معالم الايمان في تفسير القرآن – سورة البقرة – ج 6

دراسات قرآنية

المقدمة
الحمد لله الذي جعل القرآن نوراً محضاً لا ظلمة فيه، ومعارف مستفيضة تتضمن أسراراً مكنونة يشهد كل حرف فيه على وحدانية الباري عز وجل ويحث على تقديسه والإمتثال لأوامره سبحانه، لا تدرك العقول كنهه لأن درره غاصت في أعماقه اللامتناهية, ولأن شدة ضيائه تجعل المدارك والحواس منشغلة في متاهات علومه وما في آياته من الإبداع الخالي من الإختلاف أو التعارض، وسيبقى منزهاً عن التغيير والتبدل والفناء بمدد وحصن من الله عز وجل بالوعد والعهد والميثاق الإلهي [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ), وفيه شاهد على عظيم منزلة القرآن, وحاجة الناس له في النشأتين، إذ يحمل صفات العالم العلوي بنزوله من السماء فتبدو عليه جلية أمارات النورانية والعلوية والسنخية اللطيفة، وصاحَبَ أهل الأرض وإستقر فيها من غير أن يتأثر بالكدورة النفسية أو الحزونة الأرضية أو الكثافة السفلية أو الشرور العرضية وشوائب الأفعال وغبار الآثار.
وتفضل الله سبحانه وجعله دائم الحضور عند المؤمن في صلاته وعمله لتخرج كمالاته من القوة إلى الفعل كنوع تعاهد لآياته ومضامينه القدسية التي تترشح منها البركات على نحو خاص وعام، الخاص في ليلة القدر، والصلاة اليومية لوجوب قراءته فيها ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ]( ).
والعام على قسمين، عام يتجلى في شهر رمضان، وعام مطلق طيلة أيام السنة لينقل الإنسان إلى مراتب سامية وتلتفت النفس إلى محاسبة الذات , وينمي فيها القوة والملكة التي ترتقي معها إلى منازل النفس المطمئنة وتسعى في تحصيل وجمع الفضائل للسمو في عالم الكمالات والملكوت.
وتضمن هذا الجزء من الكتاب عددا وشطرا من محاضرات البحث الخارج لتفسير القرآن التي ألقيتها على فضلاء الحوزة العلمية الشريفة، وفيه نظريات وقوانين قرآنية جديدة وعلوم مستحدثة في التفسير وتنقيح لبعض المقولات، ويشترك مع باقي أجزاء التفسير في قيامي بإعداده ومراجعته والإشراف على طباعته بنفسي رجاء مرضاة الله تعالى، وسؤالاً عملياً للمدد والعون والسداد، والسياحة في ذخائر علوم القرآن اللامتناهية ورجاء إستدامة إمتلاء النفس بالخشوع لله عز وجل, قال تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ] ( ).

المحكم والمتشابه
قال تعالى[ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
من إعجاز القرآن وكنوزه الظاهرة والتي تدرك بالحواس وتعيها الأفهام تعدد المعاني والمقاصد في الآية الواحدة التي تعتبر ومن الوهلة الأولى عنواناً للتآلف والإنسجام والتداخل، القرآن بنفسه يدلك بالنص الجلي على التعدد والتقسيم في المفاهيم من غير أن يكون ذلك باباً للتعارض أو التضاد أو التناقض، فلابد أن يكون ذا أهمية خاصة، ودلالات عقائدية وسراًً من أسرار القرآن، موضوعاً ومحمولاً ويملي علينا المزيد من السعي والإجتهاد في كشف الغطاء عما فيها من الحكمة والغايات السامية والمنافع التي يمكن إتخاذها سلماً للإرتقاء في علم التفسير ومنازل التأويل، وفي مراتب العلوم الدينية وغيرها كالعلوم الطبيعية والتقنية الحديثة.
ومن تلك الكنوز القرآنية علم المحكم والمتشابه والذي لم يستخرج معشار ما فيه من الحقائق والذخائر المكنونة،إذ يقف شامخاً بين دفتي الكتاب يدعو العلماء لينهلوا منه ويدلوا دلوهم فيخرج ناقصاً أو ممتلئاً أو ليس فيه إلا ما جاء به المتقدمون، ولا زال هذا العلم وعلوم كثيرة في القرآن تنتظر رواد المعرفة والجهود الخارقة والطاقات المكثفة والسعي الدؤوب المتصل مع إستثمار مبارك لوسائل العلوم والإعلام الحديثة.
وفي المحكم والمتشابه في القرآن ذكرت ثلاثة أقوال وعلى نحو الحكاية كما في الإتقان:
الأول : القرآن كله محكم، لقوله تعالى [ كتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ]( ).
الثاني : كله متشابه، لقوله تعالى [ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ] ( ).
الثالث : إنقسامه إلى محكم ومتشابه لتمام الآية أعلاه من سورة آل عمران.
إنه تقسيم واقعي وعقلي بعد تثبيت وتوكيد نزول الآيات من عند الله، أي أن التباين في ماهيته وموضوع الآيات لا يمنع أن تكون كلها كلمات من عند الله، ليس لأحد أن يقول هذه الآية من عند الله تعالى لأنها محكمة، والأخرى قد تكون نزلت بالمعنى ولكن اللفظ من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وكما يدفع هذا التقسيم التردد والقول غير المناسب فإنه دعوة للبحث بخصائص كل من القسمين ومصاديقه من الآيات وهناك مسائل :
الأولى : هل يستوعب هذان القسمان كل آيات القرآن؟
الثانية : هل يتعلقان بشطر منها، وأن هناك قسماً أو أقساماً أخرى مستقلة ، أوبرزخاً بينهما، فكيف نستطيع معرفة وتحديد تلك الأقسام وضوابطها الكلية.
الثالثة : هل بالإمكان توزيع الآيات القرآنية على هذين القسمين فنقول هذه آية محكمة وهذه متشابهة أم لا.
الرابعة : هل يمكن أن يكون بعض الآية محكماً وبعضها الآخر متشابهاً، وجزء منها ليس بمحكم ولا متشابه ليدل على إحتمال وجود قسم ثالث؟
الخامسة : هل من تعريف دقيق لكل منهما، وقواعد كلية ثابتة للفصل والتمييز بينهما بحيث نستطيع أن نعرف وفق تلك القواعد أن الآية من المحكم أو من المتشابه، ومع إجتماع قواعد كل منهما على الآية الواحدة فهل يحكم بأنها من المحكم أم من المتشابه أم تعد من المحكم وتعد من المتشابه أيضاً أم نرجع إلى قاعدة التساقط عند التعارض ونبحث عن مرجح آخر .
الجواب إن الله عز وجل جعل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )فمن باب الأولوية أن يكون فيه بيان لآياته وليس من تعارض في باب المحكم والمتشابه.
السادسة : القرآن نزل عربياً وبلغة العرب، فهل كان المحكم والمتشابه موجوداً في اللغة العربية وعند أهل البلاغة من العرب، أم أنه علم مستحدث في اللغة أيضاً ومن إفاضات القرآن؟ الأقوى هو الثاني وهو من كنوز القرآن وإفاضاته على اللغة.
السابعة : علم المحكم والمتشابه من إعجاز القرآن، من وجوه الإعجاز التي تحدى بها القرآن أساطين البلاغة.
الثامنة : تقدم وعلو القرآن رتبة على الكتب السماوية السابقة بعلم المحكم والمتشابه.
التاسعة : الدروس والعبر المستقبلية التي تستقرأ وتستنبط من المحكم والمتشابه.
العاشرة : الحاجة إلى دقة النظر في سبر غور هذا العلم وإستخراج درره.
الحادية عشرة : بما أن للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً وأن الآية لها تفسير وتأويل، فهل يمكن أن تكون الآية في تفسيرها مثلاً من المحكم، وفي تأويلها من المتشابه أو العكس .
ولا دليل على هذا التفصيل وكنوز القرآن أعم منه وتأبى الحصر بقواعد نظرية وظنية مخصوصة .
لموضوع المحكم والمتشابه مكانة في علم التفسير وقد ورد فيه نص وبيان، وفيه دراسات مستفيضه لاسيما عند تناول هذه الآية وتفسيرها والتحقيق فيه مستمر ، ولا غرابة في ذلك لقصور أوهامنا عن درك شوارق وأسرار القرآن ولم يوظف هذا التقسيم في العلوم القرآنية وما يترشح عنها، ونحن بحاجة إلى بذل الوسع في دراسات تفصيلية تستطيع أن تفتح المنافذ لأشعة الضياء المبارك لتلك الآيات، وتستخرج شطراً من كنوز علم المحكم والمتشابه.
أما بالنسبة للتساؤل الأول والثاني فان الآية وردت على سبيل التنكير وهو لا يفيد الحصر ويترك الباب مفتوحاً للبحث والتحقيق، وبهذا يمكن دراسة التساؤل الثاني وهو معرفة الأقسام الأخرى المحتملة بالدليل من القرآن والسنة والشواهد ومصاديقه من الآيات .
وعلى فرض وجود قسيم ثالث لهما، فلو شككنا في آية هل هي من المحكم أم من هذا القسيم المفترض , فالأصل أنها من المحكم، وكذا لو شككنا أنها من المتشابه أم من هذا القسيم , والبرزخ بينهما فانها من المتشابه.
أما بالنسبة للتساؤل الثالث فقد يكون حاجة علمية نفسية وغيرية وتتطلب جهوداً وطاقات ووقتاً ليس بالقليل لأنها ستدخل إلى علم التفسير حقيقة جديــدة تحتـاج إليها الأمة والناس جميعاً وهي الإنتقال من النظــريــة في التفســير إلى الواقع والتطبيــق، الأمر الذي قـد يتضح معه عدم صلاحــية بعض النظــريات أو يتبين أنها أعطيت أكثر مما تستحقه أوالعكس، ومع أي من الإحتمالات هناك الكثير من المسائل المستحدثة.
أما بالنسبة للتساؤل الرابع فان النعت والتقسيم في الآية الكريمة ورد على نحو عموم الآية بقوله تعالى [ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ]( )، وظاهرها يدل على ان الآية بكاملها محكمة والأخرى متشابهة.
وهل تكون بعض الآيات بكاملها هكذا والبعض الآخر نرجع فيه إلى ضابطة ظاهرة في كثيرمن آيات القرآن وهي أن أول الآية في شيء ووسطها في شيء وآخرها في شيء آخر، هذا أمر لا يستبعد ولكنه ليس سبباً في الخلاف والنقض والإبرام، فالذي يريد أن يثبت ذلك أو يحتمل وجوده , فان القرآن يعرض نفسه بسخاء للدرس والبحث والإستنباط , ويهدي إلى السبيل , وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
أما بالنسبة للتساؤل الخامس فنحن بحاجة ماسة إلى التعريف الدقيق لكل من المحكم والمتشابه بلحاظ اللغة والمفاهيم القرآنية ووجوهها المتعددة كما في الحديث : لكلّ آية ظهر وبطن ولكل حرف حدّ ومطلع( )، والرجوع إلى السنة والإصطلاح.
هل بين المحكم والمتشابه التساوي بدليل قوله تعالى [ كتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ]( ) أم كله متشابه لقوله تعالى [كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ…]( )، أو أن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً ، وكذا المتشابه يستعمل في القرآن بمعنيــين وربما أكـثر من ذلك معنى عام وآخر خاص، والعام ما تشترك فيه الآيات كلها، والخاص ما تنفرد به الآيات المخصوصة محل البحث والذي أشارت إليه الآية الكريمة، أم أن بينهما عموماً وخصوصاً من وجه؟
وصحيح أن لمعنى وتعريف كل منهما أثراً في تحديد النسبة بينهما إلا أنه يمكن القول بأن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق على القاعدة التي أسسناها وهي أن المتشابه محكم أيضاً ولكن بالواسطة والعرض، نعم قد يكون بينهما في الظاهر والإبتداء عموم وخصوص من وجه، ولا يستطيع الذين في قلوبهم مرض ان يجعلوا بينهما تبايناً ولكنهم يأخذون بالمتشابه ويتركون المحكم.
وفي هذا المعنى الذي دل عليه منطوق الآية بالتصريح إعجاز قرآني ذاتي وغيري , فهم لم يستطيعوا أن يوجدوا بينهما تناف أو تعارض، وهذا نوع تحد وسر من أسرار القرآن وإثبات لتنزيله من عند الله ، ورحمة، وتخفيف عن المسلمين ودعوة لهم لإستظهار وجوه الجمع بينهما في القرآن.
والإحكام بمعناه العام هو الإتقان والضبطوالجعل بما يحول دون طرو الفساد، والقرآن محكم ليس فيه إختلاف وتعارض أو تناقض , ولا يحتمل في تأويله الباطل.
ويدل عليه قوله تعالى [ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ]( )، ويدل معناه الخاص على وضوح المعنى وعدم طرو الترديـد والشـك عــليـه، ومن معاني مـادة التشــابـه الممــاثلــة والتشابه , ويدل عليه قوله تعالى[اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ]( ).
حمل المتشابه هنا على الإعجاز والبلاغة والهداية، أما المعنى الخاص فهـو الذي ورد في الآيـة بما يحتـمل معه التأويل والمشاكلة والمماثلة التي تؤدي إلى تعدد المعنى والتفسيرمع منع اللبس ، وهو من أعم المشترك اللفظي ويشمل توظيف اللفظ في بعض لوازم المعنى.
ترى ما المقصود بالمحكم والمتشابه؟ وفيه وجوه وأقوال عديدة:
الأول :المحكم ما كان معناه ظاهراً، والمتشابه ما إستأثر الله بعلمه كقيام الساعة والحروف المقطعة في أوائل السوّر.
الثاني :المحكم هو الواضــح البين، والمتشــابه بخلافه، فمثلاً من المحكم قولــه تعـالى [ وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ]( )، وقوله تعالى [ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً ]( )، والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل نحو آيات ومصاديق النعت.
الثالث :المحكم الذي ليس له إلا وجه واحد، والمتشابه الذي له وجوه عديدة محتملة.
الرابع :المحكم لا يحتاج في تأويله إلى غيره، والمتشابه ما يستلزم بيانه رده إلى غيره، نسب هذا القول إلى الشافعي.
الخامس :المحكم ما يكون تنزيله كافياً في تأويله، والمتشابه لا يعرف ما يراد منه إلا بالتأويل والتفسير.
السادس :المحكم ما لم تتكرر ألفاظه، والمتشابه ما تكررت ألفاظه.
السابع :المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال.
الثامن :عن الامام الصادق عليه السلام : “المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما أشتبه على جاهله”( )، وبه قال أيضاً عِكرمة وقتادة.
التاسع :المحكمات ما لم ينسخ من القرآن، والمتشابهات ما قد تنسخ ويترك او يعلق العمل بها , ولابد أن يدل على بعض المصاديق ومعاني هذا العلم .
وقال قتادة : المحكم : الناسخ, والمتشابه : المنسوخ ) ( ).
وعن ابن عباس: (الناسخ الثابت، والمنسوخ ما مضى، والمحكم ما يعمل به، والمتشابه الذي يشبه بعضه بعضاً) .
العاشر :أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن سليمان قال: “المتشابهات فيما بلغنا آلم، آلمص، آلر، آلمر( ).
وهذه بعض المصاديق خصوصاً وان الآية السابعة من سورة آل عمران وهي محور هذا العلم تبدو وكأنها قسمت آيات القرآن غلى شطرين، والظاهر ان المقصود بالمتشابهات أعم من آيات الحروف المقطعة وكذا بالنسبة وجوه عديدة مما ذكروه في تفسيرها.
الحادي عشر :المحكم هي الفرائض والأمر والنهي والحلال والحرام.
الثاني عشر :عن ابن عباس المحكمات هي الثلاث آيات من سورة الانعام [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا]( )إلى آخر الآيات الثلاث.
والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود كأوائل السّور، وعلى فرض صحة السند فإنها من المصاديق والمثال.
أخــرج ابن أبي حـاتم عن ابن عباس في قوله تعالى [فيه آيات محكمات]( ) قال : من ها هنا [قُلْ تَعَالَوْا …] ثــلاث آيات، ومن هــا هنــا [وَقَـضَــى رَبّــُكَ أَلاَّ تَعْــبُــدُوا إِلاَّ إِيّــَاهُ…]( ).
الثالث عشر :عن ابن عباس أيضاً أخرجه ابن أبي حاتم , قال : المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به”( ).
الرابع عشر :عن مجاهد قال: “المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك منهمتشابه يصدق بعضه بعضاً”.
الخامس عشر :المحكمات هي الآيات الزاجرة.
السادس عشر :عدت الآيات التي تتحدث عن صفات الله من المتشابه، وكذلك الآيات التي تتحدث عن الهدى والضلال( )، قال الخطابي: “المتشابه على ضربين، أحدهما ما إذا رد إلى المحكم وأعتبر به عرف معناه، والآخر ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ فيطلبون تأويله ولا يبلغون كنهه، فيرتابون فيفتنون[وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ]( ).
السابع عشر : أختلف في الواو [وَالرَّاسِخُونَ] هل هي للاستئناف أم للعطف، والقول بأنها للإستئناف هو المشهور، أي ليس للراسخين في لإتصاف الراسخين في العلم والإقرار والتسليم والإيمان بما جاء من عند الله، [يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ]( )، والذين يقولون أنها للعطف يذهبون إلى ان التشابه يعلمه الراسخون وهو مذهب أهل البيت عليهم السلام، أي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، وهو من عطف ما هو بالعرض على ما هو بالذات لأن العلم بالنسبة لله تعالى حضوري وغيره بالعرض والإشتقاق في علمه كما في قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَاثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
لقد أظهرت الآية على الوجهين سواء الإستئناف أو العطف فضل الراسخين في العلم ومدحتهم من بين الناس فلابد ان المدح جاء لخصوصية، وهي جعل الله عز وجل آيات من القرآن غير مفهومة على نحو التمام لدى الناس ومنهم الراسخون في العلم لاسيما وان الفهم والمعرفة تتحقق بأدنى مراتبها أي بالمعرفة الإجمالية والإطلاق، وان هذه المسألة إبتلائية منذ أيام التنزيل فهي من مرتكزات ما يدركون معه وعلى إختلاف مشاربهم ومراتب ذكائهم ضرورة عبادة الله والإنقياد لأوامره سبحانه.
الثامن عشر :على القول بأن بين المحكم والمتشابه عموماً وخصوصاً من وجه فان بعضهم أورد سؤالاً أو شبهة وهي أن كان للمحكم على المتشابه مزية وفضل فهو نقض للقول بأن كلام الله كله منزل بالحكمة، وان قيل بعدم مزية للمحكم على المتشابه فهو خلاف الإجماع.
أقول : لقد جاءت الآية القرآنية بالفصل بينهما ولم تذكر مزية لأحدهما، مما يعني أن لكل منها خصوصيات معينة، وان المحكم والمتشابه كلاهما من الحكمة والإحكام المتقن.
ويتضمن كل منهما الإعجاز والعلم والهداية والدلالات البينات وعدم الإختلاف أو التعارض فالتساؤل يجب أن يتوجه لما فيه إظهار الحقائق العلمية لكل منهما لأن التقسيم القرآني هذا دعوة للبحث والإستنباط.
التاسع عشر :عد المتشابه في الآية على المشاكلة والمماثلة، ويستفاد من آيات أخـرى من القــرآن إلا أن ذيـل الآيـة يشـير إلى ان التشـابه موضوع آخـر بما فيـه من ذم للذين يتبـعونــه، ومفهومـها يــدل على وجوب إتباع وإعتماد الآيات المحكمـات منه، ويفهم ذلك من المنطوق بدليل قوله تعالى [هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) أي الآيات المحكمات، وظاهــر الآية ان الآيـات المتشابهات ترد إلى المحكمات.
العشرون :المراد من المحكم ما يعرف المراد منه بلا إستعانة قرينة مثل قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، أما المتشابه فهو ما لا يعرف المراد منه إلا بالقرينة مثل قوله تعالى [فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ]( )، ولا يمكن معرفة القدرة هنا إلا بالرجوع إلى قوله تعالى [ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ]( )، أي يقدر الله عليه رزقه بمعنى التضييق والتقتير.
الحادي والعشرون:المتشابه متصل ومتداخل مع المحكم , ويمكن إتخاذه منهجاً ودليلاً بالرجوع إلى الآيات المحكمات وهي جزء من القرآن، فالإحكامجاءه بالعرض، وتلك الآيات المحكمات يكون إحكامها بالذات، فالفرق بينهما صغروي ويسير،والتحقيق وذكر المصاديق من المتشابه وردّها إلى أصولها يبين لنا ان هذا التفصيل إمتناني ولا تصل النوبة والحاجة معه إلى الرجوع إلى الظن غير المعتبر الذي لا يغني عن الحق شيئاً.
وهو نوع إعجاز في القرآن يظهر أحياناً في علم التفسير عند التعرض لبعض الآيات وتأويلها كما في الآيات التي تنفي التجسيد والكيف عن واجب الوجود كما في قوله تعالى [ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ]( ).
فاليد هنا إشارة إلى القوة والسلطان والعز , وهو سبحانه ليس كمثله شيء، ولكن المنافقين والذين في قلوبهم زيغ يريدون ان يجعلوا منه مصدراً للفتنة ومنفذاً لبث سمومهم فحذر الله عز وجل من مكرهم.
الثاني والعشرون : ورود النص بذم الذين يتخذون من المتشابه مادة للجدل وموضوعاً للريب , وعن عائشة : أنَّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وسلَّم قرأ هذه الآية : {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} فقال صلَّى اللّه عليه وسلَّم : إذا رأيتم الَّذين يسألون عمَّا تشابه منه ويجادلون فيه الَّذين عنى اللّه عزَّ وجل فاحذروهم ولا تخالطوهم)( ).
وفيه شاهد على لزوم تفقه المسلمين في علوم القرآن واليقظة والحيطة من الذين يتبعون المتشابه, ويدل الحديث بالأولوية القطعية على الحذر من إتباع الذين يدعون الناس إلى إتباع المتشابه.
المسائل المستنبطة من البحث
الأولى :يستلزم علم المحكم والمتشابه بذل الجهود العلمية من قبل العلماء والمفسرين , لتتجلى حقائق تملي التصاغرأمام عظمة القرآن وتشعب علومه والعجز عن إدراك كنهه في سبر أغوار ذخائره, فاذا ورد في القرآن شيء مجمل، فلابد ان يبين في موضع آخر من القرآن وان تبينه السنة بوضوح، وبحث هذا الموضوع يحتاج إلى دراسات جديدة أكثر شمولاً ودقة، لإكتشاف ما في القرآن من الكنوز.
ومن الأولى ان يقوم طلاب الدراسات العليا للقرآن بإختيار هذا الموضوع لبحوثهم ورسائلهم، ويلتفت الأساتذة إلى التفصيل في بحوثه بمعنى ان لا يردّوا مثل هذه الدراسات بذريعة أنها قد بحثت من قبل، إذ ان فروع المحكم والمتشابه متعددة ومتعشبة وفي كل واحد منها الكثير من وجوه العلم فيمكن ايجاد مواضيع مستقلة لدراسة هذا العلم، إستقراء مواضيع عديدة تصلح للدراسة على نحو مستقل في هذا العلم.
الثانية :لقد أعطانا القرآن مفتاح الحل والتأويل بقوله تعالى [ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ] أي الأصل الذي يرجع إليه وفي قوله تعالى [ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ]( )، ذكر أن اللوح المحفوظ سُمي أم الكتاب، والكتاب في الآية قد يُراد منه القرآن وقد يُراد منه أحد الكتب السماوية السابقة،أو المعنى الأعم .
وفي قوله تعالى[ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ]( )، قال النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن، وقيل : هو اللوح المحفوظ( ), ولكن بعد ذكر قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكون ذكر القول المخالف له أمراً زائداً، خصوصاً وأنه ذكر بلفظ(قيل) وهو تضعيف له، وعن الصادق عليه السلام: “الكتاب الاسم الأكبر الذي يعلم به علم كل شيء الذي كان مع الأنبياء”.
الثالثة :ان إختلاف المفسرين على أقوال قد تقدمت يحتاج إلى جمع وتحقيق وبيان أوجه الشبه والتداخل والإلتقاء بينها ثم دراستها وعرضها على الكتاب والسنة.
الرابعة :ليس بين هذه الأقوال تعارض بل قد يرد بعضها إلى بعض.
الخامسة :ذكر أن المتشابه يقابل المنسوخ أو هو المنسوخ، والمحكم هو الذي لم يطرأ عليه النسخ، والآية المحكمة هي التي لم تنسخ تلاوتها ولا موضوعها، ولعله أحد المصاديق فالمحكم والمتشابه أعم من ذلك ويحتاج المحكم إلى إثبات .
ويدل عليه إستقلال الموضوع وعلمه، أي أن البحث قد يقع في الكبرى وهي إثبات ان هذه الآية من المحكمات كي تكون أصلاً.
السادسة :لقد إجتهد المفسرون والعلماء في بيان وجوه تفسير الآية السابقة من سورة آل عمران المذكورة في أول البحث، والأهم في الآية موضوعها والغايات والمقاصد الأساسية منها إذ أنها تمتلك من السعة والآفاق العلمية ما ينتفي معه الخلاف، وعدم إستطاعتنا الإحاطة بها لا يمنع من الإجتهاد والبحث.
السابعة :يشكر اللهَ المسلمون على هذه الآية التي هي باب للهداية والصلاح وتنزيه للقرآن وعون على منع الجدال والخصومة والشك في آياته، إنها تأمر بالرجوع إلى أمهات الآيات قبل البحث في المتشابهات، وفيه شواهد كثيرة في التأريخ الإسلامي حيث تبطل شبهة أو زيف في باب التوحيد أو العدل أو النبوة بآية قرآنية، فلا غرابة ان يشد أحدهم الرحال إلى الراسخين في العلم إذا حصل توقف أو التباس يتعلق بآية من القرآن أو مسألة كلامية او شبهة طارئة فيجد التفسير بآية أخرى، وينكشف في الحال اللبس، ويزول وينجلي الوهم بإيمان زائد ويدفع الشك.
الثامنة:إنها نوع وقاية وإحتراز من الإختلاف في التأويل حسب ظواهر المتشابهات.
التاسعة :الآية بيان لصيغ البحث القرآني والمنهجية التي يجب ان تتبع في التفسير والتأويل.
العاشرة :إنها دعوة للبحث والتحقيق والإستقصاء، وبذل الوسع في علوم القرآن لما يتضمنه الإجمال الكريم في الآية من مفاهيم التنبيه والإشارة والحث على إستخراج كنوز القرآن، والإجماع والوجدان يدلان على حقيقة قرآنية ثابتة وهي ما من مجمل في القرآن إلا وقد بُين، أدركته عقول الرجال أو لم تدركه بعد.
الحادية عشرة :تحث الآية على عدم السكوت على القول والشك في القرآن والشبهات من خلال الآيات المتشابهات، فهي تأمر بالجواب والتصدي والجهاد لمثل هذا بالقرآن وبآياته أي بالمحكمات من الآيات، والتي تدل بالدلالة التضمنية على الإنذار والتخويف إلى جانب الموعظة ويمكن ان يستشهد على ذلك بما قال الإمام علي عليه السلام لابن عباس يوم النهروان: “لكن القرآن حمّال ذووجوه”( ).
الثانية عشرة :الآية تزيد المؤمنين إيماناً بالتقسيم الكريم لآيات القرآن وتدعو إلى عدم التعجل والإنغماس في أودية الشبهات او التفسير الذي يبتعد عن المقاصد الإلهية ونحوها بل ومجرد التفكير فيها للركائز العقائدية التي أوجدتها هذه الآية برد الأمر إلى الله تعالى.
الثالثة عشرة :الآية الكريمة دعوة إلى إبراز علم تفسير القرآن بالقرآن، وحث لنا على عدم البت بتفسير آية إلا بالرجوع إلى الآيات الأخرى التي تلتقي معها.
الرابعة عشرة :الآية بيان لسر من أسرار القرآن وهو ان بعض آياته فيها أصول المعارف الإلهية.
الخامسة عشرة :تقسيم آيات القرآن إلى محكم ومتشابه يجعل علم التفسير متكون من مرحلتين وربما أكثر، فأولاً يجب ان نعلم ان تلك الآية من المحكم أم من المتشابه؟ وإذا كانت من المتشابهات فما هو حكمها؟ وما هي وجوه الدلالة سواء المطابقية أو الإلتزامية أو التضمنية بينها وبين آية معينة أو آيات محكمات تلتقي معها في الموضوع والدلالة.
السادسة عشرة :ومن إعجاز القرآن ان مصاديق متعددة ومختلفة من باب واحد أو متعدد من العلوم تنطبق على موضوع واحد وبلحاظ واحد، فهذا التقسيم المبارك بين المحكم والمتشابه ذو نفع نفسي وهو مقدمة لمفاهيم متعددة كما انه طريق محض لحقائق قرآنية ووجوه الإعجاز فيها لسبر علوم أخرى واقامة البرهان عليها وعلى غيرها.
السابعة عشرة :قولـه تعــالى [ فَأَمَّــا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِـمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ]( ) يتضمن في منطوقه تحذيراً ونهياً عن إتباع ما تشابه من آيات القرآن، كما أنه في مفهومه تنبيه للمؤمنين ودعوة وحث على الفرز والتمييز بين الآيات المحكمات والمتشابهات بالدلائل او القرائن او الشواهد او القواعد اللغوية والأصول البلاغية والمفاهيم العقائدية.
الثامنة عشرة :قال الإمام الصادق عليه السلام: “من حُرم الخشية من الله فليس بعالم وإن شق الشعر في المتشابهات، ومن لم يكن عمله مطابقاً لقوله فليس بعالم”.
يدل الحديث بالدلالة التضمنية وما فيه من التمثيل على أهمية العلم بالمتشابه والحاجة فيه إلى الفن والعلم ولطافة الذوق والمهارة في التحقيق، وان المحكم والمتشابه من أمهات العلوم في القرآن.
التاسعة عشرة: إن وجود هذا التقسيم في آيات القرآن دليل على عمق وسعة علم التفسير، وربما كان شاهداً على أننا لا زلنا في بداية الطريق بلحاظ ان أقوال المفسرين فيه لا تزال على نحو الإجمال ولا تخلو من التزاحم والإختلاف.
العشرون :التمييز وإظهار ما يتصف به كل قسم من القسمين سبيل إلى منع الميل عن الحق، وحائل دون إنتشار الفتنة وشيوع الإفتتان وأسباب الضلال.
الحادية والعشرون : لا بأس بتأليف كتاب يبين ما أثير حول القرآن من الشبهات وحلها وإبطالها إبتداءً من أيام النزول الأولى، ولو بتتبع كتب التفسيروالسير وما فيها من رد للأباطيل وحملات التشويه على القرآن، مدرسة علمية وفكرية وحجة دامغة وسلاح لدرء الفتنة وعز للمؤمنين وآلة مدخرة لأولي الألباب، وبيان لوجوه الجهاد المتشعبة التي دأب المؤمنون عليها إقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تصديه للشبهات من غير إنفعال وغضب, قال تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ]( )، إذ أن تأريخها يعود لأيام التنزيل الأولى , فمثلاً قوله تعالى [إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ]( ).
دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلثمائة وستون صنماً، فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحرث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليهم [ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ]( ) الآية، فأقبل عبد الله بن الزبعري فرآهم يتهامسون فقال: فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله، فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوه .
فقال ابن الزبعري: ءأنت قلت ذلك؟
قال النبي محمد : نعم، قال: قد خصمتك ورب الكعبة، أليس اليهود عبدوا عزيراً، والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك، فأنزل الله تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ]( ) الآية، يعني عزيراً والمسيح والملائكة عليهم السلام.
الثانية والعشرون :عربية القرآن ومعاني ألفاظه في اللغة لها إعتبار وموضوعية في علم المحكم والمتشابه فلابد من الرجوع إلى اللغة وتعريف المحكم والمتشابه والبحث عن الإشتراك اللفظي في كل منهما خاصة وتعدد التعاريف الخاصة بهما يحتمل وجود مصاديق متعددة لكل منهما، ولابد لتلك المصاديق من أصل في اللغة او في السنة، والذي في السنة لا يبتعد عن الأصل اللغوي لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، لاسيما وان الإصطلاحين لهما وضع تعييني( ) وحقيقة شرعية( ) سابقة للوضع اللغوي .
والتوكيد على السنخية العربية للقرآن يدل في مفهومه على ان معاني هذه الألفاظ ليست مخترعة في شرعنا أو أنها غير لغوية ولو كان لبان، بل هي عربية كما لا يمكن حملها على الإعجاز اذا لم تراع مناسبة وقرائن وصلة بين المعنى الحقيقي والمعنى المستعمل فيه لفظ المحكم والمتشابه، والقرآن كله إعجاز.
الثالثة العشرون :قد يراد بالمحكم ما إتضحت معرفته وكان مفصلاً بصورة دقيقة من غير إختلاف أو إضطراب بعضهم فيه، وقد يُراد به ما كان صدوره على الوجه الأكمل وتمام الإتقان ونهاية الكمال، في صورة القطع والتوكيد وإلا فإن آيات القرآن كلها في غاية الكمال، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: جمعت المحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: وما المحكم؟ قال: “المفصل”)( ) .
وقيل المفصل من القرآن من سورة محمد إلى سورة الناس وهي آخر سوّر القرآن وإنه خال من المنسوخ، أو يُراد به ما لم يكن متشابهاً إلا أنه أحكم بيانه بذاته ولا يحتاج في بيانه إلى غيره .
قال ابن منظور : والعرب تقول: حَكَمْتُ وأَحْكَمْتُ وحَكَّمْتُ بمعنى مَنَعْتُ ورددت ومن هذا قيل للحاكم بين الناس حاكِمٌ لأنه يَمْنَعُ الظالم من الظلم)( ).
المحكم والمتشابه نوع تحد وإعجاز قرآني قد لا يكون موجوداً في اللغة العربية وفي البلاغة ليكون المحكم والمتشابه باباً لإستحداث علوم جديدة في البلاغة ويفتح الآفاق لدراسات قرآنية.
الرابعة والعشرون :تجدفي فن المعقول عرضين أو طرفين بلحاظ موضوع واحد , وهي ستة أقسام: المثلان، والخلافان، والضدان، والنقيضان، والمتضايفان، والملكة وعدمها، فمن أي من هذه الاقسام يكون مفهوم المحكم والمتشابه؟ فهما مثلان من حيث الجزئية من القرآن وان كلاً منهما كلام الله، ولكن في المعنى الإصطلاحي ومفاهيم علم التفسير ليسا كذلك لأنهما ليسا من نوع واحد كالبياضين والسوادين، وهما ليسا ضدين لأن الضدين لا يمكن إجتماعهما ولا يتوقف تصور أحدهما على تصور الآخر كالسواد والبياض، والعلم والجهل.
فالمحكم والمتشابه يمكن إجتماعهما , والقرآن يؤكد ويدعو ويحث على إجتماعهما، وهما ليسا من قبيل العدم والملكة الذي يكون أحدهما وجودياً والآخر عدمياً كالزوجية والعزوبة، والحيض وسن اليأس في المرأة.
إذ ان موضوع بحثنا يتعلق بأمرين وجوديين , ونعتين يتصف بكل منهما شطر من آيات القرآن، وهما قطعاً ليسا من النقيضين أي الإيجاب والسلب والوجود والعدم من غير لحاظ الشأنية كالضياء او عدمه، وهما أي المحكم والمتشابه ليسا من الخلافين أي العرضين من نوعين يمكن إجتماعهما في محل واحد كالطهارة والحلية، والنجاسة والحرمة، والبياض والحلاوة نعم يمكن أن يكونا من المتضايفين وهما الوجوديان من نوعين مع عدم الإجتماع ولكن يتوقف تصور أحدهما على تصور الآخر كالأبوة والبنوة، كما أنهماأعم من المتضايفين وليس بينهما تكافؤ في الإصطلاح إذأن المتشابه يتوقف بيانه وتحديد معالم موضوعه على المحكم لرجوعه إليه دون العكس.
الخامسة والعشرون :يتفضل الله تعالى ببيان مصاديق من المحكمات ليساهم القرآن بمنع وصد اهل الزيغ من سوء التأويل عندما يكون فعلهم هذا مخلاً ومضراً بالرسالة الإسلامية ولتيسير مناهج البحث في باب المحكم والمتشابه بذكر بعض المصاديق والآيات المحكمة، قال تعالى [فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ…]( ).
السادسة والعشرون :قولــه تعــالى [ كِتَابٌ أُحْكِـمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ]( )، هل التفصيل في الآية إشارة ونعت للمتشابه؟ او ان التفصيل فرع الأحكام وجزء منه؟ الأقوى جواز وإمكان الإحتمالين بلحاظ القاعدة الكلية وهي ان المتشابه ايضاً محكم ولكن إِحكامه بالعرض وبالواسطة وباللجوء الى الآيات المحكمات.
السابعة والعشرون :يقال حكم الشيء وأحكمهأي منعه من الفساد ومن طرو ما ليس منه، فالآية بشارة على عدم وصول ضرر أهل الزيغ إلى كتاب الله وآياته وفيها إخبار عن إمكان التصدي لهم ولأهوائهم بآيات القرآن فمع أن قسماً منها من المتشابهات إلاأنها تمتلك القابلية للرد الى المحكمات من غير التباس أو بقاء شك أو وهم.
الثامنة والعشرون :قوله تعالى [آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ]أيأن الأحكام كان وصفا تعلق بالذات وأن كل آية محكمة على نحو الإستقلال والإنفراد أما قوله تعالى[وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ] فالتشابه هو التماثل، وفيه نوع مفاعلة وأثنينية وأن بعضها يشبه بعضاً ليس لأن فيها التباساً او مشكلة أو شبهة، بل أنها وبلحاظ معين ووجه من وجوهها تعطي شبهاً من غيرها، فالآية لها وجوه من التفسير والتأويل فنرجع الى الآيات المحكمات لمعرفة المقاصد الربانية من كل منها وللفرز بينها فيكون فيه حينئذ تعدد في النفع والدلالة وهو من من مصاديق الإعجاز.
التاسعة والعشرون:فيإرجاع المتشابه من الآيات إلى المحكمات رحمة وفضل من الله تعالى، فهو يحول دون الشبه والزلل , ويمنع من الخطأ في التطبيق او التشديد على النفس او الظن غير الحسن، كما يفتح لنا كنوزاً من القرآن ويكون حاجزاً دون التردد والتحير في تفسير وتأويل آيات القرآن وهو منهاج كريم لكيفية وطريقة وصيغة علوم القرآن بالدراسة التفصيلية لما ورد من أحاديث بخصوص المتشابه مع اعتبار السند، بلحاظ قاعدة التسامح في أدلة السند وعدم طرح الخبر الضعيف الذي لا تجتمع فيه الشرائط كاملة لأن المقام مقام الإرشاد والتوجيه والوعظ والتماس النفع العام وطلب الحكمة.
وكذا في المستحبات ورجاء المطلوبية وتحصيل الثواب مع الإلتزام بعرض تلك الأحاديث على القرآن والإلتفات الى تعدد وجوه التأويل للآية الواحدة فقوله عليه السلام: “ان القرآن حمال ذو وجوه”، مقيد بحقيقة ثابتة وهي مطابقة كل وجه من تلك الوجوه للموازين الشرعية والمعارف الإلهية.
الثلاثون :فيه اشارة الى حديث الثقلين وان الله عز وجل تفضل على الناس ببيان علوم القرآن بياناً ذاتياً على نحو الدلالة المطابقية او الإلتزامية او التضمنية وكذا انعم عليهم بالرجوع إلى الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلمالصحابة وأهل بيته عليهم السلام لمعرفة اسرار التأويل.
الحادي والثلاثون :قد يكون المتشابه وجهاً من وجوه تفسير آية معينة وبطناً من بطونها، ولكنه لا يستوعب تفسير الآية ومضامين تأويلها، وفي الحديث (إن لكل آية ظهر او بطن اولكل حرف حد او مطلعا) ( )، ترى هل من ملازمة او صلة بين المتشابه وبطون القرآن هذه او بعضها، او ان تلك البطون من المتشابه .
روي عن ابن عباس انه قال: المتشابهات الم، الر، وما اشتبه على اليهود من هذه ونحوهاوهو من تعدد المصاديق.
الثاني والثلاثون:ذكر ان المتشابهات هي الآيات التي نزلت في ذكر القيامة والبعث مثل قوله تعالى [ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَافْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ]( )، ولكن المطلوب هو تحديد خصائص المتشابه ولا مانع من اتخاذ بعض المصاديق عند ثبوتها ولو بالظن المعتبر سبيلاً الى معرفة ضوابطه وقواعده وحصر الآيات المتشابهة.
الثالث والثلاثون :رد المتشابه إلى المحكم من إعجاز القرآن موضوعاً وتطبيقاً، وهو سلاح لإثبات إستحالة التعارض في القرآن وواقية تخزي من يهم بالبحث عن تعارض وإختلاف محتمل في القرآن وإبطال فعله بالحجة البالغة والبينة الواضحة [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ).
الرابع والثلاثون :من فروع هذا الباب إجتناب التفسير بالرأي، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده في النار.
الخامس والثلاثون : في الأمر برد المتشابه إلى المحكممنافع عظيمة من وجوه :
الأول : إنه برزخ دون الفتنة والفرقة والشقاق والتشتت .
الثاني : هو إنذار ووعيد لأولئك الذين يتبعون المتشابه بقصد الإساءة للإسلام ولإيجاد الإرباك العام والتفريط،
الثالث : فيه تنبيه للمؤمنين في التصدي لهم ولما يترشح من عملهم هذا من أسباب الريبة والشك وموجبات الوهن، فلذا تعتبر مسؤولية العلماء مركبة وفي غاية الأهمية كما انها تتعدى زمانها في ترتيب الأثر وفتح آفاق العلوم.
السادس والثلاثون :لابد من دراسة وجوه الحكمة من إحتواء القرآن على المتشابه وكيف ان آياته كلها محكمة ولكن فيها متشابه، وان هذا التفصيل عرض راجع الى ذات القرآن على الفقهاء والمفسرين بيانه.
وهل يتناسـب مع تبايـن مـدارك الناس؟ الجـواب: نعـم كما أنه دليل على تحدي القرآن للعقول، وحثها على سبر أغوار الآيات القرآنية.
السابع والثلاثون :الآية دعوة للرجوع الى السنة النبوية الشريفة أقوال الصحابة وأهل البيت عليهم السلام في المحكم والمتشابه كما تدل الأحاديث في المقام على هذا التداخل الثابت وبطرق متعددة عند عموم المسلمين.
الثامن والثلاثون :المحكم والمتشابه علم متجدد في كل زمان فبعد أكثر من ألف وأربعمائة سنة على نزول القرآن لا زال هذا العلم في بداياته مما يستلزم جهوداً مضاعفة كي ترى الأجيال ما يتضمنه من المعارف الإلهية لتستثمرها الأمم في العبادة والمعاملة والأحكام.
التاسع والثلاثون:وجود المتشابه في القرآن دعوة الى التفكر والتدبر في آيات الله عز وجل وحث على البحث العلمي في آياته، فالتشابه يبدو لك عند أول وهلة ولكنه يزول بالتدبر والتأمل والتفكر فتستخرج علوم من القرآن مكنونة ومدخرة لأول مرة , وكأنها تقف متأهبة بانتظار من يكشف الغطاء عنها لتنتفع منها الأجيال ويدرء بها حسد وكيد الأعداء، إذ أن قوله تعالى [ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ]( ) يدل في مفهومه على لزوم تصدي العلماء لأسباب الفتنة ومنه غلق الأبواب على إتباع الهوى أواللجوء إلى المتشابه دون المحكم.
الأربعون :قد طرحنا مسألة علمية مستحدثة في إعجاز القرآن وهي ان كل آية من آياته تتضمن تأديباً للمسلمين ففي هذه الآية يجب ان نبحث عن وجوه التأديب المتعددة فيها من جهة موضوع هذا التقسيم الشريف والدعوة إلى التدبر في التفسير والمحكم , والحث على الرجوع إلى الآيات الأخرى أي أن لا نأخذ الآية بشكل مستقل بل بلحاظ الآيات الأخرى التي نقطع أو نظن إشتراكها معها في الموضوع أو المفهوم.
الحادي والأربعون :المتشابه هو محكم في حقيقته وحتى على حمل معنى قوله تعالى [كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ] ( ) على المعنى الخاص فإنها أحكمت من لدنه ولكنها سنن متشابهة، وهذا التشابه بدوي يزول بالتدبر والتأمل وبالرجوع إلى القرآن نفسه والاستعانة بالسنة الكاشفة عن ذخائره.
الثاني والأربعون :الإختلاف والتعدد في معاني المحكم والمتشابه نوع إعجاز قرآني يتمثل بصعوبة تحديد المعنى والمفهوم للآية ويعود إلى السعة في التأويل.
ومن الإعجازعدم التحديد في التقسيم بين الآيات إنما تستظهر آيات معينة كشواهد وبحسب الدلالة والقرائن.
الثالث والأربعون :قد ورد ذكر الزيغ في ذم بني إسرائيل بقوله تعالى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ]( ) مما يعني ان المسلمين عامة خرجوا بالتخصص ممن يتبع المتشابه، وان المقصـود بالذم هنا الذي يتبع المتشابه وهم شطر من غير المسلمين، ولعل تفسير القرآن بالقرآن من رد المتشابه إلى المحكم وبلحاظ الآيات التي تمدح المسلمين على الهداية والرشاد وإتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإلتزام بما في القرآن من الأحكام.
في الآية لفت نظر إلى عدم تفسير القرآن من دون الرجوع الى القرآن نفسه إماماً وهادياً ومرشداً ومبيناً ويشمل بيان القرآن للأشياء بيانه لنفسه ومضامينه القدسية , قال تعالى[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الرابع والأربعون :علم المحكم والمتشابه يبين التداخل والترابط والملازمة بين آيات القرآن، ويدل في مفهومه على الحاجة إلى دراسة القرآن وآياته قبل ولوج عالم التفسير والتأويل كما في باب الفقه مثلاً فقد يكون حكماً لمسألة في العبادات موجوداً في نص يتعلق بالمعاملات أو الأحكام أو القضاء، فلابد في الفتوى من الإطلاع على أبواب الفقه المختلفة.
ولقد خفف الفقهاء المتقدمون منهم والمتأخرون عمن لحقهم في الملاحظة وإستظهار المتعلق وما يخص كل موضوع، وفي القرآن يبقى هذا الباب من العلم مفتوحاً لاسيما وأن كل آية من القرآن خزينة ووعاء لعلوم متعددة.
الخامس والأربعون :لم ينحصر الإفتتان في إتباع المتشابهبأيام التنزيل وأسبابه وتلك قاعدة عامة وهي بقاء الآية القرآنية وحكمها لاسيما وأن الذين في قلوبهم زيغ ومن شابههم بقوا على آرائهم ومنازلهم مما يعني أولوية مواصلة إكتشاف أسرار هذا العلم.
السادس والأربعون :لا بأس في دراسة تتناول الآيات القرآنية في الجملة بلحاظ المحكم والمتشابه أي ذكر جميع الآيات المحكمة وجميع الآيات المتشابهة وما بينها من المنازل مع بيان القاعدة الكلية التي تتبع في هذا المنهج.
السابع والأربعون :الآية الكريمة سلاح وقائي ذاتي ضد أعداء الدين والذين يحاولون الإساءة للإسلام , وهي من الجدال بالحكمة والموعظة الحسنة , قال تعالى[يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
الثامن والأربعون:في الآية عون للمؤمنين للتصدي لأهل الريب والمراء، وحث للمسلمين جميعاً على إستقصاء العلوم القرآنية بالدراسات المقارنة بين الآيات.

