معالم الايمان في تفسير القرآن – سورة البقرة – ج 51

سْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدمة

الحمد لله الذي ختم النبوة برسوله الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وجعل القرآن تبياناً لكل شيء وتفضل بسورة البقرة أكبر وأعظم السور القرآنية لما فيها من الأحكام والمبادئ والسنن .
وتفسيرها رحلة في عالم الشهود وفيه اشراقات ملكوتية بأنوار المعارف القرآنية، تتجلى فيها الحكمة والبرهان والمكاشفة والعرفان، لذا ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنصوص عديدة فضلها ونفعها والثواب في تلاوتها .
وتأخذ السورة المباركة بيد من يتلوها الى كنوز السماوات، وتجعله يسبح في رحاب الملكوت خصوصاً وان خواتيمها نزلت من تحت العرش لوجوه :
الأول : تشريفاً القرآن .
الثاني : توكيد نزوله من عند الله تعالى .
الثالث : اكرام المسلمين .
الرابع : انه مناسبة للإرتقاء في مراتب الصلاح والتقوى .
الخامس : الإقتباس من أنوارها واكتناز مضامين التقوى للدنو من مراتب الكمال الإنساني والوصول الى حضرة القدس.
وهذا هو الجـزء الواحد الخمسون مــن معالم الإيمان , ويتضمن تفسيراً للآيات الأربعة الأخيرة من ســورة البقرة في ثورة لم يشـهدها تأريخ العلم والتفسير عشقاً للمعبود، واظهاراً لعظيم فضله ولطفه واحسانه تعالى، وحجة في لزوم استنباط علوم القرآن واستخراج جواهره ودرره التي لم يستظهر معشارها، وهو شاهد عقلي وحسي حاضر على قانون الإعجاز الدائم والمتجدد للقرآن وستأتي أجزاء متعددة في تفسير آية واحدة ، كما في الأجزاء (89- 90- 91- 92 ) التي تختص بالآية الكريمة [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )
والأجزاء في الآية الكريمة ، [لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي].

قوله تعالى[وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ] الآية 283

القراءة والاعراب واللغة
قرا ابو عمرو وابن كثير: فرهن مقبوضة، بضم الراء والهاء.
وكان ابو عمرو يقول: لا اعرف الرهان الا في الخيل، ولكن استعمال الرهان في الخيل لايعني حصر الاستعمال فيه، المراهنة والرهان يردان في الخيل والمعنى اللغوي اعم.
وقرأ نافع وعاصم وابو جعفر فرهان وهو المرسوم في المصاحف، وهو مثل ثمر، بضم الثاء والميم، جمع ثمار، وعن عكرمة انه قرأ (فان لم تجدوا كتاباً) ( ). أي الواو بالفاء، والكاتب الكتاب، وفي الكشاف (وقرئ قلبه بالنصب كقوله لغة نفسه، وقرأ ابن ابي عبلة أثم قلبه: أي جعله آثما) ( ).
[وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ] الواو: استئنافية، ان: حرف شرط جازم، كنتم: فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمها، والميم علامة جمع الذكور المتصلة بالضمير، على سفر: جار ومجرور.
[وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا] الواو: حالية ويجوز ان تكون عاطفة، لم: حرف نفي وقلب وجزم، تجدوا: فعل مضارع مجزوم بلم، علامة جزمه حذف النون، الواو: فاعل، كاتباً: مفعول به، منصوب.
[فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ]الفاء: رابطة لجواب الشــرط، رهان: مبتدأ مرفوع بالضمة، ومع انها نكرة الا انها جاءت مبتدأ لانها موصوفة،مقبوضة: صفة، وخبر المبتدأ محذوف وتقديره صك، او وثيقة، ويجوز اعراب رهان خبراً، ويكون المحذوف هو المبتدأ.
[فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا] الفاء: عاطفة، إن: حرف شرط جازم، أمن: فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، بعضكم: فاعل ، بعضاً: مفعول به.
[فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ] الفاء: رابطـة لجواب الشرط، اللام: لام الامر يؤد: فعل مضارع مجزوم باللام، علامة جزمه حذف حرف العلة، والجملة في محل جزم عل الشرط، الذي: اسم موصول فاعل، اؤتمن: فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو والجملة الفعلية صلة الموصول، امانته: مفعول به.
[وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ] الواو: عاطفة، لا: ناهية، تكتموا: فعل مضارع مجزوم بلا، علامة جزمه حذف النون، الواو: فاعل، الشهادة: مفعول به منصوب بالفتحة.
[وَمَنْ يَكْتُمْهَا] الواو: استئنافية، من: اسم شرط جازم ,هو مبتدأ، يكتمها: فعل الشرط مجزوم، الهاء: مفعول به.
[فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ] الفـاء: رابطــة لجــواب الشــرط، انه: ان واســمـها، آثم: خبر مقدم، قلبه: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية خبر إن، وقال الزمخشــري بجــواز (رفع قلـبــه على الفاعــليــة كأمة قيل فانه يأثم قلبه)( ).
والجملة المقترنة بالفاء في محل جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر الاسم الموصول(من).
[وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ] الواو: اســتئـنـافــيـة، اسم الجلالة: مبتدأ، بما: جار ومجــرور، تعمــلون: فعل مضـارع، الواو: فاعل، والجملة لا محل لها من الاعــراب لانها صلة الموصول، عليم: خبر لله مرفوع بالضمة.
ورهان ورهن ورهون جمع رهن وهو لغة الثبات والدوام وفي عرف الفقهاء وثيقة يدفعها المدان الى المرتهن للإســتيثاق على الدين، ويقــال للعين المرهــونة (الرهن والمرهون) ولدافعها وهو المدان (الراهن) ولآخذها وهو الدائن (المرتهن).
وقبض الشئ قبضاً: اخذه، والقبض: تحويلك المتاع الى حيزك والقبض: التناول للشئ بيدك ملامسة.
بحث في القراءة
(اخرج ابن ابي حــاتم وابن الانبــاري في المصــاحف وغيـرها عن ابن عباس انه قــرأ ولم تجدوا كتاباً، وقال: يوجد الكاتب ولا يوجد القلم ولا الدواة ولا الصحيفة، والكتاب يجمع ذلك كله، قال: وكذلك كانت قراءة أبي) ( )، وعن مجاهد انه قرأها: فان لم تجدوا كتاباً قال مداداً.
واخرج عبد بن حميد: “عن ابن عباس انه كان يقرؤها فان لم تجدوا كتابا وقال الكتاب كثير لم يكن حواء من العرب الا كان فيهم كاتب ولكن كانوا لا يقدرون على القرطاس والقلم والدواة”( ).
والاصح هو المرسوم في المصاحف، وظاهر هذه الاقوال للبيان والتفسير، فقد أخرج ابن الانباري عن ابن عباس انه كان يقرأ ولم تجدوا كتاباً بضم الكاف والتاء، أي جمع كاتب.
والا فان الكاتب شامل للجميع لان وصف الكاتب جاء بلحاظ تلبسه بالكتابة واذا وجدت مستلزمات الكتابة ولم يوجدالكاتب فلا تحصل الكتابة، بالاضافة الى مائـز اضافي متعدد للكاتب وهو شرط كتابته بالعدل، فالمراد ان لم تجدوا كاتباً يكتب بالعــدل وليس مطلقاً، فقد يوجد الكاتب ولكنه مجهول الحال والقوم في سـفر ولا يرضونه كاتباً، او انه لا يتقن اصول قواعد الكتابة، وقد ورد في الآية السابقة [يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ].
ويمكن استقراء قاعدة كلية وهي لو تردد الامر بين انصرافه للمسلم او لأدوات العمل والجمادات فينصرف للمسلم للغة الاكرام بل الانسان مطلقاً اذا لم تكن قرينة صارفة الى الغير او تدل على التخصيص.
وارهنته القلم: جعلته عنده ليرهنه، قال الشاعر :

ارهن بنيك عنهم أرهن بني

والسفر معروف وهو مغادرة البيت والمسكن والوطن الى ارض وبلد آخر سواء كان مشياً على الاقدام او على دابة او سيارة او طائرة، واصله الكشف، وسمي السفر سفراً لوجوه:
الأول : يسفر به الانسان عن وجهه وحاله.
الثاني : يخرج من البيت والمأوى الى الصحراء والبراري فينكشف للناس.
الثالث : يسفر عن اخلاق الرجال وكرمهم وسمتهم.
الرابع : بالسفر يصبح الانسان مكشوفاً وعرضة للاحداث.
الخامس : يخرج الانسان في السفر فيصبح البيت منكشفاً.
وفي الحديث: “انه قال لاهل مكة عام الفتح: يا أهل البلد صلوا اربعاً فانا سفر)( ).
في سياق الآيات
بعد آية الدين وما فيها من الاحكام التفصــيلية، جــاءت هـذه الآية في ذات الموضــوع, وتتضــمن عقد البيع والــدين في السفر، وتعذر وجود كاتب او اسباب الكتابة لتكون تتمة للاحكام الواردة في الآية السابقة.
ومن الاعجاز ان هذه الاحكام جاءت بآية اخرى مستقلة عن الآية السابقة لتوكيد اهمية الموضوع, والفصل بينها، والتنبيه على استحقاق موضوع السفر والرهن للاستقلال بآية خاصة، ولترسيخ مضامين الآية واحكامها في النفوس.
ومن منافع مدرسـة الاستثناء وذكر الامر الخاص وهو توكيد المسـتثنى منه، والامــر العام الذي خــص بالموضــوع اوالحــكم او كليهما، كما في المقام إذا جــاءت الآية بخصوص السفر وتـعـذر وجود الكاتب.
إعجاز الآية
من الاعجاز افراد آية مستقلة للبيع والدين اثناء السفر لانه من الامور الابتلائية، والاحكام الواردة في المقام امتنانية ومن اللطف ان يتسع البيان ليشمل حال السفر، ليكون القرآن واحكامه حاضرة مع المسلمين في حال الســفر وعند الحـاجــة الى البيع او الدين، أي ان حالتين طارئتين تجتمـعان في مناسبة وحال واحدة، ومن السعة في الشريعة الاسلامية ان تجعل بديلاً ووثيقة في الحالة الطارئة وان كانت مركبة وان لم يكن الرهن امراً ميسوراً لبعض الناس في السفر فضلاً عنه في الحضر.
فجاءت الآية بالتخفيف والتيســير باعتــبار الامــانة والوثاقة الشــخصية ومن اهــم خصائص الايمان الامـانة، كما انها تؤكد على عدم اخفاء الشهادة لان في الاخفاء والتحريف ضياع الاموال واشاعة الفساد.
وفي الآية دعوة لقضاء حاجــة المحتاج في الســفر بالتخـفــيــف من القيود والشروط الشرعية للدين والبيع، وتبين الآية شمول احكام الشريعة للاحـوال الطــارئة بما لا يجعــل فراغاً في قواعــدهــا او ثغــرة في احكامها، ومن اعجاز الآية وحدة الحكم وان تباينت الحال واختلف المقام.
ويمكن ان نسمي هذه الآية بـ(آية التداين في السفر)
الآية سلاح
تعتبر الآية حرزاً وواقية من الفتنة والافتتان والحرج الذي تسببه الحاجة والضــيق في الســفر، وهي عــون وصــاحب قرآني في السفر، فمن الآيات ان المسلم لا يترك الصــلاة في الســفر ولكــنه يجد الإذن في قصــرها واختصــار ركعاتهـا، فكذا بالنسبة للحاجة في المعاملات والعقــود فان الآية لم تســقط شـرائط العقد ولكنها تجعلها مخففة مختصرة، وهو تثبيت لها ســواء باسـقاط بعضها، في حال السفر او بتوكيد الشــطر الآخر، وفيه بــيان لاهـمية وضرورة الجزء الذي لم يسقط.
مفهوم الآية
تبين الآية التفصيل في الاحكام بلحاظ التباين الموضوعي فان حال السفر لها قواعدها واحكامها، ولم تستثن من الضوابط الكلية ولكن يجري فيها تخفيف للاخبار عن حقيقة وهي لزوم عدم التفريط في الواجبات والمندوبات واستحضار احكام الشريعة في كل حال ومكان، تريد الآية عدم تضييع القواعد والسنن التي جاء بها الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن في باب المعاملات.
وتمنع الآية من اللجوء الى حكم العقل والاحكام الوضعية في الأمور العرضية التي تصادف الانسان في حياته، فالسفر والانتقال امر يمارسه الانسان منذ القدم، فاراد الله عز وجل ان يجعل للمسـلمين خصوصية في الســفر وهي حفظ اموالهم وعدم تعطــيل معــاملاتهم، وجعلها مناسبة لتنمية ملكة الامانة عند المسلمين فيكون الســفر وسيلة للصلاح وتهذيب النفوس ويعكس حالة الايمان، ويكون المسلم في سفره سفيراً لاحكام الشريعة بتقيده بها وبصيغة من التخفيف تجعلها محبوبة عنده وعند الآخرين.
وهذه الآية دعوة للناس لدخول الاسلام لانه مرافق امين للشخص، فالآية تدعو للامانة وتجعلها شرطاً للمعاملة وهي ذاتها امانة عند المسلمين وتتجلى حفظ الامانة بالعمل باحكامها، فمن اعجاز القرآن ان الامانة تأمر بالامانة وتدعو الى قبولها.
وتحث الآية على اظهار الشهادة وقول الصدق والحق، ولا يمكن التفكيك بين الامانة والشهادة، لان الشهادة فرد من افراد الامانة ودليل على حضورها في المجتمع، ولكنها امانة شرعية وليست مالكية، فلم يجعل الطرفان عيناً معينة عند الشاهد ليحفظها لهما او لاحدهما، ولم يكلف بتعاهد عملي لها، بل ان امانته حمل الشهادة في الذمة والذاكرة ويتعاهدها باستتحضارها من الحافظة عند الحاجة اليها، والحرص على عدم زوال موضوعها عن المدركة والحافظة.
والتشديد الوارد في النهي عن كتمان الشهادة يبين شرط صلاح الذات لحفظ الامانة ورســوخ ملكة العدالة، وتبين الآية في مفهومها اهــمية الكـتابة كوثيقة عند المسلمين وحرصــهم على اداء الامــانة والوفاء بما في وثيقة الدين لان الآية تعطي الاولوية في التوثيق للكتابة والشهادة.
إفاضات الآية
في الآية تأديب وشاهد قانوني على الارتقاء الفقهي عند المسلمين في المعاملات والعقود، وتعليم لاصول المعاملة ودلالة على التباين بين الحضر والسفر مع التقائهما كوعاء للحكم الشرعي، وفيها ارشاد للتثبت وتهيئة مقدمات استيفاء الحقوق، وتدعو الى صلاح الذات وتنزيه المجتمعات الاسلامية من الغش والخداع وشهادة الزور، ومن وجوه الامانة في الآية صيانة العين المرهونة وارجاعها عند اداء الدين، كما تدعو الآية الى اعتبار الثقة بين المسلمين , فان الاخوة الايمانية اعظم واكبر من الرهن.
وفي الآية مسائل:
الأولى : تعلقها بعالم السفر.
الثانية : عدم وجود كاتب يكتب الدين او البيع.
الثالثة : اتخاذ الرهن ضماناً بدل الكتابة.
الرابعة : يقدم الذي عليه الحق الرهن.
الخامسة : يشترط قبض صاحب المال الرهن.
السادسة : وجود حال يستغنى فيها عن الرهن وهي الثقة بين اطراف العقد.
السادسة : لزوم تعاهد الامانة وحسن الظن بالاداء والوفاء.
السابعة : الامر بتقوى الله.
الثامنة : عدم اخفاء الشهادة متحدة كانت او متعددة، سواء كانت شهادة الرجل او المرأة.
التاسعة : الذم والتقبيح لمن اخفى الشهادة.
العاشرة : احاطته سبحانه علماً بافعال العباد.
علم المناسبة
لم يرد لفظ (رهــان) الا في هـذه الآية، ومادة (رهن) وردت في آيتين من القرآن وتتعلقان بارتهــان الانســان بعمــله وافعاله في الدنيا، قـال تعــالى [كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ]( )،[ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ]( ).
وبلحاظ علم المناسبة بين كلمات آيات القرآن فان الدين انتقال لذمة الانسان في الدنيا والآخرة، اما الدنيا فظاهر ومعلوم الا ترى ان المدان اذا اخرج له صك الدين احس بالحاجة الى الوفاء وابراء الذمة، واما في الآخرة فانه من حقوق الناس والله عز وجل لا يغفر الذنوب ازاء الآخرين وظلم الانسان لغيره.
ولم ترد كلمة (مقبوضة) في القرآن الا في هذه الآية مع ورود مادة (قبض) فيه عدة مرات، مما يدل على اهمية الرهن كموضوع وعين ووثيقة يلزم المحافظة عليها من المرتهن وحرص الراهن على استردادها بالوفاء بالدين.
وورد (أمن) في القرآن اربع مرات، والثلاث الاخرى جاءت بلغة الاستفهام الانكاري بخصوص الظالمين [أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا]( )، [أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأرض]( ).
وهذا من اعجاز القرآن ان تنفرد كلمة (أمن) بخصوص المسلمين فيما بينهم، بينما يبقى الكفار في فزع وخوف، وفيه بشارة ان الله عز وجل يجعل مضامين الايمان دائمة بين المسلمين ومن مصاديقها قضاء الدين، ان الامن والاطمئنان النفسي عنوان الصلات الايمانية ومادة للسعي في سبيله تعالى، ومقدمة للتعاون والمحبة وقضاء الديون، وفي اختصاص هذا اللفظ بين المسلمين دعوة للامن والثقة بالمسلم الآخر الا مع وجود الامارة والقرينة على الخلاف.
ويمكن تشريع قاعدة فقهية في المقام وهي (اصالة الثقة بالمسلم) الا ان يدل دليل على الخلاف.
ولم يرد لفظ (فليؤد) في القرآن الا في هذه الآية، ووردت مادة (أدى) في القرآن ست مرات، خمس في الاداء والامانة، وواحدة في خطاب موسى لبني اسرائيل [أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ]( )، والاداء فرع استدامة الامانة والامن بين المسلمين.
وورد الفعل (تكتموا) بصيغة الجمع والخطاب وحذف النون مرتين في القرآن، والآية الثانية جاءت في سورة البقرة ايضاً وفي زجر بني اسرائيل عن كتمان الحق [وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقّ]( )، مما يدل على أهمية إظهار الشهادة وبيان الحقائق في اطراف ومقدار واجل الدين.
وفي المناسبة بين الايتين تتبين الاضرار الكبيرة الناتجة عن كتمان الشهادة ولزوم اجتنابها والتوقي منها، فالامر في الآية بعدم الكتمان قاعدة كلية ودعوة للمسلمين جميعاً والحكام والقضاة والمؤسسات التعليمـيــة والتربــوية لتثبيت ملكة الامانة في الشهادة تحملاً وحفظاً واداء.
ولم يرد لفظ (آثم) و(آثم قلبه) الا في هذه الآية، وورد لفظ (آثما) مرة واحدة في قوله تعالى [فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا]( )، مما يعني قبح كتمان الشهادة ولزوم اجتنابه، وانه يؤدي لمحاكاة الغير لفعله، وسيأتي في تفسير الآية ان الذم والتقبيح فيها لم يرد الا على سبيل الجملة الشرطية.
ورد لفظ (بعضكم بعضا) ثلاث مرات في القرآن وكلها تتعلق بالمسلمين، قال تعالى [ لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا]( ) وفيه تأديب للمسلمين وحث على تعظيم مقام النبوة وايجاد لغة خطاب خاصة مع الرسول الاكرم تبتنى على الايمان بالرسالة والوحي والمنزلة الرفيعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم واشراقات الآيات التي تنزل على شخصه الكريم.
وقال تعالى [وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا]( )، والآية زجر عن المعاصي وذكر الاخرين بسوء وان كان فيهم، كما ورد لفظ بعضكم لبعض في قوله تعالى[اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ]( )، وفي اهل النار [ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا]( )، وغيرها، ولم ترد صيغة الامن والثقة بهذا اللفظ الا في هذه الآية مما يدل على اكرام المسلمين وتجلي الاخلاق الحميدة عندهــم سـواء على نحو الموجبة الكلية او الموجبة الجزيئة.
بحث جنائي
تضمن أحكام الشريعة للناس حقوقهم، وعند تخلف المدان عن قضاء دينه ورفع الدائن مسألته الى القاضي، فعليه ان ينظر بعلة التخلف وهل هي العجز والعسر فيمهله، ام المماطلة والتسويف مع التمكن من الأداء فحينئذ له ان يأمر بحبسه لحين القضاء وتهيء أسبابه وقد ورد عن الامام الصادق قال: ( على الامام ان يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة الى صلاة الجمعة، ويوم العيد الى صلاة العيد، فيرسل معهم، فاذا قضوا الصلاة والعيد ردهم الى السجن).
وقوله يرسل معهم، أي يكون برفقتهم حرس وبأسباب الإحتراز المناسب ولو كانت صلاة الجمعة والعيد تقام في السجن فهل يجزي الجواب لا الا مع المانع من الخروج، لان الدروس والعبر من خروجهم الى صلاة الجمعة والعيد عامة، وشاملة للسجناء ولجميع المكلفين فهو درس بليغ للاعتبار والاتعاظ، ومناسبة للصلاح والاصلاح، وفرصة للسجناء لتلمس الامل والنجاة من السجن ووسيلة للعطف عليهم والمساهمة في قضاء ديونهم من الحق الشرعي او التبرع، بل ان عددهم كثرة وقلة يعطي صورة عن حال المجتمع وكيفية المعاملات فيه والتصرف بالأنسب.
وخروجهم دعوة للدائن للامهال او اسقاط الدين، وفيه فرصة للمدان حينما يسأله الاخرون ماهو سبب سجنك، فيقول دين لفلان في ذمتي، او ان فلاناً ابي الا الوفاء بدينه , وهو مناسبة للاحتجاج من الدائن، وبيان سلامة الحكم، وكأنه مناظرة بين الادعاء العام ومحامي المتهم ضمن القواعد الشرعية وفي ظلال الشعائر الاسلامية وامتلاء النفوس بالذكر، واو كان خروج السجناء في الدين محفوفاً بالمخاطر، فيجب تأمين الخروج خصوصاً وان موضوع الدين والسجن فيه لا يعتبر سبباً ملحاً للهرب، بل انه فرصة للسجين لعرض حاله.
ولو اراد السجناء استعطاف المسلمين في ديونهم واعانتهم على قضــائها وبيان اســباب عدم اقدامــهم على القضــاء مع التمكن فهل يحق لهم ذلك، الجواب: نعــم ضــمن الضـوابط الشرعية ومن غير اخلال بصلاة العيد والجمعة خصوصاً وان كلاً منهما عيد للمسلمين كافة.
وتدل الآية على شمول السجناء بحضور صلاة الجمعة والعيد مع الإمكــان، فيكون مــن باب الأولــوية القطعية حضور غيرهم من الطلقاء.
وجاء ذكر المحبوســين في الديــون من باب المثـال وليس الحصر فيمكن اخــراج من تكون حالته قريبة من الدين الى صلاة الجمعة والعيد.
ويمكن ان نستعرض مسألة وهي لو جاء ذكر موضوع في رواية فهل الأصل انه من باب المثال أم الحصر، الاقرب انه من باب المثال الا مع القرائن والإمارات الصارفة.

التفسير
تفسير قوله تعالى [وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ]
بعد آية الدين واحكامها وتوجه الخطاب فيها الى المسلمين كافة إذ افتتحت بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وذكرت موضوع التداين وحكمه فجاءت هذه الآية بذات الموضوع، ومن الاعجاز ان تكون هذه الآية تابعة للآية السابقة في الموضوع ولكنها تتناول موضوعاً فرعياً مستقلاً لا يبعد عن الموضوع الاصلي، فهي خاصة بحكم الدين وما يتفرع عنه من الاحكام والمسائل في القيم والاخلاق وتهذيب النفس وإصلاح المجتمعات ولكنها خاصة بالسفر.
وهذا الاختصاص اعجاز اضافي في الموضوع والحكم والذات، اما الاول فان الله عز وجل يريد للمسلمين الاكرام والصلاح بملازمة احكام الشريعة لهم في الفرد القليل النادر في حياتهم، اذ ان اغلب ايام الانسان يقضيها في الحضر والسكن الدائم، ومع ان ايام السفر قليلة في حياة الانسان فان حدوث الدين والقرض والنسيـئة فيه قليل ايضاً، أي انه قليل في قليل، ومع هذا فان الآية لم تتركه بل جاءت بالاحكام الخاصة به لتتغشى تفاصيل الحكم الحالات النادرة ويكون وسيلة للايمان وسبباً للسلامة والنجاة وتحقيق مصلحة الدين والافراد، فآيات الاحكام تظهر التداخل بين رسوخ الملة ومنفعة الافراد.
اما الثاني وهو الحكم فان الآية تؤكد وحدة الحكم وان تباينت الحال، ان ورود احكام الدين والبيع في السفر شاهد قرآني على لطفه تعالى بالمســلمـين، ومن الشــكر له سبــحانه تعاهــد هــذه الاحكــام وعدم التفريط بها في الحضر أو في السفر , فهي من النعم التي نالها المسلمون.
ويرافقهم القرآن واحكامه برضاهم وارادتهم وكذا من غير قصد منهم، ويستقبل المسلمون هذه الرفقة بفخر واعتزاز، لكن الانسان لا يتوقع ان يكون معه في سفره صاحب نازل من السماء، فهو في الطريق يخشى الوحدة والوحش والغول والحوادث، واذ اختفت في اكثر مناطق العالم وطرقه اسباب السلب وقطاع الطرق، ظهرت للمسافر حوادث السيارات والاصطدام وما تتعرض له الطائرات احياناً ليكون السفر موضوعاً للابتلاء والافتتان.
فتأتي هذه الآية لتخبر عن الافاضات الالهية بوجود القرآن معه في احكامه وسننه، ليس في مسألة الدين فحسب بل في صلاته وعباداته واحكام المعاملات الاخرى، بالتخفيف في الصلاة اليومية ونوافلها، والرخصة او العزيمة في افطار شهر رمضان في السفر مع تحديد المسافة الشرعية التي يعتبر فيها المكلف مسافراً.
اما الثالث وهو الذات فان الآية ناظرة الى حال المسلم عندما يكون في السفر وما يصيبه من التعب والعناء والانكشاف عن بيته ومسكنه وشأنه وجاهه وما يملكه من الاموال والعقار والزراعات مع ان نفسه ذاتها تشتهي وتميل للاقتناء، بل هو في السفر اكثر رغبة في الشراء لاطلاعه على اشياء غير متوفرة في بلده او قريته، او انها متوفرة ولكن اسعارها مرتفعة، كما يكون اكثر ميلاً للبيع لان الناتج البلدي يكون مرغوباً به في الاماكن الاخرى.
وحاجته للشراء تجعله يستدين ويشتري بالنسيئة، وعزمه على بيع الاعيان التي معه او التي يملكها مطلقاً قد يجعله يبيع بالسلف والثمن المؤجل، وقد يكون الانسان في السفر على عجل من امره او انه يطمئن الى الناس لحسن الظاهر او لقصر الصحبة وحداثة المعرفة وعدم الاطلاع على الشأن الخاص وكيفية التعامل في البلدان التي يحل فيها مسافراً، فجاءت الآية لتؤكد اولوية توثيق الدين والبيع.
ففي الجملة حذف وتقديره (فان كنتم على سفر فتداينتم بدين الى اجل مسمى)، أي ان هذه الآية لم تبطل موضوعية الاجل، لان عدم الذكر في الآية اعم من عدم الموضوع، بل ان موضوع الآية يدل عليه فالآية السابقة جعلت ذكر الاجل المعين لكل دين على نحو الاطلاق سواء كان في الحضر او السفر، اما التخصيص في الآية فلم يغير ما لها من القيود الاساسية ومنها:
الأولى : الموضوع هو الدين وليس الربا او طلب الفائدة، فلا يجوز في السفر استغلال الحاجة والاضطرار للدين وطلب الفائدة الربوية، أو ظهور منفعة وربح زائد للمدان فيطلب الدائن زيادة ونفعاً.
الثانية : لزوم جعل الاجل معيناً، نعم يعتبر مكان اداء الدين وتعيينه او الاتفاق عليه في الجملة وان كان متعدداً، كما لو اتفق ان يكون الاداء في البلد وليس في السفر.
الثالثة : لزوم تقوى الله والخشية منه تعالى.
الرابعة : موضوعية الشهادة وعدم التفريط بها.
الخامسة : تحمل الشهادة واداؤها واجتناب اخفائها.
وكما ان حال السفر امر طارئ وعرض يعود بعده الانسان الى بلده، ولا يقوم اهل البلد بالسفر دفعة واحدة بل يسافر بعضهم افراداً وجماعات، ومن الناس من تمر عليه عدة اشهر او سنوات وهو حاضر ومقيم، ومع هذا جاءت الآية بصيغة الجمع [وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ] ولكنها تضمنت لغة الشرط وما يعنيه من التعليق، بالاضافة الى انصراف المعنى الى خصوص اطراف الدين او البيع، فقد تكون الجماعة في سفر ولكن لا يحصل بينها دين او بيع.

علم المناسبة
ورد لفظ (سفر) بصيغة المفرد في ست آيات من القرآن , ويمكن ان نطلق عليها (آيات السفر)، ثلاث في سورة البقرة وحدها، وثلاث في سور القرآن الاخرى، اثنتان من المجموع في الصيام واحكامه، قال تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ]( )، [وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( )، واثنتان في الوضوء والطهارة [وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا]( ).
ومن الآيات في المقام ان الآيتين اللتين في الصيام متشابهتان في الالفاظ والحروف والكلمات، وكذا بالنسبة للآيتين في موضوع الطهارة، والآيات الأربعة مع الآية محل البحث جاءت بصيغة الشرط والتعليق والفرد القليل.
ووردت الآية السادسة الخاصة بالسفر في باب الجهاد وحال المتخلفين عن غــزوة تبــوك [لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ]( )، ويقال الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر.
ويلاحظ في الآيات ان القرآن تعرض لاحكام السفر فيما يخص العبادات في الجهاد، والصيام والطهارة، وجاء معها التداين مما يعني اهميته من وجوه:
الأولى : موضوعيته بالذات باعتبار انه امر ذو خصوصية وشأنية في حياة الافراد والمجتمعات بحيث تفرد له آية من بين الآيات التي تتناول امراً عرضياً.
الثانية : ضبط احكام التداين مقدمة لاداء العبادات والتوفيق فيها.
الثالثة : احكام التداين فرع العبادات، فمتى ما اخلص العبد مع ربه واحسن التقيد باحكام الفرائض والعبادات وجاء بها في اوقاتها كالصلاة اليومية عند دخول وقتها، والصيام عند رؤية هلال شهر رمضان، والزكاة عند تمام الحول، فانه يحرص على اداء الدين عند حلول اجله واوانه.
الرابعة : تدل الآيات مجتمعة ومتفرقة على وجود اولويات في السفر واهمها العبادات ثم المعاملات يستقرأ هذا بلحاظ تعدد آيات العبادات واتحاد آية الدين.
الخامسة : كما لا يمكن التفريط او التقصير في العبادات ومقدماتها الواجبة بالذات او التي يترشح عليها الوجوب من ذيها، فكذا بالنسبة لشرائط الدين فلابد من التقيد بها بلحاظ الممكن والميسور.
السادسة : وردت خمس آيات من آيات السفر بصيغة الخطاب للجماعة، ثلاثة بقوله تعالى [وَإِنْ كُنتُمْ]، واثنتان [مَنْ كَانَ مِنْكُمْ]، بينما وردت آية واحدة بصيغة المفرد خطاباً للرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان سفره للجهاد ونشر كلمة التوحيد وفيها ذم لمن يتخلف عنه، فجاءت الآيات الاخرى بالتقيد باحكام العبادات والمعاملات في السفر عسى ان تحتسب جهاداً في سبيله تعالى عند التلبس في السفر، وفعلاً فان الذي ينتقل في الأرض وهو محافظ على عباداته، ويحسن الامتثال لاحكام الشريعة ينال الرفعة في الدارين.
ولابد من دلالات عقائدية لهذا التناسق والتشابه اللفظي والموضوعي في كلمات الآيات منها اعتباره مدخلاً لجعل التقيد باحكام هذه الآيات جهاداً ومناسبة للاجر والثواب ووسيلة لتسهيل أداء العبادات في الحالات المختلفة خصوصاً وانه لم يكن اتفاقاً او صدفة بل هو سر من اسرار القرآن وعلم له موازينه وقواعده، ويحتاج الى الغوص في بحاره لاستخراج لآلئه ودرره ومنها موضوعية الطاعة واجتناب المعصية في السفر، والاقرار بقاعدة كلية ثابتة وهي حضور القرآن في كل مناسبة من حياة الفرد والجماعة.
بحث اخلاقي
في كل باب من ابواب الحياة يطل عليك الإسلام بأحكامه الشريفة وقواعده الأخلاقية وآدابه الإنسانية فهو مدرسة الحياة يدعو الناس اليه ويقودهم الى سبل الصلاح ويذكرهم بوظائفهم في كل امر او نهي خصوصاً مع القول بان الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد.
والأصل في السفر انه امر مباح، ويأتيه بالعرض الوجوب او الإستحباب او الكراهة او الحرمة، والسفر الى الحج مقدمة عقلية واجبة لوجوب المقدمة لوجوب ذيها ولأنه لا يحصل اداء المناسك الا بالسفر وقطع المسافة الى الديار المقدسة، ويحرم السفر بنية ارتكاب المعصية كالسرقة.
وعن الإمام الصادق قال: في حكمة آل داود عليه السلام: ان العاقل لا يكون ظاعناً الا في ثلاث: مرمة لمعاش ,او لذة في غير محرم او تزود لمعاد.
وتخصيص الأمر بالعاقل دلالة على الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل , وان الإسلام لا يتعارض مع أحكام العقل، كما ان العقل يدعو الى الأخلاق الحميدة ومنها اختيار اسباب السفر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: السفر ميزان القوم.
فبالسفر تعرف معادن الرجال وتظهر السجايا الحميدة وتبرء الذمة وتدفع كوامن السوء وبواطن الشر، ويمكن معرفة كنه وسمت الإنسان في حال السفر لما فيه من كثرة المزاولة والمخالطة وسرعة مداهمة الأمور المفاجئة والحاجة فيها للتحلي بسعة الصدر والصبر وبذل الوسع واجتناب الغضب والشح ونحوهما من الأخلاق المذمومة.
ومن آداب السفر افتتاحه بالصدقة لدفع النحوسة ولشراء السلامة، وفي العزم على الصدقة في السفر دلالة على اللجوء اليه تعالى في المهمات, والخشــية من المجهــول والســعي لــدفع الأذى باختيــار التقرب الى الله عز وجل بالصــدقة وليس من مقدار معين لما يتصــدق به، ولا تتعــلق الصدقة بالشأن ويكفي صرف الطبيعة والمالية، ولا ينحصر اعطاء الصدقة بالغني بل يشمل الذي يريد ان يستدين في السفر لعمومات ادلتها وعظيم نفعها، كما ان البسملة عند السفر مناسبة كريمة لطرد الشياطين وواقية للمسافر، وتوسل لحضور الملائكة وحراستهم له، ودفع الهم والسأم من السفر سواء بالذات او بالعرض.
وجاءت النصوص بالدعوة لإظهارحسن الخلق في السفر والإمتناع عن الأذى ونفي الحرج، والحث على الأمانة مع التوكيد بان السفر مناسبة لتهذيب النفوس والترغيب بالتحلي بالأخلاق الحميدة في السفر ومنها قضاء حوائج الأخوان ومد يد المساعدة لمن يسألها اوابتداء، والإستعداد لأقراض الآخرين والحرص على التعفف واظهار الصدق والوفاء.
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: الرفيق ثم السفر، وفي الحديث دلالة على اهمية الرفقة والأخلاق الحسنة، والسفر مناسبة للإقتباس في باب العقيدة والأخلاق والملكات والسجايا، لذا قد يكون الرفيق داعية للخير، او داعية للشر والفسوق.
ومن مكارم الأخلاق في السفر:
الأول : اداء الصلاة في اوقاتها وعدم تأخيرها الا لضرورة وحرج فالأقرب ثم الأقرب، وان تكون في جماعة.
الثاني : التزود بطيب الزاد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شرف الرجل ان يطيب زاده اذا خرج في سفر، ليكون الزاد صلة مع الآخرين ونشراً للمودة وسبيلاً للمحبة ودفع الضغينة وطرد الكدورة، وسبباً لانشراح النفس وقضاء حاجاتها وهو مانع من الإكتئاب اوالحاجة الى الآخرين والتعرض للأذى بسبب مخاطر الطريق واضراره.
الثالث : ومن السفر سفر والآخرة وهو السفر الأخير والإنتقال الأبدي الى عالم الآخرة يحتاج فيه المسافر الى التزود بالغذاء والطيبات وهي عبارة عن العمل الصالح.
لقد اراد الله عز وجل لهذه الآية ان تكون زينة للمسلم في سفره وعوناً له على حوائجه وسلاحاً ذا حدين ومناسبة للثواب ومانعاً من الحرج والضرر وتعاهداً للأخلاق الحميدة في الحضر ونجاة من الخسارة والأذى، وسلامة من الذل.
وخير السفر ما يكون الى منازل التقوى والصلاح، وسفر الشهداء، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا] ( ).
والملاك والمصلحة ليس على العام المحسوس، والوجود أعم من الحياة الدنيا وغاية الكرم الجود بالنفس ولا يكون الا في سبيل الله، وهو مفهوم فلسفة الشهادة في الإسلام كما في قوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ]( ).
والسفر مظهر للمروءة والكرم، وفي حديث: “ان الإمام الصادق سأل الجالسين معه: ما المروءة؟ فقالوا: لا نعلم، قال عليه السلام: ليس المروءة والله ان يضع الرجل خوانه بفناء داره، والمروءة مروءتان مروءة في الحضر ومروءة في السفر.
فاما التي في الحضر فتلاوة القرآن ولزوم المساجد والمشي مع الأخوان في الحوائج والنعمة ترى على الخادم، فانها تسر الصديق وتكبت العدو.
واما التي في السفر فكثرة الزاد وطيبه وبذله لمن كان معك، وكتمانك علىالقوم امرهم بعد مفارقتك اياهم، وكثرة المزاح في غير ما يسخط الله عز وجل، ثم قال: والذي بعث جدي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحق ان الله عز وجل ليرزق العبد على قدر المروءة فان المعونة تنزل على قدر المؤونة، وان الصبر ينزل على قدر شدة البلاء”.
وهل تكون الاستدانة في السفر من المروءة، الجواب على قسمين، أما بالنسبة للدائن فنعم، فمع انه بعيد عن أمواله ووطنه ويواجه المجهول في سفره تراه يقدم على إدانة وإعانة الآخرين، أما بالنسبة للمدان فبحسب الحاجة واللحاظ والموضوع، ولكن قضاء الدين من المروءة.
بحث بلاغي
من البديع باب يسمى (التنكيت) وهو ان يعمد المتكلم الى ذكر شئ وفرد دون غيره مع ان الموضوع اعم واوسع، وذكر هذا الفرد ليس صدفة او اختياراً محضاً بين افراد متساوية بالعرض، بل لخصوصية ونكتة ظاهرة فيه.
ولكن التنكيت في القرآن اعم وله دلالات عقائدية وتتفرع عنه مسائل عديدة في ابواب العلم المختلفة، ومن التنكيت ذكر السفر في هذه الآية على نحو الخصوص ولكنه ليس شرطاً في صحة الرهن، ولا يتوقف الرهن على السفر، فالاجماع على صحته في الحضر ولكنه جاء كمثال للعز والمانع الموضوعي عن الكتابة والاشهاد، وبذا جاء التنكيت لتتفرع عنه مسائل منها:
الاولى: جواز التداين في السفر وعدم اعتبار الحضر شرطاً في حصول التداين، فحينما يسأل المسلم اخاه في السفر ان يقرضه فلا يقول له نرجع الى البلد وننظر، وكذا لوحصل بيع بالنسيئة.
الثانية: جاءت الآية لتيسير البيع والشراء بالنسيئة والسلف بين الحاضر والمسافر، وبين المسافرين انفسهم.
الثالثة: جواز الاكتفاء بالرهان المقبوضة وان كان المتداينان حاضرين في البلد.
الرابعة: رفع الحرج في السفر ومن السفر، فلا يخشى المسلم الفاقة والعوز في السفر لانه يعلم امكان الاستدانة من الآخرين خصوصاً وان الآية ذكرت جواز التداين مع الثقة من غير رهان.
الخامسة: عدم تكلف حمل الاموال في السفر لاغراض الشراء من المدن الاخرى، خصوصاً في الازمنة السابقة اذ كانت العملة من الدينار الذهبي والدرهم الفضي مع كثرة اللصوص وتعرض القوافل للنهب والاذى.

قوله تعالى [وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ]
تجمع الآية بين امور طارئة وهي:
الاول: حصول التداين او البيع.
الثاني: حال السفر والترحال أي ان الدين او البيع لم يحصلا في حال الحضر والبلد الذي يعرف به الانسان جاره وقريبه وصديقه وشريكه واصحابه في العمل والصنعة والتجارة، كما ان الدين لايأتي للحاجة اليومية المتعارفة، بل هو في الغالب يكون لامر عرضي وسبب مرهون بالسفر وعناوينه.
الثالث: عدم وجود كاتب يكتب العقد او حصول احد الاسباب المانعة التي تتعلق بالكتابة ومنها :
الأولى : اعتذار الكاتب عن الكتابة لعدم معرفته باطراف العقد كونه من اهل البلد، وهم مسافرون.
الثانية : افتقار العقد الى الشهادة والبينة الشرعية وبعض الشرائط.
الثالثة : طلب الكاتب اجرة على الكتاب اكثر مما يتحمل المسافر.
الرابعة : قلة مبلغ الدين بما لا يتناسب والاجرة.
الخامسة : عدم وجود آلة الكتابة والورق ونحوه.
السادسة : عدم اجتماع الشرائط بالكاتب وكونه مجهول الحال.
السابعة : تعذر الكتابة وان كان الكاتب موجوداً.
الثامنة : وجود قوانين وضعية بخصوص كتابة الديون، والضرائب والفوائد عليها.
فان قلت: ان الآية جاءت بوصف لحال عدم وجود كاتب، واكثر الوجوه اعلاه بعيدة عن الامر.
قلت: المراد عدم وجود كاتب متلبس بحال الكتابة وتتحقق معه كتابة العقد، والوجوه اعلاه موانع دون حصول الكتابة.
وقيد عدم وجود كاتب يخرج رغبة اطراف العقد بعدم الكتابة بالتخصص، وان السفر لا يختلف عن الحضر في موضوعية كتابة عقد الدين وعدم اهماله.
لقد جاءت الآية بصيغة الجملة الشرطية بخصوص السفر وحصول الدين فيه ولكن الدلالات اعم منها، وبذا تتجلى الوجوه العقائدية واسرار المعرفة الالهية في آيات الاحكام لتبدو حقيقة ثابتة وهي تكامل الشريعة ونفاذها في كافة ميادين الحياة، فالاحكام الفرعية تؤخذ من الشريعة وآيات القرآن، وهي نفسها تكون سبباً لثبات الشريعة والعمل بسننها في ابواب العبادات والمعاملات مطلقاً.
ولو كان احد المتداينين مسافراً والآخذ حاضراً فهل تشمل العقد احكام هذه الآية، الجواب: نعم، ولكنه لا يمنع من شمول الحالة هذه باحكام آية الدين لاطلاقها، وتظهر هذه الآية التوكيد على كتابة الدين بين اهل البلد وعدم اغفالها والتهاون في امرها اتكالاً على الصلات والصداقة والجوار.
وجاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية من المبتدأ والخبر (فرهان مقبوضة)، ولكنه امر قرآني وخطاب انحلالي الى:
الأول : المدان، فعليه ان يعطي رهناً لضمان الدين.
الثاني : الدائن للمطالبة بالرهن واستلامه وعدم الاستحياء من أخذه.
الثالث : المسلمين باعتبار الرهن شرطاً في عقد الدين عند السفر وعدم وجود كاتب.
الرابع : الشهداء في معرفة الرهن وحصوله.
فغالباً ما تكون العين المرهــونة اكبــر قيمة من الدين، ويحتاج معها الى الشهادة على الرهن لحفظ حق المدان، وقد يدعــى حصـول الدين من غير رهن فيأتــي الشهــود يشهدون على الدين ولا يعلمون عن الرهن شيئاً.
وقد تبرز المسألة الابتلائية عند موت المرتهن، وهل يجوز تعدد الشهادة بمعنى وجود شاهدين على الدين، وآخرين على الرهن على ذات الدين، الجواب: نعم، ولكنه خلاف الاحتياط، كما يحتمل التعدد وتبادل الامن، فالدائن يثق بالمدان فلا يكتب عليه كتاباً ولا يأخذ منه رهناً، والمدان يثق بالدائن فيعطيه رهناً ولا يأخذ وثيقة بالرهن في وقت كتبت عليه وثيقة بالدين، اوانه ادى الدين ولم يستعيد الرهن بعد، او اداه ولكن من غير حضور الشهود الذين شهدوا على اصل الدين، لكن هذا الامر خارج عن موضوع الآية بالتخصيص لانها قيدت الامانة بالاداء، وليس استدعاء الدين من جديد بعد قضائه.
ولو اختلف الراهن والمرتهن على مقدار الدين الذي تم الرهن له، كما لو قال الراهن انه مائة دينار، وقال المرتهن انه مائتان، يقدم قول الراهن مع يمينه ان لم تكن للمرتهن بينة.
ولو اختلفا في متاع فقال الذي بيده المتاع انه رهن لزيد، وقال الأخير انه وديعة عنده، قدم قول المالك مع يمينه اذا لم تكن للذي بيده المتاع بينة على انه رهن.
ولم يرد لفظ (رهن) بصيغة المفرد، بل ورد بصيغة الجمع وفيه وجوه:
الأول : جواز التعدد في العين المرهونة ان استدعى الامر كما لو كان مقدار الدين كبيراً.
الثاني : الجمع يناسب حالة الافراد بخلاف العكس.
الثالث : كثرة حصول الدين في السفر.
الرابع : بيان مشروعية الرهن.
الخامس : عدم نفرة المدان من طلب ما يكفي من الرهن فلولا صيغة الجمع لجاء بعين واحدة وقد لا تكفى للضمان والتوثيق فيأبى صاحب المال فجاءت الآية للسعة.
السادس : اخبار عن حق الدائن في توثيق وحفظ ماله ومنع الحرج من طلب الضمان الكافي، وجاء وصف الرهان بانها مقبوضة أي ان صاحب المال يقبضها وتكون في يده للاستيثاق والاطمئنان فلا يكفي القول بانها رهن وتبقى بيد الراهن او وكيله او شخص آخر اجنبي الا ان يكون الطرف الثالث ثقة ويرضاه الطرفان، ويصح حينئذ على العين المرهونة انها مقبوضة، لان القبض حصل بعنوان الرهن.
السادس : في الآية تغليظ لموضوع الدين، فهو ليس بالامر السهل فاذا كان في الدنيا لا يتقوم الا بلكتابة والاشهاد، او بالرهان المقبوضة، فانه في الآخرة موضوع للسؤال والحساب.
السابع : الآية لا تسقط الكتابة في السفر بل يبقى حكم الكتابة عند التداين على حاله في الحضر والسفر، ولكن مع العذر تنتقل الوظيفة الى الرهن لقاعدة نفي الحرج وللمندوحة والسعة ولان المدار على وجود وثيقة للدين، فلا ملازمة بين السفر والرهن، فيجوز الكتابة في السفر، والرهن في الحضر، اخرج البخاري ومسلم وابن ماجة عن عائشة قالت: اشترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعاماً من يهودي بنسيئة ورهنه درعاً له من حديد) ( )، وظاهر الحديث انه في المدينة المنورة لاطلاق الخبر وحملة عند الاطلاق على الحضر ولقرينة الشراء من يهودي وكان اليهود موجودين في المدينة.
بحث فقهي
الرهن عقد يحتاج الى ايجاب من الراهن وقبول من المرتهن، ويجزي كل لفظ يفيد المعنى المقصود كما لو قال الأول، رهنتك او ارهنتك او هذا وثيقة عندك على مالك ونحوه، اما القبول فيصح بكل لفظ من المرتهن يفيد الرضا بالإيجاب.
لا يعتبر في عقد الرهن العربية بل يقع باية لغة للتخاطب بين الطرفين، والظاهر عدم اعتبار الصيغة فيه اصلاً فيقع بالمعاطاة.
يشترط في الراهن والمرتهن البلوغ والعقل والقصد والإختيار وهي شرائط عامة لكل عقد، ويشترط في الراهن ايضاً عدم الحجر بالسفه او الفلس.
يجوز لولي الطفل والمجنون رهن بعض ما يملكان مع الغبطة والمصلحة.
ويشترط في صحة الرهن تحقق القبض من المرتهن على الأٌولى باقباض الراهــن او باذن مــنه، ولو كــان في يـده شيء للراهن وديعة او عارية بل ولو غصباً فاوقعا عقد الرهن عليه كفى من غير حاجة الى قبض جديد.
ولو رهن حصته من المشاع فلا يجوز تسليمه الى المرتهن الا برضا شريكه، ولو سلمه اليه من غير رضا الشريك، يتحقق قبض الرهن وصحته ويتحقق ايضاً العدوان بالنسبة الى حصة الشريك ما دام تصرفاً في ماله من غير اذنه.
للمرتهن استدامة قبض العين المرهونة والإحتفاظ بها تحت يده الى حين قضاء الدين ولا يجوز انتزاعها منه الا مع الشرط في العقد بان يكون الرهن بيد الراهن او يد ثالث.
ويصح الرهن في السجلات الرسمية وان بقيت العين بيد الراهن، كما لو رهن بيته لقاء دين وتم حجز البيت للرهن عند الجهة المختصة وبشرائط الرهن، وقوله تعالى [ فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ] ارشاد لما هو حاصل في الخارج ولكفاية المسمى ولأنه قيد غالبي ومناسب لكل الأزمنة.
يشــترط في المرهـون ان يكون عيناً مملوكة ويمكن قبضــه ويصــح بيـعــه فلا يصح رهن الدين قبل قبضه ولا رهن المنفعة والحر والخمر والخنزير.
لا يصح رهن مال الغير الا باذنه واجازته، ولا الأرض الخراجية التي لم تحقق فيها الملكية الشخصية، ولا الوقف ولو كان خاصاً لعدم جواز بيعه.
لو رهن ما يملكه مع ملك غيره في عقد واحد صح في ملكه، وتوقف في ملك غيره على اجازة مالكه.
لو كان غرس او بناء في الأرض الخراجية يصح الرهن عليه مستقلاً بل يصح مع الأرض بعنوان التبعية.
لا يشترط ان تكون ملكية العين المرهونة عائدة الى الراهن، فيجوز ان يستعير الراهن ملك غيره باذنه للرهن، وليس لمالكه الرجوع ويحق للمرتهن ان يبيعه كما يبيع ملك المدين بحسب الشروط ولو تم بيعه فلمالكه مطالبة المستعير بقيمته ان بيع بها او بيع بالأقل منها، اما لو بيع بالأكثر منها فيرجع المالك عليه بثمن البيع كله.
يجوز للشخص ان يرهن ماله على دين غيره تبرعاً الا اذا كانت هناك مهانة ونحوها تلحق بالمدين بسبب الرهن فحينئذ يعتبر اذنه ورضاه بالرهن، كما لو كان ثقة يأبى ان يضمن برهن، او كان مستغنياً عن القرض مع تبرع الغير بالرهن.
ولو اعار ماله للرهن ولكنه اشترط على المدين شخص المرتهن والأجل والقدر لا يجوز ان يخالفه، كما لو دفع له حلية ذهبية واشترط عليه ان لا يرهنها الا عند زيد ولأجل شهرين لا اكثر وبقيمة مائة دينار صح الشرط ووجب على المدين التقيد به، وكذا يجب على المرتهن اذا اشترط عليه ذلك فلا يحق له ان يرهن العين باكثر من المدة او القيمة المشروطة.
لا يجوز رهن ما يسرع اليه الفساد قبل حلول اجل قضاء الدين، ولو تم فيجوز بشرط بيعه قبل ان يطرأ عليه الفساد من قبل الراهن او يوكل المرتهن في بيعه، وان امتنع الراهن عن بيعه أجبره الحاكم، فان تعذر باعه الحاكم، ومع فقد الحاكم او تعسر الوصول اليه باعه المرتهن لأنه احسان ومعروف، ثم يجعل ثمنه رهناً، وكذا الحال لو اطلق ولم يشترط البيع ولا عدمه.
لو رهن ما لا يتسارع اليه الفساد فطرأ ما جعله عرضة للفساد، كما لو رهن ما تضره الرطوبة وتسربت اليه قبل حلول اجل الدين، او اتفق شدة الحر مما لا يصح معه طول الخزن، فيبيعه الراهن ويبقى ثمنه رهناً.
ويشترط في موضوع الرهن ان يكون ديناً ثابتاً في الذمة سواء كان قرضاً او شراء او استئجاراً في الذمة، ولا يصح تقديم الرهن على قرض معلق لم يتم بعد او على ثمن ما لم يتم شــراؤه، ولا عـلى الدية قبل تحقق الموت وان علم ان الجناية التي حصلت تؤدي الى الموت ولو رهن شيئاً على ما يقترض ثم اقترض لم يصر بذلك رهناً لأن شرط الصحة وهو الدين الثابت في الذمة لم يحصل، ولعدم القول بالاستصحاب القهقري.
ولو اشترى شيئاً مثل الكتاب والثوب بثمن في الذمة، جاز جعله رهناً على الثمن على الاقوى.
ولو رهن على دَينه رهناً، ثم استدان من المرتهن ديناً آخر جاز ان يكون الرهن لهما معاً سواء كان الدين الثاني مساوياً للأول في القدر والجنس او مخالفاً بشرط ان يكون ذلك برضا الطرفين لأنه عقد مستقل عن الأول، ولو لم يرض الراهن فان الدين الثاني يعتبر بلا وثيقة رهن، والعين المرهونة تكون على الدين الأول فقط، فلو حل اجله وقضاه المديون يجب على الدائن ان يدفع له العين المرهونة وان كان الدين الثاني باقياً في ذمة الراهن.
ولو رهن شيئاً عند شخص ثم رهنه عند آخر برضا من المرتهنين صح ويكون رهناً على حق كل منهما واذا قضى دين احدهما انفك عن الرهن ما يقابل حقه.
يجوز ان يرهن اثنان عيناً شخصية مشتركة بينهما عند الدائن لهما، ويصح ان يكون بعقد واحد، ولو قضى احدهما دينه انفكت حصته عن الرهانة واصبحت طلقاً.
لو لم يكن تعدد المرتهن ابتداء بل كان طارئاً، كما لو مات الراهن عن ولدين وقام احدهما بدفع حصته من الدين فالظاهر انفكاك نصيبه بعد ثبوته شرعاً، كما انه لو مات المرتهن عن ولدين، فاعطى الراهن احدهما نصيبه من الدين انفك من الرهن بمقداره.
لا يدخل الحمل الموجود في رهن الحامل ولا الثمر في رهن النخل والشجر، وكذا ما يتجدد الا اذا اشترط دخوله او ابتنى العقد على دخوله، والظاهر دخول الصوف والشعر والوبر في رهن الحيوان وكذا الأوراق والأغصان حتى اليابسة في الشجر للتبعية الا ان يدل دليل او قرينة على الخلاف، واما اللبن في الضرع فالأقوى عدم دخوله.
الرهن لازم من جهة الراهن وجائز من طرف المرتهن، فليس للراهن انتزاع العين المرهونة من المرتهن بدون رضاه، الا ان يسقط المرتهن حقه من الإرتهان او ينفك الرهن بفراغ ذمة الراهن من الدين بالأداء او الإبراء او غيره.
لو برأت ذمة الراهن من بعض الدين ينفك من الرهن بمقداره الا اذا لم تكن العين المرهــونــة قابلة للتوزيع والقســمة كما لو كـانت حلية ذهبية او اشترط في العقد عدم التوزيع , ورهن المجموع على كل جزء من الحق.
بالرهن يصبح الراهن ممنوعاً من التصرف في العين المرهونة الا باذن المرتهن سواء كان التصرف ناقلاً للعين كالبيع، او ناقلاً للمنفعة كالإجارة او مجرد الإنتفاع به كالعارية.
لو ثبت الرهن بوثيقة وحجز عند الجهات المختصة يجوز للراهن ان ينتفع من العين المرهونة من غير نقل لها او التصرف المؤدي بها الى الإتلاف ولو على نحو الإحتمال المعتد به عند العقلاء على الاقوى.
لو اتلف الراهن العين المرهونة اثناء مدة الرهانة وقبل قضاء الدين يلزمه قيمتها وتكون القيمة رهناً، اما لو تصرف به بالبيع مثلاً توقف على اجازة المرتهن، فاذا اجاز صح البيع وبطلت الرهانة، وكذا تبطل لو كان المرتهن قد اذن بالبيع قبل حصوله.
لو كان الإتلاف بالإجارة فمع اجازة المرتهن صحت وبقيت الرهانة على حالها، وكذا تصح لو كان الرهن وثيقة عند الجهة المختصة كدوائر العقار، وكان الإيجار لا يضر بالعين المرهونة.
لو قام اجنبي باتلاف العين المرهونة يكون ضامناً للمثل ان كانت العين المرهونة من المثلي، او للقيمة ان كانت من القيمي وتبقى الرهانة على حالها.
لا يجوز للمرتهن التصرف في الرهن بدون اذن الراهن لأن الرهن لا يبطل ملكية الراهن له، ولو تصرف فيه بركوب او سكنى او لبس ونحوها ضمن العين ولزمه اجرة المثل يدفعها للراهن لما استوفاه من المنفعة، ولو تلفت تحت يده ضمن لأنه متعد ولقاعدة اليد، ولو كان التصرف ببيع او اجارة ونحوهما وقع فضولياً وتوقف على اجازة الراهن فان اجازه صح وكان الثمن او الإجرة المسماة للراهن لأنه المالك، اما بالنسـبة للبيع فبعد اجازة الراهن يصح البيع ويكون الثمن رهناً، ولم يجز لأحدهما التصرف فيه الا باذن الآخر، وعند قضاء الدين يصبح ملكاً طلقاً للراهن.
نماء الرهن
النماء الحاصل في الرهن منفصلاً كان كالثمر والصوف والشعر والوبر، او متصلاً كالسمن والزيادة في الطول تكون للراهن سواء كانت موجودة حال الإرتهان او وجدت بعده، نعم نماءاته المتصلة تتبعه في الرهن، ومنافع الرهن كالسكنى والركوب تكون للراهن.
لو رهن الأصل والثمرة منفردة صح، فلو كان الدين مؤجلاً وادركـت الثمرة قبل حلول الأجل، فان امكن ابقاؤها بالتجفيف او الخزن من غير اضرار بالراهن جاز وبقيت على الرهن، والا بيعـت وكان الثـمن رهناً ولو كان في حفظها مؤونة فهي على الراهن.
رهن الدار
لا يجوز رهن الدار وسـكنى المرتهن بها لحين قضاء الدين بلا عوض، كما يجــري احياناً لأن جعل منافع العين المرهونة للمرتهن من الربــا المحــرم، نعم يجــوز للراهــن ان يؤجر العين المرهــونة الى المرتهن باجرة المثل او اكثر، وكذا اجرتها بالأقل مع عدم الشرط او ابتناء العقد عليه.
لا يجوز للمرتهن بيع الرهن لإستيفاء دينه عند حلول الأجل بل يراجع الراهن ويطالبه بالوفاء ولو ببيع الرهن او توكيله في بيعه، فان امتنع الراهن رفع المرتهن امره الى الحاكم ليلزمه بالوفاء او البيع فان امتنع وأذن الحاكم أو مع فقد الحاكم وتعذر قيامه بالبيع قام المرتهن ببيعه بنفسه واستوفى حقه او بعضه من ثمنه اذا ساواه او كان اقل، وان كان الثمن ازيد من قيمة الدين كما يحصل غالباً يكون الزائد امانة شرعية بيد المرتهن عليه ان يوصله الى صاحبه.
بيع الرهن
لو لم يكن عند المرتهن بينة مقبولة لإثبات دينه وخاف لو اعلن واخــبر عن العين المرهونة ان يجحد الراهن الدين ويأخذ الرهن لأن المرتهن اعترف بعائديته مع مطالبته بالبينة فهــل يجــوز للمرتهن بيع الرهن من دون مراجعة الحاكم، قال جماعة بالجواز لجحود الوارث، ولقاعدة نفي الضرر وادلة المقاصة وكلها قابلة للمناقشة، والتعدي الى الراهن الحي يمكن ان يكون من القياس مع الفارق، كما ان يمين الورثة ينحصر بعدم علمهم باشــتغال ذمة مورثــهم بالدين وربما كـانوا صادقين في يمينهم، اما لو حلف الراهن كاذباً فان ما يخسره في الدارين اكبر واعظم من العين المرهونة ومقدار الدين، وللمرتهن الدائن ان يستوثق لدَينه.
لو مات الراهن ولم تكن عند المرتهن وثيقة او بينة لإثبات دينه له ان يبيع الرهن اذا رجّح عدم علم الورثة به وخشي جحودهم وله ان يخبر الورثة بالرهن لاسيما مع صلاحهم.
لو كان المرتهن وكيلاً عن الراهن في بيع الرهن فباع بعضه ووفى الدين اقتصر عليه ويمسك باقي الرهن امانة شرعية بيده، اما اذا لم يمكن التبعيض ولو من جهة عدم الراغب او كان فيه ضرر على المالك فيباع الكل.
يجوز بيع الرهن وان كان من مستثنيات الدين كدار سكن الراهن وسيارته الخاصة لأنها وثيقة دين، نعم يستحب للمرتهن ان يمهله في خصوص دار السكن.
إفلاس الراهن
اذا افلس الراهن او مات وعليه ديون للناس فالمرتهن احق من باقي الغرماء باستيفاء حقه من الرهن، وان فضل شيء من قيمة الرهن يوزع على الغرماء بالحصص، اما لو نقص الرهن عن حقه اخذ قيمة الرهن ويضرب بما بقي من حقه مع الغرماء في سائر اموال الراهن مع وجودها.

ضمان الرهن
الرهن امانة في يد المرتهن لا يضمنه لو تلف او تعيب من دون تعد وتفريط، واذا ادعى الراهن عليه التعدي او التفريط وليس له بينة فعلى المرتهن اليمين سواء ادعى تلف الرهن وحده او مع جملة من مال المرتهن.
لو كان شيء في يد المرتهن مستحقاً كما لو كان مغصوباً ثم ارتهن عنده باذن المالك فالأقوى ارتفاع الضمان واذا انفك الرهن بسبب الأداء او الإبراء او نحوه يبقى امانة مالكية في يده يجب تسليمه الى المالك عند المطالبة كسائر الأمانات.
لا تبطل الرهانة بموت الراهن ولا بموت المرتهن فتنتقل ملكية الرهن الى ورثة الراهن مع بقائه مرهوناً على دين المورث لاطلاق النصوص والاجماع وعمومات احكام التمليك بالوراثة، وينتقل الى ورثة المرتهن حق الرهانة لأنه من الحقوق القابلة للنقل ولعمومات النصوص الواردة في المواريث وللاستصحاب وقاعدة لا ضرر ولا ضرار.
وينبغي للمسلم ان يكون وثوقــه بأخيـه المسلم اكثر من وثوقه الى الرهــن خصــوصاً اذا كان الراهـن ثقة ومن اهل الامانة.
وقيد (مقبوضة) يفيد تعلق صحة الرهن على تحقق القبض، وعدم صحة رهن المبهم والمردد بين اثنين او اكثر، فلابد ان يكون الرهن معيناً، نعم يصح رهن الكلي في المعين كشاة من هذا القطيع على ان يتم قبضها، ولا يصح رهن المجهول كما لو رهن ما في الصندوق المقفل، ولو رهن الصندوق وما فيه صح بالنسبة للصندوق اذا كان قابلاً للرهن، ويصح الرهن بالمشاهدة اذا كانت رافعة للجهالة والغرر.
بالرهن يصبح الراهن ممنوعاً من التصرف في العين المرهونة الا باذن المرتهن سواء كان التصرف ناقلاً للعين كالبيع، او ناقلاً للمنفعة كالإجارة او مجرد الإنتفاع به كالعارية.
والرهن وقبضه من قبل المرتهن لايعني اخذه لمنافعه ونمائه لانه مجرد وثيقة، اما منافعه فتعود للمالك، ولا يجوز للمرتهن التصرف في الرهن بدون اذن الراهن لأن الرهن لا يبطل ملكية الراهن له، ولو تصرف فيه بركوب او سكنى او لبس ونحوها ضمن العين ولزمه اجرة المثل يدفعها للراهن لما استوفاه من المنفعة، ولو تلفت تحت يده ضمن لأنه متعد ولقاعدة اليد، ولو كان التصرف ببيع او اجارة ونحوهما وقع فضولياً وتوقف على اجازة الراهن فان اجازه صح وكان الثمن او الإجرة المسماة للراهن لأنه المالك، اما بالنسـبة للبيع فبعد اجازة الراهن يصح البيع ويكون الثمن رهناً، ولم يجز لأحدهما التصرف فيه الا باذن الآخر، وعند قضاء الدين يصبح ملكاً طلقاً للراهن.

تفسير قوله تعالى[فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا]
تبين الآية حال حصول الامن والثقة بين المسلمين في باب الدين والقرض، كما انها دعوة للأمن وتبادل الثقة والطمأنينة بينهم لكنها لم تأمر به، بل تحث عليه بصيغة الشرط وترتب على هذا الامن حكماً امتنانياً خاصاً.
وهل تعني الآية في مفهومها ان الرهان المقبوضة دلالة عدم الامن والثقة، الجواب: لا، لانها ليست بديلاً عن الامن بل هي اصل من مقومات عقد الدين في السفر وشرط احترازي، والامن يأتي للتخفيف والتيسير.
وهذه الآية تضيف قسيماً لاقسام البيع لتكون:
الأولى : بيع ودين بكاتب وشاهدين بشرط العدالة.
الثانية : بيع ودين بكاتب وشاهد وامرأتين.
الثالثة : اسقاط الكتابة في التجارة الحاضرة.
الرابعة : البيع والدين برهان مقبوضة.
الخامسة : البيع والدين بالثقة والامانة.
والاضافة في الآية [بَعْضُكُمْ بَعْضًا] تدل على اختصاص الترخيص بالمسلمين، فهو مطلق وليس مقيداً الا ان اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره، فما يخص غير المسلمين يمكن ان يستقرأ حكمه من هذه الآية او من آية اخرى في القرآن، وقد ورد قوله تعالى [وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ]( ).
وقد يقال ان ظاهر الجمع بين الآيتين يفيد حصول التقسيم عند المسلمين وغيرهم، فالمسلمون منهم من يؤخذ منه الرهن على الدين ومنهم من تأمنه على المال، فيباع ببيع الامانة.
قلت: ان الآية تتعلق بالاموال وفيها ارشاد للاستيثاق على حفظه وايجاد وثيقة لضبطه، والآية في اهل الكتاب جاءت بخصوص الامانة وفي وصف حالهم ومراتبهم والتباين فيما بينهم بلحاظ اتحاد الملة، اما بالنسبة للآية محل البحث فجاءت بخصوص البيع والدين، وقد وردت نصوص عديدة بالترغيب باقراض المسلم وفيه ثواب عظيم.
لقد وردت الآيات القرآنية بالاحسان الى ابن السبيل وهو المنقطع به والفاقد لنفقة العودة الى وطنه قال تعالى [فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابن السَّبِيلِ] ( ).
فهل يدخل ابن السبيل في موضـوع هذه الآية وتسهيل ادانته واقراضه وان لم يكن عنده رهن، الجواب: لا، للتباين الموضوعي، فالبيع والادانة غير الصدقة خصوصاً وان من الصدقة ما يكون فرضاً وواجباً.
ولا تعارض بين الامرين، أي من لم تجتمع شرائط بيعه بالنسيئة واقراضه لتعذر وجود الكاتب والرهن معاً، وكان فقيراً او محتاجاً يعطى من الصدقات، والحاجة هنا اعم من الفقر، فقد يكون ذا شأن وثروة في بلده ولكن انقطعت به سبل العودة، نعم قد يكون ابن سبيل ولكنه ممن يأمنه صاحب المال فتشمله الآية، لا لأنه ابن سبيل بل لأنه ثقة وأمين، وهذا من منافع الأمانة والصدق وحسن السمت والسمعة ان يكون الانسان غنياً بجاهه واعتباره، فان كان فقيراً محتاجاً فيحصل على ما يريد من غير سؤال وذل ومسكنة، والبعض شئ من شـئ او اشياء، وبعض الشــئ طائفة منه، أي ان الكتابة والشهادة تبقى هي الاكثر الا ان يقال ان يصدقه على ما زاد على النصف، ومع هذا فان ظاهر الآية يدل على ارادة الاستثناء والاقل سواء بلحاظ الدين او البيع.
ووجوه الآية المحتملة:
الأولى : البيع والدين اثناء التلبس بالسفر.
الثانية : البيع والدين في الحضر والسفر مطلقاً.
الثالثة : في السفر وعند عدم وجود الكاتب.
الرابعة : في السفر وعند عدم وجود الكاتب وتعذر الرهن وان كانت قيمته اقل من الدين.
الخامسة : التجارة الحاضرة.
والاقوى هو الوجه الثاني لوحدة الموضوع في هذه الآية والآية السابقة، ولعدم كفاية الفصل بين الآيتين على ارادة الحصر بحال السفر، ولورود خاتمة الآية بخصوص كتمان الشهادة وهو امر لم تشر له بداية الآية.
ومع ان آية الدين هي اطول آية في القرآن وعدد كلماتها هي مائة وثمان وعشرين كلمة فانها لم تستوف مسائل الدين وجاءت هذه الآية لاتمام موضوعاته وذكر الاستثناءات ذات الاهمية لبيان عظيم فضله تعالى، ولمنع الاختلاف والجحود.
وهذه الآية تظهر عناوين الاكرام في ثنايا مسألة تجارية ومالية محضة كي لا ينسى المسلمون الاخوة ومضامين حسن الظن وفق موازين الايمان والهداية.
وتدل الآية بالدلالة الالتزامية على الحث على اداء الصلوات اليومية جماعة لانها من اهم الشواهد لمعرفة عدالة الشخص، فمن كان يواظب على الصلوات جماعة فان الناس يشهدون له بالصلاح مع عدم ثبوت خلافه، كما ان الجماعــة مقدمة للامـــن والامانة، فلو جاء اثنان لصاحب المال وارادا الاستدانة، واحدهما يواظب معه على صلاة الجماعة ويظن به خيراً والآخر لا يعرفه او يعرفه ولكنه لا يراه في المسجد الجامع فانه يفرق بينهما ويجعل مائزاً للاول.
يمكن ان نؤســس علماً جــديداً في القــرآن وهو قـراءة شطر الآية على نحو مسـتقل وبما لا يخل بالمعنى ولا المقاصد السامية للآية ومدلولاتها العقائــدية والفقــهيــة والعلميــة، وهذا العــلم لا تكـون نتائجه قطعية للزوم اخذ التركيب اللغوي والاعراب باللحاظ عند ارادة المعنى، فقوله تعالى [فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا] بقراءته بمفرده يفيد عدة معان منها:.
الأول : عظيم فضله تعالى على المسلمين.
الثاني : طرد الخيانة والغدر من الصلات بين المسلمين وتنزيه عالم المعاملات عندهم وجعلها مرآة الأخوة والأخلاق الحميدة.
الثالث : سيأتي يوم لا يخاف فيه المسلمون بعضهم بعضا.
الرابع : عدم حصول حروب ومعارك بين البلدان الاسلامية، وقبائل المسلمين، وفعلاً فانك ترى المسلمين ايام التنزيل قد تخلوا عن كل الضغائن وتركوا الثارات والغزو والنهب والسلب.
الخامس : سيأتي يوم على المسلمين يتبايعون بالهاتف والقول والمعاطاة وتسود الثقة والامانة بينهم مع بقاء آية الدين وهذه الآية لانهما توكيد على بقاء موضوعهما وان حصل أمان فانه على نحو الموجبة الجزئية، كما انه لا يمنع من الكتابة، بمعنى انه تجوز الكتابة والاشهاد حتى مع الامانة، ولكن مع عدم الامانة لا تترك الكتابة والاشهاد.
الخامسة : الآية دعــوة للعــمل الجماعــي والفردي على تنمية ملكة الامانة عند المسلم والمنع من اسـتحواذ النفس الشهوية وطرد اسباب الخيانة والنفرة، وهو امر يستلزم مناهج تربوية عامة مقتبسة من القرآن والســنة النبــوية الشــريفة القــوليــة والفعلية والتقريرية، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوة يسمى الصادق الامين وهذه التسمية واسبابها علة لتصديق الناس برسالته التي جاءت معضدة ومؤيدة بالآيات والبراهين.

تفسير قوله تعالى [فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ]
امر الهي لكل مدان مؤتمن باداء الدين وقضائه، والاداء هنا انحلالي ويراد منه:
الأول : اداء مقدار الدين.
الثاني : اعطاؤه لصاحبه نفسه.
الثالث : التأدية عند حلول الاجل.
الرابع : اجتناب الماطلة والتسويف والخيانة والجحود.
وبين الدين والامانة عموم وخصوص من وجه، ولكن الآية سمت الدين هنا امانة وهذا من الاعجاز في الفاظ القرآن ومعانيها التي يدركه ذوو الابصار الظاهر منها، ويدرك ذوو البصائر مضامينها القدسية، فمع عدم الكتابة والاشهاد يكون الدين بمنزلة الامانة وليس على المدان الا العهد والذمة كسبيل للاداء، وهذا الوصف في القرآن ترغيب بالاداء ومدح وثناء على الذي يؤدي، ويصلح اطلاق صفة (امين) على الذي يؤدي الدين الذي لم يشهد عليه وليس فيه شهود.
ولو سئل المسلم ايهما افضل لك الاداء مع الصك والشهادة، ام الاداء مع نيل مرتبة (الامين) من غير صك وشهادة، فلا يختار الا الثاني لما فيه من المعاني والعناوين الاعتبارية والاخلاقية والاجر والثواب في ذات الفعل وفي نيل الصفة.
وفي الآية بشارة وهي ان اداء الدين من غير وثيقة ينشر صفة الامانة بين الناس، وكثرة الامناء فيها، والامانة على المال تؤدي بالانطباق الى الامانة في الدين واداء العبادات والتقيد بالاحكام الشرعية في باب العبادات والمعاملات.
ولم يرد لفظ (اوتمن) و (امانته) الا في هذه الآية مما يدل على اكرام المدان الذي يؤدي من غير وثيقة وتشرفه بانفراد لفظ الامانة ونسبتها له بصيغة المفرد، كما تشمل دين الامانة احكام الامانات لانها الحقت بها ولو مجازاً واكراماً وتشريفاًَ، قال تعالى [وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ]( ).
ان الامر بالاداء في هذه الآية رحمة مزجاة للمسلمين في اسواقهم ومعاشاتهم، وقد ينفرد المسلمون بنيل صفة الامانة من السماء لاداء الدين، بل ان مجرد الاستدانة من المسلم الاخر من غير وثيقة يصدق عليها امانة، فمن ادى هو امين، والمعسر الذي عجز عن الاداء امين ايضاً مع ان مقتضيات الامانة ارجاعها الى صاحبها حين الطلب وارادة الاسترداد، وعدم جواز التصرف بها مدة وجودها، فالمدان يأخذ الدين ويتصرف بالمال والدائن يعطيه مع حاجته له، ولو اراد ايداع امانة لما اودعها عنده، ومع هذا فان الآية تكرم المدان وتسميه امين.
وفيه دعوة للدائن لاستدامة اكرام المدان وعدم الخوف اثناء مدة الدين خشية عدم ادائه عند حلول الاجل، فالمعروف ان الانسان بجعل الامانة عند من يثق به، ولا يكون قلقاً مدة الامانة، بل بالعكس فان توديع العين عند الامين سبب للتخلص من القلق والخوف، وكذا في المقام فان الدين نوع امانة.
ترى ايهما افضل للدائن، الكتابة والشهادة، ام الامن والاطمئنان للمدان، الجواب: هو الاول، بدلالة الآية الكريمة لان الامن هنا ورد على نحو الاستثناء والحالة الخاصة وان زادت واتسعت، كما ان قاعدة السلطنة وقاعدة نفي الحرج معتبرتان في المقام، والامر بالكتابة والشهادة لطف وفضل الهي مستديم، وهو عون على الامانة والثقة في البيع والشراء، فاذا علم المدان ان صاحب المال اكرمه واستثناه من كتابة الدين والشهادة عليه، فانه يحرص على الاداء واظهار نفسه بمظهر الثقة والاهلية للامانة.
والآية حث على الدعاء للتوفيق للاداء والقضاء والصيرورة عند حسن ظن الآخرين، ومن يقترض ويقضي دينه في اجله فان يكسب ثقة واحترام الاخرين، ومن وجوه ورود الامن في الآية تكرر الاداء وسلامة الاختبار، مع ان التعدد في الدين لا يلغي الكتابة والشهادة، وفي الآية تغليظ باعتبار الدين امانة ودلالة على ان الذي يحسن الظن باخيه المسلم فان الله عز وجل معه.

القراءة المستقلة
في الآية اخبار عن تحـمل المسلــمين لمســؤوليات الامانة وحفظ العهد والوديعة وهي استنابة في حفظ المال اي وضـعه عند الغير للإستئمان عليه وحفظــه لمالكه، وتكــاد تكون ملازمة لوجود الإنسان على الأرض، ولكن الإسلام اخضعها للقواعد الشرعية وبيّن احكامها لتكون معلماً اخلاقياً محســوســاً ومناســبة للأمن والثــقـة والأجر والثواب لاسيما وان موضــوعها يتعــدى في العرف الإسلامي المال، والإجماع على مشــروعيتــها، قال تعالى [ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ]( )، ويقال لصاحب المال المودع وللذي تحفظ عنده الوديعة الودعي والمستودع.
وجاءت الآية بذكر اداء الامانة مما يعني بالدلالة التضمنية الاتيان بمقدمات الاداء وهي تعاهدها وحفظها ومنع تعرضها للتلف، والحرص في الدين على الاداء وتوفير المال وعدم الاسراف في الانفاق لحين مجئ الاجل والادعاء بالاعسار، بل لابد من التدبير والاقتصاد المناسب للاداء في الاجل، وكما يجــب على المسـتودع حفظ الوديعة وفق المتعارف والممكن ولهما موضــوعية حتى في نية المودع لإختيار الوديعة او شخص المستودع، ويجب وضعها في حرز مناسب لها بحيث لا يعد عرفاً مقدمة للتضييع او التفريط او الخيانة، ويجب على المستودع تحصيل الحرز عند قبوله الوديعة لوجوب حفظ الأمانة ولأن مقدمة الواجب واجبة.
والامانة اعم من الدين والمال والوديعة العينية، بل تشمل الامور الاعتبارية وكتمان الاسرار الشخصية، ولكن الآية جاءت بلفظ (فليؤد) بارادة المال والدين والوديعة، وهذا من اعجاز القرآن ان الآية ترد في موضوع والمراد اعم، مما يعني فتح ابواب الدراسة في علوم كل آية من القرآن لاستخراج كنوزها، وجاء ذكر الامانة على نحو الاطلاق من غير تقييد لها بمقدار أو اجل وهو من السعة في المعاملة واكرام المسلم واهليته لتحمل الامانة.

تفسير قوله تعالى [وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ]
جاء الامر بالخشية منه تعالى مقارناً مع اداء الامانة ومتعقباً له، فلم يأت الامر بتقوى الله مقدمة للاداء ولا علة او جزء علة للاداء، ولم تقل الآية ان اداء الدين من تقوى الله، بل جاء الامر فيها مركباً من :
الأولى : اداء الدين باعتباره امانة.
الثانية : الامر بتقوى الله والامتثال لاوامره واجتناب ما نهى عنه، والخوف من عقابه.
ومجئ الامر بتقوى الله متعقباً للامر بالاداء فيه مسائل:
الأول : اداء الامانة والدين موضوع له حكمه الخاص ويجب على الانسان ان يؤدي الدين لانه نوع عهد وانشغال للذمة.
الثاني : حسن ظن صاحب المال يجب ان يقابل بالشكر، فهو يقوم بالبيع بالنسيئة ويترك الكتابة والشهادة ويكون كالودعي، والمدان يصبح كالمستودع، والشكر من المدان يتجلى بحسن الاداء.
الثالث : اداء الامانة له آثار ووجوه اخلاقية واجتماعية وعرفية، فكل انسان يجب ان يرد الامانة والأولى ان يعرف اهله وجيرانه انه ادى الامانة، ولو اخل بها فان الناس يذكرون الواقعة ويجعلوها سبباً للاحتراز من امانته.
لذا جاء تقديم الاداء لتعاهد الانسان لمنزلته الاجتماعية وصدقه وامانته، فجاءت الآية لتؤكد على اداء الدين بما هو دين ومعاملة شخصية، ثم يأتي الامر بتقوى الله وفيه:
الأولى : انه توكيد على اداء الدين وحث على عدم التهاون والمماطلة.
الثانية : استحضار تقوى الله في كل فعل وموضوع وسيلة مباركة لادائه على الوجه الصحيح المبرء للذمة.
الثالثة : الامر بتقوى الله جاء اضافياً متعقباً للواجب المأمور به , وهو اداء الدين.
الرابعة : تقوى الله قيد شرعي لصدق قضاء الدين، فمع قصد القربة واداء الدين لتقوى الله والخشية منه تعالى يحصل الاجر والثواب، ومن وجوه التقوى اداء الدين كاملاً وفي اجله، لكي لا يقول من ادى الدين بعد فوات الاجل والمماطلة بانه ممن ادى الامانة وقضى دينه، جاء الامر بالتقوى للحث على الاداء في الاجل، لان الاجل ركن من اركان الدين فلابد من التقيد به وعدم مخالفته، نعم لو كان معسراً ثم قضى دينه عند اليسر والامكان فانه لا يخرج عن عمومات الآية ويصدق عليه انه أدى الدين.
وجاءت الآية بالتوكيد بذكر البدل وقالت [وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ] وهذا التوكيد بشارة الاعانة منه تعالى لقضاء الدين وتيسير الامر، وانه سبحانه يثيب الامين، ويجازي الاحسان بالاحسان، وفي الآية انذار ووعيد فانه تعالى يعلم حال الجاحد والمنكر للدين، والذي يأتيه الدائن في الاجل فيقول ليس لك عندي شئ، اخرج الصك او أأتي بالشهداء ان كان الامر كما تدعي، او يتجرأ ويقول ان كنت صادقاً.
وتبين الآية ان علمه تعالى بخــفايا الامــور اهم مـن مسألة قضاء الدين وعدمه، وانه تعالىاحاط بكل شئ علماً، ومتى ما علم الانسان ان الله يعلم حاله ويسمع كلامه ويرى فعله وان وراءه حساباً اخروياً لا تفوته صغيرة او كبيرة من الاعمال فانه يستحي من الله ويحرص على الاداء.
ويمكن حمل الآية على المعنى الاعم فتشمل المرتهن ايضاً فيجب عليه اعادة الرهن الى الراهن عند اداء الدين، لان الرهن أمانة من وجوه:
الأول : غالباً ما تكون قيمة الرهن اكثر من قيمة الدين.
الثاني : الرهن امانة في يد المرتهن لا يضمنه لو تلف او تعيب من دون تعد وتفريط، واذا ادعى الراهن عليه التعدي او التفريط وليس له بينة فعلى المرتهن اليمين سواء ادعى تلف الرهن وحده او مع جملة من مال المرتهن.
الثالث : لو ظهرت للمرتهن امارات الموت يجب عليه الوصية بالرهن وتعيين المرهون والراهن والإشهاد كما في سائر الودائع والامانات، ولو لم يفعل كان مفرطاً وعليه ضمانه.
واطلاق الآية بقوله تعالى [فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا] يفيد العموم والتعدد والمقابلة في الامن والاطمئنان كما تقدم وهو مطلق، وفيه صور ثلاث:
الأولى : الامانة من طرف الدائن فيأمن بالمدان ويبيعه بالنسيئة او يقرضه من غير كتابة ولا شهود ولا رهن.
الثانية : الامانة من طرف المدان، فيعطي الرهن من غير كتابة او شهادة، في الوقت الذي اشهد على دينه او انه لا ينكر اصل الدين، وهذه المسائل تحصل عند موت المرتهن، فيأتي الراهن ويقول اني مدان لمورثكم بمبلغ قدره كذا وجعلت عنده رهناً كذا، فيثبت اقراره على نفسه بالدين ولكن ادعاءه الرهن يحتاج الى بينة شرعية، لذا يجب على المرتهن توثيق الرهن وذكر صاحبه وموضوعه والاشهاد عليه وجعله في مأمن وحرز ويجري عليه احكام الوديعة.
الثالثة : أمانة وثقة الطرفين الدائن والمدان بالشهداء والكاتب في توثيق مبلغ وأجل الدين.

علم المناسبة
لم يرد قوله تعالى [وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ] في القرآن الا في هذه الآية والآية السابقة، وفيه نوع اعجاز ودلالة على اختصاص موضوع التداين بمفاهــيم خاصة تتعلــق بالايمان وخشــــية الله، وقد جــاء في الآيــة السابقة بخصوص الذي عليه الحق في حال الاملاء، اما هنا فورد في حال الاداء لانه ليس من كاتب في المقام انما تم التداين بالامن والثقة، ويحتاج الانسان التقوى للتقيد بمقدار الدين والاجل المعلوم وعدم الجحد او الانكار.
وجاءت الآية بصيغة المفرد للاخبار عن حقيقة وهي علمه تعالى بالدين والقرض فان لم يكن هناك شاهد فالله خير الشاهدين[قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ] ( ).
وتبين الآية موضوعية تقوى الله في الامانة وهي سبب لبعث السكينة في نفسي المودع، فمتى ما علم ان الامين والمدان يحرص على تقوى الله في الغيب والسر والعلانية فانه يطـمئن لماله ويثق به فتكون التقوى من اهم السبل لصلاح المجتمعات وتنظيم المعاشات.

تفسير قوله تعالى [وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ]
بعد لغة الغائب وصيغة التنبيه والتحذير والحث على تقييد الامين بتقوى الله، جاء هذا الجزء من الآية بصيغة الامر باعلان الشهادة والزجر والنهي عن كتمانها، والمراد من الآية وجوه:
الأولى : عدم اخفاء الشهادة.
الثانية : اظهار الشهادة واداؤها على الوجه الصحيح.
الثالثة : تعاهد موضوعها والاستعداد لادائها عند الطلب.
الرابعة : عدم تحريفها.
الخامسة : الامتناع عن التواطئ على تغيير موضوعها وما تمت الشهادة عليه.
السادسة : اجتناب شهادة الزور وقول غير الحق.
السابعة : اتيان الشهادة على وجهها.
ومع ان الجزء السابق من الآية جاء بصيغة المفرد، فان هذا الشطر من الآية جاء بصيغة الجمع وفيه مسائل:
الأولى : الخطاب لمجموع المسلمين.
الثانية : صحيح ان موضوع الآية خاص بالذين يتحملون الشهادة فيجب عليهم اداؤها، الا ان الخطاب في الآية ينحل الى عام وخاص، والعام هو ان تحملتم الشهادة فلا تخفوها، والخاص هو عدم كتمان الشهادة بعد تحملها، أي ان العام من الآية يشمل كل مكلف وعلى نحو التعليق والاستعداد، ومن منافعه ان من لم يستطع تحمل الشهادة وحفظــها وصيانتها وعدم التفريط بها يجب عليه ان يتجنب الشهادة تخفيفاً عنه وعن الامة، وهو من وجوه التقوى وبذا يشمل الامر بالتقوى الشاهد وغير الشاهد، ويشمل الاخير من وجوه منها:
الأول : اعتذاره عن الشهادة في حال العجز عنها او خشية النسيان، ومن شرائط الشهادة عدم قبول شهادة من غلب عليه السهو والنسيان والغفلة.
الثاني : في الآية نهــي عن التواطــئ على اخفــاء الشــهادة، كمـا لو قام احد اطراف العقد او اجنبي بتحريض الشاهد على اخفاء الشهادة.
الثالث : الشهادة من جهة العدد على قسمين، اما شاهدان عدلان واما شاهد وامرأتان، هو جمع ومتعدد فلذا جاءت الآية بصيغة الجمع، فاذا كتم الشهود في قضية شخصية الشهادة تفتقد البينة.
الرابع : الآية دعوة لاداء الشهود بشهادتهم وان لم يكونوا قد استشهدوا كما لو جرى العقد واختير شاهدان من الحضور، فباقي الحضور لهم الادلاء بالشهادة وعدم كتمانها، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: “خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل ان يسألها”.
الخامس : تترتب على اداء الشهادة على وجهها مصالح عديدة لا تنحصر بموضوعها ولا اطرافها بل تتعلق بعالم العبادات والمعاملات، فلذا جاءت الآية بصيغة الجمع للاخبار عن المسؤوليات العامة للمسلمين جميعاً في تعاهد الشهادة.
ومن وسائل اظهار الشهادة كتابة صك الدين لانها عون على الاداء الصحيح، والآية اعم من ان تنحصر بالخصومة والدعوى (فأصل الشهادة الاخبار عما شاهده)( )، ان الاستعداد لاداء الشهادة ممن عملها ومن حضر سلاح اخلاقي لسلامة المجتمعات الاسلامية واشاعة الأمن وهو مناسبة للصلاح والتقوى.
وهناك فرق بين كتمان الشهادة وبين شهادة الزور، وقد ورد عن ابن عباس انه قال: “اكبر الكبائر الاشراك بالله لقوله تعالى [فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ]( ) وشهادة الزور، وكتمان الشهادة”، فجعل شهادة الزور غير كتمان الشهادة.
والنسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الالتقاء اخفاء الحقيقة وعدم الشهادة بالحق، اما مادة الافتراق ففي شهادة الزور تحريف للحقائق وادعاء ما لم يكن، اما كتمانها فهو امتناع عن كشف الحقائق كما لو ادعى انه لم يشهد ولم يرد، او انه نسى ولم يذكر ما حصل.

علم المناسبة
ورد لفظ (لا تكتموا) بصيغة النهي مرتين في القرآن وكلاهما في سورة البقرة مما يدل على موضوعية سورة البقرة في باب المعاملات التي تستلزم الصلاح وتقوى الله، والمعروف ان سورة البقرة نزلت في المدينة أي ان المسلمين اصبحوا مؤهلين لاعتماد التقوى في المعاملات وهو امر لا يتحصل الا مع الارتقاء في منازل الايمان.
والآية الثانية وردت في بني اسرائيل[وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( )، مما يدل على دخول اداء الشهادة في باب العقائد والمبادئ وانها حق لا يجوز اخفاؤه، والشهادة حق لله وللناس ولطرفي العقد، فقوام الدين والشريعة بالشهادة بالحق في الجنايات والمعاملات، وهي حق للناس لان فيها حفظاً لحقوقهم واموالهم، وزجر للظالم عن الاعتداء والسرقة والقتل.
فمتى ما ادرك الانسان وجود شهود يدلون بالشهادة على وجهها ويخبرون عن الحدث كما رأوه وسمعوه فانه يتجنب الاعتداء والسرقة والقتل ويكون اسوة في الصلاح او لا اقل في اجتناب السيئات، فتصان الحرمات والاموال والاعراض، ثم ان قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ]( )، لا يتقوم الا بالشهادة واثبات الجناية، وقد يأتي بالاقرار ولكنه فرد قليل ولا عبرة بالاقرار الذي ينتزع بالاكراه فمن شرائط التكليف الاختيار.

تفسير قوله تعالى [وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ]
الكتمان الاخفاء وهو نقيض الاعلان، والكتم يكون حسناُ ويكون قبيحاً، فمن الاول كتم السر عندما يســئل الانسان كتمه، وقد وردت مادة (كتم) احدى وعشرين مرة في القرآن كلها بالمعنى الثاني الذي يتضمن الذم على كتمان الحق إلا واحدة وردت في كتمان الايمان تقية لحفظ الدم والنجاة من الظالمين [وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ]( ).
ولم يرد لفــظ (يكتمهــا) في القــرآن الا في هــذه الآيـة ويحتمل أمرين:
الأول : ارادة الشهادة مطلقاً باعتبار ان الالف واللام فيها للجنس.
الثاني : المقصــود الفرد الواحــد من الشــهادة وان الالف واللام فيها للعهد.
والآية تشــمل المعنيــين معاً، فهــي قاعــدة كلية في باب الشهادة تنبســط على افرادها، وتتضمن الآية الانذار والوعيد والتخويف والتقبــيح لان الوصف بالاثم الذاتي اشارة الى التعرض للعقاب الشديد.
والاثم في اللغة الذنب وعمل مالا يحل شرعاً، ولكن الآية جاءت بوصف القلب بالاثم وهو مصدر الفعل، وكأن الشهادة من العقائد واظهار الشهادة على وجهها يعكس صدق الايمان وقصد القربة.
والآية دعوة لتهذيب النفس وتنقيح السلوك والتخلص من الغشاوات الظلمانية، وحث على بذل الوسع في جهاد النفس وجعلها تتقيد باحكام الشريعة والامر الذي يتطلب معرفة حقيقة الدنيا وعاقبة الذنب والاضرار الدنيوية والاخروية التي ترجع على الذي يخفي الشهادة او يأتي بها على غير وجهها وبخلاف الواقع والحق.
ولم يرد لفظ (آثم قلبه) في القرآن الا في هذه الآية الكريمة مما يدل على قبح شهادة الزور وانها سبب للضلالة ونتيجة للكفر، وان علتها عزوف القلب عن الهداية واصراره على المعصية، وبينما جاء الشطر السابق من الآية بالنهي عن اخفاء وكتمان الشهادة جاء هذا الشطر بذم الذي يخفيها ونعته بالاثم الذاتي والنفسي، وبصيغة الجملة الشرطية وليس الوصف لحال المسلمين، فلم تقل الآية (والذي يكتمها منكم)، او (ومن يكتمها منكم)، بل وردت مطلقة من غير تقييد بجماعة او امة او خصوص المسلمين.
فالآية قاعدة كلية مهملة، وهذا من بديع القرآن ودقائقه والقواعد الكلية التي تتغشى آياته باكرام المسلمين وعدم توجه الذم لهم، ولا تنحصر الآية بخصوص الشهادة على الدين والمال بل هي مطلقة وتشمل اخفاء الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والاسرار الغيبية والبراهين التي يتضمنها القرآن والكتب السماوية السابقة التي تشهد بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية دعوة للاعراض والابتعاد عمن يخفي الشهادة ويكتمها ومن يشهد شهادة الزور لانه عنوان الفساد والافساد، وتحذير للمسلم اخفاء الشهادة، فمتى ما ادرك حصول العزلة عند الاخفاء الى جانب العقاب الشديد في الآخرة فانه يتجنب الاخفاء لان شهادة الزور لا تأتي إلا لمصالح دنيوية آنية ومنافع محدودة بسبب نقص الايمان وغلبة الشهوة والغضب.
فاذا ما علم الانسان ان المنافع الدنيوية التي يخسرها بشهادة الزور اكــبر، اذ يزدريه الناس ويحــذرون منه فهو يرضــي شــخصاً واحداً ولكنه يغضب الله والناس جميعاً لبغض التحريف وشهادة الزور شرعاً وعقلاً، بل حتى الذي شهد له بالباطل يخشى غدره في الباطل ومناهج الاعمال.
ومن البراهــين العاجلة في الدنيــا ان شــاهد الزور يحس بحذر صاحبه الذي نصره بالباطــل وحرف الحقائق والوقائع ارضاء له، وتعامله معه بريبة وسوء ظن، وهو من اللطف الالــهـي في ابعاد العبد عن المعصية وتقريبه الى الطاعة، ومــن مصاديق الشهادة الحكم بالحق لان الحاكم شاهد على الاحكام السنن، ومن يختارونه للتمييز بين الاشياء في الافضلية والمسابقات والاختيار، وتتجلى الشهادة بمعرفة الافضل والاحســن، ويصـدق الكتمان باخفاء الحقائق والانتصار للطرف المرجوح لاسباب دنيوية ومادية وابتغاء الجاه ورضا السلطان او الغني او ارباب العمل، فهذا التمييز يدخل في مصاديق الحكم وفي الشهادة.
علم المناسبة
لقد وردت مادة (كتم) في القرآن بلغة الذم باستثناء آية واحدة كما تقدم، وتحذر الآيات من كتمان الحق واخبار النبوة وما جاءت به الكتب السماوية، مما يعني ان كتمان الشهادة وان كان في المعاملات والمنازعات الا انها شهادة، فهي شهادة على الانسان نفسه وهل قلبه مملوء بالايمان، قال تعالى [وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( )، ووصف القلب بالآثم في مفهــومه مـدح للمسلمين الذين يتقيدون باحكام الشهادة ودعوة لتحدي الظلم والاغراء والتغرير للعدول عن الشهادة بالحق.

تفسيرقوله تعالى [وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ]
خطاب موجه للمسلمين جميعاً وخاتمة هذه الآية متصلة باول الآية السابقة (آية الدين) مما يدل على وحدة الموضوع وكأنها اشعار ببدء الانتقال الى موضوع آخر في الآية التالية فالمراد من الآية وجوه:
الأولى : حال التداين بين المسلمين.
الثانية : اعراض بعض الناس عن الدين واسباب هذا الاعراض سواء من جهة الادانة او الاستدانة، ومن الناس من يتجنب طرفاً واحداً منهما، فقد يقوم بادانة الاخرين رجاء الثواب ويتجنب الاستدانة تخلصاً مما فيها من اظهار الحاجة الى الناس.
وبين الذين لا يستدينون وشطر من الاغنياء الذين لاحاجة لهم بالدين عمــوم وخصــوص مطـلق، فقـد يكون الانســان بحاجــة الى الدين في تمشية اعماله وانجاز مشاريع في الصناعات او الزراعات ولكنه يبقيها تسير بتؤدة اجتنابا ً للسؤال وذله، وتراه يستمر بادانة الآخرين، ومنهم من يشتري بالنسيئة ولكنه لا يبيع الا بالنقد، وجاءت الآية بالاخبار عن علمه تعالى بهذه الاعمال، وفيه تذكير بعالم الثواب والعقاب.
الثالثة : في خاتمة الآية اشارة الى عظيم فضله تعالى على المسلمين بالارتقاء والصلاح الذي جاءت به هذه الآية.
الرابعة : ان الله عز وجل يعلم حال التداين في الحضر والسفر واسباب وكتابة الدين والشهادة عليه، والتداين بالرهن المقبوض.
الخامسة : انتشار الثقة بين المسلمين واطمئنان بعضهم لبعض يعلمه الله عز وجل، وهو من لطفه واحسانه ومن ثمرات القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين وما يترشح من فضل العبادات على المعاملات، وان أمن المسلم اخاه المسلم لاسلامه فهل فيه ثواب، الجواب: نعم خصوصاً على القول بكفاية الاسلام لاعتبار العدالة عند الشخص الا مع وجود امر عرضي آخر يخل بالعدالة وبه قال كثير من الفقهاء.
السادسة : في الآية انذار وتخويف من عدم اداء الدين سواء :
الأول : مع الكتابة والشهادة.
الثاني : مع الكتابة وحدها .
الثالث : بحضور الشهداء.
الرابع : الدين برهان مقبوضة.
الخامس : الامانة.
فالكتابة والشهادة والرهن وثائق للدين وليس علة تامة لادائه انما هو امتحان دنيوي واختيار في باب المعاملات والصلات مع الناس والا فان الامانة الاكبر عند الانسان هي دينه وعقيدته، ومن الاسرار اللغوية وحدة تركيبة الحروف بين الدين بمعنى الملة، والدين بمعنى القرض، ليس من فرق بينهما الا بحركة الدال، وهو امر لا تجده في لغة اخرى غير العربية، وهذا من خصوصيات عربية القرآن.
السابعة : موضوع الدين لا ينحصــر بالمتداينــين بل يشــمل الشهداء والكاتب وغيرهم ممن يعلم بالدين ويحث على اعانة الآخرين ويشفع عند صاحب المال، ومن يحرض المدان على الاداء في الاجل، أو العكس ممن يحاول اغوائه وصده عن الوفاء او الخلل في شرائطه.
الثامنة : في الآية معنيان الاول عام والآخر خاص، اما العام فهو احاطته ســبحانه علماً بافعــال المسـلمين مطلقاًَ في باب العبادات والمعاملات والاحكام، اما الآخر فهو علمه تعالى بامور التداين بين الناس.
التاسعة : في الآية دعوة لعمل الصالحات واقتناء الحسنات بموضوع التداين وفق الحكم الشرعي اعطاءَ وقبضاً ووفاء، والتقيد بالعزائم والانتفاع من الرخص.
في الآية اشارة الى موضوعية التداين بين الناس في الشريعة الاسلامية، وخاتمة الآية تتضمن الوعد والوعيد، البشارة والتخويف وهذا التضاد ظاهــر بلحــاظ الاعمال لما بــين الالتــزام باحكــام هـذه الآية وآية الدين وبين عدم التقــيد بها الذي تظهر آثاره الاولية في المال وفي مدة الدين وحتــى قبل حلـول الاجل سواء بالنسبة للندم والهم الذي يصيب الدائن، او العذر الذي يلحق المدان الذي ينوي عدم الوفاء.
وفي الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إن أصنافاً من أمتي لا يستجاب لهم دعاؤهم: رجل يدعو على والديه، ورجل يدعو على غريم ذهب له بمال فلم يكتب عليه ولم يشهد عليه، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله عز وجل تخلية سبيلها بيده، رجل يقعد في بيته ويقول: رب ارزقني ولا يخرج ولا يطلب الرزق فيقول الله عز وجل له: عبدي ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة …” الحديث ( ).
وتتضمن خاتمة الآية وعداً وتحذيراً، وفيها تعليم وارشاد وتهذيب للنفوس وتنقيح للأعمال وارتقاء في عالم المعاملات يتغشى المسلمين، ومن خلالهم الناس جميعاً، وهو شاهد يومي حاضر على اهلية المسلمين لزعامة الأمم وقيادتها في سبل الأمان.
ويمكن تقسيم الأمان الى ثلاثة أقسام:
الأول: دنيوي.
الثاني: أخروي.
الثالث: الجامع لهما.
والتقيد بأحكام هذه الآية من القسم الثالث اعلاه، لذا تفضل ســبحانه بالتنبيه والحث على أداء الأمانات، والتحذير من كتمان الشهادة بعد الحاقها بالامانات وهو ظاهر نظم الآية ومفهومها وموضوعها.
وكما ان التحذير من كتمان الشهادة اعم من الشهادة على الدين والقرض، فان خاتمة الآية مطلقة في توكيد احاطته تعالى علماً بأفعال العباد، وهو سبحانه لا يريد للمسلمين الا الخير والصلاح والنجاة في النشأتين، لذا فان خاتمة الآية دعوة لخشية الله، والتسابق في مرضاته تعالى، واعلان الشهادة وتلبية نداء أدائها، كما تتعلق خاتمة الآية بموضوع السفر والتداين فيه وحصول الرهن ولزوم الوفاء من أطراف الدين.


قوله تعالى[لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] الآية 284

الاعراب واللغة
قرأ عاصم وابن عامر (فيغفر، ويعذب) برفع الراء والباء، اما الباقون فقرأوا بالجزم والرفع باعتبار ان الفاء حرف استئناف والتقدير فهو يغفر، اما الجزم فعلى العطف على جواب الشرط يحاسبكم، وروي عن ابي عمرو انه ادغم الراء في اللام في (فيعفر لمن) وقال الزمخشري: وراويه عن ابي عمرو مخطئ مرتين لانه يلحن وينسب الى اعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم ( ).
[لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ] لله: جار ومجرور، خبر متقدم، ما: مبتدأ مؤخر، في السموات: جار ومجرور وقيل انه كلام مستأنف.
[وَمَا فِي الأرض] عطف على ما في السماوات.
[وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ] الواو: حرف عطف وقيل للاستئناف، ان: حرف شرط جازم، تبدوا: فعل مضارع منصوب، الواو: فاعل، وان وما في حيزها في تأويل مصــدر والتقدير (وابداء ما في انفسكم)، ما: اسم موصول مفعول به، في انفسكم: جار ومجرور، والضمير الكاف مضاف اليه.
[يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ] يحاســب: جــواب الشــرط مجــزوم، والفاعـل ضـمير مستتر تقديره هو، الكاف: ضمير متصل في محل نصب مفعول، به: جار ومجرور، اسم الجلالة: فاعل مرفوع، والجملة لا محل لها.
[فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ] الفاء: حرف استئناف، يغفر: فعل مضارع مرفوع، ويجوز ان تكون الفاء للاستئناف، لمن: جار ومجرور، يشاء: مضارع، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو عائد لله تعالى.
[وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] الواو: استئنافية، اسم الجلالة: مبتدأ، على كل: جار ومجرور، شئ: مضاف اليه مجرور بالكسرة، قدير: خبر مرفوع بالضمة.
في سياق الآيات
بعد آيات الربا والدين جــاءت هــذه الآية لتخبر عن الملكية المطلقة لله عز وجل وانه سبحانه يعلم ما اظهر الانسان وما اخفاه في دعوة للتوبة والندم واصلاح الحال، ان هذه الآية عون على التخلص من الربا، وفيها دعوة للتقيد باحكام وشرائط الدين والقرض، وادراك الانسان مطابق للواقع في حصر الملكية به تعالى ليكون هذا الادراك وسيلة ذاتية مباركة للتسابق في عمل الخيرات واجتناب النواهي في المعاملات.
إعجاز الآية
في الآية اخبار عن انعدام الشريك في الملك، فليس من مالك الا الله عز وجل وهو علام الغيوب، وتلاحــق الآيــة الانسان في اعماقه ليتخلص من درن السيئات ويقبل على الصالحات، وتجعله يشعر بعظمة مقــام الربــوبية بالبــرهــان الإني وهــو الاسـتدلال من المعلول على العلة، ومعرفة بدائع الخلق ودلالتها على عظمة الباري عز وجل ولزوم طاعته والامتثال لاوامره، والآية دعوة للانقطاع اليه تعالى ورجاء رحمته.
ويمكن ان نسمي هذه الآية بـ(آية المحاسبة)
الآية سلاح
ان آيات الملكية المطلقة لله تعالى عون للمسلم في عباداته وصلاته الاجتماعية ومعاملاته، ومدرسة لاستكمال الذات بالعلم والتقوى، وتنبعث منافعها في مقامات ثلاث: علم، وحال، وعمل، وهي مجتمعة ومتفرقة تساهم في صلاح الانسان وتصفية قلبه وتنقية اعماله وتقوده الى سبل الفوز في الآخرة.
مفهوم الآية
الآية حرب على الشرك، وداعية سماوية يومية لتنزيه الأرض مما يدنسها من الشرك الظاهر او الخفي، وتنكر الآية وجود ملكية حقيقية لغير الله سواء في الأرض او في السماء، اما في الأرض فانها اخبار عن عائدية الامـور كلها له تعالى في ملكيتها، اذ ان ملكه تعالى للاشياء يختلف في ماهيته وحيثيته عن ملكية غيره، فغيره يغادرالملك ويفارقه ان لم يكن في حياته فانه يفارقه عند مماته، وتلك حقيقة ظاهرة للعيان ومدركة بالوجدان، فترى الانسان يمر على الدار او البستان وغيرهما فيقول كان هذا الملك لي وبعته، او ان غيره يقول كان لفلان وتركه ارثاً وهكذا.
وهذه الشواهد تذكر بملكيته تعالى لانها ثابتة غير متزلزلة وملكية غيره عرضية متزلزلة، لتكون التذكرة عبرة وموعظة وعوناً للمسلم ووسيلة لزيادة ايمانه، ومع الملكية تكون القدرة المطلقة ايضاً، وفي الآية وعد ووعيد، وبشارة وتخويف وتنهى الآية عن الابتعاد عن حضرته تعالى، كما انه سالبة بانتفاء الموضوع، فلله ملكوت السماوات والأرض، وما في الآفاق والنفوس والنبات وخفايا الخلق.
إفاضات الآية
الآية دعوة للتفكر في احوال الآخرة وتخلص الانسان من شهوة البطن والفرج ونحوها من دواعي النفس الحيوانية والشهوية، وتفيض على الانسان نور المعرفة بالاخبار عن عظيم ملكه وقدرته تعالى، فمن اراد حاجة فليتوجه الى الله تعالى بالسؤال والطلب وقضاء الحوائج، فالنفس الانسانية بحسب فطرتها تشعر بالحاجة والنقص وتسعى لتدارك النقص وطرد الضــعف باللجـوء الى القوة المطلقة، فتأتي الآية لتدعوه الى اللجوء الى الله عز وجل والاستجارة به من ذات النفس ومن همومها ومن القوى الشيطانية، والآية تفيض على النفس الحكمة العالية وتجعل الانسان مشغوفاً بحبه تعالى.
التفسير
تفسير قوله تعالى[لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض]
ستبقى هذه الآية لطفاً الهياً ينفرد به المسلمون وهذا الانفراد لا يعني اختصاص المسلمين بالاخبار السماوي عن عائدية كل ما في السموات والأرض له تعالى.
فهذه الحقيقة تتضمنها جميع الكتب السماوية، وجاء بها الانبياء والرسل كافة، الا ان المسلمين اختصوا بالايمان بها والاقرار بمضمونها وجعلها جزء من واقعهم اليومي النوعي والشخصي، فلا يعبدون الا الله ولا يدعون ولا ينذرون ولا يلبون الا لله عز وجل.
والآية وان جاءت بصيغة الجملة الخبرية الا انها تحد للكفار وتكبيت للمشركين ومقدمة لتثبيت دعائم الدين، فمتى ما وهن المشركون فان الناس يلتفتون الى الآيات التي أتى بها الرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لزوال الغشاوة الظلمانية التي تترشح من صيغ الشك والريب لاهل الضلالة ومحاولتهم منع البصائر من قراءة وتبيان المعاني القدسية في القرآن.
فهذه الآية حرب على الشرك، وحكمة لمحاربة الكفار، وفيها دلالة على ان السيف الذي قاتل به المســلمون ســيف ملكوتي قاطع وحاسم في تحقيق النصر في المعارك، ولقد نــزل الملائــكــة حقيقة يــوم بدر وقاتلوا مع المسلمين، اما هذه الآية فهي مجــاهد ومقاتــل يــومــي وفي باب العقيدة والعمل والقول، في الحضر والسفر، في الحرب والسلم، ومن هذا يمكن ان تــرى اثـر الآية القرآنية في النصر على الاعداء، ولا غرابة ان يدرك الاعــداء هذه الحقيـقــة العقائدية فيتوجهــون الى محــاربة القـرآن ومحاولة منع سلطان هذه الآية وما فيها من البركة، ولكنهم يصابون بالخزي والانكسار، لان اعجاز القرآن ذاتي وغيري فهو عاصم معتصم.
وفي الآية اخبار عن عائدية الفاعلية له تعالى، لان كل شئ مملوك، وما كان مملوكاً يكون فعله محدوداً او مسخراً او موقوفاً على امضاء ومشيئة المالك، ان اثبات استدامة الملكية لله تعالى يعني اثبات القدرة المطلقة المتناسبة مع سعة الملكية، واثبات القدرة يستلزم انطباقاً اثبات الاختيار والعلم وانه سبحانه يفعل ما يريد، لان ملكيته تعالى تنفرد بخصوصية وهي ابتداء واستدامة الملكية له وابداع الموجودات وارادته سبحانه فملكيته تعالى عنوان خاص بالذات الالهية المقدسة، وكذا بالنسبة لقدرته غير المتناهية، وكذا بالنسبة للاختيار فان مراتبه العالية خاصة بواجب الوجود.
والآية بشارة النصر وعون للمسلمين ودعوة للصبر والجهاد في سبيله تعالى والغنى عما في أيدي الكافرين، فمتى ما علم العبد ان الملك كله لله تعالى فانه يتوجه اليه سبحانه ويقصده في المسألة ولا يعبئ بما يقول اعداء الدين واهل الغواية والضلالة، وهذه الآية حرز من الشيطان واغوائه ومانع دون الطمع والظلم والتعدي، كما انها تجعل المسلم يتطلع الى فضله واحسانه ويكون زاهداً فيما عند الناس.
وفي الآية تعجيز وحجة على الكافرين، فملكه تعالى لا ينحصر بما هو موجود في الأرض وقريب من الناس وتحت سلطانهم بل يشمل ملك السماوات الذي لا تطاله ايدي الناس وقدراتهم، والآية دعوة للناس جميعاً للتوحيد، وموضوع عز وقوة للمسلمين وبرهان اثبات على صحته اختيارهم وهي من موارد المعرفة الفطرية لربوبيته تعالى، والآية مصداق لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لانه لم يدع الا لله تعالى ويؤكد مضامين الربوبية، وفي الآية رد على الاقوال بحدوث خلل وتصادم في الاجرام بما يغير الحياة في الأرض لانه تعالى يدبر امورها ويتفضل بمشيئته بتصريف احوالها.

تفسير قوله تعالى [وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ]
ذكر في باب النزول في صحيح مسلم عن ابى هريرة قال: “لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية اشتد ذلك على اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا أي رسول الله كلفنا من الاعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد انزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتريدون ان تقولوا كما قال اهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا واليك المصير، قالوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا واليك المصير فلما اقترأها القوم ذلت بها السنتهم فانزل الله في اثرها آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله وقالوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا واليك المصير فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى.
فانزل الله عز وجل لا يكلف الله نفسا الا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو اخطأنا قال نعم ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال نعم ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به قال نعم واعف عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين قال نعم”.
وبالاسناد عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية ان تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاســبكم به الله قال دخل قلــوبهم منهـا شئ لم يدخل قلوبهم من شئ فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا سمعنا واطعنا وسلمنا قال فالقى الله الايمان في قلوبهم فانزل الله تعالى لا يكلف الله نفسا الا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو اخطأنا قال قد فعلت ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال قد فعلت واغفر لنا وارحمنا انت مولانا قال قد فعلت”( ).
وذكرت في الآية وجوه:
الآية : المراد من الاعلان اظهار ما في النفس من الطاعة والمعصية وقوله تعالى[أَوْ تُخْفُوهُ] أي تكتموه.
الثانية : اظهار الشهادة وعدم كتمانها فان الله يعلم ذلك ويجازيكم به، عن ابن عباس وجماعة.
الثالثة : الآية عامة في الاحكام التي تقدم ذكرها في السورة، نسبه الطبرسي الى القيل( ).
اما موضوع الشهادة فهو من مصاديق الآية وقد ورد التحذير من كتمان الشهادة في الآية السابقة والتي اختتمت بعلمه تعالى باعمال العباد.
اما بالنسبة للقول الثالث فالآية اعم وتشمل الاحكام والاعمال وسرائر النفوس.
والآية مدرسة في علم الكلام والاجتماع والاخلاق، ومن الموازين الشرعية والقواعد الكلية التي تحكم سلوك الانسان.
وجاء اول الآية بصيغة الخبر، اما هذا الشطر فجاء بلغة الخطاب ويحمل على وجوه:
الأولى : الخطاب للناس جميعاً.
الثانية : المراد بالخطاب المسلمون الذين ينطقون بالشهادتين.
الثالثة : المراد المؤمنون الذين احسنوا اسلامهم وصدقوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقلوبهم وجوانحهم.
والاقوى هو الاول فالآية موجهة الى الناس جميعاً، لاصالة الاطلاق وعدم نهوض السياق للحجية في التقييد الا ان المؤمنين والمسلمين أكثر الناس نفعاً واعتباراً منها.
وتتضــمن الآيــة الوعــد والوعيــد بالعذاب الشديد وهو خلاف صيغ اكرام المسلمين في خطــابات القــرآن، فالاصح ان الآية غير منسوخة الا بالنظر اليها على نحو التفصيل وانها منسوخة بخصوص المســلمين، ووردت فيه نصــوص كــثيرة منهــا ما جــاء في حـديث الاسراء وان الله عز وجل لا يحاسب المسلم على ما اخفاه في نفسه وهمّه بالسيئة.
وبهذا القول أي التفصيل يمكن الخروج من التعارض الحاصل بين الروايات الواردة بالنسخ في المقام والتي تقول بعدمه، وهذا من اعجاز القرآن وان آياته واسراره وكنوزه اعم ان تحيط بها قواعد كلية عقلية ثابتة لان رحمته تعالى تتعدى اوهام البشر.
روي عن ابن عباس في قوله [وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ] فذلك سرائرك وعلانيتك يحاسبكم به الله فانها لم تنسخ ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول انى أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي فاما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله [يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ] يخبركم وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله [وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ]”( ).
والآية تهذيب للنفوس واصلاح للذات وتنزيه للبواطن وطرد للغواشي الظلمانية وحصانة من وساوس الشيطان، ودعوة لان يكون الحب والبغض في الله، وبعد مجئ اول الآية بالاخبار عن عائدية جميع ما في السماوات والأرض لله تعالى، وجاءت هذه الآية لتخبر عن تفصيل وبيان نوع الملك وخصائصه ومنها العلم بخفايا الامور واسرار الكون والموجودات، وكأن الآية من عطف الخاص على العام، والتفصيل على الاجمال، ولتتجلى عظمة سلطانه تعالى.
وتتبين للناس اسرار ملكه تعالى، فليس من مالك يعلم خفايا ملكه على نحو التفصيل، من كان عنده بستان او عقار لا يدري ما يحصل داخله وما يجري خلف الجدران والاسوار الا ان يأتي من يخبره عن الوقائع وقد يكذب عليه افتراء او نفياً، فجاءت الآية لتبين علمه تعالى بخفايا ملكه بالمثل القريب النافع، وهو علمه بما يظهره الانسان وما يخفيه، ليكون من باب الاولوية علمه تعالى بالوقائع والاحداث.
وكما يعلم سبحانه خفايا النفس الانسانية فانه يعلم افعال الملائكة واسرارهم وما يخفون، قال تعالى [وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( )، ومتى ما علم الانسان ان الله مطلع على سرائره فانه يستحي منه ويبادر الى فعل ما يرضيه، فيتجنب المقدمات النفسية للهم بالذنب والتفكير به والتخطيط بمكر ودهاء له، فقد يأتي الذنب لاستئناس الفكر به والمداومة على استحضارها في الذهن، فاذا كان الذهن مشغولاً بالذكر والدعاء فانه يبتعد عن اوهام الرذيلة.
فهذه الآية جاءت لقهر الذهن لتعكس الصور التي ترتسم في الخاطر القيم والامور الحميدة، وجعلت الاظهار والاخفاء بعرض واحد، من جهتين:
الاولى: العلم بهما.
الثانية: المحاسبة عليهما.
وجاء العلم بهما في اول الآية بجعله جزء مما في السماوات والأرض، أي ان علمه تعالى بالاشياء يكون على نحو الدقة العقلية، وخفايا النفس الانسانية امر وجودي وليس عدمياً ولكن لا يستطيع احد ان يطلع عليه الا الله، فان قلت: ان اجهزة اكتشفت لمعرفة حال الكذب من الصدق ويمكن توثيق النتائج، قلت: ان هذا الاكتشاف يدل على اعجاز الآية من وجوه:
الأولى : عدم حصول الدقة في معلومات هذا الجهاز واقعاً، كما انه ليس بحجة شرعية.
الثانية : لهذا الجهاز وظائف متضادة ففيه نفع وفيه اذى، اما علمه تعالى فهو رحمة وعون وسبب للصلاح.
الثالثة : امكان معرفة ما يدور في الذهن.
الرابعة :ان علمه تعالى بخفايا النفس الانسانية مطلق، فيشمل الخاطرة التي تمر على الذهن ثم ينساها الانسان نفسه، ولكن الله لا ينساها بل انه سبحانه يعلمها قبل حصولها وطروها ويعلم اسبابها، وهل يوطن الانسان نفسه عليها ويهم باخراجها الى عالم الاعمال ام انه يتخلى عنها ويتركها.
واخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: “ان الله يقول يوم القيامة ان كتابي لم يكتبوا من اعمالكم الا ما ظهر منها، فاما ما اسررتم في انفسكم فانا احاسبكم به اليوم، فاغفر لمن شئت واعذب من شئت”( ).
أي ان خفايا النفس الانسانية والخواطر التي تطرأ على القلب لا يعلمها الا الله عز وجل.
ويتعلق الابداء والاخفاء في الآية بامر واحد وهو ما في النفوس، فالآية لم تقل بان الله يعلم ما تبدون ويعلم ما تخفون وما يفيد التعدد في ذات الشئ المعلوم والمغايرة والاثنينية كما ورد في قوله تعالى[وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( )، فما يبدونه غير ما يكتمونه، اما هذه الآية فتتعلق بما في النفوس بالذات سواء ابدوه او اخفوه، فهي ناظرة الى الاصل لان موضوعها ليس العلم وحده بل المحاسبة على ما في النفس الانسانية سواء دخل في الاعمال وخرج على اللسان، ام ان الانسان اخفاه وستره، والابداء في الآية على وجوه:
الأولى : اظهاره بالعمل.
الثانية : ترجله على اللسان بالقول.
الثالثة : تحقق سماع الآخرين.
الرابعة : تدوين وكتابة ما في نفس الانسان من القصد والعزم واطلاع الآخرين.
وعدم الاطلاع على قسمين:
الأول : ارادة الكاتب الاخفاء وعدم قراءة احد لما كتبه.
الثاني : الصدفة والاتفاق بعدم اطلاع احد على الكتابة، فيصدق عليه الابداء بلحاظ النية والقصد.
وتارة يأتي الكلام تعريضاًً وكناية سواء في طلب حاجة او ذم انسان، فهل يصدق عليه ابداء ام اخفاء، ام انه ابداء على نحو القضية الجزئية لما فيه من لغة الاشــارة والتلمــيح، ولو كانت امرأة ذات عدة وفاة وجاء من يرغب بزواجـها ولمح لها عن رغبته كي لا تتزوج غيره عند انقضاء العدة، فقال انها امرأة شابة يرغب فيها كل انسان،ففيه وجوه:
الأولى : انه من الابداء لاظهار رغبته باللسان والقول.
الثانية : من الاخفاء لانه لم يصرح برغبته بالزواج ولم يخرج عن عمومات التقيد باحكام حرمة نكاح ذات العدة ومواعدتها سراً.
الثالثة : انه فرد ثالث برزخ بين الابداء والاخفاء لانه ليس طلباًً صريحاً وخطــبة وفق العرف او الشرع، كما انه فوق الاخفاء بدرجة لظــهوره بصــيغة التعريف وما يجــعل المعتــدة تفــهم القصـد والغاية.
الجواب ان الآية لم تجعل برزخاً بين الابداء والاخفاء، فانهما وصفان يستوعبان احوال الهم والفعل معاً وبعرض واحد.
والاصح ان هذا التعريض والتلميح من الابداء ولكن الابداء على مراتب فمنها ما يكون صريحاً بيناً، ومنها مايكون تعريضاً وتلميحاً، فالابداء من الكلي المشكك الذي هو على مراتب متفاوتة في الظهور والوضوح، ويتجلى في القول والعمل على درجات في الظهور والدلالة ســواء في التباين الرتبــي بين القول والفعل، او بين اقســام الـقول واقسام الفعل، اما الاخفاء فيمكن ان يكون من الكلي المشكك الذي يدل على اعيان بمعنى واحد ولكنها متفاوتة في الشدة والضعف والتقدم والتأخر.
ويمكن ان يكون من الكلي المتواطئ الذي تكون مصاديقه بعرض واحد وعلى السواء.
فما يكون في القلب وباطن الانسان وخاطرة في البال يكون من المتواطـئ وهو على حــد سواء في درجة الخفــاء وينقســم الى قســمين، ما يكون خــاطرة صالحة، وما يكون فاسدة، والحساب يكون على الثانية.
اما على القول بان المراد بالاخفاء هو اخفاء العمل كما في اخفاء الصدقات واتيانها سراً فيكون من الكـلي المشكك لان الاخفاء له مراتب متفاوتة كما تقدم، خصوصاً على القول بان المراد من الاخفاء هو المعنى الاعم أي اخفاء الاعمال واضمار الارادة والقصد والحسد في القلب.
وظاهر الآية ارادة اخفاء فعل المعصية، في حث على اجتناب اضمار الحسد والبغض والضعائن ونية السوء وفعل المنكر.
وجاءت الآية بصيغة الجمع وهي انحلالية للمفرد والجمع كما انها تشمل ما تجتمع عليه الجمــاعة من الفعل او القول، وفيها دعوة للاشتراك في العمل الخيري وافعال الحسبة، وتحذير وانذار من التواطئ على المنكر.

القراءة المستقلة
تبين الآية انشغال النفس بامور ومسائل منها ما تتدافع امامها وتفرض نفسها عليها من خلال الوقائع والاحداث ووصولها عن طريق الحواس كالبصر والسمع، ومنها ما يرد بالتحليل العقلي، ومنها ما يقصده ويطلبه الانسان ويسعى اليه بمبادرة منه، وفي الآية دلالة على ان الاخفاء امر وجودي وليس عدمياً لان الآية اخبرت عن ارادته بالقصد، وان النفس عالم مستقل له خصوصياته وهو ميزان الاعمال لا أقل في بداياتها ومقدماتها.
فالخاطرة والفكرة تطرأ على النفس فتستحضر اسبابها وموضوعها وحكمها ونتائجها، فاذا كانت النفس لوامة او مطمئنة ويحكمها الايمان فانها تنظر بعين التقوى والمنافع الاخروية او الاضرار التي تتعقب الفعل، فيبقى مخفياً مستوراً لا يخرج الى واقع الافعال، والاخبار عن عالم النفس اصلاح لها فيما يرد على البال من الاوهام والآمال، ودعوة للتنزه عن المكر الخبيث ووجوه الحيلة.
علم المناسبة
وورد لفظ (تبدوا) في اربع آيات وورد لفظ (تخفوه) في ثلاث آيات من القرآن، وجاءت الثلاثة في ذات الموضوع وهو ابداء او اخفاء ما في النفس، قال تعالى[إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا] ( )، وقال تعالى[إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
ويلاحظ في الآيتين ذكر الموضوع على نحو التفصيل، فالآية من سورة النساء وردت خاصة بالخير والعمل الصالح، وتفضله تعالى بالعفو، اما بالنسبة للآية من سورة الاحزاب فموضوعها هو الخير وعلمه تعالى به، والآية محل البحث مطلقة بلحاظ الاسم الموصول (ما)، وهي خاصة بالمحاسبة والجمع بين الآيات في الموضوع مع استحضار التقسيم في موضوع الحساب وشمول المسلمين بالمغفرة، والكفار بالعذاب.
تبين الآية البشارة بتفضله تعالى باحصاء افعال الصلاح وجعلها في صحيفة السلم، واحتساب ما يهم به من وجوه الخير ولكنه يعجز او يتباطئ عنه او تبرز موانع دون تحقيقه، ولفظ (الخير) و (الشئ) اخص من الاسم الموصول (ما) وما فيه من التنكير.

تفسير قوله تعالى[يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ]
لم يرد لفظ (يحاسبكم) الا في هذه الآية، والمحاسبة: السؤال والتحقيق والاستقصاء الخاص بافعال الشخص، ففي المحاسبة ثلاثة اطراف:
الأولى : الذي يتولى محاسبة غيره أي المحاسِب بكسر السين.
الثانية : موضوع المحاسبة، فان لم يكن هناك فعل فلا موضوع للمحاسبة.
الثالثة : الذي يخضع للحساب والسؤال أي المحاسَب – بفتح السين.
فالآية من مصاديق الربوبية المطلقة لله تعالى، وانه يحاسب العباد على الافعال ما ظهر منها وما بطن، وما قل او كثر، كما انها تبين جانباً من مفاهيم العبودية، فمن صفات العبد ان يخضع للحساب من قبل مولاه فيما يتعلق بتصرفاته وافعاله واقواله، وجاءت الآية بصيغة الجمع (يحاسبكم) وفيها مسائل:
الأولى : التذكير بيوم الحشر وان الناس كافة يعرضون للحساب.
الثانية : يكون الحساب على القضايا الشخصية والنوعية العامة.
الثالثة : في الآية اشارة الى اسباب ومقدمات الذنوب واخذ الانسان بجريرة فعل غيره اذا كان قد أغواه ودعاه الى هذا الفعل.
الرابعة : جاء الحساب بصيغة الجمع، وموضوع الحساب بضمير المفرد (تخفوه)، (به)، مما يدل على دقة وسعة الحساب وبالمسائل الفردية والقضايا الشخصية.
الخامسة : لم تقل الآية يحاسبكم عليه، بل قالت يحاسبكم به، وكأن العمل نفسه آلة للحساب, وفيه اشارة الى غناه تعالى عن الناس وحسابهم.
السادسة : في الآية اخبار بان الله عز وجل هو الذي يتولى الحساب وهذا لا يمنع من امره تعالى للملائكة بتولي شؤون الحساب، اذا ثبت ذلك بآية قرآنية اخرى، او بسنة نبوية صحيحة السند، ووردت في السنة اخبار تفيد انه سبحانه يتولى الحساب.
السابعة : توليه سبحانه للحساب بشارة الرحمة والامل والتخفيف.
الثامنة : لم تقل الآية يعاقبكم به، او يؤاخذكم عليه، بل جاءت بصيغة الحساب والمحاسبة، وهي لا تنحصر بالكفار والمجرمين والذين يظهرون الصلاح والايمان ويخفون الكفر والحسد بل هي عامة وان تباينت في كيفيتها.
وأخرج عبد الرزاق وأحمد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال دخلت على ابن عباس فقلت كنت عند ابن عمر فقرأ هذه الآية فبكى قال أية آية قلت ان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه قال ابن عباس ان هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غما شديدا وغاظتهم غيظا شديدا وقالوا يا رسول الله هلكنا ان كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل فاما قلوبنا فليست بايدينا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا سمعنا وأطعنا قال فنسختها هذه الآية آمن الرسول إلى وعليها ما اكتسبت فتجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالاعمال”( ).
علم المناسبة
وردت مادة (حاسب) في القرآن ثلاث مرات، فبالاضافة الى هذه الآية وردت بصيغة المفرد الغائب قال تعالى [فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا]( )، وجاءت بصيغة المؤنث الغائب، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا]( ).
والجمع بين الآيات الثلاث يبين اقسام الحساب وانها ثلاثة بعدد الآيات التي فيها مادة (حاسب) وهي:
الأولى : الحساب الشديد للقوم الكافرين.
الثانية : الحساب اليسير للمؤمنين.
الثالثة : الجامع للوجهين من الحساب، وهو الوارد في الآية محل البحث.
كما جاءت آيتان منها بصيغة المضارع وواحدة بصيغة الماضي (فحاسبناها)، وفيه وجوه:
الأولى : دلالة الآية على حصول الحساب في الحياة الدنيا والازمنة المنصرمة، وهو ظاهر الفعل الماضي.
الثانية : المراد حصول الحساب في عالم البرزخ بعد الموت وقبل النشور، وكأنه حساب ابتدائي عند دخول الكافر الى القبر.
الثالثة : زمان الآية هو يوم القيامة، ومجئ الفعل الماضي للدلالة على الثبات وحتمية الوقوع.
والوجوه الثلاثة كلها من مصاديق الآية ولا تعارض بينها، وهذا التعدد تحذير من المعاصي، ودعوة سماوية للابتعاد عنها باستحضار الحساب الالهي، والحساب الدنيوي يتجلى بوجوه:
الأول : سماع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر او الاستماع لهما.
الثاني : محاسبة النفس اللوامة والندم الذي يصيب الانسان عند او بعد فعل المعصية.
الثالث : هم وحزن يعتري الانسان ويصاحبه في خلوته، وفي ليله ونهاره، تكون الصلاة افضل السبل للتخلص منه، والاستغفار سلاح لتبديده.
الرابعة : الاذى والابتلاء الذي يذكر الانسان بذنبه ويجعله منشغلاً بنفسه، ومبتعداً طوعاً او قهراً عن التفكير بالسيئات ومقدماتها، وهذا الحساب من عمومات قوله تعالى [يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ]( )، وتبين الآية حقاً من حقوق الربوبية، وهي الحساب على النوايا والمقاصد، ظهرت على اللسان الجوارح ام لم تظهر، وهو وجه من وجوه عظيم قدرته سبحانه.
تفسير قوله تعالى [فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاء]
بعد الحساب العام المستغرق لجميع الناس بلحاظ النوايا والمقاصد تأتي مرحلة الجزاء، فالآية تدل على العدل الالهي والاعجاز في دقة اللفظ ومراتب الحكم، وان الحكم لا يكون ابتداء مع انه تعالى العالم بخفايا الامور ويعلم مصير الانسان الى الجنة او الى النار قبل ان يخلقه، ولكنه سبحانه هو الرؤؤف الرحيم، فيحاسب الانسان على نواياه واعماله وهو اعلم بها وبما يستحقه من الجزاء، ومن فلسفة الحساب انه مناسبة لنزول الرحمة والعفو الالهي.
فقد يظن الناس ان الحساب مسائلة وتحقيق وتدقيق محض، بل انه وسيلة للتجاوز والرأفة الالهية، بمعنى ان الله عز وجل يحاسب الناس كي يغفر لمن يشاء منهم، ويقيم الحجة على من يستحق العذاب، والمغفرة تتأتى بوجوه منها:
الأولى : فعل العبد الصالحات.
الثانية : كبحه لجماح الشهوة والغضب، فمن وجوه اخفاء ما في النفوس ما هو حسن وممدوح وهو ميل النفس الى المعصية والفجور فيخفيه المسلم ويمنعه من الخروج بمعنى انه لا يرتكب المعصية فتكتب عند الله حسنة لانه قهرالنفس الشهوية ومنع من استحواذها على الجوارح والاركان وهذا الاخفاء علة للحساب بالحسنى والاثابة، فكأن الآية تقول ان المحاسبة سبب لمغفرة الذنوب لشطر من الناس، وشطر تحول ذنوبهم وما فعلوه من الكبائر دون المغفرة فيبقون مستحقين للعذاب، أي ان المستحقين للعقاب قبل الحساب اكثر بكثير ممن يناله بعد الحساب، لانه بالمحاسبة ينجو فريق من الناس.
ومن يعــذب هل يحــرم مــن الرحمــة تماماً، بمعنــى هل يجــري تخفيف لذنــوبه اثناء الحسـاب ام انه لا ينال شــيئاً من العفــو، الجواب: ان رحمته تعالى عامــة وشــاملة لجميـع الناس، ومنهم المجرمون والظالمون ولكن ما يتبقى من عظيم الذنب عندهم لا يؤهلهم للنجاة من العذاب.
فالآية بيان بان الحساب توكيد لعلمه تعالى بخفايا النفس واخبار عن تعلق التكليف بالنوايا والمقاصد لانها اساس الاعمال ومنطلق الافعال وكم من نية تخامر ذهن الانسان يقلبها بالليل والنهار الى ان يقدم عليها، وحينما يفعلها يدرك مساوئها واضرارها، ولكنه ما فعلها الا لطول تلبس في الوجود الذهني وكثرة خطورها على البال.
فمتى ما علم ان هذه الخواطر فرع من التكليف وان الله عز وجل يعلم بها فانه يكون حذراً لا يفكر الا بما هو صالح وحسن ذاتاً وشرعاً وعقلاً ويكون له سلطان على نوع المواضيع التي تشغل ذهنه، لا بمعنى ما يطرأ فان الذي يخطر ببال الانسـان كثير ومتنوع ومنه المعقول واللامعقول، والحسن والقبيح، نعم السلطان على الذهن يجعل عند الانسان ملكة فلا يطــرأ على البال الا ما هــو حســن، ولا يأتي ما ينـاقضه الا على نحو الخاطرة السريعة التي سرعان ما تزول ولا تجد لها قراراً.
واحتج الاشاعرة بهذه الآية على جواز غفران ذنوب اصحاب الكبائر لان المؤمن المطيع مقطوع بانه يُثاب ولا يعاقب بخلاف الكافر فانه يعاقب ولا يُثاب، ولكن الآية لا تدل على هذا الاطلاق.
والآية بشارة للمسلمين ودعوة لهم لعدم القنوط من رحمة الله، خصوصاً فيما يتعلق بالخواطر والنوايا والمقاصد اذ انها تجعل اعتباراً للنوايا في عالم الحساب وتبشر المسلمين، فاذا طرأت نية سوء على نفس المسلم وطرأت ذاتها على نفس الكافر، فان الله عز وجل يحاسب عليها، فيغفر للمسلم دون الكافر.
وهذا من منافع الاسلام على النفوس وفي العواقب، فينطق الانسان بالشهادتين فتتغشاه الرحمة ويغفر له وينظر يوم القيامة ويرى الكافر وقد كتب الملائكة في صحيفته ما نواه من المعاصي قد كتب عليه اثماً مع انه لم يفعله، سواء همّ به او لم يهم به، فيخشى المسلم على نفسه ويتوقع ان يرى ذات الذنب مكتوباً في صحيفته لان الخاطرة والنية ذاتها خطرت له وكانت حاضرة في ذهنه ولم يجتهد بصرفها ولكنه يفاجئ بخلو صفحته من تلك النوايا ولم تكتب عليه ذنوباً، ومنها ما بدل حسنات، تلك التي امتنع عنها وتركها ويكون مصداقاً لقوله تعالى [فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، فان الله عز وجل يذهب الخوف عن المسلم في رؤية نوايا السوء التي نواها في حياته مكتوبة في صحائفه وخشـيته من سؤال الملائكة عنها.
ولكن تلك النوايا لا يطلع عليها الملائكة وهل يستحضرها المسلم واكثرها نساها في حياته، الجواب: ان الله عز وجل يجعله يتذكرها ويستحضرها ليبين له عظيم فضله تعالى بالعفو عنها، ثم يمحوها عن ذاكرته لانه تعالى اذا اعطى يعطي بالاوفى والاتم، والمغفرة منه تعالى مطلقة.
ومن اسمائه تعالى الغفــور والغافـر والغفار، وهو الذي يستر الذنوب ويتجاوز عن السيئات والخطايا، وآثار المغفرة اعم من ان تنحصر الآخرة فتشمل الدنيا والآخرة، فهذا الشطر من الآية هو الآخر وعد كريم ووعيد وتخويف، ودعوة للمسلمين لنيل المغفرة في الدنيا والآخرة باستثمار الدنيا بالاستغفار واجتناب نية الشر وتدبير الاضرار بالآخرين.
ان علمه تعالى بما تخفي الصدور رحمة بالناس، لان العلم بها عنوان التخلص منها في الجملة ومنع للنفس من التمادي في الذنوب، فانه سبحانه يرأف بالعباد ويمنع بعلمه تعالى العبد عن ارتكاب الذنب الذي نواه او همّ به، ويدفع بلطفه نية السوء والشئ او يبعد عنه اسباب ومقدمات تحصيلها.
واذا كان الانسان يخشى الحساب على النية والقصد المجردين فانه من باب الاولوية القطعية يحذر ويتوقى من فعل المعصية، وهذا من اعجاز القرآن وعمومات قاعدة اللطف فانه يأتي بالاخبار عن امر ليكون الصلاح في غيره عظيماً والنفع كبيراً وعاماً.
والنفع يتنجز بالاهم والاكبر والاولى، فنية السوء وان كانت هي الاصل والنواة للمعصية الا انها اقل من ذات الذنب في عالم الجزاء والثواب والعقاب، وبين النية والفعل مراتب وعوارض ذاتية وخارجية، فليس كل ما ينوى يفعل ويترجل في الخارج، ومن اسباب المنع والامتناع:
الأول : طرو امر اضافي زائد.
الثاني : مجئ امر أهم واولى فيقدمه الانسان لقاعدة تقديم الاهم على المهم، وهي قاعدة عقلية اعتبرها الفقيه.
الثالث : حصول موانع لم تكن في بال الانسان، وهذا الامر من اهم الاسباب التي تحول دون فعل الشئ اذ ان الانسان يميل بطبعه ورغبته وشهوته لامور ويتصورها في الوجود الذهني كأمل وامنية فلا يلتفت في الوهلة الاولى وعالم التصور الى العوائق والمشاق، ولكنه عندما يهم بالفعل او يبدأ به يرى ما لم يكن بالحسبان، ويخرج أحياناً بنتيجة وهي ان ترك العمل افضل له، وتغيب تلك الامال والشهوة والرغبة ويود التخلص من الامر حتى في الوجود الذهني وعالم التصور.
الرابع : حصول الانشغال عن النية والفكرة بغيرها من الهموم او الامال او الاعمال، اذ ان تلاحق الاعمال في حياة الانسان يمنعه من جعل وقت خاص للنوايا والمقاصد وتدبيرها وترتيبها، لذا جاءت الصلاة اليومية لتقطع على الانسان نوايا السوء وتنزهه من عزائم الشر، وتعطيه حصانة الى أوان الصلاة التالية، ومن الاعجاز ان ترى الفترة بين الصلوات اليومية مرتبة من جهة طول الوقت والفترة بينهما كما يلي:
الأولى : بين صلاة العشاء والصبح، وهي أطول فترة بين صلاتين من الصلاة اليومية.
الثانية : بين صلاة الصـبح والظهر.
الثالثة : بين صلاة العصر المغـرب.
الرابعة : بين صلاة الظـهر والعصـر.
الخامسة : بين صلاة المغرب والعشاء.
وطول الوقت بين العشاء والصبح لانه وقت النوم والسكينة، كما انه لم يترك من غير عبادة بل جعلت فيه صلاة الليل وهي وان كانت مستحبة فان الشارع حببها الى النفوس وحثت عليها النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي اظهر حرصه على التقيد بها تأديباً للامة ولبيان عشــقه للصـلاة وجعلت اوقاتها بحسب منازل الشمس طلوعاً وزوالاً وغروباً بالاضافة الى الشفق، في دلالة كلامية على الملازمة بين اداء الصلاة وبين دوام الكواكب وسير الشمس والقمر والحياة على الأرض.
فالصلاة ركن الحياة في السماوات والأرض وهي الوسيلة الافضل للتخلص من نوايا السوء، والسبب الامثل في نيل المغفرة منها ومن غيرها، فكأن الاخبار عن المحاسبة الوارد في الآية الكريمة دعوة لطرد الفراغ بالذكر والدعاء وقراءة القرآن والاقبال على الصلاة بقلب غير ساه، فمن اسباب السهو في الصلاة والانشغال بالهموم والنوايا وامور الدنيا.
فالآية جاءت عوناً للعبد على عباداته وادائه للصلاة فاذا طرأت عليه مسألة او خاطرة في الصلاة فانه يجتهد في التخلص منها خشية قلة الثواب ونقص الاجر في الصلاة، فتزيح الصلاة نوايا السوء وتجعل الانسان يتدبر في خلقه وضعفه وضرورة الاستعداد للآخرة واهوال الحساب فيها.
علم المناسبة
قد ورد قوله تعالى [يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] في ثلاث مــواضــع اخــرى من القــرآن، قــال تعـالى [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، كما ورد في اليهــود والنـصــارى [وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ]( )، وجــاء مطلقــاً وشــاملاً للناس كافة بلحاظ العمل والمشيئة الإلهية[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرض يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
ويدل الجمع بين الآيات وكلماتها انها تخبر عن المغفرة والعقوبة بعد ذكر الحقيقة الكلية الباهرة التي تحكم السماوات والأرض وعائديتها جميعاً لله تعالى، فتكون مغفرة ذنوب العباد وعقوبتهم جزء وفرعاً من ملكيته تعالى المطلقة، فلا احد يحتج أو يأسف على ما يفعل بأهل النار، واذا قرأت القرآن وتتبعت اقوال اهل النار فليس فيها شكوى وسؤال عن علة المغفرة للمسلمين دون غيرهم.
فالكافر يرى نفسه قد جاء بفاحشة فدخل بسببها النار، بينما يرى غيره نوى ذات النية او فعل نفس الذنب ولكنه دخل الجنة، ومع هذا لم تجد هذا الكافر يتساءل بصيغة الانكار او الاستغراب او طلب البيان لهذا التباين والتناقض في النتائج والمصير مع اتحاد الفعل، لانه يعرف اصل الفرق بينهما وموضوعية الاستدامة في فعل الصالحات او السيئات، ومنزلة الاسلام والايمان في محــو السيئات والذنوب، ثم ان المسلم نوى نية السوء ولكنه عدل عنها وعن موضوعها خشية من الله وخوفاً من عقابه ورجاء نيل مغفرته.
وفي الآية تخويف وتحذير للكافرين والمراد من العذاب في الآية دخول النار، ولكن هل ينحصر العذاب بالآخرة ام يشمل المعنى الاعم، الجواب: هو الاخير فان مراحل العذاب تبدأ من ايام الحياة الدنيا، وهذا العذاب يحتمل اموراً:
الأول : انه مقدمة للعذاب الاخروي.
الثاني : جزء من العذاب وقســيم للعــذاب الاخــروي ولكــنــه اقـل منه رتبة واذى واقصر بلحاظ الفارق الكبير بين مدة الحياة الدنيا والآخرة.
الثالث : عذاب مستقل بذاته للتباين بين موضوعه وكيفيته وسنخيته وبين خصائص العذاب الاخروي.
والاصح هو الاخير، لان الدنيا دار امتحان واختبار، فالعذاب في الدنيا يكون تذكرة وموعظة ولطفاً وزجراً عن المعصية وليس هو عقاباً محضاً لان باب التوبة مفتوح، كما ان صيغ العذاب تختلف في الدنيا واكثرها يطلق عليه اسم العذاب مجازاً فمع ما فيه من الاذى والابتلاء يكون للرحمة أقرب لأنه عنوان التذكرة والتدارك والاعتبار، كما في سورة القلم وقصة القوم الذين غدوا على حرثهم ، قال تعالى [كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ]( ).
وقد يأتي العذاب في الدنيا بواسطة الحكم والجزاء وفق الشريعة والقوانين الوضعية، قال تعالى[وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( )، وهذا العذاب والعقاب خاص بالفعل وليس بالنوايا، فالنوايا وسرائر النفس الانسانية لا يطلع عليها احد الا الله تعالى، نعم العلم الالهي بها قد يكون سبباً للابتلاء.
ولقد تقدمت المغفرة على العذاب في الآية وهو سبحانه سبقت رحمته غضبه، وهذا التقديم يدل على تقدم المغفرة رتبة وطرو الشفاعة وتأخر العذاب رتبة وزماناً، وزمان المؤمنين الجنة، والكافرين النار واقترانه او عدمه، فيه وجوه:
الاول: انهما يدخلان في وقت واحد.
الثاني: يدخل المؤمنون والصالحون الجنة قبل دخول الكافرين النار، بحيث يغادر اهل الجنة الى الجنة، ويعرف من بقي انه من اهل النار.
الثالث: يدخل الكافرون النار قبل دخول المؤمنين الجنة، فيؤخذ بالمجــرمين والكافرين الى النار، ثم يعلم من بقي انه من اهل الجنة.
الرابع: الدخول لكل من الجنة والنــار تدريجــي بمعنــى ان الدخــول لكل منهما يستمر في ازمان طولية متداخلة ولا تعارض بين الامرين، فما دام الحســاب جــارياً، فيؤخذ بهذا الى الجنة، وذلك الى النار، قال تعالى [كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ]( ).
الخامس: انه تدريجي ولاحق للحساب الا ان شطراً من أهل الجنة يدخلون الجنة بغير حساب كما في حال الشهداء.
والاقوى هو الاخير وهو من مصاديق سبق عفوه ومغفرته تعالى للمؤمنين على عذابه للكافرين.
وفي الرحمة والمغفـرة نوع رجاء لكل انسان سواء يدرك هذه الحقيقة او لا، لانها موجودة بالاصل ولا تتعلق بعلم الانسان وفعله وادراكه، فهي جــزء من الارادة التكــوينية ومن وجوه اللطف الالهي ولا ينحصر موضوعها بيــوم القيامة بل هي مطلقة شاملة لجميع الازمنة المقدرة وغير المقدرة، وتترشح منها منافع عظيمة ينتفع منها كل انسان.
ومن الآيات ان معـفرته تعالى تتعلق بمشيئته، وليس باستحقاق العبد، وهو بشارة الرحمة، كما ان هذا الشطر اعم في الحكم مما سبـــقه، بمعنى ان المغفرة لا تنحصـر بما في النفوس وابدائه او اخفائه الذي يجري عليه الحساب بل ان المغفرة شاملة له ولغيره من الاقوال والافعال.
والموضوع الذي تتعلق به المغفرة هو الذنب والمعصية والهم بالسوء، ويحتمل هنا وجوهاً:
الاول: ان كل انسان يهم بما يستحق معه العقوبة، ولكن الله عز وجل يغفر له الذنب.
الثاني: متعلق الآية خصوص الذين يهمون بالسيئات او يفعلونها، أي ان شطراً من الناس ينال الثواب والجنة لانه لا يبدي ولا يخفي الا الامر الحسن ومضامين الصلاح وعلى رأسهم الانبياء، فكأن في الآية حذفاً والتقدير (فيغفر الله لمن يشاء من الذين اظهروا او اضمروا نية السوء).
الثالث: المغفرة عامة وشاملة من جهة الموضوع بدليل ان الآية في حقيقتها شاملة للافعال بحمل الابداء على عموم القول والفعل، ويدل عليه اول الآية اذ جاء بالاخبار عن ملكه تعالى لجميع ما في السماوات والأرض على نحو الاطلاق وهو عنوان القدرة والارادة اللذين يتجليــان بتــقــدم المغـفرة رتبة وان لها الاولوية في الاثر والتأثير على نحــو العموم الاســتغراقي، بمعنى انها تشمل كل فرد وان كان ظالماً فالعذاب لا يحل بشخص الا بعد ان تدركه الرحمة ويعرض على موازين المغفرة ويثبت عدم استحقاقه لها ليس وفق قواعد العدل الالهي مع انها تتصف بالتخفــيف والاحسان، ولكن وفــق قواعـد الرحمة والمغفرة التي تسقط معها كثير من الذنوب بفضل فعل القليل من الحسنات أو بالشــفاعــة او بفضله ولطفه تعالى وهذا هو الارجح، لان الله عز وجل يقول في الآية [فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ] أي ابتداء من عنده تعالى.

تفسير قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
بحث كلامي
من اعجاز القرآن ان تأتي خاتمة الآية سوراً جامعاً لتثبيت المبادئ والحقائق الواردة في اول الآية ووسطها، فتؤكــد الملكيــة المطلقة لله تعالى المقــرونة بالارادة والمشــيئة وتخبر عن قدرته تعالى على التصرف بالملك كيف يشاء، وهو امر ينفرد به تــعالى في عالم القــدرة والاختيار، والقادر المختار هو الذي ان شاء ان يفعل فعل، وان شاء يترك ترك.
والمشـيئة عنـــوان ارادة الفعل، وهذه الصــفة لا تطــلق حقيقة الا على واجب الوجود، واما غيره فانها تطـلق عليه مجازاً وعلى نحو محدود، فمن خصائص المختار انه يستطيع الفعل والترك في موضوع وشئ واحد، والاشياء التي يعجز عنها الانسان اكثر بكثير من التي يستطيع فعلها، سواء على صعيد الواقع، اما بالنسبة للآمال او الحاجات التي تسد النقائص الملازمة له في حياته فهي لا تتعدى عالم التصور، نعم الآخرة مع عالم التصديق ولكن بقيد التقوى والصلاح كما سيأتي( ).
وذهب المتكلمون الى تقسيم الاختيار بلحاظ الفعل والترك الى قسمين:
الاول: المختار.
الثاني: الموجب، وهو الذي لا تكون له ارادة او قصد الفعل، ويفتقر الى العلم بالقصد ولا يسبق فعله العلم، كالمعلول الذي يتوقف وجوده على وجود علته، وليس على اختياره وقصده وعلمه كالشمس في اشراقها، والمصباح في ضيائه.
والإختيار المقيد وعلى نحو المجاز والذي يفتقر صاحبه في اختياره الى الاطراد، فلا يسمى مختاراً.
فالله عز وجل قديم وكل من سواه حادث، فلابد ان يكون صانع العالم مختاراً قادراً ليس محدثاً ولا يحتاج الى علة او سبب، بخلاف غيره وان اطلق على هذا الغير عنوان الاختيار مجازاً.
ومن وجوه المناسبة بين اول الآية وخاتمتها استقراء العفو والمغفرة لمن يشاء سبحانه ويجعله يتنعم بالجنة فضلاً منه تعالى، والخاتمة دعوة للدعاء والاستغفار وعدم الخوف من وطأة الحساب وشدته لان الملاك في عظيم قدرته وسلطانه ورحمته، ومن وجوه القدرة الرحمة والعفو، ومنها العقاب الشديد، فالآية تجعل نوع توازن في نفس الانسان بين الأمل والخوف، يصلح واقية من الذنوب وعوناً على الصالحات، وفي الآية ارشاد وحث على الانقياد لاوامره تعالى والامتناع عن نواهيه.

قوله تعالى[آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ] الآية 285

في القراءة
قرأ حمزة (وكتابه) بصيغة المفرد، وباقي القراء (كتبه) بلغة الجمع والمراد من كتابه أمران:
الاول: المقصود هو القرآن وفيه تبيان كل شئ ومضامين الكتب السماوية السابقة.
الثاني: جميع الكتب السماوية، او اصل الكتاب والتنزيل.
والاصح المرسوم في المصاحف وهو الانسب لسياق الآية اذ جاء ذكر الملائكة والرسل بصيغة الجمع، ولأن الآية في مقام التبيان والاقرار الجامع المانع، أي الجامع للاقرار بكل الكتب السماوية، والمانع من الشك او الريب او اخراج بعض الكتب، ولشمول الآية لعموم المؤمنين في الزمنة المختلفة.
ذكر انه في قراءة علي (وامن المؤمنون).
الإعراب واللغة
[آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ] آمن: فعل ماض مبني على الفتح، الرسول: فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، بما: جار ومجرور متعلقان بأمن، وجملة انزل لا محل لها من الاعراب لانها صلة الموصول، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو، اليه: جار ومجرور متعلقان بانزل، من ربه: من: حرف جر، رب: اسم مجرور وهو مضاف، الهاء:: ضمير في محل مضاف اليه.
[وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ] الواو: حرف استئناف، ويجوز ان تكون عاطفة، المؤمنون: مبتدأ اول، كل: مبتدأ ثان، جملة آمن: خبر للمبتدأ الثاني والجملة الاسمية خبر للمبتدأ الاول، و(كل) نكرة ولكن مساغ الابتداء به لانه محمول على الاضافة أي كل واحد منهم وجاء التنوين للدلالة على الكلمة المحذوفة، بالله: جار ومجرور وما بعده معطوف عليه.
[لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ] لا نفرق: لا : نافية، نفرق: فعل مضارع مرفوع، بين: ظرف مكان متعلق بنفرق، احد: مضاف اليه، من رسله: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأحد.
[وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا] الواو: استئنافية، قالوا: فعل ماض، والواو فاعل، جملتا سمعنا واطعنا مقول القول.
[غُفْرَانَكَ رَبَّنَا] مفعول مطلق باضمار عامله، ربنا: منادى مضاف محذوف منه حرف النداء، وهو مضاف، والضمير: مضاف اليه.
[وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ] الواو: عاطفة، اليك: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، المصير: مبتدأ مؤخر.
في سياق الآيات
بعد آيات محق الربا، وآية الدين وآية التداين في السفر وبيان عظيم ملكه وسلطانه واطلاعه على خفايا النفس الانسانية وخلجاتها وما يطرأ عليها من الخطرات والنوايا والمقاصد، جاءت هذه الآية لتثبيت مضامين الآيات السابقة وتوكيد سيادة الاسلام ورسوخ مبادئه، فبالايمان يتحقق الصلاح وتتنزه الاسواق من المعاملات الربوبة، وكما بدأت السورة بمدح المسلمين فانها اختتمت بمدحهم ايضاً، والايمان شهادة على التنزيل فلا غرابة ان تأتي هذه الآية بعد آية الدين والامر بالشهادة فيها.
إعجاز الآية
تبين الآية تسليم النبي بآيات التنزيل وقطعه بان القرآن من عنده تعالى وفيها مدح للمؤمنين واخبار عن لزوم الايمان بالانبياء والرسل جميعاً على مرتبة واحدة من التصديق والاقراربنبوتهم، وهذا الاعجاز ينفرد به القرآن فلم يدع الى الايمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده بل دعا الى الايمان بجميع الانبياء، وتبين الآية انتصار الاسلام العقائدي وتدعو الى الملازمة بين الاقرار بنزول القرآن وبين الايمان، وتحث على متابعة ما في التنزيل من الاعجاز، وتختتم أطول سور القرآن بمدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبشارة لنيله أعلى مراتب القرب اليه تعالى.
ويمكن ان نسمي هذه الآية بـ(آية الإيمان المطلق)
الآية سلاح
في الآية تنمية لروح الايمان وتثبيته في النفوس، وتدعو الى الايمان بآيات القرآن وانها من عنده تعالى، والى الاقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ايمانه، وتدعو الآية المسلمين الى اظهار مضامين الايمان والهداية والتسليم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عنده تعالى.
مفهوم الآية
في الآية توبيخ للكفار وتحد لهم واخبار عن عجزهم عن ايقاف انتشار الاسلام او بذر الشك والربية في نفوس المسلمين وفيها ذم لكل من ينكر نزول القرآن من الله عز وجل، وتوكيد بالحجة بأنه كلام الله الذي نزله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وتنهى الآية في مفهومها عن الغلو والقول بالنبي بغير الحق، فهو مع شرف منزلته وعلو مقامه يؤمن بما انزل اليه من ربه، وفيها زجر عن تجزئة الايمان، والاقرار بنبوة شطر منهم دون الشطر الآخر، وهذه التجزئة اخطر واكبر فتنة واجهت المسلمين واضعفت المليين بين اهل الأرض.
والثناء الوارد في الآية تقبيح للجــاحدين بنبــوة النــبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصـوصــاً وان الآية بــدأت بمــوضــوع نزول القرآن، وما ورد في الآية من اعلان المؤمنين السمع والطاعة تعريض بالكافرين وشهادة سماوية على ضلالتهم واصرارهم على تجزئة الايمان بالنبوة.
والآية دعوة للكافرين للتدبر بالمعاني القدسية لنزول القرآن فلابد لايمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من اسباب وحجج وبراهين ايقنوا بها فالاية تحث الكافرين على الالتفات الى تلك الحجج والبراهين للتأمل والتدبر بها ومعرفة صدقها ودلالتها، وتضرع المؤمنين الى الله سبب لجعل الكافرين في حال حسرة وندم للضياع الذي يحسون به.
إفاضات الآية
الايمان بناء عقائدي نفسي ومعنوي، يملأ القلب والجوارح ويظهر واضحاً في الافعال، هذا الصرح والبناء يستلزم تهيئة العلل والاسباب والموجبات له ليكون الايمان راسخاً ولا يقدر عليها الا الله تعالى، لذا ترى الناس تشيع بينهم فكرة ومعتقد ويندفعون لها ولكن سرعان ما يصيبهم الفتور ويعرضون عنها لما يظهر من عيوبها ونقصها وعجزها عن مخاطبة العقول، فهي تخالف العواطف وتتستر بالجاه والمال والاعلام ولكنها لا تستطيع ان تقنع اولى الالباب واصحاب العقول، ولا تقدر العواطف على استدامة الرضا من غير براهين عقلية يحتاجها الانسان لزوال اثر العواطف بعد حين.
لقد جاء القرآن بالبراهين والحجج العقلية ابتداء واستدامة، والآية دعوة للتأخي والوفاق مع اهل الكتاب بقاعدة كلية مشتركة وهي الايمان بكل الانبياء والرسل بعرض واحد من غير تمييز بينهم بخصوص النبوة والرسالة، وفيه دلالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لانه لم يدع لنبوته فقط بل جاء بتثبيت النبوات من قبله، الامر الذي تلقاه المسلمون بالتصديق والتسليم واظهار مضامين العبودية.
التفسير
تفسير قوله تعالى[آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ]
بدأت الآية بمدح الرسول والالــف واللام في (الرسول) للعهد والمراد هو النبي محــمد صـلى الله عليه وآله وســلم في آية واشــراقة قرآنية وفضل على المسلمين بشهادة القرآن على تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما انزل اليه، فقد لا يلتفت الناس الى موضوعية ايمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لانها امــر حتـمي وقطعي فهو ينزل عليه القرآن وتأتي المعجزات الباهرات على يديه فلابد ان يكون مؤمناً.
وهذا صحيح ومن المسلمات الا ان القرآن جاء باعجاز شخصي آخر والتفت الى حقيقة لم يكن يلتفت اليها احد لولا القرآن وهي ذكر ايمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص والبيان مما يفتح الباب لدراسات كلامية خاصة بالموضوع، فلولا هذه الآية لما استطاع احد ان يناقش ويبحث ايمان الرسول، وقد يرمى بشكوك او ينظر له بريب، فجاءت الآية لتدعو الى البحث.
وهذه الدعوة من البراهين التي تدل على صدق نزوله من عند الله عز وجل سواء بما فيها من الاعجاز والالتفات الى امور لم تكن متوقعة او محتملة ايام التنزيل او حالات ثبات وتوارث الاسلام، فجاءت الآية لتحث الجميع على الانتباه الى هــذه النكــتة العقـائدية وهي ان ايمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له خصوصية واعتبارات اضافية لانه يتلقى الوحي مباشرة من عنده تعالى، ينزل عليه الملك الكريم بآيات القرآن فيحتاج الى مؤونة زائدة واهلية عالية تؤهله لامور:
الاول: الاستعداد للانصات وتلقى الوحي.
الثاني: حفظ وعدم نسيان ماينزل عليه، وهذا الحفظ لا يتوقف على الذاكرة وحدها، بل على الاصغاء والالتفات وعدم الغفلة، مع الاقرار بانه وحي وتنزيل، وترى الانسان اذا مرت عليه حوادث ذات اهمية او سمع قولاً مؤثراً وفي واقعة مخصوصة فانه يبقى يستحضره ويتذكره اكثر من غيره، فكيف بالوحي وهو كلام الله النازل من السماء.
الثالث: النبوة شهادة على الوحي وصدق التنزيل، وهذه الشهادة تتقوم بشخص النبي وحده لانه هو الشاهد والسامع واذا كان النبي رسولاً يكون ايضاً هو الرائي أي الرائي للملك الذي ينزل عليه لان الرسول يرى الملك بالاضافة الى سماع كلامه، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد المرسلين.
وبينما اكدت الآيات المتقدمة على الشهادة على الدين وجعل الشهادة متعددة سواء في الرجال او النساء، جاءت هذه الآية لتخبر عن الشهادتين.
احداهما شهادة خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعلت هي المقدمة في الآية الكريمة وبعدها جاءت شهادة وتصديق المؤمنين، لقد ابى الله عز وجل الا ان يكون له انبياء مرسلون يكونون شهوداً على اممهم وشهوداً على الرسالة والتنزيل، وتتصف شهادة الرسول بان يأتي تصديقها معها بالآيات والمعجزات، فمن يقول انه نبي من عند الله لابد وان يأتي بآية تثبت للناس انه صادق.
وهذا من اللطف الالهي ان ترك للناس مندوحة وسعة للتصديق بالنبي وجعلهم يفكرون ويتدبرون في شأنه ويميزون بين الصادق والكاذب، والاهم منه ان هذه الآيــات والمعجــزات النبوية تمنع الكثير من ادعاء النبوة، فحالما يصبح ملكاً ينــادى بانه نبي بقاعدة وهمية مبتكرة انه لو لم يكن نبياً لما اســتطاع الوصــول الى الملــك والحكم، او ان النبـوة تعني الحــكم والملـــك وانه ظــل الله في الأرض، ولروّج للفكرة الاعوان والانصار والاتباع خصوصاً وان من الملوك من ادعى الربوبية.
فيكون ادعاء النبوة من باب الاولوية والامر الاسهل والاقرب للتصديق، ولكن هذا الملك حين ادعائه النبوة يعلم هو وخاصته انه كاذب في دعواه، ومعرفة الخاصة لكذبه لا تحول دون مواصلة الدعوة له واتباعه والانقياد له حباً للدنيا والجاه او خشية بطشه او لعدم الاكتراث بامور الدين وغلبة الاهواء والميل الى الشهوات.
فجاءت المعجزة لتكون فيصلاً وبرزخاً دون ادعاء النبوة كذباً وبهتاناً، وبذا تتجلى عندنا حقيقة كلامية وعقائدية تستلزم دراسة خصائص المعجزة الاضافية ووفق مبحث المفهوم المخالف للمنطوق، فمن اهم منافع المعجزة حجب الدعوة الكاذبة، لان من يدعيها يطالب بالمعجزة وهو عاجز عنها فيسقط في يده ويقابل بالاستخفاف ولاعبرة بالانصار والمريدين القليلين الذين يتبعونه في قوله كما انهم سرعان ما يتفرقون عنه.
واتصفت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصية اضافية وهي الاخبار السماوي بانه خاتم النبيين وان باب النبوة اغلق الى يوم القيامة وهذا من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فهذا الختم انتفع منه كل انسان، المسلم، والكتابي، والكافر الوثني ايضاً، بان لا يزعج الناس احد بادعائه النبوة كذباً ويبث الفرقة او الخلاف ويقودهم الى الضلالة والفتن الإضافية المستحدثة، فأول من يكذب مدعي النبوة هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن خلفه المسلمون واهل الكتاب اتباعاً له.
وكان بعض أهل الغواية في الازمنة الغابرة يدعي النبوة في قبيلته وبلدته فيتبعه نفر قليل ثم لا يلبث ان يتلاشى بذكره ويفضح امره فلا تبتعد سمعته عن موطنه كثيراً، وان اتسعت فانها تتسع بما يحزنه ويفضحه، اما في هذا الزمان فان الامر مختلف تماماً، لوجود الفضائيات ووسائل الاعلام والمقاصد والنوايا المتباينة، وميل الناس للاهتمام بما هو جديد، وهذا الاهتمام ارباك نوعي عام في امور العقيدة والعبادة لذا فان ختم النبوة حاجة عقائدية واخلاقية واجتماعية لاهل هذا الزمان والازمنة اللاحقة على نحو الخصوص.
ولابد ان الختم يكون ذروة الامر وسنامه وغايته القصوى والقادم للاجيال المتعاقبة بالمعجزة الحية الحاضرة، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الكمالات الانسانية والحامل للقرآن الذي هو معجزة الدهور المتجددة التي تطل على الامم في كل ساعة بامر جدي وحقيقة ثابتة وعلم مستحدث فمع كثرة ما يكتشفون من علومه يدركون انهم لا زالوا في بداية الطريق، لان علوم القرآن توليدية، كل علم يفتح منه علوم اخرى متعددة ومتشعبة:
والذي انزل الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه:
الأول : القرآن.
الثاني : الوحي مطلقاً.
الثالث : الحديث القدسي.
الرابع : السنة على القول بنزولها.
والقسمان الاخيران يدخلان في الوحي وهو ما يتلقاه النبي من عند الله من الكلام وامور الدين بواسطة الملائكة ومن غير تدخل احد من البشر، فليس من انسان يقع وسيطاً بين البارى عز وجل وبين انبيائه، والوحي اسمى تشريف لبني آدم، وانفرد به الأنبياء من دون الناس جميعاً الا ان منافعه عامة، وهو الشاهد على النبوة، وآيات القرآن جزء من الوحي، وهل تدخل رؤيا النبي في الوحي وتكون احد مصاديقه الجواب فيه تفصيل فرؤيا النبي على قسمين:
الاول: رؤيا عامة تشبه مايراه الصالحون وتتضمن البشارة او الانذار، وغيرها من الرؤى التي يراها كانسان، [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
الثاني: رؤيا الوحي، وهذه خاصة بالانبياء، ويتفضل سبحانه ويجعل النبي يدرك انها وحي وليس رؤيا مجردة.
وهذه الرؤيا ملحقة بالوحي حكماً( )، ويعتبر الوحي معجزة الرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد رافقه في ايام النبوة والى آخر ساعة من حياته، لم يفارقه الوحي، والذي يعني نزول الملائكة عليه من عنده تعالى وهذا تشريف اضافي يدل على قرب السماء من وقائع الأرض في ايام النبوة، لذا لم يرد في الاخبار ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عجز عن اجــابة سؤال أو حل معضــلة، نعــم قــد يسئل فلا يجد جـواباً حاضراً الى حين نزول الملك بالجواب القاطع الشافي وهذا التريث حجة وشاهد على الوحي والنبوة ودعوة للناس للتصديق.
وحيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخلو بغار حراء ويتحنث فيه، وبعد ان جاءه الملك وقال له اقرأ قال ما انا بقارئ الى ان ضمه في الثالثة وقال [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ]( )، رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى خديجة مذعوراً من هول ما رأى وقال : زملوني، زملوني، فرملوه، حتى ذهب عنه الروع.
والوحي من عالم الامر وهــو تشــريف للانسـان مطلقاً خصوصاً وانه بــدأ مع هــبـوط الانســان الأرض وظــل ملازماً للانبيــاء وارتفع عن الأرض بانتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الاعلى الا انه لم يغادرها كموضوع بل بقي بالقرآن الذي هو وحي وتنزيل.
ومن الآيات ان التحريف لم يطرأ على القرآن ليبقى عنوان الصلة بين السماء والأرض، ولقد كان المسلمون يرون علامات وقرائن هبوط الملك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويعلمون انه يوحى اليه ثم يتجلى الامر بآيات قرآنية يتلوها عليهم تكون في موضوعها وبلاغتها ودلالاتها برهاناً على صدق التنزيل، فيرون مايصيبه ساعة الوحي من الكرب وكيف ان جبينه يتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرودة لثقل التنزيل ومسؤولية تلقى الوحي.
ومن الاعجاز ان تلتفت الآية الى مسألة كلامية وهي ان النبي ليس مجرد واسطة وآلة لنقل التنزيل والاخبار عن الوحي بل هو اول المؤمنين وسيد الموحدين، وانه يعيش مع الوحي والتنزيل ويدرك انه من عند الله عز وجل، والدعوة لا تتقوم الا بايمان الرسول لذا تراه ابتدأ بالرؤيا الصالحة لمدة ستة اشهر، فما جاءته رؤيا الا كانت كفلق الصبح في تحققها في عالم الواقع والفعل، وفي التنزيل،[ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ] ( )، فالاسلام انطلق في الافراد والاشخاص من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتجدد ويتسع عبر الأحقاب والقرون وبين الأجيال المتعاقبة.
وهذا الايمان يظهر في القول والفعل والدعوة الى الله، لذا ورد ان اخلاق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي القرآن، والملك يعلم انه يهبط على نبي ورسول، والرسول يعلم ان الذي يأتيه ملك لا يفعل الا مايأمره الله به، والمسلمون يدركون حقيقة النبوة والتنزيل، ليبدو لك ضعف كيد الشيطان ووهنه وعجزه عن التأثير بما يفتتن به المرجفون واهل الجحود.
فما من احــد رأى النــبي صلى الله عليه وآله وسلم وسمع كلامه الا علم صــدق النبوة بالمائــز الكــبير في صفات النبوة مما عليه عامة البشر، والملك الذي ينزل بالقرآن هو جبرئيل، وقد كان ينزل باللفظ القرآني وليس بالمعنى، لذا بقي لفــظ القرآن معــجزاً اعجازاً ذاتياً وغيرياً، فهو مائدة السماء في الأرض وسر الملكوت والنور الدائم الذي اشرقت الأرض بضيائه، ان ذكر ايمــان الرســول في خاتمة سـورة البقرة له دلالات عقائدية لما لهذه الخاتمة من خصوصية وموضوعية، وبدأت الآية بذكر ايمان الرسول على نحو الاستقلال والانفراد، وذكر ايمانه بخصوص ما انزل اليه والمراد القرآن ومطلق الوحي، لان القرآن تبيان لكل شئ.
وجاء موضوع الايمان بالاسم الموصول (ما) الذي يفيد الكثرة والتعدد والاطلاق المقيد بالنزول، أي ان موضوع الايمان هو التنزيل والقرآن، وايمان الرسول هو وحده دعوة للناس للاقتداء به واتباعه لانه توكيد بان الذي ينزل عليه ليس سحراً وشعبذة اوكهانة بل امر خارق للعادة ظاهر بالآيات الباهرات.
وتبين الآية ان ايمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتوقف على ايمان الآخرين، ولم يستشر به احداً من الصالحين، ولم يرجع الى اب او ام او رئيس او وجيه، بل كان ينفرد بغار حراء يتطلع الى الوحي وينتظر ايامه وأوانه، وافراد آية لايمان الرسول يدل على انه امة في الخير واكبر شاهد في الأرض على صدق التنزيل وهو من عند الله.
وهذه الآية حصانة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنع من تحريف اقواله او تشويه افعاله وتأويلها بقصد الطعن والاساءة وصد الناس عن الاسلام .
فقد ايقن الكفار والاعداء بان النبي محمداً مؤمن برسالته وعلى يقين من امره لا يخالطه شك في دعوته فكفوا عن عرض الدنيا ومباهجها عليه ومحاولات استمالته اليهم بالملك والرياسة والمال، واصبحوا امام خيارين لا ثالــث لهما اما الاسـلام واما البقاء على الكفر وانتظار العقاب الالهي العاجل او الأجل او كليهما معاً، كما في قتلى بدر من الكفار.
ان ايمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعني كونه مكلفاً بالاحكام الشرعية وان افعاله صادرة عن اختياره، والتكليف لا يتعارض مع عصمة النبوة لذا تعتبر سنته حجة سواء القولية او الفعلية او التقريرية او التدوينية، وهذا لا يتعارض مع ما اختص به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بعض الاحكام دون باقي المسلمين مثل تجاوز عدد زوجاته الاربع، وصوم الوصال، وتحريم أزواجه من بعده، وتنام عينه ولا ينام قلبه.
وورد لفظ (آمن) في القرآن ثلاث وثلاثين مرة، ولم يرد بخصوص شخص واحد الا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الانفراد غاية في التشريف والاكرام وهو وثيقة سماوية تتضمن العز والرفعة للمسلمين، نعم ورد ايضاً بارادة المفرد في لوط، قال تعالى [فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي]( )، ولكن هذه الآية لا تلقي الخصوصية والتشريف في ايمان الرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لان ايمان لوط جاء بواسطة ابراهيم ويحمل مضامين التصديق برسالته، اما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فليس من واسطة بشرية في ايمانه، فقد آمن بما انزل اليه أي انه آمن بالتنزيل.
وانه كلام الله عز وجل، وايمانه بما انزل عليه بالذات، فمحل النزول غاية التشريف والرفعة والسمو، ولا ينزل القرآن الا على من اختاره الله عز وجل من بين الناس ليكون اكثرهم تقوى واقربهم الى مقام الربوبية، تغبطه في منزلته الخلائق كلها.
وتدل الآية على نيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لابهى مراتب العبودية التي تتصف بالخضوع والخشوع لله تعالى، لذا كانت سنته صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية مدرسة في احكام العبودية حالت دون الافراط والتفريط ومنعت من الغلو في العبادة، او التفريط في الفرائض.
فمن منافع السنة النبوية استدامة العبادة في الأرض لان كلاً من طرفي الافراط والتفريط يؤدي الى ضعف العبادة وقلة اكتراث الناس بها لما يصيبهم من الغفلة والنسيان، فجاءت السنة بنظرية الوسط في الاسلام وجاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيتها والحيلولة دون التشديد على النفس.
ومن الاعجاز دلالات الآية العقائديةانها لم تذكر ايمان الرسول بالتنزيل فقط بل جاءت به مقيداً بانه من عند ربه، وهذا التقييد جاء بالاضافة فلم تقل بانه من عند الله مع ان اسم الجلالة من اقدس الاسماء واسماها، بل جاء بعنوان الرب وهوايضاً من امهات الاسماء المقدسة، ولكنه يدل في المقام على الملازمة بين الايمان والعبودية والخضوع، وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم آمن من منازل الخضوع والعبودية والتسليم بالربوبية لله تعالى.
وتدل هذه الملازمة على اقترانها بجهاده صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله ودعوته للاســلام، لذا فان دراســة تأريــخ البعــثـة النبوية تظهر بجلاء عدم وجود فترة زمنــية طــويلة او مقــيدة بين بداية البعثة وبين دعوة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم الى الاسلام، وبدأت تلك الدعوة بالاهل والاقربين والعشيرة مع ان الدعوة فيهم اصعب من غيرهم وتحتاج الى حجج وبراهين ظاهرة، فلا تكفي حجة وبرهان واحد، لان الانسان حين يعيش مع اهله او غيرهم عشرات السنين ثم يفاجئهم بانه مبعوث من عند الله في امةعاكفة على عبادة الاصنام تأبى أن تخضع لقواعد ونواميس سماوية تتضمن تكاليف مالية وبدنية يومية.
فلابد من قوة ظاهرة تنتزعهم من غيابت الجهل والضلالة وتأخذ بايديهم بقوة نحو سبل الهداية والرشاد، والدعوة بين الافراد اسهل منها بين الجماعات، ولكن الجماعة لا تلبث وان تطلع على الدعوة الفردية والخاصة، لذا واجهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشد العناء وتحمل البلاء من قومه حتى قال: (ما اوذي نبي مثل ما اُوذيت) ( ).
ولقد ورد ايمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الآية مطلقاً مما يعني التسليم بصفات الله عز وجل وان الجلال والكمال لله تعالى، وانه الخالق والمدبر للخلائق، ومن الآيات ان إيمان النبي جاء متعلقاً بما انزل أي كل ماورد في القرآن من المعاني والاحكام والقواعد ومصاديق الارادة التكوينية والتشريعية، فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مؤمن به، بالاضافة الى ايمانه بالوحي، فهو الشاهد على صدق نزول القرآن من عنده تعالى وصدق احكامه ومضامينه.
والآية دعوة للناس جميعاً للايمان والصلاح والاقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لان القرآن اكرمه ووصفه بالرسول وهو منتهى المدح والثناء لما في هذا الوصف من معاني الكمال وقد تقدم ذكر الفرق بين الرسول والنبي، والخصائص الاضافية للرسول( ).
وذكر النبي هنا بصفة الرسول له دلالات خاصة بالمقام اذ ان النبوة عنوان الرتبة والمنزلة العالية وتلقي الوحي، اما الرسالة فهي لتبليغ للناس والاخبار عن الله عز وجل فلفظ الرسول يعني وجود طرفين مرسل –بكسر السين- ومرسل اليه –بفتح السين-، أي ان الله عز وجل اراد للتنزيل ان يكون تبليغاً ورسالة للناس، فيصلح لفظ الرسول قرينة على ان التنزيل ليس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل للناس جميعاً، وايمان الرسول يعني اشتراكه باحكام التنزيل ايضاً ويختلف عن الناس بامرين:
الاول: انه الرسول من عنده تعالى.
الثاني: انه اول المؤمنين.
وتمنع الآية من البالغة بمنزلة الرسول الاكرم والمقاربة به لمقام الربوبية وهذا من الاعجاز فان الآية تبالغ في اكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتبين ارتقاءه على البشر وتحول دون الغلو في شخصه الكريم، كما انها تثبت تفوقه في العلم بالتنزيل وتدعو الى طاعته قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، ومن مفاهيم الآية ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينس ولم يسهو ويغفل عن أمر من أمور التنزيل واحكام الوحي.
مقدمات علم النبوة
من الآيات ان الفعل (نُزل) جاء على البناء للمجهول للاخبار بان الذي ينزل بالوحي ملك وان الواسطة لم تغير من صدق التنزيل بانه من عند الله تعالى، وجاء بصيغة الماضي والاطلاق أي ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم آمن بجميع ما انزل عليه من عند الله تعالى، والمعروف ان التنزيل على نجوم ومراحل فتنزل الآية والآيات ثم تعقبها آيات اخرى.
وهل هذه المعرفة دفعية وتابعة للتنزيل من أوله، ام انها جاءت فيما بعد، الجواب: انها دفعية ومباشرة ولم تتخلف عن أول التنزيل مثلما لم يتخلف المعلول عن علته، وحصلت المقدمات في غار حراء بل ان الاعتكاف في الغار لم يتم الا بعد اسباب وامارات للنبوة، واذا اراد الله عز وجل شيئاً اصلحه وهيئ اسبابه.
ولابأس بتأسيس علم جديد اسمه مقدمات النبوة، يبحث في كيفية تهيئة النبي لتلقي الوحي ومراتب هذه التهيئة وأوانها والفوارق بين الانبياء في تلقيها، والمائز الذي يتصف به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مناسبة هذه المقدمات، كما تقسم هذه المقدمات الى عدة تقسيمات منها:
الاول: المقدمات الذاتية، أي التي تتعلق بشخص النبي وهي تقسم الى عدة فروع:
الأولى : المقدمات النفسية ومؤهلاته واستعداده لقبول الاقرار والامتثال الاحسن وتخلصه من الاخلاق الذميمة والعادات القبيحة.
الثانية : البدنية والجسمية في الصحة والمرض، والقوة والضعف.
الثالثة : المقدمات القتالية والعسكرية.
الرابعة : الحالة الزوجــية كما اخــتار الله عز وجـل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أشــرف نســاء قريش وأكـثرهن مالاً وسعة لتوظف مالها في سبيل الله وتكون عضداً وعوناً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة : الحالة الاجتماعية، فلقد اختير رسول الله من اسرة تتمتع بالمكانة الاجتماعية المرموقة عند العرب وتحظى باحترام الملوك من العرب والعجم، ولم يكن خاملاً او مغموراً، بالاضافة الى زعامتها في قريش ومنزلة قريش بين القبائل العربية، وهو من أهل مكة وهي أم القرى وبدة البيت الحرام.
السادسة : النسب وطهارة المولد: فعندما نستعرض الحالة الشخصية بالانبياء تجد رفعة النسب وشرف الاصل، ومن الآيات ان انساب الانبياء معروفة عند الناس في الجملة حتى في تلك الازمنة التي لم يكن فيها التدوين والتوثيق متعارفاً.
السابعة : المقدمات الاخلاقية والتربوية، فمن لطفه تعالى بالنبي والناس ان يصلح النبي منذ صباه في سيرته وسمته واخلاقه كي لا يتردد الناس في اتباعه ويطرحون الشكوك بالاستصحاب الباطل الذي نقض بالنبوة والدعوة الى الله عز وجل، فمع التوبة والبعثة النبوية لااعتبار لما صدر قبل النبوة من المعصية والذنب والتعدي، ولكن الله يخفف عن النبي والناس جميعاًً بعصمة النبي وتنزيهه من صباه، فلا يرى الناس في سيرته الا الخير والبر.
ولقد سمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوة (الصادق الامين) وهذا الوصف من مقدمات النبوة ومن فضله واعداده تعالى للنبي لمراتب الرسالة الرفيعة، فهذا اللقب انتزعه بحسن خلقه وسيرته وسط مجتمعات الغزو والقتل وعبادة الاصنام وشيوع المنكرات والفواحش.
ومن الدلائل الباهرة انه لم يخرج عن هذا الوصف بعد النبوة لافي قوله ولا في فعله فيعمم الناس تلك الحالة جرياً وانطباقاً على دعواه النبوة، بل ان النبوة نفسها تصدق نفسها وتثبت صدقه، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يثبت بنفسه النبوة بل هي التي اثبتت واكدت صدقه بالآيات القاهرة والمعجزات الظاهرة والحجج الدامغة ومنها آيات القرآن.
ولا ينحصر علم مقدمات النبوة بالرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل يتضمن مقدمات نبوة الانبياء الاخرين بحسب الآيات كما في صفة ولادة موسى وعيسى عليهما السلام والاخبار الواردة في السنة النبوية عن سيرة وقصص الانبياء، مع ايجاد الجامع في المقدمات بين الانبياء واستنباط الدروس والمسائل الكلامية واستطلاع الآيات في هذا العلم الشريف الذي يؤكد العناية الالهية بالنبي من ساعة ولادته بل قبل ان يولد، لانه سبحانه يتعاهده في الاصلاب والارحام الطاهرة.

تفسير قوله تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ]
بعد ذكر ايمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالله عز وجل في اول الآية وكأن ايمانه مدخل ومقدمة لايمان المسلمين واقرارهم بالتوحيد، كما ان تقديم ايمانه قبل ايمانهم دعوة لهم لاكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفة المائز في الايمان والدرجة والريادة والاسوة، فلابد من اعتبار فضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين في دعوتهم للاسلام واقتباسهم من ايمانه وأسرار في التنزيل، أي ان ذكر التنزيل وحده مكرمة، والايمان به مكرمة اخرى، وخطوة ضرورية لتثبيت التوحيد في الأرض.
ومن الاعجاز ان الآية لم تقل ان المؤمنين آمنوا بما انزل على الرسول، بل ذكرت افراد الايمان، مما يدل على ان مصاديق وافرادالتنزيل أعم من القرآن ومنها ما هو شخصي قرآني تفصيلي ويتعلق بتوجيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى قول او فعل معين، فهذا الوحي كله آمن به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، اما المؤمنون فلا يعلمون منه الا ما جاء في القرآن واصول الدين والاوامر والنواهي، فلذا جاءت الآية بالتفصيل وعدم مجانبة الدقة العقلية والحكم في موضوع الايمان ومراتبه.
ويمكن القول بين ايمان النبي وايمان المؤمنين عموم وخصوص مطلق فيما يتعلق بالموضوع، فكل الذي آمن به المؤمنون آمن به الرسول الاكرم، وما آمن به الرسول اعم لانه يشمل افراد التنزيل مطلقاً، وتبين الآية ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلغ ما انزل اليه وبيّن للناس الاحكام ولزوم معــرفة الله حتـــى آمنـوا، بمعنى ان لم يبلغ وينقل الرسالة فقط بل استطاع بجهاده وما آتاه الله من فضله ان يؤسس مجتمعات من المؤمنين كما هو ظاهر الحال من ايام البعثة النبوية الاولى في مكة المكرمة وما شهده الاسلام من كثرة الداخلين فيه بعد الهجرة الى المدينة المنورة.
والاجماع على وجوب معرفة الله عز وجل وصفاته الثبوتية كالقدرة والعلم والحياة والارادة والكلام، وانه تعالى قديم أزلي باق ابدي، والسلبية اي ما ينفى عنه تعالى فهو سبحانه ليس بمركب ولا جسم ولا عرض، وليس في جهة او مكان، ولا يصح عليه اللذة والألم، ومنزه عن أين ومتى وكيف، وانه سبحانه واحد احد لا شريك له.
ووصف الايمان وحده ونعت المسلمين بالمؤمنين له دلالات خاصة لان الايمان ارتقاء ورفعة ودرجة في الصلاح والهداية، فلفظ المؤمنين وحده دليل على ايمانهم بالله عز وجل ورسوخ الايمان في قلوبهم، خصوصاً وان الآية لم تقل المسلمين بل جاءت بصفة المؤمنين، وهذا الوصف يدل على تزكيتهم وقبول ايمانهم من عنده تعالى وفيه مدح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اذ ان وجود المؤمنين دليل على حسن جهاد النبي وتوفيقه في رسالته، وفي الآية احتمالان بلحاظ الالف واللام في الرسول وهما:
الأولى : ان الالف واللام استغراقية وهي التي تأتي للجنس كما في قوله تعالى [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( )، أي كل فرد من الناس وتشمل الآية آدم وغيره.
الثانية : ان تكون اللام العهدية وهي على قسمين، اما ان يشار بها الى معهود ذهني او ذكري، والاول كما في قوله تعالى[فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ] ( ) الآية، فهناك عهد وقرينة وآيات اخرى تؤكد ان الرسول هو موسى عليه السلام، والذكري مثل قوله تعالى [فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ] ( )، فان الالف واللام في المصباح والزجاجة لما تقدم ذكرهما في نفس الآية الشريفة.
والظاهر ان الالف واللام في الآية محل البحث للعهد الذهني وانها تعود للنبي محمد صــلى الله عليه وآله وسلم، وكذا بالنسـبة للمؤمنين فانها تعود للمسلمين الذين أحسنوا افمتثال لأحكام الحلال والحرام، ولامانع من شمولها للمؤمنين من الملل السابقة الذين آمنوا بجميع الرسل ومنهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي بشر به الانبياء السابقون.
ولفظ المؤمنين شامل للرجال والنساء، وورد التذكير للتغليب ولدلالته على الجمع والاطلاق، وان جاءت بعض الآيات بالتفصيل، كما في قوله تعالى[وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ]( )، بل ان التفصيل نفسه يدل على الاشتراك عند ورود التذكير وحده لعمومات المجمل والفصل.
ولفظ المؤمنين جمع انحلالي ينحل بعد افراد المؤمنين وهو مستغرق لافرادهم في كل زمان، اذ ان الايمان واجب عيني ووصف ينطبق على كل مؤمن على نحو الاستقلال والانضمام فان ايمان الجماعة يختلف في الكم عن ايمان الفرد وفيه القوة والمنعة والعز، لذا ورد قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) فان الاجتماع على الايمان يعطي للايمان وللمؤمن وللجماعة القوة، وهو دعوة للايمان لان الفرد لا يؤثر بالجماعة اكثر مما تؤثر الجماعة في الفرد الا ما ندر، وجماعة المؤمنين عون على تثبيت الايمان في قلب كل فرد منهم، ودعوة للآخرين للايمان، ولابد ان يكون ايمانهم كلاً واحداً لا يقبل التجزئة والتبعيض.
ولم تقل الآية (والمؤمنون آمنوا) بل جاءت بصيغة لا توجد الا في هذه الآية وهي (المؤمنون كل) ليكون ايمانهم صيغة وهيئة واحدة مجتمعة لا يمكن التفريق فيها لقذف اليأس في نفوس الكافرين، فلا يرتد احد من المسلمين، والكل سور جامع شامل بعنوان الايمان، اما الافتراق فيكون بالعوارض اللاحقة فهي بلحاظ الجزئي الشخصي لكل مؤمن كقسمة الانسان الى زيد وعمر وحسن.
وتنفي الآية التناقض والتنافي والخلاف بين المؤمنين لصيغة الاتحاد في الآية فلا قسمة ثنائية تدل على التعارض والتزاحم والتنافي بين اقسامها، والنفي والاثبات وحكم النقيضيين الذين لا يجتمعان فيكونان قسماً واحداً، ولا يرتفعان ويأتي قسم ثالث، بل ان المؤمنين كل واحد مجتمع، لا تناقض او تناف بينهم في المبادئ والأفعال، لذا تراهم يجتمعون في كل يوم خمس مرات في صلاة الجماعة، بل وصلاة المنفرد بلحاظ وحدة أفعال الصلاة من القيام والقراءة واركوع والسجود.
نعم لا مانع من وجود التعدد الرتبي والاختلاف في درجة الايمان فمنهم من يكون متقياً ومنهم يكون على يقين وذات الايمان يكون على مراتب متعددة في القوة والضعف والكل مؤمن بالله عز وجل مصدق بما جاء به الرسول من عنده.
والايمان بالله هو اسمى غايات الانسان واعظم مضامين المعرفة والدليل على الانتفاع الأحسن من نعمة العقل، والشاهد على سلامة الرأي والمعتقد، والمقدمة الضرورية للاختيار الصحيح.

تفسير قوله تعالى [وَمَلاَئِكَتِهِ]
من فضله تعالى ان يقرن الايمان بالملائكة بالايمان به تعالى، ولا يعني هذا اتحاد الدرجة والرتبة، فالايمان بالله هو الاصل والمعتمد والاساس، ويتفرع عنه الايمان بالملائكة والرسل والكتب المنزلة.
والملائكة اجسام لطيفة لا تفعل الا الخير، وتؤدي افعالاً صعبة وشاقة ويتشكلون بهيئات وصور متعددة ولكنها تتصف بالحسن، كما كان جبرئيل يأتي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصورة دحية الكلبي وهو صحابي معروف بحسن هيئته، ولا يفعل الملائكة الا مايؤمرون به، وهم دائبون على العبادة والتسبيح والطاعة.
ونقل عن المعتزلة القول بان الملائكة والجن والشياطين متحدون في النوع، ومختلفون باختلاف افعالهم والملائكة لا يفعلون الا الخير، والشياطين لا يفعلون الا الشر، اما الجن فيفعلون الخير ويفعلون الشر، ويتلبسون بهيئات حسنة وقبيحة.
ولا دليل على الاتحاد في النوع بين الثلاثة، فالملائكة خلق خاص اكرمه الله عز وجل في اصل الخلق وفي القرب والفعل، والوظائف العبادية ومنها الرسالة والوساطة بين الله عز وجل وبين الأنبياء لمنع اللبس والشبه اوحصول التقصير، والايمان بالملائكة فيه وجوه:
الأول : الملائكة خلق من خلق الله عز وجل.
الثاني : انهم دليل على بديع صنعه تعالى وعظيم قدرته.
الثالث : الايمان بالملائكة يبعث الفزع والخوف في قلوب المجرمين والمذنبين لقوة الملائكة وبطشهم.
الرابع : اعانة الملائكة للانبياء في نبوتهم ودعوتهم الى الله، قال تعالى [وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ]( ).
الخامس : بعث السكينة والطمأنينة في قلوب المسلمين فان الايمان بالملائكة يعني توقع نزولهم في حالات الشدة سواء كانت شخصية او نوعية عامة وفي ساحة المعركة لنصر المسلمين ورفعة الدين، قال تعالى [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
السادس : الايمان بالملائكة جزء من الاقرار بعالم الملكوت وما في السماء من الاسرار لان مسكن الملائكة في السماء.
السابع : ان الملائكة اقروا بالتوحيد قبل ان يخلق آدم، وشهد خلق آدم وبعث الروح فيه، قال تعالى[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً]( ).
الثامن : الايمان بالملائكة مقدمة ضرورية لمعرفة اعمالهم ووظائفهم الاخروية ومايقومون به يوم القيامة قال تعالى [وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً]( )، وتصفهم آية اخرى بالغلطة والشدة والتقيد التام بامره تعالى في عقاب الكافرين( ).
التاسع : معرفة ما عليه الملائكة من حسن الامتثال والطاعة لامره تعالى دعوة واسوة لكل مسلم بالاقتداء بهم، ولتغليب العقل على الشهوة، والسعي في دروب الصالحات وانتزاع عنوان الخلافة في الأرض بالاقامة على العبادة والنسك والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ومجاهدة النفس.
العاشر : وجودالملائكة بين ظهرانينا بنزولهم الى الأرض ان شاء الله وامرهم بالنزول سواء على نحو القضية الشخصية والواقعة، او على نحو مرسوم وثابت، وفي خصوص القدر قال تعالى [تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ]( ).
الحادي عشر : ما للملائكة من النفع العظيم في نزولهم بالوحي والتنزيل وتثبيت النبوات.
الثاني عشر : الاقرار بالملائكة من غير اتخاذهم الهة فهم عبيد داخرين لله، قال تعالى [وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا] ( )، ان الايمان بالملائكة لا ينحصر بانهم رسل الله الى الانبياء، بل يتضمن الاقرار بانهم يحصون اعمال بني آدم ويكتبون كل ما يفعله الانسان من غير تضييع او نسيان لبعض افراده.
علم المناسبة
جاءت اضافة الملائكة لله تعالى خمس مــرات في القــرآن ولم يضافوا الا للضمير (الهاء) العائد لله تعالى، أي ان اضافة الملائكة لم تأت الا بصفة (ملائكته) وهذه الاضافة تعني الاطلاق وحسن الانتساب والولاء الدائم وانهم جنود الرحمن، والمرات الخمسة تقسم على ثلاثة اقسام:
الاول: ما ورد في هـــذه الآيــة ويتعــلق بالايـمان بهم بصــفة الملائـكة التي تدل في مضمونها على العبودية والاضافة الى الله عز وجل التي تعني انه سبحانه اختارهم ليكونوا ملائكة تابعين ومنقادين له، وليس بين الله وبين خلقه الاالانقياد والطاعة منهم لمقام الربوبية.
الثاني: ورود آيتين في صلاة الملائكة واحدة صلاتهم على النبي، والثانية الصلاة على المؤمنين، وجاءت صلاتهم في الآيتين بعد ذكر صلاته تعالى مع التباين الموضوعي بين الصلاتين، فصلاته سبحانه رحمة، وصلاتهم دعاء , قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ]، وقال تعالى [ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ] ( ).
الثالث: الذم للكفار في اختيارهم الكفر وعداوتهم للملائكة قال تعالى [وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا]( )، بينما مدحت الآية محل البحث المؤمنين لايمانهم بالله وملائكته وكتبه ورسله، مما يعني عدم وجــود واسـطة بين الايمان والكفر حتى في خصوص الايمان بالملائكة، فالذي يؤمن بالله عز وجل لا يجوز له نكران وجود بالملائكة.
كما ورد قوله تعالى [مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ]( )، والعداوة اعم من الكفر بالاضافة الى الكفر اتخاذ العداوة عن قصد وارادة، ولكن كيف تكون تلك العداوة, فيه وجوه :
الأولى : محاربة المسلمين ونزول الملائكة للقتال الى جانب المؤمنين كما في نزول الملائكة ببدرمسومين.
الثانية : الجحود بالرسالة التي يأتي بها بعض الملائكة , كما في رفض اليهود لما ينزل به جبرئيل من عند الله لانه ينزل بالحرب والقتال قال تعالى [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ]( ).
الثالثة : محاربة التنزيل والنبوة وعدم التصديق بالواسطة.
الرابعة : الاستخفاف بقدرة وقوة الملائكة.
ويظهر في الآية وجود ملازمة بين الايمان بالملائكة وصلاتهم ودعائهم للمؤمنين بمعنى ان الايمان بهم يأتي بمنافع عاجلة وهي الفوز بدعائهم مع عظيم منزلتهم عند الله وقربهم من العرش ولابد من خصوصية لدعائهم واثار خاصة تترتب على دعائهم، وقد لا ينحصر دعاؤهم بالسؤال والمسألة بل يتضمن الفعل والاثر والنفع المباشر، لذا ورد دعاؤهم باصطلاح الصلاة وليس الدعاء حصراً.
والصلاة اعم من الدعاء، بالاضافة الى ان دعاءهم اوسع واشمل من دعاء الانسان نفســه لنفســـه، اودعاء اخــيه له، لمعـرفة الملائكة باسرار وخزائن للدعاء لا يدركها الانسان، كما انهم يعلمون ماينفع الانسان من الدعاء ونوع المسألة، فالايمان بالملائكة باب يفتح كنوزاً من الرحمة الالهية باحراز صلاتهم على المؤمن ونيل دعائهم وكسب رضا الله عز وجل لانهم رسله وسادة السماوات والواسطة بينه تعالى وبين انبيائه.
ومن الآيات ان يلتقى الملائكة مع الانبياء بعنوان (الرسالة) ويختص بهذا الالتقاء الملائكة الذين يختارهم الله رسلاً، والانبياء والرسل، لان النبي يبعث ايضاً للتبليغ والبشارة والانذار مع الاقرار بوجود مائز وخصائص اضافية للرسل واخرى للانبياء بحاظ الخلق والسنخية ونوع الرسالة.
بحث كلامي
اذا كان الانسان مأموراً بالايمان بالملائكة فهل الملائكة مأمورون بالايمان بالانسان وكيف يكون هذا الايمان، الجواب ان الملائكة مأمورون بالايمان بالانسان، ولعل ايمانهم بالانسان اكبر من ايمان الانسان بالملائكة، فايمان الانسان بالملائكة باعتبارهم رسلاً لله تعالى، اما الملائكة فان الامر الالهي توجه اليهم باعتبار الانسان خليفة الله في الأرض، وليس من آية تبين ان الملائكة خلفاء الله في السماء، مع الاقرار بشرف وعظم منزلة الملائكة، قال تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً] ( )، ومن الآيات في الخلق والارادة التكوينية ان الملائكة امروا بالسجود لآدم بنص القرآن، قال تعالى[وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى]( ).
وقد ذكرنا اجماع المسلمين على ان سجود الملائكة لم يكن سجود عبادة بل انه سجود محبة وتعظيم واكرام واتخاذه قبلة( )، كما ان الملائكة سفراء السماء بالوحي والتنزيل، ومع التباين في منازل الملائكة ودرجات قربهم فان الايمان بهم جاء مطلقاً.
وهو تشريف للانسان، ولولا هذه الآية ونحوها في القرآن وما يتفرع عنها من مسائل كلامية عديدة لم يقل احد بارتقاء الانسان الى مراتب الملائكة، فذكر آية سجود الملائكة لادم في القرآن هبة الهية وشهادة قرآنية تدل على فضل الانسان وتتضمن دعوة له للصلاح والارتقاء بالقول والعمل، والايمان بالملائكة جزء من الشكر لله والشكر لهم، على نعمة سجودهم لادم وشهادتهم على خلافة الانسان في الأرض التي تمنع من تعدي الجن وغيرهم على خلافة الانسان وشأنه في الأرض.
لقد آمن الملائكة بخلافة الانسان في الأرض وسجدوا لآدم، فايمان الانسان بهم له منافع متعددة للانسان، مثلما هو شهادة على عظيم خلق الله عز وجل.
وجاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية التي تعني الحدوث والوقوع وهي شهادة على ايمان المؤمنين بالملائكة وعدم تفريطهم بهذا الفرع من الايمان، وذكر الايمان بالملائكة بصيغة الجمع، أي ان الايمان على نحو العموم المجموعي والاستغراقي والافرادي، فنؤمن بالملائكة كجنس واجسام نورانية لا عمل لهم الا طاعة الله، والايمان بهم ملكاً ملكاً من غير ترك لبعضهم، والايمان بكل ملك على حدة لا يستلزم الامن معرفة عددهم خصوصاً مع كثرتهم في السماوات.

تفسير قوله تعالى [وَكُتُبِهِ]
من فضله تعالى ان ينسب الكتب اليه تعالى، والمراد الكتب السماوية التي نزلت على الرسل كالزبور والتوراة والانجيل والقرآن، وجعل الله عز وجل الايمان بالكتب جزء من الايمان لما فيها من احكام التشريع ودلائل التوحيد والأوامر والنواهي، والاخبار عن النبوة، ولم تذكر الآية القرآن على نحو الخصوص مع انه سيد الكتب والجامع لها الامر الذي يدل على عدم تجزئة الايمان بالكتب وان اولها يشهد لآخرها، وآخرها يشهد لأولها وانها كل متكامل، ولان الموضوع هو التنزيل من عند الله تعالى ولتوكيد عدم التفكيك بينها، والناس في موضوع الايمان بالكتب السماوية على اقسام ثلاثة:
الأولى : مؤمنون بجميع الكتب السماوية، وهو المسلمون دون غيرهم.
الثانية : مؤمنون بشطر من الكتب السماوية وهم اهل الكتاب وهم ايضاً على اقسام، فاليهود لا يؤمنون بنزول الانجيل بخلاف النصارى الذين يؤمنون بالتوراة، وفي عيسى ورد في التنزيل[وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاة]( ).
الثالثة : الكافرون الذين لا يؤمنون بكتاب سماوي.
والآية الكريمة شاهد على حصر الايمان بالكتب السماوية بالمؤمنين دون غيرهم، ومن لا يؤمن بالكتب السماوية جميعها لا يصدق عليه لفظ مؤمن وان سمى نفسه بانه مؤمن، نعم قد تكون عنده شبهة ويدعي ان هذا الكتاب من بين الكتب السماوية ليس بسماوي، فلابد هنا من الرجوع الى الآيات الباهرات والمعجزات التي تدل على صدق نزوله من عنده تعالى، ومن الآيات ان كل كتاب سماوي يخبر ويبشر بنزول القرآن، اما القرآن فينفرد بامور منها:
الأول : انه مصدق للكتب السماوية الاخرى، وجاءت الشهادة الوثائقية من الجن ذوي الاعمار الطويلة حين استمعوا للقرآن [قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ]( )، ويتضمن نزول الكتب من السماء التشريف لبني آدم باعتبار انها صلة وحبل ممدود بين السماء والأرض، نزلت على سادة البشر وقادة الامم.
الثاني : جاء خاتماً للكتب السماوية ليكون شاهداً عليها.
الثالث : فيه تبيان كل شئ وهو الجامع للتنزيل والمبين لاحكام الدين، وهو الناسخ من غير ان يطرأ عليه نسخ من غيره فليس من كتاب غيره، ولا ينسخ بالسنة النبوية كما قيل.
الرابع : القرآن كلام الله المعجز واعجازه ذاتي وغيري، ومن الاعجاز الذاتي البلاغة واسرار كلماته وسياق آياته وما يتضمنه من الكنوز والذخائر التي لم يستظهر منها الا القليل، ومن الاعجاز الغيري اخباره عن المغيبات وتصديقه للكتب السماوية المنزلة وذكره لقصص الماضيين وقصص الانبياء وهي احسن القصص.
الخامس : عدم طرو التحريف عليه ووصول يد التحريف الى الكتب الاخرى، فكان نزوله حاجة عقائدية للمؤمنين.
السادس : تقضي الوظيفة الشرعية لاهل الكتاب استصحاب التنزيل وشموله للقرآن خصوصاً وان الانبياء بشروا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوا الى الايمان به، بينما قام المسلمون بالاستصحاب القهقري وهو ان لم يقل به الاصوليون في باب الاحكام الشرعية لانه عبارة عن ارجاع اليقين اللاحق وشموله للشك السابق، الا انه في باب العقائد عمل بالاستصحاب لانه ليس من شك سابق فالقرآن جاء بتصديق الكتب السابقة مع ان الموجود منها بيد الناس ايام نزول القرآن لم يسلم من يد التحريف منطوقاً وحكماً.
وبعد الايمان بالملائكة، جاء الايمان بالكتب السماوية وهو ترتيب اعجازي وفيه اشارة بان الكتب ينزل بها الملائكة وهذا النزول يستحق الثناء والاكرام لوظيفتهم في خدمة الانسان والتي تتصف بالامانة والاخلاص والاحتراز من التفريط بحرف اوبكلمة ولم ينزلوا على غير الانبياء الذين امروا بالنزول عليهم دون غيرهم.
فقد يكون في الامم الســالفة عدة انبــياء في زمان واحد او بلد واحد، وكل نبي له شأن مخصوص فلا يشتبه الملائكة بالوحي والتنزيل، وقد يكون في زمان واحد رسول ونبي، وما ينزل على الرسول اكبر واعظم مما ينزل على النبي، لان النبي صاحب شريعة، فيقتضي الامر التثبيت والامانة والاهلية لذا مدح الله الملائكة ووصفهم بانهم عباد مكرمون.
علم المناسبة
ورد لفظ (كتبه) في القرآن ثلاث مرات، والمراد كتب الله عز وجل، ولم ترد بلفظ الاضافة لغير الله عز وجل وبالضمير (الهاء) العائد اليه تعالى، وورد اللفظ في آيتين اخريين:
الاولى جاءت بذم الكافرين والتحذير من الكفر بكتبه تعالى [وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا] ( )، لتبين هذه الآية الحاجة النوعية العامة لبني آدم للايمان بالكتب السماوية، ولاضعاف الكفر ومحاصرته والمنع من تفشيه وانتشاره وغلبته، ففي الكتب السماوية قوام ودوام الحياة على سطح الأرض، والكفر بها بداية الفناء والزوال [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ].
وتتضمن الكتب التي نزلت على الانبياء الاحكام الشرعية ووجوه الحلال والحرام وما يجب، وما ينبغي تركه والابتعاد عنه، فهي الضابطة الكلية لصلاح الافراد والمجتمعات، والطريق الوحيد لدخول الجنة، وتركها والكفر بها لا يؤدي الا الى الهلكة ودخول النار.
فالمقابلة بين الآيتين تبين لزوم اقرار المسلمين بجميع الكتب السماوية المنزلة والجهاد في سبيل تثبيت هذه الحقيقة في الأرض وتوارثها بين الاجيال المتعاقبة لانها سر دوام احكام الشريعة، والنور الساطع الذي يفضح التحريف والتغيير، ويكشف الخلل في الانظمة الوضعية والقواعد العرفية التجريبية البعيدة عن حكم السماء.
ان الايمان بالكتب السماوية حفظ وتعاهد لها، ومنع من ضياعها وتعرضها للتحريف والتغيير، وفيه دعوة للناس جميعاً للرجوع الى الحق والصراط المستقيم، فاذا قاد الانسان عقله الى الصلاح والهداية يرجع ليجد الكتب السماوية محفوظة مصانة وكذا بالنسبة للامم والدول لتنهل من عين صافية.
الثانية وردت بخصوص مريم، قال تعالى [وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ]( )، ومريم ليست بنبية ولكنها من الصالحين، فهي ضمن المؤمنين والمؤمنات والأولياء الذين يصدقون بالكتب النازلة من عنده تعالى.
وهل المراد الكتب التي كانت في ايامها وما قبلها، ام ان ايمانها بالكتب السماوية مطلق ويشمل التصديق بالقرآن، الجواب هو الاخير، للغة الاطلاق في الآية الواردة بلفظ (كتبه) أي جميع الكتب السماوية، وانها تنتظر البشارة بنزول القرآن شأنها شأن جميع المؤمنين السابقين لايام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وانه لم يفصل بينها وبين القرآن الا بفترة نحو ستمائة سنة وكانت معاصرة ومصاحبة لآيات نزول الانجيل، والانجيل وقبله التوراة بشرا بنزول القرآن.
وفي الآية اكرام لمريم فمع ايمانها بالكتب السماوية المنزلة فانها امنت بكلمات ربها وايقنت بالآيات في ولادة عيسى.
والنسبة بين الوحي والكتب عموم وخصوص مطلق، فكل كتاب منزل هو من الوحي وليس العكس، وذكر الكتب في الايمان على نحو الخصوص نحو اعجاز قرآني ودليل على الدقة والضبط، لان الكتب تتصف بالتدوين والكتابة وتشهد عليها الاجيال وتتلاقفها الايدي كل جماعة العلماء والمؤمنين تسلمها الى الجماعة التي بعدها، واذا كان من المسلمين من يكتب الدين والقرض ويحتفظ بالوثيقة والصك، فان حفظ هذه الكتب مسؤولية اهل الأرض جميعاً ويتكلفها المؤمنون بالرسالات خاصة قال تعالى [مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ]( )، فهذه الآية تحفظ وفي كل زمان مواثيق الانبياء والكتب وما فيها من الاحكام جيلاً بعد جيل وتؤمن بالشريعة اللاحقة، في كل مرة يبعث رسول بشريعة وكتاب الى ان صاروا مسلمين، ولم تذكر الآية الوحي والايمان به لأن الوحي اعم وفيه ما يتعلق بالوقائع والاحداث الشخصية، ومنها مالم يدون مما يسهل وصول يد التحريف اليه والاضافة له، وهذه الاضافة على قسمين:
الاول: يتعلق بذات الوحي وموضوعه باضافة كلام وفعل لم يكن موجوداً اصلاً.
الثاني: اختراع وحي في مواضيع اخرى من قبل القائمين على شؤون الدين او الوعاظ او الحكام والمغرضين، ولا حاجز وواقية دون انتشارها لعدم اشتراط التدوين والنقل المتوارث لها، وقد تجد رواجاً لملائمتها للطبائع والاهواء، ولما فيها من اعانة وخدمة للسلطان.
فجاء الاعجاز في هذه الآية بذكر الكتب دون مطلق الوحي في ايمان وتصديق المؤمنين، وهذا الذكر لا يمنع من الاخذ بالوحي مطلقاً باعتبار ان الكتب السماوية تتضمن قواعده ووقائعه واخباره ولو في الجملة كما في قصص الانبياء وما ورد في القرآن من الاخبار عن الوحي الى الانبياء قال تعالى [كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ]( )، وقبول المنقول منه بالسند الصحيح المتواتر عبر اجيال المسلمين من الملل السابقة، والذي لا يتعارض مع القرآن باعتبار ان القرآن جامع للكتب وفيه تبيان كل شئ، وما لا يوافقه فهو زخرف وباطل.
لقد انعم الله عز وجل على الناس جميعاً وجعل عندهم جهة وموثقاً سماوياً تعرض عليه الكتب والاخبار والاقوال فيعرف صدقها من كذبها، وسمينها من غثها، مع الاختلاف والتعارض بينها وبين القرآن، ويؤخذ بما في القرآن لانه آخر الكتب السماوية، ولسلامته من التحريف والتبديل والتغيير وهو من الاعجاز الذاتي والغيري للقرآن أي ان عدم التحريف حاجة وضرورة لحفظ الكتب السماوية الاخرى ومعرفة مقدار التحريف الذي تسرب اليه.
ولولا سلامة القرآن من التحريف لوقع الناس في حيرة ولاخذ كل قوم بما يلائمهم ولاعرضوا عما يقوله غيرهم ولحصلت فتن وحروب ومعارك ينتهي بعضها باعراض اغلب الناس عما في ايدي الفريقين، فسلامة القرآن منعت من الامتثال، وان حصل فلابد من الرجوع الى القرآن لفك الخصومة وحل النزاع، لان جميع الاطراف تشعر بالحاجة الى الصدور عنه والعمل بما فيه،كما ان الايمان به حرز ومنعة للامة وللقرآن نفسه، لذا فرضت القراءة في الصلاة اليومية واعتبرت جزء واجباً منها، كي يحفظ القرآن ولا يضيع.
وتكون الصلاة حارساً اميناً لمنع التحريف عنه خصوصاً وان يشترط القراءة الصحيحة الخالية من اللحن وتغيير الحركات الاعرابية فضلاً عن الحروف والكلمات، والقراءة لا تأتي الا بعد الايمان بالقرآن كتاباً نازلاً من عنده تعالى وبما ان القرآن جامع للكتب السماوية فهل يكفي الايمان به دون غيره من الكتب، الجواب: لا, فلابد من الايمان بالتوراة والانجيل والزبور وغيرها من الكتب السماوية التي انزلت على الرسل السابقين، نعم يكون الايمان بها سالمة من التحريف خالية من الزيادة والنقيصة، والايمان بها توكيد لصدق نزول القرآن.
ولغة الجمع في كتبه تعالى يدل على الكثرة والتعدد وانه سبحانه تفضل على العباد ببعث الرسل وانزال الكتب لهدايتهم لدين التوحيد ولمنعهم من الضلالة والاضرار بالذات في النشأتين، ومع هذا يتفضل سبحانه ويطلب من الناس الايمان بالكتب لكي ينالوا الثواب بقاعدة اللطف، ولم يمنعه سبحانه جحود شطر من الناس واختيارهم الكفر بالكتب بل توالي انزال الكتب الى ان ختمت بالقرآن، وكأن الايمان بالكتب عهد اخذه الله عز وجل على المؤمنين يشترك به المتقدمون والمتأخرون بعرض واحد، فالمتقدمون يؤمنون بما انزل في زمانهم وقبله وما ينزل بعده، والمتأخرون يؤمنون بما انزل من قبل على جميع الانبياء والرسل.
ولم تقل الآية كل مؤمن آمن بالكتب بل أنهم آمنوا على نحو العموم المجموعي وهذا العموم يحتمل وجوهاً:
الأولى : المؤمنون في كل زمان.
الثانية : المؤمنون في كل ملة كما في الاسلام.
الثالثة : المؤمنون مطلقاً في افراد الزمان الطولية.
فيلتقي المسلم في زمان نزول القرآن مع المسلم في هذا الزمان مع الكتابي قبل نزول القرآن مع غيرهم من المؤمنين قبل نزول التوراة والانجيل، والاصح هو الوجه الثالث، للاطلاق ووحدة الموضوع في تنقيح المناط.
وبما ان النسبة بين المسلم والمؤمن عموم وخصوص مطلق، وان كل مؤمن هو مسلم وليس العكس، ووردت الآية بصفة الايمان، فهل المسلم الذي ليس بمؤمن لا يشمله اطلاق الآية، لم يقل احد بهذا وكل مسلم يؤمن بجميع الكتب السماوية وتلك فريدة يتصف بها المسلمون، وتحتمل الآية وجوهاً:
الأولى : المراد من الايمان هنا التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والانبياء من قبله، فكل من يصدق بالرسالة عليه ان يتقيد باحكامها ومنها التسليم بجميع الكتب السماوية النازلة من عندلله.
الثانية : ورود صفة الايمان لا يمنع من المعنى الاعم في الواقع، لان اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره، فالمراد المؤمنون المسلمون.
الثالثة : ارادة خصوص المؤمنين باعتبار انه القدر المتيقن.
والجواب هو الاول وان المراد المسلمون جميعاً الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الظاهر بالوجدان فما من مسلم الا ويؤمن بالتوراة والانجيل والزبور ويعلم ان الله انزل على الانبياء السابقين الكتب والآيات، وتقتضي الوظيفة الشرعية الايمان والتصديق بها، ففي الآية نكتة عقائدية وهي ارتقاء المسلمين جميعاً الى مراتب المؤمنين اكراماً وتشريفاً للرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم ولامته، خصوصاً وانهم حفظوا ركناً من اركان التوحيد في الأرض وهو الايمان بالكتب السماوية والرسل، بل حتى الملائكة فان المسلمين أمنوا بجميع الملائكة بينما لم يؤمن شطر من اهل الكتاب بما ينزل به بعض الملائكة مع اقرارهم بانه ملك كما في نزول جبرئيل بالقرآن.
والآية دعوة للمسلمين في كل زمان يتعاهد القرآن والكتب السماوية المنزلة الخالية من التحريف والاعلان عن التصديق بها واظهار اكرامها وتقديسها في القول والفعل لانها نازلة من عند الله ولأننا مأمورون بالتصديق بها.
وعلى التصديق بالقرآن والكتب الاخرى المدار في معرفة الايمان وهويته وبناء الصلات العقائدية والتقارب الفكري لانه عنوان جامع وأمر شامل لكل الاجيال والامم المتعاقبة.
ولو فرض وجود كتاب نزل من السماء ولا يعرف الرسول الذي انزل عليه، فتنص احكام هذه الآية على الايمان به لوجود المقتضي وفقد المانع وان الكتب السماوية شاهد على التوحيد وداعية الى الربوبية على نحو مستديم، ولكن هذا الفرض غير موجود في تخفيف ولطف منه تعالى، فالنبوة انقطعت بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن الانبياء ما كان يبعث لقبيلته او بلدته او قريته او اسرته، اما الكتب السماوية فتصل الى كل مكان وتحمل عناوين اضافية خاصة في زمن العولمة لتكون دعوة الى الله تدخل كل بيت مع سبق زمانها وقلة اصحاب بعض الرسل اوان التنزيل ولكن تلك القلة كافية لاثبات صدق الرسالة كما ان الكتب نفسها تحمل اسباب التصديق والآيات بالاضافة الى تصديقها من قبل القرآن عند عرضها عليه.

تفسير قوله تعالى [وَرُسُلِهِ]
بعد الايمان بالله عز وجل والملائكة الذين ينزلون على الانبياء، والوحي الذين ينزلون به ويجمع في الكتب وبين دفتين جاء الايمان بمن تنزل عليه الملائكة بالكتب، ويلاحظ في الآية الترتيب في الدرجة بحسب درجات ومراحل النزول ولكنه ليس السبب الوحيد لهذا الترتيب كما يتبادر الى الذهن بالمعنى الأولي، فلابد من مسائل في هذه الترتيب والتوالي، لماذا قدم الايمان بالملائكة بعد الايمان بالله وأخر الرسل وجعلت الكتب بينهما.
ويمكن القول ان الايمان بالرسل هو الاول والمتقدم فبعد التسليم بانهم رسل من عند الله يتم اخبارهم عن الملائكة الذين ينزلون عليه والكتب الســماوية التي يأتــون بها من عـند الله، والرسول هو الذي يميز بين كلامــه الخاص وبين الوحــي الذي انــزل عليه، فيعــرف اصحاب الكتاب ويوثقــونه ويتدارسونه ويحفظونه، ولولا الرسل والكتب السماوية التي انزلت علينا لم يعرف الناس الملائكة، نعم رآهم او سمعهم آدم في الجنة ولكن آدم نبي ايضاً، ولم نعرف قصة وموضوع الحوار الذي دار بين آدم والملائكة الا بالقرآن وآياته الباهرات، ومع هذا جاء الايمان بالملائكة مقدماً على الايمان بالكتب والرسل لعظيم منزلتهم وقربهم من العرش ولان الناس لم يروهم وانما سمعوا عن الرسل والانبياء اخبار الملائكة وقصصهم ومراتبهم، وفي الآية وجوه:
الأولى : حصر الايمان المطلوب بالرسل وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً.
الثانية : شمول الآية للانبياء جميعاً وعددهم مائة واربعة وعشرون الف نبي ومنهم الرسل.
الثالثة : المراد بالآية هم الرسل الذين انزلت عليهم الكتب السماوية كموسى وعيسى عليهما السلام بالاضافة الى سيد الرسل محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً أولي العزم من الرسل والذين جاءوا بشرائع نسخة الشرائع السابقة وهم خمسة نوح وابراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام والرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والاصح ان المراد من الآية الايمان بجميع الانبياء لان الله اختارهم للاخبار عنه من غير واسطة انسان آخر، وكل رسول هو نبي وليس كل نبي هو رسول فبينما عموم وخصــوص مطــلق، وفي بيان الفرق بين النبي والرسول ذكر ان كلاً مـنهما يأتي بالمعجزة الدالة على نبوته، ولكن الرسول ينفرد بنزول الكتاب عليه، ولكن ورود الايمان بالكتب السماوية لا يعني حصد الايمان بالانبياء الذين انزلت عليهم الكتب دون غيرهم.
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه سئل: (كم انزل من كتاب، فقال: مائة صحيفة واربعة كتب، انزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى ادريس ثلاثين صحيفة، وعلى ابراهيم عشرين صحيفة، وانزل التوراة والانجيل والزبور والفرقان)، وهذا يعني ان الرسل الذين انزلت عليهم الكتب اقل كثيراً من مجموع عددهم.
ومن الانبياء والرسل من لم يذكروا في القرآن ولم يذكروا بالوحي الذي اوحاه الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باسمائهم وقصصهم، قال تعالى [وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ]( )، ومع هذا جاءت الآية بايمان المؤمنين مطلقاً بجميع الرسل، مما يدل على كفاية الايمان الاجمالي وان لم يعرفهم المؤمنون باسمائهم خصوصاً مع كثرتهم فتكون معرفة الرسل على اقسام:
الأول : الرسل الذين يعرفهم المؤمن باسمائهم والكتب التي انزلت عليهم، كما يعرف بان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم انزل عليه القرآن، دواود الزبور، وموسى التوراة، وعيسى الانجيل.
الثاني : الرسل الذين يعرفهم باسمائهم من غير ان يعرف هل انزلت عليهم كتب او لا.
الثالث : الرسل الذين انزلت عليهم كتب من السماء، وتعرف اسماؤهم دون كتبهم، فلابد من الايمان بهم لان متعلق الآية هو الايمان بالرسل سواء نزلت عليهم كتب او لم تنزل، وفي حال نزولها علمنا اسماء تلك الكتب او لم تعلمها.
الرابع : من لم ينزل عليه كتاب من الرسل، نعلم انه رسول من عندالله ونعلم ايضاً بانه لم ينزل عليه كتاب مخصوص على فرض هذا الاحتمال خلافاً للقول الذي تقدم ذكره بان الرسول من ينزل عليه كتاب.
الخامس : جميع الانبياء وان لم ينزل على اكثرهم كتاب، ولكن القدر المتيقن ان الله شرفه وفضله واختاره للوحي وتبليغ الاحكام والسنن.
والاصح هو الوجه الخامس فالمراد هو الايمان بالنبوة واشخاصها والتصديق بوجود صلة بين السماء والأرض منحصرة بالوحي من عنده تعالى الى نفر قليل من عباده اختارهم للتبليغ والاخبار عنه والقيام بالبشارة والانذار ودعوة الناس للطاعة والامتثال في العبادة، وجرهم عن المعاصي.
مع الاقرار بعلو رتبة الرسل وجاءت الآية بذكر الرسل لانهم الفرد الاهم والاكثر دلالة على الوحي، والابين في اثبات التنزيل الرسل شهداء صدق على نبوتهم ونبوة غيرهم من الانبياء وان كان الانبياء الآخرون جاءوا بالمعجزات ايضاً.
فيكفي العلم الاجمالي بالرسل وان الله عز وجل بعث نفراً من العباد ليكونوا واسطة ملكوتية بين السماء والأرض، ومعرفة الرسل فطرية وكسبية، لان الانسان يدرك بفطرته ان الله عز وجل لا يترك العباد من غير واسطة لتلقي الاحكام وهدايتهم وارشادهم نحو سبل النجاة في الآخرة خصوصاً وان الجنة حق والنار حق، ولعــمومات قبـح العقاب بلابيان، فانه تعالى بين للناس الاحكام والاوامر والنواهي بواسطة الانبياء والرسل.
ولا يمكن الاخذ من الرسل والانصات والامتثا ل لهم الا بالايمان بانهم انبياء من عنده تعالى ولا يقولــون ولا يفعلـون الا ما يأمرهم به الله عز وجل، بالاضافة الى العلوم الكسبية المتفرعة عن رؤية الآيات الباهرات التي ايد الله عز وجل بها الرسل والانبياء، لتجتمع الفطرة مع الكسب والتعلم والتدبر في اقامة الحجة على الانسان للزوم ايمانه بالرسل ويكونوا معاً عوناً على ايمانه بالرسل، الذي يعتبر ضرورياً للايمان والهداية والامتثال للاوامر الالهية.
وورد لفظ (رسله) بالإضافة الى الله تعالى سبع عشرة مرة في القرآن وقد تكرر في ثلاث آيات من ثلاث سور متتاليات هي البقرة وآل عمران والنساء وقراءة هذه الآيات تبين تباين نظر الناس للرسالة وهم على مشارب شتى هي:
الأول : الإيمان بالرسل من غير تفريق وتمايز بينهم.
الثاني : الإقرار ببعض الرسل دون بعضهم الآخر.
الثالث : الإعتراف بالله عز وجل إلهاً مع عدم الإيمان الرسل، كما في البراهمة.
الرابع : الكفر بالله ورسله جحوداً وضلالة وعناداً.
الخامس : العداوة للرسل ويدل عليه قوله تعالى [مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ] ( ) وينحصر الإيمان بالأول منها.
السادس : الكفار الذين عصوا الرسل فيما جاءوا به من عند الله، قال تعالى [وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ] ( ).
وتبين الآية حاجة الناس الى القرآن وتوكيد النبوات وتثبيت معجزات الأنبياء الحسية وموضوعية قصص الأنبياء التي جاءت بصيغة الخبر ولكن دلالتها أهم وتتعلق بالعقيدة وتهذيب النفوس وتنزيه المجتمعات من درن الخطايا والذنوب، وفيه فضح لأولئك الذين قالوا بتبعيض النبوة وامتنعوا عن الإيمان بشطر من الرسل.
وتدل الاية على انفراد الأنبياء بمنزلة خاصة من دون البشر فليس من أحد يصل الى مرتبتهم، وهم أفضل البشر والدعوة الى الإيمان بهم بالدلالة التضمنية على عصمتهم أي ان الله عز وجل عصمهم بالإيمان به تعالى، وقد يقال بالتفكيك بين الدعوة الى الإيمان بهم وبين العصمة، وان القدر المتيقن من العصمة ما يتعلق باداء الرسالة وتبليغ الأحكام وصدق النبوة، واجتناب الكبائر والصغائر من الذنوب.
وقد اختلف في الأفضل من الأنبياء والملائكة على أقوال:
الأول: الملائكة هم الأفضل.
الثاني: الأنبياء هم الأفضل.
الثالث: ملائكة السماء أفضل من الأنبياء، والأنبياء أفضل من ملائكة الأرض.
ولا تصل النوبة الى البحث في الأفضل منهما، فلكل منهما فضل عظيم وشرف ومرتبة لايبلغها غيره وخصوصية واكرام فاز به، لذا جاءت الآية بالملائكة والأنبياء بعرض واحد على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، بمعنى الإيمان بكل ملك وكل نبي على نحو مستقل والإيمان بالمجموع من غير تفريط ببعضهم.
لقد تفضل سبحانه وجعل الإيمان بالملائكة والكتب السماوية والرسل فرعاً للإيمان به تعالى مع ان الملائكة والأنبياء عباد لله تعالى، والكتب كلامه ووحيه الذي انزله على انبيائه، فالآية دعوة لأن يؤمن العبد بالله وبعبيد وخلق لله ايضاً، شرفهم الله بالمرتبة والرسالة وكانوا واسطة بينه وبني العباد، وفيه دعوة للكسب النظري والعملي، والإقتداء بهم في العمل الصالح مع الإقرار بعظيم منزلتهم وعلو شأنهم.
والآية تأديب للمسلمين، وارشاد للأخذ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإستجابة لما يأتي به من عند الله، لذا تفضل سبحانه وقرن طاعة الرسول بطاعته، وهذا الإيمان مانع من القبائح والظلم والفسوق فمجئ هذه الآية بعد آية الدين تهذيب للمعاملات.
وقال الرازي: الإيمان بالرسل ان يعلم كونهم معصومين من الذنوب( )، ومع القول بعصمة الأنبياء من الذنوب والمعاصي الكبيرة منها والصغيرة، فلا دليل في الآية على هذا القيد ويكفي في صدق الإيمان بالرسل التسليم بانهم مبعوثون من عنده تعالى، ويخبرون بالوحي الذي ينزل اليهم، فمع عدم الإيمان بالرسل لا يكون ايمان بالكتب المنزلة والكتي هي التي تتضمن الأحكام والتكاليف والأوامر الإلهية، وفيها بيان للصفات القدسية والأسماء الحسنى ومع انها كتب منسوخة فانها مائدة السماء في الأرض والضياء النوراني والغذاء الملكوتي الذي يقود الناس الى مسالك الهدى وسبل النجاة.

تفسير قوله تعالى [لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ]
يقال فرقه يفرقه فرقاً أي باعد بين اجزائه وفصل بعضها عن عن بعضها الآخر، وهو خــلاف الجمع، فالــتفريق لا يكون الا بين اثنين او اكثر متحدين في الجنس او الموضــع او الزمان او الماهــية ونـحوها، كما ورد في حديث الزكاة: لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة.
فالتفريق لا يقع الا بين اجزاء المركب والمتعدد ليكون الشيء مفارقاً لغيره، وتدل عليه في الآية قرينة (بين) التي تفيد الفصل والتمييز، ولكن الآية لم تقل (بينهم) ليقع التفريق على المتعدد، وان المراد التفرق بن المجموع، بل جاءت الآية بوقوع التفريق على واحد من الرسل، فلابد ان فيه حذفاً وانهم يقولون لا نفرق بين رسله ونترك أحدهم، بل ان الإيمان بهم جميعاً على نحو العموم المجموعي وتقول: قعدت بين الكوفة، والمراد دورها وأزقتها، وكذا في الآية فالمراد ما عند الرسول وعند الرسول الآخر فكل من عند الله، وهو أمر يقتضي الإيمان برسالة كل منهم.
والآية نهي عن ترك الإيمان برسول واحد منهم، مما يدل على وجوب عدم التفريط بالإيمان بالرسل، وعلى التقسيم الإستقرائي للأنبياء الى أنبياء ورسل، وان الأنبياء أكثر بكثير من الرسل وان كان الرسل ايضاً انبياء، فهل المراد من الآية وجوب الإيمان بجميع الرسل، ام الإيمان بالأنبياء كافة والنهي عن عدم الإقرار بنبوة احدهم، الجواب هو الأخير فالمراد هو الإيمان بنبوة الأنبياء مطلقاً، وجاء ذكر الرسل من باب الفرد الأهم ولأنهم أصحاب شرائع ناسخة وبعثوا للناس جميعاً، فترد آية تصف ذات النبي مرة نبياً ومرة رسولاً.
وورد خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ] ( )، وورد [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( )، مع دلالات كل لفظ في مقامه واشتراكهما معاً بالتبليغ وبيان الأحكام فعدم التفريق شامل للأنبياء جميعاً، نعم لا يعرف المسلمون اسماء جميع الأنبياء فيكفي الإيمان الإجمالي بهم من غير فرق بين من ذكر اسمه في القرآن او ورد على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم او لم يذكر اسمه، فالإيمان يتعلق بالرسالة والبعثة من عنده تعالى، لذا ورد قوله تعالى [وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ] ( ).
وفي الآية تعريض باليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض الأنبياء الذين أعرضوا عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الآيات الباهرات والحجج الدامغات التي جاء بها من عنده تعالى، ولم يغادر الحياة الدنيا الا وترك القرآن آية اعجازية تدعوهم بكره وعشياً وتكون واقية وحرزاً للمسلمين.
لقد جاءت الآية بالدعوة الى الإيمان بالرسل جميعاً، وهو من مفاخر نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان النبوة لم ينغلق بابها الا بالدعوة الى الإيمان بالأنبياء جميعاً فهو خاتم النبيين والخاتم بفتح التاء كما قرأ عاصم، أي بصيغة اسم الفاعل، او على الفتح كاسم مفعول أي الذي ختمت به النبوة، فكأن رسالته صلى الله عليه وآله وسلم امضاء للرسالات السابقة وتثبيت لها كما يوضع الختم علىالرسائل توثيقاً لها، وهذا التوثيق جاء بوجوه ثلاث:
الأول : بالقرآن وآياته الباهرات، فالإعجاز مثبت للنبوات.
الثاني : بالسنة النبوة القولية والفعلـية وقد كان النبي صــلى الله عليه وآله وسلم يكثر من ضرب الأمثلة والقصص عن الأنبياء ليؤكد حضورهم في الحياة اليومية لأجيال المسلمين.
الثالث : بايمان المسلمين وتصديقهم بجميع الأنبياء من غير فرق بينهم.
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (ان مثلي ومثل الأنبياء من قبلى كمثل رجل بنى بنيانا فاحسنه وأجمله الا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة قال فانا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين)( ).
والآية تأسيس لكبرى كلية وقاعدة كلامية يمكن ان نطلق عليها اسم (اتحاد الرسالة) ان الإيمان بالرسل متحدين وعدم التفريق بينهم له معان ودلالات منها:
الأول: القبول بكل ما جاء به الأنبياء من عند الله وعدم التبعيض في مفردات الإيمان سواء في باب العبادات او المعاملات.
الثاني: وجود اسرار وافاضات خاصة في كل نبوة، والتفريق بين الأنبياء تفريط بمضامين خاصة، وتفويت لمنافع دنيوية وأخروية، فان قلت ان القرآن تبيان لكل شيء وفيه غنى وما جاء في النبوات والكتب السماوية السابقة كلها في القرآن فمن اين يأتي هذا التفويت، والجواب في مسائل:
الأولى: ان القرآن هو الذي جاء بوجوب عدم التفريق بين الأنبياء ولزوم الإيمان بهم جميعاً.
الثانية: ان الرسالات جاءت على نحو التدريج وبيان الأحكام الى ان تكاملت الشرائع بالإسلام، ومعرفة مراحل التنزيل تساعد على فهم الإسلام وتنمي ملكة التقوى في قلوب المسلمين.
الثالثة: ان النبوات موضوع اختبار لصدق الإيمان، والأهلية لوراثة الأرض، ففاز المسلمون به واكدوا استحقاقهم لخلافة الأرض بالتسليم بالنبوات مطلقاً.
الثالث: لقد عانى كل نبي من الأنبياء ولاقى ما لم يلاقه أحد من البشر من وجوه الإبتلاء والأذى، وحق على المسلمين اكرام الأنبياء باخلاصهم لله وادائهم للرسالات وعدم الخوف والخشية الا من عنده تعالى.
الرابع: تبين الآية وحدة الإيمان على اختلاف الزمان وتعاقب الأجيال واختلاف الأحوال وتعدد الأمصار، وهذه الوحدة تتجلى بايمان اللاحق بالسابق من الأنبياء.
الخامس: الإيمان بالأنبياء هو الوسيلة الوحيدة للإقتداء بهم، قا ل تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
السادس: لم يقل المسلمون مثلما قال الذين سبقهم الذين لم يأخذوا بنبوة شطر من الأنبياء بل آمنوا بجميع الأنبياء.
السابع: ان الجحود بنبوة بعض الأنبياء يقود الى الفتنة ويكون باباً للفرقة والضلالة، وعدم ايمان فرقة ببعض الأنبياء قد يكون سبباً لجحود غيرها بانبياء آخرين.
الثامن: التفريــق بـين الأنبيــاء باب للفــرقــة والشــقاق بين الملــل السماوية، فجاءت الآية لدعوة المليين والناس كافة للإيمان بجميع الأنبياء.
التاسع: انكار نبوة بعض الأنبياء اضعاف لوحدة المسلمين وسبب للنزاع والخصومة في علم الكلام والعقائد، واشغال للعلماء ومصدر للفتنة وقول الباطل، فالإيمان بالأنبياء جميعاً رحمة الهية انفرد بها المسلمون وانتفعوا منها أعظم انتفاع.
العاشر: اجماع المسلمين على عدم التفريق بين الأنبياء رحمة بأهل الكتاب وباب من الرأفة جـعله الله عز وجل في قلوبهم لكل كتابي بالقياس مع الكافر المشرك، لذا انفرد أهل الكتاب بحكم الذمة أي انهم بذمة الإسلام وفي أمانه ما داموا ملتزمين بأحكام الذمة.
الحادي عشر: مناهج المسلمين دعوة لأهل الكتاب للإلتحاق بهم ونبذ مضامين الكفر بالجحود ببعض الأنبياء، لأن النبوة لا تقبل التجزئة فكل نبي مبعوث من عنده تعالى ويتلقى الوحي والتنزيل من غير واسطة أحد من البشر، فكيف يكون الإيمان تبعيضياً.
الثاني عشر: لقد أكرم الله عز وجل الأنبياء جميعاً من غير استثناء وخصهم بشرف النبوة والتنزيل، فوظيفة العباد اكرام من أكرمه الله والإنقياد لمن أمر الله عز وجل باتباعه.
الثالث عشر: يعتبر القرآن حرباً على الكفر وسيفاً لقطع دابر الضلالة والفتن والفجور، والإيمان بجميع الأنبياء وصلاح للنفوس وتهذيب للطباع.
علم المناسبة
لم يرد قوله تعالى [لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ] الا في هذه الآية ورد قوله تعالى وورد بلفظ النبيين في آيتين من القرآن( )، وفيه دلالة على اتحاد المعنى بين النبي والرسول فيما يتعلق بالإيمان، فلا يجوز تبعيض الإيمان، والإكتفاء بالإيمان بالرسل دون الأنبياء او العكس، ومصداق هذه الايات باق الى يوم القيامة عند المسلمين وهو من اعجاز القرآن الغيري، فتأتي آية للإخبار على حال المسلمين، ويؤكد الواقع العملي مع تقادم الأيام والسنين صحة هذا الإخبار وعدم انحراف معاشر المسلمين عنه جماعات وافراداً.
فلم تجد في تأريخ المسلمين انقساماً الى فرق، فرقة تؤمن بالرسل واخرى بالأنبياء، ولو وقع لحصلت ثلمة في الإسلام واحدث ضعفاً وثغرة في قوة المسلمين، فجاءت هذه الآية لتمنع هذه الفتنة التي تحول دون وحدة المسلمين وتكون سبباً للإنشقاق والتشتت في مذاهب كلامية متعددة يستغلها أعداء الإسلام لبث الفرقة والنزاع بين المسلمين.
ولقد احدثت مسألة واحدة هي خلق القرآن، فتنة في ايام الدولة العباسية تعدت أروقة الفقهاء فشملت العامة وتوقف فك الأسير عند الأعداء على قوله بهذه المسألة، فجاء القرآن ليمنع من النزاعات الكلامية وتأسيس الفرق والطوائف المتخاصمة في أحكام النبوة والكتب المنزلة وأمر بالإيمان بجميع الأنبياء.
والجمع بين الايات الثلاثة اعلاه أكد وحدة الموضوع في النبوة، ومنع الخلاف في الفرق بين النبي والرسول وأفضلية الأنبياء بعضهم على بعض او عدم التفضيل بينهم.

تفسير قوله تعالى [وَقَالُوا سَمِعْنَا]
جاءت الآية بصيغة الماضي مما يدل على الثبات والدوام، والآية مركبة من أمرين:
الأول: السمع، الثاني: الطاعة، وبينهما عموم وخصوص مطلق فكل طاعة هي سمع وليس العكس، فلو قالوا سمعنا لظن انه حصل التبليغ وصل القول الى الأسماع وان شاءوا واستجابوا وان شاءوا لم يستجيبوا، وان ذكرت الطاعة وحدها، نعت الجاحدون المسلمين بالجهل والعمل بالتقليد والإنقياد الأعمى، وقال بعض الفلاسفة والمتكلمين بالجبرية ونحوها، فجاءت الآية جامعــة للأمــرين الســمع والطــاعة في آيـــة منه تعالى تظهر مضامين التكليف في الحياة الدنيا وتمنع من سلطان الضلالة والغواية.
وجــاء الســــمع والطاعة بصيــغة التنــكــير بحــذف المفــعــول بهــن وفيه دلالات عقائدية لما في الحذف في المقام من السعة والتأويل ويحتمل وجوهاً:
الأول : سمعنا قول الأنبياء واطعناهم.
الثاني : سمعنا الآيات والكتب المنزلة واطعنا ما فيها.
الثالث : سمعنا الأوامر والنواهي الإلهية واطعناها.
الرابع : سمعنا اخبار السماء التي جاء بها الملائكة من عند الله واطعناهم فيما جاءوا به من عند الله.
الخامس : سمعنا الأنبياء والرسل واطعنا الله في كل ما جاءوا به من عنده تعالى.
وهذه الوجوه كلها من مصاديق السماع فلذا جاء بصيغة الإطلاق.
وجاءت الآية بلفظ القول، والفرق بينه وبين الكلام ان القول يتضمن معنى الحكاية، فهم أخبروا عن حالهم، ووصفوا ما هم عليه من الإيمان برضا، ولم يقولوا (استمعنا) بل قالوا (سمعنا)، وبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل استماع هو سمع وليس العكس، لما في الاستماع من خصوصية زائدة وهي الإنصات والإصغاء، فتفيد الآية المعنى الأعم وان الأنبياء أدوا الرسالة بالتبليغ والإنذار ولم ينتظروا الناس حتى يقبلوا عليهم بل أسمعوهم.
والســـمع هو إدراك المســموع، ويأتــي الســمع بمعنى الادراك، وبمعنى الفهم والعلم، والصوت يتعلق بالاذن ولكن مفهوم الآية اعم بلحاظ تعلقه بالادراك فيشــمل الاذن والفـهم، وتدل الآية على قيام الانبياء بالتبليغ خير قيام وشمول اصقاع الأرض بالتبليغ وادراك الاجيال المتعاقبة لمضامينه.
ان نظرة في عالم الإعلام والنشر تبين ما يتطلبه ايصال القول والخبر الى بعض الناس من سكان قرية اوبلدة اومصر من النفقات والجهود والعناء وحتى في زمان الفضائيات فان المؤسسات الإعلامية تصرف الأموال لإيصال خبر او تصريح الى أسماع الناس، وتقابله اموال أخرى منافسة اومضادة له، كما انه لا يلقى الإنصات من الكثيرين، والذين ينصتون له يتفرعون فيما بعد الى أقســام فمنهم من يقتنع بغيره ويبدل رأيه، ومنهم من يصيبه النسيان ويفتر حماسه وتأييده له، ومنهم من لا يكترث به.
اما ما جاء به الأنبياء فبقي خالداً في الأرض مع انه نزل في مجتمعات بدائية محصورة وضيقة ويقل اتصالها مع غيرها من الأمم في الغالب، وهل تختص الآية بأيام التنزيل وعصر النبوة الجواب لا، فالمراد من (سمعنا) ليس السمع مباشرة من في النبي، بل سمعنا التبليغ وأحكام التنزيل بالتواتر والتوارث وتعاقب أجيال المسلمين، سواء في أيام التنزيل او بعدها، ويدخل بالسمع فكما ان التكلم أحد اللسانين فان القراءة أحد السمعين.
وهذا من الإعجاز في فضله تعالى وكيفية خلق الإنسان بان تشترك حاسة مع حاسة أخرى في ذات الوظيفة للإعانة على الإيمان، فيكون الكتاب المنزل غضاً طرياً فيتلو المسلم القرآن وكأنه يتنزل عليه مما يدل عليه علىحصول التباين والسمع المقرون بالإعتبار والتدبر والآية شهادة نوعية عامة بأداء الأنبياء لوظائفهم الرسالية فهي في مفهومها مدح لهم على جهادهم لتثبيت الدين وأحكام التنزيل.
لذا لم يفتر أحد على الأنبياء ويقول انهم قصروا او اخطأوا او كتموا ما أنزل عليهم من عند الله، وحتى الكافرين فان القرآن مليء بما يدل علىجحودهم وعنادهم واصرارهم وتعديهم على الأنبياء، مما يدل على صفة الجهاد التي لازمت النبوة، وقد ورد في صفات النبي انه أشجع أهل زمانه ومع شجاعته تراه يتعرض للقتل أحياناً، وهذا القتل لا يقوم به فرد أو جماعة صغيرة بل تشترك فيه جماعة كبيرة في حل من الضلالة وطغيان الكفر وغلبة الهوى.
وحتى حال قتل النبي دعوة الى الله لما فيها من تنمية لروح الإيمان والتنبيه على التدبر فيماجاءوا به من عند الله، وليس عند لأنبياء حب للدنيا وتوجه نحو زينتها ومباهجها، فلا ينافسون الناس في دنياهم، وتلك من أهم خصائص النبوة، ومن لا ينافس الناس في مصالحهم وأعمالهم يأمن جانبهم ويتوقى شرورهم ويكون في سلامة من كيدهم وبطشهم، ومع هذا ترى الكفار يتصدون للأنبياء بالإيذاء والإساءة والظلم، وهم لا يريدون الى نجاتهم في الدنيا والآخرة فجاء الإسلام ليكون مواساة للأنبياء بالشهادة النوعية العامة للأنبياء بحسن أدائهم لوظائفهم، واقراراً متجدداً مع الأجيال بصدق نبوتهم.
لقد اقام المسلمون على أنفسهم الحجة باقرارهم بالسماع ومجيئه على نحو الإطلاق، وهو من مضامين العبودية لذا أكرم الله عز وجل نبيه اذ نعته بالإسراء بصفة العبودية قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى] ( )، فهذا الإقرار شرف عظيم ومرتبة في الصلاح، واستعداد لزوم أداء العبادات والفرائض ووجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله من غير تفريق بينهم في الإيمان، وهذا هو أرقى معاني السماع وافضلها، انه سور جامع للعلم والإحاطة بالشيء عن ادراك واستيعاب واقرار مع زوال الموانع والإشكالات والنقض طرداً وعكساً.
وتدل الآية على الإعجاز في التبليغ، فلولا الأسرار الملكوتية في الكتب المنزلة والآيات الباهرات التي جاء بها الأنبياء لما حصل هذا السمع النوعي الذي يتغشى المؤمنين على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، فكل مؤمن يقول هذا القول، وهم جميعاً يقولونه بصيغة واحدة وان اختلفت ازمنتهم وتباعدت بلدانهم وبهذا ينفرد الإسلام عن غيره من العقائد والمذاهب الفكرية والسياسية ترى فكرة تخرج للناس ويجتمع حولها الأنصار ويتعددالأتباع والمريدون ويندفعون في تأييدها والطعن والقذف بغيرها، ولكنها تبقى محدودة في البعد المكاني وما تمر الأيام والسنين حتى يقل الحماس لها، وتظهر عيوبها ويتفرق روادها وتصبح من الماضي، ويأسف اتباعها على الإنتماء لها وتضييع سنوات من أعمارهم في الدعوة لها، ويسعون لطلب العفو ممن اساءوا له بسببها الا من أصر على العناد منهم، وأختاروا المكابرة والجهالة ولا عبرة بالقليل النادر.
لقد علم الله تعالى الأنبياء الحكمة وجعلهم وسائط افاضتها على الناس، فتجلت باعلان المؤمنين حسن الإستماع والإقبال على الأحكام واجتناب الضلالة واتباع الهوى، فاعلان المؤمنين هذا لم يأت ابتداء منهم بل بلطفه تعالى وتفضله بتقريبهم الى الطاعة، ويدل عليه موضوع الإستماع، فانه عنوان التلقي والإستجابة وفيه اخبار بان امراً ما وخطاباً قد توجه اليهم فتلقوه بالإستماع وعدم الإعراض.
وهذا الخطاب من عنده تعالى على لسان انبيائه فتبارك الله الهادي الى عبادته باحسانه وكرمه، يتفضل بالهداية ويخبر عما فيه مدح للمؤمنين وينسب لهم القول السليم والفعل العبادي العظيم ويشكرهم على ماهداهم وأعانهم على الوصول اليه من الإيمان والصلاح والرشاد، وموضوعية السمع دليل على اجتناب المعاصي، وان المؤمنين سمعوا النواهي الى جانب الأوامر، فالآية تدل على عدم خلط العمل الصالح بالسيء.

تفسير قوله تعالى [وَأَطَعْنَا]
اعلان للتسليم والرضا والقبول والطاعة لأمره تعالى، والتوثيق السماوي بطاعة المؤمنين يدل على بلوغهم مراتب الكمال الإنساني، وفيه اخبار عن تمام الإستجابة وحسن الإمتثال فليس المطلوب هو الإستماع للآيات فقط، بل لابد من العمل واظهارمصاديق العبادة قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، فجاءت هذه الآية لتؤكد حصول العبادة وعلة الخلق واجتماع اسبابه، واذا اراد الله عز وجل امراً أحكمه وأتمه وهيء مقدماته.
وقد ثبت في علم الكلام ان الأشياء جميعاً مستجيبة لمشيئته، فحينما أخبر سبحانه علة خلق الإنسان فلابد من تحققها وحصولها ففاز بها المؤمنون من الجن والإنس، واخبرت هذه الآية عن الطاعة والإمتثال من جميع المؤمنين من غير استثناء وهذه الطاعة ترشحت عنها مضامين الأخوة التي ذكرها الله عز وجل [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، فالرابط والجامع بين المؤمنين هو الطاعة له تعالى.
وتتفرع عن الطاعة وجوه المحبة والمودة والتآخي وتنتفي معها اسباب الفرقة والخصومة وان حصل نزاع تكون هذه الأخوة سوراً وواقية تحول دون اتساعه وحرزاً من استمراره فسرعان ما ترى الخلاف ينتهي بالصلح والوفاق، ليبدد للأطراف جميعاً عدم وجوب اسباب عقلية او شرعية لمثل هذا النزاع، وما صرف بالإيمان من الخلافات اكثر من أن يحصى فالإيمان قاهر لما يطرأ على النفس من هوى.
فالأخبار عن الطاعة يتضمن وجوهاً:
الأولى : عنوان الأخوة والإلتقاء في مرضاة الله.
الثانية : تحقق الوعد الإلهي بحصول العبادة في الأرض.
الثالثة : اثبات الإنسان لأهليته للخلافة في الأرض.
الرابعة : انفراد المسلمين بالإيمان الكامل غير الناقص.
الخامسة : دعوة الآخرين من الملل الأخرى الى الإيمان، فلابد من وجود أمة من المؤمنين تكون سبباً لجذب الناس الى الحق ومعرفتهم بأصول وقواعد الإيمان، ومن الناس يحتاج وجود رواد قبله على طريق الحق، ومنهم من يعتمد صيغ المحاكاة لأن الناس على مراتب متباينة في مداركهم وفهمهم واستيعابهم للأمور، فتراه لا يأتي للإيمان الا بعد جهد يبذله معه صديقه او قريبه ثم لا يلبث ان يتفوق على هذا الصديق او القريب بدرجات التقوى ويرتقي في سلم المعرفة ويتولى القيادة والريادة، والجميع يصدق عليهم انهم سمعوا وأطاعوا.
السادسة : تدل الطاعة على الفهم والإستيعاب وهو دليل على تفسير كلمة (سمعنا) بالإدراك، وتبين ان الطاعة ليست عن تقليد بل عن إيمان ورؤية الشواهد والبراهين لدالة على صدق النبوة، وبذا تكون الطاعة مستديمة ودائمة.
السابعة : كل أمة من المؤمنين تقول (اطعنا) فالطاعة رداء عام يشمل المؤمنين في كل زمان ومكان.
والآية مدح للأنبياء واخبار عن تحقيق غاية ما بعثوا من أجله وان المؤمنين يشهــدون لهم يوم القيامة بالتبليــغ والقيام بأداء الرسالة خير أداء، والآية تحد للكافرين واخبار عن خزيهم واصابتهم بالفشل والخيبة، لأن المؤمنين استكلموا معالم الإيمان ووظفوا القوة العملية للعبادات والطاعة.
لقد بينت الآية صفة المؤمنين بما يظهـر التكامل في العقيدة وبلوغ مراتب الرفعة التي تؤهلهم للفوز بالنعيم الخالد في الآخرة، وهي عهد ووصية سماوية للأجيال اللاحقة من المسلمين بانتهاج ما مضى عليه المؤمنون بل هي اخبار متقدم زماناً عن حال المؤمنين في كل عصر، ووصف كريم لهم.
وهذا من إعجــاز القـرآن فالآية تنفي مجيء يوم يجتمع فيه المؤمنون على اسقاط أصل عقائدي من الأصول التي جاءت بها الآية الكريمة وهي:
الاولى : الإيمان بالله عز وجل الهاً ورباً وخالقاً.
الثانية : الإيمان بالملائكة.
الثالثة : التصديق بالكتب المنزلة.
الرابعة : الإقرار برسالة من بعثه الله عز وجل رسولاً من عنده.
الخامسة : عدم التفريق بين الرسل، بل يكون الإيمان بهم جميعاً.
السادسة : اقرار المؤمنين بالإستماع للآيات وأحكام التنزيل.
السابعة : الإمتثال التام للأوامر الإلهية، وما جاء به الأنبياء من عند الله.
الثامنة : الإستغفار.
التاسعة : الإقرار بالمعاد.
فالآية اخبار عن أصول عقائدية لا يمكن التفريط ببعضها او بجزء واحد منها، وهي دعوة لعلماء الأصول لإضافتها لأصول الدين وان لم تذكر على نحو الخصوص، ولابد من التفقه في الدين ليشمل هذه الأصول بما يساعد على تعاهدها ودوام الثبات عليها، وعدد المؤمنين في كل زمان من الكلي المشكك فهو أما في زيادة أو نقيصة، وجاءت هذه الآية دعوة لزيادة عدد المؤمنين في كل زمان مع التقيد بهذه الأصول التي يمكن ان نطلق عليها (الأصول التسعة)، فلا يعتبر مؤمناً الا من اجتمع عنده الإيمان بها ولم يخل ببعضها.
وهكذا يبقى الإيمان ثابتاً مستقراً في الأرض من غير تغيير ولا تحريف واذا كان هذا حال المؤمنين ولقدجعل الله عز وجل الإنسان كائناً اجتماعياً يؤثر بغيره ويتأثر به، وجعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان واختبار ومن وجوه الإمتحان ابتلاء المؤمن بالكافر وبالعكس، والآية تخبر عن ثبات المسلمين على الإيمان، بمعنى ان الإختلاط مع الكافرين والتأثر المحتمل بهم لن يحيدهم عن (الأصول التسعة) اعلاه، فيبقى البحث عن الأخذ منهم او عدمه في الوجوه الفكرية والإجتماعية والأخلاقية، واقتباس المؤمنين من الكافرين في هذه الأبواب يحتمل وجوهاً:
الأول : اكتساب العادات الحسنة.
الثاني : اخذ العادات المذمومة.
الثالث : عدم التأثر بهم.
ان الإيمان والتكامل العقائدي عند المسلمين يحول دون اكتسابهم العادات السيئة والمذمومة من الكافرين وان ظهرت محاكاتهم وتقليدهم في بعض جوانب الحياة فاما انه من المباحات التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة او ان الإكتساب والمحاكاة محدودة زماناً ومكاناً ولا تدوم بسبب قوة الإيمان التي تدفع الرذائل وتطرها عن المجتمعات الإسلامية.
اما الكافرون فانهم يقتبسون من المسلمين ويأخذون منهم العقائد سواء على نحو الموجبة الكلية او الموجبة الجزئية، فهم ينتفعون من رشحات هذه الأصول لأنها موافقة لحكم العقل، ومن يقبلها منهم ينتقل الى صفوف المسلمين وينخرط في جماعة المؤمنين ويكون له مثل الذي لهم، وعليه مثل الذي عليهم.
فالثبات عند المؤمنين، وليس عند الكافرين الا التزلزل وعدم الإستقرار ومع ثبات المسلمين تطرد وتزول الغشاوات الظلمانية التي على ابصارشطر من الكافرين ويتوجهون الى منازل الإيمان، فالآية بشارة جذب الكافرين لماتؤكده من امتلاء نفوس المسلمين بالإيمان واخلاصهم العقيدة.
علم المناسبة
قد ورد قوله تعالى [وَأَطَعْنَا] في ثلاث آيات من القرآن وواحدة جاءت في المسلمين وتصديقاً لهذه الآية [إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا] ( )، اما الثالثة فقد وردت في ذم شطر من اليهود ممن حرف الكتاب وبدل صفات نبي آخر الزمان قال تعالى [وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] ( )، أي هناك مرتبة حسنة ايضاً وهي السمع والطاعة مع طلب الإمهال والانظار والتدبر، او قل انها فرصة ومناسبة للتوبة والتدارك، أما المؤمنون فانهم لم يطلبوا الإمهال بل بادروا الى التسليم والإمتثال التام للأوامر الإلهية وماجاء به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
والدراسة المقارنة بين الآيات تظهر انفراد المسلمين بالقول [سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا] وقد ورد في بني اسرائيل انهم قالوا [سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا] كما بين القرآن ان السمع والطاعة من العباد ميثاق بين الله عز وجل وبين المؤمنين لابد من حفظه وتوارثه وضبطه والتقيد بمصاديقه، وفي بني اسرائيل قال تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ).
لقد بينــت الآيــات تخلــف الملل التي أكــرمهــا الله عز وجل عن الميثاق الذي يتجلى بأمــرين السـمع والطاعة ولابد ان تكون أمة في الأرض تقول بالسمع والطاعة، فكان المسلمون حملة لواء الميثاق والى يوم القيامة.
لقد اقترنت الطاعة بالسمع وهو عنوان الإيمان العملي وامتثال الجوارح للأوامر والنواهي فلم يأت السمع وحده، ولم ترد الطاعة وحدها واجتماعهما يدل على تحصيل العلم، وقد قسم العلم النظري الى قسمين:
الأول: ما يحتاج حصوله الى فكر وهو المكتسب.
الثاني: ما لا يحتاج في تحقيقه الى فكر ورؤية وهو الضروري، والآية تخبر عن حصول القسمين معاً بالخبر والإستدلال والحجية، والطاعة هي ايقاع القول أو الفعل على موافقة ارادة الغير الأعلى رتبة من غير الجاء او اكراه.
وتدل الآية على اجتناب المسلمين للحرام والقبيح الذي ترجح تركه ويعاقب على فعله لعدم اجتماع النقيضين، فمع الطاعة تنعدم المعصية، فالآية بشارة أداء الصلاة والصيام والحج والزكاة في الأرض، لأنها مصاديق الطاعة.
تفسيرقوله تعالى [غُفْرَانَكَ]
من اسمائه تعالى (الغفور) و(الغفار) وهو سبحانه الذي يستر ويمحو ذنوب العباد ويتجاوز عن خطاياهم، والغفران مصدر وهو منصوب باضمار اسأل، وطلب المغفرة حاجة وضرورة لكل انسان الا ان الناس ازاءه على ثلاث أقسام:
الأول: من يسأل المغفرة وينالها.
الثاني: من يسأل المغفرة ولا يحصل عليها كالكافر والمشرك بالله.
الثالث: من لم يسأل المغفرة ولم يطلبها، والمؤمنون من القسم الأول، وذكر طلبهم المغفرة في القرآن له دلالات منها:
الأولى : امضاء سؤالهم هذا.
الثانية : تثبيت طلبهم المغفرة وعدم ترفعهم عنه.
الثالثة : مع الإيمان وعمل الصالحات واتيان الطاعات يأتي سؤال المغفرة مما يدل على امكان الإستغناء عن المغفرة حتى بالنسبة لمن يأتي الواجبات ويجتنب السيئات.
الرابعة : الآية دعوة للناس جميعاً للتوجه الى طلب المغفرة من باب الأولوية القطعية، فاذا كان المؤمنون مع طاعتهم وسعيهم في سبيل الله يستغفرون الله ويسألونه العفو وستر الذنوب، فعلى غيرهم ان يتوجه الى الله بسؤال المغفرة، ولكن هل يصح سؤال المغفرة مع البقاء على حال الكفر الجواب لا، فلابد ان يأتي طلب المغفرة من ايمان واقرار بالربوبية، وهذا الأقرار يملي على الإنسان الطاعة والإمتثال، ومع الطاعة يكون سؤال المغفرة والعفو، فالطاعة مقدمة لطلب المغفرة، والإستغفار ايضاً مقدمة للطاعة وكل منهما يسير في طول الآخر من غير تزاحم او تعارض بينهما وأحدهما رديف للآخر وعون له وهذا من كنوز فلسفة العبادة.
ولما جاءت بداية سورة البقرة بمدح المتقين لإيمانهم بالغيب واقامتهم الصلاة واتيانهم الزكاة جاءت خاتمة السورة باقبالهم على الطاعة مع الإستغفار الذي يعتبر وجهاً من وجوه الطاعة ومن أهم وظائف الأنبياء حث قومهم على الإستغفار وفي التنزيل [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا] ( )، ومع ان مادة (غفر) ومشتقاتها وردت في القرآن نحو مائتين وخمس وثلاثين مرة.
فلم يرد لفظ (غفرانك) في القرآن الا في هذه الآية على لسان المؤمنين الذين اجتمعت بهم خصال الإيمان مما يدل على ان طلب المغفرة من كمال الإيمان ومتمماته، وهو وسيلة للتدارك واصلاح الحال والإستعداد ليوم الجزاء.
لقد جاء السؤال بطلب غفرانه تعالى مما يعني انهم يعلمون انه سبحانه هو الغفار، ولم يطلبوا العفو من غيره ولم يسألوا الله ان يجعل غيره يعفو عنهم بل طلبوا غفرانه سبحانه دون غيره مع ان الإنسان يعلم بحصول الظلم منه للآخرين، سواء بالتعدي على الحقوق المادية والأموال، او الإعتبارية كالغيبة والنميمة، ومع هذا لم يطلب المؤمنون الا مغفرته سبحانه، وهذه مسألة كلامية تبين تفضله تعالى بغفران ذنوب الإنسان ازاء ربه ونفســه والناس، نعم فيما يخــص ذنــوب النــاس يخلــف عليهـم الله عز وجل خيراً وما هو أحسن لهم، كما لو قيل له بدل ذنب فلان ازاءك يزيد الله عز وجل في حسناتك او يدخلك الجنة ولا شيء عند الإنسان أفضل وأحسن من دخول الجنة.
والإستغفار لا يتعارض مع طلب المغفرة والعفو عن الناس في الحياة الدنيا ورد مظالم العباد واجتناب استحداث ظلم جديد ازاءهم ومع هذا فان مغفرتهم لا تغني عن طلب العفو منه تعالى، وكأن كل ذنب ازاء الناس فيه امران حق الله وحق الناس، وحق الله ينجو منه العباد بالإستغفار، وحق الناس يستلزم رضاه تعالى ورضا الناس، ولا يصح رضا الناس الا مع رضاه، اما رضاه تعالى فتجزي يوم ويكفي وهو سبحانه ملك الناس، اله الناس.
لقد سألوا الغفران على نحو التقييد، وهو المضاف والمنسوب اليه تعالى، فكل انسان يعفو ويغفر ولكن على نحو محدود ومؤقت، ويعذر نفسه بعد تجديده، اما الله عز وجل فانه الغفار الذي يغفر للعباد كلما توجهوا اليه وسألوه المغفرة، كما انه سبحانه يغفر ابتداء فمن باب أولى ان ينال المؤمنون هذه المغفرة من غير سؤال ولكنهم ادركوا موضوعية السؤال بمعنى ان طلب المغفرة مركب من أمرين:
الأول: مقدمة لنيل المغفرة ومحو الذنوب.
الثاني: فيه امتثال لأمره تعالى بالإستغفار.
الثالث: الإقرار بان مغفرة الذنوب بيده تعالى.
الرابع: الإعتراف بحصول الذنب والتقصير من العبد.
الخامس: سؤال الإستغفار مطلوب بذاته سواء حصلت الإستجابة أو لم تحصل.
ان غفرانه تعالى يستوعب الخطايا الكثيرة العظام، وغفرانه سبحانه يتغشى الخلائق كلها وجعل قدراً من العفو يصيب كل انسان بفضله ورحمته، وجاء السؤال لطلب الغفران اللائق بواجب الوجود وليس بما يستحقه المؤمن لعمله، ان الإيمان وعمل الصالحات باب لنيل المغفرة والعفو، ولكن المؤمنين لم يسألوا من هذا الباب المغفرة بلحاظ الإستحقاق والعمل الشخصي، بل سألوا المغفرة منه تعالى لأنه الغفار للذنوب كبيرها وصغيرها، ما ظهر منها وما بطن.
وجاء السؤال بصيغة الجمع، وفيه وجوه:
الأول : الإستغفار انحلالي أي كل مؤمن يقول غفرانك ربي.
الثاني : تتضمن الآية طلب العفو عن الذنوب الجماعية التي تقدم عليها الجماعة سواء كانت الجماعة كثيرة او صغيرة كما في العصبية العشائرية وفي المشاركة في ذنب مشترك، او غيبة يؤثم فيها المستغيب والسامع للغيبة والراضي بها، ومن يقوم بتكرارها.
الثالث : كل مؤمن يستغفر لنفسه ولغيره من المؤمنين ومن فاته الإستغفار ويتدارك هذا الفوات باستغفار الغير له، لأن صيغة الجمع تعني العموم والإستيعاب للجميع.
الرابع : الإستغفار احتراز من السيئات واجتناب للذنوب والخطايا فلجوء العبد الى الإستغفار دليل على علمه بقبح الذنوب ولزوم الإبتعاد عنها.
وورد طلب المغفرة على نحو الإطلاق من غير تقييد وفيه وجوه:
الأولى : طلب المغفرة للذات.
الثانية : للذات ولجماعة المؤمنين.
الثالثة : للمؤمنين في كل زمان من سبق في الإيمان ومن سيأتي لاحقاً من المعدوم.
الرابعة : للناس جميعاً أي للمؤمنين والمسلمين عامة ولغير المسلمين ايضاً.
والقرآن يفسر بعضه بعضاً وقد ورد تقييد اطلاق الإستغفار في قوله تعالى [ما كان للنبي والذين آمنوا ان يستغفروا للمشركين] ( ).
فيكون الإطلاق في الآية خاصاً بالمؤمنين فتشمل الآية الوجه الثالث اعلاه بالمغفرة لجميع المؤمنين الموجود منهم والمعدوم وبذا ينال المؤمن الذي تقدم زمــانه من الإســتغفار ويدخر منه للذي لم يولد بعد فلا يتمسك بعقائد الإيمان الا ويناله رصيد عظيم من استغفار المؤمنين السابقين له.
وهل يشمل الإستغفار وثوابه المؤمنين من الملل السابقة للإسلام، الجواب نعم اذا كانوا يقرون بالأصول التسعة الواردة في الآية او بماء جاء به انبياء زمانهم من عند الله ومنه الإيمان بالبشارات بالأنبياء اللاحقين ومنهم خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخبر عنه الأنبياء ابتداء من آدم عليه السلام.
ومن فضله تعالى ان يلقن المسلمين كيفية الإستغفار وصيغ الدعاء والإلتجاء اليه تعالى، فالآية تخبر عن حال المؤمنين وانهم دائبون على الإستغفار، وهم يسألون المغفرة ونزولها الى الأرض والإنتفاع منها في النشأتين.
ولقد ادرك المؤمنون الحاجة الى المغفرة وسؤالها من عند الله، وهذا الإدراك لا يصل اليه الا من امتحن الله قلبه بالإيمان، فقول (غفرانك) فوز عظيم وارتقاء في سلم المعرفة واستثمار كريم للحياة الدنيا، ومن حق المسلمين ان يفتخروا بهدايتهم للإستغفاروتعاهدهم له ولكن ليس على نحو القضية المستقلة بل انها فرع الطاعة لذا جاء طلب المغفرة بعد الإيمان المتعدد واعلان السمع والطاعة وهو دعوة للمذنبين والمقصرين للحاق بأهل الإيمان.

تفسير قوله تعالى [رَبَّنَا]
جاء الإستغفار بالإضافة الى الرب (غفرانك ربنا) وهو غاية في أدب العبودية وصيغة مباركة للتقرب الى الله تعالى والتوسل لنيل المغفرة، فمن وسائل السؤال المدح والثناء على مقام الربوبية، وجاء طلب المغفرة بالإقرار له سبحانه بانه المالك والمدبر لأمور العالمين وهو المنعم والقاهر الذي لا يغلب او يشارك في الألوهية، فهذا الشطر يبين ما جاء في أول الآية من الإيمان بالله والفرق بينه وبين الإيمان بالملائكة والكتب المنزلة والرسل، بان الإيمان بالله لأنه الإله ولا شريك له ولا رب سواه، بيده مقاليد الأمور فمع سؤال الإستغفار جاء المدح والتحميد والإقرار بالعبودية له سبحانه في بيان لمضامين الإيمان بالله عز وجل.
وفي الآية شكر له تعالى على انعامه علينا بالخلق واتصال النعم بالرزق الكريم بلحاظ ان المؤمنين لا يأكلون الا من الرزق الحلال والشكر له سبحانه على الإيمان، ان قول (ربنا) وحده يستلزم الشكر له تعالى على الوصول بالعبد الى منازل الإقرار بالربوبية المطلقة له سبحانه، وقول (ربنا) يدل على اجتماع المؤمنين على التسليم بالوحدانية وعدم الإشراك به سبحانه.
فالمؤمنون بحاجة الى وحدة الإيمان بمعنى لا يكون كل مؤمن على حدة في ايمانه، بل المؤمنون أمة واحدة في الإيمان والتسليم لمقام الربوبية، وفيه منعة وقوة لهم وتعاهد للإيمان، فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالحمى والسهر)( )، دعوة للإتحاد والتماس مصاديق العز والقوة بالاجتماع ومنه الإقرار العام بالوحدانية والتوجه الى الله تعالى بطلب المغفرة.
ويبين السؤال الإقرار بالحاجة اليه سبحانه في النشأتين، فلا دليل على انحصار طلب المغفرة للدار الآخرة بل مطلق في الدنيا والآخرة، لذا جاء بصفة الرب، وهو من أمهات الأسماء المقدسة ويتضمن الخضوع والخشوع لله تعالى، والإقرار بالذنب والحاجة النوعية العامة للإستغفار، وتبين الآية انقطاع المسلمين له تعالى ورجاء رحمته وثقتهم بانه سبحانه لا يخيب آمالهم.
وقد جاء طلب الإستغفار على السنة الأنبياء لقومهم اذ حثوهم على اللجوء الى الإستغفار في آيات عديدة، قال تعالى [وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ]( ).
اما المؤمنون فقد بادروا الى الإستغفار وواظبوا عليه، وهو سجية ثابتة لهم يتوارثونه جيلاً بعد جيل، فيعرفون به من قبل أهل الأرض وأهل السماء، وكأنه سمت ظاهر وعلامة دالة عليهم، وفيه حث للناس على الإيمان والإقرار بالربوبية أي ان المؤمنين يستغفرون الله عز وجل مع الإقرار بالربوبية فيكون هذا الإستغفار والإقرار دعوة للناس جميعاً للإسلام ولمعرفة ضرورة اللجوء اليه تعالى والتوبة، لأن الإستغفار اقرار بالعقاب والخشية منه، وهو محاولة للتدارك واظهار للندم، ووفق الموازين العقلية كيف يكون اللفظ والإعتذار سبباً لمحو الذنوب المتكررة في باب العقيدة والقول والفعل، ولكن رحمته تعالى تتجاوز الحسابات العقلية وأوهام البشر وليس لها حدود، فجاءت هذه الآية لتبعث الأمل في قلوب المسلمين وغيرهم ويعلم الناس جميعاً ان طريق التوبة لم ولن يغلق في وجه العباد.
وهذه الآية تؤكد بقاءه مفتوحاً وتجذب الناس اليه ونسبة المغفرة اليه تعالى غفرانك أي اغفر لي بما انت اهله لأنه سبحانه وعد بغفران الذنوب ولأنه الغفار.

تفسير قوله تعالى [وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ]
بعد اعلان الإيمان على نحو العموم والشمول جاءت خاتمة الآية بالإقرار بالمعاد واجتمع حسن السبك والنظم في الآية مع الدلالة العقائدية والترتيب الزماني لأن الآخرة تأتي عقب الدنيا، والإقرار بالمعاد واليوم الآخر هو مدار الإيمان، وبه تعرف الملل والشرائع السماوية السابقة لأنها تلتقي جميعاً بالإيمان بالنشور بعد الموت والجزاء والثواب والعقاب بل ان الأمم الأخرى من غير الشرائع السماوية أيقنوا بالبعث وعودة الروح الى الجسد بعد مغادرته.
فالمصريون القدامى بنوا الأهرام فوق قبور ملوكهم وجعلوا فيها منافذ خفية كي تصل الروح الى الجسد دون السباع، ووضعوا الطعام والشراب في القبر مع الميت.
والبراهمة قالوا بالتثليث وفق واقع الحياة والموت، وقالوا ان براهما هو الإله الخالق وفيشنوا هو الإله الحافظ وسيفا هو الإله الهادم، ولحبهم للحياة وتعلقهم بها قالوا “بتناسخ الأرواح” وان الروح ترجع الى الحياة الدنيا بجسم ومولود جديد، والتناسخ صورة مشوهة وتحريف لحقيقة المعاد، وبالتناسخ قال البوذية ايضاً.
وجاءت نصوص قليلة في التوراة والإنجيل تخبر عن الحشر وتحذر من النار، اما القرآن فجاء بالبيان والتفصيل بما لا لبس فيه وليس بلغة التحذير والوعيد فقط، بل بصيغة البشارة بالجنة والسعادة الأبدية، وجاء الإخبار عن الآخرة والنشور في هذه الآية على لسان المؤمنين أنفسهم وهو غاية الكمال الإنساني لما فيه من الدلالة على بلوغ مراتب الفهم والتفقه في أحوال الحياة الدنيا وحتمية البعث.
(وعن ابن عباس في قوله تعالى [غُفْرَانَكَ رَبَّنَا] قال: قد غفرت لكم، [وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ] قال: اليك المرجع والمآب يوم يقوم الحساب)( ).
علم المناسبة
ورد لفظ (المصير) ثمان وعشرين مرة في القرآن وهو على قسمين:
الأول: الإخبار بان المصير اليه تعالى، في اثنتي عشرة آية منها.
الثاني: الإنذار والوعيد للكافرين والإخبار بان مصيرهم الى النار في ست عشرة آية، قال تعالى [حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( )،
والدعاء هنا استعاذة من النار ولجوء الى الله عز وجل للنجاة من العقاب، فلذا جاء الخطاب فيها بالقول ربنا لأن صفة الرب تدل على الرحمة والعفو، للإستجارة به تعالى من النار، والمصير الى النار لا يعني انه قسيم للمصير اليه تعالى، فالعودة والرجوع اليه تعالى سابق للمصير الى النار ويكون الترتيب الزماني والإفرادي هكذا:
الأول : مصير الناس جميعاً الى الله تعالى بعد الموت وهو أمر حتمي.
الثاني : مصير الكافرين الى النار يوم القيامة.
الثالث : بقاء المؤمنين على الحال الأولى، وهو المصير والرجوع الى الله تعالى، وفي التنزيل [لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ]( )، وتظهر الآية ان المعاد جسمي وروحي وليس روحياً فقط.
لقد جاءت الآية تحدياً للكافرين الذين أنكروا المعاد لتخبر عن وجود أمة في الأرض تؤمن بالبعث والنشور سواء في عهد النبوة او بعدها،وهذه الأمة حجة على الكافرين ودعوة لهم للإسلام ومعرفة حتمية العالم الآخر وبعض تفاصيله مما يعني ان الأنبياء لم يموتوا لأن رسالاتهم باقية والأحكام التي جاءوا بها من عند الله لم تغادر الأرض بل تظهر على السنة وأفعال المسلمين الذي يعلنون ايمانهم وتصديقهم بالمعاد وهذا التصديق يملي عليهم الإستعداد للحساب باتيان الصالحات واجتناب السيئات، وهذا من أهم منافع الإيمان بيوم الحساب.
لقد جاء الإخبار لأهل النار بصيغة الوعيد والتخويف، اما بالنسبة للمؤمنين فقد اثبتوا علمهم وادراكهم لحقيقة المعاد وحتمية العودة والرجوع اليه تعالى مما يعني استبشارهم بهذا الرجوع وكأنه مقدمة لقوله تعالى [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ].
فعدم الخــوف او الحــزن وان كان موضــوعه في الآخرة الا ان هذه الآية تبين حصـول مقدمــات انتفاء الخــوف في الدنيا، وان المؤمنين مقبلون على الآخرة من غير خوف او حــزن فحالـهم ليس الفزع او الخوف عند البعث ثم شـمولهم برفع الخوف والحزن بل انهم يستعدون في الدنيا للقائه تعالى بالإيمان والإستغفار وهما يطردان الخوف والحزن.
ان الإقرار بانحصار المصير بالعودة اليه سبحانه مانع من اقتراف السيئات فمتى ما ادرك الإنسان حتمية الرجوع الى الله والوقوف بين يديه للحساب فانه يجتنب السيئات ويقبل على الطاعات ولكن المؤمنين ذكروا الآية بما يفيد اجتماع الرجاء والخوف لنيل رحمته وعفوه تعالى، واستعدادهم لملاقاة الحساب بالإيمان والسمع والطاعة، وقدموا للخوف الإستغفار وسؤال العفو، بل ان الإقرار بحتمية الرجوع اليه تعالى وحده طلب للعفو والمغفرة.
بحث روائي
أخرج أحمد وأبو عبيد ومحمد بن نصر عن عقبة ابن عامر: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اقرؤا هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة فان ربى أعطانيهما من تحت العرش)( ).
وأخرج أحمد والنسائي والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن حذيفة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطها نبى قبلى)( ).
فهذه الآية كنز من كنوز السماء ضمه القرآن بين دفتيه لتكون شهادة سماوية على ثبات الإسلام في الأرض، وخيبة الكافرين وعدم حصول الإرتداد عند المسلمين، والآية حرز وعون ودعوة للعبد تمنع من التبعيض والتجزئة بين العقيدة والعمل، وتخبر عن وجوب اتحادهما في الإيمان السليم المطلق، واتيان الفرائض والواجبات.
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبى ذر: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ان الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذى تحت العرش فتعلموهما وعلموهما نساءكم وأبناءكم فانهما صلاة وقرآن ودعاء)( ).
والحديث حث على الإنتفاع العام من هاتين الآيتين وما فيهما من البركة والفيض أو الثواب، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (وابناءكم) يشمل الأولاد الصغار، ومن لم يبلغ الحلم لتنمو عنده ملكة عشق القرآن ويتخذون آياته حرزاً ودليلاً وعيناً.
وعن ابن ابي عمير عن هشام عن الإمام الصادق عليه السلام: (ان هذه الآية مشافهة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله ليلة أسرى به إلى السماء، قال النبي صلى الله عليه وآله انتهيت إلى محل سدرة المنتهى وإذا بورقة منها تظل امة من الامم فكنت من ربي كقاب قوسين أو ادنى كما حكى الله عزو جل فناداني ربي تبارك وتعالى [ آمن الرسول بما انزل إليه من ربه ] فقلت انا مجيب عني وعن امتي [والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله وقالوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا واليك المصير] فقال الله [لا يكلف الله نفسا الا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت] فقلت [ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا] وقال الله لا اؤاخذك ، فقلت [ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا] فقال الله لا أحملك ، فقلت [ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين] فقال الله تعالى قد أعطيتك ذلك لك ولامتك ، فقال الصادق ( ع ) ما وفد إلى الله تعالى احد اكرم من رسول الله صلى الله عليه وآله حيث سأل لامته هذه الخصال)( ).
والرواية تبين جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أجل أمته وعظيم منزلته عند الله بتلقيه الوحي في السماء وبما يصلح حال المسلمين وينفعهم في النشأتين وجاءت الآية بصيغة الجمع لتنال الأمة بالواسطة النبوية ما ناله الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ولتكون هذه الآية شاهداً قرآنياًَ على حديث الإسراء وما فيه من الإفاضات الملكوتية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وهو غنى عقائدي وصرح ايماني خالد.
بحث بلاغي
من البديع حسن النسق وهو الإتيان بكلمات متتاليات متصلات اتصالاً محكماً بديعاً بحيث اذا أفـردت كل كلمة أو جملة منه أعطت معنى تاماً، ويظهر في هذه الآية عطف جملها وكلماتها بعضها على الآخر بواو النســق على الترتيــب الزمــاني والعـقلي، فابتدأت الآية بايمان الرسول بما أنزل اليه من عند الله، وهو أصــل الإيمـان بين بني آدم، فمن الرسول يكون التبليغ والدعوة الى الله وجاء ايمان الرسول بصفة (الرب) أي ان الرسول متيقن بان الذي يأتيه من عند الله وليس من غيره.
وجاء ايمان المؤمنين من بعده بالله عز وجل لبيان منافع ايمان الرسول وظهور اثر النبوة والدعوة بين الناس، ثم ذكرت الآية ايمان المؤمنين بالملائكة كرسل لله عزوجل بالكتب السماوية وفيه بالدلالة التضمنية ان النبي يحتاج الى الواسطة بينه وبين الله ولكن هذه الواسطة ليست من البشر بل هي من الملائكة وهم خلق لله عز وجل وعباد مكرمون وأجسام شفافة نورانية، لا يفعلون الا الخير والصلاح والطاعة، منقطعون الى التسبيح والذكر ليكونوا أسوة للإنسان، ومثالاً يحتذى في النجاة من اتباع الهوى والميل عن الحق.
ثم أخبرت الآية عن الإيمان بالكتب المنزلة وأعلن المؤمنون اقرارهم بان هذه الكتب لم تنزل الا على الرسل فلابد من الإيمان بهم والإعتراف بعظيم منزلتهم وما شرفهم الله عز وجل به من الإختيار للنبوة، وهذا الإعتراف مقدمة علمية لإتباعهم والإقتداء بهم وقبول ما جاءوا به من عند الله.
وأخبرت الآية عن اعلان المؤمنين عدم التفريق بين الرسل لدفع وهم وهو الإكتفاء بالإيمان ببعض الرسل وصدق الإيمان بصرف الطبيعة والأجزاء بالإقرار بمضمون الرسالة ولو بالإيمان برسول واحد، فأشترطت الآية الإيمان بجميع الرسل، ليختص المسلمون بهذه الآية ويخرج بالتخصيص الذين لم يؤمنوا ببعض الرسل ومنهم اولئك الذين جحدوا رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولعل الأهم في الآية هو تأديب المسلمين وتحذيرهم من اتباع أهل الكتاب في جحود بعض الرسالات اومقابلتهم بالمثل بحسب طبيعة الإنسان ورغبته للرد والمواجهة والتحدي خصوصاً عند غلبة النفس الشهوية والغضبية.
فجاءت الآية لتؤدب المسلمين وتغلق عليهم باب محاكاة أهل الكتاب وتأخذ بايديهم نحو سبل النجاة بالإستقلال بطريق الفوز وهوالإيمان بجميع الرسل، وبذا حفظت النبوة في الأرض وظلت الرسالة مصانة الى يوم القيامة بتصديق المسلمين بجميع الرسل من غير استثناء، وهذا التصديق يعني الإمتثال لما جاءوا به من عند الله.


قوله تعالى[لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًاكَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] الآية 286

الإعراب واللغة
عن ابن عباس انه كان يقرأ كل آمن بالله وملائكته وكتابه، واخرج ابن ابي داود في المصاحف عن علي بن ابي طالب انه قرأ: [ آمن الرسول بما انزل الله اليه من ربه وآمن المؤمنون ] ( ).
(لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) لا: نافية، لا عمل لها، دخلت على الجملة الفعلية. يكلف: فعل مضارع مرفوع، اسم الجلالة: فاعل، نفسا: مفعول به أول، الا: أداة حصر جاءت للإستثناء المفرغ، وسعها: وسع، مفعول به ثان، وهو مضاف، والضمير: مضاف اليه.
(لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) لها: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ما: اسم موصول مبتدأ متأخر، جملة كسبت: لا محل لها لأنها صلة الموصول، وعليها: معطوف على ما قبله وتقدم اعرابه.
(رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا) ربنا: منادى مضاف، الضمير (نا): مضاف اليه. لا: ناهية، تؤاخذ: فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه السكون.
والضمير (نا) مفعول به، والفاعل ضمير تقديره انت وجملة النداء استئنافية.
[إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا] ان: حرف شرط جازم. نسينا: فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والضمير فاعل، او اخطأنا: معطوف عليه، وجواب الشرط محذوف أي فلا تؤاخذنا.
[كَمَا حَمَلْتَهُ] الكاف: حرف جر، ما: مصدرية، حملته: فعل ماض وفاعل والهاء ضمير في محل مفعول به، والجملة في محل مفعول مطلق او حال.
[مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ] ما: مفعول به ثان لتحملنا. لا: نافية للجنس، طاقة: اسمها المبني على الفتح في محل نصب. لنا: جار ومجرور متعلقان بطاقة، به: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لا.
[أَنْتَ مَوْلاَنَا] انت: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ، مولانا خبر، وهو مضاف، والضمير مضاف اليه.
[فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] الفاء: للتعليل، انصرنا: فعل طلب، والفاعل ضمير مستتر تقديره انت، والضمير (نا) مفعول به، على القوم: جار ومجرور، الكافرين: صفة للقوم مجرور بالياء لأنه جمع مذكر سالم.
وكلفه الشيء تكليفاً: امره بما يشق عليه وتكلفت الشيء: تجشمته على مشقة، وكلف الشيء: اذا تحمله.
وفي الحديث: (انا وأمتي براء من التكلف) أي البحث عن الأمور الغامضة، والسؤال عمالا يجب السؤال عنه، والإكتفاء بظاهر الشريعة السمحاء.
قال ابن سيده: كلف الأمر وكلفه تجشمه على مشقة وعسرة، قال ابو كبير:

أزهير، هل عن شيبة من مصرف

ام لا خلود لباذل متكلف

والسعة نقيض الضيق، ووسعه أي لم يضيق عنه، ويقال: لا يسعني شيء ويضيق عنك أي متى وسعني الشيء وقـدرت عليه فانك تسعه ايضاً، وآخذه بذنب مؤاخذة: عاقبه، ويقال: اخذ فلان بذنبه أي حبس وجوزي عليه وعوقب به.
والإصر: العهد الثقيل، او العهد الذي لا يفي به الإنسان (وأصل الإصر: الثقل والشد)( ).
في سياق الآيات
بعد اقرار المسلمين بالربوبية وايمانهم بالرسل والأنبياء واعترافهم بأصل المعاد والذي يترشح عنه جرياً وانطباقاً لزوم الإستعداد له وبذل الوسـع للنجاة من العقاب يومئذ، جاءت هذه الآية للإخبار عن نفي الحرج في الدين، وبدعاء يتضمن آيات من المعارف الإلهية، لإعلان العجز عن السلامة والأمن يوم القيامة الا بفضله وعفوه ورحمته تعالى، وبعد سؤال المغفرة منه تعالى في الآية السابقة بما هو لائق بكرمه واحسانه وجوده جاءت هذه الآية بالإخبار عن عدم التكليف بما لا يطاق.
إعجاز الآية
هذه الآية هي آخر آيات سورة البقرة البالغة مائتان وست وثمانون آية، ولابد انها تحتوي على مضامين قدسية واسراراً ملكـوتية تستلزم الغوص في بحار كنوزها، بل يكون شطر منها ظاهراً للعيـان يدركه الذي يتلو القرآن بادنى تدبر تفرضه الآية نفسها، بمعنى ان القارئ لا يستطيع ان يمر على هذه الآية مرور الكرام، فهي تستوقفه بكلماتها ومعانيها ومفرداتها وبعد الإقرار بالربوبية لله تعالى، جـاء الإقرار بالذنب وسؤال المغفرة، ومع الإيمان بالرسل والأنبياء السابقين جاء طلب التخفيف وعدم تحمل الإعباء والأوزارالتي تحملتها الأمم السالفة.
وجمعت الآية بين النسيان والخطأ في رجاء العفو وعدم العقاب مع التباين بينهما لإدراك عظمة وسعة رحمته تعالى، وتختتم السورة والآية معاً ببشارة النصر على الكافرين بصيغة الدعاء وما فيه من مضامين العمل والسعي والتحصيل، وفي الآية بشارة الثواب والجزاء الحسن على الصالحات.
ويمكن ان نسمي هذه الآية بـ(آية التكليف بالمقدور)
الآية سلاح
تبعث الآية الأمل في النفس بمعرفة عظيم فضله تعالى بعدم التكليف الا بمقدار السعة والتحمل، وفيها اخبار عن عدم المشقة في أداء التكاليف وتمنع الآية من اليأس والقنوط لما فيها من أبواب السعة والدعاء، وتدعو الى الثقة بالنصر لولايته ونصرته تعالى للمؤمنين.
مفهوم الآية
من القواعد الكلامية “قبــح العقاب بلا بيان” فلابد من البيان والتعريف بالواجبات والتكليف كي يحصل الثواب على الأداء، والعقاب على التخلف والإمتناع عن الإمتــثال، اما هـذه الآية فتتضمن قاعدة كلامية جديدة يمكن ان نطلق عليها “التكليف بالممكن” فمن مفاهيم الآية ان ما لا يكون ممكــناً لا يكلف به العباد، وتؤكد الآية حصول الحساب يوم القيامة، وان المؤمنين يتعرضون له فلا ينجو من الحساب احد، لذا قدموا طلب العفو وعدم العقاب على حصول الذنب خطأ او تقصيراً.
وتدل الآية على عظيم العفو فهــي تلقــين للمــؤمنين بــان يسـألوا العفو ويتقدموا بسؤال المغفرة عن نسيان التكاليف او الخطأ في الأداء مع رجاء التخفيف، فان الله واسع كريم لا يحتاج العبادة وهو الغني عن العالمين.
وتمنع الآية الناس عن الإعتذار عن أداء التكاليف في الدنيا والآخرة فليس لأحد ان يأتي ويقول انه لم يؤد الفرائض العبادية لأنها شاقة عليه ولا يستطيع اداءها، وترى مصاديق هذه الآية بين الناس، فالذي لا يصوم لا يقول بالعجز عن الصيام او أنه فوق طاقته ولا يتحمله، نعم قد يكون الإنسان مريضاً، فجاءت الشريعة بالتخفيف عن المكلف في الصيام دون الصلاة، لأن الصلاة لا تترك بحال، واذا كانت هناك مشقة الحصول على الماء للتوضأ، ينتقل المكلف الى التيمم لمنع الحرج ولدفع المشقة والأذى، وتحذر الآية من التشديد سواء في العبادات او المعاملات او الأحكام، وتبين اضراره على الفرد والجماعة.
وفي الآية دلالة على احصاء الأعمال وضبط افعال بني آدم وعدم تضييع او فوات بعض منها، فاذا كان الإنسان قد ينسى وقدم الإعتذار سلفاً عن النسيان والخطأ فان الملائكة لا ينســون ولا يفوتهم تدوين أي فعل من أفعال الإنسان، وتبدو هنا موضــوعية اقــرار المؤمنين بالملائكة فمن وظائف الملائكة احصاء أعمال بني آدم، والاقرار بهم تثبيت حضورهم في الوجود الذهني الأمر الذي يكون له اعتبار في نوع العمل، والحرص على تدوين الحسنات واجتناب فعل السيئات خشية كتابتها من قبل الملائكة.
وتنهى الآية في مفهومها عن الجحود والإستكبار عن المسألة وطلب العفو وتخبر بانه حاجة وان المؤمنين استطاعوا الوصول الى هذه الحقيقة أي لزوم طلب العفو والمغفرة، ولم تقل الآية ربنا اجعلنا لا ننسى أو نخطأ لأنه لا يتناسب مع طلب العفو والمغفرة ولأنه من التكليف بما لا يطاق.
إفاضات الآية
تدعو الآية الى العمل الصالح والمبادرة الى أداء الفرائض والطاعات، وتنفي عن النفس الضجر والملل من العبادة وتطرد الشيطان وتمنع من استحواذه على النفس والوسوسة بان العبادة شاقة، وتحذر الآية من السيئات واكتساب الذنوب فما دام هناك حساب وعقاب فان الإنسان يخشى ما يسبب له الضرر والأذى، وتطرد الآية الغفلة عن المسلم وتدعو للتدبر في أقواله وأفعاله، وجاءت الآية بصيغ التضرع والمسكنة وهي من وسائل القرب الى الله تعالى ونيل رحمته، كما انها تنمي ملكة التقوى والخشوع عند الإنسان.
التفسير
تفسير قوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]
الآية قاعدة كلية تنفي العسر والمشقة في التكاليف، وتبين ان الفرائض بمقدور المكلف، وهي خالية من التشديد والأذى، ولا يتحمل منها العناء والتعب، فلا تكليف بغير الممكن والمستطاع.
فلا عناء ولا تعب في التكاليف، وهذه الحقيقة حجة على كل مكلف وهي برزخ دون الشعور بالملل واظهار التعب والإجهاد من العبادة سواء على نحو شخصي أو نوعي والا لأقتضى أداء الصلاة استراحة بعدها من العمل وتراخ عن الوظائف الأخـرى لا لشيء الا لزعم ان الصلاة فيها عناء وتعب، ولطالب شطر من المسلمين بالراحة والتوقف عن العمل ايام الصيام وتعطيل الدراسة ونحوها لأنه يستلزم الصبر والحاجة الى النوم ساعات الصيام، فجاءت هذه الآية لتمنع من جعل العبادة حاجزاً دون القيام بمستلزمات الحياة اليومية وطلب المعيشة.
ومن الآيات ان الناس على درجات متباينة في العلم والمعرفة والقدرة والقابلية، ومع هذا جاءت التكاليف متساوية وبعرض واحد للمكلفين كافة، فلم تختلف الفرائض اليومية بين الغني والفقير، والفقيه وصاحب الشهادة العالية وغيرها، ولم يخفف في عدد أيام الصيام عن العامل والفلاح او الحاكم دون غيرهم، فالكل متساوون في تلقي الخطاب التكليفي، وليس من إحالة على المعاش في الصلاة عند عمر مخصوص، مما يدل على ادراك وجوب الصلاة من قبل كل مكلف وانها سهلة ومناسبة لأضعف الناس خلقة وأكثرهم انشغالاً بأمور الدنيا ولا تعارض او تزاحم الأعمال الأخرى، وفي الخبر عن علي انه قال: ( آخر ما فارقت عليه حبيب قلبي صلى الله عليه وآله انه قال: يا علي إذا صليت فصل صلاة اضعف من خلفك).
ويأتي التخفيف في الحج بتقييده بالإستطاعة، وفي الزكاة ترى التخفيف مركباً من أمور هي:
الأول: عدم تعلقها الا ببلوغ النصاب.
الثاني: قلة مقدارها اذ لا تتجاوز في كثير من أفرادها نسبة ربع العشر أي (2.5%).
الثالث: عدم شمولها لكافة الأعيان والمكاسب وانحصارها بشطر من الحبوب والأنعام والنقدين من الذهب والفضـة أي العملات، كما ان الزكاة لا تذهب سدىً بل ترجع على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله في فلسفة اعجازية تقهر الزمان وتمنع من غلبة الشقاء.
وبلحاظ صدور اللفظ تحتمل الآية وجهين:
الأول: ان ابتداء الآية اخبار منه تعالى عن عدم التكليف بما لا يطاق.
الثاني: انه حكاية عن قول المؤمنين ومعطوف عما جاء في الآية السابقة من قولهم (سمعنا واطعنا) وانهم ايقنوا بانه تعالى (لا يكلفهم اكثر مما يستطيعون، الأمر الذي يعني استعدادهم لقبول التكاليف.
والأصح هو الوجه الأول فان الآية اخبار منه تعالى عن قواعد ومضامين التكليف وبيان يتضــمن الرحمة الإلهية وفيها توكيد اضافي كريم لاعلان المؤمنين تسليمهم بما جاء به الأنبياء واظهارهم حسن الإستجابة والإمتثال للأوامر الإلهية، فجاء التوكيد بان الطاعة لا تقع الا على المقدور.
فتأتي هذه الاية لتثبيت الإيمان ومنع حصول الفزع او الجزع او السأم من الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات.
ونفس الآية تخفيف في العبادات من غير ان تدخل عليها نقصاً او حذفاً او تجري عليها تغييراًً، فمجرد الإخبار بان التكاليف لا تتعدى قدرة الإنسان وامكانيته في الأداء تخفيف لأنه شهادة سماوية على عدم وجود عناء في العبادات، كما انها تمنع من القول بالمشقة في العبادات والتأثر بهذا القول، أي ان هذا القول قد يصدر من بعض المسلمين وقد يصدر من غيرهم سواء اهل الحسد والجحود او الذي لم يؤد هذه العبادات ويعتاد عليها فيرى انها شاقة وصعبة، وعن الإمام الصادق عليه السلام: في آخر البقرة لما دعوا اجيبوا (لا يكلف الله نفساً الا وسعها، قال عليه السلام: ما افترض الله عليها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
وجاءت الآية بلفظ النفس، والمراد من النفس وجوه منها:
الأولى : ذات الشيء.
الثانية : الجوهر المتعلق بالأجسام تعلق التدبير والتصرف.
الثالثة : اسم النفس الحيوانية لكل حساس.
الرابعة : اسم النفس الناطقة.
الخامسة : الباقي من الإنسان بعد الموت.
السادسة : المزاج الذي هو عبارة عن اعتدال الأركان والأخلاط.
السابعة : الروح.
والمراد في المقام هو الأول أي ذات الإنسان كمكلف ومركب من جسد وروح، ويمكن استقراء قاعدة جديدة في تعريف النفس وهي معرفة المناسب من تعريفات النفس بحسب القرينة والحال، فالمراد هنا جهة الخطاب وموضع التكليف واداء الفعل العبادي وهو الإنسان روحاً وجسداً بقرينة التكليف والكسـب وهو الفعل ونيل الثواب او تلقي العقاب اذ تشترك فيه الروح والجسد يوم القيامة، ولكن لماذا وردت الآية بصفة النفس فيه وجوه:
الأول: انه من الإتيان بالجزء وارادة الكل.
الثاني: توجه خطاب التكليف الى النفس الناطــقة العاقــلة التـي تعي وتفهم الأمر والوجوب وتستجيب لها اعضاء الجسد في الأداء والفعل والإمتثال.
الثالث: وقوع التكاليف على النفس بالذات، اما الجسد والأعضاء فانها تتحرك وتستجيب لإرادة النفس، وحينما تعزف النفس عن الشيء فان الجوارح لا تأتيه.
الرابع: تدل الآية على توجه الخطاب التكليفي الى جميع الناس من غير حصر بالمسلمين، وان دخـول الإسلام امر ممكن ويوسع كل انسان بمعنى كفاية البراهين المتوجهة للشخص كأنها نداءات لدخول الاسلام ولزوم التقيد باحكامه في أي زمان ومكان من العالم.
ولا تعارض بين الوجوه الأربعة اعلاه وكلها من مصاديق الآية الشريفة.
فلفظ النفس في المقام آية اعجازية تساعد في تحليل ماهية الإنسان، وكيفية صدور الأعمال عنه، ومراتب التوجيه والتدبر وابتداء التصرف عنده، وفي الآية بشارة فاذا كان بوسع كل انسان اداء التكاليف فان المؤمنين عندهم حصة زائدة وهي الإيمان الذي يعتبر سلاحاً وعوناً على اداء التكاليف وسهولة تحملها، ومع هذا جاء سؤال العفو عن النسيان والخطأ المقدر.
علم المناسبة
ورد مادة (كلف) ثمان مرات في القرآن وباســتثناء واحدة قدم المتكلفين أي الذين يبحثون عما لا يعنيهم، ويسعون للإطلاع على خفايا الأشياء، فان سبع منها وردت في ذات المعنى والمضمون الذي جاءت به هذه الآية.
ووردت آية بقوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا] ( ) وثلاث آيات بلفظ [لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا] بضمير الجمع للمتكلم والمراد منه التفخيم والتعظيم لمقام الربوبية والأوامر الإلهية.
وآية [لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا] ( )، وآية جاءت خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ] ( ).
وحصر صدور التكليف بالذات المقدسة آية اعجازية في القرآن ودليل قرآني عملي بان مقاليد الأمور بيده تعالى، وان من صفات الربوبية التشريع وبيان التكاليف، ومنع الخلائق من التشريع، ولذا جاء الخطاب بصيغة (النفس) وتوجه التكليف الى النفس لأنه لا أحد يقدر على توجيه النفس وجعلها تنصاع للأوامر الا الله.
فقد يقوم الجنود وغيرهم باطاعة أوامر الملك او القائد بتمامها ويتجنبون النقص في الأداء، ولكن خطاب الملك واستجابة الجنود لا صلة لنفوس الجنود به، فهم يمتثلون لأغراض دنيوية ومصالح يرجونها، ومفاسد يتجنبونها وفق ما يقودهم لفعله العقل، وقد يقومون بالإستجابة ولكنهم كارهون او غير راضين وبكل الأحوال ينحصر الأداء بالمنافع والحال وليس هو من التكليف.
اما التكليف بالمعنى الإصطلاحي فهو الفرائض والواجبات والمستحبات التي ندب اليها الشرع، ويمكن ان نستدل بهذه الآية على ان السنة لا تنسخ القرآن وان أُدعي عليه الإجماع، فهذه الآيات التي نطلق عليها اصطلاح (آيات التكليف) حصرت الأمر بالتكليف به تعالى وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم موجه اليه التكليف مع انه اسمى رتبة من جميع البشر ولكنه لا ينسلخ عن صفة العبودية، وورد لفظ (وسعها) باضافته الى ضمير المؤنث المفرد خمس مرات في القرآن كلها بخصوص تكليف النفس.
وهل ينحصر لفظ (النفس) في الآية بالإنســان ام يشــمل عـالم الملائكة والجن، لا مانع من النظر بالمعنى الأعم لأنها جاءت بصفة مدح الباري عز وجل فالآية من الدلائل على عدله ورأفته سبحانه في عالم التكليف وتؤكد على علمه ســبحانه بقدرة الإنسان ومدى استطاعته وغاية وسعه وهو أمــر ينفرد به الخالق سبحانه فهو وحده القادر على فرض التكاليف لتناسب اضـعف الناس واقلهم قوة وجهداً، ويعلم بوجود قاسم مشترك بين القوي والضعيف، والشيخ الهرم والشاب، والذكر والأنثــى من الناس، لأن التكالـيف جاءت عامة مطلقة شاملة لهم، وهي في مقــدور كل واحد منهــم، فليس من قــوة مطــلقــة او ضــعف مطلق عند هذا وذاك من البشر بل هناك درجة من القدرة موجودة عند كل واحـد منهم تعلق التكــليف بها ليكون الأداء بميســور كل مكلف.
ولا ينحصر التكليف بالقدرات العامة التي يمتلكها كل مكلف، بل هناك خصوصيات في هذه الآية تتعلق بكل مكلف ومكلفة على نحو الإستقلال والإنفراد، اذ يهيء عز وجل الأسباب والمقدمات الخاصة لأداء الفعل العبادي بالنسبة لكل مكلف، ابتداء من بلوغه وتأديب الأهل له ومجيء الإنذارات وآيات الآفاق التي تدعو الإنسان كل ساعة للتدبر في الخلق.
بالإضافة الى الآيات في النفس عن الصحة او المرض، والغنى والفقر فكل واحد من هذه الحالات الأربعة دعوة لأداء الفرائض سواء لجعلها سبــباً لدوام النعم واعلاناً للشــكر له تعالى او وســيلة للتخــلص من المرض اوالفقر او البلاء والشر وكما ان التكليف مناسبة لأدنى مراتب القدرة عند جنس الإنسان فانها دون الوسع، ويمكن تقسيم الوسع الى قسمين:
الأول : الوسع العام وهو الذي يتعلق بقدرات الإنسان العقلية والجسمية، وما يؤهله للتكليف من البلوغ والعقل والإختيار وأهليته للأداء والتحمل وسلامته من الأمراض والأدران والأسباب التي تحول دون أداء العبادات او شطر منها.
الثاني : الوسع الخاص وهو الحال الشخصية والبيئة المحيطة بالإنسان، وما يجذبه الىالطاعات وما يبعده عن المعاصي، فان الله عز وجل رؤوف بالناس جميعاً وهو رؤوف بكل انسان على حدة رأفة اضافية تتعلق بحاله، ومن هذه الرأفة عدم تكليفه الا بما يطيق بتهيئة مقدمات ايمانه وأدائه للعبادات، بقاعدة اللطف وابعاده عن المعصية ومن وجوه العصمة امتناع المعصية وهو سبحانه يجعل الإنسان يبصر منافع الفعل وما فيه من أضرار قبل ولوجه واتيانه ويقيض له ما يكون تنبيهاً وبرهاناً يبين ماهية الفعل ولزوم أو رجحان اتيانه ان كان صالحاً، وحرمة او كراهة ركوبه واقترافه ان كان سيئاً.
واخرج ابو داود في ناسخه عن ابن عباس قال [وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ] نسخت، فقال[لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا] وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس في الآية قال: هي محكمة لم ينسخها شيء يعرفه الله يوم القيامة انك اخفيت في صدرك كذا وكذا ولا يؤاخذه( ).
فالتناسب بين التكليف والسعة يكون على قسمين:
الأول: عام يشمل الناس جميعاً بلحاظ الخلق والنشأة.
الثاني: خاص وهو عناية ولطف اضافي متوجه لكل انسان على حدة لإعانته على الأداء وجعله مؤهــلاً للإمتــثال للأوامـر الإلهية بتهيئة الأسباب وازاحة الموانع عن العبادة، ويصــل الأمر الى عالم الرؤيا فمنهم من تساعده الأحلام على تلمس طرق الخير وأداء العبادات برؤيا البشارات او الإنذارات، ومنهم من يرى رؤيا مفزعــة فينتبه من نومــه مذعــوراً ليرى طــلوع الفجر ودخول وقت صلاح الصبح فيبادر اليها، او يتخلف عن أدائها مع تحقق انه أصبح بمقدوره ووسعه ادائها بعد طرد النوم والنعاس.
وانشغلت بعض الفرق الكلامية بمباحث في هذه الآية وهي هل العبد موجد لأفعال نفسه ام ان الله تعالى هو موجدها، وكثر النقض والإبرام والإستدلال بآيات قرآنية أخرى مثل قوله تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] ( )، وقوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ]( ).
وشغلوا معهم غيرهم، وحجبت هذه المباحث وما اقترن بها من الإشكالات بعض اشراقات الآيات القرآنية، وضاعت كثير من الطاقات والجهود وساهمت في حصر علوم التفسير في نوع خاص من البحوث وعدد قليل من العلماء، ولعله من أثر ترجمة كتب الفلسفة ودخولها أروقة الدراسة.
وكما جعل الله التكليف ملائماً لحال الإنسان كجنس وكشخص في آية اعجازية متصلة بالخلق ولاحقة له وبما يدل على انه سبحانه لم يترك الإنسان وشأنه بل يحفظه ويدفع عنه ويمده بما يجعله يؤدي الفرائض والمندوبات من غير عسر او حرج، فانه سبحانه جعل علوم القرآن في ميسور الجميع وكل انسان يأخذ منه بما يجعله يدرك انه كتاب الله المنزل من السماء.
فيجب ان تهيء مقدمات النهل من القرآن والإنتفاع من علومه كل بحسب مداركه من غير اشغال وارباك وايجاد حالة من الظن بان علوم القرآن جميعها خاصة بطائفة قليلة من العلماء المختصين الذي يوجهون الايات بما يلائم معتقدهم ويبحثون عما يلائم قولهم ويؤيد احتجاجهم، وما في كل آية من الخزائن والكنوز أعم وأكثر ثمرة ونفعاً للناس عامة وللمسلمين ولصاحب المعتقد نفسه سواء كان منتمياً الى أحد المذاهب الفقهية او الكلامية او الفلسفية او الإجتماعية.
ولذا ترى تلك المذاهب لم يســتطع اي واحــد منها ان يحقق نصراً على خصمه بالقرآن، وكل احتجاج بآية قرآنية يواجه بابطال واحتجاج مخالف له بآية قرآنية أخرى، كما تراه واضحاً في الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة.
ومع ان هذا الخلاف استحوذ على المدارس الكلامية والمؤسسات الرسمية عدة قرون الا انك لا تجد له كبير أثر في العلوم المتوارثة، وأعرض عنه الناس في زمانه وأصبح من التراث المنسي في هذه الأزمنة الا ان يتصدى بعض الباحثين في الدراسات الأكاديمية لرسالة بخصوصه بلحاظ ما يقع تحت يده من الكتب والمصادر.
فهذه الآية الكريمة هبة من عند الله لكل انسان، ووثيقة سماوية تؤكد بقاء العبادة في الأرض وعدم ارتفاعها من جهة انتفاء الحرج والشدة والأذى فيها، ومن غير ابطال لقواعد التكليف العامة وارادة الإنسان في اختيار الفعل والتوجه الى أداء الفرائض، وتشمل الآية أصل الإيمان والتسليم بما جاء به الأنبياء، فهو بمقدور الإنسان وداخل ضمن التكليف، فمنطوق الآية لا ينحصر بالفرائض ومصاديقها الشخصية كالصلاة اليومية بالنسبة لفريضة الصلاة، بل يشمل الإيمان كما ورد في الآية السابقة عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واظهار السمع والطاعة واتيانه العبادات واجتنابه السيئات.
وتثبت الآية ضعف تأثير الشيطان على الإنسان، فليس لأي انسان ان يحتج على تقصيره وجحوده وكفره باستحواذ الشيطان عليه، فالتكليف بالإيمان والعبادات في ميسور كل انسان بمعنى ان الشيطان لا يستطيع ان يصل الى عالم التكليف والتأثير السلبي فيه، فكل انسان يسمع نداءات التكليف ويرى الآيات الباهرات في نفسه وفي الآفاق والكتب المنزلة من عند الله.
وتلحظ الآية حال السفر وما فيه من المشقة وشرط الإستطاعة في الحج وكون الواجب منه مرة واحدة في العمر، وغيرها من التكليف، ولم تغفل الآية التطورات الحاصلة في المجتمعات فلا تسبب التكاليف تخلف الإنسان عن درك هذه التطورات واستثمارها ولا تتعارض مع الإنتفاع الأحسن والأتم منها ويبدو لك ذلك واضحاً بعملية حسابية لأوقات الصلاة ومدة كل صلاة وامكان ادائها في غير ساعات العمل على فرض ان العامل يعمل ثمان ساعات متواصلة، كما انها لحظة انقطاع الى الله واستراحة من هموم الدنيا، واستعادة لما فعله الإنسان في الفترة ما بين الصلاتين، وفي ساعات العمل والإختلاط بالناس وتعاطي المعاملات لتكون فرصة للتدارك واصلاح الحال والشأن واجتناب ايذاء الآخرين.
وهذا الإجتناب من وسع الإنسان وفي مقدوره فلو دار الأمر بين أخذ اموال الآخرين وسد حاجته بها وبين الصبر وعدم الظلم فان كل انسان يستطيع الصبر امام اغراء الأموال الطائلة اذا كانت حراماً، لذا فان الآية انذار ووعيد للكافرين واخبار عن سقوط ما في ايديهم في النشأتين وعجزهم في الآخرة عن الإعتذار عن تقصيرهم، وجحودهم مثلما هي دعوة للمؤمنين لتعاهد الصالحات وتأديب لهم ومنع من دبيب روح الملل والسأم من العبادات.
وفي التوحيد عن الإمام الصادق عليه السلام: (ما أمر العباد الا بدون سعتهم، فكل شيء أمر الناس بأخذه فهم متسعون له، وما لا يتسعون له فهو موضوع عنهم ولكن الناس لا خير فيهم).
ويشمل التكليف المعاملات وعدم التعدي على أموال الناس قال تعالى [وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ].
واطاقة وتحمل التكاليف من الأولويات التي يدركها العقل بذاتها من غير دليل خارجي وهي ظاهرة لكل مسلم، نعم قد تكون هناك غشاوة على أبصار الذين كفروا فيتوهمون شدة التكاليف ويظن بعضهم انه لا يستطيع الصبر عن الأكل والشرب ساعات نهار شهر رمضان، ولكنها شبهة بدوية يزيحها الإيمان عن القلوب، ويؤكد الواقع بطلانها، ومن يصوم يرى بجلاء يسر الصوم وانتفاء الحرج والمشقة فيه، والآية من مصاديق قاعدة اللطف، فاللطف الإلهي يبدأ بذات التكليف وماهيته والمنع من جعله شديداً على المكلف.

تفسير قوله تعالى [لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ]
يعود الضمير المتكرر في الآية الى النفس لتوكيد الحساب وحصول الثواب والعقاب، وهو من أدق المطالب في خاتمة أطول سورة في القرآن اذ تبين الآية حتمية الحساب وتفسر قوله تعالى [َإِلَيْكَ الْمَصِيرُ] وان المصير اليه تعالى يعني تقسيم الناس حسب أعمالهم، ودخول المؤمنين الجنة، ودخول الكافرين النار.
واختلف في اتحاد الكسب والإكتساب او تعددهما، وتعلق الكسب بالخبر والإكتساب بالشر.
علم المناسبة
وقد ورد لفظ الكسب في القرآن على معان:
الأول: عام يشمل الناس جميعاُ في أعمالهم، ليثاب المؤمن ويعاقب الكافر كقوله تعالى [كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ] ( ).
الثاني: خاص ويتعلق بالكافرين والظالمين لما كسبوا من الإثم وهو الأكثر عدداً من الأعم، ويتضمن التخويف والوعيد للكافرين وتذكيرهم بالمعاد، قال تعالى [بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
الثالث: الكسب المالي والنفع الدنيوي: أي الكسب بمعناه الظاهري المتعارف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب الأخرى، ومنه قوله تعالى [وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا] ( )، وقوله تعالى [مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ] ( ).
وقد ورد لفظ الإكتساب خمس مرات في القرآن، ثلاث في الإثم والعقاب، واثنتين بالمعنى الأعم جاءتا في آية واحدة [لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ] ( )، وكأن الكسب والإكتساب مما اذا اجتمعا أفترقا واذا افترقا اجتمعا.
ووردت مادة كسب في القرآن، نحو سبع وستين مرة كلها ابتداء منه تعالى وبلغة الأخبار وصيغ التنبيه والإنذار، والوعد والوعيد، مما يكون قرينة او إمارة على ان الاية هنا جاءت بذات الصيغة وانها ليست من كلام المؤمنين المذكور في الآية السابقة.
بعد اقامة البرهان على عدم التكليف بما لا يطاق وما فيها من البشارة والتنبيه أي ان الحجة على الإنسان تجتمع مع البشارة والوعيد في لفظ واحد من غير تزاحم بينها، ولكن المعنى انحلالي ينقسم الى:
الأول : البشارة للمؤمنين لما يعملونه من الصالحات.
الثاني : الإنذار للكافرين لإقترافهم السيئات.
الثالث : التحذير والتخويف لمن يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
الرابع : الإخبار العام بان أعمال بني آدم تحصى وتجمع.
الخامس : الدعوة الى التدبر بالمكاسب والتجارات ومعرفة طرقها وكيفية الكسب بلحاظ موازين الحلال والحرام.
فالآية تنمي ملكة الرقابة الذاتية عند الإنسان وتجعله يلاحظ أفعاله وأقواله ويعلم انها عرضة للحساب، وبذا يتولى زمام القيادة والتوجيه لأفعاله بملاك الإيمان فيقهر النفس الشهوية والغضبية وهذا من إعجاز القرآن وتأديبه للمسلمين.
وقال الرازي (الفقهاء تمسكوا بهذه الآية في اثبات ان الأصل في الإمساك البقاء والإستمرار، لأن اللام في قوله [لَهَا مَا كَسَبَتْ] يدل على ثبوت هذا الإختصاص، وتأكد ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم “كل امرئ احق بكسبه من والده وولده وسائر الناس اجمعين” واذا تمهد هذا الأصل خرج عليه شيء كثير من مسائل الفقه) ( ).
ولا تتعلق الآية بالملكية الشخصية فالقدر المتيقن منها عالم الأعمال والحساب والثواب والجزاء وهو من أسرار مجيء الآية بلفظ (النفس) كما يمكن معرفــة المراد من لفظ كســب في الآيــات القرآنية بلحاظ القرائن وقوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا] ( )، فليس المراد مقدار السرقة، بل ما كسب من الإثم والتعدي وسلب أموال الآخرين.
والكسب الوارد في حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يراد منه ما يحصل عليه الإنسان من الأموال في سعيه وعمله في التجارات والزراعات والصناعات وما يسمى بقاعدة السلطنة، وليس هو عالم الثواب والعقاب المقصود في هذه الآية الكريمة على نحو الأصل، وتدخل موارد الدخل وكسب الأموال فرع في الآية باعتبار ان المكاسب محصورة بامرين اما ان تكون حلالاً او تكون حراماً، ولكن الآية أعم فتشمل اداء العبادات وفعل المستحبات، واتيان الذنوب واقتراف المعصية.
لذا جاء افتتاح الآية بعدم التكليف بما لا يطاق والإخبار عن قبحه وانه تعالى منزه عن القبيح، ثم جاء هذا الشطر من الآية لمنع الإعتذار عن عدم أداء العبادات بالمشقة والصعوبة فيها، او انه لم يستطع الصبر على الشهوات والمعاصي لما فيها من اللذات التي تميل لها النفس فجاءت هذه الآية بالإخبار عن عدم التكـليف الا بما هو أدنى من الوســع والطاقة وعدم تحمل الإنسان لفعل لم يفعله او فعله غيره.
فالآية من مظاهر العدل الإلهي وتوكيد عدم حصول الظلم والغبن في عالم الأعمال فلا سهو او نسيان او خطأ في عمل الملائكة وكتابتهم لأعمال بني آدم لذا جاءت الآيات القرآنية بالإخبار عن دقة وضبط عمل الملائكة وأهليتهم السماوية لإحصاء أعمال بني آدم، كما ان الآية تبعث الطمأنينة في نفوس المسلمين بعدم فوات عمل صالح من أعمالهم، فانها تقذف الرعب في قلوب الكافرين باخبارها عن عدم تفويت فعل قبيح من أفعالهم.
وأحتج الأشاعرة بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة، وان الفعل السيء يحبط الفعل الصالح لإجتماع الثواب والعقاب فيها بحسب الإستحقاق، وقال الجبائي من المعتزلة: ظاهر الآية وان دل على الإطلاق انه مشروط ويدل على وجود حذف، والتقدير: لها ما كسبت من ثواب العمل الصالح اذا لم تبطله، وعليها ما اكتسبت من العقاب اذا لم تكفره بالتوبة.
والآية أعم ولا دليل فيها على التقييد والحذف الا ان يستقراُ من آيات أخرى في القرآن تكون مقيدة لإطلاق هذه الآية، كما يمكن التفصيل في التقييد وشموله للعقاب ومحوه بادلة التوبة دون الصالحات وثبوتها، وحتى أدلة التوبة فانها مقيدة بان لا يكون الذنب شركاً بالله عزوجل، والا فان الآية لا تبطل الشفاعة وما يتفضل به سبحانه من العفو الإبتدائي والرحمةالنازلة على جميع الخلائق اما الدعاء فيدخل ضمن العمل، ولكن آثاره من رحمته تعالى.
وروى الصادق عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والانس والبهائم، وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده)( ).
وجاءت اضافة الكسب وترتب الأثر على النفس نفعاً او ضرراً للتوكيد على حصول الحساب الأخروي للروح والجسد معاً ولأن النفس تعني قول الإنسان (أنا)

تفسير قوله تعالى [رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا]
بدأ الشطر من الآية الكريمة بالنداء (ربنا) للدعاء من مقام العبودية بصيغ التضرع والخشوع والذل والمسكنة، وهي من أفضل وسائل التقرب الى الله وطلب الحاجة والمسألة، وجاء النداء بصيغة الجمع لتحصيل التداخل في الدعاء ورجاء نزول الرحمة النوعية العامة على المسلمين، وليكون دعاء الفرد منهم نيابة عن الجماعة، فيدعو الواحد منهم ويكون عند الله دعاء للجميع ويتلو المسلم الآية الكريمة بقصد تــلاوة القــرآن او القــراءة في صــلاة الفريــضـة او النافلة فيحتسبه الله عز وجل دعاء للجميع، وهذا من الإفاضات في العبادات ومنافع الفرائض والتكاليف، يفاجئ المسلم بجبل من الدعاء أدخره في حياته الدنيا، وهو يعلم انه لم يقم بمعشار أصل هذا المقدار فيخبر بانه قرأ القرآن في الصلاة، فقد تفضل سبحانه واحتسبها صلاة وأداء لفريضة ودعاء ايضاً من غير تعارض او تداخل بين هذه الوجوه، ولكل اجره وثوابه.
وجاء السؤال بعدم المؤاخذة للنجاة من العقاب يوم القيامة بسبب النسيان اوالخطأ، وتبين الآية الأضرار الناتجة عن النسيان، والنسيان لغة هو الترك والتأخير وهو زوال الصورة عن النفس، بحيث لا تستحضر الا بجهد اضافي جديد بسبب غيابها عن الملاحظة وزوالها عن الحافظة، والنسيان على قسمين:
الأول: ما هو نافع وحسن مثل نسيان ما هو محرم فلا يفعله الإنسان نسياناً.
والآية لا تشمل هذا القسم، واذا همّ الإنسان بفعل محرم، ونسيه فهذا من فضله تعالى دون منافع النسيان، وهذا القسم خارج بالتخصص ولا تشمله مضامين الآية.
وقد يكون من مصاديق قواعد اللطف الإلهي بان يجعل العبد ينسى اتيان الفعل الحرام، او ان ارتكاز الإيمان في حافظة المسلم وبغضه للفواحش يكون سبباً لعدم الإكتراث بالحرام مما يؤدي الى نسيانه، فهذا النسيان له أسباب ومقدمات عقائدية، وهو من منافع امتلاء الجوانح والأركان بالإيمان وعدم وجود موضع للفواحش في تفكير الإنسان وما يهمّ بفعله.
اما القسم الثاني من النسيان فهو فوات الخير والصلاح، وفيه وجوه منها:
الأول : نسيان اتيان الواجب كما لو فاته أداء صلاة الصبح، او أداء الزكاة مع تعلقها بذمته.
الثاني : ارتكاب المعصية ونسيان انها حرام.
الثالث : نسيان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع : عدم الإستعداد ليوم القيامة، والغفلة عن الحساب الأخروي، وهذه الغفلة تجعل الإنسان مقصراً في أعماله.
والنسيان داء يحول دون ايجاد المقدمات المطلوبة للأفعال ويفوت على الإنسان كثيراً من المصالح والمناع الدنيوية والأخروية، والمراد في المقام أعم من السهو والنسيان فيشمل الترك والإهمال وعدم الإكتراث بالواجبات ونحوه مما يلحق بالنسيان، فمن رأفته ورحمه تعالى ان تتوسع دائرة النسيان في حال طلب المغفرة وسؤال العفو عنه فلا ينحصر بمفهومه بما غاب عن الذاكرة.
وجاءت هذه الآية للتخلص من أضرار آفة النسيان وليس هروباً منها بل هو لجوء الى رحمته وعفوه تعالى، فمن فضله سبحانه ان لا يؤاخذ على النسيان مع ان المكلف مأمور باستحضار الواجبات والنواهي ومصارعة النسيان وطرد الغفلة ومن أهتم بشيء لا يفوته، ويستحضره في مدركه بين الحين والآخر، بل ان النائم اذا أفزعه أمر ذهب النعاس والنوم من عينيه دفعة واحدة وانتبه الى ما يجب عليه فعله.
وأهوال الآخرة من الأمور التي يجب ان لا تنسى وقد جعلها الله قريبة الى ذهن المسلم بالآيات القرآنية والسنة النبوية الفعلية والقولية، ويأخذ الإنسان احياناً عهداً على نفسه بان لا ينسى فعل الصالحات واتيان الفرائض ومع هذا تراه يسهو وينسى بعد حين، والله عز وجل لا ينسى ما عاهد عليه العبد ربه ونفسه، فتأتي هذه الآية لطلب العفو وعدم المؤاخذة على النسيان، وهذا الطلب دليل على التقصير والذنب بحصول النسيان وانه ليس امراً قهرياً خارجاً عن ارادة الإنسان، بل بامكان الإنسان الحيلولة دون حصوله والوصول بالحال الى غياب الأوامر عن الحافظة.
نعم قد يسهو المكلف عن بعض واجباته ولكن عليه أن لا ينسى، والسهو زوال الصورة عن المدرك خاصة دون الحافظة، بحيث لو اراد الإنسان تذكرها استحضرها بقليل تأمل واستدراك، اما النسيان فهو زوال الصورة عن المدرك والحافظ معاً، فيحتاج الى جهد لأستحضرها وقد يتعذر عليه استحضارها، لذا لم تأت الآية بمنع النسيان فلم تقل الآية (ولا تجعلنا ننسى) او (أبعد النسيان عنا)، لأنه جزء من خلق الإنسان وتكوينه وفرع قدراته المحدودة.
ولأن عدم النسيان من التكليف بما لا يطاق وقد وعد سبحانه بانه لا يكلف النفس الا وسعها وهي مصابة بداء النسيان فلذا جاء الدعاء استثماراً لأول الآية وللإقرار بان من خصائص النفس النسيان، ومن التكليف بالوسع ان لاتؤاخذ على النسيان، وفي الدعاء ايضاً منع للتشديد على النفس وحث على الإنتفاع من الرخص الإلهية، وذهب جماعة من الأشاعرة الى الإستدلال بهذه الآية على جوازالتكليف بما لا يطاق لعدم قدرة الإنسان على الإحتراز عن الفعل، والخلاف صغروي ومضامين الرحمة في الآية عامة ومطلقة.
وقالت الآية [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا] ويحتمل أمرين:
الأول: ان نسيان بعض الواجبات ليس عذراً لأن الواجبات المفروضة جاءت بلحاظ مقدرة الإنسان على التذكر واستحضار الفرائض في أوقاتها او لاحقاً لإمكان التدارك بصلاة القضاء.
الثاني: خروج موارد النسيان من الوسع، فما ينساه المكلف يعتبر خارج الوسع، ويسقط عنه التكليف به.
والأصح هو الوجه الأول، ان التكليف مطلق وواجب على الإنسان ان يستحضر حكم الشريعة في أقواله وأفعاله وساعات ليله ونهاره ولو في الجملة وانت ترى ان اقل التفات الى الشريعة وأحكامها يجعل الإنسان يستحضر التكليف الشرعي لتبدأ بعد ذلك مرحلة الإمتثال او لمعصية والتضرع.
والدعاء بعدم المؤاخذة على النسيان يدل على الإستعداد للإداء والإمتثال وعدم المعصية، لأن المعصية أشد رتبة وضرراً من النسيان لما فيها من القصد والعزم على اقتراف الإثم، فيكون ترك المعصية من باب الأولوية القطعية فسؤال عدم المؤاخذة على النسيان دليل صدق الإيمان واخلاص النية والعزم على الإمتثال الأحسن والخشية من الحساب والعقاب الشديد يوم القيامة.
فالمؤمنون لم يتلقوا الأحكام الشرعية الا بالقبول الحسن والرضا والعزم على الإمتثال ولكنهم يخشون آفة النسيان، ولم ينسبوها الى الشيطان ونزغه خشية ان تقوم الحجة عليهم يوم القيامة بالتقصير وحصول أسباب ذاتية للنسيان، والله عزوجل واسع كريم يجب ان يسئل فلذا جاء الدعاء بنسبة النسيان للنفس والذات كما جاء السؤال بذكر النسيان مطلقاً من غير ذكر لمقداره وكمه وكيفيته ومناسبته وعدد مراته وأسبابه وجاءت الإستجابة بالأعم والأوفى، ولعدم التشديد على النفس في الدعاء بالأقل والمعدود، خصوصاً وان حالات من النسيان تفوت الإنسان وهو لا يعلم انه قد نســى التكليف فيها، كما لو فاتته صلاة العصر وهو يظن انه صلاها، او انه صلاها من غير طهارة سهواً ونسياناً او فاتته ركعة منها، وترك الركعة مبطل للصلاة سواء كان عن عمد او سهو.
ولكن الدعاء رجاء العفو ومن النسيان ما يتعلق بحقوق الناس سواء الظلم والتقصير ازاءهم عن نسيان او حصوله عن عمد وقصد ولكن المكلف ينسى رد المظالم واعادة الحقوق لإهلها والإعتذار منهم والإستغفار لهم.
فتشمله اطلاقات الآية لأن السؤال جاء بعدم المؤاخذة على النسيان مطلقاً من غير تقييد بالعبادات والفرائض.
وهل الآية سبب لدبيب النسيان الى النفس باعتبار ان الآية مطلقة وشاملة لكل نسيان، الجواب: لا، فمن التكليف بالوسع ان لا تغلب حال النسيان المكلف في الجملة، ولا يحصل النسيان الا على نحو الأفراد القليلة، لذا وردت أحكام الشك في الصلاة لتدارك الصلاة واتمامها، وأفرد باب فيها لكثير الشك الذي لا يعتبر شكه، كما لو شك مرة في كل ثلاث صلوات متتالية من غير عروض عارض من خوف او غضب ونحوه.
وجاءت الآية بصيغة الجمع [نَسِينَا] وفيها وجوه:
الأولى : الآية انحلالية والمراد نسيان كل مكلف على انفراد وعلى نحو القضية الشخصية في بعض الأوامر او النواهي.
الثانية : فوات جماعة من المكلفين الأداء والفعل.
الثالثة : نسيان الأمة لفعل مخصوص من التكاليف من جهة الإطلاق الزماني.
الرابعة : عروض النسيان للأمة في قضية شخصية وفعل معين، كما لو كان اداء فعل عزيمة ثم قال الفقهاء في زمن لاحق انه رخصة ويجوز تركه، او بارجاع الأداء ونوعه الى العرف، الذي هو في تغير وتبدل.
والأصح ارادة الأول والثاني من الوجــوه الأربعـة اعلاه دون الثالث والرابع، فقد جعل الله عز وجــل القرآن حارساً على الإمتثال العام لأحكام الشــريعة، واماماً يقتـدى ويفضح التقصير ويمنع من وصول النقص والخلل في الأداء الى حد الإنتشار والتفشي والظاهرة العامة.
لقد اراد الله عزوجل لأحكام الإسلام البقاء في الأرض بصيغة الأداء والإمتثال النوعي العام، وطرو النسيان الفردي لا يضر به لذا جاءت الآية بسؤال عدم المؤاخذة على النسيان، ولم تتعد السؤال وطلب المغفرة، فلم تقل هذه الآية او آية غيرها في القرآن ان الله لا يؤاخذكم على النسيان، مما يعني ان المسألة تعليقية وتتوقف على عفوه ورحمته تعالى وتستلزم الإلحاح بالدعاء لذا وردت في موضع خاص من القرآن هو خاتمة سورة البقرة.
والنسيان الذي يصيب الإنسان يتعلق بالإعتقاد والأفعال والحقوق او القدر المتيقن ما يفوت الإنسان مما يدرك وجوب فعله او لزوم تركه من غير نسيان للمعتقد والأصول لخروجها بالتخصص وورود الآيات القرآنية التي تحذر من تعدي النسيان وطغيانه وغلبته على الإنسان قال تعالى [فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا] ( ).
ولابد من محاربة آفة النسيان الذاتية والغيرية، بمعنى على المكلف ان يجتهد في استحضار ما يجب عليه في يومه وليلته، ويسعى للتخلص من النسيان قدر الإمكان، ويحث غيره على واجباته ويدعوه للمستحب ويعاونه على طرد النسيان، لذا تجد تشريع الأذان في الصلوات اليومية آية اعجازية لتذكير المسلمين بوقت وأداء الصلاة، وفيما يتعلق بالآية فان من فلسفته طرد النسيان واللطف بالعباد للتذكير بالصلاة ووجوب ادائها، فالمسلمون سألوا عن المؤاخذة على النسيان، فجاءت الإستجابة مركبة من ايجاد الوسائل والأسباب التي تحول دون النسيان مثل الأذان للصلاة، والشيب علامة لدنو الأجل، والمرض للتذكير بنعمة الصحة وحتى العطاس يأتي سبباً بدنياً للقول الحمد لله فيحتسبها الله عزوجل شكراً على نعمة العافية ومناسبة لتجديد دوامها.
نعم قد يغفل المكلف مع ورود هذه الأسباب والمقدمات الا انها غفلة على نحو القضية الشخصية وهي مضمون الدعاء في هذه الآية وكما تنفع تلك المقدمات المسلم فانها تنفع الكافر لما فيها من لغة الإنذار والتنبيه والدعوة الى الإسلام.
وعن ام الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ان الله تجاوز لأمتي عن ثلاث عن الخطأ والنسيان والإستكراه)( )، واخرجه البيهقي في سننه عن ابن عباس، وابن ماجة عن ابي ذر.
وفي الخبر عن الصادق عليه السلام: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وضع عن امتي تسع خصال: الخطأ، والنسيان، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، وما استكرهوا عليه، والطيرة، والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد)( )، ويسمى هذا الحديث حديث الرفع.
وروي عن ابي بكرة وابن عــمر وثوبــان وعقبة بن عامر وابي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واخــرج عن سـعيد بن منصور والحســن البصري قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجاوز الله لابن آدم عما أخطأ وعما نسى وعما أكره وعما غلب عليه( ).
وهذا الحديث يدل على الإطلاق في بني آدم ولكنه ضعيف بالإرسال، ولا ينهض لمعارضة النصوص المستفيضة الواردة عن الصحابة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اختصاص المسلمين بحديث الرفع وليس بني آدم مطلقاً، ودل على هذا الإختصاص ان الآية جاءت على نحو الدعاء والتضرع والتوسل اليه تعالى ومن مقام الإيمان، باعتبار انه علة التأهيل لهذا السؤال كما ان سعيد بن منصور نفسه اخرج عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تجوز لهذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا اليه).
علم المناسبة
لم يرد لفظ (تؤاخذنا) ولا لفظ (نسينا) بصيغة الجمع الا في هذه الآية الكريمة، ولم يأت لفظ (يؤاخذ) بصيغة الجمع الا لله تعالى سواء بصيغة الجمع، او فعل مخصوص او ارادة المفرد، ومن الأول قوله تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ]( )، وفيه بيان لموضوع عدم المؤاخذة على نحو العموم الاستغراقي في حكم مخصوص.
ومن الثاني ما ورد في موسى وفي التنزيل [قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ]( )، فهذه الآية جــاءت بلغة المفــرد وهــي خاصـة في الإحتجاج بين موسى والخضر، وهو من أمر الله تعالى وآياته الباهرات.
فالآيات اعلاه تبين موضــوع عــدم المؤاخذة ويتعـلق بأفراد شخصية، اما ترك الواجــب وعــدم أدائه حتــى فوات وقته فلا دليل على عدم المؤاخذة عليه من الــقرآن الا عــمومات الدعـــاء في هـذه الآية، ومنه يعرف اهميتها في عالم الحساب ودفع العقاب، نعم ورد في السنة حديث الرفع وفيه تخفيف وبشـــارة رفع العقـاب عن موارد النسيان عن افراد الأمة بمعنى مع بقاء الناســي على نهج الإسلام وتعاهده لمبادئه.
وقد جاء كلام موسى مع الخضر في عدم المؤاخذة على النسيان، اما المسلمون فانهم سألوا ربهم عدم المؤاخذة على النسيان، ولا يعني هذا التفضيل على موسى عليه السلام، لأن الأنبياء سادة الأمم وأشرف الخلق أجمعين، وفيه أمور:
الأول: ان كل آية مستقلة عن الأخرى، ولا ملازمة بين موضوعي المؤاخذة في الآيتين.
الثاني: ان موسى معصوم ولا ينسى وظائفه وواجباته.
الثالث: ان عمل الخضر عن أمره تعالى، لذا ورد عنه في التنزيل [وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي] ( ).
الرابع: ان نسيان موسى لم يكن في العبادات والتكاليف الشرعية بل جاء في مسألة شخصية تدخل ضمن المباحات.
الخامس: ما ورد في الآية محل البحث يشمل المؤمنين جميعاً في كل الأزمنة، والأنبياء قادتهم.
وفي كل الأحوال تعتبر هذه الآية من مفاخر الإسلام وشهادة على بلوغ المسلمين مراتب الإيمان والتقوى وادراكهم لفوات بعض الأعمال لا عن عمد بل بسبب السهو والنسيان، فلجأوا الى الله مجتمعين مستغيثين طالبين التجاوز.
وجاءت الآية باداة الشرط (ان) فلم تقل ولا تؤاخذنا على النسيان، انما قيدته باداة الشرط أي في حال حصول وطرو النسيان للإتكال عليه تعالى في اجتناب النسيان على نحو الموجبة الكلية او الجزئية، فالدعاء مقدمة للنسيان المحتمل، وليس سؤالاً لإسقاط اثر النسيان حتمي الوقوع، وبينهما فرق كبير، فالآية تظهر أدب العبودية وحرص المؤمنين على عدم النسيان ولجوئهم الى الدعاء لسد الفرج ومنع ترتب الإثم، والآية اعلان عن سعي المؤمنين لعدم نقص الثواب في الآخرة.
وقد ورد ذكر النسيان في شهادة المرأة وهو جزء علة لتعدد المرأة في الشهادة بدلاً عن الرجل لتكون كل واحدة عضداً للأخرى في التذكير والتنبيه واستحضار تفاصيل الشهادة.
وهنا جاء النسيان مطلقاً وشاملاً للرجل والمرأة، لإحتمال طروه على الإنسان، وتمنع الآية من التفاخر بعدم النسيان، (ويحكى ان رجلاً قال اني لا انسى وعندما قام من المجلس قال لغلامه أءتني بنعلي، قال: هما في رجليك).
والنسيان آفة تؤكد ضعف الإنسان ودليل نقصه، وانه من عالم الإمكان، وتبين حاجته الى الله تعالى في طرد النسيان.
ويرد النسيان بمعنى الترك أي ان الدعاء يتعلق بترك العمل بسبب القصور في الفهم او العجز عن التأويل الصحيح او الإهمال والتقصير ولكنه في هذه الحالة يتداخل احياناً مع الخطأ فجاءت الآية بالمعنى الأعم الشامل للنسيان والخطأ.

تفسير قوله تعالى [أَوْ أَخْطَأْنَا]
الخطأ ضد الصواب ويأتي بمعنى العثرة والزلة والغلطة ويقال أخطأ الطريق: عدل عنه، وأخطأ الرامي الغرض: لم يصبه، ويقال ان أخطأت فخطئني وان اصبت فصوبني وان أسأت فسوئ علي أي قل لي قد أسأت( ).
والخطأ الذي يأتي من غير قصد او عمد لذا ورد موضوع وحكم قتل الخطأ لعدم ارادة قصد القتل، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً]( ).
وقال الأموي: المخطئ من أراد الصواب، فصار الى غيره، والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي، وعن ابي الهيثم: خطئت: لما صنعه عمداً، وهو الذنب، واخطأت: لما صنعه خطأ غير عمد ( ).
ولا دليل على هذا التفصيل، وورد لفظ (الخاطئين) بصيغة الجمع خمس مرات في القرآن، وتدل كل واحدة منها على فعل الذنب عن عمد وقصد سواء تلك التي ورد فيها اســتغفار كما في أخـوة يوسف [لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ] ( )،او التي تأتي في وصف أهل النار وعاقبة جحودهم كما في قوله تعالى[وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ * لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ] ( )، والخطيئة الذنب على عمد، والإثم.
لقد جاءت الآية مطلقة من غير تقييد، ترى ما هي النسبة بين النسيان والخطأ، الجــواب: العمــوم والخصــوص من وجه، فانهما يلتقيان في أمور ويفترقــان في أمور، فمــادة الإلتقاء تفويت الفعل المطلوب وعدم الإمتثال للخطاب التكليفي وعدم حصول البراءة وكلاهما يســبب اضراراً، ومــادة الإفــتراق شـمول النسيان للترك مطلقاً، أما الخطأ فقد يتضمن اتيان خلاف المأمور به، وفعل ما هو قبيح شرعاً.
وقدمت الآية النسيان على الخطأ، وفيه وجوه:
الأول: ابتدأت الآية من الأدنى، وهو النسيان.
الثاني: لو طرح سؤال ايهما اكثر في أعمال المؤمنين النسيان ام الخطأ.
الجواب مركب من مسألتين:
الأولى: كلاهما قليل بالقياس الى حسن الإمتثال واتصاله.
الثانية: النسيان هو الأكثر، والخطأ هو الأقل، ومن بين علل تسمية الإنسان النسبة الى النسيان، وورد في آدم [فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا]( ).
الثالث: قدم النسيان مع أنه أخف وطأة من الخطأ، لإظهار المؤمنين الإرادة والعزم على اجتناب السيئات، والتوقي من الخطأ، والسعي لتداركه في حال وقوعه.
الرابع: في الآية تأسيس لقاعدة أخلاقية وهي البدء بطلب الأسهل والأدنى منه تعالى ثم التدرج الى الأكثر والأعلى، وهذا أمر خاص به سبحانه، فالناس حينما يسئلون يصعب عليهم الإستجابة للطلب خصوصاً اذا كان أكبر من الأول، ولكنه تعالى يحب الإلحاح بالدعاء وسؤال الحوائج منه.
الخامس: تبين الآية جانب الخشية، وان المؤمنين يخشون النسيان أكثر، فقد يطرأ بسبب الإنشغال بأمور الدنيا ومسؤوليات الأسرة والسعي للكسب وطلب الرزق.
وجاءت الآية بصيغة الجمع وتشمل اموراً:
الأول: الإنحلال الى الأخطاء الشخصية، وان كل مؤمن يتعرض للخطأ ويقع فيه.
الثاني: الخطأ النوعي العام، وان المؤمنين يقعون في خطأ عام بتأويل فاسد أو قصور من غير عمد، وكل منهما على أقسام ثلاثة:
أولاً: ما يكون قضية في واقعة أي يحصل لمرة واحدة.
ثانياً: ما يتكرر من قبل ذات الفرد او الجماعة.
ثالثاً: ما يكرره الأشخاص بالنسبة للأول وما يبقى في أجيال متعاقبة بالنسبة للثاني أعلاه.
والدعاء توسل وتضرع الى الله وهو في مفهومه يدل على أخذ الحائطة للدين وانه جاء على نحو التقدير والإقرار بالضعف والوهن امام النفس الشهوية والغضبية واحتمال استحواذ الشيطان على السلوك والفعل في حالة ما.
والخطأ على وجهين، أما ان يأتي عن تأويل ومن غير عمد، او يكون عن عمد وقصد، وبينهما تباين ومرتبة في القبح وترتب الأثر لأن الثاني أشد من الأول وهو معصية وذنب، ولحاظ الآية يظهر ان الخطأ ما يتعلق بالحادثة والواقعة.
والظاهر ان الخطأ أدنى مرتبة من الذنب والإثم وان جمعوا بينهما في اللغة ويبدو من نظم الآيات ولحاظ لفظ الخطأ والخطيئة ان الخطأ أقل مرتبة ودرجة من الخطيئة بلحاظ القصد والنية، لذا جاء الإعتذار وسؤال عدم المؤاخذة عن الخطأ قبل حصوله، والإستغفار عن الخطيئة بعد حدوثها كما جاء في لسان ابراهيم في التنزيل [وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ] ( )، وان الخطيئة تتعلق بالمرة الواحدة ولابد ان ابراهيم ذكرها في الدعاء للتضرع واظهار العبودية وتعليم المسلمين الإستغفار وعدم الإستكبار.
وقيل المراد من خطيئته قوله (ان سارة اختي) وقوله [فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ] ( ) والخطأ اعم فيشمل المرة الواحدة والأكثر منها لكنه أقل رتبة من الخطيئة لترتب الإثم على القصد والعمد، ولكنه لا يعني انحصار الإثم بالقصد والعمد لموضوعية ترتب الأثر الواقعي من الفعل، كما في القتل خطأ، فانه يؤدي الى ازهاق الروح وكذا الأخطاء التي تسبب اضراراً مادية واعتبارية، فجاء الإعتذار وتقديم سؤال العفو عن الخطأ، وكذا بالنسبة للحكم الشرعي في ترتب الدية والكفارة على قتل الخطأ قال تعالى [وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ] ( )، وهذا القتل من عمومات الآية وطلب عدم المؤاخذة عليه.
وهل في الآية اغراء بالمعصية او بعدم توخي الدقة في الفعل، الجواب: لا، لأن الله عزوجل جعل عند الإنسان رسولاً باطناً وهو العقل وجعل التكليف ملازماً لأقواله وأفعاله فما من فعل الا ويكون مصداقاً لواحد من الأحكام التكليفية الخمسة بل العكس هو الصحيح فان الإعتذار المسبق من الخطأ يؤدي الى أمور وهي:
الأول: الإقــرار بالضــعف والعجز عن توخي الدقة في الأقوال والأفعال.
الثاني: جاء الســؤال للإحــتياط والإحــتراز من تــدوين الذنــوب والآثام.
الثالث: تدل الاية على اعتراف المؤمنين بان الخطأ لا يخلو من سوء العواقب وانه لا يترك سدى.
الرابع: الآية دعوة للعمل والسعي والكسب فقد تؤدي خشية الخطأ وترتب الأثر عليه ببعض المؤمنين الى اجتناب العمل والمبادرة فاذا دعي الى الشهادة كما في موضوع الآية (282) من سورة البقرة فانه يعتذر خشية الوقوع في الخطأ وحصول النسيان، واذا طلب منه الخروج الى الثغور او النفير امتنع خوفاً من قتل المؤمن خطأ، واذ ا احتاج الكسب وطلب الرزق عملاً يحتمل الخطأ أبتعد عنه وهو يظن ان هذا الإبتعاد من التقوى والصلاح والحرص على ملاقاة الله عز وجل من غير ذنب سواء كان عن عمد او خطأ.
فجاءت الآية لتخرج الخطأ من عالم الذنوب يترتب عليها الإثم بالتوسل الى الله تعالى وتحث المؤمنين على العمل والكسب وان احتمال حصول الخطأ ليس برزخاً دون العمل والسعي فالآية تمنع من الإحتياط المخالف للإحتياط.
الخامس: لقد أختتمت الآية السابقة باقرار المؤمنين بالمعاد بقوله تعالى [وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ] فجاءت هذه الآية إستعداداً للمعاد والإحتراز مما يترتب على الخطأ من الآثام والحساب.
السادس: استحضار الخطأ والإعتراف بحصوله سبب للإلتفات في أداء الأعمال والحرص على اجتناب الخطأ والزلل.
السابع: الآية تخفيف عن المسلمين ومنع من التشديد على النفس وترجيح جانب الخطأ عند الشك في حدوثه.
الثامن: في الآية اشاعة لروح التسامح والعفو بين المسلمين، ونشر لغة الإعتذار، وقبول دعوى الخطأ، فاذا أدعى أحدهم حصول الفعل منه خطأ يقبل الآخر وفيه نص.
قاعدتان جديدتان
يمكن استقراء قاعدة كلامية وفقهية من الآية، وهي لو دار الفعل المخالف للصواب بين الخطأ والعمد، فالأصل الخطأ بمعنى وجود وجوه ثلاثة هي:
الأولى : العثرة والزلة خطأ.
الثانية : الغلط والذنب عن عمد.
الثالثة : الزلة والغلط المردد بين الخطأ والعمد.
وليس من دليل او امارة او قرينة تدل على اعتباره من أحدها، فتعتمد فيه القاعدة أعلاه ويعتبر خطأ.
وفي القواعد الفقهية هناك قاعدة تسمى (اصالة الصحة) وهي حمل عمل المسلم على الصحة، ولكن المقام يختلف لأنه يتعلق بما لو شككنا بالفعل هل هو صحيح او خطأ، كما لو شك في الوضوء او الصلاة هل كانت تامة او ناقصة فالأصل الصحة، اما هنا فالخطأ متيقن ولكنه الشك فيما اذا كان عن خطأ و عمد، ويمكن ان نسميها (اصالة عدم العمد) وتدل عليها عمومات (ادرؤوا الحدود بالشبهات).
ولم يرد لفظ (اخطأنا) في القرآن الا في هذه الآية وجاء على نحو الإعتذار المتقدم الذي يدل على التقيد الحسن بآداب العبودية.
والقرآن يفسر بعضه بعضاً ولكن الجمع بين هذه الآية وقوله تعالى [وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِه] ( )، يدل على حقائق واشراقات قرآنية خاصة ويبين قاعدة كلية وهي ان الله عزوجل استجاب لدعاء المؤمنين وانه سبحانه خص المسلمين بهذه النعمة والفضل العظيم.
فتجد في القــرآن الدعــاء والإســتجابة له، ويمـكن ان نسميها (قاعدة الإستجابة).
نعم يمكن ان تناقش النسبة بين عدم المؤاخذة الوارد في هذه الآية بصيغة الدعاء ونفي الجناح الوارد في سورة الأحزاب ولا تعارض بينهما، فكل دعاء وارد في القرآن على لسان أحد الأنبياء او على لسان المسلمين لابد من الإجتهاد والبحث في آيات القرآن، عن الإستجابة له على نحو الموجبة الكلية او الجزئية.
وهو علم جديد يبين الإعجاز القرآني وما فيه من البشارات والدلائل على عدم تضييع او فوات دعاء شخصي للمسلم يوم القيامة بمعنى ان مضامين قاعدة الإستجابة بطرفيها الدعاء والإستجابة حث للمسلمين على الدعاء واخبارعن حصول الإستجابة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد يقال كيف يتجــرأ المؤمنــون ويطلــبون عــدم المؤاخذة على الخطأ وهذا الطـلب خلاف مضــامين العــبودية والإنقــطــاع الى الله، ومن كان عاشقاً منجذباً الى محبوبه فانه لا يرتكب ازاءه الخطأ ويكون شديد الحرص على اجتناب الغفلة عنه فترك الخطأ يكون من باب الأولوية.
وهذا الكلام صحيح ولكن الذي أرجح وأفضل منه هو الإعتذار المتقدم عن الخطأ المقدر والنســيان المحتــمل لما جبلت عليه النفس الإنســانية من الضــعف والفتــور وغياب المعـاني عن الذاكرة احيانا وغلبة النفس الشــهوية او الغضــبية بالإضــافة الى وسـاوس الشيطان، ولا يريــد المؤمنــون تـرك منــازل الرق والعبــودية والدعــاء للحرص على البقاء في منازل العبودية والرق وساحة القرب منه تعالى وعدم الخروج عن رضاه ورحمته، واتخاذ الدعاء وســيلة لقـهر الطــباع والتغلب على آثار النقص والإمكان في ذات الإنسان، والنجاة من غضبه وسخطه تعالى.
ولأنه تعالى قال [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( )، فجاء الأمر بالدعاء وموضوعه على نحو الاطلاق، وتتجلى موضوعية صيغة الجمع في الدعاء لمنع الحرج وللحاجة الى هذا الدعاء في موضوعه، ولتوكيد معرفة المسلمين باستجابته تعالى.
ومن مفاهيم الآية وسؤال العفو عن النسيان والخطأ اجتناب الكبائر والفواحش والخطايا والذنوب، فمن يسأل الأدنى فانه يعلن كفايته في الأكثر والأكبر، ولكن تلك الكفاية لم تأت منهم على نحو الموجبة الكلية، بل بالتوفيق والهداية منه تعالى.
لقد فرح المؤمنون بعدم التكليف بما لا يطاق، وبحصر الواجبات بوسع وقدرة الإنسان، وارادوا استثمار نعمتين هما:
الأولى: الإيمان وما يعنيه من الإقبال على الطاعات وملكة اتيان الواجبات.
الثانية: سلاح الدعاء واغتنام المســألة والتضرع الى الله عزوجل، والدعاء باب فتحه الله لخاصــة عباده وهو سبحانه يحب أن يُسئل فجاء السؤال في الآية سابقاً لأوان الفعل وتلك خصوصية امتاز بها المؤمنون، وبه ينفرد السابقون في الإيمان عن الذين ينخرطون في صفوف المؤمنين بعد هجر الكفر والذنوب والمعاصي، فهؤلاء يتوجهون الى الإستغفار وطلب المغفرة لذنوبهم وخطاياهم وهي أعم من النسيان والخطأ.
اما المؤمنون فانهم قدموا سؤال عدم المؤاخذة على النسيان والخطأ مع استعدادهم للطاعة حتى في موارد النسيان والخطأ الا أن يأتي سبب غالب وقاهر للطباع والملكة والقصــد المرتكز في الذهن، نعم من يتوب الى الله تشمله عمومات الآية فيما ســيأتي من افعاله لأنه يكون بعد التوبة ودخول الإسلام والإقرار بالقلب من المؤمنين ويكون له ما لهم وعليه ما عليهم.
وهل يمكن القول بان دعاء المؤمنين ذو اثر رجعي عام، واعتبار الإستصحاب القهقري في دعاء التائبين الجواب: لا، خصوصاً وان الآية جاءت بصيغة المضارع.

تفسير قوله تعالى [رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا]
تبين الآية الإرتقاء العقائدي عند المسلمين واحاطتهم بعالم التكليف بمنظار القبول والرضا مع استثمار مقام العبودية للتخفيف، فالمتعارف ان العبودية عنوان الخشوع والتلقي والإمتثال ولكن الآية تظهر اشراقات كريمة لمنازل الذل والخضــوع تتجلــى بسؤال قلة التكاليف وتخفيفها ضمن الوسع والقدرة، فوسع الإنسان من الكلي المشكك وليس المتواطئ وله مراتب متعددة منها أقصى الوسع وأدنى الوسع، فجاء السؤال رجاء عدم التشديد ضمن الوسع ومنع الإحتجاج على المسلمين بان هذه التكاليف قد فرضت على الذين من قبلكم مما يدل على انها بوسع الإنسان خلقة وتكويناً.
لقد التفت المسلمون الى تقصير الأمم السالفة وعدم قيامهم بالتكاليف فسألوا ما يكون برزخاً دون تقصيرهم ولا يكون مانعا ًمن تعاهدهم لجميع التكاليف لم يرضوا بتبعيض الأحكام وأخذ بعضها لسهولته ويسره وترك الآخر لمشقته وشدته، فاختاروا الدعاء لإسقاط الأشد لأن التكاليف لا تنحصر بالمؤمنين ايام التنزيل والرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم، فيرون الآيات ويتابعون التنزيل بهداية وقبول، بل ان التكاليف تشمل اجيال المسلمين وأحوالهم المختلفة وانشغالهم بامور الحياة ومشاق المعيشة، فسألوا الشريعة السمحة التي تجعل اداء التكاليف ميسوراً لكل مسلم.
ثم ان هذا السؤال فرع قوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا] أي ان الله عز وجل اراد لهم هذا السؤال وهيء مقدماته بوعده الكريم بعدم التكليف بما لا يطاق، فالدعاء الوارد في الآية من عمومات قاعدة اللطف الإلهي والإرشاد الى الأفضل والأحسن والأتم من الأفعال، ولا يعلم أحد قدر المنافع العظيمة لهذه الآية الكريمة بالتخفيف عن المسلمين وجعل هذا التخفيف سبباً لإستدامة واداء الفرائض والتقيد بالأحكام الشرعية.
فمثلاً في باب الزكاة ذكر ان بني اسرائيل أمروا بدفع ربع أموالهم زكاة، اما الإسلام فجاءت الزكاة بنسبة قليلة قدرها في الغالب ربع العشر أي (2,5%) من الفائض عن المؤونة وفق شرائط النصاب والحول ونحوه، مما يجعل أكثر المسلمين خارجين من احكام دفع الزكاة، ومع ان الزكاة فرض وواجب الا انها لا تجب في الواقع الا على نحو عشر المسلمين في اغلب الأحوال والأمصار ثم انها لا تخرج عن المسلمين بل تعود الى فقرائهم وفي المنافع العامة، ولو كان مقدارها أكثر لاحتمل تخلف عدد من المســلمين، فكان هذا التخلف ســبباً في الإثم خصوصاً مع الأحاديث الواردة بان منكر الزكاة كافر، ولأخذ هذا العدد بالإزدياد في أحيان كثيرة للمحاكاة والتقصير والإهمال وحب المال وظن الإصر والشدة والخوف من الفاقة وشبح الفقر.
وبلحاظ (قاعدة الإستجابة) التي أسسناها في تفسير هذه الآية يمكن متابعة وجوه الإســتجــابة لدعـاء المؤمنين في الأحكام الشرعية ورفع الإصــر في باب العــبادات والمعاملات الى جانب النصوص الخاصة في المقام، فالصلاة عمود الدين ولا تترك بحال فمن التكليف بالوسع والطاقة وجمعاً بين الأداء وحال المكلف جاء التخفيف بادائها عن جلوس أو اضطجاع بالنسبة للمريض وكذا في الوضوء وموارد التخــفيـف بالانتقال الى الطــهارة الــترابية مع ادنــى مشــقة في البحث عن الماء.
قاعدة جديدة
ومن التخفيف في المعاملات حق الرجل في نكاح أربع زوجات، وهذا التخفيف شامل للرجل والمرأة في آن واحد ومنافعه عامة للجتمع والعقيدة وفي ميدان الأخلاق وهو عون على العبادات ذاتها، مما يدل على وجود قاعدة ومدرسة خاصة في الإسلام نطلق عليها عنوان (التكامل والتخفيف) باعتبار ان التخفيف وسيلة لسلامة أحكام الشريعة وطريق للأداء الأتم ومناسبة كريمة للتكامل الدائم في ميادين العمل والإمتثال، والأداء النوعي الأقل أفضل من الأداء الشخصي الأكثر، بمعنى ان يصلي كل مسلم صلاة ركعتين ويواظب عليها في وقتها أفضل من ان يصلي واحد من جماعة منهم مائة ركعة بين الطلوعين دون الآخرين.
بحث فقهي
لقد جــاءت العبادات عينية لا فــرق فيها بين الغنــي والفقير، والحاكم والمحكوم، والسيد والعبد الى جانب الواجبات الكفائية، وشرعت صلاة الجماعة لتكــون عــنواناً دائمـاً للتخفيف مع الترغيب فيها والدعوة اليها وجعل ثوابها عن ثواب خمس وعشرين صلاة انفرادية.
روي عن ابي سعيد الخدري، وعن عبد الله بن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)( ).
وفي الخبر عن الإمام قال: (همّ رسول الله صلى الله عليه وآله باحراق قوم في منازلهم كانوا يصلون في منازلهم ولا يصلون الجماعة، فأتاه رجل أعمى فقال: يا رسول الله أنا ضرير البصر وربما أسمع النداء ولا أجد من يقودني إلى الجماعة والصلاة معك، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: شد من منزلك إلى المسجد حبل واحضر الجماعة)( ).
وقال بن سيد الناس: (اختلف العلماء في الصلاة التي أراد رسول الله صــلى الله عليه وســلم احــراق بيــوت المتخــلفــين عنها ما هي، فقيل هي صلاة العشاء وقيل العشاء أو الفجر وقيل الجمعة وقيل كل صلاة)( ).
وقد يقول قائل ان شد الحبل من المنزل الى المسجد من التشديد والإصر خصوصاً وان صلاة الجماعة مستحبة وليس واجبة، والجواب من وجوه:
الأولى : التخفيف في ذات الصلاة وأدائها جماعة وسقوط القراءة عن المأمومين وطرد الشك.
الثانية : التخفيف نوعي عام يشمل كل المسلمين فلا اعتبار للقضية الشخصية بالنسبة لواحد من المسلمين، والثواب العظيم لهذا الشخص يستحق شد الحبل.
الثالثة : حضور الأعمى مع شد الحبل حجة على الآخرين المبصرين والأصــحاء للمواظبة على حضور الصلاة من باب الأولوية القطعية.
الرابعة : الأمر بشد الحبل لتوكيد أهمية حضور صلاة الجماعة وليس على نحو اتيان الفعل ذاته الذي يكون شاقاً في أحيان كثيرة اذا كان يمر على بيوت وابواب عديدة تفصل بين بيت الأعمى والمسجد، مع قطعية امكانه وحصوله آنذاك بالنسبة لصاحب المسألة.
الخامسة : شد الحبل ليس من التشديد والإصر ولكنه قائد شخصي واستغناء عن الغير في مرضاة الله واتخاذ للآية بدل الحاجة الى الإنسان، وتدل عليه التطورات والصناعات الحديثة كالسيارة في النقل والآلة الكاتبة والإستنساخ وادوات الطهي والهتف وغيرها.

قاعدتان أصوليتان
يمكن استقراء قاعدة من هذا الحديث وهي (تقديم النفع العام على التشديد الخاص) وليس الضرر الخاص فحسب، فلا ضرر على هذا الأعمى والإسلام خال من الضرر العام والخاص لعمومات قاعدة (لا ضرر ولا ضرار).
وبذا يمكن ان نستخلص قاعدة أخرى منه تتعلق بالتخفيف وهي (خلو التخفيف من الضرر) فالتخفيف مناسبة لمنع الإصر والثقل والشدة.
بل ان شد الحبل نفسه تخفيف بالإكتفاء به عن القائد وبنيل الثواب العظيم للجماعة به، ومنع الحسرة عن النفس عند الحرمان من صلاة الجماعة، وفيه تخفيف عن الذات والغير بالبحث عن القائد.
بحث عقائدي
تدل الآية على وجود إصر عند الإمم والملل السابقة فهل يحق لهم الإحتجاج بانهم تخلفوا عن واجباتهم بسب الإصر وان المسلمين استمروا في أداء واجباتهم بسبب عدم الإصر والثقل، الجواب: لا، من وجوه:
الأول : جاءت الآية على نحو الدعاء وهو باب مفتوح للإنسان منذ خلق الإنسان وانتفع منه ابو البشر آدم عليه السلام، قال تعالى [فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ] ( )، أي ان الدعاء أول ما بدء به آدم حال نزول الأرض وان الإستجابة اقترنت به، فكان في ميسور الأمم السالفة ان تتخذ الدعاء نهجاً وطريقاً.
الثاني : وظيفة الناس دخول الإسلام والعمل بأحكامه وسننه، فالتخفيف شامل للناس جميعاً بشرط دخول الإسـلام وهم حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
الثالث : الإصر الذي تحمــلته الأمــم الســالفة انما كــان بما كســبت ايديهم في الغالــب، قــال تعــالى [فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ] ( )، [وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا]( )، فالدعـاء جــاء للتخـلص من التبعــات المتــوارثة من قيــام الملل الأخــرى بالتشــديد عـلى أنفسهم.
الرابع : لقد جاء القرآن وفيه تبيان كل شيء وللمسلمين فيه وفي السنة النبوية الشريفة غنى عن الشرائع السابقة والقوانين الوضعية التي يتسرب اليها التشديد والتفريط لأنها من نتاج العقل الإنساني، لقد استعمل المسلمون العقل للهداية الى ما فيه الرشاد والصلاح والقدرة على العبادات والإمتثال الأحسن، فالتفتوا الى سيرة وسنن الأمم السالفة وأسباب التلكأ في أداء العبادات وتخلفهم عن اللحاق بركب النبوة ووجوب التصديق بخاتم النبيين.
لقد تلقى المسلمون الحكم بعدم التكليف الا بما يطاق فسألوا عدم تحمل الإصر والثقل والتشديد فهل الإصر مما يطاق فسألوا التخفيف عنه، الجواب: على قسمين:
الأول: ان التشديد من الكلي المشكك فمنه ما يطيق المكلف اداءه، ومنه ما لا يطيق، وجاء السؤال مطلقاً وشاملاً لهما معاً، فحتى الذي يطاق منه لا يخلو من مشقة وعسر.
الثاني: ان الثقل والتشديد من مقدمات وأسباب التقصير لعدم قدرة كثير من المكلفين على استدامة قهر النفس الشهوية والغضبية مما يعرض الإنسان للعقاب الذي يترتب على التقصير.
ومن مفاهيم الآية ان المسلمين لم يبتدعوا لهم طرقاً في العبادة تتضمن التشديد على النفس، لذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم التحذير من البدعة والنهي عنها قال صلى الله عليه وآله وسلم “كل بدعة ضلالة وكل ضـلالة في النار” وهذا من الإعجاز القرآني الغيري لأن المسلمين لم يحتاجوا الى العقل لتأسيس الأحكام، ولبطلان الإجتهاد في مقابل النص.
وتنمي الآية ملكة عدم التشديد في نفوس المسلمين، فمن يتوسل ويسأل عدم فر ض شــيء عليه، فانه يتجنبه ويمتنع عنه نعم يمكن ان يسأل التخفيف ولكنه بعــد مدة مديــدة يقع بذات التشديد او ان الأجيال اللاحقة تقع بنفس الإصر، فجاءت الآية لتثبت الملكة النوعية بدوام وجود القــرآن وتــلاوته ولأن الآيــة جــاءت بصـيغة الجمع والدعاء شامل لكل أجيال المؤمنين، فالذين يسألون ليسوا الموجودين ايام التنزيل فقط بل عامة المسلمين الى يوم القيامة وهذا من اعجاز القرآن.
وفي الآية توثيق لسنن الأمم السالفة وايضاح سماوي لتأريخها، وتفضيل المسلمين على غيرهم وموضوعية الدعاء في هذا التفضيل.
وفي الآية دراسة مقارنة بين المسلمين وغيرهم من الأمم في الأحكام بلحاظ التخفيف والتشديد، وتبين في مضمونها جانباً من أهلية المسلمين لخلافة الأرض من وجوه:
الأول: تخفيف الأحكام عنهم بما يساعدهم على تعاهد الأداء وعدم التفريط بالواجبات او المستحبات.
الثاني: سؤالهم المتكرر بالتخــفيف وامتناعــهم عن التشـــديد على النفس وهذا الإمتناع يحول دون دخول أمور في الشريعة ليست منها.
الثالث: مجيء السنة النبوية بالتخفيف والتحذير من التشديد، وعن الإمام الصادق قال: جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبي صلى الله عليه وآله، فقالت: يا رسول الله إن عثمان يصوم النهار ويقوم الليل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله مغضبا يحمل نعليه حتى جاء إلى عثمان فوجده يصلي، فانصرف عثمان حين رأى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له: يا عثمان لم يرسلني الله بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة، أصوم واصلي وألمس أهلي، فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح)( ).
وفي باب الصيام، (خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى مكة عام الفتح، وصام وصام الناس معه حتى بلغ كراع الغميم( )، فلما شق على شطر منهم الصيام افطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فقال في الذين بقوا على صيامهم (اولئك العصاة) ( ).
وقيل كانت الغلظة والفظاظة غالبة على طباع اليهود وما كان ينصلحون الا بالتكاليف الشاقة والشدة، وهذه الأمة تتصف بالرقة والكرم ويغلب على طباعهم كرم الخلق فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ.
ولم يثبت هذا التباين وكونه علة للتغليظ على اليهود والتخفيف على المسلمين، لقد ابتدأ المسلمون بالإيمان التام والإقرار برسالة كل الأنبياء من غير فرق بينهم، فجاءت رحمة التخفيف.
فالتشديد على قسمين، قسم يترشح من تبعيض الإيمان بالرسل، وقسم ابتداع من القوم انفسهم، ومتى ما كان الإيمان تاماً فان النفوس تنصلح لقبول الأحكام، وهناك بون بين من يشدد على نفسه وبين من يسأل الله عز وجل التخفيف، لقد سأل المسلمون العودة الى الشريعة الحقة الخالية من التشديد والتي هي نهج الأنبياء والمؤمنين، بمعنى ان أصل الشرائع خال من الأصر والشدة والضيق، فبالإسلام عادت دورة الشرائع الى الإصر وبدأت انطلاقتها الأولى من جديد ولكن بثبات ودوام هذه المرة.
وكأنهم سألوا اعادة الشريعة من جديد ليتعاهدوها ويحفظوها ويتوارثوها بينهم الى يوم القيامة، وسؤال التخفيف هذا مقدمة خارجية وجزء من الأهلية لخلافة المسلمين للأرض ترى ما هي النسبة بين الإصر والثواب، فيه وجوه:
الأول : ازدياد درجات الثواب مع الإصر والضيق والشدة.
الثاني : نقص الثواب مع الإصر، بمعنى ان الحصة الزائدة التي يؤتى بها في العبادة تسبب نقصاً في الثواب.
الثالث : ذات الثواب مع الإصر او بدونه.
والأقوى هو ذات الثواب مع الإصر او بدونه اذا كان الإصر جزء من التكليف، اما اذا كان بدعة فلا ثواب بل هو من التشريع المحرم والتشديد على النفس، وقد ورد ذم لبني اسرائيل لتشديدهم على أنفسهم في مسألة ذبح البقرة كما تقدم في قصتها، ولم يكتفوا بالإمتثال المطلق لقول موسى عليه السلام، كما ورد في التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً] ( )، وأتجهوا نحو سؤال التفصيل في أوصاف تلك البقرة، وكان هذا التشديد عبرة وموعظة للمسلمين لذا ورد في أكبر سورة في القرآن.
وجاءت السورة باسم البقرة للذكرى والإعتبار وتنمية الفطنة عند المسلمين والإعتبار من الأمم السالفة، فان قلت ان السؤال في البقرة قضية في واقعة بمعنى انها حادثة وليس فعلاً متصلاً ومتوارثاً، قلت انه شاهد على الطباع والقرائح وكيفية التصرف مع الأنبياء، وفي قصصهم مع موسى شواهد كثيرة قال تعالى [فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً] ( ).
اخرج النسائي وابن ماجة وغيرهما عن عبد الرحمن بن حسنة: (ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ان بني اسرائيل كانوا اذا أصابهم البول قرضوه بالمقاريض)( ).
وهو من الإصر والتشديد الذي كان عند بني اسرائيل فلجأ المسلمون الى الله عز وجل ملتمسين رحمته وعفوه ليسألوا التخفيف وعدم التشديد في الأحكام، والتشديد على وجوه، تارة يأتي في أصل التكليف والتنزيل وأخرى على نحو تدريجي ومن قبل العلماء والملوك والأفراد، أما الأول فان التنزيل أستمر نحو ثلاث وعشرين سنة ويمكن ان يكون هناك تدريج في الأحكام خصوصاً مع وجود الناسخ والمنسوخ، ولكن قراءة في مصاديق النسخ في القرآن تظهر لك وجوه الرافة فيه، وانه كان باتجاه التخفيف وليس التشديد.
أما الثاني فان الملوك والملأ يميلون أحياناً الى امضاء البدعة بلحاظ مصالحهم ومنافعهم والغايات الخاصة مع تغييب لقول العلماء، وهناك شــواهد كثيرة في التأريخ وجاءت الآية لمنع تمادي الحكام والملوك في ايجاد حيل شرعية على أحكام الشــريعة، والتشـديد على الأمة والتكليف بما لا يطاق او بما يؤدي الى التعب والعناء، ومن الآيات في الشريعة الإسلامية الإحتراز والإمتناع من البدعة ببركة هذه الآية والآيات الأخرى.
ومن الآيات في الإسلام ان النعم التي نزلت على المسلمين في متناول اليهود وغيرهم، وان الله عزوجل لم يقطع النعم بل دعاهم الى الإسلام للأصل وهو الإيمان بالأنبياء والرسل جميعاً من غير فرق بينهم، ومن تفضيل خاتم النبيين انه يرفع الإصر عن الناس، وبذا تتجلى لنا فلسفة الرسالة وان الإيمان بجميع الرسل له منافع اضافية عظيمة منها رفع الإصر ومنعه من الوصول الى المؤمنين ليبقى الإيمان بجميع الرسل حاجة للناس جميعاً وباباً للتخفيف ونزول شآبيب الرحمة وعوناً على أداء العبادات والخطاب بالإيمان بالرسل كافة وبالنبي محمد خاصة توجه الى اليهود ايضاً بعناية خاصة وآيات باهرات دخلت الى بيوتهم وطرقت أسماعهم، بعد ان بشرهم ببعثته الأنبياء السابقون قال تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ]( ).
وتبين الآية ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لبني اسرائيل وللناس جميعاً وذكر (ان الإصر هو العهد الذي كان الله سبحانه أخذه على بني اسرائيل ان يعملوا بما في التوراة، عن ابن عباس والضحاك والسدي)( ).
وأخرج الطســتى عن ابن عباس أن نافع بن الازرق قال له: أخبرني عن قوله [وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا] قال عهدا كما حملته على اليهود فمسختهم قردة وخنازير، قال وهل تعرف العرب ذلك، قال نعم أما سمعت أبا طالب وهو يقول:

أفى كل عام واحد وصحيفة

يشد بها أمر وثيق وأيصره( )

وقال الزجاج: الإصر ما عقدته من عقد ثقيل.
قاعدة جديدة في الدعاء
لم تذكر الآية بني اسرائيل على نحو التعيين بل جاءت مطلقة بلحاظ السبق الزماني “الذين من قبلنا”ولا دليل على حصره ببني اسرائيل ولكنهم فرد ظاهر قريب، والقرآن أخبر عما عندهم من الإصر، وهذا الأمر لا يكفي لتقييد الآية الكريمة فتبقى على اطلاقها بوجود أمم من قبلنا كانوا يشددون على أنفسهم وتتجلى هذه الحقيقة بقصص الأنبياء وما كانوا يعانونه من قومهم.
ومن الآيات ان يأتي الدعاء مطلقاً من غير حصر أو تقييد بأمة دون أخرى، للإنتفاع الأعم من الدعاء وهذا من التخفيف ونفي الإصر، فلا يحصر الدعاء بباب او مسألة دون اخرى بل يأتي مطلقاً، كما انه من الإرتقاء العقائدي والبصيرة النافذة عند المسلمين اذ نظروا بعين السعة الى عظيم رحمته تعالى وفضله سبحانه والى الإبتلاءات العامة للأمم.
لقد جاء الدعاء بالمعنى الأعم الشامل للأمم السالفة من أنقطع خبرها او لم يصل الينا ما كان عندهم من الثقل والإصر والتشديد، ولكن الله عز وجل يعلمهم ويعلم حالهم، فجاء السؤال مطلقاً للنجاة من اصرهم وما كانوا فيه من الأذى ولم ينحصر السؤال بما كان يعانيه بنو اسرائيل، ويمكن استقراء قاعدة جديدة في الدعاء هي (الدعاء بالمعنى الأعم) فيشمل ما كان معلوماً وما كان غير معلوم ليتعلق الدعاء بالمضمون والمفهوم وليس بالمصاديق المرئية والمحدودة فقط.
ولم يرد لفظ (من قبلنا) الا في آيتين من القرآن، هذه الآية وقوله تعالى [ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا] ( ).
فذكرت الآية اليهود والنصارى معاً على نحو التبعيض وانهم جزء ممن قبلنا بينما وردت الآية محل البحث برفع الإصر الذي كان تعانيه الأمم من قبلنا على نحو الإطلاق.
فجاء السؤال ليقطع دابر الإصر الى يوم القيامة، ويمنع من تجدده وظهوره بصيغ اخرى، فبنوا اسرائيل عندهم اصر وتشديد وقد لا يكون كل التشديد، وجاء السؤال لرفع الإصر مطلقاً ورجاء عدم ظهوره بذات الصيغ او بصيغ جديدة، وترى فرق المسلمين كل فرقة منهم رقيب على الأخرى في تهذيب أعمالها وتنقيح أقوالها والنقض والإبرام مستمر، وكل يحتج بالقرآن والسنة ليبقى الخلاف صغروياً بينهم، واختيار الرقابة ورصد الغير حرز حاضر للإمتناع عن ذات الفعل والحرص على اجتنابه.
ومع عدم قولنا بالفرق والطوائف ولزوم التقيد بوحدة المسلمين ليس لأن التعدد عنوان الفرقة فقط بل لأنه سالبة بانتفاء الموضوع، ولكن لو اجري احصائية للخلافات الكلامية والفقهية بين المسلمين في القرن الثالث الهجري مثلاً وهذا الزمان لرأيتها متقاربة في موضوعاتها وكمها وأثرها ودلالاتها، بل انها انحسرت في هذا الزمان ولم تبق الا في بطون الكتب، وهي آية اعجاز للقرآن ودليل صدق الإسلام وأهليته للبقاء والإستمرار شريعة ثابتة لأهل الأرض ينهلون من أحكامها ولا يصدرون الا عنها.
وهذا من بركات الدعاء ورفع الإصر عن المسلمين، لأن غيرهم من الملل انقسموا الى طوائف وفرق شتى ولم تمر على بعثة رسولهم بضع عشرات من السنين، بل حتى التعدد الذي يحصل عند المسلمين فانه في الغالب يدخل في رحمته تعالى بالمسلمين وعمومات قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (اختلاف علماء امتي رحمة) على معناه الأعم.
والآية الكريمة بشارة عدم حصول ضرر كبير واصر من هذا الإختلاف ولا زال عامة المسلمين يتطلعون الى تقليص الإختلاف ودرئه فضلاً عن مساهمتهم في منع اتساعه، وهذا التطلع من افاضات هذه الآية وبركات الدعاء فيها.

تفسير قوله تعالى [رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ]
لقد اراد المسلمون اعلان حقيقة عبادية تثبت ايمانهم واستعدادهم لقبول التكاليف، فبينوا استعدادهم لتحمل ما يطيقون من التكاليف، والإطاقة هي القدرة والتحمل والسعة، وعن الإمام الصادق عليه السلام: (ما كلف الله العباد فوق ما لا يطيقون وذكر الفرائض ثم قال: انما كلفهم صيام شهر في السنة وهم يطيقون أكثر من ذلك).
وبعد سؤال التجاوز عن النسيان والخطأ العام والشخصي، جاء سؤال النجاة من الشدة والثقل الذي نزل بساحة الأمم السابقة سواء على نحو الإبتداء او بما كسبت ايديهم كما في قوله تعالى [فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ] ( )، جاء هذا الشطر من الآية مختصاً بأصل التكليف وموضوعه، وسورة البقرة نزلت في المدينة ايام نزول آيات الأحكام وتثبيت سنن التشريع، وهذه الآية متأخرة زماناً على فرض الصلاة لأنها فرضت في مكة، وفي حديث الإسراء، والصيام والزكاة فرضا في السنة الثانية من الهجرة النبوية.
ولكن هذه الآية من مضامين موضوع الإسراء كما سيأتي في الخبر مما يدل على سبقها وأنها تحكي دعاء المؤمنين وحاجتهم، ويمكن ان يقال ان الآية اعانة منه تعالى بارشاد المسلمين الى هذا القول وجعل اجيالهم المتعاقبة يكررونه في تلاوة القرآن ليلتفتوا الى الحاجة اليه، وليعلموا منافع النبوة وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في جهاده والصحابة الأوائل في دعائهم، فهذه الآية تركة عظيمة وثورة لا تنضب تتغشى بركاتها كل مسلم والى يوم القيامة، وهي عون على اداء العبادات واصلاح النفس وتهذيب الأخلاق.
لقد توجه المسلمون للتضرع فيما يخص أصل التكليف لأن الإصر عنوان اضافي لا يمنع من طروه الا الله عز وجل فسألوا دفعه، والتكليف على وجوه:
الأول : ما لا يطيقه المسلمون.
الثاني : ما يطيقه فريق من المسلمين دون الفريق الآخر.
الثالث : ما يطيقون شطراً منه.
الرابع : ما يطيقه جميع المسلمين.
وموضوع السؤال هو الرابع فقد اجتمع المسلمون بدعاء واحد، وهو من الكلي المشكك بلحاظ القدرات الفردية ويحمل الدعاء على ارادة اطاقة أضعفهم، الا انه لا يمنع من الموارد الخاصة بحسب الشأن والمقام والعلم والمنزلة، فالمسلمون جميعاً يلتقون في التكاليف، الا ان وظيفة العالم اعلى مرتبة من غيره، وكذا الحاكم بالنسبة للمحكوم والرئيس والملأ وأصحاب القرار والتأثير في القول والفعل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره.
فالسؤال في الآية بالمعنى الأعم ويشمل التكاليف العامة للمسلمين، والأمور الشخصية التي تواجه كل شخص، كما لو كان المكلف تغلب عليه النفس الشهوية ويميل الى سرقة مال الغير لو تمكن منه وأصبح بمقــدوره اخذه، فان الله عز وجـل يحول دونه ودون هذا التمكن، ويجعل الغير يحترز ويحفظ أمواله، او يأتي سلطان يقيم الحد الشرعي على الســارق فيخشــى منه، او يقــذف في قلبه الفــزع من انكشــاف امره، او يملأ قلبه ايماناً فيجعله يتعفـف من السرقة مع التمكن منها والأمن من العقاب.
وكذا بالنسبة للمرأة فقد تقع في اغواء وافتتان ازاء شخص معين، ومن التكليف بما يطاق ان يحجب عنها أسباب الصلة والمعاملة معه، او ينسيها ذكره او يجعلها تتفقه في الدين وتعلم اضــرار الزنا والفاحشة مطلقاً او تتهيء لها أســباب الزواج منه او من غيره الذي قد يكون أفضل منه ويقودها الى سبل النجاة في الآخرة، فعدم الإطاقة ينحل الى أمرين:
الأول: عام يشمل المسلمين كافة كما يتجلى في الفرائض كالصلاة والصوم.
الثاني: خاص، ملازم للإنسان في حياته، فتراه غنياً لأن الفقر يوقعه بالأذى والشر، او العكس يكون فقيراً لأن الغنى باب للإبتلاء لا يستطيع معه اداء الفرائض، فينجيه الله عزو جل من التقصير والإثم بالفقر لينجو يوم القيامة من العقاب والعذاب الشديد، مع تأهيله لتحمل الفقر والصبر عليه والرضا بما قسم الله تعالى له، لذا تجد احياناً فقيراً فرحاً بما عنده اكثر مما يفرح الغني بما آتاه الله من فضله.
فكل مسلم يدعو للمسلمين ويدعو لنفسه على نحو خاص، ودعاؤه للمسلمين يشمل الأمرين معاً التكاليف العامة وعدم تكليف أي واحد منهم بما لا يطيق، فينتفع كل مسلم من هذه الآية بأربعة وجوه:
الأول : دعاء المسلمين له فيما يخص التكاليف العامة.
الثاني : دعاؤهم له في التكاليف والوظائف الخاصة.
الثالث : دعاؤه لنفسه في التكاليف العامة.
الرابع : دعاؤه لنفسه في الوظائف الخاصة سواء كانت مقدمات للتكاليف العامة او ازالة للعوارض والموانع او في المباحات، واجتناب المحرمات.
ولابد لهذا الشطر من الآية من خصوصية، وانه ليس تكراراً لما قبله، ويختلف عنه في مسائل:
الأولى : تتعلق الآية بذات التكليف وموضوعه، بغض النظر عن الأمم السابقة.
الثانية : عدم الإصر في الأمم السابقة غير أصل التكليف فقد يكون التكليف عندهم بما لا يطاق او بما يطاق ويضاف له الإصر، وان اسقاط الإصر يتعارض مع بقاء التكليف امراً لا يتحمله المسلمون.
الثالثة : جاء الإصر بلفظ الحمل، اما التكليف فجاء بصيغة التحميل بما يعني تعلقه بالتشريع وعلى نحو الإستدامة، ومن التكليف بما لا يطاق بالأمور الشخصية الإستدراج والإفتتان والإبتلاء بما لايطاق وتعاقب الأغواء.
الرابعة : التباين الموضوعي بين الإصر وبين التكليف، فالإصر عنوان اضافي زائد وأمر عرضي قد يصيب أمة واحدة او جماعة او فريق منها، أما التكليف فهو عام وثابت فسأل المسلمون عدم التكليف بما لا يطاق.
ولا مانع من وجود وجوه التقاء بين الإصر وبين تحمل ما لا يطاق الا ان هذا الإلتقاء لا يحول دون تعدد الدعاء لما في كل منهما من الخصوصيات ولأنه سبحانه واسع كريم ولبيان موضوعية الدعاء ولزوم التوجه اليه تعالى بسؤال ما دق وما كبر، ولبيان أهمية الإصر على حدة، والتكاليف على نحو الخصوص.
الخامسة : قد يكون الإصر مما يطيقه الإنسان، فليس كل اصر مما لا يطاق فالوجوه في المقام ثلاثة:
الأول : اصر وشدة مع عدم اطاقة.
الثاني : اصر وتشديد مع اطاقة.
الثالث : التكليف بما يطاق ويقدر عليه مع انتفاء الإصر والشدة.
والجمع بين شطري الآية هو موضوع الوجه الثالث والأخير أعلاه، لقد توجه المسلمون للسؤال عما يعنيهم ويخصهم ويقيض لهم أسباب الإطاعة واعلنوا تسليمهم لله تعالى واستعدادهم للإستجابة وانتظارهم للتكاليف، وفوضوا الأمر اليه تعالى وتوسلوا اليه بخصوص ماهية التكليف، فلم يسألوا انعدام التكليف والإعفاء منه، ولم يقولوا اعفنا مما حملته الأمم السابقة، بل اعلنوا رضاهم بالتكليف واهليتهم للإمتثال الأحسن، ولم يسألوا المدد والقدرة على التحمل فيما لا يطيقون، بمعنى انهم لم يقولوا اعنا ووفقنا لأداء ما لا طاقة لنا به، انما اختاروا الأخف لأن لله غني عن العالمين، لا يكلف بما لا يطاق ابتداء او استدامة، وطلبوا عدم التكليف بما فيه مشقة وثقل.
لذا ترى التخفيف ظاهر في التكاليف ذاتاً وعرضاً، اما في ذات التكاليف فان المكلف يستطيع اداء الأكثر مما فرض عليه كما في الصلوات اليومية التي لا تأخذ من يومه الا بمقدار الواحد الى الخمسين، ولا تفرض عليه الا بعد بلوغه سن التكليف، وبالنسبة للزكاة فان مقدارها قليل يستطيع الغني اداءه من غير ان يؤثر سلباً على ما في يده، وجعل سبحانه صلاة النوافل والصدقة المستحبة لمن اراد الإكثار من العبادة والإنفاق والتقرب الى الله بهما، وكذا بالنسبة للصيام وان العبد يستطيع صيام أكثر من شهر.
ومن التخفيف العرضي تيسير اداء التكاليف وتهيئة اسبابها ودقة النظام في مقدماتها، فالأذان وصلاة الجماعة من التخفيف، وسرعة انقضاء ساعات الصيام وافاضات شهر رمضان من التخفيف، وهناك اسباب وآيات عديدة يحس بها العبد عند التوفيق لأداء العبادات فتجعله يقبل بشوق على العبادات فتصبح من افراد الإطاقة، بمعنى اصلاح الحالة النفسية والشوق لأداء الفعل والرغبة فيه، فالإطاقة التي سألها المسلمون اعم من ان تنحصر بذات الفعل العبادي بل تشمل اسبابه ومقدماته والحال والشأن وكيفية التلقي وانجذاب النفس له والحيطة من الوساوس وطرد الشيطان ودفع المعصية والرجس عن المكلف، فمن افراد هذه الآية اصلاح الأفراد والجماعات للتكاليف، فمن مضامين الآية الكريمة والدعاء فيها:
الأولى : لا تكلفنا بما لا يطاق.
الثانية : اجعل التكاليف مما يحتمل ويطاق.
الثالثة : اصلحنا للتكاليف واجعلنا مؤهلين لأدائها، فتارة تكون التكاليف بميسور كل انسان ولكن الجميع او شطر منهم لا يؤدونها، ويتوجهون نحو الأعذار والخمول وعن المعتزلة المراد من قوله (ما لا طاقة لنا به) أي يشق فعله مشقة عظيمة، ولكن الأمر لا يصل الى درجة المشقة العظيمة بل يكفي ادنى عنوان يصدق عليه عدم الإطاقة والتحمل حتى وان لم تكن فيه مشقة فضلاً عن المشقة العظيمة، وهذا القول يحتاج الى برزخ ومنزلة وهي وجود تكليف لا يطاق ولكن يمكن اداؤه من غير مشقة باعتبار العبودية المطلقة لله.
الرابعة : ومما لا يطاق الإبتلاء بسلطان جائر وحاكم ظالم، وبعدو كافر يعتدي على ثغور المسلمين وافتتان في خصوص عبادات المسلمين والاحتجاج بصيغ المغالطة بما يربك الأشخاص ويشغل الجماعات.
ومن مضامين الدعاء ان المسلمين مستعدون لتحمل كل ما يأتيهم منه تعالى بقرينة (تحملنا) أي اننا نتحمل الأوامر الإلهية النازلة الينا ولكننا نسأل عدم تحمل ما فيه عناء ومشقة وتعب، لقد قال الله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] فمن اليسر التكليف بما يطاق فكأن المسلمين سألوا ما وعد الله به تعالى من التخفيف واليسر وعدم التشديد.
علم المناسبة
تكرار النداء بعنوان الربوبية (ربنا) ثلاث مرات في الآية وهذا التكرار ورد ثلاث مرات في القرآن، مرة في احتجــاج شــعيب وقومه على الكافرين وســؤالهم الفتــح بينهم وبين قومهم بالحق( )، والآية الثالثة في دعاء موسى على فرعون وملائه وسؤال الطمس على أموالهم( ).
وقد تقدم ذكر عدد المرات التي ورد فيها لفظ (الرب) اسماً لله تعالى في القرآن وما له من الدلالات( ).
ويبين الإتيان باسم (الرب) مضامين الخضوع والتضرع والرجاء للقادم من الأيام، ولأن سؤال المؤمنين جاء شاملاً لما يتعلق بالإرادة التكوينية والتشريعية جاء النداء (ربنا) وهو النداء الذي تبدأ به لغة الدعاء في القرآن، وتكرار النداء به يدل على أهمية موضوع التكليف والحاجة العامة للتخفيف في وعدم التشديد في الفرائض، وبدراسة مقارنة في النداء في الآيات الثلاث اعلاه يظهر الإرتقاء العقائدي عند المسلمين.
فمع ان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة لاقوا اشد الأذى من قريش والكفار مطلقاً واليهود فان تكرار ندائهم جاء بخصوص التكاليف بينما جاء سؤال قوم شعيب وموسى عليهما السلام فيما يتعلق بالكفار والإحتجاج عليهم وسؤال الإنتقام منهم، وفيه نوع اعجاز ودلالة على ثقة المسلمين في استدامة أحكام الإسلام، فلو كان التكليف امراً طارئاً وعرضياً لما كرروا النداء بربنا وسؤال التخفيف في الأحكام بالإضافة الى معرفتهم بالتخلص من أذى الكفار ودحر الشرك ومنع تعدي الظالمين، وفعلاً فما مرت سنوات معدودات على الإسلام حتى أصبح أكثر رؤوس الكفر مسلمين بعد ان قتل جماعة منهم في بدر وأحد وغيرهما.
لقد أراد المسلمون حفظ الأرض ومن عليها بادائهم للتكاليف فيقومون باداء الصلاة والصيام والحج ودفع الزكاة امتثالاً لأمره تعالى فيحفظ الله بني آدم والنظام الكوني العام ويمنع الكواكب من التساقط، والأنهار من التفجر، والعالم من الزوال، والكائنات من الهلاك والإندثار، لقد ارادوا التخفيف ليكون سبيلاً لدخول الناس الى الإسلام وعدم الإمتناع بسبب التكاليف.
لقد اراد المسلمون التذكير بانهم محتاجون الى ربوبيته في دوام حياتهم وتوالي النعم عليهم، وعند الحساب في النشأة الآخرة وانهم متمسكون بالربوبية في مراتبها الثلاث:
الأولى : في أصل الخلق.
الثانية : في استدامة الحياة والنظام الكوني العام.
الثالثة : في عالم الآخرة والجزاء.
انه بعث لروح التوكل والإرتقاء في منازل الكمال، واذا تضمن اللفظ القرآني منافع اضافية لا يسمى تكراراً لتعدد الموضوع ولتكرار لفظ (ربنا) خصوصية في كل مرة.
ولم يرد لفظ (تحملنا) الا في هذه الآية، ولقد ذم الله الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، بينما جاء سؤال المسلمين استعداداً لتحمل التكليف والدعاء ضمن هذا الإستعداد بالتخفيف.
وورد لفظ (لا طاقة) مرتين في القرآن، والثانية في بني اسرائيل [قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ] ( )، وهو يؤكد مرة اخرى توجه المسلمين للعبادات والفرائض واعطائها الأولوية في دعائهم والتأريخ يشهد بانهم توجهوا الى سوح المعارك وقاتلوا الكفار، ولم يهابوا بطشهم، وفي معركة بدر وهي اول معارك الإسلام كان عدد المشركين نحو ثلاثة اضعاف المسلمين وانتصر المسلمون بالإيمان والعزيمة وصدق العقيدة.
وهذه المقارنة وثيقة سماوية تدعو كل مسلم الى الإلتفات الى العبادات واعطائها الأولوية في المناجاة والأفعال وليعلم ان العدو مخذول والظاهر ان تعاهد العبادات وعدم تضييع بعضها وافرادها هو السبيل الى دحر الكفر والضلالة، اما الأمم السابقة سألوا الله عز وجل الإنتقام من الكافرين، والمسلمون سألوا اداء التكاليف باعتبار ان اداءها سبيل للقضاء على الكفر والضلالة او لا أقل النجاة من شرور الكافرين، والتخلص من الظالمين، فالعبادات ســلاح للحــفظ والسـلامة والوقاية من الأذى.
ومن خلال المضامين القدسية لهذه الآية يتجلى لك التوظيف الأحسن لسلاح الدعاء وهو أمر انفرد به المسلمون دون غيرهم وفيه تأديب لأجيالهم وللناس جميعاً باعطاء الأولوية في الدعاء لمرضاة الله والإنقطاع اليه والإمتثال لأوامره، ان تقوى الله واقية مباركة من الأعداء والظالمين، لذا جمع المسلمون بين تقوى الله وبين الإستعداد لحمل السلاح والذب عن الإسلام وثغوره.
وأخذ الظالمون يدركون حقيقة وهي ترك المسلمين وشأنهم هو الأحسن لحال الظالمين في أمصارهم وممالكهم وتلك قاعدة كلية ساهمت هذه الآية في تثبيتها وترسيخ مفاهيمها في النفوس والمجتمعات والمبادئ لقد اختار المسلمون طريق العبادة للفلاح والنصر على الأعداء وهذا من أسرار المعرفةالإلهية ناله المسلمون بالعزم على أداء التكاليف وسؤال التخفيف ضمن هذا العزم والإرادة النوعية العامة، وهو من مقدمات استدامة الخلافة في الأرض.
والحمل في الآية يحتمل أمرين:
الأول: التكليف في العبادات والفرائض.
الثاني: انه يشمل العذاب في الآخرة قال الرازي “ان قوله لا تحملنا ما لا طاقة لنا به” في العذاب وفي التكليف فوجب اجراؤه على ظاهره، اما التخصيص بغير حجة فانه لا يجوز”( ).
أما الأول أي حمل التكاليف، فعليه الإجماع وهو موضوع الآية والمتبادر الى الأذهان، اما ارادة العذاب فهو بعيد بقرينة ان الدعاء صادر من المؤمنين وبصفة الإيمان، وجاءت خاتمة الآية بطلب العفو والمغفرة ورجاء الرحمة، والقدر المتيقن من الآية عدم التكليف بالعمل الشاق، والتضرع لسؤال تهيئة مقدمات الأداء، فالعمل السهل والخفيف يكون شاقاً مع انعدام اسبابه وسوء الحال.
فجاءت الآية لتتضمن التخفيف والتسهيل في المقدمة وذي المقدمة والنتيجة وتدل على اصالة الإطلاق، وقاعدة (المعنى الأعم)، بالإضافة الى عظيم فضله تعالى وانه لا يعطي الا بالأوفى والأتم والأكمل.

تفسير قوله تعالى [وَاعْفُ عَنَّا]
العفو هو التجاوز عن الذنوب ومحو الخطايا والآثام وليس من شيء أفضل للعباد من العفو فهو مفتاح كنوز الرحمة ووسيلة لغلق ابواب من البلاء والعذاب، وسؤال العفو اقرار بواجب الوجود ومقام الربوبية وفيه اعتراف بالذنب والتقصير لأن العفو لا يأتي الا على الذنب والمعصية وطلب العفو وجهين:
الأول : لما يصدر من الجميع.
الثاني : من الأفراد.
ومن آداب الدعاء عموم المسألة والعموم هنا بلحاظ الإفراد والإفعال ويتعلق العفو بامور:
الأول : الخطأ والنسيان.
الثاني : التقصير.
الثالث : الذنوب والآثام.
الرابع : التشديد على النفس.
الخامس : النقص الحاصل في اداء العبادات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآية اقرار بالخطأ وعدم العصمة وحاجة الأمة الى عفوه تعالى وهذا من مضامين العبودية وهو درس للناس جميعاً، فاذا كان المؤمنون حريصين على طلب العفو فمن باب أولى ان يبادر الناس الى سؤال العفو والمغفرة.
وقد ورد لفظ (اعف) ثلاث مرات في القرآن، وجاء مرتين امراً منه تعالى الى نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ] ( )، [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ]( )، ومن أسمائه تعالى العفو وهو الذي يمحو الذنوب وفي التنزيل [وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا]( ).
ان طلب العفو منه تعالى ملازم للإيمان ولا ينفك عنه، فمع الإيمان يدرك ما عليه من التقصير والنقص في مقامات العبودية في الطاعة، فيشــعر بالحاجة الى العفــو منه ســبحانه، وقد أمر الله عز وجل بالعفو بين الناس ونــدب اليه وحــث علــيــه نبــيه ووعــد على العفــو مــن الناس الجزاء بالعفو منه سبحانه، [وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( )، فالعفـو عن الناس، فيه رضا له تعالى لأنه تجاوز عن عباده ودليل على السماحة والتفقه في الدين خصوصاً اذا جاء بقصد القربة وطلب مرضــاته تعــالى والإسـتجابة لأمره سبحانه بالعفو، وســـؤال العفـو منه تعالى اشاعة للغة العفو بين المؤمنين والناس أجمعين.
ولقد تكرر النداء بربنا ثلاث مرات في هذه الآية، وورد الدعاء وسؤال العفو هنا من غير النداء بربنا وقال الرازي في تعليله (النداء انما يحتاج اليه عند البعد أما على القرب فلا، وانما حذف النداء اشعاراً بان العبد اذا واظب على التضرع نال القرب من الله تعالى) ( ).
ولكنه أعم وفيه مسائل:
الأولى : ان العفو والمغفرة والرحمة من صفاته تعالى، وفي أسمائه الحسنى (العفو)(الغفور)(الرحيم)، فالسؤال جاء هنا باسمائه الحسنى، وكأن الدعاء يتضمن النداء بـ(يا عفو يا غفور يا رحيم).
الثانية : السؤال والدعاء في الثلاثة الأولى أمور سألها المسلمون خاصة بعدم المؤاخذة على النسيان والخطأ، وطلبوا التخفيف ودفع الثقل والشدة، وعدم التكليف بما لا قدرة عليه، فجاء التوسل باسم من أمهات الأسماء المقدسة وهو الرب، وهذا الدعاء جاء بما وعد الله عز وجل به وكان في الآية حقاً، وهو: ( يا عفو اعف عنا، ويا غفور اغفر لنا، ويا رحمن ويا رحيم ارحمنا).
الثالثة : هذا الدعاء ايضاً جاء فيه نداء ولكن في خاتمته وآخره، بقوله تعالى [أَنْتَ مَوْلاَنَا] وفيه اضافة وهي ان عفوه ورحمته تعالى ينتفع منها الناس جميعاً فمن باب الأولوية ان ينالها عباده المخلصون واهل الإيمان.
الرابعة : النداء بربنا فيما تقدم من الأدعية شامل لهذا الدعاء ايضاً بلحاظ واو العطف ونظم الآية واتصال الكلام وموضوع الدعاء فلو جاء النداء والدعاء بربنا مرة واحدة في أول الآية لأنبسط على جميع موضوعاتها.
الخامسة : ان تكرر الدعاء بلفظ (ربنا) فيه آية منه تعالى واشارة الى لزوم التوسل في كل واحدة من هذه المطالب لإعتبارها في ادراك سبل الفلاح في النشأتين واعطاء موضوعية لكل مسألة من مسائل الآية الكريمة على نحو الإستقلال وللتوكيد على أهميتها والإلتفات اليها والتدبر فيها منفصلة ومتحدة مع غيرها من مواضيع الآية، وفيه نوع تضرع الى الله.
السادسة : في الآية دلالة على قرب سؤال العفو والمغفرة وان الله عز وجل يسمع الدعاء ورجاء العفو.

تفسيرقوله تعالى [وَاغْفِرْ لَنَا]
يدل سؤال المؤمنين على عدم المؤاخذة على النسيان والخطأ، وعلى الإقرار بوقوع التقصير والخطأ منهم وانتفاء العصمة، ثم بادروا الى سؤال المغفرة من النسيان والخطأ والذنب والمعصية للإعتراف لمقام الربوبية بالتخلف عن الإمتثال الأحسن ولإظهار الحاجة الى رحمته تعالى، وفي الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (وانا استغفر الله سبعين استغفارة)
وقيل لأن الإستغفار عبادة، وفيه ارشاد وتعليم للأمة، وبالنظر لأحوال ما مضى من الأفعال بلحاظ الإرتقاء المتصل الذي عليه مقام النبوة والوحي، وأصل الغفر التغطية.
ومن أسمائه تعالى الغفور، مبني على المبالغة وهو سبحانه كثير المغفرة وهو الغفار الذي يستر ذنوب وعيوب عباده ويتجاوز عن ذنوبهم وخطاياهم، وبين العفو والمغفرة عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء محو الذنوب ومادة الإفتراق في الأول اسقاط العقاب وفي الثاني ستر الذنب، والأقوى انهما اذا اجتمعا افترقا، واذا افترقا اجتمعا، ومن نعمه تعالى ان تتعدد مفاهيم فضله ورحمته على الناس، فجاء الدعاء باللفظ المتعدد والمعنى الأعم، والعفو يتعدى بعن، ومعناه المجاوزة والمغفرة بحرف الجر اللام.
ونظم الآية بلغة الخطاب فلماذا بسؤال المغفرة يكون تأويل تحقق المغفرة، وفي ذكر المصير تبقى لغة الخطاب على حالها، الا ان يحمل على عظيم فضله تعالى وقاعدة الاستجابة التي سبق ذكرها، وان الدعاء في آية له استجابة في آية اخرى.
لقد توجه المؤمنون بالدعاء بصيغة الجمع ادراكاً منهم لعظيم مغفرته تعالى وانه يغفر الذنوب جميعاً الشخصية منها والنوعية، ما أحصاها أصحابها وما نسوها وغابت عن ذاكرتهم، ومن موارد النسيان نسيان المكلف لذنوبه وظلمه للآخرين، ويشملها اول الدعاء بعدم المؤاخذة على النسيان وهذا الدعاء بسؤال المغفرة، لأن السؤال جاء بصيغة الإطلاق والإعم فلا يختص بما ذكره العبد من الذنوب.
فتارة يذكر العبد الذنب ويقول رب اغفر لي الذنب الفلاني على نحو مخصوص وهو أمر حسن وتارة ينساه فيأتي هذا الدعاء لإرادة المعنى الأعم الشامل ما يتذكره الإنسان وما لم يتذكره، وما يرد على لسانه وما لم يرد على لسانه مما يذكره، فليس بواجب ذكر تفاصيل الذنوب عند الإستغفار ولكنه الأولى والأفضل، كما ان اجتهاد المكلف باستحضار وذكر الذنوب والمعاصي التي أرتكبها درس في الرشاد والصلاح وتنمية لملكة التقوى لأن الإستغفار من الفعل اعتراف بقبحه، ومناسبة للإحتراز منه، لما في الإستغفار من صبغة الندم على اتيانه.
وتبين الآية ثقة المؤمنين بفضله ورحمته تعالى وانه سبحانه يغفر لهم الذنوب، وقد ذم الله المنافقين والكافرين بقوله تعالى [إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ]( ).
فالإستغفار باب فتحه الله لخاصة اوليائه، وهداهم اليه بتوفيق منه سبحانه، لقد أدرك المؤمنون ان عدم المؤاخذة على الذنوب ووضع الستر عنهم وعدم تكليفهم بما لا يطاق لن يجعلهم في مأمن من الوقــوع بالمعصية والذنب والتقصير فالتجأوا الى الإستغفار فهو ملاذ كريم وواقية من العقاب وستر للذنوب والخطايا، وتارة يكون العفو بعد اعلان الذنوب وفضحها على الملأ وتارة يكون العفو مقترناً بستر واخفاء الذنوب، وليس من احد الا ويختار الثاني خصوصاً عندما يعلم بحصول الذنب والمعصية منه.
وستر الذنوب حاجة للمؤمن على نحو الخصوص، فالناس تراه مواظباً على العبادات مخالفاً لهواه، منقطعاً الى رضا مولاه فان انكشف الغطاء وظهرت الذنوب، فان ذمهم له يكون أكثر من ذمهم لغيره، وان حصل هذا الكشف في الدنيا فانه اغراء بالمعصية للآخرين ومصدر للقنوط، لذا جاء تشريع حرمة الغيبة لما فيها من الهتك للحرمات الخاصة.
ولقد سأل المؤمنون المغفرة للنجاة من عذاب يوم القيامة وهو دعوة الى الناس للمبادرة الى الإستغفار والتوبة ودعوة للهداية وتأديب للناس، فغير المؤمن يظن بان المؤمن سيكون على خير وينجو من العذاب يوم القيامة واذا رآه يلح بالإستغفار ويعلن حاجته لمحو الذنوب والخطايا وما فيه من مضامين الخشية من الله والخوف من غضبه، فان الكافر والمنافق والمشرك يدرك حاجته للإستغفار بالأولوية القطعية، وكذا صاحب المعصية ومرتكب الكبيرة.
وجاء الدعاء بصيغة الجمع ليعم النفع منه، فيستغفر احد المسلمين فيكتب الإستغفار وكأنه صادر منهم جميعاً، وتنمي صيغة الجمع في الدعاء ملكة الأخوة عند المسلمين، وتحث على التعاون بينهم، وتجعلهم يدركون انهم كالجسد الواحد.

تفسير قوله تعالى [وَارْحَمْنَا]
ومن اسمائه تعالى (الرحمن) (الرحيم)، ومن الآيات ان هذين الإسمين معروفان لدى المسلمين وأهل الملل جميعاً، وقد وردا في البسملة وهي من اعظم آيات القرآن سواء على القول بانها آية من كل سورة عدا براءة وهو مذهب أهل البيت عليهم السلام.
ونسب الى ابن عباس وابن عمـر وابن الزبير وابي هـريرة، وأهل مكة كابن كثير، وأهل الكوفة كعاصـم والكسائي، وبه قـال الإمام احمد بن حنبـل في رواية عنه وابن المبارك، واكثر اصحاب الشافعي، ومن التابعين عطاء وطـاوس وسـعيد بن جـبير ومكحـول والزهـري، وهو المختار.
ومن تلـك الاقــوال انها آيـة مســتقلـة كانــت تنزل لبيـان الفصل بين السوّر وتحديد رؤوسـها، وبه قال مالـك والاوزاعـي وأكثر اصـحاب أبي حنيفة.
او انها آية من سورة الفاتحة دون سواها كما ورد الإسمان في سورة الفاتحة التي يقرأها المسلمون على نحو الوجوب في الصلاة اليومية وخصت لهما آية مستقلة.
ولأنه سبحانه الرحمن الرحيم وهو الهادي الى منازل الإيمان جاء سؤال طلب الرحمة منه، وهذه الرحمة ليست ابتدائية بل انها مستديمة ومستمرة فأصل الخلق رحمة منه تعالى، ودوام الحياة رحمة والتوفيق للإسلام رحمة، واجابة الدعاء ودفع الأسقام ودقائق النعم كل منها رحمة وفضل منه تعالى، ان سؤال الرحمة اقرار بانحصار العظمة والجبروت به تعالى وانه استولى على كل ما دق وكبر، ومن وجوه الرحمة دوام نعمة الإيمان والقرب من منازل التقوى والترقي في مراتب العبادة فان حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومن رحمته تعالى بقاء باب التوبة مفتوحاً وعدم غلقه ما دام في الإنسان نفس.
وجاء سؤال الرحمة مطلقاً في موضعه وزمانه وحكمه ومصاديقه وشاملاً للنشأتين، ومن الرحمة استدامة الإيمان والمحافظة عليه والولد الصالح، وتعاهد الإيمان في الذرية والأعقاب والنجاة من أعداء الدين والقوم الظالمين.
وهناك فرق بين المؤمن والكافر في تلقي الرحمة، فالكافر لا ينال رحمته تعالى الا في الدنيا، اما المؤمن فانه ينالها في الدنيا والآخرة وبأبهى أفرادها وأحسنها في الكم والكيف، لقد سألوا الرحمة مباشرة منه تعالى من غير واســطة فبينما نزل القرآن بواسطة الملك على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وقام بتبليغه للأمة وأجــيالـها فان سؤال الرحمة لا حاجب او واسـطة فيه بـين المؤمنين، وبين الله عز وجل.
ومن مفاهيم الرحمة الإلهية ان فتح باب الدعاء للمؤمنين وأرشدهم اليه ولقنهم صيغه المباركة، فصــيغة الدعاء الواردة في هذه الآية لها قدسية خاصة وفيها اسرار ملكوتية ومنافع خاصة لا يعلمها الا الله عز وجل، لذا فان خاتمة سورة البقرة كنز وذخيرة وسلاح عقائدي مبارك يحتاج اليه كل مسلم ومن التخفيف ان جاءت ادعيتها بآية واحدة وبصيغة الجمع.
وورد لفظ (وارحمنا) في آيتين أخريين في القرآن، جاء في قوم موسى حينما أخذتهم الرجفة (وسألوا المغفرة) وفي توجيه اللوم والذم لأهل النار على ايذائهم للمؤمنين الذين سألوا الله المغفرة وكيف انهم اتخذوهم سخرياً( ).
تفسير قوله تعالى [أَنْتَ مَوْلاَنَا]
من أسمائه تعالى الولي، وهو الناصر والملك والمالك والذي يتولى شؤون الخلائق وتدبيرها والقادر على حفظها،لقد جاء الخطاب بلفظ (انت) وفيه مسائل:
الأول : ظاهره يدل على القرب.
الثاني : بلحاظ موضوع الدعاء والإقرار له بانه المتولي لكل نعمة فان اسم الإشارة ولغة الخطاب تدل على الخضوع والخشوع.
الثالث : تبين الآية التوجه اليه تعالى بمنتهى صيغ التذلل.
الرابع : الدعاء انقطاع اليه سبحانه، واعلان لإنحصار الحاجة به سبحانه.
الخامس : مجيء الدعاء بصيغة الجمع يبين اقرار المسلمين بالحاجة النوعية للباري عز وجل، فليس منم أحد ينصر أحد من دونه تعالى.
والولي والمولى بمعنى، ولا تعارض بين هذا الحصر وبين قوله تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] ( )، لأن ولايتهـم مشتقة من ولايته وتأتي في طولها، وكذا بالنسبة لقوله تعالى [إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة]( )، فولاية الرسول مشتقة من ولايته تعالى وهي فضل ولطف وتخفيف منه تعالى على المؤمنين.
وقد اذن الله عز وجل وأخبر بها، فقابلها المؤمنون بالإنقطاع اليه تعالى وان ولاية الرسول لا تؤدي الى الغلو بمقام النبوة، وبهذا يمتاز المسلمون عن غيرهم من الملل، ويتصفون بالإنقياد التام لأوامره تعالى واللجوء اليه والإستجارة به وطلب النصرة والمدد منه سبحانه.
والآية تتضمن المدح لله بالإقرار بالولاية المطلقة له، وهو من اعجاز الآية بلحاظ كونه خاتمة السورة، وعن جابر قال: (لما نزلت آمن الرسول قال جبرئيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أحسن الله الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه فسأل لا يكلف الله نفساً الا وسعها حتى ختم السورة بمسألة محمد صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
ان ختم سورة البقرة بسؤال المؤمنين بشارة الإستجابة ودليل على تفضيل المسلمين واكرامهم، وتفضله تعالى بتأديبهم واصلاحهم لمضامين الدعاء وكيفيته وما تنزل معه الإستجابة والإفاضات والفضل، والآية وثيقة واعلان ثابت الى يوم القيامة، يرفعه المسلمون في كل زمان ومكان ويرثه الأبناء عن الآباء فيدفعون به شر الأعداء ويحصنون به مدنهم وأخلاقهم وقيمهم.
ان قولهم [أَنْتَ مَوْلاَنَا] عهد وشهادة لهم على الوفاء به والثبات عليه وهو اخبار عن انتفاء الشرك بين المسلمين لذا ترى الفوارق بين فرقهم في المسائل الصــغروية وكثير منهم يرفض ان يسميها فروق او مسائل اختلاف، لأنها لا تتعرض للأصل والفرع والحكم الشرعي وماهية التكليف، ومع ان الشــاذ النادر امــر شائع في كل القواعد والمفاهيم وانه لا يغير من الحقائــق وصــحة القاعــدة شيئاً ا لا ان الشـــاذ منــعدم في فتـــاوى علماء المسلمين فيما يخــص اصــل الأحكـام والعبادات وأجزائها.
فالإجماع على عدد الصلوات اليومية وركعاتها مثلاً بالإضافة الى الإجماع على وجوب الوضوء مقدمة لها، وهكذا باقي الفرائض، وتبين الآية تعاهد المسلمين على حصر الولاية به تعالى، فمع التفاوت الزماني بين أجيالهم وانعدام التقاء الأجـيال، فكل جــيل في زمن غير زمان الآخر فانك تراهم تعاهدوا فيما بينهم على الولاية المطلقة لله تعالى، وهذا من اعجاز القرآن ان يكون ميثاقاً ثابتاً لتجــديد العهد كل جيل يتبع الآخر ويدرك انه يشترك معه بهذا العهد والسابق يعلم ان الجيل اللاحق ســيتبعه في تســـليمه بالولاية المطلقة لله، وانهــا الأمانة التي جعلها الله عند أهل الأرض فأنفرد المسلمون بحملها وتعاهدوها، بل ان المسلمين منتشـــرون في أمصار متعددة، وجاءت القيود السياسية والحدود الدولية الى جانب الفواصل الجغرافية لتقلل من الصلات بينهم، ولكنهم مجتمعون على هذا الميثاق وتعاهده على نحو الإجتماع والتضامن والإشتراك، فلا شيء يمنع من اتحادهم في الإقرار العملي بالولاية المطلقة لله تعالى، وكانت هذه الآية المحور الثابت الذي تلتقي عليه كلمتهم ويعرف بعضهم بعضاً بالإتحاد في مقام العبودية والخضوع لله تعالى انها مسكنة تتضمن الشرف والعز والرضا بالولاية والشكر على الهداية والتوفيق لها.
وتترشح عن الآية مضامين عملية في باب السعي والتطبيق فهي بشارة وعون ومدد ســماوي لتيســير اداء المســلمين للعبادات، والآية تمنع من الفرقة والشقاق والتخلف من أحكام الولاية المطلقة اذ انها جاءت بصيغة الجمع وكأنها تأمر بالتخلي عن الولاءات القبلية والعشائرية والسياسية والبلدية في مقابل الولاية لله تعالى، وتلك الولاءات لا تستطيع المعارضة مع ولايته تعالى، وفي حال وجودها وموضــوعيتها يجب ان تكون فرعــاً من ولايتــه تــعالى والإنقــياد لأوامـره سبحانه.
فالآية تمنع من الضلالة والغواية في باب الولاءات التي هي أساس كل فرقة وسبب كل فتنة عامة، فجاءت الولاية المطلقة لله عز وجل لتكون مانعاً من سلطانها وتأثيرها على معاشر المسلمين.
ولفظ (مولى) لا يدل على المدح او على الذم انما يتعلق بالانتماء والولاء، وله في اللغة معان عديدة فيطلق على المالك والسيد والعبد والمعتِق والمعتَق والصاحب والقريب والجار والحليف والابن والعم والشريك والولي والرب والناصر والمنعم والمنعم عليه والمحب والتابع والصهر.
اما في اصطلاح علم الرجال فيطلق على غير العربي الذي يوالي قبيلة عربية، وبه يقول الأكثر بل هو الشائع عرفاً، ولعله لعتقه او عتق أبيه من قبل أحد رجال تلك القبيلة، والحلف غيره، فقد حالف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الانصار والمهاجرين مرتين أي آخى بينهم وكل من الفريقين عربي.
لذا قد يطلق لفظ المولى على غير العرب، فيقال فلان عربي وفلان مولى، وكأنه مركب من أمرين:
الأولى : بدل لفظ اعجمي.
الثانية : ترتب على العتق له.
والظاهر انه أعم وان لم يكن معتقاً ولكن تركيبة المجتمع العربي وتقسيمه الى قبائل وافخاذ جعل المسلم الاعجمي الذي يعيش بينهم ينتمي بالولاء الى احــدى القبائل العــربية ولو بالســـكن في ربعهم وحيهم وارضــهم، والمهم ان هذه اللفظة لا تفيد مدحــاً، نعــم لو جــاءت بلفظ المصاحب والملازم فانها تفــيد ذلك ان كــانت الصــحـبة لمن عرف بالعلم والصـلاح، وتفيد ذماً اذا كانت الصحبة لكافر او ملحد.
كما يرد لفظ غلام ومن غلمان فلان ويعني انه مولاه وعبده او انه تتلمذ على يديه وكان تابعاً له او صحبه وأخذ منه، بل ان التلاميذ وهو جمع تلميذ قد تطلق على الخدم والإتباع.
وعن بعضهم ان المراد منه المتعلم والخادم الخاص للمعلم، والعرف السائد ان المراد منها المتعلم، وفي لسان العرب ذكر مادة تلمذ مع اختصــار في شــرحها، فقال (تلمذ: التلاميذ: الخــدم والأتباع واحدهم تلميذ)( )، مما يدل على ان الكلمة لم تكن من الكلمات الشائعة والتي يكثر استعمالها.
ولكن ورد عن الإمام الصادق انه قال لهشام بن الحكم: “يا هشام علمه فاني احب ان يكون تلماذاً لك” دلالة على ان المراد منه التعلم.
وهو في اللغة يطلق على الذكر أول ما يبلغ( ) وهذه اللفظة لا تفيد مدحاً ولا ذماً، نعـم لو كانت تفيد الصحبة والملازمة فانها تفيد ذلك في حال الورع والتقوى،لأنها نــوع تأدب ورفقة طويلة وحسن صحبة.

تفسير قوله تعالى [فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]
هذا الشطر هو الجزء الأخير من خاتمة أعظم سورة في القرآن، وبعد مائتين وستة وثمانين آية من القرآن جاءت هذه الكلمات لتعلن الخاتمة ولابد من دلالات موضوعية له وكأن اتقان العمل بأحكام سورة البقرة بقيد قصد القربة والولاية لله فوز ونصر على الأعداء ودحض الكفر وازاحة للباطل.
ويلاحظ في الآية التدرج في السؤال من جهة سعة الموضوع فبعد طلب عدم المؤاخذة على النسيان والخطأ، وسؤال العفو والتجاوز عن الذنوب والرحمة، جاءت خاتمة الآية بالموضوع الأعم الشامل للذات والغير وبما يؤدي الى حفظ الإسلام وصيانة العقيدة، لقد انتقلت الآية الى أمر مركب متداخل فالسؤال في أول الآية يؤثر على ما في خاتمتها، ولا خير يؤثر ايضاً على الأول، بمعنى ان العفو والمغفرة والرحمة من أهم اسباب النصر على الكافرين، وهذا النصر مقدمة لأداء العبادات والسعي في مرضاته تعالى.
لقد توجه المسلمون الى الله باعلان الولاية له تعالى على نحو الإطلاق لأنها الوسيلة لإحراز النصر والظفر على الأعداء، وتدل الآية في مفهومها على ان النصر بيده تعالى ولا يمنحه الا لأوليائه، وان ظهور الكافرين في بعض المعارك ليس نصراً انما هو من الإستدراج والإفتتان، ويمكن الخروج بنتيجة وفق القياس الإقتراني وهي:
الكبرى: النصر بيد الله لا يمنحه الا لأوليائه.
الصغرى: المسلمون اولياء الله.
النتيجة: النصر للمسلمين.
نعم جاءت الآية على سبيل الدعاء والتوسل وليس في ظاهرها ما يدل على حصول الإستجابة ولكنها تجلت بوضوح في معارك الإسلام الأولى، والنصر اعم من تحققه في المعركة وسوح القتال، فمنه الحجة والبرهان واراءة الايات واثبات ان الإسلام دين سماوي وان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق وصدق، وهذا النصر أهم من النصر في المعارك والقتال في أحيان كثيرة، لذا ورد عن الإمام الصادق جعفر بن محمد قال: (إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد ، ووضعت الموازين، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء ، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء)( ).
ومن النصر العز والرفعة للمسلمين بشخصه وهويته وذاته ورفعة الإسلام وقوته، ومن النصر بعث الخوف في قلوب الكافرين واجتنابهم التعدي على الثغور الإسلامية وحقوق المسلمين المادية والإعتبارية، والإعلان العالمي لإكرام مقدسات المسلمين، ولحوق الخزي والفضيحة لمن يحاول التعدي عليهم في مبادئهم.
لقد فرض الإسلام نفسه عقيدة روحية وعملية يومية منبسطة على جميع أرجاء الأرض ومنتشرة في مختلف البلدان، فمع التداخل الحضاري لم يعد أحد يجهل فلسفة الإسلام وثبات المسلمين على التوحيد والدعوة الى القرآن والإيمان بجميع الرسل من غير تمييز بينهم، وهو أمر موافق للمقولات العامة التي تدعو الى التقارب بين الحضارات، بمعنى ان الإسلام دعا اليها قبل أكثر من الف واربعمائة سنة ولا زال الناس متخلفين عن دعوة الإسلام، الأمر الذي يعني مقدمة كريمة لمنع تأثر المسلمين السلبي بالنظريات الجديدة، بل بالعكس فان هذه النظريات واطروحات التقارب مناسبــة كــريمة لإظـهار وجوه الإعجاز في القرآن وخواتيم سورة البقرة، ومن النصر على الكافرين عودتهم الى ما يدعو اليه الإسلام من الإتحاد في الإيمان ولكن ما يدعو اليه القرآن مقيد بانتفاء الشرك واعطاء الأولوية للتوحيد والتصديق بالنبوات واقتباس الأحكام.
ولقد جعل القرآن الإيمان التام اهم الثوابت التي يجري على أساسها التقارب، وبذا وضع الحواجز دون الزيغ والتهاون وغلبة الهوى والتفريط وتقديم رغبات النفس الشهوية والمنافع الدنيوية والإنصات الى أصوات الطواغيت واعوان الشياطين، فالصلة مع الكافرين لها مضمون واحد هو النصر عليهم وليس الإلتقاء معهم لأن الواجب يقتضي اتخاذهم التوحيد والإيمان رداءً.
فبينت الآية التناقض بين الإيمان والكفر ولم تكتف ببيانه بل أخبرت عن حاجة المسلمين الى النصر على الكافرين كحاجتهم الى العفو واذا تضمنت هذه الآية سؤال عدم المؤاخذة على النسيان والخطاب ورجاء العفو والمغفرة وهي أمور يحتاجها المسلم في آخرته اكثر من حاجته لها في دنياه، فلابد ان النصر على الكافرين يحتاجه المسلمون في آخرتهم ايضاً سواء بثواب الجهاد او لأن التخلص من العدو مقدمة لأداء العبادات والمواظبة على الطاعات.
ومن النصر على الكافرين انتفاء موضوع الكفر في المحلة والقرية والبلدة، ويمكن ان نشرع قاعدة جديدة وهي ( من النصر انتفاء العدو)، وجاء الدعاء بطلب النصر من عنده تعالى للإمتناع عن اتباع صيغ غير شرعية في محاربة العدو وقتاله ومناظرته والتعامل معه، لذا وضعت ضوابط دقيقة وقواعد ثابتة للجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فطلب النصر منه تعالى يعني اجتناب الحرام في المعاملة ومنه الهداية الى أفضل السبل للجهاد وتهيئة مقدماته، وقد يكون من النصر الصبر والإمهال، والآية تبين فلسفة أخذ الحيطة والإستعداد للمواجهة وعدم الغفلة او الركون للكافرين في أفعالهم وأقوالهم، ومن مفاهيم طلب النصر على جهة ما الحذر منها والتوقي من غدرها.
وجاء السؤال بصيغة الجمع الذي يدل على طلب النصر للإسلام وليس للأشخاص والمنافع الدنيوية، ومن مفاهيم صيغة الجمع لزوم وحدة المسلمين وحرمة حصول الفرقة او الإقتتال بينهم لأن الآية تجعل المسلمين أمة واحدة في مواجهة الكفر، فالفرقة إضعاف للمسلمين في مواجهة الكفر والضلالة.
وتبين الآية من هو عدو المسلمين الذي يحتاجون الغلبة عليه والنجاة من شروره وكيده ومكره، فخاتمة سورة البقرة مدرسة جهادية وآلة سماوية مباركة للوحدة الإسلامية واصلاح المجتمعات وتهذيب النفوس والتأهيل المستمر والإعداد المتصل لمواجهة قوى الضلالة والبغي، ولابد ان النصر ومستلزماته لا يخرج عن التكليف بما يطاق، الذي جاءت به هذه الآية، ولا يدعو الى العجلة والإضرار بالأمة والذات.
علم المناسبة
ورد قوله تعالى [فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ثلاث مرات في القرآن مرة في بروز طالوت وشطر من جنوده لقتال الظالمين، وسؤال المؤمنين، ومرة في أصـحاب الأنبياء وقتالهم في سبيل الله، وفي المرتين يأتي الدعاء عند المعركة، ويتضمن سؤال الثبات في القتال [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا]( ).
ويمتاز دعاء المسلمين الوارد في هذه الآية عن دعاء الأمم السابقة المذكور في الآيتين اعلاه بوجوه:
الأولى : جاء دعاء المسلمين شاملاً لحال السلم والحرب، والرخاء والشدة، وقد وردت نصوص تفيد ان الذي يدعو في حال الرخاء ثم يدعو في الشدة تقوم الملائكة بالتعجيل برفع دعائه لأنه صوت مسموع عندهم، وان كان الله عز وجل يسمع الدعاء قبل ان تسمعه الملائكة.
الثانية : دعاء المسلمين مطلق ليس غي حال الحرب وساحة المعركة فحسب، بل عام في العلوم والإحتجاج والنظريات والشؤون المعاشية والإقتصادية والقيم الأخلاقية والحالة النفسية والثقة بلقاء الله عز وجل.
الثالثة : لم ينحصر دعاء المسلمين بالمقاتلين بل هو علم ويتعلق بالمسلمين جميعاً، فكل واحد منهم يتوجه بهذا الدعاء ويؤمن عليه، وعن معاذ بن جبل انه كان اذا فرغ من قراءة هذه السورة [فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] قال آمين.
الرابعة : عموم قراءة الآية في مختلف الحالات مناسبة للشكر له تعالى باعتبار انها كنز وأمان وواقية، لذا ورد عن حذيفة قال: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ سورة البقرة فلما ختمها قال: اللهم ربنا ولك الحمد عشراً او سبع مرات)( ).
الخامسة : لقد توجه المقاتلون من المؤمنين في الأمم السالفة بالدعاء بالنصر عند ملاقاة الكفار، أي انها قضية في واقعة وبلحاظ حال معينة ومخصوصة، اما المسلمون فقد أنعم الله عليهم وجعل الدعاء في القرآن يدعون به الى يوم القيامة، فيتجدد لهم النصر ويستمرون في حال من العز والظفر.
السادسة : ورد دعاء الأمم السابقة مقترناً بتثبيت الأقدام اما بالنسبة للمسلمين فورد مقترناً بسؤال العفو والمغفرة وعدم المؤاخذة وهو أعم وأشمل لأمور الدنيا والآخرة.
السابعة : قرينة ثبات الاقدام تدل على خشية المؤمنين من الأمم السالفة على دينهم وأنفسهم والخوف من التعرض للهزيمة خصوصاً مع لحاظ قوة وبطش العدو كما في حال جالوت وقومه، اما دعاء المسلمين فجــاء مطلقاً للـدلالة على حصول ثبات الإقدام ورسوخ الدين وعدم الخشية من الكفار على الإسلام ومبادئه وأحكامه.
الثامنة : الإطلاق في دعاء المسلمين النصر يتضمن الإخبار عن أهلية المسلمين لخلافة الأرض وتعاهدهم لمبادئ التوحيد وعدم اضرار الكفار بالأمة في عقيدتها ووحدتها وعزتها.
التاسعة : من دلالات اطلاق الدعاء قدرة المسلمين على مواجهة الكفر في اي زمان لأن سؤال النصر اثبات للشأن والحضور والكيان المستقل القادر على ملاقاة العدو، والآمل بتحقيق النصر بالدعاء والتوكل على الله عز وجل.
وعن المنكدر رفعه الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (وفي آخر ســورة البقــرة آيات انهـن قرآن وانهن دعاء وانهن يرضين الرحمن).
وتوكيد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأنهن قرآن وانهن دعاء، وعدم التعارض بينها وبين الدعاء، وزجر عن القول بأنهن دعاء تختتم به سورة البقرة.
وتعتبر سورة البقرة اسماً ومسمى دعوة للإيمان ومدرسة للأجيال وآية سماوية بين الدفتين، وقد ورد لفظ (البقرة) بصيغة المفرد اربع مرات في القرآن كلها في سورة البقرة على التعاقب في الآيات (67،68، 69، 71)، وتشير كلها الى موضوع شخصي وقصة بقرة واحدة، كانت آلة ملكوتية، فثبات نبوة موسى وكشف الحقائق والمنع عن التعدي والباطل كما ورد بصيغة الجمع خمس مرات، واحدة في سورة البقرة في الآية السبعين ضمن التسلسل أعلاه، واثنتين في سورة الأنعام، ومثلهما في سورة البقرة.
وورد بالإسناد عن بريدة قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تعلموا سورة البقرة وآل عمران فانهما الزهراوان وانهما تظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان او غيابتان او فرقان من طير صواف).
وفي الحديث مسائل:
الأول : اقتران سورة آل عمران مع سورة البقرة في الفضل.
الثاني : الحديث دعوة لتعلم سورة البقرة وسورة آل عمران مع ان التعلم أعم من التلاوة والقراءة، وبين التعلم والقراءة عموم وخصوص مطلق، فكل تعلم هو قراءة وليس العكس، لأن تعلم السورة القرآنية ليس تعلماً لموضوع أدبي او فقهي كي تكون النسبة عموماً وخصوصاً من وجه.
الثالث : روي عن عبد الله بن مسعود انه قال: (كان الرجل اذا تعلم سورة البقرة جد فينا أي عظم)( ).
الرابع : يؤكد الحديث وجود علوم وافاضات في سورة البقرة وآل عمران ويحث المسلمين على تعلمهم السورتين وصيغة الحديث جاءت بلغة الأمر (تعلموا)، والذي يحمل على الوجوب الا مع القرينة الصارفة على الإستحباب والظاهر ان المراد هنا الإستحباب لحصر الواجبات.
الخامس : يدل الحديث على موضوعية علم التفسير والتأويل والحاجة اليه، والى استخراج كنوز سورة البقرة وآل عمران.
السادس : يقال زهر الشيء: صفا لونه واضاء، واليوم الأزهر هو يوم الجمعة، ويقال رجل أزهر أي ابيض مشرق الوجه، وفي صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه أزهر اللون، ووصفهما بانهما زهراوان مدح مستقل وإخبار عما تبعث كل سورة من الضياء والنور.
السابع : التظليل يوم القيامة أمان ورحــمة والغمامة واحدة الغمام وهي السحابة البيضـاء، والغيابة الهبطة والســتر كعنــوان للأمن والسلامة من العذاب، والفرقان- بكسر الفاء- القطعتان أي ان كل سورة لها نفع عظيم على نحو مستقل عن الأخرى.
وستبقى سورة البقرة مدرسة عقائدية وإفاضة ملكوتية، ورحمة ساهمت في الإرتقاء الأخلاقي، وبيان وتثبيت أحكام الشريعة في الأرض الى يوم القيامة.


مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn