالى وعمل الصالحات الى ان اصبح عاجزاً عن العمل أو كبر وهرم.
وهذه الوجوه كلها من مصاديق الآية الكريمة وتشملهم عموماتها، وتبين سعة الحكم وتعدد مواضع الصدقات، ونفي الحرج عن المسلم عندما يريد اختيار من يتصدق عليه، وهي حجة له وحجة على الناس ايضاَ.
وجاءت الآية الكريمة بمضامين الإكرام للفقراء والمحتاجين من المسلمين في مناسبة اعانتهم ودفع الصدقات لهم، خصوصاً وان مصاديق [ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ] متعددة وكثيرة، وهي من الكلي المشكك الذي يدل على أعيان متعددة بمعنى واحد ومفهوم واحد يشملها جميعاً، والاختلاف يقع في القوة والضعف، والكثرة والقلة، والتقدم والتأخر ونحوها، فمن اشترك في الغزو أو رابط في الثغور أو قام بخدمة أو بناء المساجد أو اصلاح طرق المسلمين أو نشر علوم الدين وقام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقصد القربة الى الله، ثم اصابه الفقر والعوز فهو من الفقراء الذين احصروا في سبيل الله ما دام عمله خالصاَ لوجه الله عز وجل وابتغاء مرضاته.
وقد يأتي الفقر في سبيل الله ابتداءً وفي سن الشباب كمن فقد عمله في سبيل الله وهو غني بالقوة والخبرة والحرفة ولكنه لا يســتطيع مزاولة العمــل بســبب عرضي طارئ لاختياره السلامة في دينه أو حفاظاَ على حياته كمسلم ومؤمن فتشمله الآية الكريمة.
ومن الآيات ان تأتي شواهد ذات أبعاد وحيثيات متعددة لتكون بياناً عملياً للآية القرآنية، وعوناً على العمل بها وعدم الإعراض عن مضامينها.
لقد جاءت الآية الكريمة بصيغة بلاغية تحتمل تعدد وجوه الاحصار ولكنها جميعاَ تلتقي في أمور:
الأول : الفقر.
الثاني : قصد في سبيل الله.
الثالث : عدم الضرب في الأرض وتعذر الكسب.
ليخرج من احصر في سبيل الله ولكنه ليس فقيراَ فلا تشمله الآية، ومن احصر ولكن لم يكن سبب أو علة احصاره في سبيل الله عز وجل يكون خارج الآية بالتخصيص، فمن الناس من احصر وهو عدو للدين أو كان مقصراَ غير ملتفت لواجباته فلما عجز عن العمل توجه الى الصدقات وادعى استحقاقه منها وانه من الذين أحصروا، لذا فان الآية لم تغفل عن التفصي والتعرف على اصحاب هذه الآية فذكرت قيد (في سبيل الله)، ولكنها لا تجعل التأكد من علة الاحصار وانه في سبيل الله واجباَ وشرطاَ في دفع الصدقات لأمور منها:
الأولى : قاعدة نفي الحرج في الدين .
الثانية : الاكتفاء بحسن الظاهر وادعاء الفقر الا ان يثبت خلاف الظاهر وما يدعيه.
الثالث : حمل عمل المسلم على الصحة.
الرابع : عمومات اعطاء الصدقات للفقراء مطلقاً.
وتبين الآية حسن الجزاء في الدنيا للمجاهدين والعاملين في سبيله تعالى بان أمر باعطاء الصدقات الواجبة والمستحبة لهم، وهو امارة على ضمانه سبحانه لرزقهم، فعلى فرض ان الناس قصــروا في ايصال الحقــوق الشــرعية لمستحقيها من الفقراء الذين احصــروا في سبيل الله فهل يبقون محرومين من ضروريات المعيشة.
الجواب: لا، وكأن الآية مركبة من أمرين، ان الله ضمن لهؤلاء الجزاء في الدارين ومنه الرزق في الدنيا وجعله بواسطة الزكاة الواجبة والمندوبة، فان لم تصل لهم الزكاة فانه تعالى واسع كريم يهيئ لهم اسباب المعيشة، ولكنه تعالى اختار لاصحاب الزكاة الثواب العظيم بنوع المستحق ليشاركون المجاهدين والباذلين أنفسهم في سبيل الله في ثوابهم ولو على نحو الاستصحاب القهقري فضلاَ منه تعالى، فهو قادر على احتساب ثواب المجاهد لمن اعطى للفقير الذي احصر في سبيل الله.
وتدعو الآية الكريمة الحكومات الاسلامية الى انشاء مؤسسات خاصة بضمان عطاء ثابت لمن احصر في سبيل الله، وعلى فرض ان الحكومة والمؤسسات الخيرية قامت بكفالته وسد خلته فهل يبقى مستحقاَ للزكاة، الجواب: لا، لانتفاء صفة الفقر، وعلى فرض انتفاء مثل هؤلاء الفقراء بكفالة معيشتهم فان العمل بالآية باق على حاله لان الحكم الشرعي يرد على نحو الغالب والقاعدة الكلية التي يعمل بها مع وجود مصاديقها وافرادها، ولان التخصيص بهؤلاء الفقراء جاء على نحو الاولوية وليس الحصر ولتعدد البلدان وتباين الاحوال، ومع وجود الموضوع يكون الحكم، ولأن كل آية من القرآن حية الى يوم القيامة.
ومن الاعجاز التشريعي للقرآن انه لم يحدثنا التأريخ ومنذ اكثر من الف واربعمائة سنة عن غياب هذه الطائفة من المستحقين، وتدعو الآية المسلمين الى الالتفات لمنزلة الذين سخروا ايامهم وسعيهم في مرضاة الله، ولزوم اكرامهم والتقرب الى الله بالاحسان اليهم ليعيشوا بسعادة ويواجهوا مشاق الحياة ويدركوا ان سعيهم لم يذهب سدى وان ما يلاقون من الإكرام مقدمة للدرجات العالية في الجنة.
وقيل أن المراد من [لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] أي حبسوا أنفسهم في سبيل الله هم أهل الصفة من فقراء المهاجرين ، لا يستطيعون الضرب والسفر في الأرض للتجارة والكسب ، وموضوع الآية أعم ، ترى لماذا لا يستطيعون ضرباً في الأرض ، الجواب من وجوه :
الأول : الإنشغال بالعبادة والذكر .
الثاني : الخشية من كفار قريش .
الثالث : كانت المدينة (يثرب) بلد زراعة ، يزرع فيها النخيل ، والخضروات والمهاجرون من قريش لا يحسنون العمل بالزراعة والحراثة والصعود إلى النخيل لتلقيحها أو جني الرطب منها .
الرابع : خروج المهاجرين من أهل الصفة وغيرهم في السرايا والمبعوث التي يرسلها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد يصاحبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتائبه والتي ترجع من غير غناُئم ومكاسب مالية وهم يمرون على أنعام وزروع المشركين .
وقد يطمعون فيها ويتساءلون لماذا لا يأخذون منها فتأتي الزكاة لإطفاء نار الحاجة ، ولبيان التكافل في الإسلام ولزوم الصبر بالرضا بالقليل من العطاء .
الخامس : قد يصل عدد أصحاب الصفة ثلاثمائة وقد ينقص والصفة.
والصفة نوع عويش بجوار المسجد النبوي يقيم فيه على نحو مؤقت المهاجرون الذين ليس لهم مأوى أو مسكن في المدينة ، وكان النبي والأنصار يعتنون بأهل الصفة واطعامهم.
و(عن عطاء بن السائب، عن أبيه قال: “أتى علي فاطمة فقال: إني أشتكي صدري مما أمد بالغرب فقالت: وأنا واللّه إني لأشتكي يدي مما أطحن بالرحى. فقال لها: ائت النبي صلى الله عليه وسلم فقد أتاه سبي، فإنه لعله يخدمك خادماً. فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه ثم رجعت إلى علي قال: ما لك؟ فقالت: واللّه ما استطعت أن أكلم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من هيبته. فانطلقا معاً، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ما جاء بكما لقد جاءت بكما حاجة؟ فقال علي: أي يا رسول اللّه، شكوت إلى فاطمة مما أمد بالغرب وشكت إلي يديها مما تطحن بالرحى فأتيناك لتخدمنا خادماً مما أتاك من السبي. فقال: لا، ورب الكعبة، ولكن أبيعهم وأنفق أثمانهم على أصحاب الصفة الذين تطوى أكبادهم من الجوع فلا أجد ما أطعمهم به. قال: فلما رجعنا فأخذنا مضاجعنا من الليل أتانا النبي صلى الله عليه وسلم وهما في خميل لهما والخميل القطيفة البيضاء من الصوف ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم جهزها بها، وبوسادة محشوة إذخر وقربة، وكان علي وفاطمة حين ردهما وجدا في أنفسهما وشق عليهما، فلما سمعا حس النبي صلى الله عليه وسلم ذهبا ليقوما. فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: مكانكما. ثم جاء حتى جلس على طرف الخميل، ثم قال: إنكما جئتماني لأخدمكما خادماً وإني سأخبركما بما هو خير لكما من الخادم، تسبحان الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وتحمدانه ثلاثاً وثلاثين وتكبرانه أربعاً وثلاثين إذا أخذتما مضاجعكما من الليل فذلك مائة. قال علي: فما أعلم أني تركتها بعد. فقال له عبد اللّه بن الكواء: ولا ليلة صفين. فقال له علي: قاتلكم اللّه يا أهل العراق، ولا ليلة صفين)( ).
وذيل الخبر (قاتلكم اللّه يا أهل العراق) لا أصل له ، وقد ورد الخبر من غير ذكر له ، إذ ورد باسناد سفيان عن عطاء بن السائب يرفعه ، فقالوا له (ولا ليلة صفين ، قال : ولا ليلة صفين).
وعلى قول فرض قول ابن الكوا فهو فرد واحد ومخالف لأهل العراق في ولائهم للإمام علي عليه السلام ، وقتالهم تحت لوائه فكيف يأتي رد من الإمام علي في ذم أهل العراق على سؤال ابن الكوا .
كما ورد في سند البزار (قال له علي عليه السلام : قاتلك الله ولا ليلة صفين).
ويبين الحديث إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الصفة ، وحرصه على الإنفاق عليهم ، وموضوعية التشيع في جلب الرزق الكريم لأهل البيت والمؤمنين.
و(اسم ابن الكوا عبد الله بن أوفى) ( ).
و(عن أبي الطفيل قال : قال علي بن أبي طالب سلوني عن كتاب الله عز و جل فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل أنزلت أو بنهار أو في سهل أو جبل قال فقال ابن الكوا فما : الذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا .
فقال علي بن أبي طالب ويلك سل تفقها ولا تسأل تعنتا أما الذاريات ذروا فالرياح والحاملات وقرا هي السحاب فالجاريات يسرا هي الفلك فالمقسمات أمر هي الملائكة قال فما هذا السواد الذي في القمر قال أعمى سأل عن عمياء أما سمعت الله يقول [وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً]( ).
قال يقول الله عز و جل [أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ]( )، قال نزلت في الأفخرين من قريش قال وهذه الآية [هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً]( )،قال أولئك أهل حروراء قال فما هذا القوس قزح قال أمان من الغرق علامة كانت بين نوح وبين ربه قال أفرأيت ذا القرنين أنبي كان أو ملك قالا لا واحد منهما ولكن كان عبدا صالحا أحب الله فأحبه وناصح الله فنصحه ودعا قومه إلى الهدى فضربوه على قرنه فانطلق فمكث ما شاء الله أن يمكث فدعاهم إلى الهدى فضربوه على قرنه الآخر فسمي ذا القرنين ولم يكن له قرنان كقرني الثور)( ).
السادس : تشمل أحكام الآية الذين اختصوا بالتفقه في الدين وتبليغ الأحكام الشرعية ، قال تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
ولم يكن أهل الصفة وحدهم يشعرون بالجوع وقلة الطعام بل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه يمر عليه اليوم واليومان من غير أن يذوق الزاد .
و(عن أنس بن مالك أن فاطمة جاءت بكسرة خبز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه الكسرة ، قالت: قرصة خبزتها، فلم تطب نفسي إلا أن آتيك بهذه الكسرة، فقال (أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام.
وروى البيهقي عن ابن مسعود، وأبو داود الطيالسي، وابن سعد عن واثلة بن الأسقع قال أضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيفا، فأرسل إلى أزواجه يبتغي عندهن طعاما، فلم يجد عند واحدة منهن شيئا، فقال: (اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك، فإنه لا يملكها إلا أنت،)، فأهديت إليه شاة مصلية ورعف، فأكل منها أهل الصفة حتى شبعوا، فقال: (إنا سألنا الله تعالى من فضله ورحمته – فهذا فضله، وقد ادخر لنا رحمته)، وفي لفظ: ونحن ننتظر الرحمة)( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتته صدقة بعث بها إليهم لأن الصدقة لا تحل له ولا لأهل البيت ، أما إذا جاءته هدية فانه يبعث إليهم ليشاركوه .
و(عن أبي هريرة قال والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ولقد قعدت يوما على الطريق فمر بي أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليستتبعني فمر ولم يفعل ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليستتبعني فمر ولم يفعل ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ثم قال يا أبا هريرة قلت لبيك يا رسول الله قال إلحق ومضى فأتبعته فدخل واستأذنت فأذن لي فدخلت فوجدت لبنا في قدح فقال من أين هذا اللبن قالوا أهداه لك فلان أو فلانة قال أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال إلحق بأهل الصفة فادعهم لي قال وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال إذ أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا فإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها فساءني ذلك قلت وما هذا اللبن في أهل الصفة وكنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها وإني لرسول فإذا جاءوا أمرني أن أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا وأخذوا مجالسهم من البيت فقال أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال خذ فأعطهم فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح أعطيه الآخر فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده ونظر إلي وتبسم وقال يا أبا هريرة قلت لبيك يا رسول الله قال بقيت أنا وأنت قلت صدقت يا رسول الله قال اقعد فاشرب فشربت فقال اشرب فشربت فما زال يقول اشرب فاشرب حتى قلت لا والذي بعثك بالحق ما أجد مسلكا له فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة)( ).
تفسير قوله تعالى [ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ ]
يعتبر هذا القيد آية اعجازية في الاعانة على تعيين المستحق للزكاة وفي أحكام العمل والعامل في النظام الاسلامي من وجوه:
الأول : عدم اللجوء الى الصدقات الا مع الحاجة أو الضرورة أو العسر.
الثاني : اعطاء الاولوية للسعي والكسب والاستغناء عن الصدقات.
الثالث : المدار في استحقاق الزكاة على استطاعة الكسب وليس على تحقق الكسب فعلاَ، فقد يكون الانسان مستطيعاَ للعمل وتوفير لقمة العيش له ولعياله ولكنه اختار الراحة وقبض الزكاة والصدقات، ولو اراد العمل لتمكن منه وتمكن من كفاية مؤونته، فهذا لا تشمله الآية لانها حصرت المستحق بمن لا يستطيع الضرب في الأرض.
والآية دعوة للجمع بين السعي والجهاد في سبيل الله والضرب في الأرض لكسب الرزق، فقد لا يكون تعارض بينها كما لوكان يقسم وقته بينهما أو ان احدهما في موسم معين، الا ان يتعذر عليه الجمع أو انه فقد اسباب الكسب والسعي في الأرض كالذي اصيب بزمانة، ولا يختلف اثنان سواء من ارباب الحقوق الشرعية أو غيرهم بأولوية واستحقاق هذا الصنف من الفقراء ليد المساعدة.
فجاءت الآية لتسهيل ايصال الصدقات لهم بصيغة الإكرام التي تتجلى بمفاهيم ما في الآية من القيود كونهم اصبحوا فقراء لانهم احصروا في سبيل الله وانهم لايستطيعون الكسب وطلب الرزق، وحصرهم في سبيل الله يؤكد أهليتهم لمال الله الذي جعله في اموال الاغنياء وصحة فرض الزكاة عقلاَ، بمعنى ان الله عز وجل علم انه سيكون من عباده من يحصر في سبيله تعالى فوضع له حقاَ في مال الغني ليبتليه.
فهل يستطيع ان يبلغ درجة هذا الفقير أو بعض مراتبها بالاختيار، فهذا الفقير اختار الجهاد والسعي ببدنه وجهده ورزقه في سبيله تعالى وطلباَ لمرضاته واحياءَ لشعائره فاصبح يحتاج الصدقات وعاجزاَ عن الكسب والسفر، والغني رزقه الله المال والسعة ثم ابتلاه بجزء يسير من ماله للمشاركة في ثواب وأجر هذا الفقير، وليكون النظام المعاشي في الإسلام نظاماَ واحداَ متكاملاَ تتضيق فيه الفوارق الاقتصادية بين الافراد، وينعدم فيه التقسيم الطبقي والتمايز الاجتماعي في الرفعة والوضاعة، وفي الحديث: (لو كان الوضيع في بئر بعث الله اليه ريحاً ترفعه).