الإعجاز في المثل القرآني
للمثل القرآني وموضوعية وإعتبار عقائدي لما فيه من الخصوصية والمضامين والدلالات والمقاصد والحكمة، ولما يترشح عليه كأفضل مراتب التنزيل من قدسية وإفاضة يستحق معها ان يكون آية علمية.
ولقد ألفت كتب كثيرة في المثل القرآني وهي في الغالب تستعرض نماذج من أمثلة القرآن أو تقوم بتفسيرها وبيانها على نمط الآيات القرآنية الأخرى، ولكنها بقيت متخلفة عن اظهار فلسفة المثل في القرآن، كما ألفت كتب كثيرة في الأمثال العامة والسائدة، لذا يمكن تقسيمها تقسيماً إستقرائياً إلى قسمين:
الأول: كتب تعلقت بالأمثال من جهة لغوية وإجتماعية وما فيها من جوامع الكلم ونوادر وسردت وذكرت الأمثال السائدة عند الناس وبيئتهم سواء تلك التي عند العرب أو التي عند الأمم الأخرى.
الثاني:الكتب التي تعرضت للمثل القرآني دراسة وتفسيراً.
وتلك الكتب ليست بالكثيرة مع انها معتبرة في باب الدراسات الأكاديمية النافعة بالإضافة إلى أن المشهور منها لا يتضمن إلا أمثالاً معدودة ومباحث مختصرة وتقصيات موجزة.
مثلاً ابن الجوزي (ت751 هـ) ألف كتاباً في القرن الثامن الهجري تضمن ذكر خمسة وعشرين مثلاً في تشبيهات القرآن وأمثاله وذكر لها مقدمة قصيرة ذكر فيها ما قاله شيخه.
والترمذي (318 هـ) له كتاب في الأمثال من الكتاب والسنة، وفيه كما حكي ثلاثون مثلاً.
ونتناول الموضوع من جانب آخر أكثر ونفعاً وهو وجوه الإعجاز في المثل القرآني، وهو طريق للبحث في أسرار وعظمة القرآن، يتناسب وما للمثل من موضوعية.
وإختلاف المثل القرآني عن الأمثال السائدة يحتاج إلى البيان موضوعاً ومحمولاً لاسيما إذا نظرنا إليها بلحاظ الزمان وإرتقاء العلوم الإسلامية والعناية التي أعطيت للمثل القرآني والذي جاء لحكمة وغايات إلهية ومتضمناً الدلالات والعبر، والموعظة التي تصلح للبرهان والحجة، فكل مثل في القرآن يعتبر مدرسة عقائدية مستقلة وإثبات تلك الحقيقة بالتحقيق والإستنباط توكيد لما فيه من الإعجاز بقسميه الذاتي والغيري.
ولابد ان تتناسب الدراسات التي تتناول المثل القرآني وأهميته العقائدية والأخلاقية والإجتماعية، فالمثل القرآني يخاطب الناس جميعاً على إختلاف مدارك أفهامهم، يخاطب العالم والجاهل، المؤمن والكافر، الذي يصدق بالوحي والتنزيل والرسالة والذي يكذب بها، فاذن مواضيع المثل القرآني متباينة ومختلفة ويحمل كل واحد منها وجوهاً متعددة وهو حكم ولكنه لم يرد بصيغة مباشرة، ومن معانيه ما كان إستعارة او إصطلاحاًأو مجازاً أو يأتي على نحو الحقيقة أو برزخاً بين الحقيقة والمجاز.
ولم يكن القرآن عربياً بلغته فقط بل بمصاديق أخرى منها المثل القرآني فالأمثال حكمة العرب ومنهم من عدّها حكمتهم في الجاهلية والإسلام، ولا يتم ذلك إلا باعتبار الأمثلة القرآنية، وربما جعلوا من البيت الشعري ما يشبه المثل فجاء القرآن باعجاز في هذا الباب وأحسن توظيفه والانتفاع العام الأمثل منه .
فمن أسرار المثل القرآني انه يلائم الخاص والعام، وهو قريب من الناس أفراداً وجماعات لينهلوا من مدرسة الموعظة فيه , قال تعالى[وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( ).
وتدل صيرورة المثل أحد مصاديق وصيغ الخطاب القرآني على الإرتقاء الفكري والحضاري عند العرب، (وقد إعتبر المستشرق بروكلمان المثال من بقايا أقدم النثر العربي لأن بعضها وقائع وأمور حدثت في الماضي، أي أن المثل جاء توثيقاً لها في الجملة ولو نسى الناس تفاصيلها.
ويمكن القول بأن من إعجاز القرآن إرتقاء علوم العرب وتهذيب أخلاقهم ومن هذا النوع المثال عندهم , وقد إستعمل العرب في الإمثال “فلان أسمع من قراد” والقراد دويبة تتعلق بالبعير والماشية، و”أعز من مخ البعوضة” و”أطير من جراد” و”أجرأ من الذباب” ونحوه كثير.
ولابد من دراسة وجوه الالتقاء والتداخل بين المثل والحكمة، قال الفارابي: “المثل من أبلغ الحكمة”، وقال إبراهيم النظام: “يجتمع في المثل أربعة لا يجتمع في غيره من الكلام إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة”.
ومنهم من قال:إنها أبلغ الحكمة لاجتماع الناس عليها وهم لا يجتمعون على ناقص.
أقول: النقاش في الكبرى وهي عدم ثبوت اجتماع الناس على الأمثال، إذ أن الشيوع اعم من الإجماع فلا غرابة أن تجد في كل بلد أمثاله الخاصة، أو انها تتغير على نحو الجزئية والأفراد والألفاظ بل والمعاني إلا أمثال القرآن فانها ثابتة راسخة ورسوخها لجزئيتها من القرآن ولما فيها من دلالات الحكمة.
والمثل لغة هو الشبيه والنظير، وقد يأتي بعنوان الصفة، وذكر بعض المفسرين قول كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً

وما مواعيدها الا الأباطيل( )

ومنهم من فرق بين المثل بالتحريك وبين مثل – بكسر الميم وسكون الثاء -، ومنهم من لم يفرق بينهما كابن دريد والجوهري والفارابي، أما الخليل بن أحمد الفراهيدي (175 هـ) فقد فرق بينهما (يقال هذا رجل مثلك ولا يكون ذلك في مثل)، والأصح هو التفريق والتغاير في المعنى فالمثل – بالفتح – يطلق على ما يشبه القاعدة العامة والكبرى والكلية، أما المثل – بالكسر – فلا يتقوم إلا باثنين بينهما تشابه والتقاء”المِثل يأتي في مقام لا يصح ان يأتي به المثَل”،، قال تعالى [ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا ] ( ).
وعن ابن عربي المثل – بالكسر – عبارة شبه المحسوس، و – بفتح الميم – عبارة عن شبه المعاني المعقولة، وقد يأتي المثل – بالكسر – إشارة الى محسوسين متماثلين جهتياً في بعض الصفات والخصائص كقولك زيد مثل عمرو، وقيل إن المثل أخص بالمقدمة المخترعة، والمثال أخص بالموجود فيها، وأكثر الرازي من التعويض عن المثل بالمثال، وعن الفارابي: “هو ما ترضاه العامة والخاصة في لفظه ومعناه حتى ابتذلوه فيما بينهم وفاهوا به في السراء والضراء”.
وقال الشيخ عبد القاهر الجرجاني: “وكل ما لا يصح ان يسمى تمثيلاً فلفظ المثل لا يستعمل فيه”، ومنهم من عرف المثل بالحكاية، ولكن بينهما عموم وخصوص من وجه، وقال نفر بأن المثل ما كان فيه غرابة من بعض الوجوه وان الغرابة هي السبب في الحفاظ على الأمثال من التغيير واعتبروها شرطاً فيما يستعار له المثل من الفصل والأحوال والصفات، وربما نسب هذا القول للزمخشري .
ولكن الأمثال غالباً ما تتضمن نوع إنصاف أو شكاية أو قاعدة كلية في سيرة العقلاء أو عادة عرفية تصلح مرتكزاً ومدركاً لسلوك شخصي يعرض عليها، فربما كانت الغرابة فيما يحدث خلافاً لها فتضرب الأمثال حينئذ، أي يمكن تقسيم الامثال استقرائياً إلى:
الأول : الأمثال التي تضرب للرضا عن تصرف معين وهو مطابق للموازين العقلية أو الشرعية.
الثاني : التي تضرب شكراً وإمتناناً ورضا عن فعل معين.
الثالث : المثال الذي يأتي زجراً عن فعل ونهي عن شيء.
الرابع:ما يتضمن اللوم بصيغة المثال والتجربة والوجدان.
الخامس:الأمثال التي تحكي ظاهرة عامة سائدة تصلح ان تكون قاعدة كلية وكأنها من المسلمات او البديهيات.
السادس :ومنهم من أرجع المثل لغة إلى الظهور والبروز والشخوص لطغيان الأمر الذي ضربت من أجله الأمثال، والتمثيل عام في كل إستعارة في البلاغة، والإستعارة التمثيلية وهي تركيب أستعمل في غير ما وضع له مع قرينة صارفة عن إرادة المعنى الموضوع له والمشابهة تتعلق بالكيف في خصوص الوصف العرضـي، أما اذا تعلـق الوصــف والإتحـاد بالكـم فيسمى مساواة.
السابع : وهناك من الأمم واللغات السامية من جعلت المثل في مقام الحكم، وأُستعملت عنواناً للحكم، اما في العربية فلا يأتي المثل للحكم إنما يأتي للتشبيه والصفة وتلك خصوصية إنفردت بها اللغة العربية وأكدت أهليتها لتكون الوعاء اللغوي والبيان في المحاورة بين الناس في الكتاب السماوي الباقي إلى يوم القيامة.
ولابد أن تبين الدراسات في المثل القرآني لابد ان تبين الميزة والفارق بين المثل القرآني والأمثال السائدة عند الشعوب باعتبار قاعدة كلية وهي الإختلاف والتباين بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وهذا الإختلاف لا ينحصر بباب معين كالبلاغة بل يشمل جميع الأبواب بما في ذلك المقاصد والغايات والأثر والتأثير.
الثامن :الأمثال الجهادية وهي التي تكون عوناً للمؤمنين سواء في كشف خفايا وأضرار الكفر أو تلك التي تبين نتيجة ووقع التنزيل وآثاره على الأعداء.
في المثل القرآني لا بأس من البحث في دراسة مقارنة بين أمثلة الشعوب والأمم، وبين المثل القرآني كي نعرف مميزات المثل القرآني وارتقائه وانه يختلف في الماهية عن أمثلة الأمم لاسيما وأن الدراسات في أمثلة الأمم كثيرة، أي من الناس من يتجه إلى دراسة الأمثال من صيغة أدبية، أو يستهوي الناس بأمثلة الشعوب من ناحية إجتماعية وتحليلية وتأريخية, ولا يتعارض ذلك مع دراسة أمثال القرآن، ولا نقول بحصر دراسة الأمثال ولكن لكل علم ميدانه وبحثه.
لتبحث تجارب الشعوب في أمثلتها في زمان العولمة والتداخل الحضاري، وكيفية تكونها بالخبرة والحس والتجربة ثم بيان الفوارق بينها وبين أمثلة القرآن ليظهر جلياً إعجاز القرآن.
ومن وجوه الإختلاف بينهما:
الأول : جاءت الأمثلة التي تداولها الناس وإنتشرت فيما بينهم عن طريق التجربة النوعية العامة والخبرة والوجدان العرفي، تناقلتها الشعوب بالواقع المحسوس والإدراك الظاهري لبعض الظواهر الإجتماعية والأنماط السلوكية حتى شاعت عندها وأصبحت من تراثها وإن كانت على نحو متناثر، وربما كانت أمثلة الشعوب متقاربة ومتشابهة في الجملة، والأمثلةالقرآنية جاءت دفعة واحدة، وعن طريق التنزيل وليس عن طريق التجربة والوجدان.
الثاني : الأمثلة عند الشعوب يتساقط شطر منها, ولم تعد كلها سائدة فمنها ما ساد في منطقة محددة أو مدينة معينة أو شعب واحد ولمدة معينة ثم تلاشت أو إتسعت قليلاً، فلا غرابة أن تجد الشطر الأكبر من محتويات كتب الأمثال لبلد معين غير متداول إلا فيما بين أهله، أما الامثلة القرآنية فباقية إلى يوم القيامة.
الثالث : الأمثلة عند الشعوب ترد عليها إشكالات أيضاً حتى في بطون الكتب لذا قيل ان الأمثلة تُضرب ولا تُقاس وقد تكون أحياناً خلافاً للأقيسة، سواء الأقيسة النحوية أو الصرفية أو الأخلاقية أو الوجدانية فترد عليها الإعتراضات، وأما الامثلة القرآنية فكل مثال منها حجة ومدرسة ودليل.
الرابع : تأتي الأمثال للتشبيه وكأنها نوع حكمة وملائمة للواقع، والمثل القرآني إلى جانب التقائه من هذه الناحية وسمو منزلته في الكيف والخصوصية والمعنى فهو حجة وعز للمؤمنين وتثبيتلإيمانهم، وفيه خزي الكافرين والمنافقين.
الخامس : الأمثلة العامة تضعف مع الأيام والأمثلة القرآنية تزداد أهميتها وما ينبثق ويستنبط منها من العلوم في كل يوم ظاهر للعيان ويدرك بالوجدان، ومن الإكتشافات الحديثة ما تستقرأه من المثل القرآني.
السادس : بالأمثال القرآنية إمتاز المسلمون عن غيرهم من الأمم الأخرى إذ أنها تفتخر بأمثالها بإعتبارها زبدة تجربتها النوعية وحصيلة الفكر العام، بينما جاء الإسلام بصحائف وأمثلة من تحت العرش نزلت بها الملائكة من عند الله.
السابع : الأمثال القرآنية تركة علمية ينهل منها كل جيل من المسلمين، والأمثلة الأخرى تضعف مع تقادم الأيام، وقد لا ترى أغلب أمثلة الأمم ومنهم العرب إلا في بطون الكتب ذات الإختصاص.
الثامن : أشكل على حجية الأمثال العربية العامة لإحتمال عدم اصابتها للواقع فلا تصلح للإحتجاجأو السبر والطرد والبرهان، ومنها ما سقط وقل إعتباره مثل “أحمق من الرّيع” وكان سائداً عند أكثر العرب .
ولكن بعضهم دفع عنه الحمق، قال حمزة: “وما حمق الريّع والله انه ليجتنب العدواء ويتبع أمه في المرعى ويراوح بين الاطباء ويعلم ان حنينها له رُغاء فأين حمقه؟”.
أما أمثلة القرآن فهي آبية عن التردد ومع تقادم الايام يستخرج المزيد من كنوزها وعظيم مقاصدها.
التاسع : قد لا يصلح المثل العام للإحتجاج في اللغة والنحو وربما جاء بعضه ملحوناً، لذا أنكر علماء العربية حجيته وإمتنع بعضهم عن قبول الإحتجاج به على نحو الإطلاق، وعن الجاحظ قال: “والمثل انما يتلفظ به رجل من الأعراب وليس الأعرابي بقدوة إلا في الجر والنصب والرفع والأسماء.
العاشر : يبتنى المثل على العرف السائد وربما تأثر بالهوى والميل والغريزة في مضامين المدح واللوم، أما المثل القرآني فليس فيه مدح وثناء أو توبيخ وذم إلا على أساس الإيمان.
الحادي عشر : قد يكون المثل حقيقياً أو فرضياً، ولكن الناس تتداوله وينتشر بينهم لمناسبة الموضوع والحال، ولم يعرفوا أصله أو يلتفتوا إلى تأريخه ومكان ولادته , ليقال أنه من الإستعارة التمثيلية الحقيقية التي جاءت حصيلة حوادث وقعت خارجاً، أو أنه من التمثيلية التخيلية التي لم تنتزع من وقائع بل هي عبارة عن تخيل مركب مفروض ليس له أصل وجودي في الواقع ولا في الوجود الذهني ، أما المثل القرآني فهو سر من أسرار الكتاب المكنون والعلم اللدني ومرآة من بديع خلق الله وصنعه تعالى.
وإستشهد بعضهم على التخيلية بقوله تعالى [ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ]( )، وقيل بأنه لم يحصل عرض أو أباء أو إشفاق منها حقيقة بل هذا تصوير وتمثيل بأن يفرض تشبيه حال التكاليف في ثقل حملها وصعوبة الوفاء بها، وإنها إمتنعت عن حمل الأمانة مع كبر جرمها وقوتها خوفاً ووجلاً.
وقال الزمخشري: “المثل في الآية وفي قولهم لو قيـل للشحم أين تذهـب( ) وفي نظائره مفروض، والمفروضات تتخيل في الذهن”( ).
وليس في القرآن من إخبار إلا وهو حق وصدق يأبى الإنصراف إلى الوهم والخيال ذاتاً، ولا تصل النوبة إلى القول بعدم وجود القرائن الصارفة، إن تطبيق القواعد البلاغية على حقائق قرآنية ثابتة لا يخلو من تكلف وجرأة لتباين الموضوع وإختلاف الماهية، بل هو نفسه من الإستعارة التمثيلية التخيلية ويحول دون إستظهار علوم عديدة من حقيقة هذا الإخبار الإلهي المبارك لأنه يدل بالدلالة التضمنية على إقامة الحجة والبرهان في أهلية المؤمن لتحمل الأمانة بعد عرضها على أعظم المخلوقات وعجزها عنها، كما إنها تبين وجود خصائص تنم عن الحياة والإدراك في تلك المخلوقات.
وتكرر أمثلة معدودة وكأنها تراث خالد فمثلاً يندر ان تجد كتاباً في الأمثال يخلو من مثل”الصيف ضيعت اللبن” في مسألة واقعة لطيفة أن امرأة كانت متزوجة من رجل غني لكنها طلبت الطلاق منه لعجزه وتزوجت شاباً فقيراً، وفي الشتاء إحتاجت إلى اللبن فأرسلت الى الرجل الذي طلقها قال: الصيف ضيعت اللبن، واخذوا يطلقون هذا المثل للمفرد المؤنث والمفرد المذكر، والمثنى والجمع، كناية على افتقاد الأمر عند الحاجة إليه وتضييعه في وقته، وهي مسألة بسيطة ولكن حينما تأتي إلى الموضوع الذي ضربوا له هذا المثل هل من آية تدل عليه في القرآن؟ الجواب: نعم،فالقرآن جاء[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) وفيه آيات البشارة والإنذار، والوعد والوعيد.
ولابأس بعرض الأمثلة المتعلقة بالحوادث والوقائع الإجتماعية المتكررة بالإستشهاد بالقرآن على نحو المثل والعبرة أي تأخذ الأمثال والموعظة والعبر المناسبة لها من آيات القرآن وفيه نفع عظيم للناس لأن المثل حينئذ لا يكون مدرسة فقط بل يكون حجة ونبراساً ودليل هداية، بالاضافة إلى ما فيه من الأجر والثواب إذا جاء النطق به بقصد القرآنية، وهو يساعد بالإنطباق على حفظ آيات من القرآن وتعاهد معانيه ودلالاته.
الإستشهاد بالقرآن يكون هو المثل عند الناس، والقرآن ضرب مثلاً [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ]( ) .
والكبرى في الآية ان الله تعالى جعل المثل طريقاً الى معارف التوحيد، والصغرى ذكر القرآن لهذا المخلوق الحقير الضعيف وهو الذباب ولم يستشهد بالفيل مثلاً أو بحيوان اقوى وكل هذه المخلوقات من صنعه تعالى، أراد ان يكون التحدي أكبر فجاء بأصغر وأضعف ما يعرف عامة الناس من الحشرات .
قال تعالى[وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]( )، وتبين الآية لزوم إلتفات الناس إلى بديع صنع الله في المخلوقات والتباين في الجنس والعرض بين أنفسهم، وكذا بين الحيوانات، وهو من التدبر في الخلق والإقرار بعظيم قدرة الله عز وجل ولبيان الملازمة بين العلم والخشية من الله عز وجل، وتتجلى هذه الملازمة أيضاً في عالم الأمثال.
ومن الآيات ان الذباب يكاد ينتشر في بقاع الأرض كلها وتندر الخصوصية في مثله من الحشرات، بالإضافة إلى أنه ومع مبغوضيته من الجميع فإن أسباب النظافة ووسائل المكافحة لم تقض عليه، وهذا باب إعجاز آخر للمثل القرآني وديمومة رفعة منزلته الإجتماعية والأدبية مع تباين سيادة الأحوال وإختلاف الأزمنة وتعدد الأمكنة، والتحدي هنا مركب:
اولاً:عجز الناس عن خلق هذا المخلوق الضعيف.
ثانياً:قصورهم عن إسترداد ما سلبه الذباب.
فإن قلت ان العلوم الجديدة والصناعات في باب الإستنساخ الحيواني تتقدم بسرعة، وان العلماء قد يكونوا قادرين في هذا الزمان على صناعة الذباب .
الجواب: ان موضوع الاستنساخ لم يتبين بتمامه إلى الآن، ولكن على فرضه فإن الآية يخاطب ويتحـدى بها الذيـن يدعـون مـن دون الله ممـن اتخذوهــم آلهـة، أما الذين يقولون ويلجون باب الإستنساخ الحيواني الآن فهم موحدون ومليون في الجملة، ويدرك الناس أن الإستنساخ من مصاديق العلم، وثمرات إرتقائه.
ومما تسالم عليه الناس في هذه الأيام أن الإستنساخ البشري او لبعض الحيوانات لا يتعارض مع الوحدانية وقوانين الربوبية المطلقة لله عز وجـل، بل هـو فـرد مـن العلـوم التي جعلها الله عز وجل في ميسور البشر بغض النظر عن شرعيته او عدمها، وان الإستنساخ لا يتم من العدم انما من خلايا الحيوان ذاتها، فالإبتداع ينحصر في الكيفية وليس بأصـل الخلـق، وموضـوع الإستنساخ أجنبي عن الآية الكريمة التي جاءت لتوبيخ المشركين وتحديهم , وإثبات عجز آلهتهم ووسائط الضلالة المعتبرة عندهم.
وما دام التحدي مركباً فإن عدم الإتيان بجزء منه يجعل الجزء الآخر متعذراً على الإنسان فينتفي الكل بانتفاء جزئه، الذي يستطيع إستنساخ الذباب لا يستطيع السيطرة عليه أو إسترداد ما سلبه الذباب منه، وهي تؤكد أيضاً ضعف الإنسان وضعف الذباب فالذي يقوم بالإستنساخ يبقى ضعيفاً عاجزاً محدوداً عمره في الحياة مثلاً، وايضاً أظهرت الدراسات الطبية الحديثة بأن الذباب حينما يقترب من شيء يهضمه قبل أن يبلعه، يفرز عليه ما يهضمه ويجعله غير صالح لإستعمال البشر والأكل.
ضرب الله مثلاُ في الذباب وهو مع حقارته يستطيع ان يؤذي بأكثر ما تؤذي السباع المفترسة، الذباب ينقل الأمراض كالسل والتيفوئيد والرمد، وقد يسلب الجوارح من الإنسان أو قد يسبب له العمى، السباع قد يستعد لها الإنسان بالدفاع أو بالسلاح ولا تقرب المدن والمناطق الآهلة والذباب يدخل لكل بيت، لذا ورد مثلاً عن الامام الصادق عليه السلام حينما قال له ابو جعفر المنصور: “لم خلق الله الذباب يا ابن رسول الله؟ قال : كي يذل به الجبابرة.
إنه مصداق عملي للدعوة الى التفكر في مخلوقات الله تعالى، وهذا التحدي، وضرب المثل بالذباب يبين وجوهاً من الحكمة في خلقه ومناسبة لعدم ترك الإلتفات إلى أحقر المخلوقات.
وفي قوله تعالى [ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ]( )، قال اليهود كيف يضرب الله المثل بالذباب والعنكبوت؟ هذا ليس كلاماً منزلاً من عند الله، الله عظيم فكلامه يجب ان يكون عظيماً، فجاءت هذه الآية والإستحياء بالنسبة للبشر يختلف عنه بالنسبة لواجب الوجود، الإستحياء للبشر إنكسار يعتري الإنسان عندما يوجه له اللوم أو يذكر عيبه، أما عند الله عز وجل الذي لا يوصف بالجسمية فانما هو بيان لأصل الإستحياء وتقريب مجازي يعنى به أن الله لا يخاف ولا يتخوف من بيان الأمثال بأحقر الأشياء أو بأكبرها وما بينهما وذاك مصداق بأن القرآن جامع للعلوم وإمام في الموعظة.
والكتب السماوية المنزلة قبل القرآن كالتوراة والإنجيل فيها ايضاً الأمثلة الصغيرة، ولا ننعت تلك الأمثلة بالحقارة حينما تلبست بالجزئية من الكتب المنزلة، ننعتها بأفخر وأعظم الأسماء هي كلام من عند الله تعالى، التوراة والإنجيل فيها أمثلة وذكر فيها الزنابير وحبة الخردل ونحوها، أنه فرع فلسفة المثل في الكتاب السماوي التي تجلت بأعظم وأدق صفاتها بالقرآن.
إن الإلتفات إلى موضوعية المثل القرآني ليست بالجديدة وان كانت الدراسات في بابها قاصرة، وهذه الآية مناسبة كريمة لإستحداث مبحث وهو (موقف الكفار والمنافقين من المثل القرآني)، وعناية المسلمين بالمثل القرآني.
الشافعي مثلاً قال على المجتهد في علوم القرآن ان يدرس ويعلم أمثلته، وما المراد هنا بالمجتهد؟ الاجتهاد له معنيان، معنى لغوي ومعنى إصطلاحي، فالمعنى اللغوي هو بذل الوسع ومنه الدعاء “وعزتك بلغ مجهودي”، أما المعنى الإصطلاحي فله مفهومان، الأول قال به القدماء وهو إعتبار العقل والرأي عند غياب النص ومنه مدرسة الرأي وقال به جماعة من العلماء، وقد ذم الإجتهاد بهذا المعنى بعض العلماء المتقدمين، أما المفهوم الإصطلاحي الآخر فهو استنباط الحكم من أدلته التفصيلية وبذل الوسع لإستخراج الحجة ولإيجاد الدليل.
فاذا سُئل المجتهد من أين لك هذا الرأي؟ او هذه الفتوى؟ كيف قلت بهذا القول؟ قال: دليلي هذا، او حجتي من السنة كذا، فلا ملازمة بين المعنيين القديم والمستحدث للإجتهاد، أي أن الإجتهاد أصبح من المشترك اللفظي وان تردد بعضهم بقوله أن المشترك اللفظي يأتي مجملاً، وان ورود القرينة لمعرفة أحد المعاني المقصودة من المشترك اللفظي فيه تطويل، ولكن اللغويين يعتبرون ويعتمدون المشترك اللفظي وهو حجة وموجود بين العقلاء في محاوراتهم.
ومع الإقرار بالمشترك اللفظي ومع هذا البيان بأن للإجتهاد معنيين فلا مانـع من إختيـار إصطلاح جديد للإجتهاد أو يكون مرادفاً للإجتهاد، والمعاني اللغوية والإصطلاحية والمصاديق الخارجية متعددة، ويجـب أن تكـون عمـدة البحث ومادة الإحتجاج.
من إعجاز المثل القرآني
الأول: تسقط الأمم بين حين وآخر بعضاً من أمثلتها، القرآن لا يسقط منه شيء بل هو باق بكل آياته، وكلماته ولعل شطراً من أمثلة القرآن لم تبين بعد.
الثاني:أمثلة الناس تتعلق بوجه واحد من جوانب حياتهم الأخلاقية والإجتماعية والإقتصادية ونحوها، المثل القرآني يتناول عدة أوجه من الحياة.
الثالث:المثل القرآني ينفع في الدارين، ينفع في الدنيا وينفع في الآخرة، والأمثال السائدة قد يكون فيها إعتبار على نحو الموجبة الجزئية، وبعضهم من فرق بين المثل والمثال وقال ان المثل تسرد فيه التجربة والإطلاع وإليه ذهب أرسطو، المثل القرآني قد يكون آية أو جزء آية فلابد أن يكون له دلالات عقائدية.
الرابع: الأمثلة القرآنية نبراس الحكمة وغاية الكمالات، والمثال السائد قد يأتي عن التجربة أو الشياع.
الخامس: المثل القرآني يدخل في القاعدة الكلية وهي أن في كل آية إعجازاً فالمثل القرآني بذاته ومقاصده إعجاز، والأمثال السائدة من صياغة البشر وإبتكارهم، وقد تحمل مقومات الصحة والصواب وقد لا تحملها.
السادس: المثـل القرآني مصداق وفرد من أفراد الإعجاز في الآية القرآنية فهو باب للعلم لا يتعارض مع أبواب العلم الأخرى في الآية القرآنية.
المثل القرآني حكمة مستقلة، وجاء إعداداً لشخصية المسلم وتربية وإصلاحاً له، فهو طريق وحافز للمجاهدة والصبر والمثابرة وهو أعم من أن ينحصر باللفظي , فقد يأتي على نحو العبرة والموعظة ومنه قصص الأمم السابقة التي وردت بأحسن صيغها في القرآن، ولعل تسخيرها للمسلمين كتذكرة من أهم وجوه حسنها، قال تعالى [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ…]( ).
نزل القرآن جامعةينخرط فيها المسلمون الذين , وفيه قصص المسلمين من الأمم السابقة الذين فُتنوا وتعرضوا للأذى وعانوا من الظلم والتعسف في سبيل تثبيت الدعوة، وفيه نوع تأس ودرس للصبر وتبدو معه الأمثال السائدة ساذجة مجردة عن الاغراض المقصودة.
السابع: الأمثال الإجتماعية تطلق وقد يُراد منها شرحاً لقضية او لواقعة وقد يتبدل أو يضاف إليه أو ينقص، أما المثل القرآني فهو ثابت خالد وفيه إحقاق للحق، و إماتة للباطل، المثل القرآني حينما يؤتى به يكون عوناً للناس، ومدداً للمسلم لتثبيت الإيمان في قلبه، وهو رحمة وباب رشاد لغير المسلم، ودعوة إلى الصلاح وهو من إعجاز المثل القرآني.
الثامن:تبين الأمثال تراث كل أمة وحصيلة تجربتها، ومن الأمثال ما هو خاص بقبيلة أو بلدة معينة، والمثل القرآني عنوان وحدة المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
التاسع:تعكس الأمثال عادات الأمم وأنماط سلوكها، والأمثال القرآنية أحكام وحكمة , وتدل بالدلالة الإلتزامية والتضمنية على الأمر والنهي.
العاشر:جاءت الأمثال كشواهد عامة، والمثل القرآني جاء لتثبيت الحق في الأرض وإزهاق الباطل.
الحادي عشر:الأمثال وليدة التجربة والفعل المتكرر، والأمثال القرآنية تأتي أحياناً في أمور مستحدثة، وإظهاراً لحقائق خافية عن الناس سواء كان للتحدي أو للتأديب أو للموعظة.
الثاني عشر:للأمثلة العامة عند العرب صبغة أدبية، ولكن عند إجراء دراسة مقارنة يتضح البون الشاسع والفرق بينها وبين المثل القرآني الذي هو غاية البلاغة ويتضمن أسرار اللغة ومفردات الأدب وبه غنى للأديب واللغوي والنحوي وعلوم الأدب والتأريخ مطلقاً، إن إظهار الوجه الأدبي والمعنى الكامن في الأمثال العربية يؤكد المضامين الإضافية الخارقة في المثل القرآني سواء الظاهرة منها أو الكامنة.
الثالث عشر: إن الله عز وجل حينما جاء بالمثل القرآني لم يكن محتاجاً له فواجب الوجود غير محتاج، الإحتياج ملازم للإمكان نحن محتاجون للمثل القرآني، والإحتياج للمثل القرآني لا ينحصر بالمؤمن فقط بل يشمل المؤمن وغير المؤمن، غير المؤمن يأخذ المثل طريقاً وسبباً للهداية، المثل القرآني مطلقاً فيه نوع بلاغة ونوع إعجاز ويختلف عن كلام البشر بما يتناسب في وجوده مع التباين والإختلاف بين كلام الخالق وكلام المخلوق.
الرابع عشر:المثل السائد بين الناس من كلام وتجربة البشر، والمثل القرآني هو كلام الباري عز وجل والإختلاف يمتد ويصل إلى وجوه الإيجاز والبلاغة.
الخامس عشر:كل مثل قرآني آية في البلاغة، ويضفي على النفس الإنسانية العز والفخر والأمان، ويضيء دروب السالكين بأنوار الحكمة.
السادس عشر: إنتشار الأمثال عند العرب وشيوعها موضوعاً ومرتكزاً وقواعد عامة يدل على درجة الرقي التي عندهم وحسن إستعمالهم للتجربة والوجدان.
ولما كان القرآن إعجازاً في اللغة والبلاغة والعلوم المختلفة فلابد أنه يأتي بشيء أرقى من الأمثال بأحكام وتشريعات وأوامر ونواهي، أو أن يأتي بأمثال جديدة ترقى في ماهيتها وفلسفتها ومضامينها كثيراً عن الأمثلة السائدة التي شذبها طول الملابسة والخبرة العامة، وفعلاً جاء الإسلام بالإثنين معاً على نحو التداخل أو الإفتراق.
السابع عشر:مع أن الأمثال حصيلة مئات السنين والأجيال المتعاقبة من ذراري العرب ومجتمعاتهم المستقرة والمتنقلة وتتعلق بمختلف أمور الحياة ثمرة السعي الفكري والمادي والمعنوي للإنسان فلعلها تكون في عددها أقل من أمثلة القرآن هذا الكتاب الخالد المنحصر بين الدفتين , ولم ينزل إلا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلو أجريت إحصائية لعدد الأمثلة القرآنية , وعدد الأمثلة المتوارثة من زمان الجاهلية لوجدت أمثلة القرآن تفوقها عدداً كما فاقت وإمتازت كيفاً ودلالة ، فكم من مثال يدور على ألسنة الناس جاء القرآن بأوجز وأحسن وأعم وأصدق منه، ومثلها ما هو مقتبس من القرآن وأسباب نزول وموضوع آياته.
تقسيم الامثال
تمثل فلسفة المثال مدرسة مستقلة في العلوم القرآنية مترامية المقاصد والدلالات، كل مثل فيه تتشعب عنه دراسات وأحكام عديدة في الميادين المختلفة، ومن الأمثلة القرآنية ما تعرضت للمنافقين وهي أيضاً إنذار وتحذير وكشف لهم، قال تعالى[مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ]( ) .
ولا بأس من التقسيم بلحاظ النزول في المثل القرآني بين المثل المكي والمثل المدني، فكل مثل يبين واقع الإسلام، والبيئة التي نزل فيها القرآن ويبين نوع الجهاد الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يختطونه في دروب عملهم اليومي والرسالي، ويمكن الإنتفاع من المثل القرآني في أبحاث علومه الأخرى مثل أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه.
نحو منهجية جديدة
هناك مضامين علمية في المثل القرآني لم تستثمر بعد وتحتاج الى جهود علمية متصلة طولاً وعرضاً، وتجد في كل جهة من جهات المثل القرآني أسراراً وآيات، سبب النزول والوقائع التي إقترن أو تقدم نزوله عليها وما تمخض وترتب على وجودها كآية بين المسلمين، والتباين في طول المثل وقصره، بيانه أو إيجازه، إجماله أو تفصيله، كل مثل فيه حكمة ودروس لم تستقرأ بعد ولابد أنها تستلزم تحقيقات متعددة لإستنباط مسائل وبراهين منها.
والموضوع تلمس وجوه الإعجاز في المثل القرآني , وكيفية إستثماره وما فيه من المضامين الأخلاقية والإجتماعية وظهور إشتراك طوعي وإنطباقي وإنبساطي على جميع الحواس والجوارح الإنسانية لإستظهار أحكام ذات صلاح ورشاد، والفرق بين المثل القرآني والأمثال السائدة أوان النزول والمستحدثة فيما بعد، وأمثال الأمم الأخرى من المباحث ذات الموضوعية في طريق بيان إعجاز المثل القرآني والإنتفاع الأمثل منه.
لابد من شأن مستقل للمثل القرآني في المدارس الحديثة، والوظيفة الرسالية تملي على العلماء المسلمين إستنباط الدروس والعلوم من المثل القرآني وجعلها مادة أساسية في مناهج ومدارس التربية الحديثة مع بيان صلاحيته لعلاج النفوس والآفات الإجتماعية، وليطلع الناس جميعاً على جانب من أسرار القرآن بتسليط الأضواء المباركة علىالمثل القرآني، وما فيه من الكنوز وليكون دليلاً على عالمية القرآن وصلاحية ما فيه من الأمثلة لمختلف الأزمنة، وتعتبر آيات في تربية الأمم وصقل النفوس وتهذيب الأخلاق.
إن إيجاد تخصص في المثل القرآني دراسة وتصنيفاً وموضوعاً حاجة قرآنية ملحة تساهم في رفع بعض التقصير في هذا الباب وإستظهار علوم عديدة تكون مقدمة وتأسيساً لمدرسة قرآنية مستقلة ينهل منها أهل المعرفة والإختصاص كل ما يبتغون.
وتبين المثالية السامية في إعداد القرآن للنفس البشرية وتحصينها ووقايتها والإرتقاء بالضعيفة منها إلى مراتب أقوى لتصبح ذات أهلية للتعامل مع الأحداث والوقائع بصيغ حكيمة وعقلائية، وتستطيع التصدي للبدع والهوى وأسباب الشهوة بأنماط المجاهدة والمجالدة.
ويبدأ هذا التخصص ودراساته بإحصاء وإستخراجالأمثلة في القرآن وحصرها، وصحيح اننا لا نستطيع بلوغ ما في المثل القرآني من المقاصد والغايات، ولكننا نبحث ونستنبط ونستقرأ بالممكن مع الإرادة المخلصة الجدية.
و”الأمثال القرآنية”، علم مستقل له قواعده وأحكامه ودلالاته كما، وهو مرآة للإعجاز وأهل اللغة والبلاغة يأخذون منها بغيتهم ويبينون ما يتفرع منها من العلوم ويجعلون منها مادة وأمثلة لدروسهم ونماذج لبرامجهم إلى جانب ما في ذلك كله من الشخصية العلمية لعلم “الأمثال القرآنية”، ومن الموضوعات التي تصلح للمنهجية في هذا الباب:
الأول:المثل القرآني مصداق الإعجاز.
الثاني:المثل القرآني والتحديات التي واجهت النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثالث:المثل في معارك المسلمين.
الرابع:أثر المثل القرآني في النفوس، الأثر الايجابي على المؤمنين، وما فيه من الزجر والردع على الكافرين.
الخامس:المثل القرآني نبراس البلاغة.
السادس:العلوم المستحدثة منالمثل القرآني.
السابع:المثل القرآني سلاح عقائدي أيام التنزيل وما بعدها مع الإختلاف كماً وكيفاً.
الثامن:المثل القرآني والحياة اليومية للمسلمين.
التاسع:المثل القرآني دعوة إلى الإسلام.
العاشر:المثل القرآني آية في التفكر في خلق الله وبديع صنعه.
الحادي عشر:ما في المثل القرآني من دلالات وأخبار وإشاراتإلى العلوم والإكتشافات التي حصلت في هذا الزمان.
الثاني عشر:كيف نوظف المثل القرآني لإكتشافات علمية جديدة، وإستظهار ما فيها من البيان والحكمة.
الثالث عشر:المثل القرآني وحفظه للقيم والحكمة عند العرب إذ أن القرآن نزل عربياً.
الرابع عشر:المثل القرآني والدار الآخرة، سواء ما يتعلق منه بالإعداد ليوم القيامة وأهوال الحساب.
الخامس عشر:المثل القرآني والموعظة والعبرة.
السادس عشر:لماذا إعتمد المثل القرآني قصص الأنبياء، وصيغ إستثمارها والإعتبار بها.
السابع عشر:آثار الأمثال القرآنية على السلوك الشخصي والعام.
الثامن عشر:التغيير الإجتماعي والأخلاقي الحاصل بسبب الأمثال القرآنية.
التاسع عشر:مدرسة المثل القرآني.
العشرون:المثل الوثائقي في القرآن.
الحادي والعشرون:مقارنة المثل القرآني بالمثل العربي والأمثلة عند الأمم الأخرى قديماً وحديثاً.
الثاني والعشرون:دراسة مقارنة بين الأمثال القرآنية، والأمثال الموجودة في الكتب السماوية الأخرى وأسباب رجحان المثل القرآني.
فقد نعت المثل في العهد القديم باللغز وانه يحتاج الى بيان، وفي العهد الجديد مثل المرأة الخاطئة التائبة بالمدين الذي أرهقه الدين وقد عفي عنه كما في إنجيل لوقا، والمثل القرآني آية في الوضوح ويمتلك أسباباً ذاتية تؤهله للوصول إلى شغاف القلوب وسرعة الفهم، وتشعر معه النفس بالسكينة ونفاذ البصيرة.
الثالث والعشرون:المثل القرآني في موازين اللغة والأدب.
الرابع والعشرون:التأريخ من منظار المثل القرآني.
الخامس والعشرون:المثل القرآني من مصاديق قوله [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لما فيه من البعث على الإتحاد والأخوة بين المسلمين.
السادس والعشرون:سعة وعالمية المثل القرآني.
السابع والعشرون:أثر المثل القرآني في العلوم القرآنية.
الثامن والعشرون:منزلة المثال القرآني في أسباب الهداية وحثه النفوس الى سبل الخير وتحريضها على البر، ومنعها من المعصية وإرتكاب الذنوب وصيـغ النقص والخلل وما حققه في هذه الأبواب منذ أيام النزول.
التاسع والعشرون:المثل القرآني طريق للتفكر في عظيم خلق الله عز وجل، وبديع صنعه.
الثلاثون:إحصاء الأبواب التي تناولتها الأمثلة القرآنية أو تعلقت بها.
الحادي والثلاثون:دراسـة الأمثلـة القرآنية بلحاظ العلوم المختلفة وأثر المثل القرآني في رحاب الكلام والفلسفة والفقه والمنطق والأصول وعلوم العربية.
الثاني والثلاثون:كيف يلبس المثل القرآني المعنوي رداء المحسوس وبالعكس.
الثالث والثلاثون:أثر المثل القرآني في بيان الموضوعات وكشف الحقائق،وإزالة اللبس.
الرابع والثلاثون:حاجة المسلمين الى المثل القرآني في الميادين المختلفة.
الخامس والثلاثون:المثل القرآني والإبداع.
السادس والثلاثون:إحصاء الأمثلة القرآنية بعد تقسيمها تقسيماً إستقرائياً وفق قواعد مناسبة وموازين ثابتة.
السابع والثلاثون:مسائل الخلق والبعث والجنة والنار في المثل القرآني، وأثره في بيانها وأحكامها وسننها.
الثامن والثلاثون:لغة الخطاب في المثل القرآني كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ]( )، والمثال أعم من الحصر إنه نوع تحد وعبرة وموعظة إلى الناس جميعاً، وكيف أن أمثال القرآن نداءات عامة خالدة تتناسب وصيغ التقارب والإتصال الحديث.
التاسع والثلاثون: حاجة الناس إلى المثل القرآني، وما تكشفه الأمثال القرآنية مما خفي عن الناس.
الأربعون: منزلة الأمثلة القرآنية في علوم القرآن، وقد عده الماوردي من أهم علوم القرآن.
الحادي والأربعون: الأمثلة القرآنية طريق للوحدة الإسلامية سواء باسقاط أمثلة الشعوب الخاصة أو بتوجيه الإهتمام والدراسة للمثل القرآني.
الثاني والأربعون:بيان ما تدل عليه أمثلة العرب في الجاهلية من الرقي والدقة وحفظ النظام والنوع وتعاهد الأدب ليكون ذلك طريقاً لمعرفة عظمة المثل القرآني لأنه جاء بالإرتقاء البلاغي وغاية الحكمة والإتقان.
الثالث والأربعون:دراسة الأمثلة القرآنية بلحاظ أسباب النزول.
الرابع والأربعون: المكي والمدني من الأمثلة القرآنية، الأسباب والمقاصد.
الخامس والأربعون: بلاغة وقدسية وأسرار وحسن وخلود المثال القرآني، ومناسبته لكل زمان ومكان.
السادس والأربعون: نسخ المثل القرآني للأمثال الأخرى لما فيه من السعة والشمول، والإحاطة الإجمالية بالوقائع والأحداث وان كانت من اللامنتهي.
السابع والأربعون: جمع الأمثلة العربية المشهورة والمتعارفة قبل الإسلام، ثم ذكر الآية والمثل القرآني الذي يقابلها مثلاً من حفر بئراً لأخيه سقط فيها على فرض قدمـه زمانـاً او كمثـل مطلقاً بغض النظر عن زمان إيجاده فانه يقابل بقوله تعالى [وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ]( )،الذي هو أشمل وأكثر وضوحاً ودلالة وتتجلى على نحو متجدد نتائجه الإيجابية والسلبية، وكذا الأمثلة غير العربية كما في المثل المشهور : من أحرق كدسـه تمنى إحـراق كدس غيره، ويقابلـه في القـرآن بخصوص الكفار, قوله تعالى [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ]( ).
مع إثبات حقيقة جلية من وجوه :
الأول : عموم المثل القرآني .
الثاني : تلك الإمثال مجتمعة ومتعددة تلتقي مع جهة واحدة من القرآن .
الثالث : الأرجح أن الأمثلة العامة مقتبسة من آيات وأمثلة القرآن خصوصاً وأنه ليس لبدايات أغلبها زمان معلوم.
الثامن والأربعون: المثل القرآني ومسؤولية المؤمن والتزامه.
التاسع والأربعون: حال الغنى والإشباع التي يتركها المثل القرآني في النفوس.
الخمسون:إيجاد منهجية علمية لدراسة المثل القرآني وكيفيته وتحديد ملامح مدرسة المثل القرآني.
الحادي والخمسون: دراسة المثل القرآني وفق نظام الإختصاصات المتعددة في التأريخ والزراعة والصناعة والطب والإجتماع والنفس والحيوان ونحوها.
الثاني والخمسون: منزلة المثل القرآني في تأديب المسلمين وتهيئتهم وإعدادهم.
الثالث والخمسون: هل للمثل القرآني إعتبار وموضوعية في تعاهد القرآن وزيادة رجوع الناس إليه وحفظ المؤمنين لآياته، الجواب نعم، لسهولة قبول النفوس للمثل مطلقاً وللمثل القرآني خاصة.
الرابع والخمسون:إستعراض ودراسة جميع الدراسات التي خضعت لبحث المثل القرآني.
الخامس والخمسون: اليهود والمثل القرآني.
السادس والخمسون:أهل الكتاب في المثل القرآني.
السابع والخمسون: المثل القرآني في خطب المسلمين وكلماتهم وعقودهم وإحتجاجاتهم وسيرة الملوك والعظماء.
الثامن والخمسون: توظيف العلوم للمثل القرآني وإتخاذه شعاراً من قبل أرباب الصنائع.
التاسع والخمسون: موضوعية وإعتبار وإفاضات التنزيل على المثل القرآني وما ترتب عليها عقائدياً وإجتماعياً وأخلاقياً فهناك قدسية خاصة في النفوس لحقيقة قطعية وهي أن هذا المثل نزل من السماء.
الستون: فضل الله تعالى في الأمثال القرآنية فهو لا يحتاج الأمثال، لأن الحاجة ملازمة للإمكان ومن صفات النقص.
الحادي والستون:أهلية المسلمين للأمثال المنزلة من السماء تعاهداً وحفظاً وعملاً وإعتباراً بها.
الثاني والستون: موقف غير المسلمين من المثل القرآني.
الثالث والستون:ما قاله المستشرقون في المثل القرآني ودراسة ونقد تلك الأقوال.
الرابع والستون:إثبــات إشتقـاق وإستقراء أكثــر الأمثـلـة السائدة ســواء عند العرب وفي بعض بلدانهم أو عند غيرهم من المسلمين أي بلغات أخــرى غير العربيــة، فمثلاً يقال القتـل أنقى للقتل، والأرجح انه مستــقـرأ من قـوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ) وهناك أمثال يدعى تقدمها زماناً على الإسلام ولم تثبت تلك الدعوى، وكذا في بعض القصائد وأبيات الشعر.
الخامس والستون: بيان النسبة بين المثل القرآني والأمثلة العامة الأخرى وهي العموم والخصوص المطلق فانما ينطبق المثل العام على جهة واحدة ومصداق واحد من مصاديق المثل القرآني المتشعب الغايات والمقاصد والمتضمن للأسرار والإعجاز وينابيع الحكمة.
السادس والستون:الضوابط والقواعد الكلية في تحديد المثل القرآني، إذأنأمثال القرآن يصعب عدها وإحصاؤها، قال تعالى [وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( ) وهذه الحقيقة تبقي الباب مفتوحاً أمام الباحثين في التوسعة في عدد الأمثال القرآنية وبيان الحجة في الإضافة والإستنباط والتقييد والإخراج، أو في نسبة بعض المصاديق والإختلاف في تحديد وجه الشبه.
السابع والستون:الحقيقة الإعجازية الخالدة وهي أن المثل القرآني وجه من وجوه الآية القرآنية وهي متعددة المعاني من حيث المنطوق والمفهوم فيجب ان لا نقف عند حدود المثل القرآني في تفسير الآيةأو جزء الآية الذي يعتبر مثلاً، بل يدخل ضمن علم الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول والمحكم والمتشابه، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، وعلم التفسير والتأويل ونحوها.
الثامن والستون:الأخلاق والتشريع في المثل القرآني[ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ]( ).
التاسع والستون:المثل القرآني غذاء الروح وشفاء الصدور، وعلاج لأمراض النفس وحرب على الجهالة، وحاجز دون تفشي الزلل والخطأ الشائع والإعتقاد العام بالباطل.
السبعون: دراســة المثــل البسيـط والمركب في القرآن، والأول ما إشتمل على تمثيــل مفــرد بمفــرد، والثانـي الذي يكـون المثل ووجوه الشبــه متعــددة إن كانــت متداخلــة، أو انهــا تؤخذ منه ومن غيره ومن الصورة العامة أو على العموم المجموعي أو الإستغراقي، والمجاز المركب بالإستعارة التمثيلية وهو التركيب الذي أستعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة معناه الوضعي، وكيف أن التشبيه في القرآن جاء من غير قرينــة مانعــة من إرادة معنــاه الوضـعي وهو نوع إعجاز لما فيه من تعدد جوانب التأويل وإجتماع المتفرق وأبواب العلم المتفرعة عنه.
الحادي والسبعون:قسّم القرآن الأمثال فيه فمنها ما جاءت صريحة بصفة ونعت المثل، ومنها ما يحتاج إنطباق المثل عليه إلى التفسير والتأويل، وقيل ثلث القرآن أمثلة.
الثاني والسبعون:المثل القرآني طريق وسبب ومقدمة لبلوغ مراتب الكمال الإنساني، وإتخاذه صيغة من الصورة الفنية للمثل القرآني [مثل الجنة التي وعد المتقون]( )، [مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ]( ).
الثالث والسبعون:أقسام الموعظة في المثل القرآني، فقد يأتي نصيحة أو عبرة أو حثاً أو بلغة الأخبارأو الوعيد كما في قوله تعالى[فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ]( ).
الرابع والسبعون:آيات التوحيد في المثل القرآني [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ]( )، وكيف انها شاهد على كمال علم الله وتمام حكمته، ولماذا وجه القرآن الأنظار إلى تلك الأمثال، وكيفية الإنتفاع الأمثل منها وإتخاذها مناسبة للتفكر في خلقه وعظيم صنعه.
الخامس والسبعون:إيجاد الملكة النفسية وشحذ الذهن وتحريك الطاقات الفكرية بإثارة الرغبة والحرص والطمع والتعظيم والمدح والتحسين، أو التفسير بالدلالة الإلتزامية ببيان وكشف جوانب القبح في المشبه به، أوإثارة الخوف والحذر من الإقتراب منه.
السادس والسبعون:كيف خلد المثل القرآني المخلوقات الحقيرة ولماذا؟ وهل سيأتي العلم الحديث بما يدل على أهميتها وما فيها من أسرار؟ وهل التحدي بها بعرض واحد مع الحيوانات الكبيرة؟ أم تلك تكون من باب قياس الأولوية ومفهوم الموافقة كما يستدل في علم الأصول بقوله تعالى بآية التأفيف [ فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ]( )، أي لا تضربهما ولا تزجرهما من باب أولى.
الجوابأن تخليدها جاء على نحو التحدي والإعجاز وتوكيد بقائها وكل حيوان صغير او كبير هو آية مستقلة من خلقه تعالى.
السابع والسبعون:الإستعارة عالم عريض فساح في ميادينه أهل البلاغة والحس وأرباب العقول لتعدد الوصف الإنتزاعي فيه وتقريبه البعيد وكشفه عن المستور بلطف وعناية مركبة من الحقيقة والتخيل، فكيف جاءت في القرآن على نحو الإعجاز والتحدي، وكيف إرتقت الأمة واللغة والعقل النوعي بالمثل القرآني.
الثامن والسبعون:ربط المثل القرآني للحاضر بالماضي والمستقبل وبيانه لمضامين الإتصال بينها.
لقد كانت الأمثال سائدة عند العرب في حاضرتهم وباديتهم بل عند الأمم جميعاً، وفي أشعارها وقصصها، وجاء القرآن بالأمثال كما كانت في الأمم فأين الاعجاز؟ الجواب: إن الإعجاز في إتخاذ ذات الطريق للاقناع والبيان ولكن بماهية ونوعية مختلفة عن المثل السائد، فيها تقريب للبعيد واظهار نسبي لما هو مستور، وجلاء لما خفي، وإثبات للصفة ووسيلة لبيان المعنى ووضوح الدلالة والكناية والإيجاز ودرجة من البلاغة.
المثل ليس حاجة للقرآن أو أن القرآن يتقوم به، ولكنه طريق رحمة بالعبـاد في ذاتـه ودلالاتـه، الناس علـى درجات في المنزلة والوعي والنباهة والإيمانأو الكفر والتصديق أو الجحود فلا بأس في الشروع بمباحث تتعلق بمناسـبة المثـل القرآني في مختلف المنازل والدرجات والآفاق.
لقد جاء المثل القرآني حاجة للجميع وصلاحاً للنفوس، فيه إحقاق للحق وإزهاق للباطل ولم يطلق لإعتباراتإجتماعيةأو آراء وأهواء شخصية.
التاسع والسبعون:خلو الأمثال القرآنية من المبالغة، وإظهار للشئ على ما هو عليه.
الثمانون:المثل القرآني حكمة كله وله غايات سامية دنيوية وأخروية، وتدبر المثل القرآني يقود إلى الجنة.
الحادي والثمانون:ليس كل الأمثال القرآنية ظاهرة المعنى، هناك أمثال قرآنية كامنة وبعضها يكون الظهور فيها ظهوراً جهتياً ومحدوداً ينتظر التثوير وسبر أغواره، لذا يعتبر إيجاد منهجية جديدة في أمثال القرآن ضرورة علمية لإستنباط دروس وعبر مستحدثة.
الثاني والثمانون:للمثال القرآني موضوعية في تيسير حفظ القرآن والتشويق إلى قراءته، والحاجة العرفية إلى الإستشهاد به في المعاملات والأحكام والصلات الإجتماعية، فاصبح جزء من الواقع اليومي للمجتمع الإسلامي.
الثالث والثمانون:لابد من إستقراء أثر ونفع المثل القرآني في تعاهد وحفظ القرآن، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
الرابع والثمانون:ليس كل الأمثال المتداولة بين الناس موجودة قبل الإسلام بل أغلبها جاءت به القيم والمعارف والثقافة الإسلامية ولعل الكثير مما نسب إلى بعض الحكماء من العرب قبل الإسلام يرجع في حقيقته الى ايام الاسلام ورجاله.
ودراسة الأمثال رجالياً وتأريخياً يظهر إعجاز المثل القرآني أي بالإمكان إستظهار اسرار المثل القرآني بدراسة علمية للأمثلة السائدة مع تنقيحها او تحقيقها.
الخامس والثمانون:المثل في الكتب المنزلة السابقة يعطي النفع العظيم كما هو في القرآن، أما المثل القرآني سواء كان محسوساً أو معقولاً فإنه واضح البيان والغرض، ويستطيع كل إنسان أن يأخذ منه ما يكفيه.
في مسألة البعث والنشور ذات الموضوعية والركنية في العقيدة الإسلامية، وعند كل المليين ترى مسائلها تنفذ إلى أعماق النفوس وتنعكس إيجابياً بأنماط السلوك في الخارج، وأخذت طابعاً فلسفياً وكلامياً على تعاقب الأجيال والأزمان، الطبيعيون والدهريون قالوا ان هي الا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر، وقد يتجدد هذا القول على لسان او آراء بعض المذاهب المادية ممن لا يدرك ولا يعرف إلا ما يدركه بالحدس من وجودها.
وتصدى القرآن الكريم للذي تقدم منهم أو تأخر، لمن مضى ومن سيأتي بآيات وأمثال، وذكر أقوالهم ذماً لهم وشهادة سماوية خالدة على افترائهم وايذائهم لأنفسهم وللمؤمنين وليكون ذكره على نحو التوبيخ عبرة وتقويماً للنفوس وحاجزاً دون إغواء الشيطان وفي التنزيل[وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ]( ).
وهذا الذكــر آيــة إعجازيـــة للقرآن فهـو لم يتجاهل قولهم تضعيفاً وإهمالاً لهم واسقاطـاً تأريخياً له، بل ذكره تفضلاً من الله تعالى وليكون بذلك قد وثقه إلى يوم القيامة وأبلغه إلى جميـع المسلمين مع انه رأي مناوئ للايمان ومعــاد للاسلام وللغايات التي جاء بها القرآن، ذكره للدلالة على قــوة المؤمنـين وعـدم خشيــة تأثرهــم سلباً به، وفي ذكره إعجـازاً آخــر وهــو علم الله تعالى بوجـود وبــقــاء مثل هذا القول معروفاً حتــى بعد نــزول القــرآن، جــاء في التنزيــل [ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ]( ).
وتتفق النظريات السياسية على تجاهل كلام العدو، والفلاسفة والعلماء حينما يتعرضون لقول معاند ومخالف يذكرونه بصورة تقبيح مع هجوم عليه، والقرآن كلام الخالق جاء رحمة للعالمين وفي أمثلته حصانة ووقاية لأهل الإيمان كذلك فيها توبيخ للكافرين والدهريين ونحوهم مع دعوة الجميع إلى الهداية والرشد والرجوع إلى العقل بتدبر تلك الامثال والانصات لها والاعتبار بها، فكانت وسيلة مباركة ذات شعبتين بل شعب متعددة تساهم في يقظة النفوس وجذبها للإيمان ومنع الغرور بالعلم والقوة والتقدم في ميادين الصناعة ذات التقنية العالية، وغزو الفضاء والسياحة بين الكواكب، وجعلها أسباباً وأمثلة على ثبوت الصانع.
ولم يأت القرآن بالمثل لحاجة بل إنه نوع هداية وتخفيف وتيسير وتأديب ومخاطبة للعقول على إختلاف مداركها، ولقد راع وأفزع المعاندين والمكذبين هذا النمط من الإسلوب القرآني وتلك الصيغ الكريمة من التربية الإلهية وإستنكروا أن يضرب الله الأمثال، زعموا ان الله أعلى من ذلك وأجلّ، ثم بالغوا في إستنكارهم وتساءلوا متعجبين أي قدر للذباب والعنكبوت حتى يضرب الله بها المثال؟ أصابهم الغرور وانشغلوا وحاولوا الإحتجاج بأن الله عظيم ولن يتضمن كلامه إلاكل عظيم وفاتهم أن موضوع العنكبوت والتمثيل به امر عظيم.
ويرد عليهم القرآن بأن الله سبحانه لا يرى من النقص ان يضرب مثلاً بالبعوضة أو بأصغر منها حجماً، فالمثل حق يدعو إلى حق، يعترف به المؤمنون فيزيدهم تمسكاً بإيمانهم، وينكره الجاحدون فيزيدهم غواية على غوايتهم.
والأمثلة آيات أكرم الله نبيه برؤيتها، رباه بها وأدبه، قال صلى الله عليه وآله وسلم “أدبني ربي فأحسن تأديبي”( )، وجوه التأديب متعددة ومن أهمأفرادها الوحي والأمثال جزء منه، وروي أنه لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين بالمثل ضحكت اليهود، وقالوا ما يشبه هذا كلام الله فأنزل الله عز وجل [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً]( ).
وجاء الإنجيل بحبة الخردل والحصاة والزنابير ونحوها أمثلة، وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: “إنما ضرب الله المثل بالبعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل على كبره وزيادة عضوين آخرين فأراد الله أن ينبه المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعه”( ).
وفي أنجيل متى “واضرب لكم مثلاً آخر يشبه ملكوت السماء أن رجلاً أخذ حبة خردل وهي أصغر الحبوب فزرعها في قرية فلما نبتت صارت كأعظم شجرة من البقول.
وقال: قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء.
وقال: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم.
وذكر أن في الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال( ).
والتمثيل في الإصطلاح المنطقي إنتقال الذهن من حكم أحد الشيئين إلى الحكم على آخر يشترك معه في جهة مناسبة للحكم والموضوع، وإثبات الحكم في جزئي آخر مشابه له، وقد يطلق عليه في الإصطلاحالأصولي القياس وهو إجراء حكم الأصل على الفرع لإلتقائهما في علة الحكم.
ولقد إختلف المسلمون في أهليته للإستدلال، وللقياس أركانأربعة:
الأول: الأصل.
الثاني: الفرع.
الثالث: الجامع.
الرابع: الحكم.
فإذا كان النبيذ – الفرع – يشابه الخمر في علية السكر، والخمر هو الجزئي الأول أي الأصل يكون الجامع بينهما هو الإسكار، والحكم للفرع أي النبيذ الحرمة.
ترى القرآن في بعضأمثاله يتغلغل إلىأعماق المنافقين فيكشف عن مقاصدهم ومنازلهم، وما يزعمون ويضرب أروع التشبيهات وأبلغ الصور لفضحهم وردعهم، ويأتي بالأمثلة التي تفيد ذمهم لتحذيرهم وتخويفهم ولتنبيه المسلمين إلى أذاهم وعنادهم، في سورة البقرة وهي مدنية يحلل إتجاهاتهم ويرسم لهم بأسلوب مشرق أخاذ حالهم وما يجيش في صدورهم، بأمثلة وآيات وحكم سماوية تصلح كل واحدة منها أن تكون مدرسة في التعليم والتأديب والتعريض والفضح والتوبيخ منها ما جاء بلغة المثال صراحة كما في قوله تعالى [ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ … ]( )، وقال تعالى [ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ]( )، وفيه ذم وإنذار للكفار والمنافقين عن طريق مدرسة المثل القرآني في آية وحكمة وسلاح في الإنقضاض عليهم، وكشف نواياهم وسوء صنيعهم، وهو حرز للمؤمنين وتثبيت لقلوبهم في وقت هم بأشد حاجة إليه.
ثم جاءت سورة الحشر لتبين الصفات النفسية للذين نافقوا وموقفهم العدائي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإغراءهم اليهود على قتال المسلمين، ودلت على وهنهم وضعفهم وخورهم وتفرق قلوبهم ورهبتهم من المسلمين ومثلهم في الخيبة ككفار بدر، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
عالمية المثل القرآني
لقد بينت الوقائع والأحداث بأن القرآن رحمة للناس جميعاً فهو مدرسة الأمم وفصل الخطاب في التشريع والأحكام والنواميس والضوابط الكلية للعلوم والقيم والسنن، وهو الكتاب السماوي الباقي في حجيته إلى يوم القيامة فكل آية منه تبقى حية تبعث ضياء الحكمة في كل باب من أبواب العلم وتطرح نفسها دليلاً وهادياً لكل من يميل إليهـا مسترشداً متعلماً سائلاً المدد مسلماً كان أو غير مسلم.
ومن الآيات في هذا الباب أنأمثال القرآن جاءت بصيغة العالمية في موضوع المثل القرآني الذي لم يحدد بمنطقة معينة من العالم بل هو موجود في كل بلد ويعرف في كل مكان من العالم وهذا من إعجاز القرآن وان اختيار موضوعات المثل القرآني ما كان بهذا الشمول إلا لانه نازل من عند الخبير اللطيف، كما في قوله تعالى [ مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ]( ) والإنسان في كل مكان يعرف الخبز والطحين وأصلهما، ويحتاج إليه.
إن المثل في هذه الآية مدرسة في الإعجاز وبشارة إرتقاء علوم الزراعة والإكتشاف فيها، مما يجعل الإنتاج يتضاعف بإزدياد حب السنبل وهو مناسبة لمواجهة الزيادات السكانية، ودليل على أن الله تعالى يرزق الناس جميعاً، ويتجلى الإعجاز بمناسبة ذكر المثل وهو الإنفاق في سبيل الله والحث عليه وبعضهم يجتهد بالحث على تحديد النسل ويأتي بأرقام وحسابات مخيفة والقرآن يدعو للتفكر بكيفية الإرتقاء بميدان الزراعة والتكاثر والإنشطار فيها.
لقد ألبس القرآن المعنوي والمعقول لباس المحسوس ببرهان وإحتجاج أظهر الرسوخ والثبات الذي فضح مناهج أهل الفلسفة المادية وأولئك الذين لا يعترفون إلا بالمحسوس وما موجود بين ظهرانيهم من المادة وتأخذ بزمام النفوس الضعيفة إلى سبل النجاة.
وفي آيات القرآن ومواضيعها وأحكامهاتأديب للمسلمين وغيرهم ومن أهم تلك الموضوعات المثل القرآني.
وهذا الإطلاق في التأديب يظهر بالوجدان ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
لقد ساهم المثل القرآني في وحدة المسلمين وكان محور التقاء بينهم وسبب إرتقاء في مجتمعاتهم، وجعل تراث الشعوب والأمم في باب المثل هزيـلاً غريبـاً، وتلـك آيـة إعجازية لم تحصل على ما تستحقه من الدراسـة.
ولقد تجلـت عظمـة المثل القــرآني وأهليتـه للهيمنة على النفوس والإحساس وقابليته لكي يكون واقية لما يحمله من خصائص إعجازية، وما يتضمنه من وجوه بلاغة القرآن أو لما فيه من السعة والشـمول، فكان بحق ناسخـاً للأمثال العربية وغيرها من أمثلة الشعوب في الوقت الذي شبه فيه المثل في العهد القديم باللغز، وقالوا إنه يحتاج إلى شرح وإيضاح.
قصص الانبياء أمثلة للمؤمنين
بالإبتلاء وبالمؤمنين السابقين الذين أوذوا في سبيل عقيدتهم وأخرجوا من ديارهم وأموالهم والمحن والبأساء ما كان فوق الطاقة ولم يزدهم إلاإيماناً، أمثلة ذات موعظة وفيها مواساة ودعوة للصبر والتحمل ببيان المثلية المباركة قال تعالى[إنَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
آيات وأمثال وتربية وتوجيه تشد العزم وتكون مدداً للروح وتقوي الإرادة وتقوّم أفعال المسلمين في مواجهة الإبتلاء وتحمل المشاق، إنها دعوة للمجاهدة والمكابدة والسعي مع العناء في مسالك السعادة الأخروية.
فالمؤمن الذي يعلم أن ما يعانيه اليوم لا يقاس بما عاناه المؤمنون السابقون، وان الابتلاء تمحيص ولا يكون خاتمة الصبر فيه إلا الفوز والسعـادة وهـو اختبار عاقبتـه صـلاح وفلاح .
وتتطلب مسؤوليات المؤمنين الكبيرة والكثيرة والمتشعبة إعداداً ملكوتياً في مراتب التقوى، والحفاظ على ثمرات سعيهم يستلزم المزيد من المكابدة والمجاهدة والمجالدة والمغالبة.
ويمكن القول إن في القرآن مدرسة خاصة وهي “مدرسة المثال” لها قواعدها وأصولها وفروعها وتتصف بغايات متعددة بل ومتباينة، المثل الواحد يُخاطب به الضدان والمتضايفان والمتساويان وفي أهلية المثل القرآني الواحد لمخاطبة المتعدد المختلف آية إعجازية، نحن بحاجة إلىإستنباط الحكم والدروس والأحكام منها وإستثمارها في مرضاة الله وصلاح، النفوس، وتخلصها من قيود وسلاسل الوهم والجهل والعناد.
قال تعالى [وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ]( )، وتظهر لغة الإطلاق والعموم في الخطاب القرآني، وفيها دلالة على موضوعية المثل القرآني وأثره في العقيدة والمجتمع، ودعوة لإعتبار وإنتفاع أهل العلم والناس جميعاً من مدرسة الأمثال لما فيها من الرشحات , وما يحتاجه التدبر فيها من أدراك ما غاب عن الأبصار وخفي عن الأوهام وما يتطلبه من إعمال الفكر والنظر والكسب.
وفي الآية مدح لأولئك الذين يتعظون من الأمثال، ويعونها إذ وصفهم القرآن بأنهم عالمون، وربما كانت هناك نوع ملازمة بين إدراك الأمثال القرآنية وبين الخشية من الله عز وجل، كما في قوله تعالى [كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ]( ).
والأمثال القرآنية مناسبة لدراسة بعض علوم القرآن، وللمثل موضــوعية خاصــة في القرآن فهو سلاح، ومادة للإحتجاج والبيان وتثبيت البرهان، قال تعالى [ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا]( ).
وفي قوله تعالى [ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، جاء المثل سلاحاً في الإحتجاج، ومادة وبرهان حق يستلزم التسليم بالواقع لإستحالة تخلف النتيجة عنه، كما اتخذ المثل هنا مقدمة الغرض منها معرفة الحق وصدق الرسالة الإسلامية، وفي أسـباب نـزول الآيـة أن وفـد نجــران جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وســلم في المدينــة وأثار بعــض الشبهات منها أنهم قالوا: يا محمد كما سلمت انه لا أب لعيسى من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى فنزلت الآية وفق مفهوم الموافقة وقياس الأولوية الظاهر بجلاء اللفظ والمعنى ووفـق موازين العقل، فخلق آدم من تراب أعظم وأعلى في مراتب القدرة والإعجاز من تكوين عيسى عليه السلام في رحم مريم.
ومع هذا المثل افتخر المشركون إذ أنهم عبدوا الملائكة وان تلك العبادة تجعلهم أفضل ممن عبد البشر المخلوق , فكان جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مركباً ومتشعباً ضد من يتلبس بالكفر والشرك من غير التباس أو شك، وضد من أظهر الإيمان وإنحاز في إعتقاده إلى مراتب الشرك الخفي ومنازل الضلالة.
وجاءت الأمثلة عند الأمم والشعوب بالتجربة،وجاء القرآن بالتنزيل ليبقى حياً، الأمم أسقطـت بعض أمثلتـها بل ما موجود منها يعترض عليه أحياناً كما مـدون في بطـون الكتب في التعليق على بعض الأمثلة، أو بالوجدان حتى شـاع القول أن الأمثلـة تضرب ولا تقاس، أو المناقشة في الأمثال ليس من دأب المحصلين، أما في القرآن فكل مثل من أمثلته المباركة مدرسة مستقلة.
وينبغي أن يُدرس كل مثل قرآني على نحو الإستقلال كآية وحجة قرآنية، فهو وان كان مثلاً إلا أنه بلحاظ الجزئية من القرآن يحمل صفة الإعجاز ويدعو الباحثين والعلماء لكي يأخذوا بأيدي الأمة للإنتفاع الأمثل من كل مثل فيه.
من إعجاز المثل القرآني أنه مدرسة في البلاغة والحكمة والموعظة، ودرس متكامل في بضع كلمات لم ولن يرقى عالم التدريس الجديد بفنونه ومناهجه المستحدثة إلى ما فيه من المنافع والمصالح، هذا الباب من علوم القرآن لم تستوف الدراسات حقه بعد، مع قلة ظاهرة للمتوغلين في غمرات علومه، نظنه سهلاً يسيراً جانبياً، تناولته الأبحاث ضمن بلاغة القرآن، ولكن المستقرء من ظاهر الآيات أنه خزينة مستقلة للعلوم تدعو الحاجة إلى التنقيب، والبحث التفصيلي في ذخائرها.
ومن إعجازهأنهأغلـق باب إقتبـاس المثـال من الأمم الأخرىأو حال دون إنتشـارها بين المسلمين، وفي هذا الزمان ومع أنك ترى ميلاً من بعضـهم إلى الغرب سواء بسبب ما بهرهم من المظاهر الصناعية ولوازمها عندهم، او بسبب طبيعة الناس لإستـطــراف البعيد والتوجــه إلى النـادر أكثر مما تحت قدرتهم، او للسببــين معاً فان التأثر بأمثال الغرب حتى عند هؤلاء يكاد يكون معدوماً وهذا من إعجاز المثل القرآني الذي يبدو جلياً ومحسوساً وإن لم يلتفت إليه.
وليس نقصاً أو عيباً أن يقرأ الذي يريد إعداد كتاب أو بحث المزيد من الكتب المتعلقة بالموضوع، ويتخذ من مراجعة الكتب المتعددة ذات النفع والفائدة العلمية مقدمة في ميدان البحث إذأن الله عز وجل قسم الأرزاق ومنها الفكرية وجعل الناس بالناس لاسيما ونحن نبحث وندرس علوم القرآن التي فيها الكل شرعاً سواء، كل واحد يمكن أن يجد ضالته في ميادين العلم والهداية والرشاد.
لقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “القرآن ذلول ذو وجوه محتملة فاحملوه على احسن وجوهه”( )، الأمر الذي يستلزم التصدي للمثل القرآني من ذوي الإختصاص والكفاءة العلمية والأهلية والإحاطة في علم التفسير واللغة والبلاغة والقدرة على استخراج ما في المثل القرآني من الذخائر وإزاحة الغطاء عن شطر من علومه وأسراره، ودراسة الوجوه والنظائر فيه كماً وكيفاً، وحسب موازين التفسير بالقرآن والسنة والقواعد الكلية باتجاه تسخير ما فيها من الحقيقة والمجاز لمصالح الدين والدنيا وبيان ما يكمن فيها من صيغ الإعجاز وإزاحة الكدورات الظلمانية، والإعداد العام للأمة وإصلاح المجتمعات وتهيئة أسباب، ومقدمات توطيد وتثبيت أركان الملة والدين وتعظيم شعائر الله.

فلسفة أسماء القرآن وتعددها
موضوعية القـراءة ظاهـرة بالوجـدان إذ أنهـا قوام لدوام الشـيء ورسـوخ العلم والإحاطـة بـه، ولا يعنى هذا أن الناس هم الذين يحفظون القرآن بقراءته، إنما سماه الله بهذا الاسم ودعا إلى قراءته كجزء من حفظ الله تعالى للقرآن، قال تعالى [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، نعم قراءة وتلاوة الناس للقرآن من حفظ الله تعالى له وفي فرض قراءة القرآن في الصلاة مسائل :
الأولى : حفظ القرآن .
الثانية : تعاهد سلامة القرآن من التحريف .
الثالثة : التدبر اليومي العام بآيات القرآن .
الرابعة : تغشي أسباب الرحمة للناس .
وفيه آية وهي أن الكتاب النازل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لابد وان يقرأه الناس في كل زمان .
ومن مصاديق وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلوات اليومية الخمسة ، التي تتعلق في أدائها بأوقات مخصوصة من النهار والليل قال تعالى[أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( )، لبيان قانون وهو لا تمر دقيقة على الأرض إلا وهناك من يتلو القرآن على نحو الوجوب العيني في الصلاة عدا النوافل واستحباب قراءة القرآن بذاته.
ويمكن تقسيم أسماء القرآن إلى أقسام :
الأول : الأسماء التوقيفية وهي على شعبتين وعلى نحو الترتيب :
الأولى : الأسماء الواردة في القرآن مثل القرآن ، الكتاب ، الذكر ، الفرقان ، الروح .
الثانية : الأسماء التي وردت عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : أسماء القرآن التي وردت على لسان الصحابة والآئمة ، ومنها اسم المصحف.
الثالث : اسماء القرآن المستقرأة من الكتاب والسنة ومنها ما ورد عن التابعين.
كما يمكن تقسيم أسماء القرآن تقسيماً استقرائياً آخر ، وهو :
الأول : الأسماء التي ينفرد بها القرآن .
الثاني : الأسماء التي يشترك بها القرآن مع الكتب السماوية الأخرى.
الثالث : الأسماء التي تجمع بين القرآن وغيره من الكتب مثل المصحف.
ومن الإعجاز في تسمية القرآن وقراءته في كل أن تلاوة المسلمين له من وجوه :
الأول : تلاوة المسلمين للقرآن في صلاة الفريضة .
الثاني : صلاة النافلة .
الثالث : القراءة المستحبة .
الرابع : ختم المسلم للقرآن.
وهذا من الإعجاز الغيري للقرآن , فقدحفظ الله تعالى القرآن حتى في تسميته , وتلك التسمية باب كريم لحفظ القرآن وتتفرع عنها أسباب مباركة تساهم في تعاهد القرآن وحفظ النفوس والقيم العقائدية والأخلاقية فهناك نوع تفاعل ورشحات مباركة بين كل من القرآن والنفوس الإيمانية كل منهما يساهم في تعضيد الآخر.
لقد أنزل الله عز وجل القرآن هدى ونوراً ، نزل من السماء إلى العالم الأسفل وسيلة مباركة لتخليص الناس من سجن الدنيا واللهث وراء زينتها ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، وقيود وسلاسل التعلقات الجسمانية والغريزية، ومن حب المال والأهل وشهوة البطن والفرج وتزاحم الآمال , لينجيهم من اوزار الهموم وآفات الحسد والإبتلاء بما يشغلهم عن الإنقطاع إلى الله في القول والعمل والأمل طويله وقصيره، عاجله وآجله، ظاهره وما خفي منه، ويرتسم من باطننا طريق الى عالم النور يكشف عن أعيننا الحجب، ويزيل الغمة عن صدورنا كمقدمة وباب لفهم القرآن وتدبر آياته.
ونستقبل علوم القرآن وما به من الكشف والإفاضات أو ييسر مقدمات الحجة والبرهان وعلوم الهداية لأهل القرآن والمفسرين لننطلق في رحاب القرآن طلاب حقيقة طرداً للظلمة والكدورة الذاتية للأعيان إذ أن العلم نوعان منه ما هو بالأصالة والحقيقة، ومنه ما هو بالتبعية والعرض.
الاسم لغة ما وضع لشيء من الأشياء ودلّ على معنى من المعاني جوهراً كان أو عرضاً فيشمل الفعل والحرف، وجعل الاسم للتمييز بين الأشياء بمعزل عن الزمان.
والاسم مشتق من السمو لأنه تنويه وإكرام وتقدير، وفي لسان العرب اسم الشيء وسمه، بحركات السين الثلاث وسماه (هو مشتق من السمو بمعنى الرفعة)( ).
وهو أحد الأسماء العشرة التي تبدأ أوائلها على السكون فاذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة لئلا يقع إبتداؤهم بالساكن، فقد دأبوا ان يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن. وقال أبو الحسن الأشعري: إنه المسمى والعبارات عنه تسميات، لذا قيل هو المسمى بعينه وذاته، والتسمية الدالة عليه تسمى إسماً على سبيل المجاز.
وهل الاسم غير المسمى أو نفسه؟ كما يبحث في علم الكلام الجواب هو الثاني، فالشيء لا يتقدم على نفسه ولا يتأخر. نحن لا نعبد الاسم بل نعبد الذات المقدسة التي تقع الأسماء عليها بالصفات الإلهية.
لله تعالى تسعة وتسعون إسماً والاسم غير المسمى ، لأنه سبحانه واحد، وقد وردت أهمية الأسماء منذ الساعات الأولى لخلق آدم عليه السلام وموضوعيته في الخلق والحجية على شرفه وأهليته لخلافة الأرض.
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة غير واحد ، من أحصاها دخل الجنة .
وأخرج الترمذي وابن المنذر وابن حبان وابن منده والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً ، من أحصاها دخل الجنة ، إنه وتر يحب الوتر ، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارىء ، المصور ، الغفّار ، القهّار ، الوهّاب ، الرزّاق ، الفتّاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدىء ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، البر ، التوّاب ، المنتقم ، العفو ، الرؤوف ، مالك ، الملك ، ذو الجلال والإِكرام ، الوالي ، المتعال ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور( ).
قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَاثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( )، وتسمية يحيى عليه السلام في قوله تعالى [يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا]( )، لتدل الآية أعلاه على أن الاسم غير المسمى وتابع له ، والشأن الرفيع لأسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والنهي عن التوظيف الضار للأسماء كما في قوله تعالى [وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمان]( ).
وأولت الشريعة عناية خاصة لتسمية الأولاد وإستحباب إختيار الاسم الحسن وهو من حق الولد على الوالد، بل يستحب تسميته قبل الولادة وأفضل الأسماء ما تضمن معاني العبودية لله عز وجل، ويكره للمسلم ترك اسم محمد إذا ولد له اربعة أولاد.
ومن بركات القرآن أن منافـعـه لا تنحصـر بآياتـه ومضامينها بل تشمل أيضاًأسماءه لما فيها من الدلالات والعبر والمواعظ والحكمة لأن الإعجاز يتعلق بالاسم على نحو الإستقلال والموضوعية والإعتبار، فأسماء القرآن مدرسة عقائدية وأخلاقية وتربوية وفيها بيان وتفسير لوجه من وجوه القرآن وإشراقات تنبعث من هديه لتساهم في الفهم الأحسن للغايات والمقاصـد التي إنطوت عليها تلك الأسماء، وهذا الباب من العلم تحتاجه المكتبة الاسلامية وتتطلع إليه النفوس عامة وتشتاق إلى التزود مما فيه من المضامين وما ينبثق عنه من الحقائق.
وقد قسمنا إعجاز الآية القرآنية تقسيماً جديداً إلى أقسام :
الأول : الإعجاز الذاتي .
الثاني : الإعجاز الغيري .
الثالث : الإعجاز بالمعنى الأعم الشامل للذاتي والغيري.
والسياحة في أسماء القرآن سفر علمي، وإظهار لكنز من كنوز القرآن، وهل هي من الإعجاز الذاتي لآيات القرآن ام من إعجازها الغيري؟ الجواب : هي من القسمين معاً لاسيما وأنها في الغالب أسماء توقيفية جاء القرآن بها.
نحن بحاجة إلى دراسات في أسماء القرآن، دراسة تبين العلل والمفاهيم والمقاصد والمنافع لكل إسم، ومباحث إحصائية دقيقة تربط بين الأسماء وعدد المرات التي ورد فيها كل اسم من أسمائه، وقرائن الحال، وسياق الآية أو الآيات وأسباب النزول المتعلقة بالاسم إن وجدت وما في ذلك من الأسرار والعلوم مجتمعة ومتفرقة.
وفي تعدد أسماء القرآن نوع إكرام للمسلمين، فمثلاً جمع له اسم القرآن والفرقان والكتاب ولم يكن هذا الجمع للكتب السابقة، ولابد من خصوصية للقرآن عجزت عن تحملها الأمم الأخرى, وان هذا الاسم لكتاب المسلمين شاهد سماوي على إنفرادهم بخصائص وصفات إيمانية تؤهلهم لإستحقاق ونيل هذا المقام العظيم، أي أن مجرد تسميته بالقرآن هو تشريف للمسلمين.
ولابد من تلمس أوجه الإختلاف في الأسماء والعناوين ومقاصد كل منها، فالكلام من عالم الأمر.
والكتاب من عالم الخلق، ولماذا وصف في هذه الآية بالقرآن، ولماذا وصف في قوله تعالى[تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ]( )،بالفرقان وفي آيات أخرى بالكتاب والذكر،والقرآن خال من الصدفة والإتفاق.
والتوسعة في علوم القرآن أمر حسن، وكذا التحقيق المنبثق من الأصول، والحافظ للفروع، ومن التراث العلمي الزاخر للأمة الاسلامية جمعاء، فيجب ان لا يفرط في أي جزء بالجهود العقلية العظيمة في علم التفسير، ويتنزه عن النزعات العصبية والمذهبية سلباً وايجاباً، أي لا يكون الترويج للمذهب أو الطعن بما يعتقده الآخرون من الغايات الأساسية للبحث والإستقراء لما يتولد عن هذين الأمرين مجتمعين ومتفرقين من غشاوة على البصيرة أو حاجز دون سبر علوم القرآن والغوص في أعماق بحار أنواره.
وكتاب الله عز وجل نزل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير وعاء كآلة أو واسطة، بل مشافهة يسمعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الملك ومع هذا إحتفظ به المسلمون، وتعاهدوه ولم يفرطوا بشيء منه.
ومنهم من قال أن القرآن هو العقل البسيط الذي يتصف به العقل الفعال وأنه من صفات المقربين والأنبياء والأولياء الكاملين، وأن الفرقان هو العقل المنفعل وهو من صفات المتفكرين في الآفاق والأنفس , ولا دليل على هذا المعنى والتفصيل.
إنـهـا آيــة إعجـازيـة وبـاب ثنــاء ومــدح وأهليـة للمسـلمين بل وللنبـي صلى الله عليه وآله وسلم على تحمل أعباء الرسالة، وفي ذلك دلالات عــلى ثقـل المسـؤولية، قــال تـعــالى [إِنَّا سَنـُلْقِي عَلَيْكَ قَـوْلاً ثَـقـِيلاً]( )، فاذا كان قولاً من عالم الألفاظ لماذا يكون ثقيلاً؟ وهل يمكننا القول من أسماء القرآن “قـولاً ثقيلاً.
الجواب : نعم ، إنه القرآن عهد الله في الأرض وأمانة السماء.
الكلام صفة وهو من المتكلم كشعاع الشمس بالنسبة لها، ويتلاشى الصوت ويبقى أثره في الأسماع والقلوب ولكن الكتاب أثر ووجود خارجي.
واحصيّتُ لسورة الفاتحة مثلاً ثلاثة وأربعين إسماً من أسمائها، وقسمتها حسب موضوعها وانبثاقها( )، وهي على أقسام:
الأول: الأسماء التوقيفية بالقرآن.
الثاني: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: الأسماء التي وردت عن الصحابة والأئمة عليهم السلام.
الرابع: التي وردت عن التابعين.
الخامس: التي ذكرها المفسرون.
السادس: التي أستلت بألفاظها من بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمنزلة الفاتحة وعظيم منافعها أو الأخبار عن وظائفها.
ولا زال الباب مفتوحاً لإستظهار أسماء جديدة ، ولكننا في القرآن لم نر هذه الظاهرة ليس للإكتفاء بما عندنا من الأسماء بل لأن البحوث في المقام قليلة وللإكتفاء بأسماء القرآن التي بين أيدينا وتعددها من الآيات ومفاتح العلم وإجلال وإكراماسم (القرآن) خاصة.
والقـرآن إمتــاز بأن أسـماءه منّزلـة معــه وموثقة , وفيه دلالة على تعظيمه وإجلاله، لم يـرد عن المسـلمين إختيار أسماء له بل إكتفوا بتعظيم التنزيل له، نعم وردت تسمية “مصحف” – بالضم او الكسر – وضم الميم هو الأشهر والمختار، وقد ورد انه لما جمعوا القرآن وكتبوه في الورق قال أبو بكر: التمسوا له إسماً، فقال بعضهم: “السفر”، وقال بعضهم: “المصحف”، وعن المظـفـري في تأريخـه أن ابن مسعود قال: “رأيت بالحبشة كتاباً يدعونه المصحف فسموه به) ( ).
وسميت النسخة الجامعة من القرآن مصحفاً لأنه كان قبل ذلك سوّراً متفرقة وآيات متقطعة وورقاً منتشرة وصحفاً مشتتة، فالمصحف هو الجامع للصحف المنتظمة بين دفتين.
وعلـوم القــرآن متشــعبـة وغالبـاً ما يكون بينـها نـوع ملازمـة، ولا نقول كما قال أحد العلماء “المشتغلون بدقائق علم العربية وفنون الصنائع الأدبية كالزمخشري وأترابه، فإنهم في واد وأهل القرآن وهم أهل الله وخاصته في واد”( ).
إنما ينحل فعل الزمخشري وأترابه إلى فعلين:
الأول: الإشتغال بالعربية وعلومها وبفنون الأدب.
الثاني: انهم جعلوا علوم العربية مقدمة ومدخلاً لعلم التفسير سواء هم الذين يقومون بمهمة ذي المقدمة أم غيرهم من العلماء والمفسرين.
توفي الزمخشري سنة 538 هجرية وهو من أشهر من وظّف علوم البلاغة والنحو والبديع والإعراب والآدب في علم التفسير، ومن علوم القرآن الجهود البلاغية والنحوية التي تعتبر دروساً ومنهاجاً في علم التفسير ومدخلاً لتجديده.
ولا زلنا في أول الطريق والذي غاب عنا أكثر من الذي إستطعنا إستقراءه وبيانه من علوم القرآن، وتلك حقيقة قرآنية أي تتعلق بالقرآن أكثر مما تتعلق بنا وبجهود المسلمين والعلماء في هذا الباب( )، وسيأتي بعد ألف سنة مثلاً ومع تشعب علوم القرآن من يقول لا زلنا في بداية الطريق في علوم القرآن، والحق معه , وسيثبت مصداقه واقعاً بتجلي علوم مستحدثة من درر القرآن ومستخرجة من خزائنه , وهذا لا يعني إقراراً بالتقصير المتعمد أو الإخلال بالواجب، ولكن علوم القرآن أكبر من أن تحيط بها عقول البشر.
وليس من الإتفاق أن يلتقي معنيان أوأكثر للكلمة القرآنية، الإتفاق والصدفة أمر معدوم فيه، كل حرف وكل كلمة جاءت من الحكيم العليم لتنطوي تحتها مدلولات وعلوم وحقائق ، تتجدد وتشرق وتطل على الناس ببهاء في كل زمان وفي التنزيل [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]( ).
فمن إعجاز القرآن وما يستدل به على عدم وقوع التحريف فيه أن الكلمة منه لا يمكن أن تأتي بدلاً عن كلمة أخرى، وإن كانت مرادفة لها في المعنى.
ولابد من أسرار ربانية، وعلوم غيبية في كل اسم من أسماء القرآن ومناسبة إطلاقه بخصوص الموضع من القرآن والمعنى السياقي له وما يتعلق بأسباب النزول ومناسبة الحال كما في إلتقاء القرآن والنصر يوم بدر باسم واحد هو الفرقان، قال تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
أين أهل البحـث والإستنباط، أين عشاق الحقيقة، أين الباحثون عن الكنوز العلمية والخفايا الملكوتية التي لا توجد إلا في الكتاب العزيز.
وتدعو علوم القرآن العلماء والناس جميعاً لاستنباط المسائل والدلائل والبراهين، ونتوجه بالشكر والثناء والدعاء بالمغفرة والرضوان لجميع العلماء الذين ساهموا في بناء هذا الصرح الخالد في تفسير القرآن وعلومه تحليلاً ودراسة، وفي مباحث لغوية وبلاغية وتفسيرية وفقهية وفلسفية وغيرها.
يفتخر الملأ والأغنياء بما عندهم من الكنوز والذخائر المادية وان لم تكن لها حركة ولا لسان، ثم لا يلبث أن يتركها صاحبها إرثاً ولكن مع حساب يتعلق بكيفية جمعها، نعم قد ينتفع منها في حياته في مباح أو مستحب أو غيره، وقد تكون آلة لقضاء الحوائج وعند الشدائد ولكن الإستعمال يرافقه نقص فيها وتآكل لمجموعها.
أما كنوز القرآن فالإستعمال والإظهار يزيدها عظمة وأهمية ورفعة، فان سألت كيف تزداد الكنوز مع الإظهار والاستثمار وهو ذات القرآن بنفس سوّره وآياته؟ الجواب: إنها تزداد بإظهار ما فيها من العلوم والأسرار.
كنوز الدنيا من الذهب والفضة ومطلق زينتها يجتهد الإنسان في سبيل حفظها، وكنوز القرآن تحفظه وتحفظ الإسلام، فهي الفرقان حقاً والحرز الذي يعز المؤمنين.
مباحث أسماء القرآن ظلت في بداياتها البسيطة وتحتاج إلى دراسات ولابد من تثويرها لكي نتجاوز تلك المرحلة الإبتدائية، ونستنبط الدروس والعبر المكنونة في هذا العلم وفي التنزيل [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]( ).
ولقد إشترك القرآن مع الكتب السماوية في أسماء كثيرة كالكتاب والفرقان والذكر، ولكنه إستقل باسم القرآن، فلابد من وجود حكمة ومضامين وعلوم خاصة تتعلق بهذه الخصوصية. لماذا هذا الاشتراك اللفظي في تلك الأسماء كالذكر والفرقان، إن إشتراكها في اسم (الكتاب) أعم ويشمل مادة التنزيل واللوح المحفوظ، مع الإستقلال والإنفراد والتشريف باسم القرآن.
قال ابن عربي: علوم القرآن خمسون علماً وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة، إذ لكل كلمة ظهر وبطن وحد ومطلع، وهذا مطلق دون اعتبار تركيب وما بينها من روابط، وهذا ما لا يحصى ولا يعلمه إلا الله”( ) ، وهي بلغة الأرقام (77450).
ولكن عدد علوم القرآن من اللامتناهي , ومن الأمور التوليدية تزداد مع كثرة اللحاظ وإنشطار العلوم( )، والصلة بين الآيات رسماً ولفظاً ودلالة وتأويلاً.
وأختلف في القرآن كإسم:
الأول:عن جماعة: انه اسم علم غير مشتق خاص بكلام الله فهو غير مهموز، وبه قال ابن كثير.
الثاني:كان الشافعي يقول: القرآن إسم، وليس بمهموز ولم يؤخذ من قرأت، ولكنه اسم لكتاب الله.
الثالث:عن الأشعري: إنه من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممت أحدهما إلى الآخر، وسمي به لقران السوّر والآيات والحروف فيه.
الرابع:قال الفراء: مشتق من القرائن لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضاً، وهو هنا بلا همز ايضاً ونونه أصلية، لكن القراءة المتعارفة بين المسلمين هي بالتهميز.
الخامس:القول بأنه مهموز هو المشهور يفيد أنه مصدر قرأت كالرجعان والغفران، سمي به الكتاب المقروء من باب تسمية المفعول بالمصدر.
السادس:إنه مرتجل أي موضوع من أول الأمر علماً على الكلام المعجز المنزل.
السابع: هل هو علم شخص أم علم جنس؟ الأقرب هو الأول، وإرادة ما بين الدفتين , من السور القرآنية التي تبدأ بالفاتحة وتنتهي بسورة الناس.
الثامن:القائل بأنهاسم جنس لاحظ تعدد الألفاظ المنزلة مع تعدد قارئيها وكاتبيها، ولكنه مردود.
التاسع: قال جماعة: هو وصف على فعلان، مشتق من القرء بمعنى الجمع، ومنه قرأت الماء في الحوض أي جمعته، قال أبو عبيدة: وسمي بذلك لأنه جمع السور بعضها إلى بعض، ولأنه جمع عشرات الكتب السالفة المنزلة , وقيل: لأنه جمع أنواع العلوم كلها.
العاشر:لماذا لا ينظـر للاسم بهذا المعنى ولكن بلحاظ عقائدي أعم فنقـول سمـي قــرآناً لأنه جمع المسلمين، لذا ترى الوحدة تتجسد في أعظم صورها ومصاديقها بالقرآن، هو الخيمة السماويـة وميثـاق النبـوة الذي يلتقي عنده الناطقون بالشهادتين، أي هناك ملازمة عقلية وشرعية بين إعتناقالإسلام , وإتخاذ القرآن هادياً ودليلاً وإماماً، عنده وبه ومنه وفيه تسري صبغة الإيمان في النفوس كما يجري الدم في العروق ,ويتبدد الخلاف وتنتفي الخصومات .
الحادي عشر:إشترك القرآن مع الكتب السماوية الأخرى في أسماء كثيرة كالكتاب والفرقان والذكر.
هناك فروق بين القرآن الكريم والكتب السماوية المنزلة على الأنبياء منها:
الأول:القرآن كلام الله وكتابه، وغيره مما نزل يصدق عليه انه كتابه فقط، وكلام الله أشرف وأرقى مرتبة من كتابه لأن الكلام هو القول وأيضاً هو كتاب الله والكتاب فعل، والقول أكثر بياناً وأقرب صلة من القائل، وأوقع أثراً عند السامع، قال تعالى في وصف القرآن والإحتجاج بتلاوته[وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ]( ).
الثاني: القرآن نزل نجوماً في ثلاث وعشرين سنة، والكتب الأخرى نزلت جملة واحدة.
الثالث: كلام الله نزل مشافهة على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والكتب السماوية الأخرى نزلت صورة الفاظها على نحو ألواح وقراطيس.
والأسماء تكون تارة بلحاظ ذاتها وماهياتها، وتكون تارة باعتبار ما لها من العوارض وما يطرأ عليها من الإفاضات والإعتبارات فبناء واحد يطلق عليه من جهة الغاية داراً، وبلحاظ الموضوع يسمى سكناً، والقرآن بلغ مرتبة الكمال في جمعه للإعتبارات السامية والكمالات، والصفات الرفيعة.
الرابع:إن القرآن علّمه الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]( )، وكان خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، وأهل الكتاب يتدارسون الكتب لقوله تعالى [وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ]( ).
الخامس: الكتب الأخرى في الغالب كتبت موعظة في الألواح، قال تعالى في موسى عليه السلام [ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ ]( )، وفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وردقوله تعالى [َفأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ]( ).
السادس:تشرفت أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن، اي ليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده المقصود بإنزاله، قال تعالى [أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ]( ).
وتبين الآيةأعلاه أثر القرآن في نفوس المسلمين وهو من الشواهد على أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السابع: من خصائص القرآن ما يقترن به من مضامين الخشوع والتذلل لله عز وجل [ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ]( )، لذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: انا اعلمكم بالله وأخشاكم منه.
الثامن: منزلة القرآن بالنسبة للكتب السماوية الأخرى كمنزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنسبة للأنبياء الآخرين فهو سيدهم وخاتمهم، وكذلك منزلة المسلمين بالنسبة لغيرهم.
التاسع: يكون الحس في أحيان كثيرة آلة للفصل والتمييز فكيف إذا إشترك هو والعقل في إدراك واقع القرآن وأثره في المجتمعات والسيرة العامة للناس بالقياس مع الكتب الأخرى.
من فضل القرآن ان تلاوته والإستماع إليه نفي للجهالة والغرر، وهو واقية وسلاح من الغفلة، لذا أنعم الله تعالى على المسلمين فجعل تلاوة القرآن في كل ركعة وركعات الصلاة اليومية واجبة وعلى نحو متعدد، ويمكن إستقراء قانون ثابت من تلاوة القرآن، وهو إنعدام الغفلة والجهالة عند المسلمين بتلاوة القرآن وقد تفضل الله تعالى وجعل التلاوة واجباً وخطاباً تكليفياً لكل مسلم ومسلمة.
روى عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: “ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: عليكم بكتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم( )، هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله( )، ومن اتبع الهدى في غيره اضله( )، وهو حبل الله المتين( ) والذكر الحكيم والصراط المستقيم( )، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا يشبع منه العلمــاء، ولا يخلـق على كثـرة الرد ولا تنقـص عجــائبه، من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن خاصم به فلح ومن دعا اليه هدى الى صراط مستقيم” وأخرج الترمذي وابن أبي شيبة والدارمي قريباً منه( ).
القرآن هو كلام الله المعجز الذي نزله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير واسطة أحد من البشر، المكتوب في المصاحف، المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته، وخرج بكلام الله المعجز الحديث القدسي، وبالمنزل ما لم ينزل أصلاً كسائر كلام البشر وتقييد النزول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتخرج الكتب السماوية الأخرى كالتوراة والإنجيـل، وورد انه نـزل على آدم إحـدى وعشــرون صحيفة كتبها آدم عليه السـلام بخطـه علمـه إياهـا جبرئيـل عليه السلام منها كما ذكر الطبري تحـريم الميتــة والـدم ولحـم الخنزير عليه، وخرج بقيد (بغير واسطة أحد من البشر) كلام الإمام والعالم، وبـ(المكتوب في المصاحف) ما لم يدون في المصحف كالحديث القدسـي، وان القــرآن هو ما بين الدفتين من ســورة الفاتحة إلى سـورة الناس، وخرج بالمنقول بالتواتر القراءات غير المشهورة والشاذة، وخرج بالمتعبد بتـلاوته الأحاديث النبوية وان تواترت.
ومن أسمائه القرآن وهو أم أسمائه واكثرها شهرة، ورد في القرآن نحو سبعين مرة مما يدل على موضوعية هذا الاسم وملازمته لما بين الدفتين وإكرامه وإختصاصه به.
وقد يطلق القرآن على جزء منه كما في الصلاة لما فيها من قراءة لبعض سور القرآن تسمية للشيء ببعضه قال تعالى[وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( )، وعلى القراءة نفسها يقال قرأ يقرأ قراءة وقرآناً، ويطلق على الفاتحة أيضاً لما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال في الفاتحة: هي أم القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم.
ومن أسمائه الفرقان، والفرقان في اللغة مصدر فرقت بين الشيئين فرقاً وفرقاناً، يطلق على ما به يحصل الفرقان.
قال تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، وفي الحديث الفرقان المحكم الواجب العمل به، والقرآن جملة الكتاب.
وقد يأتي إسمان معاً للقرآن، وانما صح العطف لتغاير اللفظين بل لتغاير المفهومين، وان مفهوم الكتاب يغاير مفهوم الفرقان فهو كقولك رأيـت الغيـث والليث تريد الرجل الجامع بين الجود والشجاعة، والأصل في المغايرة الإثنينية الا مع القرينة.
ويسمى القرآن الفرقان [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( )، وأصله مصدر سمي به للتعظيم او نسبة للمفعول او الفاعل بالمصدر، وفيه وجوه:
الأول: التباين بين الحق الباطل وبين مصاديق كل منهما.
الثاني: معروف ومتميز بعضه عن بعض في النزول فقد نزل منجماً.
الثالث:تفترق سوره وآياته بعضها عن بعض.
الرابع: تعدد موضوعاته وغاياته كبيان أصول الدين وفروعه.
الخامس:يقود العمل بالقرآن وسنته إلى اللبث الدائم في النعيم، وتركه والإعراض عنه إلى العقاب الأليم وعن أبي موسى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ صلى الله عليه وسلم ، قَبَضَ مِنْ طِينَتِهِ قَبْضَتَيْنِ قَبْضَةً بِيَمِينِهِ وَقَبْضَةً بِيَدِهِ الأُخْرَى ، فَقَالَ لِلَّذِي بِيَمِينِهِ : هَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ وَلاَ أُبَالِي ، وَقَالَ لِلَّذِي بِيَدِهِ الأُخْرَى : هَؤُلاءِ لِلنَّارِ وَلاَ أُبَالِي ، ثُمَّ رَدَّهُمْ فِي صُلْبِ آدَمَ فَهُمْ يَتَنَاسَلُونَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الآنَ( ).
السادس: قوله تعالى[تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ] وفيه ثناء من الله عز وجل على نفسه لبديع صنعه بنزول القرآن، وبيان لحقيقة وهي أن نزول القرآن آية عظمى من الله للتفريق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والمؤمن والكافر، وأهل الجنة والنار، وفيه فرّق بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين الناس، باختصاص بشرف الرسالة قال تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
السابع: القرآن مدرسة الإحتجاج وفيه تفريق بين البرهان والمغالطة، وبالقرآن بكشف المنافقين وأهل الشك والريب وبين القرآن صفاتهم
وقيل: الشرع الفارق بين الحلال والحرام، ولا تعارض بين القولين لسعة وظائف القرآن فهو آلة وسبب للتفريق بين الحق والباطلعن ابن عباس: يفرق بين الحق والباطل بأدلته الدالة على صحة الحق فبطلان الباطل( ).
السابع:المصحف هو النسخة أو الوعاء الورقي المبارك الذي يحتوي على آيات القرآن وسوره فاسم القرآن يطلق على الكل وعلى الجزء منه فهل يصح هذا في الفرقان؟ الجواب: نعم كل آية مفرقة بين الحق والباطل حجة.
الثامن: ورد لفظ الفـرقــان في القــرآن سـبع مـرات،إثنتين منهـا في غير الكتاب [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا]( ) فهل هو من التداخل بين القرآن والوقائع التأريخية وانها متولدة عنه او انها مصداق للقرآن كلاهما صحيح،الجواب، أنه من عمومات[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ولتأكيد حقيقة وهي أن أسباب الصلاح من القرآن والعمل بأحكامه وسننه.
التاسع:في الحديث الفرقان المحكم الواجب العمل به، والقرآن جملة الكتاب، على مذهب تفسير القرآن بالقرآن والذي عليه إجماع المسـلمين يمكـن ذكـر قـول آخـر في تفسـير وتأويل إطلاق اسم الفرقان على القرآن بالربط بينه وبين وصف يوم بدر في القرآن بيوم الفرقان.
إن التسمية دلالة ورمز وإشارة بينة إلىأن القرآن هو آلة النصر على الأعداء به يفتح الله على المسلمين، وإذا كان النصر على المشركين يوم بدر تحقق بالسيف فان القرآن هو السلاح الدائم بأيدي المسلمين للنصر والفتح والعز، وفيه تخفيف في باب الجهاد والقتال، فقد جاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه والتابعون فخفف الله عز وجل عن أجيال المسلمين باعطاء قسط أوفر لأهل للقرآن [ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ]( ).
ومن وجوه تفسير الآيةنزول القرآن ففي هذا اليوم ثبت وترسخ وجود القرآن على الأرض، ظهر في واقع سيرة المسلمين الصدق في الجهاد والإخلاص في العمل فخفف الله عز وجل عنهم، فالقرآن سلاح عقلي وعلمي، والعقل حجة ثابتة عند الإنسان له وعليه، فالقرآن يخاطب هذه الحجة كي لا يفارق ولا يغادر سنن العبودية، وإنأعرض عنه القلة أو شطر من الناس وبخس حقه ونصيبه في التمييز والإدراك والإقتداء أهل العناد والجحود.
وفي قوله تعالى [ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ]( )، بشارة للمسلمين في فتح مصر من غير جهد أو مشقة أو عناء، ويمكن القول ان الآية دعوة لهم للتوجه لهذه البلاد، وفعلاً فانت ترى المسلمين حرصوا على فتحها مع أنه يفصل بينها وبين الجزيرة البحر الأحمر، وتم فتحها في عام عشرين للهجرة وقيل واحد وعشرين أو اثنين وعشرين، والأول أرجح وقد حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فتحها بالدلالة التضمنية بوصيته بالأقباط لأن جدته هاجر زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام منهم، ووفد القساوسة عندما التقوا مع المسلمين أثناء المفاوضات لفتح مصر قالوا قرابة بعيدة مرحباً بكم قد كانت إبنة ملكنا وعدوا عليه أهل عين الشمس.
وقيل إن هذه الإسمين أي القرآن والفرقان،أشهرأسماء النظم الكريم وجعلهما بعض المفسرين مرجع جميع أسمائه، كما ترجع صفات الله عز وجل مع كثرتها إلى معنى الجلال والجمال، ومع هذا نقول أن لاسم القرآن خاصة دلالات نعتز ونفتخر بها ونستلهم منها دروساً عقائدية عديدة،وهو مقدم على اسم الفرقان، ومن الآيات أن اسم القرآن خاص بالكتاب الذي أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسالم من التحريف والتغيير إلى يوم القيامة.
قال تعالى [أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى * وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]( )، تظهر لغة الخطاب تعدد وكثرة نعم الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته على المسلمين، فكل نعمة على النبي إنحلالية تنحل بعدد المسلمين إلى يوم القيامة، مما يستلزم الشكر منهم لله عز وجل.
في تفسير الآية [وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ] ورد عن الحسين بن علي عليه السلام: “ما انعم الله عليه من دينه”، وعن الصادق عليه السلام: “بما فضلك واعطاك واحسن اليك”، ومنهم من حملها على الولاية (وعن مجاهد: ان النعمة هي القرآن وان القرآن اعظم ما انعم الله به على محمد عليه السلام والتحديث به ان يقرأه ويقرئ غيره ويبين حقائقه لهم( ).
والآية أعم ولم تنحصر بنعمة، بل تشمل مطلق النعم التي ينالها الإنسان او تصل إليه في حياته وبعد مماته، بل وقبل حياته من أسباب تكوينه وطينته وما يتعلق بوالديه، والشكر على ما أنعم الله به على الوالدين، وشكر النعم الخاصة بالواسطة وبر الوالدين والنعم ومصاديقها على مراتب وكل منها فيه أمر بالتحدث بالنعمة من دان الى عال ومن عال إلى دان، ومراتب وسطى بينهما في الطبيعة والعقل والتجرد التام.
والقرآن النعمة العظمى على أهل الأرض لم يكن نعمة على المسلمين وحدهم، نعم هم الذين إنتفعوا منه، أو قل أكثر الذين انتفعوا منه طولاً وعرضاً، كما وكيفاً، في الدنيا والآخرة وإلا فان جميع الأمم الأخرى إنتفعت من القرآن ولم تثبت الكتب السماوية الأخرى إلا بالقرآن قال تعالى [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]( ).
وفيه آية إعجازية تدل على صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته، فقد ثبت وايَّد ورسخ في الأرض التوراة والإنجيل والكتب السماوية الأخرى من غير إعتبار لإحتمال تأثير ذلك سلباً على الإسلام إذ أن مجيء القرآن مصدقاً برسالة موسى وعيسى عليهما السلام وإقرار المسلمين وتسليمهم بأصل الديانة اليهودية والمسيحية آلة وسبباً لتقوية اليهود والنصارى في وقت لم يسلم القرآن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم من أذاهمأوإعراضهم وإمتناعهم عن القبول بما جاء به القرآن من عند الله عز وجل، ولكن ومع انه آخر الكتب السماوية نزولاً فانه تقدم عليها رتبة وموضوعاً وأثراً وإتباعاً.
والقرآن موجود حي نابض بالحياة، بل يبعث الحياة فنوره متصل واشعاعاته تتعدى النفوس لتشمل الجوارح والأركان، وبركاته تراها على الأرض وفي السماء، نستسقي بالقرآن، يدفع به البلاء وينزل الغيث بالقرآن قراءة وإكراماً وتوسلاً.
وفي التنزيل [اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا]( )، والقرآن مصدر الهداية التكوينية اي الهداية العامة للخلق وان يروا أمورهم وما يتعلق بعالم التكوين، والهداية التشريعية وهي ما يتعلق بالثواب.
والتعدد في أسماء القرآن مدرسة عقائدية وأخلاقية فكل اسم مناسبة علمية للتدبر والتفكر، وتعدد أسماء القرآن إعتباري لا حقيقي للقطع بأن ما يقرأه أو يكتبه كل منا فهو القرآن عينه ، واذا كان القرآن علَماً كيف نخصه بتعريف والتعاريف لا تكون إلا للكليات، والعلم جزئي يمكن معرفته بالحواس أو باطلاق اسم علم عليه، الجواب: إنه ليس بتعريف حقيقي انما هو ضابط مميز او هو تعريف على رأي الأصوليين الذين لا يشترطون في التعاريف اجناساً ولا فصولاً بل الحد عندهم هو الجامع المانع مطلقاً الجامع للحيثيات الخاصة، والمانع من دخول غيرها وأن يحصل عدم إشتراكه مع غيره في المعنى، ويطلق القرآن على الكل والجزء.
وهل هو من باب القضية المهملة لأن الحكم فيها يجوز أن يرجع إلى بعض الأفراد ويجوز أن يرجع إليها جميعاً؟ أم أنه من المشترك اللفظي كما قال جماعة لبيان علة إطلاقاسم القرآن على الكل وعلى الجزء كقوله تعالى [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ]( )، أو كما تقول لا تقرأ الجنب القرآن، والحق أن الموضوع هنا اجنبي عن الإشتراك اللفظي لوحدة الموضوع وإتحاد المسمى والمعنى ولعدم الإثنينية والتعدد، بل لصحة إطلاق الاسم على الجزء وأن الاسم جاء على نحو الوضع التعييني لما بين الدفتين ومن قبل الشارع وهو خاص بشريعتنا وله حقيقة شرعية أيأن اللفظ موضوع للمعنى الشرعي.
وكما أن لاسم القرآن دلالة في محل النطق وتسمى بالمنطوق سواء كانت مطابقية او تضمنية وان انكر بعضهم الدلالة التضمنية، فان له مفاهيم تتعدى محل النطق وينتقل إليها الذهن بالدلالة الإلتزامية وتستحصل إستقراء وإستنباطاً وتفسيراً وهي التي يجب ان تتوجه لها جهود العلماء اي لإظهارها وكشف انوارها.
وأهم الأسماء وأشهرها هو القرآن , وأكثرها عدداً فيه هو (اسم الكتاب) ولم يطلق اسم القرآن على غيره وإشتقاقه على وجوه:
الأول:مشتق من قرأت.
الثاني:انه مشتق من قرنت الشيء بالشيء.
الثالث:إنه مرتجل اي موضوع ليكون علماً على الكلام المعجز المنزل.
ولم يسم كتاب سماوي باسمه وهذا الإنفراد والإختصاص بالاسم شرف اضافي للقرآن وخصوصية للاسم تدل على موضوعية وعنايةخاصة فيه ودليل إنفراده بحقائق وعلوم تستحق البحث والتحقيق والوجدان، والشواهد تدل على إنفراده بمعجزات فكرية وعقائدية وأسرار عينية بلاغية وإعجازية.
ونقترح ان يكون يوم باسم يوم القرآن العالمي تقدم فيه الدراسات والفعاليات العلمية الخاصة بعلوم القرآن وحفظه، والأولى ان يكون هذا اليوم هو السابع عشر من شهر رمضان الوعاء الزماني لنزول القرآن، بل وللآية التي هي سبب هذا الإقتراح وهو قوله تعالى [إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، المقصود به على وجوه:
الأول:يوم بدر كما عليه الأخبار وإجماع المفسرين.
الثاني:تداخل الحضارات في هذا الزمان.
الثالث:أحوالأو حالات مستقبلية غيبية.
الرابع:تلك الصور مجتمعة ومنها أسباب النزول، وواقعة بدر لاسيما مع القول بالتفسير الأعم الأشمل للموضوعات والأحداث في تفسير القرآن.
الظاهر هو الأول ولا يمنع من توظيفه وشموله للأعم بالدلالة الإلتزامية والمفهوم ويدل عليه سياق الآية وإعرابها وهنا تبدو حاجة علم التفسير إلى الإعراب، والمفسر إلىإتقان صناعة النحو والإحاطة بها في الجملة وبما يكفي في موضوع التفسير اذ ان [عَلَى عَبْدِنَا] جار ومجرور متعلقان بـ[أَنزَلْنَا] والمراد به يوم بدر، و[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] يوم ظرف بدل من الظرف الأول، وجملة [الْتَقَى الْجَمْعَانِ ] فعل وفاعل، مضافة للظرف.
وقد يقال ان القرآن لم ينزل كله يوم بدر؟ فلماذا سمي يوم بدر بالفرقان؟ الجواب: يمكن اعتباره من المشترك اللفظي والتقاء الإثنين في حصة واحدة وهي انهما مفرقان بين الحق والباطل وان اختلفت الماهية، كذلك سميت التوراة بالفرقان لكن لا يمنع هذا من الإختلاف الموضوعي بينهما، فيوم بدر بجملته وما حصل فيه ونتج عنه وترتب عليه من الأثر يسمى الفرقان، ويمكن ان تطلق عليه الفرقان القتالي او فرقان السيف بلحاظ القتال لساعة من نهار غيرت مجرى التأريخ نحو الأحسن وإلى يوم القيامة.
وذهب بعضهم في قوله تعالى [ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( )إلى القول بان المراد بالفرقان في الآية هو القرآن, ويكون تقديره وآتينا موسى التوراة وآتينا محمد الفرقان لكي تهتدوا به يا أهل الكتاب وبه قال قطرب والفراء وثعلب ولكنه بعيد بل يحمل على التوراة وعلى المعاني المناسبة للفرقان في المقام منها بشارة التوراة بالنبي محمد ص ونزول القرآن خصوصاً وان الآية في مقام بيان النعم على بني إسرائيل.
فالتوراة فرقان وان ذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود بالفرقان هنا هو القرآن، أي وآتيت محمداً الفرقان لعلكم تهتدون، والخطاب لبني إسرائيل او لأهل الكتاب مطلقاً (لعلكم تهتدون)،إنما المقصود في ظاهر الآية التوراة فرقت بين الحق والباطل في زمانها في جهاد موسى ضد فرعـون وآل فرعـون، والتـوراة جاءت من باب المثال والبيان والا فان كل كتـاب سـماوي هـو فرقـان، ولكن القـرآن هو المهيـمن والأعم والأهم والأشمل والقاطـع في التفـريـق بين الحـق والباطل عقائدياً وواقعاً خارجياً وهو الفرقان الباقي والناسخ لغيره فيكون غيره آلة التفريق في زمانه.
وقــال بعض علمـاء التفســير يلـي هذين الإسمين اي القرآن والفرقان في الشهرة الكتاب والذكر والتنزيل، ولكن المهم ليس الشهرة بل ان الشـهرة لم تثبت على هذا النحـو، فالكتاب مشهور ايضاً وان طغت بعض الإصطلاحات المخالفة للغة القرآن كما في تسمية كتاب ســيبويـه بالكتاب ولعـل سـيبويه لم يسمه بهذا الإسم، نعم الكتاب جامع للكتب الســماوية وما مـكـتوب في اللوح المحفـوظ، وإذاإستعرضت أسماء القرآن وعددها في القرآن وجدت أن إطلاق اسم الكتاب على القرآن بالخصوص قد يزيد على اسم القرآن فضلاً على أن الكتاب جامع للكتب السماوية يدخل فيه القرآن بالدلالة المطابقية أو التضمنية.
وتحتمل النسبة بين الكتاب والقرآن ، وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي وأن الكتاب هو نفسه القرآن.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق وهو على شعبتين :
الأولى : الكتاب أعم من القرآن .
الثانية : القرآن أعم من الكتاب .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء بين الأثنين ، ومادة للإفتراق .
الرابع : نسبة التباين والاختلاف بين الكتاب والقرآن.
وبين اسم الكتاب واسم القرآن مراتب في باب الشهرة عند المسلمين أما عند غير المسلمين فلم يعرف إلا بالقرآن ولكن لماذا يذكر أحدأسماء القرآن دون غيره في هذا الموضع من القرآن والآية والسورة، مع أنأسماء القرآن إصطلاحية , والقرآن ليس فيه إتفاق ولا صدفة، كتاب أحكمت آياته، فلابد من دراسة المعنى السياقي للآية والأسرار الخاصة بكل اسم من أسماء القرآن.
ومن أسماء القرآن الأخرى التنزيل وهو مصدر نزل، أطلق على المنزل باعتبار أن الفاظ القرآن أنزلت من السماء قال تعالى[ تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ]( ).
ومن أسمائه الذكر، قال تعالى [ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( )، فهو تذكير للناس بما يجب أن يفعلوه وما عليهم أن يعتقدوه من أصول الدين، هو باب الهداية والذكر والفلاح وفي موضوع خلق القرآن إحتج القائلون بخلق القرآن بقوله تعالى[ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ]( ).
أما القائلون بان القرآن مكتوب في المصاحف وهو قول غير مخلوق فعندهم [ مُحْدَثٍ ]، صفة جارية على غير ما هي له، أي محدث إنزاله فهو نعت سببي.
ومن أسمائه كلام الله، قال تعالى [ وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ]( ) هذه التسمية وردت في ثلاث مواضع من القرآن وهي تتعلق بحسب الظاهر بالقرآن.
ومن أسمائه الوحي قال تعالى [ قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ]( )، أطلق الوحي على جملة القرآن لأنه لم يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الا عن طريق الملك والقائه، ولبيان أنه ليس من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا دخل له في تركيب كلماته وآياته.
ما دام اسم القرآن إصطلاحياً، فيمكن التوسعة فيه وبلحاظ الأخبارالواردة في وصفه , وصلاح تلك الأوصاف لإطلاقها في مقام الاسم ولما لها من دلالات خصوصاً وأنها لا تتعارض مع الإقرار بالأسماء التوقيفية للقرآن وعلو رتبتها.
وأصل الكتاب اسم جنس مطلق ومعهود على القرآن بلحاظ الألف واللام العهدية [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ]( ).
ترى لماذا سمي القرآن كتاباً فيه وجوه:
الأول: لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ.
الثاني: لثبوته وحجيته.
الثالث: لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرأن يكتب كل ما أنزل عليه منه ليكون حجة على الذين يدخلون الإسلام ولم يتلقوه بحفظ قلوبهم، وفي صدق التسمية معجزة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأن ما أوحي اليه سيكتب في المصاحف وسيبقى محفوظاً مستقلاً،لذا اتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً يكتبون الوحي وما أنزلإليه من القرآن بالإضافة الى حفظ المسلمين له في صدورهم.
الرابع: لأن أحكامه فرض , فالكتابة تأتي أحياناً في اللغة بمعنى اللزوم والوجوب.
الخامس: لأنه كتاب سماوي حاضر بين الناس على نحو الإطلاق الزماني والمكاني وشريعة دائمة حتى يوم القيامة وقد تأتي الكتابة بمعنى القضاء كما يقال كتب القاضي بالنفقة أي قضى بها.
السادس: حث المسلمين على تدوين آيات القرآن.
السابع: دعوة المسلمين لتعلم الكتابة والقراءة لأنها مقدمة واجبة لتدوين القرآن، وتلاوته في المصحف، ووردت النصوص بإستحباب قراءة القرآن في المصحف وهي أفضل وأكثر ثواباً من قراءته عن ظهر قلب.
ومن أسمـاء القرآن الــروح, قــال تعالى[وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا]( ).
وللروح عدة معاني منها:
الأول: القرآن.
الثاني: الحياة المتشابكة لهذا الجسد.
الثالث: مادة النفس وشرط الحياة.
الرابع:جسم رقيق منساب في بدن الحيوان.
الخامس: ملك من ملائكة الله.
السادس: جبرئيل قال تعالى [فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا]( ).
ونطرح تساؤلاً فلسفياً وكلامياً ترى هل من ملازمة بين نفخ الروح في آدم ونزول القرآن.
الجواب نعم، خصوصاً أنه مادة الحياة العامة كما ان الروح مادة الحياة الخاصة ، وهو الذي يبعث الروح المعنويـة في الإنســان وفق الإرادة التشـــريعيـة، فكأن الإفاضة الإلهية بنفخ الروح في آدم عادت من جديد بالقرآن واتخذت صبغة عقائدية راسخـة وتتجلـى فيه مفاهـيم عالـم الأمـر واجتماعـه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع عالـم الخلق.
فعهد نزول القرآن انعطاف في تأريخ الإنســانية وترســيخ لقيم العبودية في الأرض وحصانة من اغواء ابليس.
وعندما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض، ورد الله عز وجل عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، كان من علم الله عز وجل نزول القرآن ليكون روحاً وإماماً للعقول والجوارح والأركان، وسبيل هداية للناس جميعاً، وبرزخاً دون شيوع الفساد في الأرض وميل الناس له، فقد جعل القرآن وتلاوة المسلمين له في الليل والنهار وتقيدهم بأحكامه النفوس تنفر من الفساد، وتبغض المفسدين , وتميلإلى ماجاء في القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).

فضل القرآن
الفضل لغة هو الزيادة والسعة قال الله عز وجل في بني آدم [وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( )، ومن وجوه التفضيل أمور:
الأول: تفضل الله عز وجل برزق الإنسان العقل .
الثاني: قدرة الإنسان على التمييز والتدبر.
الثالث:فضل الله على الناس بنزول القرآن.
الرابع: يمشي الإنسان قائماً، أما الدواب وما أشبهها فتمشي منكبة.
الخامس: يتناول الإنسان طعامه بيديه، أما الحيوانات فتتناول الطعام بأفواهها.
وجاءت الآية أعلاه بالتقييد لخروج الملائكة بالتخصيص إذ شرفهم الله عز وجل بالخلق والهيئة والسكن في السماء، وطول الأعمار، والقرب من العرش والإنقطاع إلى الدعاء والتسبيح والنزول بالكتاب والوحي إلى الأنبياء، والمدد لنصرة للمؤمنين كما في معركة بدر وأحد وغيرهما من وجوه التفضيل على ما هو مفضول من الكائنات التي لا تقلل المرجوحية من بديع خلقها وأنها آية من صنع وقدرة الله.
وفي المقام يأخذ معاني قدسية أخرى تتعدى المعنى الذي وضع له اللفظ والمرتكز منه في الأذهان خصوصاً، وأن دلالة اللفظ على المعنى بالجعل والتعيين من الواضع وليست ذاتية كدلالة الضياء على الشمس أو الدخان على النار والكلام على المتكلم لكثرة وتشعب وجوه فضل القرآن وإنشطارها المستمر والمتصل وسيبقى موضوعه سفراً مباركاً وضياء ورحمة.
لقد وردت في فضل بعض السور أحاديث، ولكن شطراً من تلك النصوص ضعيفة السند ونسبت إلى كبار الأصحاب كما في الحديث المنسوب إلى أبي بن كعب كما تقدم ذكره في الجزء الثاني في فضل سورة البقرة( )، وجعله كثير من علماء التفسير في كتبهم بالإسناد او بغيره كما ذكره الزمخشري من غير ذكر السند و كأنه قطع به ووضع ما جاء به من فضل السورة في آخر تفسيرها، على خلاف عادة المفسرين بذكره في تفسيرها ترغيباً وحثاً ولما سأله الكرماني عن العلة في وضعها في آخر كل سورة قال: لأنها صفات لها والصفة تستدعي تقديم الموصوف.
ومن الآيات ان فضل القرآن يترشح من كل حرف وكلمة فيه وهو متعدد الجوانب فلا يحتاج إلى الحديث الموضوع كما جعله الله عز وجل سبيلاً للمسألة.
وقد روي في الحديث القدسي: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِى عَنْ مَسْأَلَتِى أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِى السَّائِلِينَ( )، كما جعله الله عز وجل باباً للتقرب إليه تعالى ولابد أن يكون هذا العنوان لأشرف المواضيع والجامع لمراتب الإرتقاء، وسبباً لنيل العفو الإلهي، ومدخلاً للرحمة الإلهية على العبد.
وتبدو مباحث فضل القرآن حاجة علمية ووجدانية وعملية متجددة تتفرع وتستظهر منها أبواب من العلم مباركة تكون موعظة أو مفتاحاً لمنافع دنيوية وأخروية خصوصاً وأن من فضل القرآن نزوله من عند الله تعالى وانه سبحانه ضمن حفظه، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون ]( ).
ترى هل وجود القرآن قائم بذاته في نفسه،أم بغيره وهو الذي لا يفتقر فيما له من منازل التمام والكمال إلى غير الباري عز وجل الجواب إن القرآن موجود في نفسه، وحفظه لا يحتاج أحداً من المخلوقين فقد تفضل الله عز وجل بحفظه وتعاهده بدليل الآية أعلاه،وشواهد عديدة من القرآن والسنة وإن كان من أسباب حفظه تعاهد المسلمين له في الصلاة ومطلقاً، فالله سبحانه يتولى حفظ كلامه.
ليبقى القرآن من أشرف الموجودات وأكرمها على الله، ويكون له وجود خارجي مستديم ومنظوم في المصاحف، وعلى عدم تحريفه اجماع الأمة وتنبثق منه آفاق الحكمة والأحكام فان له وجوداً ذهنياً يكون كالصورة المشابهة له وهو بمنزلة الظل للقرآن والواقية لآياته وأسراره والحرز للإنسان وللقرآن وسبيل التوظيف العملي لآيات القرآن واحكامه.
والتدبــر في الكتاب والتفكير في معانيه يملأ القلب والأركان بالحكمة ويكون له سلطــان على الجــوارح، ويحــث قارئه على جعله سميره ورفيقه وصاحبــه الذهــني في ليله ونهاره، وتلك الصحبــة مدرسـة عقائدية وأخلاقية جامعة تساهم في تقويم السلوك وسلامة التفكير وتبعث في النفس العزة والكرامة وحسـن التوكل والإستغناء عما في أيدي الناس، واذا كان القرآن مستغنياً عن غيره في حفظه فهل يفيد حفظ الغير.
الجواب: نعم،وقد حفظ الله تعالى القرآن على نحو الإطلاق والإنفراد والموجبة الكلية والعموم الإستغراقي والمجموعي لآيات القرآن وغيره للإفاضات المترشحة منه كمأدبة سماوية في الأرض ونور محض وسبيل هداية ورشاد، إن إستغناء القرآن بفضل الله لا يتعارض قيام المسلمين بتعاهده.
ومن فضل القرآن انه يتضمن التفسير لمستلزمات الحياة الإنسانية ويملي على الناس الإرتقاء إلى مستوى علوم القرآن، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ]( ) وتسمية القرآن بالتبيان والذكر إشارة إلى حفظ القرآن إلى يوم القيامة، فمن فضل القرآن إمتلاكه مقومات الحفظ والذكر وإستدامة القراءة والعمل بأحكامهإلى يوم القيامة ويمكن تقسيم فضل القرآن إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الفضل الذاتي.
الثاني: الفضل الغيري.
الثالث: المركب منهما والجامع لهما.
وكل من هذه الأقسام تتفرع عنه أبواب ومسائل وآفاق علمية مستحدثة تيسر للعلماء إستخراج شطر من كنوز القرآن، وقد تنطبق بعض وجوه الفضل على الأقسام الثلاثة مع الفارق باللحاظ والإعتبار والجهة والحيثية.
فضل القرآن الذاتي
وفيه وجوه:
الأول:إخبار القرآن عن الغيب وأسراره ووقائعه، قال تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ].
الثاني: بالقرآن إنقطع وحي السماء وهو من وجوه تفضيله على الكتب الأخرى.
الثالث: إنه ســـلاح الهدايــة وموضــوع الإيمان وضــالة المؤمن، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الرابع: هو الطريق إلى معرفة الله، هو الذي دل على ذاته بذاته ولا يعني أن القرآن قديم بل هو كلام الله، والكلام غير المتكلم.
الخامس: بيان القرآن لأحكام الحلال والحرام بما يمنع من الضرر والفتنة والإقتتال بين الناس.
السادس:ما تتضمنه آياته من العلوم والأسرار وعن الزهري قال: سمعت علي بن الحسين عليه السلام يقول: آيات القرآن خزائن، فكلما فتحت خزينة ينبغي لك ان تنظر ما فيها، وعن ابن عباس قال: إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن( ).
السابع: من فضل القرآن النفع العظيم في الآخرة فهو شافع مشفع يوم القيامة، وفي الحديث: ما من شفيع من ملك ولا نبي ولا غيرهما افضل من القرآن.
وهل تشمل الأفضلية النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أم ان الرسول الأكرم أفضل من القرآن في درجة الشفاعة؟ الجواب لاتصل النوبة الى التفضيل بينهما في المقام، للملازمة بينهما.
وخروجه بالتخصص لورود النصوص الصحيحة بارتقائه صلى الله عليه وآله وسلم إلى المنزلة الرفيعة، بالإضافة إلى الصلة الخاصة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن فعليه كان نزوله وقام بتبليغه خير قيام.
إن هذا الإنفراد في الخصوصية في درجة الشفاعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللقرآن تدل على نوع ملازمة وعدم إنفكاك في الفضل والوظائف الأخروية.
الثامن: الحاجة إلى القرآن في عالم البرزخ الذي يعني في الإصطلاح أهوال القبر من حين الدفـن الى يـوم البعـث والنشــور وهــو عالم بين الدنيا وبين يوم القيامة، ولذا سمي البرزخ لأن البرزخ لغة هو الحاجز والمانع .
التاسع: نزول جبرئيل به وهو من أعظم الملائكة إكراماً وتشريفاً وبياناً لمنزلة القرآن بين أهل السماء والأرض.
العاشر:إنه آخر الكتب السماوية والجامع لسننها وأحكامها والمتعالي عليها بالختم والتمام.
الحادي عشر: العموم في فضل القرآن وإمتلاكه لقابلية تعدد وجوه الفضل وأقسامه وسريانه في كل جزء من أجزاء القرآن، وكما هو مبين في علم الأصول فان العام مفهوم يقبل الإنطباق على كثيرين وفيه خصوصية فعلية ذلك الإنطباق على نحو العام الإستغراقي، فكل سورة وكل آية لها فضل فلا غرابة أن يكون القرآن اسم جنس خاص، وعلى نحو العام المجموعي أي أن فضل القرآن ينطبق في مفهومه على جميع سور وآيات القرآن فيصدق على أي سورة او آية فيه.
وذكر عن كعب الأحبار قال الله تعالى لموسى عليه السلام مثل كتاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب مثل سقاء فيه لبن كلما مخضته استخرجت منه زبداً) وكذا يكون فضله على نحو العام البدلي والذي تدل عليه كلمة أي ونحوها فاي آية تجدها إعجازاً وتحدياً فضلاً من الله، وتتضمن رشحات من لطف الله عز وجل.
الثاني عشر: فضل الله تعالى في نظمه وترتيبه على نحو الآيات، والآية العلامة كأعلام الطريق التي تنصب لهداية الناس وهي دلالة على انقطاع كلام عن كلام يأتي بعده الأمر الذي يعني إستقلال كل آية بمعنى ومضمون يدرك بالوجدان وبعلوم التفسير والتأويل، فتقسيم القرآن الى آيات عون على استقلال البحث في كل آية.
الثالث عشر: من فضل القرآن إعجازه وإنفراده بمنزلة لا يستطيع أساطين البلاغة والفصـاحـة ان يدركـوا بعضـاً منها، وقد ورد في وصية الزهراء عليها السـلام للإمام عـلي عليه السلام لما احتضرت انها قالت: “فأكثر من تلاوة القرآن والدعاء عندما تسوي التراب عليَّ فانها ساعة يحتاج الميت فيها الى أنس الأحياء، ومصاديق الأحياء هنا القرآن والقارئ، وان القرآن وحي وبقراءته تنال أشرف مراتب الحياة.
الرابع عشر: إستمرار إعجاز القرآن وحاجة الناس إليه مع الأزمان المتعاقبة وهو المسمى في الإصطلاح الأصولي بالعام الأزماني، ولقد جعل الله عز وجل الرجوع إلى القرآن مستمراً في عمود الزمان وطوله وبازدياد مطرد مع تقادم الأيام بخلاف الكتب السماوية السابقة فقد كان ملحوظاً بها زمان معين واجل محدود بالنسخ بكتاب سماوي جديد ولا جديد بعد القرآن.
الخامس عشر: عدم لحاظ فعل أو حالة أو زمان في موضوع الآية القرآنية بل ان آياته تأتي على المعنى الأعم والإطلاق كأنك تجده في الكتاب ذاته او في السنة الشريفة واذا كان هناك مقيد أو تخصيص فهو سر من أسرار القرآن، وله دلالات عقائدية وشرعية.
السادس عشر: إنفراد القرآن بعلم أسباب النزول، ومع هذا لايستطيع هذا العلم ان يكون قيداً زمانياً او مكانياً للآية الكريمة، فطبيعي الحكم في الآية الكريمة لا يترتب على طبيعي الموضوع والواقعة التي اقترن بها نزول الآية وسبب النزول مطلقاً يحملان وجهاً واحداً أو وجوهاً محددة معلومة من تفسيرالآية التي تحمل عدة وجوه وتفتح آفاقاً من العلم والمعرفة.
السابع عشر: كل آية في القرآن مدرسة جامعة متفرعة العلوم ومتشعبة المعالم.
الثامن عشر: لقد جعل الله القرآن شفاء من الأمراض، أمراض الفكر والعقيدة كالكفر والنفاق وأدواء البدن وأمراضه العضوية والنفسية، والقرآن يطرد الملل والسأم والشك والريبة والشبهة والغفلة ونحوها من آفات القلوب، وفيه السكينة والطمأنينة وهو من عمومات قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
التاسع عشر: الإنشطار المستمرفي علوم التفسير والتأويل لآيات القرآن بإستظهارعلومها أو إستحداث مصاديقها أو بالإشارات والتيسير الإلهي.
العشرون: إشتراك الآيات في صفات ثابتة في النظم ومفاتح العلوم بحيث تعتبر آثاراً للطبيعة الصادقة.
الحادي والعشرون: تفرع العلوم المختلفة من القرآن كأحكام أصول الدين، ومنها وجوب الإقرار بالتوحيد وصفات واجب الوجود والإيمان بالنبوة والإمامة والمعاد والتي تسـمى عادة أحكاماً شرعية أصولية، وعلم الفقه الذي يعني معرفة الأحكام الشرعية الفرعية والوظائف العملية باعتبار ان نصوصه وظواهره أسمى وأشرف الأدلة التفصيلية والتعبدية، إذ أن المكلف يستطيع إدراك بعض ما عليه من الأحكام والواجبات من ظاهر الآيات القرآنية من غير لجوئه فيها إلى غيره فليس من واسطة بين القرآن وبين المسلم مطلقاً سواء كان مجتهداً أو محتاطاً او مقلداً، عالماً او غير عالم كل بحسب إدراكه ولو على نحو الموجبة الجزئية التي تتسع بالبيان من العالم , ومسائل علم أصول الفقه كحجية ظواهـر الكتـاب وخبر العدل .
وما تـدل عليه الآيات الشريفة من الأحكام الواقعية اذا أفادت معنى النص أو الأحكام الظاهرية وما إذا كانت الآية مجملة أو ان الحكم ظاهري ولقاعدة لكل موضوع حكم.
الثاني والعشرون: إمتلاك القرآن مقومات إقرار الناس واعترافهم بانه كتاب الله لزوم الرجوع اليه، وهذا سبب من أسباب حفظه وإجتناب الإساءة اليه، وما عليه الناس من إعتماده وصدور الجميع عنه.
الثالث والعشرون:لقد فضّل الله القرآن على غيره من الكتب بما جعل فيه من الآيات والأحكام وكثرة العاملين به.
الرابع والعشرون:حفظ الله تعالى للقرآن، وهو في الأرض دليل الربوبية والملكية المطلقة و توكيد لحضور الأشياء كلها عند الله عز وجل، فالأمين لا يحفظ الأمانة الا حيث تكون له السلطنة واليد والملك قال تعالى[مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ]( ).
الخامس والعشرون:حصانته الذاتية من التحريف والتغيير والتبديل فيد التحريف لا تستطيع أن تصل إليه لمقومات ذاتية إعجازية من بين أسباب إلهية أخرى.
السادس والعشرون: هو سلاح الجهاد ضد الكفر وقد ثبت أنه أقوى وأدوم أثراً من السبب.
السابع والعشرون: قابليتـه من حين نـزوله علـى قهــر سنن الشـرك والكفـر الموجودة أيام نزولـه، ومواجهتهـا فقـد نـزل على فترة من الرسل في زمان إنقطع فيه الوحـي وتعددت مذاهب الضلالة وسادت قيم الجاهلية، فقوم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، وآخرون يتوجهون إلى الشـمس والقمر، ومنهـم من لا يعبـد شــيئاً أو يعـبـد الشيطان او يعبد بعـض الأنبيـاء، فجاء القرآن حرباً عليها مجتمعة ومتفرقة، لذا لا غرابـة ان تـجتمـع تلك القـوى مع تباينـها على مواجهته والتصدي له.
الثامن والعشرون: حمله لصفة كريمة وهي أنه كتاب الله وآيته في الأرض وهو المتسالم عند عامة الناس بما في ذلك غير المسلمين في الجملة فهو صادق لا يكذبنا وصاحب سماوي، وإمام هدى.
التاسع والعشرون:مجيـؤه بعلوم ومدارس البلاغة والفصاحة والنحو وحفظها وتنقيحها.
الثلاثون: إخباره عن تفاصيل يوم القيامة وأهوال الساعة ولم يكن هذا من علم الغيب فقط بل انه مدرسة في التأديب والوعد والوعيد.
الحادي والثلاثون: إتصـافه بالنطـق والحركـة والحضـور الدائـم، وقد قال فيه الإمام علي عليه السلام: “كتاب الله بين اظهركم ناطق لا يعي ا لسانه”( )، ووصف القرآن (بين اظهركم) دلالة حضوره على الدوام والمحاماة عنه عند إســتقبالهم للعــدو بصدورهم وتركــه مستقراً سالماً يرجعون وغيرهم إليه.
الثاني والثلاثون: هو معجزة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدليل على ثبوت نبوته ليكون سبباً في كثرة المسلمين، لقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت هو حياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة”( ).
والمراد من الوحي هنا هو القرآن كما انه لا يحتاج في حفظه إلى غيره وانما يحفظ بفضل الله تعالى وبجنوده سبحانه، والقرآن لا يحتاج في زينته إلى مظـهر خارجي فأنت ترى الناس تجتهد وتتسابق في تزيين بيوتها واثاثها وواجهتها، والقرآن حليته وزينته في آياته وإسمه، والمسلمون يدركون أن تزيينه في تعاهد العمل بأحكامه.
الثالث والثلاثون: إستبشار وفرح الملائكة بنزول القرآن وغبطتهم للمسلمين في حملهم له.
الرابع والثلاثون: هو مائدة الله وموعظته وحبله المتين، والموجود السماوي في الأرض.
الخامس والثلاثون: فيه النجاة وهو ملجأ العلماء والحجة والبرهان.
السادس والثلاثون: إتقان القرآن بالوضوح والبيان، وإنتفاء اللبس عن كلامه وان ترجم إلى لغات أخرى.
السابع والثلاثون: حكايته للنبوة وأحكامها، أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنتقل إلى الرفيق الأعلى بشخصه الكريم وبقى القرآن لسان صدق، كما انه يؤكد نبوة الأنبياء السابقين، فهو وزير النبوة وشريكها ووارثها.
الثامن والثلاثون: هو المعز لأهله، الحافظ لصاحبه، المؤنس لجليسه، الواعظ لقارئه.
التاسع والثلاثون: موضوعيته وإعتباره في الصلاة فلا تصح إلا بقراءة القرآن لأنها واجب غير ركني في الصلاة.
الأربعون: هو الصلة الدائمة بين الله عز وجل وبين الإنسان، والسفير الدائم الثابت عند أهل الأرض من السماء ويتصف بالكلام على الدوام، وبالقرب وعدم الإحتجاب.
الحادي والأربعون: من فضل القرآن أنه منبع القوة والأمل والباعث على الصبر.
الثاني والأربعون: خلـوه من التناقـض والتبايـن، والنقيضـان هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتـفـعـان، فـلا يصـدقـان ولا يكـذبان وقد يكونا في المفردات كما في ناطق لا ناطـق، وفي المركبات وتعني اختلاف قضـيتين بالإيجاب والسلب بحيث يقتضي ذاتاً صدق إحداهما وكذب الأخرى.
الثالث والأربعون: حجية نصه وظاهره وعودة مجمله الى ما فيه من المبين، والنص لغة الإظهار والإبانة وهو كل خطاب يفيد المعنى من غير طرو إحتمال في الذهن بارادة غير المقصود، وكذا ظاهره وهو اللفظ الذي يرجح في معنى إلا أنه قابل للتأويل في غيره بلحاظ القرائن لكي يستوعب القرآن الأحداث والوقائع، وهو المحدود ظاهراً الذي يحيط باللا محدود من الوقائع والأحداث.
الرابع والأربعون: الأسرار الكامنة في كل اسم من أسمائه وما فيها من الدلالات والمضامين وإنفراده باسم القرآن حتى أصبح إصطلاحاً عالمياً، ومن المتكلمين من عرّفه بانه الكلام الأزلي القائم بذاته.
الخامس والأربعون: لا زال القرآن يدعو إلى تفسيره وتأويله وإستنباط العلوم منه وإستظهار مجمله وهو اللفظ الذي ليس له ظهور بالفعل بسبب الإجمال وعدم البيان التام أو بسبب الإبهام، وهذا الإبهام ليس ذاتياً بل انه راجع إلى قصور في المبحث وضعف المقدمات.
السادس والأربعون: هو أمان لأهل الأرض وسبب من أسباب دوام الحياة على ظهرها.
السابع والأربعون: هو الملاذ والملجأ والمأمن كما أنه درع حصين، ومجير قريب.
الثامن والأربعون: ومع قولنا باجتناب المقارنة بين البيت الحرام والقرآن والقائمة على تفضيل احدهما على حساب الآخر لأن كلاً منهما فضل من الله تعالى، وفضل كل منهما ظاهر، هذا كلام الله وذاك بيـته من غـير تعارض والبـيت يزار في الســنة مرة للحج بل الحجة الواجبـة مـرة في العمـر مع السعي لها والعناء وإعداد الزاد والراحلة ومقدمات الحج العقلية كقطع المسافة الشرعية كالغسل للإحرام، قال تعالى[ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، بينما كلام الله ينطق بجوارك ويكون مصاحباً لك في كل أوان، خصوصاً وان قراءته فرضت على المكلف خمس مرات في اليوم.
التاسع والأربعون: هل من صلة بين نفخ الروح في آدم ونزول القرآن وبين النفخ من جهة ومصاحبة القرآن للإنسان. الصلة والملازمة تبدو واضحة بالتحقيق.
الخمسون: أهليته للثبات على مر العصور وتقادم الأيام بذاته.
الحادي والخمسون: قدرته على التحدي لصيغ التحدي ومحاولات النيل منه.
الثاني والخمسون: كثرة درره في كل علم، وإحتواؤه للأصول والفروع، والمعقول والمسموع.
الثالث والخمسون: ما فيه من وجوه البلاغة والفصاحة وما لها من المعاني والمقاصد، وكثـير من العلمـاء حصـر إعجــازه ببلاغتــه وهو تقييد من غير مقيد.
الرابع والخمسون: هو الجامع للعلوم الذي يفزع إليه المتحير والعطشان ليجد أتم البرهان.
الخامس والخمسون: هو عدة النحوي ودليل الفقيه وحجة المتكلم وبرهان الفيلسوف وسلاح الداعي وضالة المؤمن ولسان الواعظ.
السادس والخمسون: تعـدد وجـوه التفسـير والتـأويل للفظ القرآني وتلك مسألة تتفرع عنها مسـائل علمية وعقائدية عديدة، وقال النبي صلى الله عليه وآله وســلم: “القـرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه”.
السابع والخمسون: عجز العلمـاء عن الإحاطة بما فيه مـن العلوم والإعجاز، قال الطبرسي في الثنـاء على كتاب المرتضـى: كتابـه الموضح عن وجه إعجاز القــرآن فانه فــرع الكلام فيــه هنــاك الى غاية ما يتفرع ونهاه الى نهايــة ما ينتهـي فلا يشق غباره غاية الأبد إذ استولى فيه على الأمد( ).
والحق بخلافه ويؤكده الوجدان وتوالي الأيام، ففي كل يوم تشعر بالحاجة إلى علوم جديدة في باب إعجاز القرآن خاصة وهناك حقائق مستحدثة، تبين إتفاقاً وإنطباقاً آفاقاً واسعة في علم إعجاز القرآن، وكل مصنّف في إعجاز القرآن يبدو قاصراً ليس فيما بعد وعند تجدد العلوم، وكثرة وتفرع التصانيف بل إنه قاصر حين ولادته وصدوره وتلك مسألة إعجازيةإذأن أي كتاب يختلف ويقصر ويتخلف عن كتاب الله وهذا وجه من وجوه تسمية القرآن بالكتاب على نحو الإطلاق وعهدية الألف واللام، أي انه ينفرد بخصائص قدسية لا تجدها في غيره.
الثامن والخمسون: الثواب العظيم في تلاوته وقراءته عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبتهما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله عز وجل، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عِصْمَة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، لا يزيغ فيستعتب، ولاتنقضي عجائبه، ولايَخْلَق عن كثرة الرد، فاتلوه، فإن الله يأجر كم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات،
أما إني لا أقول آلم عشر ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر( ).
التاسع والخمسون: الصورة الصادقة للنبوة ومرآة كمال السماء التي تعكس ضياءها على قلوب البشر وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “من قرأ القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه إلاأنه لا يوحى إليه”( ).
الستون: قد يأتي العلم بواسطة الإدراك الحسي كما هو في المحسوسات أما في غيرها فلا يحصل إلا بالعلم الحضوري كالموجود الذي تتعذر معرفته بالحس، ونلجأ في تحصيله والظفر به إلى البراهين الفلسفية والحجج العقلية باعتبار أنه من المفاهيم الكلية العقلية، ولذا ترى المتكلمــين والفــلاســفة يطلقون اسم (واجب الوجود) على الباري باعتبار أنه علم شخصي ومفهوم غير قابل في ذاته على الإنطباق إلا على مصداق واحد، ولا يصلح ان يكون مشتركاً لفظياً أو معنوياً.
فهل القرآن يفيد العلم الحضوري وهو ما لا يتوقف على آلة كعلم الباري بجميع الأشياء،أو علمنا بذواتها بالأمور القائمة بها من غير ان يستدعي صورة، أو انه علم حصولي لابد ان يستدعي صورة؟ الجواب:إن كلاً منهما نجده في القرآن فهو علم من العلوم الإلهية مستقل بذاته وهو طريق لمعرفة الربوبية .
ولا يتعارض ذلك مع ما قاله بعض الفلاسفة بأن معرفة الله تعالى فطرية، فالقرآن يثبت تلك المعرفة للانسان , ويؤكدها لاسيما وانه من عند الله، كما تحس بظهور الإعجاز فيه، يلقي السكينة في قراءته حتى على غير المسلم.
الحادي والستون: يمكن تقسيم الفضل الذاتي إلى عدة أقسام بلحاظ الزمان وأفراده الطولية على وجوه:
الأول : فضله ساعة النزول.
الثاني: فضله في أيام النبوة.
الثالث: فضله في أيام النزول.
الرابع: فضله أيام الخلافة الراشدة.
الخامس: فضله أيام الحياة الدنيا الذي يترشح بقراءته وتلاوته وإكرامه وإكرام حامليه، فقد ينال الفضل والجزاء من لم يقرأه ولكنه يحرص على إكرام أهله وقضاء حوائجهم أوأفرادهم بمزية.
السادس: فضله في البرزخ كما تقدم بيانه.
السابع: في يوم القيامة وفضله حينئذ ذو شعبتين:
الأولى: إكرام حافظه وقارئه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: “يقال لصاحب القرآن إقرأ وأرق، ورتل كما ترتل في الدنيا فان منزلك عند آخر آية تقرأها”( )، مما يدل على إستمرار الإرتقاء.
الثانية: الخسارة لمن لم يقرأ القرآن بل لمن نساه، وعن سعد بن عبادة قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من أحد تعلم القرآن ثم نســيّه إلا لـقـى الله أجذم”( ).
فمن باب أولى من لم يقــرأه، وقــيل الأجــذم هنـا مقطوع اليد، وقيل خالي اليد صفر الثواب، والجذام بالضم داء معروف يظهر معه يبس الأعضاء وتناثر قليل في اللحم أو الجلد ولا يمنع من هذا المعنى للحديث نفسه.
الثامن: فضل القرآن في الدار الآخرة ما بعد الحساب،وفضله على أهل الجنان والنصوص الواردة في فضله في الدار الآخرة كثيرة وتلقاها المسلمون بالقبول والتسليم.
ومن ذلك الأخبار الواردة في شفاعة القرآن لقارئه وشفاعة قارئه لغيره كما وعن علي عليه السلام قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قرأ القرآن فاستظهره فأحل حلاله وحرم حرامه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار”( ).
وهل من فضل للقرآن على أهل النار، فالنصوص تدل على الثواب العظيم لكل سورة أو لقراءة القرآن، ومنها ما هو قاصر سنداً ومنها ما قد يظن معها عظيم الثواب، وحصول التعارض الواقعي بينها فيما لو كان قارئ تلك السورة ممن يعمل السيئات، فهل بامكان الإنسان أن يحرز دخول الجنة بقراءة سورة من القرآن وهو يتعمد إقتراف السيئات؟ الجواب: لا، لخروجه بالتخصص وحجبه ثواب القراءة عن نفسه بإختياره.
ولكن تلك النصوص التي تدل على دخول الجنة بقراءة القرآن تلتقي مع العام الغوقاني وهو عظيم ثواب قراءة القرآن وموضوع زحزحة او إخراج قارئ القرآن فيما بعد من النار ومن اللطف الإلهي، ومن عمومات قوله تعالى في وصف أهل الجنة[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( ).
وفي المقام إحتمالان:
الأول: قارئ القرآن لا يدخل النار فضلاً من الله تعالى.
الثاني: ان تلك القراءة لم تنفعه صاحبها في الخروج مع كثرة السيئات أي أنها كانت نوع ثواب لم يؤهله لكثرة سيئاته لدخول الجنة، من غير إستبعاد للقواعد الكلية في لطف الله، وعظيم رحمته تعالى ووعده الكريم.
والأرجح الثاني إذا تفضل الله وجعل قراءة القرآن مادة لرجحان كفة الميزان.
الثاني والستون: من فضل الله أنه باب للكسب والمعاش وتلك مسألة تحس بالوجدان سـواء تعلــق الأمــربتدريسه أو طبعه أونشره أوحفظه، وان أختلف في أخــذ الإجـرة لتعليم القرآن.
والأقوى الجواز لأنه ليس من الحقوق المجانيــة المتعارفــة بين البشــر، وليس هو واجباً عينياً على المعلـم أو واجباً كفائيــاً نظامـياً، وان قيل بالإحتياط والتنزه وأخذ الإجــرة على بعض الخصوصــيات.
ومن الكسب ما يستحقه قارئ القرآن من المعاش من بيت المال وعن الإمام علي عليه السلام من دخل في الإسلام طائعا، وقرأ القرآن ظاهرا، فله في كل سنة مائتا دينار في بيت مال المسلمين، إن منع في الدنيا، أخذها يوم القيامة وافية أحوج ما يكون إليها) ( ).
وهل المراد من قراءة القرآن ظاهراً حفظه عن ظهر قلب ام قراءته في الصلاة الأرجح هو الأول ولكنه لا يدل على حفظ القرآن كله، فقد تسمى سورة باسم القرآن تسمية الكل بالجزء، وفي صلاة الصبح ورد قوله تعالى[وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
الثالث والستون: القرآن غنى لقارئه وحامله ودارسه، ولا ينحصر الغنى بالجانب المالي بل يشمل الغذاء الروحي والعرفاني والعقائدي والصلة الإجتماعية، عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لا ينبغي لحامل القرآن ان يرى أن أحداً من أهل الأرض أغنى منه ولو ملك الدنيا برحبها( ).
ولا يعني هذا الإستغناء عن الدنيا بل الغنى الذي يجلبه القرآن يكون أجره أعظم ونفعه وأكثر، والمحرز منه بالقرآن يشمل الدارين وان إختلف موضوعه فالغنى والطمأنينة في الدنيا، وفي الآخرة الدرجة والمنزلة الكريمة والمقام في الجنة.
الرابع والستون: عرض السنة والوقائع والأخبار على الكتاب وتلك خصوصية ومرجعية ينفرد بها القرآن، وفي مباحث علم الأصول ورد باب إسمه التعادل والتراجيح عند وجود دليلين أو أكثر في مقام الدلالة والثبوت بينهما التنافي والتناقض.
ومن وجوه الترجيح موافقة الكتاب، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فا قبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط)( ).
ولا تنحصر أحاديث العرض بحال التعارض، بل في أصل حجية الخبر فما خالف الكتاب العزيز يطرح ولا يصلح للإستدلال أو الحجية وفي بعض النصوص أنه زخرف وباطل، فلابد في التعارض أن يمتلك كل من الخبرين المتعارضين مقومات الحجية.
إذن فموافقة الكتاب تختلف عن المرجحات الأخرى كالترجيح بالأحدث أو بالصفات.
وتتصف خطابات القرآن بالتنجـيز وفعلية الحكم، وهي موجهة إلى الناس بلحاظ قدرتهم على الإستجابة والإمتثال لأن القدرة معتبرة في واقعية التكليف، فالتكليف بغير المقدور قبيح، وصدور القبيح من الحكيم محال، وبعبارة أخرى فيها تنزيه لمقام الربوبية.
آيات القرآن قطعية الصدور نحتاج إليها في الإستدلال والبرهان ولكنها في الدلالة تنقسم إلى قسمين:
الأول:إنها قطعية الدلالة كما في النص.
الثاني: ظنية الدلالة كما في التي تفيد معنى ظاهراً وآخر محتملاً إحتمالاً ضعيفاً، ولكل منهما منافع ولا يمكن الإستغناء عنه.
الخامس والستون: القرآن مصدر العز والرفعة، فلا يرقى إليه سبب وجاهة آخر سواء كان إجتماعياً أو عرفياً أو نحوهما.
السادس والستون: هو طريق النجاة من الفتن، فكما أنه بذاته يقود إلى الجنة فإنه طريق ومقدمة لما يوصل إلى الجنة وهو واقية من النار، وطريق للنجاة منها باجتناب أسباب دخولها.
السابع والستون: قراءة وحفظ وتعلم ضروب العبادة او تلحق بالعبادة لا على نحو التبعية والمجاز بل بفضل الله ولطفه سبحانه، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل العبادة قراءة القرآن( )، ولا يعني انه بديل عن الفرائض او يتعارض معها بل هو في طولها لذا فان قراءة القرآن في الصلاة واجب.
الثامن والستون: إمتلاك القرآن للحفظ الذاتي بالعناية الإلهية وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لو كان القرآن في إهاب،ما أحرقته النار”( )، والإهاب: الجلد من البقر والغنم ما لم يدبغ.
فضل القرآن الغيري
تقسيمنا فضل القرآن الى ذاتي وغيري وجامع لهماإستقرائي عقلي وإلا فالتداخل والتجاذب ظاهر بينهما، والسعة والتفصيل والتعدد في وجوهه امر ممكن.
ومن إعجاز القرآن أن فضله الغيري لا ينحصر بحال دون حال أو زمان دون زمان،أو إنه يتعلق بموضوع أو مواضيع مخصوصة أو جماعات معينة من الناس وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وفضل القرآن باب لزيادة الإيمان , وتوكيد متجدد لإعجاز التنزيل , وتحد لأهل الشك والريب.
وفي الفلسفة منع مما يؤدي إلى الدور وهو توقف الشيء على مايتوقف عليه، أو توقفه على نفسه، أي بالنظر إلى النتيجة وإلا فإنه لا يخرج عن التعريف الأول كما لو قيل بان الألف يتوقف على الباء، وباء يتوقف على ألف، لأنه يستلزم تقدم الشيء على نفسه فكيف يكون وجوده مقدمة ثانية.
ولكنه في علوم القرآن يبدو خالياً من التناقض بل يتنافى معه فانك تجد التداخل في علومه، وترشح فضل أي علم من العلوم ففضل القرآن يؤكد الإعجاز.
والإعجاز يثبت حقيقة وموضوع فضل القرآن وهكذا علومه وكل من الإعجاز الذاني والغيري ينشـطر إلى عـدة علوم، ونحن ندعو إلى ايجاد بعض العلوم من أصول مشتركة أي نستل علماً من علمين أو أكثر من علوم القرآن كما يتفرع عن كل علم علـوم متـعددة.
ومن أسرار القرآن أن هذا الموضوع يبقـى مفتوحاً لإضـافة أبواب أخرى له، بالإستقراء والبحث والدراسة ، وبإستظهار وإستحداث فصول وموضوعات أخرى مع تقادم السنين والأيام.
ومن فضل القرآن الغيري أمور:
الأول: بيان بداية الخليقة وأصل نشأة الإنسان فان معرفة الإنسان لحقيقة تكوينه تنفع في معرفته لنفسه، وقال عليه الصلاة والسلام:من عرف نفسه فقد عرف ربه( ).
وليس من حصر لمصاديق المعرفة بشقيها في المقام، وجاء الحديث نوع بيان وحث للإجتهاد في معرفة حالات حاجة الإنسان وضعفه ووهنه، وإنقطاع حياته بالموت، قال تعالى[وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( )، ليعرف الإنسان إختصاص الله عز وجل بصفات الكمال والجلال التي جاء القرآن ببيانها والبعث على التدبر في دلالاتها وعظيم قدرة الله وسعة رحمته، قال تعالى[وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثاني: تثبيت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان القرآن سلاح نبوته والدليل عليها فان قلت: ان القرآن لم يكن الدليل الوحيد على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد كانت أدلة نبوته متعددة ومنها الحسية، قُلت: ان القرآن هو الحجة العقلية، ومن إعجازه الغيري إنه ثبّت ووثق الآيات الحسية.
الثالث: معرفة تأريخ البشرية وسيرة الأنبياء وقصصهم بآيات القرآن [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( )،وفيه أخبار الأمم الماضية والنكت والغرائب فهـو وثيقـة الدنيا، والمانع من تشويه التأريخ والإفتراء فيه، فان القرآن هو الدليل العقلي الجامع المانع، وهو الحجة الدائمة على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم،وينفرد القرآن من بين الكتب السماوية ببقائه إلى يوم القيامة كتنزيله وسالماً من التحريف.
الرابع: هو الذي حال دون شيوع الأساطير، والقصص الخرافية سواء بأحاديث الوحي أم ببيانه لوجوه الحقيقة.
الخامس: هو المانع من تنامي قوى الضلالة والدعوى التي فيها زيـادة وتشويه، ومنهــم من ســعى في حــجب فضل الله تعالى عن الناس وإرادة إبطــال أثــر القــرآن، فلزم ان يكون القرآن بنفســه سلاحاً للرد عليهم أي أن المسلمين لم ينفردوا بالذب عن القرآن والمحافظة عليه أحكاماً وتلاوة ورسماً بل إن القرآن آزرهم وشاركهم.
السادس: هو المؤازر في قتال المشركين.
السابع: هو المدد الروحي للمجاهدين فآيات القرآن تنير دروبهم، وتقوي عزائمهم وتريهم الجنة وقصورها فيشتاقون إلى لقاء الله ويختارون الشهادة.
الثامن: القرآن علاج للأمراض وشفاء، وهذا الشفاء تارة يكون بسورة أو بآية وتارة بالقرآن مطلقاً، والشفاء به مركب شفاء من الأمراض التي تصيب البدن وشفاء من الأمراض التي تصيب العقيدة، وعن جابر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له في خصوص سورة الفاتحة انها شفاء من كل داء الا السأم.
وعن عبدالله بن مسعود قال: قرأت على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغت هذه الآية قال لي: ضع يدك على رأسك فإن جبريل لما نزل بها إليّ قال لي: ضع يدك على رأسك فإنها شفاء من كل داء إلاالسأم والسأم الموت( ).
التاسع: هو العنوان الجامع للمسلمين الذي يلتقون في الإعتقاد به، وفي قراءته والعمل بأحكامه.
العاشر: هو الوسيلة الواقية لمنع الخلاف والخصومة والتشتت بين الناس.
الحادي عشر:هو الجليس الذي لا يقوم عنه أحدإلا بالنفع والفائدة والصاحب الكريم والرفيق الناصح والمؤتمن، لذا ورد عن الامام علي عليه السلام: وما جالس هذا القرآن أحد الإ قام عنه بزيادة أو نقصان زيادة في هدى ونقصان عن عمى”، وروي مثله عن الحسن( ).
والمجالسة نوع مفاعلة مما يدل على أثر القرآن وتأثيره وأنه ينبض بالحياة، وأن الإنتفاع منه أعم من القراءة فيشمل دراسته والبحث في علومه كما يدل الحديث في مفهومه على لزوم الإلتفات والتدبر عند قراءة القرآن، والإصغاء له في أوامره ونواهيه.
الثاني عشر:تعدد وجوه النفع في قراءته وتلاوته وتشعبها وتعلقها بالنفس والمجتمع والرزق في الدنيا والآخرة،ويدعو القرآن للتدبر والتوظيف العملي للقراءة، وظهورها على الأركان والجوارح قال تعالى[َفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا]( ).
الثالث عشر: ترشح الخلق الرفيع على حامل القرآن لأنه ملأ جوانحه وشغله عن الدنيا وأهلها وزينتها وما فيها من الأطماع، تراه بعيداً عن الجفاء والمماراة وهي المجادلة.
الرابع عشر: وصف شهر رمضان بأنه ربيع القرآن , أي ان القرآن يعلو ويتلى فيه ويعمر وتكثر قراءته ودراسته فانه ربيع القلوب تزهر وتنشط به كما تنشط الأبدان فيه وتحيا الأنعام برعي أعشاب فصل الربيع، والخصب يدور مدار القرآن وبركاته.
الخامس عشر: وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:”ان القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل يا رسول الله: وما جلاؤها، قال: قراءة القرآن وذكر الموت( ).
ويجعل القرآن الإنسان يحب لقاء ربه ولا يكره الموت، بل يجعله حاضراً لديه ومقدمة وطريقاً للسعادة الأبدية ويرى الأشياء بحقيقتها ويمنع الغشاوة من السيطرة عليها، قيل لبعض الصوفية: هل تشتاق اليه فقال: إنما الشوق إلى غائب، وهو حاضر لا يغيب.
السادس عشر: هو الإنذار للناس، وإنذارات القرآن جامعة وتتعلق بأمور الدنيا والآخرة وفي الدنيا يكون على أقسام، فانذاراته لا تنحصر بالعبادات بل تشمل المعاملات والأحكام.
السابع عشر: فضل القرآن على المسلمين والناس في نزوله نجوماً وتدريجياً وفي وجوده بين أيدينا مجتمعاً بين دفتين.
الثامن عشر: فضله على الناس بتقسيمه إلى سور وآيات وما في هذا التقسيم من الإعجاز والمنافع للناس وأسباب حفظ القرآن.
التاسع عشر: هو موضوع التعليم والتدريس عند كافةأجيال المسلمين، فكما نتعلم منه أبواب العلم والمعارف المختلفة نتعلم منه الإستغفار والتوبة وكيفية الشكر ومنه الشكر على نعمة القرآن.
العشرون : في الإستماع للقرآن صرف لضروب من البلاء , وعن انس بن مالك قال في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يدفع الله عن مستمع القرآن بلاء الدنيا، ويدفع عن قارئ القرآن بلاء الآخرة( ).
ودفع بلاء الآخرة يعني النجاة من الدنيا والإفتتان بها أي ان الله عز وجل يدفع عن قارئه بلاء الدنيا والآخرة ولا تضره هموم الدنيا ويدل الحديث وحسب قياس الأولوية الذي يعتبر من الظواهر ويسمى أيضاً مفهوم الموافقة وفحوى الخطاب فان الثواب يرد على القارئ ايضاً في الدنيا بصرف البلاء ودفعه عنه.
الحادي والعشرون: القـرآن مـادة العـز وعنوان الشرف، وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل”( ). وحملت الذين يواظبون على تلاوته , وأصحاب الليل الذين يقومون بأداء صلاة الليل .
الثاني والعشرون: هو المنجي من الهلكة في الدارين، ما عمل به شخص إلا قاده إلى الجنة، وفضل القرآن لا ينحصر بالمسلمين بل يشمل الناس جميعاً اما ان ينتفع منه ويقوده إلى الإسلام أو يعرف أن هناك صلة بين بعض البشر وهم المسلمون وبين الباري عز وجل .
إن إكرام المسلمين للقرآن والتزامهم بالعمل بأحكامه يجعل الناس ينقادون إلى الإسلام لحجية فعل العقلاء بما هم عقلاء وللتواتر والمواصلة والدوام في التقيد بأوامره ونواهيه طاعة وانقياداً أي الإنقياد بالمعنى اللغوي وليس بالمعنى الإصطلاحي الذي جعلوه مقابلاً للتجري.
والإنقياد هو الفعل أو الترك لما يقطع او يحتم، لأنه طاعة للمولى وانه مقام أمر به مع كونه في الواقع غير مأمور به، ويقابله الطاعة الحقيقية وهي الإقدام على طاعة الله فيما إتفق مع الحكم الواقعي، وأختلف في الإنقياد في هذا المعنى هل يستحق المثوبة والأجر أم أنه كالتجري الذي يأتي به وهو يقطع أو يتخيل أنه مخالف للحكم الشرعي وهو في الواقع غير مخالف، فمن أفطر يوم الشك معتقداً وجوبه مع أنه لا يجب صومه تحقق التجري دون المعصية، ومن صامه معتقداً وجوبه وهو ليس بواجب تحقق الإنقياد دون الطاعة، والأولى اختيار لفظ آخر يدل على الإنقياد بمفهومه الإصطلاحي.
الثالث والعشرون: القرآن هو السلاح في الحرب، فنحن بحاجة الى دراسة تثبت ان القرآن كان في ميادين المعارك قبل السيف في الأثر والتأثير فلا غرابة انه تسبق المعركة موعظة، أويحيي المؤمنون ليلتها بقراءة القرآن.
الرابع والعشرون: من فضل القرآن الغيري حفظه للغة العربية، روى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “أحب العرب لثلاث لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي( )، وكون النبي عربياً صبغة كريمة لكل مسلم ومسلمة فيها حصة فهو من الكلي الطبيعي .
لتكون بالقرآن للعربيـة مودة خاصة ومنزلة في النفوس والمجتمعات وهو الذي أدى إلى إنتشـارها وخلودهـا، وجعل الرغبـة في قلوب المؤمنين لتعلم العـربية وجعلهـا سـوراً لسانيـاً جامعاً لعامة المسلمين.
وسوف تنال اللغـة العربيـة منزلـة عالميـة تفوق كثيراً حد التصور .
وسوف تكون اللغة الأولى أو الثانية في العالم أي التي يتكلم بها أكثرالناس بحيث لا يتعارض معها الإحتفاظ باللغات القومية في البلاد الإسلامية غير العربية واللغات العالمية الأخرى كاللغة الإنكليزية.
الخامس والعشرون: ما للمصحف أي النسخة الواحدة التي تحتوي بين دفتيها كلام الله من بركات وإفاضات، وهي سلاح وعون وحرز وأمان وأنيس.
ويمكن تقسيم فضل القرآن على الغير تقسيمات أخرى بحسب اللحاظ والجهة منها:
الأول: فضل القرآن على الأفراد، الجماعات، المؤسسات، الأمم، الملل، الناس جميعاً، البلدان، الأجيال.
الثاني: فضله على المؤمن، وعلى الكافر.
الثالث: على المعدوم، على الموجود، على من مات، من كان في زمان ما قبل القرآن بالدعوة إليه، أو بالثواب اللاحق له من أولاده، بذكر قصصه.
الرابع: في حال السلم وفي حال الحرب وأثره كطريق ومقدمة للسلم وأمان من الحرب.
الخامس: فضله في العبادات، والمعاملات، وسلامة الأحكام من التحريف والتبديل، وهو من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
السادس: على العامل به، على غير العامل به.
السابع: على الحاكم، وعلى المحكوم.
الثامن: في حال الرخاء، في حال الشدة والمصيبة.
التاسع: في الكسب والرزق.
العاشر: في إرتقاء العلوم، وتقارب الشعوب والأمم.
الحادي عشر: في إستقرار الأنظمة والقيم الأخلاقية والإجتماعية.
الثاني عشر: فضل القرآن وتلاوته وتعلمه في تنمية الملكات العقلية للمسلم.
الثالث عشر: موضوعية القرآن في إستدامة وحدة المسلمين والعصمة من الفتنة وأسباب الفرقة والسلامة من الإقتتال المتجدد، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
أما فضلـه الجامـع فهـو الموضـوع الذي يتعلق بالفضل الذاتي والغيري معاً تلك نتيجة قهرية وإنطباقية في فضل القرآن لسعته وتشعبه.
الرابع عشر: الوجاهة في الآخرة لحملة القرآن، فهم عرفاء أهل الجنة كما ورد في الحديـث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “حملة القرآن عرفاء أهل الجنة يوم القيامة “( )، وسئل ابن عباس عن معنى الحديث فقال: رؤساء أهل الجنة.
والعرفاء في اللغة والمفهوم العرفي جمع عريف، وهو القيم بأمور القبيلة والجماعة من الناس يعرف احوالهم ويطلع الولاة بواسطته عليها، وهو دون الرئيس.
التفسير
التفسير: لغة الكشف والبيان، وقد يراد به التعرية، ومنه القول فسرت الفرس إذا عريتها للجري، وقيل: مأخوذ من السفر كجبذ من الجذب، ومعناه الكشف والظهور يقال أسفر الصبح إذا ظهر، وأسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته.
أما معنى التفسـير في الإصطـلاح فهـو علم شريف يبحث في مدلولات ألفاظ وآيات القرآن ويكشف عن معانيها ومفاهيمها ومضامينها العالية، ويبين أحكامهـا الإفراديـة والتركيبـية ومراد الله عز وجل منها، أي أن موضوع علم التفسير كلام الله الذي نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة جبرئيل وهو طريق لسر من أسرار القرآن وإستخراج ما فيه من الذخائر ووجوه الإعجاز باتجاه النفع الأعم والأكثر منها.
وهل علم التفسير أعم من مصطلح العلوم القرآنية؟ أم أنه أخص؟ أم بينهما عموم وخصوص من وجه؟ أم أنهما من المترادفات؟ الجواب: إن تلك الوجـوه كلها تصلـح في التعريـف وظاهـرة بلحاظ جهتي وخصوص موضوع معين، ولكن عندما تتشعب علوم القرآن ودراساته يمكن وضع ضوابط كلية للتمييز بينها، وتكون النسبة عموماً وخصوصاً مطلقاً، فعلوم القرآن أعم من تفسيره لما تتضمنه من الفروع وما ترتكز عليه من القواعد والضوابط الكلية، ومع موضوعية علم التفسير فإنك لاتجد كلمة التفسير مذكورة في القرآن إلا في قوله تعالى وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا، وهي أيضاُ لا تدل بالدلالة المطابقية على علم التفسير.
إلا أنه وردت نصوص كثيرة في السنة النبوية الشريفة وأحاديث الصحابة والأئمة تبين موضوعية وأحكام علم التفسير، ومنها حديث التفسير بالرأي وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:”من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار”( ).
وهو في مفهومه حث على التفسير ولكن بالصيغ الشرعية والصحيحة دون ما هو مناف للشريعة، لقد وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسس العامة للتفسير بهذا القول المبارك وغيره، وبه وضع قيداً واقياً ملازماً للقرآن في وجوده على الأرض وحتى يوم القيامة، إنه حجاب دون التحريف والتشويه الناتج عن القول بغير علم، لقد كانت بركات النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن ظاهرة في جميع ميادين الحياة اليومية للمسلمين.
وفي الحديث الشريف أعلاه إمضاء وتقرير للتفسير فيما بعد أيام النبوة والرسالة، وقد قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير شطر من الآيات، فأول من فسر القرآن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته القولية والفعلية والتقريرية وفي تفسيره المخصوص لشطر من آيات القرآن الكريم وسمي بالتفسير المأثور. وغالباً ما يأتي في كتب الحديث باب يسمى باب أو كتاب التفسير يتضمن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أحاديث التفسير, وكان يضع الأصول لعلم التفسير، ويتخذه سلاحاً للدفاع عن القرآن ومنع الكفار وأهل الشك والريب من التحريف وسوء التأويل .
ولما نزل قوله تعالى[إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ]( )،قال ابن اسحق: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما بلغنا، يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفى المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم:” إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون، لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون، لهم فيها زفير وهم فيها لايسمعون “، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمى حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم.
فقال عبد الله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدا: أكل من يعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى.
فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتجو خاصم.
فذكر ذلك لرسول الله صلى عليه وسلم فقال: كل مَنْ أحَبَّ أن يُعْبَدَ من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمَرَتْهُم بعبادته( ).
فأنزل الله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ]( ).
لايسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون “، أي عيسى وعزيز ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى، ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: “وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، سبحانه، بل عباد مكرمون “والآيات بعدها( ).
ولم يكن التفسير أيام النبوة مدوناً ومكتوباً، بل كان رواية وتعلق ببعض الآيات الإبتلائية أو بالأحكام، كان نفر من الصحابة يسأل وينتظر مجيء الأعرابي كي يسأل فينتفع الآخرون.
وهذا يفيد في مفهومه سنة تقريرية مفادها صحة السؤال واستحقاقه وموضوعه للجواب والبعث على البيان والكشف لتترشح عنه دروس في تفسير القرآن بالقرآن، وبينوا أن بعض الآيات تمثل قاعدة كلية كما في الإستشهاد بقوله تعالى وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. ولا يعني هذا البيان حصر القواعد بها، بل هي من باب المثال ومناسبة الموضوع والحكم والا فإن كل آية قرآنية تصلح ان تكون قاعدة كلية في واحد أو أكثر من العلوم.
وتفسير الصحابي على قسمين:
الأول: ما يكون سماعاً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا في الحقيقة تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن ويأخذ به جميع المسلمين مع الوثوق بنسبته وعدم ضعفها او ورود الإشكال عليه دلالة.
الثاني: انه لم يرفعه وهو إجتهاد منه .
والصحابي يختلف عن غيره بمعرفته لأسباب النزول وملازمته وصحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وانه من الموجودين الشاهدين للتنزيل، إلى جانب أن الصحابة أهل اللغة، ولم يسألوا عن الآية لمعرفتهم بموضوعها في الجملة فقد عاشوا أيامها، ولازموا أحوالها وقراءتها، بالإضافة إلى مسألة الإلتفات إلى رجال الحديث وسنده.
وورد عن أبي حنيفة انه قال: (إذا جاءنا الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعلى العين والرأس , وإذا جاءنا عن الصحابة فإذا انعقد عليه إجماعهم لزمنا الأخذ به ولا يجوز لنا الخروج عليه، واذا اختلفوا في ذلك جاز لنا التفاضل بين أرائهم فنرجح بعضها على بعض).
لقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ان الحق مع علي يدور معه حيث دار، وهو قاعدة كلية ويعتبر التفسير من أهم مصاديقها، وأستشهد به بصيغة الدعاء الفخر الرازي في تفسيره الموسوم بمفاتيح الغيب، في باب الجهر بالبسملة قال : (روى البيهقي في السنن الكبير عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم ، ثم إن الشيخ البيهقي روى الجهر عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، وأما أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر ، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى ، والدليل عليه قوله عليه السلام : اللهم أدر الحق مع علي حيث دار)( ).
وقد يكون الترجيح في حالات أخرى بلحاظ الموضوع أو أسباب النزول أو إستحضار القرائن أو صحة السند والدلالة ونحوه.
وقال ابن كثير : (إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى قول الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القران والأحوال التي إختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح ولاسيما علماؤهم وكبراؤهم)( )، وقول (لاسـيما) يفـيد ان ما بعـدها له نصـيب أكبر مما قبلها في الحكم والترجيح.
أما عصر ما بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن الصحابة تباين مقامهم في التفسير بشكل واضح، فالخلفاء الثلاثة لم ترد عنهم احاديث كثيرة في التفسير وقال بعض الباحثين: أقل من ذكروا تفسير علوم القرآن أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان) وقالوا: لعل ذلك راجع إلى قصر مدتهم وإنشغالهم في أمور الدولة الإسلامية.
لقد تجنب أكثر الصحابة الكلام في القرآن بالرأي , فهذا أبو بكر يقول: (أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم) ( ).
وروي إن عـمــر بن الخـطـاب قال عنـدما قرأ قـوله تـعالى [وَفَاكِهَةً وَأَبًّا]( )، (هذه الفاكهة عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه وقال: أن هذا لهو الكلف يا عمر.
لقد أصبح توقف الصحابة عن الخوض في علم التفسير مدرسة وقائية تحول دون التجرأ في القول في كتاب الله من غير علم، وترسخ مضامين اجلال القرآن بالإحتراز عن الإفتاء فيه من غير دليل وبقيت آثارها متصلة إلى الآن، وفي رواية دخل قتادة بن دعامة على الإمام الباقر عليه السلام فقال: يا قتادة انت فقيه أهل البصرة ؟ فقال: هكذا يزعمون فقال عليه السلام: بلغني أنك تفسر القرآن ؟ فقال له قتادة: نعم إلى ان قال عليه السلام: يا قتادة ان كنت فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت.
ولقد فسر الصحابة والأئمة الكثير من الآيات ابتداءً وجواباً على سؤال. وذهبوا إلى إلى بيان صيغ الإستدلال بكلامهم واعتماده حجة ونبراساً فقد كانوا يستشهدون بالقرآن ويحتجون به، وفي أبواب الفقه أثناء الدراسة تمر علينا في كل يوم شواهد كثيرة منه.
إن إحتراز بعض الصحابة عن التفسير أحياناً لا يتعارض مع اقدام شطر منهم للتوسع فيه وسد الحاجة لما جعل الله عز وجل عندهموأهل بيت النبوة من الميراث والعلم.
وقال الإمام الباقر عليه السلام: (ما أخبرتكم بشيء إلا سألتموني عنه من القرآن) ثم قال: (ان الله نهى عن القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة الأموال). فسأله أحدهم عن ذلك في القرآن فقال عليه السلام قوله تعالىلاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وقوله تعالى لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وقوله تعالى [وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا]( ).
ويمكن إعتبار الرجــوع إلى القـرآن علماً جديداً وتخصصاً مستقلاً وان كان فرعاً للتفسير وسيكون له أهل ومتخصصون ان شاء الله وسيفتح على العلماء والباحثين أبواباً من العلم ويبعدهم عن الهوى والتعصب لمذهب معين لأنه آية مستحدثة في اعجاز القرآن، سيكون الإستدلال به على صحة الأحاديث حداً وسطاً وهو ركن كل قياس والجامع بين طرفيـه الأكبـر والأصـغر، ويكون عـلة لليقين بالنتيجة، وبرهانـاً لُمّيــاً للتصــديق في الإثبات والثبوت وهو علة لثبوت الأكبر للأصغر.
فنقول وفق القياس المنطقي مثلاً: هذا الحديث موجود وأصله ودليله في القرآن في هذه الآية أو تلك، وكل حديث دليله في القرآن هو صحيح أو تترجح صحته، فإذن الحديثالفلاني يحتمل صحته من جهة الدلالة، وفيه ترشح مبارك على علم الرجال، فلم لا تعرض الأحاديث المنسوبة والمنقولة من سلسلة معينة من رجال الحديث على القرآن وتثبت صحتها بمطابقتها دلالة للقرآن فإنه يدل في ظاهره ودلالته التضمنية على وثاقة رجال الأحاديث التي لا تتعارض معه ولو في الجملة، أو يكون معارضاً في المعنى مع صيغ الجرح الخاصة بهم خاصة إذا كانت صادرة ممن عرف بكثرة الجرح والذم كابن الغضائري، أو أنها تكون نوع تأييد وتوكيد لما ورد عنهم في علم الرجال من المدح، وقد يصلح هذا العلم في تجاوز الإعتبار المذهبي في الحكم على الرجال ووثاقتهم، أي انه يفتح آفاقاً من العمل الإسلامي الموحد، وفيه نوع انصاف وإكرام ويساعد في الحجية وظهورها وحفظ السنة والإنتفاع المثل منها.
مع الأخذ بنظر الإعتبار علم التفسير والتأويل ووجوه التعارض أو التزاحم، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، ليكون أيضاً دراسة قرآنية عن أحوال الرجال، ومدى وثاقتهم من غير طرح للكتب الرجالية ذات الأولوية في المقام.
من البديهيات في علم المنطق والقضايا العقلية الثابتة أن المعلول لا يتخلف عن علته أي أن كل معلول يجب وجوده عند وجود علته.
ترى ماذا كانت علة أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلموسنته في تفسير القرآن؟ لم تكن إلا لهداية الأمة وصلاح المجتمعات ونجاة الناس من العذاب الأليم وعليه إجماع المسلمين والوجدان وإقرار الناس وعلى مرّ الزمان.
والسنة معروضة دائماً للدراسة وتحقيق الباحثين من جميع الملل والنحل، كان كما قال تعالى وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَىإِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، والقرآن تبيان لكل شيء، لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنته تثبيت القرآن، وان لم يتناول كل آية بالتفسير على نحو الخصوص والتعيين.
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسر القرآن بالمعنى الأعم للتفسير، أوليس العمل أهم من القول؟
سيبقى موضوع علم التفسير أبرز العلوم القرآنية وقطب العلوم الشرعية وإليه الرجوع في الأحكام الشرعية كواسطة بينها وبين القرآن ودليل على الغايات والمراد من الآيات القرآنية.
لقد أسست قواعد كلية لعلم التفسير تجعل الجهود المبذولة من عامة علماء المسلمين في بابه من مراتب التحصيل في علوم القرآن وتبين عظمة وإعجاز القرآن.
إن العناية بعلم التفسير نوع تعاهد للقرآن وحفظ لحدوده وإرشاد إلى ذخائره، ودعوة إلى الإلتزام بأحكامه فهو نبراس الهداية في الأرض ومفتاح البركة على الناس والجماعات، وبالتمسك به ينال الإنسان العزة والسعادة، لم ينزل القرآن ليقرأ فقط بل ليتدبر الناس آياته ويفهموا معانيه ويسيحوا في مقاصده وذلك لا يتحصل إلا بالفهم السليم وعدم التفريط.
ثم ان التوسع فيه قد يحمل طابع الحاجة والضرورة العقائدية في ذاته ونفسه، وباعتباره طريقاً وصيغة لمعرفة ماهية العلوم الحديثة.
وعرف العالم الإسلامي طبقات من المفسرين كما عرف الفقهاء والمحدثين والنحاة ونحوهم، ومنهم من جمع بين التفسير والفقه وعلوم أخرى وبرز فيها[ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ]( )، وسعي في مرضاته تعالى ولكن لا زال علم التفسير قاصراً عما يجب على العلماء بصدده، فلو حصرنا مدة زمنية كعشرين سنة مثلاً واحصينا الرسائل العملية والبحوث الفقهية الإستدلالية والتحقيقات والرسائل الجامعية للدراسات العليا فما يقابلها في ذات المدة من بحوث التفسير قليل ومعدود، وبعضه روائي وبعضه موجز، والإيجاز حسن ولكنه قاصر عن الإحاطة والبيان في علم التفسيرخاصة مع وجود نظائره ممن سبق من العلماء.
ليعمل كل على طريقتـه في خدمة الإسلام وتعظيم شعائر الله بالكتاب الفقهي أو الأخلاقي أو العقلي ونحوها وكل له أجر وثواب، ولكننا نحث على إعطـاء أولوية وأهمية خاصة لعلم التفسير فالقرآن كتاب لا يُخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه. ولا أقول أننا بالتفسير نستطيع الإحاطة بعلومه فهذا ما لا يتحصل بقدراتنا، ولكن الإجتهاد في التفسـير يفتـح أبوابـاً من العلوم ويكشف الستار عن مصابيح هدى.
العلوم الإنسانية إرتقت سريعاً في هذا الزمان فهل إستطاع العلماء جعل علم التفسير يلتحق بها، أم هل شرعوا في خطوات بهذا الإتجاه؟ فمقتضى الأصل تقدم علم التفسير وسبقه للعلوم الأخرى وإثبات تفرعها وصدورها عنه، وتوكيد حقيقة وهي حاجتها المستمرة وابتناؤها عليه وأنها تنهل من كنوزه، وبحثنا هذا ومواظبتكم على حضوره خطوة حوزوية مباركة في هذا الإتجاه،إنه تأسيس كيان مستقل لعلوم القرآن في الحوزة العلمية لاسيما وأنه أكبر دروسها.
وفي الإصطلاح هناك علوم أخرى إلى جانب التفسير كعلم التأويل وعلم القراءة والتلاوة والتجويد، ولا يمكن القول بأن الثلاثة الأخيرة في عرض واحد مع علم التفسير، وقد تعتبر القراءة والتجويد قد معاً علماً واحداً أو يجمعهما تصنيف واحد لأن موضوعه هو القراءة.
وتلك العلوم واسطة لعلم التفسير وطريق لإتقانه والإتيان به على أحسن وجه، أو أنها فروع له، والقراءة باب للتفسير كما في قراءة يطهرّن، ويطهرن بالتخفيف وهو المرسوم في المصاحف والقراءة المعروفة بين المسلمين[فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ]( )،وهو ظاهر في انقطاع الدم أي حتى يخرجن من الحيض وعند انقطاع الدم عنهن، وقرء بالتشديد يطهرّن بالغسل بعد نقاء المحل، وعلى هذه القراءة يجب الاعتزال وعدم وطئ الزوج لزوجته حتى الغسل، وهي قراءة شاذة.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تقل أو تعمل”( )، ونحن نأخذ منه ونستدل به بمقدار تعلق الأمر بمباحثنا الفقهية وموضوعه أعم، فالقرآن مجمع العلوم ومنبعها وفي كل فرع منها نحتاج إلى علم القـراءة وضـبط الحركـات الإعرابية والبنائية وعدم المخالفة فيها.
ولا بأس بالتفريع والتقسيم في علم التفسبر بما يتناسب وروح العصر من التعدد في أقسام العلوم والإنشطارات السريعة فيها، وهذا الأمر ليس بجديد فقد كانت ولا زالت بعض التفاسير تتناول جانباً من العلوم.
ولقد خطى علم التفسـير خطـوة متقدمـة بتشـعبه وتعدد وجوهه، فقام أهل الإختصاص باستخدام كنوزه كل في بابه وفرعه وان كانت تفاسيرهم على نحو العموم والشمول، بعض المفسـرين أعطى أولوية للفقه كالجصاص وابن عـربـي والقرطـبي، واعتنوا بنصرة مذاهبـهم والرد على من خالفهم، ومنهم من غلبت عليه الدراسات النحوية كالزجـّاج وابن حبـان وبالغوا بالاهتمام بالإعراب ووجوهه وذكر قواعد النحو.
ومنهم من أعطى الأولوية للعلوم العقلية والفلسفة وأقوال الحكماء كالفخر الرازي، ومنهم من تقدم خطوات محمودة في علم البلاغة كالزمخشري، كما وجد الصوفيون ونحوهم ضالتهم في علم التفسير فاولوا عناية بالإشارة والرموز والترغيب والترهيب والزهد وأسرار الحروف مما لا يستطيع التوصل إليه بظنهم إلا أصحاب المقامات.
وإتخذ أصحاب علم الكلام من آيات القرآن حجة لنصرة مذهبهم والرد على من خالفهم وربما وجدت الفريقين المتخاصمين منهم يحتجان بذات الآية كل واحد منهما يراها بمنظار ولحاظ معين صالحة ومؤيدة لما يذهب إليه.
ولا يعني هذا أيضاً القول بالرأي لأنه يوقع بالخطأ والزلل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ ( ).
وتأريخ علم التفسير يبدأ في مراحله الأولى التي هي أسمى وأشرف مرحلة مع أيام النزول، بتقسيم مزدوج في عرض واحد أحدهما تفسير القرآن، والآخر تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن.
ففي القرآن المطلق والمقيد، والعام والخاص، يأتي في سورة مطلقاً ويأتـي في أخـرى مقيداً، وفي آية عاماً وفي أخرى يدخله التخصيص، والتنكير والتعريف والمفرد والتثنية والجمع لذات الاسم لكن من غــير تعارض بينهما، كما في لفظ الجنة إذ ورد بألفاظ متعددة الجنة , قال تعالى[لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
وتأتي آية تكون ناسخة لأخرى ورافعة لحكمها، وأخرى تؤكــد هــذا النســخ،وفي آية يكون الإيجاز، وأخرى يكون البيــان والتفصـيل لـذات الموضوع كما في قصة موسى عليه السلام.
والعلوم والمباحث في تفسير القرآن بالقرآن لا زالت في بدايتها، مثلاً قوله تعالى وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتْ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ، إختلفت فيه كتب التفسير هل المراد هو اسماعيل أم اسحاق؟ وذهبتُ إلى قول جديد في المقام والعلم عند الله وهو ان يوسف هو البشارة وإستدللت عليه بالقرآن وتفسير بعضه لبعض كما في التنزيل حكاية عن يوسفاجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.
فقد سمي يوسف بانه عليم مما يعني والله أعلم ان يوسف هو بشارة إبراهيم عليه السلام كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشارة إبراهيم ودعوته، فيوسف عليه السلام أعلن بأنه عليم وكأنه أوان إظهار تلك البشارة، وجاء هذا الأظهار جلياً بالتصريح والإخبار القرآني وفيه آية أن الله عز وجل أنجز وعده لنبيه إبراهيم عليه السلام وإن لم يكن بالابن الصلبي .
والله سبحانه أصدق القائلين ليكون تحقق البشارة بيوسف، بشارة ومقدمة لحصول البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته كما في دعاء إبراهيم[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ]( ).
وفيه دعوة للمسلمين للبحث بالمعنى الأعم يعلم (بشارات القرآن) وإستقراء دلائل الإعجاز فيها, وما يفيد منها الإتحاد، وما يفيد التعدد والتكرار في بشارات القرآن دراسة وإستنباطاً بغض النظر عن التنجز الزماني او التعليق في أوان التحقيق.
تفسير القرآن بالسنة
لابد للذي يقول في الكتاب العزيز ان يرجع إلى تفسير القرآن بالقرآن ومعه في عرض واحد أو متأخر عنه مرتبة تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن، نعم تفسير القرآن بالقرآن يستمر بأفراده الطولية إلى يوم القيامة، ولكن تفسير النبي للقرآن وان كان في بدايات النزول بعرض واحد مع القرآن، فهل إنقطع بانتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى؟ الجواب: لا، انه باق ولكن بالواسطة بقى بالسنة القولية والفعلية والتقريرية التي حرص المسلمون بكافة مذاهبهم على توثيقها وجمعها واجتهد كل منهم بطريقته الخاصة بطرح الموضوع والإشارة إلى الضعيف من الأحاديث، وتصلح موضوعاً لاستقراء الدروس واستظهار التأويل.
وتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسـلم للقرآن كان بأمر منه تعالى في القـرآن وبنصــوص قـال تعالى وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.
من رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفصيل المجمل وبيان أحكامه كما في الصلاة من جهة عدد ركعاتها ومواقيتها وقال صلى الله عليه وآله وسلم: “صلوا كما رأيتموني أصلي”( ) ليقطع الطريق على البدعة وما فيها من مشقة وعسر.
وقيــد المطــلق كما في قــوله تعالىوَالسَّــارِقُ وَالسَّـــارِقَةُ فَاقْطَـعُوا أَيـْدِيَهُـمَا، فالقطع لم يقيد في الآية بموضوع وحد ادنى أو أعلى ولكن السنة قيدته من جهة الموضوع والمقدار وان القطع لا يكون باقل من ربع دينار ذهباً وان يكون هاتكاً للحرز والشرائط الخاصة بالسارق كما مبين مفصلاً في رسالتنا العملية “الحجة”.
وقوله تعالىيُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيَيْنِ قيده صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ( لا يرث القاتل).
والسنة ميراث عقائدي للمسلمين يحتاجونه في كل ميادين الحياة لأنها فسرت لنا الآيات وجاءت مصداقاً للقرآن وفيها من السعة ما هو رحمة وغنى، لذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “الا واني أوتيت الكتاب ومثله معه”( )، ولابد من الوقوف عند قوله صلى الله عليه وآله وسلم (ومثله معه) للدراسة والتأمل فلا تعني المثلية أنها القرآن ولكنه بيان القرآن وأحكامه وليس فيه شيء خارج عن علوم القرآن تفسيراً وتأويلاً.
نعم هناك نحو إختلاف في جهة الصدور وقطعيته، فالقرآن نازل من عند الله ولا ترقى السنة إلى فضله وعظيم شأنه وهو قطعي الصدور، وأعترى بعض أحاديث ضعف ولم يكن ذلك الضعيف إلا على نحو السالبة الجزئية المنحسرة والمكشوفة بالجهود المضنية التي بذلها العلماء لإسقاط الحديث الموضوع وتحديد الضعيف مع إعتبار الملازمة الثابتة الواضحة بين قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم،ومقاصد القرآن ودلالات آياته وفيه دلالة على أهلية السنة كمصدر ثان للتشريع.
قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه”( )، وهو وثيقة رسالية مباركة تدعو وتحث على الأخذ والعمل بسنته الشريفة.
لقد جاءت الأحكام والتكاليف في القرآن في الغالب مجملة من حيث الخصوصية ولابد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم علمها تفصيلاً وذاك التفصيل أيضاً ورد في القرآن ولكن على نحو الإجمال وللملازمة بين إتباع كتاب الله ورسوله، قال تعالى وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، والسنة تبين الوجه الذي يراد من الآية.
ولا بد من وقفة لدراسة فلسفة هذا النظام والتداخل بين القرآن والسنة والحكمة منه، لماذا ورد الإجمال في بعض الأحكام في القرآن والتفصيل والبيان في السنة في مواضع وأحكام معينة بينما جاء التفصيل والبيان في مواضيع أخرى في القرآن نفسه.
ولا يقول أحد بأن من الوقائع ما ليس لها حكم في القرآن، وأن الحوادث الجزئية غير متناهية لا يحيط بها المتناهي، ولم يرد نص قرآني في كل حادثة بخصوصها، فذهب بعضهم إلى اعتماد القياس وثبوت حكم الأصل للفرع عند اتحاد العلة فيهما، والشطر الآخر الذي نفى التقيد بالقياس أو عدم اعتباره أو لقيام الدليل على النهي عن العمل به قال بإستيعاب النصوص للحوادث إذ أنها تصلح أن تكون قواعد كلية وعمومات.
والظاهر ان النزاع بينهما صغروي وعلوم القرآن أعم وأشمل من الحوادث وقادرة على إستيعابها من غير اللجوء إلى آلة علمية مختلف فيها وسواء إتحدت الآلة والواسطة أو تباينت فان الآية القرآنية تمنع بمقوماتها الذاتية الخروج بنتائج متباينة أي أن عناصر الترجيح والحصانة موجودة في القرآن نفسه، وتمنع من الشطط والزلل والزيغ وهذا من الإعجاز الغيري للقرآن.
لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معاذاً عندما أرسله إلى اليمن بالرجوع إلى السنة إذا لم يجد الحكم في الكتاب بأن في السنة زيادة على ما في الكتاب بالإسناد عن أبي عون الثقفي عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ كَيْفَ تَقْضِي قَالَ أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( ).
ولكنه نوع تفصيل وبيان وليس زيادةوذكر في الحديث أيضاً تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ في قوله باجتهاده بالرأي، ونوقش الحديث أيضاً من جهة السند فهو مرسل ورواية الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة رواه عن إناس من أهل حمص، وهو مجهول ولا يعرف له حديث آخر غير هذا الحديث.
سيبقى علم التفسير باباً رحباً للعلماء وللمسلمين عامة لينهلوا من علوم القرآن، يقتطـف العلماء الثمـرات العلمية منه، يغوصـون في بحار حكــمه وعــجـائب آياتـه ليقدموا إلى الأمة والأجيال المتعاقبة من المسلمين فيض علومه وما يتضمنه وماجاء به من الأوامر والنواهي والمواعظ والأحكام.
لقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام انه قال: “خبر تدريه خير من ألف خبر ترويه”( )، وافعل التفضيل لا يمنع من الثواب والنفع في المفضول والمرجوح من طرفي التصديق ولكنه يبين المائز بينهما موضوعاً ومحمولاً واثراً.
الخوارج حينما خرجوا على الإمام علي عليه السلام قالوا: (لا حكم إلا الله) قال علي عليه السلام: (كلمة حق أريد بها باطل)، وقال عليه السلام: (أيها الناس أني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشي، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم).
وقيل المراد بالصلاة هنا القراءة لأنها جزؤها، والأرجحهي الفريضة العبادية التي يجب أن يتخذوا منها سبباً للإمتناع عن الفحشاء والمنكر والفساد.
لقد إختلف هل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيّن كل آيات القرآن أو أنه بيّن بعضها دون البعض، قال جماعة (انه لم يبين إلا الشيء اليسير جداً وانه لم يتجاوز آيات قليلة تعد) ومنهم السيوطي، وإستدل على ذلك بقول عائشة: ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفسر شيئاً من القرآن إلا آيات تعد علمه اياهن جبريل(1).
وقيل ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ما في القرآن من المعباني وان الصحابة كانوا إذا تعلموا بعض آيات القرآن لم يتجاوزوها حتى يعلموها ويعملوا بها، فتعلموا القرآن والعلم به والعمل به.
ولكن البيان قد يكون فيما أشكل عليهم وما سأل المسلمون عنه أيام النزول وعهد النبوة ولأن القرآن نزل بلغة العرب، وظاهره معروف عندهم بمفردات اللغة وتركيباتها ويساعد ذلك على معرفة أسباب النزول، والسنة ظهير حاضر لتفسير القرآن.
والبحث في القرآن تفسيراً واستنباطاً بل وقراءة إعزاز لمقامه الكريم وإقرار بفضله ومنزلته ككتاب منزل وحضور سماوي دائم على الأرض وفيه غاية الإكرام للإنسان والأرض، فهو سفير السماء تشرّف النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستقباله وتلقيه ليكون هبة لأهل الأرض والله عز وجل إذ أنزل رحمة وآية فإنه تعالى أكرم من أن يرفعها، والقرآن خير شاهد على ذلك في بقائه إماماً للناس إلى يوم القيامة وقائداً إلى الجنة.
والتحقيق في كنوز القرآن إرتقاء ومادة في العلوم الفقهية والفلسفية والكلامية ويمكن ان يقال ان تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن على قسمين عام وخاص، فالعام هو سنته صلى الله عليه وآله وسلم فكل سنته تفسير للقرآن لذا ورد في وصف أخلاقه أنها قرآن، وخاص وهو الذي يكون موضوعه آية او آيات قرآنية، وهذا أيضاً ثروة حتى من جهة الكم والمقدار.
نسأله تعالى ان يتخذ المسلمون التفسير طريقاً لمعرفة السنة وفيه دخـول مباحث وأبواب جديدة في علم التفسير، وإظهارلضروب من إعجاز القرآن، أي أننا نزداد قوة ومنـعة بظــهور وظائف مستحدثة للقرآن والإستدلال به، حينما يختلف المسلمون يرجعون إلى القرآن والكل مسلم بهذا ومتفــق عليه , وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وبما أن القرآن ذو وجوه يرجع إلى السنة لبيــانه وتفسيره، وهذا لا يتعارض مع الرجــوع إلى القرآن في بيانه للسنة ومعرفتها وعرضها عليه ، خاصة مع الإلتفات إلى قطعية الصدور في القرآن وظنيته في السنة.
والإجماع على تفسير القرآن بالسنة وفيه دعوة لإيجاد نص قرآني لكل حديث صحيح السند أو حسنه بل والضعيف منه إذ ان هناك تبايناً بين الضعيف والموضوع، وضعف أحد رجالات السند يقويه عمل المشهور، على المشهور بين الفقهاء، وهنا نطرح علماً جديداً وان كان موجوداً في سيرة الفقهاء والعلماء ولكن لا على نحو الموضوعية المستقلة هذا العلم هو إعتبار علم التفسير ووجود أصل الحديث في القرآن.
وبلحاظ علم التفسير أي أن وجود أصل للحديث في القرآن يكون نوع توثيق له، وأصل عمل المشـهور، وقيل: رب مشهور لا أصل له، ورب متأصل ليس بمشــهور، وهذه المقولة قد تكون صحيحة فيما ليس له أصل من القرآن للملازمة بين القرآن والسنة، فالذي تجد له أصلاً في القرآن يخرج بالتخصص.
وقد تجد قولين متعارضين كلاً منهما يدعى عليه المشهور، أو الإجماع المسمى إصطلاحاً بالإجماع المركب أو ان التحقيق أحياناً لا يثبت دعوى المشهور لكثرة القائلين بالخلاف، أو لكثرة من ترك المسألة، ولم يتعرض لها وهو أعم من التقرير.
وهذا كله لا ينسينا التقيد التام بصحة التفسير وقواعده وأحكامه وعدم الإستناد إلى القول الشاذ والمخالف. إن تفسير القرآن بالسنة وهي المصدر الثاني للتشريع لا يمنع من تثبيت السنة بالقرآن وهذا علم جديد سـتظهر بركاتـه والمنافع والثمرات منه، وبذا يصبح علم التفسير باباً لمعرفة السنة وصحتها سنداً ودلالة من غير التعرض لأصل الأحاديث الموجودة بمسانيدها لإحتمال أن يكون هناك قول آخر مغاير يؤكد صحتها.
وكان التفسير في القرنين الأول والثاني للهجرة النبوية المباركة أي في عصر ما بعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى والتابعين وتابعي التابعين مبني في الأساس على المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلموأهل البيت والصحابة وكانوا يتحرجون من القول بالرأي مخافة الخطأ والزلل، مع إيلاء عناية خاصة للجانب اللغوي وعدم التوسع فيه، أي لا يؤخذ منه إلا ما يفيد تقريب المعنى وبيانه لغة مع اعتبار الشعر شاهداً ودليلاً ومرشداً للمعاني اللغوية لمفردات وكلمات الآيات القرآنية.
ومع إستقرار الممالك والمجتمعات الإسلامية ونمو ونشاط بعض المؤســسـات العلمية والجهود الشخصية لنفر من العلماء فكان هناك تفســـير لآيات متفرقــة محــل إبتــلاء , ويريد المسلمون البيان والتفصيل والسياحة في دلالاتها.
وألفت كتب في غريب القرآن ومجاز القرآن ومشكل القرآن ولم تصل إلينا كلها لفقد بعضها وربما لضم بعضها إلى غيره من المصنفات، فمثلاً ألف أبو عبيدة المتوفي سنة 210هـ كتاباً في مجاز القرآن والفراء المتوفي سنة 207 هـ في معاني القرآن وهما مما توارثه المسلمون وإلى زماننا الحاضر.

التفسير بالرأي
من الإعجاز الغيري للقرآن حصر التفسير بالرأي وحكمه كما يتجسد في موضوعه إعتبار السنة النبوية الشريفة في الميادين العلمية للمسلمين وكيف أنها المرتكز والأصل الذي تتفرع عنه العلوم القرآنية وغيرهـا مما يصــلح أن يكون مصــاديق ومفاهيم للتفســير، لقد ورد بطرق إســناد مختلفــة عن النبي صـلى الله عليه وآله وسلم:”من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار”( )، فكان لهذا التحذير والذم أثر،واثره متصل إلى زمانـنا ســاهم في بلــورة قواعـد كلية لعلم التفسير وما يجب ان يخرج منه.
والتفسير بالرأي هو الأخذ بظاهر اللفظ والإجتهاد بالرجوع إلى العقل الأمر الذي يحتمل الصواب والخطأ إذا لم يكن راجعاً إلى السنة واللغة وما يدل عليه من التقييد والتخصيص والبيان الأفضل، والإجتهاد له معنى لغوي ومعنيان إصطلاحيان أما في اللغة فهو بذل الوسع والطاقة ومنه الدعاء وعزتك بلغ مجهودي، وفي الاصطلاح: إستفراغ الفقيه الوسع ليحصل له ظنٌّ بحكم شرعي؛ وبذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال( ).
وهو عند بعض المتقدمين مصدر من مصادر الحكم الشرعي والفتوى وبدل عن النص عند غيابه أي بالرجوع إلى العقل والرأي لذا ذم الإجتهاد بهذا المعنى في أقوال وشطر من علماء الإسلام.
ولعل بعضاً من القائلين بعدم حجية ظواهر القرآن خلطوا بينه وبين التفسير بالرأي أو أنهم احترزوا من الوقوع في التفسير بالرأي ولكن الإختلاف بينهما كبير إذ أن التفسير بالرأي تأويل لما هو مشهور، وبيان الرأي فيه الأمر الذي يحتمل الزلل والخطأ.
ومن المتقدمين الذين ذموه السيد المرتضى (355 – 436) هجرية، الذي قال في الذريعة: ان الإجتهاد باطل، أما الشيخ الطوسي (385 –460) هجرية فقال بانه محظور في الشريعة إستعماله، وقال ابن حزم: حقيقة الامر هي أنهم إن كانوا يعنون بالاجتهاد اجتهاد المرء نفسه في طلب حكم دينه في مظان وجوده – ولا مظان لوجود الدين إلا القرآن والسنن – فقد صدقوا، والاجتهاد المذكور فرض على كل أحد في كل شئ من الدين، فهو قولنا، وإن كانوا يعنون بالاجتهاد أن يقول برأيه ما أداه إليه ظنه،فهذا باطل لا يحل أصلا في شئ من الدين، وإيقاع لفظه الاجتهاد على هذا المعنى باطل في الديانة وباطل في اللغة، وتحريف للكلم عن مواضعه( ).
وقد يكون للكلام ظهور تصوري ينشأ من معرفة المعنى الذي وضع له اللفظ، ولكن المدار على الظهور التصديقي الذي تعتبر فيه دلالة مجموع الكلام التي قد تلتقي، وتتطابق فيه دلالة المفردات وقد تختلف عنها لما في القرآن من أسرار،وأهمية التأويل والرجوع إلى القرآن نفسه وإلى السنة في التفسير وبما يمكن تلمس الظهور التصديقي الثاني الذي يعني ما يتفضل به الله سبحانه من المقاصد السامية في تلك الآية لإستبانة القرينة والمخصص والمقيد والناسخ إن وجد.
أن العقل يدرك في الأصل بعدم صحة الرجوع إلى الظن لإحتمـال مخالفتـه للواقــع وإدراكـه الذي فيه الأمـن من العقاب، قال تعالى [إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ] ( ) فالظن بذاته ليس بحجة لذا جاءت الشريعة الإسلامية بالنهي عنه، ولم يكن دليلاً شرعياً تأسيسياً وهو ما يجعل الشارع له الحجة كخبر العدل وليس من عمل العقلاء الذي معناه الإمضاء ولو بالسـكوت وعدم نهيهم، فيقال إنه دليل إمضائي، إلا أن يكون ظنــاً معتبراً كالأمـارة مما ثبت على سبيل القطع أنها حجة فيكون حينئذ الأخذ به بالعرض وبواسطة القطع واليقين لأن القطع له حجــة ذاتيـة، لذا ســميت المعتبرة بالطرق العلمية بخلاف مطلق الظن المنهي عنه بالآيـات والنصوص، ومنها قوله تعالى [ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ]( ).
إن المعنى الاصطلاحي الثاني للإجتهاد الذي اصبح متعارفاً بين المتأخرين مختلف في موضوعه عما كان عند المتقدمين بدليل المعنى الذي وضع أو نقل له، والعـبرة بالمسـمى وليس بالاسم وبلحاظ قاعدة كلية وهي تبدل الحكم بتغير الموضوع فقد أصبح الإجتهاد يطلق على استفراغ الوسع في تحصيل الظن والحجة على الحكم بالرجوع إلى المعنى وما يقصد من هذا اللفظ وتحصـيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة، ورجوع إلى أصول الشريعة لاسيما الكتاب والسنة بحيث لو سئل المجتهد ما هو الدليل على فتواك هذه فيجيبك بالدليل من الكتاب والسنة.
وبهذا أصبح الإجتهاد من المشترك اللفظي بعد التغاير في المعنى الأمر الذي ييسر الفعل والتمايز بينهما وإختلاف الحيثية والقرينة والمنهجية.
وما ورد على المشترك اللفظي بأنه خلاف الفصاحة والبلاغة ويقع مجملاً،وأن الرجوع إلى القرينة نوع إطالة إشكال مردود، لأن المشترك اللفظي معتبر لغة وعرفاً وهو من ذخائر اللغة العربية، ولم يسبب تعارضاً أو إرباكاً في الفهم لتعدد الدال والمدلول وإعتبار الظهور العرفي وحجية الظهور المرادي، لذا ترى العلماء ومن هو أدنى مرتبة منهم لا يخلطون بينهما خصوصاً وان كلاً من المعنيين مستقرأ، وان الأخير هو الذي أصبح سائداً ومتعارفاً في هذه الأزمنة دون الأول.
إن قوله تعالى [إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا]( ) حجة ودعوة إلى فهم القرآن بألفاظ العرب وأحكام اللغة العربية ومصاديقها، ويدل بالدلالة التضمنية على النهي عن التفسير بالرأي وترك شواهد الألفاظ، إذ أن صاحبه قد يخطأ وإذا أصاب الحق في التفسير إتفاقاً أو عرضاً فانه أخطأ الدليل والمنهج السليموبالإسناد عن بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار( )، مما يدل على عدم جواز الإجتهاد والحكم بغير حق وعلم، وهو لايتعارض مع حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إذا إجتهد الحاكم فاخطأ فله أجره، لأن القدر المتيقن من هذا الحديث هو الحاكم الفقيه الذي يعلم الحق ومنهجه وقدّر أنه على صواب والخلل في بعض لمقدمات كالبينة والأمارات وحيثيات الحكم.
والرأي مصدر رأى رأياً، والجمع آراء، والرأي: القول في الأمور وعواقبها، وما تؤول إليه عن تفكر، والتفسير بالرأي، عمل المفسر عقله في معرفة دلالات اللفظ القرآني، وظهرت إصطلاحات مرادفة للتفسير بالرأي مثل التفسير العقلي، والتفسير الإجتهادي.
وقد يدخل الرأي في علم التوحيد فيسمى هوى وبدعة، وعلم الفقه فيدخل به القياس الذي ليس له أصل وعلم التفسير والرأي فيه هو القول عن جهل ومن غير علم .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا( ).
ومن المعاصرين من قال بأن التفسير بالرأي يكون مقبولاً إذا توفر بمن يقوم به:
الأول: العلم باللغة العربية علماً سليماً لكي يدرك معاني التصريف البياني في القرآن.
الثاني: ألا يخالف التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصيرورة التفسير بالرأي حينئذ من الإجتهاد في مقابل النص , فلا يصح
الثالث: ألا يتعصب لفكرة أو مذهب وان لا يخضع القرآن لما يتعصب له , ليكون تفسيره خالياً من الهوى.
ولا يصح النعت بالرأي لكل من قال بالقرآن فلابد من التمييز، الرأي هو الإجتهاد بالرجوع إلى العقل من غير رجوع إلى السنة والدليل النقلي وتأويل ما هو مستور وبيانه بما يحتمل الصحة والخطأ، ولكن إعتبار العقل وإتخاذه والنظريات التأريخية والإجتماعية والإقتصادية آلة ووسيلة وغاية للتفسير لا يدل على أنه من التفسير بالرأي، وكذا نتائج العلوم الثابتة وأحوال العصر ومتطلباته لاسيما في هذا العصر عصر الأبحاث العلمية العلوم التقنية والمعلوماتية، مما يملي علينا أعطاء أولوية وعناية إستثنائية للدراسات التي تظهر الوجه العلمي المشرق للقرآن، ويمكن القول بأن هناك كبرى وصغرى:
الكبرى: القرآن مصدر العلوم ومنبعها.
الصغرى: العناية بالعلوم في هذا الزمان متشعبة.
النتيجة: يجب أن تتشعب علوم القرآن نفعاً للناس وإبرازاً لعلوم القرآن، ومواكبته للعصر.
لا يعني هذا القول تحميل الآيات القرآنية أكثر مما يجب بل إنه الإنتفاع الأمثل والمتيسر من تلك الآيات والعلوم، إذ أن العلوم الإنسانية في حركة إرتقائيـة مستمرة لا يبـدو عليها الوقوف والسكون ولكن لا يعني أنها غير موجودة في القرآن بل أنها موجودة فيه جملة أو تفصيلاً، لقد وردت الآيات الكونية والإرشادات العلمية في القرآن في الجملة وظلت باباً للحث على طلب العلم، وهو لا يمنع من الإستنباط العلمي، كما في قوله تعالى وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، مثلاً وهو بشارة وإخبار عن وجود العلاج متعقباً للمرض , وحث على البحث وبذل الوسع لإكتشافه.
ومن الزوائد التي عالجها علم التفسير بعض الأخبار التي تسمى بالإسرائيليات، ومردها إلى ولوع بعض الوعاظ ورجال التفسير بأخبار الخلق ونشأة الوجود وبيان الوقائع الكبرى التي غيرت مجرى التأريخ الإنساني والخلط بين الأخبار والحرص على إسماعها بدافع الحرص على الإسلام وزيادة توجيه الناس لتفاصيل وموضوعات تتعلق بالآيات القرآنية وإشباعاً لرغبات وأسئلة تفصيلية.
وربما نسب إلى ابن عباس من بعض أخبار الوضاع والقصاصين شطر من الإسرائيليات لأن كلامهم لا يقبل إلا بالنسبة لابن عباس مثلاً، ولعل فيه تقرباً إلى دولة بني العباس وهم أحفاده بنسبة الحديث في التفسير إليه، ولكن علماء التفسير بذلوا جهوداً كبيرة في تنقيح هذا العلم من تلك الزوائد.
وهناك كتاب إسمه (تنوير القياس في تفسير ابن عباس) وينسب في تأليفه إلى ابن عباس، ولكن مؤلفه على الأرجح هو محمد بن يعقوب الفيروزآبادي الشافعي المتوفي سنة 817 هجرية، ولقد ضعف العلماء سنده.
لذا ورد عن الشافعي: لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث( )، وقد ورد عن ابن عباس انه قال: ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب( ).
وكل تلك الأقوال ثروة علمية إسلامية تصلح أن تكون مرجعاً ومصدراً للدراسات القرآنية، لاسيما وأن الإنتماء والتعصب لهذا المذهب الكلامي أو ذاك ضعف، وقل تأثيره على الواقع العقائدي العام، وفي ذلك نوع تخفيف عن العلماء ليسمح بمناقشة تلك الأفكار بصيغ قرآنية علمية بعيداً عن حالات التعصب والشد، والإنحياز المسبق لفكرة أقرب إلى الواقع والرشد لابد من التجرد عن الهوى الذي يكون الزيغ ملازماً له، وإن كان التعصب لرأي أو مبدأ لا يكون دائماً في جانب الخطأ والنقص أو العيب فيه، فالقرآن لا يخلق على كثرة الرد، ومن إعجازه الغيري فضح الأقوال الباطلة في تفسيره وتأويله، وتلك خصوصية إنفرد بها من بين الكتب السماوية.
التفســير والعلوم الحديثــة لا تتنافى مــع القواعد الكلية الثابتة في علم التفسير، فهو دائماً مفتح الأبواب متعدد الوجوه كثير الثمرات، فالقرآن: (لا تنقضي عجائبه)( ).
وسوف تنقطع أيام الإنسان على الأرض، ولم يحط بعلومه بعد، بل انها من النوع التوليدي إذ ان مراتب العلم الحـادث الثلاث كلها موجودة في آيات القرآن:
الأولى: ان يكون العلم بالقوة المحصلة وهو الإستعداد وعدم العلم عما من شأنه العلم، ولو تنبه لها فيما بعد كانت معلومة بالفعل.
الثانية:كونه بالفعل على نحو الإجمال كما لو كان في حوزته أمر بسيط هو مبدأ التفاصيل.
الثالثة: ان يكون تفصيلاً بحيث تكون أجزاؤه المنفصلة بعضها عن بعض ملحوظة ومعلومة بالفعل وليس بالقوة فقط.
إذ أن علمنا حصولي وليس حضورياً، لأنه يتوقف على آلة وهو عبارة عن حصول الأشياء والحوادث في القوى المدركة لماهيتها وصورها لا بحقيقتها الذاتية النوعية.
وقيدنا العلم بالحادث ليخرج القديم وهو علم الله تعالى وهو علم حضوري أي أنه لا يتوقف على آلة فجميع الأشياء والمعلومات حاضرة عنده تعالى.
والعلـم الحادث هو الـذي وجد بعد عدم وهو علوم الخلق من الناس والملائكة والجن وغيرهم , قال تعالى[عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( )، مما يدل على أن علم الإنسان أمر لا حق له وليس مقارناً مخلقه.
وينقسم العلم إلى قسمين:
الأول: ضروري.
الثاني:كسبي نظـري.
ويمكن القول بأن هذا التقسيم مستقرأ وكل علم حدث غير مقدور للعالم به، نفيه عن نفسه او الإنفكاك عنه ولا يحتاج في حصوله إلى كسب وفكر وواسطة فهو الذي يسمى ضرورياً، ومن الضــروري العــلم الذي أوجده الله عز وجــل عند الإنسان من غير كســبه ولم يبذل فيــه جهداً أو يسعى له في نظر وفكر أو يكون فيه إعتبار لعنصر الإختيار، ولا يستطيع دفعه أو إيراد الشبهة والشك فيه، وإن حصــر بتوظيف الحـواس والإلتفات قهراً وإنطباقاً إلى المحسوسات إذا أنه لا يحتاج إلى سبب معتبر لتوجه العقل إليه، لذا تراه يتصف بإتفاق العقلاء عليه، وعدم إختلافهم في كلياته وما يندرج تحتها من الجزئيات.
أما الكسبي فهو الذي يترشح من فعلنا ويتحصل بالنظر والإستدلال وإعمال الفكر، وعلم التفسير من الكسبي النظري الذي يحتاج في تحقيقه إلى الفكر والنظر والبصيرة الثاقبة والحجة الواضحة، ولا يحصل إلا بالجهود المتضافرة من العلماء لاسيما وان القرآن هو الكتاب الذي وحفظ بعناية وفضل الله تعالى، والعناية كما عرفها بعض المتكلمين بأنه (وجود الشيء على أتم ما ينبغي ان يكون).
وصحيح أننا لا نستطيع ان نحيط علما بمضامين القرآن وغاياته وأسراره، سواء بتعريف العلم أنه معرفة ذات المعلوم وكنهه او انه إدراكـه وتثبيـت وتصور الشيء بصورته المساوية للمعلوم عند العالم وسكون القلب إلى الشيء الموجود والإعتقاد الذي يقع على وجـه، وهذا الســكون من الأمور التشكيكية وقابل للزيادة والرســوخ، ليبقــى علم التفســير روضة فكرية وان كانت الجهود المبذولة في هذا الباب محدودة ولم تعط بعد الثمار التي تكون مرضية للأمة.
علوم القرآن وتدعو الذين تصدوا لمراتب العلم والبحث من العلماء ان يعطوا القرآن حقه في الإستنباط والتفسير والدراسة في أبوابها، وقد يكون اشـتغالنا في الفقه والأصول أكثر بمراتب كما وكيفاً من توجهنا لعلوم القرآن، يعرف ذلك بدراسة مقارنة للتفصيل والتوسع في مسائل الفقه الإبتلائية وغير الإبتلائية وكثرة الإهتمام بالمستحدث منها، ودراسة الفقه لم تكن على حساب علوم القرآن فلا تعارض او مزاحمة بينهما.
نعم هناك توجه إلى علم التفسير وعلوم القرآن يبدو في الأفق وتجسد خارجاً ببعض المؤلفات والدراسات القرآنية الحديثة لاسيما الأكاديمية منها، ومن الآيات في المقام أنك تجد إهتماماً واسعاً بموضوع تلك الدراسات وحضورها في الميدان الفكري والثقافي الأمر الذي يعكس حاجة وشوق الناس عموماً وأهل المعرفة خاصة إلى تلك الدراسات، مما يملي علينا العمل لتثويرها وتوسعتها وتعميقها وتشعب أبوابها.
لذا يجب ألا يبقى هلم التفسير محصوراً ومقتصراً على الجهود الشخصية والفردية من بعض العلماء، بل يجب ان تتوجه الجهود والطاقات على نحو العموم المجموعي العلمي المتألف من الجهات الرسمية والمؤسسات الثقافية في العالم الإسلامي وتهيئة سبل الدراسات المتشعبة ضمن كيان تفسيري واحد يشترك فيه:
الأول: اللغوي.
الثاني:النحوي.
الثالث: الصرفي.
الرابع:البلاغي.
الخامس:الشاعر.
السادس:الفقيه.
السابع:الأصولي.
الثامن:المتكلم.
التاسع:الفيلسوف.
العاشر:السياسي.
الحادي عشر:الإقتصادي.
الثاني عشر:العالم بالنفس والأخلاق.
الثالث عشر:التربية والإجتماع.
الرابع عشر: الفلك والهيئة وعلوم الفضاء.
الخامس عشر:الرياضيات.
السادس عشر:اختصاصات الطب.
السابع عشر:رجل القانون والقضاء.
الثامن عشر:الباحث في التأريخ.
التاسع عشر:الجغرافية.
العشرون:العالم بالأرض والزراعة.
الحادي والعشرون:علماء الصناعة والتكنلوجيا بأنواعها.
الثاني والعشرون: المهندس باقسامه لاسيما المستحدثة من اختصاصاتها.
الثالث والعشرون: رجال الفكر.
الرابع والعشرون: رجال الإعلام ونحوهم.
ويكون ذلك على نحو الإنتقاء والتعدد في كل إختصاص لتكون الفائدة والتحصيل أعم وأكثر، والنظر في إستبانة بعض تلك التحقيقات بلحاظ كل علم على نحو الإستقلال وبلحاظ الإجتماع والتداخل بين العلوم وهذه المرحلة أيضاً تحتاج إلى أهل خبرة يتصفون بسعة الإطلاع.
أي أن الإختصاصـي لا تنحصـر وظيفتـه بعلمه ولا يستقل بتفسيره فلابد من تنسيق وهيئة جامعة لإتحاد وتقارب تلك العلوم في ذات التفسير وموضوعه في كل آية وتداخلها مع غيرها لتكون مدخلاً لإضافات وافاضات عديدة تأتي لاحقاً من قبل المختصين وبما يناسب العلوم المستحدثة مع إدخال العلوم والتقنية الحديثة وتوظيف الحاسوب الآلي وغيره.
والقرآن رسالة من السماء والوثيقة الإلهية التي جعلها الله عز وجل ضياءً ونوراً بين السماء والأرض فملأه علماً وحكمة وجعله خزائن، وحثنا رسوله الكريم على السعي لفتح تلك الخزائن والأخذ منها بما ينفع المسلمين والناس جميعاً.
نريد منهجاً وعملاً لتفسير القرآن بصيغة المؤسسات ومنهجيتها وهو السبيل لمناسبة الواقع الفكري والسياسي العالمي وتداخل وتقارب الحضارات والأمم.
فمن آيات القرآن أنك لا تجد إنفعالاً وإعراضاً من الناس عنه، والكل يتطلع إلى علومه فمسؤولية قادة المسلمين وأهل الحل والعقد في العالم الإسلامي ايجاد وتهيئة أسباب متحركة مباركة لعلم التفسير والبحث عن طريق أكثر شمولاً ونفعاً يلائم روح العصر باظهاره لعلوم القرآن وكشف الغطاء عن بعض أسراره على نحو يدرك الناس على إختلاف مذاهبهم وتباين مشاربهم ما فيه من الإعجاز والآيات ليكونسبباً للهداية وباباً للتوسعة في آفاق الحضور القرآني في علم الفكر والإجتماع والأخلاق وغيرها.
وسيكون علم التفسير واقية وحرزاً , وأماناً للمسلمين وباب إقناع ولغة علمية يخاطب بها أرباب العقول، وتساهم في الصد عن ايذاء الإسلام، بالإضافة إلى انه سلاح عقائدي مركب ينفع في تثبيت الإيمان في نفوسنا ويسر قلوبنا ويؤكد الحقائق النظرية المتوارثة والمتسالمة من عدم نفاد خزائن القرآن، ويكون سبيلاً لإيمان الآخرين أو على الأقل دعوة لهم للهداية والإيمان.

بين التفسير والتأويل
من المسائل التي لم يتم البحث فيها مفصلاً الفرق بين التفسير والتأويل والدراسات فيها قد لا تكون على نحو القطع في التمايز بينهما وتعيين الحدود والسمات إلا على نحو الإجمال لكل منهما، وقد يصدق عليهما أحياناً أنهما إذا إجتمعا إفترقا، وإذا إفترقا إجتمعا.
وقد ورد ذكرهما معاً في القرآن ولابد ان يكون لكل منهما معنى مستقل، اذ ان الكلمة الواحدة قد يكون لها في القرآن عدة معان بحسب إختلاف موضعها من القرآن وحسب توظيف اللفظ في بعض لوازم المعنى فكيف ومادة اللفظين مختلفة وليس من دليل على انه من المترادف اللفظي.
لقد تقــدم بان كلمة تفســير في القرآن وردت مرة واحــدة بقوله تعالى وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا، أما كلمة تأويل فقد جاءت في القرآن سبع عشرة مرة منها ما يتعلق بتأويل الأحاديث أو الوقائع، ومنها ما يخص موضوع وقصة نبي الله يوسف عليه السلام ومدرسة الأحلام، ومنها ما يتعلق بالقرآن وعلومه كقوله تعالى فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.
ولعل هذا الفرق بينهما يدل على موضوعية خاصة لعلم التأويل، ويحث على البحث في خواص كل من التفسير والتأويل باتجاه التخصص، أو التحديد لضوابطه. والتفسير هو البيان وكشف المراد عن اللفظ المشكل. وأوّل الكلام وتأوّله: دبره وقدّره، ويأتي أيضاً بمعنى التفسير أو تفسير ما يؤول ويصير إليه الشيء.
لابد من فتح باب البحث والتحقيق في الفرق بين التفسير والتأويل للتداخل بينهما، وان كنا لا ننكر وجوه الإلتقاء والشبه بينهما، وظاهر الآيات القرآنية أنهما علمان مستقلان أو على الأقل أن كلاً منهما له صفات وملاك وموضوع بينه وبين الآخر عموم وخصوص من وجه وأحدهما في طول الآخر، وإعجاز القرآن واللامتناهي من علومه تمنع من وجود حدود وبرزخ بينهما.
إن بذل الوسع وتعميق الدراسات يضيق حدود كل علم منهما ويفتح آفاقاً من العلم، ويســاعد على منهجية جديدة في الدراسات القرآنية تتناسب وزمان الإختصاصات هذا، وذكرهما في القرآن ندب لتتبع مفهوم الكلمتين بمناسبة المقام وقرائن الحال وعون على بيان مميزات كل علم منهما. ولا يمنع بعدئذ إجتماعهما في كتب التفسير وكلام المفسرين. ولقد وردت أقوال في هذا الباب على نحو البيان نذكرها مع المستقرأ والمستنبط من الوجوه:
الأول:التفسير والتأويل بمعــنى واحــد، وبه قــال أبو عبيدة وأبو العباس أحمد بن يحيى وجماعة من العلماء( )، وهو ظاهر كلام صاحب القاموس أي أن التأويل مرادف للتفسير، وبه قال ابن الأعرابي ت231 هـ) وقيل: انه شائع بين المتقدمين من المفسرين.
الثاني: التفسير أهم من التأويل( )، وبه قال الراغب الأصبهاني.
الثالث: إبانة حكم اللفظ هو التفسير، وتحميل اللفظ ما يحتمله من المعنى هو التأويل.
الرابع: التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل، والتأويل رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر، وهو رأي الطبرسي( ).
الخامس: التفسير يستعمل في غريب الألفاظ كالبحيرة والسائبة والوصيلة، والتأويل أكثره في الجمل، ويستعمل مرة عاماً ومرة خاصاً، وبه قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني توفي 37هـ.
السادس:التفسير كشف المغطى، والتأويل إنتهاء الشيء ومصيره وما يؤول إليه أمره.
السابع: التفسير تعليل الظواهر وكشف الألفاظ ويكون مأثوراً مما
يفيد الإطمئنان لجهة الصدور، أو ما دلت عليه اللغة والقرائن الشرعية.
الثامن: التفسير نصوص قالها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والتأويل كل ما تطارح إليه الظن ولكن من الظن ما لا يغني عن الحق شيئاً وليس له إعتبار ولا يكون الشطر منه حجة او مقبولاً ووجهاً من وجوه التصديق إلا بالدليل والبينة.
التاسع:إختصاص التفسير بظاهر معنى الآية، أما التأويل فيقع على مراد الله ولا يتوصل إليه إلا بالسماع.
العاشر: منهم من ذهب إلى العكس من ذلك، أي أن التأويل هو ظاهر معنى الآية، والتفسير يقع على مراد الله ولا يوقف عليه إلا بالسماع.
الحادي عشر: التفسير يحتمل وجهاً واحداً في الغالب والتأويل يحمل عدة وجوه وقد يحمل التفسير عدة وجوه ولكن بلحاظ معنى الكلمة.
الثاني عشر:على القول بأن القرآن يفسر بعضه بعضاً قال تعالى[لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ]( )فهل الإستنباط من التأويل، أم من التفسير، ام منهما معاً، الأقوى الأخير لذهابنا الى المعنى الأعم والأوفى الا مع القرينة على التخصيص والتقييد.
الثالث عشر: التفسير نصوص قالها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والتأويل كل ما تطارح إليه الظن أو ما يدرك بالدراية.
الرابع عشر:التفسير تعليل الظواهر وكشف الألفاظ مأثوراً من السنة بحيث يطمئن لصحته سنداً ودلالة، فإن لم يؤثر فما دلت عليه اللغة وجاءت الشريعة بتأييده.
الخامس عشر: التأويل ما يقع مقطوعاً به، وكان مردداً بين عدة وجوه محتملة.
السادس عشر: النسبة بين التفسير والتأويل التساوي، أي يمكن إعتبارهما من المترادف المعنوي.
السابع عشر: بينهمـا عموم وخصــوص مطـلق، فالتفســير أعم من التأويل، فيتعلق التفسير بما في القرآن من علوم، والتأويل يتناول المقاصد والمضامين التي تحتاج إلى فطنة ودقة نظر كالمتشابهات والحروف المقطعة.
الثامن عشر: يتعلق التفسير بالألفاظ ومفرداتها، أما التأويل فيكون أكثر إستعماله في المعاني والجمل.
التاسع عشر: التفسير يستعمل في كتب ومواضيع أخرى غير القرآن وفي المفردات عامة، والتأويل يستعمل في الكتب السماوية.
العشرون:التفسير هو القطع بأن مراد الله تعالى في الآية كذا، والتأويل هو ترجيح إحدى المحتملات بدون قطع وبه قال الماتريدي، ولكنه لا يصلح ان يكون قاعدة كلية عامة.
الحادي والعشرون: التفسير بيان معنى الآيات وأحوال القرآن، والتأويل بيان لما يحتمله اللفظ من المعنى الذي يحتمل صرفه إليه أو هو ترجيح لأحد الإحتمالات دون القطع.
الثاني والعشرون: قيل ان التــأويـل صرف اللفظ من المعـنى الراجح إلى المعنى المرجوح مع بيان الدليل وان لم يبينه. أقول: لكن التأويل أعم من ان ينحصر بالمرجوح، بل ان توكيده على الراجح والأهم هو أصل موضوعه.
الثالث والعشرون: للتأويل معنيان، الأول: ما هو مرادف للتفسير، والثاني: ما هو نفس المعنى المراد.
الرابع والعشرون: التفسير يدرك بواسطة معرفة اللغة العربية وتركيباتها ومعانيها من حقيقة ومجاز وكناية وتعريض، أما التأويل فيدركه العقل لأنه ترجيح لأحد المعاني.
الخامس والعشرون: التفسير توضيح معنى الآية وشأنها وقصتها وأسباب النزول.
السادس والعشرون: في قوله تعالى [ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ ] قيل ان تفسيرها لزوم الإتيان بالصلاة والإمتثال لأمر الله تعالى، أما تأويلها فهي أحكام الصلاة وثوابها وعاقبة من تركها، والتفصيل بينهما ظاهر ولكن الدليل على تعلق العنوان بالمعنون يستلزم الدليل.
السابع والعشرون: ذكر ان التفســير يستعمل في كتــب ومواضـيع أخرى ومفردات عامة غير القرآن، أما التأويل فيستعمل في الكتب السماوية وليس من دليل لإثباتـه كما انه مجمــل ويتعلــق باستعمال اللفظ دون معناه.
الثامن والعشرون: قال الإمام الباقرعليه السلام: ظهر القرآن الذي نزل فيهم القرآن وبطنه الذين عملوا بأعمالهم يجري فيهم ما نزل في أولئك”( ) ، وعنه في رواية : ظهره وبطنه تأويله، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد، يجرى كما يجرى الشمس والقمر، كلما جاء منه شئ وقع قال الله تعالىوَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.
قال تعالى [انَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( )، وقد جاءت قصة فرعون وموسى وغرق فرعون وجنوده ونجاة موسى وبني إسرائيل عبرة وإنذاراً للكفار قريش من التعدي , وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فلم يتعظوا، وساروا بجيوش عظيمة من مكة إلى المدينة، فأنزل الله ملائكة لنصر المسلمين , قال تعالى[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )، التأويل أيضاَ تفسير ولكن يتصف بالدقة، والتأمل والتفكر والنظر.
التاسع والعشرون: التفسير ما يتعلق بالرواية، والتأويل ما يتعلق بالدراية، قيل(وعلى هذا فالنسبة بينهما التباين( )، ولكن النسبة بينهما ليس التباين لأن أحدهما في طول الآخر.
الثلاثون: التفسير هو بيان المعاني التي تستفاد من وضع العبارة، والتأويل هو بيان المعاني التي تستفاد بطريق الإشارة ونسبه الذهبي إلى مشهور المتأخرين، ولا دليل عليه لموضوعية ما تؤول إليه حقيقة اللفط والشئ والمقاصد من اللفظ في علم التأويل.
الحادي والثلاثون: التفسير هو المبين من الله ورسوله، ولا يحث الإجتهاد المخالف للنص فيه، والتأويل: ما أستنبطه ويستنبطه العلماء من الخطاب وفحواه من منطوقه ومفهومه بما لايخالف الكتاب والسنة.
الثاني والثلاثون: التأويل صرف الآية إلى معنى يوافق ما قبلها وما بعدها بطريق الإستنباط، وبما تحتمله الآية.
والتأويل في الأصل الترجيح، وهو في الإصطلاح صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المعنى موافقاً للكتاب والسنة مثل قوله تعالى وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ، يكون الصبر بمعناه الحقيقي تفسيراً، أما في التأويل فيراد منه الصيام.
ولا يختلف إثنان بأن التفســير والتأويل يســيران معاً بإتـجاه سبر أسرار القرآن والكشف عن كنوزه، والعلماء يجتهدون كل حسب إختصاصه بإستخدام خزائنه سواء صدق على فعلهم انه تفسير أو تأويل، ولكـن الحكمة تقتضي السعي للفرز بين العلمين لتحقيق نتائج أفضل وأعم وأشمل. إذ أننا في عالم ينشطر به العلم الواحد إلى عدة علوم واختصاصات وما يكون قسماً يصبح فيما بعد مقسماً، والفرع يكون أصـــلاً وتتـفرع منـه عــدة عــلوم فكـيف وقد ذكــرهما الله على نحو التعدد.
ومن المتسالم عليه بين المسلمين ان باب التأويل يختلف ولو على نحو الموجبة الجزئية عن علم التفسير ولكل منهما أحكامه، ولا يضر بتلك الحقيقة إختلافهم في تعريف وتحديد صبغة وناهية كل منهما.
ونحن نطرح بعض التساؤلات:
الأول: لماذا بقي هذا الإختلاف غير واضح المعالم إلى الآن.
الثاني: لماذا لم يتم التوصل إلى وجه أو عدة وجوه مناسبة جمعاً بين الأقوال أو بعد مناقشتها وطرح غير المناسب أو المشترك.
الثالث: ما هو دليل ومدرك كل قول من الأقوال المتقدمة.
الرابع: ترى ما هي حجية كل من التفسير والتأويل.
الخامس: لو دار الأمر في بيان المقاصد السامية في الآية وبعد الإتفاق على ضــابطة معينــة هل هـو من التفسير أو التأويل فماذا يقتضي الأصل.
السادس: هل بذلت جهود جدية في بلورة حقيقة التباين والإختلاف بينهما على صعيد البحث والإستنباط، وهل الخلاف صغروي ويتعلق بالعنوان دون المعنون، أم لابد من إعتبار هذا الاختلاف بينهما في الدراسات القرآنية.
السابع: دراسة النسبة بحسب الآيات القرآنية المتعلقة بهما أو غيرهما.
الثامن: دراسة النسبة بينهما في السنة الشريفة.
وفي الإتقان عن ابن حبيب النيسابوري فقال(قد نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه)( )، وفيه إشارة إلى الإختلاف بينهما وموضوعيته بل وأهميته في علم التفسير، ووظيفة الذين يتولون التفسير ليست معرفة الفرق بينهما، بل الإلتفات إليه في مباحثهم ومؤلفاتهم فان الفرق بينهما وحده ثروة وباب من أبواب إعجاز القرآن.
وعلم التفسير أخص من علم التأويل الذي يعتبر أعلى مرتبة من التفسير والكشف على الأظهر.
أما على القول بأن التفسير يكون بحسب اللفظ وكشف معاني القرآن، والتأويل في الغالب يكون في الجمل وموضوع الآية يكون التفسير أعم من التأويل.
وروي عن عبد الله بن عباس انه قسم وجوه التفسير الى أربعة أقسام: (تفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تعرفه العرب بكلامها، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعرفه إلا الله عز وجل، فأما الذي لا يعذر أحد بجهالته فهو ما يلزم الكافة من الشرائع التي في القرآن وجمل دلائل التوحيد، وأما الذي تعرفه العرب بلسانها فهو حقائق اللغة وموضوع كلامهم، وأما الذي يعلمه العلماء فهو تأويل المتشابه وفروع الأحكام، وأما الذي يعلمه الله عز وجل فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيام الساعة)(1).
ولا يتعلق موضوع التفسير بمن يقوم بتفسيره وبيانه فقط، بل يشــمل أيضاً من يفســر له، فالأمة تحتاج على نحو العموم المجموعي والنوع إلى التفسير على نحو أوسع وأعم وأكثر شـمولية كي تنهل كل فئة ومرتبة وطائفة منه ما تحتاج إليه في ميادين الحياة وأسباب النجاة في الآخرة بالإضافة إلى الحاجة النفسية لعلم التفسير ذاته أي اننا نحتاج إلى الإحاطة به كتفسير وعلم له منزلته الرفيعة إعتباره في حياة المسلمين.
ولم يترك العلماء الذين تصدوا لتفسير القرآن تأويل الآية إذا كان لها تفسير وتأويل، وأن التداخل بينهما كان ظاهراً وخفياً في كتاباتهم وأقوالهم، ووجود موضوع أصبح متعارفاً عند المسلمين وهو طبقات المفسرين وعدم وجود موضوع إسمه طبقات المأولين لا يعني غياب علم التأويل وأهله بل انه داخل في علم التفسير للغلبة والشياع والإشــتراك، ولكن الذي نرجوه هو استبانة واظهار استقلال كل منهما في مناهج ومباحث وثمرات علم التفسير بحيث يلتفت الباحث إلى موضوعية كل منهما ويأخذه بعين الاعتبار ويعطيه حقه، وبذلك يكون علم التفسير قد حقق ارتقاء وبلغ مراتب ودرجات تنتفع منها الأمة والأجيال القادمة ويسلط أضواء مباركة على ما في آيات القرآن من الكنوز.
وقال الامام علي عليه السلام : “وإن القرآن ظاهره أنيق ، وباطنه عميق , لا تفنى عجائبه, ولاتنقضي غرائبه, ولاتكشف الظلمات إلابه”( ) .
ويدل الحديث على سعة علم التفسير وكثرة وجوهه , ولا يمنع ان يراد من التفسير ما يشمل التأويل بالمعنى الأعم وليس المعنى الأخص الذي لا يعلمه الا الراسخون في العلم وقد يكون الإتحاد بين التفسير والتأويل لغوياً وظاهراً.
وعن ابن عباس: (الذي يقرأ القرآن ولا يحسن تفسيره كالأعرابي يهذ الشعر هذاً)، أي ان للتفسير آثاراً على القراءة وان قراءة القرآن لا تنحصر منافعها بموضوعها بالذات.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا)( ).
القرآن نور وبيان إلهي والنور لا ظلمة فيه، ولا واسطة بين النور والظلمة، والبيان لا إبهام فيه.
النحــو والصــرف واللغـة والمعاني والبيان علوم إعتبارية ولكنها صيغ وطرق للأمر والنهي والبعث والمنع والتوسعة أو التضييق فهي كالآلات التي توظف في علم التفسير لبيان الوجوه والبطون المتعددة للفظ القرآني.
ومن أسرار القرآن ان التأويل قد يتعلق بالمستقبل وبالوقائع التي تحصل فيما بعد وتتعلق بالآية أخباراً أو نتيجة أو بداية لأمر مستحدث، وفيه شاهد على استقلال علم التأويل وإفراده بأبحاث مستقلة بعد تحديد معالمه ومصاديقه حاجة عقائدية وشرعية واجتماعية وليكون انتفاعنا من القرآن أكبر وأكثر.
والشأنية الخاصة ذات الأهمية لهذا العلم والأخبار عن العلوم التوليدية والأسرار الخفية للتأويل وموضوعيته وانه غير التفسير كما ان نيله وإدراكه ليس من السهل، وجعل قدسية ومكانة علمية خاصة لعلم التأويل ومتابعة واستقصاء وتحقيق النصوص الواردة بلحاظ صحة السند وحجيته.
وبما ان التفسير يدل لغة على الكشف والبيان، والتأويل يدل على الرجوع يمكن القول بان التفسير يتعلق بظاهر اللفظ والمراد منه بينما يكون التأويل إخباراًعن حقيقة الأمر أو صرفاً للفظ عن معناه الظاهر وبالدليل وموافقة الكتاب والسنة.
ومما لا يخلو من النفع العام عدم انحصار الأبحاث على الفرق بين التفسير والتأويل، انما تشمل الفرق بين التنزيل والتأويل. وعن بعض العرفاء: التأويل علم الحقيقة، والتنزيل علم الشريعة والطريقة.
وفي قوله تعالىسَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا قال أحد كبار المفسرين ان التأويل ما فعله الخضر وأجاب عن ما سأله موسى عليه السلام، والتنزيل ما سأله موسى عن خضر، أقول: إنما المراد بالتأويل الأسباب والغايات لما أقدم عليه الخضر من الفعل لأن فعله كان مذكوراً في التنزيل أيضاً وهو خرقه للسفينة وقتله للغلام وهدمه وإعادته لبناء الجدار.
إن قوله تعالى فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ نوع تحذير وتنبيه لتصدي العلماء لعلم التأويل ليكون فيه منع لإحتمال أن يقوم أهل الفتنة والريبة بالتأويل خلاف المقصود وفيه إشارة إلى أن باب علم التأويل سيبقى مفتوحاً.
إنها دعوة للتدبر والفهم السليم واستظهار الوجوه المحتملة وإستنباط الدروس والعبر ومضامين الحكمة في كنوز الآية القرآنية.
ولقد ورد ذكـر التأويل في قصة يوسف عليه السلام سواء كان بتأويله الأحلام أو تأويل الأحـاديث، فهــل من صلة بين موضوع التأويل الوارد في سورة يوسف والتأويل لآيات القرآن، أم أنهما يلتقيان في معناه الذي هو كشف للجــانب الغيبي وما يرمز إليه مضمونه الواقعي وأياً كان فإن ذكر التأويل في سورة يوسف يساهم في تحديد مفاهيم التأويل في الإصطلاح ويساعد على بلورة صورة أكثر وضوحاً واشراقاً له وفي خطاب السجينين ليوسف بخصوص رؤياهما ورد في التنزيل [نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
ولا زالت الدراسات في هذا العلم في بداياتها ونحن بحاجة إلى البحث فيها وإقتطاف ثماره وإستخراج كنوزه إذ أن كنوز القرآن مرتبة، وتارة تكون في آياته وأخرى في علومه، وقد يحتاج علم التفسير إلى تفسير ووضع أو العثور على قواعد كل من علم التفسير والتأويل وإيجاد الضوابط الكلية التي تساعد في التمييز والفصل بينهما وذكر وجوه الإلتقاء التي تجمعها بما يساهم في بلورة علوم جديدة وتفتح آفاقاً في كل منهما من غير تقييد للعلماء في هذا الباب لأنه أكبر وأوسع من أن تحيط به قواعد، ولكن تلك الضوابط عون وضياء للإرتقاء في علوم التفسير.
ما يحتاج إليه المفسر
التفسير من أشرف الإختصاصات، وأكثرها مشقة ومسؤولية ونفعاً وعليه تبتنى الكثير من العلوم وكان الفقهاء يسمون في الصدر الأول بالقراء لموضوعية قراءة القرآن في الفقه والإستنباط والفتوى، وحاجة المفسر عبارة عن التأهيل العلمي وإيجاد الملكة التي يمكن معها ولوج العلم الزاخر ومنها:
الأول: معرفة علوم اللغة وقواعدها الكلية في أبواب النحو والصرف والبلاغة بما يساعد على فهم الآيات، وإستظهار جوانب من إعجاز القرآن في هذا الباب كوجوه الإعجاز البلاغي.
الثاني: معرفة أخلاق وأعراف العرب مطلقاً وأيام التنزيل خاصة.
الثالث: معرفة أحوال أهل الكتاب والمشركين في عهد الرسالة وما قبله.
الرابع: معرفة أسباب النزول لفهم الآيات.
الخامس: قوة الفهم، والقدرة على الإستنباط وإستحضار المناسب من النصوص والوقائع.
السادس: الإلمام بعلم الناسخ والمنسوخ، فهو آلة وعون على التفسير بل حاجة كما مبين في باب النسخ.
السابع: ان يكون محيطاُ بتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن, مع قدر مناسب من الأقوال الواردة في التفسير.
الثامن: التفرقة والفصل وحسن الجمع بين المحكم والمتشابه، وقوله عليه السلام: المحكم ما يعمل به والمتشابه ما أشتبه على جاهله وتقييد الإشتباه في الحديث بجاهله يدل في مفهومه على إعتبار التمييز بين المحكم والمتشابه في صفات العالم بالتفسير ولزوم ومعرفته الضوابط والأسس والقواعد الأساسية لكل منهما.
التاسع: الرجوع إلى تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن وكذا تفسير الصحابةوالأئمة والتابعين لكل منهما[وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ]( ) فالإستعانة بالنصوص الورادة عن المعصوم حاجـة وسلاح وطـريق مبارك يؤدي إلى سلامة التفسير واستقامة المعنى كما يحول دون الخطأوالزلل ومافي آيات القرآن من مقاصد سامية هادفة يمكن إستثمارها في باب الإعجاز والإنتفاع الأمثل.
العاشر: النظر إلى الآية على نحو الإطلاق وعموم التعلق إلا ما خرج بالدليل.
الحادي عشر: التجرد عن الهوى والعصبية وعدم جعل الإنتماء المذهبي هو المبنى والمرتكز في تفسير الآية.
الثاني عشر: إحراز ملكة الورع ولباس التقوى وأخذ الحائطة للوظيفة النوعية شرعاً والحذر من الشطط والزيغ والعصيان.
الثالث عشر: ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : فما علمتم منه فقولوا، وماجهلتم فَكِلُوه إلى عالِمِهِ( )، وهو دعوة إلى رجل التفسير ان لا يتردد في اعلان مواطن تخلفه وقصور إستيعابه , أو على الأقل لا يخوض إلا فيما يعلمه من ظواهر القرآن أو بواطنه ولتستمر مسيرة التفسير في إستخراج كنوزه وفق أسس سليمة من غير إرباك إجتناباً وإبتعاداً عن القول بغير علم.
الرابع عشر: مما عليه الإجماع والوجدان ان عجائب القرآن لا تنقضي ومن عجائبه سبقه للزمان وما فيه من العلوم وفقه الشريعة منها.
الخامس عشر: الإبتعاد عن الوهم والخيال في علوم التفسير والإستنباط.
السادس عشر: إعتماد تفسير القرآن بالقرآن أي ان النظر إلى الآية محل البحث وتناولها لابد ان يكون بلحاظ وإستحضار الآيات القرآنية الأخرى التي تتصل معها في النظم وتلك التي تشترك معها في الموضوع وان كانت في سورة قرآنية أخرى.
السابع عشر: إعتبار قانون وهو إنعدام الفترة في الوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( ).
الثامن عشر: معرفة المكي والمدني لفهم الأحوال السائدة وغاياتها السامية ومنها الوعيد في المكية والتشريع في المدنية كما انه يساعد في معرفة علوم القرآن الأخرى.
التاسع عشر: عدم الإحتجاج بالمنسوخ ولا بالمتشابه خطأ أو تعصباً لرأي معين، والإقرار بالخطأ خير من البقاء عليه، والغاية عند المفسر يجب ان تكون تعظيم علوم القرآن كما انه في الواقع لا يكون لرجل التفسير أو لقوله شأن إذا لم يكن موضوعاً ومحمولاً تعظيماً للقرآن واحياء لعلومه.
العشرون: عرض أقواله في التفسير على ما عند المسلمين من تراث في هذا الباب فقد تجـد قولين متباينين كلاً منهما لفقيه ولكنك من النادر أن تجد تعارضاً في أقوال المفســرين لوحدة الموضوع ولأن أحدهما يكون عوناً للآخر ومن باب الزيادة والإضافة والتنقيح والتحقيق والتوكيد والبيان.
الحادي والعشرون: معرفة علوم البلاغة من المعاني والبيان والبديع، وعلم المعاني كأصول وقواعد تعرف بها أحوال الكلام العربي التي يكون بها مطابقاً للحال بما يبين الغاية والقصد كالإيجاز مع الفطن ملائمة لحاله وإستغناء عن الزائد، والتفصيل والإطناب مع الجاهل، فلو عكس كان الكلام مخالفاً لأصول البلاغة ولبان الملل في الأول والخلل في الثاني، وتعتبر قواعده حرزاً من الوقوع في الخطأ في تأدية المعنى الذي يريد المتكلم ايصاله إلى ذهن السامع.
اما البيان فهو لغة الكشف والإيضاح , وفي الإصطلاح قواعد لإيراد المعنى الواحد بطرق متعددة وصيغ من الكلمات مختلفة بتوسط الدلالة العقلية في افادة ذات المعنى , ووظيفة علم البيان إجتناب اللبس والتعقيد المعنوي.
والبديع لغة المخترع الذي يأتي به على غير مثال سابق , وفي الإصطلاح علم تعرف به الوجوه والصيغ التي تضفي على الكلام حسناً وتزيده جمالاً , والغاية من علم البديع تحسين وبيان الكلام وان جاء التحسين بالعرض .
وبين البلاغة والفصاحة وفق الإصطلاح المنطقي عموم وخصوص مطلق، فالفصاحة تتعلق باللفظ دون المعنى بينما تتعلق البلاغة باللفظ والمعنى معاً.
إن إتقان علوم البلاغة أو الإحاطة الإجمالية بها مدخل لمعرفة أسرار الكلمة واللفظ العربي وأسرارتركيب الآية، وهو طريق لإستظهار القرآن وقد أعطاه جمع من المفسرين الأولوية في إعجاز القرآن، أما قولنا في هذا الباب فهو ذو شعبتين:
الأولى:ينبسط إعجاز القرآن على علوم عديدة بعرض واحد وتبيان في بعض المصاديق منها العلوم البلاغية.
الثانية: نحتاج علوم البلاغة في باب إعجاز القرآن , وفي بيان مضامين وأسرار الآيات القرآنية التي تخص العلوم الأخرى في الفقه والأخلاق والتأريخ وغيرها.
الثاني والعشرون: معرفة علم القراءات وكيفية النطق بالفاظ القرآن لأن معرفة القراءة تعين المفسر على معرفة القصد , والمعنى والمراد من الآية وقراءة السلف , وما إشتهر بين الناس من القراءات والإحاطة ولو على نحو الإجمال بالقراءات السبعة التي أصبحت أصولاً للقراءة عند الجمهور وعموم المسلمين.
الثالث والعشرون: معرفة علم الكلام والذي قد يسمى بعلم أصول الدين، وعلم العقائد للإستدلال على وجود واجب الوجوب , والقواعد العامة لعلم التوحيد والنبوة.
الرابع والعشرون: معرفة علم أصول الفقه وهي القواعد التي يستنبط منها الحكم الشرعي وتكون طريقاً وآلة إلى الفقه.

فلسفة القراءة
قـال تعــالى فَــاقْـرَءُوا مَــا تَيَسَّـــرَ مِـنْ الْقُرْآنِ، وقال تعالى وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً، ومقتضى الجمع هو القراءة مع الترتيل.
يقال قــرأ يقــرأ وقــراءة: أي نظر في رسم الحروف ليعرف ما تعنيه من معاني الألفاظ ومادة كل كلمة، فكلمة قـرأ تتكون من الحروف ق، ر، أ.
وقال ابن كثير: تكرر في الحديث ذكر القراءة والإقتراء والقارئ والقرآن، والأصل في هذه اللفظة الجمع، وكل شيء جمعته فقد قرأته.
ويقال قرأت أي تفقهت، وتقرأ أي تنسك، وقرأ وأقرأه إياه: أبلغه. وإذا قرأ الطالب القرآن والحديث على الشيخ يقول: أقرأني فلان أي حملني على ان أقرأ عليه.
وقال ابن منظور: وفي الحديث أكثر منافقي أمتي قراؤها، أي أنهم يحفظون القرآن نفياً للتهمة عن انفسهم وهو معتقدون تضييعه، وكان المنافقون في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الصفة)(3).
وبغض النظر عن سند الحديث وضعفه وارساله يمكن مناقشته أيضاً دلالة وتفسيراً، إذ ان الخبر يفيد في ظاهره الإطلاق الحضوري والطولي والزماني ولم يأت بلغة التبعيض كما لو قال من قرائها، وظاهر معناه مغاير للقصد , ولعل المعنى ذهب إليه ابن منظور , وأن القراء ليسوا أكثر نفاقاً، والكل متفق على منزلة القراء والفقهاء وعظيم وظيفتهم في الإسلام، والأكثر في مقابل الأقل، وجاء بالإضافة إلى الأمة مما يعني عدم حصره في أيام النبوة.
والحال ان القراء في الأعصار الإسلامية معروفون بالجد والمثابرة لتثبيت آيات القرآن في القول والعمل بالإضافة إلى ان إصطلاح القراء كان يطلق على الفقهاء أيضا والقراءة جزء من وظيفتهم وما يرجع فيه الناس إليهم.
ولقد أطلق اسم القرآن على كتاب الله المجيد وكان هذا الاسم أهم أسمائه واكثرها وروداً في القرآن بعد الكتاب، فقد جاء بهذا الاسم سبعين مرة بينما لم يرد باسم الفرقان مثلاً إلا نحو ثلاث مرات مما يدل على موضوعية القراءة فيه وفي موضوع نزوله.
ووجوب إيلاء موضوع القراءة وأحكامها منزلة خاصة في الشريعة والسيرة اليومية للمسلمين يجب أن لا يكون على حساب التأويل ومقاصد الآيات وأسباب النزول فكما ان للقراءة وجوباً وندباً نفسياً فأنها مقدمة لغيرها.
ومن الأمور المهمة في هذا الباب ان القرآن حث على القراءة والتعلم، والقراءة تتناسب طردياً مع إرتقاء المجتمعات ومؤهلاتها الفكرية، وتزيد من آفاق العلم وتوسع دائرة المعلومات وهي من الأمور غير المتناهية مما يعني ان صيغ التحدي والإعجاز في القرآن موجودة إبتداءً وإسـتدامة،وتزداد مع إزدياد العلوم وأنه لا يخشاها بل ستكون مناخاً مناسباً لتثبيت آياته وهذا ما ثبت بالواقع وبالحس والإدراك والوجدان.
وأهل الإيمان والمسلمون جميعاً يحتاجون إلى القرآن إماماً وهادياً وطريقاًُ للصلاح والتوفيق في الدارين وتلك الحاجة تملي عليهم العناية به وتعاهده وملازمته وعدم التفريط به، ولكن تلك العناية على مراتب تشكيكية متعددة بل متباينة، فمنهم من يتقيد بأحكامه وحدوده، ومنهم من ضيع أحكامه ولكن حفظ حروفه، ومنهم من كان وسطاً بين هذا وذاك، ولكن تبقى القراءة القاسم المشترك والأساس الذي تنبثق منه علوم القرآن يرجع إليها الأعلى والأدنى في سلم ومراتب الإيمان والعلم.
ولعل وجوب القراءة ينفرد بها القرآن من بين الكتب السماوية الأخرى فهو الوحيد الذي وجبت قراءته كل يوم وجوباً عينياً على المكلفين وهذه مزية وفضل للقرآن على الكتب الأخرى، إذ انها دلالة على ان الله عز وجل أراد له الحفظ حتى يوم القيامة وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ، وشرفه وفضله بهذا الوجوب، ويترشح هذا الفضل على المسلمين على نحو مركب , وهو نيله لمراتب الشرف بالتلبس بقراءة كتاب الله.
وعن الإمام علي الرضا عليه السلام قال: “أمر الناس بالقراءة في الصلاة لئلا يكون القرآن مهجوراً مضيعاً، وليكون محفوظاً مدروساً فلا يضمحل ولا يجهل”(2).
وقد إعتاد الفقهاء وبتوفيق تحليل ودراسة ومناقشة الأحاديث الفقهية بتكرار واستنباط ما فيها من الدلالات , وبقيت الأحاديث المتعلقة بالقرآن تذكر من غير تحقيق رجالي وإستدلالي في الغالب، وتستلزم مجلدات خاصة متكثرة تبين إشراقات من كنوز القرآن.
وفي القراءة مسائل منها:
الأولى : جاءت القراءة بصيغة الأمر والأقوى ان الأمر يدل على الوجوب إذا لم تكن هناك قرينة تدل على الندب والإستحباب والنصوص تؤكده، كما ان العقل يدرك وجوب طاعة المولى والإمتثال لأوامره قضاءً لحق المولوية ووظائف العبودية ، إذ لم تكن رخصة منه في تركه أو جواز عدم الإنبعاث عنه، ويدل على ذلك الإجماع ونصوص عديدة.
الثانية: تعلق الحديث بالقراءة في الصلاة أعم من جعل الوجوب منحصراً بها، ويستظهر من أدلة أخرى.
الثالثة: يأتي شطر من خطابات القرآن لعمومات المكلفين يا أيها الناس) قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ]( ) وفيه وجوه:
الأول: إطلاق الكل وإرادة الجزء على المتعارف والمنصرف إليه انهم المسلمون , ولكنه خلاف الأصل وهو العموم, فلا يكون إلا مع القرينة الصارفة.
الثاني: إن الكفار مكلفون بالفروع، كتكليفهم بالأصول، وهو المختار والمشهور شهرة عظيمة عند علماء الإسلام.
الثالث: إنه بشارة لإتساع رقعة الإسلام وزيادة المسلمين وشموله بلاداً أخرى.
الرابع: بيان الوظيفة النوعية لبني آدم في المشاركة بحفظ القرآن.
الخامس: أهمية موضوع القراءة في الأرض بحيث تحتاج إلى تظافر جهود الناس جميعاً.
ولو أجريت عملية حسابية لظهر أن أكثر الكلمات تردد على وجه الأرض بعد كلمة الله أكبر هــي آيات ســورة الفاتحة بلحاظ ان كثرة التكبير وترجيحه عــدداً يعود إلى الصلاة أيضاً، ولابد من أسرار في هذه الكــثرة وهذا الترتيب بين التكبير والقراءة وكل ذلك على سبيل الإستقلال والإنفراد اذ ان التداخل والإشتراك يدل على الاعتبار الخاص لموضوع القراءة واثره وتأثيره، بالإضافة إلى ما سيأتي في الفقرة الثامنة التالية.
السادس: موضوعية القراءة بالنسبة للمستمع والسامع أيضاً سواء كان مسلماً أو غير مسلم، فكم من شخص منذ الأيام الأولى للتنزيل في مكة وإلى الآن وفي بقاع الأرض كلها تكـون قراءة القرآن سبباً لإسلامه، سواء بقراءته للآيات أو الإستماع والإنصات لها بإنقياد قهري أو سماع عرضي، والصلاة جماعة أو فراداً من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ) خصوصاً عند لحاظ القراءة فيها، وان المراد من حبل الله هو القرآن.
السابع: لو لم تجب القراءة في القرآن فلا يكون القرآن مضيعاً على نحو الدلالة المطابقية للفظ والسالبة الكلية، أو على نحو السالبة الجزئية فلا يضيع القرآن ولو حصل التقصـير اليــومـي المنبسط على أكـثر الناس لأن القـراءة في الصـلاة نـوع طريقية لحفظ القرآن تفضل بها الله سبحانه رحمة بالناس .
وطـرق حفـظ القرآن متعددة وكثيرة وهذه واحدة منها، فـقـد أراد الله تعالى أن يحفـظ القــرآن ولا يكون مضـيعاً، فلو لم يحفظ بالقرآن بالصلاة ووجوب القراءة فيها لحفظ بطرق أخرى ولا تستعصى عليه سبحانه مسألة.
وفيه بيان للحكمة في القراءة بعد إرادة الله تعالى بجعلها طريقاً لحفظ القرآن بلحاظ مشيئته تعالى وتثبيتاً لهذا الطريق وفوز المسلمين بأمور تترشح من القراءة ، من وجوه:
الأول :قيام المسلمين بوظيفة متجددة إلى يوم القيامة وهي حفظ القرآن بتلاوته يومياً، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثاني: تدبر المسلمين بآيات القرآن ومضامينها القدسية عند القراءة، وهذا التدبر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ولكنه غير متناه من جهة الكم والكيف بالنسبة للمسلمين متحدين ومتفرقين لأن قراءة القرآن واجب يومي على كل مسلم، والتدبر ملازم للقراءة على نحو الإنطباق.
الثالث:لما تفضل الله عز وجل بحفظ القرآن وسلامته من التغيير والتبديل، وإمتناعه عن التحريف في كلماته وحروفه، تفضل وأمر المسلمين بتعاهده يومياً كتنزيله، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، وليس من عمل وسعي تقوم به أمة عظيمة على نحو متصل ودائم مثل الذي يقوم به المسلمون في حفظ القرآن بقراءته كل يوم على نحو الوجوب.
الرابع: قراءة القرآن في الصلاة تكليف، ويتلقاه المسلمون بشوق وخضوع لله عز وجل، وفيه درس عبادي للناس جميعاً، ودعوة لهم للإقتداء بالمسلمين.
الخامس: قراءة المسلمين للقرآن في الصلاة باب للرزق الكريم لهم وللناس جميعاً، وواقية من نزول البلاء والعذاب، قال تعالى[قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ).
وسنعنون قانوناً مستقلاً إسمه (حفظ القرآن وطرقه)،قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) بل لعلها من وجود المانع فلا تصلح ان تكون علة تامة تلك التي تتكون من وجود المقتضي وفقد المانع.
ولقد أراد الله ان يحفظ القرآن فلابد ان يبين أسبابه وطرقه وان تعددت أو تباينت واختلفت، وفيه وجوه
الأول : كثرة وسعة طرق حفظ القرآن من فضل الله، وباب لنيل الثواب.
الثاني: القراءة واقية للمسلمين من الخسارة , وبرزخ دوم تفويت أبواب من الرحمة واللطف الإلهي، ليتضح وجوب القراءة في الصلاة وأنه رحمة وفضل.
الثالث : وجوب القراءة في الصلاة سبب لحفظ القرآن ومدخل لتدبر آياته ودراستها. ومن المتسالم عليه ان التعاهد والتذاكر في الأمر يسبب أو يساهم في حفظه على نحو العلة والمعلول، والسبب والمسبب.
الرابع : هناك نوع ملازمة ظاهرة بين الهجران والإضمحلال وبين التضييع والجهل، فهجـران الشيء يؤدي إلى اضمحلاله إلا ان يشاء الله، وتضييع باب المنفعة والعلم يؤدي إلى جهل الناس، وفي ذلك نكتة مركبة إعجازية وهي أن الإسلام يريد من الناس ألا يكونوا جهلاء وإن العلم طريق لتدبر آيات القرآن وسبيل لدخول الناس في الإسلام وان قراءة القرآن حائل دون الجهالة والضلالة, قال تعالى [وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
الرابع : من منافع الصلاة حفظ القرآن وتعاهده، فهي أي الصلاة وان كانت واجباً بالذات فإنها تحفظ القراءة كواجب عرضي.
الخامس : قراءة المسلمين للقرآن والمواظبة عليها من الشواهد بأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
القراءة في الصلاة
الصلاة عمود الدين وأهم فروع الإسلام قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
وتتضمن الصلاة واجبات ركنية وأخرى غير ركنية، والأولى: النية والتكبيرة والقيام والركوع والسجدتان معاً ومن ترك إحداها عمداً أو سهواً بطلت صلاته، وكذا في حالة الزيادة في الركوع والسجدتين مثلاً لعدم تمام الكلية القائلة بان زيادة الركن مطلقاً مبطلة للصلاة، فالنية مثلاً لا يمكن تصورها بناء على أنها الداعي فهو واحد مستمر مع الصلاة.
وعلى القول بأنها إخطارية فلا تضر زيادتها لأن الإستدامة الفعلية أقوى من الحكمية، والتكبير في بعض الوجوه على زيادته كما مبين في المفصلات من الكتب الفقهية.
والقراءة من الواجبات غير الركنية في الصلاة فهي واجب وتركها عمداً مبطل للصلاة، وكذا تغيير بعض الكلمات بل الحروف لأنها اخلال بجزء أو بشرط، فعلى القول الأول أي الجزئية فانه من إنتفاء الكل بإنتفاء جزئه، وان كان الثاني وهو الشرط فان المشروط ينعدم بإنعدام شرطه، أما لو كان الإخلال سهواً أو نسياناً فان انتبه في المحل وجب إستئناف الكلمة، ولو تذكر أو التفت بعد الدخول في الركن اللاحق وهو الركوع تصح الصلاة ولا شيء عليه، وعليه الإجماع لأصالة الصحة ولقاعدة نفي الحرج وحديث الرفع .
تنقسم الصلاة اليومية بل مطلقاً إلى قسمين: جهرية، وإخفاتية، فان قلت لماذا الإخفات في بعض الصلوات مع إعتبار موضوع القراءة؟ قلت: إن أدلة القراءة مركبة وتنقسم إلى نفسية وغيرية، وان النفسية تتعلق بحفظ المكلف للقرآن وانشغاله وجوارحه وحواسه بكلمات التنزيل وهذا يتحقق في الصلاة الجهرية وهي صلاة الصبح والمغرب والعشاء، وبالإخفاتية وهي الظهر والعصر.
أما الغيرية وهي إسماع الآخرين والخلائق المؤهلة للسمع مطلقاً وإشهادهم فهذا يتحقق بالجهرية وان كانت الإخفاتية أيضاً لا تعني عدم إسماع النفس، إذ ان مناط الجهر والإخفات ظهور جوهر الصوت وعدمه فيتحقق الإخفات بعدم ظهور جوهره وان سمعه من كان بجانبه وقريباً منه .
وهل القراءة واجب نفسي أم إرشادي، وثمرة هذا الإختلاف انه لو كان نفسـياً لوجب التعلـم حتى في حــال التمكن من الإئتمام، ولو كان إرشادياً فيسقط وجوبه مع التمكن الفعلي من الإئتمام او تلقين الغير له.
ووجوب تعلم القراءة وهي على الأقل الفاتحة وسورة واجب نفسي عيني على كل مكلف، تعييني وليس تخييرياً، فمن لا يحسن القراءة يجب عليه التعلم وان كان متمكناً من الإئتمام.
والصلاة ركن الإسلام وضرورة من ضرورياته، وعنوان وشاهد يومي على وحدته ، وهي كيان عبادي مستقل يتجدد خمس مرات في اليوم على نحو الإنفراد والإجتماع , ويدعو إلى وحدةالمسلمين ويثبتها ويرسخ الإيمانر وهي من أعظم الشواهد والمصاديق اليومية المتجددة على قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
والصلاة خير محض وفعل مركب ينحل إلى أجزاء واجبة ومستحبة ومن واجباتها القراءة، وقد لا تكون واجبات الصلاة بعرض واحد من حيث الأثر والتأثير، فالقراءة واجهة الصلاة وعنوانها العام، بها تأخذ صلة العبد بالباري منحى مباركاً إضافياً، فمع امتثاله في أداء الصلاة ووقوفه بين يدي الباري عز وجل فانه يقرأ كتاب الله ضمن هذا الإمتثال طاعة لله عز وجل ليؤكد التزامه القولي بالتنزيل، ولتختلط كلماته مع الجوارح والأركان.
وتبرز موضوعية القراءة بالنصوص والسيرة القطعية على إعتبارها في الصلاة , وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)( ) .
والفاتحة جزء من القراءة وأسنى مصاديقها المتجددة والمتصلة , إذ أن القراءة تنحل إلى أمرين الفاتحة وسورة معها، نعم تسقط السورة في حال المرض والاستعجال وضيق الوقت والخوف ونحوه من أفراد الضرورة، فيجوز حينئذ الإقتصار على الفاتحة فقط وترك السورة وعليه الإجماع والنص وقاعدة نفي الحرج.
وهذا الترخيص يدل هو الآخر على موضوعية القراءة في الصلاة بأنه ترخيص مؤقت في فرض واحد ومتعلق بأحد أفراد القراءة وهي السورة، وايضاً لا يشمل الركعتين دائماً فقد يتعلق بركعة واحدة لأننا لا نأخذ في أحكام الضرورة إلا بقدرها ومتعلقها.وعن الصادق عليه السلام: (لا بأس بان يقرأ الرجل بفاتحة الكتاب الركعتين الأوليتين إذا ما أعجلت به حاجة أو تخوّف شيئاً).
فالقراءة لها أحكامها وقواعدها وشرائطها، وزاد عليها علماء القراء التجويد والمحسنات كالإمالة والإشباع والتفخيم والترقيق والروم، وقد بينت في رسالتي العملية ( الحجة ) عدم وجوب ما ذكروه مع عدم البأس في متابعتهم وانها الأحوط في مواطن النص وما لا يكون اللفظ صحيحاً الا معه.
ويتعلق الأمر بقراءة القرآن كجنس، والتحديد بسورة معينة لا يعني تحديد القرآن بالقرآن، وقد يقال لماذا هذا التحديد وكل القرآن يصدق عليه الإشتراك في القرآنية؟ نقول: أننا نقرأ الفاتحة تعبداً للسيرة والنصوص وجزئيتها من القرآن، فالنص والإجماع حكم ويقين خارجي مأخــوذ في نوع الفرد المأمور به إذ انه تعين في القصد ولذلك أسباب وملاكات تتعلق بأمور :
الأول : ذات ســورة الفاتحة وما لها من الخصوصيات والمضامــين.
الثاني : الصــلاة ونوعـها والإمتثال الأمثل فيها .
الثالث : أداء الصلاة من حيث الوحدة والإتحاد العام الثابت المتوارث.
الرابع : المسلمون من جهة وحدتهم واتحادهــم في صــيغ الفعل والتخفيف عنهم والإمتنان عليهم بسورة معينة يســهل حفظــها ويزداد فيه الثواب.
فثواب الإتحاد في فرد القراءة غير ثواب القــراءة , وان كان المحــل واحداً بتعلقهما بســورة او آيـة واحدة وهو ايضاً باب لمنع الخلاف والشقاق في موضوع القراءة وتعدد وتشعب أحكامها , قال تعالى[وَلاَ تَفَرَّقُوا] لإرادة النهي عن الخلاف والفرقة , ومن أكثرها مبغوضة الفرقة في كيفية العبادات لذا ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال”صلوا كما رأيتموني أصلي”( )، لحث المسلمين على أداء الصلاة، ومنع الخلاف فيها .
ومن منافع القراءة:
الأول: هي باب لحفظ القرآن.
الثاني: من أهم السبل لتعاهد القراءة الصحيحة والنطق السليم.
الثالث: مناسبة وموضوع للثواب والأجر العظيم.
الرابع: طريقة لفهم أحكام القرآن.
الخامس: سلاح عقائدي سواء بمعرفة لغة القرآن أم أنها آلة علمية.
السادس: حرز وواقية من التعدي علىالقرآن وآياته.
السابع: معرفة إعجاز القرآن وبعض أسراره البلاغية.
الثامن: التقرب إلى الله والتماس أسباب رحمته وعن الصادق عليه السلام: لقد تجلى الله لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون.
التاسع: إرتقاء علوم العربية كماً وكيفاً واتساعاً وجنوداً، فأنت ترى القواعد الكلية والضوابط المستحدثة في اللغة والنحو والصرف والبلاغة بعد نزول القرآن والمأخوذة منه وكثرة علماء العربية، وشطر كبير منهم من الأعاجم الذين دخلوا الإسلام، فابدعوا، وأسسوا مدارس عظيمة في علوم اللغة.
العاشر : فيها حصــانة للنفــوس الضعيفة وتثبيت للمؤمنة وعلاج للفاجرة والأمـارة بالسوء إذ أن النفوس متغايرة الماهية والميول والأهواء فمنهـا ما هي متينـة مكينة، ومنها ما هي ضعيـفة سهلة الإختراق، ومنهـا ما تميــل بالعرض والإغواء إلى الفجــور والكفـر ومنها ما هي برزخ بينها.
والقرآن يلائم الجميع صلاحاً وعلاجاً ووجهاً من وجوه التربية المثاليــة لا يمكن ان تصــل إلى شـطر من منافعه أرقى المدارس النفســية والأخلاقيــة، بل ان ذات النفس لهــا مراتب تشكيكية تراهــا مــرة مؤمنــة متيقنــة ومــرة قانطــة مشككة، والقراءة، والقـرآن في علــومه يثبتــها في حالتها الأولى أعلاه وينــقــذها من براثن الثانية.
وهل يجب تعيين السورة قبل الشروع في البسملة أو لا يجب كجزء المبحث الكلي في جزئية البسملة من السورة أو من كل سورة أو من الفاتحة؟ الأمر الذي يبرز في هذا المسألة الإبتلائية اليومية على القول بالكبرى وهي ان البسملة جزء من السورة. وهل البسملة من الأجزاء المشتركة بين سور القرآن ؟ أم أن القراءة في الصلاة فرع اعتبار البسملة جزء من السورة.
وذكر وجوب تعيين السورة قبل الشروع في البسملة لأنها جزء من السورة لأن قراءة القرآن في الصلاة وبقصد القراءة عبارة عن التلفظ بذات الكلمات النازلة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلا بد أن تأتي بالسورة من أولها إلى آخرها بذات أحكام التنزيل، ولا يكفي قصد الطبيعي والمطلق منها. فلو قلت: قصدت مسجداً على نحو التنكير لا يكفي في مقام تعيين المسجد المقصود كما في صلاة الجمعة مثلاً.
والقول بعدم وجوب تعيين السورة عند قراءة البسملة هو الأقوى لكفاية قصد مجرد القرآنية وهو حاصل انطباقاً ونية. وان لم يعين السورة بالإضافة إلى اخبار العدول من سورة إلى أخرى. فإن المنساق منها عدم اعادة البسملة أو اعتبار تعيينها، وبكفاية القصد الإجمالي الإرتكازي مع قصد القرآنية وعدم الدليل على اعتبار أكثر منه إلى جانب قاعدة نفي الحرج، ولم يتعرض الفقهاء القدماء إلى هذا المبحث، ولم يرد فيه نص.
ومنهم من قال ببرزخ بينهما وهو لو عين البسملة لسورة لم تكف لغيرها أي لو قرأ البسملة بنية أنها لسورة معينة كالشمس ثم عدل إلى قراءة التوحيد فيجب حينئذ وفي هذا الصورة إعادة البسملة لأنها ليست جز من السورة التي عدل إليها، والأمر سهل بالنسبة لمن يقول بأن البسملة ليست جزء من السورة إلا الفاتحة، وهو مشهور المسلمين وقال الإمام الشافعي وأحمد: البسملة جزء من الفاتحة، وتجب قراتها معها، وقال الشافعي بالجهر في قراءتها، أما أحمد فقال بالإسرار بها، وذهب الإمام أبو حنيفة ومالك إلى أنها ليست من الفاتحة وتجوز قراءتها.
إن إيلاء بعض السورة في القراءة عناية خاصة يدل بالدلالة الإلتزامية والتضمنية على وجود ملاك خاص لأن الحكم فيها تعبدي، وورد فيه النص من مثل قراءة سورة معينة في فريضة مخصوصة، كما في قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى وسورة المنافقين في الركعة الثانية من صلاة الجمعة وصلاة الصبح والظهر والعصر من يومها. فمن لم يصل الجمعة ويصلي الظهر من يوم الجمعة يستحب له أيضاَ قراءة الجمعة والمنافقين. ومثل قراءة التوحيد والقدر في صلاة الفريضة عامة.
والقراءة في الصلاة مناسبة للمناجاة ، والإنقطاع إلى الله عز وجل فيها قهري انطباقي , وفي النصوص وأحكام الشريعة بعث على التقوى, ودعوة لإعتبار الإنقطاع الى الله في نيل الثواب, وحث على عدم الإنشغال ساعة الصلاة بالدنيا.
وفي هذا الباب مسائل فقهية وكلامية منها:
الأولى : جواز تكرار الآية في الفريضة وغيرها والبكاء من خشية الله والتـباكي رجــاء رحمتــه. وفي السـنة والســيرة نصــوص كثيرة تلقاها المسلمون بالإعجاب والفخر والرضا لما فيها من الصدق والإخلاص ومضامين التأديب للمسلمين والناس جميعاً،وفي الخبر عن علي بن الحسين عليه السلام أنه إذا قرأ [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] ( )، يكررها حتى يكاد أن يموت)( ).
الثانية: الأقــوى جــواز إنشاء الخطاب في الآيات القرآنية مثلاً في قوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( )، والدعاء في الآيات مثل قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) وهو لا يتعارض مع قصد القرآنية ولا يعتـبر معارضــاً أو منافـيـــاً له فليس من استعمال اللفظ في المعنى.
وللقراءة في الصلاة موضوعية في تعليم المسلمين للغة القرآن ويتولد عنه ايضاً حفظ القرآن، فكل مسلم وان لم يكن عربياً يعرف أن من واجبه قراءة الفاتحة وســورة أو شطر منها في الصلاة، وذلك الواجب باب ومدخل لمعرفة اللغة العربية وأحكامها وامكان تدبر القرآن ومعرفة وجوه من اعجازه.
وقراءة القرآن حرز ووقاية من تفشي اللهجات العامية وهيمنتها وأخذ لواقع جديد طارئ، ولقد حالت القراءة في الصلاة دون انشطار اللغة العربية إلى لهجات محلية على تعاقب السنين والأيام وخير شاهد تفشي العامية واللهجات المحلية في هذا الزمان، وما تجسده القراءة من مظاهر التصدي والردع بل والحث على الرجوع إلى العربية.
فدراسة في علم اللغات بين إنشطار بعض اللغات وإمكانإنشطار الفرع أيضاً إلا العربية فأنها باقية بالقرآن، وربما ترى العربي لا يتكلم بلغة فصيحة طيلة النهار حروفاً ولفظاً وحركة وإعراباً إلا في الصلاة وكلمات معدودات معها.
ولم تستوف البحوث الإسلامية إلى الآن فلسفة القراءة في الصلاة حقها وبيان منافعها النوعية والشخصية وما يترشح عنها من حقائق وثمرات عقائدية وأخلاقية وتربوية وإجتماعية وإقتصادية وسياسية، وما تؤديه في وحدة المسلمين ورفع الضغائن، وإحداث لغة للتفاهم، وكيف أنها دعوة للناس إلى الإسلام وحث للمسلمين على المواظبة على الصلاة والإلتزام بها، ومناسبة قهرية إنطباقية لإعلان الإيمان، وتجرد وإبتعاد عن كلام الآدميين فهي ليست تأملاً وتدبراً بالآيات فقط مع إعتبار موضوعية التدبر والتفكر أثناء القراءة، فهي إشغال مبارك للسان وهو أهم الجوارح بكلام الله بتمرين متكرر خمس مرات في اليوم ليعتاد منهج الذكر والتسبيح، وترشحه على الحياة اليومية للأفراد ليكون من مصاديق إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
والنصوص الواردة تشير إلى هذه المنافع وغيرها وتبين وجوه الحاجة في الدنيا والآخرة إلى تعلم القرآن وتعليمه , والإجماع على وجوبه كفاية. عن علي عليه السلام قال: (تعلموا القرآن فانه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فانه شفاء الصدور، واحسنوا تلاوته فانه أحسن القصص فإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند الله ألوم)(2).
وفي خبر النعمان بن سعد عن علي عليه السلام ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ينبغي للمؤمن ان لا يموت حتى يتعلم القرآن، أو ان يكون في تعليمه).
والمشــهور على عــدم جــواز أخــذ الإجرة على تعليم الفاتحة والســـور وإدعي عليــه الإجماع وعلل بانه أكل للمال بالباطل، وان لا عوض يصل إلى المستأجر، ولأن ثبوت الوجوب يجعل العمل مستحقاً لله تعالى فلا استحقاق لغيره من اجرة ونحوها، وبأن الوجوب يستلزم تجرده من المالية وخلوّه من الإجرة فيقهر عليه مع الإمتناع.
وقــد نوقشت تلك الوجوه من جهات:
الأولى: الإجماع لم يثبت تحـقــقه.
الثانية: الإجرة لم تثبت أنها من أكل المال بالباطــل لجــهــد ومشقــة تبذل في التعلم.
الثالثة: وجوب تعلم القـراءة يقع عيناً على المتعلم وليس المعلم.
الرابعة: ان تعليم الفاتحة والسورة وحاجتهما أعم من الوجوب العيني.

القراءات السبعة
من العلوم ذات الموضوعية في قـراءة القرآن (القراءات السبعة) يمكن اعتبارها علماً مستقلاً من علوم القرآن، فما من عالم يتصدى للتفسير والتحقيق في علوم القرآن إلا ويتعرض لها بالبحث والتحقيق ولو على نحو الإجمال،وظهور الإختلاف لم ينبع في تمامه من الإنتماء المذهبي وما يمليه من رأي او قول ، بل بلحاظ النصوص ومطابقتها للواقع والوجدان, وهو مركب كبرى وصغرى، فالكبرى تتعلق بمعنى ومفهوم وموضوع القراءات السبع، أما الصغرى فهي صحة القراءات السبع.
وهل هـذا القــرآن الـذي بين أيدينـا يتضمن جميع الأحرف السبعة أم حـرف واحـد منهـا فقـط بلحـاظ ان المكتـوب هو القرآن الذي إستقر في السنة الأخيرة من عمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الشريف لما ورد في الخبر (ان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم كل سنة في شهر رمضان مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين)( )، وهل عارضه بالحروف السبعة أم بحرف واحد.
ترى ما هي مواطن الإختلاف بين المصحف الذي بايدينا وبين القراءات السبع، فبالنسبة للتساؤل الأول فالظاهر ان المعارضة بحرف واحد، وبالنسبة للثاني فإن الاختلاف بحروف معدودات.
كما أختلف في موضوع القراءات السبع، أختلف أيضاً في أرجاعها إلى عهد النبوة، وبعض من العلماء قالوا بتواترها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن السبكي: ( القراءات العشرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
من أسباب الإختلاف إنتقال الأصحاب وتوزعهم في الأمصار، كل له مصحفه وقرآنه،أهل الكوفة على قراءة ابن مسعود، وقيل في كتابه أربع وسبعون قراءة.
وفيه مسائل :
الأولى: إن ابن مسعود إستدعاه الخليفة عثمان واخذ مصحفه، ولم يرجع هو او مصحفه إلى الكوفة إلا أن تكون صحف أخرى مشابهة بقيت عندهم.
الثانية: جاء الإمام علي عليه السلام الى الكوفة والناس ترجع اليه، وأبو عبـد الرحمـن السلـمي مثـلاً هو تلميذ الإمام علي عليه السلام.
قالوا إن أهل البصرة على قراءة أبي موسى الأشعري، وهو ليس من القراء البارزين ولابد انه لم يكن وحده مرجعهم، واهل الشام على قراءة أبي بن كعب وقراءة أبي الدرداء .
وقيل أن الرخصة صدرت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن تقرأ كل أمة بلغتها وما جرت عليه عاداتها وذلك للتيسير، وتلك الرخصة تتضيق مصاديقها الواقعية إنتشار الإسلام وإجماع المسلمين على ما بين الدفتين وقد يكون الإختلاف بين اثنين من قبيلة واحدة وحدث ذلك في أيام التنزيل.
وقال جماعة من المحققين بعدم تواتر القراءات السبع والقول بعدم التواتر لعدم الدليل والأصل عدمه، وللحفاظ على القرآن ونسخة المصحف وإتحاد المسلمين مع الإقرار الثابت بأن القرآن متواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأننا نتعبد بتلاوته.
ولابد في المقام من بيان حقيقة وهي ضرورة التفكيك بين تواتر القرآن ومسألة القراءات، فلا ملازمة بينهما من حيث التواتر، فالقرآن كلام الباري نقل إلينا بالتواتر وحاجة المسلمين إليه مستمرة منذ أيام التنزيل، وما دامت الدواعي متوفرة لنقله فلابد ان يكون متواتراً، أما القراءة فمنها ما نقل بخبر الواحد، والعيان يغني عن البيان.
والقرآن بين أيدينا كتنزيله، لم يطرأ عليه التحريف، والقراءات ليست من التحريف، بل هي علم مستقل يؤكد ضبط كلمات وحروف القرآن وإن تعددت القراءات في حرف مخصوص.
ومما هو متعارف بين المسلمين ان قراءة المصحف قراءة واحدة، ولعل منه (ان قراءة القرآن في المصحف عبادة) ويدل هذا الحديث بالدلالة الإلتزامية وفي مفهومه على توكيد اعتبار قراءة واحدة معروفة والحث عليها، إلا أن إثبات شيء لشيء لا يدل نفيه عن غيره.
وتناقش القراءات في هذا الزمان بابتلاء أقل وهو من الإعجاز الغيري للقرآن فقد شاعت ورسخت بين المسلمين قراءته في المصحف وعليها إجماع المسلمين وهذا لا يمنع من دراسة علم القراءات وإعتبارها، ولكن تلك الدراسات خالية من الإصرار والتكلف والجدل غير الهادف لعدم ترتب الأثر العملي الكبير عليه.

أسماء وتراجم القراء
الأول: عبد الله بن عامر الدمشقي (8 – 118هـ) تابعي إعتمده أهل الشام في قراءته وإختياره، كان رئيس أهل المسجد أيام الوليد بن عبد الملك بالغ الشاطي(ت590 هـ) عليه بالقول: أن دمشق طابت به محللاً، أي تطيب الإقامة فيها من أجله إذ يقصده طلاب العلم للقراءة عليه والرواية عنه، وله راويان رويا قراءته بوسائط وهما هشام (153 – 245 هـ) وابن ذكوان (173 –242هـ) وكل منهما أخذ القراءة عرضاً عن أيوب بن تميم.
وقــد مــدح جمـــاعــة هشــام بينمـا ذمه آخــرون، قال الأجــري عــن أبي داود أن أيـــوب يعنـــي ســليمان بن عبد الرحمن خير منه .
الثاني: ابن كثير المكي (45 – 120هـ) عرض على مجاهد بن جبر، ودرباس مولى عبد الله بن عباس هو عبد الله بن عمر بن عبد الله بن زاذان بن فيروز بن هرمز، الإمام أبو معبد المكي الدراري إمام أهل مكة في القراءة ولد بمكة، كان فصيحاً بليغاً مفوهاً طويلاً جسيماً أشهل العينين يخضب بالحناء، روى القراءة عنه خلق كثير، لقى عبد الله بن الزبير. ولعبد الله بن كثير راويان بوسائط البزي (170 – 250 هـ) وقنبل (195 –291هـ).
أما البزي فهو فارسي من أهل همدان أسلم على يد الساكبي بن أبي السائب المخزومي. قال ابن الجزري: استاذ محقق ضابط متقن، وقال العقيلي: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث لا أحدث عنه.
أما البزي فـقد انتهت إليه رئاسـة الإقراء في مكة، وولي الشرطة فيها فخربت سيرته وكبر سنه وهرم، وقطع الإقراء قبل موته بسبع سنين.
الثالث: عاصم بن بَهدلَه الأسدي مولاهم الكوفيتــ(127 هـ) تابعي أخذ القراءة عرضاً عن زر بن حبيش، وأبي عبد الرحمن السلمي، وقال لحفص ما كان من القراءات التي اقرأتك بها فهي التي قرأت بها على أبي عبد الرحمن السلمي عن علي، وما كان من القراءة التي اقرأتها أبا بكر بن عياش فهي القراءة التي كنت اعرضها على زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود. قال ابن سعد: كان ثقة إلا انه كان كثير الخطأ في حديثه، قيل إنتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد أبي عبد الرحمن السلمي، جمع بين الفصاحة والإتقان والتحرير والتجويد، وكان حسن الصوت بالقرآن وهو ثقة ضابط صدوق، وحديثه مخرج في الكتب المعتبرة، وقد روى ابن وهب، عن حماد أحكام القرآن ابن العربي ودفن بالسماوة في إتجاه الشام.
ولعاصم راويان بغير واسطة هما حفص وأبو بكر، أما حفص (90 – 180 هـ) فقد مدح الذهبي حاله في القراءة وذمه في الحديث. قال ابن أبي حاتم عن عبد الله عن أبيه: متروك الحديث، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال ابن حبان: كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل.
ومدحه كثير من اهل التحقيق وفضلوه على رديفه ابي بكر بن عياش في الحفظ وضبط حروف عاصم، وهو الذي اشاع قراءته في البلاد وقيل كان معروفاً بالدقة والإتقان نزل بغداد فاقرأ بها، وجاور بمكة فاقرأ بها.
وأما أبو بكر فهو بن عياش بن سالم الحناط الأسدي الكوفي (95 – 193هـ) عرض القرآن على عاصم ثلاث مرات، وعلى عطاء بن السائب واسلم المنقري، وروى خلق كثير الحروف سماعاً عن شعبة، وهو ثقة، ولما حضرته الوفاة بكت أخته فقال لها: ما يبكيك؟ انظراي إلى تلك الزاوية فقد ختمت فيها ثمان عشر ألف ختمة.
الرابع: ابو عمرو بن العلاء البصري (68-154) وقيل 156 هـ.
واسمه زبان بن العلاء بن عامر المازني البصري.
قيـل كان أعلم الناس بوجــوه القــراءات، وفصــيح أشـعار العرب، اذ أنــه هـــرب مـــع أبيــه من الحجـــاج فــقرأ في مكة والمدينة والبصرة والكوفــة علــى جماعة كثيـرة، ولد بمكة ونشأ بالبصرة ومات بالكوفة، وتبدو أهمــيــة الكوفــة في القراءات، أن الشام كانت تقرأ بحــرف ابن عامر إلى حدود الخمسمــائة فتركوا ذلك لأن شخصاً مــن العــراق كــان يلقن الناس بالجامع الأمــوي على قراءة أبي عمــرو، فاجتمــع عليــه خلــق وإشــتــهرت هــذه القــــراءة عنـــه.
وأبو عمروأكثر القراء السبعة شيوخاً، قرأ على شيوخ القراءات في مكة والمدينة والكوفة والبصرة، فقرأ على سعيد بن جبير، وعاصم بن أبي النجود وعبد الله بن كثير المكي، وعكرمة ومجاهد بن جبر ويحيى بن يعمر وغيرهم.
وكان أبو عمرو يقول: لولا انه ليس لي ان اقرأ إلا بما قرئ لقرأت حرف كذا وكذا وحرف كذا وكذا( )، هذا يدل على سر من أسرار القراءات يجب أن تعطى له الأولوية، إن القراءات لم تكن فقط على المصحف المكتوب بل كان المسلمون يعتمدون على الحفظ وعلى ما في الصدور، وكان يقول: إنما نحن فيمن مضى كبقل في أصول نخل طوال( ).
وكانت هذه القراءات شائعة عند المسلمين قبل ان تصل الى القراء سواء كان في أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم او بعد ان جمع عثمان القرآن ودوّنه في المصاحف.
ولأبي عمرو راويان بواسطة يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي أبو محمد وهو نحـوي، مقرئ، ثقة، نزل بغداد (138 – 202) هـ وعرف باليزيدي لأنه كان صاحبـاً ليزيد بن منصـور بن خالد خال المهدي يؤدب ولده فنسب إليه، وإتصل بالرشيد فعهد اليه بتأديب المأمون وعاش إلى أيام خلافته وتوفي في خراسان، ويعتبر من علماء العربية والأدب، له كتاب النوادر في اللغة، وكتب أخرى، وله نظم جيد، أخذ القراءة عرضاً عن أبي عمرو وخلفه بالقيام بالقراءة وأخذها ايضاً عن حمـزة ووصـف بانه أضبط أصحاب أبي عمرو، والراويان هما:
الأول: حفـص بن عمـر بن عبـد العزيز الدوري الأزدي البغدادي ت246 هـ قال ابن الجوزي: ثقة، ثبت كبير ضابط، أول من جمع القراءات، وقال الدار قطني: ضعيف، وقال العقيلي: ثقة.
الثاني: أما الثاني فهو السوسي صالح بن زياد.
وأخذ القراءة عن جعفر بن محمد وهو من شيوخه، وقيل: ان مقام إمامته لتشغله عن التصدي لهكذا امور صغيرة، ولكن القراءة ليست من الأمور الصغيرة، بل انها من أهم وظائف الإمامة لأنها من مصاديق تعاهد القرآن وتعليم الأمة ومنع الفرقة والخلاف بالاضافة إلى عمومات حديث الثقلين، كما ان ائمة المسلمين جميعاً كانوا مهتمين بالقراءة وانها أحد أبواب العلم.
وجمع ابن عقدة جمع الأربعة آلاف من أصحاب الإمام الصادق في كتب الرجال .
الخامس: حمزة بن حبيب الزيات الكوفي (80-156) هـ.
والزيات هو صانع الزيت وهو دهن السمسم وبائعه،أخذ القراءة عرضاً عن سليمان الأعمش ت148هـ وهو قارئ الكوفة، وحَمران بن أعين، حَمران-بفتح الحاء- جمع أحمر من أسماء الرجال وأَعين- بفتح الهمزة وسكون العين وفتح الياء- المثناة التحتانية والنون، وهو في الأصل اسم واسع العين.
أبو بكر بن عياش يقول: قراءة حمزة عندنا بدعة، وأنكر المبرد العالم بالنحـو قراءة حمــزة، ومثل هذا الإنكار على شطر من القراءة لا على القرآن وقراءته، مما يدل على عدم تواترهــا بالدقة، أو أن الذين أنكروا قراءته لم يكونوا على صواب.
أحمد بن حنبل كان ينكر على حمزة كثيراً من قراءته، وكان يكره ان يصلي خلف من يقرأ بقراءة حمزة.
ولقراءة حمزة راويان بواسطة سليم وهما:
أولاً : خلــف بن هشام البزاء البغدادي أحد القراء العشرة (150-229)هـ ثقة في القراءة ومنهم من ذمه في الحديث وحكي انه قال أعدت صلاة أربعين سنة كنت أتناول الشراب على مذهب الكوفيين.
ثانياً : خلاد بن خالد الشيباني تــ220هـ مدحه ابن الجزري فقال: إمام في القراءة ثقة عارف محقق أستاذ.
السادس : نافع المدني : هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أصله من أصبهانأخذ القراءة عرضاً عن جماعة من تابعي أهل المدينة، ومنهم أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاحتــ169 قال سعيد بن منصور سمعت مالك بن أنس يقول قراءة أهل المدينة سنة، قيل له: قراءة نافع؟ قال: نعم، قال النسائي ليس به بئس.
وله راويان:
الأول: قارون وهو عيسى بن ميناء بن وردان ربيب نافع، وهو الذي سماه قارون لجودة قراءته، ومنهم من سماه قالون، وقالون باللغة الرومية جيد او لأن أصله من سبي الروم، وقيل كان أصم يقرئ القرآن ويفهم خطأهم ولحنهم بالشفة.
الثاني: ورش وهو عثمان بن سعيد ولد في مصر سنة110هـ وتوفي فيها سنة197هـ.
كان شيخ القراءة في مصر، مدحه ابن الجزري قال: وكان ثقة حجة في القراءة، وقيل له اختيار خالف فيه نافعاً.
السابع: الكسائيتــ189هـ.
وهو علي بن حمزة بن بهمن بن فيروز الذي إنتهتإليه رئاسة القراء في الكوفة بعد حمزة الزيات عنه، وكان أستاذ النحو فيها.
وهو من أولاد الفرس من سواد العراق، مات وهو بصحبة هارون الرشيد بقرية دنيوية من نواحي الري متوجهين إلى خراسان، وعلّم الرشيد وولده الأمين، وطعن في سيرته الشخصية إلا أنه كان عالماً بالعربية قارئاً صدوقاً.
وللكسائي كتاب إسمه إختلاف مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة، أي أن الإختلاف كان متعارفاً غير مستهجن في الجملة وأن بحثه طريق إلى معالجته وحصره.
وله راويان من غير واسطة:
الأول: الليث بن خالد البغدادي من أجلأصحاب الكسائي ت240هـ، وهو أبو الحارث بن خالد البغدادي قال ابن الجزري ثقة معروف حاذق ضابط.
الثاني: حفص بن عمر الدوري النحوي توفي سنة246هـ وقد تقدمت ترجمته وأنهأخذ بقراءة أبي عمرو بن العلاء.
ومنهم من زاد ثلاثة قراء على القراء السبعة فاكمل بهم العشرة، وهم:
الأول: خلف بن هشام البزار عن حمزة.
الثاني: يعقوب بن إسحاق الحضرمي.
الثالث:يزيد بن القعقاع.
وقراء الكوفة بلغوا مائتين وثلاثين قارئاً عدا تلاميذهم، ومنهم من عاش في القرن الأول، وإشتهرت الكوفة في أيام التابعين بالدقة والتدقيق والضبط ، غادرتهم الرئاسة والخلافةإلى الشام وبغداد فانشغلوا بعلوم القرآن والمنع من تحريفه وإجتناب اللحن فيه، وأصبحت القراءة علماً متخصصاً إشتدت مدرسة الكوفة في النحو إلى يومنا هذا.
ذهب نفـر من النحويـين من اهل البصرة ومن تابعهم أمثال الزمخشري وابن قتيبة إلى رد بعض القراءات للقواعد النحوية التي وضعوها خارج دائرة هذه القراءات ,وأمثالها من اللهجات والأساليب العربية.
والقراءة سنة فلابد من تتبعها ونقل الآحاد لا يفيد القطع، ما لم يقترن بما يفيد العلم وعليه فلا تثبت به.
ومنهم من كتب في تراجم القراء مجتمعين أو منفردين، وأجرى دراسة مقارنة بين عدة قراءات، وكثير هم الذين ألفوا في القراءات، نسب إلى ابن عباس كتاب اللغات في القرآن رواية سحنون عنه.
وألف يحيى بن يعمر تــ89هـ كتاب القراءة، ومقاتل بن سليمان تـ 150هـ وجوه حرف القرآن، ولأبي عمرو بن العلاء 154هـ رسالة في القراءة برواية يحيى بن المبارك اليزيدي تــ205هـ.
ومنهم من ألف في القراءة كجزء مرتبط ومتداخل مع الدراسات النحوية في القرآن، ومنهم من أخضع القراءة لصناعة النحو ومنهم من فعل العكس.
ابن جبير صنف كتاباً في القراءات، وهو الذي أظهر القراءات وإقتصر على خمسة أقطار، من كل مصر إمام واحد باعتبار ان المصاحف التي أرسلها عثمان كانت خمسة إلى هذه الأمصار الخمسة، ويقال انه وجه بسبعـة باضـافة اليمن والبحرين.
ابن مجاهد: اختار بـدل البلدين قارئين من الكوفة ليوافق العدد، ولغة القرآن هي لغة العـرب الفصــحـى ولهجتها الأفشى فلا يتسرب إليه لحن ولا يلحقه تغيير.
وقال القراب( ) في الشافي: التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة، وانما هو من جمع بعض المتأخرين، فانتشر وأوهم انه لا تجوز الزيادة على ذلك، وذلك لم يقل به أحد( ).
وقال أبو العباس بن عمار: لقد نقل مسبّع هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قل نظره، ان هذه القراءات هي المذكورة في الخبر؛ وليته اذا اقتصر نقص عن السبعة او زاد ليزيل الشبهة( ).
وأول من نقط القرآن أبو الأسود الدؤلي، وذكر أنه إختار رجلاً من بني عبد القيس، وقال له: خذ المصحف مصبغاً يخالف لون المداد فاذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف واذا ضممتها فاجعل النقطة الى جانب الحرف، وإذا كسرتها فاجعل النقطة في أسفله، فاذا إتبعت شيئاً من هذه الحركات غنة (ويريد بالغنة التنوين) فانقط نقطتين فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره.
ولكن التنقيط لم ينته عندها، بل استمر شطر من المسلمين يقرأ بلا تنقيط او وفق القراءات الأخرى، وعن كتاب المحكم: ان خلف بن هشام البزاز قال: كنت أحضر بين يدي الكسائي وهو يقرأ على الناس وينقطون مصاحفهم بقراءته عليهم.
وورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( نزل القرآن على سبـعــة احرف) ( )، واختلــف في معـنى هـذا الحديث على أربعين قولاً.
وقال فيها ابن حِبان: وكلها محتملة ونحتمل غيرها(1).
ومن تلك الأقوال:
الأول: ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد، بل انه وصف يفيد الكثرة والتعدد والتسهيل والسعة. وتطلق العرب السبعة ومضاعفاتها لإرادة الكثرة والمبالغة بالمتعدد.
الثاني: المراد بها سبع قراءات وتعقب بأنه لا توجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعـة أوجـه إلاالقليل مثل عَبَدَ الطَّاغُوتَفَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، وأجيب بأن المراد ان كل كلمة تقرأ بوجه أو وجهين أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعة، ويشكل على هذا ان بعض هذه الكلمات ما قرئ على أكثر، وهذا يصلح ان يكون قولاً رابعاً(3).
الثالث: المراد بها الأوجه التي يقع بها التغاير، ذكره ابن قتيبة قال: منها ما يتغير بالفعل مثل بَاعِدْ و(باعد) بلفظ الماضي والطلب، ومنها ما يتغير بالنطق مثل نُنشِزُهَا و(نَنَشزها)، وكثير من العرب آنذاك لا يكتبون ولا يعرفون الرسم، وان كانوا يعرفون الحروف ومخارجها. قال الطحاوي: وإنما كان ذلك رخصة لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان الحفظ، ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الكتابة والحفظ. وكذا قال ابن عبد البر والباقلاني وآخرون.
عن ابن مسعود: أقرأ رجلاً إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ فقال الرجل (طعام اليتيم) فردها فلم يستقم بها لسانه، فقال: أتستطيع ان تقول: طعام الفاجر؟ قال: نعم.
وأسند عن أبي بن كعب انه كان يقرأ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ (مروا فيه) (سعوا فيه)، وقراءة أهل البيت عليهم السلام على قراءة أبي كعب ولم يكرروا الكلمة بمعاني أخرى، وفيه مسائل:
الأولى: لقابلية السام على الفهم والتلقين.
الثانية: عدم اشاعة مثل هذا اللون من التعليم.
الثالثة: إعتياد المسلمين على قراءة ما مرسوم في المصاحف.
الرابعة: ما جرى فيه من اللبس على بعضهم.
وان حصل فأنه أحد أمرين، أما قضية في واقعة كما لو كان لتيسير القراءة لبعضهم، او للبيان والتفسير وهو الأرجح، او لصحة القراءتين.
ابن مسعود كان يقرأ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا (امهلونا) (أخرونا).
الرابع: المراد به المطلق والقيد، والعام والخاص، والنص والمؤول، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفسر، والإستثناء وأقسامه.
الخامس: ان الأحرف السبعة هي زجر وأمر، وحلال وحرام، ومحكم ومتشابه، وأمثال.
السادس: ناسخ ومنسوخ، ووعد ووعيد، وبشارة وتأديب وإنذار.
السابع: أنها في أسماء الرب مثل: الغفور الرحيم، السميع البصير، العليم الحكيم.
وقيل يكفي القراءة على النهج العربي السليم ولا يجب ان تكون مطابقة للقراءات السبع، والأحوط الأولى ان تكون القراءة بإحدى القراءات السبع للشهرة والإتفاق ومنع التفرقة وخشية البدعة ولقوله عليه السلام: اقرأوا كما يقرأ الناس، والأولى ان تكون وفق المرسوم في المصاحف.
من المتسالم ان هؤلاء لم يأخذوا قراءتهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة لأنهم ولدوا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى بمدة ليست بالقليلة. أما نسبتهم القراءة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو أول الدعوى، ومقتضى الأصل ان قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحدة ليست متعددة إلا إذا جاء دليل معتبر سواء كان خاصاً يتعلق بلفظ معين او عاماً وقاعدة كلية.
والحديث المرسل ضعيف للإرسال ان لم يأت له سبب آخر يزيد في ضعفه كما لو كان أحد سلسلة المرسل ضعيفاً أو مجهولاً، والحديث يؤخذ من حيث السند بأضعف رواته.
وردت أخبار كثيرة تبين ان القرآن نزل على سبعة أحرف ويقع التعدد والتفسير في المراد بالسبعة.
لقد إختلف القراء فيما بينهم بكلمات معدودات فاتفق على سبعة منهم. كما حصل في الفقه إذ اتفقوا على أربعة وجعلوهم رؤساء للمذاهب وتركوا الباقين كالأوزاعي والشعبي، ولعل هذا القول من القياس مع الفارق لعدم وجود موضوع كالفقه للخلاف بين القراء.
وورد أن القرآن نزل على سبعة أحرف كما في رواية عيسى بن عبد الله الهاشمي عن ابيه عن آبائه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتاني آت من الله، فقال: ان الله يأمرك ان تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: يا ربّ وسع على أمتي، فقال: ان الله يأمرك ان تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت، يا ربَ وسع على أمتي، فقال: ان الله يأمرك ان تقرأ القرآن على سبعة أحرف).
وورد عن علي عليه السـلام: “أنزل القــرآن على سبعة اقسام وهي أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص”، وروي ايضاً في حديث عبــدالله بن مسعــود، ولا دليل على الاتحاد والملازمة بين الأقسام والحروف في التنزيل.
قال ابن الســبكي: القـراءات السبعة متواترة تواتــراً عامـاً، أي نقلها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب لمثلهم، ونوقش لو تواترت جميعاً لما إختلف القراء في شيء منها ولماذا يأبى بعضهم ان يقرأ بقراءة غيره.
ولابد من التفكيك بين تواتر القرآن وتواتر القراءات، والتفكيك بين زمان جمع القرآن وتدوينه من غير تنقيط وبين تنقيطه وإختلاف القراءة في أيام القراء السبعة، ولكن هذا التفكيك يؤكد دقة ضبط القرآن، وخلوه من النقص أو الزيادة أو التحريف، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
هل جرى التنقيــط والتشكيل على التنزيل أم يختلف عنه أم أنه مأذون به أي ان القرآن لم ينقط وترك لأهل القبائل المختلفة قراءته على لهجاتهم حتى، ولو كانت مغايرة لأصل رسم المصحف كما هو ظاهر النصوص.
وإطلاق الإذن لا يمنع ذلك ويصح لأنه لا يتعرض للأصل، والمعنى واحد واللفظ مختلف خارج ما بين الدفتين ولابد ان يكون مؤقتاً ومنحصراً بزمان تعدد لهجات القرآن.
ومن الإعجاز الغيري للقرآن أنه يجمع لهجات العرب , إذ تتعدد لهجاتهم خاصة أولئك الذين على أطراف الجزيرة , وجاء القرآن فوحدها وحال دون إزدياد التعدد وإستمراره، ولا بأس من تتبع السنة والأحاديث وجمع النصوص الخاصة بتعدد القراءات في كتاب مستقل سواء تلك التي تتعلق بقراءة آية او حرف بغير ما مدون في المصاحف أو الأحاديث النبوية المتعلقة بالقراءة، وأن القرآن نزل على سبعة أحرف، ومن معاني الأحرف بلحاظ القرآن ووجوه التفسيرات المختلفة ومنها اللغوية.
ففي البلاد الأندلسية نسب إلى سعيد فرج بن لب القول: من زعم ان القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر، لأنه يؤدي إلى عدم تواتر القرآن جملة، وتحمس لرأيه كثير، ولكن هناك فرق بين القرآن والقراءات.
والتواتر هو إخبار جماعة كثيرين يمتنع تواطؤهم على الكذب فان القضية مستنتجة من مقدمتين:
الصغرى: تواجد عدد كبير من المخبرين.
الكبرى: إن هذا العدد برزخ دون تواطؤهم على الكذب.
والكبرى عقلية وهي أقرب إلى التجريبية.
يحصل بالتواتر التعين مع نوعية الشهود، ووثاقتهم وتعدد مسالكهم مع القضية وكونها مألوفة وليس غريبة، والقراءة طبق المصحف مألوفة متفق على تواترها.
وقيل المراد بالتواتر ليس تواتر القراءات السبعة، ولكن ما نقل غير السبعة فهو شاذ فضلاً عن غيرها.
قد نقل الإجماع على جواز القراءة بالقراءات السبعة أو العشرة المعروفة وأستدل عليه بجملة من النصوص، ولعل إصطلاح القراءات السبعة لم يكن متعارفاً أيام الصحابة والتابعين، وكان إصطلاحاًإستقرائياً وقواعد كلية على نحو الموجبة الجزئية وجد فيما بعد مثل كثير من المفاهيم التي لا يعرف أوان وجودها الأول , ونسبت إلى ابن مجاهد.
والأمر سهل بعد تعلقها ببعض الكلمات مما يكون أصله محفوظاً في المصحف المتداول فلا يلتفت لها كثيراً مما لا يوجب الردع عنها، فلأجل إستكشاف رضا الشارع وموافقته لابد من دليل خاص وقطـعي عليهــا، ولا عبـــرة بالرجـوع إلى أهل الخبرة في المقام لأنه لا يحصل منه إلا الظن، والظن لا يغني عن الحق شيئاً.
والمسألة صغروية بلحاظ التسالم بين المسلمين في أجيالهم المتعاقبة على صدق نزول المرسوم بين الدفتين في المصحف الإمام المتوارث والباقي إلى يوم القيامة بفضل الله عز وجل.
وقــد تكـــون من صعــوبــة النطــق أو وجــود بعض الكلمات في الأثر بخلاف المرسوم في القرآن، أو إجتهاد في التنقيط خصوصاً مع تعذر الإتصال المستمر بالمدينة المنورة، كما ذكر في حديث أبي بكرة: قولك تعال وأقبل وهلــم واذهــب واســرع وعجـــل.
أو لبواعث خاصة ويستمر العمــل ويستقل فيشيع بين الناس وليس من رادع لاسيما اذا كان بين أهل الإختصاص وهــم القراء، ويأتي الفقيه ويجعل لنفسه قاعدة كلية وهي كل ما ثبت عند النحويين يثبت عند الفقيه، وكل ما ثبت عند القراء يثبت عند الفقيه، وهي ليست بكلية تامة، فتكون في الجملة من غلبة العاملين بها فلا يلتفتون إلى غيرهم ويرون أن على غيرهم إتباعهم.
وإذا مضت على ذلك عهود ومئات السنين أصبح من سيرة المسلمين، وينسى تأريخ هذه السيرة أو العادة بل لا يبحث فيه خاصة مع دعوى تلقيها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الصحابة، وتعد مخالفتها مستهجنة وقبيحة وتضاف إلى السيرة، ولكنك تجد مباحث القراءات لم تبلغ هذه الدرجة، فيستطيع الباحث ان يتتبع أصولها ورجالها، ويعرف أحكامها وكأنه يعيش أيام ولادتها، وهذا من إعجاز القرآن بأن ترى تأريخ علومه واضحاً بيناً.
وتدل النصوص على حرص الأئمة والتابعين على وحدة المسلمين، والتخفيف والتسهيل مع منع من التعدد في القراءة على القول بالمعنى الأعم وشموله الكم والكيف والقراءة، وإمضاء القراءات التي أدعي عليهاالإجماع، أو النهي في الجملة عن تعدد القراءات للأصل ووحدة القرآن عند المسلمين وإختيار منزلة بين منزلتين.
إن بيان الإعجاز في الموضوعات القرآنية جزء من الإعجاز الغيري للقرآن، ولابد من السعي لإستظهاره من الآية القرآنية لفظاً وقراءة ومعنى، ترى ما هو الإعجاز في باب قراءة القرآن؟ وأيضاً في باب القراءة في الصلاة خصوصاً وأنها من عناوين الوحدة الإسلامية وسبيل إلى حفظ لغة القرآن والدعوة الإنطباقية وعلى نحو الوجوب إلى تعلم المسلمين عامة للغة القرآن من غير أن يتعارض مع معرفتهم وتحدثهم بلغاتهم الأصلية.
ولكن يطرح سؤال: العربية تحتاجها في فعل واجب في حياتك وشطر من المستحبات واللغات الأخرى لا يحتاجها الناطقون بها إلا بالتخاطب، والتخاطب يمكن أن يحصل بالعربية، ولغة القرآن أعم في التخاطب، أي أنك تستطيع أن تخاطب كل مسلم بالعربية ولا تستطيع أن تخاطب بلغتك إلا أبناء بلدك أو قومك فيكون بينهما في هذه الحصة عموم وخصوص مطلق إذا كان أهل البلد مسلمين، فيتكلمون مع أبناء جلدتهم بلغتهم، ومعهم ومع غيرهم بالعربية.
لذا ترى رجالاً من غير العرب دخلوا الإسلام آنذاك،ونبغوا في مختلف علوم القرآن واللغة والنحو لأولوية القرآن في الحياة اليومية المطلقة وموضوعية العبادة وإن كان ابن خلدون يذهب إلى غير ذلك،والبحوث الإسلامية لم تستوف فلسفة القراءة في الصلاة الجهرية والإخفاتية حقها وما فيها من المنافع الشخصية والنوعية والثمرات العقائدية والأخلاقية والتربوية والإجتماعية والإقتصادية وما تؤديه في وحدة المسلمين، وهي مناسبة قدسية لذكر الله تعالى وشيوع الأمن والطمانينة بين الناس، وفيه رياضة يومية متكررة على الإمتثال اللساني والذكر الكلامي بعيداً عن كلام الآدميين , لتترشح ثمراته على القلوب والجوانح , قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
ومن المتسالم عليه والظاهر للعيان أنه ليس من كتاب نال عناية وتعاهد الناس على مر السنين ومنذ خلق الله عز وجل آدم عليه السلام مثل القرآن، ليس هذا فقط ,وكان الإهتمام ولا يزال بالكيف وليس بالكم وحده، فان دراسات القرآن تتشعب مع إزدياد الإختصاصات ومنها علم القراءات.
وقد يرد على الحرف الواحد خمس قراءات شاذة عدا السبعة او العشرة، ومنهم من إعتبر السبعة كلها مروية، وفيما يلي بعض النماذج للقراءات وتبين أن الخلاف صغروي وينحصر بحرف أو بنائه أو حركة إعرابية:
الفعل (عَبَدَ) من قوله تعالى [وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ] ( )، ثلاثون قراءة مروية وأربعة أوجه جائزة.
الأول: قراءة ابن وثاب واحمد بن يحيى وابن مسعود عَبُدَ الطاغوت، برفع الباء والتاء، وفتح الدال.
الثاني: قراءة ابن مسعود ايضاً عُبِدَت الطاغوت مبنياً للمفعول كما قرأ ومن عَبَدَ بزيادة من.
الثالث: قراءة الأعمش وابن القعقاع والنخعي وابو جعفر الرؤاسي عُبِدَ الطاغوت مبنياً للمفعول ايضاً.
الرابع: قراءة النخعي كذلك عُبِّدَ الطاغوت مبنياً للمفعول مشدداً.
الخامس: قراءة أبو رجاء: عُبَّد الطاغوت مبنياً للفاعل مضعفاً.
السادس: قرأه الحسن: عبْدَ الطاغوت ماض اسكن وسطه.
السابع: قرأه الحسن ايضاً عَبْدَ الطاغوت بالإضافة.
الثامن: قرأه حمزة ويحيى والأعمش: عَبُدَ الطاغوت، بفتح العين وضم الباء وفتح الدال والإضافة.
التاسع: قراءة حمزة وابن وثاب والأعمش، عَبِدَ الطاغوتِ، بوزن يقظ وبالإضافة.
العاشر: قرأه ابن عباس والأعمش عُبَّدَ الطاغوتِ بضم العين وتشديد الباء المفتوحة وبالإضافة.
الحادي عشر: قرأه أبو واقد الإعرابي: عبّاد الطاغوتِ، جمعاً بالألف منصوباً وبالإضافة.
الثاني عشر: قرأ ابن بريدة وعون العقيلي عابد الطاغوت اسم فاعل مضاف.
الثالث عشر: قرأ ابن عباس عابدوا الطاغوت جمعاً بالواو ومضافاً، وقرأ ابن عباس ايضاً: عُبُّدوا الطاغوت جمعاً بالواو ومضافاً.
الرابع عشر: قرأ ابن عباس أيضاً: عبيد الطاغوت جمعاً على فعل.
الخامس عشر: قرأه عبيد بن عمير: واعبُدَ الطاغوتِ بوزن أفلس مضافاً.
السادس عشر: قرأه علقمة وابن مسعود عُبَدَ الطاغوت بوزن صرر ومضافاً.
السابع عشر: نسب إلى علي عليه السلام عبدة الطاغوت جمعاً على فعلة مضافاً.
الثامن عشر: قرأ ابن عباس وإبنأبي عبلة وأحمد بن يحيى عبد الطاغوت بثلاث فتحات مضافاً.
التاسع عشر: قرأه محبوب بن حسن الهاشمي وأبو واقد إيضاً: عبّادُ الطاغوت بتشديد الباء ورفع الدال.
العشرون: قرأه الحسن عباد الطواغيت بالجمع مضافاً إلى جمع.
الحادي والعشرون: قرأه ابن عباس وابن مسعود والنخعي والأعمش وأبان بن تغلب وعلي بن صالح ومجاهد وابن وثاب عُبُدَ الطاغوتِ بضم العين والباء وفتح الدال وخفض التاء.
الثاني والعشرون: قرئ عبّاد الطاغوت بكسر العين وتخفيف الباء ونصب الدال وبالإضافة وهي قراءة البصريين.
الثالث والعشرون: قرئ أيضاً عُبُداً الطاغوت بفتح فضم وبتنوين الدال ونصب ما بعدها.
الرابع والعشرون: قرئ ايضاً وعابدي الطاغوت جمعاً بالياء مضافاً.
الخامس والعشرون: قرئ ايضاً: عَبُدُ الطاغوت بفتح فضمتين وبالإضافة رواه ابن الأنباري عن بعضهم.
السادس والعشرون: قرئ ايضاً: عُبْدَ الطاغوت بضم العين واسكان الباء مع الإضافة.
السابع والعشرون: أجاز الزجاج فيما ذكر الكرماني أربعة أخرى هي(عُبُدُ) بثلاث ضمات، و(عُبُدِ) بضمتين وجر الدال، و(عَبُدِ) بفتح وضم وجر، (وعَبْدِ) بفتح واسكان وجر.
الثامن والعشرون: قرأ ابو عبيدة: وعابد الشيطان بدل الطاغوت.
اسم الفاعل (مالك) في قوله تعالى [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( )،خمسة عشر وجهاً:
الأول: قرأه عثمان وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز والأعمش وابن السميفع وعثمان بن أبي سليمان، وعبد الملك قاضي الهند، وأبو صالح السمان وأبو عبد الملك الشامي: (مالِك يوم) نصب على النداء.
الثاني: قرأ ابن السميفع (مالكا يوم) بالألف مسنوناً ونصب ميم يوم.
الثالث: قـرأ أبـو هـــريـرة وابن أبي وقـاص وعـائشـة وأنس وعـمـر بـن عبد العـزيز وابو حيـاة وأبو عثمـان النهـدي والشـعبي وعطية ومـؤرق العجلـي وابـو نـوفـل: مَلِك يـوم بفتـح الميم، دون الف وبرفع الكاف.
الرابع: قرأه ابو هريرة وابو حياة وعمر بن عبد العزيز وأبو روح عون العقيلي مالك برفع الكاف وبالألف وبالإضافة.
الخامس: قرأه ابو حياة وأنس وابو نوفل مَلِكَ يومِ بفتح فكسر ففتح وبالإضافة.
السادس: قرأه ابو هريرة وابن عمر والجحدري ملك بوزن سهل ولهم ايضاً بنصب الكاف.
السابع: قرأه احمد بن صالح عن ورش عن نافع مالكي باشباع كسرة الكاف.
الثامن: قرأه الجحدري وخلف بن هشام وابو عبيد وابو حاتم والعقيلي: مالك يوم بالألف والرفع والتنوين ونصب يوم.
التاسع: قرأ أبي وأبو هريرة وابو رجاء: مليك بوزن فعيل.
العاشر: قرأه ابن يعمر وايوب السختياني مالك بالإمالة البليغة.
الحادي عشر: قرأه قتيبة بن مهران عن الكسائي: مالك بالإمالة بين بين.
الثاني عشر: قرئ ايضاً ملاّك بالألف والتشديد للام، وكسر الكاف.
الثالث عشر: قرأه علي عليه السلام وأنس وجبير بن مطعم وعبيد بن عمرو وابو حنيفة وابو حياة والجحدري والحسن وابن يعمر: ملك يوم فعلاً ماضياً ونصب ما بعده.
الرابع عشر: أجاز هارون الأعور في النحو مالك باسكان الكاف.
الفعل (تشابه) من قوله تعالى [إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا] ( )وفي قراءة الفعل (تشابه) أحد عشر وجهاً:
الأول: قرأه ابن مسعود ويحيى وإبراهيم ومحمد ذو الشامة وكرداب: يشاّبهُ بالتشديد والرفع والياء.
الثاني: قرأه مجاهد ومحمد ذو الشامة: تُشبُّه على تفعل.
الثالث: قرأه ابن مسعود والأعمش متشابه.
الرابع: قرأه ابن مسعود مُتشِّبه.
الخامس: قرأه ابن مسعود والحسن تشًّابه.
السادس: قرأه الأعمش متشابهة.
السابع: قرأه ابن ابي اسحاق تشابهت بتشديد الشين مع كونه ماضياً.
الثامن: قرأه الحسن والأعرج تشابه بالتخفيف.
التاسع: قرأ أبي تشابهت كما قرأه مشتبه.
العاشر: قرأ زيد بن علي: تتشابه بتاءين.
الحادي عشر: هناك قراءة غير منسوبة يتشابه.
وكل من القرآن والقراءة حقيقة مستقلة لها وجود خارجي مغاير للآخر، وكل منهما يختلف عن الأخر في المناسبة والماهية، فالقرآن كلام الله الذي نزل على صدر نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والمنقول إلينا بالتواتر، والقراءة والنطق والتلفظ والتعبد بقراءته.
وموضوعنا يتعلق بالقراءات السبعة إلا ان موضوع القراءة متلازم تاريخياً مع ساعات النزول الأولى، القرآن تلي في مكة بالنسبة للسور المكية وتلى المسلمون في المدينة المكي والمدني على السواء، واحتلت القراءة أهمية خاصة في حياة المسلمين .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدفع الذي يدخل في الإسلام إلى الصحابة لتعليمه القرآن وليتفقه في الدين، أي انه صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرص على ان يتعلم كل مسلم القرآن وان يعرف الجميع موضوعية القرآن ومنزلته في حياتهم وعملهم ولزوم ضبطه وحفظه.
والمراد من سبعة أحرف الواردة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “نزل القرآن على سبعة أحرف”، أعم من الحرف و يدل على الكلام أو الكلمة والمعنى.
ولابد من بيان الإختلاف في القراءات لنعلم ما هو وجه التباين بينها وبين المصحف الذي في ايدينا وهو العمدة والحجة، والإختلاف في حركات الكلمات أو في إعرابها مع تغيير المعنى أو عدمه.
إن مسـألة القـراءات السبعة من أسرار القرآن تدل على سعة علومه وعظيم كنــوزه العلمية،وجهود العلماء في ضبط حروفه وقراءاته وهي من أهم أبواب توثيق قراءته، وجامعة علمية مستقلة، وثروة قرآنية فريدة ينفرد بها القرآن وحملته، وحاجة مسائله وأحكامه للأبحاث المتجددة بإنشغال مبـارك وإنقطــاع إلى الله تتجلى فيـه معانــي الإخـلاص في العبـودية.

لماذا نزل القرآن منجماً
قال تعالى وَقُرْآنًــا فَرَقْنَــاهُ لِتَقْــرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْــثٍ وَنَزَّلْنَـاهُ تَنزِيلاً.
النزول لغة: هو الحلول في مكان والأوي به، ويطلق أيضاً على إنحدار الشيء من علو إلى سفل، وهو لا يليق بإنزال الله للقرآن ولا في نزول القرآن من الله لما فيه من المكانية والجسمية. والقرآن ليس جسماً حتى يحل في مكان أو ينزل من علو إلى سفل , وقالوا إننا نحتاج إلى التجوز وإلى المجاز وهو باب واسع لغة وعرفاً للإخبار بأن إنزال القرآن هو الإعلام مطلقاً، وإعلام من انزل إليه الشيء إن كان عاقلاً وإطلاعه عليه، فهو من المجاز المرسل، ولكن شيئاً من الحقيقة موجود في نزول القرآن وان لم يكن جسمياً أو مكانياً لما له من شخصية إعتبارية وشأن ولتحقق النزول فعلاً ونتعرض هنا للتنجيم في نزول القرآن.
المشهور أن القرآن نزل إلى اللوح المحفوظ وهو من أسرار الكون في عالم الإيجاد والخلق والأمر، ليدل على عظيم سلطان الله تعالى واحاطته علماً بالخلائق مجتمعة ومتفرقة في عرض واحد، وكذا قيل بالنسبة إلى نزوله الثاني إلى بيت العزة في السماء الدنيا وعليه يحمل بعض المفسرين قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ.
أخرج عن ابن عباس قال: (نزل القرآن جملة . وفي لفظ : فصل القرآن من الذكر لاربعة وعشرين من رمضان ، فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا ، فجعل جبريل ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتله ترتيلاً)( ).
ونزول القرآن نجوماً أي نجماً بعد نجم وجزء أو آية بعد آية أو آيات كل بحسب وقتها وأجلها.
يقال: نجم الشيء ينجم نجوماً ظهر وطلع)( )، والنجم زمان يحل بانتهائه وإبتدائه قدر معين من مال الكتابة أي القسط الدوري، ومنهم من حمل عليه قوله تعالى وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى وقوله تعالى فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ أي نجوم القرآن لأن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة.
وعن ابن عباس: (انزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجم، وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بعضه في أثر بعض، أنزل على مواقع النجوم رسلاً في الشهور والأيام). رسلاً: رفقاً، القرآن نزل مفرقاً بخلاف الكتب الأخرى التي نزلت مرة واحدة، نزول القرآن ثالثة ورابعة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتعدد في النزول لنفي الشك في القرآن، والتوكيد على سلامة طريق النزول والعناية الإلهية لحفظه حتى يصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير نقص أو تحريف، وهو يدل على تهيئة الأسباب لحفظ ما بين الدفتين سالماً إلى حين وصوله.
وقيل: ان القرآن نزل مرتين، مرة جملة واحدة، ومرة مفرقاً، المرة الأخيرة من التنزيل كانت بواسطة جبرئيل قال تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِـــكَ لِتَكُـــونَ مِـــنْ الْمُنذِرِين بِلِسَــانٍ عَــــــرَبِيٍّ مُبِينٍ، فهل أخذ جبرئيل بالقرآن جملة واحدة أم متفرقاً ؟ أم إطلع عليه وهو في اللوح المحفوظ أو في بيت العزة جملة واحدة ولكنه أخذ ينزل به نجوماً . اختلف في ذلك.
وحكى الماوردي(أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة، وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة، وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة)( ) ويحتاج هذا القول إلى دليل ولو بالتأويل والقرائن وأنه نجّمه على النبي.
ومنهم من قال: ان جبرئيل كان ينزل بمعاني القرآن والرسول يعبر عنها بلغة العرب، وزعم آخرون ان اللفظ لجبرئيل وان الله كان يوحي إليه المعنى فقط، وكان هذا غير صحيح ومعارض بنص القرآن والسنة والإجماع ولا دليل عليه ولا يكون معجزاً إلا لأن اللفظ من عند الله ويدل عليه عجز الملائكة عن معرفة الأسماء فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا .
لو أرسل ملك أو رئيس رسالة بيد رسول فهل يقرأ الرسالة أم يأتي بألفاظ من عنده؟ .
والجواب: ان يقرأ ما في الرسالة ولا يغير منها حرفاً وذلك من سمات الأمين وشرائط الأمانة. نعم ورد في الخبر ان جبرئيل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن وانه يأتي بها بالمعنى، ولأن نزول القرآن بألفاظ وكلمات مخصوصة فلابد من التقيد باللفظ القرآني المعجز، ولا يجوز اللحن والتغيير في الحروف.
لقد إبتدأ نزول القرآن منذ بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشريفة وانتهى بمغادرته إلى الرفيق الأعلى وهذا من إعجاز القرآن المركب من نزول مؤقت بتحديد دائم واتساع مطرد فمدة النزول تقدر بثلاث وعشرين سنة أو خمس وعشرين سنة، بل بحسب الإختلاف في مدة إقامته صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة فعشر سنين إتفاقاً، والأقوى هو القول الأول.
أنزل القرآن إلى اللوح المحفوظ وكأنه سجل جامع لعالم الخلق والإبداع.
منهم من قال ان القرآن نزل على صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم جملة واحدة بدليل قوله تعالى وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ، وظاهرها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على علم بما ينزل عليه فنهى عن الإستعجال في القراءة. والنزاع صغروي في المقام لأن الترتيل والإخبار به كان على نحو الآيات.
والله عز وجـــل يخاطب موســـى عليه السـلام بقوله تعالى ما أعجلك، ويدل على حصول تلك العجلة، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أرشده الله عز وجل إلى إجتناب العجلة قبل حصولها، وهو فضل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والتنجيم مناسبة للتلقي التام بالحواس والجوارح للوحي، وكان جبرئيل إذا نزل بآية يقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ضع هذه الآية في سورة كذا في موضع كذا، ولذا نقول ان ترتيب آيات القرآن توقيفي.
لماذا لم ينزل القرآن من السماء جملة واحدة:
الأول: التنجيم صفة زائدة ميَّز الله عز وجل بها القرآن عن الكتب السماوية الأخرى ولعل فيه سبباً لحفظه وأفضلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلموتلك الأفضلية متعددة، لاسيما وان الفرق موجود بين القرآن والكتب الأخرى بلحاظ الموضوع والأحكام والتشريع. أنها تبدأ بنزول القرآن.
الثاني: فيه نوع إكرام للملائكة وعلمهم بالترتيب في إنزاله نجوماً ضبطاً وتحقيقاً.
الثالث: إظهار للنعمة على المسلمين في بيان حسن حظهم من عند الله بالقرآن.
الرابع: إعظام شأن القرآن بين أهل السماء بل وأهل الأرض في نزوله دفعة واحدة، وهذا لا يمنع من التعظيم الخاص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: تمييز القرآن من بين الكتب السماوية الأخرى إذ كانت تنزل إلى الأرض جملة، لذا إشتبه على الكافرين قال تعالى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً.
السادس: يبين نزول القرآن نجوماً موضوعية ومنزلة وأثر أسباب النزول والوقائع الحادثة وتوثيقها وجعلها عوناً على حسن التفسير والتأويل ومنع الزيغ والباطل في تأويل المتشابه.
السابع: فيه بيان لفضيلة الوقت الذي نزل فيه القرآن، وهو شهر رمضان حيث أنعم الله علينا بصيامه , وإحياء لياليه بالعبادة خصوصاً ليلة القدر، قال تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ]( ).
الثامن: فيه توكيد للملائكة على بقاء عظيم شأن بني آدم وان آدم عليه السلام كان يستحق سجودهم بحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للواء القرآن وأحكامه في الأرض، لقد بيّن تعالى للملائكة العناية الدائمة منه تعالى بأهل الأرض، لأن القرآن هدى ورحمة وشفاء.
التاسع: الأفضلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن الكتب السماوية التي قبل القرآن نزلت جملة واحدة على الأنبياء، ولكن القرآن نزل إلى السماء الدنيا ثم نزل مفرقاً على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تمييزاً وتشريفاً وتفضيلاً.
العاشر: الفرق بين القرآن والكتب السماوية الأخرى بلحاظ موضوعه ورسالته وأحكامه، إذ أنه يتصف بالشمول والإحاطة بحاجات الإنسان الشــرعية وغيرها، قال تعالى ونزلنـــا عليك القـــرآن تبياناً لكل شـــيء، وقال تعالى في خصوص التوراة فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّـــاكِرِينَ، وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْـــوَاحِ مِنْ كُلِّ شَــــيْءٍ مَوْعِظَةً، وفي الآية مسألتان:
الأولى: ان الآيـة في مفهومها تشير إلى ان التوراة نزلت دفعة واحدة.
الثانية: تفيد (من)التبعيض، ففي التوراة بعض المواعظ، والقرآن فيه الاطلاق والشمول.
الحادي عشر: ينحل موضوع النزول مركب إلى موضوعين.
الأول: النزول إلى السماء جملة واحدة.
الثاني: نزول القرآن مفرقاً على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي نزوله مفرقاً وعلى مراحل باب تيسير لحفظه من قبل المسلمين ولطف بهم للعمل بأحكامه والتدبر بآياته والتصدي لأعدائه في محاربته لهم.
الثاني عشر: فيه آية إعجازية وهي قابلية وأهلية كل آية على التحدي مستقلة بنفسها من غير إنضمام إلى آيات أخرى، وباستثناء بعض السور القصار فأن السورة لا تنزل كلها مرة واحدة، فالتنجيم لا يمنع من نزول بعض السّور جملة واحدة كسورة الأنعام .
روي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أنزلت عليّ الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجــل بالتسبيح والتحميــد، فمــن قرآهـا صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعد كل آية من الأنعام وهي مائة وخمس وستون آية .
والزجل – بالتحريك – الجلبة ورفع الصوت. والزجل- بالسكون – الرمي بالشيء تأخذه بيديك فترمي به.
الثالث عشر: نزول القرآن منجماً أبلغ في التأثير والنفع والإصلاح، ومن منافعه الناسخ والمنسوخ لاعتبار التأخر زماناً في الناسخ ومنه ما كان لمناسبة واقعه أو إخبارعن حدث أو أمور وأحداث تتجلى من خلال قرائن حالية تتعلق بأوان النزول ومنها ما كان جواباً لسؤال كما في أسئلة بني إسرائيل الاختبارية، ومنها ما يتعلق بأسباب النزول ليكون حجة وباب هدى وما ينفع الناس وفيه صلاحهم وهدايتهم، لذا ترى منه المكي والمدني، والصيفي والشتائي في نزوله، والنهاري والليلي، والسمائي والأرضي.
الرابع عشر: من التنجيم في التنزيل التقسيم الإستقرائي المعروف لسور القرآن الى مكية ومدنية , وإستنباط الدروس من هذه التقسيمات وفيها وجوه منها:
الأول: قانون السوّر المكية تتضمن الوعيد والإنذار.
الثاني: قانون السوّر المدنية لتثبيت الشرائع والأحكام.
الثالث: قانون قصر السورة المكية ليتيسر الحفظ والتبليغ والإنذار.
الرابع: قانون طول السور المدنية للتفرغ والإستعداد العام لإستقبال الآيات وما تتضمنه من أحكام ولإمكان حفظها من قبل الصحابة الآخرين بالإزدياد مع رسوخ الإيمان ، قال تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الخامس عشر: لقد كان في نزول القرآن نجوماً سبيلاً إلى حفظه وضبطه من قبل الأمة، وعدم الزيادة فيه .
السادس عشر: التنجيم مناسبة لحضور وسماع أكبر عدد من المسلمين نزول آيات القرآن ووعيها وحفظها إلى جانب ما فيه من الإعتبار والإتعاظ والإقرار بصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما يعتريه أثناء نزول الوحي وهو بركة تتغشى المحل ومن فيه.
السابع عشر: منع التحريف , ويدل على تهيئة الأسباب لحفظ ما بين الدفتين، وسند القرآن قطعي، سوراً وآيات على نحو العموم المجموعي للكتاب، وعلى العموم الإستغراقي الإفرادي لآياته، فهو صحيح السند وإن نزل منجماً لسلامة الطريق والأمانة.
الثامن عشر: من آيات القرآن الإعجازية التدرج في الوحي لتتجلى فلسفته وأسبابه ومقاصده ونتائجه والدروس التي يتضمنها وكل منها يستحق دراسات ومباحث مستقلة.
التاسع عشر: يتعلق التدريج والتوقيت في نزول القرآن بطبيعـة الناس وهـو آيـة إعجازيـة للوحي وتخص مسائله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحكام التغييرات فهي ليست حركة آلية بل متحركة ببركة مقدرة أحسن تقدير ومنها النسخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، وفيها تأديب وتعليم وإرشاد للناس.
العشرون: في التنجيم نوع تخفيف ورحمة وتسهيل في قبول الأحكام والفرائض.
الحادي والعشرون: إنه نوع إكرام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودوام للصلة بين الله عز وجل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني والعشرون: إستثمار سلاح الوحي خير إستثمار وليس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سلاح إلا الوحي فلابد من الحرص عليه وعدم التفريط به وتوظيفه خير توظيف.
الثالث والعشرون: الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ولو شاء لكان بأمره من غير مهلة , وفي التنزيل[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، ولكنه تعالى أراد أن يعلم الناس الصبر والحكمة.
الرابع والعشرون: عن ابن فـورك قيـل: أنزلـت التـوراة جملة لأنها نزلت على نبي يقــرأ ويكتب وهو موسى عليه السلام، وأنزل القرآن فرقاناً لأنه نــزل غيـر مكتوب على نــبــي أمــي، وهي إشــارة لطيفة لو ثبت أنها جــزء علــة في نزولــه نجومـاً خصوصاً وان حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآيات عند نزولها جزء من إعجاز القرآن وخصــائص النبوة، نعم التنجيم عون على حفظ الأمة له كما تقدم.
الخامس والعشرون: تردد الوحي مع الحوادث أشد عناية بالمرسل إليه.
السادس والعشرون: فيه بعث للسرور في قلوب المؤمنين.
السابع والعشرون: نزول القرآن منجماً وتدريجياً يأخذ الناس من الجاهلية بالتدرج إلى شرائع الإسلام، قال تعالى في بيان منافع القرآن [يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( ).
الثامن والعشرون: إبطال مقولات المكذبين.
التاسع والعشرون: ترسيخ الآيات ومواضيع النزول في القلوب والنفوس بصورة أكثر توكيداً فالقول إذا جاء مقترناً بحادثة ومناسبة يكون أرسخ في الذاكرة، وأمنع من أن تطاله يد التحريف والنسيان.
الثلاثون: إنه مناسبة للتدرج بالإمتثال وإتيان الفرائض بداعي الأمر الألهي وقصد القربة وإبتعاد عن أسباب الحرج ووجوه المشقة في الإتيان بالتكاليف دفعة واحدة.
الحادي والثلاثون: الشهادات النوعية العامة من المسلمين وغيرهم على صدق القرآن لذا يمكن القول أن التنجيم في النزول من أهم وجوه إعجاز القرآن وتحديه، ومنهم من كان ينتظر ليرى كيفية نزول الوحي ويسلم بعدها أو يزداد إيماناً وتصديقاً.
الثاني والثلاثون: من حكمة التنجيم جعل القرآن سوراً وآيات، ولم يجعله الله باباً وفصلاً واحداً ثم جاء التحدي بآية واحدة على نحو القضية المهملة والتنكير وهي قوله تعالى وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُـــورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُـــهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَـادِقِينَ .
الثالث والثلاثون: في التنجيم مصالح نوعية ومنافع شخصية وهو نوع تأديب عام وخاص، وعن الصادق عليه السلام: (إن الله عز وجل أدّب نبيه فأحســن تأديبـه فلما أكمــل له الأدب قال تعالى وَإِنَّــكَ لَعَلى خُـــــلُقٍ عَظِـــيمٍ.
الرابع والثلاون: الوحي والتنزيل هو الخيط السماوي النازل إلى الناس، وهو القلم الملكوتي المقدس في الأرض، والتنجيم فيه يدل على إتصاله ودوامه.
الخامس والثلاثون: هو باب الهداية لما بيّنه من العقائد، والدعوة إلى النظر والتدبر في الآيات الكونية وفضل الأولين.
السادس والثلاثون: التنجيم زيادة في التحدي يساعد في دراسته ومحاولة تتبعه فهو يتحداهم على نحو التفصيل ويدل على الإعجاز، آية يتأملون بها ويلاحظون التركيب وخلوها من التعقيد والغموض في المعنى ويبين ما فيها من رشاقة اللفظ، لذا كان جميع المسلمين وغيرهم يتطلعون إلى الجديد من آيات القرآن.
السابع والثلاثون: التدبر في آيات الله عندما يكون في كل مرة إشارة وبيان إلى بعضها فقط.
الثامن والثلاثون: التدرج مناسبة للتبليغ وجهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنهجية العمل الإسلامي.
التاسع والثلاثون: منهج القرآن في تغيير المجتمع والناس، التغيير التدبري المناسب للحال.
الأربعون: إحكام الآيات وحسن التقدير.
الحادي والأربعون: ولا يقال لو نزل جملة واحدة في أحكامه لتعذر تطبيقه إذ ان الله عز وجل يهيء له رجالاً وجنوداًً، ولكنه نوع تخفيف ومناسبة لإقامة الحجة والحيلولة دون الاعتذار عن تقصير.
الثاني والأربعون: دوام الصلة بين الباري عز وجل وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى.
الثالث والأربعون: التحدي المستمر في معجزة الوحي وموضوعه.
الرابع والأربعون: جعل الناس يعتادون على الوحي وينتظرونه ويترقبون ما فيه من الأسرار والعلوم والأخبار والأحكام فأنت ترى الحروف المقطعة ودعوة الناس في كيفية نزولها إلى سماع القرآن والإنصات له، ويمكن دراسة موضوعية التنجيم في مدرسة الإصغاء.
الخامس والأربعون: عظمة القرآن ومشقة تلقيه مرة واحدة، فالآية إذا نزلت كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشق عليه كثيراً، ويظهر عناء الإستقبال، ووطئة التكليف بالرسالة وثقل الأمانة عليه.
السادس والأربعون: التدرج والتوالي في نزول آيات القرآن مناسبة كريمة لحفظ القرآن وتدوينه وكان الصحابة يحفظون الآيات عشرة بعد عشرة.
السابع والأربعون: طريقة التنجيم سبب في إسلام الكثير من الناس.
الثامن والأربعون: إضعاف ودحر القوى الأخرى المؤثرة في المجتمع فالوحي فضح كفار قريش مثلاً زلزل مكانتهم في تواليه وعدم إنقطاعه.
التاسع والأربعون: تكرار وتجدد نزول جبرئيل وما في النزول، وتكراره من مضامين قدسية وحضور ملكوتي في الأرض، وفيه نوع تشريف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين.
الخمسون: إفادة اليقين ففي كل مرة يكون التحدي وإثبات الصدق والإعجاز.
الحادي والخمسون: جعل الوحي حقيقة يومية يلجأ إليها الناس في شؤونهم ليعتادوا على اللجوء إلى القرآن والإخبار السماوي.
الثاني والخمسون: إقتران الوحي بحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دلالة على بركات وجوده، وإنقطاع الوحي بوفاته وإنتقاله إلى الرفيق الأعلى دلالة على عظيم خسارة المسلمين وأهل الأرض بوفاته. قال الإمام علي عليه السلام وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتجهيزه: (بأبي أنت وأمي لقد انقطع بموتكم المينقطع بموت غيرك من النبوة والانباء وأخبار السماء)( ).
فإن قلت:إن القرآن نزل كله ولم ينزل قرآن غيره وإن بقي حياً، قلنا: إن الوحي أعم من القرآن وبينهما عموم وخصوص مطلق وقد ينزل التأويل والسنة والحديث القدسي، بالإضافة إلى الملازمة بين وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن وهي وحدها آية وسر إلهي.
الثالث والخمسون: في التنجيم إعتبار وموعظة.
الرابع والخمسون: آيات الإنذار والوعيد والتخويف عون للمسلمين في النصر على اعدائهم، وهي سبب في إعزاز وقوة المسلمين والإسلام.
الخامس والخمسون: تضمن القرآن آيات الوعد بالجنة والمغفرة الله سبحانه أصدق القائلـين، أي أن القــرآن رحمــة لأهــل الأرض لما يبعثه من السكينة في النفــس والحــث علــى الصــلاح والشــوق إلى لقاء الله عز وجل.
السادس والخمسون: ما في قراءته من ثواب وفضل في الدار الآخرة وفي الدنيا أيضاً(وأخرج البيهقي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه ، ومن قرأ القرآن فرأى أن أحداً أعطي أفضل مما أعطى فقد عظم ما صغر الله وصغر ما عظم الله ، وليس ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد ولا يجهل مع من جهل وفي جوفه كلام الله)( ).
السابع والخمسون: موضوعية الوحي والتنزيل في أيام النبوة والملازمة بين الرسالة وإتصال الوحي وحضور الملك.
الغايات من نزول القرآن
الأول: إنه معجزة الإسلام الخالدة.
الثاني: هو سلاح الإيمان.
الثالث: بيان وتفصيل للأحكام والشرائع.
الرابع: هو الصلة بين الله عز وجل وبين العباد، وصحيح أنإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره فليس القرآن وحده الصلة بين الله تعالى والعباد فهناك الدعاء والتفكر والتدبر ببديع خلقه، وهناك فضله ورحمته النازلة إليهم ولكن القرآن يمتاز عنها جميعاً بخصائص منها انه كلام الله وان العباد يستطيعون جعله طريقاً للعروج إلى السماء، كما انه نازل من عنده تعالى يناجون به ربهم ويدعونه مع عدم الإخلال بقصد القرآنية وهو معهم في كل مكان وعند كل واقعة هادياً وعوناً ودليلاً.
الخامس: هو سبيل النجاة.
السادس: حاجة أهل الأرض إلى كتاب سماوي هاد، سالم من التحريف إلى يوم القيامة.

أول ما أنزل من القرآن
من إعجاز القرآن وبديع ترتيبه الذي كان عوناً وطريقاً لحفظه وتعاهده إنه يتضمن آيات مستقلة ضمن سوّر متفردة في عنوانها وموضوعها، (ومن همز السُّؤْرَة من سُوَرِ القرآن جعلها بمعنى بقيَّة من القرآن وقطْعَة والسُّؤْرَةُ من المال جَيِّدُهُ وجمعه سُؤَر والسورةُ من القرآن يجوز أَن تكون من سُؤْرة المال تُرِكَ هَمْزُه لما كثر في الكلام)( )وسوّر القرآن تجمع على سورّ بينما سور المدينة على أسوار، قال تعالى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .
وقد سميت السوّر بأسماء خاصة مستقلة مستلة ومستخرجة من السورة كما في سورة البقرة والأعراف ونحوها، وقد يأتي اسم السورة بلحاظ الموضوع كما في سورة الفاتحة لأن بها يفتتح القرآن وإن سميت أيضاً بسورة الحمد وأسماء عديدة أخرى، وكما في سورة التوحيد والإخلاص.
أما الآية لغة فهي العلامة، ولكنها في الرسم القرآني القطعة والكلمات المنفصلة بعلامة فصل عن غيرها وذات دلالة خاصة وقد يكون أول الآية في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء آخر، وعدد آيات القرآن 6236 عند الكوفيين وهو المشهور.
وعدد كلمات القرآن 77430 عند الكوفيين والشاميين، و 77464 عند البصريين أي بزيادة (34) كلمة، وعند أهل الحرمين 77489، ومن جهة العدد وتقسيم الكلام أما القرآن فنفسه.
وعدد حروفه عند الكوفيين 321188، وعند البصريين 321200 وكذا عند أهل الحرمين ولا تباين وإضافات بل إجتهاد في استقلال الكلمات وتعدد بعض الحروف لذا ترى أن الفارق بين عدد الكلمات أكثر من الفارق بين الحروف.
ونزول الآية في القرآن مناسبة شريفة ورحمة للناس لا يعلم عظيم نفعها ومدى إنبساطه على الأمم اللاحقة إلا الله تعالى، ولأول سورة نازلة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إعتبار معين وكوننا نتلقاها وباقي القرآن فيما بين الدفتين جميعاً من غير خصوصية لا يمنع من البحث في تحديدها، ودراسة ما رافقها والدلالات الإلتزامية التي تتعلق بها موضوعاً ومحمولاً.
وأول سورة نزلت هياقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ.
وأختلف في أوانهــا منهــم من قــال أنها نزلت في شهر رمضان، ومنهــم من قــال أنها نزلت في الســابع والعشـرين من رجب تأريخ البعثــة عند أهل البيت عليهم الســلام، ولا تعــارض بين نــزول القرآن في شهر رمضان ونزولها في رجب على القول به لأن نزول القرآن في شهـر رمضان أي نــزوله إلى سماء الدنيا، ولا تزاحم وتباين بين البعثة النبوية في رجب ونزول القرآن في شهر رمضان بالنص القرآني والأخبار، لأن البعثـة أعم من نزول القرآن خصوصاً مع لحاظ الكبرى الكلية وهي إن الرسول أكبر من النبي وإن الرسـول من ينزل عليــه الكتاب. قال تعالىشَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.
وروى الحاكم بإسناده عن أبي ميسرة أن أول ما نزل من القرآن فاتحة الكتاب، ونسب إلى صاحب الكشاف أن هذا القول قال به أكثر المفسرين، ولكنه خلاف المشهور مع عدم ثبوت الملازمة بين ترتيب السور وبين أوان النزول.
أما أول سورة أعلنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة فهي سورة وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ولابد أن فيه دلالات وعبرة وحكمة. وأول سورة نزلت بالمدينة سورة وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، أما آخر ما أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ عند غدير خم في حجة الوداع.
نعم روى مسلم عن ابن عباس ان آخر سورة نزلت من القرآن سورة إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال حين نزولها (قد نعيت لي نفسي)، ولا تعارض بين الآية والسورة الأخيرة في النزول، ولابد من ملازمة لوحدة الموضوع ظاهراً.
وتوفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الحادية عشرة للهجرة وصادفت سنة 632 للميلاد .
وعدد سور القرآن 114 سورة وإنما سميت سورة لأنها تشبه السور الذي يحيط بالمصر وهو المشهور وعليه رسم المصحف وإستقرار عمل كافة فرق المسلمين، ونسب إلى ابن مسعود أنها 113 سورة، ونسب إلى أبي بن كعب أنها 116 سورة بإضافة سورة الخلع وسورة الحفد( ).

النزول
النزول: الحلول، ونزّلـه وأنـزلـه بمعنى، ومنهم من فرق بين نزلت وأنزلت ولعل الأخير للتكثير، أو أن النزول للكل والدفعة والتنزيل للتدريج والتعدد، النزول والصعود من صفات الأجسام، وأيضاً الحركة والسكون، لمناسبته للأجزاء والمراحل.
والنزول يأتي بمعنى الهبوط، والقرآن مصدر كالغفران، يقال قرأ فلان قرآناً حسناً أي قراءة صحيحة حسنة، والقرآن اسم لكتاب الله الذي أنزله على صدر نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون شريعة ومنهاجاً للمسلمين. ويعتبر هذا الاسم الآن مدرسة عالمية جامعة وإصطلاحاً دولياً خاصاً بكتاب الله تعالى وبذلك تعرفه جميع شعوب العالم بما يتضمنه من فيض سماوي مبارك، ولما ينبعث منه من إشعاعات عقائدية وأخلاقية تخترق شغاف القلوب.
وقد أولى العلماء موضوع نزول القرآن وكيفيته على ضوء مدلولات هذه الآية المباركة إهتماماً وعناية خاصة وأفردت له مباحث مطولة تضمنت أوجه النزول وما يرد على كل منها وما ذكر فيها وعلم النزول من إعجاز القرآن وبديع آياته، فهو آية إضافية تتغشى سوره وآياته وتشع بأنوار الصدق وصبغة الحق، وفيه يتجلى أهم موضوع في عالم الأمانة في الأرض فقد تكون مسؤولية حفظه أثناء التنزيل أكبر من تعاهده فيما بعد ويتجسد ذلك بعدد الملائكة الذين ينزلون مع السورة وباناطة وظيفة التبليغ إلى جبرائيل عليه السلام وبالحال التي تعتري النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول الآيات كما تقدم في كتاب الوحي.
وفي الحديث القائل (الله تعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا) لابد من توجيهه كأن يكون معناه نزول الرحمة الإلهية وقربها من العباد، وإذا كان النزول من صفات الأجسام وعلى إعتباره مجازاً بالنسبة فقد أجمع المليّون على أن الله تعالى منزه عن المكان وأنه أحاط بكل شيء إحاطة حقيقية، والأصل في الكلام أن يحمل على الحقيقة إلا أن تكون قرينة على المجاز، ونزول القرآن من الإرادة التكوينية والتشريعية مع صبغة الإعجاز في كل منهما.
والقرآن آخر الكتب السماوية نزولاً ولكنه أعظمها منزلة والمهيمن عليها والجامع لها والنازل على سيد المرسلين، والذي يتضمن أحكام الشريعة السائدة إلى يوم القيامة، تنتظره الملائكة وأهل السماوات ليعرفوا بأوان نزوله بداية المرحلة السامية للجهاد الإيماني في الأرض، وأن خاتمة النبوة أشرقت على الكونين، وفيها السعادة التامة في الدارين بما يحتويه القرآن بين دفتيه(وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن رَحَى الإيمان قد دارت، فدُوروا مع القرآن حيث دار)( ).
لقد تغشى نزول القرآن الأرض وأهلها برحمة لم تكن موجودة، وهو نوع تشريف وإكرام وتعظيم، لقد علمت الملائكة بحادثة النزول ووقوعه وأن الإنسان أصبح مؤهلاً لتحمل أعباء حفظ أعظم وديعة وأقدس وثيقة وتولى جبرئيل من سادات الملائكة أمانة تنزيله، قال تعالى في وصفه[مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ]( ).
وأشرقت السماوات بأنوار القرآن حين نزوله وتجلت فيه الحكمة الإلهية بأبهى معانيها، وأصاب أهلها سكينة وخشوع وهيبة وإجلال، إذ أشرقت آيات القرآن على الكونين، فالغاية الشخصية كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن المقاصد السامية أعم فهي تشمل الإنس والجن والخلائق جميعاً، لذا يمكن إعتبار نزول القرآن هو العيد الأعظم وبداية الإنعطاف التكويني والتشريعي نحو النظام الأمثل في السماوات والأرض لتتجلى جوانب مضيئة من بركات ومنزلة القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تاريخ الكون والبشرية.
والنـزول نــوع إكـرام وتعظيم للقرآن وفيه علو ورفعة وسمو، وإن النزول هنا عبارة عن مسؤولية جديدة أنيطت بالإنسان وهو أيضاً رحمــة نازلة وحالة في الأرض وبركة سماوية تتغشى أهلها ونزلت فيهم.
وهذا لا يمنع من إعتبار النزول بذاته هنا نوع انذار للكافرين والجاحدين والمشركين لأن القرآن عون وإمام وهادي للمؤمنين وسلاح ضد أعداء الدين والرسالات.
قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ]( )
وقال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ]( )
نزل القرآن من عند الله إلى اللوح المحفوظ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيد فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ، من قرأ محفوظ بالرفع جعله صفة للقرآن، واختلف في كيفية نزوله من اللوح المحفوظ:
الأول: نزل إلى بيت العزة في السماء الدنيا، أي أن بيت العزة في السماء الدنيا عنوان لدخول القرآن إلى عالم الدنيا. ورد القول عن ابن عباس، والقائلون بحجيته قالوا ثبت انه لم يأخذ من الإسرائيليات فيكون قد أخذه من النبي، وفي المقام الواسطة بينهما وهي احتمال اجتهاده وتأويله بالاضافة إلى السند وقوته أو ضعفه.
الثاني: نزل القرآن جملة واحدة من الزبر إلى البيت المعمور، والزبر دواوين الحفظة وهي الصحف جمع زبور.
الثالث: نزل إلى البيت المعمور.
الرابع: نزل القرآن على مواقع النجوم في السماء الدنيا حيث وقع القرآن، أي على مثل مساقطها.
الخامس: إنه أنزل إلى السماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك منجماً في عشرين أو ثلاث وعشرين سنة أو خمس وعشرين سنة، حسب الخلاف في مدة اقامته صلى الله عليه وآله وسلم بمكة بعد البعثة(1).
السادس: عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بعضه أثر بعض.
السابع: عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك بعشرين سنة، ثم قرأ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً .
والأقوال الثلاثة الأخيرة متشابهة ومتقاربة ولا تختلف إلا في تفصيل النزول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامن: إنه نزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أي ينزل شطر من الآيات في ليلة القدر من كل سنة من سني الدعوة الإسلامية، وهو مبحث عقلي ذكره الرازي وقال باحتماله(4) .
والمتسالم بين المسلمين ابتداء من زمن الصحابة وإلى يومنا هذا أن القرآن كان ينزل على طول أيام السنة وأشهرها، لم ينحصر زمان النزول بشهر معين أو زمان محدد دون آخر، فحينما تأخر الوحــي أياماً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزل قوله تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( ).
التاسع: على إختلاف في إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة بعد البعثة في كل ليلة ما يقدر الله إنزاله على مدار السنة، ثم نزل منجماً في جميع السنة، وهذا القول ذكره الرازي بحثاً ونقله القرطبي عن مقاتل بن سليمان.
العاشر: عن طريق الضحاك عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة واحدة من عنـد الله تعــالى من اللوح المحفــوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجّمه السفرة على جبريل عشرين ليلة ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشرين سنة.
وسمي اللوح المحفــوظ لأنه محفــوظ من التغييـر والتبديل والنقصان والزيادة، ومحفوظ لا يطلع عليه إلا من يشاء الله من الملائكة، وقيل هو محفوظ عند الله وهو من درة بيضاء طوله بين السماء والأرض وعرضه بين المشرق والمغرب. وذكر أن اللوح والقلم ملكان وفي قوله تعالى[إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ]( )، قيل أن الله أوحى إليهم بواسطة اللوح والقلم)( ).
الحادي عشر: إبتدأ إنزال القرآن في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة من سائر الأوقات.
الثاني عشر: عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم نزل في طور عشرين سنة)(1).
الثالث عشر: قال البيهقي: قوله تعالى[ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ] ( ) يريد والله أعلم إنا أسمعناه الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه بما سمع، ومعنى هذا أن جبرئيل أخذ القرآن عن الله سماعاً.
الرابع عشر: للتفرق حسب الوقائع والأحداث والمناسبات ويعرف في الإصطلاح بأسباب النزول، وما لها موضوعية وحجة وبيان وهو مدخل للدراسة والإستنباط والإستقراء.
أما رواية البيت المعمور وهو خلاف بيت العزة من حيث الذكر في القرآن فبيت العزة لم يرد ذكره في القرآن بينما ورد ذكر البيت المعمور مرة واحدة في سورة الطور , قال تعالى [ وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ]( ).
والبيت المعمور في السماء بحيال الكعبة تعمره الملائكة بما يكون منها فيه من العبادة، وروي أيضاً عن ابن عباس ومجاهد، وقال الإمام علي عليه السلام: (ويدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه أبداً)، ويدل في مفهومه على كثرة عدد الملائكة.
وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (البيت المعمور في السماء الدنيا وفي السماء الرابعة نهر يقال له الحيوان يدخل فيه جبرئيل كل يوم طلعت فيه الشمس وإذا رج انتفض انتفاضة جرت منه سبعون ألف قطرة يخلق الله من كل قطرة ملكاً يؤمرون ان يأتوا البيت المعمور فيصلون فيه فيصلون ثم لا يعودون إليه أبداً)(1).
وسمي بالمعمور لكثرة ما يدخله من الملائكة. جعله الله عز وجل موضعا لتوبة وطواف أهل السماء حين ردوا على الله تعالى بقولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ الآية .
وروي انهم لما قالوا ذلك بأعدهم الله من العرش مسيرة خمسمائة عام فلاذوا بالعرش وأشاروا بالأصابع فنظر الرّب إليهم فنزلت الرحمة فوضع لهم البيت المعمور فقال طوفوا به ودعوا العرش فإنه لي رضى، فطافوا وهو البيت الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبداً، فوضع البيت المعمور توبة لأهل السماء ووضع الكعبة توبة لأهل الأرض. مما يدل على الوحدة والتشابه والتناسق والملازمة بين المخلوقات العلوية والسفلية وان آيات الإعجاز الموجودة في الأرض، هناك مثلها مما يناسب أهل السماء.
وفي قول أن البيت المعمور هو الكعبة البيت الحرام لما يعمره من المصلين والطائفين وفريضة الحج والعمرة ولأنه أول مسجد للعبادة. وهذا القول ورد عن الحسن البصري وهو لا يتعارض مع النصوص الواردة بخصوص البيت المعمور في السماء لأنه هنا بلحاظ إعماره من قبل الناس، أما الذي في السماء فإنما إسمه هو البيت المعمور.
. وعن محمد بن اسحاق: وبعد ثلاث سنين من مبعثه أنزل الله عليه فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ . ونزول هذه الآية لا يدل على بدء النزول بل بدء الجهاد العلني وبدء العمل بما أمر له وليس بدء أصل المأمور به .
وقال اليعقوبي: وأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ثلاثة سنين يكتم أمره.
ولابد من التفكيك بين الكتمان والنزول فقد ينزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم القرآن ولكن يكتم أمره، والكتمان أعم من الإخفاء التام، فقد بلّغ به ولكن لا يصل إلى حالة الإجهار التي كان عليها بعد الفتح مثلاً أو قبل ذلك عندما كان القرآن ينزل في المدينة، فالكتمان له مراتب منها ما كان كتماناً عن المشركين فقط.
وكون النزول في عشرين سنة حسب بعض الروايات لا يعني الفصل بثلاث سنوات بين البعثة والنزول كما ان بعض النصوص وردت بنزوله في ثلاث وعشرين سنة.
ثم ان العشرين سنة في شطر من الروايات مدة البعثة النبوية على القول بان مدة إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة عشر سنوات.
لابد من دراسة مقارنة، النزول في السماء على مراحل، وفي الأرض مرحلة واحدة، أو العكس فنواميس السماء تختلف عن نواميس الأرض، وقد تلتقي في مسألة النزول .
الذين تناولوا مراحل التنزيل في السماء لم يتعرضوا إلى مراحل وصيغ حفظ القرآن في الأرض مع أهميته لم يبينوا جهود المسلمين في حفظه وتعاهده وما اعانهم الله عليه في ذلك.
نعم هي ليست من النزول ولاحقة للنزول لأن النزول يعني وصول الآيات والسور إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطة الملك.
وان كان هذا الملك ليس له موضوعية وأثر في ترتيب الآيات والكلمات وإنما نصفه أميناً وكذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إنهم رسل إلى الناس في تبليغ الآيات وما فيها من الأحكام والمواعظ والحكمة والعبر، لذا لا يجوز نسبة وإضافة القرآن إلى جبرئيل أو إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الإنشاء والجعل.
فلا يقال قرآن محمد وأن دأب المستشرقون على هذه العبارة، (أنه كلام الله) [حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ] ( ) نعم لو قيل قرآن محمد بقصد انه هو الذي جاء به من عند الله وان هذه الحقيقة متبادرة عند السمع وثابتة بالقرآن عند القائل فيكون من المجاز وإرادة نزوله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي علم الأصول عرف الوضع بانه إظهار المعنى باللفظ حدوثاً.
فائدة ما في القرآن المجيد ( ):
1- الكلمات: 76440.
2- الحروف: 323372.
3- الالفات:40792.
4- الباآت:10140.
5- التاآت:2199.
6- الثاآت:1251.
7- الجيمات: 3493.
8- الحاآت: 9560.
9- الخاآت:2415.
10- الدالات:4398.
11- الذالات: 4840.
12- الراآت: 10902.
13- الزايات:9083.
14- السينات:4091.
15- الشينات: 20133.
16- الصادات: 1274.
17- الضادات: 1200.
18- الطاآت: 8400.
19- الظاآت: 9220.
20- العينات: 7499.
21- الغينات: 1520.
22- الفاآت: 9500.
23- القافات: 5240.
24- الكافات: 2600.
25- اللامات:26091.
26- الميمات: 2520.
27- النونات: 13700.
28- الواوات: 13700.
29- الهاآت: 7000.
30- الياآت: 5062.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn