تم تنقيح الجزء السابع والأربعين والثامن والأربعين من (معالم الإيمان ) مع إضافات كثير في كل منهما
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله الذي أبدع الخلائق من غير مثال يحتذى , سواء في الآفاق او ما تحت الثرى ، قال تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( )، لبيان ثناء الله عز وجل على نفسه ومظاهر عظيم قدرته في دعوة الناس للهداية والصلاح ، إذ يعجزون عن إحصاء معشار أفراد المخلوقات.
وسيأتي مزيد كلام في الجزء السادس والأربعين بعد المائتين من هذا السِفر وهو خاص بقانون (علم الإحصاء القرآني غير متناهِ).
وجعل النفوس عاشقة لذكر الله تعالى ، متطلعة لفضله، وفي التنزيل [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
وأفاض الله عز وجل عليها بالحكمة، وخلق فيها الرحمة والرأفة، وجعل المال وسيلة لاكتناز الصالحات، ودرء المفاسد والخصومات، وشرع الزكاة والصدقة مطلقاً لطرد شوائب الحاجة وظلمة الفاقة ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
ويتضمن هذا الجزء من التفسير قراءة وتفسيراَ للآيتين (274-275) من سورة البقرة، ويتعلق موضوع الآية الأولى بالصدقة واحكامها, وفق قانون إلهي وضوابط كلية تساهم في اعطائها موضوعية في الحياة اليومية للمسلمين، وحسن المعاملة وتجعلها على وجوه :
الأول : قانون الزكاة منهاج إيماني ثابت .
الثاني : قانون مصاحبة وجوب الزكاة للحياة الدنيا .
الثالث : قانون الزكاة والصدقة جزءً من المعارف القرآنية والآداب العقائدية .
الرابع : قانون الزكاة والصدقة تربية شرعية وإحسان محص للذات والغير .
الخامس : الزكاة والصدقة حرز من ذمائم الأخلاق .
السادس : الزكاة برزخ دون غلبة استيلاء حب الدنيا والهوى، والقوى النفسانية الشيطانية.
ويتعلق موضوع الآية الثانية بحرمة الربا وشدة عقوبته.
وستأتي أربعة أجزاء من هذا السِفر وهي (89-90-91-92) خاصة بتفسير قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ومن إعجاز القرآن تعدد مواضع موضوع أو حكم واحد في القرآن للتنبيه والتدبر وطرد الغفلة ، قال تعالى [وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
وإفشاء الصدقات عنوان الإيمان والتصديق بآيات القرآن وما فيها من اعجـاز، كما ان مدرسـة الزكـاة لا تنحصــر بموضوعها والالتـزام بها وضـرورتها بل تشــمل منافعها وفلســفتها وآثــارها العاجلة والآجلة، [أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ] ( ).
قوله تعالى[الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] الآية 274.
الإعراب واللغة
(الذين ينفقون) الذين: اسم موصول مبتدأ، ينفقون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون.
والواو: فاعل، والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول.
(أموالهم) أموال: مفعول به منصوب بالفتحة، وهو مضاف، والضمير (الهاء) مضاف اليه، والميم علامة جمع الذكور.
(سراً وعلانية) سرا: حال منصوب بالفتحة، والواو: حرف عطف، علانية: معطوف على سِرًّا.
(فلهم) الفاء: للسببية، وقيل زائدة( ) لما في الاسم الموصول من معنى الشرط، لهم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
(أجرهم) أجر: مبتدأ مؤخر وهو مضاف، والضمير مضاف اليه.
(عند ربهم) عند: ظــرف متعلــق بمحذوف حال، وهو مضاف، رب: مضاف اليه وهو مضاف، والضمير (هم) مضاف اليه.
السر معروف وهو ما يُكتم ويخفى عن الاخرين، ويُقال أسر الشيء كتمه، وقيل هو من الاضداد، (واستدل ابن منظور عليه بقوله تعالى وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ .
ولكنه في الآية يدل على الإخفاء عن الرؤساء والملأ من المشركين، ويُقال تساروا: أي تناجوا، باعتبار انها تحمل معاني السر وشبه الإخفاء.
والإعلان: المجاهرة والإظهار، واعلن الخبر: أشاعه وأفشاه من غير احتراز، وانشد ثعلب:
حتى يشك وشاة قد رموك بنا
وأعلنوا بك فينا أي إعلان
والأجر : الجزاء على العمل، والجمع أجور، وفي حديث أم سلمة: آجرني الله في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها”، أي أثابني وأعطاني الأجــر والجزاء، وفي ابراهيـم قــال تعالى [ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ]( ).
في سياق الآيات
بعد الحث على الإنفاق والتقييد بالنية والقصد وان يكون في سبيل الله والوعد الكريم بالجزاء الحسن، وتعيين من يستحق بالأولوية الصدقات الواجبة والمستحبة، جاءت هذه الآية لمدح المسلمين الذين يقومون بالإنفاق من غير تعليق الإنفاق بوقت أو هيئة مخصوصة، ولإتمام الحث القرآني الكريم على الإنفاق.
وقيل هذه الآية هي آخر الآيات هنا تتعلق بالإنفاق، ولكن التحذير من الربــا الوارد في الآيــة القادمة له صلة بموضوع الإنفاق بلحاظ ان التخلص والتنزه من الربا مقدمة للإنفاق في سبيل الله تعالى.
ولما ذكرت الآية السابقة حال العوز التي صار عليها كثير من المهاجرين والذين ضيّق عليهم كفار قريش وحلفاؤهم أسباب الرزق والكسب ، فنزلت هذه الآية لتنمية قانون التكافل الإجتماعي بين المسلمين وفق قوانين وسنن سماوية وفق الأحكام التكليفية بوجوب الزكاة والخمس ، وبقاء باب الصدقة المستحبة مفتوحاً على نحو العموم الإستغراقي عند المسلمين فيشمل الذي ليس عندهم نصاب للزكاة ، ولا زيادة على المؤنة ومال يتعلق به الخمس والكفارات .
ومع بيان الآية السابقة لحال العوز التي صار عليها فريق من المسلمين والمسلمات فانها أختتمت بالترغيب بالإنفاق وبيان الأجر العظيم المترتب عليه بقوله تعالى [وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ).
ولا يختص موضوع الآية بأيام النزول بل هو مستمر ومتجدد إلى يوم القيامة.
وصحيح أن المتبادر من لفظ (من خير) هو المال ، كما في قوله تعالى [وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ]( )، ولكن موضوعه في الآية أعم فيشمل الإحسان بالقول والأمر بالمعروف وبذل الجهد العضلي والبدني لإعانة الفقراء.
آيات (الذين ينفقون)
لقد ورد لفظ [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ] ست مرات وهي :
الأولى : قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثانية : قوله تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
السادسة : قوله تعالى [وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا]( ).
ويلاحظ ورود أربعة منها في سورة البقرة وهي أول سورة نزلت في المدينة لبيان الحضّ على الإنفاق في سبيل الله وخمسة من هذه الآيات في الثناء على المؤمنين الذين ينفقون في سبيل الله ، وواحدة فقط في ذم المنافقين الذين يقصدون في الإنفاق السمعة والرياء والتباهي وهي الآية الأخيرة أعلاه وهي من سورة النساء.
مدرسة أهل الصفّة
لقد ترك المهاجرون أموالهم وهاجروا من مكة وغيرها إلى المدينة لإشتداد أذى المشركين لهم ، وكانت المهنة الغالبة على أهل المدينة الزراعة ، ولا تحسن قريش والمهاجرون منهم العمل في الزراعة إلى جانب كثرة عدد المهاجرين بما يكون أكبر وأكثر من فرص العمل في المدينة إذ بنى لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجوار المسجد النبوي صفة ، وسمّاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الأوفاض) لأنهم أخلاط من قبائل شتى.
و(عن أبي رافع : أن الحسن بن علي عليه السلام حين ولدته فاطمة أرادت أن تعق عنه بكبش عظيم فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( لا تعقي عنه بشيء ولكن احلقي شعر رأسه ثم تصدقي بوزنه من الورق في سبيل الله عز و جل على الأوفاض ) ثم ولدت الحسين بن علي من العام المقبل فصنعت به كذلك)( ).
وقيل سبب هذه التسمية أن كل واحد منهم بيده (فضة) أي إناء صغير يلقى فيه له الطعام ، والأول أرجح وأصح.
ومن أسماء الذين أقاموا في الصفة لبرهة من الوقت :
1- أبو ذر الغفاري حيث نسب نفسه إليهم.
2- واثلة بن الأسقع.
3- قيس بن طهفة الغفاري، حيث نسب نفسه إليهم.
4- كعب بن مالك الأنصاري.
5- سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي.
6- سلمان الفارسي.
7- أبو هريرة حيث نسب نفسه إليهم.
8- أسماء بنت حارثة بن سعيد الأسلمي.
9- حنظلة بن أبي عامر الأنصاري (غسيل الملائكة).
10- حازم بن حرملة.
11- حارثة بن النعمان الأنصاري النجاري.
12- حذيفة بن أسيد أبو سريحة الأنصاري.
13- حذيفة بن اليمان وهو من المهاجرين حالف الأنصار فعد في جملتهم ، وقد تقدمت ترجمته( ).
14- جارية بن جميل بن شبة بن قرط.
15- جعيل بن سراقة الضمري.
16- جرهد بن خويلد (وقيل بن رزاح) الأسلمي.
17- رفاعة بن لبابة الأنصاري، وقيل اسمه بشير بن عبد المنذر من بني عمرو بن عوف.
18 – عبد الله ذو البجادين.
19- دكين بن سعيد المزني وقيل الخثعمي.
20- خبيب بن يساف بن عنبة.
21- خريم بن أوس الطائي.
22- خريم بن فاتك الأسدي.
23- خنيس بن حذافة السهمي.
24- خباب بن الأرت.
25- الحكم بن عمير الثمالي.
26- حرملة بن أياس، وقيل هو حرملة بن عبد الله العنبري.
27- زيد بن الخطاب.
28- عبد الله بن مسعود.
29- الطفاوي الدوسي.
30- طلحة بن عمرو النضري.
31- صفوان بين بيضاء الفهري.
32- صهيب بن سنان الرومي.
33 – شداد بن أسيد.
34- شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
35- السائب بن خلاد.
36- سالم بن عمير من الأوس من بني ثعلبة بن عمرو بن عوف.
37- سالم بن عبيد الأشجعي.
38- سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
39- سالم مولى أبي حذيفة.
40- أبو رزين.
41- الأغر المزني.
42- بلال بن رباح ، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (كان فيما ذكروا آدم شديد الأدمة نحيفاً طوالاً أجنى خفيف العارضين)( ).
43- البراء بن مالك الأنصاري.
44- ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
45- ثابت بن وديعة الأنصاري.
46- ثقيف بن عمرو بن شميط الأسدي.
47- العرباض بن سارية.
48- غرفة الأزدي.
49- عبد الرحمن بن قرط.
50- عباد بن خالد الغفاري.
إعجاز الآية
تعطي الآية موضوعية للإنفاق في حياة الإنسان وبجعله جزء من عالم الزمان وملازماً لجميع آناته المتجددة والمنبسطة على الليل والنهار، ولم تحصر الآية الإنفاق بصيغة مخصوصة من الخفاء أو الإظهار بل جعلت الأولوية للمبادرة للإنفاق رجاء الثواب وتهذيب النفوس واصلاح المجتمعات ونزول البركة وحصول النماء بالإنفاق في سبيل الله تعالى .
وفي قوله تعالى [وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، قيل (كان رجال يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير نفقة ، فإما يقطع بهم وإما كانوا عيالاً ، فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة ، والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع والعطش ومن المشي ، وقال لمن بيده فضل وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ( ).
ومن اعجاز الآية البشارة بالأمن والسلامة للمنفقين في أشد الحالات التي يحتاج فيها الإنسان الى رحمة الله تعالى لانحصار جلب الأمن والوقاية من الفزع والخوف يوم القيامة به تعالى ، وفي التنزيل [قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ]( ).
وتمنع الآية من رمي من ينفق بمختلف الأوقات بالرياء والسمعة.
ويمكن ان تسمى هذه الآية (آية ينفقون أموالهم)، وتسمى والآيات السابقة التي بينت أحكام الإنفاق (آيات الإنفاق).
الآية سلاح
الآية دعوة لجعل الإنفاق ظاهرة مستمرة، ووسيلة لنشر مكارم الأخلاق بين المسلمين، والمنع من الشح والبخل، ومندوحة وسعة في الإنفاق موضوعاً وزماناً.
أسباب النزول
ذكرت في نزول هذه الآية أسباب:
الأولى : أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والطبراني وابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس: “انها نزلت في علي بن أبي طالب، كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهماً، وبالنهار درهماً، وسراً درهماً، وعلانية درهماً.
وذكره الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس، والخوارزمي في المناقب، والثعلبي في تفسيره، والحافظ ابو نعيم وغيرهم( ).
الثانية : وذكر في رواية عن ابن عباس : ان علياً ما كان يملك غير أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: ان استوجب ما وعدني ربي، فقال: لك ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية”( ).
الثالثة : عن سعيد بن المسيب: “ان الآية نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف إذ أنفقا في جيش العسرة( ).
الرابعة : (وقيل نزلت في أبي بكر الصديق حين تصدق بأربعين ألف دينار، عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة في السر، وعشرة في العلانية)( ).
ونسبة الخبر إلى القيل تضعيف له ، إذ لم يثبت أن أبا بكر يملك هذه الأموال أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن ، وكل دينار مثقال ذهب عيار ثماني عشرة حبة .
نعم كان يخرج إلى السوق لطلب الرزق والكسب ، وعندما تولى الحكم بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى طلبوا منه الكف عن الخروج إلى السوق وجعلوا له في كل يوم نصف شاة.
وعن (عطاء بن السائب قال لما استخلف أبو بكر أصبح غاديا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فقالا له أين تريد يا خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال السوق قالا تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين قال فمن أين أطعم عيالي قالا له انطلق حتى نقرض لك شيئا فانطلق معهما فقرضوا له كل يوم شطر شاة وماكسوه في الرأس والبطن)( ).
الخامسة : نزلت في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله، ونسبه في الكشاف الى القيل، وعن أبي هريرة: “كان اذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية.
السادسة : (لما نزل قوله تعالى [ لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ]( ) بعث عبد الرحمن بن عوف الى أصحاب الصفة بدنانير، وبعث علي عليه السلام بوسق من تمر ليلاً، فكان أحب الصدقتين الى الله تعالى صدقته، فنزلت هذه الآية، فصدقة الليل كانت أكمل)( ).
مفهوم الآية
تتكون العلة من طرفين:
الأول : وجود المقتضي.
الثاني : فقد المانع.
والمقتضي للإنفاق أمور :
الأول : الأمر الإلهي بالزكاة والإنفاق المحمول على الوجوب، قال تعالى [آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ]( ).
ويتجلى في الآية أعلاه قانون [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، فهذه الأموال والأعيان التي بأيدي الناس إنما هي ملك لله عز وجل ، جعلها عندهم نوع أمانة وإختبار ، وهي فرع قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الثاني : مجئ السنة النبوية بوجوب الزكاة والخمس والإنفاق في سبيل الله ، وفيه نصوص متواترة ومستفيضة منها عن ابن عباس أن وفد (عبد القيس أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمرهم بأربع أن يؤمنوا بالله وحده وأيقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا رمضان ويعطوا من المغانم الخمس)( ).
الثالث : قانون حاجة الفقراء والمساكين لمال الزكاة.
الرابع : قانون استدامة البركة والنماء في المال وصحة الأبدان بالزكاة وتعاهد إخراجها بشروطها.
و(عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : كل مال ، وإن كان تحت سبع أرضين يؤدى زكاته ، فليس بكنز ، وكل مال لا يؤدى زكاته ، وإن كان ظاهرا فهو كنز)( ).
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( )، و(عن أبي ذر ، قال : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في ظل الكعبة وهو يقول: هم الأخسرون ورب الكعبة ، فقلت : ومالي أنزل في شيء فقلت : ومن هم فداك أبي وأمي.
قال : هم الأكثرون أموالا ، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا ، يعني من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله بكفيه جميعا ، وقليل ما هم .
ثم قال : ما من رجل يموت وله إبل أو بقر أو غنم لم يؤد زكاتها ، إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت وأعظمه تعضه بأفواهها ، وتطأه بأخفافها ، كلما نفد آخرها عادت أولاها ، حتى يقضى بين الناس)( ).
فجاءت هذه الآيات لطفاً من الله تعالى لإعانة المسلمين على الإنفاق، وهذا اعجاز خاص بفلسفة المعرفة الإلهية، فان وجود المقتضي وفقد المانع يكفيان لتثبيت الحجة وأصل وجوب الزكاة.
ولكن الآيات القرآنية فيض ورحمة إضافية بالإضافة الى السنة النبوية والشواهد الكثيرة التي تساعد على اخراج الزكاة والأحكام التكليفية التفصيلية والوضعية الخاصة بها.
إن الله عز وجل يريد للمسلمين اجتناب الشح والبخل وعدم حبس الحقوق الشرعية، لذا تفضل بجعل كل الأوقات مناسبة لإعطاء الصدقات، ورفع الحرج بالنسبة لظرف الزمان.
وتتحدى هذه الآية العرف في كل زمان ومكان، وتنهى عن جعله حاجزاً دون الإنفاق.
والآية في مفهومها إنذار ووعيد للذين يتخلفون عن الإستجابة لأمر الله تعالى بحرمانهم من الأجر والثواب، وهذا الحرمان ليس ظلماً أو مخالفاً لقواعد الرحمة الإلهية الشاملة للناس جميعاً، بل لأنهم اختاروا حجب الخير عن أنفسهم في الدنيا والآخــرة، بخلــوا بالقليــل وامتنعــوا عن الإسـتجابة، ففقدوا الأهلية للأجر والثواب وأصبحوا وجهاً لوجه مع الخوف والحزن ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
وتبعث الآية الرعب في قلوب أعداء الإسلام لاخبارها عن قيام المسلمين بالتبرع بأموالهم في أي وقت وكيفية لإقامة شعائر الله وإعانة المحتاجين، وفي إعانتهم قوة للإسلام وتأهيل للفقراء لأداء وظائفهم الشرعية والسعي والكسب.
وقد ورد في حديث الإسراء عن انس: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رأيت ليلة اسري بي مكتوباً على باب الجنة الصدقة بعشر امثالها والقرض بثمانية عشر، قلت يا جبريل ما بال القرض افضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يسأل الا من حاجة( ).
وأولوية وأفضلية القرض وكونه وسيلة للعمل لا يعني عدم الفضل الذاتي والغيري للصدقة، كما ان الآية تتعلق بالإنفاق في سبيل الله وهو أعم من الصدقة، وقد تقدم ان النسبة بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل صدقة إنفاق، وليس كل إنفاق صدقة.
وترفع الآية الحرج عن الفقير والمحتاج في سؤال حاجته في الليل أو النهار وقبضه للزكاة والصدقة سراً وعلانية.
ومن موضوع الإنفاق ما ورد في قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
وسيأتي في الجزء الأربعين بعد المائتين أن هذه الآية حرب على الإرهاب ومنع منه ، إنما هي حيطة وضرر وتوقي من هجوم المشركين وغزوهم المدينة.
لتكون الآية أعلاه والإنفاق في موضوعها سلاماً ودعوة للسلم المجتمعي والأمن العام ، ورجاء أداء المسلمين فرائضهم من غير خشية وخوف من الذين كفروا ، قال تعالى [وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا]( ).
إفاضات الآية
هذه الآية رحمة إلهية تتغشى المسلمين ليقوموا بزرع أشجار الإنفاق والصدقة مجتمعين ومتفرقين، بمعنى ان كلاً منهم يقوم بالإنفاق واشاعته ويتعاون مع الآخرين في الإنفاق العام، ويكون من يقوم بالإنفاق اسوة وقدوة لمن لم ينفق لقلة ما في يده أو لتقصير منه، ويشترك الجميع في قطف ثمار الإنفاق فضلاً من الله تعــالى.
ليتولى الله عز وجــل نماء الصــدقة ومضاعفتها والعنايـة بها وزيادة ثمارها الى يوم القيامة بكتابة الحسنات والأجر والثواب ، وفي التنزيل [يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ]( ).
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تصدقوا فإن أحدكم يعطي اللقمة أو الشيء فتقع في يد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل ، ثم تلا هذه الآية [أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ]( )، فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله فيوفيها إياه يوم القيامة)( ).
وعن الإمام علي عليه السلام (وصنائع المعروف فانها تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهوان)( ).
ومن إفاضات الآية انها تفتح أبواب الإنفاق وتجعلها مشرعة في اليوم والليلة، وبالسر والعلانية.
وتوكيد هذه الآيات على الإنفاق يساهم في تنقيح الطبائع واصلاح السرائر، ويدفع المسلمين الى عالم الإنفاق تصدقاً أو ســعياً فيه ومدحــاً وإكرامــاً لأصــحابه، أي ان الآيـة تحث المسلمين على إكرام واحترام من يقوم بإنفاق أمواله في سبيل الله تعالى.
ومن الإفاضــات ان الله عز وجل يســخر الليل والنهار للناس لأمور :
الأول : قانون الصالحات .
الثاني : قانون السعي في الدنيا قال تعالى [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ]( ).
الثالث : قانون الاخلاص في العمل.
الرابع : قانون اختيار الإنفــاق ليكــون خُلقــاً دائماً، وسبباً لطرد الحــزن والخوف عن النفس ، قال تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
ابتدأت آية البحث بالاسم الموصول (الذين) وغالباً ما يكون متعلقاً في موضوعه بالآية السابقة ، وجاء في هذه الآية في ذات موضوع الآيات السابقة منها [وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ]( )، ومنها [إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]( ).
والآية قبل السابقة [وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
وجاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية في أولها وأوسطها وآخرها.
ولم تقيد آية البحث الإنفاق بأنه في سبيل الله ، وفيه مسائل :
الأولى : تقييد آيات القرآن الأخرى الإنفاق بأنه في سبيل الله ، ومن خصائص القرآن قانون تقييد المطلق إن ورد الدليل من الكتاب أو السنة أو مطلق هو ما دلّ على شائع في جنسه ، ومنه قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاًمِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )، وجاء التقييد في السنة النبوية من جهتين :
الأولى : موضع القطع .
الثانية : مقدار مال السرقة ، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً)( ).
الثانية : موضوع الآية السابقة حاجة الفقراء الذين هاجروا واحصروا في سبيل الله إلى الصدقة والإعانة إذ قال تعالى [لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ).
الثالثة : إخبار الآية عن الأجر العظيم على الإنفاق شاهد على أنه في سبيل الله.
ومن الإعجاز في الآية السابقة ومفهومها تقسيمها المهاجرين إلى قسمين :
الأول : الفقراء .
الثاني : غير الفقراء ، من الذين عندهم أموال ، أو كسب ، ورزق ، وسكن ، ومنهم من تزوج من الأنصار ، وهم على شعبتين :
الأولى : الذين تجب في أموالهم الزكاة .
الثانية : الذين ليس عندهم نصاب للزكاة أو الخمس .
وقد تقدم في الجزء السابق أن النسبة بين الإنفاق المذكور في الآية أعلاه وبين إخراج الزكاة عموم وخصوص مطلق ، فالإنفاق أعم وأكثر ، وجاء لفظ الأموال بصيغة الجمع والعموم ، ولكن تقيده آيات القرآن الأخرى ومنه [وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا]( ).
وكذا آيات الزكاة والخمس ، وبيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأنصبة التي تجب عندها الزكاة.
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : الذين ينفقون شطر أموالهم .
الثاني : الذين ينفقون من أموالهم .
الثالث : الذين ينفقون الزكاة من أموالهم .
الرابع : الذين ينفقون الصدقة المستحبة من أموالهم .
وجمعت الآية بين أحوال أربعة في الإنفاق وهي :
الأول : الليل .
الثاني : النهار .
الثالث : السر .
الرابع : العلانية .
لإرادة الإطلاق في أفراد الزمان والكيفية التي يقع فيها الإنفاق والبذل والعطاء ويترشح عنه الإطلاق المكاني فيشمل الحضر والسفر وهل يدل عدم ذكره على إرادة أكثر الإنفاق في الحضر .
وجاءت الآية بصيغة الجمع (الذين ينفقون) ليشمل وجوهاً :
الأول : الآية انحلالية والمراد إنفاق كل مسلم ومسلمة على نحو الإستقلال .
الثاني : اشتراك الأسرة في الإنفاق .
الثالث : إنفاق الجماعة والشركاء .
الرابع : إرادة بيان حكم شرعي عام.
الخامس : ذكر الإنفاق في الوصية من الثلث سواء بتعيين الذين تعطى لهم الهبة والصدقة أو مطلقاً ، وإمضاء وتنفيذ الوصي وعامة الورثة لها عند موت الموصي ، ولم تقل الآية (بالليل) أو (النهار علانية) إنما تقع صدقة السر في النهار مثلما تقع صدقة العلانية في الليل .
وبعد أن ذكرت آية البحث الذين ينفقون من أموالهم بصيغة الثناء والمدح ومنه إجتهادهم في أوان وكيفية الإنفاق ، من غير ملل أو ضجر أو رشحات البخل والشح ، أخبرت عن الأجر والثواب العظيم الذي لهم عند الله عز وجل .
وهل يختص موضوع قوله تعالى [فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ]( )، وهو الأجر بعالم الآخرة ، الجواب لا ، فهو بشارة الفضل الإلهي في الدنيا والآخرة ، ومنه مضاعفة الرزق والبركة ونماء المال .
و(عن أنس . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة لم تكن له حسنة)( ).
و(عن جابر بن عبد الله [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا…]( )، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أهل الإِسلام اقرضوا الله من أموالكم يضاعفه لكم أضعافاً كثيرة . فقال له ابن الدحداحة : يا رسول الله لي مالان مال بالعالية ومال في بني ظفر ، فابعث خارصك فليقبض خيرهما . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفروة بن عمر : انطلق فانظر خيرهما فدعه واقبض الآخر ، فانطلق فأخبره فقال : ما كنت لاقرض ربي شر ما أملك ولكن أقرض ربي خير ما أملك ، إني لا أخاف فقر الدنيا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رب عذق مدلل لابن الدحداح في الجنة)( ).
وقتل ابن الدحداحة شهيداً يوم معركة أحد.
ثم أخبر الله عز وجل بثواب آخر وجزاء غير الأمر بقوله تعالى [وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، ومن معاني (لا خوف عليهم) وجوه :
الأول : لاخوف عليهم في الحياة الدنيا فهم في مأمن من الإرتداد والضلالة والشح .
الثاني : لا خوف عليهم من الآفات العرضية الطارئة كحوادث السيارات في هذا الزمان .
الثالث : لا خوف عليهم من موت الفجأة .
الرابع : لا خوف عليهم من عقوق الأبناء .
الخامس : لا خوف عليهم من الفقر والفاقة .
السادس : لا خوف عليهم من إغواء الشيطان.
السابع : لا خوف عليهم من عذاب النار يوم القيامة ، قال تعالى [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا]( ).
وقال الثعلبي : ولا خوف عليهم من الكبائر واني اغفرها.
(وقيل : لا خوف عليهم فيما تعاطوا من الإجرام ، ولا هم يحزنون على ما اقترفوا من الآثام لما سبق لهم من الإسلام)( ).
ولكن لا دليل على أن الإنفاق سبب لمغفرة الكبائر ولا الإجرام ، إنما يستلزم الأمر إتيان الفرائض والصلاح وكثرة الإستغفار ، والتضرع رجاء العفو من عند الله عز وجل .
وأخرج أحمد في الزهد (عن وهب قال : قال الحواريون : يا عيسى من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ قال عيسى عليه السلام : الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها ، والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها ، وأماتوا منها ما يخشون أن يميتهم وتركوا ما علموا أن سيتركهم.
فصار استكثارهم منها استقلالاً وذكرهم إياها فواتاً ، وفرحهم بما أصابوا منها حزناً.
وما عارضهم من نائلها رفضوه ، وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه.
خلقت الدنيا عندهم فليس يجددونها ، وخربت بينهم فليس يعمرونها ، وماتت في صدورهم فليس يحبونها.
يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم ، ويرفضونها فكانوا برفضها هم الفرحين ، وباعوها فكانوا ببيعها هم المربحين ، ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت فيهم المثلات فاحبوا ذكر الموت وتركوا ذكر الحياة.
يحبون الله تعالى ويستضيئون بنوره ويضيئون به ، لهم خبر عجيب وعندهم الخبر العجيب.
بهم قام الكتاب وبه قاموا ، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا ، وبهم علم الكتاب وبه علموا ، ليسوا يرون نائلاً مع ما نالوا ، ولا أماني دون ما يرجون ، ولا خوفاً دون ما يحذرون)( ).
وقد تقدم في أسباب نزول الآية عن ابن عباس أنها نزلت في الإمام علي عليه السلام لبيان أن المؤمن يستطيع أن يجمع بين أفراد الإنفاق الأربعة المذكورة في الآية وهي :
الأول : الليل .
الثاني : النهار .
الثالث : السر ، سواء في الليل أو النهار ، وفي السوق أو المنتدى أو المسجد أو السكن .
الرابع : العلانية وإن تعدد موضوع الآية.
وفي الآية وجوه :
الأول : قانون صرف الله عز وجل عن المنفقين في سبيله المكروه المتوقع.
الثاني : قالوا يمحو الله عنهم البلاء وكثيراً من أصناف المرض والداء.
الثالث : قانون المنفقون في سبيل الله في أمن وطمأنينة من أهوال الآخرة في عرصات يوم القيامة.
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : ترغيب المسلمين والمسلمات بالإنفاق في سبيل الله ، وهو من مصاديق [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثانية : جمع الآية بين الإنفاق الواجب في الزكاة والخمس والإنفاق المستحب فلا يختص الإنفاق بمن يتحقق عنده النصاب ، ولا بالأغنياء .
الثالثة : بيان حاجة استدامة الصلاح والأمن بالإنفاق في سبيل الله وإعانة الفقراء .
الرابعة : ذكرت الآية الإنفاق على سبيل الإطلاق ، وجاءت آيات أخرى تقيده وبصيغة الأمر ، قال تعالى [وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الخامسة : نزلت آيات بالترغيب بالهجرة ، قال تعالى [وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( )، وقال تعالى [وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وجاءت هذه الآية لإعانة فقراء المهاجرين لتكون من المراغم أي المندوحة وابتغاء المعيشة.
و(عن ابن القاسم قال : سئل مالك عن قول الله [وسعة] قال : سعة البلاء)( ).
ولكن المراد سعة العيش وإزاحة الفقر والفاقة.
السادسة : من إعجاز القرآن في باب الإنفاق لزوم عدم المنّ على الفقير أو غيره بالإنفاق ولا الرياء ، لأن الإنفاق في سبيل الله ، ولأن ثوابه عظيم ، قال تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
السابعة : ذكر الإنفاق في الليل والنهار والسر والعلانية دعوة للمسلمين للمسارعة في الإنفاق وعدم إرجاء نفقة الليل إلى النهار أو العلانية إلى السر وكذا العكس ، وهو من الإعجاز في آية البحث ومن مصاديق قوله تعالى [َيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ]( ).
الثامنة : البشارة والوعد من عند الله بصيرورة أكثر المسلمين في سعة وغنى وقدرة على الإنفاق في طاعته تعالى لدلالة قوله تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ]( )، على تملك المسلمين للأعيان والعروض والنقود ونزلت هذه الآيات وأغلب المسلمين في حال فقر وعوز ، ومنه قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، ووقعت معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية ، ومن معاني الذلة في المقام قلة الأموال والسلاح والظهر .
التاسعة : لم تقيد آية البحث الإنفاق من جهة القلة أو الكثرة ، لبيان عدم وجود حد له في القلة ، ويقبل الله عز وجل اليسير ويعطي عليه الكثير ، وعدم التقييد هذا من عمومات قوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( ).
العاشرة : لقد ذكرت آية البحث الإنفاق في أفراد الزمان الطولية ، وبالسر والعلانية ، وجاءت آية أخرى ذكرت الإنفاق في حال الرضا والشدة ، قال تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، لبيان قانون مصاحبة الإنفاق للإيمان .
الحادية عشرة : تجلي مصداق لقانون عطاء الله بالأوفى والأتم ، ببيان الآية لعظيم الأجر على الإنفاق والوعد من الله بالأمن والسلامة في الدنيا والآخرة .
و(عن أبي الدرداء ، أنه كان ينظر إلى الخيل مربوطة بين البراذين والهجن فيقول : أهل هذه من الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( ).
لبيان أن من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( )، إرادة تخويف المشركين من الهجوم وغزو المدينة وليس المراد منها القتال والغزو .
الثانية عشرة : بعث السكينة في نفوس المسلمين ، وهدايتهم إلى سبل الطمأنينة بالإنفاق في مرضاة الله ، وبقصد القربة إلى الله ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
قانون زهد يوسف (ع)
من معاني آية البحث قانون التذكير السماوي بالفقراء وحاجتهم إلى المال .
(وروي أنّ يوسف عليه السلام كان لا يشبع من طعام في تلك الأيّام ، فقيل له : تجوع وبيدك خزائن الأرض.
فقال : أخاف أن شبعتُ أن أنسى الجائع ، وأمر يوسف أيضاً طباخي الملك أن جعلوا الغداة نصف النهار ، وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائعين ، ويُحسن إلى المُحتاجين ، ففعل الطهاة ذلك ، ومن ثمّ جعلت الملوك غداءهم نصف النهار)( ).
وورد حكاية عن يوسف ومن طبقة الملك [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ]( )، لبيان أمانته وأنه يتصرف بما رزقه الله عز وجل من العلم والوحي.
وهل منه معرفة يوسف عليهم السلام بموارد الإنفاق ، والذين يستحقون العون والمساعدة ، ودفع الفاقة أو الهلاك جوعاً عنهم ، الجواب نعم ، ومنه تعيين اسعار القمح للناس من غير افراط ولا تفريط .
وهل تشمل آية البحث قصة يوسف عليه السلام أم أنها خاصة بالمسلمين وزمان ما بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، المختار هو الأول ، فالأنبياء قادة الأمم في الصالحات ، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
ويكون إنفاق يوسف من جهتين :
الأول : الإنفاق من يبعث المال ، وهو لا يتم إلا بالإذن من الملك .
الثاني : الإنفاق من المال الخاص .
قانون مواساة الفقراء
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان واختبار ، ومن الناس من يصلحه الغنى ، ومنهم من يصلحه الفقراء ويكون طريقه إلى الجنة ، كما جعلها الله عز وجل دار التراحم والرأفة والثواب بين الناس ، مع قانون نفرة النفوس من الشحناء والبغضاء .
في الآية مواساة للفقراء ، ودعوة لهم للصبر والإمتناع عن السرقة أو اقتراض المال الربا لأنه محرم في كل الأحوال ، قال تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، والحرمة في الآية أعلاه أعم موضوعاً من الحرمة على آكل الربا بقوله تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
وفي حديث الإسراء أن جبرئيل عليه السلام قال (يا محمد أبشر، هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضى من ربّك ، فأقبل رضوان حتى سلّم ، ثم قال : يا محمد ، ربّ العزة يقرئك السلام ومعه سفط من نور يتلألأ ويقول لك ربّك : هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع ما لا ينتقص لك مما عندي في الآخرة مثل جناح بعوضة.
فنظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبرئيل عليه السلام كالمستشير له فضرب جبرئيل بيده الأرض وقال : تواضع لله. فقال : يا رضوان لا حاجة لي فيها ، الفقر أحبّ اليّ)( ).
السيرة والسنة النبوية شاهد على حال الفقر التي كان عليها النبي محمد ويبيت عياله أحياناً بلا نار للعشاء مع أنه انفق في النهار مائتي الف أوثلاثمائة ألف ، ومن مواساة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للفقراء ما ورد دعاؤه بملازمة المسكنة له ، إذ ورد عن أبي (سعيد الخدري : أحبوا المساكين ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين)( ).
التفسير
قوله تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ]
جاء الآية بصيغة الخبر الذي يدل على الحدوث والإمضاء، وان المسلمين يمتثلون للأمر الإلهي بالإنفاق في سبيله تعالى، لذا تضمنت الآية المندوحة والسعة في الإنفاق.
وظاهر الآية ان الإنفاق متعلق بجميع الأموال لأن ذكرها في الآية ورد بصيغة الاطلاق [أَمْوَالَهُمْ] ولكن الآيات القرآنية الاخرى والسنة النبوية جاءت مخصصة لمنطوق الآية وما يحتمل ظهوره من صيغة الاطلاق، فمن الكتاب آيات منها آية الصدقات [ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ …]( )، ومنها الآيات السابقة بالتقييد والتبعيض في قوله تعالى [ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ]( )، وقال تعالى [وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا]( ).
ومن السنة نصوص كثيرة وسنة قولية وفعلية، منها ما ورد عن الإمام الصادق عن أبيه عليهم السلام (إن رسول الله صلى الله عليه وآله بلغه أن رجلا من الأنصار توفي وله صبية صغار وليس له مبيت ليلة تركهم يتكففون الناس وقد كان له ستة من الرقيق ليس له غيرهم وأنه أعتقهم عند موته ، فقال لقومه: ما صنعتم به ؟
قالوا : دفناه فقال : أما إني لو علمته ما تركتكم تدفنونه مع أهل الاسلام ترك ولده صغارا يتكففون الناس)( ).
و(عن سعد بن أبي وقاص : أنه مرض مرضاً أشفي منه فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوده فقال : يا رسول الله إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا ابنة أفأتصدق بالثلثين؟
قال : لا . قال : فالشطر .
قال : لا . قال : فالثلث .
قال : الثلث والثلث كثير ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)( ).
وهل يمكن قراءة الآية بتقدير وهو: ان المسلم ينفق بالنهار فيكتب له بالليل والنهار، فتتعدد الوجوه كالآتي:
الأول : ينفق بالنهار فيكتب له إنفاق بالليل والنهار.
الثاني : ينفق بالليل فيكتب له بالنهار والليل.
الثالث : ينفق علانية فيكتب له بالسر والعلانية.
الرابع : ينفق بالسر فيكتب له بالعلانية والسر.
الخامس : ينفق بالليل فيكتب له بالليل والنهار والسر والعلانية.
السادس : ينفق بالنهار فيكتب له بالليل والنهار والسر والعلانية.
السابع : ينفق بالعلانية فيكتب له بالسر والعلانية والليل والنهار.
وهكذا المختار نعم ، خصوصاً وان الإنفاق بالليل أو النهار لابد ان يكون بالسر أو العلانية للتباين الموضوعي بينهما في الكتاب، فالليل والنهار فردان زمانيان، أما السر والعلانية فيتعلقان بالكيفية.
فلا تعارض في البين لأن السر والعلانية في طول الليل والنهار وليسا قسيمين لهما.
وهذا التعدد أمر ممكن بلحاظ الفيض الإلهي وسعة رحمة الله تعالى، ليكون المسلمون في باب الأجر والثواب مواظبين على الصالحات دائبين في الإنفاق، يعطون القليل من اموالهم فتأتي هذه الآية لتقول [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ].
وبذا فان المضامين القدسية للآية أعم من المفهوم البلاغي، وفيها اشراقة ملكوتية، وبشارة ومنع للحرج من إنفاق القليل.
ومتى ما أدرك الانسان ان انفاقه القليــل يكتب عند الله عز وجل انه تصــدق بكل أموالــه فانه يزداد إيماناً ويشــتاق الى لقــاء ربه، وينصــرف عنــه الخوف من الحساب يوم القيامة، ويدرك ان الله عز وجل يراه ويبارك أعماله.
ومجيء الآية بصيغة الجمع تنبيه لجواز واستحباب المشاريع الخيرية التي ينتفع منها الأكثر والتي تدوم مدة أطول، فالتصدق ببناء دور سكنية للفقراء أفضل من اعطائهم مؤونة يومهم وان لم يكن بينهما تعارض لإمكان الجمع بينهما.
وعن أبي الدرداء (قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( )، قال : يشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام (أنه كان يصلي الغداة بغلس عند طلوع الفجر الصادق أول ما يبدو، قبل أن يستعرض، وكان يقول[وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( )، إن ملائكة الليل تصعد وملائكة النهار تنزل عند طلوع الفجر، فأنا احب أن تشهد ملائكة الليل وملائكة النهار صلاتي وكان يصلي المغرب عند سقوط القرص قبل أن تظهر النجوم)( ).
قوله تعالى [بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ]
الليل والنهار فردا الزمان المحصوران بين كل مغيبين أو طلوعين للشمس، وهما من الضدين اللذين يستحيل اجتماعهما معاً في وقت واحد لما يرجع الى ذاتيهما من الظلام بالنسبة لليل، والضياء بالنسبة للنهار، وهما سر من أسرار الخلق وآية كونية متحركة حاضرة على نحو الدوام يتجددان تذكيراً من وجوه :
الأول : قانون الوجود والعدم .
الثاني : قانون وحشة القبر.
الثالث : قانون اشراقة الآخرة بنهار دائم وضياء خالد ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أنفسهِمْ]( ).
أي ان الآيات تأتي في الآفاق على نحو مستقل، وفي النفس على نحو مستقل ايضاً، وفيهما معاً بالتداخل ويتجلى في ساعة الفجر.
ومن الآيات التي تجمع بينهما آية الليل والنهار لتأثيرهما في النفس الإنسانية وتوجه الانسان نحو العبادات، وهما مجتمعان ومتفرقان وسيلة للتذكير بالله عز وجل من خلال عظمة مخلوقاته وبديع السماوات والأرض وما فيهما من الذوات والاعراض ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) ( ).
والنسبة بين النهار واليوم التساوي وكأنهما مما اذا اجتمعا افترقا، واذا افترقا اجتمعا، فاليوم اسم لساعات النهار سواء من طلوع الفجر الى مغيب الشمس، أو من طلوع الشمس الى مغيبها، ولكن قد يكون هناك فرق بينهما وهو ان النهار اسم لفرد واحد من مفهوم اليوم، أما اليوم فهو اسم جنس لمطلق الأيام، لذا لا يثنى النهار ولا يُقال نهاران.
وقال ابن منظور: (وربما وضعت العرب النهار في موضع اليوم فيجمعونه حينئذ نُهُر) ( ).
فاليوم يطلق أحياناً على ارادة الجنس والمتعدد من الأيام، وفي مجيء الآية بعنوان (النهار) نكتة عقائدية وهي الحث على الإنفاق في سبيل الله تعالى كل يوم على نحو التعيين، وليس الإنفاق في أي يوم من أيام العمر أو أيام السنة أو الشهر أو الاسبوع، وكذا بالنسبة لليل للالحاق والإنفاق على نحو الاستحباب، لذا فان الصدقة القليلة الراتبة لها أجر عظيم.
والليل يأتي للجمع وواحدته ليلة مثل تمر وتمرة، وقد يجمع على ليال.
وكما ان النهار والليل آيتان من عالم التكوين والخلق، فان لهما منافع جمة تؤكد تسخيرهما رحمة بالانسان وإعانة له على قضاء حوائجه وأداء وظائفه، وتعاقب الليل والنهار مناسبة للذكرى والموعظة والاعتبار.
وظلمة الليل عنوان الوحدة والوحشة، وتبعث على الخوف من المجهول، وما الخشية من اللصوص والجن وطوارق الليل الا اسباباً قهرية للجوء الى الله تعالى وطلب النجاة منه، وكأنها تذكير متجدد بعالم الآخرة يأتي بعد النهار وضيائه، كما ان النهار امتحان وعمل واعتبار.
وقد تفضل سبحانه وجعل الصلاة اليومية تتغشى آنات النهار والليل في دعوة لذكر الله، وملازمة لصفة العبودية بالقول والفعل لأن الصلاة عمل عبادي يؤدى بأفعال مخصوصة من قيام وركوع وسجود وقراءة للقرآن.
وتعاقبهما يساعد على الإنفاق لما فيه من آيات التخويف.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: “كان هذا يعمل به قبل ان تنزل براءة، فلما نزلت براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها انتهت الصدقات اليها( ).
ولكن الآية أعم زماناً وموضوعاً وحكماً.
الآية دعوة لاستثمار ضوء النهار لاتيان القربات، والإنفاق سبيل لدوام نعم الله تعالى على الناس، بمعنى ان الإنفاق والصدقة الشخصية وسيلة لدفع البلاء عن الناس .
والنهار عالم رحب واسع تتحقق فيه أمنيــات الليل وما يرد على الخاطر فيه من الأمــور والحاجات، وما يبيته الانسان وما يعزم عليه في النهار ايضاً في طــول ســاعاته أو يستحدث في ســاعات العمل، وقد يبدد ضوء النهار احلاماً ونوايا في الليل وحسابات مخصوصة، فتأتي هذه الآية لترسيخ ما نواه من الصدقة في الليل وما عزم على دفعه.
قانون تسخير الزمان لعمل الصالحات
وبلحاظ تقديم الليل فان الآية تشير الى التدارك، أي ان فاتكم الإنفاق بالليل فأتوا به في النهار.
وفي الآية اخبار عن استحباب الصدقة والمبادرة اليها في الليل أو النهار، وانهما خلقان من خلق الله تعالى جعلهما في خدمة الانسان ومنافعه، قال تعالى [ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ]( ).
والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فمن وجوه التسخير هو استثمار الليل والنهار موضوعاً ووعاءً للانفاق ، بالاضافة لأداء العبادات فيهما والعمل الصالح مطلقاً ، وليس للانسان من وقت الا الليل والنهار فهما مصاحبان له طيلة أيام حياته، يساعدانه على أمور دنياه وعبادته ، وييسران له دفع الصدقة ، ويسهلان له النفقة اذ جعلهمــا الله عز وجل مناسبة لاتيان الصدقات وتعويض ما فــات ورد الأمانات واخراج الزكاة ، واداء حقوق الأخرين والاستغفار، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أو أَرَادَ شُكُورًا]( ).
ومما لا يختلف فيه اثنان من العقلاء ان ساعات النهار وعاء زماني للكسب والعمل، وكأن الشمس دعوة كونية للنهوض والتوجه الى ميادين العمل سواء في المدن أو القرى، في البدو أو الحضر، وعليه سنن الناس منذ بدء الخلائق، قال تعالى [ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا]( ).
والصدقة من أفضل مصاديق المعاش سواء بالنسبة لدافع الصدقة أو آخذها، فالصدقة بالنسبة للمنفق بركة ونماء ومعاش دنيوي وزاد للآخرة، وهي لآخذها كفاية لمؤونته وقضاء حاجته.
قانون الإنفاق زاجر عن الرياء
تنفي الآية الرياء عمن ينفق في الليل والنهار، وتدفع عن نفسه الوهم المركب من قسمين متضادين:
الأول: الغرور والاعتداد بالفعل والظن بأنه ينفق أكثر مما يجب، وانه يؤدي ما عليه وزيادة لأنه لم ينفق في الليل وحده ولا في النهار وحده بل في الليل والنهار.
الثاني: تسرب البخل والشح الى النفس بالشعور بلزوم الاكتفاء بالإنفاق في أحدهما الليل أو النهار.
ومن خصائص الإنفاق في سبيل الله أنه جهاد ضد النفس الشهوية والغضبية والأمارة بالسوء ، وفيه تحلية لعالم الفعل ، ولو دار الأمر في أصل الإنفاق بين الرياء وعدمه ، والصحيح هو الثاني ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا]( ).
فتأتي الآية لتحث المسلم على المبادرة الى الإنفاق في أي وقت، ولو أراد المكلف إنفاق مقدار من المال ودار الأمر بين انفاقه بالليل أو النهار أو بالأول منهما المقارن للنية وامكان الانفاق، فهل يختار الإنفاق في الأول منهما لعمومات المسارعة الى الخيرات والتعجيل بالصالحات، أم انه يجعله على قسمين، قسم في الليل وقسم في النهار.
الجواب: ان الشريعة سمحاء ومنطوق آيات الإنفاق يدل على حسنهما معاً، وكل واحد منهما فيه أجر عظيم، وفوائد مخصوصة للذات والغير، فحينما تأتي أفراد السعة والتخيير في العمل العبادي فانها تساعد على التخلص من التشديد على النفس.
آيات بالليل والنهار
وقد ورد لفظ [بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ] أربع مرات في القرآن وهي :
الأولى : قوله تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، وهي آية البحث.
الثانية : قوله تعالى [قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ]( ).
وفي الجمع بين هذه الآية وآية البحث دعوة للناس للوقاية من الآفات والبلاء بالإنفاق في الليل والنهار ، والمبادرة إلى الإحسان ، ليكون قانون صرف البلاء بسبب الإنفاق في سبيل الله من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )،
الثالثة : قوله تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ]( )، لبيان رحمة الله عز وجل بالتخفيف عن الناس جميعاً بآية النوم وما فيه من المنافع.
الرابعة : قوله تعالى [فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ]( ) ، لبيان وحدة الموضوع في تنقيح المناط في عبادة الخلائق لله والصلة بين أهل السموات والأرض ، فوظيفة الملائكة التسبيح بالليل والنهار ، ووظيفة المؤمنين الإنفاق في الليل والنهار.
وإذ يستكبر شطر من الناس عن عبادة الله فان الملائكة جميعاً مستجيبون لأمر الله ، منقطعون إلى التسبيح ، وفي الثناء عليهم قال تعالى [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
كما ورد لفظ (الليل والنهار) في آيات عديدة أخرى من غير أن يسبقها حرف الجر الباء منها قوله تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ]( )،
ليكون من معاني الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث أن أفراد الزمان الطولية مناسبة لعبادة الله والإنفاق في سبيله .
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية فرض الصلاة في خمس أوقات متفرقة في اليوم لملازمة الذكر والتسبيح للمسلم ، قال تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
قانون طاعة الملائكة لله
لقد جَعلَ الله عز وجل الملائكة على طاعته ، قال تعالى في وصفهم والثناء عليهم [يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ]( ).
وذكر الليل والنهار في الآية أعلاه من غير حرف الجر الباء ، ولا يوصف الملائكة بالذكورة أو الإنوثة ، قال تعالى [وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ]( )، ولا يأكل ولا يشرب الملائكة إنما غذاؤهم التسبيح وخفف الله عز وجل عن الناس فجعل الإنفاق في سبيله تعالى مما رزقهم عبادة وطاعة له ، وطريقاً إلى اللوذ في النعيم ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
والإيمان بالملائكة والتصديق بهم من أركان الإيمان.
ومن بركات هذا الإيمان نزولهم ليلة القدر من كل سنة ، قال تعالى في وصف ليلة القدر [تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ]( ).
ومنها نزولهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه ، ومنع سيوف المشركين من الوصول إليه مع أنه صار عدد قليل من أصحابه في بعض المعارك كما في يوم معركة أحد كما سيأتي بيانه في الجزء الثامن والثلاثين بعد المائتين وغيره من هذا التفسير.
وبخصوص معركة بدر قال [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، ومن خصائص الملائكة سرعة الإنتقال والنزول إلى الأرض باسرع من الضوء ، وسرعته (300) كم في الثانية.
وقد يسأل أحدهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وليس عنده جواب فينزل جبرئيل قبل أن ينصرف السائل ، ليكون الجواب الذي يأتي به حجة ، ووسيلة لتثبيت الإيمان في النفوس ، وفي الترغيب بمحاكاة المسلمين للملائكة في العبادة .
ورد عن (جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم . قال : يقيمون الصفوف المقدمة ، ويتراصون في الصف)( ).
استحباب الصدقة في الليل
هذه الآية دعوة للمبادرة الى الإنفاق في جميع ساعات اليوم وليلته، وجاء ذكر الليل والنهار على نحو الاطلاق ليشمل جميع آنات الليل وآنات النهار.
وهل تخرج بالتخصص ساعات النوم وخلو الطرقات من المارة والاسواق، الجواب: لا، لاصالة الاطلاق وعدم ورود دليل أو قرينة على التخصيص، ومن ساعات الليل ما تكون مناسبة للصدقة من وجوه:
الأول: انها موافقــة لصــدقة الســر التي ذكرت بقوله تعالى [ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ]( ).
الثاني: فيها تعاهد لحال العز عند المؤمنين ومنهم الفقراء.
الثالث: الصدقة في الليل أبعد عن الرياء والسمعة والشهرة واراءة الآخرين في الجملة.
الرابع: قانون الصدقة في الليل شراء للسلامة في الليل من الشرور الخفية.
الخامس: قانون يبعث الإنفاق بالليل السكينة في النفس.
السادس: فيه امتثال لما ورد في هذه الآية.
السابع: يشتد أثر الحاجة عند الفقير عند سواد الليل وظلمته، وربما أصيب بالاحباط في النهار ولم يصله فيه ما يرجوه فيظن ان عدم الحصول على الرزق في الليل من باب الأولوية، فتأتيه الصدقة لتملأ نفسه رضا وينشغل بالشكر لله تعالى وذكره ، والإستغفار وفي الثناء على المتقين ورد قوله تعالى [كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( ).
لبيان المواساة للفقراء بأن يلتقي المتقون الذين يخشون الله عز وجل بالذكر والإستغفار والصلاة في الليل ، وتكون فيها مواساة للفقراء ، ولا يعلم الذين يعملون بمضامين هاتين الآيتين وثواب عملهم إلا الله عز وجل فهو سبحانه [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( ).
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال (نزلت هذه الآية [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ] ( )، في رجل من أشجع كان فقيراً خفيف ذات اليد كثير العيال فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأله ، فقال : اتق الله واصبر ، فلم يلبث إلا يسيراً حتى جاء ابن له يقال له أبو نعيم كان العدو أصابوه فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فسأله غيره وأخبره خبرها فنزلت {ومن يتق الله })( ).
قانون الصدقة موعظة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مدرسة جامعة يتعظ فيها الإنسان من حياته ، وعن غيره والأفضل هو الذي يتعظ ويتعلم من غيره لينتفع في أمور الدين والدنيا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
والصدقة للعبد بان الله عز وجل لم ينسه في وحدته وعندما ضعف وتضاءل أمله بالناس جاء الرزق من عند الله تعالى.
ومن الآيات ان الفقير في هذه الحالة يدرك ان الرزق من عند الله تعالى بواســطة عبــد من عبيـده للقرائن التي يدركها الفقير بالفطرة الانسانية، ولأن الله عز وجل يقيم الحجة على العبد في صيغ الرحمة والرأفة التي يتفضل بها على الناس.
وجهات الإنفاق أعم من ان تتعلق بالفقير بل تشمل وجوهاً أخرى من وتعظيم شعائر الله وبناء المساجد ، وطبع الكتب الدينية الهادفة .
وفي قراءة أبي ((إن المتصدقين والمتصدقات واقرضوا الله قرضاً حسناً) بالصدقة والنفقة في سبيله)( ).
و(عن الحارث الأشعري( )، أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إن الله عز وجل، أمر يحيى بن زكريا، عليه السلام، بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وكان يبطئ بها، فقال له عيسى، عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن، وإما أن أبلغهن. فقال: يا أخي، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي.
قال : فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس، حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرف، فحمد الله وأثنى عليه .
ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن ، وأولهن : أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئًا، فإن مثل ذلك مَثَل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بوَرِق أو ذهب.
فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟ وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأمركم بالصلاة؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وأمركم بالصيام.
فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة، كلهم يجد ريح المسك. وإن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك.
وأمركم بالصدقة ، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فشدوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه .
فقال لهم : هل لكم أن أفتدي نفسي ، فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه. وأمركم بذكر الله كثيرًا؛ وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سِراعا في أثره، فأتى حصنا حصينًا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله)( ).
مسائل في صدقة الليل
الأولى : قد تكــون الحاجــة الى النفـقة في الليــل أكــثر منها في النهــار، وهــذه الحاجة قد تكــون من طــرف الفقير وجــهة الإنفاق أو من جهة المنفق نفسه وليس من حد لهذه الحاجة.
الثانية : الإنفاق في الليل مقدمة للنهار والعمل فيه، فكأن المنفق يسأل الله عز وجل الرزق في النهار ويستعد له بالعمل الصالح والتصدق من أمواله، وفيه وجوه :
الأول : قانون الصدقة باب لدفع البلاء ، و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : حصنوا أموالكم بالزكاة ، وداووا مرضاكم بالصدقة ، وأعدوا للبلاء الدعاء)( ).
الثاني : قانون الصدقة مجلبة للرزق.
الثالث : قانون الصدقة بركة ونماء للمال ، وهو المستقرأ من تسمية الزكاة فمع أنها إخراج للمال ، ولكن يزكى ويزيد باخراجها.
الثالثة : في الآية مندوحة وسعة في الانفاق، وتجعل الانسان مخيراً في اختيار أي وقت من الليل والنهار.
الرابعة : الآية مناسبة كريمة للتعجيل بالصدقة والإنفاق في سبيل الله تعالى.
الخامسة : في الآية انجاز لقضاء حاجة المحتاج، فكأنها تقول ان جاء السائل في الليل فلا تؤخروه إلى الصباح، وكذا بالنسبة لموارد الإنفاق في سبيل الله تعالى مطلقاً، وقد يكون التأخير سبباً لاستحداث عوائق وعلة للمنع، ومناسبة لطرو وسوسة الشيطان.
السادسة : في الآية إشارة إلى فضل صدقة السر ورجحان موضوعها.
ويمكن القول بقانون لكل من صدقة العلانية ، وصدقة السر فضل وهما مجتمعين ومتفرقين خير محض ، ومما يدل على أفضلية صدقة السر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله إمام عادل وشاب نشأ في طاعة الله تعالى ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله تعالى اجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من خشية الله تعالى ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني إخاف الله ورجل تصدق بصدقة فاخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)( ).
السابعة : ترفع الآية الحرج عن الفقير في السؤال وطلب الحاجة في الليل، وكذا قبول الصدقات عند حلول الظلام.
الثامنة : من نعم الله تعالى ان جعل الليل مناسبة للتدارك في الصدقة، فمن فاته الإنفاق في النهار فله ان يتدارك وينفق في الليل، سواء بذات المقدار والجهة، أو باختلاف أحدهما أو كليهما.
التاسعة : تمنع الآية من الاعتذار بفوات وقت الصدقة في النهار.
تقديم الليل
الآية تدل على التساوي بين الليل والنهار في الصدقة الا مع الدليل على رجحان احدهما، ومنهم من جعل تقديم الليل دليلاً على رجحانه، ولكن لكل موضوعه وحكمه ، والترجيح بحسب الحال والمناسبة.
وهل هذا التقديم جاء اتفاقاً وصدفة أم له دلالات عقائدية، الجواب: هو الثاني سواء على القول بموضوعية التقديم أم عدمها من وجوه:
الأول : توكيد على أهمية الإنفاق في الليل.
الثاني : المتعارف ان النهار هو وعاء العمل، وان الليل سكن، فجاءت الآية للاخبار عن جواز الإنفاق في الليل واستحبابه.
الثالث : رفع الحرج عن الإنفاق في الليل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
الرابع : التقديم تحريض على الخير والعطاء، وحث على اشاعة الانفاق.
الخامس : بيان لمفهوم الأولوية، فاذا كان النهار مناسبة للإنفاق ويقدم عليه الليل فانه رفع للحرج من الدفع في الليل، وعدم التردد في الإنفاق ليلاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى في الثناء على المؤمنين [أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ]( ).
والأهم في الآية ليس التقديم والتأخير إنما هي تبعث على الإنفاق وترغب في البذل والصدقة في كل ساعة من ساعات وأيام الحياة الدنيا ، وينتظر ملائكة الليل وملائكة النهار الإنسان يتصدق في أي ساعة فيكتبون له عملاً صالحاً بذات الصدقة ، وباعانة الفقير.
و(عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من صباح إلا وملكان يناديان ، يقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً ، وملكان موكلان بالصور ينتظران متى يؤمران فينفخان ، وملكان يناديان : با باغي الخير هلم ، ويقول الآخر : يا باغي الشر أقصر ، وملكان يناديان يقول أحدهما : ويل للرجال من النساء وويل للنساء من الرجال)( ).
قوله تعالى [سِرًّا]
بعد بيان جواز الإنفاق في مختلف الأوقات جاء هذا الشطر من الآية في جوازه مع تعدد الكيفية لتزول موانع الإنفاق ويحال دون الشيطان وموعدته بالفقر، لان هذا التعدد يجعل الإنفاق سجية ثابتة للانســان وطبيعة ثانية ملازمة له، فيصاحبه العزم على الإنفاق والتفكير به ويتبادر الى ذهنه كلما رأى فقيراً أو موضوعاً للانفاق.
ولو انحصر ذكر زمان الإنفاق في الآية وانه شامل لليل والنهار لحمل على ارادة السر في مفهوم الليل، ولقيل المراد من السر الليل، والعلانية النهار .
ولكن الآية جاءت بذكر السر والعلانية بصورة صريحة، والنص لا يحتاج الى تأويل أو يحتمل ارادة معنى آخر غيره، مما يعني موضوعية هذا الشطر من الآية في البيان وملاك الأعمال ورفع الحرج.
وقد ذكر القرآن الإنفاق في السر والعلانية بقوله تعالى [وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ]( ).
إن ذكر السر والعلانية دعوة للالتفات اليهما وتوكيد لموضوعية كل منها في الانفاق واستثمارها وعاء مباركاً لفعل الخيرات ، وهذه الموضوعية تعود الى المكلف المنفق، والمتصدق عليه، وجهات الانفاق، وموضوع النفقة.
فبالنسبة للأول فيه وجوه:
الأول : التخيير في النفقة بين السر أو العلانية ، إلا مع رجحان أحدهما .
الثاني : منع الحرج من الصدقة في العلانية أو من السر.
الثالث : تدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الله سبحانه يعلم السر وأخفى، وانه يعلم صدقة السر والخفاء كما يعلم صدقة العلانية ، وفي التنزيل [الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
أما بالنسبة للثاني أي المتصدق عليه فان صدقة السر أفضل له من صدقة العلانية في الغالب لما فيها من الستر والإكرام والتخفيف، كما انها تذكرة بالله عز وجل الذي يعلم حاله ويرزقه من حيث لا يحتسب خفية، والأمل بصدقة السر يجعل الفقير يلجأ إلى الله تعالى ليرزقه سراً وعلانية، ويغذيه عن الاجهار بحاجته وقصد مواطن السؤال في المنتديات والأسواق ونحوها وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
يتوجه الأمر والاذن بصدقة السر الى أرباب الحقوق الشرعية والقادرين على الانفاق، أما النفع فهو عام يعود على المنفق عليه والناس كافة.
فهي عنوان رفعة وسمو أخلاقي، وصلات انسانية قوامها الاحترام بين الأعلى والأدنى، والغني والفقير، وعدم جعل مائز وتفاوت بسبب الصدقات.
قانون النبي محمد (ص) مؤسس الطب النفسي
صدقة السر مناسبة لتنمية ملكة الخشية من الله تعالى في السر والعلانية ، وفيها تأديب وإصلاح للمسلمين .
ان معرفة الانسان بان الله عز وجل يعلم به وبما يفعله اذا تصدق بصدقة السر يجعل الذهن ينتقل الى مدلول عرفاني أخلاقي وهو علم الله تعالى بجميع أفعاله ما أخفاه منها وما اعلنه.
ومفهوم السر في الصدقة يتجلى بوجهين:
الأول: انحصار موضوع الصدقة بين المعطي والقابض فلا يعلم بها غيرهما ، أو يعلمها عدد قليل ممن يكون على طريق وصولها إلى الفقير مثلاً.
الثاني: عدم معرفة القابض من الذي أعطاه أحياناً .
و(عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن صدقة السر تطفئ غضب الرب ، وإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وإن صلة الرحم تزيد في العمر ، وتقي الفقر . وأكثروا من قول : لا حول ولا وقوة إلا بالله ، فإنها كنز من كنوز الجنة ، وإن فيها شفاء من تسعة وتسعين داء ، أدناها الهم) ( ).
وتدل خاتمة الحديث أعلاه على بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مسائل :
الأولى : بيان الأمراض النفسية فالهم مرض.
الثانية : قانون سهولة إزالة الأمراض النفسية والشفاء منها.
الثالثة : قانون علاج الأمراض النفسية بالذكر والتسبيح ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
ليكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أول من يؤسس للطب النفسي ، ويدعو للعناية وعدم الإستخفاف به وينزل القرآن ليبين العلاج الذي فيه الأجر والثواب ، والخالي من الأعراض الجانبية.
ومعاوية بن جيدة القشيري له صحبة روى (أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والذي بعثك بالحق ما خلصت إليك حتى حلفت لقومي عددها يعني أنامل كفيه تالله لا أتبعك ولا أومن بك ولا أصدقك، وإني أسألك بالله: بم بعثك ربك؟ قال: بالإسلام.
قال: وما الإسلام .
قال: أن تسلم وجهك لله، وتخلي له نفسك.
قال: فماحق أزواجنا علينا .
قال: أطعم إذا طعمت، واكس إذا أكسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت، وكيف ” وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً ” ثم أشار قبل الشام فقال: هاهنا تحشرون، هاهنا تحشرون ركباناً ورجالاً، وعلى وجوهكم وأفواهكم الفدام، وأول شيء يعرب عن أحدكم فخذه)( ).
وهناك شواهد كثيرة في التأريخ الاسلامي لكل من الوجهين تدل على الامتثال الواقعي للآية القرآنية، والحرص على صدقة السر وتعاهدها كمعلم للتقوى.
وهل الوجهان أعلاه بمرتبة واحدة، الظاهر ان الثاني أخفى من الأول، قال تعالى [ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ]( ).
صيغة الإطلاق في نفقة السر
جاء السر على نحــو الاطلاق بلحــاظ الزمان وهو على وجوه:
الأول : السر قبل الصدقة والانفاق، فلا يصرح بانه سينفق كذا أو سيتصدق بالمبلغ أو العين الفلانية، سواء ذكر جهة الإنفاق والمتصدق عليه أو لم يذكرها.
الثاني : الإخفاء وعدم الإعلان ساعة القيام بالصدقة، كما لو دسها للفقير.
الثالث : الحرص على عدم معرفة الآخرين للصدقة باختيار الوقت والكيفية المناسبتين.
الرابع : اجتناب الاجهار بالصدقة والاخبار عنها، والاجهار هذا على جهتين :
الأولى : اخبار الآخرين عن موضوع الصدقة والترغيب في محاكاتها ، والفوز بالدعاء للمتصدق.
الثانية : التحدث مع الفقير والآخذ بما يفيد معنى العلانية.
والمراد من السر هنا على قسمين:
الأول : ارادته بالذات والقصد.
الثاني : اجتناب الإعلان عن الصدقة، بلحاظ أن السر هنا أمر وجودي يتضمن ارادة عدم الاجهار ومنع النفس من الإعلان.
والسعي الى جعل الصدقة سراً غير معلنة دليل على الاقرار بالعبودية لله تعالى، وعلمه بما يفعل الانسان، ورجاء رحمته والعوض منه تعالى، ولو كانت هناك مرجحات لصدقة العلانية كدفــع الظنـــة عن نفســه، وتحــريض الآخرين على الصدقة، ولكنه اختار صدقة الســر فهل يؤثــم أو يـقــل ثــوابه، الجواب: لا، للحســن الذاتي لصدقة السر، ولأنها مطلوبة بالعنوان الأولوي.
قوله تعالى [وَعَلاَنِيَة]
الآية وصف لكيفية الإنفاق بلحاظ الجهر والإعلان وعدم الاخفاء، ومن مواعظ الآية:
الأولى : الاخبار عن منافع الإنفاق علانية وانه أمر ممدوح عقلاً وشرعاً.
الثانية : طرد الخوف من وسوسة الشيطان وصده عن النفقة بدعوى ان اعلانها رياءً وسمعة، فالاستماع لهذه الدعوى سبب في الامتناع عنها، فجاءت الآية لتمنع من الانصات والامتثال لدعواه الزائفة، وليأتي الإنفاق تحدياً للشيطان وحرزاً من اغوائه في باب الإنفاق وغيره، فمتى ما تحدى الانسان عدوه الشيطان وقهر النفس الشهوية بالإنفاق فان دروب المعرفة وآفاق الحكمة تنفتح أمامه.
الثالثة : تبين الآية الحاجة لنفقة العلانية، وهذه الحاجة مركبة من وجوه:
الأول : قانون حاجة المنفق نفسه إلى التصدق.
الثاني : حاجة الذي يأخذ الصدقة والجهة التي تكون مورداً للانفاق.
الثالث : قانون حاجة المسلمين والناس جميعاً للإنفاق في سبيل الله والصدقة ، لذا وردت بصيغة الجمع في قوله تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( )، ليكون من وجوه تقدير الآية أعلاه (انما الصدقات بالليل والنهار سراً وعلانية).
ترى ما هي النسبة بين الإنفاق الذي تذكره آية البحث والصدقات التي تذكرها الآية أعلاه ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالإنفاق أعم ولا ينحصر بالصدقات وهو من إعجاز آية البحث.
أما الأول ففي الإنفاق علانية وجوه :
الأول : إنه عز للمؤمن.
الثاني : فيه توكيد على إيمانه.
الثالث : انه على الهدى .
الرابع : دعوة له لتجديد الانفاق .
الخامس : يبعث الإنفاق الطمأنينة والرضا عنه بين الناس، وشهادة له على ادائه لوظائفه .
أما الثاني فانه اخبار عن حاجته وفقره واستحقاقه للصدقة سواء اشترط في دفعها العدالة والإيمان أو احدهما أو خصوص الفقر، وفيها اصلاح له وحجة عليه ورادع عن التعدي وإيذاء الآخرين .
وبذا تظهر محاسن صدقة السر والعلانية لكل من المنفق والآخذ من غير تعارض بينهما.
ومع أفضلية صدقة السر فقد ورد الثناء من عند الله على الذي يتصدق علانية ، قال تعالى [إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]( ).
وفي أسباب نزول الآية أعلاه ذكر (أنهم قالوا : يارسول الله صدقة السر أفضل أم صدقة العلانيّة ، فأنزل الله تعالى [إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ] أي تظهروها وتعلنوها [فَنِعِمَّا هِيَ] أي نعمت الخصلة هي)( ).
أما بالنسبة للثالث فهو على قسمين، حاجة المسلمين وانتفاعهم من صدقة العلانية ، وحاجة الناس لها .
فالإنفاق والصدقة مدرسة اخلاقية وعقائدية واجتماعية، وفوائدها أعم من ان تنحصر بمورد أو جهة واحدة، وهي افاضة وبركة حاضرة في كل الميادين، يقوم شخص بالصدقة فيحاكيه آخرون ممن حوله، ويزداد الإنفاق وينتفع الفقراء، ويتعلم آخرون.
وبعد ذكر شطر من منافع إنفاق السر وإنفاق العلانية هناك قسيم ثالث لهما، وهو منافعهما مجتمعين معاً كموضوع وحكم، ومنها التيسير والتخفيف ونفي الحرج وإكرام المنفق بترك الخيار له، مع لحاظ العناوين الاعتبارية الاضافية ، قال تعالى [وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ]( )، وقال تعالى [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ]( )، أما القول (الأقربون أولى بالمعروف) فليس بآية قرآنية ولا حديث نبوي ، إنما هو قول ومثل مستقرأ من آيات القرآن أعلاه وما شابهها.
وجعله يسبح بعز وفخر في كيفية الإنفاق بعد عزمه عليه طاعة لله تعالى، فيرى تعين احدهما أو التخيير بينهما، وهو أمر يجعل الانسان يفكر وفق قصد القربة، ويستحضر منافع كل منهما بما ينمي ملكة التقوى عنده، ويجعل عنده سجية مضمونها اختيار الأكثر ثواباً في الاقوال والافعال.
فيكون التصرف في باب الإنفاق مناسبة للاستقامة واختيار الأنسب في الاعمال العبادية عامة وفي المعاملات.
وهذا التخيير يطرد الرياء والسمعة وان جاءت الصدقة جهرة، لأن نية اختيارها بقصد رضا الله تعالى، وارادة الأفضل في باب الامتثال، والآية دعوة للإنفاق في الليل سراً وعلانية، وفي النهار سراً وعلانية، بل ان الله عز وجل يهيء الاسباب ليقوم المسلمون بالتصدق المتعدد والمتكرر والجامع للاحوال الأربعة.
ومن الآيات ان السر قرين الليل وما فيه من الظلمة، والعلانية قرينة للنهار وما فيه من ضياء الشمس، ومع هذا جاء التعدد ومفارقة القرائن تارة، واعتبارها تارة اخرى، وكل منها فيه مرضاة الله، وجاء تقديم الليل على النهار، والسر على العلانية للترغيب بصدقة الليل سراً من غير تعارض مع الترغيب بالكيفيات الأخرى.
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ [سِرًّا وَعَلَانِيَةً] أربع مرات في القرآن مع إتحاد الموضوع، إذ تتعلق بالإنفاق والصدقة سواء الواجبة أو المندوبة ، وهذه الآيات هي :
الأولى : قال تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الثانية : قال تعالى [وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ]( ).
الثالثة : قال تعالى [قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ]( ).
الرابعة : قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ]( ).
قانون التخيير الحسن
يتجلى قانون ينفرد بها القرآن كاعجاز ومصداق لنزوله من عند الله تعالى، وهو ان كل فرد من أفراد التخيير فيه له محاسنه ومنافعه الظاهرة والخفية، الدنيوية والاخروية، ويلتقيان بمنافع متعددة في النشأتين، وكل منها أو منهما له منافعه التي ينفرد بها.
وكذا بالنسبة لموارد استعمال صيغة السر والعلانية في الصدقة، فهناك موارد يصح استعمال أي منهما فيها، وهناك موارد يختص الترجيح والحسن الزائد باحدهما مع عدم سقوط اعتبار ونفع الآخر، وكأنه من النعم التي اذا أنعم الله عز وجل على الناس فانه أكرم من ان يرفعها.
وبالنســبة لأفراد التخــيير في الاعمال العــبادية فــان الله عز وجل أكرم من ان يضيع الثواب في احدها، نعم يأتي ثواب اضافي في بعض الموارد لبعضها بلحاظ العناوين الاعتبارية الاضافية، مع بقاء فرد أو أفراد التخيير الآخر على حالها من الثواب والأجر.
أما مسالة الرياء والسمعة فهي أمور إضافية خارجة عن أصل التكليف وموضوعه وحكمه، ولا أثر لها بخصوص هذه القاعدة وان كان لها ضرر عند طروها على النية والقصد والفعل، ولكن الرياء يدخل على الراجح والمرجوح عند ارادته وظهوره [رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا]( )، وتتضمن هذه الآية وآيات أخرى ذم البخل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وأي داء أَدْوَأ من البخل ، وقال: إياكم والشّحَ، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعةِ فقطعوا، وأمرهم بالفجور فَفَجَرُوا)( ).
وكذا بالنسبة لجهة الإنفاق فقد لا يكون مورده الفقير والمحتاج بل بناء مسجد أو انشاء مستشفى أو طبع كتاب أو بناء دور سكنية ونحوها، فان الإنفاق علانية حث للآخرين على المساهمة فيها، واعانة للقائمين بالتولية والأداء والانجاز، ومنع لليأس من ان يدب في النفوس ، قال تعالى [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
فلو لم يستمر العمل بنحو مقبول عرفاً وزماناً وكيفية، فان الناس والمؤمنين خاصة يشعرون بالاحباط، سواء كان الخلل من قلة أو تأخر وصول المدد والمؤن والنفقات، أو تقصير من القائمين على العمل الخيري.
وفي الحديث القدسي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يقول الله عز وجل يا ابن آدم مرضت فلم تعدني ، فيقول : رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده ، فأما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ، ويقول : يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني.
فيقول : رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول تبارك وتعالى : أما علمت أن عبدي فلاناً استسقاك فلم تسقه ، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي .
قال : ويقول : يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني : فيقول : أي رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين.
فيقول : أما علمت أن عبدي فلاناً استطعمك فلم تطعمه ، أما أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي)( ).
قوله تعالى [فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ]
الآية بشارة ووعد كريم، وهذا الوعد مناسبة لنيل الأجر وتحصيل الثواب، فهو من اللطف الإلهي إذ يعد الله عز وجل بالأجر ويخبر عنه ، كي يقوم العباد بالإنفاق وفق مضامين هذه الآية، فكثير من الناس لا يلتفت الى موضوعية التعدد في الصدقة ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، ولكن عندما يقرأ هذه الآية ويفقه ما فيها يشتاق الى الامتثال لها، ويندفع في باب الصدقة وتغمره السعادة عند التصدق بأوقات وكيفيات متباينة، فتتفشى الصدقة وتكون عادة وعرفاً ثابتاً في المجتمعات ، قال تعالى [وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
و(عن أنس بن مالك : إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير.
فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه وهو في الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان ولذلك قال بعضهم : هو مأخوذ من قول الناس افتح علي كذا أي أعطني أو علمني ما أتوصل إليه به فالله تعالى عنده علم الغيب وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه ومن شاء حجبه عنها حجبه ولا يكون ذلك من إفاضته إلا على رسله بدليل قوله تعالى [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ]( )، وقال [إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ]( )، وقيل : المراد بالمفاتح خزائن الرزق)( ).
ومن الاعجاز ان تكون الغاية هي السبب الذي يحرض على العمل، ويكون السبب غاية بذاتها، فالآية تجعل الصدقة مطلوبة بوجوه :
الأول : اتيان الصدقة بالذات.
الثاني : إعانة الفقراء والمحتاجين ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الثالث : الاستجابة في أداء الزكاة الواجبة والمستحبة.
الرابع : الامتثال في كيفية أداء الزكاة بحسب الوقت والكيفية التي جاءت بها هذه الآية.
الخامس : نيل الأجر والثواب من عند الله تعالى ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
وجاء الوعد متعلقاً بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله تعالى، ولكن هذا لا يمنع من انتفاع غيرهم ونيلهم درجات من الأجر بسبب الإنفاق سواء السعاة أو الأهل أو الآمرين بالمعروف ونحوهم، لأن اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
وتدعو الآية السعاة وغيرهم لحث صاحب المال على المبادرة الى الإنفاق والانتفاع مما في الآية من مضامين الأمر التي جاءت بصيغة الخبر [ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ]، كما جاءت بلغة الوعد الإلهي وهو من أفضل وجوه الأمر.
فاذا ذهب جمع من أهل البلاغة الى القول بان الجملة الخبرية أقوى في الأمر والطلب من الجملة الانشائية ، فان من اعجاز وخصوصيات القرآن ان لغة الوعد أقوى من الجملة الخبرية بحسب الموضوع والقرائن ، وتجعل الانسان يندفع في الصالحات ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
والوعــد في القرآن لا يتعارض مع صيغة الأمر والخبر، فتجتمع الوجــوه الثلاثــة لتعمل متحدة ومشتركة ومتفرقة على قيام الانسان بافعاله العبادية، ويعمر الأرض بالصلاة والذكر، هذا بالاضافة الى موضــوعية صـدق الوعـد والتفضــل بـه من عند الله تعالى.
واضافت الآية الأجر للمنفقين [أَجْرُهُمْ] ولم تقل الأجر فقط من غير اضافة، مما يعني ان نسبة الأجر الى الذات والنفس الانسانية واقية لها من العذاب، فلذا جاءت خاتمة الآية بنفي الخوف والحزن عنهم.
و(عند) ظرف لمكان الحضور أو زمانه، والمراد هنا ظرف مكان والله عز وجل منزه عن المكان والجهة، كما انها تستعمل في المعاني ، والمعاني ليس لها جهات .
فالمقصود الثواب وكتابته وادخاره لليوم الآخر والانتفاع منه بما هو أعم أي في الدنيا والبرزخ والآخرة.
وورود (عند) في الآية موضوع اضافي في الوعد وتوثيق وتوكيد للعهد، وبيان لحقيقة ثابتة في الارادة التكوينية والأحكام الوضعية، وهي ان الأجر حاضر وثابت ومهيء لكل من ينفق في سبيل الله، فما عليه الا ان يتصدق بجزء من ماله ليقوم الملائكة بكتابته لأنهم مأمورون ولا يفعلون خلاف ما يؤمرون به.
وفي الثناء على الملائكة قال تعالى [يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ]( )، [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( )، و(عن حكيم بن حِزَام قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه، إذ قال لهم : هل تسمعون ما أسمع؟”
قالوا : ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط، وما فيها موضع شِبْر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم)( ).
بحث عرفاني
يقع الإنفاق في طريق معرفة الله والسياحة في عالم الملكوت، والتفكر في بديع صنع الله تعالى وعظمته، فينفع العرفاء موادهم الدماغية وأرواحهم وقواهم البدنية وهي اعز ما عندهم لتكــون الثمرة نفائس في القلب ونفاذ البصيرة، ويكون الانسان من الأغنياء في الآخرة بعد تخلصه من قيود الجهل وآفات النقصان، وهذا السعي طلب لصفات وأسماء وأفعال المعبــود وهــي أشرف ما في الوجود ، فيكون انفاقاً كريماً.
والإنفاق المراد في هذه الآيات هو البذل المادي والعطاء المالي، واخراج الزكاة الواجبة والمستحبة والافاضة على الناس من الرزق الحلال، لتكون دعوة للتوحيد واتيان الفرائض.
وقد ورد عن سفيان الثوري انه قال : الناس نيام، فاذا ماتوا انتبهوا( ).
فتأتي مدرسة الامثال القرآنية لبيان مبادئ المعرفة الإلهية وتقريب احوال الآخرة الى الأذهان ، والأمثال دعوة للتعبير والتفكر بالأهوال الحقيقة يوم القيامة ، وفي التنزيل [وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم]( ).
ويتجلى في الآية قانون الأجر العظيم جزاء العمل.
أي ان الآية تدل بالدلالة التضمنية على قبول العمل، وان الإنفاق في سبيل الله تعالى لا يتوقف على شرط أو صفة معينة، بل انه يُقبل ويُكتب جزاؤه حال حصوله واخراج الزكاة والصدقة مطلقاً، وفيه قانون الترغيب بالصدقة والحضّ على اخراج الزكاة ، والإحسان مطلقاً.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قَالَ : أَطْعِمُوا الجَائِعَ ، وَعُودُوا المَرِيضَ ، وَفُكُّوا العَانِيَ ، يعني : الأسيرَ)( ).
فمتى ما علم الانسان ان ثوابه عاجل وحالّ، والعوض لا يتخلف عن الفعل يبادر اليه من غير تردد خصوصاً اذا علم بقانون الثواب أضعاف مضاعفة للفعل، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
قانون الزكاة صلاح عام
تؤكد الآيات على عظيم منزلة الزكاة، فهي من العبادات والصالحات، ومن الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتشملها الآيات الأربعة كعبادة مالية، والآية الأولى وهي الثانية والستون وهو قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
والآية الرابعة وهي الآية السابعة والسبعون بعد المائتين بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، وكإنفاق في سبيله تعالى تشمله هذه الآية والآية الاخرى.
فالنسبة بينهما عموم وخصوص من ولأجه، فمادة الاجتماع الزكاة، ومادة الافتراق الإيمان والصلاة والعبادات الاخرى في القسم الأول، والصدقة المستحبة في القسم الآخر.
ولم تكتف الآية بذكر الأجر بل أخبرت بأمرين اضافيين، لكل منهما دلالات وهما:
الأول : قانون الأجر عند الله عز وجل وليس عند الملائكة أو عند الناس.
الثاني: جاءت الآية بالإخبار بصفة الربوبية.
فالآية بشارة وحث على الإنفاق في سبيل الله تعالى، والإيمان ، واعتماد طرق النظر والاستدلال .
والرب من أمهات الأسماء المقدسة، وهو المالك والخالق الذي رزق العبد المال ثم امتحنه بالإنفاق والصدقة على المحتاجين من عباده الآخرين، واختبر الفقراء بالفقر والحاجة، ومجيء اسم (الرب) في الآية على نحو الخصوص اخبار عن العناية واللطف الإلهي بأهل الاحسان والانفاق.
وجاء اسم الرب بالإضافة (ربهم) وهو عون ومدد من الله عز وجل للمؤمنين بجعل إنفاقهم في سبيل الله وبقصد القربة.
وتظهر الآية قيمومته سبحانه وافاضاته على الانسان في العوالم الثلاثة الدنيا والبرزخ والآخرة، وان الانسان محتاج لله تعالى، لأن المربوب محتاج للرب، والمملوك منقاد لمالكه .
ولا يعلم منافع الزكاة إلا الله عز وجل ، من جهات :
الأولى : قانون منافع الزكاة على الذي يخرجها في ماله.
الثانية : قانون منافع الزكاة على أهل وورثة المُزكي لماله.
الثالثة : قانون منافع الزكاة على الذي يقبض الزكاة.
الرابعة : قانون منافع الزماة على الذي يدعو الله عز وجل ليرزقه ليخرج الزكاة ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الخامسة : قانون الزكاة صلاح .
السادسة : قانون الزكاة سبب للهداية عند طرفي الزكاة وغيرهم ، وهل الزكاة من مصاديق (الهدى) في قوله تعالى [فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، الجواب نعم.
ولم يرد لفظ (هداي) في القرآن إلا في آيتين ، وكلاهما بخصوص هبوط الإنسان إلى الأرض ، والآية الثانية هي [قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى]( ).
ومن معاني الزكاة إصلاح للذات قوله تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا]( ).
قانون الزكاة صدقة
الصدقة هي الإحسان للغير ، وإعانته بالمال ، والنسبة بين الصدقة والزكاة عموم وخصوص مطلق ، فالصدقة أعم إذ تشمل الإنفاق الواجب والمستحب والإعانة في المال وغيره .
وهل يمكن القول بقانون الزكاة صدقة على النفس أيضاً ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ]( ).
والزكاة لغة النماء والزيادة ليكون من الإعجاز والوعد الإلهي الكريم تسمية إخراج نسبة معينة من المال زكاة على نحو الوجوب وعداً من عند الله عز وجل بالنماء وزيادة المال مع طهارة النفس ، وحجب الجوارح عن فعل السيئات ، قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا]( ).
فيجتهد المؤمن يجمع المال ، ويحرص على إجتناب المكاسب المحرمة ، وتفوته منها أموال وأرباح ، وهي سعيه بهذا القوت والترك ، ومع هذا يقوم بإخراج جزء من ماله زكاة فيأتيه الأجر العاجل في طهارته وهل من معاني الطهارة والتزكية في الآية أعلاه صرف البلاء وأمراض مخصوصة ، الجواب نعم .
وسميت الزكاة صدقة لقانون الزكاة مرآة الإيمان ، وقانون الزكاة شاهد على صدق الإيمان والزكاة أمارة الإمتثال لأمر الله عز وجل .
قانون حصانة المنفقين
ان الآية بشارة الا انها حث على الإنفاق استجابة لله تعالى، وفيها تعريض بالكافرين وتوبيخ لهم على ترك الإيمان والشح على الخير.
وتمنع الآية محاولتهم الاستهزاء بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، وهي رد عليهم ودحض لادعاء الشيطان وابطال لوعده.
ولولا الآيات التي تعد بالأجر والثواب على الإنفاق لرأيت هــول الضــرر الناتج عن صد الآخرين عن الانفاق، ولسمعت مفاهيم البخــل والشح يُجهر بها ويؤتى بشواهد لاثبات صحتها وسلامتها، ولكن الاخبار الإلهي بالأجر العظيــم من عند الله تعالى أســقط ما في أيــدي الجاحــدين والكافرين، بل انها تحثهم على الإنفاق لعمومات أحكام التكليف واللطف الإلهي.
وسيأتي في الجزء السادس والأربعين بعد المائتين من هذا السِفر هل تشمل العصمة في قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( )، الذين يمتثلون لأمر الله والرسول في الإنفاق في سبيل الله أم أن الآية خاصة بالعصمة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
المختار هو الأول ، خاصة وأن موضوع الآية أعلاه أعم من أسباب النزول وتعلقها ببيعة الغدير ، وهو من مصاديق الرحمة في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
ولأن الآية جاءت بصفة (الرب) من بين الأسماء الحسنى، وربوبيته تعالى مطلقة، وفي التنزيل [وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ]( ).
ان قوله تعالى [عِنْدَ رَبِّهِمْ] إكرام للمسلمين ودلالة على قبول النفقات والإثابة عليها، لأن العمل العبادي يحتاج الى القبول من الله تعالى، وهذه الآية تخبر عن حصوله وانه لا يتوقف على شرائط صحة اضافية، فهو تعالى (رب العالمين) ومع هذا جاءت الآية بأنه ربهم حصراً، مما يعني ان المنفقين عالم خاص يتصف بالامتثال لله تعالى ورأفته بالناس الاخرين.
وورد لفظ (عند ربهم) تسع عشرة مرة في القرآن ، أكثرهم من البشارة والوعد في الآخرة ، قال تعالى [إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ]( ).
والنسبة بين المتقين والمنفقين في سبيل الله عموم وخصوص مطلق ، من جهات :
الأولى : المتقون أعم .
الثانية : الإنفاق فرع التقوى .
الثالثة : يتقيد المتقون بالصلاة والزكاة والواجبات العبادية الأخر .
الرابعة : قد يكون المتقي فقيراً ، يتعذر عليه الإنفاق.
قانون الزكاة ركن الإسلام
مما يرد في كتب التفسير والسيرة أن أركان الإسلام خمسة , وهو مستقرأ من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (بني الإِسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، والحج)( ).
وقد ورد هذا المعنى على نحو التفضيل في حديث (معاذ بن جبل قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فتقدمت به راحلته ، ثم إن راحلتي لحقت براحلته حتى تصحب ركبتي ركبته ، فقلت : يا رسول الله ، إني أريد أن أسألك عن أمر يمنعني مكان هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم }( ).
قال : ما هو يا معاذ؟ قلت : ما العمل الذي يدخلني الجنة وينجيني من النار؟
قال : قد سألت عن عظيم وإنه يسير ، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وإقام الصلاة ، وايتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان ، ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروته؟
أما رأس الأمر فالإسلام ، وعموده الصلاة ، وأما ذروته فالجهاد ، ثم قال : الصيام جنة ، والصدقة تكفر الخطايا ، وقيام الليل ، وقرأ { تتجافى جنوبهم عن المضاجع . . . } إلى آخر الآية( ).
ثم قال : ألا أنبئكم ما هو أملك بالناس من ذلك؟
ثم أخرج لسانه فأمسكه بين أصبعيه ، فقلت : يا رسول الله ، أكل ما نتكلم به يكتب علينا؟
قال : ثكلتك أمك . . . ؟
وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم؟ إنك لن تزال سالماً ما أمسكت ، فإذا تكلمت كتب عليك أو لك)( ).
الزكاة من أركان الإسلام ، وجاءت الأوامر بها من الله على نحو الوجوب عند تحقق النصاب في المال أو الأنعام أو الغلات ، وهل هي حاجة للمجتمع ، الجواب نعم ، كما يحتاج الفقير مال الزكاة الذي جعله الله له حقاً في أموال الأغنياء.
لقد فتح الله عز وجل باباً لرحمته بالناس باخراج الزكاة والسعي فيها ، والترغيب باخراجها وإيصالها إلى المستحق ليعم الأجر والثواب الجميع ولا ينحصر بدافع الزكاة ، قال تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ]( ).
و(عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفسي بيده، ليدخلن الجنة الفاجرُ في دينه، الأحمق في معيشته. والذي نفسي بيده، ليدخلن الجنة الذي قد مَحَشته النار بذنبه. والذي نفسي بيده، ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه)( ).
وهذه الآية بشارة لمضاعفة ثواب الزكاة ونماءه وازدياده، وكونــه عند الله تعالى فهو أبعد عن التلف والضياع، مما يعني ان ثواب الإنفاق في حرز وسلامة من النقص والمحو، فلو أسرف انسان فيما تحت يده مــن المال فان المال المــدخر عند الله ولا تصل اليه يده يكون في مأمن، كما انه في منأى عن السرقة والتعدي.
فكذا ثواب الصدقة لو جاء صاحبها بمعصية فانها وان كانت ذنباً وسبباً للاثم الا انها لا تضر بثواب الصدقة لأنه عند الله عز وجل في واقية ونماء، وهذا من الفلسفة والحكمة المتعالية التي قد تغني عن الخلاف الذي جرى بخصوص إبطال ثواب الصدقة أو عدمه.
قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً] ( ).
قوله تعالى [وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]
خاتمة الآية قاعدة كلية وبشارة وإخبار مبارك في كل موضع تأتي به من القرآن، وتكرارها في عدة آيات من القرآن يجدد ضياؤها ويزيدها اشراقة لأمرين:
الأول: انها توكيد لحكم وفضل إلهي ورحمة مدخرة.
الثاني: التباين في موضوعها ومناسبة مجيئها، فهي تارة تأتي إخباراً عن قانون العاقبة الحسنة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، واخرى عن ثواب الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، واخرى في أولياء الله وما لهم من المقام الرفيع، وفي الذين عمروا الأرض بالعبادات والتسبيح.
عن ابن عمر مرفوعاً (ان لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة بقربهم ومجلسهم منه ، فجثا أعرابي على ركبيته فقال : يا رسول الله صفهم لنا حلهم لنا . قال : قوم من إفناء الناس من نزاع القبائل تصادقوا في الله وتحابوا في الله ، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم ، يخاف الناس ولا يخافون ، هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)( ).
وأما في هذه الآية فهناك مسائل:
الأولى : جاءت الآية بخصوص الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بمختلف الأوقات والأحوال ، وهو من المندوحة والسعة في سبل الصلاح ، قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( )، وإنفاق المال في سبيل الله وبقصد القربة إليه سبحانه من الشواهد اليومية المتجددة لرد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عندما احتجوا على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بفساد طائفة من الناس ، وإقدامهم على القتل والحروب بغير حق.
الثانية : قانون الإنفاق له ثواب وأجر لا يقل عما للمؤمنين الذين أخلصوا اعمالهم وأحسنوا الاستجابة والتزموا بأداء العبادات.
الثالثة : الإنفاق موضوع اقترن فيه أمران هو الوعد بالأجر، وانه من عند الله عز وجل ، والأمن في الدار الآخرة ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
وهل يمكن القول ان الآية اشارة الى قيام الإنفاق مقام العبادات، وان من تخلف عن ادائها فان الإنفاق يكون عوضاً وقضاءً عنها، وان ثوابه يحل محل ثواب العبادات وكأن المنفق قد صلى وصام لأن قوله تعالى [وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] جاء في الحالتين.
الجواب: لا، لأن الصلاة والصوم والحج والزكاة واجبات عبادية لا بديل لأي منها ولا يحل أحدها محل الآخر، نعم منها ما يتوقف على شرائط مخصوصة كالصحة بالنسبة للصيام، والاستطاعة في أداء الحج، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، والنصاب في الزكاة ، وأيها أكثر أداء من قبل المسلمين بعد الصلاة :
الأول : زكاة المال .
الثاني : صيام شهر رمضان ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الثالث : حج بيت الله الحرام ، وكل فرد منها واجب مقيد.
والمختار أن الصيام هو الأكثر أداء ، وفيه القضاء ، قال تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
أما الصلاة فانها تؤدى على كل حال، ولكن الإنفاق باب مستقل وعالم عبادي خاص تتنزل شآبيب الرحمة على القائمين به، وكل عبادة جاء التكليف بها على نحو الخصوص والتعيين والخطاب التكليفي لذات وشخص المكلف، ولا تعارض أو تزاحم في أداء العبادات والانفاق.
وتدل واو العطف في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، على وجوب كل من الصلاة والزكاة وأن احداهما لا تغني عن الأخرى ولا زكاة على الذي ليس عنده النصاب ، ولكن الصلاة تؤدى على كل حال ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
بحث عرفاني
جاءت البشارة على الإنفاق في آية البحث على نحو الاطلاق ولم تقيد بشرط، ولكن الآيات الأخرى قيدته من وجوه :
الأول : قانون قيد الإنفاق في سبيل الله.
الثاني : قانون ابتغاء وجه الله تعالى بالإنفاق.
الثالث : قانون الإنفاق من الخير وليس من الخبيث، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]( ), وعظيم البشارة يجعل الانسان يحرص على الإنفاق بشرائطه.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار البشارة ، ولا تختص البشارة منها بالمؤمنين لأنها فرع رحمة الله التي تعم الناس جميعاً.
نعم البشارة التي تأتي من عند الله هي خاصة بالمؤمنين وأجيالهم المتعاقبة ، وفيه ترغيب بالإيمان لأن حجب البشارة عن الكافر لإقامته على الشرك ، والإمتناع بالإختيار لاينافي الإختيار.
والآية ابطال لاغواء الشيطان وموعدته بالفقر، وتنقية للافعال وكبح جماح النفس الغضبية، وهي دعوة لنبذ الفرقة والخصومة بالواسطة، فاذا شاع الإنفاق بين الناس سادت الاخلاق الحميدة وشاع فعل المعروف.
لتكون الزكاة من مصاديق حبل الله في قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
و(عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ان أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا وزينتها فقال له رجل : يا رسول الله ، أو يأتي الخير بالشر؟
فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فرأينا أنه ينزل عليه ، فقيل له : ما شأنك تكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يكلمك .
فسري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فجعل يمسح عنه الرحضاء.
فقال : أين السائل فرأينا أنه حمده فقال : إن الخير لا يأتي بالشر ، وإن مما ينبت الربيع يقتل حبطاً ، أو يلم الا آكلة الخضر ، فإنها أكلت حتى امتلأت خاصرتاها ، فاستقبلت عين الشمس ، فثلطت وبالت ، ثم رتعت .
وان المال حلوة خضرة ونعم صاحبها المسلم هو ، ان وصل الرحم وأنفق في سبيل الله ، ومثل الذي يأخذه بغير حقه ، كمثل الذي يأكل ولا يشبع ، ويكون عليه شهيداً يوم القيامة)( ).
و(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان ، ثم قرأ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ( ).
وهل يتعلق قوله تعالى [وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] بالنتائج الاخلاقية والاجتماعية المترشحة عن الانفاق، الجواب : لا، بل انه أثر وثواب مترتب على ذات الإنفاق لما له من حسن ذاتي من غير لحاظ الى نتائجه والعقل يدرك هذا ايضاً، فلا يقول العقلاء لننتظر آثار الإنفاق على الفقير وفي المجتمع والافعال.
فالثواب يترتب على الإنفاق وحال خروج المال من يد المحسن وهو المتبادر الا مع القرينة الدالة على الخلاف من اعطاء الزكاة الى غير أهلها ومستحقيها.
وتبين الآية عظيم احسان الله وكرمه سبحانه، فان عدم الخوف والحزن عام ومطلق وليس خاصاً أو مقيداً، فقد جاء بلغة الجمع المستغرقة لجميع المنفقين، فالله سبحانه اذا اعطى يعطي بالأوفى وبالعموم المتعلق بالفعل العبادي وليس بالاشخاص، بمعنى لو قام الناس جميعاً وفي مختلف الأزمنة والطبقات بالإنفاق في سبيل الله تعالى فانهم يفوزون بالثواب العظيم والبشارة الخاصة بالإنفاق التي وردت في هذه الآية ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (خزائن الله الكلام، فإذا أراد شيئا قال له : كن ، فكان)( ).
وهذا الحديث تفسير وبيان لقوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
ولم يرد لفظ (إِنَّمَا أَمْرُهُ) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
وهذا من اعجاز القرآن والفرائد الكثيرة التي يختص بها، وبشاراته دعوة عامة وباب مفتوح لكل انسان، وتتعلق بما هو بسيط وليس مركباً، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
فمن أراد العمل عند شخص أو جهة لقاء عطاء اسبوعي أو شهري معين فانه يواجه بالشروط العديدة، كما تتولد غيرها اثناء العمل لأن رب العمل يعطي من ماله.
فلسفة الثواب
أما بالنسبة لفلسفة الثواب الأخروي والنعيم الخالد فان قواعده وشرائطه بسيطة غير مركبة وخالية من التشديد، وجاء الأمر بالإنفاق من الرزق الذي أعطاه الله للعبد لكي يُثاب ويؤجر عليه، ومن الفيض والبركة في المقام أمور:
الأول: قانون الواجب من الإنفاق قليل ومعلوم، وليس مبهماً أو متروكاً لاجتهاد الانسان.
الثاني: ما عدا الواجب مستحب ومندوب، بمعنى يُثاب المرء على اتيانه ولا يؤثم على تركه.
الثالث: قاعدة نفي الجهالة والغرر في الزكاة والمستحقين لها ، وكيفية الإنفاق ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الرابع :قانون أولوية الإنفاق على الذات والعيال.
الخامس : من الأجر على الإنفاق ما هو حال وعاجل وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
وفي احتساب الإنفاق على العيال صدقة , ووردت نصوص متعددة منها (عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أنفق على نفسه نفقة ليستعف بها فهي صدقة ، ومن أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهي صدقة)( ).
والبشارة بعدم الخوف والحزن تتعلق بإنفاق القليل الواجب وما زاد فهو نعمة .
وهذا من لطف الله سبحانه، وعدم الشروط والقيود الاضافية يبعث السكينة في النفس في الدنيا مما يدل على اطلاق الآية وعدم انحصار موضوعها بعالم الآخرة.
فعدم الخوف يأتي من وجوه:
الأول: ما في هذه الآية من البشارة والوعد الكريم بالانفاق.
الثاني: قانون سكون النفس لقيامها بأداء الواجب.
الثالث: الطمأنينة التي تملأ النفس بسبب الامتثال وهي جزاء عاجل.
وهل هذا الإمتثال من ذكر الله في قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، الجواب نعم.
قانون الثواب العاجل
من أسماء الله تعالى (الكريم) وهو الذي يصل نفعه الى كل الخلائق ويعطي الكثير بالقليل، ومن الكرم والجزاء الأوفى أن يأتي بعض الجزاء عاجلاً .
ومن الناس من يتحلى بمكارم الاخلاق فتراه يبادر الى الجزاء والشكر على الصنيعة في الحال كجزء من تخلق الناس بالمعرفة الإلهية، والله عز وجل أولى بالجزاء العاجل ، ولكن يتفضل الله سبحانه بان الجزاء الآجل عنده أعظم من ان تحيط به العقول، وهذا لا يتعارض مع أفراد الثواب العاجل فضلاً واحساناً من الله تعالى.
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لمّا خلق الله سبحانه جنّة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ثمَّ قال لها : تكلّمي، قالت : قد أفلح المؤمنون ثلاثاً ثمَّ قالت : أنا حرام على كلّ بخيل ومرائي)( ).
ومن الجزاء العاجل العوض والخلف للمال المنفق وهو أمر ظاهر للعيان، وله شواهد يومية عديدة يحس بها المنفق وعياله وغيرهم لتثبيت المسلمين على الإيمان، ومنه صرف البلاء الخفي والظاهر، ومنه هذه الآية وما فيها من الإخبار الكريم بنفي الخوف والحزن الذي جاء بصيغة العموم.
قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ]( )، وعن الإمام علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها)( ).
كما تنفع الصدقة صاحبها في عالم البرزخ ، إذ ورد عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن الصدقة لتطفىء على أهلها حر القبور ، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته)( ).
قانون سلامة المؤمن من الخوف
تتجلى أصالة الاطلاق في نفي الخوف من القادم ، والحزن عن الماضي ، فلو كان هناك لفظ يحتمل انه مطلق في معناه مع افادته معنى مخصوصاً بلحاظ قيد أو حالة مطلوبة لبان واستبان ولكن ليس هناك قرينة دالة على التقييد والشرط ، فنتمسك بأصالة الاطلاق لعدم ثبوت القيد أو الشرط.
ومن خصال الإيمان عدم إعجاب المرء بكثرة إنفاقه ، فهو مال الله الذي جعله عنده كالأمانة للإختبار والإمتحان ، ولكنه علو الهمة والخشوع لله عز وجل ، ويكون الجزاء العاجل على قسمين:
الأول : الجزاء والعقوبة السريعة على المعصية.
وهل هذه العقوبة العاجلة قانون عام , الجواب لا وأيهما أكثر مجئ العقوبة العاجلة على فعل المعصية , أم إرجاء العقاب بفضل من الله عز وجل الجواب هو الثاني .
الثاني : قانون الثواب والجزاء الحسن ، وهو المفصول في هذا الباب.
ولما أخبر الله عز وجل بعائدية السموات والأرض ملكاً طلقاً له سبحانه كما في قوله تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فانه سبحانه يجازي المحسنين جزاء عاجلاً من خزائنه التي تزيدها كثرة العطاء وهو من خواص خزائن الله ، فكل خزائن الناس تنقص من العطاء إلا خزائن الله التي هي بالكاف والنون.
الخوف مركب من قسمين:
الأول: الظن بحدوث أذى وضرر.
الثاني: الاعتقاد والظن بفقدان شيء أو فوات نفع في المستقبل.
وجاءت الآية لتبطل القسمين معاً، وتدفعهما عن الانسان لحسن امتثاله، وكأنه اشترى النجاة من الخوف بالانفاق.
و(عن أبي بكر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أعواد المنبر يقول : اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فإنها تقيم العوج ، وتدفع ميتة السوء ، وتقع من الجائع موقعها من الشبعان.
وأخرج ابن حبان عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تعبد عابد من بني إسرائيل فعبد الله في صومعة ستين عاماً ، فأمطرت الأرض فأخضرت ، فأشرف الراهب من صومعته فقال : لو نزلت فذكرت الله فازددت خيراً .
فنزل ومعه رغيف أو رغيفان ، فبينما هو في الأرض لقيته امرأة فلم يزل يكلمها وتكلمه حتى غشيها ، ثم أغمي عليه .
فنزل الغدير يستحم فجاء سائل فأوما إليه أن يأخذ الرغيفين ثم مات .
فوزنت عبادة ستين سنة بتلك الزينة فرجحت الزينة بحسناته ، ثم وضع الرغيف أو الرغيفان مع حسناته فرجحت حسناته فغفر له)( ).
لبيان المبادرة إلى فعل الخير وإن كان قليلاَ إذ يضاعف الله عز وجل الأجر والثواب عليه , قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( ).
بين الحزن والخوف
أما الحزن فهو كيفية وألم يصيب النفس لحدوث ضرر أو بلاء أو لفوات نفع.
والحزن يختلف عن الخوف، لأن الحزن يأتي متعقباً للضرر والحدث وليس متقدماً أو سابقاً له، وفي كل منهما تتجلى الرحمة الإلهية، ففي الخوف يتفضل الله سبحانه بمحو سبب الخوف وتبديده وإزالة مقدماته، أما في الحزن فيحتمل أمرين:
الأول: إزالة آثــار الضرر عــن النفس، بمعــنى ان المصـيبة تقع , ولكن الانسان يتلقاها بالصبر والسلوان فلا تتحرك الروح نحو الداخل دفعة أو تدريجياً فزعاً من الأذى والضرر ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
الثاني: عدم حدوث ما يسبب الحزن، ومحو الفعل الضار وهو على قسمين:
أولاً: ما يحصل قبل الانفاق.
ثانياً: ما يرجح حصوله بعد الانفاق.
وهما معاً من مصاديق الآية وتفضل الله بصرف البلاء ، قال تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، بأفعال الانسان وما يصيبه، فقد يمحو الله مصيبة مكتوبة على العبد التعرض لها بذات اليوم، لأنه سبحانه يعلم ان هذا العبد سينفق غداً ما يستحق معه محو هذه المصيبة ، والأذى والبلاء ، وهذا الاستحقاق بفضل الله واحسانه تعالى وليس بنواميس العدل.
بحث أصولي
خلافاً للقواعد الأصولية فان الإستصحاب القهقري يبدو جليــاً في سنن الثواب الإلهي بان يأتي العمل الصالح على ما سبقه من المعصية أو سبب الحزن والخوف، وهذه النعم من المضامين القدسية للآية بخصوص الحياة الدنيا مع انها جاءت بارادة الآخرة.
وحتى على القول بان الآية خاصة بالآخرة فانها لا تنفي الثواب العاجل للإنفاق في الدنيا لأمور:
الأول: عمومات قاعدة إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
الثاني: عظيم فضل الله تعالى، والشواهد الحسية عليه متعددة وكثيرة.
الثالث: ان مقاليد الأمور بيد الله تعالى ، وفي التنزيل [لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) ، و(عن ابن عباس في قوله {له مقاليد السماوات والأرض } قال : مفاتيحها)( ).
وقد يأتي معنى وتفسير قوله تعالى [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، بآيات أخرى مثل قوله تعالى [وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، ليكون المؤمن في غبطة وسعادة في الدنيا ، ولا يحزنه الفزع الأكبر في الآخرة.
وقد يقول قائل بان الدنيا دار عمل بلا حساب، والآخرة دار حساب بلا عمل ، الا اننا بصدد الجزاء والثواب الحسن وليس الحساب، فيأتي طرد الخوف والحزن عن المحسن ليكون عوناً له على الهدى ، وتعاهد الإنفاق ، ومن معاني الآية وجوه :
الأول : لا خوف عليهم بسبب الإنفاق .
الثاني : من خصائص الإنفاق في سبيل الله أنه لا يجلب الخوف.
الثالث : ولا هم يحزنون أو يندمون على الإنفاق في سبيل الله ، وهو هداية من عند الله ، وفي التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
الا ترى حال الطمأنينة ظاهرة على أهل الإنفاق والساعين في الخيرات في قولهم وفعلهم وسمتهم، لا أقل انهم أيقنوا من الامتثال وأداء ما عليهم من الواجبات، فاندفع الخوف من الحساب والعقاب الأخروي، وزال الخوف من التقصير والمعصية بعدم أداء الواجب أو باتيان النواهي.
فالأثر الوضعي الحال والعاجل ظاهر عقلاً وعرفاً وحساً، وهو مقدمة للثواب الأخروي ومثال مصغر للسكينة والطمأنينة في يوم الحشر الأكبر ، وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
ترشح معجزة نفي الخوف عن آية البحث
إن أهوال يوم القيامة معروفة عند المليين ولها وجود ذهني عند كل منهم وان غابت عن الانسان لساعات بسبب مشاغل الدنيا، لذا جاءت الصــلاة اليومية للتذكير بها خصوصاً وان القراءة في الصلاة واجبة، وفي كل ركعة منها يقرأ المسلم [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( ) استحضاراً ليوم القيامة وما فيه من الشدائد وأحكام الحساب، ليكون الإنفاق مادة للفوز بأخذ الكتاب باليمين ، قال تعالى [فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِي * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِي * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ]( ).
وتسيح الروح فيما ينتظرها على نحو الحتم والقطع من البعث والحشر والعرض والحساب والشفاعة والميزان والصراط، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (إن الصراط بين ظهري جهنم دحض مزلة ، والأنبياء عليه يقولون : اللهم سلم سلم ، والمارُّ كلمع البرق وكطرف العين ، وكأجاويد الخيل والبغال والركاب . وشدّ على الأقدام فناج مسلم ، ومخدوش مرسل ومطروح فيها ولَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ( ).
لتأتي هذه الآية وتأمر الانسان بالإنفاق وتعجل بنفسه وجوارحه لفعل الصالحات والإنفاق في سبيله تعالى، وتبعث فيها السكينة وتزيح عنها الخوف والفزع بالوعد الإلهي الكريم والبشارة التي لا يعادلها شيء صدوراً وموضوعاً وحكماً وصدقاً وثقة بالوفاء ومدة بقاء، وفيها نفي مؤبد للخوف والحزن بسبب الامتثال للأمر الإلهي في الحياة الدنيا.
لدلالة خاتمة آية البحث على الإطلاق وعدم التقييد في كل من:
الأول : إنتفاء الخوف موضوعاً وزماناً وفي عرصات القيامة.
الثاني : عدم الحزن على ما فات لعظيم الثواب من عند الله عز وجل بالخلود في النعيم .
و(عن سليم بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الجنة مائة درجة : فأولها من فضة أرضها فضة ، ومساكنها فضة ، وآنيتها فضة ، وترابها مسك .
والثانية من ذهب أرضها ذهب ، ومساكنها ذهب ، وآنيتها ذهب ، وترابها مسك .
والثالثة لؤلؤ أرضها لؤلؤ ، وآنيتها لؤلؤ ، وترابها مسك . وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)( ).
وادرك سليم بن عامر الجاهلية ولكنه لم ير النبي محمداً ، وهاجر أيام أبي بكر إلى المدينة( ).
وغير التابعي سليم بن عامر الخبائري الكلامي من أهل الشام الذي مات سنة ثلاثين ومائة( ).
دلالات خاتمة الآية
من الاعجاز ان هذا الشطر من الآية لم يأت في أول الآية فلم تقل الآية (لا خوف ولا حزن على الذين ينفقون)، بل جاء ذكر التكليف والأمر الإلهي بصيغة الخبر في أول الآية، وجاءت البشارة في خاتمة الآية، وفيه مسائل:
الأولى : الموضوع الأعظم للوعد الكريم بعدم الخوف والحزن هو عالم الآخرة اذ يكون الانسان أشد خوفاً حين يرى أهوال الحساب، وأكثر حزناً حين يطلع على سيئاته وتقصيره وتفريطه في الحياة الدنيا.
الثانية : منع التأويل بان نفي الخوف والحزن خاص بالحياة الدنيا، أو انه جاء حصراً بساعة الانفاق ، وفي قوله تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( )، ورد عن ابن عباس وغيره أنها نزلت في الإمام علي عليه السلام ، عن ابن عباس قال (نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام وذلك أنه أنفق أربع دراهم: أنفق في سواد الليل درهما، وفي وضوح النهار درهما، وسرا درهما، وعلانية درهما، فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله: أيكم صاحب هذه النفقة ؟
فأمسك القوم، فعادها النبي صلى الله عليه وآله فقام علي بن أبي طالب عليه السلام وقال: أنا يا رسول الله، فتلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله: ” فلهم أجرهم عند ربهم ” يعني ثوابهم عند ربهم ” ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ” من قبل العذاب ومن قبل الموت يعني في الآخرة) ( ).
الثالثة : مجيء الوعد الكريم في خاتمة الآية يشمل الدنيا والاخرة خصوصاً وان الآخرة خاتمة وعاقبة الدنيا.
الرابعة : مجيء البشارة في الخاتمة أمر حسن تميل له النفوس خصوصاً وان المدار على خواتيم الأمور، وعن ابن عمر قال (لما نزلت { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل }( ) إلى آخرها .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رب زد أمتي .
فنزلت { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } قال : رب زد أمتي .
فنزلت { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } ( )) ( ).
وسيأتي في الجزء الأربعين بعد المائتين قانون (ترشح المعجزات الحسية عن المعجزة العقلية) ومنه آية البحث فهي معجزة حسية تصرف عن المؤمن الخوف من الإنفاق والخشية من الفقر والفاقة بسببه ، وتمنع من الحزن على إخراج الحقوق الشرعية بمشيئة إلهية ، وعظيم قدرة الله عز وجل ونفاذها إلى القلوب والأركان.
و(أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول : اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك . قلت : يا رسول الله وإن القلوب لتتقلب ، قال : نعم .
ما من خلق الله من بشر من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله ، فإن شاء الله أقامه ، وإن شاء أزاغه . فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب . قلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي . قال : بلى .
قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني)( ).
ليكون نفي الخوف والحزن في الدنيا بسبب الإنفاق معجزة حسية يشعر بها المؤمن مترشحة عن القطع والوعد في هذه الآية وهو مقدمة للأمن يوم القيامة .
معجزة تخفيف وطأة التكاليف
لقد أراد الله عز وجل للآية القرآنية ان تكون مدرسة وتأديباً وسبباً للهداية، وموضوعاً للبشارة، وتختتم بوعد يكون وسيلة لاتيان الواجبات بشوق ويخفف من وطأة التكاليف على النفس.
ولقد سُميت الواجبات العبادية تكاليف لما فيها من التكليف والشدة والحاجة الى التحمل والتقيد بالشرائط والمقدمات كوقت العبادة مثل الصلاة اليومية، ومجيء فريضة الصيام بشهر مخصوص وهو شهر رمضان ، قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ولم يرد اسم شهر في القرآن إلا شهر رمضان ، مع ذكر عظيم شأنه بنزول القرآن فيه ، واقتران أيامه بفريضة الصيام ، مع أنه ليس من الأشهر الحرم ، ولا من أشهر الحج التي ذكرت في الجملة في القرآن ، قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
ترى لماذا لم تذكر أسماء الأشهر الحرم في قوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ] ( )، ولم تذكر أسماء أشهر الحج بقوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ) الجواب لبيان علم الله عز وجل بتعاهد المسلمين إلى يوم القيامة أوان وأسماء هذه الشهور، وعدم طرو النسئ مرة أخرى عليها , وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ضبط وتوقيت الشهور.
وأداء مناسك الحج بأيام ومواضع مباركة معينة ومعلومة ، قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ]( )، واخراج الزكاة بحساب الحول وفيه تكليف مركب ، منه العناء في جمع المال الذي تعلقت به الزكاة، والارادة في انتزاع مقدار الزكاة من الملكية الخاصة ودفعه الى مستحقيه طاعة لله عز وجل ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
فجاءت هذه الآية لتمنع من المشقة والتردد في دفعها، وترفع العناء في جمع وتحصيل المال، بل وتجعل الأمل يحل محل كل منهما، فيسعى المؤمن في التحصيل وطلب الرزق كي يكون عنده نصاب يخرج منه الزكاة ويدفعها الى الفقراء، ليكون من أهل هذه الآية، وتتلقاه الملائكة بالبشارة والأمن.
قانون البشارة حتى للذي لايقدر على الإنفاق
من خصائص القرآن أنه كتاب البشارة للذين آمنوا والإنذار والوعيد للذين كفروا ، وموضوع البشارة والإنذار شامل للحياة الدنيا والآخرة ، ولا تختص البشارة بالذين ينفقون أموالهم ، لقانون ملازمة البشارة للإيمان ، وقانون مصاحبة الوعيد للكفر والشرك.
وجاءت البشارة على الصبر وعلى الأمر بالمعروف وعلى عمله واثباته ، والنسبة بينه وبين الإنفاق في سبيل الله عموم وخصوص مطلق فالمعروف أعم , نعم الأمر بالمعروف في الغالب قول , أما الإنفاق فهو فعل وبذل.
و(عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، والصدقة خفيا تطفىء غضب الرب ، وصلة الرحم تزيد في العمر ، وكل معروف صدقة ، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة ، وأول من يدخل الجنة أهل المعروف)( ).
كما ورد الحديث بأن أول من يدخل الجنة الفقراء لصبرهم في طاعة الله ورضاهم بما قسم لهم ، (وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : الفقراء والمهاجرون الذين تسدّ بهم الثغور ويتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في نفسه لا يستطيع لها قضاء)( ).
ومن لم يستطع الإنفاق ويتعذر عليه ايجاد المال اللازم للإنفاق فهل يحرم مما في هذه الآية من الوعد الكريم والاخبار عن الأمن وما فيه من الرضا والشوق الى لقاء الله تعالى، الجواب: لا، من وجوه:
الأول : جــاءت آيات اخرى بالبشارة والوعد الكريم بقوله تعالى [ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ]، ومنها ما جاء خاصاً بالإيمان واقام الصلاة وايتاء الزكاة ، كما في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
الثاني : قد ثبت في علم الكلام ان الله عز وجل لم يكلف العباد بما لا يُطاق قبيح، فالتكليف بالإنفاق فرع القدرة عليه، أما ثوابه فهو أعم منه وباب مفتوح الى يوم القيامة.
الثالث : من وجوه نيل ثواب الإنفاق السعي في موارد الإنفاق والحث على إعانة الفقراء، والتوسط في ايصال الحقوق الشرعية لهم ، وترغيب أصحاب الأموال للإنفاق في سبيل الله تعالى بصيّغ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأقرب فالأقرب، والتذكير بعظيم الثواب.
الرابع : ليس للإنفاق في سبيل الله تعالى من حد أدنى لابد من بلوغه كي يكون المسلم من أصحاب هذه الآية .
فيكفي منه ما يكون مناسباً للشأن والحال والقدرة المالية، ومن الإعجاز في السنة النبوية القولية والفعلية والتدوينية ترغيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بالصدقة ، وإن كانت قليلة ، وبيان عظيم نفعها في الآخرة .
و( عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه ، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) ( ).
خصوصاً وان الواجب منه يستلزم النصاب وشرائط معينة .
فلا تجب الزكاة الا بعد توفر شروطها، ولكن الأمر يتعلق بالإنفاق المستحب أيضاً وهو باب رحب لم يتوقف على قيود وخصوصيات معينة، وليس له مقدار محدد فيصدق على صرف الطبيعة منه انه إنفاق ما دام معتبراً وله مالية أو نفع.
وعن ( البراء بن عازب في قوله { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ( ).
قال : نزلت فينا معشر الأنصار كنا أصحاب نخل ، كان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته ، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد ، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام ، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر والتمر فيأكل .
وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحفش وبالقنو قد انكسر فيعلقه ، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } قال : لو أن أحدكم اهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا عن اغماض وحياء . قال : فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده) ( ).
وعن الإمام جعفر الصادق (قال : لما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصدقة الفطر جاء رجل بتمر رديء ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرص النخل أن لا يجيزه ، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم . . . }( ) الآية) ( ).
بيان الإنفاق والدعاء
لقد جعل الله عز وجل الزكاة واجباً على الأنبياء والمؤمنين ، وفي عيسى عليه السلام ورد في التنزيل [إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]( ).
ترى لماذا قالت الآية [أَوْصَانِي] ولم تقل (أمرني) .
الجواب لإرادة وجوب الصلاة والزكاة عليه وعلى أمته ، ولزوم إجتهاده في الدعوة إلى الفرائض العبادية ، ولبيان أن الصلاة والزكاة عهد وميثاق النبوة , وتقدير أوصاني , أوصاني بأداء الصلاة والزكاة وأوصاني بالتبليغ بأداء الصلاة والزكاة.
وقد اجتهد النبي محمد في جعل أجيال المسلمين يؤدون الصلاة باوقاتها ، ويؤتون الزكاة ، قال تعالى [فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ]( )، وقال تعالى [فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ].
ومع أن الدعاء كنز من بطنان العرش ، ووسيلة المناجاة ، والقرب إلى الله عز وجل ، فانه لا يغني عن الزكاة ، ومن خصائص الزكاة أنها وسيلة ودعاء لنقل الدعاء في السموات وهو من مصاديق التزكية في قوله تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
وكما ان الاستغفار أكبر كفارة لمن يعجز عن أداء ما عليه من الكفارة، فكذا بالنسبة للإنفاق فان الدعاء وسيلة مباركة لتحصيل ثوابه عند العجز عنه والله واسع كريم، وهذا لا يعني ضياع حق المنفقين، ولكن لو اتجه صاحب الحق الشرعي الى الدعاء بدلاً عن وجوب الأداء الى الفقراء فهل يصح منه .
الجواب لا ، نعم يُثاب على الدعاء ولكنه لا يكون عوضاً عن الواجب المالي المعين من وجوه:
الأول: لقد أمر الله بالزكاة والإنفاق في سبيل الله ومن إعجاز القرآن إقتران الأمر بأن كان بالأمر بالصلاة وتعاهد أركانها في الملل السابقة أيضاً ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]( ).
الثاني: من فلسفة الامتحان في الحياة الدنيا ان التكاليف على أقسام منها:
الأولى : ما هو واجب عيني على كل مكلف ومكلفة كالصلاة.
الثانية : ما هو مقيد بشروط لابد من توفرها عند المكلف كي يتوجه له الخطاب التكليفي ، مثل الحج وقيد الإستطاعة .
الثالثة : ما هو واجب كفائي، يتوجه فيه الخطاب الى الكل، ويسقط ان أداه أحدهم كرد السلام قال تعالى [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا] ( ).
الثالث: الزكاة كالصلاة واجب تعييني وهو الذي تعلق به الأمر الإلهي على نحو الخصوص والحصر .
فالزكاة واجب مطلوب بذاته بالتعيين وليس له بديل آخر في عرضه، ويقابل الواجب التعييني الواجب التخييري مثل خصال الكفارة التخييرية، كما في كفارة افطار يوم من شهر رمضان عمداً للتخيير بين صيام شهرين متتالين أو عتق رقبة أو اطعام ستين مسكيناً، فلا بديل أو عوض للزكاة، ويجب ان تؤدى الى المستحقين ، وفي كفارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) لتكون كفارة اليمين تخييرية ثم تعيينية ، ولا تشمل اليمين الغموس واليمين في شهادة الزور ، فلا كفارة فيه لقبح الذنب والمعصية ، وسميت اليمين الغموس لأنها تغمس صاحبها في النار .
وهناك قاعدة في علم الاصول وهي : الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، أي لابد من التيقن والتأكد من الفراغ وإبراء الذمة لانها اشتغلت بالزكاة الواجبة، وهذا الفراغ لا يتحصل الا بدفع الزكاة وعدم حبسها.
الرابع: للزكاة منافع واعتبارات، وتندفع بها مفاسد عديدة، وتتوقف على أدائها مصالح للعباد منها ما هو خاص بالفقراء، ومنها ما هو أعم ويشمل المجتمع، ومنها ما يتعلق بمصلحة الدين وتثبيت أحكامه، ودعوة الناس للإسلام من خلال الامتثال النافع ، والتكافل الإجتماعي ، والزكاة من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، لبيان قانون إتصال منافع هذه الأخوة في الدنيا وعالم البرزخ والآخرة لمخصوص البرزخ ، قال تعالى [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وبالنسبة للأخرة قال تعالى [إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ]( )وسيأتي مزيد كلام في الجزء الواحد والأربعين بعد المائتين من هذا السِفر المبارك .
ولو أراد الانسان السفر أخذ أهبته واستعد له بالوسائل المادية والمعنوية، واستحضر ما يظن تعرضه له بأسوء الأحوال، واجتهد في تهيئة مقدماته وحرص على اختيار الصاحب، وكلما كان السفر أطول وأبعد كان الاستعداد له أكثر .
فجاءت هذه الآية للتذكير بسفر الآخرة والحث على الاحتياط وبذل الوسع في تهيئة اسباب السلامة، وانجاز ما ينبغي واحراز المقصود، واجتناب الضرر، ومن وجوه الاحتراز والنجاة في الآخرة الإنفاق في سبيل الله تعالى فانه أمن من الخوف وسلامة من الحزن.
وقال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ] ( ) والنسبة بين التقوى وأداء الزكاة عموم وخصوص مطلق فالتقوى أعم ، و(عن عقبة بن عامر قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك ، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما كان منها على ليلة فلم يستيقظ حتى كانت الشمس قيد رمح قال : ألم أقل لك يا بلال أكلئنا الليلة؟
فقال : يا رسول الله ذهب بي النوم فذهب بي الذي ذهب بك ، فانتقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك المنزل غير بعيد ثم صلى ، ثم هدر بقية يومه وليلته فأصبح بتبوك .
فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وأوثق العرا كلمة التقوى ، وخير الملل ملة إبراهيم ، وخير السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأشرف الحديث ذكر الله ، وأحسن القصص هذا القرآن ، وخير الأمور عوازمها ، وشر الأمور محدثاتها ، وأحسن الهدي هدي الأنبياء ، وأشرف الموت قتل الشهداء ، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى.
وخير العلم ما نفع ، وخير الهدى ما اتبع ، وشر العمى عمى القلب .
واليد العليا خير من اليد السفلى ، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى ، وشر المعذرة حين يحضر الموت ، وشر الندامة يوم القيامة ، ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبراً ، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجراً ، وأعظم الخطايا اللسان الكذوب ، وخير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى .
ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل ، وخير ما وقر في القلوب اليقين ، والإرتياب من الكفر والنياحة من عمل الجاهلية ، والغلول من جثاء جهنم ، والكنز كي من النار ، والشعر من مزامير إبليس ، والخمر جماع الإثم ، والنساء حبالة الشيطان ، والشباب شعبة من الجنون ، وشر المكاسب كسب الربا ، وشر المآكل مال اليتيم ، والسعيد من وعظ بغيره ، والشقي من شقي في بطن أمه ، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربع أذرع ، والأمر بآخره ، وملاك العمل خواتمه ، وشر الروايا روايا الكذب .
وكل ما هو آت قريب ، وسباب المؤمن فسوق ، وقتال المؤمن كفر ، وأكل لحمه من معصية الله ، وحرمة ماله كحرمة دمه .
ومن يتأول على الله يكذبه ، ومن يغفر يغفر له ، ومن يغضب يغضب الله عنه ، ومن يكظم الغيظ يأجره الله ، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله .
ومن يتبع السمعة يسمع الله به ، ومن يصبر يضعف الله له ، ومن يعص الله يعذبه الله ، اللهم اغفر لي ولأمتي ، قالها ثلاثاً : استغفر الله لي ولكم) ( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : السخاء شجرة من شجر الجنة أغصانها متدليات في الدنيا من أخذ بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى الجنة ، والبخل شجرة من شجر النار أغصانها متدليات في الدنيا من أخذ بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى النار)( ).
و(عن ابن عباس قال : كنت قاعدا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاء ثلاثة عشر رجلاً عليهم ثياب السفر فسلموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم قالوا : من السيد من الرجال يا رسول الله قال : ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم .
قالوا : ما في أمتك سيد؟
قال : بلى ، رجل أعطي مالاً حلالاً ورزق سماحة فأدنى الفقير فقلت شكايته في الناس) ( ).
علم المناسبة بين الآيات
كل آية في القرآن معجزة في ذاتها , ومعجزة مع غيرها لما بين آيات القرآن من التداخل والترابط فبعضها يفسر ويعضد ويوثق بعضها الآخر ويثبت نزوله من عند الله تعالى، قال تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا] ( ).
بالاضافة الى الاعجاز الخاص بعدم التعارض والتزاحم والنفرة بينها سواء في المواضيع او الاحكام او المفاهيم، وهذا علم مستقل يستحق ان يفرد بالتصنيف والتحقيق ويكون مناسبة لاستنباط الآيات الاعجازية منه ، قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا] ( ) ولم يرد لفظ [اخْتِلاَفًا] بالنصب في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وقد أسست مبحثاً في كل آية اسمه في سياق الآيات يبين المناسبة بين الآيات المتجاورات، وقد اعتنى به بعض العلماء، وذكر السيوطي في الاتقان ان ابا جعفر احمد بن إبراهيم بن الزبير الاندلسي النحوي الحافظ المتوفى سنة 807 ألف كتاباً في هذا الباب اسمه (في مناسبات الآي) وهو البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن.
ويبحث علم المناسبة بين الآيات الصلة بينها ونوع الرابط خاصاً كان او عاماً، عقلياً او شرعياَ او حسياَ، والقوانين العقلية كالعلة والمعلول، والسبب والمسبب، ومن غرر القرآن الترابط والتلائم بين آياته، ومن اسراره الترتيب ووجود المناسبة والصلة بينها منطوقاَ وموضوعاَ فكل آية تنطق بمضمون الآية الاخرى.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في (سراج المريدين): (ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظــمة المباني علم عظيــم لم يتعــرض له الا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله عز وجــل لنا فيه؛ فلما لم نجــد له حَمَلة، ورأينا الخلق بأوصــاف البطلة ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه اليه)( ).
ولكن عشاق القرآن والذين يتدبرون في آياته ودلالاتها أكثر من أن يحصوا سواء في زمان ابن عربي أو أي زمان آخر , وسيأتي الجزء السادس والأربعين بعد المائتين بخصوص (علم الإحصاء القرآني غير منتاه).
لقد دفع الله عز وجل الغفلة والبطالة عن المسلمين والمسلمات بتلاوة كل واحد منهم آيات القرآن على نحو الوجوب العيني سبع عشرة مرة في اليوم .
ان قارئ القرآن يلتفت الى هذا العلم قهراَ وانطباقاً لحسن التأليف والبناء المحكم ومناسبة الموضوع، وللوجود الذهني للآية السابقة عند قراءة اللاحقة ، نعم هذا لا يعني وجود الترابط التام في موضوع مخصوص بين كل آية والآية السابقة لها والتي تليها لسعة علوم القرآن ، وخزائن آياته ، قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )، فقد تكون المناسبة بينها جهتية وجزئية.
ولكن نظم وسياق الآيات وعلم المناسبة بينها في التفسير والتحقيق يظهر لك وجوها من الارتباط والتداخل بينها لم تكن معلومة، بمعنى ان جعل موضوعية وخصوصية لهذا العلم في التفسير والتأويل عون على استخراج كنوز وخزائن القرآن، وموضوعه خاص لا يتعلق بذات الآية بل بالمناسبة، ويمكن ان يؤسس على نحو تفصيلي جديد وهو:
الأول : المناسبة بين الآية والآيات التي تجاورها.
الثاني : الترابط والصلة بين الآية وآيات السورة التي تكون جزء منها.
الثالث : الصلة بينها وبين آيات القرآن مطلقاَ أي الموجودة في السور الاخرى.
الرابعة : المناسبة بين صــدر الآية وخاتمتهــا ومواضيعها كما في قوله تعالى [ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الخامسة : المناسبة بين السور ذاتها.
علم الصلة بين آخر السورة وأول السورة التي بعدها
وجوه المناسبة والربط بين خاتمة الآية وفاتحة التي بعدها، وخاتمة ولا الظالين السورة وفاتحة ما بعدها، فبعد ختم سورة الفاتحة بنوع الصراط المستقيم , جاءت فاتحة سورة البقرة بالارشاد الى الكتاب وهو القرآن [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ) .
وإذ ختمت سورة البقرة بالدعاء بالنصر على الأعداء [ أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ] ( ).
جاءت فاتحة آل عمران ببيان عظيم جبروت الله سبحانه وسلطانه وقوته وتدبيره لشؤون الخلائق بقوله تعالى [ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( ).
لبعث الطمأنينة في نفوس المؤمنين بالنصر على المشركين , ومن رشحات هذا الجمع قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وجاءت خاتمة آل عمران بالامر بخشية الله تعالى [ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ] ( ) وفاتحة سورة النساء بالامر بالتقوى وعلى نحو الاطلاق بارادة الناس جميعاَ [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا]( ).
وبينما جاءت خاتمة سورة النساء ببيان أحكام الإرث والتحذير من الخطأ والتعدي قال تعالى [ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
جاءت فاتحة سورة المائدة بالامر بالتقيد بالعقود واحكام المعاملات بقوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ] ( ).
وختمت سورة المائدة بقوله تعالى [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
وجاءت بداية سورة الأنعام متعلقة بذات الموضوع وبيان عظيم قدرة الله تعالى وسعة سلطانه بقوله تعالى [ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ] ( ).
وهكذا بالنسبة لسور القرآن الآخرى فاختتمت سورة الإسراء بالتسبيح والحمد لله تعالى [وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا]( ).
وكذا ابتدأت السورة التي تعقبها وهي سورة الكهف بالحمد لله [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا]( )، ففي خاتمة سورة طه تجد التحدي والتمايز والتنافي بين الايمان والكفر, قال تعالى [ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى]( )، وجاءت فاتحة سورة الانبياء بعدها مباشرة بقوله تعالى [اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ] ( ).
لقد خلق الله عزوجل السموات والأرض والفلك وجعلها سابحة في نظام دقيق وعالم غير متناه من غير ان يحصل تصادم بين الاجرام والاجزاء العلوية او السفلية، بل انها متداخلة بعضها آخذ بعناق بعض.
فمن باب الاولوية القطعية ان تكون آيات القرآن متلائمة الاجزاء تشع من كل منها انوار قدسية تضئ سماء المعاني وتهدي العقول الى ذخائر الآيات الاخرى ، التي هي كلام الله عز وجل الذي جعله سفيراً ومصاحباً لأهل الدنيا ، وورد لفظ (كلام الله) في القرآن ثلاث مرات في الآيات التالية :
الأولى : قوله تعالى [أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
وكل كلمة منها هي من كلام الله الذي [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
قواعد في علم المناسبة
لقد أسست في تفسيرنا علماَ خاصاَ لخواتيم الآيات ويمكن هنا ان ينظر للمناسبة والترابط بينها، وكذا المناسبة والترابط بين فواتيح السور وعددها مائة وأربع عشرة سـورة، بمعنى ان هذا العلم ينقسم الى اقسام:
الاول: المناسبة بين فواتح السور.
الثاني: المناسبة بين خاتمة السورة وفاتحة السورة التي تليها.
الثالث: المناسبة بين خواتيم السور.
الرابع: المناسبة بين فاتحة وخاتمة السورة الواحدة، فترى سورة الاسراء مثلاًََ تبدأ بالتسبيح لله تعالى والإسراء هو المعجزة الحسية الخارقة والتشــريف العظــيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لتكون آية الإسراء من مصاديق قانون تعضيد المعجزة العقلية للمعجزة الحسية لذا وردت آية الإسراء بصيغة الماضي [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( ).
ترى لماذا قالت الآية (بعبده) بينما ورد لفظ برسوله في قوله تعالى [وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ]( )، [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
والجواب من جهات :
الأولى : بيان سمو مرتبة العبودية ومرتبة الرسالة أعلى منها لبيان أنه ما رزقه الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من حديث الإسراء .
الثانية : بعث العباد إلى الدعاء والمسألة ليرزقهم الله باحسانه ورحمته ، قال تعالى [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
الثالثة : الآية بشارة الطيران والإنتقال بين البلدان بالنقل الجوي الذي ينتفع منه العباد جميعاً .
الرابعة : الآية بشارة المركبات الفضائية ، وركوب الناس فيها ، وعدم إنحصارها برواد الفضاء.
واختتمت بالتسبيح ايضاَ الذي يعني التنزيه المطلق لمقام الربوبية.
الخامسة : موضوعية وسط الآية القرآنية ومناسبته لفواتح وخواتيم الآيات.
بحث بلاغي
يمكن وضع قواعد استغراقية للروابط بين الآيات القرآنية المتجاورة اهمها:
الأولى : التوكيد، أي ان الآية تبين وتؤكد الآية السابقة او اللاحقة لها.
الثانية : التفسير والبيان، فقد تكون الآية تفسيراً للآية السابقة.
الثالثة : العطف، كما يظهر احياناَ بوحدة الموضوع وبحرف عطف يربط بين الآيتين , أو بالعطف الموضوعي.
الرابعة : الأشباه والنظائر، للبيان وتعدد المطلوب.
الخامسة : الإستطراد، للإحاطة بالوقائع والأحداث والتفصيلات المتباينة.
السادسة : التضاد بحسب التباين الموضوعي، كما في مجاورة آية الرحمة لآية العذاب، وآية الوعد لآية الوعيد، والرغبة للرهبة.
ومن علوم البلاغة والمحسنات المعنوية حسن الإبتداء وحسن الانتهاء، والاول ان يجعل المتكلم أول كلامه سهلاَ ذا مفهوم واضح وباسلوب مناســب يجذب الســامع ويجعله يميــل إلى الإصغاء .
ومن حســن الافتتاح ان يكون مقدمــة للمقصود او انه اشارة لطيفة للموضوع من غير ان تصــل الى التصــريح وتســمى براعــة الاستهلال, كما في قول يوسف عليه السلام الذي ورد في التنــزيــل [هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ]( ).
أما حسن الانتهاء ويسمى حسن الختام فهو جعل آخر الكلام عذباَ رقيقاَ فكأنه توديع لطيف للموضوع واخبار جميل عن افادة تمام المعنى لتبقى عذوبته في الأسماع، ولمنع حصول الضجر عند الانتهاء وللشوق لما بعده.
ويتجلى في القرآن الإبداع البلاغي لصبغة الاعجاز التي تشمل ابتداء الآية ووسطها وخاتمتها، ولوجود دلالات ومضامين عقائدية واسرار قرآنية في فاتحة الآية وخاتمتها .
وتتجلى في القرآن اجمل صيغ الابتداء والانتهاء التي تجعل الاسماع تشتاق الى الانصات للآيات, وهي شاهد بلاغي على اعجاز القرآن يدركه القارئ والسامع وان لم يكن محيطاً بعلوم البلاغة لأن القرآن لم ينزل للخاصة دون العامة او العرب دون غيرهم , قال تعالى [هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ]( ).
وتنمي تلاوة القرآن ملكة البلاغة عند الانسان ذكراً كان او أنثى.
قوله تعالى[الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] الآية 275.
الإعراب واللغة
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا) الجملة مستأنفة لبيان أحكام الربا، الذين: مبتدأ، يأكلون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، الواو: فاعل .
الربا: مفعول به منصوب بفتحة مقدرة.
والجملة لا محل لانها صلة الموصول.
(لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ) لا: نافية، يقومون: فعل مضارع مرفوع، الواو: فاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر الذين.
إلا: أداة حصر .
(كما يقوم): الكاف: حرف جر .
ما: مصدرية، وهي مع متعلقها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول مطلق، والتقدير كقيام الذي يتخبطه الشيطان.
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا) ذلك: اسم إشارة مبتدأ، الباء: حرف جر، أنهم: حرف مشـــبه بالفعل وإســمه .
قالوا: فعــل ماض مبني على الضم ،الواو: فاعل في محل خبر ان، وان وإسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بالياء .
والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والتقدير: ذلك بسبب قولهم.
(إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) انما: كلمة مركبة من (ان) و (ما)، وتسمى انما كافة ومكفوفة، أي كافة عن عمل النصب والرفع .
البيع: مبتدأ مرفوع بالضمة، مثل: خبر مرفوع، وهو مضاف .
الربا: مضاف إليه.
(وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) الواو: إستئنافية وهي التي لا يصح عطف ما بعدها على ما قبلها، وتكون حالية ايضاَ .
والواو الحالية هي التي يصح تقدير (إذ) بدلها كقولك: صليت العشاء والعتمة موجودة، أي إذ العتمة موجودة، ولقد أحل الله البيع وحرم الربا قبل ان يخلق القائلين بالمثلية بين البيع والربا.
أحل: فعل ماض، اسم الجلالة: فاعل مرفوع بالضمة، البيع: مفعول به منصوب بالفتحة.
(فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ) الفاء: إستئنافية، من: اسم شرط جازم مبتدأ.
جاءه : فعل ماض، في محل جزم فعل الشرط، والضمير الهاء: مفعول به .
موعظة: فاعــل مرفــوع وعلامــة رفعــه الضمة الظاهرة على آخره.
(من ربه): من : حرف جر، رب: اسم مجرور وعلامة جــره الكســرة وهو مضــاف، الهاء: ضمير في محل مضاف اليه.
(فانتهى) الفاء: حرف عطف، إنتهى: معطوف على جاء، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو.
(فَلَهُ مَا سَلَفَ) الفاء: رابطة لجواب الشرط، اللام: حرف جر، الضمير الهاء اسم مجرور، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر .
ما: اسم موصول مبتدأ مؤخر، وجملة سلف صلة الموصول.
(وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّه) الـواو: عاطفــة، أمــره: مبتــدأ مرفــوع بالضــمة، وهو مضاف، الهاء: مضاف إليه.
والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر.
(وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) الواو: عاطفة، من: اسم شرط جازم مبتدأ، عاد: فعل ماض في محل جزم فعل الشرط , الفاء رابطة لجواب الشرط , أولئك:اسم اشارة مبتدأ.
أصـــحاب: خــبر مرفوع، وهو مضــاف، النـار: مضاف اليه.
والقيام ضد الجلوس، يقال قام يقوم قوماَ وقياماَ، والقومة المرة الواحدة، ويأتي القيام بمعنى العزم وقصد فعل الشئ والشروع فيه، قال حسان بن ثابت:
على ما قام يشتمني لئيم
كخنزير تمرغ في رماد( )
والموعظة: النصح والإرشاد وبيان النفع، والتذكير بالعواقب والتحذير من الضرر، وقرأ الحسن البصري (فمن جاءته موعظة) ( ).
(قال عبد لرجل أراد أن يشــتريه : لا تشـترني فإني إذا جعت أبغضت قوما، وإذا شبعت أحببت نوما، أي أبغضت قياما من موضعي)( ).
والربا هو الفضل والزيادة ويقال أربى الرجل أي دخل في الربا.
والربا القرضي : هو الإقتراض مع شرط الزيادة للمقرض ( ), وهو حرام كتاباً وسنة وإجماعاً، وحرمة الربا مطلقة في حال الإختيار والإضطرار( ).
والخبط حركة غير طبيعية وخارجة عن المألوف، وفي الدعاء: وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت.
ويقال : أخبطه خبطاَ أي ضربه ضرباً شديداَ، وخبطه الشيطان وتخبطه: مسه بأذى.
وسلف الأمر أي مضى وإنقضى.
في سياق الآيات
بعد السياحة الذهنية والروحية في أحكام الصدقة والإنفاق في سبيل الله تعالى وكأنها من عالم الملكوت لما فيها من المثل الكريم ومكارم الأخلاق والوعد بالجزاء الحسن .
جاءت هذه الآية لتتضمن التهيئة لجانب من مقدمات الصدقة بقطع الطريق على النفس الشهوية ومنعها من التأثير السلبي بعالم الصدقة، وتحذر من الربا الذي هو داء وضرر، فسياق الآيات إعجاز مستقل، لان وسائل الترغيب والحث على الإنفاق شملت النهي عما يسبب إنصرافاَ عنه.
ونزلت الآية التالية لتثبيت سوء عاقبة الربا ، وفيه إبطال لظن صاحبه بنماء ماله وزيادته بالربا ، وفيه درس وموعظة للمسلمين لإجتناب الربا ، لقانون لا خير فيما يمحقه الله .
وتدل نسبة المحق إلى الله عز وجل على حضور مشيئته في الأموال زيادة ونقيصة ، ولم تكتف الآية التالية بذكره ، وفيه إنذار لقريش ، إذ كانوا يقومون بمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحشيد الجيوش لقتاله ، ويمتنعون ع دخول الإسلام .
فنزلت هذه الآيات لتسقط ما في أيديهم وتخبرهم بأن الذي تمنعون بسببه عن دخول الإسلام هو مال خال من البركة وإلى نقصان وزوال وتلف .
وعن (عبد الله ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الربا وإن كثر فان عاقبته تصير إلى قل ) ( ).
ومن مصاديق الإعجاز في الجمع بين آية البحث والآية التالية ما ورد عن عائشة قالت (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله تبارك وتعالى يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا الطيب ، ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله حتى أن اللقمة تصير مثل أحد ، وتصديق ذلك في كتاب الله { يمحق الله الربا ويربي الصدقات }( ) ) ( ).
إعجاز الآية
في الآية مسائل إعجازية منها:
الأولى : ذكر موضوع الربا على نحو الخصوص، فالقرآن لم يتركه ويجعل الناس تتمادي فيه.
الثانية : بيان الضرر الفادح من الربا دعوة للإبتعاد عنه وعن صاحبه، فالآية لم توجه الذم إلى الفعل القبيح وهو الربا، بل تعلق حكمها بالذين يأكلون الربا.
الثالثة : جاء ذم الربا بالمثل الحكيم الذي يجعل النفوس تنفر منه.
الرابعة : في الآية تبكيت برهاني للقائلين بالربا ومثليته مع البيع وفضح لهم ببيان التضاد في الموضوع والحكم بين البيع والربا.
الخامسة : في الآية بيان لفلسفة الرحمة الالهية وتشريع لأحكام المعاملات في القرآن , فالآية لم تغلق الباب أمام التوبة والتدارك والتخلص من آثار الربا.
السادسة : لغة التخويف والوعيد لمن يستمر على الربا.
السابعة : المقاصد السامية في إصلاح المجتمعات وتنزيه المعاملات من الحرام.
الثامنة : يتكفل القرآن منع إنتشار النواهي بالزجر عنها.
ويمكن تسمية الآية بـ(الذين يأكلون الربا) ولم يرد لفظ يأكلون الربا ولفظ [يقومون] و[يتخبطه] , في القرآن إلا في هذه الآية .
الآية سلاح
الآية تحصين للمجتمعات الإسلامية من آفات المعاملات المحرمة وتجعل النفوس تبتعد عنها وعما يوقعها في الشبهات ويسبب لها الآثام، وتنفر مما يجعل للشيطان عليها سلطاناََ.
وتبين الآية دروب التوبة بجلاء وتدعو اليها وتمنع من الحرج في ولوجها، والآية مقدمة عقلية وعملية لتنقية البيع والمعاملات بين الناس بما ينفع في نشر المحبة والمودة وإستدامة إفشاء الصدقات والمبادرة إلى الإنفاق في سبيل الله تعالى.
وفي الآية تشريع ، وإن وردت بصيغة الجملة الخبرية ، وتدفع الآية وهماً بأن البيع مثل الربا ، إنما بينهما تباين ، وإن كان موضوع كل منهما المال ، وتبين الأضرار البدنية والنفسية التي تصيب آكل الربا ، وهل هذه الأضرار من عند الله عقاباً عاجلاً ، أم لا , إنما هو نوع مؤاخذة على أكل الربا من إيذائه للناس بأخذ الأموال الزائدة مع القرض من غير عمل وجهد لا مانع من إجتماع الأمرين .
مفهوم الآية
تحــث الآية على الصــدقات والانفاق في سبيل الله تعالى لأن من يلجأ إلى الربا وتحمــل الزيادة على المال هــو المحتــاج، والمحتــاج أعـم من الفقير الذي لا يملك قــوت ســنته أو قوت يومه , فمنه الذي يسعى للحصــول على عــمل او صـنعة ولكنه يفتقر إلى رأس المال وعدة العمل.
فقد يلجأ الى أرباب الأموال للإقتراض وإستدانة المال الكافي فيتعذر عليه الحصول عليها إلا بنظام الربا والفائدة, فيلجأ مقصرا الى الربا والقبول بفرض الفائدة .
ليبدأ رحــلة عناء شـاقة في كيفية العمل والإنشغال بدفعه والأذى في جمعه وقضائه الأمر الذي يشغله عن ذكر الله تعالى.
فجاءت هذه الآية لتخليص العبد من الهم والحزن ولتكون واقية له مما يرهقه ويكون حاجزاَ دون انقطاعه الى وظائفه العبادية، وهي رحمة بأرباب الأموال أنفسهم لأن منعهم عن الربا والمعاملة الحرام مقدمة لتوجههم إلى البيع وصيغ الحلال وما فيه الأجر والثواب، وحتى المباح من المعاملات لا يخلو من الثواب في أحيان كثيرة.
والنهي عن الربا له مفاهيم متشعبة منها:
الأول: الدعوة الى المعاملات الشرعية الصحيحة.
الثاني: المنع من الحرام مطلقاَ سواء كان في الأحكام أو المعاملات، لأن النهي عن الجزء نهي عن الكل , ولأن الحرام له مصاديق عديدة، يكون الربا واحداً منها موضوعاً وحكماً.
الثالث: إختصاص بضعة آيات ببيان حرمة الربا يؤكد أهمية موضوعه ولزوم إجتنابه، وأن تعاطي الربا له أضرار جسيمة لا تنحصر بطرفي العقد.
وبينما جاء القرآن بمدح الذي ينفق أمواله في سبيل الله ولا ينتظر عوضاَ إلا من عنده تعالى، فان هذه الآية تذم الذي يريد الزيادة من الناس وبصورة غير شرعية.
وتبين الآية مثالاً وهو عبث الشيطان بالعبد بخضوعه للنفس الشــهوية، ان الوصــف القرآني للإرباك الذي عليه آكـل الربا دعوة قرآنية لإجتنابــه وحجة ســماوية تجعل أرباب العقـول يجتنبون التعامل به.
وظاهر الآية حرمة الربا مطلقاَ على المسلمين وغير المسلمين لأن النهي والذم تعلقا بذات الفعل.
ومن مفاهيم الآية الرجوع إلى العقل في مسألة الربا وما يدركه من أضراره، والحث على النظر بلحاظ الشواهد الواقعية للربا سواء من جهة الآخذ له، أو من جهة صاحب المال وما يسببه من الأذى والبلاء، لذا قال الله في رد رأس المال وقطع المعاملة الربوية[لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]( ).
والحث على إختيار البيع والشــراء والتجارة المباحة يتجلى في منطوق الآية قبل مفهومهــا لما فيها من النقض والإبـرام، قانون نقض الربا وبيان ما فيه من الخبث الذاتي والضرر العرضي , وقانون مدح البيع وتوكيد حليته.
وتمنع الآية في مفهومها من الإصرار على المعصية ومن البقاء في ميادين الربا وهي تقبيح لمن يعرض عما فيها من النواهي، وهذا التقبيح هو الآخر يدل في مفهومه على ضمان الربح باختيار البيع وترك الربا، وتبين الآية ان المداومة على فعل المعصية خلاف الفطرة سبب لنفاذ الشيطان وظهور سلطانه على الأفعال، وأن الإنسان الذي يجتنب المعاصي يجعل حاجزاَ بينه وبين الشيطان، وسيأتي في التفسير ان الآية في مفهومها مدح للمسلمين.
إفاضات الآية
تثبيت الشريعة وجذب الناس للعمل بأحكامها أكبر الوظائف على الأرض، ولايقدر عليه إلا الله عز وجل فتفضل ببعث الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين قال تعالى[فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، وإستطاعوا بناء صرح من المبادئ وجعل كلمة التوحيد منهجاَ متوارثاً بين أتباعهم، والله سبحانه يعلم بما سيؤول إليه حال الناس من التداخل والتقارب بين الحضارات وتأثير بعضها ببعض مع لحاظ القوة والبطش وصيرورتهما بيد الطواغيت والكفار أحياناَََََ كثيرة، وتفضل الله عز وجل بالقرآن سفيراَ للسماء في الأرض وملجأ للناس جميعاَ وبياناَ للاحكام , قال تعالى [وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ]( ).
ويتصف القرآن بانه يبين سبل وأسباب العمل بالسنن والأحكام التي يتضمنها ، وجاءت الآية لتحد وتقضي على الربــا بين المسلمين إلى يوم القيامة ، وتجعله معدوماً ولا عبرة بالقليل النادر ومن يختار المعصية، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
التفسير
تفسير قوله تعالى [ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ]
لقد إبتدأت الآية السابقة بقوله تعالى [ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ ] وإبتدأت هذه الآية بـ[ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ ] ليتبين التباين الموضــوعي والمعــنوي الكبير بلحــاظ الفارق اللفظي النسبي، لان كلاً من الآيتين إبتدأت بالاسم الموصول (الَّذِينَ) ولكنهما إفترقا في ذكر الفعل، فالانفاق إخراج للمال من غير رجاء العوض من آخذه فرداَ كان أوجماعة أو جهــة خيرية أما الأكل فلا يحصل إلا بعد الإستيفاء والأخذ من الغير.
فهذه الآية تفتح الباب أمام الدراسات المقارنة بين الإنفاق والربا، فمنطوق الآية يشير إلى التباين الشرعي بين البيع والربا، بحلية وحسن وجواز البيع والحث عليه، وحرمة الربا أو النهي عنه.
وسياق الآيات يظهر لنا علماَ آخراً وهو التباين الإبتدائي والإفتراق بين الإنفاق والربا في الموضوع والحكم والنتائج.
أما بالنســبة للأول فان موضوع المعاملة بينهما متغاير، فالإنفاق عنوان الإحســان والرأفة بالآخرين وهو إمتثال للأمر الإلهي وإدخار ليوم الفاقة، أي بالانفاق يســاعد الانســان المحتاجــين والفقـراء لكي يتلقى الجزاء يوم حاجته في عالم الآخرة، والتي تبدأ من أول ساعة لدخوله القبر.
وتتجــلى حينئذ مفاهــيم عالم الإمكان وملازمة الحاجة له، فكأن الفقير محتــاج للغنــي في الدنيا على الظاهــر، فيصبح الغني دفعة محتاجاَ الى الفقير في الآخرة.
وقيد (على الظاهر) اعــلاه لان الغني محتــاج الى الفقير في الدنيا ايضاَ ولكــنه لا يدرك هذه الحاجة احياناَ، فالفقير موضوع التقرب الى الله تعالى بالصــدقة، فلو لم يكن هناك فقراء لانعدم جانب من الصدقات فيه ثواب عظيم، ويلتقي الناس جميعاً بالحاجة إلى رحمة الله قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ]( )، وتدفع حالة الفقر الإنسان إلى الصدقة من وجوه:
الأولى : التذكير بالإنفاق سواء الواجب منه او المستحب.
الثانية : الرأفة والأخوة الإنسانية التي تترشح من نفخ الله تعالى روحاَ واحدة في آدم فكان الناس جميعاَ، فالروح والنفخ الاول عنوان التقارب والتجاذب بين النفوس فيظهر أحياناَ ويخفت أحياناَ أخرى، قال تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا]( ).
ومن الحالات التي يظهر فيها هذا التقارب والتداخل الفقر والعوز ومقابلتهما النوعية من الآخرين بالشفقة والرحمة والعزم على الإعانة بصفة الإنسانية.
الثالثة : إنه مناسبة لإستحضار فقر الآخرة الشامل للناس جميعاَ، وإذا كان الغني يشعر بالاكتفاء في الدنيا، فانه يعلم ما ينتظره من الفقر في الآخرة، وهذا الإدراك يدفعه إلى السعي لطرد الفقر وتهيئة المقدمات والوسائل التي تجنبه الفقر في الآخرة.
قانون الفقر إلى الله عز وجل
لقد خلق الله عز وجل الإنسان من طين , ونفخ في آدم من روحه , قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ) ليصاحب هذا النفخ كل إنسان ذكراَ أو انثى .
ومن علاماته قانون حاجة الناس إلى رحمة الله عز وجل .
قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
والله عز وجل هو العليم والعبد هو الجاهل , والله عز وجل هو الدائم الباقي , والعبد هو الزائل , والرب رب , والعبد عبد , قال تعالى [إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا* لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا] ( ).
الإقرار بالعبودية إلى الله عز وجل طريق الوصول إلى السعادات ومادة للتغلب على المحن والعوائق والمصائب , وكما يفتخر الفقير إلى رحمة الله عز وجل فإن الغني يفتخر إليها أيضاَ , فجعل الله عز وجل الإنفاق واسطة بينهما , وفيه مسائل :
الأولى : رؤية حال الفقير مناسبة للشكر لله تعالى على النجاة من وطأة الفقر وما فيه من الضعف والحاجة والعجز عن تحصيل المؤن فضلاَ عن الرغائب مما أحل الله والطيبات في الأكل والشرب وحسن اللباس وسعة المسكن.
ومن وجوه الشكر لله تعالى المبادرة بالصدقة على الفقير وإخراج الحق الشرعي قال تعالى[وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ]( ).
الثانية : قانون الصدقة تذكير بالله عز وجل وعظيم إحسانه وتعدد نعمه ومناسبة للدعاء لدوام الغنى والسعة، ورجاء احراز دعاء الفقير فثواب الصدقة لا ينحصر بموضوعها بل يشمل قيام الفقير بالدعاء للمتصدق.
وقد وردت النصوص بالحث على دعائه لمن يتصدق عليه، ومن حق المتصدق ان يسأل الفقير الدعاء له، ولو لم يستجب الفقير لسؤاله الدعاء، فهل ينال ثواب دعائه .
وهل يكتب عند الله عز وجل ان الفقير قد دعا للغني لانه سأله الدعاء الجواب لا، لان الدعاء لم يحصل واقعاَ ولكن ثواباَ اضافياَ يأتي للمتصدق بسبب سؤاله الدعاء، لأن هذا السؤال إقرار بالحاجة والفقر، الحاجة إلى الفقير نفسه، والفقر الذاتي لأن المال لن يغنيه بل هو واقية ووسيلة لاحراز رضا الله تعالى.
النسبة بين الإنفاق والصدقة
الإنفاق هو البذل والعطاء ويكون على وجوه :
الأول : الإنفاق في المال .
الثاني : الإنفاق في الجهد والسعي .
الثالث : الإنفاق الواجب كالزكاة .
الرابع : الإنفاق المستحب .
مع النهي عن الرياء والأذى قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] ( ).
لذا فإن النسبة بين الإنفاق والزكاة عموم وخصوص مطلق , فالإنفاق أعم .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الإنفاق , وليس من إنسان إلا ويقدر على الإنفاق وإن كان فقيراَ , قال تعالى [لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ] ( ).
وهل إمتناع الفقير عن الدعاء للمتصدق عليه سبب لحجب الصدقة عنه، سواء كانت واجبة كالزكاة، أو مستحبة، الجواب لا، لأن التكليف لوجوه:
الأول: توجه الخطاب التكليفي للمكلف بالصدقة.
الثاني: ترتب الثواب العظيم على الصدقة سواء توجه الفقير بالدعاء للمتصدق أو لا.
الثالث: قانون وصول الصدقة إلى يد الله عز وجل قبل أن تصل إلى يد الفقير، قال تعالى[أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ]( ).
الرابع : قانون حرص العبد على جمع الشهود ليوم القيامة، يشهدون له بالانفاق في سبيل الله تعالى.
فكما يشهد الموضع من الأرض يوم القيامة لمن صلى عليه، وقطرات الماء لمن توضأ بها، فان الفقير يشهد للغني بالصدقة والإعانة.
في المقارنة بين بداية الآيتين نوع تقبيح للذين يأكلون الربا وحث لهم على الإلتحاق بأهل الإحسان والمعروف، والإنفاق فيه أكل أيضاَ ولكنه أكل مرغوب فيه ومحفوظ ومحروس إلى يوم القيامة، والخزن والحفظ يستلزم وسائل وأسباباَ مما يدل على عظيم قدرة الله , إذ تقوم الملائكة بكتابة وحفظ الصدقة وتعاهدها والله أعلم بها قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ]( ).
ليس هذا فقط بل انه سبحانه يقوم بانمائها وزيادتها، بينما الربا يؤكل في الحال ولا يدخر منه شئ وتبقى تبعاته وأضراره.
والأكل على أقسام منها:
الأول : ما كان عن حاجة وجوع.
الثاني : الزائد عن حد الشبع.
الثالث : الطيب النافع.
الرابع: الضار للبدن.
الخامس : الخبيث الذي تقل الرغبة فيه، والشهية في الإقبال عليه.
السادس : الكسب الحلال, والذي يتحقق بطرق شرعية كالهبة والميراث.
السابع : الحرام الذي يحصل عليه الفرد بطرق منهي عنها.
والحلال والحرام يتعلقان بالأكل أو بالمال الذي أشتري به، وما يشترى ويؤكل بمال الربا من القســم الســابع وهو الحــرام، وهـو مبغوض شـــرعاَ وعقلاَ ولــه آثار وضعية وأضرار على بدن الانسان، فلذا جاء وصف الأكل للتحذير والتخويف والإنذار من الأذى الناتج عن الربا.
وتظــهر الآية التناقــض بين أحكام الحلال والحرام ووجود التباين في سلوك الناس، فالجملة خبرية وفيها إعجاز، فمع ورود النهي عن الربا , فان هناك من يتعاطاه ويتخذه مهنة وعملاَ وكسباَ، فمن الناس من ينفق ويعطي المال قربة إلى الله، وكأنه يهبها هبة ويهديها للفقير هدية، ومنهم من يريد ممن إحتاجها إعادة المال مع زيادة نهى الله عنها، لتبقى الأرض ميداناَ للأعمال والصراع والتنافس، أعمال الطاعة أو المعصية، والصراع بين الحق والباطل، والتنافس في الصالحات الذي يؤدي بالضرورة إلى إنحسار ونقص السيئات.
فوجود أمة تمتنع عن الربا امتثالاَ لأمر الله تعالى يفتح باباَ واسعاً للبحث والتحقيق في العقائد والمبادئ، والمقارنة بينها في النظرية والتطبيق وميادين الأعمال لتتجلى للناس كافة حقيقة مستديمة وهي التزام المسلمين بمبادئ الشريعة، وما جاء به القرآن، فان خالف شخص أو أشخاص منهم ومارسوا الربا وجمعوا الأموال بواسطته فانهم يضرون أنفسهم، قال تعالى[وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( ).
وهل يضرون الإسلام عقيدة ومبادئ وأحكاماَ.
الجواب لا، من وجوه:
الأول: وضوح وبيان الأحكام الشرعية في القرآن والسنة النبوية.
الثاني: مجئ حرمة الربا في القرآن على نحو النص والقطع مع غلق الأبواب بوجه الإحتمال المخالف.
الثالث: التقيد العام للمســلمين بالنهــي عن الربا وإجــتنابــه في المعــاملات فلا ضرر مما يفعله المخالف.
ومن الإعجاز أن المخالفين وغير الملتزمين باجتناب الربا ليسوا بالكثيرين في كل زمان ومكان، وحتى المجتمعات غير الإسلامية ترى المسلمين متقيدين بأحكام الإســلام في اجتناب الربا وملتفتين إلى المعاملات المصرفية في الجملة مما يدل على أهلية الشريعة الإسلامية للبقاء والديمومة في الأرض، وإمتلاكها القدرة على الحضور الحسن في الميادين الاقتصادية والإجتماعية والأخلاقية على إختلاف الأزمنة والأمكنة ليترشح عنه قانون يكون عمل المسلم في الأسواق دعوة إلى الله عز وجل، وسبباً للصلاح، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
إن هذه الآية والآيات التي تتضمن حرمة الربا خطاب متجدد ومتكرر يلح على المخالف المقصر كل يوم بترك الربا، لذا تراه في قرارة نفسه ملتفتاَ إلى ما يرتكبه من الذنب فهذه الآية لها أبعاد عرضية متعددة منها:
الأول: قانون نهي المسلمين عن الربا.
الثاني: قانون حث المسلمين على البيع والتجارة، وقانون ولوج الأسواق بقواعد وسنن الشريعة.
الثالث: قانون توبيخ وذم الذين يتعاطون الربا.
الرابع: قانون الإنذار والوعيد لمن يرتكب الحرام والمعصية.
الخامس: إصلاح المجتمعات والاسواق، وبناء صرح من المعاملات يتقوم بالتقيد بأحكام الشريعة.
السادس: الخطاب التكليفي بحرمة الربا، وإخبار الناس بأن الإسلام يطارد الحرام والمنكر، ويمنع من إنتشـارهما، فلولا تقيد المسلمين بحرمة الربا لرأيته ظاهراً يتفشى في المجتمعات وترتكز المعاملات التجارية عليه مع احتساب جزء من البيع واحد مصاديقه , ومن غير إنكار له.
السابع: قانون إجتناب الربا موضوع للأمر بالمعروف وتعظيم شعائر الله، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
قانون التضاد بين البيع والربا
تتضمن هذه الآيــة الإخبار عن التضاد بين البيـع والربــا، وان الربا ليس فرعاَ من فروع البيع .
فالبيع نوع مفاعلة ومعاملة وانتقال عين من شخص إلى آخــر بعوض مقــدر على وجــه التراضـي والقبول والنفع المتبادل .
ففي البيع امور:
الأول: انتقال عين من طرف الى الطــرف الآخر في العقد، والربا ليس فيه هذا الإنتقــال, لأن المعاملة تتعـــلق بالمال وحده مع زيادة عليه.
الثاني: التراضــي والقبــول في البيــع، وهــو أمــر غير حاصـل في الربا لأن آخذه مكره عليه لا اقل في قبحه الذاتي، وأن كان ينوي توظيفه في التجارة والكسب.
الثالث: يستبشر البائع والمشتري بصفقة البيع والشراء في الجملة، ولو كان هناك غبن وخداع في البيع فيثبت خيار الغبن.
إذ يكون البائــع مغبــوناَ اذا باع باقــل من ثمن المثل، والمشــتري مغبوناَ اذا اشترى بأكثر منه، وكان التفاوت بين قيمة الشراء وما تستحقه العين اصلاَ وعرفاَ بما لايتسامح به الناس في تلك المعاملة، والمدار على ســاعة العقد، وحــق الخيار ثابــت للطرفين، أما في الربا فانه مبني على الغبن فالمطلوب مال زائد ليس له مقابل.
الرابع: يمكن تعريف البيع بأنه إعطاء البائع للمثمن وأخذه للثمن، والربا ليس فيه مثمن وثمن، وآخذ الربا يعطي مالاَ فيما بعد من غير ان ينتقل له عوض , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الخامس: الربا من أكل الباطل الذي ورد النهي عنه في مواضع من القرآن قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ]( ).
فجاء إستثناء البيع والتجارة في الآية أعلاه للبعث على الكسب الحلال، ومنع الحرج من عقود البيع والشراء.
الخامس: الربا قبيح شرعاَ وليس بديلاً عن القرض الذي هو حسن شرعاَ، اما البيع فهو معاملة مستقلة قائمة بذاتها يحتاجها الناس جميعاَ في كل زمان ومكان.
معنى أكل المال
لقد وردت آيات قرآنية في النهي عن أكل المال بالباطل والوعيد عليه , وشدة العذاب الذي ينتظر المعتدي والمستولي على المال بالباطل والحرام كالسرقة والغصب والنهب .
الأولى : قوله تعالى [وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا]( ).
الثالثة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا]( ).
الرابعة : قوله تعالى [سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ).
وقال تعالى [وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا]( ) إلا أن هذا الحب مقيد بطرق الكسب الحلال.
وظاهر معنى أكل المال في هذه الآيات المنع بحب المال لبعث النفرة من الحرام في باب المال وغيره .
والبيع آلة للعمل والكسب ووســيلة للتجــارة وتوفـير المؤونة، أما الربا فانه تعطيل للعمل من طرف آكل الربا ,لأنه يعتمد في مــورده على الزيادة التي تأتيه فوق رأس ماله.
أما المقترض فانه مردد بين أمــرين، فقد يعمل بمال الربا وقد لا يعمل به , وإذا عمل به فان أرباحه كلها أو أغلبها تذهب إلى صاحب المال في أكثر الأحوال فيشــعر بالأســى والحزن ويدرك ضــياع جهـده وأيام عمره بالكسب والســعي لغيره مما يســـبب النفــرة والخصومة بين الناس , وتكثر الشكوى ويحاول الناس الخلاص فتتفكك المجتمعات ويتعرض النظام العام للتصدع.
فجاء تحريم الربا للعناية الإلهية بالمسلمين واللطف بهم في حفظ كيانات مجتمعاتهم مستقرة خصوصاَ مع قانون الإستقرار مقدمة لأداء العبادات وفعل الصالحات.
والأكل معروف وهو إدخال الطعام في الفم، ولكنه يستعمل مجازاَ في أكل المال، على نحو مركب من وجهين:
الأول: جعل المال ثمناَ لشراء الطعام والأكل فاخذ المال بالربا وشراء الطعام به كأنه أكل للمال نفسه.
الثاني: إطلاق الأكل على المال نفسه بإرادة أخذه والإستيلاء عليه قال تعالى [ وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ ]( ).
ويأتي الذم أحياناَ على أكل السحت، قال تعالى [سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ]( ).
والسحت كل ما لا يحل كسبه، مشتق من السحت وهو الإستئصال لأنه يؤدي إلى عذاب الاستئصال، ومال الربا من مصاديق السحت والحرام.
اما المعنى من الأكل في الآية فهو العنوان الجامع للمعنى الحقيقي والمجــازي من غير تعارض بينهما( )، بل هو آية في الاعجاز وحجة على قبح الربا وبغضه وتعدد ما فيه من وجوه الضرر والأذى، فقد يظن الإنسان التخلص من ضرر الربا الذي يتعاطاه بان يجعل الطعام الذي يأكله من مزرعتــه أو مــن مــورد حلال، أما ما يأتيــه من الربا فانه يوظــفــه في التجــارات أو العقارات ومشــاريع لا يأتي منهـا دخل إلا فيما بعد.
فتأتي هذه الآية لتطلق عنوان الأكل على كل مال الربا وأن أخذه أكل وفيه إخبار بأن أخذ الحرام يؤدي إلى الأذى والداء في البدن، لذا ترى بعضهم يبتلى بمرض عضال ويشــكو من غير عــلة ظاهرة، فالآية في مفهومهــا دعوة لتنزيه الموارد الماليــة مطلقاَ وعــدم حصر الورع والتنزه بما يدخل البطن ويكسو البدن.
ومن التنزه المالي إخراج الزكاة والانفاق في سبيل الله تعالى كواجب بذاته ولأنه تطهير وتنقيح للاموال التي يحتمل دخول الحرام والشبهات فيها، قال تعالى[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا]( ).
إخراج الزكاة والخمس من المال الربوي
ولو قام آكل الربا بدفع زكاة وخمس أمواله، فهل يطهر الباقي ويصبح مالاَ مزكى وحلالاَ.
الجواب لا، من وجهين:
الأول: قانون تعلق الحرمة بعين المال الربوي نفسه.
فان دفع شطراً منه يبقى جزء من السحت والحرام عنده.
الثاني: وجــود مالك أصلي لمال الربا، فانتقال المال بالمعاملة الربوية إنتقال فاســـد فلابد من إرجــاع المال إلى صـاحبه الأصلي .
فلا ينفع التصدق بمال الربا في إبراء الذمة لانها مشــغولة لمالكه بمقــداره حتى ولو كان مال الربا أقل من الصدقة، كما لو كان الربا الزائد على القرض عشرة دنانير وتصدق بخمسة عشر ديناراً تبقى الذمة مشغولة بذات العشرة إذ يجب إعادتها إلى صاحبها أو ورثته، وفيه صور:
الأولى: لو كان يعرف مقدار مال الربا ويعرف صــاحبه فعليــه إعـادة المال له.
الثانية: يعرف الشخص الذي أخذ منه الزيادة على القرض الربوي، ولكنه لا يعرف مقدار المال الذي إستوفاه منه زيادة على رأس مال القرض، فعليه حينئذ التراضي والتصالح معه بالأقرب فالأقرب إلى المقدار المحتمل الإستحواذ عليه.
الثالثة: يعلم أنه أكل مال الربا، ولكنه لا يعرف مقداره وصاحبه، كما لو تقادم به الزمن فحينئذ تشمله قاعدة دوران الأمر بين الأقل والاكثر، وهو أن يستحضر اقل مقدار محتمل وأكثره كما لو ظن أن مال الربا مردد بين خمسين وسبعين ديناراً فيجزيه دفع الخمسين والأحوط له دفع السبعين، وكون الإعطاء إلى الفقراء نيابة عن صاحب المال الأصلي وثواباَ عنه.
لقد جعلت الآية آكلي الربا أمة تلتقي بخصلة مذمومة وهي أكل الربا، وفيه دعوة لأفرادها للخروج منها والتخلص من الإنتساب لها، وحثهم على طلب الرزق الحلال , والإمتناع عن أكل الربا، وهو من عمومات قوله تعالى في خطاب للمسلمين والمسلمات[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
ومن الإعجاز في آيات الرزق في القرآن إتصافها بالترغيب بالكسب الحلال , وبعث النفرة من السحت والمال الحرام .
قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ]( ).
قانون الإنذار من الربا رحمة
من منافع وفوائد الذم القرآني، لفعل مخصوص دعوة المسلمين للمناجاة في إجتنابه والإبتعاد عنه , قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وبين الدعوة إلى الخير وذم الفعل القبيح عموم وخصوص مطلق , فهذا الذم فرع الدعوة إلى الخير وهو على وجهين:
الأول: أن يذكر فعلاَ قبيحاَ بالذات والاثر ليتخلص منه صاحبه.
ويحــذر الآخــرون من الإقتراب إلى هــذا الفعــل، وتواجــه مدرســة ذم الربا الإنســان قبــل بلوغــه وحين بلــوغــه لتصاحبه ما دام في الحياة الدنيا .
وهل تنقطع هذه الصحبة عند الموت وأوان دخول القبر، وفي عرصات يوم القيامة .
الجواب لا، فتكون مادة للحساب.
ويصبح إجتناب المسلم للربا ضياء يملأ قبره، وثواباً يثقل ميزان حسناته يوم القيامة، ويتوجــه الخطاب التكليفي لـه ليحــرص على الإبتعــاد عنــه، كما في قـــولــه تعــالى [يَمْحَــقُ اللَّهُ الرِّبَــــا]( ).
الثاني: مجيء الذم لمن تلبس بفعل القبيح لتنفر منه النفوس وللتوبيخ والتخويف كما في هذه الآية، فالذم في القرآن له منافع متشعبة كما أنه توليدي، فيكون مقدمة لضده.
وسواء جاء الذم للفعل أو لصاحبه فانه إصلاح للفرد، وللجماعة، وللأمة، وتعاهد للقيم العقائدية، وأحكام الشريعة.
فمن إعجاز القرآن أنه يتضمن الأمر بالواجبات ثم ينهى عن ضدها وما يؤثر سلباَ في إستدامتها ودوامها، يريد الله ان تكون العبادات هي السائدة، وهذا لا ينفي الصراع والتزاحم بين الطاعة والمعصية، وهو على وجهين:
الأول: ان تكون المعركة سجالاَ مرة يكون الفوز والنصر للعبادة، ومرة يكون ظاهر الجولة للمعصية.
الثاني: ان يكون النصر دائماَ للعبادة، وتكون الطاعة هي السائدة والغالبة، والمعصية ذات اثر جزئي محدود بخصوص الافراد وعالم الافعال، وتأتي الطاعة والاستغفار عليها، فهي أي المعصية في انحسار وتقهقر، شأنها شأن الشيطان في ضعف كيده ووهن مكره.
تفسير قوله تعالى [ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ]
لقد بدأت الآية بالاسم الموصول ولم تكن جملة فعلية فلم تقل الآية (يقوم الذين يأكلون الربا) ، في توكيد على فصل وعزل آكلي الربا وبيان السخط الالهي من فعلهم وما فيه من مضامين المعصية، فالاهم هو ذكرهم بصيغة الذم وليس القيام، انما يأتي موضوع القيام بالمرتبة الثانية كمصداق لاستحقاقهم التبكيت والتقبيح وهو اثر وضعي من آثار اختيارهم المعصية.
وهناك وجوه كثيرة للحرام منها السرقة والزنا وشرب الخمر وغيرها، فلم يصف القرآن واحداً من أصحاب هذه المعاصي بما وصف به آكلي الربا مما يعني سوء فعلهم وان كان عدم وصف الفساق الآخرين لا يدل على انهم اقل اثماً من آكل الربا، بل يمكن شمولهم بمفهوم الآية سواء من باب الاولوية او المثلية، وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: درهم ربا أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) ( ).
وجاءت الآية والوصف بصيغة الجمع (لا يقومون) وهي مركبة من ثلاثة معان:
الأول: إرادة الفعل والعمل.
الثاني: بيان أثر وضرر آكلي الربا العام مجتمعين.
الثالث: إنحلال الجمع إلى صيغ الأفراد، فكل آكل ربا يقوم كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان.
ولا تعارض بين هذه الوجوه والآية شاملة لها جميعاَ، وفيه توكيد لأضرار الربا وإقترافه.
وفي الآية إنذار من أرباب الربا الذين يتخذون الربا عملاَ وصنعة لهم، وتحذير من المشاريع والنشاط العام المتحد أو المتعدد الذي يقومون به ، والذي فيه ضرر لا يحتمل على الفرد والجماعة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ومنه المعاملات التي تقوم على الربا المحض، فالآية تتغشى الأزمنة المختلفة، ومنها زمان التقارب والتداخل بين المذاهب الإقتصادية والمالية.
ليبقى المسلمون مستقلين في معاملاتهم، تطبع عملهم أحكام الشريعة ويهتدون بأنوارها، من غير رفض لصيغ التعاون والتداخل، بل ينتفعون منها وينفعون الآخرين، ينتفعون منها بلحاظ كونها صفقات تجارية وأرباحاً ومنافع متبادلة، وينفعون غيرهم بتوسعة شؤون التجارة وعالم النقد ويعطونهم دروساَ بليغة بالتمييز بين الحق والباطل، والسمين والغث ، والصحيح والفاسد من المعاملات والتنزه عن الربا أخذاَ وعطاء، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وتلك مسؤولية جهادية عظيمة في عالم العقائد والإقتصاد والأخلاق، ومن دلالات صيغه أن موضوع الربا ليس فردياَ بل هو متعدد وأفراده متكثرة، وفيه أمور:
الأول: إنهم إستحقوا الذم والزجر.
الثاني: اليقظة من الوقوع في الربا مركبة من جهتين :
الأول: قانون الحذر من الربا نفسه.
الثاني: قانون اليقظة والإبتعاد عن أرباب الربا.
الثالث: تعدد طرق الربا وكثرة أهله وأصحابه فلابد من التفقه في البيع والتجارة والكسب , وورد عن الامام علي من أتجر بغير علم ارتطم في الربا ثم ارتطم( ).
ومع حرمة الربا النفسية فانه طريق لمفاسد عديدة، فجاء التغليظ في حكمه ولزوم إجتنابه.
ومن إعجاز الآية أن حال التخبط التي يكون عليها آكلوا الربا ليس بسبب المعاملة الربوية .
إنما هو لقولهم بأن البيع مثل الربا , وفيه إنذار للمسلمين وغيرهم من هذا القول , وقانون الزجر عن الجدال في حرمة الربا , وعن القول لحلية وجواز الربا .
ترى وما شأن عقوبة الربا الجواب هو أمر آخر غير التخبط كالمجنون.
وفي حديث الإسراء عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بقوم بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر يقول : الله لا تقم الساعة وهم على سابلة آل فرعون فتجيء السابلة فتطؤهم فسمعتهم يضجون إلى الله قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟
قال : هؤلاء من أمتك الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل قد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار ثم يخرج من أسافلهم فسمعتهم يضجون إلى الله
قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟
قال : هؤلاء من أمتك (الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا( ))( ).
وتدل السنة النبوية على بيان آية البحث كحال آكلي الربا يوم القيامة , وبه يعرفهم أهل المحشر.
(عن عمر أنه قال : من آخر ما أنزل آية الربا ، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا ، فدعوا الربا والريبة .
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه خطب فقال : إن من آخر القرآن نزولاً آية الربا والريبة) ( ) وأصل الخبط الصرع.
قانون التفقه في التجارة
يجب على الذي يزاول التجارة تعلم أحكام البيع والشراء وقواعد إجتناب الر با , وطرق الهروب منه , وتعلم أحكام التجارة فرض عين في حق التجار .
وكان بعض التجار إذا سافروا يصاحبهم فقيه للرجوع إليه .
وهل التفقه في التجارة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ) الجواب نعم .
وتحتل التجارة منزلة كبيرة في عالم الاعمال، وعن الامام علي قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الرزق عشرة أجزاء تسعة أجزاء في التجارة وواحد في غيرها”.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “تسعة أعشار الرزق في التجارة، والجزء الباقي في السابيا يعني الغنم”( ).
وترى التجارة تدخل في الزراعات والصناعة ومختلف المعاملات، وموضوع الإبتلاء بالربا هي التجارة في أكثر الأحيان للحاجة إلى المال في الكسب، ولذا جاء التحذير من الربا.
مع التوكيد على صحة البيع وطلب المعاش وهو أمر محبوب عند الله، ولابد معه من تعلم القدر اللازم من أحكام التجارة ومعرفة وجوه الصحة والفساد في العقود، وهذا التعلم طريقي إرشادي وليس نفسياَ فلو لم يتفقه المكلف في احكام البيع، ولكن معاملته جاءت صحيحة موافقة لقواعد التكليف، صح منه ولا إثم عليه.
ومن اللطف الالهي التخفيف ببيان أحكام الربا والتحذير منه ، قال تعالى [يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ] ( ).
ومن الآيات أن ترى المسلمين جميعاَ صغاراً وكباراَ، ذكوراً وأناثاَ يعلمون حرمة الربا وينفرون ممن يتعاطى الربا، ويعرفون أحكاماَ إجمالية عنه، ويعلق في ذاكرة الصبي الصغير أن فلاناً في محلته أو قريته كان يتعاطى الربا.
وتخبر الآية عن حصول خلل في معاملات أهل الربا، ويبدو عليهم الإرباك في اعمالهم التجارية مما يدل على أمور :
الأول : قانون حصول أسباب الإبتلاء في الربا.
الثاني : إنعدام البركة فيه .
الثالث : ظهور الأذى العاجل الناتج عن مزاولة الحرام، وأن الله عز وجل يجعل بعض الصعاب والمشاق أمام السائرين في طرق الضلالة والكسب الحرام ليلتفتوا إلى وظائفهم الشرعية ولقانون منع شيوع المنكر وإنتشار الحرام.
وهذا من اللطف الإلهي الموجه إلى القائمين على الربا لتحذيرهم وردعهم، وإلى الناس جميعا لإجتنابهم ومعاملاتهم الربوية، وهو من عمومات الرحمة وأسباب الصلاح في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
قانون النفرة من الربا
ترى أن آكل الربا مبغوض ممن يعمل معه ومن الناس، وأحياناَ تراه مبغوضاً من عياله، وهذا البغض ناتج عن أمور:
الأول: فعل الحرام، ونفرة النفوس منه، فتترشح النفرة من فاعله إنطباقاًَ، لأنه السبب والمباشر للفعل المنهي عنه شرعاً.
الثاني: ان الله عز وجل أودع عند الإنسان العقل وجعله آلة التمييز بين الحلال والحرام، والحق والباطل فيدرك الإنسان أن صاحب المعصية يخالف النظام العام للحياة الإنسانية وأن هذه المخالفة تسبب اضراراً شخصية ونوعية ، والنفوس لا تميل إلى الضرر والإضرار، قال تعالى[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ]( ).
الثالث: يؤدي الربا إلى إضطراب الأحوال وإبتلاء الذي يدفعه بالعوز والحاجة والإجتهاد بالكسب من غير ظهور ربح يذكر لأنه يدفعه إلى آكل الربا.
وتبين الآية أموراَ :
الأول : قانون الربا نقيض الفطرة السليمة.
الثاني : قانون الربا سبب لإختلال الأعمال وإختـــلاف الأفعال والحركات.
الثالث : إتحاد الحكم في آكلي الربا , وما يلاقون في حال الصرع والميلان إلى جهة اليمين واليسار يوم القيامة , إذ وردت الآية لصيغة الجمع , فلم تقل الآية (الذي يأكل الربا) إنما ابتدأت بالقول [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا]( ) لتغشي حال الخبط والصرع لهم جميعاَ في المحشر.
التمثيل في أكل الربا
ومن الإعجاز في الآية أنها جاءت على نحــو المثل والتشــبيه، وليس الواقــع والمطابقــة، وفيــه مســائل:
الأولى: إن الله عز وجل لم يجعل سلطاناَ للشيطان على الإنسان بل ترك للإنسان الإختيار، وأعطاه قوة الفعل والحكم على الأشياء من خلال الحكم الشرعي، وهداه للحق وبيّن له حرمة الربا، فاذا ماخالف الشريعة فهو عاص، قال تعالى[وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ]( ).
الثانية: الآية جواب على من ينكر ظهور سلطان الشيطان على أفعال الإنسان ونسبة أخطائه وجرائمه إلى الشيطان، مع أنها لم تذكر أثر الشيطان إلا على نحو التشبيه.
الثالثة: الآية دعوة لملاحظة الشــذوذ في ســلوك أهــل الربا ومخالفــة السنن والأعراف الإجتماعية، للإعتبار والاتعاظ والتقيد العام بحرمته.
الرابعة: تؤكد الآية حصانة المجتمعات من فتك الحرام بأوصالها , وتركيبها , بأن تفضح العصاة في سلوكهم وأفعالهم اليومية.
الخامسة: الآية إشــارة إلى وجــود عقوبة ظاهــرية عاجــلــة لكــل نــوع من أنــواع المعاصي إلا ما شاء الله ستره وإرجاء عقوبته من وجوه:
الأول : الربا نوع وجنس من المعاصي.
الثاني : يعلم الله ان التوبة تدرك أكل الربا.
الثالث : انه يستحق الستر، وعدم الفضح بالسيرة والسلوك لشخصه أو لآبائه الصالحين.
الرابع : إن الله يعلم بخروج ولد من صلبه يعمل ما يستحق الستر الدنيوي لفعل الأب .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ( ).
الخامس : قانون الستر بفضل الله تعالى من غير علة او سبب.
فالأثر الوضعي لأكل أموال الربا هو الإرباك والخلل في سلوك آكله، وهذا الخلل بذاته نقص وعيب ولابد من ظهوره على الجوارح، فمن أراد القيام بصورة غير طبيعية وخلاف الإتزان والعدل، لابد وأن يأتي بالأفعال خلاف الصحة والصواب، فيكمن الضرر الآني للربا بفقدان البصيرة وإتخاذ القرار بعيداَ عن حكم العقل , هذا على فرض وجود مصداق لآية البحث في الحياة الدنيا , وهو المختار , إذ يأتي المسمى على نحو الإنذار والتخويف.
وجوه في آية الربا
في الآية وجوه:
الأول: تتعلق الآية بالبعث من القبور، وأن الناس يخرجون منها مسرعين لقوله تعالى[يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا]( ) إلا أكلة الربا فانهم يقومون ويســقطون، كما يقوم الذي يتخبطـه الشيطان من المس، لأن الله عز وجل أربى أموال الربا في بطونهم ، ولكنه لم يرفعه.
الثاني: إن الله عز وجل يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنوناً، ليكون هذا الجنون علامة أكل الربا، فيعرفه أهل الموقف وما ينتظره من العقاب.
الثالث: الإضطراب في سلوك آكل الربا لما يظهر على فعله بسبب الصراع بين دعوة الملك له للحق والإستقامة، ودعوة الشيطان له لأكل أموال الناس بالربا والباطل.
والأصح إن متعلق الآية الحياة الدنيا والآخرة معاً، وليس الآخرة وحدها ولكنه في الدنيا نوع مسمى ومقدمة لعالم الآخرة ، لأصالة الإطلاق ولعدم وجود قرينة تدل على حصــر موضوعها بالدنيا وللمتبادر، وظهور الملازمة بين أكلهم الربا وقيامهم خلاف المألوف.
نعم وردت نصوص بخصوص حال الخبط التي عليها آكل الربا في الآخرة , وهل تفيد حصره بعالم الآخرة , أم أن إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره.
ويجب ان تعطى الاولوية في التفسير لموضوع أكل الربا وحرمته وتصرف آكليه، وليس لما ورد في الآية من المثل وحده خصوصاً وانه جاء للتشبيه، فالآية تعالج ظاهرة اجتماعية واقتصادية واخلاقية وآفة تتفشى في كثير من المجتمعات، والتصدي للربا والتنزه عنه جهاد ضد النفس الشهوية، ودعوة لعصمة المسلمين من هذه المعصية التي لها اضرار متعددة ومتفرعة، إلى جانب العذاب الأليم في الآخرة عقاباً وجزاءً، قال تعالى[وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ]( ).
وقد يكون الربا حائلاَ دون القرض وما فيه من العون للمحتاج والأجر والثواب في الآخرة .
معنى القيام
وقد تقدم في اللغة والإعراب أن القيام يأتي بمعنى العزم وقصد فعل الشئ، فمن معاني الآية أن آكل الربا عاجز عن إتخاذ القرار الحكيم وإن إتفق وجاء قراره ورأيه صائباَ فانه لا يحصل إلا بعد تردد وإرباك تغلب عليه الحيرة والقلق والإضطراب وخشية الخلل في إختياره، وهذا القلق يكفي في توكيد قبح الربا وأضراره العاجلة ، وهو عقوبة عاجلة إلا أنه في حقيقته رحمة إلهية للفرد والناس والمؤمنين خاصة.
أما الفرد على وجوه :
الأول : الآية إنذار لآكل الربا قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثاني : التخويف من العذاب الأخروي المستديم.
الثالث : التنبيه للزوم إجتناب الربا.
فهذا العقاب له شقان :
الأول : شق يدرك من خلاله الأذى الذي يلاقيه بسبب أكله الربا.
الثاني : شق يلح عليه لينجيه ويخلصه من المعصية بأكل الربا، فلذا أشارت الآية إلى الكف عنه.
أما بالنسبة للناس فان الله تعالى تفضل باعانتهم على الهداية وإرشادهم إلى سبل الصلاح، وإبعادهم عن المعصية.
ومن مصاديق الإبعاد والنفرة من الربا أن يجعل الإرباك ملازماَ لفعل آكل الربا، ففي الخلل في سلوكه وعمله إتعاظ وإعتبار للناس لإجتناب فعله.
وليس كل الناس يستطيعون مزاولة الربا وقبض الاموال الزائدة عنه لأنه لا يتقوم إلا بالاموال، والربا عقد ومعاملة تتقوم بطرفين :
الأول : آكل الربا .
الثاني : المقترض للمال الربوي، وتستلزم أطرافاً أخرى كالكاتب والشاهد وقد يكون في المعاملة وكيل لأحد الطرفين، أو وكيل متعدد للطرفين، لذا فإن الإرباك والخلل الذي يظهر في فعل آكل الربا زجر للأطراف الأخرى ومنع لهم من الإقدام على المعاملة الربوية.
قانون التحذير من الربا
لقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التحذير من الربا بلعن أطرافه , وبيان سوء عاقبته.
وهل يكون التحذير من الربا لأرباب الأموال وحدهم أم للمسلمين أم للناس جميعاَ، الجواب: هو الأخير من وجوه:
الأول: من ليس عنده مال يحتمل أن يكون عنده مال لأنه في معرض الحصول عليه بلحاظ أن الدنيا مناسبة للسعي والكسب , وأبواب الرزق مفتحة فيها للسعاة والسائلين من فضل الله تعالى وفي التنزيل [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
الثاني: قانون توجه خطابات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل المكلفين، وهناك موارد يستطيع الإنسان تقديم النصح والعون للآخرين في إجتناب الربا، خصوصاَ وان التنزه عنه حاجة إجتماعية وأخلاقية.
الثالث: ما يحصل لآكل الربا من العقوبة يوم القيامة تحذير لكل إنسان من ولوج المعصية مطلقاَ، فإذا أدرك الانســان قبح معصية مـا ولزوم إجتنابها فانه يحرص على إجتناب المعاصي الأخرى، لأن القبح لم يتعلق بالربا على نحو الخصوص وكفعل يقوم به الإنسان بل لأن الشريعة جاءت بالنهي عنه.
واختلف في أثر الشيطان في المصروع وهل هو واقع أم لا، وقال الزمخشري: (وتخبط الشيطان من زعمات العرب، يزعمون ان الشيطان يخبط الإنسان فيصرع)( ).
وليس من قرينة في الآية على أن التشبيه بمس الشيطان وكأنه مقدمة تؤثر في المقام إنما جاء التشبيه بما يناسب ظن وزعم العرب ومداركهم بل هو أعم، ولا زال البحث الى الآن بين الناس هل من تأثير للجن على بعض من المصروعين أم لا.
(عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :كل مولود من ولد آدم له طعنة من الشيطان وبها يستهل الصبي ، إلا ما كان من مريم بنت عمران وولدها ، فإن أمها قالت حين وضعتها { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم }( ) فضرب بينهما حجاب ، فطعن في الحجاب)( ).
وقد وردت آيات ونصوص بمس الشيطان وكأنه مقدمة تؤثر في بدن الإنسان وأعضاءه وتجعله ضعيفاَ مستعداَ للإبتلاء بالصرع أو مرض آخر، وفي أيوب عليه السلام ورد في التنزيل [ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ]( ).
وهناك نصوص كثيرة من السنة النبوية الشريفة عن المس والافتتان بالشيطان قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كفوا صبيانكم أول العشاء فانه وقت انتشار الشياطين) , وعن( النبي (عليه السلام) : خمروا آنيتكم وأوّكوا أسقيتكم وأجيفوا الأبواب واطفئوا المصابيح واكفتوا صبيانكم فإنَّ للشيطان انتشاراً وخطفة يعني بالليل) ( ).
وأخرج الأصبهاني في ترغيبه عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ياتي آكل الربا يوم القيامة مختبلاً يجر شقيه ثم قرأ [لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ] ( ) وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من وجه آخر عن ابن عباس [لاَ يَقُومُونَ] الآية قال ذلك حين يبعث من قبره( ).
والأمر سهل في المقام إذ جاء ذكر مس الشيطان كمشبه به ولم ترد مادة خبط في القرآن إلا في هذه الآية، أي أنها لم تأت إلا للتشبيه ومع هذا فان التشبيه القرآني يدل على وجود حقيقة وموضوعية للشبه والمشبه به، كما أن التشبيه القرآني مدرسة من أطراف أربعة :
الأول: المشبه.
الثاني: المشبه به.
الثالث: الجامع بينهما.
الرابع: موضوع التشبيه، وهو في المقام القيام خلاف المألوف من المس.
والتشــبيه بمس الشيطان بســبب الربا دعــوة لإجتناب المعــاصــي التي تكون مناســبة وعلة لتأثير الشــيطان على الطباع ووصــول وســوسته إلى النفس وإختــيار رفقاء الســوء ومحاكات أهــل المعاصي فيما يرتكبونــه من الآثام، إن أي عاقـل لا يرضــى أن يكون للشيطان عليه سلطان، ومن مقدمات تأثيره تعاطي الربا وجعله مورداً للمعيشة منه، وتأثيره أعم من أن ينحصــر بذات الشــخص بل يشــمل عياله وأبناءه للتلبس بأكــل الحرام، لذا جــاء المثل القــرآني بالتحــذير من اتباع الانفــاق بالمن والأذى كمــا قال تعالى [ وَأَصَــابَهُ الْكِبَرُ وَلَــهُ ذُرِّيَّــةٌ ضُـعَفَاءُ]( ).
فمن باب الأولوية القطعية ان يبتلى صاحب الربا وذريته من مال الربا، لأنه لم يمسك عن الانفاق فقط بل قام بأخذ أموال الناس بغير حق شرعي.
وجاء النعت بالأكل للتأكيد بأن الحكم الشرعي لم يتوقف على مجرد العقد بل انه يتنجز عندما يتم قبض مال الربا، وانتقاله ظلماَ إلى مال المربى وتوظيفه في حياته ومعاشه.
تفسير قوله تعالى [ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ]
ذلك اسم اشارة، وفي الآية اعجاز قانوني وهو ان تشبيههم بمن يتخبطه الشيطان لامرين:
الأول: اكلهم اموال الربا.
الثاني: القياس الباطل بين الربا والبيع.
وهل يمكن جعل التشبيه والقياس الباطل بين الربا والبيع قد حصل من التخبط الذي نتج عن مس الشيطان، والخلل في المبنى والفساد في القول فرع اكل الربا كما قيل في علم التفسير، الاقرب لا.
فالآية تؤكد اجتماع خصلتين عند أرباب الربا احداهما في عالم الأفعال، والاخــرى في ســنخ الأقوال، الاولى اكــل الحـرام، والثانية ايجاد بدعة في الدين واشــاعة الضــلالة، فالآيــة الكــريمة تبين اصــنافاَ واقســاماَ ثلاثة:
الأول : الذي يأكل الربا ولا يقول ان البيع مثل الربا، فهو يكتفي بأكل الربا ويلحق به من ياكل الربا ويعرف حرمته.
الثاني : الذي يقول إن البيع مثل الربا ولا يأكل الربا.
الثالث : الذي يأكل الربا ويقول إن البيع مثل الربا.
وتتعلق أحكام آية البحث بالقسم الأول والقسم الثالث أعلاه الذي يجمع بين قول الباطل وفعله لأن الذي يأكل الربا ويعلم أنه حرام يحمل معه أسباب التخلص منه أو أنه يحذر بنفسه الآخرين مما أبتلى به.
فالعاقل يعتبر ويتعظ من غيره ويعظ الآخرين ، ولا يراه الناس أنه يعمل الباطل مع علمه أنه باطل.
وعدم إصراره عليه يكون سبباَ لأمره بالمعروف ونهيه عن الربا لأن من شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجود السامع أي هناك إحتمال للإنصات وأمل بالإستجابة من الطرف الآخر.
والذي يكتفي بالقول بعدم وجود فرق بين البيع والربا ولا يتعاطى الربا يكون عصيانه فقط بلسانه وهو ليس من أهل الربا، لذا لا يقال في اللغة: أربى الرجل في الربا، إلا إذا عامل في الربا.
فجاءت الآية صريحة بتعليق حكم الربا على أكله وجمع الأموال بواسطته، ومن شرائط الأكل القصد إلى ما يأكله الإنسان ويتذوق به، ويكون الأكل في الغالب بإختياره ورغبته مما يعني أن أكل الربا جاء عن رغبة ورضا ومعرفة لنوعه وأنه حرام.
فجاءت الآية باسمه الصريح وهو الربا، وللربا خصوصية ذاتية وهي معرفته بأنه حرام لأنه زيادة عن مال القرض ليس لها عوض.
وظاهر الآية أنهم لم يقــولوا بالمـثليــة بين الربا والبيــع بمعــزل عن أكل مال الربا بــل جاءا مقترنين معاَ، والقــول أعم من الأكل بلحاظ إســم الإشارة (ذلك) الذي يــدل على إختيارهـم للربا وعدم إضطرارهم له فأكلوا الربا عن إصرار وعناد وإعراض عن الحكم الشرعي ومحاولة لمحو الفوارق بين الحلال والحرام، فاستحقوا السخط من عند الله قال تعالى[يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ]( ).
وإستطاع إبليس أن يجد له منفذاَ وطريقاَ إلى مسهم بالنصب والأذى، قال تعالى[وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا]( ).
قانون بطلان تشبيه الربا بالبيع
من إعجاز الآية إخبارها عن تشبيه البيع بالربا , فلم تقل الآية (وقالوا إنما الربا مثل البيع) لبيان جدالهم في جواز الربا , إنما جعلوا الربا هو الأصل , والمشبه به وأن البيع تابع له وفيه مسائل :
الأولى : بيان انغماس أهل الربا بالمعاملات الربوية .
الثاني : إرادتهم إشاعة هذه المعاملات .
الثالثة : عدم وجود زاجر للمرابين .
فنزولت آية البحث إنذاراَ وتوبيخاَ ووعيداَ لهم .
الرابعة : الإدعاء بحلية الربا مثلما البيع حلال .
والقول [قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا]( ) أي أن المربي مثل الذي يبيع سلعته , إذ أن المربي يقوم بتسليم أمواله , ويرجو الربح عليها مع التباين بين البيع الذي تكون فيه سلعة ومثمن , وربح وخسارة , وبين الربا الذي ليس فيه مثمن , ولا احتمال خسارة للمربي لذا تجوز المضاربة شرعاَ والقرض ويحرم الربا .
كتاب المضاربة
وهو من الضرب، لضرب العامل في الأرض لتحصيل الربح او لضرب المال وتقلبه، والمفاعلة اشارة الى تقومها بطرفين لأن المال من المالك ويباشر العامل العمل، وأهل الحجاز يسمونه قراضاً من القرض بمعنى القطع الذي منه المقراض، لأن المالك يقطع حصة من ماله ويدفعه الى العامل ليتجر به على ان يكون الربح بينهما، ولا يكون تمام الربح في المضاربة للمالك ولا للعامل.
(مسألة 1) من دفع مالاً الى غيره بعقد للتجارة فيه صور ثلاث:
1- ان يكون الربح بينهما، أي بين صاحب المال والعامل ويسمى مضاربة.
2- ان يكون تمامه للعامل ويدخل بعنوان القرض، وان كان الدخول قهرياً.
3- أن يكون تمامه للمالك ويسمى بضاعة، وان لم يشترط شيئاً فيلحق بالبضاعة، وللعامل أجرة المثل لقاعدة احترام عمل المسلم الا اذا قصد التبرع.
(مسألة 2) قيل انه يشترط ان يكون رأس المال بيد العامل، فلو اشترط المالك ان يكون بيده لم يصح، والظاهر الصحة لو تصدى العامل للمعاملة مع كون المال بيد المالك.
(مسألة 3) المضــاربة عقــد جــائز يشــترط فيه الإيجــاب والقبول ويكفي في كل منهما اي لفظ او فعــل يدل على المعــنى والقصـد وبما يرفع الجهالة والغــرر كما لو قال ضــاربتك بمبلـغ كذا على ان يكون لك نصف الربح، فيقول العامل قبلت، كما يشترط في كل من المتعاقدين البلوغ والعقل والإختيار، ويعتبر في صاحب المال ان لا يكون محجوراً عليه.
(مسألة 4) ما يجــري في هذه الايام من اعطاء المالك مبلغاً من المال للعامل والتاجر ليضارب به لقاء ربح شهري ثابت معاملة فاسدة وشياعها يدل على قلة التفقه في الدين من قبل الذين يسعون للعمل في التجارة.
(مسألة 5) يشترط في رأس مال المضاربة امور اهمها:
الأول: ان يكون عيناً وعليه الاجماع فلا تصح بالمنفعة ولا بالدين، فلو كان لزيد دين على عمرو فلا يصلح ان يجعله مال مضاربة عنده قبل قبضه بل يجدد العقد بعد القبض على الأقوى، وكذا لا يصح لو قال للعامل بع هذه السلعة وخذ ثمنها قراضاً لأن العقد يجب ان يكون بعد نض الثمن، ولو وكل المالك المقترض في تعيين المال ثم ايقاع العقد عليه بالايجاب والقبول بتولي الطرفين فالاقوى الصحة.
الثاني: ان يكون من الذهب او الفضة المسكوكين او من العملات المتداولة، والأقوى جوازه بالعروض اذا احتسب بما يقابلها بالعملة المتداولة وبالأسعار المتعارفة لها وبما يرفع الجهالة والغرر ويمنع الضرر، فلو كان مال المضاربة من الكتب او الحبوب مثلاً فتحتسب بسعر الجملة لها.
الثالث: ان يكون المال معلوماً قدراً ووصفاً ولوعلى نحو الإجمال وهو المشهور، والمدار على نفي الجهالة والغرر لذا قد تكفي المشاهدة وقد لا تكفي بحسب الحال والجنس.
الرابع: ان يكون مال المضاربة معيناً غير مردد بين اثنين او اكثر مع التباين في القيمة فلا ينعقد لو احضر مالين وقال قارضتك باحدهما او بأيهما شئت، الا ان يجري العقد على أحدهما، نعم يصح ان يكون مشاعاً بعد العلم بمقداره ووصفه، فلو كان شخصان مشتركين بمال قدره ألف دينار لكل منهما نصفه، وقال أحدهما للعامل ضاربتك بحصتي من هذا المال صح.
الخامس: ان يكون الربح في المضاربة مشاعاً بين المالك والعامل فلا يجوز ان يخُصص مقدار معين لأحدهما كمائة دينار كل شهر.
السادس: تعيين حصة المالك والعامل من الربح على نحو النسبة الا ان يكون هناك متعارف ينصرف اليه الإطلاق كما لو كان المتعارف المناصــفة في الربح او ان البلد كله يعمل بتقسيم واحد في ارباح المضاربة.
السابع: حصر الربح بين المالك والعامل، فلا يجوز ان يكون جزء منه للأجنبي على الأقوى، نعم لو قال المالك للعامل اعط لفلان من حصتي كذا صح لقاعدة السلطنة. وقيل مقتضى الأصل صحة الشرط حتى للأجنبي.
الثامن: الأولى ان يكون مال المضاربة بيد العامل، والظاهر جواز صــحتها بان يتصدى العامل للمعاملة وان كان المال بيد المالك كما تقدم.
التاسع: ان يكون الإسترباح بالتجارة فلا يجوز ان يكون بالزراعة مثلاً التي لها عنوانها وحكمها الخاص التابع للموضوع، ولا في القروض مع الفائدة لأنها معاملة ربوية.
العاشر: ان يكون رأس المال بمقدار يستطيع العامل معه المباشرة والقــدرة على المضــاربــة، فلــو كانت التجــارة في الحــديد مثلاً فلا يجــوز ان يكــون المال قليــلاً لا يســتطيع معه شراء المقدار المناسب للإتجار به.
(مسألة 6) لو عقدت المضاربة باطلة وغير جامعة للشرائط يكون تمام الربح للمالك وللعامل اجرة عمله اذا كان جاهلاً بالبطلان، ولا يكون ضامناً اذا كان المالك عالماً بالحال.
(مسألة 7) لو جعلت عند غيرك مالاً وديعة يصح ان تضاربه عليه، وكذا لو كان المال بيده غصباً فان يده تنقلب حينئذ من يد ضمان الى يد استئمان على الأقوى وان قيل بان الضمان لا يتحقق الا بالتأدية.
(مسألة 8) يجوز لكل من طرفي المضاربة فسخها لأنها عقد جائز سواء كان الفسخ قبل الشروع في العمل او بعده، عند حصول الربح او قبله، نض المال وتحول الى نقد او لا زال عروضاً قبل الأجل المعين لإنقضاء المضاربة او ان المضاربة لم يشترط فيها اجل الا ان يشترط عدم حصول الفسخ الى اجل معين فيلزم، او كان في عدم الفسخ مرجح وغاية عقلائية واحتمال حدوث الضرر اذا حصل الفسخ، كما لو كان العمل ولمدة عدة اشهر يعتبر مقدمة للموسم واشترط العامل عدم الفسخ قبل الموسم او ابتنى العقد على ذلك.
(مسألة 9) اذا دفع اليه مالاً وقال اشتر به عروضاً معينة او قطيعاً من الغنم، فاذا كان القصــد الإسترباح بزيادة القيمة صح مضاربة.
(مسألة 10) الخسارة التي تحصل في المضاربة تكون على المالك اذ ان العامــل لا يضــمن الا مع التـعــدي او التفريــط، نعـم لو شــرط المالك ان تكون الخســارة عليهما مـعاً ضـماناً لرأس ماله فالأقوى صحة الشرط.
(مسألة 11) اذا اشترط المالك على العامل جهة ومكان العمل او استثنى بلداً معيناً منه كما لو قال له لا تسافر الى البلد الفلاني فلا يجوز للعامل المخالفة والا يكون ضامناً للمال لو تلف اثناء المخالفة، وكذا لو حدد له جنساً معيناً او اكثر للعمل كما لو قال له اشتر الحنطة والشعير والذرة او استثنى جنساً معيناً كما لو قال له اشتر الكتب ولا تشتر كتب الضلالة، وكذا لو قال له اشتر وبع على فلان وفلان ولا تشتر او لا تبع على فلان او الشركة الفلانية، نعم تلك المخالفة لا تمنع من اشتراكهما في الربح بحسب عقد المضاربة وهو المشهور وعليه جملة من النصوص منها صحيحة محمد بن مسلم وصحيحة ابي الصباح الكناني.
(مسألة 12) يجب على العامــل ان لا يخلط رأس مال المضاربة مع مال آخــر له او لغيره الا مــع اذن المالك ولو بالفحــوى او الإطلاق كما لو قال تصــرف بما فيه المصــلحة، فلو خــلط بدون الإذن ضمن التلف الا ان المضــاربة باقية والربح الحاصل بسبب الخلط يكون بين المالين بالنسبة.
(مسألة 13) مع اطلاق العقد يجوز للعامل العمل والبيع والشراء واختيار المكان والأشخاص الذين يتعامل معهم وكيفية التصرف في المال بحسب ما يراه من المصلحة وبحسب المتعارف، فمثلاً لا يجوز له ان يسافر بالمال الا مع اذن المالك الا ان يكون السفر به متعارفاً وينصرف اليه الإطلاق، ومع ثبوت المخالفة يكون ضامناً للخسارة ولكن الربح بينهما بحسب النسبة.
(مسألة 14) لا يجوز للعامل في المضاربة البيع نسيئة حتى مع اطلاق العقد الا ان يكون بيع النسيئة متعارفاً وينصرف الإطلاق اليه كما لو كان بيع الجنس الذي تكون فيه المضاربة لا يتم في البلد الا بالنسيئة، ولو كان شطر من المضاربة يقع في بلد آخر.
(مسألة 15) لو خالف العامل وباع بخلاف ما اشترط في عقد المضاربة كما لو باع نسيئة مع عدم الأذن فيه والنهي عنه فاذا تم الإستيفاء قبل اطلاع المالك فهو وان وقعت مخالفة، وان علم المالك قبل الإستيفاء وامضى النسيئة صح، والا فالبيع باطل وللمالك الرجوع بالعين ان وجدت ومع عدمها له الرجوع على العامل او على المشتري، فان رجع على المشتري لا يجوز للأخير الرجوع على العامل الا ان يكون قد غره كما لو كانت القيمة اكثر من الثمن فانه يرجع على العامل بما دفعه من الزيادة، اما لو رجع المالك على العامل فانه يرجع على المشتري بما غرم لقاعدة رجوع السابق على اللاحق ولأن المال تلف عند المشتري.
(مسألة 16) لا يجوز للعامل ان يشتري باكثر من قيمة المثل ولا يجوز ان يبيع باقل من قيمة المثل الا مع الإذن والإجازة او اقتضاء المصلحة لأحد الأمرين، كما لو كان البيع بالأقل يوفر ربحاً اكثر بسبب كثرة ما يُباع، او لأن الجنس عرضة للتلف ان ابطأ في بيعه.
(مسألة 17) اذا كان المتعارف حصول البيع بالنقد كما هو الغالب في هذا الزمان فلا يجوز في صورة اطلاق عقد المضاربة البيع بجنس وعروض اخرى اي لا يجوز بيع الحنطة مثلاً بالبيض او السمن.
(مسألة 18) لا يجوز للعامل شراء المبيع، الا مع الإذن او اقتضاء المصلحة، ولو خالف فللمالك الرد او الأرش.
(مسألة 19) مع اطلاق العقد لا يجوز ان يشتري العامل بالذمة بل لابد ان يكون بعين المال والشراء بالذمة يكون على وجوه:
1- ان يشتري العامل بذمة المالك لأن مال المضاربة ملكه.
2- ان يشتري بذمة المالك ايضاً باعتبار انه عامل ووكيل عنه وحكمهما الصحة مع الإذن ويكون الربح بينهما مشتركاً بحسب النسبة واذا تلف المال قبل الوفاء كان في ذمة المالك يؤديه من ماله.
3- ان يقصد العامل الشراء لنفسه ولكنه عند الوفاء دفع من مال المضاربة فان بقى على نيته الأولى ان الشراء لنفسه يكون غاصباً لما دفعه من مال المضاربة وتصرف فيه بغير اذن المالك الا ان يكون قد اذن له بالإقتراض من مال المضاربة وبما يشمل هذه الصورة، واذا غير نيته وعزم عند الوفاء ان يكون الشراء للمضاربة صح ان لم يكن في البين ما يدل على الخلاف.
4- ان يشتري في الذمة لنفسه ليستحوذ على الربح مع العزم على الوفاء من مال المضاربة تعدياً وحيلة فيؤثم وان كان الظاهر صحة الشراء لعدم ثبوت التصرف في مال المضاربة من غير اذن بمجرد قصد الوفاء منه، الا ان يكون البيع في الذمة قد تم بلحاظ انه عامل في مال المضاربة، كما لو كان البائع يعلم ان الشراء له مجرد عن صفة عامل في المضاربة لما باعه في الذمة، فالأقوى حينئذ انه يكون للمضاربة والربح بينهما مشترك بالنسبة، وان باعه قبل الوفاء فهو من مال المضاربة، لأن نيته حينئذ وقعت لغواً ولما للصفة الإعتبارية من موضوعية في البيع.
(مسألة 20) اذا اختلف البائع والعامل في الشراء هل كان لنفسه او كان للمالك فان كان هناك اطلاق انصرف اليه وكذا مع القرائن والبينة والا فيكون البائع مدعياً اذ ان القول قول العامل مع يمينه لأنه اعلم بقصده في الشراء ولأنه أمين.
(مسألة 21) يجب على العامل في المضاربة القيام بمقدمات ومستلزمات حفظ المال والمتاع وبما يحول دون تلفه، فيجب حفظه في موضع مناسب واجتناب سوء الخزن بالنسبة لمال التجارة ويفعل كل ما يجب في حفظه وفق المتعارف.
(مسألة 22) يجوز للعامل استئجار الوزان والدلال والحمال ويعطي الإجرة من الوسط ووفق المتعارف، ولو استأجر ما يتعارف مباشرته بنفسه فالإجرة من مال العامل ولو تولى بنفسه ما متعارف الإستئجار فالظاهر جواز اخذ الإجرة ان لم يقصد التبرع او كان ضمن العقد عدم جواز اخذه الإجرة على مثله.
(مسألة 23) لو سافر العامل باذن المالك او بمقتضى العقد ونوع العمل كما لو كانت المضــاربة على متاع لا يشترى الا من بلد آخر، فحينئذ تكون نفقة السفر من رأس المال الا اذا اشترط المالك ان تكون على العامــل، اما نفقة العامل في الحضــر فهــي من ماله الخاص ونصيبه الا مع الشــرط ســواء تعلــق الشــرط بجميـع نفقته او في خصوص جزء منها.
(مسألة 24) المراد من نفقة العامل في السفر هو ما يحتاج اليه من اكل وشرب واجور نقل وسكن وفق الوسط والمتعارف بشرط ان لا يكون فيه زيادة تكليف على رأس المال، اما جوائزه وهداياه وضيافاته فعلى نفسه الا اذا كانت التجارة متوقفة عليها، وكذا لو اسرف حسب عليه، نعم لو حل ضيفاً عند الغير لا يحتسب له، وكذا الفارق لو قتر على نفسه فلا يحتسب له.
(مسألة 25) المراد من السفر هو السفر العرفي وليس السفر الشرعي فيصح السفر وان كان اقل من المسافة الشرعية، كما انه لا ينحصر بما هو اقل من المسافة الشرعية فلو تطلب امر التجارة بقاءه في بلد اكثر من عشرة ايام تكون نفقته على رأس المال الا ان يدل الدليل على الخلاف.
(مسألة 26) اذا اقام العامل في بلد آخر بعد تمام العمل ففيه صور:
الأولى: الاقامة لغاية شخصية اخرى فلا تكون النفقة في تلك المدة على التجارة.
الثانية: ان كان مقامه للتجارة في مال المضاربة ولأمر آخر يكون كل منهما علة مستقلة تستحق الإقامة فالظاهر التقسيم في النفقة بينهما.
الثالثة: ان كان الأمر الآخر جاء في عرض التجارة ولم يسبب في اطالة المدة او التأخير في عمل التجارة فالأقوى ان تمام النفقة من مال التجارة، كما لو كان يواصل زيارة اقربائه او كان يجري فحوصات طبية اثناء مدة العمل.
(مسألة 27) لا يستحق العامل الإجرة لو سافر من غير اذن او الى جهة غير مأذون بالسفر لها لأن استحقاق النفقة مختص بالسفر المأذون فيه، الا ان تكون هناك ضرورة وتدارك بيّن لمصلحة المال، كما لو انحصر الربح والنفع في تلك الجهة ويتعذر عليه الإذن والإنتظار.
(مسألة 28) لو تعدد ارباب المال كما لو كان العامل لإثنين او اكثر او عاملاً لنفسه مع عمل التجارة توزع النفقة، والأقوى ان التوزيع على نسبة العمل ومع الإختلاف يعتبر قول اهل الخبرة.
(مسألة 29) لا ملازمة بين لزوم النفقة وبين الربح، فقد تجب النفقة من رأس المال وان لم يكن في البين ربح، نعم لو حصل ربح فيما بعد فان النفقة تحسب منه لأنه وقاية لرأس المال.
(مسألة 30) لو حصل للعامل ما يحول دون العمل في السفر كما لو اصابه مرض اقعده فليس له اخذ النفقة من مال المضاربة وليس له احتساب العلاج وما يحتاجه للبرء من المرض وزوال المانع الشخصي عن العمل من مال المضاربة الا ان يكون العمل هو السبب.
(مسألة 31) لو كان العامل مسافراً في مال المضاربة وحصل الفسخ او الإنفساخ فالأقوى ان نفقة الرجوع من مال المضاربة الا ان يكون الرجوع اجنبياً عن المضاربة.
(مسألة 32) لا يجوز ان يشترط المالك على العامل في المضاربة انفراده بالربح كما لو قال له: خذ هذا المال مضاربة والربح بتمامه لي، ولو قال المالك خذه واتجر به والربح لك بتمامه فهو قرض، الا مع العلم بارادة المضاربة وعدم نية القرض.
(مسألة 33) مع فساد عقد المضاربة يكون تمام الربح للمالك ويستحق العامل اجرة عمله الا ان يكون متبرعاً.
(مسألة 34) لو اختلف المالك والعامل في انها مضاربة فاسدة او قرض، كما لو ظهرت الخسارة او حصل التلف فيدعي المالك انها قرض مثلاً كي يعتبر التلف من مال العامل وعليه الوفاء، ويدعي العامل انها مضاربة صحيحة او فاسدة ليكون مستحقاً لإجرة المثل وينفي الضمان عن نفسه فاذا كان هناك ظهور او بينة او قرينة معتبرة تتبع والا فالقول قول من يدعي الصحة مع يمينه.
(مسألة 35) اذا قال المالك للعامل خذ هذا المال مضاربة والربح بيننا صح وللعامل حينئذ نصف الربح الا ان يكون الإنصراف والمتعارف بخلافه، ولو قال للعامل خذه ولي نصف الربح فالأقوى ان النصف الآخر للعامل لأن مفهوم العبارة ان النصف الأخر للعامل.
(مسألة 36) يجوز اتحاد المالك وتعدد العامل، ويجوز تعدد المالك واتحاد العامل كما لو كان المال مشتركاً بين اثنين فضاربا عاملاً واحداً بعقد واحد بنسبة واحدة في حصتيهما او مختلفة كما لو كان للعامل فيما يربحه أحدهما النصف وفيما يربحه الآخر الثلث او الربع.
(مسألة 37) تبطل المضاربة لو مات المالك لإنتقال المال بموته قهراً الى ورثته ويحتاج الى عقد جديد مع الورثة، كما تبطل بموت العامل لإنحصار الإذن به.
(مسألة 38) لا يجوز للعامل ان يوكل وكيلاً في عمله او يستأجر اجيراً الا باذن المالك، الا ان تتعلق الوكالة او الإجارة ببعض المقدمات ووفق ما هو متعارف.
(مسألة 39) لا يجوز للعامل ان يضارب غيره في مال التجارة وان كان عروضاً لإصالة عدم التصرف في مال الغير الا باذنه.
(مسألة 40) اذا اذن المالك في مضاربة العامل للغير فهو على وجوه:
1- ان يكون العامل الثاني عاملاً للمالك فلا مانع منه والأقوى بقاء مضاربة الأول ولكن الربــح يكون مشتركاً بين المالك والعامل الثاني وليس للأول شيء الا اذا كان بعد عمل الأول وتحقق الربح معه فيستحق حصته فيه، ولا يصح ان يشترط العامل الأول على العامــل الثـاني شــيئاً من الربــح من المضاربة الثانية التي ليس له فيها عمل.
2- ان يجعل العامل الأول العامل الثاني شريكاً معه في العمل والحصة فتكون الحصة المجعولة في المضاربة الأولى بين المالك والعامل الأول مشتركة بينه وبين العامل الثاني وحسب ما يتفقان عليه.
3- ان يكون العامل الثاني عاملاً للأول فلا يصح الا ان يكون للأول عمل مع العامل الثاني لأن العامل الأول ليس بمالك واذا كان له عمل فانه يستحق التشريك.
(مسألة 41) لو كان للعامل الأول النصف من الربح فجعل للعامل الثاني الثلث مثلاً من غير عمل له فلا يصح وترجع تلك الزيادة والفرق بينهما الى المالك الا ان يكون له عمل يستحق عليه الإجرة.
(مسألة 42) لو ضارب العامل غيره من غير ان يأذن له المالك توقفت صحته على اجازة المالك، فان اجازه صح وان لم يجز بطلت المضاربة الثانية، ومع البطلان فان حصة المالك في المضاربة الأولى تبقى على حالها.
(مسألة 43) الأقوى لزوم العمل بالشرط في العقود الجائزة ما دامت لم تنفسخ فاذا شرط المالك على العامل او بالعكس شرطاً كخياطة ثوب فالأقوى صحته الا اذا استلزم الغبن والغرر لأحدهما او جهالة حصة العامل كما لو كان للشرط قسط من الربح غير معلوم.
(مسألة 44) حالما يخرج الربح يملك العامل حصته منه وان لم ينض المال او يقسم فيترتب عليه جواز المطالبة بالقسمة وصحة تصرفات العامل في حصته بيعاً وصلحاً ونحوهما، وتعلق الخمس والزكاة وثبوت فريضة الحج عند حصول الإستطاعة بالحصة من الربح، وتعلق حق الغرماء به ووجوب وفاء الدين الحال منه الا مع الشرط.
(مسألة 45) يجوز ان يشترط المالك عدم تصرف العامل في حصته من الربح، لإحتمال حصول خسران او تلف بعد ظهور الربح ولأن الربح وقاية لرأس المال.
(مسألة 46) ملكية العامل لحصته من الربح حين ظهوره متزلزلة لأنها جابرة للخسران اللاحق عند حصوله، ويحصل الإستقرار بعد الإنضاض والفسخ والقسمة، ولو حدث بعدها تلف فلا يحتسب من الربح بل يكون على صاحبه.
(مسألة 47) لا يكفي في استقرار ملكية العامل للربح قسمته لإصالة بقاء حكم المضاربة مع عدم الفسخ، كما لا يكفي الفسخ مع عدم القسمة، فلو حصل خسران او تلف او ربح قبل تحقق القسمة والفسخ معاً يكون الربح مشتركاً، والتلف والخسران عليهما اذ يتدارك النقص الحاصل في رأس المال بالربح.
(مسألة 48) لو حصل الفسخ والقسمة من غير ان يحصل الإنضاض في بعض المال فالظاهر استقرار الملكية بغض النظر عن القول بوجوب الإنضاض على العامل او عدمه لحصول الفسخ والقسمة بعد امكانها، واللازم اولاً دفع مقدار رأس المال للمالك ثم يقسم ما زاد عنه بينهما كل بحسب حصته.
(مسألة 49) يجوز طلب المالك او العامل القسمة عند ظهور الربح ونض المال او بعضه اذا رضي الآخر، اما مع عدم رضا المالك فلا يجبر عليها لإحتمال حصول الخسران بعدها، واذا كان العامل هو الممتنع عن القسمة فهل يجبر عليها او لا، فالمرجع قاعدة لا ضرر ولا ضرار فاذا كان في القسمة قبل نض المال ضرر عليه واحتمال خسارة لاحقة وتأخيرها لا يضر المالك، لا يجبر عليها على الأقوى.
(مسألة 50) يجوز ان يبيع العامل حصته من الربح بعد ظهوره مع تحقق الشرائط كمعلومية المقدار ونحوه، ولا يبطل البيع لو حصل بعده خسران ولكن يجب على العامل جبره لأنه بمنزلة التلف سواء كان بمقدار قيمة ما باعه او اقل او اكثر كما يجبر بالمثل ان كان مثلياً.
(مسألة 51) لو حصل الفسخ والقسمة ثم ظهرت خسارة سابقة ومتعلقة بمال المضــاربة كما لو حصــلت ضــريبة لاحقة على مال المضاربة وتجارتها فتدفــع بحســب النســبة من المالك والعامل الا ان يدل دليل على الخلاف، وكذا لو ظهر سهو في الحساب او شراء في الذمة لم يحتسب.
(مسألة 52) لو تلف رأس المال قبل الشروع في العمل كما لو سرق بعد العقد وقبل العمل فالظاهر انه موجب لإنفساخ عقد المضاربة لعدم بقاء موضوعها نعم لو كان الذي اتلفه اجنبياً وادى عوضه تكون المضاربة باقية، وكذا لو اتلفه العامل بتفريط او تعد.
(مسألة 53) العامل في المضاربة امين فلا يضمن الا مع التفريط او التعدي لأن يده تتحول معهما من يد ائتمان الى يد خيانة، كما لو سافر بالمال الى جهة نهاه المالك عن الذهاب لها، او اشترى ما امره المالك بعدم شرائه.
(مسألة 54) لو اقتضت المصلحة بيع المتاع والجنس في وقت معين ولكن العامل لم يبع ضمن الوضيعة التي تحصل فيما بعد اذا عد عدم بيعه له خيانة او تفريطاً.
(مسألة 55) لو نوى العامل الخيانة في مال المضاربة فلا يعتبر غاصباً ولا يضمن بمجرد النية والعزم ما لم يأت بما يدل على الخيانة.
(مسألة 56) يجوز للعامل ان يشتري من مال المضاربة قبل ظهور الربح بل وبعده والأقوى عدم بطلان الشراء بمقدار حصته من المبيع.
(مسألة 57) الأقوى جواز شراء المالك من مال المضاربة لتغير الموضوع ولم يعد ماله بمفرده ولإشتراك العامل معه فهو كالأجنبي في الشراء فالمعوض الذي دخل في ملك المالك يعود له وللعامل، والعوض الذي خرج منه يعود له وحده ولقاعدة نفي الحرج، ولا يبطل بيعه بسبب الخسارة اذا حصلت فيما بعد.
(مسألة 58) يجوز للمالك او العامل الأخذ بالشفعة في مال المضاربة مع حصول الربح، فاذا كانت دار مشتركة بين أحدهما وبين الأجنبي واشترى العامل حصة الأجنبي بمال المضاربة فيجوز للشريك منهما الأخذ بالشفعة.
(مسألة 59) يجوز الفسخ في المضاربة لأنها من العقود الجائزة اذا لم يشترط لزومها في عقد لازم او شرط ضمن العقد ويتصور الفسخ على وجوه:
الأول: ان يحصل الفسخ او الإنفساخ ولم يشرع في العمل ولا في مقدماته ولا شيء للعامل حينئذ ولا عليه.
الثاني: لو حصل الفســخ بعد تمام العــمل والإنضاض فلاشيء على العامل، ومع تحقق الربح يتقاسمانه ومع عدمه فلا شيء للعامل.
الثالث: لو حصل الفسخ بعد حصول خسارة فلا شيء للعامل ولا عليه الا مع الشرط، كالشرط من المالك بكون الخسارة بينهما مثلاً، او من العامل بجعل شيء معين له ان لم يحصل ربح او اشترط ثبوت اجرة المثل.
الرابع: اذا حصل الفسخ من العامل في اثناء العمل وقبل حصول الربح فلا اجرة له لما مضى من عمله، والأحوط التراضي على مقدار معين ازاء عمله اذا كان عبارة عن مقدمات قريبة لتحقق الربح ولعمومات قاعدة احترام عمل المسلم.
الخامس: لو كان الفسخ من المالك فالظاهر استحقاق العامل لإجرة المثل لإستيفاء عمله ولأن التسبيب من الطرف الآخر ولقاعدة نفي الضرر الا مع الدليل على الخلاف.
السادس: لو حصل الإنفساخ قهراً فالظاهر ان العامل لا يستحق شيئاً الا اذا كانت دلائل على حصول ربح ونحوه.
السابع: لو كان الفسخ من العامل بعد السفر باذن المالك وصرف جزءً من رأس المال في نفقته فالظاهر عدم تضمين العامل لما انفق الا اذا اعتبر فسخه نوع تعد او تفريط.
الثامن: لو حصل الفسخ او الإنفساخ قبل تحقق الربح وفي المال عروض فلا يجوز للعامل التصرف فيها وبيعها من غير اذن المالك وان احتمل تحقق الربح بالبيع لزوال الإذن بالفسخ، نعم لو وجد مشتر يدفع ازيد من الثمن وتحقق الربح معه يكون ظاهراً فتصح حينئذ مطالبة المالك بالبيع الا مع توقعه لربح اكثر ويكون المالك حينئذ ضامناً للعامل في حال عدم تحقق الربح بالثمن الذي دفعه المشتري.
التاسع: اذا حصل الفسخ وفي المال عروض لا يجب على العامل البيع والإنضاض وان طلبه المالك على الأقوى، ومقتضى عموم قوله عليه السلام: “على اليد ما اخذت حتى تؤدي” وجوب رد المال الى المالك وليس وجوب الإنضاض.
العاشر: لو حصل الفسخ او الإنفساخ بعد حصول الربح سواء كان قبل تمام العمل او بعده ورضيا بالقسمة فلا اشكال، وان طلب العامل بيع العروض فالظاهر عدم وجوب اجابته اذا كان هو الفاسخ وان احتمل فيه ربح، وان طلب المالك بيع العروض فالأقوى وجوب اجابته لأنه من متممات المضاربة ولقاعدة السلطنة الا مع القرينة الدالة على الخلاف.
الحادي عشر: لو حصل الفسخ او الإنفساخ وهناك ديون على الناس من مال المضاربة فلا يجب على العامل جبايتها سواء كان الفسخ من العامل او من المالك الا مع القرينة او الدليل على لزوم قيامه به.
الثاني عشر: اذا مات المالك او العامل قام وارثه مقامه فيما له من الحق الا ان يدل الدليل على الخلاف كما لو كان الحق مختصاً بالعامل فقط دون ورثته.
الثالث عشر: يجب على العامل عند حصول الفسخ او الإنفساخ التخلية بين المالك وماله والتسليم والقبض وفق المتعارف، ولا يجب عليه الإيصال اليه الا مع انحصار التخلية بالإيصال او مع القــرينــة علــيه كما لــو ارســله المالــك الى بلـد آخــر وتكــون اجرة الرد حينئذ على المالك ولو كان سفره بدون اذن المالك فيكون الرد واجرته واجباً على العامل وان كان جاهلاً بالحكم الشرعي.
(مسألة 60) الربح وقاية لرأس المال مطلقاً اي سواء ربح بالإتجار بجميع المال و خسر ببعضه او بالعكس، او ربح ببعضه وخسر بالبعض الآخر وكذا لو جاء الربح متأخراً عن الخسارة.
(مسألة 61) كما يجوز فسخ المضاربة من طرف واحد لأنها عقد جائز يجوز ايضاً استرداد المالك لبعض مال المضاربة مع بقائها في الباقي، فتبطل المضاربة فيما استرده المالك ويكون الباقي بيد العامل هو رأس المال وفيه وجوه:
الأول: أخذ المالك للبعض من غير تحقق ربح او خسارة فيكون الباقي من رأس المال، كما لو كان رأس المال ألف دينار، وعاد المالك ليأخذ منه ثلاثمائة دينار قبل ظهور الربح او الخسارة فالباقي وهو سبعمائة دينار هو رأس المال.
الثاني: اخذ المالك للبعض مع حصول الخسارة كما لو كان رأس المال ألف دينار وخسر مائة دينار واسترد المالك مائتي دينار فيكون الباقي سبعمائة دينار، فلو ربح مال المضاربة مائة دينار فيتدارك بها النقص والخسارة الحاصلة في مجموع المضاربة وليس للعامل منها شيء، واذا ربح مبلغاً آخر يزيد على المجموع وهو الثمانمئة يكون ربحاً مشتركاً بينهما.
الثالث: استرداد المالك للبعض مع حصول الربح بعنوان انه من رأس المال او منه ومن الربح ثم حصلت خسارة او تلف فهل تحتسب الخسارة على مجموع المال بما فيه الذي استرده المالك، فلو كان المال ألف دينار وبعد ان ربح مائة دينار استرد المالك منه خمسمائة دينار ثم خسر مائة دينار فهل تكون منجبرة بالربح السابق وهو مائة دينار ام تكون خسارة مستحدثة تجبر من الربح اللاحق، ام يجبر نصفها فقط وهو ربح الخمسمائة الباقية، الأقوى هو جبر الخسارة بالربح السابق لبقاء المضاربة الا ان يدل دليل على الخلاف.
(مسألة 62) اذا ادعى انه دفع لشخص مالاً بعنوان المضاربة وانكر الآخر فالقول قول المنكر مع يمينه الا اذا كانت عند المدعي بينة.
(مسألة 63) لو اتفق المالك والعامل في حصول المضاربة ثم اختلفا في مقدار المال يقدم قول العامل مع يمينه لإصالة عدم الزائد الا مع البينة سواء كان المال موجوداً، او تالفاً مع الضمان.
(مسألة 64) لو ادعى المالك على العامل الخيانة او التفريط في الحفظ او التعدي كما لو قال شرطت عليه ان لا يشتري الجنس الفلاني والخسارة حصلت بسبب شرائه، فانكر العامل الخيانة والتفريط وشرط المالك هذا فالقول قوله مع يمينه.
(مسألة 65) لو ادعى العامل الإذن في عمل ما وانكر المالك الإذن فالقول قول المالك مع يمينه ان لم تكن للعامل بينة، كما لو سافر العامل في المال بخلاف المتعارف لعمومات قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “البينة على من ادعى واليمين على من انكر”.
(مسألة 66) لو ادعى العامل تلف المال من غير تعد او تفريط وانكر المالك قدم قول العامل لأنه امين ولقاعدة ليس في الدعوى على الأمين الا اليمين مع عدم البينة، وكذا لو ادعى الخسارة او ادعى عدم الربح ســواء كان قبل فسخ المضــاربة او بعده، ولــو اقر بحصــول الربح ثم ادعى الإشتباه وحصول التلف او الخسارة لا يسمع قوله لأنه رجوع عن الإقرار الا ان يدل الدليل على الإشتباه فعلاً كما لو اثبت ان السبب هو الخطأ في الحساب، ولكن لو قال ربحت ثم حصلت الخسارة او التلف يقبل قوله الا مع البينة على الخلاف.
(مسألة 67) لو اختلف المالك والعامل على مقدار حصة العامل كما لو قال المالك انها الثلث والعامل يدعي انها النصف فالقول قول المالك مع يمينه لإصالة تبعية النماء للمالك الا مع البينة والإقرار ولإصالة البراءة عن الزائد.
(مسألة 68) اذا ادعى المالك المضاربة وانكر المدعي عليه ان يكون عاملاً في المضاربة أو اقر بالعقد وانكر استلامه مال المضاربة فاقام المالك البينة، فادعى العامل عندئذ تلف المال لم يسمع قوله بعد انكاره اصل المال وثبوته بالبينة الا مع الدليل على عدم المنافاة بين الإنكار الأول وبين دعوى التلف وحصولها فعلاً.
(مسألة 69) لو ادعى المالك المضاربة وتسليم المال للعامل وانكر الأخير اشتغال ذمته للمالك بشيء على نحو الإجمال فلابد من بيان رده على خصوص دعوى المالك المضاربة.
(مسألة 70) اذا اتفق المالك والعامل على حصول المضاربة بينهما واختلفا في صحتها او بطلانها يقدم قول مدعي الصحة لإصالتها الا مع الدليل على الخلاف.
(مسألة 71) اذا ادعى أحدهما فسخ المضاربة وانكر الآخر يقدم قول منكر الفسخ مع يمينه اذا لم تكن بينة لمدعي الفسخ.
(مسألة 72) اذا ادعى العامل رد المال الى المالك وانكر المالك يقدم قــول المالك مــع يمينه لإصــالة عــدم الــرد الا مع الحجة على الخلاف.
(مسألة 73) عقد المضاربة لا يعني اعتبار كل ما يشتريه العامل لحساب مال المضاربة، فيحق للعامل ان يشتري لنفسه من غير مال المضاربة، ولو اختلفا في متاع، فادعى المالك ان العامل اشتراه لمال المضاربة، وادعــى العامل انه اشتراه لنفسه، يقدم قول العامل مع يمينه لأنه اعرف بنيته ولأنه امين الا ان يدل دليل على الخلاف او قرينة معتبرة كما لو كان البائع بــاع عامل المضاربة بالذمة وانه لا يبيعه في الذمة الا لمال المضاربة، او ان العامل قام ببيعه باسم مال المضاربة.
(مسألة 74) لو ادعى المالك انه اعطاه المال مضاربة فيكون له الربح باستثناء نسبة العامل من الربح، ولو اقر الآخر بقبضه للمال ولكنه ادعى انه قرض كي يكون الربح كله له ولا يستحق المالك الا اصل المال فان كانت بينة او قرينة معتبرة فهي، كما لو كان من غير المتعارف اعطاء مثل هذا المبلغ قرضاً او ان صاحب المال لا يعطيه الا مضاربة وانه ليس من صلة ونحوها من الأسباب العقلائية والعرفية تجعله يعطي للقابض المال قرضاً، ومع عدمها يكون المالك منكراً لحصة العامل من الربح لأن الأصل تبعية النماء للمال والاقوى ان القول قوله مع يمينه ان لم تكن عند العامل بينة، وقيل يتحالفان فان حلفا او نكلا فللقابض اكثر الأمرين من اجــرة المثل والحصـة من الربح الا اذا كانت اجرة المثل زائدة عن تمام الربح.
(مسألة 75) اذا تلف المال او خسر عند القابض من غير تعد او تفريط فادعى انه قبضه مضاربة او وديعة وادعى المالك انه قرض وليس من بينة، فيعتبر المالك منكراً والقول قوله مع يمينه لإصالة الضمان وعمومات قاعدة السلطنة.
(مسألة 76) لو ادعى المالك الإبضاع باجرة للعامل او بدون اجرة وادعى العامل المضاربة كي تكون له نسبة مخصوصة من الربح المتحقق فمع الحجة او القرينة المعتبرة يكون الإستحقاق، والا فيعتبر المالك منكراً والقول قوله مع يمينه.
(مسألة 77) لو اتفقا على المال المقبوض وعلى عدم تحقق ربح له واختلفا في موضوع قبضه فادعى المالك انه مضاربة كي لا يدفع شيئاً، وادعى العامل انه بضاعة باجرة كي يستحق الإجرة، فمع البينة او القرينة المعتبرة يحكم بها، ومع عدمها فالاقوى ان القول قول المالك مع يمينه لأنه منكر، وقيل بالتحالف واستحقاق العامل بعده اجرة المثل، وبان العامل يحلف على نفي المضاربة وله اجرة المثل، وهي وجوه تابعة لكيفية تقرير الدعوى ونظر الحاكم.
(مسألة 78) اذا اتفقا على موضوع المضاربة ومقدار رأس المال ونسبة حصة العامل من مجموع الربح واختلفا في مقدار الربح فمع عدم البينة فالقول قول العامل مع يمينه لأنه امين.
(مسألة 79) لو مات وعنده مال المضاربة فهناك صور:
1- ان يكون مال المضاربة معلوماً بعينه فيكون للمالك ولا يتعلق به حق الورثة او الغرماء.
2- ان يكون معلوماً في مجموع تركة العامل من غير تعيين كما لو كان من الحبوب وممزوجاً ومختلطاً مع مال العامل وتركته، فحينئذ يقدم حق المالك على الغرماء ان كان العامل مديوناً لوجود عين مال المالك اجمالاً في التركة الا ان يدل دليل على الشركة بين المالك وبين الورثة.
3- اذا لم يعلم هل مال المضاربة موجود في التركة او لا، ولم يعلم انه تلف او فرط به او انه رده الى المالك، فالأقوى شركة المالك مع الورثة لإستصحاب بقاء مال المضاربة.
4- اذا علم ببقاء مال المضاربة في يد العامل الى حين موته ولم يعلم انه موجود في تركته الموجودة ام كان في مكان آخر او عند شخص بسبب ما، فالأقوى شركة المالك مع الورثة.
5- اذا علم ببقاء المال في يد العامل حين موته بحيث لو كان حياً لأمكنه الإيصــال الى المالك كما لو كانت امارة على ان المالك كان قبل موت العامل بقليل يتصرف في مال المضاربة بصورة مناسبة وبعيدة عن احتمال الخسارة، ولم يظهر التلف بعدها فالأصل بقاء يده عليه الى حين الموت واشتغال الذمة ووجوب اخراج المال من التركة الا ان يدل دليل على الخلاف في جميع المال او في بعضه.
(مسألة 80) لا يشترط في عامل المضاربة عدم الحجر لفلس ونحوه ولكن لو حصل الربح وكان العامل محجوراً عليه يمنع من التصرف في حصته منه الا بالإذن من الغرماء بناء على تعلق الحجر بالمال الجديد للمفلس، ولو حدثت خسارة فان جبر مال المضاربة من الربح مقدم على حق الغرماء الا مع القرينة على الخلاف كما في حال رجحان الخسارة حين العقد.
(مسألة 81) تبطل المضاربة بطرو السفه للمالك او العامل، وكذا تبطل بالحجر على المالك لفلسه الا مع اجازة الغرماء.
(مسألة 82) لو جــرت المضاربة والمالك في مرض الموت صح العقد وملك العامل حصته من الربح، وان كانت اكثر من اجرة المثل على الأقوى.
(مسألة 83) اذا ظهر ان مال المضاربة ليس للمضارب كما لو كان غاصباً، فان كان المال موجوداً انتزعه المالك وان تلف في يد العامل فللمالك الرجوع على كل منهما، فاذا رجع على المضارب لا يرجع المضارب على العامل اذا كان جاهلاً بالغصب ونحوه لأن يده يد امانة، واذا رجــع على العامــل مع جهله رجــع الأخير على المضارب لقاعدة “المغرور يرجع على من غره”، ولو حصل ربح فهو للمالك اذا اجاز المعاملات التي وقعت على ماله وللعامل مع جهله اجرة المثل على المضارب الا ان لا يكون ربح في البين، ومع علم العامل بالغصب لا يرجع على المضارب بشيء لأنه حينئذ كالمتبرع بعمله.
(مسألة 84) يجوز ايقاع المضاربة بصيغة الجعالة كما لو قال له: اذا اتجرت بهذا المال وحصل ربح فلك نصفه او ثلثه فيجوز حينئذ ان يكون رأس المال من غير النقدين او ديناً او مجهولاً جهالة لا توجب الغرر.
(مسألة 85) يجــوز للأب والجد الإتجــار بمال المولى عليه مضاربة ويحق له اجراء عقدها على ان يكون الربح بين المولى عليه وبين العامل، وكــذا يجــوز للوصــي في مــال الصــغير مع اعتــبار الغبطــة والمصلحة.
(مسألة 86) اذا تلف المال في يد العامل بعد موت المالك او بعد انفساخ المضاربة ولكن من غير تقصير او ابطاء في ارجاع المال ونحوه فالظاهر انه لا ضمان.
(مسألة 87) اذا كان رأس المال مشتركاً بين اثنين فضارباً واحداً ثم فسخ أحد الشريكين فالأقوى الإنفساخ الا ان يكون مال كل واحد منهما متميزاً.
(مسألة 88) اذا اخذ العامل مال المضاربة وترك التجارة به الى مدة يصــدق عليه معــها انه معطل للمال عرفاً كما لو عطله ستة اشهر او اكثر من غير مسوغ شرعي او عقلي فاذا تلف المال يكون ضامناً لأصل المال.
(مسألة 89) اذا اذن المالك للعامل في الشراء والبيع نسيئة فاشترى نسيئة وهلك المال بعد بيعه نسيئة مثلاً فالدين في ذمة المالك، وللديان الرجوع على المالك او العامل على الأقوى، فاذا رجع على العامل فانه يرجع على المالك.
(مسألة 90) تجوز المضاربة مع الكتابي على كراهة اذا كان هو العامل , ولا كراهة في بلادهم.
لو اتفق على ان يكون مال المضاربة ألف دينار مثلاً ودفع المالك للعامل نصف المبلغ فعامل به ثم دفع له النصف الآخر فالظاهر جبران خسارة أحدهما بربح الآخر لأنه عقد واحد، نعم لو ضاربه على خمسمائة مثلاً ودفعها له وعامل بها وفي اثناء التجارة زاده ودفع له خمسمائة اخرى، فاذا كان المتفاهم هو وحدة المضاربة وتداخل المال فان خسارة أحدهما تجبر بربح الآخر، اما اذا اعتبرت متعددة وان كلاً منهما مضاربة مستقلة فلا يجبر ربح أحدهما خسارة الأخرى، واذا كانتا في البداية على نحو الإستقلال والتعدد ثم اصبحتا تعدان واحدة كما لو مزجتا فيما بعد فلكل حكمه اي لما قبل الإتحاد والإمتزاج في المال والتجارة ولما بعده( ).
لقد ذكرت الآية صفة أخرى لآكلي الربا وهي القول بالمثلية بين الربا والبيع بلحاظ مقدار الإثم ومقارنته بين القول والفعل وجوه:
الأول : إن أكل الربا أكثر إثماَ وضرراَ من القول بالمثلية بين الربا والبيع.
الثاني : القول بالمثلية بينهما أكثر إثماَ من أكل الربا.
الثالث : إن كلاَ من الفعل والقول بالمثلية بعرض ومقدار واحد في تحصيل الأذى والضرر.
الرابع : تعلق الضــرر والإثم بلحاظ المقدار لكل منهما فقد يكون أكل الربا أكثر لأن صـاحبه يكثر من تعاطيه بينما لايقول بالمثلية إلا نادراَََ , والمختار هو الأول أعلاه .
وإن كان القول بالمثلية بين الربا والبيع له ضرر كبير لتعلقه بعالم التشريع وهو حرب على المبادئ، وعالم الأمر أشرف من عالم الفعل، وهذا تعد على عالم الأمر وسعى وفساد في الأرض وافتراء بخصوص أحكام الشريعة، وفعل تعاطي الربا حرام وفيه إثم كبير وأكثر ضرراَ من القول وإن كان على نحو القضية الشخصية والمعصية الفردية التي تدعو الأمة لمحاربتها ومحاصــرتها، بمعنى ان الذنب والمعصــية يحرض الناس على التصدي له لذا ترى صاحب الفاحشة يتوارى عن الناس ويحاول ستر نفسه وإخفاء عيبه لذا ورد النهي عن غيبة من لم يتجاهر بالمعصية قال تعالى[لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ]( ).
وقد جمعت الآية في المعصية من جهتين :
الأولى : أكل الربا , وهو الذي ابتدأت به الآية .
الثانية : قول آكلي الربا بالتشابه بينه وبين البيع .
ثم تضمنت الآية التذكير والدعوة للإنتفاع من الموعظة , وهل آية البحث موعظة الجواب نعم .
وفي الثناء على الله عز وجل قال تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ), ( ).
(قانون تشريع المعصية أكبر من فعلها)
المعصية مخالفة لأحكام الشريعة عن عمد وإصرار سواء مع المجاهرة بها أم بدون المجاهرة , نعم يزداد الإثم مع الإجهار , وهي ليست سبباَ وعلة لتكفير صاحبها , إنما هي باب للتوبة والإنابة , ويجب على الفقهاء الإحتراز من تكفير الناطق بالشهادتين , والإصرار هنا على شعبتين :
الأولى : الإقامة على المعصية وتكرارها مرة بعد أخرى .
الثانية : العناد والإستكبار , والجدال في المعصية .
وجاءت آية البحث بذم الإصرار على الربا , إذ انها ابتدأت بصيغة المضارع (الذين يأكلون) لبيان الإستمرار بالربا مع الإصرار عليه بالقول [قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا]( ) من التشريع المحرم الأقرب لا , إنما هو جدال وعناد وجهالة .
وتشريع المعصية أشد حرمة من فعلها , لأن فاعل المعصية قد يتوب , مع قلة أثرها , ويلاقيها الناس بالصدود والإنكار , أما تشريعها فهو فتنة وإفتراء ومزلة للأقدام , لذا تفضل الله عز وجل بذكر قولهم المتشابه بين البيع والربا .
وسيأتي تفسير قوله تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ.
وهل قول آكلي الربا[إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا]( ) من التشريع المحرم , المختار أنه قول محرم , ولا يرقى إلى مرتبة التشريع المحرم , وقد تفضل الله عز وجل بفضحه في هذه الآية الكريمة.
ويكون الفعل المذموم والمنهي عنه في المقام على وجوه:
الأول: تشريع المعصية.
الثاني: إتيان وفعل المعصية من رؤساء الضلالة.
الثالث: الجمع بين تشريع وفعل المعصية.
الرابع: القول بجواز المعصية، وإنكار حرمتها إستكباراً، ولهثاً وراء زينة الحياة الدنيا، وحباً لجمع الأموال بغير حق.
ولوا قترن الفعل والتشريع الباطل فانه الأكثر ضرراً لخطورته على المجتمع والأمة والاجيال المتعاقبة.
قانون ذم الدفاع عن الربا
يتضمن القرآن قانون إنكار تزيين القبيح شرعاَ ومحاربة إظهاره بأنه حسن عقلاَ .
وفي النسئ عدة الشهور , ورد قوله تعالى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
فكما قام المشركون بالأمر بحلية ما حرم الله عز وجل من الزيادة في حساب الأيام وجعل الأيام الحرم حلاَ , والأشهر الحرم أربعة وهي , ذو القعدة , وذو الحجة , والمحرم متصلة , وشهر رجب منفصل .
وهل من معاني حرمة النسئ المقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإتخاذ من الأشهر الحرم وعاء زمانياَ للتبليغ قبل الهجرة ومناسبة لمنع الإقتتال بينه وبين المشركين مدة الأشهر الحرم بعد الهجرة , الجواب نعم , قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
فكذا فإن آكلي الربا أرادوا أن يحلوا ما حرم الله عز وجل من الربا وأكل المال ظلماَ وبدون حق .
والفرق بين التشريع المحرم والقول المترشح عنه من وجوه:
الأول : المعصية فعل ينتهي بإنقضائه وان بقى أثره على صاحبه، أما القول فهو باق ويتناقل بين الناس.
الثاني : إنحصار أثر المعصية بمن يفعلها،أما القول فانه نوع مفاعلة متجددة بين القائل والسامع، وكلما تكرر القول تكرر عدد السامعين، كما أن السامع نفسه يتحول إلى قائل وهكذا.
الثالث : الفعل أعم من الإختيار، وهو قضية شخصية ومعروفة ، أما القول فهو رأى عن قصد , والقول بحلية الربا تحد وظلم وإيذاء لأهل الإيمان وحرب على الشريعة وإعانة لإبليس في محاولاته إغواء الإنسان , قال تعالى [فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
الرابع : يتعلق فعل وأكل الربا بمقدار المال الذي أخذه، أما قوله فإنه إمضاء لكل ربا وتحمله لأوزار غيره ممن فعله.
الخامس : لقد جعلوا لقول بالمثلية مقدمة باطلة لأكل الربا والتعدي على أموال الآخرين وصار هذا القول سبباَ للتجرأ وظنوا انه يضفي صفة الصحة على الفعل.
إجتماع الضدين في محل واحد
من مبادئ الفلسفة عدم إجتماع النقيضين أو الضدين ووجود هذا الإجتماع في الواقع محال .
وقد يرتفع الضدان معاَ , كما في اللون الأسود والأبيض , والشمس والقمر فتجد ساعة الفجر ليس فيها شمس أو قمر .
ولكن الآية القرآنية قد تجمع بين الضدين وهو من الإعجاز القرآني , فتجمع بين البشارة والإنذار مثلاَ , في الموضوع المتحد فتأتي آية للإنذار وهي باب رحمة وطريق للتوبة والإنابة .
ومن أعجاز القرآن تضمن آية البشارة والإنذار , وتضمن آية الإنذار البشارة .
وتنفذ آية البحث لأسماع آكل الربا , فتصيبه الحسرة وكثير منهم تابوا بسبب الآيات التي تبين قبح وحرمة الربا , قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
الآية إنذار وتحذير من القول بما يخالف الشريعة والدعوة له بالعمل وإقترانهما معاَ، وتجعل المعصية على مراتب ثلاث:
الأولى: إقتران فعل المعصية بالباسها لباس الجواز وإنعدام المانع قال تعالى[وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمْ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ]( ).
ويفيد الجمع بين آية البحث والآية أعلاه مادة المس لتستقرأ منها مسألة وهي أن مس الشيطان عذاب ونوع أذى، وهل هذا العذاب من رحمة الله أم من العقاب، الجواب إنه منهما معاً، وتلك آية تتجاوز قواعد الفلسفة بعدم إجتماع الضدين، مع إتحاد المحل.
فقد إجتمعت أسباب الرحمة والعذاب في فعل واحد، ومحل واحد وهو المكلف، لما في هذا الحسن من الدعوة إلى التوبة من الربا، وتركه وهجرانه، وبيان أثاره العاجلة، وما فيها من التذكير بعذاب الآخرة بلحاظ أنها مقدمة للعذاب الأخروي.
الثانية: الجدل بالباطل والمفاعلة بجواز المعصية وعدم البأس بها، ولكنه يأتي بها سواء إجتناباَ لها أو إستغناء عنها أو عدم القدرة عليها أو تعذر حصوله عليها.
الثالثة: إتيان المعصية والتلبس بها.
والآية حث على التخلص من التشريع الباطل حتى للذي يقوم بإرتكاب المعصية، بل عليه أن يعترف ولو في قرارة نفسه أنه يفعل فاحشة وذنباَ، وهذا الإعتراف باب للنجاة والتخلص من المعصية وسبيل إلى التوبة إلى الله والإستغفار، لأنه يلاحقه قبل وأثناء وبعد المعصية ويجعله يتدبر في القبح الذاتي لفعل الرذيلة ويلتفت إلى الأضرار المصاحبة لها او الناتجة عنها.
إنذارات آية الربا
تقول هذه الآية للإنسان:
الأولى : إجتنب أكل الربا , قال تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا]( ).
الثانية : لا تقل أن الربا كالبيع في المعاملة.
الثالثة : لا تفكر بجني الأرباح من المعاملات الفاسدة.
الرابعة : تدبر بالعقاب الشديد الذي ينتظر صاحب المعصية.
الخامسة : ان عصيت فلا تتجرأ وتنغمس في الحرام.
السادسة : لا تلبس المعصية لبأس الجواز وعدم البأس فمعه يحصل الارباك والخلل في اعمالك ويسطو الشيطان عليك ويجعلك تتحمل اثم غيرك بتزينيك له.
السابعة : يحصل الارباك والإضطراب في العمل بسبب المخالفة القطعية المقرونة بمحاربة الاسلام وأصول الشريعة الثابتة.
الثامنة : تبعث الآية على التوبة والإنابة , قال تعالى[وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ]( ).
التاسعة : تدعو الآية للأمر بالمعروف والنهي عن المعاملات الربوية.
وظاهرالآية ان الربا محرم في كل الشرائع السماوية للغة الاطلاق وترتب الاثم والاختلال في السلوك على اتيانه والقول به.
ومن الآيات ان نسبة التخبط في الآية تعود للشيطان وان الانسان وقع عليه فعل الفاعل، فليس هو الذي يتخبط ولكن الشيطان يتخبطه، وجاء على نحو المثل وليس الوصف المطابق.
والتشبيه في المقام، على وجوه :
الأول : اكرام من الله تعالى لبني الانسان .
الثاني : دعوة للتوبة .
الثالث : اخبار عن رحمة الله تعالى بمحو الذنب واثره بالرجوع عن الفعل والاستغفار ورد الحقوق إلى اهلها وهي الاموال التي تعلقت بها الذمة كالسحت والسرقة والربا والغصب.
التشبيه في آية الربا
من الآيات في اللفظ القرآني قوله تعالى [ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ]( ) فلم يجعلوا الربا مثل البيع بالباس الباطل لباس الحق، ومحاولة للقياس بما هو صحيح وتام.
وهذه الصيغة من التشبيه تحتمل وجوهاَ:
الأولى : القياس الباطل بان الربا جائز كما يجوز البيع.
الثانية : القول جواب وتعليل لمن يرفض معامـلة الربا ويختار البيع فيقال له [إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا] وهذا التأويل على فرض حصوله تهديد للقيم السماوية في الأرض، فاصبحت البعثة النبوية الشريفة ونزول القرآن حاجة نوعية , قال تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ]( ).
الثالثة : الربا قديم ومتعارف في الأرض كما هو حال البيع.
الرابعة : المثلية بين البيع والربا في الكسب والفعل والمعاملة.
الخامسة : قالوا بالمثلية كنوع مغالطة وجدل رداَ على القول السماوي الثابت بحلية البيع وحرمة الربا فلابد من أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في كل زمان , قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وجاءت الموعظة لاكلي الربا والنصح بالكف عنه ومزاولة البيع، فقالوا [إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ] وكأنهم يقولون مع التشابه والتماثل لا معنى لاعتراضكم على الربا ودعوتكم الى البيع.
السادسة : المثلية بين الربا والبيع، لان كلاً منهما عقد بين طرفين قائم على التراضــي بموضــوع الربا ومقدار الفائدة ومـدته ونحوها من الشرائط.
السابعة : التشابه في النفع والفائــدة، فالبيــع ينتفع منــه البائع والمشــتري، والربا ينتفــع منه الآخذ والمعطي حســب الظاهــر بظنهم، لان الآخــذ والمقترض للمال بالفائدة يوظف المال في اعمال مربحة ويسعى للكسب، وبدون مال الربا يبقى عاطلاَ عاجزاَ عن الكسب بالطريقة الاحسن، وان اعطاء مقدار من المال فائدة على رأس مال القرض لا اعتبار له مقابل استقلاله في عمله، ارأيت ان لو لم يأخذ مال الربا لأضطر لاختيار أحد امرين:
الأول: اجيراَ باجرة مع احتمال الأذى من رب العمل.
الثاني: البطالة وعدم الكسب، فجاء النهي عن الربا لعزته وإنقاذه، وفتح آفاق العمل أمامه.
ولم يلحظ القائل بالتشابه زوراَ المائز بين البيع والربا، والقبح الذاتي للربا من وجوه:
الأول: ليس من عوض للمال الذي يؤخذ بالربا، ولم يأت في مقابل ثمن أو مثمن.
الثاني:الربا بذاته محرم، فما وردت الحرمة التكليفية بخصوصه لا يبحث في نتائج حسنة له.
الثالث: الحرمة والنهي أمر تكليفي ، ويعلم الله حقيقة الأشياء وأسرار الأمور وأسباب نتائج الأفعال التي يتعذر علينا الإحاطة بكنهها، فمن فضل الله تعالى أن هدانا بلسان الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة.
الرابع: الملاك في الأحكام ليس على النتائج المحتملة حتى على القول بأن الأغراض معلقة على المصالح والمفاسد، بل على المعنى الأعم وأحكام التكليف ومفاهيم الطاعة والمعصية , قال تعالى[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الخامس:نتائج الربا لا تنحصر بمقدار الربح أو المنفعة الآتية بل بما هو أعم من اللواحق والفروع في باب الاقتصاد والتجارة والاجتماع والأخلاق والعقيدة.
السادس: ظهورحالة أو حالات معدودة من الكسب في الربا من طرف معطي الفائدة وحصوله على أرباح أكثر منها لا يعد سبباَ لصيرورة الربح صحيحاَ.
فالأحكام لا تكون على الأفراد القلائل، ولو تنزلنا وقلنا بربحه فان الحرمة موجهة الى آكل الربا بصورة رئيسية لأنه أخذ أموالاَ من الآخر من غير حق أوجهد، وصحة الفعل لا تتوقف على حصول الربح او عدمه.
السابع: لقد فتح الله باب القرض وجعله رحمة بين الناس.
الثامن: النظر للمثلية بمعنى سلبي وهو إذا كان الربا يتضمن اضراراَ وفيه غبن فان البيع أيضاَ قد يتضمن أضراراَ وغبناَ، كما لو باع شخص داراَ وبعد مدة قليلة إرتفع ثمنها أو إنه إشترى سلعة ثم انخفض سعرها، وهذا القياس من الإختلال في مبنى الحساب، وخلط الحق بالباطل فبالبيع تنتقل به ملكية العين إلى المشتري، وملكية الثمن الى البائع وما يطرأ من زيادة او نقص فمن نصيب المالك، كما انها عرض ولا يحصل دائماَ.
أما الربا فان قبحه ذاتي، وأضراره العرضية المتفرعة عنه أكثر من أن تحصى، فجاءت الرحمة الالهية بحرمته وتشديد النهي عنه.
عندما يكون التشبيه باطلاَ
في حال التشبيه، يذكر الناقص ويشبه بالكامل، وكذا حينما ينفي عن الكامل شبهة الناقص، أو في حال إلحاق الناقص بالكامل وليس العكس، أما في هذه الآية فانهم الحقوا البيع بالربا وجعلوه مثله.
والفعل (قالوا) فيه مسائل:
الاولى: وروده بصيغة الماضي التي تدل على الحدوث والثبات.
الثانية: جاء الفعل بصيغــة الجمع أي أنهم أجمعوا على هذا القول وأنه أصبــح قاعدة عند أرباب الربا متفق عليها، مما يــدل على صعوبة التخلص منه، فجــاء التنزيل ســلاحاً سـماوياً قاهراً، وسيفاً قاطعاً في باب الأخلاق والأفعال وضياء يهدي إلى الصلاح طوعاً وقهراً وجرياً.
الثالثة: شيوع قولهم البيع مثل الربا، وقلة من يرد عليه بقرينة أكلهم الأموال الربا، أي أن الحال أصبحت معهودة عندهم من غير تواطئ بل توصلوا إليها من خلال الخبط ومس الشيطان وإعوجاج أفكارهم والتجائهم إلى القياس الباطل.
الرابعة: جاء الفعل [ يَأْكُلُونَ ] بصيغة المضارع، وكأن القول سابق للفعل، وأنه عقيدة ورأي ومبدأ إعتمدوه في حياتهم، ومقدمة لازمة إحتاجوا إليها في سريان الربا.
الخامسة: ليس من مدرك أو دليل على قولهم فهو مجرد قول لا يستند الى أصل قال تعالى[قُلْ هَاتُوا برْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
و (انما) تفيد الحصر بمعنى أنها إثبات لما يذكر بعدها ونفي لما سواه وهو المشهور كما في قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، وخالف أبو حيان وجماعة وقالوا أنها لا تفيد الحصر، وتستعمل لما هو معلوم عند المخاطب ويقر به ولايستطيع دفعه ولا يشك فيه، بمعنى أنهم أطلقوا القياس والتشبيه وجعلوا البيع والربا بمنزلة واحدة وصار عندهم من المشهورات المتعارفة.
إن تشبيه البيع بالربا وليس العكس نذير شؤم , وأمارة على الإصرار على المعصية وتهديد للنظم المعاشية والقواعد الفقهية في المعاملات مما يؤثر سلباَ على العبادات وأداء الفرائض، وهو دليل على حاجة المجتمعات والناس كافة إلى الإسلام لفضح الباطل وإزاحته عن الواقع اليومي أو محاصرته وتضييقه.
لقد أرادوا أن يسود الربا ويكون هو الأصل الذي ترجع إليه موازين البيع لخبث السرائر وتخبط الشيطان وليجعلوا قواعد الربا اسساَ وشرائط للبيع والشراء كزيادة الربح في البيع واعتماد الربا في البيع سواء في ربا النسيئة أو ربا النقد.
ويدل قولهم في المثلية على عزمهم على السعي للخلط بين الربا والبيع، وإدخال خصائص الربا في معاملات البيع وجعلها بمنزلة واحدة فلا يعرف الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، والنافع من الضار، ويحصل التخبط والإرباك العام، أرادوا توريط غيرهم معهم فيستحق الناس العذاب ونزول البلاء.
فجاء القرآن كتاباَ نازلاَ من عند الله تعالى ليفضح قولهم ويبين خطأهم وإنقيادهم للشيطان ويصلح المجتمعات ويعين المسلمين على محاربتهم ويحذر الناس منهم , وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فالآية تبين تعدد وجوه الجهاد ضد الربا ومنها:
الأولى : قانون الجهاد ضد النفس الشهوية والميل إلى جمع الأموال من غير إلتفات للكيفية والحكم الشرعي لجمعها.
الثانية : قانون محاربة أهل الربا في فعلهم بالموعظة وتحذيرهم والإمتناع عن الدخول في معاملات الربا، أخذاً أو عطاءَ أو شهادة أو كتابة أو إعانة أو شفاعة أو ضماناَ والذي يجري غالباَ بضمان المحتاج المقترض المال لصاحبه.
الثالثة : قانون التصدي للمقولات الباطلة التي تلبس الباطل لباس الحق.
الرابعة : قانون بذل الوسع من أجل بقاء المائز البين والظاهر لكل المدارك بين الحق من جهة، والباطل من جهة أخرى، وهو طريق لمعرفة وظائف العبودية .
ربا الجاهلية
كانت العرب أيام الجاهلية يتعاطون الربا على أقسام :
الأول: ربا النسيئة: وهو أن يقترض أحدهم مالاَ مقابل دفــع قسط شهري زائد مع بقاء رأس المال على حاله وإذا جاء اجل الدين يدفع المبلغ كاملاَ، فتكون النجوم والأقساط الشهرية مالاَ ربوياَ وإن تعذر عليه أداء الدين زادوا بالأجل مع زيادة المال المستحق، ويسمى هذا القسم ربا النسيئة.
وجاء الإسلام بتحريمه والنهي عنه، وقد لجأ اليه بعضهم في هذه الأيــام لكثرة المعاملات التجارية وحاول بعضهم إلباسه لباساً شــرعياَ بالتحايل على الشريعة وأحكامها.
الثاني: وهو أن تباع الحبوب ونحوها بأكثر منها من ذات الجنس بالتفاضل كبيع كيس حنطة بكيسين (وروي أن إبن عباس كان لا يحرم إلا القسم الأول فكان يقول : لا ربا إلا في النسيئة ، وكان يجوز بالنقد ، فقال له أبو سعيد الخدري : شهدت ما لم تشهد ، أو سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم تسمع ثم روي أنه رجع عنه)( ).
إذ ورد (عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الذهب بالذهب مثل بمثل يد بيد ، والفضة بالفضة مثل بمثل يد بيد ، والتمر بالتمر مثل بمثل يد بيد ، والبر بالبر مثل بمثل يد بيد ، والشعير بالشعير مثل بمثل يد بيد ، والملح بالملح مثل بمثل يد بيد ، من زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي سواء)( ).
الثالث : قرض المال لمدة سنة أو لأجل معين ، فاذا جاء به المدين فلا ربا ، أما اذا تأخر بالأجل يجعل عليه ربا تقابل الإرجاء .
وقد كانت قريش تتعاطى الربا وكذا ثقيف ، وهل تحريم القرآن والسنة للربا من أسباب محاربتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، وتجهيزهم الجيوش العظيمة في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين ، المختار نعم ، وإن كان السبب الأصل هو كفر وجحود المشركين .
وعن قتادة ({ بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون }( ) قال : قد قال ذلك مشركو قريش : انا وجدنا آباءنا على دين وانا متبعوهم على ذلك .) ( ).
وهذه الآية مصــداق للجهــاد ضد الربا وهي توكيد وبيان لقوله تعالى [يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ]( )، وهي الآية التالية , في نظم القرآن .
ولا فرق في الحرمة والفساد بين حال الإختيار والإضطرار تفسيرها ، نعم ضرورة جواز أكل مال الغير توجب الضمان.
تفسير قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ]
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، للإنسان فيها حاجات وأغراض بلحاظ غرائزه وشهوته وميوله، ووجوب ضبطها بالقواعد الشرعية والأخلاقية والعادات التي تحكم سلوكه وتؤثر في سمته وقوله، وجاء البيع ضابطة كلية للصلات التجارية والتعامل بين الناس، فحاجة كل فرد للآخرين قطعية سواء في معاشه أو مأكله أو ملبسه، والإنسان ممكن مفتقر إلى الكمال ويحتاج إلى الآخرين، كما أن البيع والشراء يشبع حاجة الإنسان إلى الإشياء وإقتنائها والرغبة في الملكية، فمن البيع ما لا يتم عن حاجة ولكن للسعة والنافلة، ويأتي أيضاَ لتنظيم العمل ومنع الصراع الفردي وحصول القهر والغبن والغرر.
وليس من تأريــخ معـين لبدء البيــع والتعامــل بين الناس وهــو ملازم لهبوط الانســان الى الأرض، وقصة قتل قابيل لهابيل تدل على حصول الملكية الخاصــة يومئذ والبيع والشــراء فرعها ووســيلة لتعاهدها.
(عن ابن عباس، قوله { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا }( ) فقربا قربانهما، فجاء صاحب الغنم بكبش أعْين أقرن أبيض، وصاحب الحرث بصَبرة من طعام، فقبل الله الكبش فخزنه في الجنة أربعين خريفا، وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
لذا جاءت الآية بقانون حلية البيع الشاملة للناس جميعاَ لأصالة الإطلاق وفيه إشارة إلى أن الحلال ذاته في كل زمان، والحرام ذاته في كل زمان , إلا ما خرج بالدليل.
وهل يمكن القول بأن الحلال ينسخ أو يتغير، فما يكون حلالاَ في ملة او زمان يكون حراماَ في ملة أو زمان آخر، إن هذه الآية تتضمن الجواب وتدل على النفي وإن ما كان حلالاَ باق على حاله وفي الحديث:حلال محمد حلال حتى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، وقد يقال بأمرين معاَ:
الأول: جاءت الآية بخصوص البيع وحليته ظاهرة ومعروفة عند كل الملل والعقلاء والأعراف والمجتمعات المختلفة ومنهم الكفار والوثنيون.
الثاني: ليس من دليل على تعميم الحكم، والجواب إن هذه الخصوصية للآية صحيحة ولكن يستقرأ منها قانون (اطلاق الحكم زمانياَ ومكانياَ) إلا إذا ورد دليل على الإستثناء والتخصيص وخروج بعض الافراد من المأكول او الملبوس او المعاملات منها سواء كان خروجها في بعض الأطوال الزمانية أو الأعراض المكانية أو خصوص بعض الملل والشرائع، فقانون حلية البيع مطلق وليس من دليل على تقييده.
وذكر حلية البيع في بــاب الذم والتقبيح لتعــاطي الربا مطلقاَ وان كان عند أهل الملــل الأخرى يدل في مفهومه وفحوى الخطاب على حرمة الربا عند الملل الأخرى أيضاَ وهو الذي أكدته الآيــة بالنص على حرمة الربا.
ورداَ على قول المشركين من قريش وثقيف بالمثلية والتشبيه بين الربا والبيع وإدعائهم بالتساوي بينهما، جاءت الآية ببيان المائز والتضاد بينهما وعدم إمكان إجتماعهما في محل واحد.
لقد ارادوا ان يحصل التساوي بين الربا والبيع والمتساويان هما اللذان ينطبق أحدهما على الآخر ويصدق عليه ويكون التساوي والتشابه في تمام الماهية او في الكسب والمنفعة والجواز، فجاءت الآية لتقول بإستحالة إجتماعهما.
قانون تعدد معاني الواو
لقد تقدم في باب الإعراب الواو في [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ] ( ) حالية مثلما هي إستئنافية، ولا تعارض بينهما لأن التقسيم النحوي لها إستقرائي وبلحاظ معنى الحرف في الجملة ولكن في آيات القرآن قانون تعدد معنى وحالة الحرف والكلمة الإعرابية بحسب تعدد المعاني والمفاهيم التي ترتكز إلى الدليل في التفسير والتأويل.
فعلى القول بأنها إستئنافية فالآية رد ودحض وتكذيب لقول آكلي الربا والتشبيه بين الربا والبيع، وفيها حجة مستقلة تبين حكماَ شرعياَ ثابتاَ.
أما على القول بأن الواو للحال فانها تبين التجرأ والكفر بالتشبيه بين الربا والبيع، وأنهم يقولون به في طول الحكم الشرعي الثابت بالتضاد بينهما، وفيه وجوه:
الأول : الإشارة إلى قبح القول بحلية الربا ولزوم الحذر منه.
الثاني : ان هذا القول لا أثر عملي له فلا موضوعية للقول المخالف لحكم الله تعالى في الأرض.
الثالث : تبين الآية بطلان أثر إبليس على واقع الأحكام والسنن والقواعد الثابتة فما أدى إليه في وسوسته، قول شاذ لنفر من العصاة.
الرابع : في الآية بشارة على تبدد ادعائهم التساوي بين الربا والبيع [وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا]( ).
الخامس : قولهم المثلية بين الربا والبيع، مع سبق أمر الله تعالى بالتضاد بينهما وهو لاحق لقولهم وناقض له، وهو موجود في الأرض دائماَ بواسطة الشرائع السماوية والأنبياء وإتباعهم كما يدرك العقل صحة البيع والحاجة إليه , قال تعالى [فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ]( ).
قانون الحاجة للبيع والشراء
والبيع والشراء من المشاهدات التي تدل على دقة النظام في المجتمعات وضبط التعامل بين الناس، وأن الله عز وجل لم يخلق الإنسان ويتركه وشأنه بل اعان الناس جميعاَ وجعلهم يعيشون في أحسن نظام يتصف بالتكامل.
ومن مصاديق التكامل والحسن معاملات البيع والشراء بين الناس الذي له منافع عرضية غير مقصودة بذاتها منها:
الأول : منع الغصب والغبن والتغرير لأن الإنسان يميل بطبعه إلى التملك وحب الحيازة والسعي لسد حاجته فاذا لم يكن هناك بيع وشراء فان القوي يستولي على ما يملكه الضعيف.
الثاني : تختلف حاجات الأفراد والجماعات , وتتعدد الرغائب , وتتباين الأهواء ومواطن الحرص والحيازة، فيأتي البيع ليكون وسيلة لتلبية تلك الحاجات وتحقيق الرغائب.
فمن يريد تملك شئ يشتريه، ومن يكره شيئاَ عنده يبيعه , إلى جانب قانون البيع والشراء رحمة.
الثالث : من الأشياء ما يجعله الإنسان مصدراَ لرزقه، ومادة لكسبه.
فيعمل بحرفة معينة كي يبيع ما يصنعه ليشتري رغيف خبز لعياله، ويزرع الحنطة ليلبس ويأكــل الأدام .
فيأتي البيع ليعطي البائــع الزائد عنــده ويأخذ ما يحتاجــه ويفتقــر إليه، ولابــد ان يتم التبــادل بكيفيــة تمنع الجهالة والغرر وتحول دون بعث اليأس والقنوط من الكسب والسعي، لأنه إذا حصــل التبادل بالغــبن والضـرر ويؤخذ مثلاً الحاصل الكثير من الفلاح الذي جمعه في عمل موسم أو سنة كاملة لقاء ثمن زهيد فان الفلاح يعــزف عن زراعة الأرض ويلجــأ إلى عمــل آخر، وإذا أدرك ان العمل الآخــر محفوف بذات الأعـراض والنتائج فإنه يصبح شـقياَ ويلجأ إلى ما لا يحمد عقباه احياناَ وقد ينشغل عن أداء الفرائض ويصبح عرضة للشيطان ونصبه، فجعل الله عز وجل البيع قانــوناَ لحفظ الحــقــوق وسبباً لصيانة العمل والكســب وســلامة الملكيات ودوام العبادة ولموضوعية معاملات البيع والشراء بالذات، وأثرها في العبادات جاء القرآن والسنة بأحكامها.
وهل هذه المعاملات من عمومات قوله تعالى[عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
الجواب نعم، فقد أراد الله عز وجل للإنسان عمارة الأرض بأسباب الصلاح والفلاح فهداه إلى التنزه عن الظلم في باب الربا، لذا وردت البشارة للمسلمين بالفلاح والبقاء إذا إجتنبوا الربا، قال تعالىيَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، أي أن الفلاح بالخشية من الله والتنزه عن أكل الربا، وليس في كسب الأموال بالباطل.
ذكر البيع دون الشراء
جاءت آية البحث بذكر البيع دون الشراء مع انه لا يتم إلا مع الشراء، ولكن البيع من الأضداد، فيقال بعت الشئ بمعنى اشتريته، وإبتاع الشئ: من الأضداد للملازمــة العقلية بين البيع والشراء فاذا تم احدهما فان الثاني لابد وأن يحصل معه إنطباقاَ، لذا فان الشراء هو الآخر من الأضداد.
قال الأزهري: قال ابو عبيد : البيع من حروف الأضداد في كلام العرب، يقال: باع فـــلان اذا اشــترى وبــاع من غيره، وانشــد قول لطرفة بن العبد:
ويأتيك بالأنْباءِ مَنْ لم تَبِعْ له … بَتاتاً ولم تَضْرِبْ له وَقْتَ مَوْعِدِ( )
أي من لم تشتر له زاداَ.
ومع هذا فان إستعمال البيع في الأصل والغالب هو إنتقال السلعة من مالكها إلى مالك آخر لقاء ثمن وعوض، وهو المتعارف والمتبادر إلى الأذهان، فاذا قيل باع فلان بستاناَ يتبادر إلى الذهن أنه دفعه إلى غيره لقاء ثمن إستلمه، وبلفظ البيع تخرج الهدية والهبة والنقل الخالي من العوض، لذا يمكن أن يضاف معنى ثالث للبيع غير الضدين وهو موضوع البيع والنقل بكامله.
فاذا ورد لفظ البيع فالمراد حادثة البيع، وحصول البيع والشراء وإنتقال العين من البائع الى المشتري، وإنتقال الثمن من المشتري إلى البائع، فالبائع والمشتري كل واحد منهما طرف في البيع، فبامكان صاحب المال ان يتوجه إلى البيع ويكون بائعاَ او مشترياَ فانه يمارس الكسب الحلال.
ولفظ البيع والشراء مما إذا إجتمعا إفترقا، وإذا إفترقا إجتمعا.
ومن خصائص البيع وما يميزه عن الشراء أنه عرض متصل للسلعة، بانتظار الشراء، والبائع متحد معروف، أما المشتري فهو كلي في الجملة إلى أن يتعين بالعقد.
وذكرت مادة (البيع) في القرآن تسع مرات وأكثرها تتعلق بالآخرة وإدخار الصالحات ليوم الحساب ، منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
وقوله تعالى [قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ]( ).
كما جاءت آيات بخصوص مبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والشهادة له بالنبوة والرسالة , منها قوله تعالى [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
وهذه الآية هي الوحيدة التي يتكرر فيها لفظ البيع مرتين مع أنها لم ترد بخصوص البيع، بل جاءت للنهي عن الربا وبيان قبحه الذاتي والتباين الموضوعي والحكمي بينه وبين البيع، ولابد له من دلالات منها أن الآية في مقام الحث على البيع والترغيب فيه وبيان منافعه وبعث الناس لمزاولته والتخلي عن الربا وعدم الدنو منه.
وجاء الإخبار عن حلية البيع في الآيــة بعد قولهم بالتســاوي بين الربا والبيع فكأن التكــرار ينفع بنســـخ قولهم ونقضــه وابرام حقيقـــة من الارادة التشـــريعية وهي سيادة انظمة البيع، فبدل ان يعرض صاحب الربا أمواله للمعاملات الربوية والقرض المقرون بالفائدة والزيادة وهــو فعل محرم، يقوم بعرض سلعته للبيع وهو أمر لا يحصل في الغالب إلا بعد الشراء.
ومن الإعجاز في الشــريعة الســماويــة ان الأمر الذي يحــرم أو ينقض يتصف بالقبح الذاتي ويقابله أمر بأمر حسن ذاتاَ في محله كي لا يحصل فراغ وتعطيل وإرباك وتخبط، إن إضفاء الحلية على البيع من عند الله تعالى دليل على أن البيع من الإرادة التكوينية وليس من عمل الإنسان ولا من التجريبيات أي القضــايا التي يدركهــا العقل بواســطة المشاهدة أو الفعل.
وقد إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض بسبب فساده فيها كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، فجاء الرد من الله عز وجل بأنه يعلم ما لا يعلمه الملائكة، ومن علم الله في المقام تنزيه الأسواق من الفساد بضبط معاملات البيع والشراء وفق قواعد شرعية، وتحريم أكل المال بالباطل، ومنع المعاملات الربوية، فان قلت لأزالت المعاملات الربوية سائدة في الأسواق والجواب.
إن الآية محل البحث حرب على تلك المعاملات، ويكون المسلمون أسوة حسنة للناس في المعاملات الخالية من الربا، وفي إجتناب البيوع الممنوعة .
(عن ابن عباس في قوله { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس }( ) قال : يعرفون يوم القيامة بذلك ، لا يستطيعون القيام إلا كما يقوم المتخبط المنخنق ، { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } وكذبوا على الله { و أحل الله البيع وحرم الربا } ومن عاد لأكل الربا { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }.
وفي قوله { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا…}( ).
قال : بلغنا أن هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عوف من ثقيف ، وبني المغيرة من بني مخزوم ، كان بنو المغيرة يربون لثقيف ، فلما أظهر الله رسوله على مكة ووضع يومئذ الربا كله ، وكان أهل الطائف قد صالحوا على أن لهم رباهم وما كان عليهم من ربا فهو موضوع ، وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر صحيفتهم : أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ، أن لا يأكلوا الربا ولا يؤكلوه . فأتى بنو عمرو بن عمير ببني المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة فقال بنو المغيرة : ما جعلنا أشقى الناس بالربا ووضع عن الناس غيرنا .
فقال بنو عمرو بن عمير : صولحنا على أن لنا ربانا . فكتب عتاب بن أسيد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت هذه الآية { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب } ( ) )( ).
تفسير قوله تعالى[وَحَرَّمَ الرِّبَا]
في الآية بيان ووعيد وإنذار، فالذي يقول بحلية الربا أو يزاوله يخالف أمر الله تعالى ويفعل المعصية عن إختيار، ونسبة حرمة الربا إلى الله تعني الإطلاق والتأبيد وعدم النسخ في الحكم الشرعي,
وهل حرمة الربا مقترنة بحلية البيع وفرع منها.
الجواب: لا، فحرمة الربا ذاتية وجاءت على نحو الإستقلال لما فيه من الخبث والضرر والأذى وهي نوع إبتلاء وإمتحان، بمعنى ان الله عز وجل جعل في ميسور الإنسان عدة وجوه لكسب الربح في التجارة منها البيع، فأحل البيع وجعله يحمل خصائص الحسن، وتبدو منافعه محسوسة للناس، وحرم الربا وجعل العقول تدرك خبثه وأضراره.
وهذا البيان والظهور من مصاديق قاعدة اللطف الإلهي في تقريب العبــاد للطاعة، لذا يشــترك الناس جميعاَ في مــزاولة البيع، فليس من أمة أو أهل ملة أو جماعة أو شخص إلا ويشتري ويبيع في يومه وليلته، أما الربا فهو عمل آخر يرتكبه شطر من الناس عصياناَ، بمعنى أن الناس قسمان:
الأول: الذين لايزالون الا البيع ويجعلونه الوسيلة الوحيدة للحيازة والاقتناء وجمع الأموال وتوفير المؤون والحوائج.
الثاني: الذين يمارسون البيع والربا بحسب الحال والمعاملة والربح.
مما يعني أن البيــع طريق ينتهجه كل إنسان، والربا محدود، وبذا تظهر خصــائص ما أحــله الله ومنها قانون تعاهــد الأخوة الإنسـانية والإيمانية في البيع، فكم من صلات وود ومنافـع متــبادلة تحصل بســبب صفقة بيع، وبه تفتــح أبواب الرزق وتتزين الأيــام ويكون مناسبة لشكر الله تعالى، وكذا قانون حــرمة الربا من رحمة الله تعالى بالناس لما فيه من الأضرار والأذى , قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
النهي عن المفاسد
والآية دعوة إلى الدراسات التي تبين المفاسد في الأمور التي جاء القرآن بالنهي والزجر عنها، وذكر الأضرار التي يسببها ذات المحرم وإتيانه وبلحاظ الكم والكيف، لأن أضراره تصاعدية ولا تنحصر بمورد دون آخر، بل إن الحرام يأتي على الحلال نفسه من وجوه:
الأول : وحدة الموضوع وهو الكسب والفائدة، فاذا شاع إستعمال الربا بهما فان البيع يقل وتنحسر مزاولته.
الثاني : التداخل والخلط بين البيع والربا في معاملات الناس فيصعب التمييز بينهما.
الثالث : طول التلبس بالربا ومعاملاته يجعله واقعاَ معتاداَ، فلو جاء مصلح ودعا للتمييز بينه وبين البيع فان الناس تحتج عليه وتستهزء به ويتعرض لشتى صنوف الأذى .
وفي مؤمن آل فرعون ورد قوله تعالى[وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ]( ).
فتولى القرآن هذه المسؤولية الجسيمة، مما يؤكد أهليته للإمامة في كل زمان وعجز أعداء الدين عن النيل من سلطانه، وفيه شاهد على حاجة الناس لإمامته، خصوصاً أولئك الذين أسقط ما كان لهم من الفوائد والأرباح الربوية.
وتتضمن الآية رسالة إلى المسلمين كافة من وجوه :
الأول : قانون اللجوء الى القرآن لدحض الباطل.
الثاني : قانون الإحتماء خلف آياته في تثبيت أسس الحق.
الثالث : قانون التنزيل وازاحة للمعاملات الفاسدة كالربا.
الرابع : قانون الرجوع إلى القرآن في تنظيم الصلات بين الناس وإيجاد النظام المعاشي والإقتصادي الأحسن , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
ومن الشواهد القرآنية على حرمة الربا في الملل الأخرى أيضاَ قوله تعالى [َأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ]( ).
وهل تحتمل قراءة (الواو) في [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ] بانها عاطفة وأنه من كلام الكفار، كنوع إنكار أو تساؤل، بأن قالوا ما دام البيع مثل الربا وبينهما تساو فلماذا أحل الله البيع وحرم الربا، كجزء من الخبط والإرباك الذي يعيشون وللغشاوة التي على أبصارهم فلا يعرفون الحقيقة والعواقب وفلسفة الابتلاء في الدنيا.
الجواب: لا، فالواو إستئنافية وحالية وكلام الكفار إنتهى بذكر المثلية والتشبيه.
والآية قاعدة كلية وحكم تشريعي يفيد العموم، وليس هو مجملاَ يحتمل عدة معان ووجوه، والقول بان الاسم المفرد المحلى بلام التعريف لا يفيد العموم لا يكفي لنفي العموم، والإطلاق في المقام خصوصاَ مع لحاظ الآيات الأخرى.
وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال:( خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدنيا وما سألناه عن الربا)( ).
ويحتمل الحديث وجوهاَ منها:
الأول: السؤال عن ماهية الربا.
الثاني:إرادة السؤال عن عقوبته للتغليظ في النهي عنه ومبغوضية اتيانه، فيقول أننا لم نســأل ما هي عقــوبة آكله كي يكف الناس عنه.
الثالث:السؤال عن أضــراره وعواقبه العرضية.
الرابع: يحمل القول على المعنى الايجــابي بأنهم لم يسألوه عن الربا لوضوح أحكامه، وقلة المتعاملين به.
الخامس:عدم السؤال للبيان الذي يتجلى في السـنة النبوية الشريفة من غير سؤال لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان احياناَ يبين الاحكام إبتداء عندما يشعر بحاجة أجيال المسلمين لها، أو أن ترك البيان يسبب فتنة ونحوها.
من منافع آية الربا
وفي الآية مسائل:
الأولى: قانون التخفيف عن المسلمين.
الثانية: قانون إضعاف الباطل والضلالة , قال تعالى [لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ]( ).
الثالثة: الآية حجة في إصلاح الأسواق مطلقاَ وأسواق المسلمين خاصة.
الرابعة: المنع من اتخاذ الربا وسيلة للإضرار بالناس.
الخامسة:الآية وهي دليل على ان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، فالاقتباس العام للانسانية من هذه الآية لا يخفى من وجوه:
الأولى : الاقتداء بالمسلمين او محاكاتهم، فحينما يرى الناس اجتناب المسلمين للربا فان نفوسهم لا تميل اليه، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الثانية : تنزه المسلمين عن الربا يطرح عند الأمم والملل الأخرى تساؤلاَ ذاتياَ لماذا يحرم المسلمون الربا.
فيأتيهم الجواب بأنه إمتثال لأمر الله تعالى فيعرفون أن المسلمين لا يعملون إلا بأمره سبحانه فتزداد هيبة المسلمين في نفوسهم، ويدرك الناس أن أحكام السماء يعمل بها في الأرض.
الثالثة : عند ظهور الآثار السلبية للربا يعرف الناس عظمة الاسلام وصدق احكامه وملائمتها للمجتمعات مع تعددها واختلافها.
الرابعة : انه دعوة للفقراء والأمم المستضعفة لدخول الاسلام فهؤلاء عندما يقعون ضحية المعاملات الربوية والفوائد المرتفعة على القروض يميلون الى الاسلام ويعلمون ان الخلاص من الظلم والتعدي في احكامه.
الخامسة : قانون حرمة الربا مدخل تُعرف من خلاله الناس أحكام وقواعد الاسلام الاخرى.
السادسة : قانون سيرة المسلمين موعظة للناس، ودعوة للصلاح، وشهادة على التأريخ، قال تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ( ).
السابع : قانون حرمة الربا شاهد على صبغة السلم في الشريعة الإسلامية , والتنزه عن أكل مال الغير .
وقال القفال في دفع شبهة الكفار وفق الآية أعلاه: من باع ثوباً يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابَلاً بالعشرين ، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صارت العشرون عوضاً للثوب في المالية فلم يأخذ البائع من المشتري شيئاً بدون عوض ، أما إذا أقرضه عشرة بعشرين فقد أخذ المقرض العشرة الزائدة من غير عوض . ولا يقال إنّ الزائد عوض الإمهال لأنّ الإمهال ليس مالاً أو شيئاً يشار إليه حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة)( ).
ولكن المثال ليس من واقع المعاملات، فما كان يساوي عشرة ويباع بعشرين لا بد من وجود غبن أو سبب عرضي طارئ لمضاعفة الثمن ولا يكون هذا المثال بيعاً صحيحاً وضداً ومناقضاً للمعاملة الربوية التي ذكرها في ذات المثال أعلاه , نعم هو من تقريب المعنى والإحتجاج بالمثال.
بحث فقهي
لا تنحصــر حرمة الربا بآخذه بل تشمل دافعه ومن يقوم بكتابة عقده والشــهادة عليــه، ولا فــرق في الحــرمــة والفســاد بين حال الإخـتيار والإضــطرار، نعم ضرورة جواز أكل مال الغير توجب الضمان من غير ان تترتـب عليها عقوبة لأن الضــرورات تبيح المحظورات بقدرها.
أقسام الربا
الربا قسمان:
الأول : معاملي وهو بيع أحد المثلين بالآخر مع زيــادة عينية كبيع كيلو من التمر بكيلوين منه، او بكيلو ولكن بزيادة درهم، او زيادة حكمية.
الثاني : الربا القرضي، وفي الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام: “جاء الربا من قبل الشروط انما يفسده الشروط”.
ولو باع كيلو حنطة بكيلو ونصف نسيئة فهل يرتفع الربا بوقوع نصف كيلو في مقابل الأجل ويصير حينئذ مثلاً بمثل، الأقوى لا، لعمومات أدلة الربا وعدم إنحلال هذا العقد إلى عقدين عرفاً.
يشترط في الربا المعاملي أمران:
الأول: إتحاد العوضين في الجنس، وضابطه الإتحاد في الحقيقة النوعية الكاشف عنه دخولهما تحت لفظ خاص كاسم الحنطة الذي تقع تحته أنـواع عديــدة منها الجيــدة ومنها الرديئة، ومنهــا الحمراء ومنها البيضــاء، ومثل ذلك في التمــر وغيره، أما لو إختلف الاسم فيصح البيع متفاضلاً كبيع كيلو من العدس بكيلوين من الحنطة، ولو شك في مورد هل الجنس متحد أم متعدد، يصح البيع متفاضلاً.
الثاني: كون العوضين من المكيل أو الموزون فلا ربا فيما يباع بالعدّ والقياس والمشاهدة.
والحنطة والشـعير وإن كان حكم كل منهما في الزكاة مستقلاً فلا يكمل أحدهما نصــاب الآخر، ولكنهما في الربــا جنس واحــد فلا يصح التفاضل بينهما، ولا يجـــوز مثلاً بيع كيلــو من الحنطــة بكيلــوين من الشعير.
وتعتبر الأصناف المتعددة من كل نوع من أنواع الجنس الواحد متحدة الاسم في عدم صــحة التفاضـل فيها، كالأرز الذي تبلــغ اصــنافه المئات، وتعدد أصناف الحنطة وأصناف الشعير لا يمنع من حرمة التفاضل بينها.
وكل شيء مع أصله وما يتفرع عنه جنس واحد وإن اختلفا في الاسم ، كاللبن والجبن إن كانا لنوع واحد من الحيوان كالبقر أو الغنم، والتمر وخله وإن إختلف أصل التمر الذي صنع منه الخل، والعنب ودبسه، وكذا الفرعان من اصل واحد كالجبن والأقط الا ان يجري على الفرع مثلاً ما فيه انفاق واجرة عمل ونحوها مما يستحق قيمة كالطحين يكون ألاغفة خبز.
والخل تابع لما يعمل منه فيجوز التفاضل بين خل العنب وخل التمر إلا إذا احتسبا عرفاً جنساً واحداً.
ويجوز التفاضل بين اللحوم المختلفــة بإختلاف الحيــوان المتخـذة منه، وكذلك بالنســبة للألبان والأدهــان فيجــوز التفاضــل بين لحم الغنم ولحم البقر وبين لبنهما ودهنهما وما يتفــرع عنهما، وكــذا في الطيور فيجوز التفاضل بين لحم بعض الطيور مع بعضها الآخر إذا إختلفا في الإسم.
والزيوت والأدهان المستخرجة من النباتات تابعة لها، فيجوز التفاضل بين دهن السمسم ودهن اللوز.
والضأن والمعز جنس واحد وكذا البقر والجاموس.
والصوف غير الشعر وهما غير الوبر، وصوف كل حيوان تابع له، فيجوز التفاضل بين صوف الغنم وصوف البعير إلا إذا احتسبا عرفاً جنساً واحداً ولو بالمكائن الحديثة.
والمناط في كون الشيء مكيلاً أو موزوناً متعارف البلدان، ومع الإختلاف فحكم كل بلد على ما هو المعتاد عليه.
ولا تجري تبعية الفرع للأصل في الكيل والوزن فما كان اصله مما يكال أو يوزن فخرج منه شيء لا يكال ولا يوزن لا بأس بالتفاضل بين أصله وما خرج منه، وكذا بين الفروع التي تخرج منه كما في الصوف والثياب المنسوجة منه.
ويجوز تبديل الطحين بالخبز إذا كان الخبز بالعدد، لاسيما وأن إعداد أرغفة الخبز يتطلب جهداً ونفقات مالية، ولقاعدتي إحترام عمل ومال المسلم.
والتفاوت بالجودة والرداءة في أفراد الجنس الواحـد لا يوجب جـواز التفاضـــل بينهما، فلا يصــح بيــع كيلو من الحنطــة الجيدة بكيلوين من الرديئة منها، ولا بيع مثقال من الذهب الجيد بمثقالين من الردئ منه.
الفرار من الربا
يمكن الفرار من الربا بالطرق الشرعية الصحيحة، ونعم الفرار من الحرام إلى الحلال ولا يعني هذا الإجتهاد في التوسعة بتلك الطرق بما يجعل الحرمة تتعلق بالعنوان دون المعنون والمصاديق، وإبقاء موضوع الربا وكأنه عنوان ليس له معنون ومصداق خارجي.
والربا أعم من العقد الإبتدائي، فقد يأتي الربا لاحقاَ للقصد ومتأخــراَ عنه زماناَ ورتــبة، كما لو إشــترى منه عنباَ وســلعة نسـيئة وعجز المقترض عن أداء الدين فتفــرض عليه زيــادة في الدين.
وتجري في هذا الزمان معاملات شــخصية أو شراء بضائع في بعض الاماكن وعند حلول الأجــل يبقى أصل المبلغ ويدفــع مقــداراَ من المال كل شهر، وهذا العمل مثل فعــل الجاهلية الذي جــاء الإسلام للقضاء عليه.
وفي التهذيب عن زيد ابن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله الربا واكله وبائعه ومشتريه وكاتبه وشاهديه( ).
والفائدة محمـولة على الشــرط.
وإن كان الشــرط مضمراَ ولكــن العقد مبني عليه، ولا فــرق في الزيادة الربوية عينية كانت أو حكمية، فمن العينية المال والبضائع ونحوها، ومن الحكمية الأعمال والمنافع والصفات.
ولو باع عيناً كالدار أو البستان أو السيارة أو غيرها , وتأخر الثمن عن الأجل ففيه مسائل :
الأولى: لا يستحق صاحب العين المُباعة إلا مقدار الدين، والمبلغ الذي باع به .
الثانية : إن إرتفعت وإزدادت الأسعار , فلا يستحق إلا ذات مال الدين ولكن لابد من المصالحة عندما تكون الزيادة في الأسعار كبيرة.
الثالثة: إذا كان المشتري معسراً وعاجزاً عن أداء الدين فلا إثم عليه، ولو كانت عنده القدرة على الأداء ولم يؤد يؤثم، والمماطلة في أداء الدين عند حلول الأجل والقدرة معصية.
وفي الخبر: خير الناس أحسنهم قضاء( ).
قانون النهي عن الزيادة على القرض
والمبلغ الزائد الذي يأخذه الدائن على أصل الدين وثمن السلعة والعين فيه صورأربع :
الأولى: كان متعارفاً في أيام الجاهلية ربا النسيئة, وهو ان يدفع المال الى المقترض, وتؤخذ كل شهر عليه فائدة معينة مع بقاء مقدار الدين، فاذا حلّ أجله وتعذر على المديون الوفاء زادوا في أصل الدين وفي الأجل، وقد حرّمه الإســلام ونهى عنه، قال تعالى [ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا].
الثانية: أخذ الزائد بالغصب والإكراه.
الثالثة: أخذ الزائد بالغيلة والتغرير , وشدة الحاجة ,كما لو كتب عليه شيكاً وتعهداً بمبلغ أكبر من مقدار الدين , وقد قال تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ]( ).
الرابعة: الهدية والمصالحة والتراضي على زيادة معينة.
والوجوه الثلاثة الأولى محرمة، والرابعة جائزة ولا ضير فيها، وللربا أضرار إجتماعية وإقتصادية.
ولا تنحصر حــرمة الربا بآكله ( )، في دلالة على اشتراك الجميع في الإثم وان القضاء على الربا مسؤولية الجميع فاذا إمتنع المحتاج للمال عن أخذه، الربا والفائدة المحــرمة والذي يريد انشاء مشروع أو شراء سلعة، فان الربا لا يتنجز في الخارج لإشتراط المفاعـلة بين طــرفين ولحــوق الإثم بالشهود والكــاتب لأنهم أعوان على الاثم ومساهمون في وقوعه، كما ان عمومات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر تشملهم فالوظيفة الشــرعية لهم تقتضــي منــع الربا وفق مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحسب الصيغ الممكنة من النصح والإرشاد والموعظة الحســنة والتذكير بالآخـرة وما ينتظر آكل الربا من العقاب الشديد، وتوجيه آكل الربا الى البيع وطلب الرزق الحلال وإخباره بأنه لا يأتيه أكثر مما كتب الله له، ولكنه يختار الربا الحرام ويترك الحلال.
تفسير قوله تعالى[فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى]
آية إعجازية تبين سعة مراتب العفو والمغفرة ببقاء باب التوبة مفتوحاَ وهذا الباب ليس سلبياَ أو أن وظيفته إستدامة الفتح وحده وعدم الغلق بل إنه يدعو آكلي الربا إلى ولوجه ودخوله بالترغيب والتحبيب والجذب، فالآية رحمة إضافية متجددة من وجوه:
الأولى : الربا محرم من الأصل، وان الله تعالى لم يترك آكل الربا يتمادى في غيه يستدرجه ويمهله حتى يحل به العذاب بل يعظه ويرسل الأنبياء وينزل الكتب لزجره عنه.
وتفضل سبحانه وجعل القرآن باقياً بين الناس بسلامة من التحريف، ليدعوهم لنبذ الربا، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
وفيه شاهد بأن الإخبار عن تنزيل الذكر وحفظه لغايات سامية أكثر من أن تحصى، منها الحث على هجران الربا، وعدم الإشتراك في معاملته، ومنها لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نبذه والنفرة منه.
الأول : من مصاديق حرمة الربا ظهور الآيات والحجج التي تبين لصاحبه أضرار فعله وإقتراف الحرام والإقدام على المعصية.
وتلك الحجج مقدمة للتوبة.
الثاني : جاء قبول التوبة من آكل الربا نصاَ صريحاََ في القرآن من غير إحتمال لتأويل آخر , قال تعالى[وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]( ).
الثالث : الزجر عن أكل الربا جاء بصيغة الموعظة والإرشاد والإعتبار والنصح الجميل وإيجاد أسباب النفرة من الربا، والفائدة الخالية من العوض.
وتبين الآية جانباَ من فلســفة العفو الإلهي الخاص بالدنيا، فكما جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إبتلاء وإمتحان فانه تفضل وجعلها مناســبة للتوبــة والإنابة مطلقاً، بمعنى التــوبة من أي ذنب ومعصـية إرتكبها الإنسان.
وجاءت هذ الآية بخصوص الربا ولا تدل على حصر الموعظة أو التوبة بموضوعه، بل جاءت من باب المثال والإخبار عن فضل الله تعالى بالدعوة الى التوبة، فالآية وإن جاءت بصيغة الشرط إلا أنها إرشاد وهداية للتوبة، ومن لطفه تعالى أنه يرزق العبد بما هو أعم من الدعوة إلى التوبة، لذا جاءت الآية بأمور ثلاثة:
الأول: الإرشاد إلى مزاولة البيع وترك الربا، والعقاب على التلبس بالربا وأكل الأموال بواسطته.
الثاني: ان الموعظة هي التي تأتي لصاحب الربا، وليس هو الذي يقصدها، وهذا من الإحسان والمن والرحمة الإلهية.
الثالث: مجئ الموعظة على نحو القضية الشخصية (جاءته) أي جاءت له على نحو التعيين وليس من عمومات الأحكام، نعم العمومات تنحل بعدد الأفراد.
فالخطاب العام [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]( )، او[يَاأَيُّهَا النَّاسُ]( )، عام فينحل بعدد المسلمين بالنسبة للأول، وعدد المكلفين بالنسبة للثاني، ومع هذا الخطاب فهناك موعظة خاصة لكل آكل للربا لهدايته ومنعه من الإستمرار في مزاولة الربا , ولعامة الناس بإجتناب الربا.
(عن النّواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ضرب الله صراطاً مستقيماً ، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصرط جميعاً ولا تتفرقوا .
وداع يدعو من فوق : الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب.
قال : ويحك . لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه .
فالصراط الإِسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم)( ).
أي البراهين والحجج التي تدركها البصيرة تحجب العبد عن الحرام.
موعظة ترك الربا
وقد يقال إذا كان آكل الربا يخص بموعظــة وتأتيه وتصل الى قلبه فلابد أن تأتي الموعظــة إلى من لم يرتكب الربا ويزاوله، الجواب نعم، وفيه وجوه:
الأول: ان الموعظة جاءته فاجتنب الربا من رأس.
الثاني: الإمتناع أصلاً عن الربا مرتبة ورفعة لأنه إنتفع من المواعظ العامة، والحجج والبراهين الظاهرية.
الثالث: إن الموعظة التي تأتي آكل الربا درس وعبرة لغيره، لذا قيل السعيد من وعظ بغيره، والشقي من إتعظ به غيره.
الرابع: إن الله عز وجــل واسع كريــم يأتي بالموعظــة العامــة فينتفــع منها كل مكلــف، ويأتي بالموعظــة الخاصة، فينتفـع منها الآخرون.
كما أنها تفيد الكثرة والتعدد، فالشخص الواحد ينتفع من:
الأول : الموعظة العامة الموجهة للناس جميعاَ , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني : الهداية والذكرى التي يراد بها المسلمون.
الثالث : الخطابات التكليفية.
الرابع : الموعظة الخاصة التي تأتيه فضلاَ من الله تعالى.
الخامس : الموعظة الخاصة التي تأتي لغيره وينتفع منها بالواسطة.
السادس : من الموعظة هذه الآية وتحــريم الإســلام للربا ونزول القـرآن بالنهي عنه.
الدنيا كلها مواعظ وعبر سواء بالذات أو بالعرض، والموعظة المذكورة في كل من الوجــوه الســتة أعلاه بحســب العـدد والكم تحتمل وجوهاَ:
الأول : كل واحدة منها مفردة ومتحدة.
الثاني : كل واحدة متعددة ومتكثرة في الخارج.
الثالث : التفصيل، منها ما هي مفردة ومنها ما هي متعددة.
والأصح هو الثاني فكل موعظة متعددة وكل واحدة تكون في طول الثانية وفي عرضها بمعنى بعضــها تعضــد بعضها الآخـر، وتكون إستمراراَ لها، ومنها ما تكون مستقلة في جهتها او موضوعها عن الأخرى، لتعمل مجتمعة ومتفرقة على هدايته وتذكيره ومنعه من مواصلة أكل المال بالربا.
تذكير الفعل في (جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ)
وجاء الفعل في الآية خالياَ من تاء التأنيث (جاءه) ولم تقل (جاءته موعظة) وفيه وجهان:
الأول: لأن التأنيث غير حقيقي.
الثاني: إن الموعظة في معنى الوعظ، والتقدير فمن جاءه وعظ من ربه.
ولابد من دلالات عقائدية لمضامين التذكير هنا منها:
الأولى : مجئ اللفظ بصيغة التأنيث في القرآن، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( )، فالموعظة العامة جاءت للناس وورد الفعل معها بصيغة التأنيث وكأنها متحدة الموضوع.
الثانية : الموعظة في الآية جاءت بصيغة التنكير والماهية المجردة مما في التعدد والكثرة، وهذا التعدد يشمل الموعظة العامة والخاصة وأسباب التذكير والاعتبار ومن افرادها ما هو مذكر فجرى تغليب المذكر على المؤنت كما هو المتعارف، مثل تغليب لفظ القمر على الشمس، فيقال القمران.
الثالثة : في قوله تعالى [ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، ان الموعظة الحسنة هي القرآن، والقرآن مذكر، لتكون هذه الآية من مصاديق الموعظة وأحد افرادها.
قانون كل آية موعظة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الموعظة ، وليس من حصر لأسباب الموعظة التي تواجه الإنسان كل يوم ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ) ومن الموعظة التنزيل وآيات القرآن .
وكل آية في القرآن موعظة عامة، وهذه الآية خاصة بأكل الربا، ولكن ينتفع منها الناس جميعاَ، ويقوم الذي إجتنب الربا بالشكر لله تعالى على النجاة من الربا واضراره وعواقبه الوخيمة.
(يأتي على الناس زَمانٌ يُسْتَحَلُّ فيه الرِّبا بالبَيْع ، والقتلُ بالمَوْعِظة هو أن يُقْتَل البَريءُ لِيَتَّعِظَ به المُريب ، كما قال الحجَّاج في خُطْبَتِه : وأقْتُلُ البَرِيء بالسَّقيم)( ).
أي يُلبســون الربا لباس البيع ويكثرون من الحيل الشرعية على المعاملات الربوية، ويقتل البرئ لا لشئ إلا ليتعظ به المريب.
وبذا تعتبر الآية سلاحاَ سماوياَ للقضاء على ما هو حاصل من الربا وتصدياَ ووقاية مما ستأتي من وجوه الربا الخفي لأن النفس الشهوية والقوى الشيطانية عندما تواجه بالشريعة وأحكام السماء تحاول التدليس والنفاذ بطرق الخداع والإحتيال فلا تتصادم مع الأسماء والثوابت ولكنها تسعى بخبث للتسلل الى المسميات وتدس السم بالعسل، وتوسع دائرة البيع ليشمل بعض المعاملات الربوية وتؤطر بعناوين المصالحة والتراضي والضرورة ونحوها.
قانون الدنيا دار الموعظة
النسبة بين هذا القانون وبين الموعظة في التنزيل عموم وخصوص مطلق , إذ أن أيام الحياة الدنيا كلها موعظة .
في هذه الآية مسائل:
الأولى: بيان الموعظة التي تكشف الزيف والباطل.
الثانية:الدعوة للفصل بين الحق والباطل والحلال والحرام في باب المكاسب.
الثالثة:لزوم تعاهد الحق والعمل وفق قواعد الشريعة واتخاذ ما أحله الله من البيع سبيلاً، وإجتناب ما نهى عنه من الربا ليكون هذا العمل سجية ثابتة في مختلف المعاملات، وليس البيع وحده، فتتغشى في العبادات والأحكام، وهذه السجية حرز دون التداخل بين الربا والبيع لما تعنيه من نفاذ البصيرة وتوظيف العقل في إختيار الأعمال.
والآية دعوة للرجوع في أحكام الحلال والحرام إلى القرآن، والتدارك ومعالجة الخطأ والخلل من غير ابطاء ولا تأخير.
وجاءت نسبة الموعظة إلى الله تعالى لتدل على رأفته بالعباد وعدم تركه صاحب المعصية وحاله إلى أن تكثر خطاياه ويلاقي ربه مثقلاً بذنوبه بل انه يتفضل بتقريبه إلى الطاعة وتذكيره بالآخرة، وتنبيهه الى ما في الربا من الضرر ، واذا كانت الموعظة منه تعالى فلابد انها تكون بأحسن وجه وأتم صيغة وأبهى صورة، وتكون مؤثرة وحاسمة ومانعة دون بقاء موضوع الربا، ولكن بقاء العبد على الربا يتعلق بأمر اضافي آخر وهو ارادته وإختياره كجزء من فلسفة الإبتلاء في الحياة الدنيا وموازين الحساب والعقاب، وهذا المعنى تؤكده الآية نفسها لأنها تخبر عن مجيء الموعظة وليس السلطان وأسباب القهر، والموعظة تعني النصيحة والذكرى والبيان، قال تعالى[إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]( ).
وهل يعني اسم الشرط في الآية (من جاءه) عدم وصول الموعظة لكل الناس وأن منهم من لم يعرف حرمة الربا.
الجواب: ان الحرمة معروفة سمعاً وعقلاً فكما تحكم الشرائع بحرمة الربا، فإن العقل يرى ما فيه من الظلم والضرر، وإمتناع المسلمين عنه آية واقعية للإخبار عن عدم إستحالة الإلتزام بالتكاليف.
وهناك شواهد قرآنية كثيرة تأتي باسم شرط، ولكن الحكم يستوعب الجميع كما أن الآية مركبة من أمرين:
الأول: مجيء الموعظة.
الثاني: الإنتهاء والكف عن الربا، بمعنى أن الموعظة تأتي للناس جميعاً.
والناس في موضوع الربا على أربعة أقسام:
الأول: من لم يتعاط الربا، وهم الأكثر من مجموع الناس عامة.
الثاني: الذي تاب وإنتهى عن الربا قبل وصول الموعظة له لرجوعه للفطرة السليمة والعقل.
الثالث: من إنتهى وإمتنع عن مزاولته عندما جاءته الموعظة.
الرابع: الذي أصر على أكل الربا، وظل مستمراً على تعاطيه وأخذ الفائدة على القرض.
وهذه الآية تتعلق بالأقسام الأربعة أعلاه, والموعظة شاملة لهم جميعاً لأن الذي لا يزاول الربا بحاجة إلى ما يثبته على الإيمان، ويؤكد له سلامة إختياره، وتلك وظيفة عقائدية يتكفلها القرآن والسنة النبوية الحاضرة بين ظهرانينا وجماعة المؤمنين، ففي عملهم وصلاحهم موعظة حاضرة فهذا يحاكيهم في فعلهم، وآخر يتأثر بهم، وشخص يلتحق بهم، ومنهم من يتعظ بهم.
والموعظة أعم من النصح القولي والإرشاد اللساني، فتكون فعلية أيضاً، والفعلية على قسمين:
الأول: ما فيه نفع ذاتي.
الثاني: ما فيه إبتلاء.
وكل منهما له حسن ذاتي وعرضي إلا أن الله سبحانه يعرف ما يصلح العبد ويقربه إلى الطاعة ويبعده عن المعصية، فقد يصبح آكل الربا فقيراً لا يملك قوت سنته كما يتعذر عليه الربا.
ومن العصمة إنعدام المعصية، والموعظة لا تنحصر بآكل الربا فتشمل معه المقترض مع رضاه بالفائدة ومن يقوم بكتابة العقد والشهادة عليه بالكف والإمتناع عن الإعانة على الإثم.
فالخطاب التكليفي في الآية لهم جميعاً بالكف عن الربا، وجاءت الآية بلغة الإنتهاء وهو الكف والتخلص من مزاولة الربا وعدم النية للعودة اليه، والإنتهاء أعم من التوبة، وفيه وجوه:
الأول: بين التوبة والإنتهاء عموم وخصوص مطلق، فكل توبة هي انتهاء وليس العكس.
الثاني: بينهما تساو فكل إنتهاء هو توبة، والتوبة من الربا هي انتهاء منه.
الثالث: النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه، فتلتقي التوبة مع الإنتهاء في وجوه، ويفترقان في وجوه.
الرابع: التباين فالتوبة فعل عبادي بقصد القربة، والإنتهاء فعل مطلق يتعلق بالكسب وتحصيل المال.
والجواب هو الأول، فكل توبة تكون إنتهاء مقروناً بالنية وقصد القربة، أما الإنتهاء عن الربا فهو على وجوه:
الأول : التنزه عنه وإجتناب تعاطيه.
الثاني : الإستغناء عنه.
الثالث : الإعتبار بالموعظة التي جاءت من عند الله تعالى عامة كانت أو شخصية.
الرابع : الإمتناع عن الربا بقصد القربة إلى الله تعالى والإمتثال لأمره وهجران نواهيه، لذا يبقى قوله تعالى [فانتهى] ( ) إعجازاً عقائدياً لما فيه من لغة الإطلاق والشمول وعدم الحصر بالتوبة أو خصوص المسلمين فقط.
فالآية تدل على تعدد الموعظة وشمولها للناس جميعاً وإنتفاعهم منها، وان الإنتهاء والإمتناع عن الربا لا ينحصر بالمؤمنين وحدهم، فمن الناس من يترك الربا لقبحه الذاتي ونفرته منه، ورؤية الحجج والآيات، فتكون الموعظة رحمة وترغيباً بالبيع أو تكون زجراً وردعاً، أو هما معاً في آن واحد.
ومن وجوه الموعظة ان يجعل الله عز وجل العناء والشقاء في الكسب الربوي، ويهيء أمام العبد الفرص واليسر والربح الوفير بالبيع والشراء، وظاهر الآية ان الربا من الكبائر وتؤكد عظم ذنب الربا، بذاته او بالقياس مع الذنوب الأخرى، ويدل عليه قوله تعالى [ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ]( ).
والنصوص الواردة بذكر الربا تجعله من مصاديق الكبائر، (وسئل ابن عباس عن الكبائر أسبع هي؟ قال: هي إلى السبعين أقرب) ( )، ومن الكبائر الإصرار على الصغائر.
فكيف بالذي يصر على الكبيرة مع مجيء الموعظة له لشدة حرصه على الدنيا وإستهانته بالأوامر والنواهي، وعدم التفاته إلى الإستعداد للآخرة.
وهل تطلب الآية من الذي ينتهي من الربا المسابقة في الخيرات وإسداء المعروف وفعل الصالحات أو أن سعادته في الدنيا والآخرة لا تتحصل إلا بالإنفاق في سبيله تعالى والصدقة والإتيان بما يكون عوضاً عن إقتراف الربا وما فيه من الإجحاف والظلم سواء أزاء من أخذ منهم المال الربوي وغيرهم، الجواب لا، فان الآية لا تريد منه إلا الإمتناع والكف عن الربا والتخلص من الحرام في هذا الباب.
إن مجرد الكف عن الربا خطوة للإبتعاد عن الفساد والإفساد الإقتصادي والإجتماعي والأخلاقي وما يتفرع عن الربا من الآفات والأمراض في شخص المرابي وأسرته وعند دافعه وما يسببه من البغضاء والعداوة والخصومات، فحينما يشعر المقترض أنه دفع جميع رأس المال والدين بواسطة نجوم شهرية ولكنها لا تحتسب إلا ارباحاً وفائدة ولا تزال ذمته مشغولة بتمام مبلغ القرض فانه ينقم على آكل الربا والأطراف الأخرى من الشهود والكاتب وعلى النظام العام الذي أجاز وأشاع الربا.
وحينما يعلم أن القرآن والسنة يحرمان الربا فإنه يميل إلى الإسلام ويدرك بالفطرة أن الذي حرم الربا ونهى عنه لابد وانه هيء أسباباً من الرزق الحلال، بدل الربا واللجوء إليه.
فمن فلسفة حرمة الربا التوجه إلى الله تعالى في طلب الرزق الحلال وتهذيب المكاسب، وتنقية الأسواق، وطرد الشيطان وإبعاده عن النفوس، والإنتهاء من الربا كفاحشة ومعصية.
بحث بلاغي
ينقسم المؤنث إلى قسمين حقيقي وغير حقيقي، فالحقيقي لا تحذف تاء التأنيث من فعله إلا نادراً، وإثبات التاء فيه أولى من حذفها حتى في حال الفصل بين الفعل والفاعل المؤنث بكلمة أو كلمات، أما غير الحقيقي فالأحسن حذف تاء الفعل معه عند الفصل بكلمة أو كلمات ومنه هذه الآية، إذ ورد قوله تعالى [جَاءَهُ].
وورد بذكر التاء لعدم الفصل في قوله تعالى [قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، وذكر وجه آخر لحذف التاء في [جَاءَهُ] بانه من تذكير المؤنث على تأويله[فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ] ( )، أي وعظ والأول أرجح.
تفسير قوله تعالى[فَلَهُ مَا سَلَفَ]
مع التوبة والتدارك والإنابة تأتي المغفرة والقبول من الله تعالى وتلك حقيقة ثابتة في الإرادة التكوينية يعرفها الإنسان بفطرته وكأن المغفرة متدلية تحثه على إقتطافها ونيل إفاضاتها بالندم والتوبة، ولكن هذه الآية جاءت بأمر وهو الإذن والرخصة بما تقدم من المال.
وهل جاء مضافاً الى المغفرة أم أن الإنتهاء لا يقابله إلا ما سلف، لم تبين الآية هذا الأمر وهو من الإعجاز لما فيه من صيغة الإجمال، فمنهم من ينتهي قربة الى الله مع اداء العبادات والفرائض كمن أسلم وإمتنع عن الربا فلم يخالط إيمانه بظلم فيتداركه بالتوبة والمغفرة بنص الآيات القرآنية، ومنهم من يكف عن الربا لإعتبارات خاصة مع بقائه على الكفر فيكون الحكم منحصراً بالإذن له بما تقدم، وما سلف يحتمل أموراً:
الأول: مغفرة ما تــقدم من ذنــبه، ومعنى اللام هنــا شـبه التمليك فالله عز وجل يتفضل ويهب له ذنوبه أي يغفرها فلا يسئل عنها، وكأن إمتناعه عن الربا شفيع له في عدم مؤاخذته على الربا المتقدم وذنوبه الأخرى.
الثاني: ما تقدم من مزاولة الربا كفعل ومعصية.
الثالث: ما جمعه من الأموال بواسطة الربا والفوائد المحرمة على أصل المال.
والأقوى هو الثاني والثالث مجتمعين، وقد ورد قوله تعالى [عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ]( ).
وقال الزجاج: أي صفح له عما مضى من ذنبه من قبل نزول الآية، وهو كقوله [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ]( ) وهذا التأويل ضعيف لأنه قبل نزول الآية في التحريم لم يكن ذلك حراماً ولا ذنباً، فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع انه ما كان هناك ذنب، والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم ولأنه تعالى اضاف ذلك اليه بلام التمليك، وهو قوله [فَلَهُ مَا سَلَفَ] فكيف يكون ذلك ذنباً( ).
وكلا القولين يمكن مناقشتهما، فان الآية من سورة الأنفال أعلاه تتضمن ثلاثة امور:
الأول:ان متعلقها هو الذين كفروا.
الثاني: فيها نص صريح بالمغفرة.
الثالث:جاءت المغفرة فيها مطلقة فتشــمل الذنـوب جميعاً , أما الآية محل البحــث فان الأمر مردد بين عــدة وجوه، وظاهر الإنتهاء فيها خاص بالربا، وأكل الربا ذنب ومعصية وفق الشرائع السماوية قبل نزول القرآن بالإضافة إلى قبحه الذاتي لما فيه من الظلم والإستيلاء على أموال الناس بكيفية غير شرعية ومن غير عوض.
ويدل قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ) على الإطلاق الزماني لتشريع حلية البيع وحرمة الربا.
وظاهر الآية سقوط الضمان لما قبل التوبة ودخول الإسلام، وتمنع من الفتنة وطلب الناس إرجاع الأموال التي أخذت منهم بالربا في فترة التنزيل.
وما بعدها وعند الهداية العامة او الهداية والتوبة الخاصة، فاذا علموا بان آكل الربا انتهى وتاب الى الله فانهم يأتونه مطالبين بأموالهم ويعلقون صلاحه في نظرهم على إعادة اموالهم، فجاءت الآية لتسقط الضمان عنه، وتأمر في مفهومها بالكف عنه .
و(عن عمرو بن الأحوص . أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ،
ثم قال : أي يوم أحرم ، أي يوم أحرم ، أي يوم أحرم .
فقال الناس : يوم الحج الأكبر يا رسول الله .
قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ، ألا لا يجني جان إلا على نفسه ، ألا ولا يجني والد على ولده ولا ولد على والده ، إلا إن المسلم أخو المسلم فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه ، ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع ، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون غير ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ، وإن كل دم في الجاهلية موضوع وأول دم أضع من دم الجاهلية دم الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل ، ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك ، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً }( ) ألا وإن لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً.
فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ، وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)( ).
والآية تتضمن أحكاماً متعددة وهي:
الأولى : من أكل الربا في حال الكفر وقبل اسلامه له ما استحوذ عليه من مال الربا، وهذا يدل على ان المراد من الأكل في الآية هو الإستيلاء والقبض.
الثانية : المراد مما سلف أي مما تلف من مال الربا كالذي انفقه دون ما بقي في يده فيجب إرجاعه إلى أهله.
الثالثة : جميع أموال الربا بما فيها التي لا زالت بيد المقترض من رأس المال وما عليه من الفوائد وفق القواعد.
والأصح هو الوجه الأول فالآية تتعلق بما أخذه من مال الربا لأن (الإسلام يجب ما قبله)( )، وظاهر الآية لقاعدة منع الحرج ولعدم الإستصحاب القهقري للحكم.
أما لو كانت معاملة الربا جارية أثناء حال التوبة والإنتهاء كما لو كان اجل الدين لا يحل إلا بعد ثلاثة شهور، وعليه فائدة إضافية ثلاثون ديناراً مثلاً، وإستلم منها عشرة فهو على وجوه:
الأول : تحتسب العشرة من أصل الدين.
الثاني : يتم إستيفاء الثلاثين كاملة لأن العقد سابق التوبة والإنتهاء.
الثالثة : تكون العشرة المستلمة مما سلف وتسقط العشرين الباقية من الفائدة الفاسدة، ولا يأخذ إلا رأس المال.
الجواب هو الأخير لعمومات شمول الفائدة المقبوضة بالمغفرة وحصول الملكية، أما لو أراد أن يحتسبها من أصل الدين فهو الأحوط والأحسن.
ولو قيل: إذا كانت الأموال السابقة قبضت بمعاملة فاسدة، والأصل بقاؤها على ملك صاحبها، فلماذا لم ترجع له.
الجواب إن الكف عن الربا توبة وبداية، والجواب إن الحكم لسد الذرائع والزامهم بما كانوا يعملون ورجاء فضل الله تعالى في العوض والخلف للمؤمنين.
بالإضافة إلى عدم بلوغ الحجة والبينة على حرمة الربا، ويشمل الحكم الجاهل بتحريم الربا إذا لم يكن الجهل عن تقصير، بالإضافة إلى رد أمره إلى الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى[وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ]
تبعث الآية السكينة في النفس، والأمل بالتوبة والمغفرة ومع أن الحكم في الآية مركب من أمرين:
الأول: له ما تقدم من المال.
الثاني: رد أمره وما ينتظره إلى الله تعالى فقد ذكرت في الآية وجوه:
أولاً: تفويض أمره بعد مجيء الموعظة والتحريم والإنتهاء إلى الله تعالى ان شاء عصمه عن أكله وثبته في إنتهائه عنه، وإن شاء خذله.
ثانياً: إن شاء الله عفا عنه بفضله.
ثالثاً: أمره إلى الله فلا يؤاخذه بما سلف من الربا.
ولم يرد قوله تعالى[وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ] إلا في هذه الآية مع كثرة آيات التوبة والإنابة والمغفرة، مما يدل على قبح أكل الربا وأنه من الكبائر وبقاء اثره وضرره إلى ما بعد الكف عنه.
فمن الذنوب ما يتعلق بالشخص نفسه كتقصيره بالعبادات وإرتكابه لبعض الآثام الشخصية وفيها حق الله، وأخرى يكون تقصيره وذنبه أزاء ربه ونفسه والناس وحقوق الناس لا تغفر إلا أن يغفر أصحابها أو يغفر الله سبحانه وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر ، وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه( )، والربا من هذا القسم لما فيه من مخالفة للحكم الإلهي الثابت في الملل والأديان وظلم النفس بركوب المعصية وأكل المال الحرام ونمو اللحم والعظم منه للشخص نفسه وعياله، وهو ظلم للناس من وجوه:
الأول: أكل أموالهم بالباطل وبالعقد الفاسد.
الثاني: قطع طرق المعروف، لقانون الربا حاجز دون الصدقة والقرض والإحسان بين الناس.
الثالث: إشاعة المكاسب الخبيثة، وخلط الحلال والحرام.
الرابع: المفســدة النوعيــة، وشبهت بعض الأخبار الربا بأنــه أشد من الزنــا لبيان عن شــدة حــرمة الربا ولزوم الحــذر منه وإجتنابه.
الخامس: إحراج الناس في معايشــهم وأرزاقهم، وتحميلهــم هموماً إضــافية في الليــل والنهار بســبب الفائدة الباطلة على قرض الربا.
السادس: قيام المقترض بمضاعفة جهده في الكسب وسعيه في طلب الرزق ليدفع الفائض عن رأس المال ، وهذه المضاعفة في الجهد تسبب له:
الأولى : عناء شخصي.
الثانية : إنشغال عن العبادة.
الثالثة : التعرض للحرص والإبتلاء.
الرابعة : الأمراض النفســية والحزن والكــدورة التي قد تنعكس على صلاته.
السابع: الإنتهاء عن الربا لا يؤدي إلى إنهاء موضوعه من الأصل، لأن آثاره تتعدى المال الحرام فتشمل الأضرار العقائدية والإجتماعية والإقتصادية وتستمر آثاره كسبب مباشر الى ما بعد التوبة فلذا قال سبحانه [وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ].
والضمير في (أمره) راجع الى آكل الربا الذي إنتهى من أكله، والأمر بالإنتهاء لا يرجع على جميع التبعات التي سببها الربا، ولكن إرجاع امره إلى الله رحمة إضافية ووعــد كريم.
وتبين الآية أن موضوع الربا من الكلي المشــكك الذي له مراتــب متفاوتة في القــوة والضـعف والكثرة والقلة، والإتحاد والتعدد، فمنهم من قضى عمره بأكل الربا ولا يقرض الا المبالغ الطائلة ويقوم بالإستحواذ على الأملاك عند عجز المقترض عن دفع الفوائد وأصل المال معاً، ومنهم من يحمل المدان على ما لا يحمد عقباه، فهذه التبعات أمور إضافية واكثر الناس الذين وقع عليهم الظلم المركب من آكل الربا يضجون إلى الله بالدعاء ويلازمهم العناء والأذى لسنوات طوال ويؤثر سلباً على عوائلهم وذرياتهم.
قانون الربا ضرر نوعي
كم من أسرة أصابها الفقر وفقدت كل ما تملك بسبب وطأة شروط الربا واستنزافه للأموال والجهود، وهذا المعنى يبين عظيم فضل الله تعالى كما يؤكد ضرر الربا المتصل الشخصي والنوعي، ولا غرابة أن تجد النفوس تنفر منه ومن صاحبه، وتلك النفرة جزء من الفطرة الإنسانية التي هي عون ابتدائي للإستقامة والعفة والنزاهة وإجتناب الفواحش، قال تعالى[وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ]( ).
وفي الآية وجوه:
الأول : مواساة الذين نزل بهم أذى الربا.
الثاني : تدعو الآية الذي انتهى عن أكل الربا إلى الإستغناء والتدارك والتوجه إلى ضحايا الربا لمصالحتهم سواء على سبيل الإحتياط أو إعادة الحق والإنصاف، ومع هذا فالآية تفتح أبواب التوبة والإستغفار واللجوء إلى الله تعالى رجاء رحمته.
وتبعث الآية بالدلالة الإلتزامية السكينة في نفس الذي إنتهى عن الربا مع المفاسد التي أحدثها أكل الربا، لأن اخبار الله تعالى عن عائدية الأمر إليه عنوان للرأفة وقد سبقت رحمته غضبه.
(عن أبي هريرة قال : قال أعرابي يا رسول الله من يحاسب الخلق يوم القيامة ؟
قال : الله قال : الله ؟
قال : الله قال نجونا و رب الكعبة !
قال : و كيف يا أعرابي.
قال : لأن الكريم إذا قدر عفا) ( ) لأن الله عز وجل رؤوف بالعباد.
وهذه الآية في إخبارها عن عودة شأن آكل الربا إلى الله تعالى رحمة ورأفة.
ومن النكات العرفانية في الآية أن الله عز وجل وحده إختص باعطاء الزيــادة وأنه يريد لآكل الربا أن لا يأخذ الزيادة إلا من عند الله تعالى لأنها تشـــمل الدنيا والآخــرة وهي إحسان محض، ويريد للمدان ان لا يعطي زيادة على القــرض ويتطلع بدله إلى اخذ الزيادة منه تعالى قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( ).
فكما أن الإلحاح في المسألة إلى الناس مبغوض، والإلحاح بالمسألة إلى الله محبوب عندما يكون بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى، فكذا الفيض والزيادة الكــريمـــة فهــي خاصــة به تـعالى وبما يكـــون بقصــد القربة إليه.
بحث أصولي
يبحث في علم الأصول في الأمر كونه من مباحث أصل الظهور واثباته وحجته، وذكرت لمادة الأمر معان عديدة ومن معانيها:
الأول : الطلب والمسألة وهو الذي يجمع على أوامر ، قال تعالى [وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ..] ( ) وهو موضوع البحث الأصولي، والطلب متعدد يشمل الطلب الوجودي والندبي والطلب العبادي والطلب بين العالي والداني من الناس.
الثاني : الأمر وهو الشيء: ويجمع على أمور ومنه [وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ]( )، ويراد منه الذوات والجواهر، ويشمل الصفات كالحسن والقبح، والملكات كالعلم والكرم، والافعال كالأكل والشرب، والاعيان كالشجر والماء فنقول: حدث أمر عجيب، أي شئ عجيب.
الثالث : الفعل مطلقاَ او الفعل العجيب خاصة.
الرابع : الشأن والموضوع.
الخامس : الحادثة والواقعة.
السادس : الغرض كما تقول جئت لامر كذا، وهذه المعاني متداخلة فيما بينها بالذات.
ويتقارب فيها المصداق والمفهوم وقد وقع الخلاف في تعدد معاني مادة الأمر هل هو من المشترك اللفظي ام من المشترك المعنوي، ومنهم من جعل الإشتراك اللفظي بين الأمر بمعنى الطلب وبين معنى الشأن لما يقال شغله أمر كذا، لتبادر كل منهما من اللفظ، واشكل عليه بان لفظ الأمر لم يستعمل في مفهوم الشأن حتى يعتبر من معانيه بل استعمل في مصداقه، أي ليس الشأن من المعاني الحقيقية للأمر، والأقوى ان الشأن من معاني الأمر، وان قياس الألفاظ لا يؤخذ بالدقة والتحليل العقلي كما في باب الفصل والجنس
وانه من المشترك اللفظي والمعنوي بحسب اللحاظ ومفردات معانيه، فالأمر تارة يكون انشائياً كما في الطلب، وتارة يكون خبرياً كما في الشأن والحادثة الا انه يدل على مفهوم عام وعنوان جامع لمعانيه التي يجمعها، وقولك (جئت لغرض كذا) يفهم الغرض والغاية من اللام، والمراد من لفظ (أمره) الوارد في الآية الكريمة شأنه وحكمه.
تفسير قوله تعالى[وَمَنْ عَادَ]
في الآية انذار وتحذير من العودة الى الربا وفيها شائبة الاستثناء المحتمل، وكأنها تقول ومن عاد الى اكل الربا من الذين انتهوا عنه، وفيها بشارة استيعاب التوبة لاكثر الذين ينتهون عن الربا او قل جميعهم باعتبار ان الجملة الشرطية اعم من الفعل، والامكان اعم من الحدوث، فليس كل ماهو ممكن حادثاَ كما ان هذه الآية تقطع الطريق على الذين تحثهم النفس الشهوية بالعودة الى الربا أو الإبتداء بالربا وامتهانه لما فيها من صيغة الوعيد والتخويف.
ومن الاعجاز ان هذه الآية تثبيت لاهل التوبة والصلاح وقد يكون الانتهاء لاسباب شخصية وليس عن قصد القربة كما لو اراد ابدال مهنته وفضل البيع والشراء بحسب الشأن والحال، وان كان قد انتهى بالموعظة الالهية للفرق بين السبب والغاية.
فهذه الآية عون له على عدم الرجوع الى الربا وتجعله يفضل البقاء بعيداَ عنه لامرين:
الأول: الانتفاع من العفو الالهي عند الانتهاء.
الثاني: الخوف من العقوبة والعذاب الذي تنذر به هذه الآية.
ومن بركات هذه الآية ان طرفا الامل والخوف يعملان مجتمعين ومتفرقين على منع الانسان من العودة الى الربا، ولتصبح عنده ملكة اجتناب ظلم الناس، واكل المال بالباطل.
والعودة المذكورة في الآية تحتمل اموراَ:
الأولى : أكل الربا، لانه استحواذ على اموال الآخرين بالباطل.
الثانية : القول بان البيع مثل الربا.
الثالثة : الفعل والقول معاَ، بمعنى اكل الربا والقول بالتساوي والمثلية بينه وبين البيع.
الرابعة : العودة الى أي من الامرين، اكل الربا، او القول بالتساوي بينه وبين البيع، لانه مخالفة التشريع وافشاء الفاحشة.
والوعيد الوارد في الآية يتعلق بالعودة الى اكل الربــا بقرينة قولــه تعالى [فَلَهُ مَا سَلَفَ] وان كان المـراد من الانتهاء العنوان الجامع لاكــل مال الربا والقول بالتساوي بينه وبين البيع، وهذا لا يعني نجاة الذي لم يعد الى اكل الربا وممن يرجع الى القول بالتساوي بينهما ويتجاهــر بقوله، فقد ينال مثل عقوبة الذي يعود للربا أو اشد أو أخف منه بحســب نوع القــول والافتراء فيه وأثره في الناس ، ولكن القدر المتيقن من العــودة في الآيــة هي أكل الربا، كما ان القول بأكل الربا ليس له أثر فعلي الا بالتسبب باشاعته وخلط الحق بالباطل ودس مفاهيم الربا في عقود البيع وقواعد الشراء واعراف المعاملات.
وقد ورد الفعل(عاد) في القرآن ثلاث مرات، في هذه الآية، وفي ســورة يس في موضــوع القمر وجريانه ، وفي قتــل الذي احرم للحج صيداَ متعمداَ وكفارته، قال تعالى[أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ]( ).
فالآية تبين ان تعلق موضوع العودة بالصيد والفعل وليس بالقول وان كان لا يصلح للقياس لوجود الفارق الا انها تلحق بالقرائن المؤيدة.
ويشمل قوله تعالى [وَمَنْ عَادَ] الذي يبدأ بمعاملات ربوية ، لأن أحكام القرآن متجددة وغضة طرية إلى يوم القيامة.
قوله تعالى [فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]
الآية حكم سماوي يتضمن الوعيد بالنار لمن رجع الى مزاولة الربا وأكل المال بالفائدة على القرض بعد ان جاءته موعظة واهتدى وانتهى عن الربا بعد قيام الحجة عليه بحرمة الربا واضراره.
والآية لا تنفي ذات العاقبة والعذاب عمن ظل منقطعاً الى الربا لم يلتفت الى حرمته ولم ينته مع مجيء الموعظة ومعرفته بلزوم الكف والإنتهاء عنه بل ان ذات العقوبة تشمله لوحدة الموضوع في تنقيح المناط بل انه استمر على الربا مع الإصرار فبعد ان كان جاهلاً بالحرمة، اصبح مستحلاً له مع علمه بالنهي عنه، والذنب الصغير مع الإصرار يصبح كبيرة فكيف بالكبيرة مع الإصرار عليها، ولأن ذمهم ورد في اول الآية بالإضافة الى الآيات الأخرى التي تنهى عن الربا.
و(اولئك) اسم اشارة للبعيد جاءت للتكبيت والتوبيخ لآكلي الربا، وجعل النفوس تنفر منهم ومن فعلهم، فهذه النفرة سبب في الإبتعاد عنهم وعن الربا، فان اجتنابهم له منافع عديدة منها:
الأول : عدم ولوج المعاملات الربوية والتقليل من المقترض والشاهد والكاتب في باب الربا، فيعرض آكل الربا امواله ويضع التسهيلات فلا يجد من يأتيه.
الثاني : شعور آكل الربا بالوحدة والعزلة وهو عقاب آني لإتيان الربا.
الثالث : ترسيخ حرمة الربا في المجتمع وبين الناس فقد يمتنع عن الربا ولكن يأتي ابنه او جاره لمزاولته، اما لو كان الإمتناع مقروناً بالقصد وارادة التنزه والإمتثال لأمر الله تعالى باجتناب الربا فانه يكون مدرسة وعبرة.
الآية دعوة الى اسداء المعروف وتيسير القرض وعدم فساد الأموال، وفي حديث الإسراء قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “ثم مضيت فاذا انا باقوام يريد احدهم ان يقوم فلا يقدر من عظم بطنه فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ]( ) واذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً يقولون ربنا متى تقوم الساعة.
وقال ثم رأيت رجالاً لهم بطون لم أر مثلهم قط يعرضون على النار لا يستطيعون ان يتحولوا من مكانهم ذلك فقلت يا جبريل من هؤلاء فقال هؤلاء أكلة الربا.
ويبين الحديث ومناسبة ذكره في ابتداء حديث الإسراء كيف ان اهل الربا هم اول الناس الذين اطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حالهم والعذاب الذي هم فيه .
فالربا محرم بالقرآن والسنة والإجماع، والنصوص متواترة على النهي والزجر عنه والاخبار عن عاقبة السوء التي تنتظر صاحبه.
والربا في الإصطلاح هو الإقراض مع شرط الزيادة للمقرض سواء كانت الزيادة عينية كما لو اقرضه مائة دينار واشترط ان يؤدي مائة وعشرين ، او كانت عملاً كخياطة ثوب، او منفعة كسكن الدار مجاناً، او صفة بان يقرضه حنطة رديئة على ان يؤدي حنطة جيدة، وحرمــة الربا مطلقــة في حــال الإختيار اوالإضطرار.
وخاتمة الآية وما فيها من الوعيد موعظة وجهاد قرآني مستديم للتخلص من الربا، فما عليه المسلمون من التنزه من الربا يتجلى ببركة القرآن ومشاركته اليومية في اصلاح المجتمعات ومنع الظلم وما يؤدي اليه الربا من الآفات المهلكة، وبينت الآية استحقاق آكل مال الربا للعقاب بعد الإنذار والموعظة والنصح واقامة تمام الحجة عليه وترغيبه بالتجارة وما فيها من الكسب الحلال والوئام، ولغة الوعيد هذه تدل في مفهومها على الدعوة للإسلام.
لما في الآية من الترغيب بالتوبة وترك مزاولة الربا لكي يكون هذا الترك مقدمة لإتيان العبادات واعانة الفقراء ودرء اسباب الخصومة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بيان رقم : 53
إلى/ أرباب الحقوق الشرعية
م/ اقتناء التفسير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله المتعالي في جبروته وسلطانه عن مدارك الأوهام، والمتسامي بكماله وعلو مقامه عن الشــبه وأمثلــة الأنام .
الدائم السرمدي الذي لا تحده الأيام، المتفضل بالمن والإحسان وتوالي الأنعام الذي يعشق ذكره ومدحه ذوو النهى والأحلام.
وتفضل بالقرآن هادياً ونوراً واماماً، يتيه برياض كنوزه العلماء الأعلام شكر الله سعيهم، واجــزل من فضله مثوبتهــم، وأهّلنا بجــوده لإقتفــاء آثارهـم .
فكان معالم الإيمان في تفسير القرآن أحسن تفسير للقرآن في تأريخ الإسلام هبة من الكريم العلاّم الذي [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
فيرجى من كل مسلم ومسلمة ممن تعلق بذمتهم الحق الشرعي المنظر في شراء اجزائه المتيسرة من الزكاة او الخمس ويكون مبلغ شراء هديته مبرءً للذمة بمقداره، سواء كان الشراء للذات او للغير وهو من الإنفاق المعوض والمبارك، وفي اقتنائه الخير والنماء والفيض ونشر علوم القرآن ودعوة للنهج القويم لما فيه من العلوم والمعارف الإلهية والمطالب والتحقيقات الجديدة بعيداً عن الطائفية والإساءة لفرق المسلمين.
لأن القرآن مائدة السماء في الأرض وخزائنه من الكلي الطبيعي لكل مسلم حصة فيها وتشمله خطاباته ويجب عليه تعاهده وحفظه ، ويتعلق استحباب الشراء بدورة كاملة وكلما طبعت اجزاء جديدة منه أو أجزاء متفرقة .
وفتوى استحباب شراء التفسير تعيين لاستحقاق مقدار قليل من الخمس او الزكاة سهم (في سبيل الله) قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ) إكراما لعلوم التفسير والتأويل وافاضة قرآنية تدخل البيوت، وتكون نواة مكتبة اسلامية خاصة , واستثماراً للحق الشرعي.
ولا بأس بالدراسة والمقارنة بأخذ تفسير بعض الآيات من أي من التفاسير مع ما ورد في تفسيرنا في طبعته الأخيرة 1444هـ، و مع التباين في المستوى التعليمي والتحصيل يبدو للجميع المنافع والفوائد في كل منها وما انعم الله عز وجل علينا وعليكم به، وتبقى هذه الفتوى نافذة الى حين ظهور تفسير افضل منه بالبينة والمعرفة الشخصية، وليس بالإعلام والشهرة التي لا أصل لها.
ومن يثبت عنده بمقارنة تفسير بعض الآيات ان تفسيراً ما أحسن من تفسيرنا اليوم او غداً فهو حل مما في هذه الفتوى، بشرط ان يقارن بنفسه بين تفسيرنا والتفاسير الأخرى مصابيح الإستبصار متعلماً كان او ليس متعلم، ذكراً او انثى لأن تفسيرنا بفضل الله تعالى بالنسبة للتفاسير الأخرى كالقمر بين النجوم , وقديماَ قيل كم ترك الأول للآخر , خصوصاَ في علوم القرآن لأن كل آية خزينة لا تنفد من العلوم .
وكذا بالنسبة للجمع بين آيتين من آيات القرآن وقد صدرت أجزاء من هذا التفسير بخصوص هذا العلم وهي :
الأول : الجزء الرابع والثمانون .
الثاني : الجزء الخامس والثمانون .
الثالث : الجزء السادس والثمانون .
الرابع : الجزء السابع والثمانون .
الخامس : الجزء الثامن والثمانون .
السادس : الجزء الثالث والتسعون .
السابع : الجزء العشرون بعد المائة .
التاسع : الجزء الثاني والعشرون بعد المائة .
العاشر : الجزء الخامس والعشرون بعد المائة .
الحادي عشر : الجزء الرابع والأربعون بعد المائة .
الثاني عشر : الجزء السادس والثمانون بعد المائة .
وندعو المؤسسات التعليمية والمكتبات العامة الى النظر في اقتنائه تعظيماً لشعائر الله واحياء لعلوم القرآن، ونحث على ترجمته الى اللغات الأخرى وطبعه بعد حصول الإذن منا مع عرضه والملازمة بين استحباب شرائه من الخمس والزكاة سهم في سبيل الله وعدم الزيادة الفاحشة في السعر، وموضوعية قاعدة لا ضرر ولا ضرار , ونفي الحرج في الدين، ومقدمات رواج المفاهيم والقيم الربانية.
ويجزي لمن يتخذ المكتبة الرقمية وسيلة ومادة للقرآن حيازة سيدي (قرص مضغوط ) منه , قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ).
ونرجو من عشاق القرآن وطلاب المعرفة المبادرة لحيازة التفسير, والإطلاع عليه نصرة للتنزيل في زمن العولمة والثورة المعلوماتية , والتدبر بما ما فيه من التقريرات المقبولة عند الأسماع , والعبارات المناسبة لمختلف الطباع، والتي تتضمن جلاءً مستحدثاً لجزء من أنوار آيات القرآن ومعانيها البديعـة وفلسـفة تفســير وتعضيد بعض آياته لبعضها الآخر.
وعدد أجزائه التي صدرت إلى الآن (247) جزء ولا زلت في سورة آل عمران .
ومن فضل الله عز وجل أن قانون الإنفاق في سبيل الله عز وجل باب لمضاعفة الرزق والأجر والثواب يوم القيامــة لأن الله عز وجل اذا أعطــى يعطي بالأوفى والأعم , ويجازي بالأحسن والأتم [وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ).
والأجزاء هي :
الجزء الأول : تفسير سورة الفاتحة .
الجزء الثاني : تفسير سورة البقرة الآيات 1-9.
الجزء الثالث : تفسير سورة البقرة الآيات10-20 .
الجزء الرابع : تفسير سورة البقرة الآيات 21 -28 .
الجزء الخامس : دراسات قرآنية .
الجزء السادس : دراسات قرآنية .
الجزء السابع : تفسير سورة البقرة الآيات 29-34 .
الجزء الثامن : تفسير سورة البقرة الآيات 35-40 .
الجزء التاسع : تفسير سورة البقرة الآيات 41-45 .
الجزء العاشر : تفسير سورة البقرة الآيات 46-54 .
الجزء الحادي عشر : تفسير سورة البقرة الآيات 55-61 .
الجزء الثاني عشر : تفسير سورة البقرة الآيات 62-68 .
الجزء الثالث عشر : تفسير سورة البقرة الآيات 69-78 .
الجزء الرابع عشر : تفسير سورة البقرة الآيات 79-86 .
الجزء الخامس عشر : تفسير سورة البقرة الآيات 87-92 .
الجزء السادس عشر : تفسير سورة البقرة الآيات 93-100 .
الجزء السابع عشر : تفسير سورة البقرة الآيات 101-105 .
الجزء الثامن عشر : تفسير سورة البقرة الآيات 106-110 .
الجزء التاسع عشر : مفاهيم قرآنية .
الجزء العشرون : مفاهيم قرآنية .
الجزء الواحد والعشرون : تفسير سورة البقرة الآيات 111-119.
الجزء الثاني والعشرون : تفسير سورة البقرة الآيات 120-126.
الجزء الثالث والعشرون : تفسير سورة البقرة الآيات 127-133.
الجزء الرابع والعشرون : تفسير سورة البقرة الآيات 134-142.
الجزء الخامس والعشرون : تفسير سورة البقرة الآيات 143-149.
الجزء السادس والعشرون : تفسير سورة البقرة الآيات 150-157.
الجزء السابع والعشرون : تفسير سورة البقرة الآيات 158-164.
الجزء الثامن والعشرون : تفسير سورة البقرة الآيات 165-173.
الجزء التاسع والعشرون : تفسير سورة البقرة الآيات 174-177.
الجزء الثلاثون : تفسير سورة البقرة الآيات 178-182.
الجزء الواحد والثلاثون : تفسير سورة البقرة الآيات 183-185.
الجزء الثاني والثلاثون : تفسير سورة البقرة الآيات 185-186.
الجزء الثالث والثلاثون : تفسير سورة البقرة الآيات 187-190.
الجزء الرابع والثلاثون : تفسير سورة البقرة الآيات 191-195.
الجزء الخامس والثلاثون : تفسير سورة البقرة الآيات 196-198.
الجزء السادس والثلاثون : تفسير سورة البقرة الآيات 199-205.
الجزء السابع والثلاثون : تفسير سورة البقرة الآيات 206-210.
الجزء الثامن والثلاثون : تفسير سورة البقرة الآيات 211-215.
الجزء التاسع والثلاثون : تفسير سورة البقرة الآيات 216-219.
الجزء الأربعون : تفسير سورة البقرة الآيات 220-227.
الجزء الواحد والأربعون : تفسير سورة البقرة الآيات 228-235.
الجزء الثاني والأربعون : تفسير سورة البقرة الآيات 236-249.
الجزء الثالث والأربعون : تفسير سورة البقرة الآيات 250-257.
الجزء الرابع والأربعون : تفسير سورة البقرة الآيات 258-261.
الجزء الخامس والأربعون : تفسير سورة البقرة الآيات 262-268.
الجزء السادس والأربعون : تفسير سورة البقرة الآيات 269-273.
الجزء السابع والأربعون : تفسير سورة البقرة الآيات 274-275.
الجزء الثامن والأربعون : تفسير سورة البقرة الآيات 276-281
الجزء التاسع والأربعون : تفسير سورة البقرة الآيات 282.
الجزء الخمسون : تفسير سورة البقرة الآيات 283-286
**
ردود كريمة على بعض الأجزاء الأخيرة من هذا السِفر المبارك
1- سماحة الإمام شيخ الأزهر.
2- سماحة العلامة الشيخ أ.د. مفتي جمهورية مصر العربية.
3- الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي.
4- سيادة رئيس مجلس القضاء الأعلى/ العراق
5- سيادة مستشار الأمن القومي السيد قاسم الأعرجي
6- سيادة رئيس المحكمة الاتحادية العليا .
7- سيادة القاضي رئيس الادعاء العام .
8- الأمين العام لإتحاد المؤرخين العرب.
9- سعادة أ.د .رئيس جامعة دمشق .
10- سعادة أ.د .رئيس جامعة ديالى .
11- سعادة أ.د. مدير جامعة الملك فيصل/ المملكة العربية السعودية
12- سعادة أ.د. مدير جامعة كردفان/ الجمهورية السودانية.
13- سعادة أ.د. مدير الجامعة الإسلامية/ المدينة المنورة.
14- سعادة أ.د. رئيس الجامعة العراقية.
15- سعادة أ.د. رئيس جامعة البصرة / العراق.
16- سعادة أ.د. رئيس جامعة القادسية / العراق.
17- سعادة أ.د. رئيس جامعة جدارا/ المملكة الأردنية الهاشمية.
18- كلية الإمام الاوزاعي للدراسات الإسلامية/ بيروت.
19- سعادة أ.د.مدير جامعة الأمير عبد القادر/ الجمهورية الجزائرية
السيد صاحب الفضيلة المرجع الديني الشيخ/صالح الطائي
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد،…..
فلقد تلقيت بحمد الله رسالتكم الرقيقة وبها الجزء الحادي والخمسون في تفسير آية واحدة من سورة آل عمران من القرآن الكريم.
نتضرع إلى الله العلي القدير أن يلهمكم العلم النافع وان يجعله في ميزان حسناتكم.
وشكر الله لكم حسن عملكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المرجع الديني الشيخ/صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن وأستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…وبعد،
فإنه ليسعدني أن أتقدم لسيادتكم بخالص الشكر والتقدير والإحترام على تفضلكم بإهدائنا نسخة من من الجزء الثاني والثمانين.
وأتمنى من الله أن يديم عليكم نعمة الصحة والعافية وأن يسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنه وان يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
شاكرين لكم، ولكم تحياتي
سماحة المرجع الديني الشيخ صالح الطائي حفظه الله ورعاه
صاحب أحسن تفسير للقرآن الكريم
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…وبعد,
فقد تسلمنا بيد الشكر والتقدير نسخة من كتاب”معالم الإيمان في تفسير القرآن” الجزء التسعون-الآية 134 من سورة آل عمران، والذي تفضلتم بإهدائه إلى معالي البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلي، الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، ويشرفنا أن نتقدم إليكم بجزيل شكرنا على جهودكم المتواصلة لتفسير أي الذكر الحكيم، فجزاكم الله عنا خير الجزاء وبارك فيكم وفيما تقومون به من جهد مبارك خدمة للإسلام والمسلمين.
وتفضلوا بقبول وافر الشكر والتقدير.
سماحة الشيخ صالح الطائي “المحترم”
تحية طيبة
إشارة إلى كتابكم المرقم(7285/17) المؤرخ في 17/12/2017.
تلقينا ببالغ الإعتزاز إهدائكم نسخة من كتابكم الموسوم(معالم الإيمان في تفسير القرآن) الجزء التاسع والخمسين بعد المائة، نقدم شكرنا وتقديرنا متمنين لكم دوام الموفقية.
مع التقدير
السلام عليك عليكم ورحمة الله وبركاته
ببالغ الإمتنان والغبطة تلقينا هديتكم الكريمة (الجزء السادس عشر بعد المائتين ) من التفسير المبارك شاكرين حسن معالجتكم لهذا الموضوع المهم ونشد على عضدكم لتقدموا للأمة كل ما ينفعهم وينير بصيرتهم ويجلي الرين عن قلوبهم ليفهموا كتاب الله كما أراد سبحانه أن يفهموه ويعملوا بأحكامه ليكون لهم في الدنيا , مرشداً وفي الآخرة شفيعاً . ونضع أنفسنا وامكاناتنا لخدمة هذا المجهود المبارك سائلين المولى القدير أن يوفقكم لكل خير .
المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم
تحية طيبة
تلقينا ببالغ الاعتزاز إهداءكم القيم (الجزء الرابع والثلاثون بعد المائتين ) من تفسيركم للقرآن, وهو بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) .
ونقدم شكرنا وتقديرنا .
مكتب المرجع الديني
الشيخ صالح الطائي
م/شكر
تحية طيبة
كتابكم ذي العدد 23/19 المؤرخ في 2/1/2019.
استلمنا هديتكم (الجزء الخامس والسبعين بعد المائة من تفسير القرآن الكريم) ونقدم لكم شكرنا آملين منكم المزيد من العطاء والتوفيق.
مع التقديــــر.
إلى/ سماحة المرجع الديني للمسلمين الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
م/شكر وتقدير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
وأسال الله تعالى أن يوفقكم ويحفظكم ويرعاكم أنه سميع مجيب الدعاء
تسلمت مع بالغ الشكر والتقدير والإمتنان والإعتزاز اهداءكم لنا الجزء الواحد والثلاثين بعد المائتين من تفسيركم للقرآن وهو بعنوان (آيات السلم محكمة غير منسوخة ) ، وأن هذا الإنجاز يعبر عن مستوى ما متعكم به الله تعالى من امكانات متميزة في الإبداع الفكري والعلمي في مجال تفسيركم للقرآن الكريم ، ولم اقرأ أو اسمع أن هنالك منجزاً في تفسير القرآن العظيم بمثل ما قدمتموه ، وأني لاعجز عن التعبير عن مدى اعجابي واحترامي وتقديري لما حباكم به الله تعالى من امكانية علمية فريدة ومتميزة .
داعياً الله تعالى لكم بموفور الصحة والسعادة والأجر الفضيل من أجل تقديم المزيد من العطاء لخدمة الإسلام والمسلمين في زمن شح به العطاء والإنتاج الفكري الإسلامي ، دعائي من الله تعالى لكم بمزيد من الصحة والعافية ومزيد من الإنتاج الرائع المتميز .
وسلامي للعائلة العزيزة جميعاً الذين وفروا لك أجواء هذا العمل العلمي المتميز وجزاهم الله خير الجزاء ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
سماحة المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب احسن تفسير للقرآن
أستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
أتقدم اليكم بجزيل الشكر والتقدير لهديتكم القيمة الجزء الحادي عشر بعد المائتين الخاص بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
وأتمنى من الله أن يديم عليكم نعمة الصحة والعافية والمزيد من النجاح والتوفيق ، نبارك لكم جهودكم ونقدر لكم هذا الإهداء…
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته …
تلقينا بكل تقدير وإمتنان إهدائكم نسخة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) الجزء السادس بعد المائتين ، ونتقدم بخالص الشكر والعرفان على هذا الاهداء ، لأدعو الله العلي القدير أن يمدكم بعونه وتوفيقه ، وان يسدد خطاكم ويكلل أعمالكم بالنجاح أنه سميع مجيب
فضيلة الشيخ/ صالح الطائي الموقر
مكتب المرجع الديني وصاحب أحسن تفسير للقرآن
وأستاذ الفقه والأصول والتفسير والأخلاق
ص.ب -21168 مملكة البحرين
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد
تلقيت بكل الثناء والتقدير خطاب فضيلتكم رقم 1861/16 وتأريخ 20/5/2016م المرفق طيه نسخة من كتاب بعنوان “معالم الإيمان في تفسير القرآن ” الجزء الثاني والثلاثين بعد المائة.
يطيب لي ويسعدني أشكر فضيلتكم جزيل الشكر على إهتمامكم المتواصل بتزويد إدارة الجامعة بهذه النسخة ، وستحال إلى مكتبة الجامعة للإطلاع عليها، سائلاً المولى جلت قدرته للجميع التوفيق والسداد.
وتقبلوا خالص تحياتي وتقديري،،،
السادة/ مكتب المرجع الديني
الشيخ صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تهديكم جامعة كردفان أطيب التحايا ، وتغمرنا السعادة بالإصدارات التي تتوالى إلينا بإنتظام من مكتب المرجع الديني في (معالم الإيمان في تفسير القرآن) والذي كان آخر هذه الإصدارات (الجزء السادس والثلاثين بعد المائة) والذي تشرفنا بإستلامه بموجب خطابكم رقم 1535/16 الصادر في 13/7/2016م، وذلك إثراءاً للمعرفة في مجال تفسير آيات القرآن، خدمة للباحثين والمهتمين بأمر التفسير القرآني، والتي أضحت متاحة في الأقسام المختصة بالمكتبات الأكاديمية في الجامعات ومراكز البحوث وجامعة كردفان تحظى بأعداد وافرة منها في مكتبها المركزية.
ختاماً لكم الشكر والعرفان على هذا الصنيع، نفعنا الله به، وأثابكم عليه خير الجزاء .
وتفضلوا بقبول فائق عبارات التقدير والإحترام
معالي الشيخ/ صالح الطائي سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،، وبعد
فأسال الله لمعاليكم العون والتوفيق، ويسرني إفادتكم بأني تلقيت بكل تقدير وإمتنان إهداءكم للجامعة نسخة من الجزء التاسع بعد المائة من(معالم الإيمان في تفسير القرآن).
وإنني إذ أتقدم لمعاليكم بخالص الشكر والعرفان على هذا الإهداء، لأدعو الله العلي القدير أن يمدكم بعونه وتوفيقه، وأن يسدد خطاكم ويكلل أعمالكم بالنجاح إنه سميع مجيب يحفظكم الله ويرعاكم.
ولكم تحياتي وتقديري
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
تحية طيبة…
نشكر مبادرتكم الطيبة بإهدائكم لنا نسخة من كتابكم الموسوم الجزء الثلاثون بعد المائة من(معالم الإيمان في تفسير القرآن) سائلين الباري عز وجل أن يوفقكم في مسيرتكم العلمية والعملية خدمة لبلدنا العزيز.
ومن الله التوفيق…
الشيخ محمد الشيخ صالح الطائي المحترم
مدير مكتب المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ صالح الطائي المحترم
نهديكم أطيب التحيات …
نتقدم بأجمل عبارات الشكر والتقدير على جهودكم المبذولة في إهدائكم إيانا نسخة من كتابكم (معالم الإيمان في تفسير القرآن/ الجزء الواحد بعد المائة) ….. متمنين لكم المزيد من التقدم والنجاح.
تفضلوا بقبول وافر الاحترام …
إلى / مكتب المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
تحية طيبة …
تسلمنا ببالغ الشكر والتقدير الجزء السابع بعد المائة من التفسير وهو القسم الأول من تفسير(أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس) شاكرين لكم اهداءكم متمنين لكم مزيداً من الإرتقاء والأزدهار والتطور.
…مع التقدير
سيادة الأخ الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن الكريم
وأستاذ الفقه والأصول والأخلاق
بكل فخر وإعتزاز تلقيت رسالتكم الموقرة التي تحمل العدد (532) تأريخ 26/5/2012م، ومرفقها الجزء التسعون من التفسير في الآية(133) من سورة آل عمران.
وانني إذ أشكركم جزيل الشكر وعظيم الإمتنان على اهدائكم هذا، سائلاً المولى عز وجل أن يديم عليكم نعمة الصحة والعافية، وأن يجعلكم سنداً وذخراً للأمة الأسلامية متمنياً لكم كل التقدم والإزدهار.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بيروت في 9/ربيع الأول/1440هــ
الموافق 24/11/2018م
سماحة المرجع الديني الشيخ صالح الطائي المحترم
صاحب أحسن تفسير للقرآن
مكتب المرجع الديني الشيخ صالح الطائي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تتقدم كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية بأطيب تمنياتها، وتشكركم على الجزء(171) الذي وصلنا من جانبكم من كتاب: “معالم الإيمان في تفسير القرآن” والذي يتضمن قراءة في آيتين من القرآن بما يدل على أن النبي(ص) كان لا يسعى إلى الغزو ولم يقصده ولم يدع إليه.
آملين الإستمرار في إرسال الأجزاء التي ستصدر منها مستقبلا، شاكرين لكم حسن تعاونكم الدائم معنا وداعين الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما فيه خير الإسلام والمسلمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إلى السيد المحترم/الشيخ صالح الطائي
صاحب أحسن تفسير للقرآن
مكتب المرجع الديني
تحية طيبة وبعد :
تلقينا نحن أ.د/ عبدالله بو خلخال مدير جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية قسنطينة، هديتكم القيمة المتمثلة في كتاب(معالم الإيمان في تفسير القرآن) الجزء الثالث عشر بعد المائة.
وإذ نعبر لكم عن شكرنا على هذه الإلتفاتة الكريمة، نهديكم نحن بدورنا نسخة من مجلة الجامعة العدد 33 ونسخة من نشرية أخبار الجامعة.
تقبلوا فائق الإحترام والتقدير.