وتدعو الآية الى اشاعة روح التواضع ومنع الترفع على الفقراء الذين اكرمهم الله بان جعلهم موضع حقه مما في ايدي الناس من الاموال، ولان فريقاَ منهم فضلوا حبه تعالى على الغنى فاصبحوا فقراء فلابد انهم يستحقون الرفعة وعدم الاذلال والاهانة أو الأذى حتى ساعة اعطائهم الصدقات، وهذا من فلسفة النهي عن اقتران الصدقة بالمن والأذى، وتبين اسرار القول المعروف والاعتذار عند عدم اعطاء الصدقة، وذكر حال الفقراء وعلة مآلهم الى الحاجة والعوز يبين لزوم التواضع مع الفقراء وارادة وجهه تعالى بهذا التواضع لانهم من جنده، وفي الحديث (ما تواضع احد لله الا رفعه).
وفي الآية اخبار عما يلاقيه المسلمون من الأذى والضيق والابتلاء والشدة، ويدل بالدلالة الالتزامية على الدعوة الى الصبر وخلق حالة من الاستعدادالنوعي والفردي لمواجهة الصعاب والمشاق، وهذا الاستعداد يحول دون التخاذل والوهن والارباك الذي يستغله اعداء الدين، ويحاولون القيام بالضربة الاولى، والانتفاع بها وبث الخوف والرعب، ونشر الفقر والجوع في صفوف المسلمين.
فجاءت هذا الآية لتضع قواعد كلية لمواجهة المشاق والتحديات ومنها الزلازل والفيضانات والافات، وعدم الاستطاعة للكسب نوعية وشخصية، فهم مجتمعين لا يستطيعون العمل والكسب وكذا متفرقين، وتبين الآية شرطاَ في دفع الحقوق الشرعية وهو عدم القدرة على العمل او انعدامه مع وجود القوة ومعرفة الحرفة والصفة.
وفي الآية عز للفقراء لانها في مفهومها تعني انهم لو كانوا يستطيعون الضرب والكسب لما صاروا فقراء ولما انتظروا الاعانة من الاغنياء، وان علة عدم الكسب انهم احصروا وحبسوا في جنب الله، والآية لا تنفي أحكام السلامة والأمن على النفس والعرض والمال لانها من الأمور العامة المتعلقة بالافعال والتكاليف، وهذه الأحكام لا تنحصر بالاعطاء أو عدمه بل تشمل الكيفية والطريقة، فقد يكون اعطاء الفقير الصابر في جنب الله ممكناً بالسر والكتمان، وهو مصدر أذى بالعلانية والاظهار، فيجب حينئذ السر وان كان على نحو الطريقية.
ويتجلى الاعجاز القرآني في الآية التالية بتعدد كيفية الإنفاق علانية وسراَ، ومن الاعجاز انها لا تكون في مثل هذه الحالة بالتخيير بين العلانية والسر بل تتعين صدقة السر وعدم القاء النفس في التهلكة، خصوصاَ وان العلانية قد تسبب للفقير نفسه أذى، وانما جعل الله له هذه الصدقة اعانة وتخفيفاَ وجزاءً لسعيه في سبيله تعالى فيجب ان يحرص المؤمنون على اجتناب تجديد بلائه.
وورود مادة (ضرب) في القرآن بمعنى الكسب والسعي خمس مرات، هذه الآية هي الوحيدة التي جاء فيها (الضرب) بصيغة المصدر لارادة الاطلاق والعجز عنه، ولو كان هذا الفقير يستطيع الضرب ولكنه لا يحصل على الرزق فهل تشمله عمومات الآية، الجواب: نعم، لان القدر المتيقن من الضرب هو تحصيل الكسب وتوفير المؤونة رأفة ورحمة منه تعالى وهو الواسع الكريم، وكذا لو كان يضرب ويسعى في الأرض ويحصل على رزق قليل لا يغطي مؤونته ومؤونة عياله من غير اسراف ولا تبذير فانه يستحق من الصدقات وتشمله هذه الآية.
بحث بلاغي
من وجوه البلاغة الإيجاز والاطناب ولكل منهما حسن ذاتي بحسب الحال والمقال والموضوع والمخاطب، (وقال بعضهم: البلاغة هي الإيجاز والاطناب) ( ).
والإيجاز ايجاز اللفظ الذي يفيد المعنى بأقل من عبارة المتعارف، أما الاطناب فهو زيادته بأكثر منها، ولكن البلاغة أعم منهما ومدارسها شتى، ووقع الاختلاف هل من واسطة بين الإيجاز والاطناب وهي المساواة أم انها تدخل في الإيجاز، والحق ان كلاً منهما له مراتب تشكيكية متعددة، وهناك واسطة بينهما هي الاخرى من الكليات.
والمساواة هي المتعارف في كلام أوساط الناس الذين ليسوا في مرتبة البلاغة، ولكنها من أرقى فنون البلاغة ولا تقل عن الإيجاز والاطناب أهمية، الا انها تتكرر في المحاورات كثيراً فلا يُلتفت الى حسنها البلاغي، وكونها الصيغة المناسبة للتخاطب بين الناس لا يفقدها حالها من الخصائص البلاغية.
والسكاكي ت 626 وجماعة على القول بالمساواة، وابن الأثير وجماعة قالوا بعدم الواسطة، وألحقوا المساواة بالإيجاز لأنهم قسموا الكلام على قسمين:
الأول : الإيجاز هو التعبير عن المراد بلفظ غير زائد، فتخل المساواة معه.
الثاني : الاطناب هو البيان عن المراد بتفصيل ولفظ زائد.
والأصح تقسيم الكلام ودلالته الى ثلاثة أقسام:
الأول: كفاية ايجاد العلقة بين الطرفين اللفظ والمعنى، وان يعرف المتلقي مراد المتكلم من اللفظ بإيجاز ناقص عن الاصل من غير إخلال بالبيان وافادة المعنى مع انعدام القرينة الصارفة عن المعنى المقصود.
الثاني: ان يقصد المتكلم المساواة ليدل اللفظ على ذات المعنى من غير نقص او زيادة عن الأصل، لأنه في مقام تفهيم المعنى من اللفظ ودفع الوهم او الحرج او الالتباس.
الثالث: الاطناب والاتيان بلفظ زائد بقصد افهام المعنى، والتفصيل فيه مع الاطناب لفائدة بلاغية بعيدة عن الإطالة والحشو.
واختلف في أمرين:
الأول: هل الإيجاز والاختصار بمعنى واحد أم لا، بمعنى هل النسبة بينهما التساوي أم عموم وخصوص من وجه، (وقال بعضهم: الاختصار خاص بحذف الجمل فقط، بخلاف الإيجاز، قال الشيخ بهاء الدين: وليس بشيء) ( ).
والأصح ان النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء نقص اللفظ عن الأصل، ومادة الافتراق في الإيجاز القصر في اللفظ، أما في الاختصار فهي اسقاط بعض الالفاظ عن الأصل، واحياناً يكون الاختصار قسماً من الإيجاز، وقد يرد الاختصار بمعنى الحذف لدليل.
الثاني: هل الاطناب هو الاسهاب أم لا، والحق ان النسبة بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل اطناب هو اسهاب وليس العكس، لأن الاطناب زيادة لفائدة في ذات المعنى، أما الاسهاب ففيه زيادة وتفصيل لفائدة او لغير فائدة.
ومن الاطناب ذكر الفقراء الذين احصروا في سبيل الله بقوله تعالى [ لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ] لأن المقام يستلزم البسط والتفصيل في بيان وتوكيد حال الجهاد وما قد يترتب عليه من العناء في سبيل الله، فالتفصيل والزيادة دعوة للأغنياء وعموم المسلمين لأمور منها:
الأول : معرفة هؤلاء الفقراء وإكرامهم.
الثاني : المبادرة الى إعانتهم.
الثالث : ترك التشديد والتحقيق في إمكان وجود عمل لهم يناسب حالهم ولو كان فيه مشقة، لأن الآية جعلت لهم الاختيار في السعي والضرب فعجزوا عنه.
الرابع : انه درس في الصبر وارادة التحمل في جنب الله.
الخامس : ايجاد ملكة في نفس المسلم بالاستعداد للزهد في الدنيا، وان الكسب حينما يتعارض مع مرضاته تعالى وسلامة الدين تقدم الأخيرة.
السادس : مع العجز عن الكسب بسبب الإيمان والتقوى فان الله عز وجل يدعو المسلمين لمد يد العون والمساعدة بدفع غائلة العوز والفقر.
قوله تعالى [ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ ]
يتجلى اعجاز هذا الشطر من الآية في امور منها:
الأولى : دفع وهم وظن بانهم اغنياء مع انهم فقراء.
الثانية : نسبة هذا الوهم الى الجاهل وليس الى العالم أو أولي الالباب كما تقدم مدح المسلمين بايتائهم الحكمة، وقوله تعالى [ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ] ( ).
الثالثة : عدم تظاهرهم بالفقر فهم لما عجزوا عن السعي في الأرض ســعوا في ســتر حالهم واخفاء حال الفقر الذي هم عليه بعدم الشكوى والجزع، ولابد لهذا الاخفاء من اسباب وغايات.
والجاهل نقيض العالم، وحمل اللفظ هنا على الجاهل بحالهم والذي لا يعرف انهم فقراء، وقد فرق بين العلم والمعرفة، فالعلم هو الاحاطة بالكليات، أما المعرفة فهي العلم والاحاطة بالجزئيات، فكأن حال هؤلاء الفقراء من الجزئيات التي قد لا يلتفت اليها بعض الناس ممن لم تكن عنده خبرة بمعرفة احوال المؤمنين الصابرين في جنب الله وكيف ان توكلهم على الله يكون غذاءً ومدداً وواقية عن السؤال وظهور الحاجة.
والآية أعم ويمكن حمل لفظ الجاهل على المعنيين معاَ، أي الجاهل في مقابل العالم، والجاهل الذي ليس له خبرة بامرهم، وهذا العموم هو ظاهر اللفظ، ويمكن ان نضع قاعدة قرآنية وهي: لو تردد اللفظ بين معنى واحد أو معنيين محتملين، فالاصل هو الثاني الا مع القرينة على الحصر بمعنى واحد، وتتجلى فيه مضامين اعجازية ودروس وعبر.
ولم يرد بصيغة المفرد الا مرة واحدة في هذه الآية.
وقد ورد لفظ (الجاهل) بصيغة الجمع تسع مرات، مرفوعاَ بالواو (الجاهلون) ثلاث مرات، ومنصوباَ ومجروراَ بالياء (الجاهلين) ست مرات، وكلها ورد فيها معنى الجهل بما يقابل العلم والمعرفة، قال تعالى [ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ]( ).
وحمل الجاهل على ارادة الجهل الذي هو ضد العلم فيه نكتة عقائدية وهي ان الفقراء في حال تقرب الى الله عز وجل حتى في حال الفقر من وجوه:
الأول : ما فيه من مضامين الصبر والرضا بامره تعالى.
الثاني : الفقر اثر للتحمل في جنب الله والاحصار في سبيله تعالى.
الثالث : حالهم دعوة لاعانتهم ابتغاء لمرضاة الله عز وجل.
والآية تحذير من تجاهل احوال هؤلاء الفقراء والتخلي عنهم وعدم اعانتهم قال تعالى [ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ ]( ).
وورد الوصف بصيغة الذم لمن لا يعرف فقرهم، ولكنه لا يدل على الاطلاق فليس كل من لم يعرف حال فقرهم ويحسبهم غير محتاجين هو جاهل، فقد لا يعرف احوالهم بعض اصحابهم من المؤمنين لانهم يحرصون على عدم السؤال واظهار عوزهم وفاقتهم، فيظنهم الآخرون انهم يملكون قوت سنتهم وغير محتاجين للصدقات.
ولو كان الانسان يجهل حالهم ولا يعلم بفقرهم فلم يدفع لهم من الصدقة الواجبة، ولم يتطوع باعطائهم من ماله فهل يؤثم، الجواب: لا، لحديث الرفع، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “وضع عن أمتي تسع خصال: الخطأ، والنسيان، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، وما استكرهوا عليه، والطيرة، والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد”( ).
ومع هذا فان وصف الذي لا يعرف حالهم بالجاهل، دعوة قرآنية لمتابعة احوال الذين احصروا في سبيل الله بغية اعانتهم خصوصاَ وان النفوس تنفر من نعت الجاهل للذات أو الغير، لذا يمكن اعتبار الآية تحريضاًَ للمسلمين على اعانة الذين احصروا في سبيله تعالى واستمرار تفقد احوالهم وضمان ارزاقهم، وفيه اصلاح للمجتمعات الاسلامية لان هؤلاء الفقراء لهم شأن في بناء المجتمع وتثبيت القيم الاسلامية ومواجهة الظلم والعتو ومفاهيم الجحود، سواء كان عجزهم عرضاََ يزول بزوال اسبابه الطارئة الشخصية كالجراحة والحجب عن العمل والسفر، أو انها دائمية كالكبر والعجز.
فالآيــة وان وردت بصيغة الخبر ولكنها تتضــمن النهــي والزجر والامر، النهي عن تجاهل حال الفقراء الذين احصروا في سبيل الله، والزجر عن الاكتفاء بالظاهر من احوالهم، والأمر بمعرفة حقيقة غناهم من فقرهم، وقدرتهم على توفير موارد معيشتهم.
فان قلت: ان هذا التقصي يحتاج الى البحث والتحقيق، وقاعدة نفي الحرج بخلافه من الطرفين لما يستلزمه من مشقة زائدة، ولما قد يسببه من الريبة والشك والحرج حتى بالنسبة للفقير، بالاضافة الى الاكتفاء بالظاهر كحجية الظواهر مطلقاَ.
قلت: ان الآية نفسها تنفي مثل هذا الحرج والعسر، ولا تصل النوبة اليه لانها تبين حال هؤلاء الفقراء بانهم:
الأول : فقراء لا يملكون قوت سنتهم.
الثاني : حبسوا ومنعوا من العمل أو السفر .
الثالث : تعذر قيامهم بالكسب لما عملوه في سبيل الله .
الرابع : انهم عاجزون عن العمل والكسب.
الخامس : ان سر الظن بالغنى هو التعفف.
والوجوه الخمسة ظاهرة ويمكن معرفتها بيسر وادنى اطلاع، ويتولد عنها قهراَ وانطباقاَ الفقر والحاجة، الا ان تكون هناك قرينة أو امارة على الغنى والثروة كملكية عقارات أو اراضي زراعية أو ورود عطاء ثابت، ولو علم حال فقره واجتماع الخصال اعلاه وشك هل عنده مورد آخر يطرد فقره وينفي عنه حاجته، فالاصل عدمه باعتبار انه أمر زائد يحتاج الى دليل وبرهان.
وهذه القاعدة تساعد على نفي الأقاويل واشاعات اهل الحسد والجحود، كما لو قالوا انه لم يظهر فقره فلابد ان عنده ما يكفيه مؤونته، ففي أحكام الآية تيسير وتسهيل في ايصال الزكاة والحقوق الشرعية لاهلها بغية نيل المسلمين الثواب والأجر، ولا يتعلق الاطلاع على حال فقرهم بالاغنياء وارباب الحقوق الشرعية بل هو مطلق يشمل الناس جميعاَََ حتى الفقراء الذين يستحقون الزكاة ومد يد الاعانة، لذا جاء الوصف بلحاظ الجهل وعدم العلم المعرفة.
فقد تعطى الزكاة لفقير مستحق لها من غير الذين احصروا في سبيل الله فيقول ان فلاناَ اكثر حاجة مني ولكنه متعفف لا يبدو الفقر عليه، وبذا ينال هذا الفقير اجر الصدقة وثواب الارشاد الى المعروف، سواء انه قام بالايثار على نفسه أو انه اكتفى بهداية صاحب الزكاة الى من هو احق منه بالحاجة، أو بعلة الاستحقاق وهي الاحصار وسببه وان حال الاول اردء واشد حاجة لموضوع الفقر وهي الاحصار في سبيل الله ولعدم ظهور علامات الحاجة والفاقة عليه، فقد يستلم الفقير الاعانة مالاً كانت أو عيناَ من الطعام أو اللباس ونحوها ثم يقول ان فلاناََ فقير احصر في سبيل الله ولكنه لا يظهر فقره، ويدرك الناس ان عدم السؤال ناتج من العز الذين ترشح عليه من اختيار السعي في ذات الله والثقة برزقه تعالى وواسع رحمته.
ومن يقضي ايامه صابراَ في جنب الله فان نفسه تنفر من سؤال الناس أو حتى اظهار حاجته والشكاية لغير الله، فجاء الأمر الإلهي في هذه الآية بنصرة هؤلاء باعطائهم حقه الذي جعله في اموالهم، وهو سبحانه يعلم ان الذي يكون فقيراَ محتاجاَ لانه نذر نفسه لله وصدق بوعده بالجنة والمغفرة وجعل الله حقاَ في اموال الاغنياء ثم امرهم بالاهداء اليه، وفيه عز لهذا الفقير بان الله عزو جل أمر الاغنياء بمعرفته واعطاهم صفاته.
ومن مفاهيم الآية ان الله عز وجل يريد لأوليائه العزة والتعفف واجتناب الشماتة والسخرية، واذا كان في البين منّ واظهار للاحسان فان هؤلاء الفقراء أولى بالمن والتفاخر من اصحاب الاموال عند اعطاء الصدقات، ولكنهم لم يمنوا، واخبر الله عز وجل ان احصارهم في سبيله تعالى.
ولابد لقصور الجاهل عن معرفة حال فقرهم وعوزهم من دلالات منها ما يخص الجاهل نفسه، ومنها ما يتعلق بالفقراء أنفسهم، ومنها ما هو أعم، أما الأول فالآية ذم للكفار وأهل الضلالة لعجزهم عن معرفة حقيقة أحوال الاشخاص وما هم عليه من المبدأ والمستوى المعاشي وما يمتلكون من المواهب والملكات.
أما ما يخص الفقراء ففيه مسائل:
الأول : في الآية اخبار عن جعل حجب وستر لهم من أعين الحاسدين والظالمين والشامتين.
الثاني : في الآية تقسيم استقرائي، وهو ان الفقراء يبدون للمؤمنين على حقيقتهم من الفقر والعوز، ويظهرون لغيرهم بمظهر عدم الحاجة بسبب التعفف، مما يعني ان التعفف مدرسة خاصة بأهل الاسلام موضوعاً وحكماً، فهم الذين يعرفون خصائصها ولا تستتر عنهم معرفة مواطن الحاجة، بل بالعكس تدلهم عليها وتحجب غيرهم عن رؤية علامات الفقر والفاقة.
الثالث : في الآية تخفيف عن الفقراء وعدم تعرضهم للأذى او الاغراء بالمال للتخلي عن الإيمان.
أما المعنى الأعم فان الآية تدل على اعتبار الحالة الاجتماعية اليومية ساحة لمواصلة السعي في سبيله تعالى، ولزوم العناية بالفقراء من المؤمنين وعدم تركهم عرضة للأهواء والافتتان، خصوصاً وان من أسباب التعفف معرفتهم بحقهم في أموال الأغنياء وإدراكهم لإعانة ومواساة المؤمنين لهم وعدم تخليهم عنهم.
ولقد كانت السنة النبوية القولية والفعلية مؤازراً للقرآن في دعوة الفقراء للصبر والتحمل واعطاء الأولوية للعز، واظهار حسن التوكل على الله ليكونوا عبرة لغيرهم من أمثالهم ومن الأغنياء في عدم اللهث وراء الدنيا وزينتها، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم ينفق الأموال الكثيرة التي تأتيه ويبقى طاوياً، قد لا ترى النار في بيته ثلاثة أيام، وكان يبين مفاهيم الغنى والفقر وفق الأسس العقائدية والمعنوية.
أخرج ابن حبان عن أبي ذر قال: “قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى، قلت: نعم يا رسول الله، قال: أفترى قلة المال هو الفقر، قلت: نعم يا رسول الله، قال: انما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب”( ).
وورد في الحديث المشهور عند عموم المسلمين في كل زمان عن جابر بن عبد الله: “ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: القناعة كنز لا يفنى”.
وعن سهل بن سعد قال: جاء جبرئيل الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فقال: يا محمد عش ما شئت فأنت ميت، واعمل ما شئت فأنك مجزى به، واحبب من شئت فأنك مفارقه، واعلم ان شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس”( ).
والخطاب موجه الى عامة المسلمين وهو برهان على حسن امتثال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لما يأتيه من السماء بآيات القرآن والوحي وحديث الملائكة لينتفع المسلمون منها، ومن سنة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان في جهاد دائم ومتصل.
لقد أمــر الله الاغنياء بالعفاف وحبــبه الى النفوس قال تعالى [ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ]( )، فهل يعتبر اتخاذ هؤلاء الفقراء التعفف رداء صحيحاً، أم انه تشديد على النفس وانهم خارجون من الأمر بالتعفف للتباين الموضوعي، الجواب: انه صحيح وليس من التشديد على النفس من وجوه:
الأول : اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فأمر الاغنياء بالتعفف لا يعني عدم اهلية غيرهم له .
الثاني : التعفف حسن ذاتاَ ومحبوب عند العقلاء.
الثالث : اختيارهم للتعفف لم يأت بطراَ وغروراَ بل رجاء واستمراراَ لعملهم وجهادهم في سبيل الله، ولكن على نحو يختلف لاختلاف الموضوع فحينما اظهروا الاكتفاء أو ستروا حال الفقر رجاءَ وعشقاَ لله وثقة بنزول الرزق من عنده تعالى وتثبيتاَ لصحة فعلهم واعلاناَ وصرخة عملية بانهم كانوا على الحق.
وهذا الشعور ومعالم العز في تلك الحال يحتاجه الإسلام في ترسيخ مبادئه لما فيها من معالم اليقين ودلائل الصدق، وما يتركه في نفوس الشباب من الشوق لدروب السعي في سبيل الله وعدم الفزع والخوف من الفقر المحتمل، كما ان ظاهر التعفف الذي هم عليه يبعث الرعب في نفوس الكفار واهل الضلالة ويبث الارباك في صفوفهم ويمنع من تعديهم على الاسلام.
فالوظيفة العقائدية تقتضي عدم لومهم على حال التعفف التي هم عليها، والمبالغة في اكرامهم وعدم جعلها برزخاَ وحاجزاَ دون وصول الزكاة والاعانة لهم وباحسن طريقة وصيغة تتضمن دوام العز وتظهر الثناء لهم على ما اظهروه من قبل ومن بعد، أي حال الجهاد والبذل في سبيله تعالى، وحال الصبر على الفقر.
ولم يكتف هؤلاء الفقراء بحبس النفس عن الشهوة بل صبروا على الحاجة والضرورة مع انهم يستحقونها وأولى بها، صبروا طمعاَ بالجنة وطلباَ لمرضاته تعالى فكساهم الله من نوره ودعا عباده الى اصلاح احوالهم والتقرب اليه باعانتهم، ورغب في الوصول اليهم ودفع آفة الفقر عنهم وعن عوائلهم.
وهذه الاعانة تمنع من تداعي القيم في أسر وعوائل المؤمنين، فقد يتسرب الشك الى بعض افراد عوائلهم ويحتجون عليه بانك سخرت نفسك في سبيل الله حتى عجزت عن العمل، وغيرك اختار الدنيا فاصاب منها وعياله ما يريد، فاذا جاءت الاعانة ترسخ الإيمان في قلوب افراد العائلة وازدادوا ثقة بالمستقبل واحسوا بوجود تكافل اجتماعي ورعاية والتفات لحالهم ينم عن الإكرام والامتنان، وجاء وصف الجاهل بصفة الذم للغفلة عن معرفة الفقراء والمحتاجين من المؤمنين، وهي دعوة لطرد الغفلة وتحصيل الفطنة والنباهة.
ومن اعجاز الآية انها مصداق للتعدد والتخيير في صدقة العلانية والخفاء فقد يستلزم الأمر العلانية للاخبار عن حال الفقير الذي احصر في سبيل الله ولزوم اعانته، ورفع الظن بانه غير محتاج بلحاظ مظهره وتعففه.
وتعكس الآية صفحة مشرقة من المجتمع الاسلامي بامتناع شطر من الفقراء عن السؤال وما يدل عليه من مظاهر الجوع، وتبين حال ارتقاء في المجتمع الاسلامي بالاعتناء العام بلباس التجمل والاهتمام بالزي الخارجي، وفيها اخبار للفقراء بان المسألة ليست هي الطريقة الوحيدة لكسب الرزق، وان الله عز وجل يهدي الناس الى الرأفة والإلفة فيما بينهم، فالآية دعوة لتلمس اثار الفقر الخفية والنظر بقصد الاحسان والاعانة في احــوال الذيــن لا عمل عندهم ولا مــال يرد عليهــم، وتــدل الآيـة بان التعفف ليس علة تامة لستر وخفاء فقرهم وان غير الجاهل يعرف حقيقة حالهم، فالآية قسمت الناس بخصوصهم الى ثلاثة أقسام:
الأولى : جاهل.
الثانية : عالم.
الثالثة : برزخ بين العالم والجاهل.
وحصرت عدم معرفة فقرهم بسبب التعفف الظاهري بالجاهل، ولم يوصف المسلمون بالجهل، أما الجهل في مقابل المعرفة والخبرة والذي هو اخف واقل من الغفلة لانه يتعلق بالاطلاع والالتفات الى التفاصيل فان الآية جاءت للتنبيه عليه والتخلص منه، فالمسلمون بهذه الآية الكريمة ارتفع عنهم عدم الاطلاع والخبرة بحال هؤلاء الفقراء لانها خبرة قرآنية وارشاد سماوي، فمن افاضات هذه الآية:
الأولى : ان هؤلاء الفقراء اصبحوا معروفين من قبل المسلمين.
الثانية : رفعت الغفلة وعدم الخبرة عن المسلمين فيما يخص الفقراء المتعففين.
الثالثة : انها جزاء عاجل لمن تضرر بسبب سعيه في سبيل الله .
الرابعة : الآية دعوة للفقراء مطلقاَ بالتعفف خصوصاَ الذين احصروا في سبيل الله، اذ انها تذكر طائفة من الفقراء بصفات خمسة كما تقدم ذكرها في مفهوم الآية بالاضافة الى صفة الفقر، ومنهم من تجمع عنده اربعة أو ثلاثة أو اثنتان من هذه الصفات، لتحبب حال التعفف للفقراء وتدعوهم الى الصبر، ثم ان التعفف يتعلق بعدم السؤال ولكنه لا يدل على انتفاء الفقر أو ستر الاحصار وعدم الكسب والعمل.
تفسير قوله تعالى[ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ ]
خطاب قدسي مبارك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو تشريف وإكرام له ومن خلاله تشريف للمسلمين كافة، اذا ان الاصل في الخطابات القرآنية الموجهة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو ارادته وارادة الأمة من خلاله الا ان تكون هناك قرينة على ارادته على نحو الخصوص.
فلا يمكن حمــل الآيـة على معنى انك تعــرفهم ولكــن المسلمين لا يعرفونهم الا بقصد العصمة والوحي، ولكن لا دليل على هذا التخصيص وعلته في المقام، لاسيما وان الآية جاءت بصيغة المعرفة وادراك الجزئيات، قال تعالى [ وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ]( ).
ولو تردد الأمر بين ارادة شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو المسلمين معه في مفهوم الخطاب فالارجح هو الثاني، لذا فان الآية إكرام للمسلمين وتمييز بينهم وبين الجاهلين، او قل خروجهم من لفظ (الجاهل) بالتخصيص، وبهذا المعنى تتضيق دائرة الحرج والابتلاء، وفيه بشارة استمرار التكافل الاجتماعي بين المسلمين وعدم خفاء حال الفقراء وان اظهروا التعفف، ويمكن معرفة الذين ورد ذكرهم في الآية بلحاظ الشرائط والاوصاف الاخرى التي ذكرت لهم وهي الحبس في سبيل الله وعدم الإلحاح في السؤال .
وتدل الآية على الفطنة والنباهة عند المسلمين وحرصهم على متابعة احوال الفقراء والمحتاجين، وانهم يستطيعون معرفة الظاهر المستور بقيد انه مستور في جنب الله، وان الذي يسعى لمعرفتهم انما يريد مساعدتهم ودفع وزر وأذى الفقر عنهم، وللآية خمسة اطراف:
الاول: الذي يعرف احوال الفقراء.
الثاني: الفقراء الذين حبسوا وعجزوا عن العمل.
الثالث: المعرفة.
الرابع: السيماء والعلامة الخاصة بهم.
الخامس: ايصال الصدقة لهم.
بالنسبة للطرف الاول فان المسلمين يعرفون هؤلاء الفقراء الذين يعرف بعضهم بعضا ويتفقد بعضهم احوال وشؤون الآخر لان الآيات التي تأمر وتحث على المعرفة العامة بينهم كثيرة منها آيات الولاية قال تعالى [ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ]( )، والمحبة والأخوة الإيمانية قال تعالى [ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ]( )، وتدل عليها السنة والسيرة ايضاَ .
وبالنسبة للطرف الثاني فتخبر الآية عن وجودهم واستعدادهم لقبول الصدقات مع حال التعفف التي هم عليها.
أما الثالث فان الآية تخبر عن حصول المعرفة وعدم العسر أو المشقة فيها لوجود مادتها وسببها، ان وصفهم بالتعفف دليل على انقطاعهم الى العبادة وانشغالهم بذكر الله وعدم التفاتهم الى ما في الدنيا من الابتلاء، لقد اصبحت التقوى ملكة في نفوسهم ولم ولن يتركوا منازل الإيمان بسبب الفقر والحاجة بل صبروا عليه برضا وقبول واستبشار .
ووردت مــادة التعفــف في القرآن اربــع مرات، ثلاث منها على نحـو الأمر، واحدة في حفــظ اموال اليتامــى والوصــاية عليهم [ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ] ( )، والثانية في العفة والصبر عن الفواحش بانتظار الزواج قال تعالى [ وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ]( )، والثالثة في القواعــد من النســاء [ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ]( )، وانفردت هــذه الآيــة من بين الآيــات الاربعة التي ذكر فيها التعفف بوجهين:
الاول: لغة الاطلاق والثبات وصيغة المصدر، فالتعفف كالتعلم والتكلم، أي انهم طلبوا التعفف عن قصد وبذل جهد مركب من ارادته ومن تحد النفس الشهوية والغضبية.
الثاني: انهم اختاروا التعفف وجعلوه جزء من حياتهم وسجية ثابتة لان انعكاس لحال الإيمان والتقوى التي هم عليها وكأنه متولد عنها، وبذا يكون هــؤلاء الفقراء اسوة للرجال والنساء في التعفف، والظهــور بما لا يليــق وما يخــالف أحكام الشريعة بل وما يتعارض مع المستجبات والمندوبات، واجتناب الفاحشة والسوء.
بحث منطقي
من مصطلحات المنطق (الدلالة) وهي العلم بوجود شيء وبحالة معينة فينتقل الذهن بسببها الى وجود شيء آخر، فاذا أذن الأذان تتبادر الى الذهن الصلاة وحلول أوان ادائها، فسماع الأذان يسمى دالاَ، والصلاة التي انتقل الذهن لها مدلولاً، والحالة والصفة التي حصلت تسمى دلالة.
ولابد للدلالة من علة وسبب وهو ثبوت العلاقة والتداخل الموضوعي بين الدال والمدلول، ويسمى في علم النفس بالارتباط الشرطي حسب نظرية العالم الروسي بافلوف.
والصلة والعلاقة بين الشيئين أمر خارجي، لا موضوعية لذهن الانسان به بل يتلقاه وتنعكس صــورته فيه، ويعلم به للمـلازمة بين الدال والمدلول، وتقسم الدلالة بحسب الملازمة الى ثلاثة اقسام:
الأولى : الدلالة العقلية: وهي الدلالة التي تتقوم بالاستنتاج العقلي لوجود ملازمة ذاتية بين الدال والمدلول، كالعلة والمعلول فان المعلول لا يتخلف عن علته وهو دال عليها، فاذا رأى الشخص ضوء الصباح علم ان الشمس موجودة.
الثانية : الدلالة الطبيعية: وهي اذا كانت ماهية الملازمة طبيعية أي ان الانسان يجمع بينهما بطبعه حتى صارت هذه الملازمة جزء من سجاياه، كما لو كان يبادر الى البكاء عند المصيبة والحزن، أو انه يضحك عندما يسمع ما يسره، أو يتثائب عند النعاس، فاذا سُمع يبكي ينتقل ذهن السامع الى انه في مصيبة وحزن.
الثالثة : الدلالة الوضعية: وهي الملازمة التي تنشأ من الوضع والتفاهم على اصطلاح مخصوص سواء في الالفاظ أو الاعيان أو الافعال، فاذا ذكر الهاتف انتقل ذهن الانسان الى الاتصال والتحدث بواسطة مع من هو بعيد عنه، وهي الدلالة اللفظية وغير اللفظية.
وبأي هذه الدلالات يعرف هؤلاء الفقراء، الجواب: انهم يعرفون بالدلالات الثلاث، فالعقل يدرك الملازمة بين الاحصار وبين الفقر والحاجة، والطبع الانساني يدرك الملازمة بين العمل وكسب المال، وكذا العكس أي الملازمة بين البطالة وانعدام المال، ومن الدلائل الوضعية ملازمة الحاجة لعدم الضرب والسعي والكسب .
وهذا من لطفه تعالى واعانة المسلمين على اداء وظائفهم العبادية، لقد جعل الله في هؤلاء الفقراء علامات يعرفون بها وهل هي المذكورة في الآية أم غيرها، الجواب: الأمران معاَ أي المذكورة في الآية وغيرها، وقد يقول قائل ان العلامات المذكورة في القرآن ظاهرة للعيان، وان معرفتها لا تستلزم كثير عناء أو تحقيق، ولكن الناس بخصوصها على ثلاث مراتب:
الأول : جاهل على عينيه غشاوة تحول دون معرفتها.
الثاني : شخص يمكنه معرفة احوالهم ولكنه لا يكلف نفسه عناء الاطلاع ومعرفة ما هم عليه من الفقر.
الثالث : من يسعى الى معرفة احوال المسلمين عامة والفقراء خاصة الذين حبسوا في سبيل الله، فتبدوا أمامه علاماتهم.
ان ذكر اوصافهم في القرآن رحمة بالمسلمين عامة ودعوة للبحث عنهم ومقدمة لمعرفتهم فمن مفاهيم قوله تعالى[ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ ] هي ان الله يبن لنا سيماهم واوصافهم بما يجعلنا نعرفهم، والمعرفة هنا وبلحاظ متعلقها يراد منها:
الأول : معرفتهم بالذات والمسمى كاسماء واشخاص.
الثاني : معرفة حاجتهم وفقرهم.
الثالث : لزوم المبادرة الى اعانتهم واعطائهم من الزكاة والصدقات المندوبة.
الرابع : تحديد اسباب حاجتهم وفقرهم والاعتبار والاتعاظ منها.
الخامس : موضوع المعرفة أعم من التعيين والاحاطة بالحال، فالآية حينما ذكرت المعرفة جعلتها مطلوبة بذاتها، ومقدمة غيرية لأمور أخرى منها:
الاول: التوجه الى اعانتهم.
الثاني: اعطاؤهم الحق ألشرعي.
الثالث: قضاء حاجاتهم، وحاجات الانسان على شعبتين:
الاولى: الضرورية كالاكل والشرب واللبس والسكن بمقدار الحاجة وما يناسب الحال والشأن.
الثانية: غير الضرورية خصوصاَ اللوازم الشخصية والمنزلية التي ظهرت وتعددت في هذا الزمان.
والمطلوب توفيره هو افراد الشعبة الاولى خصوصاَ وان الصدقات من الكلي الطبيعي لكل فقير حصة فيها، والاولوية لاعطاء اكبر عدد منهم وان كانوا فاقدين لبعض الصفات الواردة في الآية ويأتون في المرتبة الثانية أو الثالثة بعد الذين ورد ذكرهم في الآية.
وفي سيمائهم وردت اقوال:
الأولى : التخشع والتواضع الذي هو شعار الصائمين، قاله مجاهد.
الثانية : أثر الجهد من الفقر والحاجة، قاله الربيع والسدي.
الثالثة : صفرة ألوانهم من الجوع، قاله الضحاك( ).
الرابعة : رثاثة ثيابهم والجوع وان خفى، قاله ابن زيد.
وكل هذه الوجوه الاربعة صحيح، ومن مصاديق السيماء التي تدل على حاجتهم، الا انه يرد سؤال وهو: هل تتعلق السيماء بظاهر حالهم كي تنحصر بالوجوه أعلاه، أم تشمل غيرها سواء في الموضوع أو الحكم، الجواب: هو الثاني بلحاظ قيدين وردا في الآية:
الاول: اختصاص النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بمعرفتهم دون الجاهلين والكفار.
الثاني: مجئ اللفظ بصيغة الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة.
فمع قولنا بان المراد من الخطاب الأمة من خلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاسيما وان القرآن نزل بلغة إياكِ اعني واسمعي يا جارة، الا ان هذا لا يمنــع من الدلالات الخاصة لصيغة الخطاب المنفرد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وارادة الأمة منها:
الاول: الاشارة الى رجوع المسلمين الى السنة النبوية وما فيها من الاحاديث التي تؤكد العناية بالفقراء وذكر سيماء وعلامات اصحاب الأولوية بالصدقات .
الثاني: اعتبار اسباب النزول وحديث اصحاب الصُفة وصبرهم وجهادهم في سبيل الله.
الثالث: انه دعوة للمسلمين للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب ومطلق العبادات والمعاملات، فحينما تأتي الآية بصيغة الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يبادر المسلمون الى ملاحظة فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ازاء الفقراء وكيفية توزيع الزكاة والصدقات، وهذه الملاحظة تهدي انطباقاَ وقهراَ الى الاهتداء الى أحكام الزكاة وأصناف المستحقين، ومسائل شرعية وأخلاقية اخرى.
الرابع: تأديب المسلمين، وارشادهم الى لزوم معرفة السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية.
الخامس: في الآية اخبار عن مسألة كلامية وهي توارث المسلمين لسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس: حضور سيرة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين في موضوع الزكاة وغيرها.
السابع: الآية إكرام للفقراء الذين احصروا في سبيل الله وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرفهم ان كانوا في زمان غير زمانه وبعد انتقاله الى الرفيق الأعلى.
الثامن: الاخبار القرآني عن علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحال الفقراء سكينة وبشارة لهم بالأجر والثواب.
وهل يمكن حمل الآية على عموم الخطاب أي (تعرفهم ايها المسلم التالي للقرآن) ليكون الخطاب لكل مسلم مباشرة، الجواب: نعم، من غير ان يتعارض ظاهر الخطاب والذي يفيد ارادة شخص النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم لوجوه:
الاول: وهــو المتبادر للاذهـان، والتبادر من علامات الحقيقة.
الثاني: للظاهر وحجيته والانصراف الى شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلغة التنزيل وسياق الآيات واسباب النزول.
الثالث: هو المعروف والثابت عند المسلمين جميعاَ وفي كل الطبقات، والاجماع حجة.
فالخطاب يشمل المسلمين مباشرة بواسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكأن الآية تقول: تعرفهم بسيماهم يا نبي الله ويعرفهم من بعدك المسلمون، ومن موضوعيته صلى الله عليه وآله وسلم في الخطاب سنته الفعلية الشريفة في توزيع الصدقات وتفقد أحوال الفقراء، والقولية بذكر أوصافهم والحث على إكرامهم.
والآية دعوة للفقراء للبقاء على التعفف وعدم اليأس أو القنوط، وحث للآخرين ممن احصر في سبيل الله منهم ولكنه لم يتعفف ان يختار التعفف ويرى ما فيه من العز والرفعة والرضا، اذ ان الفقراء الذين احصروا في سبيل الله منهم من لم يصبر على التعفف ويختار سؤال الآخرين وبيان الحاجة والاخبار عن فقره وحاجته.
ومعرفتهم بسيماهم تتعلق بوجوه محتملة:
الأولى : فقرهم وحاجتهم.
الثانية : انهم احصروا في سبيل الله.
الثالثة : لا يستطيعون السعي والكسب.
الرابعة : تعففهم مع حاجتهم.
الجواب مركب فقد تنحصر المعرفة المرتكزة لعلاماتهم وخصائصهم بالوجه الأول، وانهم معروفون عند الآخرين بانهم احصروا في سبيل الله وانهم عاجزون عن العمل.
ولو كانوا مسجلين كفقراء في مؤسسات وسجلات خاصة بالفقراء فهل تشملهم الاية، الجواب نعم لوجوه:
الأول: ان التدوين في سجلات الفقراء أو العاطلين عن العمل أو المتضررين وسيلة لمعرفتهم.
الثاني: ان التسجيل وتدوين الأسماء أعم من معرفة تفاصيل الأحوال الشخصية ومقدار الفقر والعوز.
الثالث: الآية دعوة عامة لمعرفة احوال الفقراء، والمبادرة الى تفضيل الذين ذكروا في هذه الآية، مما يستلزم التمييز ومعرفتهم لأعطائهم الأولوية.
الرابع: تخاطب الآية الأشخاص والمؤسسات والحكومات مما يستلزم سعي الأشخاص في كل زمان لمعرفة هؤلاء الفقراء واعانتهم.
تفسير قوله تعالى [ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ]
هذه هي الصفة السادسة لهؤلاء الفقراء ولو لم يكن عندهم الا صفات المدح هذه وموضوعية ذكرها في القرآن لكفاهم عزاً وشرفاً وغنى، فهي رزق كريم وغذاء عقائدي ومقام اجتماعي وعبرة في تهذيب النفوس ودرس للناس جميعاً بما فيهم الأغنياء، خصوصاً وان كل انسان يحب زيادة ثروته ويتبع مختلف الطرق التي يراها مناسبة ويلجأ الى الناس لتسهيل أموره، فتأتي هذه الآية لتعطيه درساً عملياً بالزهد وعدم اللهث وراء الدنيا، وتذكر له مثالاً ممن هم أدنى منه ويصارعون من اجل البقاء والعيش لإتخاذ الحياة الدنيا داراً لرفعة الإسلام.
وتقوم الحكومات والمؤسسات بإحالة الموظف والعامل على المعاش في آخر سني عمره ليتمتع بالراحة وتأمن له مقداراً كافياً من الراتب والعطاء يتناسب وخدماته، أما اهل التقوى الذين احصروا في سبيل الله فانهم شُرفوا بهذه الآية التي تعتبر وثيقة سماوية خالدة ترقى بهم الى مراتب القادة في الصبر والتحمل، من دون ان تمنع اعطائهم حقوقهم اسوة بالآخرين ووفق القواعد والأنظمة، بل بالعكس فانها تدعو المؤمنين وارباب الحقوق الى البحث عنهم والتوجه اليهم ودفع الضر والفاقة عنهم فهم غنيمة للثواب وفرصة للمغفرة والنجاة.
وفي الآية وجوه:
الأول: المراد انهم سألوا الناس ولكن من غير إلحاح، واختاره الزمخشري( )، ونعته الرازي بانه ضعيف، والحق لا هذا ولا ذاك، فهو وجه من وجوه تأويل الآية، ومرتبة أدنى من مراتب التعفف.
الثاني: انهم لا يسألون الناس اصلاً، وليس معناه انهم يسألون من غير الحاف، نسبه الطبرسي الى القيل، وذكر انه عن ابن عباس وانه قول الفراء والزجاج واكثر أرباب المعاني( ).
والآية أعم في موضوعها ودلالاتها كما سيأتي بيانه.
وجاءت الآية بصيغة المضارع (لا يسألون) مما يعني استمرار ودوام صبرهم وعدم لجوئهم الى الناس، يعلمون حالهم واتصال حاجتهم ومع هذا فانهم اختاروا عدم السؤال من الناس في يومهم وغدهم، وبما ان الإنسان ممكن فمن صفات الإمكان الحاجة وملازمتها له، ومن وجوه الحاجة وتجليها في الخارج السؤال وطلب الكمال وسد النقص من الغير، وتلك فريدة جديدة تخبر عنها هذه الآية في علم الكلام.
ويكون اللجوء الى الغير بمقدار الحاجة والإدراك، والسؤال من اهم مصاديق هذا اللجوء فلابد ان هؤلاء الفقراء يسألون لوجود المقتضي وفقد المانع، وعلى فرض ان الآية تعني عدم سؤال الناس فانهم يلجأون الى الله للسؤال، وعلى القول بانهم يسألون الناس من غير إلحاح فان الآية تدل على لجوئهم الى الله لأن الحاجة تلح عليهم وتدعوهم الى سلوك طرق سدها وتوفير الضروري من الأكل والشرب والملبس والمسكن، انهم يهربون من الحاجة الى العبادة وينقطعون الى الله ولا يلتفتون الى إلحاحها وهذا ذروة السؤال وطلب الحاجة منه تعالى، وهو من مصاديق العلم والمعرفة لأنهم عرفوا موضع السؤال ونيل الرغائب.
ومجيء الفعل بصيغة المضارع اعجاز وتحد واخبار عن حال موجودة لن تتغير أو تزول، فالآية تقول بوجود هؤلاء الفقراء في كل زمان ومن يبحث يجدهم سواء كان بحثه واستقصاؤه لإعانتهم أو للتأكد من صدق موضوع الآية في كل زمان.
ولا بأس بايجاد دراسات عن احوال بعض المؤمنين الصابرين الأحياء أو الأموات في كل زمان الذين هم من مصاديق الآية والتذكير بها وبموضوعها، وقد لا يعرف الناس بعضهم الا عند موته فتكون الإشارة اليه والإشادة به مدحاً له واستحضاراً لمضامين الآية القدسية.
وتضع الآية ضوابط كلية لتقسيم الفقراء، وجاء موضوع السؤال متعلقاً (بالناس) وهو عنوان عام يشمل:
الأول : المؤمنين والمسلمين واهل الكتاب والكفار.
الثاني : ذوي القربى والأصدقاء.
الثالث : الأغنياء وارباب الحقوق الشرعية.
الرابع : المؤسسات الخيرية، ومن يتولى توزيع الزكاة والهبات والإعانات.
ويحمل لفظ (الناس) في الآية على الإطلاق والتعدد، وعدم انحصار نفي السؤال بطرف أو جهة دون اخرى، نعم لا يدخل فيه من وجبت عليه نفقة الفقير كالأب والأم والولد الصلبي أو الحفيد أو السبط وهو ابن البنت وهذا الإطلاق يقطع الشك ويثبت حقيقة عقائدية وهي حسن توكلهم على الله وانقطاعهم اليه، والطمع فيما عنده دون ما سواه.
وهل يتعارض هذا مع طلب الأسباب لإبتناء الحياة الدنيا على قواعد العلة والمعلول، والسبب والمسبب، والأثر والمؤثر، الجواب: لا معارضة في البين انما ارادت الآية إعلان الإقرار بحقيقة في الإرادة التكوينية وهي استجابة الأشياء والأسباب لأمره تعالى وان مقاليد الأمور بيده، فتوجهوا اليه لينالوا ثواب الرجاء، اي ان مجرد التوجه الى الله بالحاجة فيه أجر وثواب بالإضافة الى استثمارهم لسلاح الدعاء والمسألة، فكأن الآية تقول لا يسألون الناس الحافاً ولكنهم يسألون الله.
فعدم سؤالهم للناس جاء نتيجة ومتعقباً لسؤالهم لله عز وجل، ومن يسأل الله عز وجل يستغن عن سؤال الناس، ومن يسأله تعالى لابد وان يرزقه ويستجيب له، فكأن سؤالهم اصبح سالبة بانتفاء الموضوع، نعم من وجوه الإستجابة هذه الآية بارشاد المؤمنين الى اعطائهم حق الله عز وجل في اموالهم وهو أمر يفيد ضمان رزقهم وعطائهم ان لم يكن من الناس فمن عنده تعالى، كما لو اعانهم على ازالة الحبس وجعلهم قادرين على الكسب والسعي، وهناك شواهد كثيرة بمجيء الفرج دفعة أو تدريجياً عند الضيق والشدة وازدياد الإبتلاء أو تهيئة باب للرزق والكسب حتى مع حال الإحصار وعدم الضرب في الأرض، كمن اتخذ له عملاً في داره.
وعدم السؤال مقدمة علمية للعمل والكسب والمساهمة في بناء المجتمع وحفظ النظام الإقتصادي والإجتماعي وانحسار ظاهرة التسول التي تشكو منها مجتمعات كثيرة، وهذه الآية واقية منها وعلاج لها من وجوه:
الأول : حصانة الفقراء الذين ذكــروا في هــذه الآية لأنهــم لم يســألوا الناس الحافاً، بل اختاروا الخضــوع والخشــوع لله عز وجل.
الثاني : ما فيها من حث للأغنياء على القيام بالسعي للبحث عن الفقراء المستحقين للصدقات، نعم ورد في الحديث: “ليس على الناس ان يبحثوا”، والمراد الإكتفاء بالظاهر والنهي عن التفحص عن احوال الناس وتفصيلات شؤونهم، ولكن طلب هؤلاء الفقراء أمر ممدوح لعمومات (ما على المحسنين من سبيل)، ولأنه مسارعة في الخيرات، ولأن غاية البحث هنا الثواب والأجر وقضاء حاجة المؤمن.
الثالث : تأديب الفقراء عامة وزجرهم عن الإلحاح في المسألة وطلب الإعانة من الناس.
الرابع : عدم اشاعة حالات رثاثة الحال ومظاهر الفاقة.
الخامس : الدعوة الى التجمل وعدم اظهار الضعف والهوان، وهذه الدعوة موجهة الى الناس كافة ولا تنحصر بملة دون اخرى أو فئة دون غيرها، فهذه الآية تهذيب للنفوس واصلاح للمجتمعات.
والإلحاف: الإلحاح، وهو مبغوض بين الناس وان كان عن حق وطلب تهيئ المقتضي له وفقدت موانعه، والإلحاح موضوع يتبين فيه التباين بين الواجب والممكن بصورة قريبة بهية، فواجب الوجود لا يزيده الإلحاح الا عطاء وكرماً واحساناً، لأنه تعالى هو الواسع الكريم الذي لا تنفد او تفنى خزائنه، أما الإنسان فانه ممكن محتاج يميل الى الإمساك مع كثرة الإلحاح، ولذا ترى الزكاة فريضة واجبة عليه لكي لا يتسرب الملل والإمساك الى نفسه ويعطي القليل ويظن انه انفق ما فيه الكفاية وبراءة الذمة خصوصاً اذا اعتمد المقارنة مع من يعطي اقل منه.
والآية دعوة الى عدم الإلحاح على الناس مطلقاً وإكرام صفة العبودية لله عز وجل بعدم مواصلة الطلب من الناس، وقد أكرم الله صفة العبودية في القرآن وجعلها مرتبة من التشريف قال تعالى [ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ] ( )، فجاء الإسراء بصفة العبودية وليس بذكر النبوة وان كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد الممكنات وصاحب الكمالات الإنسانية، لبيان عظيم منزلة العبودية ونيل الدرجات العلا بها.
كما ان الدعاء باب مفتوح لكل الناس الى يوم القيامة خصوصاً الذين حبسوا عن الكسب وقضاء الحوائج في سبيله تعالى، ولقد وردت نصوص تفيد ان الذي يكثر من الدعاء والمسألة في أيام الرخاء، تبادر الملائكة الى رفع دعائه في ساعة الشدة وتقول: صوت مسموع، أما الذي لا يدعو في ساعة الرخاء فانها تؤخر دعاءه عندما يتوجه الى الباري عز وجل بالدعاء ساعة صدوره من العبد والله يعلم به قبل ولادته، وكذا بالنسبة لهؤلاء الفقراء فان الملائكة ترفع دعاءهم لأنهم أُوذوا ولاقوا المشاق والعناء في سبيل الله، وما الإلحاح فيه الا مفخرة لبني الإنسان واثبات لأهليته للخلافة في الأرض لأنه عنوان الإقرار بالربوبية والتسليم بعظيم قدرته تعالى وتفويض الأمور له.
وفي الحديث: “ان الله يحب الإلحاح في الدعاء”، وفي خبر العياشي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام: “ان الله يبغض الملحف” أي الذي يسأل الناس بإلحاح.
وقد وردت نصوص عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تفيد كراهة الإلحاف، والحث على اجتنابه لعدم الحاجة اليه ولما فيه من الذل، ولدلالة المفهوم على الابتعاد عن المسألة من الله عز وجل واللجوء اليه، ومن الأخبار في هذا الباب:
الأول : قال قتادة في المرسل: “ذكر لنا ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: ان الله يحب الحليم الحي الغني المتعفف، ويبغض الفاحش البذئ السائل الملحف”( ).
الثاني : أخرج مالك وابو داود والنسائي عن رجل من بني أسد قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل الحافاً”( ).
وقد وردت اخبار من السنة النبوية الشريفة تفيد النهي عن السؤال، ولم يستثن منه الا حال الفاقة والعوز، وهؤلاء الفقراء الوارد ذكرهم في الآية أسوة ومنشأ انبساطي لعموم المؤمنين الفقراء الصابرين، وسؤال الناس لا يأتي بغير ما كتبه الله عز وجل للانسان من رزق، بينما يكون في التوجه اليه تعالى فضل عظيم وزيادة في الرزق.
وعن ابن عمر: “ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تزاد المســألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم”( ).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: “ان المسائل كدوح( ) يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك، الا ان يسأل ذا سلطان او في أمر لا يجد منه بداً”( ).
وتظهر في الحديث مضامين الرحمة بالاستثناء من كراهية المسألة، والتي يتألف من شقين:
الأول: سؤال السلطان لما في الملك من السعة والحق الشرعي.
الثاني: ما يحتاج اليه السائل في مستلزمات معيشته ووسائل كسبه.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سأل الناس في غير فاقة نزلت به او عيال لا يطيقهم جاء يوم القيامة بوجه ليس عليه لحم”( ).
وفيه تحذير من المسألة، ودعوة للتوجه الى الله تعالى والانشغال بالعبادات التي تفتح على الانسان أبواب الرزق.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله: “ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من سأل وهو غني عن المسألة يُحشر يوم القيامة وهي خموش( ) في وجهه”( ).
بحث بلاغي
تأتي عدة نعوت وصفات لواحد وتكون على قسمين:
الأول: الفصل بينها بأحد أدوات العطف كالواو، لبيان التفخيم او التباعد بينها وموضوعية استقلال كل منها، كما في قوله تعالى [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ]( ).
الثاني: عدم الإتيان بأدوات العطف بينها، للاشارة الى التداخل والتقارب بين تلك الصفات وعدم التباعد بينها كما في قوله تعالى [إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ]( ).
وقد جاءت نعوت الفقراء في هذه الآية من غير ان يتخلل بينها حرف عطف لبيان حاجتهم وتعدد علامات الفقر وسهولة معرفتهم وعدم اللبس في تعيينهم ولتيسير الوصول اليهم لشدة حاجتهم.
كما جاءت النعوت بمخالفة بين صيغة الخطاب والموضوع لأن الأمر يقتضي البيان والاطناب، لبيان تعدد وتنوع صفاتهم وكأنها عناوين استغاثة ورجاء للمبادرة لإعانتهم هي:
الأول : حصول الاحصار بأمر قهري خارج عن إرادتهم.
الثاني : انهم عجزوا عن السعي والكسب مع انهم لا يريدون العيش على الصدقات والإعانات، ولكن ابواب الكسب موصدة أمامهم، ففتح الله عز وجل أبواب الصدقات وهي حقه في أموال الأغنياء.
الثالث : من العز للمؤمنين وامتناع شماتة الأعداء ان الجاهل لا يعلم ما هم عليه من الفقر والعوز والفاقة، فبعد نعتهم بأنهم لا يستطيعون ضرباً في الأرض، ذكر قصور الجاهل عن معرفة حالهم.
الرابع : ان علامة الحاجة والفقر ظاهرة للبصائر، يراها المؤمن في سمتهم ووقارهم وهيئتهم.

قوله تعالى [وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]
خاتمة الآية قاعدة كلية، والكبرى الجامعة لها ثابتة عقلاً وشرعاً ووفق اصول الحكمة المتعالية، فالله عز وجل عالم بكل شيء ومن صفاته العليم، وبعد ان اجمع الفلاسفة والمتكلمون على انه تعالى عالم بالذات والمخلوقات واختلفوا على اقوال متعددة منها:
الأولى : اعتبار العلم بالذات والمخلوقات عين الذات الإلهية.
الثانية : العلم بالمخلوقات عنده تعالى صور قائمة بالذات وخارجة عن الذات الإلهية.
الثالثة : العلم بالمخلوقات هو عين وجودها.
ولكن هذا الإختلاف والمباحث المتفرعة عنه نزاع صغروي ولا يستحق ان يكون علة تامة لتقسيم العلماء او المسلمين الى فرق ومذاهب كلامية متعددة، فالأصل هو الإتفاق على اطلاق علمه تعالى بالموجودات سواء كانت مجردة أو مادية.
وافعال العباد حاضرة عنده تعالى فاخبر سبحانه عن علمه بفعل الخيرات في دعوة للإستزادة والتزود منها والمبادرة اليها وقوله تعالى [ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ] ولم يأت في القرآن الا ثلاث مرات، مرتين في الآية السابقة ومرة في هذه الآية، وهذا من اعجاز القرآن ولابد له من دلالات تتعلق بموضوع الإنفاق واهمية هذه الآيات في افشاء المعروف والمسارعة في الإحسان والإنفاق في سبيله تعالى.
وبينما وعدت الآية السابقة بالوفاء والأداء على الإنفاق جاءت هذه الآية بالإخبار عن العلم به، والوفاء لا يتحصل الا بالعلم بالإنفاق والوفاء معاً، وفيه مسائل :
الأول : لقد اخبرت الآية السابقة بان الإنفاق للنفس والذات [ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأنفسكُمْ ]( )، وهنا اخبرت عن العلم به، مما يعني ان العلم الإلهي باب لنزول البركة والوفاء بالأحسن والأتم.
الثاني : ان الإخبار عن العلم بالفعل الصالح يعني حصول الأجر والثواب.
الثالث : التذكير بعلمه تعالى يبعث الشوق في النفس لإتيان ما فيه مرضاته تعالى.
الرابع : متى ما علم العبد ان سيده ومولاه يحيط علماً بما يفعل فانه يحرص على اعانة الفقراء الذين احصروا في سبيل الله.
الخامس : تكرار الإخبار عن تحصيل الثواب وان المعروف هو بالحقيقة للنفس والذات والله عز وجل يعلمه لطف ورحمة إلهية، وبشارة وحث على البذل ودعوة لرجاء العوض وتذكير بالإثابة ووسيلة للإنابة.
السادس : ان الله عز وجل قادر على ان يجزي هؤلاء المؤمنين في الدنيا ويجعلهم يستغنون عن الناس في حاجاتهم، ولكنه سبحانه عليم بالناس واحوالهم في الدنيا والآخرة، فجعل فقر هؤلاء امتحاناً للجميع، فبعد ان اجتاز هؤلاء الفقراء الإمتحان الأهم وجندوا أنفسهم في سبيله تعالى واختاروا الأذى والعناء طلباً لمرضاته، انتقل التكليف الى الأغنياء لطرد الفقر عنهم ليشركهم الله عز وجل بثوابهم في جهادهم، ومع انه تعالى عالم بكل شيء فقد ورد الاخبار عن علمه تعالى بافعال العبد في باب الإنفاق لتبعث الآية السكينة في النفس والشوق الى الآخرة وعالم الجزاء، ومتى ما علم الإنسان بان الله مطلع على انفاقه فانه يزداد انفاقاً وسعياً في الصالحات.
بحث نحوي
(ما) لها عدة معان في اللغة، وقد اختلف النحويين في عدد اقسامها ومصاديق تلك الأقسام ومن معانيها:
الأول : اسم موصول: وتكون في الغالب لغير العاقل.
الثاني : معرفة تامة: تفيد معنــى (شيء) وسمـيت تــامة لأنهـا لا تحتــاج لصفة أو صلة تتم معناها، وتسمى ايضاً عامة كقوله تعالى [ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ] ( ).
الثالث : حرف نفي: تدخل على الجملة الفعلية والأسمية، وتستعمل لنفي الجنس.
الرابع : حرف مصدري: اذ تؤول مع ما بعدها مصدراً يعرب بحسب موقعه من الجملة.
الخامس : زائدة كافة: تكف عن عمل النصب والرفع عندما تتصل بان واخواتها، كما في قوله تعالى [ إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ]( )، كما تكف عن عمل الرفع اذا اتصلت باحد الأفعال، قلّ، كثر، طال، كقولك: قلما اتخلفُ عن صلاة الجماعة.
وتأتي كافة عن عمل الجر كما لو اتصلت بأحرف مخصوصة، مثل رب، وتكف بعض الظروف والأسماء عن الإضافة مثل بعدما، حيث، اذ، سي، نحو: صمت بعدما هل الهلال.
السادس : اسم استفهام: للسؤال عن الشيء وماهيته، كما في قوله تعالى [ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى ] ( ).
ويحذف الف (ما) الإستفهامية اذا جاءت مجرورة وتبقى الفتحة علامة عليها.
السابع : شرطية غير زمانية: وهي التي تفيد التنكير من جهة الزمان، وتستعمل لغير العاقل، ومن النحويين من يستدل عليها بهذه الآية بالذات [وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ].
الثامن : شرطية زمانية: وهي التي يكون للزمان موضوعية في ورودها في الكلام، نحو: فما دمت محرماً فاذكر الله.
التاسع : زائدة: ولا تأتي زائدة الا في مواضع منها بين الجار والمجرور، كما في قولك: سأصلي عما قليل، وبين المضاف والمضاف اليه، وبعد ادوات الشرط.
لقد ورد الحرف (ما) على نحو التنكير والإطلاق بالنسبة للزمان مما يعني احاطته علماً سبحانه بكل شيء، وفيه دعوة للإنفاق في جميع الأوقات وكأنها مقدمــة للآية القادمة وما فيها من ذكر أوقــات الزمان، وهــي حث على عدم الفتــور في الإنــفاق واستثمار ساعات الليل والنهار، ومن وجوه المدد الإلهي في هذه الآيــة ما ورد في الآية التالية من جواز الإنفاق علانية وسراً.


ردود كريمة على بعض الأجزاء الأخيرة من هذا السِفر المبارك
1- سماحة الإمام شيخ الأزهر.
2- سماحة العلامة الشيخ أ.د. مفتي جمهورية مصر العربية.
3- الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي.
4- سيادة رئيس مجلس القضاء الأعلى/ العراق
5- سيادة مستشار الأمن القومي السيد قاسم الأعرجي
6- سيادة رئيس المحكمة الاتحادية العليا .
7- سيادة القاضي رئيس الادعاء العام .
8- الأمين العام لإتحاد المؤرخين العرب.
9- سعادة أ.د .رئيس جامعة دمشق .
10- سعادة أ.د .رئيس جامعة ديالى .
11- سعادة أ.د. مدير جامعة الملك فيصل/ المملكة العربية السعودية
12- سعادة أ.د. مدير جامعة كردفان/ الجمهورية السودانية.
13- سعادة أ.د. مدير الجامعة الإسلامية/ المدينة المنورة.
14- سعادة أ.د. رئيس الجامعة العراقية.
15- سعادة أ.د. رئيس جامعة البصرة / العراق.
16- سعادة أ.د. رئيس جامعة القادسية / العراق.
17- سعادة أ.د. رئيس جامعة جدارا/ المملكة الأردنية الهاشمية.
18- كلية الإمام الاوزاعي للدراسات الإسلامية/ بيروت.
19- سعادة أ.د.مدير جامعة الأمير عبد القادر/ الجمهورية الجزائرية

السيد صاحب الفضيلة المرجع الديني الشيخ/صالح الطائي
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد،…..
فلقد تلقيت بحمد الله رسالتكم الرقيقة وبها الجزء الحادي والخمسون في تفسير آية واحدة من سورة آل عمران من القرآن الكريم.
نتضرع إلى الله العلي القدير أن يلهمكم العلم النافع وان يجعله في ميزان حسناتكم.
وشكر الله لكم حسن عملكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

المرجع الديني الشيخ/صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن وأستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…وبعد،
فإنه ليسعدني أن أتقدم لسيادتكم بخالص الشكر والتقدير والإحترام على تفضلكم بإهدائنا نسخة من من الجزء الثاني والثمانين.
وأتمنى من الله أن يديم عليكم نعمة الصحة والعافية وأن يسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنه وان يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
شاكرين لكم، ولكم تحياتي

سماحة المرجع الديني الشيخ صالح الطائي حفظه الله ورعاه
صاحب أحسن تفسير للقرآن الكريم
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…وبعد,
فقد تسلمنا بيد الشكر والتقدير نسخة من كتاب”معالم الإيمان في تفسير القرآن” الجزء التسعون-الآية 134 من سورة آل عمران، والذي تفضلتم بإهدائه إلى معالي البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلي، الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، ويشرفنا أن نتقدم إليكم بجزيل شكرنا على جهودكم المتواصلة لتفسير أي الذكر الحكيم، فجزاكم الله عنا خير الجزاء وبارك فيكم وفيما تقومون به من جهد مبارك خدمة للإسلام والمسلمين.
وتفضلوا بقبول وافر الشكر والتقدير.

سماحة الشيخ صالح الطائي “المحترم”

تحية طيبة
إشارة إلى كتابكم المرقم(7285/17) المؤرخ في 17/12/2017.
تلقينا ببالغ الإعتزاز إهدائكم نسخة من كتابكم الموسوم(معالم الإيمان في تفسير القرآن) الجزء التاسع والخمسين بعد المائة، نقدم شكرنا وتقديرنا متمنين لكم دوام الموفقية.
مع التقدير

السلام عليك عليكم ورحمة الله وبركاته
ببالغ الإمتنان والغبطة تلقينا هديتكم الكريمة (الجزء السادس عشر بعد المائتين ) من التفسير المبارك شاكرين حسن معالجتكم لهذا الموضوع المهم ونشد على عضدكم لتقدموا للأمة كل ما ينفعهم وينير بصيرتهم ويجلي الرين عن قلوبهم ليفهموا كتاب الله كما أراد سبحانه أن يفهموه ويعملوا بأحكامه ليكون لهم في الدنيا , مرشداً وفي الآخرة شفيعاً . ونضع أنفسنا وامكاناتنا لخدمة هذا المجهود المبارك سائلين المولى القدير أن يوفقكم لكل خير .

المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم

تحية طيبة

تلقينا ببالغ الاعتزاز إهداءكم القيم (الجزء الرابع والثلاثون بعد المائتين ) من تفسيركم للقرآن, وهو بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) .

   ونقدم شكرنا وتقديرنا .

مكتب المرجع الديني
الشيخ صالح الطائي

م/شكر
تحية طيبة
كتابكم ذي العدد 23/19 المؤرخ في 2/1/2019.

استلمنا هديتكم (الجزء الخامس والسبعين بعد المائة من تفسير القرآن الكريم) ونقدم لكم شكرنا آملين منكم المزيد من العطاء والتوفيق.
مع التقديــــر.

إلى/ سماحة المرجع الديني للمسلمين الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
م/شكر وتقدير

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
وأسال الله تعالى أن يوفقكم ويحفظكم ويرعاكم أنه سميع مجيب الدعاء
تسلمت مع بالغ الشكر والتقدير والإمتنان والإعتزاز اهداءكم لنا الجزء الواحد والثلاثين بعد المائتين من تفسيركم للقرآن وهو بعنوان (آيات السلم محكمة غير منسوخة ) ، وأن هذا الإنجاز يعبر عن مستوى ما متعكم به الله تعالى من امكانات متميزة في الإبداع الفكري والعلمي في مجال تفسيركم للقرآن الكريم ، ولم اقرأ أو اسمع أن هنالك منجزاً في تفسير القرآن العظيم بمثل ما قدمتموه ، وأني لاعجز عن التعبير عن مدى اعجابي واحترامي وتقديري لما حباكم به الله تعالى من امكانية علمية فريدة ومتميزة .
داعياً الله تعالى لكم بموفور الصحة والسعادة والأجر الفضيل من أجل تقديم المزيد من العطاء لخدمة الإسلام والمسلمين في زمن شح به العطاء والإنتاج الفكري الإسلامي ، دعائي من الله تعالى لكم بمزيد من الصحة والعافية ومزيد من الإنتاج الرائع المتميز .
وسلامي للعائلة العزيزة جميعاً الذين وفروا لك أجواء هذا العمل العلمي المتميز وجزاهم الله خير الجزاء ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

سماحة المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب احسن تفسير للقرآن
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

أتقدم اليكم بجزيل الشكر والتقدير لهديتكم القيمة الجزء الحادي عشر بعد المائتين الخاص بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
وأتمنى من الله أن يديم عليكم نعمة الصحة والعافية والمزيد من النجاح والتوفيق ، نبارك لكم جهودكم ونقدر لكم هذا الإهداء…

سماحة المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته …

تلقينا بكل تقدير وامتنان اهدائكم نسخة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) الجزء الثالث والأربعون بعد المائتين ، ونتقدم بخالص الشكر والعرفان على هذا الاهداء ، داعياً الله العلي القدير ان يمدكم بعونه وتوفيقه ، وان يسدد خطاكم ويكلل اعمالكم بالنجاح انه سميع مجيب .

ومن الله التوفيق

فضيلة الشيخ/ صالح الطائي الموقر
مكتب المرجع الديني وصاحب أحسن تفسير للقرآن
وأستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
ص.ب -21168 مملكة البحرين

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد
تلقيت بكل الثناء والتقدير خطاب فضيلتكم رقم 1861/16 وتأريخ 20/5/2016م المرفق طيه نسخة من كتاب بعنوان “معالم الإيمان في تفسير القرآن ” الجزء الثاني والثلاثين بعد المائة.
يطيب لي ويسعدني أشكر فضيلتكم جزيل الشكر على إهتمامكم المتواصل بتزويد إدارة الجامعة بهذه النسخة ، وستحال إلى مكتبة الجامعة للإطلاع عليها، سائلاً المولى جلت قدرته للجميع التوفيق والسداد.
وتقبلوا خالص تحياتي وتقديري،،،

السادة/ مكتب المرجع الديني
الشيخ صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تهديكم جامعة كردفان أطيب التحايا ، وتغمرنا السعادة بالإصدارات التي تتوالى إلينا بإنتظام من مكتب المرجع الديني في (معالم الإيمان في تفسير القرآن) والذي كان آخر هذه الإصدارات (الجزء السادس والثلاثين بعد المائة) والذي تشرفنا بإستلامه بموجب خطابكم رقم 1535/16 الصادر في 13/7/2016م، وذلك إثراءاً للمعرفة في مجال تفسير آيات القرآن، خدمة للباحثين والمهتمين بأمر التفسير القرآني، والتي أضحت متاحة في الأقسام المختصة بالمكتبات الأكاديمية في الجامعات ومراكز البحوث وجامعة كردفان تحظى بأعداد وافرة منها في مكتبها المركزية.
ختاماً لكم الشكر والعرفان على هذا الصنيع، نفعنا الله به، وأثابكم عليه خير الجزاء .
وتفضلوا بقبول فائق عبارات التقدير والإحترام

معالي الشيخ/ صالح الطائي سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،، وبعد

فأسال الله لمعاليكم العون والتوفيق، ويسرني إفادتكم بأني تلقيت بكل تقدير وإمتنان إهداءكم للجامعة نسخة من الجزء التاسع بعد المائة من(معالم الإيمان في تفسير القرآن).
وإنني إذ أتقدم لمعاليكم بخالص الشكر والعرفان على هذا الإهداء، لأدعو الله العلي القدير أن يمدكم بعونه وتوفيقه، وأن يسدد خطاكم ويكلل أعمالكم بالنجاح إنه سميع مجيب يحفظكم الله ويرعاكم.
ولكم تحياتي وتقديري
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
تحية طيبة…
نشكر مبادرتكم الطيبة بإهدائكم لنا نسخة من كتابكم الموسوم الجزء الثلاثون بعد المائة من(معالم الإيمان في تفسير القرآن) سائلين الباري عز وجل أن يوفقكم في مسيرتكم العلمية والعملية خدمة لبلدنا العزيز.
ومن الله التوفيق…

الشيخ محمد الشيخ صالح الطائي المحترم
مدير مكتب المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ صالح الطائي المحترم

نهديكم أطيب التحيات …

نتقدم بأجمل عبارات الشكر والتقدير على جهودكم المبذولة في إهدائكم إيانا نسخة من كتابكم (معالم الإيمان في تفسير القرآن/ الجزء الواحد بعد المائة) ….. متمنين لكم المزيد من التقدم والنجاح.
تفضلوا بقبول وافر الاحترام …

إلى / مكتب المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن

تحية طيبة …
تسلمنا ببالغ الشكر والتقدير الجزء السابع بعد المائة من التفسير وهو القسم الأول من تفسير(أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس) شاكرين لكم اهداءكم متمنين لكم مزيداً من الإرتقاء والأزدهار والتطور.
…مع التقدير

سيادة الأخ الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن الكريم
وأستاذ الفقه والأصول والأخلاق
بكل فخر وإعتزاز تلقيت رسالتكم الموقرة التي تحمل العدد (532) تأريخ 26/5/2012م، ومرفقها الجزء التسعون من التفسير في الآية(133) من سورة آل عمران.
وانني إذ أشكركم جزيل الشكر وعظيم الإمتنان على اهدائكم هذا، سائلاً المولى عز وجل أن يديم عليكم نعمة الصحة والعافية، وأن يجعلكم سنداً وذخراً للأمة الأسلامية متمنياً لكم كل التقدم والإزدهار.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بيروت في 9/ربيع الأول/1440هــ
الموافق 24/11/2018م

سماحة المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
مكتب المرجع الديني الشيخ صالح الطائي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تتقدم كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية بأطيب تمنياتها، وتشكركم على الجزء(171) الذي وصلنا من جانبكم من كتاب: “معالم الإيمان في تفسير القرآن” والذي يتضمن قراءة في آيتين من القرآن بما يدل على أن النبي(ص) كان لا يسعى إلى الغزو ولم يقصده ولم يدع إليه.
آملين الإستمرار في إرسال الأجزاء التي ستصدر منها مستقبلا، شاكرين لكم حسن تعاونكم الدائم معنا وداعين الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما فيه خير الإسلام والمسلمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إلى السيد المحترم/الشيخ صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن
مكتب المرجع الديني
تحية طيبة وبعد :
تلقينا نحن أ.د/ عبدالله بو خلخال مدير جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية قسنطينة، هديتكم القيمة المتمثلة في كتاب(معالم الإيمان في تفسير القرآن) الجزء الثالث عشر بعد المائة.
وإذ نعبر لكم عن شكرنا على هذه الإلتفاتة الكريمة، نهديكم نحن بدورنا نسخة من مجلة الجامعة العدد 33 ونسخة من نشرية أخبار الجامعة.

تقبلوا فائق الإحترام والتقدير.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn