المقدمة
الحمد لله الذي جعل الإنسان خليفة في الأرض وفتح له آفاق المعرفة وجعل العلوم وسائل للإرتقاء في مسالك العبودية ومقدمات لما خلق الإنسان من اجله وهو العبادة، فكان علم ألأصول من اشرف العلوم لإقتباس مسائله من القرآن والسنة وتداخله مع علم الفقه واعتباره مقدمة وسبباً ومرآة له، ويمكن استقراء مفاهيم علم الأصول من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، كما تعتبر النصوص الواردة عن المعصوم دعوة لإنشائه وتحديداً لصيغ ايجاده وتبياناً لمعالمه، ونسب الى الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام توجيه تلامذتهما له، واهتم به جميع علماء الفرق الإسلامية، وهو ملك لجميع المسلمين لموضوعية مسائله في شطر من العبادات والمعاملات.
ونقل عن كتاب الأوائل للسبكي ان اول من صنف في علم اصول الفقه هو الشافعي، وقال ابن خلكان ان ابا يوسف اول من صنف فيه وفق مذهب استاذه ابي حنيفة، وتوفى الشافعي سنة 204 وابو يوسف سنة 182 أي انهما من طبقة واحدة.
وعند الإمامية ذكر ان اول من الف فيه هو حسن بن علي بن ابي عقيل وهو من مشايخ جعفر بن محمد بن قولويه ثم اعقبه محمد بن احمد بن جنيذ الإسكافي وهو استاذ الشيخ المفيد وعاصر الكليني وتوفى سنة 381، ثم كتب المرتضى ت336 الذريعة الى اصول الشريعة، والف الشيخ الطوسي ت460هـ عدة الأصول، وشهد القرن الرابع الهجري ازدهاراًَ ورواجاً لعلم الأصول .
وقيل اول من اسس علم الأصول هو الإمام محمد الباقر عليه السلام.
ويبحث علم الأصول في القواعد التي تضبط وتتعاهد الأحكام الشرعية الفرعية في الوظائف العملية للمكلفين دخولاً واثباتاً، أو اخراجاً وابطالاً، ونقضاً وابراماً، وطرداً وعكساً، وبينما يتعلق علم الفقه بنفس الأحكام الشرعية فان علم الأصول يبحث في القواعد والضوابط الكلية، فاذا وقع البحث في خبر الواحد وثبتت حجيته أو عدمها فذلك البحث والنتيجة مسألة أصولية، فاذا قلت ان الهلال رآه عدل واحد، وخبر ا لعدل الواحد حجة، فالنتيجة اذن ثبوت الحكم برؤية الهلال الا ان يرد دليل آخر مغاير، وتوظف نتيجتها في الأحكام الشرعية وتجعل كبرى لقياس مؤلف وتسمى النتيجة مسألة فقهية والعلم بها فقهاً واجتهاداً، وقيد البحث في علم الأصول بالأحكام الشرعية الفرعية لتخرج الأحكام الشرعية الأصولية كالتوحيد والنبوة والمعاد، كما ان المسائل الأصولية من اختصاص العلماء وابحاث الدرس، بينما يدرك القواعد الفقهية العالم وغيره، ومن وجوه الإختلاف بين المسألة الأصولية والفقهية:
1- المسألة الأصولية مقدمة وتوطئة لأحكام الفقه وعون في تحديد الوظيفة الشرعية وفعل المكلف وتعتبر نتيجتها حكماً وقاعدة، اما نتيجة المسألة الفقهية فهي حكم شخصي ضمن اطار الأحكام التكليفية الخمسة الواجب والمستحب والمباح والمكروه والحرام.
2- القاعدة الأصولية طريق الإستنباط وعنوان الإجتهاد اما القاعدة الفقهية فهي من باب تطبيق الكلي الطبيعي على افراده كقاعدة اليد في الشبهات الموضوعية، وقاعدة السوق ولا ضرر في الشبهات الحكمية.
3- المسائل الأصولية من اختصاص العلماء وابحاث الدرس ووقع فيها اختلاف كثير اما المسائل الفقهية فهي ظاهرة للعلماء وطلاب العلم وعشاقه، لذا تستلزم القواعد الأصولية علماً مستقلاً.
4- ضابط المسألة الأصولية هو وقوعها في طريق إستنباط الحكم وكونها جزءً أخيراً لعلة الإستنباط وكبرى لقياس ينتج حكماً كلياً فرعياً.
وحينما نأخذ النص ننظر:
1- في معاني الألفاظ.
2- أبنية الكلمات.
3- الإعراب واثره في المعنى.
4- رجال السند.
5- حجية الخبر .
والأول يتناوله علم اللغة، والثاني علم البيان، والثالث النحو، والرابع علم الرجال، والأخير يتكفله علم الأصول ليكون كبرى لقياس الإستنباط.
وكتاب كفاية الأصول للعالم والمدقق الشيخ ملا محمد كاظم الخراساني ت 1329هـ “طاب ثراه” يمتاز بمطالب عالية ونفائس العلم ومدى ما وصل اليه علم الأصول من الإرتقاء وما طرأ عليه من التنقيح وتهذيب المسائل ولابد انه يحتاج الى ايضاح فرائده وبيان غوامض لوامعه , وقد اتعب العلماء انفسهم في شرحها وتوضيحها وظلت بحاجة الى المزيد لمنزلته في الدراسة الحوزوية سطحاً وبحثاً ويعتبر تعدد الشروح والتعليقات توسعة في ابواب علم الأصول وتيسير للباحثين.
كما انه اعتمد في البحث الخارج أي في اعلى مستويات الدراسة في الحوزة العلمية وصار مدخلاً للإجتهاد أو شاهداً عليه، لذا فان التحقيق في مكنوناته ومضامينه سياحة في علم الأصول وتستلزم الجد والصبر لتبدو لك آفاق العلوم وسهولة مسائلها لما تطلع عليه من الضوابط الكلية للعلم وتلك التي تصلح لكل العلوم , وذكرنا مسائله والتحقيق فيها في الجزء الأول وشطر من الجزء الثاني من هذا الكتاب الذي هو عبارة عن تقريرات بحثنا في اصول الفقه التي القيناها على نخبة من فضلاء الحوزة العلمية، قمت بكتابتها وتنقيحها وتصحيحها بنفسي رجاء الثواب والأجر منه تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم(1)
(1) والإبتداء باسم الله تعالى إلتماس للبركة ورجاء للهداية والسداد في التأليف , وبرزخ دون الشطط وهو دعوة ظاهرة للتوحيد، وإشارة إلى إرادة قصد القربة واليمن ودعوة للإهتداء إلى المسائل بدقيق النظر.
وورد في بعض النصوص أنها أعظم آية في كتاب الله، وهي شعار إسلامي حاضر في كل مناسبة، وملاذ يلجأ إليه الناس , ومنهم العلماء إذ أن الحاجة ملازمة للناس جميعاً بلحاظ أن الإنسان كائن ممكن، ووجود البسملة في أول كل سورة من سور القرآن إلا براءة دعوة للمواظبة على قراءتها وتعاهدها وحفظها وملازمتها وعدم التفريط فيها لعظيم نفعها وبركاتها خصوصاً وأنها تتضمن مع قلة كلماتها ثلاثة من أسماء الله عز وجل.
وبلحاظ قراءتها في الصــلاة اليوميــة فإنها عنوان وحدة المسلمين وهذا من الإعجــاز الغيري للقــرآن، فلا يختلف إثنان من المسلمين وفي كل الطبقــات والأماكن في وجــوب قراءة ســورة أو عدة آيات مع الفاتحــة في الصلاة. ,
وآية بسم الله الرحمن الرحيم من وجوه تفضيل المسلمين بنزولها في أول القرآن وافتتاح السور كلها بها عدا براءة ، وتلاوة المسلمين لها في الصلاة ، وعند كثير من المعاملات والحاجات وتسليمهم بموضوعيتها في حياتهم اليومية الخاصة والعامة، وما من مسلم أو مسلمة إلا ويقر بالحاجة إلى البسملة وما لها من المنافع العظيمة.
والبسملة جزء من الإعجاز البلاغي للقرآن فمع قلة كلماتها فانها تتضمن قوة المعاني وجزالة الألفاظ والإختيار الإلهي لإسم الجلالة وإسم الرحمن وإسم الرحيم ، وذكر كل واحد منها ، وإجتماعها في هذه السورة أمور تستلزم الشكر لله تعالى على لطفه وفضله تعالى على المسلمين.
وهي حبل مبارك ممتد من السماء إلى الأرض يدعو المسلمين للتمسك به، ومن الآيات أن كلمات البسملة قليلة وسهلة النطق والحفظ، وخالية من غير أسماء الله تعالى، وليس فيها إلا اسم الجلالة وإسم الرحمن الرحيم وكل واحد منها يدل على توالي النعم الإلهية، وسعة رحمة الله وتغشيها للناس جميعاً، وفيه سلامة من الغلو، وحرز من الإستعانة بغير الله، دعوة لنبذ الشرك.
وفي الدعاء عن الإمام علي عليه السلام: “يا من دل على ذاته بذاته”([1]) والبسملة لتكون دلالة على وجوب عبادة الله، فهي سبيل الى الهدى والتفكر بآيات الله وبديع صنعه، وتجعل البسملة قلب المسلم روضة من رياض الجنة وينبوعاً للخير والصلاح.
بداية القرآن بالبسملة شاهد على أن القرآن لطف محض وفيض متصل، وتبعث البسملة الأمل في نفس المسلم عند قراءتها، لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان ونفخ فيه من روحه ليكون صلة بين الرب والمربوب، وتفضل وجعل بدايته “بسم الله الرحمن الرحيم” لتسبح روحه في عالم الملكوت ويتخذ التوكل على الله سلاحاً يقهر به الصعاب، وفي البسملة أمور:
الأول: أنها جذبة من جذبات الخالق للعبد بقيد الإسلام.
الثاني: إنها نعمة ورحمة إختص الله بها المسلمين.
الثالث: هي حرز من الآفات وأسباب الهلكات.
الرابع: واقية من غلبة النفس الشهوية والغضبية، ومن وسوسة الشيطان.
الخامس: البسملة وسيلة سماوية مباركة للإرتقاء في مراتب المعراج.
والبسملة سر من أسرار خلق الإنسان وشاهد على تعاهد الإنسان لوظائف الخلافة بان يتلو البسملة ويجعلها بداية لعمله ومفتاحاً لقوله، وفيها تأديب للمسلمين والناس جميعاً، ودعوة لإستحضار ذكر الله تعالى في حال الشدة والرخاء.
وحينما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء، رد الله عز وجل عليهم بقوله سبحانه[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]([2])، فأذعن الملائكة مسبحين، ومن علم الله عز وجل في المقام إمتلاك المسلمين لسلاح البسملة وإبتداؤهم به في عباداتهم وأعمالهم، وهو من مصاديق الفلاح والذكر المتصل في الأرض.
وهل البسملة من مصاديق الذكر في قوله تعالى في وصف المتقين[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]([3])، الجواب نعم لأن البسملة نوع توكل على الله، وعزم على الشروع بما يرضي الله.
وورود البسملة في بداية القرآن من مصاديق إمامة القرآن للناس جميعاً، لما فيها من الهداية إلى الرشاد وسبل النجاة، والحث على إفتتاح الأعمال الفردية والعامة ببسم الله تعالى، وتلاوة البسملة نزع لرداء الكبرياء عن الإنسان سواء من يقوم بتلاوتها أو من يستمع له أو يسمعه، وهي حرب على الشرك والضلالة، وسلاح سماوي لجذب الناس إلى منازل التوحيد وإخلاص العبودية لله تعالى([4]).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :كل شئ لايبدأ بالتسمية فهو أبتر.
الحمد لله رب العالمين(1) والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين،(2)
(1)وإفتتاح خطبة الكتاب بالحمد بعد البسملة إقرار بفضل الله، وإعلان للشكر له سبحانه وتأديب للنفس، وواقية من الشطط والزلل أثناء الكتابة ومباحث الدرس، وموعظة وإظهار للشكر لله على اللسان، وإمتلاؤه بحب الله تعالى وتبين الألف واللام في(الحمد) إرادة الإستغراق وأن الحمد كله لله عز وجل على نحو الإختصاص، وأن العلم وتوثيقه بالبحث والتأليف نعمة خالصة من الله عز وجل تستلزم الشكر والثناء.
لقد إجتبى الله عز جل المسلمين بقوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] وجعلهم ورثة الأنبياء، وحملة لواء التوحيد، وجعلها في بداية الكتاب ضياء للبصر وشاهد على التقيد بأحكام الشريعة في التدوين، وإرادة قصد القربة وتعظيم شعائر الله، وفيه نزع لرداء الكبر ولباس الغرور وتجعل حال الخضوع والخشوع لله عز وجل يتغشى إليه والقلم مثلما ينبسط على ثنايا الكتاب، قال تعالى[وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ]([5])، والحمد لله برزخ دون عذاب النار، وهو مادة للنجاة من الفزع والخوف الشديد يوم القيامة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لواء الحمد بيدي يوم القيامة).
(2) الصلاة على النبي وآله باب لقبول الدعاء لانها لاترد، وهي مدخل كريم لتيسير الامور ومعضلات المسائل ,[ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]([6]) .
روي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ما من دعاء إلا بينه وبين السماء حجاب حتى يصلى على محمد وآل محمد، وإذا فعل ذلك
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين ، وبعد فقد رتبته على مقدمة (1)،
انخرق الحجاب، فدخل الدعاء، وإذا لم يفعل ذلك لم يرفع الدعاء([7]).
والصلاة على محمد وآله موضوع لزكاة الأعمال، فجاءت بعد البسملة والحمد لله لرجاء التوفيق في التأليف والبيان.
(1) الظاهر ان المسائل الواردة في المقدمة ليست من المسائل الاصولية. ومصاديق علمها، انما هو مدخل جاء للتعريف والبيان فلذا اطلق عليها الماتن المقدمة.
وتتناول المقدمة ذكر الموضوع وبيانه، وهي وان كانت خارجة عن مسائل علم الاصول الا انه يحتاج اليها في فهم المسألة الاصولية واحكام علم الاصول .كما انها توسع مدارك طالب العلم والمحقق، وموضوعها اعم من ان ينحصر بعلم الاصول، وتتضمن المقدمة ثلاثة عشر أمراً وهي:
- 1. موضوع كل علم وعوارضه.
- 2. الوضع.
- 3. استعمال اللفظ بما يناسبه.
- 4. صحة اطلاق اللفظ.
- 5. وضع الألفاظ أزاء معانيها.
- 6. عدم التباين بين وضع المركبات والمفردات.
- 7. التبادر أي تبادر المعنى وانسباقه الى الذهن من اللفظ.
8. اصول اللفظ الخمس وهي التجوز والإشتراك والتخصيص والنقل والإضمار، والصيرورة لها من المعنى الحقيقي عند القرينة.
- 9. الحقيقة الشرعية وعدمها.
10ـ الصحيح والاعم.
11ـ البحث عن المشترك اللفظي.
12ـ جواز استعمال اللفظ في اكثر من معنى والاختلاف فيه.
ومقاصد(1) وخاتمة(2). أما المقدمة ففي بيان أمور: الاول إن موضوع كل علم، وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية – أي بلا واسطة في العروض (3).
13ـ المشتق وهل يتعلق بتلبس المبدأ بالحال أو يشمل معه ما انقضى عنه.
(1) والمقاصد هي:
1ـ الاوامر والنواهي.
2ـ المفاهيم.
3ـ العام والخاص.
4ـ القطع.
5ـ الظن.
6ـ البراءة والاشتغال ونحوه.
7ـ التعادل والتراجيح.
الخاتمة في الاجتهاد والتقليد.
(2) لابد لكل علم من موضوع، والعلم يكون له كالإسم للمسمى، والعنوان للمعنون فليس موضوعات العلم من مقوماته فقط بل هي سور جامع لها، وموضوع العلم متعدد بتعدد مسائله وانشطاراتها وفروعها، فالأحكام الخمسة موضوع لعلم الفقه، والكلمة العربية والجملة موضوع لعلم النحو.
ان مبحث موضوع العلم يجب ان لايقود الى حصره لا سيما بلحاظ الفروع المتعددة المتباينة التي يشترك فيها اكثر من موضوع.
وقيل ان موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة أي الكتاب والسنة الإجماع والعقل بوصف الحجية ومنهم من قال بذاته، واشكل عليه بان موضوعه أعم منها فيشمل حجية الإمارات الظنية ومسائل الأصول العملية ومبحث الضد وحجية الظهور ونحوها , وهو الصحيح .
فعلم الأصول يبحث في كيفية تعيين وظيفة المكلف الشرعية فهو مقدمة لعلم الفقه كما انه آلة الإجتهاد وبدايات طريق ومنتهى مستلزمات الإستنباط وعلومه لذا فان المسائل الأصولية محصورة في مباحثها بالعلماء بينما يدرك القواعد الفقهية العالم وغيره.
ويعرف علم الاصول بانه العلم بالقواعد الكلية المهمة لاستنباط الاحكام الشرعية الكلية، ويعرفه صاحب الكفاية بانه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن ان تقع في طريق استنباط الاحكام أي انه صناعة نظرية لوضع القواعد الكلية واستخراجها من ادلتها، كالملازمات العقلية مثل التحسين والتقبيح العقليين او تعبداً كحجية الأمارة.
واشكل على مثل هذا التعريف بان بعض مواضيع علم الأصول لا تقع في طريق الإستنباط وانما هي وظيفة الجاهل، لكي لا يبقى متحيراً كالأصول العملية وحجية الظن، اذ ان الجاهل بالحكم يعلم انه مكلف ولكنه لا يعلم على وجه التعيين ما هي وظيفته فيلجأ الى حكم العقل للأمن من العقاب بعد العلم الإجمالي بالتكليف، فلذا وسع التعريف ليشمل ما يصل اليه الفقيه بعد الفحص واليأس عن الدليل ليشمل مسائل الأصول العملية من الإستصحاب والبراءة والإشتغال والتخيير.
وكعادة العلماء في كل علم يقفون كثيراً عند تعريف العلم ويناقشون فيه بلحاظ مسائله وغاياته، ومنهم من يجتهد في اثبات عدم شمول التعريف لمصاديق العلم فكذا في ابوابه ومنهم من جاء بالف بيت من الشعر في بيان الفارق بين العوارض الذاتية والعوارض القريبة.
وذهب صاحب الفصول الى القول بان موضوع الأصول هو ذوات الأدلة الأربعة وهي الكتاب والسنة والإجماع والعقل فيكون البحث عن
حجيتها ودليلها بحثاً عن العارض، وأشكل الماتن عليه وقال ان موضوع علم الأصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المشتتة لا خصوص الأدلة الأربعة بالذات او بما هي ادلة، ولعل هذا القول اجمال لمصاديق موضوعاته , وهل يمكن الجمع بين القولين كالجمع بين المجمل والمبين، الجواب: لا، لأن الإجمال جاء بعد البيان، ولأنه بصدد الإشكال على التعريف.
ومن اكثر المسائل التي اثيرت عليها الإشكالات في علم الأصول تعريفه بانه خصوص الأدلة الأربعة لأن كثيراً من مباحثه اللفظية لا ترجع الى الأدلة الأربعة مثل مسألة حجية خبر الواحد، مسألة التعادل والتراجيح، والإستصحاب , ومباحث الأمر والنهي،ومقدمة الواجب،واجتماع الأمر والنهي اذ انها تكون من المبادئ التصورية او التصديقية او من مبادئ الأحكام التي اضيفت لعلم الأصول.
ويمكن ان يدرج خبرالواحد في عوارض السنة سواء كانت قولاً او فعلاً او تقرير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعصومين عليهم السلام .
وقد اطال الأصوليون البحث في تعريف علم الأصول واوردوا الإشكالات الكثيرة على كل تعريف له، الا ان التعريف يتقوم بامرين:
الأول:الصورة الذهنية للمعرف وهو من العلم التصوري لأنه عبارة عن تصور اللفظ تصوراً اجمالياً.
الثاني: تمييزه عن غيره بالحد التام، وهذا لا يعني الإحاطة الدقيقة باوصاف جميع مصاديقه واجزائه فانها امر متعذر، بل يكفي ذكر الخواص المميزة التي تكشف عن حصر الأفراد بالملازمة البينة بالمعنى اللأخص خصوصاً وان التعريف يحصل عادة لأهل الإختصاص والمعرفة وتعريف علم الأصول بانه خصوص الأدلة الأربعة وان احتاج الى بيان واضافة الا انه لا يعد من التعريف الخاص الخفي، كما انه ليس من التعريف بالأهم او المثال او من الطريقة الإستقرائية التي تبتنى على الإكثار من الأمثلة لوصول المتعلم الى المفهوم الكلي او القاعدة، وهو لا يخرج عن شرط تساوي التعريف مع المعرف.
والتعريف اذا كان بالفصل يسمى حداً وان كان بالعرض الخاص يسمى رسماً , وكل منهما ان كان مع الجنس القريب فتام والا فناقص.
وكأن القائل بالدقة وعموم التعريف يريد التعريف بالذاتيات المتكثرة للعلم وموضوعاته كالذي لا يكتفي بتعريف الإنسان بانه حيوان ناطق، بل يريد ان يقال في تعريفه انه جوهر جسم نام متحرك حساس ناطق، وشاع بين الأصوليينان دلالة الإلتزام مهجورة في الحدود، والماتن اشكل على التعريف ووضع تعريفاً آخر ولكنه غير واف.
ويمكن ان نعرف علم الأصول بانه العلم بالدليل متحداً أو متعدداً وما يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي،وبالذكر الخاص وايجاد عنوان آخر ملحق بها لكل ما يصلح لإستنباط الحكم، فتدخل فيه الأصول العملية.
وناقش النائيني بان البحث عن ثبوت الموضوع بمفاد كان التامة ليس بحثاً عن عوارض الموضوع، فان البحث عن العوارض يرجع الى مفاد كان الناقصة أي ثبوت شيء لشيء، لا البحث عن ثبوت الشيء.
والحق ان خبر الواحد من عوارض السنة والمقدمات القريبة لمعرفتها وان قلنا بان السنة ليست الا نفس قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعصوم وفعله وتقريره وان البحث بها اعم من الذات والدليلية، مع عدم التزامنا بان علم الأصول منحصر بالأدلة الأربعة فهو اعم منها ولو على نحوالإستطراد والإضافات التي تستلزم التوسعة في التعريف ليشمل كل ما يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي، او ما يؤدي الى الحكم الواقعي او الحكم الظاهري فمسائل علم الأصول تقع كبرى لقياس الإستنباط.
وبينما ذهب الفارابي وابن خلدون الى احصاء العلم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسعة العلم وانشطار ابوابه بقوله (العلم اكثر من ان يحصى)([8]).
ولا حاجة الى الإستطراد بالمصاديق والبحث عن عدم شمول التعريف لها بالدقة العقلية، فمسألة حجية الظن يمكن ان تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي لأنه نوع من الأمارة، وقد يثبت بها الحكم تعبداً.
والموضوع المحل المتقوم بذاته والذي يكون مقوماً لما يحل فيه والمحل على قسمين:
1- الذي يتقوم بالحال ويسمى المادة، كما لو قلنا ان الجسد محل يتقوم بالروح، والنهر وعاء ارضي يتقوم بالماء، فحينما يحل به الماء يصبح نهراً، وبدون الماء يعتبر شقاً في الأرض.
2- الذي يقوم الحال وهو الموضوع، كما في الجملة اذ تقوم الكلمة واعرابها من خلال محلها من الفاعلية او المفعولية ونحوهما وهناك نوع حاجة وملازمة بينهما فكل منهما يحتاج الآخر.
اما العرض فهو ما يطرأ على الجواهر ولا يتقوم بذاته بل يكون صفة لغيره وهو معنى قائم بغيره، كالألوان والروائح والحياة والإرادة والعلوم.
والموضوع في علم المعقول مثلاً هو الوجود، وينقسم الى واجب الوجود والممكن، والممكن ينقسم الى الجوهر والمقولات العرضية، اذ ان الممكن اذا استغنى في وجوده عن الموضوع فهو جوهر، والا فهو عرض لأن العرض قائم بالموضوع كما تقدم.
وموضوع علم الفقه هو فعل المكلف وفق الأحكام التكليفية الخمسة ومافيها من الأوامر والنواهي، وهي لواحق ذاتية لما فيها من الإقتضاء والتخيير والترك والوجوب والحرمة، وموضوع علم النحو الكلمة والجملة أي المفردات والمركبات من جهة الإعراب والبناء والحيثيات المناسبة لموضوعات المسائل فبلحاظ الفاعلية تكون الكلمة مؤهلة للرفع، وبلحاظ المفعولية
للنصب، والجر بالنسبة للمضاف اليه ونحوه من عوارض الكلمة التي هي موضوع علم النحو، فلذا قال الماتن ان العلم يبحث فيه عن عوارضه الذاتية أي ما يلحق مصاديقه الكلية، وهكذا بالنسبة لسائر العلوم.
والصحة والفساد من الأمور الإعتبارية وقد فرق بين العوارض والعروض اصطلاحاً، ذهب المصنف الى القول “بأن موضوع كل علم هو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية“، وذكر ان العوارض تشمل المحمولات ايضاً سواء كانت عرضاً او لا، وذكر التفتازاني في التهذيب ان موضوع كل علم هو ما يبحث فيه عن اعراضه الذاتية، ولكن النزاع لفظي ويحمل كلام التفتازاني على المعنى اللغوي للعرض، وهو اللاحق للشيء والطارئ عليه، ويعتبر اخص من العارض والأولى توحيد اصطلاحات علم الأصول وهناك فرق بين العرض والعرضي، فالأول المباديء المتأصلة كالبياض والسواد، والثاني: الأمور الإعتبارية كالزوجية والملكية كما عن الماتن في تقسيمه، ومنهم من جعل الأمور الإعتبارية ليست من العرضي المصطلح وهو المشتق من المبدأ، والعوارض: جمع عارض وهومطلق الخارج عن الشيء الحال فيه ويكون اعم من العرض كالأبيض والأسود والضحك.
وقيد العوارض الذاتية للموضوع (انها بلا واسطة في العروض) فنفى الواسطة وعلى نحو مقيد أي نفاها في العروض لإخراج العرض القريب وهو ما كان عروضه لموضوع العلم بالإسناد اليه بالعرض والمجاز.
وحجية خبر الواحد تعتبر من العرض الذاتي لأن مدار الحجية علىالخبر، وان كان بواسطة الجعل الشرعي والرجوع الى الدليل من الكتاب.
والواسطة على ثلاثة اقسام:
1- الواسطة الثبوتية: وهي العلة لوجود شيء، كعلية النار للحرارة، والجماع للإنجاب والسعي للكسب.
2- الواسطة الإثباتية: وهي علة العلم بوجود الشيء، كعلية طلوع الحمرة المشرقية على طلوع الفجر الصادق.
3- الواسطة العروضية: وهي واسطة تجعل العرض يسند الى غير معروضه على نحو المجاز كحركة الراكب في السيارة او السفينة وما تعكسه المرآة من الصورة او الضوء .
والعرض الذاتي هو ما يعرض لذات الشيء بلا واسطة في العروض، وليس بين وجوده ووجود معروضه أمر وجودي آخر وان كانت هناك واسطة في الثبوت لا اصلاً، والمراد من الواسطة في العروض هو تعددها وعدم طروها على الذات مباشرة، .
فالعرض اولاً وبالذات يكون للواسطة ويحمل عليها، ثم بالعرض يعرض لذي الواسطة ويحمل عليه، فحركة الراكب في القطار تكون الحركة اولاً وبالذات للقطار وتستند اليه ثانياً وبالعرض تعرض للجالس، وتستند اليه، وتحمل عليه من قبيل الوصف بحال المتعلق فهو من العرض القريب وهو ما كان عروضه على الشيء مجازياً وبواسطة امر مباين مثل نعت راكب الفرس بالسرعة، فهو يسمى عرضاً غريباً لأن السرعة في الواقع تتعلق بحركة الفرس، والوصف تعلق بامر خارجي فتكون نسبة العرض له مجازاً والذي يعرض بامر مباين كالسمرة الحاصلة بسبب حرارة الشمس وكالحرارة العارضة للماء بسبب النار، وكالنصب للكلمة بسبب المفعولية.
ولذا فان مسائل العلم منالعارض الذاتي وليس القريب لأنها مما يعرض للشيء لذاته من غير ان يكون في البين امروجودي يكون معروضاً له اصلاً ثم يكون له ثانياً وبالعرض.
وقيل بـ”ان الوجوب والحرمة من العرض القريب لأنهما يعرضان الأفعال بواسطة أمر مباين وهي المصالح والمفاسد“، ولكنهما داخلان في العرض الذاتي ولا يضر ان يكون عروضهما بالواسطة.
والماتن يقول بان المناط في العرض الذاتي هو عدم الواسطة في العروض، والظاهر ان مراده اعم مما يعرض للشيء لذاته وبلا واسطة اصلاً، الذي عليه الإجماع بانه عرض ذاتي، فاكثر مسائل العلم تكون الواسطة فيها امراً مبايناً فمثلاً: خبر الواحد حجة“ فالواسطة في ثبوت الحجية هي الجعل التشريعي وهو مباين للخبر، لأن الحجية جزء من الموضوع.
وكذا في تعريف المنطق بانه آلة قانونية تعصم مراعاتها الفكر عن الوقوع في الخطأ، فهذهالعصمة لا تتعلق بذات المسائل بل بتطبيقها وجعلها موضوعاً للإستنتاج والقياس، وكذا في مسائل الفقه فبعضها من مقولة الجوهر مثل (الماء طاهر مطهر) ومنها ما هو عرض مثل افعال المكلفين، ولكن يوجد جامع عرضي ولو من قبيل المفاهيم العامة كمفهوم شيء.
ويمكن القول: ان العلم من جهة التعريف من الكلي المشكك فمنها ما ينطبق عليها تعريف جامع، ومنها ما يحتاج الى التوسعة لتشعب مسائله ومحمولات المسائل وهي ليست من العواض الذاتية، وان علم الأصول من العلوم التي جمعت مسائل مشتتة مختلفة الموضوعات والمحمولات.
ففي الصلاة يكون معروض الوجوب فعل المكلف من حيث قابليته للحوق الأحكامالشرعية، فوجوب الصلاة بما هي فعل للمكلف بهذه الخصوصية والحيثية المنصوصة، وموضوع علم النحو ليس هو الكلمة لا بشرط ومن حيث هي، بل من حيث قابليتها للحوق الأعراب، ومنهم من قال بعدم وجود موضوع للعلم وان بعض العلوم تتعدد فيها المسائل وتتباين، فموضوع علم الفقه مثلاً الفعل تارة، والترك اخرى، والوضع او الكيف، فيتعذر ايجاد جامع بين موضوعات مسائله، ولكن موضوع علم الأصول هو الأدلة التي تقع في طريق الإستدلال الفقهي بما هي ادلة وان تغايرت من جهة الماهية، فالتمايز يحصل بين علم الهندسة والطب مثلاً لأن كلاً منهما يختص بموضوع كلي يتميز عن موضوع الآخر.
هو نفس موضوعات مسائله عينا، وما يتحد معها خارجا(1)
(1) من غير ان يقيد بشرط، فقد تكون الماهية بشرط لا، وتسمى المجردة أي بشرط ان لا يقارنها شيء من العوارض والإعتبارات، والماهية لا بشرط (المطلقة) فهي مغايرة لجميع ما يعرض لها من الإعتبارات، فصفة
الإنسانية ليست واحدة والا لما صدقت على الكثير.
وكل علم ماهية مركبة حقيقية وله اجزاء خارجية بالفعل تتمثل في تعدد مسائله، واختلف في تمايز العلوم على وجهين:
الأول:انه بتباين الموضوعات وهو المشهور.
الثاني:انه بتمايز الأغراض.
واشكل على الثاني بانه لا موضوع في البين ولا تصل النوبة الى تمايز العلوم بتمايز الأغراض مع وجود مائز ذاتي في الرتبة السابقة على الغرض.
وكأن الماتن اراد الإعتراض على ما ورد في علم الميزان بانه قد يكون موضوع العلم مغايراً لموضوع مسائله، وان اتحادهما هو فرع القول بان موضوع العلم ما يبحث عن عوارضه الذاتية، باعتبار ان المغايرة تؤدي الى عدم اعتبار محمولات المسائل اعراضاً ذاتية لموضوع العلم، ولم يتابع الماتن المشهور بالقول بان تمايز العلوم بحسب الموضوعات، والذي خالف المشهور قال بان التمايز بالأغراض التي لأجلها دونت العلوم، فعلم النحو لحفظ المقال من الخطأ واللحن، والمنطق لصيانة الفكر عن الخطأ، وعلم الأصول لإستنباط القواعد الكلية للأحكام الشرعية، وقال– أي الذي خالف المشهور – بانه لو كان التمايز في الموضوعات للزم تداخل العلوم فيما بينها لأن عدة علوم تلتقي بموضوع واحد، وهذاالإشكال مردود فلو التقى علمان او أكثر بموضوع واحد فانهما يختلفان بالحيثية.
واشكال الماتن على ما ذهب اليه المشهور من التباين والتمايز بالمواضيع بان يلزم تدوين علوم متعددة بتعدد ابواب العلم لأنها مختلفة باختلاف المواضيع والمسائل، فالموضوع في باب الصيام غير الموضوع في باب الصلاة والمعاملات، كل منها مستقل وهكذا بالنسبة لأبواب الفقه، وكذا بالنسبة للنحو فان باب الفاعل غير المفعول والمضاف اليه وكذا في علم الأصول فان الموضوع في باب الألفاظ غير الموضوع في باب حجية خبر الواحد، والأصول العملية وهكذا.
واذ يقسم العرض الى قسمين ذاتي وغريب فان العرض الذاتي على قسمين:
الأول: ما لم تكن في البين واسطة، كادراك الضروريات، لذا ليس فيها تقليدلإدراك الإنسان للكليات، لأنه من لوازم ذاته ووظائف العقل، فتعرض على الإنسان بلا توسط شيء اصلاً.
الثاني: وجود واسطة ولكنها ليست في العروض بل في الثبوت، كالضحك والبكاء الحاصل للإنسان فهو منتزع عن مقام الذات بواسطة ادراكه الكليات، ومنهم من جعل الضحك العارض للإنسان من العرض القريب لأنه يحصل بواسطة التعجب ونحوه، بعد ان اتفقوا على الكبرى وهي ان العرض الذاتي هو ما تقتضيه نفس الذات وما لا يصح سلبه عن الموضوع وان كان العروض بالواسطة، اما العرض القريب فهو ما يصح سلبه عنه وان لم تكن هناك واسطة وان وصفه ليس بلحاظ الحال، ومنهم من قال ان ما يعرض للشيء لجزئه الأعم او الأخص يكون من العرض القريب.
وقد اشكل على تعريف العلم بان البحث في مسائل العلم اعم من عوارضه الذاتية، فان البحث عن حجية خبر الواحد ليس بحثاً عن العوارض الذاتية للخبر فحجيته من جعل الشارع وليس بعوارضه الذاتية، ولكن الرد على هذا الإشكال بان مسألة حجية خبر الواحد تتعلق بالحجية والخبر معاً وليس الخبر وحده.
وذهب الشيخ الأنصاري الى القول بلزوم توسعة العرض الذاتي حتى يكون البحث في مسائل العلوم بحثاً عن العوارض الذاتية لموضوعاتها.
فالعلم سور جامع لمسائله للإدراك وللملكة الناتجة عن الكسب وطول المزاولة ولأنه ينحصر بمسائله كعلم الأصول فهو خاص بمسائله، وعلم النحو وهو خاص بالمسائل التي تتعلق بالكلمة اعراباً وبناءً.
ان الإلتفات الى موضوعية الجهة والحيثية يؤدي الى انتفاء تغاير موضوع العلم مع موضوعات المسائل، فالكلمة تصلح ان تكون موضوعاً لعلم النحو والبلاغة والصرف بحسب الحيثية وقابليتها لنوع العوارض فبلحاظ الإعراب والبناء تكون موضوعاً لعلم النحو، وبلحاظ صحة النطق واعتلال اللفظ تكون موضوعاً لعلم الصرف وبحسب البيان والظهور تكون موضوعاً للفصاحة.
وبلحاظ السياق والتعبير والذوق تجعل موضوعاً للبلاغة، لذا قيل ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات، واشكل على الفقرة الأخيرة بان زيادة الحيثية لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا معنى لهذا الإشكال فان العبارة بيانية توضيحية وليست قيداً احترازياً.
ويمكن القول ان التمايز بالموضوع ولكن صفة الموضوع تنبثق من دلالتها الجهتية الخاصة، فليس الكلمة هي موضوع علم النحو او البلاغة، بل بناء واعراب الكلمة هو موضوع النحو، وحسن التعبير والنطق هو موضوع علم البلاغة، فكما تنشطر العلوم وتتعدد فكذا تنشطر المواضيع وتتعدد.
فان قلتَ: ان البناء والإعراب والفصاحة لا تصلح ان تكون مواضيع لأنها لا تكون محلاً لما يحل بها، قلتُ: انها مواضيع على نحو الإعتبار تمتلك الأهلية للتبدل ولها كيان مستقل.
وإن كان يغايرها مفهوما، تغاير الكلي ومصاديقه، والطبيعي وأفراده (1) والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتتة، جمعها اشتراكها في الداخل في الغرض الذي لاجله دون هذا العلم، فلذا قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل، مما كان له دخل في مهمين، لاجل كل منهما دون علم على حدة، فيصير من مسائل العلمين (2).
(1) يعتبر العلم سوراً جامعاً لمسائله ومحيطاً بها وان تشعبت وتعددت ويكون كالعنوان للمعنون، والإسم للمسمى على القول بان الإسم غير المسمى وهو المختار، وكمغايرة مفهوم طالب العلم لمفهوم افراده كسيد فلان وشيخ فلان، وان كان المفهوم هو عين افراده الخارجية.
والكلي هو المفهوم او الموجود الذي لم يمنع نفس تصوره عن وقوع الشركة فيه، والكلي الطبيعي هو نفس الماهية او المأخوذة لا بشرط شيء
موجود في الخارج، والكلي المنطقي عارض للماهية.
وهل يمكن القول بان قول الماتن قياس مع الفارق، وان نسبة الكلي الى اجزائه تختلف عن نسبة العلم الى مسائله لأن الكلي الساري متحد في وجوده وماهيته مع مسائله التي هي عبارة عن مجموع وجوداته وكثرتها.
الأقوى لا، لأن العلم كالعنوان الإشــتقاقي من موضـوع مسائله وهو امر انتزاعي لمجموع مصاديقه، وذكر الكلي ومصاديقه على نحو الوصف البياني.
(2) وهذا القول لا يتعارض مع الضابطة الكلية وهي ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، فالجامع بين المسائل هو الغرض والحيثية وليس الوضع، فمثلاً البحث في الصيام من بلحاظ اللغة يدخل في علم اللغة والنحو ومن جهة الهلال وحكمه يتعلق بالفلك والحساب، واخرى من وجوبه وفعل المكلف يكون من علم الفقه، واخرى من جهة العلم بالقواعد الكلية باحكامه فيكون من علم الأصول وبلحاظ الابدان تظهر منافعه الصحية، ولذا وردت زيادة قيد الحيثية وان اشكل عليها، اذ ان الحيثية تقييدية لا تعليلية.
ويمكن القول ان موضوعات العلوم قد تقع على الجزئيات والحيثيات أي ان الموضوعات المتعارفة تنحل بلحاظ العلم الى عدة موضوعات وان كانت عرفاً واحدة، فالكلية بلحاظ تقسيم العلوم لم تكن موضوعاً واحداً، فموضوع النحو بناء واعراب الكلمة وليس ذاتها، وعلم المعاني حلاوة وجمال اللفظ وفصاحته وليس ذات الكلمة.
فالكلمة مثلاً تنحل الى عدة جزئيات وحيثيات كل منها يتعلق به علم خاص من غير ان يكون بين هذه العلوم تداخل وان قيل به فانه لا يمنع من استحقاق صفة العلم للإستقلال.
فعلم النحو يتعلق بحالة الإعراب والبناء للكلمة، وعلم المعاني يتعلق بها من جهة الفصاحة والبلاغة، وما ذهب اليه المشهور من التمايز بين العلوم بلحاظ الموضوعات، وليس الموضوعات هو الأنسب ولا يمنع من التقاء الأمرين معاً أي التمايز بسبب التباين في الموضوع تارة، واخرى بالغرض واخرى بهما معاً ان وصلت النوبة لهذا الإشتراك، وقال الماتن لإثبات ان التمايز بلحاظ الأغراض وليس موضوعات العلوم واشتراكها في الدخل في الغرض الذي لأجله دون هذا العلم، فالفرض في علم الفقه فانه احكام ومبادئ ليأتي العبد بالفرائض والطاعات وفق المأمور به، وكذا في تدوين مسائل النحو في تقسيم الكلام الى اسم وفعل وحرف، ورفع الفاعل ونصب المفعول به ونحوه فهي وسائل لحفظ اللسان من الخطأ واللبس وعدم افهام المعنى وهذا هو الغرض من علوم العربية.
فلذا قد يتداخل عدة علوم في بعض المسائل مما كان له دخل في مهمين لأجل كل منهما دون علم على حدة، فيصير من مسائل العلمين فاقراره بان في البين مهمين وغرضين، يفيد التغاير وعدم التداخل بين العلوم وان اصل الموضوع واحد، ثم ان التغاير في الغرض لا يعني بالضرورة التمايز به لأن العلم أعم، وقد تجتمع من اجل البيان والتفصيل واعتبار الحيثية،والمسألة تتكون من أمرين:
لا يقال: على هذا يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما، فيما كان هناك مهمان متلازمان في الترتب على جملة من القضايا، لا يكاد انفكاكهما (1).
1- اصل موضوعها.
2- حيثيتها التي تصلح ان تكون موضوعاً مستقلاً بذاتها.
والإلتقاء بين العلوم على اصل الموضوع لا يعني التداخل بين العلوم، فالمسجد اصل الموضوع ولكنه تارة يتخذ للصلاة فتتعلق به احكام الصلاة ويدخله المصلون، واخرى يكون محلاً للدرس فلا يحضر الا الطلبة وتارة
فعلاً مباركاً للإفتاء فلا تداخل بينها بل حتى اذا كان الطلبة يحضرون للصلاة فيه فلا يعني التداخل لأنهم يأتون كمصلين وليس كطلبة فيختلف العنوان، وفي الدرس يأتون كطلبة وربما يأتون للفتوى او الحكم، فالموضوع لا ينحصر بالمسجد بل بالحيثية والوظيفة.
وكذا بالنسبة للكلمة فالمائز ظاهر بين علم النحو وعلم المعاني مع ان اصل الموضوع واحد وهو الكلمة، ولكن الأول يتعلق باعرابها، والثاني بالفصاحة والبلاغة، فذات المسألة لا تكون من مسائل كل من العلمين.
(1) ولا تصل النوبة الى ما ذهب اليه الماتن وان نفاه وهو تداخل علمين في تمام مسائلهما لأن موضوع كلامه واستدلاله تعلق بمسأله واحدة على نحو الإهمال، والوجود اعم من الإيجاد او عدمه، وتعلق غرضين في ذات المسألة لا يعني ان كلا العلمين يشتركان في جميع مسائلهما مع قولنا بانه لا اشتراك بينهما اصلاً للتباين في الحيثية وتأثرها بنوع الموضوع لأنه سيكون مقيداً بها، وللتباين ايضاً في الغرض، فمسائل كل علم لا تدون مرة اخرى في مسائل العلم الآخر، وهذا المائز هو الذي جعل العلوم تتشعب، وكل منها يستقل بمسائله، والعلوم فيما بينها تتعلق بها النسب المختلفة فتارة يكون احدهما اعم فيكون بينهما عموم وخصوص مطلق كعلم الطبيعي والطب، او الطب العام والطب الإختصاصي، وتارة يكون بينهما عموم وخصوص من وجه كالنحو والبلاغة فانهما يلتقيان في موضوع الكلمة ولكنهما يفترقان في الحيثية، وقد يلتقيان في الغرض بمعناه الأعم من حيث صيانة اللسان وتقويم النطق.
فكأن الماتن يرد على الإشكال بتداخل علمين في تمام مسائلهما بسبب التداخل ووجود غرضين مهمين مترتبين على مجموعة من المسائل وقال انه
بعيد بل ممتنع عادة فمع التداخل في جميع المسائل لا يحسن تدوين علمين مستقلين، اما لو كان التداخل في بعض المسائل فلا مانع عند العقلاء من تدوين علمين.
ان الإشكال الذي اثاره الماتن على التمايز بالموضوع بالتداخل بين الموضوعات يرد ايضاً على قوله بان التمايز بين العلوم بالأغراض.
ومن فوائد البحث العلمي اننا ننتفع من القولين او الأقوال المتعددة للمتقدمين والمتأخرين ونختار الأفضل ان استطعنا الوصول اليه، وكذا بامكاننا الرد على المتأخر في اشكاله على المتقدم.
والنزاع صغروي بعد ثبوت العلوم والتعارف والتسالم على تقسيماتها.
ولكل علم مبادئ تصورية وتصديقية:
1- المبادئ التصورية: هي التي يتوقف عليها تصور الموضوع واجزائه وجزئياته وتصور المحمول، والإصطلاحات المتعارفة للعلم واستحضارها حين الخوض في مسائله.
2- المبادئ التصديقية: وهي التي توجب التصديق بثبوت محمولات المسائل لموضوعاتها التي يشملها العلم، فالمبادئ التصديقية يحصل معها الإقرار بنسبة المحمول الى الموضوع.
3- المبادئ الإحكامية: وهي التي يتوقف عليها معرفة الأحكام الشرعية من التكليفية والوضعية باقسامهما، سواء على القول بأن الأحكام الوضعية متأصلة في الجعل، او منتزعة عن التكليف، واعتبار المبادئ الإحكامية من علم الأصول لأنه يستنتج منها الحكم الشرعي وتقع في طريق استنباطه.
الامر الثاني الوضع هو نحو اختصاص للفظ بالمعنى، وارتباط خاص بينهما(1).
(1) الإجماع على ارتباط اللفظ بالمعنى واختصاصه به، وانما وقع الخلاف في كيفية هذا الإختصاص والإرتباط ومنشأه وانه معنى مقول او أمر اعتباري.
واختلفوا في دلالة الإلفاظ على معانيها على اقوال ثلاثة:
1- كون دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية صرفة، ونسب الى سليمان بن عباد، كدلالة الشعاع على الشمس، والمصباح على التيار الكهربائي أي من غير علة خارجية لهذا التخصيص.
وفي مباحث التفسير ناقشت حفظ العربية وهل للقرآن موضوعية في حفظها، او ان اللغة ساعدت على حفظ القرآن أو لكل منهما خصوصية في حفظ الذات، او ان كلاً منهما ساهم في حفظ الآخر، او حفظ ذاته وساهم في حفظ غيره، او ان القرآن حفظ ذاته وحفظ العربية، والاقوى هو الأخير وان كانت للعربية خصوصية وأهلية للدوام.
2- كونها جعلية فلابد ان تكون هنا جهة اقتضت نعت المعنى بلفظ خاص كالكتاب بالكتاب، والدار بالدار والسكن، ولابد من جهة خارجية رسمت هذه العلاقة بين اللفظ والمعنى وكانت سبباً في خطور المعنى في الذهن، وهو الجعل والإعتبار لذا سمي بالوضع اذ ان الوضع لابد وان يدل على واضع، وعليه الإجماع ولكن اختلف في حقيقة الوضع وكيفيته بعد اختلافهم في الواضع.
3- كونها بالذات والجعل معاً.
4- وجود راجح لمناسبة اللفظ الخاص للمعنى المخصوص وليس باقتراح صرف او اتفاق محض.
5- ان دلالة الإلفاظ على معانيها بالذات والطبع كدلالة الدخان على النار.
والأولى هو الثاني وانها بالجعل فلو كانت ذاتية لأشترك البشر جميعاً بمعرفتها وفهمها، كما انه ليس من لغة عامة ذاتية والبواقي جعلية ودفع الخلاف في معنى الوضع هل انه:
1) تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بلا اعتماد على معنى كما في الفصول.
2) تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه.
3) جعل اللفظ لإرادة المعنى.
4) الهوهوية والإتحاد بين اللفظ والمعنى، أي ان حقيقته الإتحاد الإعتباري
بينهما الناشئ عن الجعل او كثرة الإستعمال، والهيولي هي الصورة والحياة المشار اليها بالحس، وهي الجوهر عندما يكون محلاً، فاذا كانالمحل متقوماً بالحال فهو الهيولي وكأنه المادة.
ومنهم من عرفه بانه تعهد ذكر اللفظ عند ارادة تفهيم المعنى أي ان اللفظ بذاته سبب لوجود المعنى من غير واسطة او سبب خارجي، ويستحيل تخلف المعنى كاستحالة تخلف الحرارة عن النار والشعاع عن الشمس، وكأن المعنى محمول اللفظ ولازم له فكما يستحيل تخلف المعلول من علته كذلك يستحيل استحضار المعنى في الذهن عند اطلاق اللفظ.
واختلفوا في الواضع على اقوال عدة:
الأول: انه الله تعالى، وبه قال جماعة منهم ابو الحسن الأشعري، وقد نفى الشيخ الانصاري قدرة شخص معين على ايجـاد العلقة بين اللفظ والمعنى (وقال: دعوى ان الوضع عبارة عن التعهد، واحداث العلاقة بين اللفظ والمعنى من شخص واحد مثل يعرب بن قحطان كما قيل مما يقطع بخلافها فلابد من انتهاء الوضع اليه تعالى الذي هو على كل شيء قدير وبه محيط.
وصحيح ان ايجاد الملازمة بين اللفظ والمعنى عمل اكبر واعظم من ان يتولاه شــخص واحد بعينه كيعـــرب بن قحطان او غيره او انه يتم ويــستقر عند جيل واحد، الا ان هذا القول لا يعني الحصــر بان الواضــع هــو الله عز وجل من غير واسطة بشر.
والماتن لم يتعرض لأصل الوضع، ومن هو الواضع، فقال:“الوضع هو نحو اختصاص اللفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما ناشيء عن تخصيصه به تارة، ومن كثرة استعمال فيه اخرى“.
لقد وردت أسماء مخصوصة في القرآن مثل [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ]([9]) فشهر رمضان هو الوحيد من بين الشهور الذي ورد أسمه في القرآن وفي هذه الآية دون غيرها، فهل ان هذه التسمية وامثالها تدل ان الواضع هو الله عز وجل، الجواب: لا، من وجهين:
الأول: انها على نحو القضية الشخصية.
الثاني: عدم ثبوت الملازمة بين الوضع والتسمية في القرآن خصوصاً مع استحضار الضابطة الكلية في فلسفة النبوة وهي ان النبي يأتي بلغة قومه والعرف السائد قال تعالى [ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِه]([10])، نعم لابد ان هناك اسماء وضعت من السماء سواء عند خلق آدم وتعليمه الأسماء او فيما بعد بواسطة الوحي والكتب السماوية المنزلة والقرآن هو الجامع لها.
والقول بان الله عز وجل هو الواضع على وجوه:
1- ان الله عز وجل لقن الإنسان اللغات، ويمكن ان يستقرأ هذا القول من قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ([11]) وان اللغات تفرعت من آدم ولم يثبت هذا العموم.
2- انه تعالى وضع الألفاظ كوضعه للأحكام على متعلقاتها وضعاً تشريعياً، او كجزء من الإرادة التكوينية وهو بعيد.
3- ان وضع الإلفاظ واظهار البشر لمقاصدهم، ولزوم قيام الحجة عليهم بالنطق والبيان عما في نفوسهم هو فرع حكمته تعالى في الخلق فلابد ان تكون بتوفيق منه سبحانه، وهذا صحيح باعتباره جزء من فضله تعالى وخلقه للإنسان على أحسن تقويم الا انه يجعل كيفية الوضع قضية مهملة ولم تتضح كيفيتها.
4- ان الألفاظ بوحي منه تعالى الى انبيائه.
5- بالهام منه سبحانه الى البشر.
6- بابداع اللغة في طباع الناس وجعل الوصول الى لغة للتفاهم جزء من فطرتهم.بسمه تعالبسببببببببس
الثاني: البشر كيعرب بن قحطان، وان الله عز وجل جعل عند الإنسان قدرة على الوضع سواء باصل النطق او بالعقل، وطبيعة الإنسان في الأنس بالجماعة والحاجة اليها، فجعلوا الفاظاً لإبراز مقاصدهم لتصبح هناك حيثية دلالة اللفظ على معناه، بحيث يستحضر الإنسان المعنى بمجرد سماعه اللفظ كدلالة العلامة الموضوعة في الطريق لابعاد المسافة على معانيها، فالإختصاص والإرتباط من مقومات اللفظ وليس هي ذاته.
ان نسبة الوضع الى شخص معين بمبادرة ذاتية منه امر مستبعد وخلاف الظاهر.
اما القول بان الله عز وجل هو الواضع فهو ممكن من جهة قدرته على جميع الأشياء وتســاويها في الممكنات مطلقاً، ولكن القــول بان وضع مفردات اللغات تم بالوحي الى الأنبياء لا دلالة عليه بل ان النقل بخلاف قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ]([12])يدل على وجود اللغة واللسان عند الأمم وبعث الرسل بلغتهم، وان القول بالإلهام وهو ايضاً لا دليل عليه سواء كان للفرد او للجماعة وعلى نحو الخصوص بالنسبة للغة والإلهام هو العلم الضروري او القاء معنى في الروح بطريق الفيض وما يقع في القلب من علم ليكون مقدمة وآلة للعمل، نعم يصدق هذا بالنسبة لآدم ولغته.
اما القول بوجود الراجح وهو من الكلي المشكك فما هي علة الرجحان وجهته وهل يتعلق بالمصالح ام بالأغراض والغايات ام هو فرع تأسيس اللغة، نعم الرجحان موجود اصلاً بايجاد لفظ معين لمعنى مخصوص.
اما القول بان دلالة الإلفاظ على معانيها بالذات فالقطع بخلافه لأنه لو كانت الدلالة ذاتية لا تحدث مع تباين الأجيال والأمصار والأعصار فلابد من توسط الوضع.
ويمكن النظر الى الوضع بمنظار السعة والشمول وانه على قسمين:
الأول: ان وضع الإلفاظ بفعل الناس انفسهم وتم بالتدريج والإشتراك في اختيارها وتنقيحها بكثرة الإستعمال بما جعله الله عز وجل عندهم من العقل وقوة التمييز الحاجة الى اختصاص اللفظ بالمعنى وهو ظاهر بالنسبة لأسماء المخترعات الجديدة وكيف يكون التوصل الى اختيارها بالمعاني البيانية والإشتقاقية مما وضع للمواضيع المشابهة من الإلفاظ المخصوصة، ويمكن ان تعتمد في الأعلام الشخصية والأجناس الإستصحاب القهقري في كيفية ايجادها بعد عدم الدليل على التعيين المباشر منه تعالى بالوحي والتنزيل، أي اننا نحس بالوجدان ان وضع الألفاظ لمعاني المخترعات يتم من البشر فكذا بالنسبة لما سبق ولكن يشكل عليه بان الوضع المستحدث ليس ابتداعاً صرفاً للفظ.
اما القسم الاخر فهو ان الله عز وجل علّم آدم الأسماء كلها وانزله الى الأرض فاللغة الأم هي لغة سماوية علمها الله عز وجل ابا البشر بالوحي وفي السماء، فهذه اللغة هل:
1- انقرضت وانمحت وحل بديلاً عنها الوضع من البشر.
2- بقت موجودة بين لغات الأمم.
3- انبثقت وتفرعت عنها اللغات الأخرى.
4- ان الله عز وجل علم آدم عليه السلام اللغات كلها ثم اخذت كل امة واحدة منها.
5- التفصيل في لغات اهل الأرض، فلغة واحدة منها بالوحي والتعليم، والبواقي بابتكار من البشر وحسب الحاجة والراجح.
6- ان التعليم كان لأعلام شخصية مع القواعد لإشتقاق الأسماء والأجناس الأخرى فتم وضعها على نحو تدريجي وكل امة بصورة مستقلة وبحسب الحاجة وكثرتها وحسب الفطرة التي فطرهم الله عليها لذا ترى المخترعات يشتق لها اسم مناسب للمعنى ولا يأتي لفظها ابتكاراً.
ومن المعلوم انه تعالى اذا انزل نعمة فانه اكرم من ان يرفعها فلابد ان تكون باقية في الأرض، فتعليم الأسماء بدء منه سبحانه تعالى، واول ما خلق آدم وبعث فيه الحياة كان متكلماً وليس صامتاً، فالكلام امر وجودي ملازم لخلق الإنسان، وفي الرواية انه اول ما بعثت الروح في آدم عطس فقال: الحمد لله.والأقوى وجود لغة نزل بها آدم واصبحت هذه اللغة نواة ومادة لكل اللغات فيما بعد لعمومات ان الله عز وجل اذا أنزل نعمة فهو أكرم من ان يرفعها ولما فيها من الافاضات التي يترشح الثبات والبقاء منها، لذا قيل ان لغة آدم هي العربية وهي لغة أهل الجنة، وقيل انها السريانية.
نظرية التعهد
بعد الإتفاق على الوضع، ووجود علاقة بين اللفظ والمعنى، وعملية اختيار اللفظ المناسب للمعنى بلحاظ قرينة او امارة او علامة لصفة معتبرة في اللفظ يتبادر معها المعنى الى الذهن، اختلفوا في كيفية حصول هذه الصفة وتفسير العلاقة بين اللفظ والمعنى وتصور المعنى عند اطلاق اللفظ على قولين فالمشهور قال بانها عملية اعتبارية ثم اختلفوا في المعتبر، والذي خالف المشهور قال بنظرية التعهد.
وتقوم نظرية التعهد على التباني النفساني عند المتكلم بان اللفظ المخصوص يحدث عند السامع المعنى الذي يريده فلذا سميت بالتعهد أي لحصول تعهد والتزام وتباني بين المتكلم والسامع للعلقة والصلة بين اللفظ والمعنى وقال بها الشيخ علي النجفي النهاوندي.
واعتبرها السيد الخوئي التفسير الوحيد لحقيقة الوضع , ولكن أسباب ومقدمات الوضع متعددة .
وتكون الدلالة الوضعية بحسب هذه النظرية دلالة تصديقية دائماً لأنها تبتني على التعهد والإلتزام وهما امران اختياريان، والإختيار لا يتقوم الا بالقصد والإرادة من المتكلم لتفهيم المعنى وما يتبادر اللفظ عند السامع فهو من تداعي المعاني.
والتعهد لا ينحصر بشخص واحد بحسب هذه النظرية بل هو يشمل كل متكلم على نحو العموم الإستغراقي لما فيه من الإختيار والتعهد المتصل من المتكلمين وعدم انحصاره بالواضع الأول، بل ان كل متكلم يتلقى الوضع بتعهد والتزام ممن قبله وصولاً الى الواضع الأول ومن بعده ليصبح كل متكلم ملتزماً به فكأنهم بعرض واحد، الواضع الأول ومن بعده ليصــبح كل متكلم واضعاً لأنه يلتزم بالإتيان بالفظ المخصوص لإرادة تفهيم المعنى.
واشكل على نظرية التعهد بالدور وان الإلتزام بابراز اللفظ عند ارادة تفهيم المعنى يتوقف على العلم بالوضع أي بوضع هذا اللفظ للمعنى، فالإلتزام باتيان شخص لفظ معين لإرادة معنى لابد ان يتوقف على العلم بوضع هذا اللفظ لذات المعنى فيكون التعهد والإلتزام متوقفاً على الوضع، والوضع نفسه تعهد والتزام فيكون كل منهما متوقفاً على الآخر.
واجيب بان التعهد التزام كل متكلم لطبيعي اللفظ وطبيعي المعنى على نحو القضية الحقيقية، أي التي يؤخذ موضوعها من حيث هو لا باعتبار الوجود الخارجي بل باعتبار ما صدق عليه الموضوع بالفعل والتي يحكم فيها على الأفراد محققة كانت او مقدرة، والقضية الخارجية التي يؤخذ موضوعها باعتبار الخارج أي باعتبار افراد موضوعها الموجودة والمحققة في الخارج.
ليحصل الإلتزام بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى، فالمتكلم في مقام الإستعمال وتطبيق التزامه كلما اراد فرداً من طبيعي اللفظ لغرض تفهيم المعنى فانه لا يظهر الا بهذا اللفظ.
ثم ان الإلتزام والتعهد امر مركب من مرحلتين، الأولى مرحلة الوضع، والثانية مرحلة الإستعمال، واشكال الدور لا يبرز الا في مرحلة الإستعمال والتطبيق واستعمال فرد من طبيعي اللفظ في المعنى، فالتعهد التزام كل متكلم وليس الواضع وحده بابراز لفظ مخصـوص عند ارادة تفهيم المعنى.
ولو تنزلنا وقلنا بالتعهد فكيف وصل الى باقي افراد البشر او الأمة ممن يتكلم ذات اللغة، ثم ما هو لسانهم وصيغ الخطاب بينهم قبل وصولها خصوصاً وانه يستحيل وصول الإلفاظ على نحو دفعي الى الجميع، وتعذر اشتراكهم في مجلس واحد لوضع الألفاظ وان كانت فكرة هذا المجلس لا تحل الأشكال.
واشكل الشيخ الأنصاري على نظرية التعهد “بانه لم يكن تعهداً من شخص لذلك ولم ينعقد مجلس لوضع الإلفاظ، وكيف يمكن ذلك مع كثرة الإلفاظ والمعاني على وجه لا يمكن احاطة البشر به“.
ولكن التعهد على القول به لا يستلزم بالضرورة ان يصدر من شخص واحد بل هو تدريجي لما فيه حفظ معايش الناس وانظمتهم ولا يستلزم مجلساً لوضع الإلفاظ انما يأتي بالتنقيح والتداخل والمزاولة.
نعم يمكن الإشكال على نسبة وضع الإلفاظ ازاء معانيها وتأسيس لغة الى شخص بعينه مثلما قيل بنسبة احداث العلقة بين اللفظ والمعنى الى شخص واحد مثل يعرب بن قحطان، وقال ان الله واضع الألفاظ لكن بالواسطة بوحي او بالهام او بايداع في طبائعهم.
والنظرية مبنية على التعهد والإلتزام والتباني في التقسيم على الإتيان بلفظ مخصوص عند تصديقهم معنى معين، فنشأت عنه علقة وضعية بين اللفظ والمعنى، فالدلالة تصديقية دائماً.
ونظرية التعهد لا تستوفي موضوع الوضع بل انها تتعلق بما بعد الوضع، ومرتبة متأخرة عنه زماناً ولاحقة به، فبعد اختيار الألفاظ ووضعها ازاء المعاني يحصل التعهد.
فنظرية التعهد فرع القول بانها جعلية ولا تصلح ان تكون قسيماً للأقوال المتقدمة وتكون احياناً نوع طريقية لتثبيت الوضع.
نظرية الإعتبار
جاءتهذه النظرية لتفسير الإرتباط الواقعي بين اللفظ والمعنى، وتبتنى هذه النظرية على سببية اللفظ لإستحضار المعنى في الذهن حال سماعه، وهو امر لم يحصل اعتباطاً ولابد من ارتباط ومنشأ لهذه العلاقة والصلة وان الواضع اعتبر اللفظ للدلالة على المعنى ليحصل نوع صلة بين اللفظ والمعنى اساسه اعتبار الواضع، وهذه النظرية اعتمدها المشهور.
ولكنهم اختلفوا في كيفية الإعتبار وحصوله على اقوال ثلاثة:
الأول: ان الواضع اعتبر الوضع علامة على المعنى فيكون كاشفاً ودالاً على المعنى، كالعلامة المنصوبة في الطريق للدلالة على موضع او معلم مع الفارق ان الوضع اللغوي اعتباري، ووضع العلامة في الطريق على نحو حقيقي خارجي.
الثاني: تبتنى على اعتبار الواضع اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى، فكأن الملقى للمخاطب هو المعنى على نحو التنزيل والإعتبار، واللفظ ترجمة على اللسان لذات المعنى أي ان اللفظ يفنى بالمعنى كالإسم والمسمى، والعنوان والمعنون، فصحيحان ماهية المعنى مباينة لماهية اللفظ الا ان المعنى له وجود اعتباري في ذات اللفظ ودلالته، ويمكن ان تناقش بان هذا الوجود الإعتباري مترشح عن الوضع، ولا موضوعية له في اصل الوضع، وانها لا تختلف عن نظرية التعهد ولكنها أقل منها رتبة.
الثالث:ان الواضع يعتبر اللفظ اداة لتفهيم المعنى ويكون اللفظ وسيلة، والمعنى ذو الوسيلة، فالمتكلم يتوسل ويستعين باللفظ لتفهيم السامع المعنى، فكما يجعل زر الكهرباء وسيلة لإنارة المصباح، والمفتاح لفتح الباب فكذا يتوسل باللفظ لأخطار المعنى مع الفارق بان العلاقة في الوضع اعتبارية وفي زر المصباح حقيقية تكوينية.
والأقوى في الإعتبار اجتماع الأول والثالث معاً دون الثاني، ونظرية التعهد فرع الإعتبار وتتداخل معها،فلابد في الإعتبار من قصد واختيار ولا تعارض بينهما.
الوضع التعييني
هو الوضع الذي ينشأ عن سعي الواضع لجعل اللفظ دالاً على المعنى، فيبذل الجهد لإنشاء العلاقة بين اللفظ والمعنى ويتصدى لنشرها وافشائها في محيطه وعند الجماعة، مثلاً يعتبر الواضع لفظ الدرس للكسب والتحصيلالعلمي، والدار للسكن فينشط لتثبيت العلاقة والملازمة بين هذا اللفظ وبين معناه، فالوضع التعييني يفيد الإنشاء اللفظي من الواضع، ليصبح اللفظ مختصاً بالمعنى فانياً فيه، ولا يستلزم فهم الصلة بينهما الى قرينة.
الوضع التعيني
وهو نشوء علاقة اتفاقية بين اللفظ والمعنى من غير جهد مخصوص ومقصود من الواضع بحيث يتفق كثرة إستعمال لفظ في معنى معين، وهذه
أن تمايز العلوم إنما هو باختلاف الاغراض الداعية إلى التدوين، لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلا كان كل باب، بل كل مسألة من كل علم علما على حدة، كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمل، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجبا للتعدد، كما لا يكون وحدتهما سببا لان يكونمن الواحد(1).
الكثرة في الإستعمال هي علة اختصاص اللفظ بالمعنى، وانخطاره في الذهن من غير جعل جاعل بل باستئناس الاذهان به والتبادر.
ويمكن التداخل بين الوضعين فكل لفظ مخصوص لمعنى بدأ بالتعيين لابد وان يكون تعينياً كما يصعب ايجاد امثلة محددة لكل منهما الا على القول بان الله عز وجل هو الواضع، وان اللغة التي نزل بها آدم موجودة فيكون من التعييني، ولكن المراد بالتعيني هو ما تم على نحو مستقلاي ليس المراد التعيني المتفرع عن التعييني، بل التعيني ابتداء والقول بالوضع التعيني ينفي بالدلالة التضمنية نظرية التعهد فليس فيه قصد وتباني نفساني بل ان اختصاص اللفظ بالمعنى يحصل انطباقاً وجرياً من كثرة الإستعمال وطول المزاولة فصار المعنى ينسبق من اللفظ عند الإطلاق.
(1) في بيان مخالفته للمشهور الذي قال بان التمايز حسب الموضوعات باعتبار ان الموضوع يدخل في ذات العلم، اما الغرض فهو أمر خارج عنه يسرد الماتن الدليل على قوله بالتمايز بالإغراض دون المواضيع فيما بينها، وان التمايز بالموضوع لا يصلح سبباً لأن النظر له بدقة عقلية يعني ان كل مسألة لها موضوع مستقل، فباب الركوع علم مستقل وباب السجود علم مستقل، وكذا في اللغة فالفاعل علم مستقل، والمبتدأ كذلك.
فان الماتن يريد ان يقول ان اختلاف الموضوع والمحمول مع وحدة الغرض لا يوجب التعدد، وان وحدة الموضوع والمحمول مع تعدد الغرض لا يكون من الواحد، فان المدار على الغرض واتحاده او تعدده، ولكن القول بان التباين في المواضيع لا يعني بالضرورة الإختلاف بين مسائل كل علم، فهذا التباين قد ينطبق على الأغراض ايضاً أي في الغرض من كل مسألة والمسألة الأخرى سواء كان التمييز في حال التدوين وفصل كل علم عن الآخر، او في حال التمييز للجاهل وبيان الإختصاص.
فموضوع الطب البحث في البدن من حيث الصحة والمرض فهذا التقييد الأخير (من حيث الصحة والمرض) يعني ضمناً الرجوع الى الموضوع لبيان التمايز، وتتعلق علوم اخرى ببدن الإنسان منها علم الفقه لأنه يشمل الأحكام الشرعية الخاصة ببدن الإنسان، والتسمية تأتي غالباً متأخرة رتبة عن الموضوع وهي وان لم يكن لها دخل في موضوعيته الا ان مواضيعه لها اثر في التسمية، ومراده من المحمولات ما يتعلق بذات الموضوع مثل المبتدأ لابد له من خبر، والمبتدأ لا يكون نكرة، والفاعل مرفوع.
الهوهوية
وهي نظرية تتعلق بالعلقة الوضعية بين الطرفين اللفظ والمعنى، ويمكن اعتبارها فرع نظرية الإعتبار لإبتنائها عليها وليس على نظرية التعهد ومفادها هو القسم الثاني المتقدم من الأقوال الثلاثة في نظرية الإعتبار، فحقيقة الوضع عبارة عن اعتبار وجود اللفظ وجوداً للمعنى تنزيلاً، فكأن اللفظ هو المعنى على نحو التنزيل في عالم الإعتبار وليس الحقيقة وظلاً للمعنى وانه لا يوجد في عالم الإعتبار الا المعنى، وان يلحظ ابتداء حين استعمال اللفظ ذات المعنى، هو المراد من التنزيل وفناء المنزل في المنزل عليه، فلا يبقى في عالم الإعتبار الا المنزل عليه وهو المعنى، فايجاد اللفظ بلحاظ التنزيل ايجاد للمعنى، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، لذا قيل بان لحاظ اللفظ دائماً لحاظ آلي باعتبار انه مقدمة قهرية انطباقية لإرادة المعنى، وان المتكلم ينظر اولاً الى المعنى بذاته.
ثم إن الملحوظ حال الوضع: إما يكون معنى عاما، فيوضع اللفظ له تارة، ولافراده ومصاديقه أخرى، وإما يكون معنى خاصا، لا يكاد يصح إلا وضع اللفظ اللفظ له دون العام، فتكون الاقسام ثلاثة (1).
(1) مع تعدد النظريات في اصل الوضع وانشطارها فانها تتفق على ملاحظة الواضع للصلة والإرتباط بين الطرفين اللفظ والمعنى، ولحاظ المعنى عند اختيار اللفظ ووضعه ازاءه لأن الوضع من الأمور الإنشائية المتقومة بالتصور لذا عد بعضهم الإنشاء من التصور لأن الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل للإنشاء بلا نسبة تامة خبرية يذعن لها، والوضع على اقسام، والمشهور هو تقسيم الوضع الى ثلاثة اقسام على نحو استقرائي عقلي وهو الذي اختاره الماتن ومنهم من جعلها اربعة.
والوضع بمعناه المصدريهو فعل الواضع والمتحصل من ملاحظة المعنى عند إختيار اللفظ المناسب له والعلقة بينهما، وينقسم بلحاظ تصور المعنى إلى أقسام:
1- الوضع عام والموضوع له عام، أي أن المتصور كلي والموضوع له والمعنى الملحوظ كلي أيضاً، فاللفظ عام والموضوع له أيضاً عام على طبق الملحوظ حال الوضع ومن هذا الوضع أسماء الأجناس وتصور العام يوجب تصور الأفراد والإنتقال اليها فمنه الانسان، الشجر، الخشب، الحديد.
وهذا القسم عليه الإجماع والعقل والوجدان وهو الوحيد من بين الأقسام لا تجد عليه إشكالاً لأنه بسيط خال من الواسطة.
2- الوضع عام والموضوع له خاص، أي أن اللفظ عام ولكنه موضوع ازاء مصاديق وأفراد ذلك العام المتكثرة والمتصورة إجمالاً بلحاظ ما يعتبر وجهاً وعنواناً لها وهو العام، فالأفراد لا تكون متصورة بخصوصياتها الفردية والملحوظ هو العام بوجهه وعنوانه، فيكون العام كلياً متصوراً منطبقاً على أفراده.
وكأن هذا التصور واسطة وسور جامع لها، فيكون الموضوع له خاصاً، وأشكل عليه بأن هذا الوضع يستلزم وجود واضع وشخص تمكن من جعل اللفظ أزاء الأفراد، أي أن الذي يقول بهذا القسم يقر ضمناً:
1- بنظرية التعهد والتباني النفساني في وضع اللفظ أزاء المعنى والقصد إليه مع لحاظ العلقة والجامع والمناسبة.
2- إن الواضع للألفاظ أزاء معانيها هو شخص معين كما ذكر في يعرب بن قحطان بأنه واضع العربية فيكون الوضع كلياً مقصوراً منطبقاً على أفراده، وهذا الإشكال هو ظاهر الشيخ الانصاري والشيخ النائيني.
والأقوى عدم وجود ملازمة بين القول بهذا القسم وهذين الإقرارين، لأنه يمكن ان يحصل بالتدريج ووفق نظرية الإعتبار.
ثم أشكل عليه أنه من أقسام المشترك اللفظي، كما لو كان وضع لفظ الشجر بلحاظ أفراد الشجر، وعلى نحو إنحلالي في وقت تتباين فيه أفراد الشجر فمنها المثمر ومنها غير المثمر، ومنها دائم الخضرة، أو الفصلية، ومنها النخل وله خصوصية معينة ويتصف بالسعف والكرب.
ولفظ الإمام هو عام ويشمل كل رئيس جماعة وامام الصلاة، والإمامة في الإصطلاح وهي الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا.
وذكر أن من هذا القسم وضع الحروف والضمائر والإستفهام مما يتضمن معنى الحروف وما يلحق بها كما سيأتي ومنهم من سلم في إمكان هذا القسم ولكنه إستبعد وقوعه.
والماتن نعت وضعه للحروف بأنه توهم لأن أكثر معاني الحروف كلية قابلة للإنطباق على مصاديق كثيرة ومنهم من جعل الإستعمال مركباً، كما في قولك سرت من البصرة، فهو كلي بالنسبة للإبتداءات المتصورة للخارج من البصرة، وجزئي بالنسبة لمطلق الإبتداء، ولكنها غير متصورة في المعنى إنما هي إنحلالية، والمراد بقولهم إن الموضوع له فيها خاص أي جزئي خارجي، والذي أشكل قال بأن كل نقطة يبدأ بها، وكذا حال (إلى) لإنتهاء الغاية كقوله تعالى [أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] ([13]).
3- الوضع الخاص والموضوع له الخاص وهو المعنى الجزئي الإنخطاري في الذهن، والموضوع له نفس ذلك الجزئي فتكون هناك نوع مطابقة بينهما لأن المعنى متصور بنفسه لا بوجهه، ومن هذا القسم اسماء الأعلام نعم لو قال كل دار إشتريها هي وقف، أو كل عبد أمتلكه هو حر، فهو ليس من هذا القسم بل من الوضع العام والموضوع له الخاص لتباين الدور المشتراة أو العبيد المملوكين.
الوضع الخاص والموضوع له العام، وهو تصور وضع خاص وقضية شخصية له عام، فيضع اللفظ للمعنى الجامع، وقيل باستحالته لأن الفرد والشخص لا يصح إنطباقه على المعنى الجامع والشامل الذي هو غير مستحضر بنفسه.
وهذا القسم غير متحقق خارجاً لإعتبار الصلة والترابط بين اللفظ والمعنى سواء على نحو الحقيقة أوالإعتبار أو الوجه، فلابد من ملاحظة الكلي للتباين بينه وبين الأفراد والمصاديق التي يمكن النظر إليها بالعنوان العام والجامع الذي يجمعها وتلتقي عنده متفرقاتها.
فالكلي وهو المفهوم الذي لم يمنع نفس تصوره عن وقوع الشركة فيه، وهو يختلف عن لحاظ الأفراد وإن كانت متكثرة إذ أن كلاً منها يصدق على نفسه اما الكلي فانه يصدق عليها جميعاً.
ونسب لأحد الأصوليين “معقولية القسم الرابع نظراً إلى أنه كمنصوص العلة فان الموضوع للحكم فيه شخصي ومع ذلك يسري إلى كل ما فيه العلة، وكذلك إذا وضع لفظ لمعنى بإعتبار ما فيه من فائدة فإن الوضع يسري إلى كل ما فيه تلك الفائدة فيكون الموضوع له عاماً مع كون آلة الملاحظة خاصة”.
ولكنه مدفوع لأن النوبة فيه لا تصل الى وضع الكلي، وللتباين الذي ينافي العلقة الوضعية المتعارفة بين الطرفين اللفظ والمعنى، والماتن نعت القول بهذا القسم بالتوهم فقال: “وفرق واضح بين تصور الشيء بوجهه وبين تصوره بنفسه ولو كان بسبب تصور امر آخر، ولعل خفاء ذلك على بعض الأعلام وعدم تمييزه بينهما كان موجباً لتوهم امكان ثبوت قسم رابع وهو ان يكون الوضع خاصاً مع كون الموضوع له عاماً“، وتحتمل الإشارة الى العلامة المحقق الشيخ حبيب الله الرشتي الذي اختاره في بدائعه.
وقيل أنه لا يكون للوضع إلا قسمين لا ثلاثة ولا اربعة فكما لا يعقل القسم الرابع وهو الوضع الخاص والموضوع له العام، كذلك لا يعقل القسم الثاني أي الوضع العام والموضوع له الخاص بحجة عدم بيان الموضوع له بالتفصيل بل لأن الوضع عام واجمالي وعدم تصور خصوصيات الأفراد الخارجة عن ماهيتها الذاتية، ولكن هذا القول مندفع لأن الموضوع له على نحو الإجمال وتصور الكلي يكون مقترناً بتصور أفراده بالإضافة إلى تصور الجامع المنطبق عليه وعلى غيره، ومن القسم الثالث الأعلام الشخصية مثل زيد، حيدر، ونحوهما.
وأشكل الماتن على جعل الحروف من الوضع العام والموضوع له الخاص وعده من التوهم وان لها معنى كلي قابل للإنطباق على كثيرين كما اذا وقع في حيز الأمر والنهي ونحو ذلك، لذا ذهب بعض الفحول وهو صاحب الفصول الى تعدد المراتب في الأمر وهو ان المستعمل فيه جزئي إضافي، فإبتداء السير من البصرة جزئي بالنسبة الى مطلق الإبتداء، ولكن تقع تحته عدة ابتداءات متجددة في خروجه من البصرة، او في قوله تعالى [أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ]([14]) فان الإتمام يتكرر بعدة نهايات.
وكأن الحرف يحتاج إلى موضوع يتقوم به كذلك الحرفي يتوقف في تحققه ذهناً على موضوع يتقوم به وهو المعنى الإسمي، وفي الحديث المنسوب إلى الإمام علي عليه السلام: الإسم ما انبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، وفي رواية الحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل، وهذا لا يعني انعدام المعنى للحرف اصلاً، أو إنه محتاج إلى مفهوم آخر ليكون له معنى معين في الذهن، بل إنه يحتاج إلى مؤونة ونسبة في الخارج، أما في عالم الإعتبار وفي الذهن فانها موجدة لمعانيها، فالحرف له معنى ولكن هذا المعنى الحرفي ليس قائماً بنفسه كما هو حال المعنى الإسمي بنفسه، مثلاً النجاة في الصدق يحكي الظرفية.
نعم الحرف لا يستعمل إلا بمدخول ومتعلق والمعنى الرابط هو مدلول الحروف لأنها أدوات مثل (إلى) (من)، فبينما تحكي المعاني الإسمية نسبة إبتدائية متقررة فإن وضع الحرف جاء لإفادة تلك النسبة والربط في موضع الإستعمال، فالحرف (إلى) في قوله تعالى [أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] ([15]) وضع لتحديد الرابطة بين الصيام والليل، وهيئة (الدين النصيحة) لإيجاد النسبة الإصطلاحية بين الدين والنصيحة، كما أخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الدين النصيحة . قالوا : لمن يا رسول الله، قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم ([16]).
والماتن لم يفرق بين الإسم والحرف من حيث ذات المعنى، وجعل الإختلاف بينهما في كيفية الوضع.
ومثل: “ويكون حاله أي الحرف كحال العرض فكما لا يكون في الخارج الا في الموضوع كذلك لا يكون في الذهن إلا في مفهوم آخر“، اذ ان العرض لا يستقل بنفسه ولا يوجد إلا مع وجود غيره، فالمعاني الحرفية في الذهن كحال الأعراض في حاجتها للتلبس بالموضوع في الخارج، وهذا لا ينفي وجود معنى جزئي للحرف.
فهناك فرق بين الإسم والحرف في الوضع لو تعلقا بأمر واحد فلفظ الإبتداء كأسم، والحرف (من) يتعلق كل منهما بذات الموضوع، ولكن الإسم (الإبتداء) وضع لإرادة معناه في نفسه، أما الحرف (من) فلا يراد منه معناه كما قال الماتن فاستعماله يكون بلحاظ تبعيته لغيره بحسب قانون الوضع، فما وضع له الإسم والحرف واحد كقولك ابتداء سيري البصرة، وقولك سرت من البصرة، أو حد الصيام الليل، أو أكثر الحيض عشرة ايام، والحرف: يستمر الحيض (إلى) عشرة ايام.
وكأنهما من المترادف إلا ان العلقة الوضعية في كل منهما مقصودة على نحو خاص ويبقى هذا الفارق بينهما، وان استعمل احدهما محل الآخر لذا قال الماتن (فالإختلاف بين الإسم والحرف في الوضع يكون موجباً لعدم جواز استعمال احدهما في موضع الآخر)
أي أن استعمال لفظ الإبتداء كاسم محل الحرف لا يصح لأن لفظ الإبتداء يلاحظ فيه معنى نفسه، فكيف يستعمل فيما يلاحظ فيه حالة غيره وكذا لا يصح إستعمال كلمة (من) فيما يلاحظ فيه المعنى بنفسه، وإن كان التعدد والتغاير بينهما بسبب أمر خارج عن الموضوع له وهو اللحاظ كما ان هذا التغاير لا يؤدي إلى التباين والإختلاف في المعنى.
فتحصل أن النسبة بين الإسم والحرف في الإستعمال عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء وحدة الموضوع واتحاد المعنى، ومادة الإفتراق كيفية الوضع وأن المعنى نفسه لوحظ في الإسم، أما الحرف فانه يستعمل بلحاظ تبعيته لغيره وإختصاص كل واحد منهما بوضع.
وقال الماتن:“إن المستعمل فيه مثل اسم الإشارة والضمائر أيضاً عام ونشأ تشخصه من قبل طور إستعمالها“ مثل أسماء الإشارة كهذا وهؤلاء، والضمائر، هو، هي، هم، ونحوها التي لها معنى عام متحد في نفسه، ولكنها تأخذ معنى خاصاً عند الإستعمال وفق العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى.
لذا قال ابن مالك “بذا المفرد مذكر أشر” أي إن (ذا) اسم اشارة عام ولكنه يستعمل للمفرد المذكر والإشارة عليه بالإستعمال، فاسماء الإشارة والضمائر تكون موضوعة لأمر كلي كما في الحروف، ففي مرحلة الإستعمال يكون التشخص وجزئية المعنى لأنه جاء من امر خارج عن ذات المعنى وهو الإشارة، او التخاطب وإرادة شخص معين، فهو تشخص لاحق.
ولكن هذا التقسيم وإن كان خاصاً في مرحلة الإستعمال يتعارض في الجملة مع نفي الوضع العام والموضوع له خاص لا أقل في مرحلة الإستعمال.
ثم قال الماتن “ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له او المستعمل فيه خاصاً في الحروف عين ولا اثر، وانما ذهب اليه بعض من تأخر“، ويحتمل في كلامه هذا معنيان:
1- انه ينفي القسم الثاني، ان الموضوع له خاص.
2- انه خاص بالحروف.
واراد ببعض من تأخر صاحب الأصول تبعاً للمحقق الشريف.
فالحروف لها أسماء موازية لها، فالحرف (من) يوازيه (إنتهاء)، و(في)توازيه (ظرفية)،و(إلى) يوازيه إنتهاء، ومع هذا لا يرقى إلى المترادفين الذين يمكن أن يحل إحدهما محل الآخر، فالحرف يدل على النسبة، والإسم يدل على مفهوم إسمي يوازي تلك النسبة.
المعنى الإخطاري والإيجادي
المعاني المرادة من الألفاظ على قسمين:
الأولى معاني إخطارية: أي أن إستعمال ألفاظها في معانيها يوجب إخطار معانيها في ذهن السامع وتصوره لها، مثل معاني الأسماء لأن المفاهيم الإسمية لها ثبوت في عالم الإدراك، وهيئة الفعل وضعت لنسبة الفعل إلى فاعل ما، والفعل الماضي لبيان زمان النسبة الصدورية.
اقول: إن هذا الإخطار لا يكون دائماً على نحو التفصيل بل يكفي فيه الإجمال، والتفصيل يكون لاحقاً او ليس ضرورياً في نسبة الإخطار.
الثانية معاني ايجادية: وهي التي ليس لها ثبوت وتعريف مستقر في عالم التصور والعقل، بل إن كيفية وإستعمال ألفاظها موجب لإيجاد معانيها، فياء النداء وكاف الخطاب لا يوجد له معنى إلا بالإستعمال كما قالوا.
والأقوى أن الحروف لها معاني إخطـارية ولكنها لا تكـون تامة الا مع غيرها،وإستعمالها موجب لإخطار ما وقع في الخارج من نسبة النداء أو الابتداء أو الإنتهاء، فلا فرق بين اسم الإبتداء وما يدل على معناه في الخارج، وبين نسبة الإبتداء التي يحكيها لفظ (من) في كما في قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ] ([17]).
وظاهر الشيخ النائيني بأن المعاني الاسمية اخطارية، وان المعاني الحرفية ايجادية، لأن الاسم يدل على معنى ثابت في ذهن المتكلم في المرتبة السابقة على الكلام، والاسم تعبير عن ذلك المعنى.
والحرف إيجادي لأنه أداة للربط بين مفردات الكلام فليس له معنى سابق رتبة عن مرحلة التلفظ والإستعمال.
والأقوى عدم ثبوت هذا التقسيم فلا فصل بينهما فكل منهما إخطاري لأن الحرف يوجد في الكلام لدلالته على معنى والنسبة والربط في الصورة الذهنية.
ويتوقف الوضع على تصور المعنى، كما يتوقف على تصور اللفظ فاذا كان بنفسه فيسمى الوضع شخصياً، وأما بعنوان يشير إليه فيسمى نوعياً.
ثم لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والانشاء أيضا كذلك فيكون الخبر موضوعا ليستعمل في حكاية (1).
(1) بعد ان بين الماتن الإتحاد في المعنى بين الإسم والحرف، وحصر التمايز بينهما في كيفية الوضع لم يستبعد ذات النسبة في الإتحاد في المعنى والتمايز في كيفية الوضع بين الخبر والإنشاء، فلا فرق في معنى (بعت) إنشائياً وإخبارياً إلا بلحاظ كيفية الوضع والإستعمال المترتب عليه والقصد والعزم.
ففي الإخبار يستعمل اللفظ بعنوان الحكاية والخبر عن ثبوت معناه، بخلاف الإنشاء فانه يستعمل بقصد ايجاد المعنى وإثباته، مع ان اللفظ واحد كما في (بعت) وينسب الخبر والإنشاء إلى ذات الفاعل مما يعني أنهما مختلفان بحسب الوضع ولكنهما متفقان فيما وضعا له وإستعملا فيه، والتباين في العلقة الوضعية كما حال الإسم والحرف، نعم هذه النسبة بين الإنشاء والإخبار ليست دائمة.
فاللفظ على ثلاثة اقسام:
1- قابلية اللفظ أو الجملة للإنشاء والأخبار في آن واحد.
2- اللفظ إنشائي محض كالإيقاع مثل صيغة الأمر والتمني.
3- اللفظ إخباري محض لا يحتمل الإيجاد في عالم الإعتبار كما في قوله تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ]([18])، والقول: الأشهر الحرم، الملائكة أجسام نورانية، فالأمر في مثل هذه الجمل خارجي عيني.
والإتحاد في المعنى والإختلاف في كيفية الوضع لا يتحصل إلا في القسم الأول، ويعرف المراد بلحاظ القرينة أو الأمارة الدالة عليه لإتحاد المعنى والإستعمال.
أما القسمان الثاني والثالث فهما أجنبيان عن الموضوع لإنحصار معناهما في واحد منهما أما الإنشاء أو الإخبار.
علائم الحقيقة والمجاز
الحقيقة هي كل لفظ أفيد به ما وضع له في أصل اللغة ويراد منها في علم الكلام ما يفسر الشيء والتعريف ليس على نحو الحقيقة بل التقريب أي ان تعريف الحقيقة الإصطلاحي هنا لم يثبت أنه حقيقة، ولكن يكفي التسالم بأنه حقيقة، أما المجاز فهو كل كلام أريد به غير ما وضع له في الأصل على جهة التبع للأصل.
وعلامات الحقيقة ثلاثة:
1- التبادر: أي تبادر معنى مخصوص إلى الذهن عند سماع لفظ معين.
2- عدم صحة السلب، كما أن صحة السلب تدل على أنه مجاز.
3- الإطراد: أي ان اللفظ لا تختص صحة إستعماله بالمعنى المشكوك بمقام دون مقام ولا بصورة دون صورة، بل إنه مطرد في كل احوال الموضوع، فالأسد يطلق حقيقة على الأسد لأنه مفترس في كل أحواله.
أما الشخص الشجاع فيطلق عليه أنه أسد مجازاً للتباين في الخلق ولأنه في بعض الحالات ينتابه خوف ولا تظهر عليه شجاعة أو اقدام مما يعني أن لفظ الأسد في الإنسان الشجاع مجاز، لأنه لم يطرد ويستمر في جميع أحواله.وقيل أن الإطراد لا يختص بالحقيقة.
وهناك فرق بين علامات الحقيقة والمجاز وبين اصالة الحقيقة فلم يثبت تعبد الشارع لنا بأصالة الحقيقة والبناء عليها عند الشك فيما هو الموضوع له اللفظ، ولم يثبت دائماً تباني العقلاء على استعمال الحقيقة بل قد يكون العكس كما في اطلاق لفظ حاتم على الكريم أو اسد على الشجاع.
لذا فان أصالة الحقيقة من الأصول اللفظية التي يعتبرها العقلاء عند الشك فيما هو المراد لإنعقاد الظهور بإرادة المعنى الحقيقي لذا قيل ان كل الأصول اللفظية راجعة إلى أصالة الظهور كاصالة الإطلاق وأصالة العموم واصالة عدم التقدير.
ومورد أصالة الحقيقةالشك في إرادة المتكلم وهو أنه قصد المعنى الحقيقي او المعنى المجازي من اللفظ، فاذا كان مراد المتكلم غير مجهول عند المتلقي فلا تصل النوبة إلى أصالة الحقيقة ففي إستعمال اللفظ في معناه وجوه ثلاث:
1- إرادة الحقيقة.
2- إرادة المجاز.
3- الشك في إرادة أحدهما.
فأصالة الحقيقة لا تأتي إلا في الوجه الثالث منها باعتبار أن الإستعمال أعم من الحقيقة والمجاز.
ومع وجود القرينة على إرادة المعنى المجازي تكون حجة على المتلقي وعلى المتكلم كما سيأتي في الأصول اللفظية، وظهور الكلام في مرحلة المدلول اللفظي يتعلق بالمعنى الموضوع له أصلاً وبقصد الدوام فتستحضر صورته في الذهن حال سماع اللفظ.
والحقيقة هي كل لفظ يفيد معنى موضوع له في أصل اللغة، لنسبة لغوية أو شرعية أو عرفية، وتستعمل في علم الكلام في نفس الشيء، وفي التصور الجاري في الفعل مجرى ذات الشيء.
أما المجاز فمعناه واحد في اللغة والأصول والكلام فهو كلام أريد به غير ما وضع له في الأصل على جهة التبع للأصل بلحاظ وجه للشبه بينهما.
وقال الماتن (لا يخفى ان تبادر المعنى من اللفظ وانسباقه إلى الذهن من نفسه وبلا قرينة علامة كونه حقيقة فيه، بداهة انه لولا وضعه له لما تبادر).
فالتبادر كاشف عن وضع اللفظ للمعنى بشرط أن يكون التبادر خالياً من القرينة الحالية أو المقالية ولا يكون ناتجاً عنهما، وكذا التبادر المترشح عن الشهرة ومقدمات الحكمة الموجبة للإطلاق علامة الحقيقة، ويمكن الإشكال بان التبادر أعم من الوضع وإن كان من علامات الحقيقة كلفظ الصلاة إذ يتبادر الى الذهن منه هذا المعنى المخصوص مع ان اللفظ لم يوضع لها في الأصل فقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ]([19])،يراد منه الفريضةالعبادية اليومية بشرائطها من غير حاجة للإنتقال إلى موضوع الحقيقة الشرعية.
فالتبادرالذي يدل على الحقيقة يجب أن يكون مترشحاً عن ذات اللفظ وليس إلى القرينة خصوصاً وأن شهرة وإعتياد المعنى المجازي ايضاً تفيد التبادر، أي لا يشترط بالتبادر إنحصار سببه بالوضع وليس بما بين اللفظ والمعنى من مناسبة التي لا يقول بها الماتن.
وكذا فان انسباق معنى خاص منوط بالعلم بالوضع له، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، والإنسباق بلا وجه يلزم الدور لأن التبادر حينئذ يتوقف على العلم بالوضع، والعلم به على التبادر، فالمقصود ترتب العلم بالوضع على التبادر بإعتبار أن التبادر أمارة على الحقيقة ولكن الذي يتوقف على التبادر هو العلم التفصيلي به، أما العلم الذي يتوقف التبادر عليه فهو العلم الإجمالي كلفظ الصعيد في قوله تعالى [فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا] ([20]).
المجاز
بعد أن يوضع اللفظ لمعنى خاص تكون العلقة الوضعية بينهما ظاهرة وثابتة ومستديمة، ويسمى المعنى الحقيقي لحالة الإقتران الثابت عن اللفظ والمعنى الذي وضع له أصلاً، وقد يستعمل اللفظ لمعنى آخر بسبب وجوه شبه وإلتقاء مع المعنى الحقيقي، ويسمى حينئذ المجازي لعدم قدرته على إزاحة المعنى الحقيقي لأصالته وثبوته.
ويختلف المجاز عن الحقيقة في أصل الوضع، فهو لا يحتاج عناية ذاتية في الوضع الخاص، كما هو الحال في الوضع للمعنى الحقيقي، بل انه مشتق من الحقيقي وطارئ عليه بلحاظ إتحاد الموضوع أو وجود شبه أي إنه وجد لفظاً له وجود ذهني ومعنى إجمالي فأخذه استعارة وتجوزاً، فالمجاز يمر بمراحل:
1) مرحلة الوضع ولابد فيها من شبه مع الحقيقي يمكن معه أن يتجدد ويتكرر وضع اللفظ له بعد إستعماله في المعنى الحقيقي.
2) مرحلة الإستعمال فانه يحتاج إلى قرينة زائدة وإن اللفظ يستعمل في المعنى المجازي بالإضافة إلى الحقيقي، فالطولية باقية بين اللفظين وهما ليسا بعرض واحد، بل يسبق المعنى الحقيقي إلى الذهن دائماً عند سماع اللفظ.
3) مجرداً من القرينة، فمع عدم القرينة الصارفة للمعنى لا يستطيع المجاز مزاحمة الحقيقة.
وذكر نوع آخر من المجاز وهو ارادة فرد خاص من المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ كما ذكره السيد الصدر قال: اذا اتيت بلفظ الماء واردت ماء الفرات فهذا له حالتان، الأولى ان تستعمل لفظ الماء بمفردها في تلك الحصة بالذات أي في ماء الفرات بما هو ماء خاص، وهذا يكون مجازاً لأن اللفظ لم يوضع للخاص بما هو خاص”.
والأقوى انه ليس بمجاز ولكن جاء لفرد خاص منه كالألف واللام العهدية، بل هو فرع منها لقرينة الفرات التي تفيد التقييد والتعيين فهو تشخص لاحق وارادة لذات المعنى الذي وضع له اللفظ بالأصل حتى على القول بنظرية التعهد في الوضع لإرادة النوع ويمكن ان نطبق عليه مقدمات الحكمة لوجود قدر متيقن في مقام التخاطب، فلا ينعقد الإطلاق ولا تصل النوبة إلى المجاز حتى على القول بأنه أيضاً فيه مطلق ومقيد.
مثلاً الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب ونحوها من المفطرات ولكنك جئت به لإرادة صيام شهر رمضان دون غيره من وجوه الصوم الأخرى كصوم الكفارة والمستحب وغيرهما، وعدم كونه مجازاً لبقاء ذات الموضوع الحقيقي بإرادة أحد أفراده، وعلى فرض القول بانه مجاز فان هذه المسألة تنطبق على إطلاق اسم الجنس على الفرد منها كإطلاق كلمة الأسد على فرد منها، أو الشجاع على شخص معين وعلى ذات الشيء بافراده المتكثرة الطولية والمتجددة كشهر رمضان وفرض الصيام كما في قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ([21])، وحينئذ لا يكون فرق في التجوز بإطلاق لفظ أسد على الشجاع وإطلاق شجاع عليه فكله مجاز وهذا لم يقل به أحد، وإلا أين لفظ الحقيقة لهذا الفرد المتشخص في الخارج بخصوصية معينة وهي الشجاعة فاطلاق اسم الماء على ماء الفرات بما انه اسم جنس من افراد الحقيقة وليس المجاز.
ان انطباق المفهوم الكلي على مصاديقه وافراده ينفي الإنتقال الى المجاز بدليل انطباق صفات الحقيقة عليه من التبادر وعدم السلب، وان قيل ان الإطراد لا يدل علىالحقيقة ولأن المجاز لغة من التعدي.
انه تطبيق للفظ على مصداقه ومدلوله الخارجي فهو ليس من المجاز العقلي او اللفظي لأن المستعمل فيه ليس مبايناً لما وضع له.
ومن علامات الحقيقة التي عليها الإجماع التبادر، بل هو اهم علاماتها أي انسباق المعنى إلى الذهن من اللفظ حال النطق به، بإعتبار أن المجاز يتخلف رتبة عن الحقيقة، فلا يتبادر إلى الذهن الا بالقرينة أو الواسطة بالإضافة إلى الإطراد وهو صحة إستعمال اللفظ في المعنى المشكوك كونه حقيقياً بجميع افراده ومصاديقه الطولية المتكثرة في الخارج، فلو شككنا في فرد من أفراد الصيام هل هو صيام فاذا كان شاملاً للإمساك ساعات النهار من جميع المفطرات فهو صيام، أما إذا اعتبر السكوت عن الكلام أو الصيام إلى الزوال صياماً، فانه فرد مشكوك ولا يصدق على جميع افراده العرضية والطولية فهو يطلق عليه صيام من باب المجاز.
الثالث صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له، هل هو بالوضع، أو بالطبع ؟ وجهان، بل قولان، أظهرهما أنه بالطبع (1).
وقد ورد في مريم ابن ة عمران عليها السلام قوله تعالى [إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا]([22])، وفيه معنيان:
الأول: إرادة الصمت والإمساك عن الكلام، وفي مصحف عبدالله بن مسعود صمتا بدل صوماً.
الثاني: المراد الصيام عن الأكل والشرب إلا أنهم كانوا لايتكلمون في حياتهم.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صوم الصمت لأنه نسخ في أمته([23]).
(1) أي صحة إستعمال اللفظ في موضوع لم يوضع له بالأصل وإنما يكون استعماله فيه مجازياً، انما يكون بمناسبة وعلاقة بينه وبين ما أستعمل له بالأصل، سواء كانت المناسبة عرفية أو عقلائية أو موضوعية أو شرعية ومع الإتفاق على هذه الحقيقة فإنه أختلف في علة الوضع وسببه هل هو بالإذن والترخيص من الواضع، ويسمى الوضع النوعي وكأنه أجاز إستعمال الألفاظ في معاني مجازية لها علقة معينة مع المعنى الحقيقي كالعلائق الخمس والعشرين التي ذكرها أهل البيان.
فيكون الوضع للمجاز وضعاً فرعياً مترشحاً عن أصل الوضع،وأن اللفظ وضع ليحتمل ويستوعب المجاز، خصوصاً وأن المجاز مشتق من جاز الشيء يجوزه اذ تعداه، لذا سموا به اللفظ المنقول من معناه الأصلي مع مناسبة تدل عليه، والمجاز يستعمل لعلاقة أو قرينة مانعة من إرادة المعنى الوضعي، فالقرينة امارة على إرادة غير ما وضع له اللفظ، وهذه القرينة قد تكون متحدة أو متعددة،فإطلاق لفظ أسد على شخص شجاع بقرينة وجوده في البلد وهيئته وانسانيته وانعدام وجود الأسد من ذوات الأربع في البلدة.
أما العلاقة فهي المناسبة بين المعنى الحقيقي المنقول منه والمعنى المجازي المنقول اليه فبها ينتقل من الأول إلى الثاني.
اما (الطبع) فهو أن العقلاء لما نظروا الى اللفظ والعلقة الوضعية بينه وبين المعنى أجازوا وضعه لما يرتبط مع المعنى الحقيقي بقرينة أو مناسبة أي علاقة، ورجح الماتن القول الثاني أي الإستعمال بالطبع لأن الوجدان شاهد على أن الواضع لم يرخص باستعمال اللفظ في المجاز المناسب للمعنى الحقيقي انما جاء هذا الإستعمال لاحقاً ومتأخراً كثيراً عن الوضع، وقال الماتن “بشهادة الوجدان بحسن الإستعمال فيه ولو مع منع الواضع“، ومراده ان يكون الواضع من البشر سواء كان فرداً أو جماعة.
أما على القول بان الواضع للغات الله عز وجل فان العبارة لا تستقيم لأنه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة، فمع منعه تعالى لا يتم الإستعمال في المجاز لحرمته تكليفاً.
وبينما ذهب الماتن في باب دلالة الإلفاظ على معانيها وأنها بالجعل والتخصيص وهو المشهور شهرة عظيمة وليس دلالة ذاتية صرفة، قال هنا بالطبع وليس بالوضع للتباين الموضوعي بين الوضع الأصلي الحقيقي والاستعمال الثانوي المجازي، ومراد الماتن من الاستعمال هنا أي المجاز واستعمال اللفظ في معنى آخر مستحدث لوجود مناسبة بين المعنى الذي وضع له اصلاً والمعنى الذي استعمل فيه مرة اخرى، فاستعمال لفظ أسد على الانسان الشجاع، هل هو بالوضع كما في استعماله في الاسد، أم انه بالطبع لوجوه الشبه بين الأسد والإنسان الشجاع، فالوضع هنا ثانوي ولاحق للوضع الاول على فرض القول به، أي أنه ليس وصفاً إبتدائياً لأن الوضع الاألي وضع للحيوان المفترس، فهو ليس وصفاً شخصياً كالإسلام يلاحظ فيه مادة وهيئة اللفظ بل هو عبارة عن نقل للوضع الأول، وإذا أطلق عليه لفظ الوضع فإنه وضع مجازي.
ونسب إلى الجمهور القول بان هذا هو الاستعمال الثانوي بالوضع ولعله من التسامح في الالفاظ، والا فان تعريف المجاز يدل على أنه أعم من الوضع أذ عرف في علم البلاغة بانه: “الكلمة المستعملة في غير ما وضع له، واللفظ الذي نقل من معناه الاصلي، واستعمل ليدل على معنى غيره، مناسب له لعلاقة مع قرينة صارفة عن المعنى الوضعي”، فالعقل واللغة والوجدان تشهد بأن المجاز ليس وضعاً إبتدائياً جديداً، وحتى قول الماتن بأن إستعماله بالطبع ليس كافياً، أي أن الطبع وحده ليس علة تامة لاستعمال اللفظ في المجاز بل ان موضوع المجاز بذاته له علاقة أي مناسبة بين المعنى المنقول عنه والمنقول إليه تكون وسيلة وسبباً لإنتقال الذهن من المعنى الاول الى الثاني.
ان قول الماتن بان استعماله بالطبع يجعل سبب الإختيار بإرادة الإنسان بينما تكون هناك وجوه مشابهة وقرائن لفظية أو حالية تفهم من حال المتكلم أو من الواقع تصرف الذهن جرياً وإنطباقاً إلى المعنى المجازي وهو مناسب للوجدان والطبع وحكم العقل.
والطبع قوة للنفس في ادراك الدقائق، وسجية الانسان، وقد عرفه السيد المرتضى: “بانه الخاصة التي يكون بها الحادث لا من جهة القدرة”.
اما عند الحكماء فهو أعم ويشمل الجواهر التي ليس لها شعور ويريدون به خصوصية الشيء، فالنار طبعها الإحراق، والثلج التبريد، والمصباح الإضاءة، وهو مبدأ الحركة كحركة الحيوان، أو حركة الفلك.
وللوضع في علم الكلام تعريف آخر لم يخرج عن المعنى اللغوي، فهو هيئة تعرض للجسم بلحاظ نسبتين:
الأولى: بين أجزائه بعضها للبعض الآخر.
والثانية: نسبته إلى الأمور الخارجة عنها.
الرابع: لا شبهة في صحة إطلاق اللفظ، وإرادة نوعه به، كما إذا قيل: ضرب – مثلا – فعل ماض، أو صنفه كما إذا قيل: ( زيد ) في ( ضرب زيد ) فاعل، إذا لم يقصد به شخص القول أو مثله كضرب ) في المثال فيما إذا قصد. وقد أشرنا إلى أن صحة الاطلاق كذلك وحسنه، إنما كان بالطبع لا بالوضع، وإلا كانت المهملات موضوعة لذلك، لصحة الاطلاق كذلك فيها، والالتزام بوضعها كذلك كما ترى. وأما إطلاقه وإرادة شخصه، كما إذا قيل: ( زيد لفظ ) وأريد منه شخص نفسه، ففي صحته بدون تأويل نظر، لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول، أو تركب القضية من جزءين كما في الفصول (1).
الأولى كالجلوس فانه هيئة الإنسان بحسب قعوده، ومن الثانية الركوب وهي هيئة الإنسان بحسب ركوبه لشيء آخر.
(1) من الاعلام من اطلق على هذا الأمر استعمال اللفظ في اللفظ في مقابل استعمال اللفظ في المعنى الذي ينقسم الى حقيقة ومجاز، ولكن هذا الأمر لا يصلح قسيماً لاستعمال اللفظ في المعنى بل فرع منه، ويتعلق بحيثية مخصوصة تكون من مصاديق الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز، وسريان الحكم الى الكلي.
فقولك (ضرب) تفيد معنى وحصول فعل فيأتي اللفظ مطلقاُ ولكن يراد منه النوع والانحلال إلى أفراد فعل الضرب، وتقول (زيد انسان) فتارة تريد شخصاً معيناً فهو لا يدخل ضمن إرادة النوع، وتارة يراد منه كل شخص اسمه زيد، فجاء الإطلاق بوصف أنسان ويصح إستعماله للنوع.
أول تقول (صلى) لإفادة وقوع الصلاة وتحقق الإمتثال وسقوط الواجب، وتقول (أتم الصلاة) وتارة تريد فرداً مخصوصاً وفريضة معينة دخل وقتها، وتارة يراد النوع وتعاهد فريضة الصلاة مع تجدد الخطاب التكليفي بها في اليوم والليلة فيصح إستعماله فيالنوع،ويدل عليه الألف
الخامس:لا ريب في كون الالفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي، لا من حيث هي مرادة للافظها، لما عرفت بما لا مزيد عليه، من أن قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال(1).
واللام التي في (الصلاة)الذي يفيد الإستغراق.
وقال الماتن ان صحة الاطلاق وحسنه بالطبع وليس الوضع، ولكن هذا الإطلاق أعم من الطبع ويتعلق بوصفه للمعنى على نحو العموم والتوسعة في الوضع بالدلالة الوضعية الاستعمالية التفهيمية، والدلالة التصديقية الجدية اذ ان تقسيم الدلالة إلى هذه الأقسام لا يعني الإستقلال التام لكل منها بل أنها قسمة استقرائية بيانية توضيحية وليست إحترازية، فلا يمنع من تداخلها.
وصحيح أنه مما يستحسنه الطبع لكنه لا يعني الحصر به، كما ان المشهور ذهب إلى الوضع وكذا لا يفيد الحصر به لموضوعية العلائق بين الحقيقة والمجاز ووجوه النسبة بينهما وتوظيف العقل للتوسعة في بيان اللفظ وحصول الاستعمال الجدي للفظ في الأعم من معناه بلحاظ القرينة.
فقد يراد من اللفظ الإطلاق أو الماهية بشرط لا شيء، وهي المجردة التي لا يقارنها شيء من العوارض وخالية من المشخصات واللواحق والاعتبارات الإضافية، ولا يعني أن هذا الإستعمال بالطبع وليس بالوضع أو وضع المهملات للنوع أو الصنف حصراً.
(1)أي ان الواضع اعتبر المعاني بامتيازها وتخصصها بنفسها ولا اعتبار لإرادته جزء او قيداً، لصحة الحمل في الجملة الإسمية وصحة الإسناد في الجمل الفعلية من غير لجوء الى تصرف في الفاظ الأطراف او عزلها عن ارادة المعنى عند اللافظ.
فالمحمول في العدل حسن، وإسناد الفعل إلى الفاعل كما في صام زيد، هو نفس الحسن والصيام بماهيتهما وبما هما كمعاني وحيثيات مترجلة في الخارج على نحو الواقع وليس بما هما مرادا للمتكلم.
وهل يمكن القول إن إعتبار إرادة اللافظين الخارجية المتحققة في الخارج لا تعني بالضرورة أنه من الوضع العام والموضوع له خاص، لتعلق طرفي الوضع بالمصداق الخارجي وإن تعددت حيثيات الوضع وعدد الواضعين، وأن إرادة اللفظ لمعنى غير المعنى الموضوع له اللفظ او ان اللافظ لا شعور له، وان المعنى مقيد بإرادة الحقيقة، وهذا الإستدلال لطيف وان الوضع سابق لقصد وإرادة فرد مخصوص.
ويمكن تقسيم الدلالة بلحاظ الإرادة إلى ثلاثة اقسام:
1- الدلالة الوضعية: أي دلالة اللفظ على المعنى حين الوضع وايجاد العلقة الوضعية بين الطرفين اللفظ والمعنى،ومتوقفة على قصد المتكلم ان يعرف المتلقي مراده والمعنى من اللفظ، او ان اللفظ يدل على ذات المعنى مع عدم ارادة المتكلم لذلك، وان صدر اللفظ من غير عاقل او غير ذي شعور، فعلى القول الأول الذي نسب الى الرئيس والخواجة تكون الدلالة الوضعية دائماً دلالة تصديقية لأن المعنى المدلول عليه باللفظ عبارة عن المعنى بالإضافة الى مفهوم الإرادة .
وعلى القول الثاني ان الدلالة الوضعية دلالة تصورية تستلزم انخطار المعنى في الذهن عند اطلاق اللفظ وليس ايجاده سواء كان اللافظ قاصداً المعنى او لم يكن قاصداً كما لو صدر منه غفلة او قهراً او عند النوم، وهذا القول هو الذي ذهب اليه صاحبالكفاية وهو المشهور شهرة عظيمة.
2- الدلالة الإستعمالية التفهيمية: وهي التي تعني ظهور حال المتكلم وانه في مقام تفهيم المعنى من اللفظ، والتي تعني بالضرورة والإنطباق ارادة المتكلم للتفهيم، فمجرد ظهور حال المتكلم وارادته للتفهيم وانعدام القرينة الصارفة عن ذلك يعني تبعية هذا الشطر من الدلالة للإرادة.
3- الدلالة التصديقية الجدية:أي ان المتكلم يريد افهام المعنى على نحو القصد والجد، فلو كان اللافظ نائماً وتكلم بكلام فان السامع يدرك ان اللافظ لا يقصد واقعاً هذه الإلفاظ فلا اعتبارلما يتلفظه غفلة او عند النوم مما يعني ان الدلالة التصديقية الجدية يتوقف على الإرادة والقصد.
وهاتان الدلالتان مترشحتان من الظهور السياقي للمتكلم وانه يريد تفهيم المعنى من اللفظ ومراده الجدي.
والخلاف في الدلالة الوضعية يتفرع عن القول بالدلالة التصورية او عدمه، فالذي ينكر الدلالة التصورية في الوضع يقول بان المراد من التبعية للإرادة هي الدلالة الوضعية وليس الأقسام التالية للإرادة من التفهيمية والإستعمالية الجدية باعتبار ان الدلالة التصورية لاحقة للوضع، وانس الناس بها لكثرة استعمال الإلفاظ في معانيها والا فان الأصل بالوضع هو الإرادة التصديقية خصوصاً مع المبنى في الوضع هو نظرية الإلتزام والتعهد خلافاً للمشهور .
فلابد ان يكون الواضع ملتفتاً ومريداً لتفهيم المعنى من اللفظ،وإعتبار الإرادة والإختيار والقصد حين الوضع وان العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى لا تكون إلا مع القصد وقيل تبعية الدلالة الوضعية للإرادة حتى على نظرية الإعتبار في الوضع، لأن تفهيم السامع لابد وان يكون مع القصد سواء كان بقصده ذاتاً أو بحصر المعنى من اللفظ لذا قال بأن إرادة الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي هي تبعية الدلالة الوضعية للإرادة لأنها دلالة تصديقية وليس تصورية، بخلاف ما ذهب اليه الماتن من تأويل ارادتهما.
فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه. هذا مضافا إلى ضرورة صحة الحمل والاسناد في الجمل، بلا تصرف في ألفاظ الاطراف، مع أنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة، لما صح بدونه، بداهة أن المحمول على ( زيد ) في ( زيد قائم ) والمسند إليه في ( ضرب زيد ) – مثلا – هو نفس القيام والضرب، لا بما هما مرادان(1).
(1)أي ان اللافظ لا موضوعية للفظه في إختيار المعاني بازاء ألفاظها والمقاصد منها لأن معانيها أخذت طابعاً مستقلاً ومستقراً قبل إرادة اللافظ، وإلا لزم إعتبار المتأخر في الموضوع متقدماً وهو محال، لعدم تقدم الشيء على نفسه، إذ أن قصد المعنى من مستلزمات إختيار اللفظ، فاللفظ وإن نطق به الشخص إلا أنه لا يتقوم في موضوعه إلا بفهم ومعرفة السامع لمعناه مما يؤكد على وجود المعنى قبل نطق اللافظ له في الوجود الذهني عند كل من اللافظ والسامع.
فالمعنى متقدم رتبة وزماناً ووجوداً وإتساعاً، وبعد المحذور الأول اعلاه ذكر الماتن محذوراً آخر وهو دخولالإرادة شرطاً او قيداً للمعاني يتنافى مع صحة المحل في الجمل الإسمية مثل (الصيام جنة)(اقامة الصلاة)، من غير التصرف في ألفاظ الأطراف أي موضوع القضية ومحمولها، كما في (الصيام) و(جنة) في المثال أعلاه، فلو كانت هناك مدخلية للإرادة في إختيار الألفاظ لما صح التسالم على حصول الوضع العام والموضوع له العام، كما في أسماء الأجناس والضمير في (بدونه) في كلام الماتن يعود للتصرف، أي لو كانت للإرادة موضوعية في صحة الإسناد والحمل لظهرت الحاجة للتصرف فيها أو لأمكن التصرف فيها هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن الإسناد والحمل متعلقان بالذات والصفة وليس بارادة خارجية عنهما فالحمل في (الصيام جنة)، والإسناد في (اقامة الصلاة) يتعلقان بالماهية والفعل، وليس بإرادة اللافظ التي تعتبر خارجية عنهما، ولأن مدار الإسناد والحمل على الإتحاد الوجودي.
مع أنه يلزم كون وضع عامة الالفاظ عاما والموضوع له خاصا، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ، فإنه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الارادة فيه، كما لا يخفى، وهكذا الحال في طرف الموضوع (1).
وما في المتن من عدم مدخلية لإرادة اللافظ في إستعمال اللفظ للمعنى، لأن حصول القصد وموضوعيته في المعنى يأتي من الإستعمال المتأخر عن المعنى، فيه دلالة على عدم موضوعية الطبع في الوضع، لأن الطبع مقدمة وجزء من القصد، فإذا كانت الالفاظ موضوعة بأزاء معانيها المجردة بما هي مرادة للافظ يحصل التركيب بين المعنى والإرادة، وتكون موضوعية للإرادة كجزء للمعنى، والارادة التي تستلزم الإستعمال.
وعلى فرض إعتبار الإرادة فان هذا الإعتبار خاص بذات اللافظ ان مرتبة الدلالة التصورية وخطور المعنى في الذهن عند سماع اللفظ تتوقف على علمه بالوضع والإستعمال يعني دللاة على سبق الوضع وتقدمه رتبة، وأن الدلالة التصديقية تابعة للإرادة دون التصورية.
(1) من أقسام الوضع ما كان المتصور كلياً والموضوع له ذات الكلي، وهو المسمى بالوضع عام والموضوع له عام ومنها ما كان المتصور كلياً والموضوع له مصاديق ذلك الكلي وهو المسمى بالوضع عام والموضوع له عام، ومنه ما كان المتصور كلياً والموضوع له مصاديق ذلك الكلي وهو المسمى بالوضع عام والموضوع له خاص.
ويريد الماتن ان يدفع وهم بقوله ان أخذ مفهوم الإرادة في وضع الإلفاظ العامة امر فاسد ولا واقع له لأن عموم الوضع يجعل إرادة اللافظ اجنبية عن المحل والإسناد كما انهما صحيحان ولا يحتاجان في تقومهما إلى إرادة اللافظ، بالإضافة الى تبادر المعنى في الذهن من اللفظ من دون حاجة إلى الإرادة ولأن المعنى بسيط لا يحتاج إلى التركيب، واضافة الإرادة له مع المشقة المتجددة في اعتبار الإرادة واحتمال.
وأما ما حكي عن العلمين الشيخ الرئيس، والمحققالطوسي من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الارادة، فليس ناظرا إلى كون الالفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة، كما توهمه بعض الافاضل، بل ناظر إلى أن دلالة الالفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية،(1).
عدم فهمها لدى السامع من غير واسطة، ان المعاني من الخارجيات المتسالم على الفاظها ولا تستلزم التقييد بقيد ذهني وإضافي وهوالإرادة، كما أن الوضع يجعل نوع ملازمة خارجية وذهنية بين اللفظ والمعنى الذي وضع له مما يتعذر معه وجود موضوعية وتأثير للإرادة اللاحقة وحكي عن الشيخ ابن سينا أن الدلالة تابعة للإرادة.
(1)المراد من الرئيس هو أبو علي بن سينا الملقب برئيس العقلاء وهي تسمية لا أصل لها، لأمور:
1- إذا كان أحد يستحق هذه التسمية فهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي الحديث: أدبني ربي فاحسن تأديبي“([24])، ثم الأنبياء والأئمة عليهم السلام.
2- ليس من دليل على كون شخص لا يأتيه الوحي التنزيل هو رئيس العقلاء، خصوصاً مع الإجماع على عدم عصمة غير الأنبياء والأئمة.
3- إذ كان هناك إصطلاح يطلق على الشارع وهو سيد العقلاء فلا يصلح ان تطلق رئاسة العقلاء على واحد من العلماء أو عامة الناس.
وعلى فرض أن المراد خصوص أهل زمانه فلم يثبت نعم، قد يكون مدحاًله فيزمانه ولكن هذا المدح إستمر له، وكثير من العلماء كان يطريعليهم، ويبالغ في الثناء عليهم، فابن الأثير مثلاً يصف أحد العلماء بقوله: إمام الدنيا في زمانه([25])، ومن وزراء الدولة العباسيةماكان يسمى رئيس الرؤساء لكنه ينصرف إلى مراتب الحكم([26]).
4- لقد قسم الله عز وجل العقل بين الناس وهو من الكلي المشكك عندهم ولا دليل على كون أحدهم فيه رئيساً والآخر مرؤوساً، ولعل التسمية تتعارض مع الحكمة الإلهية في الخلق.
5- ما هو شائع في التسمية هو (الرئيس) على نحو الاطلاق وقد يراد من الرئاسة غير ذلك، وقد سماه صدر الدين الشيرازي شيخ فلاسفة الإسلام([27])، وفاضل الفلاسفة([28]).
6- تسمية ابن سينا لا أصل لها وكأنها من الخطأ الشائع .
وورد عن الشيخ البهائي قال: قال الشيخ العارف مجد الدين البغدادي: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقلت ما تقول في حق ابن سينا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “هو رجل أراد أن يصل إلى الله بلا وساطتي فحجبته هكذا بيدي، فسقط بالنار, وهذه الرؤيا ليس بحجة.
وما نسب الى الشيخ أبي علي بن سينا من القول بان الدلالة تتبع الإرادة فلم يكن المقصود منه ان الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة للافظ، والوجدان يقضي بأن الألفاظ موضوعة لذات المعاني من غير لحاظ وإعتبار لإرادتها.
السابع: لا يخفى أن تبادر المعنى من اللفظ، وانسباقه إلى الذهن من نفسه – وبلا قرينة – علامة كونه حقيقة فيه، بداهة أنه لولا وضعه له، لما تبادر ولا يقال: كيف يكون علامة مع توقفه على العلم بأنه موضوع له، كما هو واضح، فلو كان العلم به موقوفا عليهلدار(1)
(1) يعتبر التبادر أمارة على الوضع وانه نافِ للإجمال، وقال السيد المرتضى بان الإستعمال علامة الحقيقة , ولكنه اعم.
وقيد الماتن التبادر وانسباق المعنى الى الذهن عند سماع اللفظ بقوله (من نفسه) أي من نفس اللفظ ليخرج التبادر الناشيء من كثرة الإستعمال والشهرة ومقدمات الحكمة وارادة الإطلاق، والتبادر الناشيء عن القرينة الحالية والمقالية.
والتبادر علامة للحقيقة في الجملة لأن الخلاف يحصل احياناً في الكبرى وهي ثبوت وضع اللفظ ازاء لفظ معين، واستدل عليه بتنصيص اهل اللغة، ولكن هناك برزخ بين اصل الوضع والتوثيق الذي جاء على لسان اهل اللغة.
فالتبادر في لفظ (الصلاة) هو المعنى الإصطلاحي العبادي لها، وهو غير ما وضع له لفظ الصلاة كما عليه علماء اللغة الا ان هذا التبادر يستند الى الإستعمال والإطلاق وكثرة الوجود وكثرة الإطلاق، ويمكن تقسيم التبادر الى قسمين:
الأول: التبادر الوضعي , وهو علامة الحقيقة.
الثاني: التبادر الإستعمالي المترشح عن القرينة والشهرة وكثرة الإستعمال او الوجود الساري.
وليس من دور بين التبادر والعلم بالوضع وقول الماتن فانه يقال (الموقوف عليه غير الموقوف عليه) أي ان العلم الموقوف على التبادر، هو غير العلم الموقوف عليه التبادر، فالتبادر يتوقف على العلم الإجمالي الإرتكازي اما العلم الذي يتوقف على التبادر فهو العلم التفصيلي فلا يلزم الدور.
فلفظ العين له معنى اجمالي من معان متعددة منها العين الباكية والعين الجارية، والرابية وغيرها، وبعد مراجعة ذهنية واستحضار لمعانيه وفق مراتبها وقرائنها او عدمها ينسبق الى الذهن المعنى الحقيقي لظهوره فيه لإصالة عدم القرينة وغلبة الإستعمال في الحقيقي والتبادر، ويسمى هذا العلم بالعلم التفصيلي والعلم المركب، وهو من بديع خلق الله تعالى للعقل ومراحل التمييز عند الإنسان لذا قال الماتن (المراد به التبادر عند المستعلم، واما اذا كان المراد به التبادر عند اهل المحاورة فالتغاير اوضح كما لا يخفى).
الثامن انه للفظ أحوال خمسة، وهي: التجوز، والاشتراك، والتخصيص، والنقل، والاضمار، لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الامر بينه وبين المعنى الحقيقي، إلا بقرينة صارفة عنه إليه. وأما إذا دار الامر بينها، فالاصوليونوإن ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها، إلا أنها استحسانية، لا اعتبار بها، إلا إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك، كما لا يخفى(1).
(1)وهذه الأحوال امور طارئة على استعمال اللفظ، تصرفه عن معناه الحقيقي بالقرينة المقالية او الحالية بمعنى عدم وجود شك في مراد المتكلم واحتمال ارادة الحقيقة من اللفظ المستعمل فنعلم انه لم يرد الحقيقة بذاتها، وكذا لم نشك هل اراد المتكلم المعنى الحقيقي او المعنى المجازي وغيره لأنه حينئذ نرجع الى اصالة الحقيقة وهي من الأصول اللفظية التي عليها سيرة العقلاء لمعرفة المعنى المراد من اللفظ المستعمل، ولتقدم الحقيقة رتبة على المجاز ونحوه، والتجوز هو استعمال اللفظ في غير الموضوع الذي وضع له بسبب علاقة وشبه بينهما كاستعمال لفظ حاتم في الرجل الكريم.
اما الإشتراك فهو تعدد المعاني مع اتحاد اللفظ مثل القرء والعين، والتخصيص عبارة عن حصر حكم العام على شطر من افراده باخراج بعض افراده بواسطة الإستثناء او القرينة مثل اكرم العلماء العاملين، او اكرم العلماء الا الفساق، ومنهم من عرفه بانه اخراج بعض افراد موضوع الحكم العام، ولكن التخصيص يتعلق بالأفراد الباقية ضمن حكم العام.
اما النقل فهو استعمال اللفظ في معنى مستحدث غير المعنى الذي وضع له اصلاً بحيث تنصرف الأذهان عن المعنى الذي وضع له اصلاً كالصيام اصله الإمساك والترك، ثم استعمل في المعنى الإصطلاحي والعبادة المعروفة وهي الإمتناع عن الأكل والشرب يومه.
والإضمار هو تقدير امر يتوقف عليه المعنى , فكأن اللفظ محتاج الى لفظ آخر يتم معه المعنى، وهذه الوجوه من اقسام المجاز الا انها جعلت لها عناوين مستقلة للبيان ولما لها من خصوصية زائدة وما تستلزمه من مؤونة اضافية لإفادة المعنى.
ويمكن اضافة احوال اخرى لها , منها التقييد وهو حصر الأمر المطلق ببعض مصاديقه، والكناية وهي ذكر اللازم وارادة الملزوم مع قرينة دالة عليه وغيرها.
فاذا دار الأمر بين ارادة الحقيقة من اللفظ او ارادة احد هذه الأحوال تكون اصالة الحقيقة هي المرجع وان مرام المتكلم من اللفظ المستعمل هو المعنى الحقيقي، ولكن مع وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي لا تبقى موضوعية للشك بل يصار الى المجاز واحواله المتعددة لإستظهار ارادة غير المعنى الحقيقي.
ومن الوجوه التي ذكرها الأصوليون لترجيح بعض هذه الأحوال على البعض الآخر ترجيح المجاز على الإشتراك، لكثرة استعمال المجاز والتوسع فيه لغة ولأن القرائن في الغالب تفكك بين افراد المشترك وتفيد ارادة بعضها لأن العقلاء في باب التخاطب وافهام السامع يتجنبون الإجمال في الغالب الا ان الماتن قسم وجوه الترجيح هذه الى قسمين:
1- استحسانية غير اعتبارية لا تفيد الا الظن ولا تكون حجة وظاهر كلامه انها الأكثر.
2- اعتبارية تعرف بظهور اللفظ في المعنى المجازي المخصوص بالقرينة المقالية او الحالية , فتصلح لتقديم بعض الأحوال الخمسة الطارئة على اللفظ على بعضها الآخر بالدليل والقرينة الصارفة.
التاسع إنه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه على أقوال، وقبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقال، وهو: أن الوضع التعييني، كما يحصل بالتصريح بإنشائه، كذلك يحصل بإستعمال اللفظ في غير ما وضع له، كما إذا وضع له، بأن يقصد الحكاية عنه، والدلالة عليه بنفسه لا بالقرينة (1).
(1)الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له من غير نقل او تجوز كاسم الإنسان والأرض والنبات ونحوها، واطلق عليها اصطلاح الحقيقة اللغوية أزاء الحقيقة الشرعية والعرفية.
الحقيقة الشرعية
والمراد من الحقيقة الشرعية هي وضع اللفظ لهيئته ومعنى بخصوص في الشريعة بالنص عليها بالذات وبمعنى لم تكن موضوعة في اللغة لهذا المعنى، او انها كانت موضوعة في اللغة للمعنى الأعم، فجاء الشارع ليطلقها تجوزاً على معنى مخصوص ليتبادر الى الذهن هذا المعنى عند التلفظ، فتصبح حقيقة بمعناها الشرعي بمعنى انها جاءت بالوضع التعييني الذي ينشأ من تصدي الواضع لجعل لفظ دالاً على معنى، واما الوضع التعيني فهو العلاقة بين اللفظ والمعنى الناشئة عرضاً واشتقاقاً من اللفظ، كما لو اتفق كثرة استعمال لفظ في معنى مخصوص مما يحصل معه وجود ذهني وتبادر وانخطار للمعنى حال سماع اللفظ، والحق ان الحقيقة الشرعية ليست بعرض واحد مع الحقيقة اللغوية، لأن الأصل هو الحقيقة بمعنى وضع اللفظ ازاء المعنى من قبل الواضع، واذا ورد لفظ الحقيقة على نحو الإطلاق فانه ينصرف الى الحقيقة اللغوية، اما الحقيقة الشرعية فتتعلق بتصدي الشارع لوضع اللفظ ازاء معنى مخصوص، وغالباً ما يكون المعنى والإصطلاح الشرعي مشتقاً من الحقيقة اللغوية، كما في وضع لفظ الصيام للعبادة المخصوصة التي هي في الأصل الإمساك وقد ورد لفظ الصوم بمعناه اللغوي كما في قال النابغة: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج واخرى تعلك اللجما([29]).
ويقال صامت الريح اذا ركدت، وصامت الشمس اذا استوت في منتصف النهار، والظاهر ان ثمرة البحث ليست ذات اهمية كبيرة للإنسباق الذهني ومعرفة ارادة الشارع من اللفظ وموضوعية القرائن الصارفة للفظ عن معناه الحقيقي.
وقيل ان ثمرة النزاع انه مع ثبوت الحقيقة الشرعية يكون معنى ورود لفظ الصلاة في كلام الشارع واختراعه هو الصلاة بمعناها الإصطلاحي واركانها المخصوصة، واما اذا لم تكن هناك حقيقة شرعية فتصرف الصلاة الى معناها اللغوي وهو الدعاء على القول بانه اصل معنى الصلاة، ولكن هذا التفصيل شبه منعدم في الخارج والتبادر من علامات الحقيقة واذا قال الأب لأبنه صل فلا يسأله البيان وهل يؤدي الصلاة المخصوصة ام يكتفي بالدعاء سواء كان عدم السؤال لوجود قرينة صارفة كدخول وقت الصلاة او للمعرفة بالوجوب والتكليف بفريضة الصلاة او غير ذلك.
وهل يمكن اعتبار الحقيقة الشرعية قسماً من اقسام المجاز ام انها قسيم له، والمجاز هو استعمال اللفظ غير ما وضع له تجوزاً، وينقسم الى المجاز في الكلمة لوجود علاقة ونوع مشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المستعمل فيه ويسمى استعارة، والا فمجاز مرسل والذي له اقسام متعددة منها تسمية الشي باسم جزئه كاطلاق الرقبة على الإنسان، كقوله تعالى [فَكُّ رَقَبَةٍ]، او عكسه كاطلاق الهلال على الشهر كما في قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]([30])، او تسمية السبب باسم مسببه او تسمية الشيء باسم محله او حاله او آلته وغير ذلك.
وأستدل على ثبوت الحقيقة الشرعية بتبادر المعاني الشرعية من الفاظها، وهو علامة الحقيقة , وقيل بثبوتها بواسطة الوضع
التعيني والثاني هو الأرجح من غير تعارض بينهما، لأن التبادر في طول الوضع وفرعه.
والأقوال في الحقيقة الشرعية وهي:
1- ثبوت الحقيقة الشرعية مطلقاً أي في العبادات والمعاملات.
2- عدم ثبوت الحقيقة الشرعية مطلقاً لا في العبادات ولا في المعاملات.
3- التفصيل بين العبادات والمعاملات بالثبوت في العبادات، وعدم ثبوتها في المعاملات.
4- ثبوتها في المعاملات، وعدم ثبوتها في العبادات.
5- التفصيل بلحاظ كثرة الاستعمال، فالالفاظ التي يكثر استعمالها تثبت في الحقيقة الشرعية كالصلاة والصوم، بل وان كانت من المعاملات كالنكاح، والتي لا يكثر استعمالها لا تثبت فيها الحقيقة الشرعية وان كانت عبادة.
6- التفصيل بين عصر النبوة وعصر الأئمة عليهم السلام كما بالنسبة لأيام الصادقين عليهما السلام واتساع دائرة الفقه في ايامهما، فتثبت الحقيقة الشرعية في ايامهما بينما تنتفي في ايام النبوة.
7- المدار في ثبوت الحقيقة الشرعية على كثرة الدوران في زمان الشارع وما بعده من الأعصار على نحو الإطلاق.
وإن كان لا بد – حينئذ – من نصب قرينة، إلا أنه للدلالة على ذلك، لا على إرادة المعنى، كما في المجاز (1)، وكون إستعمال اللفظ فيه كذلك في غير ما وضع له، بلا مراعاة ما اعتبر في المجاز، فلا يكون بحقيقة ولا مجاز، غير ضائر بعد ما كان مما يقبله الطبع ولا يستنكره، وقد عرفت سابقا، أنه في الاستعمالات الشايعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز (2).
(1)هل يمكن جعل الحقيقة الشرعية برزخاً بين الحقيقة والمجاز، الاقوى نعم، اذ انها تحمل من الحقيقة اسمها، ومن المجاز انها وضعت بوضع لاحق ولابد من سبب او قرينة تصرفه الىالمعنى الإصطلاحي، ولكن هذا المعنى جاء بالوضع الخاص للحقيقة الشرعية على نحو صريح ومستقل، ولم يرتكز على القرينة وحدها، والمشابهة مع المعنى اللغوي كما هو الحال في المجاز، وهذا لا يمنع من وجوه التقاء بين الحقيقة الشرعية وبين المجاز ولكن الحقيقة الشرعية قسيمللحقيقة والمجاز وليس قسماً من احدهما، وان كانت القرينة موجودة في الحقيقة الشرعية، لأنها خارجية ولتقدم الوضع عليها،خصوصاً وان بعض المعاني الشرعية لا تناسب لها مع المعاني اللغوية لذا ترى المعنى الشرعي ينسبق الى الذهن من الفاظها.
لقد اراد الماتن ان يبين الفرق بين الحقيقة الشرعية وبين المجاز، بلحاظ القرينة وان المعنى يكون في الحقيقة الشرعية مقصوداً من نفس اللفظ اما في المجاز فان القرينة موضوعة للدلالة على ان اللفظ اختير لغير الموضوع الذي وضع له اصلاً للعلاقة والمشابهة بينهما، أي انه في الحقيقة الشرعية لم تستند دلالة اللفظ على المعنى الى القرينة.
(2) الوضع للحقيقة الشرعية ليس ابتدائياً مستقلاً بل هو مستقرأ من الوضع للحقيقة، ولكن لا يصدق عليه بانها مجاز لعدم انطباق قواعد اشتقاق المجاز على الحقيقة الشرعية، والتقسيم الى الحقيقة والمجاز تقسيم استقرائي، والإستعمال اعم منهما وكذا بالنسبة للطبع وقبوله للأعم وعدم
اذا عرفت هذا، فدعوى الوضع التعييني في الالفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدا، ومدعي القطع به غير مجازف قطعا، ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته،(1).
وقوفه على حدين فقط وهما الحقيقة والمجاز.
ولا ملازمة بين قبول الطبع له وعدم استنكاره له، وقوله انه لا يكون حقيقة ولا مجازاً، فالطبع لا يعرف تقسيم الحقيقة والمجاز والبرزخ بينهما انما هو امر استقرائي تحقيقي في الغالب، والكبرى هي اثبات ان الأمر حقيقة او مجاز بدليل خارجي لأن التقسيم استقرائي بلحاظ وضع اللفظ بينما يتبع الطبع ما تعارف استعماله وكثر تداوله بين الناس من ارادة معنى معين من لفظ مخصوص لأن ملاك الطبع هو الفهم والتفهيم.
(1)أي ان الإصطلاحات الشرعية ليس من الوضع التعيني وكثرة الإستعمال، بل انها تحصل ابتداء وعلى نحو الإختراع، وفيه مسألتان:
الأولى: ان ما ذكره انفاً لا يصلح ان يكون قاعدة واصلاً لإستنباط هذا القول وتأييد هذه الدعوى ونصرة من يقطع بها فهو اعم من المدعى.
الثانية: تبادر المعاني الشرعية اعم من الوضع التعييني فقد يحصل التبادر من الوضع التعيني خصوصاً عند الإنتقال باللفظ الى معنى جديد مع شيوعه وكثرة استعماله وتداوله، فالفقه مثلاً لغة هو الفهم ثم اطلق اصطلاح الفقهاء على القراء واستعمل في خصوص احكام الفتوى ومسائل الحلال والحرام، فالفقهاء هم اصحاب الفتوى وان لم يكن هذا المعنى معروفاً او خاصاً بهم ايام النبوة ولا ايام الإمامة أي ليس من الحقيقة الشرعية او المتشرعة.
وصحيح ان التبادر علامة الحقيقة، ولكنه في مقابل المعنى المجازي اذا كانا في عرض واحد في لسان المحاورات، اما اذا كان احدهما هو السائد في المحاورات بحيث لا يعرف هل هو حقيقة او مجاز لعدم معرفة اصل الوضع
ويؤيد ذلك أنه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية، فأي علاقة بين الصلاة شرعا والصلاة بمعنى الدعاء، ومجرد إشتمال الصلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكل بينهما، كما لا يخفى (1).
وموضوعه , فيكون هو المتبادر خصوصاً بلحاظ موضوعه كما في حال العبادات كالصلاة والصوم.
(1)اتجه الماتن الى اثبات صحة ميله للقول بالوضع التعييني للإصطلاحات الشرعية لتوكيد انها حقيقة وليس مجازاً لنقض القول بعدم الحقيقة الشرعية.
واستدل الماتن بعدم وجود علاقة معتبرة بين الصلاة شرعاً أي هذا الفعل العبادي المتكون من اجزاء منصوصة كالركوع والسجود والصلاة بمعنى الدعاء وفيه مسائل:
الأولى: ان النقاش في الكبرى وهي ان معنى الصلاة في اللغة اصلاً هو الدعاء كما هو شائع، وهو امر لم يثبت لغة وان ورد قريباً من هذا المعنى في شعر الأعشى.
وقال الزجاج: الأصل في الصلاة اللزوم يقال: قد صلي واصطلى اذا لزم، وفي لسان العرب: وقال اهل اللغة في الصلاة انها من الصلوين وهما مكتنفا الذنب من الناقة وغيرها، واول موصل الفخذين من الإنسان فكأنهما في الحقيقة مكتنفا العُصعُص، وقال الأزهري: والقول عندي هو الأول انما الصلاة لزوم ما فرض الله تعالى([31]).
الثانية: لو تنزلنا وقلنا ان اصل لفظ الصلاة يفيد معنى الدعاء فانه يصلح ان يطلق اسم الجزء على الكل من باب المجاز المرسل، وهو معروف كما في إطلاق العين على الربيئة وقمة الجبل.
الثالثة: اغلب الإصطلاحات الشرعية مستقرأة من المعاني اللغوية ومستنبطة بلحاظ وجوه شبه وصلة بينها، فالحج مثلاً اصله الزيارة والقصد.
والصوم الإمساك، والنكاح الوطئ لذا قيل بانه حقيقة في الوطئ ومجاز في العقد، والمجاز عند المشهور خير من الإشتراك اللفظي.
والظاهر ان العلاقة بين الجزء والكل التي اشار اليها الماتن هي انتفاء الكل بانتفاء الجزء، وان هذا الأمر لا يصدق على الصلاة والدعاء، ولكنها ليس حجة كافية لنفي العلاقة بينهما،والصلاة في ماهيتها دعاء وتضرع وخشوع.
وكما ان التشبيه من صيغ البلاغة فانه من العلوم العقلية لذا ترى مصاديقه في كل لغة من لغات العالم لما فيه من ملائمة لحال العقلاء وسيرتهم وسنن التخاطب والحوار بينهم، وفيه تحريض للنفس على استحضار وجوه المقارنة والإلتقاء بين المشبه والمشبه به سواء كان القصد من التشبيه المدح والثناء او الذم والتوبيخ، وفيه حث على التدبر والتفكر كما انه يقرب المعنى بلحاظ مادة الإشتراك والإلتقاء بين امرين سواء كان استعارة او تشبيهاً بورود اداة التشبيه وقد يحذف المشبه به ويستغنى عنه مع وجود القرينة كما في قولك: انا ضيف حاتِم، كناية عن مضيف كريم، وقد يرد الإصطلاح الشرعي من باب التشبيه وحذف المشبه به للتبادر والتخاطر ووضوح المعنى بلحاظ القرينة الحالية والموضوعية.
هذا كله بناء على كون معاينها مستحدثة في شرعنا، وأما بناء على كونها ثابتة في الشرائع السابقة، كما هو قضية غير واخد من الآيات مثل قوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] وقوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ] وقوله تعالى [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا] إلى غير ذلك، فألفاظها حقائق لغوية، لا شرعية، واختلاف الشرائع فيها جزءا وشرطا، لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية، إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا (1).
(1)أي ان الميل الى الوضع التعييني للإصطلاحات الشرعية ينحصر بما اذا كانت مخترعة في زمان الإسلام وبعد البعثة النبوية المباركة فهناك مرحلتان:
الأولى: مرحلة الشرائع السابقة للإسلام.
الثانية: مرحلة الإسلام ونزول القرآن.
فاذا كانت الإلفاظ موجودة في مرحلة الشرائع السابقة للإسلام فان الإصطلاحات تعتبرلغوية لثبوت سبق زمان التعيين ويشكل عليه من وجهين:
الأول: ان ثبوتها في تلك الشرائع كفرائض وافعال وسنن ومسميات وليس اسماء للإختلاف في اللغات، فاسماء الصلاة والصوم ونحوهما بالسريانية والعبرانية غيرها في العربية، بدليل قوله تعالى (كتب) أي ان موضوع الإلتقاء هو الفعل الواجب وليس الإسم.
وقد ناقش الماتن الإختلاف في اجزاء وشرائط العبادات وانه لا يضر باصل الإسم كما ان الإختلاف في المصاديق والأحوال عندنا لا يضر في وحدة الموضوع وانطباق العنوان، فالصلاة قصراً في السفر او صلاة المريض عن جلوس او اضطجاع تعتبر ايضاً صلاة.
فلو كانت الفرائض والعبادات بأسماء اخرى في تلك اللغات فهل
ثم لا يذهب عليك أنه مع هذا الاحتمال، لا مجال لدعوى الوثوق – فضلا عن القطع – بكونها حقائق شرعية، ولا لتوهم دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها، لو سلم دلالتها على الثبوت لولاه، ومنه قد إنقدح حال دعوى الوضع التعيني معه، ومع الغض عنه، فالانصاف أن منع حصوله في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة، نعم حصوله في خصوص لسانه ممنوع، فتأمل(1).
حصلت ترجمتها الى العربية في حينه وقبل الإسلام كي يضعف الإشكال على ما في المتن، باعتبار ان الشريعة جاءت بالفاظ معروفة لغة لذات الأفعال العبادية في الجملة، وان العرب كانوا يتحاورون بينهم بنعت تلك الفرائض بالفاظها الحالية، لم تثبت تلك الترجمة خصوصاً مع اختلاف اللغويين في اصل كلمة الصلاة، ومنهم من قال انها من الصلويين كناية عن حال الركوع وهو امر لم يكن معروفاً في صلاة الملل الأخرى.
الثاني: ثبوت وضع تلك الإلفاظ لمعانيها الشرعية المخصوصة في الشرائع السابقة والظاهر انه مفقود، انما جاء القرآن بالإشارة اليها بلغة العرب وللبيان، والإستعمال اعم من الحقيقة والمجاز.
(1) اتجه الماتن الى التشكيك بدعوى الحقيقة الشرعية بعد ان مال اليه واستدل عليه بتبادر المعاني الشرعية، فوضع احتمالاً وجعله سبباً للترديد والتردد في الأمر، لأن طرو هذا الإحتمال امر ممكن بظاهر كلام الماتن، وتعتبر حينئذ حقائق لغوية وتنتفي معه الحقيقة الشرعية، ويعتبر الإستعمال الشرعي فرعاً للحقيقة اللغوية.
ثم قال الماتن (ومع الغض عنه) ولم يبين لنا رأيه في اثر هذا الإحتمال او عدمه لعدم امكان البرزخية والتردد فاما ان يكون وضع هذه الإلفاظ لذات المعاني في الشرائع السابقة مؤثراً فلا حقيقة شرعية، واما ان لا يكون مؤثراً فنقر بوجود الحقيقة الشرعية، ولم يتعرض الماتن لإحتمال آخر وهو تأثيرها في بعض الإصطلاحات والأسماء على نحو الموجبة الجزئية، ومع هذا فان
وأما الثمرة بين القولين، فتظهر في لزوم حمل الالفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت، وعلى معانيها الشرعية على الثبوت، فيما إذا علم تأخر الاستعمال، وفيما إذا جهل التاريخ، ففيه إشكال، وأصالة تأخر الاستعمال مع معارضتها بأصالة تأخر الوضع (1).
الماتن لم يترك هذا التشكيك والإحتمال دون جواب بل تصدى له بقوله (واما الثمرة بين القولين)
لقد طرح الماتن صورتين:
الأولى: اعتبار احتمال وجود هذه الإلفاظ في الشرائع السابقة.
الثانية: الإعراض عن هذا الإحتمال.
وفي الأولى لا تثبت الحقيقة الشرعية، وفي الثانية يثبت الوضع التعيني في زمان النبوة وزمان الأئمة والصحابة والتابعين وليس في زمان النبوة.
(1) ما المراد بالقولين هل هما ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمها، ام هما ثبوت الألفاظ ذاتهافي الشرائع السابقة، والقول بان معانيها مستحدثة في شرعنا، الجواب هو الأول فعلى القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية فان الإصطلاحات الشرعية تحمل على المعاني والمفاهيم اللغوية.
الا مع القرينة الصارفة عنه والتي تدل على المعنى الإصطلاحي، اما على فرض ثبوت الحقيقة الشرعية وان الإلفاظ والإصطلاحات مخترعة من قبل الشارع فان الإنسباق الذهني يكون للمعنى الشرعي وتترتب عليه آثاره.
ولكن قيده بلحاظ اوان الإستعمال بصور:
1- اذا علم تأخر استعمال الإلفاظ في معانيها عن تأريخ وضع تلك الإلفاظ.
2- الإشكال اذا جهل التأريخ، وورود لفظ التأريخ مطلقاً والظاهر انه اراد الوضع والإستعمال وان تعلق بالإستعمال خاصة وهل حصل قبل التنزيل في ايام الشرائع الأخرى ام انه حصل بعد التنزيل، وفي ايام الشارع، فاذا لم يعلم اوان الوضع والإستعمال فلا يصار الى أي منهما وكذا في معرفة المصاديق عند الشك في تأريخ الإستعمال، واشكل الماتن على الإستدلال باصالة تأخر الإستعمال وما تدل عليه من الحمل على المعاني الشرعية وثبوت الحقيقة الشرعية بانها معارضة باصالة تأخر الوضع التي تفيد الحمل على المعاني اللغوية.
ومفاده انه كما نقول باصالة الإستعمال يمكن القول باصالة الوضع وان الوضع للمعنى اللغوي جاء متأخراً او ملازماً للإستعمال في المعنى اللغوي.
ولكن النقاش في الكبرى وهي ثبوت اصالة تأخر الوضع وقد تقدم الكلام من الماتن بانه على القول بالحقيقة الشرعية فانها (استعمال اللفظ في غيرما وضع له كما اذا وضع له بان يقصد الحكاية عنه والدلالة عليه بنفسه لا بالقرينة)
والظاهر بخلافه ومع هذا فان الماتن لم يأخذ باصالة التأخر او ترتب الأثر عليه ومعناه ترتب الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية للأصل، كالإستصحاب، فالقول بالأصل المثبت يستلزم ترتب آثار تتعدى الفرد المشكوك.
ومن الأصوليين من اعتبر الوضع للمعنى الشرعي في الشرائع السابقة جزء من الحقيقة الشرعية باعتبار ان الشارع المقدس امضى وضعهم ويصدق على تلك الألفاظ انها موضوعة للمعاني الشرعية وليس اللغوية، والقول بان اصالة تأخر الإستعمال معارضة باصالة تأخر الوضعقد لا يكون تاماً فمن شرائط التعارض وحدة الموضوع، وصحيح ان موضوع البحث واحد ولكن الإستعمال غير الوضع، وباعتبار ان النقل من المعنى اللغوي الى الشرعي قد تم في الشرائع السابقة.
لا دليل على اعتبارها تعبدا، إلا على القول بالاصل المثبت (1). ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك، وأصالة عدم النقل إنما كانت معتبرة فيما إذا شك في أصل النقل، لا في تأخره، فتأمل (2).
(1)الأصل المثبت هو ترتب الآثار الشرعية للوازم العقلية للمستصحب بواسطة الإستصحاب أي ان الرجوع الى اصل الإستصحاب يؤدي الى التعبد بوجود اللوازم العقلية للمستصحب هذا بالنسبة للقائل بالأصل المثبت، والمشهور بخلافه، أيعدم ثبوت الأصل المثبت، وان التعبد ينحصر ببقاء المستصحب فلا تترتب الآثار الشرعية الا على ذات المستصحب ولوازمه الشرعية دون اللوازم العقلية المصاحبة، فلو استصحبنا بقاء حياة رجل غاب عن اهله، فعلى القول بالأصل المثبت فانه يسقط عن عياله دفع زكاة الفطرة مثلاً باعتبار انها فرد من اللوازم العادية والعقلية للإستصحاب، وحجية الأصل المثبت تأمر به، والمراد من ذكر الأصل المثبت في المقام ولازمه العقلي هو تأخر الإستعمال عن الوضع.
(2) قول الماتن باصالة عدم النقل يفيد ضعف احتمال وجود معان لغوية للإصطلاحات الشرعية قبل نقلها وورودها في لسان الشارع.
ولكن اصالة عدم النقل لا موضوعية لها في المقام، لأنها تكون معتبرة ما اذا شككنا بحصول النقل او عدمه، اما اذا قيل بحصول النقل ولكن شككنا في تأريخه فلا اعتبار له وهو كالشك في المكلف وتعتبر اصالة البراءة، والشك في المكلف به فلا تعتبر اصالة البراءة بل تعتبر قاعدة الإشتغال، بمعنى ان مجرى اصالة البراءة هو الشك في الثبوت، ومجرى اصالة الإشتغال هو الشك في السقوط.
وقيل لا فرق في حجية اصالة عدم النقل سواء كان الشك في اصل النقل او تأريخه، والأقوى هو القول بالحقيقة الشرعية ولكن ليس على نحو الإطلاق فتارة تكون الإلفاظ مخترعة للمعاني الشرعية وتتبادر الى الذهن عند
العاشر:العاشر أنه وقع الخلاففي أن الفاظ العبادات، أسام لخصوص الصحيحة أو للاعم منها وقبل الخوض في ذكر أدلة القولين، يذكر أمور: (1).
النطق باللفظ بالوضع وليس بالقرينة، وانالواضع لم يحصر الوضع للمعاني اللغوية فحسب خصوصاً وان الشارع هو ايضاً واضع، واسس قواعد الوضع لعمومات قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] وهذا لايمنع من وجود اصطلاحات شرعية استقرئت واخذت من المعنى اللغوي، والتي تعرف بالقرينة الصارفة، اما التي كانت بالوضع التعييني فتعرف بالوضع ومن غير حاجة الى قرينة، ثم ان الخلاف صغروي، فحتى التي استقرئت من الوضع اللغوي حدث لها نقل وهو اخص من المجاز بل ان استقراءها بالذات لم يصدق عليه انه مجاز بالمعنى الإصطلاحي وانه من استعمال اللفظ في غير ما وضع له، فالإصطلاحات الشرعية في الغالب وضعت لمعانيها الشرعية بالذات وليس بالتجوز.
(1) ألفاظ العبادات للصحيح أم للأعم منه
أي اننا نقسم الإصطلاحات الشرعية الى قسمين:
الأول: ما حصل بالوضع وان الشارع تفضل بجزء من الوضع.
الثاني: ما استقرء من اللغة ولكنه كالبرزخية بين الحقيقة والمجاز او الجامع بينهما.
يتعلق الخلاف في المقام بالفاظ العبادات خاصة دون ماهيتها واحكامها، فالنزاع في الأسماء وليس المسميات للفرق بينهما والمدار في الأحكام على المسميات وليس الأسماء، أي ان الخلاف لا يتعارض مع السعي لإتيان الصحيحة منها، وانما جرى النزاع في خصوص الفاظها كالصلاة والصوم والزكاة، وكذا الفاظ المعاملات كالبيع والرهن والطلاق وهناك قولان:
الأول: ان الشارع وضع الفاظ العبادات لخصوص الصحيحة والجامعة
(منها) إنه لا شبهة في تأتي الخلاف، على القول بثبوت الحقيقة الشرعية، وفي جريانه على القول بالعدم إشكال (1)
للإجزاء والشرائط منها، ولا يشمل الفاسدة والناقصة والمفتقرة لبعض الأجزاء والشرائط ويسمى الصحيحي وهو بالمشهور.
الثاني: ان الفاظ العبادات وضعت للأعم فتشمل الصحيح الجامع للأجزاء والشرائط منها، وتشمل الفاسد الذي جاء ناقصاً غير تام.
وهذا المبحث اجنبي عن معنى الصحة والفساد وانهما حكمان وضعيان او ليسا كذلك، فقد اختلف في الصحيح والفاسد.
(1) والخلاف بين الصحيحي والأعمي لا يكون الا بناء على القول بثبوت الحقيقة الشرعية باعتبار ان الشارع وضع الفاظ العبادات والمعاملات لمعان مخصوصة، الأمر الذي يتفرع عنه نزاع، وهل وضعت للصحيحة فقط دون الأعم فتحتاج حينئذ الى قرينة لإستعمالها في الأعم، ويكون الأصل مع عدم وجود قرينة على وضعها لما هو مطلوب شرعاً اذ ان الإستعمال اعم من الحقيقة والمجاز.
وقيل بالإشكال في جريان النزاع عند من يقول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية باعتبار ان استعمال اللفظ في العبادات الصحيحة أوالناقصة يتوقف على القرينة، فالصحيحي يعترف بان استعمال هذه الإلفاظ في الأعم يحتاج الى قرينة، وكذا الأعمي فانه يعترف بان استعمالها في الصحيح منها لابد له من يحتاج الى قرينة، لإنحصار الحقيقة عندهما بالحقيقة اللغوية دون الشرعية.
ولكن يمكن تصور النزاع ايضاً حتى على القول بعدم الحقيقة الشرعية بلحاظ المناسبة مع المعاني اللغوية وسبقها، أي هل المناسب للمعنون اللغوي هو الصحيح من العبادات , فيكون استعمال اللفظ في الأعم نوع مجاز وتجاوز، ويفتقر الى قرينة عند الإستعمال فيه، ام ان المعنى الأعم هو الأنسب والأقرب للمعنى اللغوي للفظ فيحتاج استعماله في الصحيح خاصة الى قرينة، وكأنه يحتاج الى واسطة في القرينة احداهما تنقل اللفظ الى الأعم واخرى تنقله الى الصحيح منها ولا يخلو من تشديد، كما يجري النزاع بلحاظ ثمرة البحث لأن القائل بالأعم يتمسك بالإطلاقات، والقائل بالصحيح يقول بعدم التمسك بالإطلاقات وهو اعم من ان تنحصر بثبوت الحقيقة الشرعية للتباين الموضوعيبين مسألة الإطلاق ومسألة الحقيقة الشرعية، ولا تعارض بينهما في اصل الوضع، فالإطلاق قد يكون معتبراً مع الحقيقة الشرعية او في حال عدمها، نعم اشكال الماتن يتعلق بعدم تصور النزاع في التسمية في حال التسليم بعدم الحقيقة، لأن التسمية تتعلق بالحقيقة وليس المجاز الذي انتقل اليه لمناسبة وعلاقة بينه وبين ما استعمل له بالأصل.
وتظهر ثمرتان بين القولين:
الأولى: اذا ورد اللفظ لمعناه الشرعي بصيغة الإطلاق لحكم شرعي فهل تحتسب كافة الأجزاء والشرائط ام لا، فلو شككنا هل السورة جزء من الصلاة ام لا، فعلى القول بارادة المعنى الصحيح يرجع الى قاعدة الإشتغال فالشك في انطباق لفظ الصلاة على الصلاة بلا سورة ولا يصح التمسك بالإطلاق.
اما على القول بالأعم فيصح التمسك بالإطلاق وهو حكم وثمرة من ثمرات المسائل الأصولية، ويستدل به على رفع جزئية المشكوك بجزئيته او شرطيته والشك بتقييد الصلاة بقيد زائد على حقيقتها، والإطلاق لنفي اعتبار ما شك في جزئيته او شرطيته والأخذ بمسمى الوجود وذات الطبيعة التي يحكم عليها ومنع الخصوصية والقيد.
الثانية: مع الشك في الأجزاء والشرائط يرجع الى اصالة البراءة عند الأعمي، باعتبار ان متعلق التكليف ذات الأجزاء، وعلى القول بالصحيحي يرجع الى عدم جريان البراءة، واشكل على الماتن بان الثمرة تختص بالرجوع الى الأصول وليس التمسك بالإطلاق هذا في العبادات،اما في المعاملات فنفي ما شك اعتباره كالعربية وصيغة الماضوية.
الإطلاق وحدة الذات مع التعدد والإرسال في الخصوصيات، لذا فان الإطلاق يتعلق بنفي جزئية ما يشك بجزئيته او شرطيته اما ما يتقوم به الذات فلا يرفع بالإطلاق لذا فان من يجعل الأجزاء والشرائط جزء من اصل الذات لا يتمسك بالإطلاق، اما القائل بالأعم فانه يجعلها من الخصوصيات وفرق بين الخطابات التكليفية وتضمنها للأجزاء والشرائط، وبين ماهية الأشياء عند العرف وفي المحاورة.
وقيل لا ثمرة للخلاف بين الصحيح والأعم لأن الشارع بين الأجزاء والشرائط ودلنا على الصحيح منها، ولم تعد مجملة أو مهملة ولكنها شبهة بدوية لأن الخلاف في الأسماء وليس المسميات، والعناوين وليس المعنونات ولإعتبار الساندعند اهل العرف والمحاورة.
وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره: إن النزاع وقع – على هذا – في أن الاصل في هذه الالفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع، هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الاعم، بمعنى أن أيهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء، وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته، كي ينزل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية، وعدم قرينة أخرى معينة للآخر وأنت خبير بأنه لا يكاد يصح هذا، إلا إذا علم أن العلاقة إنما اعتبرت كذلك، وأن بناء الشارع في محاوراته، استقر عند عدم نصب قرينة أخرى على إرادته، بحيث كان هذا قرينة عليه، من غير حاجة إلى قرينة معينة أخرى، وأنى لهم بإثبات ذلك (1).
(1) ان الإنتقال من المعاني اللغوية الى المعاني الشرعية يكون على مرحلتين وقسمين ما دام ان استعمالها في الصحيحي والأعمي من المجاز.
الأول: استعماله مجازاً في خصوص العبادات والمعاملات الصحيحة للعلاقة بينها وبين المعاني اللغوية التي وضعت لها، ثم استعمل في الأعم والفاسدة بالتبعية والتنزيل والإلحاق.
الثاني: استعماله مجاز في الأعم من الصحيحة والفاسدة، للعلاقة بينها وللسعة في المجاز ووجوه الشبه، ثم استعملت حصراً في الصحيحة منها.
وهذا القول ذكره الشيخ الأنصاري واشكل عليه الماتنبصعوبة تصور استحضار الشارع لقرينة اضافية وثانية تنقله من المعنى المجازي او المعنى الشرعي المنقول من الحقيقة الى المعنى الآخر الإضافي الا في حال ثبوت إستعمال الشارع لقرينة اضافية للمعنى الأعم، اذا استعمل اللفظ للصحيح من العبادات، او استعماله لقرينة اضافية للصحيح اذا كان قد استعمل اللفظ بالقرينة الأولى للمعنى الأعم.
فاذا كان أصل الصلاة هو الدعاء واستعملها الشارع في هذا الفعل العبادي المخصوص، ولا ينصرف اللفظ اليه الا مع القرينة على القول بعدم الحقيقة الشرعية، فهل يتصور ان الشارع استعملها في احد معنيين، اما الصحيحة الجامعة للشرائط والأجزاء او الأعم والفاسدة ولا ينتقل الى الآخر الا مع قرينة اخرى اضافية، وهو امر يتعذر ثبوته ظاهراً ولا يخلو من تكلف، لذا قال الماتن “وأنى لهم باثبات ذلك”
ومع القول بعدم الحقيقة الشرعية، فالأمر لا ينحصر بطريق واحد هوالواسطة والتعدد في القرينة، ويمكن ان يكون استعمال الصحيح والأعم بان كل واحد منهما له قرينته المستقلة التي لها علاقة ووجه شبه مع المعنى اللغوي، ولكن كل واحد من الصحيح او الأعم يعرف بذاته وبحيثياته الخاصة، فالقرينة تنقل المعنى من اللغة الى الشريعة من دون ان تكون واسطة للإخرى او ان تستعين بها.
او ان القرينة التي تنقل اللفظ الى المعنى الشرعي من اللغوي، وهي واحدة تتعلق بالجامع لهما والماهية المجملة والوجود الساري شاملة للأفراد الصحيحة والفاسدة ولكن الإختلاف في الذات فليس من تشابه تام او سنخية بين الصحيحة والفاسدة من العبادات، وان جاءت الفاسدة شبيهة للصحيحة شكلاً وهيئة، فالرضاع بشرائطه ينشر الحرمة دون ما كان فاقداً للشرائط.
فحينما نرى مكلفاً قائماً في الصلاة فاننا نحسبها صلاة تامة الا اذا علمنا انها فاقدة لجزء او ركن.
فالسنخية والماهية واحدة بلحاظ الإشتقاق اللغوي، ولكن السنخية تختلف في وجودها الخارجي.
وقد ذكرت وجوه لتصوير الجامع بين الأعم من الصحيح والفاسد، منها بانه عبارة عن الأركان وان ما عداها من الأجزاء والشرائط يتعلق بالإمتثال وليس في مسمى الصلاة الذي لا يستلزم صدق كافة الأجزاء والشرائط، وقد لا يضر فقد بعض الأجزاء والشرائط بالصحيحة كما لو ترك سجدة واحدة، خصوصاً وان اسم الجنس يوضع للماهية اللابشرط، ولكن استعماله
وقد انقدح بما ذكرنا تصوير النزاع – على ما نسب إلى الباقلاني–وذلك بأن يكون النزاع، في أن قضية القرينة المضبوطة التي لا يتعدى عنها إلا بالاخرى – الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه – هو تمام الاجزاء والشرائط، أو هما في الجملة، فلا تغفل (1).
بخصوص فرد معين يستلزم مؤونة زائدة، وسياتي اشكال الماتن على الأمر الجامع.
(1) لقد ذهب القاضي الباقلاني الى ان الألفاظ مستعملة في المعاني الحقيقية اللغوية، وان الشارع استعمل ذات المعنى اللغوي ايضاً الا انه اعتبر عنده اشياء آخر زائدة على اصل الطبيعة لخصوصية ارادها ودلالة معينة عنده تتعلق بذات الأفعال العبادية، وكأنها افراد مخصوصة من مصاديق المعنى اللغوية، وهذه الخصوصية تترشح بلحاظ القرينة المحدودة والمضبوطة التي تتعلق باجزاء وشرائط المأمور به فيبقى الإشكال على حاله لأن الخصوصيات سواء كانت تمام الأجزاء والشرائط او بعضها تبقى على حالها لأن كلاً من الصحيحة او الأعم تحتاج الى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي فاذا كان المطلوب بيان تمام الأجزاء والشرائط فلا يصح التمسك بالإطلاق، واذا كان المراد هو المعنى الأعم فلا لزوم للإطلاق.
ولكن كلام الباقلاني لا يتعلق بالقرينة المتعددة والواسطة فيها، ومفاده ان لكل من الصحيح والأعم قرينة مستقلة ينصرف الكلام اليها من اصل المعنى اللغوي، وظاهره عدم القول بالحقيقة الشرعية، بل مراده استقلال كل منهما بقرينة مخصوصة ومؤونة زائدة مستقلة.
المراد من الصحة او التمامية حسن الإمتثال وماله دخل في ترتب الغرض مما كان جزء او شرطاً من ذات الفعل وكمال الشيء بمقتضى اصل الجعل الشرعي اوالإرادة التكوينيةوليس مطلق ما يدخل في الغرض كقصد القربة واحكام المكان ونحوها أي ان استعمالها في الفاسد من باب التنزيل وقريب من باب الإستعارة ويمكن تقسيمه الى ثلاثة اقسام:
(ومنها) أن الظاهر أن الصحة عند الكل بمعنى واحد، وهو التمامية، وتفسيرها بإسقاط القضاء – كما عن الفقهاء – أو بموافقة الشريعة – كما عن المتكلمين – أو غير ذلك، إنما هو بالمهم من لوازمها، لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الانظار، وهذا لا يوجب تعدد المعنى، كما لا يوجبه اختلافها بحسب الحالات من السفر، والحضر، والاختيار، والاضطرار إلى غير ذلك، كما لا يخفى. ومنه ينقدح أن الصحة والفساد أمران إضافيان، فيختلف شئ واحد صحة وفسادا بحسب الحالات، فيكون تاما بحسب حالة، وفاسدا بحسب أخرى، فتدبر جيدا (1).
الأول: صحيح حقيقي تام جامع للشرائط والأجزاء للمختار.
الثاني: صحيح حقيقي ادعائي منزل منزلة الصحيح لضرورة او حرج كصلاة المريض والمضطر.
الثالث: قسم فاسد لفاقدة الأجزاء والشرائط، كالصلاة الناقصة لركن، او عقد الفضولي.
فبالنسبة للأول يكون الفعل بحسب الجعل الشرعي وبالنسبة للثاني بواسطة تنزيل الشارع لها منزلة الصحيحة وان لم يوافقه العرف، اماالثالث فقد ينزله العرف منزلة الفعل في تسميته للمشابهة والإستعارة.
ومما هو متعارف ان الصحة والفساد متقابلان تقابل العدم والملكة، والمراد من العدم والملكة هما العرضان احدهما وجودي والآخر عدمي مع كون المحل المتصف فعلاً بالعدمي من شأنه ان يتصف بالوجودي، كالمصباح الذي يبعث الضياء بالتيار الكهربائي وينطفئ بانقطاعه.
وقال الشهيد الأول في القواعد: الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود لا تطلق على الفاسد الا بالحج لوجوب المضي فيه.
ومراد الماتن (فيختلف شيء واحد…) كما في الصلاة عن جلوس فهي فاسدة للمختار، وصحيحة بالنسبة للعاجز عن القيام الا ان هذا الأمر لا يدل على عدم كون الصحة والفساد امرين اضافيين.
ولم يثبت ان الفقهاء جعلوا تفسير التمامية باسقاط القضاء بل انه من لوازم التمامية وقد يفسر ايضاً بالفراغ والإمتثال والمبرء للذمة والا فان القضاء امر اضافي ولاحق مستقل لا يؤدى الا عند التخلف عن الأداء، أي ان الأداء امر مستقل بذاته لا صلة للقضاء به بينما تكون صلة للأداء في موضوع القضاء سواء على القول بان القضاء بأمر جديد ام بذات امر الأداء، فالقضاء لم يطلب من رأس كي يكون الأداء اسقاطاً له، ولا موضوعية له في الأداء.
وما ذكر عن المتكلمين يمكن ان يناقش لأن الموافق للشريعة ما هو اعم ويشمل الصحيح الحقيقي والصحيح الإدعائي، واختلاف الأنظار هنا غير اختلاف الحالات، فالمقصود من اختلاف الانظار هو تعدد التفسير والتعريف مع ان الموضوع واحد من جهة اشتراط احرازه للشرائط والأجزاء، فالفقيه ينظر بلحاظ صحة الفعل وامتثال المكلف للخطاب الإلهي المتوجه له، اما المتكلمون فينظرون اليه، واختلاف اقوال ارباب العلوم بالنسبة لمفهوم الصحة والتمام لا يعني تعدد المعنى، لأن الإختلاف بحسب لحاظ الحيثية وليس في الموضوع لأنه واحد، مثلما لا يوجب اختلاف المعنى اختلاف الكيفية بحسب حالات الحضر الموجب للتمام والسفر الشرعي الموجب للقصر، والصحة والإختيار اللذان يوجبان الإتيان بجميع الأجزاء والشرائط وحالة الإضطرار او المرض الموجبة للتخفيف واسقاط بعض الأجزاء، ولكنه قياس مع الفارق، فاختلاف التعريف في العلوم على الجامع والمعنى الشامل للجميع بينما الحالات متباينة تتغير فيها الكيفية.
وما ذكره الماتن من علة لنفي كون الصحة والفساد امرين اضافيين يمكن ان يصلح ذاته علة للبرهان بانهما امران اضافيان بدليل بقاء الشيء على ذاته او اتيانه نفسه، ومع هذا يصدق عليه مرة انه صحيح واخرى انه فاسد، فالصلاة عن اضطجاع بالنسبة للصحيح فاسدة، وبالنسبة للمريض تكون صحيحة، والذاتي لا يتبدل ولا يتخلف الا ان يقال ان المراد من الصحة هو
ومنها: أنه لابد – على كلا القولين – من قدر جامع في البين، كان هو المسمى بلفظ كذا، ولا إشكال في وجوده بين الافراد الصحيحة، وإمكان الاشارة إليه بخواصه وآثاره، فإن الاشتراك في الاثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد، يؤثر الكل فيه بذاك الجامع، فيصح تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلا: بالناهية عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن، ونحوهما (1).
التمامية واعتبار خصوص الأجزاء وماله مدخلية في الغرض والملاك وانعدام المانع، بحسب اصل التشريع، وان المراد من الفساد هو الناقص والمعيب والفاقد للإجزاء والشرائط ولكن هذه الأجزاء والشرائط لها دخل في المسمى.
وليس المقصود من اطلاق وضع اللفظ على المعنى هو الأجزاء والشرائط، وقد يعم الوضع الماهية المؤلفة من عدة افراد ومصاديق تشكيكية في حال الصحة او الفساد بحسب لحاظ خارج عنها يتعلق بالمكلف كصحته ومرضه.
وقد تتشابه أجزاء وشرائط الصحيح والفاسد من دون ان تكون بينهما غاية واحدة كالصلاة قربة الى الله، والصلاة رياء، يلتقيان شكلاً وهيئة واجزاء ظاهرية مع التباين في الماهية بينهما.
(1) ان الصحة والفساد لا يتعلقان الا بالمركب واجتماع اجزائه او فقد بعضها وتمامية الصحيح ونقص الفاسد، وهل ان الفاظ المعاملات موضوعة للإسباب ام للمسببات، الجواب: هو الأخير فالبيع والنكاح ونحوها عناوين قائمة بذاتها عند العرف، فاذا قال زوجتي طالق فانه فعل وايقاع حاصل، وكذا اذا قال رهنت داري فانه نوع مبادلة وان تباينت الأسباب في الأثر والوجود والعدم، لذا قالوا انه لا يبقى مجال للنزاع في الفاظ المعاملات الا على القول بان الإلفاظ قد وضعت للأسباب، والجواب انه لا ملازمة بين القول بالصحيح والأعم وانحصاره بالمسببات، هذا من جهة ومن جهة اخرى فان الإلفاظ توضع لذات المعاني وليس لأسبابها.
كما نوقش في النزاع في العبادات وانها مبينة من الشارع باجزائها وشرائطها فلا يقع النزاع حينئذ، ولكن بحث المسألة والخلاف بين الصحيحي والأعمي يتعلق بالألفاظ ووضعها والا فان الفريقين متفقان على شرائط الصحة واسباب الفساد، وان الخلاف يتعلق بتقسيم تلك الإلفاظ الى الصحيح والفاسد وليس في ذات الأفعال، فالخلاف لم يقع على فساد صلاة فاقدة لركن كالركوع سهواً او عمداً، بل هل يصدق عليها لفظ صلاة ام لا يصدق.
وسواء على القول بالحقيقة الشرعية او عدمها فلابد من جامع يقول به الصحيحي ويقول به الأعمي، استدل الماتن على وضع الإلفاظ للصحيح دون الأعم بوحدة الأثر، وانه طريق إني للإستدلال من المعلول الى العلة.
ان ترتب اثر واحد للوجود الساري لجميع الأفراد يدل على صدق كونها مسميات للفظ، ولا تلتقي الأفراد الصحيحة مع الفاسدة بالأثر، فهناك تباين بين اثرهما، سواء من جهة الأجزاء والفراغ او من جهة الوصف والماهية فلفظ الصلاة معراج المؤمن، وركن الدين، وقربان كل تقي، والناهية عن الفحشاء، لا يصدق علىالصلاة الفاسدة، بل ان الفاسدة لا تلتقي اصلاً باثر واحد سواء كان من المقولات الحقيقية ام في العنوان فقط، فالأفراد الفاسدة لا يجمعها اثر واحد ولا تلتقي بالصحيحة في الأثر، ولا تنطبق عليها الأوصاف والنعوت للمسمى والمعنون.
واشكل عليه:
1- بان وحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثر اذا كان واحداً شخصياً كما يقال بخصوص قاعدة الواحد لا يصدر الا عن الواحد بخلاف ما اذا كان الأثر كلياً له افراد متباينة في الشدة والضعف، واستدل عليه بمثل وهو الحرارة فانها واحدة بالنوع ولكن عللها متعددة ومتباينة، منها الشمس ومنها النار ومنها الحركة لذا فان مقولة برهان الواحد لا يصدر منه الا الواحد لا ينعكس في الوحدة النوعية، وهناك فرق بين البرهان وقاعدة الواحد لا يصدر الا عن الواحد التي قال بها جماعة من الفلاسفة وليست بتامة، والإشكال الذي ذكروه ضعيف اذ ان وحدة الأثر لا تعني بالضرورة انه من الكلي المتواطئ فلا يضر به ان يكون من الكلي المشكك وصدق اللفظ حينئذ عليه، وحتى على القول بان الواحد لا يصدر الا عن واحد فان اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيرهبمعنى انه لا يمنع من تعدد الصادر.
2- ان الأثر عنوان ينتزع من عدة علل فضلاً عن دخوله تحت عدة وجوه.
لذا قالوا بان منها (شرب الخمر وقتل النفس واكل مال الغير بدون رضاه، فليس النهي عن الفحشاء واحداً بالحقيقة ومترتباً على افراد الصلاة ليستكشف بذلك وجود جامع حقيقي بين افرادها)
ولكن الصلاة تنهى عن هذه الوجوه المتعددة للفحشاء، وكأن اثر الصلاة عنوان جامع وليس امراً شخصياً واحداً مما لا ينافي انطباق اللفظ على المسمى، وصلاحيته للإستدلال على عدم شموله للفاسدة من المعاني.
قيل ان وحدة الأثر بالأفراد الصحيحة، فكل اثر من الآثار يكون شاملاً للأفراد الصحيحة والفاسدة، فاي رتبة من الوجود الساري تنطبق على الإثنين لعمومات الماهية المجملة في وجودها الشاملة للإفراد او في تضمنها للأجزاء والشرائط.
ولكن السنخية متباينة في الذات وان اتفقت في الشكل والهيئة، وقد تشترك بعض الأجزاء في تركيب الإثنين معاً، فترى الركوع في الصلاة الصحيحة والفاسدة، ولكن الثانية باطلة لفقدها شرط القربة مثلاً او ترك سجدة عن عمد.
وقد تجد بعض الأجزاء في الصناعات تدخل في تركيب الخل والخمر، ولكن الأول حلال، والآخر حرام لتغير الموضوع وتبعية الحكم له.
والاشكال فيه – بأن الجامع لا يكاد يكون أمرا مركبا، إذ كل ما فرض جامعا، يمكن أن يكون صحيحا وفاسدا، لما عرفت، ولا أمرا بسيطا، لانه لا يخلو: أما أن يكون هو عنوان المطلوب، أو ملزوما مساويا له، والاول غير معقول، لبداهة استحالة أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الطلب في متعلقه، مع لزوم الترادف بين لفظة الصلاة والمطلوب (1).
(1) اشكل الماتن على الفرد الجامع للمسميات الصحيحة التي يصدق عليها العنوان بعد ان اخرج الفاسدة بالتخصيص، وهذا الإشكال قال به الشيخ الأنصاري كما حكي عن تقريراته بان الجامع بين الأفراد الصحيحة لا يكون مركباً لأن لها مراتب مختلفة ومتعددة، فقد يكون هذا الجامع عنواناً للصحة في بعض الأفراد، وعنواناً للفساد في افراد اخرى، فالركوع مثلاً فرد جامع للصلاة الصحيحة وبه سميت، ولكن قد تأتي صلاة فيها ركوع ولكنها فاسدة كما لو فقدت جزء كالسجدة عمداً، او فقدت ركناً كالركوع سهواً او عمداً، بل حتى بالنسبة للمكلفين قد يكون الجامع صحيحاً لجماعة، وفاسداً لغيرهم كما في الصلاة عن جلوس فهي صحيحة للمريض والمضطر، وفاسدة بالنسبة للمختار.
وكذا بالنسبة للصلاة المركبة من اربع ركعات فقد تكون فاسدة بالنسبة لمن كانت وظيفته القصر، وكذا بالنسبة للصيام فان الأكل والشرب مفطران الا في صورة السهو.
ويمكن رد إشكال الماتن بان اسم المركب عنوان جامع، ومن الكلي المشكك الذي تدخل تحته مصاديق مركبة وانه لا يمنع في صدق حصولهخروج بعض الشواذ بالتخصص وبالدليل كنسيان الأمر سهواً.
لقد اشكل الماتن على كون الجامع امراً مركباً لأن الأمر الجامع قد يكون عنواناً للصحة وقد يكون عنواناً للفساد كما تقدم، فالتيمم قد يكون مبطلاً للصلاة عند وجود الماء، وقد يكون واجباً عند التعرض للضرر الشديد بالطهارة المائية.
ثم قال الماتن (ولا امراً بسيطاً) أي لا يصلح ان يكون الجامع بين الأفراد الصحيحة بسيطاً باعتبار انه اذا كان بسيطاً، فاما ان يكون امراً مطلوباً وهو لا يصلح للتنافي وعدم الإتحاد بين المأمور به والمأتي به بلحاظ جهة الصدور فالصلاة كأمر مولوي غير الإمتثال، لذا نعته بانه غير معقول.
ان المأتي به متأخر زماناً ورتبة عن المأمور، والشيء لا يتأخر عن نفسه، كما يلزم من القول به الترادف بين الصلاة كفعل يؤديه المكلف وبين المطلوب كفراغ الذمة، ويمكن الإشكال على استدلال الماتن.
فالمطلوب مثلاً هو ابراء الذمة، والصلاة اسم لذات الفعل الذي يؤديه المكلف فلا يعقل حصول الترادف بينهما للتباين الموضوعي واللفظي بينهما، ولكن النقاش في الكبرى، وهو اثبات حصول الترادف بينهما بسبب الفرد الجامع خصوصاً وان النزاع لفظي، ولا يتعلق بذات الأفعال وصحتها او عدمها، وان الجامع كما قال الماتن يتعلق بالأثر وهو غير فعل الصلاة لأن الأثر غير المؤثر، كما يمكن التفكيك بين المطلوب والصلاة بمعنى قد يكون الجامع احياناً في المطلوب مركباً، والجامع في الفعل المأتي به بسيطاً كما في حالة التخيير والترديد وطلب الأكثر وكفاية الأقل، خصوصاً وان الماتن فرق في العبارة التالية بين الإجمال في المأمور والإجمال فيما يتحقق به.
وعدم جريان البراءة اشكال ذكره السيد المرتضى، وليس موضعاً للإشكال بعد حصر التكليف وثبوته.
وأما على الاعم، فتصوير الجامع في غاية الاشكال، فما قيل في تصويره أو يقال: وجوه: أحدها أن يكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة، كالاركان في الصلاة مثلا، وكان الزائد عليها معتبرا في المأمور به لا في المسمى. وفيه ما لا يخفى، فإن التسمية بها حقيقة لا تدور مدارها، ضرورة صدق الصلاة مع الاخلال ببعض الاركان، بل وعدم الصدق عليها مع الاخلال بسائر الاجزاء والشرائط عند الاعمي، مع أنه يلزم أن يكون الاستعمال فيما هو المأمور به – بأجزائه وشرائطه – مجازا عنده، وكان من باب إستعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، لا من باب إطلا
ق الكلي على الفرد والجزئي، كما هو واضح، ولا يلتزم به القائل بالاعم، فافهم (1).
(1) وهذا الدليل قال به المحقق القمي بلحاظ ان الألفاظ لم توضع لخصوص الصحيحة ويتكون من امرين:
الأول: ان الجامع هو اجزاء مخصوصة من الفعل والمعنى الذي يصدق عليه الإسم.
الثاني: التفريق بين المأمور به والمسمى فقد يؤمر بجزء، ولا يخل عدم الإتيان به بصدق انطباق اللفظ على المسمى، فالصلاة التي تتضمن التكبيرة والركوع والسجود يصدق عليها صلاة وان جاءت فاقدة لبعض الأجزاء، فلو اخل بسجدة سهواً يصدق عليه انه صلاة، وان كان مقصودهم اعم أي ان الصلاة وان كانت فاسدة كما لو نقصت سجدة عمداً، ولكنها يصدق عليها لفظ صلاة مع الإقرار بانها فاسدة.
فلفظ الصلاة يصدق عليها اذا تضمنت تكبيرة الإحرام والركوع والسجود والقيام، اما اذا فاتت سجدة واحدة عمداً مثلاً فانه لا يضر في المسمى وان كان مخلاً بالمأمور به والإمتثال بمعنى ان الأعمي يفصل بين المأمور به وبين مسمى الفعل العبادي، فقد يحصل مسمى الفعل وصرف الطبيعة, ولكنه لا يصح الإمتثال وتبقى الذمة مشغولة لأن اطلاق اللفظ لا يدور مدار الإمتثال وقاعدة الفراغ بل يدور على العرف الذي لا يتقيد الدقة العقلية بل يكتفي باعتبار معظم الأجزاء.
واشكال الماتن (بان التسمية بها حقيقة لا تدور مدارها..)، مما لا يختلف فيه الأعمي والصحيحي والضمير في (بها) أي بالصلاة، والضمير (ها) يعود لأهم اجزاء العبادة كالأركان
فالأعمي يقول ايضاً بفساد الصلاة الفاقدة لأحد الأركان ولكن نزاعه لفظي بمعنى انه يقول ان اللفظ يشمل الصحيح والفاسد، وان اللفظ يصدق على كلي طبيعي شامل لهما، والجامع هو وجود جملة من الأجزاء والأركان وليس كل الأجزاء المأمور بها، فهذا الإشكال اجنبي عن مبنى الأعمي، الأعمي يقول بانطباق اللفظ على المعنى ولا يعني انه من استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل كما ذهب اليه صاحب الكفاية، لأن الأعمي فرق بين المأمور به والفعل المأتي به الا على القول بانحصار اللفظ بالمأمور به، كما ان قوله هذا من كفاية بعض الأجزاء في تحقيق صدق المسمى خارجاً.
ثم ان الماتن قيد اللفظ المستعمل بانه (موضوع) للجزء، وهناك من يقول بعدم الحقيقة الشرعية أي ان المعنى الشرعي مستعار من المعنى اللغوي ومجاز منه.
واشكل عليه بان القول بخروج الأجزاء عن المسمى في حال وجودها يجعل اطلاق لفظ الصلاة على التامة الأجزاء من باب المجاز، ومع القول بان الأجزاء داخلة في المسمى اذا كانت موجودة، وغير داخلة اذا كانت غير موجودة يتجدد الإشكال اذ كيف يكون شيء واحد داخلاً في الماهية مرة، وغير داخل في الماهية مرة اخرى.
ويمكن رد هذا الإشكال بان الصلاة مثلاً من الكلي المشكك ومما اجيب على هذا الرد بان التشكيك يقع في البسيط المتحد الحقيقة كالبياض ليس في محله، لأن الصلاة ليست مختلفة الحقيقة بل انها مركبة من اجزاء واركان ثانيها: أن تكون موضوعة لمعظم الاجزاء التي تدور مدارها التسمية عرفا، فصدق الاسم كذلك يكشف عن وجود المسمى، وعدم صدقه عن عدمه. وفيه – مضافا إلى ما أوردعلى الاول أخيرا – أنه عليه يتبادل ما هو المعتبر في المسمى (1).
متعددة، والإلفاظ موضوعة للحقائق وليس للمفاهيم التي موطنها العقل ووجودها ذهني، والحقائق جعلها الشارع تشكيكية بحسب حال المكلفين مما ينفي مجازية اطلاق اللفظ على الكل بلحاظ علاقة الكل والجزء ولصدق اطلاق اللفظ على الفاقدة لبعض الأجزاء، بل انه من باب الأولوية.
(1) وهو الثاني الذي استدل به القائل بالأعم على بيان الجامع للصحيح والأعم أي ارادة المعنى الشامل لجميع الأفراد الصحيحة والفاسدة من اللفظ، لقد استدل الأعمي بكون الألفاظ موضوعة لمعظم الأجزاء المعتبرة في الفعل العبادي، او الحكم في المعاملات وامضائها، فاذا دخلت تلك الأجزاء في الفعل، فان الإسم يصدق عليه، فاذا صدق الإسم علىالفعل عرفاً، وتضمن الأجزاء التي يصدق معها الإسم فانه يكشفعن وجود المسمى، وهذا القول نسب الى المشهور والظاهر انه مشهور القائل بالأعم واشكل عليه الماتن بذات الإشكال على القول الأول بانه يستلزم استعمال اللفظ في تمام المأمور به على نحو المجاز لأنه من استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، وان الشيء الواحد مرة يكون داخلاً ومرة يكون خارجاً،وانه خلاف لزوم تعيين اجزاء الماهية والواقع وذات الأمر، وهذا ترديد وتغيير واعتبار شيء مرة مقوماً للفعل ومرة خارجاً عنه.
وهذا الوجه الذي اورده الأعمي يرد عليه ما ورد على الوجه الأول واشكال آخر غيره، فالجامع مع الأول المتقدم يتعلق بصدق التسمية ومدارها، اما هذا الوجه فيتعلق بالوضع وتبعية الإسم في تقسيمه الى حقيقة
ومجاز الى الوضع باعتبار ان العرف تابع له كما هو ظاهر المتن، فاشكل عليه الماتن بان الإستعمال في الزائد على معظم الأجزاء يعتبر مجازاً لأنه من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء وهو معظم الأجزاء في الكل وهو الصلاة الجامعة للأجزاء والشرائط، كما ان كلمة (معظم الأجزاء) اجمالية قابلة للترديد، فالصلاة الناقصة لتكبيرة الإحرام يصدق عليها انها جامعة لمعظم الأجزاء، والصلاة الفاقدة للقراءة او السجدة الواحدة او السجدتين يصدق عليها انها جامعة لمعظم الأجزاء فيكون اطلاق اللفظ على المختلف والمتعدد من دون اشتراك ولا مجاز لذا قال الماتن (يتبادر ما هو المعتبر في المسمى) فتكبيرة الإحرام كما في المثلين اعلاه تكون مرة خارجة على المسمى ومرة داخلة فيه وهو خلف وقال الماتن (سيما إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات، أي ان الذاتي لا يختلف ولا يتخلف عن مفهومه، ولكن هذا الإختلاف حجة وخلاف في اشكاله، فان التعدد يفيد تعدد الماهية، فاذا كانت الصلاة عن اضطجاع صحيحة بالنسبة للمريض والصلاة بالطهارة الترابية صحيحة بالنسبة لفاقد الطهارة المائية، فانه دليل على انطباق اللفظ على الصور المتباينة ويصلح للرد على اشكاله الأول ولكن المقصود الإطلاق في التسمية وليس خصوص المريض، ثم ان الإختلاف لا يمنع من صدق الإسم ما دامت هناك مندوحة للسعة في المصداق والمسمى، كما ان القائل بان الإلفاظ موضوعة لمعظم الأجزاء بما يصدق عليه المفهوم الذي يتحقق في ادنى مسمى له في الخارج فيكون كالمصداق المتعدد للطبيعي الكلي، والعلاقة المجعولة بين اللفظ وماهية مقيدة في الوجود الخارجي، وقال انه من باب الكلي في المعين او من الفرد المردد ولكنه قياس مع الفارق بل انه مفهوم قابل لمصاديق عديدة، الجامع بينها تضمنها لمعظم الأجزاء، فصحيح ان الكلي في المعين يتعلق بنفس الطبيعة وان تباينت خصوصيات افرادها الخارجية ولكن متعلق الحكم يصدق على بعضها ولا يصح ضم الأجزاء الأخرى له كالكيلو في كيس الشكر، بينما في المقام يصدق الإسم على المصاديق المركبة فلو جاء بالصلاة تامة مثلاً، فان الإسم يصدق عليها من باب الأولوية من غير ان يكون الإستعمال مجازاً وليس هو من شمول معظم الأجزاء للكل، فالمعظم اتخذ موضوعاً ومسمى للإسم، وهو من الإطلاق الذي يعني تعاهد الذات وارسال الخصوصيات لاسيما مع الإجماع على اصالة الإطلاق التي يستدل بها على خروج جزء وعدم شرطيته عند الشك.
واشكل على هذا القول ببيان الشارع لأجزاء وشرائط العبادة وموانعها ومعه لا يصح التمسك باطلاق الإلفاظ، ولكن هذا القول اجنبي عن النزاع الذي يتعلق بالصحيح والفاسد من العبادات والخلاف بين الصحيحي والأعمي لفظي.
ويمكن الإشكال على ما ذهب اليه الأعمي انها موضوعة لمعظم الأجزاء بذات الدليل، أي ان الدليل يفيد خلاف قول الأعمي لأن التي تتضمن معظم الأجزاء تنقسم الى قسمين:
الأول: الصحيحة.
الثانية: الفاسدة.
والثانية لا يشملها اللفظ الا بمؤونة زائدة او انها تكون خارجة بالتخصيص من صدق انطباق اللفظ على المسمى، فلو جاءت الصلاة فاقدة للركوع فهي فاسدة باعتبار انها عبادة مركبة،ولو جاء الطلاق وهو من المعاملات وليس العبادات فاقداً للإختيار من طرف الزوج المطلق فلا يقال انه طلاق فضلاً عن عدم ترتب الأثر، أي وان نفى الأعمي كون الأثر هو الجامع بين الأفراد التي ينطبق عليها اللفظ، فان الطلاق الفاقد لبعض الأجزاء يكون لغواً، ولا يسمى طلاقاً الا مع القرينة التي تفيد بطلانه، كما لو قيل طلق طلاقاً باطلاً.
ولو جاءت الصلاة ناقصة للسجدة فان كان عن سهو فهي صحيحة بخلاف العمد، وما دام الأمر مردداً بين الصحيح والفاسد فان الإحتمال ثالثها: أن يكون وضعها كوضع الاعلام الشخصية كزيد فكما لا يضر في التسمية فيها تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر، ونقص بعض الاجزاء وزيادته، كذلك فيها، وفيه: أن الاعلام إنما تكون موضوعة للاشخاص، والتشخص إنما يكون بالوجود الخاص، ويكون الشخص حقيقة باقيا مادام وجوده باقيا، وإن تغيرت عوارضه من الزيادة والنقصان، وغيرهما من الحالات والكيفيات، فكما لا يضر اختلافها في التشخص، لا يضر اختلافها في التسمية، وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات مما كانت موضوعة للمركبات والمقيدات، ولا يكاد يكون موضوعا له، إلا ما كان جامعا لشتاتها وحاويا لمتفرقاتها، كما عرفت في الصحيح منها(1).
يبطل الإستدلال وقد يكون هذا الأمر اجنبياً عن المقام بمعنى ان الإشكال الذي اورده الماتن باختلاف العبادات الفاحش بحسب الحالات لا صلة له بهذا الوجه الذي ذكره الأعمي فكون صلاة المريض مثلاً فاقدة للقيام والركوع, وصلاة المتيمم فاقدة للطهارة المائية تخرج بالتخصص عن اصل اطلاق التسمية ولا تدخل في باب النزاع والإستدلال بين الصحيح والأعمي ومتسالم الطرفين على ورود دليل خاص بانطباق اسم الصلاة على صلاة المريض الفاقدة لبعض الأجزاء، ولكن الخلاف وقع فيما اذا صلى الصحيح صلاة فاقدة لبعض الأجزاء.
(1) وقال الأعمي بان الفاظ العبادات وضعت لمعانيها كما يوضع اسم زيد وحسن ونحوه، فاختلاف السن والطول، والسمن والضعف،وحال الجهل والعلم، والفقر والغنى بالنسبة للشخص لا يضر في صدق تسميته واحتفاظه بذات الإسم مع حصول الزيادة والنقيصة والعناوين الإعتبارية والإضافية الطارئة كذلك لا يضر في العبادات تبادل الهيئات واختلاف الحالات كذا في العبادات فان النقص الطارئ عليها لا يضر من اطلاق الإسم عليها خصوصاً على القول بان الإسم غير المسمى، فان التغيير الحاصل في المسمى لا يفيد ذات الإسم
رابعها: إن ما وضعت له الالفاظ إبتداء هو الصحيح التام الواجد لتمام الاجزاء والشرائط، إلا أن العرف يتسامحون – كما هو ديدنهم – ويطلقون تلك الالفاظ على الفاقد للبعض، تنزيلا له منزلة الواجد، فلا يكون مجازا في الكلمة – على ما ذهب إليه السكاكي في الاستعارة – بل يمكن دعوىصيرورته حقيقة فيه، بعد الاستعمال فيه كذلك دفعة أو دفعات، من دون حاجة إلى الكثرة والشهرة، للانس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة، أو المشاركة في التأثير، كما في أسامي المعاجين الموضوعة ابتداء لخصوص مركبات واجدة لاجزاء خاصة، حيث يصح إطلاقها على الفاقد لبعض الاجزاء المشابه له صورة، والمشارك في المهم أثرا تنزيلا أو حقيقة (1).
لأن الإسم موضوع للأعم وهو الأنسب للعرف بالإضافة الى قاعدة نفي الحرج ولأن المدار في وظيفة الإسم ارادة المسمى وتفهيم السامع المقصود الذي يتحصل بمطابقة الإسم للمسمى ولو على نحو الإجمال بالإضافة الى حصول التخاطب والتبادل بان المراد منه عين المسمى فحينما يكبر زيد او ينال المال والثروة فان ذات الإسم يبقى على حاله ويكفي في افهام السامع ارادة ذات الشخص بعينه مع تبدل حالته.
وفيه: انه قياس مع الفارق لأن الإعلام الشخصية يعتبر في اصل وضعها الإتحاد والتشخص وعدم قابلية المسمى للتعدد، فالإعلام الشخصية يكون اللفظ فيها موضوعاً لجزئي ويسمى الوضع خاص والموضوع له خاص، اما اسماء العبادات فانها من المتصور الكلي ازاء موضوع كلي متصور بنفسه ويسمى الوضع عام والموضوع له عام مما يعني ان التشبيه من قبل الأعمى غير تام للتباين الموضوعي بينهما، واشكال الماتن عليه صحيح.
(1) للفرق إعتبار في اتساع رقعة المسميات وما تنطبق عليه الإلفاظ والأسماء، ويعترف الأعمي بانها وضعت اصلاً للأفراد الصحيحة دون الفاسدة الا ان التسامح العرفي في اطلاق الإلفاظ مطلقاً في
الحقائق والأعراض والجواهر والشرعيات يتعدى من المركب الصحيح التام الجامع للأجزاء والشرائط الى المركب الفاقد لبعضها تنزيلاً له منزلة التام الصحيح من غير ان يكون مجازا في الإستعمال على ما ذهب اليه السكاكي في الإستعارة لأن التصرف فيه في الأمر العقلي، فلا يستلزم هذا الإستعمال المجازية للإنس بوجوه المشابهة بين الواجدة للشرائط والفاقدة لبعضها، فحينما تطلق لفظ اسد على الإنسان الشجاع استعارة تثبت له خصائص جنس المشبه به.
فقولك: ذهبنا الى حاتم اصلها ذهبنا الى رجل كريم كحاتم، فحذف المشبه وهو لفظ رجل، وحذفت الأداة (الكاف)، وحذف وجه التشبيه وهو الكريم، والحق بقرينة ذهبنا للإشارة الى ان المقصود هو رجل جواد مضياف باعتبار ان حاتماً وصف يصح اعتباره كلياً لتضمنه الجود والكرم، ودخول المشبه في جنس الكرم، وان كان حاتم علماً شخصياً، فالمجاز يبنى على التشبيه لأن فيه طرفين مستعار منه وهو المشبه به، ومستعار له وهو المشبه، والمجاز العقلي يعني اثبات الشيء لغير ما هو له.
وعند السكاكي: ان الإستعارة واطلاق اسم الكامل على الناقص لا يعني المجازية وكأنه حقيقة للتشابه في الصورة والأثر ولأن الناقص والفاقد بعض الاجزاء ينسبق للذهن كانسباق الواجد، فالمراد من قول الشاعر:
واذا المنية انشبت اظفارها هو السبع لأنها وصفت حال السبع، وان السبع فردان احدهما متعارف وهو السبع الحقيقي المفترس، والآخر غير متعارف وهو الموت، اما الإستعارة التخيلية فهي صورة وهمية لا يتحقق معناها حساً او عقلاً.
ويجب ان يكون العرف تابعاً للشارع، وليس الشارع تابعاً للعرف، اما بالنسبة للشطر الثاني فهو قاعدة كلية ثابتة لأن التشريع منبثق من الكتاب والسنة فلا يستطيع العرف ان يبلغ ويرقى اليهما.
ولكن نبحث هل جعل الشارع للعرف متسعاً من العمل او الأثر في الإسم وفي المسمى.
كيف نمضي الأمر العرفي اذا ثبت تعارضه مع اصل الشرع بمعنى ان الشريعة اذا لم تتضمن في ذاتها امكان التوسعة فلا يصح الرجوع الى العرف سواء على نحو التنزيل او التسامح.
واشكل على مثال المعاجين بانها وضعت لمركب خاص ولا يصح في العبادات، لأنها تختلف بحسب الحالات والصحيح يكون مخصوصاً ونرد على هذا الإشكال بان اختلاف الحالات والمشكك يجعل انطباق حكم المتواطئ عليه من باب الأولوية الإنحلالية، بمعنى اذا كان المركب الخاص يصدق عليه تنزيل الفاقد للبعض منزلة الواجد، فمن باب اولى ان تنطبق الصورة على العبادات التي تكون صحيحة احياناً بحسب بعض الحالات، كصحة صلاة القصر بالنسبة للمسافر والصلاة عن جلوس بالنسبة للمريض وكذا بالنسبة لأحكام النساء خاصة، بالإضافة الى الى ما ذكرناه سابقاً بان افراد صلاة المضطر تخرج من حريم النزاع بالتخصص.
نعم يمكن الإشكال على ما ذهب اليه الأعمي بان درجة المسامحة تختلف من شيء الى آخر بحسب الموضوع والحكم واللحاظ والحيثية والأثر وجهة الصدور، بل ترى ذلك واضحاً في صيغة التصغير للإسماء، فبعض الأسماء يقوم العرف بتصغيرها تحبباً او انتقاصاً لها واستهزاءً، وبعضها ولما لها من الشأن والأهمية لا يميل الناس الى تصغيرها.
خامسها: أن يكون حالها حال أسامي المقادير والاوزان، مثل المثقال، والحقة، والوزنة إلى غير ذلك، مما لا شبهة في كونها حقيقة في الزائد والناقص في الجملة، فإن الواضع وإن لاحظ مقدارا خاصا، إلا أنه لم يضع له بخصوصه، بل للاعم منه ومن الزائد والناقص، أو أنه وإن خص به أولا، إلا أنه بالاستعمال كثيرا فيهما بعناية أنهما منه، قد صار حقيقة في الاعم ثانيا. وفيه: إن الصحيح – كما عرفت في الوجه السابق – يختلف زيادة ونقيصة، فلا يكون هناك ما يلحظ الزائد والناقص بالقياس عليه، كي يوضع اللفظ لما هو الاعم، فتدبر جيداً(1).
(1) استدل الاعمي على اطلاق اللفظ في العبادات والمعاملات ليشمل الفاسد والأعم بانه حقيقة في الزائد والناقص بعرض واحد وان كان وضع المقادير كالصاع والحقة والمقادير كالمن والكيلو وشمول اللفظ للأعم بطريقتين:
الأولى: عدم وضع الواضع له على نحو الخصوص والقصد الدقيق، وان لاحظ مقداره حين الوضع.
الثانية: ان استعماله بالمعنى الأعم من المقدار المخصوص ادى الى الحاق الزائد والناقص به حقيقة ويشكل على استدلال الأعمي هذا بان الزائد والناقص على اسماء الأوزان لم يلحق بها الا بعناية ومسامحة ومجاز والا لما ورد التوكيد في القرآن على عدم بخس الناس اشياءهم والنهي عن نقص الميزان يحمل على مطلق النقص قال تعالى [فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ]([32]) ويقال استوفيت الكيل عليه أي اخذته منه تماماً وافياً.
ويقبح نقص الميزان ولا يطلق على الوزن الناقص اسم الصحيح بل يأتي بما يدل على انه ناقص ولا ينطبق عليه الإسم سواء بنعته بانه رطل ناقص مثلاً او انه اقل من رطل، كذا فيمن يعطي الزيادة فلا يقال انه اعطي رطلاً بل يقال اعطى اكثر من رطل واذا جرت مسامحة فهي محدودة وليست مطلقة.
واشكال الماتن جاء لتثبيت قاعدة القياس مع الفارق ولكن باتجاه آخر مغاير للواقع، فبالعكس هناك الدليل الذي يلحظ ويكشف الزائد والناقص، أما قوله:“ان الصحيح يختلف زيادة ونقيصة وليس هناك ما يلحظ الزائد والناقص” فهذا حجة في تثبيت المائز بين الصحيح والفاسد بلحاظ ان الزيادة والنقيصة في العبادات ترد في موارد مخصوصة ووفق الدليل ولا يلجأ اليها المكلف الا مع الإذن الشرعي وقوله انه الصحيح أي الصحيح من العبادات ومع الإقرار بوجود نقيصة او زيادة في اداء فرد العبادة بحسب احوال المكلف فانه لا يصلح للإستدلال على نفي عدم وجود المائز وما يفصل الفرد الصحيح في العبادة، كما هو في الأوزان اذ يعرف المقدار الدقيق والصحيح ثم تلحظ الزيادة, ويرد على الماتن بتضمن العبادات اسماً ومسمى ما يلحظ الزائد والناقص بالقياس عليه ايضاً واختلاف الصحيح منها زيادة ونقيصة انما بسبب رخصة او عزيمة من شارع.
وما ذكروه يمكن مناقشته وهو ان المثل حجة في ارادة الصحيح من اللفظ وليس الأعم، لمعرفة المقادير الصحيحة وتمييزها على غيرها، فالذي ينقصها يذم من الناس كما ورد ذمه في القرآن، [وَلاَ تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ] ([33])، أما بالنسبة للعبادات، فتارة يكون النقص مشروعاً فلا يضر بصدق اسم الصحيح عليها، وتارة يكون غير مشروع فينطبق عليها لفظ الفاسد وان كانت اجزاؤها اكثر من الفاقدة لبعضها عن عذر وجواز شرعي.
والذي يريد الزيادة يحتج عليه، فما هو ثابت عرفاً معرفة الزيادة والنقيصة والتسامح الذي يحصل بين الناس ليس في ذات الأوزان والمقادير او النقيصة التي لها عنوان واسم خاص وتسمى احياناً بالضميمة، ولا زال اللفظ الموضوع للأوزان والمقادير ينطبق عليها وما زاد او نقص لا ينطبق
ومنها: ان الظاهر أن يكون الوضع والموضوع له – في ألفاظ العبادات – عامين، واحتمال كون الموضوع له خاصا بعيد جدا، لاستلزامه كوناستعمالها في الجامع، في مثل: ( الصلاة تنهى عن الفحشاء ) و ( الصلاة معراج المؤمن ) و [ ( عمود الدين ) ] و ( الصوم جنة من النار ) مجازا، أو منع استعمالها فيه في مثلها، وكل منهما بعيد إلى الغاية، كما لا يخفى على أولي النهاية (1).
عليه ذات اللفظ بل بعنوان جامع ومسامحة تلحظ امرين المسمى بالإضافة الى النقيصة او الزيادة.
(1) انتقل الماتن بقوله (ومنها) الى اتمام الأمور بقوله: وقبل الخوض في ذكر ادلة الطرفين تذكر امور، وبعد ان ذكر ما قيل في تصوير الجامع بين الصحيح والفاسد والذي يقول به الأعمي اتجه الماتن الى القول بان وضع الفاظ العبادات من الوضع العام والموضوع له عام كلي متصور بنفسه وليس المتصور جزئياً او ان الموضوع له جزئي وانه متعلق بالأفراد والمصاديق على نحو القضية الشخصية والمباشرة، فالموضوع جامع متحقق بينهما وهذا لا يعني بالضرورة التمسك بالإطلاق فاستعمالها في الجامع مثل “الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر” والصلاة معراج المؤمن، وعمود الدين، على نحو الحقيقة وليس المجاز الذي يترشح من استعمالها في الموضوع الخاص باعتبار ان استعمالها في التراكيب المتعددة مجاز وليس حقيقة والماتن ذكر أمرين يكفي احدهما لنفي الموضوع له في الفاظ العبادات خاصة.
الأول: اذا كان الوضع عاماً والموضوع له خاصاً فان استعمال الفاظ العبادات في الجامع مجاز لأنه استعمال في غير ما وُضع له.
الثاني: منع استعمال الفاظ العبادات في الجامع في الأمثله المذكورة مثل “الصلاة معراج المؤمن” لأن اللفظ موضوع للخاص وليس للعام ولأنها استعملت في مصاديق مخصوصة وليس الجامع.
ويبدو وجود خطأ من النساخ في قوله “اولى النهاية” والأصح “اولي
ومنها: أن ثمرة النزاع إجمال الخطاب على القول الصحيحي، وعدم جواز الرجوع إلى إطلاقه، في رفع ما إذا شك في جزئية شئ للمأمور به أو شرطيته أصلا، لاحتمال دخوله في المسمى، كما لا يخفى، وجواز الرجوع إليه في ذلك على القول الاعمي، في غير ما إحتمل دخوله فيه، مما شك في جزئيته أو شرطيته، نعم لا بد في الرجوع إليه فيما ذكر من كونه واردا مورد البيان، كما لا بد منه في الرجوع إلى سائر المطلقات، وبدونه لا مرجع أيضا إلا البراءة أو الاشتغال، على الخلاف في مسألة دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين وقد إنقدح بذلك: إن الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال في موارد إجمال الخطاب أو إهماله على القولين (1).
النهى”، أي العقول.
(1)ذهب الصحيحي الى قاعدة الإشتغال عند اجمال الطلب لأن الشك في المكلف به كما في قوله تعالى [ اقيموا الصلاة ] وان المطلوب الماهية الجامعة للأجزاء والشرائط وليس الفاقدة للأجزاء والشرائط، وثمرة المسألة الأصولية ما يقع كبرى لقياس استنباط الحكم الفرعي الكلي، وقيل ما ذكر ليس بثمرة ومراد الماتن من اجمال الخطاب هو عدم ارادة الأفراد الجامعة للأجزاء والشرائط وعدم احراز المسمى مع الشك في الجزئية وان كان قصده (الإجمال الجهتي) بمعنى انه مجمل من جهة ومبين من اخرى، والإجمال في الإصطلاح هو ما لم تتضح دلالته، وما يجهل فيه مراد المتكلم كما اذا كان اللفظ مشتركاً لفظياً وليس من قرينة على التعيين ويحتاج الى تبيين، لذا قال الماتن لإحتمال دخوله في المسمى، ويمكن الإستدلال على خلافه باحتمال الوجه الآخر ايضاً لرفع جزئية شيء عند الشك.
والظاهر ان الصحيحي لم يقل باجمال الخطاب كما نعته الماتن والاصل هو البيان وليس الإجمال ولا يرجع الى اطلاق دليل الواجب لأن دخول المشكوك في المسمى نوع احتمال، اما الأعمي فانه يرجع الى الإطلاق في رفع الشك فيما اذا احتمل دخول شيء في موضوع الخطاب جزءً او شرطاً فيشمل الفاقد لبعض الاجزاء، واستدرك الماتن بلزوم الرجوع الى اطلاق الدليل اذا كان المقام من البيان في رفع الجزئية المشكوكة فيشمل المسمى المواضيع الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط، ومقدمات الحكمة جملة امور تصلح لأن تكون قرينة تفيد اطلاق اللفظ وسريان الحكم الى جميع الأفراد والمصاديق بما في ذلك المشكوك الجزئية، وتوفر مقدمات الحكمة يدل على ان المتكلم اراد من اسم الجنس الإطلاق.
وهي ثلاثة:
الأولى: اهلية متعلق الحكم للإطلاق والتقييد، اذ انه اذا تعذر احدهما يتعذر الآخر.
والإطلاق والتقييد خارجان عن الموضوع له اسم الجنس لأن الإلفاظ موضوعة لذات المعاني لا للمعاني بما هي مطلقة، وقيل انهما متقابلان تقابل الملكة وعدمها، فاذا لم يكن متعلق الحكم قابلاً للقسمة قيل فرض متعلق الحكم به فلا يصح فيه الإطلاق والتقييد كما في شهر رمضان.
الثانية: عدم نصب المتكلم قرينة على التقييد لا متصلة ولا منفصلة واتفق الأصوليون في القرينة المتصلة في ارادة التقييد، واختلف في القرينة المنفصلة، والمشهور ذهب الى منع القرينة المنفصلة ايضاً عن الإطلاق لأنها تكشف عن عدم الإرادة الجدية للإطلاق وكأن ظهوره بدوي، وذهب الماتن الى عدم منع القرينة المنفصلة للظهور في الإطلاق ولعله اراد المنع على نحو الجزئية، والأصح ما ذهب اليه المشهور.
الثالثة: ان يكون المتكلم في مقام البيان وليس في مقام الإهمال والإجمال بل اراد تمام مراده بخصوص الموضوع الذي اراد بيانه او الأمر به والبعث اليه، ويحرز ظهور البيان بواسطة الأصل العقلائي وهو ان كل متكلم متصد لبيان مراده وغايته الا مع القرينة او الدليل على الخلاف.
وقد ذكر الماتن مقدمة رابعة وهي عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب، فمع هذا القدر لا يتحقق ظهور في الإطلاق فاذا قال الأب لإبنه اذهب الى المسجد وصل، وكان المسجد معلوماً ومحدداًعندهما وكذا فرض الصلاة بلحاظ اوانها، فلا يتحقق اطلاق لا في المسجد ولا في لفظ الصلاة، والأقل والأكثر في الإصطلاح فعلان احدهما اقل من الآخر في المقدار او الكمية او الأجزاء، فاذا علمنا ببعث او زجر ثم شككنا هل تعلق بالأقل ام بالأكثر تحقق عنوان دوران الأمر بين الأقل والأكثر.
وهو ينقسم الى قسمين، الأول: الإستقلاليان، والثاني الإرتباطيان، وفي الإستقلاليين يكفي اتيان الأقل وان كان متعلق الحكم واقعاً بالأكثر في الشبهة الوجوبية، والمخالفة بمقداره في الشبهة التحريمية بخلاف الإرتباطيين، فانه لو كان التكليف واقعاً متعلقاً بالأكثر لكان اتيان الأقل ناقصاً وفاسداً، لأن التكليف فيهما واحد لا يقبل التجزئة فيكون الشك فيه شكاً في المكلف به الذي تعمل فيه اصالة الإشتغال بخلاف المستقلين فان الأصل فيه البراءة لأن مرجع الشك الى التكليف.
ومن الإستقلالي ما لو علم بفوات صلوات وشك في عددها وهل هي اثنتان او ثلاث، فبعد العلم بالوجوب شك في العدد، وهو من الشبهة الوجوبية فيجزي اتيان الأقل واجراء اصالة البراءة عن الأكثر، وهو الذي ذهب اليه مشهور الأصوليين، وكذا لو علم ان عليه ديناً لزيد وشك هل هو ألف دينار او ألفان، اما بالنسبة للإستقلاليين في الشبهة التحريمية فكما لو شك في حرمة صيام اليوم الأول من العيد او جميع ايام العيد بعد ان علم بحرمة الصوم فيه، فتجري في الأقل وهو حرمة صيام اليوم الأول منه لأن التكليف به معلوم وما زاد عليه يكون الحكم فيه مشكوكاً فتجري فيه اصالة البراءة.
اما بالنسبة للإرتباطيين في الشبهة الوجوبية الذي ذكره الماتن هنا فهو الأهم في هذا الباب ويسمى بالأقل والأكثر الإرتباطيين وقد يسمى بالشك في جزئية او شرطية شيء للمأموربه، كما لو علم بشرطية قراءة السورة في النافلة، او علم بوجوب حضور خمسة لصلاة الجمعة وشك في السبعة.
فالتكليف بالفاتحة للنافلة معلوم وما زاد عليها مشكوك، وكذا التكليف بالخمسة والشك في الإثنين من السبعة في الجمعة فيرجع الى اصالة البراءة في الزائد سواء البراءة العقلية او النقلية للتكليف بالأكثر، برفع الجزئية والشرطية بادلة البراءة الشرعية وليس العقلية، نعم ذهب جمع من المتأخرين الى القول بالإحتياط واتيان الأكثر، باعتبار ان حكم العقل يقتضي الإحتياط.
ونطلق هنا اصطلاح (الدوران الإرتباطي) على الأقل والأكثر الإرتباطيين، و(الدوران الإستقلالي) على الأقل والأكثر الإستقلاليين.
الظاهر زيادة لفظ (ان) في قوله( ان الرجوع الى البراءة)، اما احتمال سقوط خبرها من النساخ فبعيد، فلا ملازمة بين الرجوع الى البراءة بناء على الأعم، والرجوع الى الاشتغال بناء على الصحيح، ثم ان النقاش في الكبرى وهي اجمال واهمال الخطاب، وان الخطابات التكليفية لم ترد على نحو الإجمال لما في الإجمال من الحرج ولعمومات قبح العقاب بلا بيان، نعم مع اطلاق الدليل يرجع اليه في مقام البيان، وهذا أمر لا خلاف فيه لكنه لا يعني بالضرورة القول بالأعم.
ومن ثمرة الخلاف انه لو نذر اعطاء دينار للمصلي فهل تبرأ الذمة ويحصل الإمتثال باعطاء من كانت صلاته باطلة على القول بان الألفاظ وضعت على نحو الإطلاق وتشمل الأعم، ام لابد من اعطاء الدينار الى من كانت صلاته صحيحة لعدم صدق لفظ الصلاة على الفاقدة للأجزاء والشرائط، ونوقشت مسألة النذر من جانب آخر وهو رجحان متعلقه كشرط لصحته، الأمر الذي لا يتحقق باعطائه لمن يصلي الصلاة الباطلة،ولكن النقاش في الأمثال ليس من دأب المحصلين بمعنى ان المسألة الأصولية اعم من المثل المذكور.
وكيف كان، فقد استدل للصحيحي بوجوده: أحدها: التبادر، ودعوى أن المنسبق إلى الاذهان منها هو الصحيح، ولا منافاة بين دعوى ذلك ، وبين كون الالفاظ على هذا القول مجملات(1).
لقد أراد الماتن البيان العملي للفرق بين القول بالصحيح والأعم وصدق او عدم انطباق ثمرة المسألة الأصولية عليه، لأن المدار على وقوعها كبرى لقياس استنباط الحكم الفرعي الكلي باعتبار ان الفرق في باب النذر لا يصلح ان يكون نتيجة تقع كبرى لقياس استنباط الحكم، لأن جواز الإعطاء للذي يصلي صلاة ناقصة وفاقدة لبعض الأجزاء او عدمه، حكم يتفرع عن مسألة اصولية وليس هو مسألة تتفرع عنها عدة امور.
وموضوع النذر ذكره الماتن هنا لبيان ان البر يحصل ان اعطي لمن فسدت صلاته على القول بوضع الإلفاظ للأعم من الصحيح والفاسد، وعدم حصول البر على القول بانها لم توضع الا للصحيح وقول الماتن (انه ليس بثمرة لمثل هذه المسألة) لا يعني رجوع الضمير الى ثمرة كما ذهب اليه بعض المحشين وقال: لكنه في غاية الغموض لأنه يقتضي مغايرة النتيجة للثمرة) بل انه يشير الى مسألة النذر وانها حكم فرعي.
(1) والتبادر لغة هو التسارع والسعي الفوري اما في الإصطلاح فهو انسباق تصور المعنى من اللفظ عند اطلاقه، اذ يتبادر الى الذهن معنى معين، وهذا المعنى هو الذي وضع له اللفظ باعتبار ان العلقة بين اللفظ والمعنى جعلية، وليست ذاتية كما تقدم بيانه ويتصور التبادر على وجهين:
الأول: استدامته وشموله لزمان الوضع.
الثاني: انه حقيقة في المعنى المتبادر زمان التخاطب به.
والثاني هو الأرجح لعدم القول بالإستصحاب القهقري، وان قيل باصالة الثبات في اللغة للدلالة على ان اللفظ حقيقة في المعنى المتبادر، نعم
ثانيها : صحة السلب عن الفاسد ، بسبب الاخلال ببعض أجزائه ، أو شرائطه بالمداقة ، وإن صح الاطلاق عليه بالعناية (1).
ينفرد القرآن بميزة وهي اتحاد زمان نزوله مع كل الأفراد الطولية للأزمنة اللاحقة في نفاذ الحكم، واراد الماتن ان يدفع الإشكال عن جعل الصحيح بمنزلة الحقيقة في باب الاستدلال.
فالتبادر يعني انسباق معنى معين الى الذهن وهو يدل على عدم وجود الإجمال والجهل بمراد المتكلم، بل ان قصده مفهوم، واستدل الماتن على انتفاء المنافاة بانها مبينة من جهة معينة دون تمام الجهات، ولكن هذا لا يدفع الإشكال لأن المتبادر من لفظ الإجمال هو ما لم تتضح دلالته في ذات الموضوع، اما الإجمال الجهتي فهو امر ينطبق على كثير من المفاهيم ولا عبرة به، ولا يتنافى مع التبادر والحقيقة لأنه اجنبي عنها، ولكن لا يطلق على اللفظ انه مجمل،والمراد من المجمل هو ما كان مجملاً من كل الجهات او من الجهة ذات الغرض.
واقرار الماتن بانها مبينة بغير وجه اعتراف ضمني بانها ليست مجملة.
(1) لقد ثبت ان عدم سلب اللفظ عن المصداق الصحيح يدل على انه حقيقة، ويصح سلب اللفظ عن الفاسد مما يعني ان اطلاق اللفظ عليه من باب المجاز والمسامحة، فمن صلى بغير طهور تستطيع سلب اسم الصلاة عما جاء به لأنها باطلة، واطلاق لفظ الصلاة عليها يكون بالتسامح والعناية، وقد ذكر الماتن (المداقة) كقيد لصحة السلب عن الفاسد، و(العناية) كسبب للإطلاق مما يعني حصول برزخ بينهما وهو عدم الدقة العقلية وعدم العناية وهو الفرد الأكثر في الإستعمال، اذ ان الإستعمال اعم من الحقيقة والمجاز، وان المدار على الدقة العرفية وليس الدقة العقلية لما فيها من الحرج والتشديد، فـ(الصلاة معراج المؤمن) لا يطلق على الفاسدة ولو بعناية
ثالثها : الاخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للمسميات مثل ( الصلاة عمود الدين ) أو ( معراج المؤمن ) و ( الصوم جنة من النار ) إلى غير ذلك ، أو نفي ماهيتها وطبائعها ، مثل ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) (4 ) ونحوه ، مما كان ظاهرا في نفي الحقيقة ، بمجرد فقد ما يعتبر في الصحة شطرا أو شرطا (1).
خصوصاً وان الوصف مركب من الصلاة ومن معراج المؤمن، ولا يتقرب الى الله عز وجل بالفاسد والمبغوض.
(1) وهذا القول على مبنى الماتن من اعتبار الأثر في الإستدلال على ارادة الصحيح من الإلفاظ وهو استدلال حسن، فالأخبار تثبت بعض الخواص والآثار للمسميات بما يجعل الإسم يختص بالصحيح ولا ينطبق على الفاسد، مثل (الصوم جنة من النار) وهذا الأثر لا ينطبق الا على الصوم الجامع للشرائط، بالإضافة الى اعتبار صفات سلبية في خروج الفاسد بالتخصص، وكأنه من باب ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم، فان وضع الاسماء وترتب الاحكام تارة يكون باعتبار الذوات والماهيات، واخرى باعتبار العوارض او سلب المنافيات وصفات النقص والفساد.
أي ان الماتن ذكر قسمين متباينين من الأخبار يدل كل منهما على ارادة الصحيح من الوضع:
القسم الأول: الأخبار الإيجابية التي ترد بصفة التمام والكمال للمعنى مثل لا صلاة الا بطهور، الصيام جنة من النار، صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته.
فالأول من اثبات بعض الخواص فالمراد ان مسمى الصلاة لا ينطبق الا على الصلاة التي يؤتى بها بوضوء وطهر، والثاني يبين اثرالصيام وانه جنة من النار، ولابد ان يكون المراد من الصيام هو الجامع للشرائط.
القسام الثاني: الأخبار السلبية: وهي التي تفيد سلب النقص وصدق الماهية عن العبادة الفاقدة لبعض الأجزاءوالشرائط كما في الصلاة التي يأمر بقضائها واعادتها.
وما ورد في القسم الأول يصلح ان يكون في مفهومه من القسم الثاني فقوله عليه السلام لا صلاة الا بطهور، او لا صلاة الا بفاتحة الكتاب، يعني عدم صدق الصلاة على الفاقدة للطهور او قراءة سورة الفاتحة، مع الفرق بينهما، فالطهور مقدمة واجبة والفاتحة واجب غير ركني، الا ان يصدق على كل منهما انه نقص يخل بالمسمى، وعلى القول بالصحيح يخل بالإسم ايضاً بمعنى ان اسم الصلاة لا ينطبق عليه.
ثم اجاب الماتن على اشكال مفاده: ان هذا التقسيم للإخبار اجنبي عن ارادة الصحيح من لفظ الصلاة مطلقاً، فالقسم الأول منها خاص بارادة الصلاة الصحيحة من الصلاة، اما القسم الثاني فهو اخبار عن عدم صحة الصلاة غير الجامعة للشرائط الا ان الفريقين يدخلان ضمن عمومات الصلاة فقد تكون الصلاة غير صحيحة ولكن اسم الصلاة يصدق عليها بل قد تكون الصلاة صحيحة ولكن لعدم بلوغها مراتب الكمال في قوله صلى الله عليه وآله وسلم لا صلاة لجار المسجد الا في مسجده، فلم يقل احد بان هذه الصلاة ليست صحيحة ولكنها لم تبلغ مراتب الكمال وتمام الثواب.
ووصف الماتن هذا الإشكال بانه (خلاف الظاهر) لأنه قياس مع الفارق وللتمايز الموضوعي بينهما، فارادة الكمال وصحة الفعل مع عدمه تدل عليه القرينة والنصوص البيانية الأخرى كما في المثل اعلاه ان المراد لا
صلاة تامة الثواب لجار المسجد الا في المسجد، وقول الماتن (خلاف) هو خبر للمبتدأ (ارادة).
فهناك تباين بين نفي الصحة وبين نفي الكمال يعرف من القرائن، فالقرائن والنصوص الأخرى تدل على صحة الصلاة في البيت حتى لجار المسجد.
رابعها : دعوى القطع بأن طريقة الواضعين وديدنهم ، وضع الالفاظ للمركبات التامة ، كما هو قضية الحكمة الداعية إليه ، والحاجة وإن دعت أحيانا إلى إستعمالها في الناقص أيضا ، إلا أنه لا يقتضي أن يكون بنحو الحقيقة ، بل ولو كان مسامحة ، تنزيلا للفاقد منزلة الواجد . والظاهر أن الشارع غير متخط عن هذه الطريقة . ولا يخفى أن هذه الدعوى وإن كانت غير بعيدة ، إلا أنها قابلة للمنع ، فتأمل (1).
ونعرف منها ان المراد كمال الصلاة وليس صحتها او عدمه، ولم يفرق الماتن بين نفي الصحة ونفي الكمال في قوله (مثل الصحة والكمال) حتى على القول بمجئ العبارة على نحوالسبر والتقسيم والطي والنشر، لأن نفي الصحة في المقام غير نفي الكمال، فنفي الكمال يبقي الفرد من ضمن القول بالصحيح وعدم التفريق بينهما لأنهما جزء من اشكال الأعمي الذي اراد الجمع بين عدم الصحة وعدم الكمال فأكد الماتن بانه مجاز وخلاف المتبادر والمنسبق من اللفظ.
(1) يذكر الماتن هنا استدلال الصحيحي ولكنه نعته بالدعوى وشكك في حجيته لعدم الدليل عليه، فالصحيحي استدل باصل الوضع للصحيح دون الفاسد فحينما وضع اللفظ ازاء معنى معين فلابد ان المراد هو المعنى الصحيح دون الفاسد، لأن الغرض ارادة الصحيح وتفهيمه للآخرين وهو علة وضعه والحكمة منه قضاء الحوائج والتعبير عما في النفس، ثم اعترف الماتن بان الحاجة دعت الى استعمال اللفظ في الناقص ولكن هذا لا يعني ان استعماله في الناقص على نحو الحقيقة ولكنه من باب المجاز بتنزيل الفاقد منزلة الواجد وهذا التنزيل لا يعني ان اللفظ يستعمل في الناقص حقيقة بل بالعناية والمسامحة، ويشكل عليه ان المدار على الإستعمال وانه يفيد النقل الى الناقص، لأنه اعم من الحقيقة والمجاز، أي كما ينقل اطلاق اللفظ من معنى الى معنى آخر مستحدث كذلك ينقل استعمال اللفظ الى المجاز، وهذه الدعوى التي ذكرها الصحيحي على ارادة الفرد الصحيح من الوضع دون المعنى الأعم الشامل للفاسد قال الماتن بانها (غير بعيدة) لغة وعقلاً وشرعاً ثم قال انها قابلة للمنع، أي لم يثبت دليلها باعتبار ان اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فان انطباقها على الصحيح وارادته من اللفظ لا يعني عدم ارادة غير الصحيح من اللفظ، لذا ذهب بعضهم الى القول بان هذا الدعوى (بعيدة جداً) لأنها تخرص بالغيب، ولكنها ليست تخرصاً بل امراً عقلياً وعليه سيرة العقلاء، والإرباك في حال حصوله سببه الخلط بين الوضع والإستعمال وعدم الإقرار بان الالفاظ يؤثر بها العرف اتساعاً وضيقاً.
ويظهر في كلام الماتن الفرق بين الوضع والاستعمال، وان الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز والبرزخ بينهما. وذكر الماتن عدم تخط الشارع لقواعد الوضع وانحصارها بالصحيح بما هو شارع مقدس لاحكام الحلال والحرام وترتب الثواب والعقاب، وبما هو واضع ومخترع للالفاظ على القول بالحقيقة الشرعية.
وقابلية الدعوى للمنع لأن النقاش في الكبرى وهو الوضع للصحيح دون الجامع بين الصحيح والفاسد، والتام والناقص، فقد يكون الوضع للجامع، للحاجة الى بيان الجامع وتفهيم الناقص كتفهيم التام، ولكن هذا المنع لا يصلح دليلاً معارضاً لاسقاط الدعوى، فحتى على فرض تفهيم الجامع والناقص فانها افراد متعددة مغايرة لمفهوم التام، وهذه المغايرة من
مقتضيات الحكمة ووظائف العقل النظري والعملي فلا تعارض بينها للتباين في الموضوع، بمعنى ان موضوع التام يختلف عن موضوع الجامع والناقص والاسماء تابعة للمواضيع والمسميات، وكذلك بالنسبة للاحكام فانها تابعة للمواضيع، أما الاستعمال فهو أعم وأوسع، فاستدلال الصحيحي بهذه الدعوى على نحو القطع او الظاهر وجيه، وقابليته للمنع ضعيفة.
وقد إستدل للاعمي أيضا ، بوجوه : منها : تبادر الاعم ، وفيه : أنه قد عرفت الاشكال في تصوير الجامع الذي لا بد منه ، فكيف يصح معه دعوى التبادر (1).
(1) قد نعت الماتن تصوير الجامع بانه في غاية الإشكال وذكر خمسة وجوه يقولها الأعمي للجامع بين الصحيح والفاسد، واشكل على كل منها لذا قال (وقد عرفت الإشكال) انه استدل عليها بنفي حصول التبادر وانسباق المعنى الأعم والجامع من اللفظ ومفاد الإشكال ان الجامع للشرائط والفاقد لها يكونان بعرض واحد كما ان الجامع يدل على دخول الفاسد مرة في المسمى وشموله بالإسم ومرة يخرج منه فلا يستطيع.
ولكن الصحيح ذاته من الكلي المشكك وعلى فرض القو ل بالأعم فيكون من الكلي المشكك بالأولوية، فانت تطلق لفظ انسان على الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والتام الخلقة والذي به عاهة ومدار التسمية على جنس الإنسان، ولكن في العبادات لها خصوصية تترشح على الأسماء لإرتباطها بالتكليف وقاعدة الإشتغال والبراءة والأجر والثواب، فهل يعتبر التبادر على اساس الوضع ام الشارع ام وفق اعتبار العرف والاستعمال والخطابات المتداولة واقعاً، الأقوى انه بحسب الحالوالمتعارف، فاذا اضاف العرف قيداً زائداً او ازال قيداً من اصل الوضع كانت تلك الإضافة والإزالة معتبرة في المحاورة لموضوعيتها في صحة المعاملة عند اهل العرف، فلا يصح التمسك بالوضع والبحث في الرجوع اليه نعم مقتضى الأصل ان العرف يرجع الى اصل الوضع خصوصاً في العبادات.
لقد استدل كل من القائل بالصحيحي والقائل بالأعم بالتبادر الذي يعني انسباق المعنى من نفس اللفظ مجرداً عن كل قرينة صارفة اليه، او صارفة للفظ عن معنى آخر، باعتبار ان التبادر يتوقف على المعنى الإرتكازي الذي وضع له او الذي استعمل فيه.
ومنها : عدم صحة السلب عن الفاسد ، وفيه منع ، لما عرفت (1).
والأقوى ان المتبادر والمنسبق الى الأذهان هو الصحيح، وان الأعم لا ينطبق عليه اللفظ الا بعناية ومسامحة وقرينة.
(1) قد تقدم استدلال الصحيحي بصحة السلب أي سلب الأسم عن الفاسد وعدم انطباق المعنى عليه، وقال الماتن:“وان صح الإطلاق عليه بالعناية“،وذكر هنا استدلال الأعمي، بان المراد من اللفظ هو المعنى الأعم والجامع للصحيح والفاسد، والدليل هو عدم صحة سلب لفظ وعنوان الصلاة عن الفاسدة لأنها تصلح كمعنى للفظ الذي يفنى فيها ايضاً فلا يقال الصلاة بلا طهور ليست بصلاة.
ان استدلال كلا الفريقين بذات المسألة وعلى نحو متناقض يستلزم مناقشة اصل الإستدلال اولاً، فهل يصح واقعاً سلب الأسماء عن المعاني الفاسدة والناقصة كي نقول بالصحيحي او لايصح سلبها، والأقوى هو صحة السلب للتباين والترديد في الحقيقة الواحدة وعدم تعيين الماهية في الوقت الذي تكون فيه الماهية مبينة وغير مهملة وفق صيغ الحوار والتخاطب،كما في شخص رآه النبي يصلي فقال له: اعد صلاتك([34]), فهناك قرينة على الفرق بين الصحيحة والفاسدة وهي الإعادة وان اطلاق لفظ الصحيحة على الفاسدة بالعناية والمجاز والا لما امره بالإعادة.
ومنها : صحة التقسيم إلى الصحيح والسقيم وفيه أنه إنما يشهد على أنها للاعم ، لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصحيح ، وقد عرفتها ، فلا بد أن يكون التقسيم بملاحظة ما يستعمل فيه اللفظ ، ولو بالعناية (1).
(1) باعتبار ان الفاسدةتكون قسيماً للصحيحة، وتشاركها في الإسم الا انهاتنفصل عنه بالخصوصيات والأحكام والأجزاء والشرائط.
فالتقسيم علامة على وجود مقسم وامكان وفرض انشطاره الى طرفين او اكثر فالعدد اربعة يقبل القسمة الى زوجين وكل اثنين قسم من المقسم الجامع، وقد اشكل عليه الماتن بالدلالة على ان الإلفاظ موضوعة للصحيح، بينما ينفي الأعمي امكان ثبوت مثل هذا الوضع، ولكن هذا التقسيم لم يثبت انهما بعرض واحد من حيث انطباق الإسم على المعنى، كما ان اثبات صدق انطباق اللفظ على المعنى لا يتوقف على التقسيم فقط بل على الوضع ولغة التحاور والمرتكز في الأذهان، فاذا قيل ان الصلاة اما صحيحة او فاسدة لا يعني هذا ان اسم الصلاة ينطبق على الفاسدة بل قد يراد منه خروج الفاسدة بالتخصص وان اللفظ اطلق عليها للمسامحة والبيان وعلى نحو الإستعارة والمجاز بمعنى حينما يؤتى بهذا التقسيم فالمراد اظهار التباين بينهما في الماهية.
فهذا التقسيم حجة على الاعمي وليست مؤيدة لقوله، لما فيه من اثبات التباين بينهما وانهما لم يكونا بعرض واحد مع وجود القرينة التي تفيد عدم التساوي بين المعنيين وتظهر التباين الموضوعي بينهما في انطباق المأتي به على المأمور به او عدمه، خصوصاً وان التفهيم لا ينحصر بالالفاظ بل يشترك العقل في الفرز ومنع الاختلاط والتداخل في المعاني بل والالفاظ ايضاً، فلا تصل النوبة الى احتمال اشتراكهما في أصل الوضع او عدمه.
وقول الماتن (وقد عرفتها) يعود فيه الضمير الى الدلالة أي قد عرفت ومنها : استعمال الصلاة وغيرها في غير واحد من الاخبار في الفاسدة ، كقوله عليه الصلاة والسلام ( بني الاسلام على خمس : الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، والولاية ، ولم يناد أحد بشئ كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بأربع ، وتركوا هذه ، فلو أن أحدا صام نهاره وقام ليله ، ومات بغير ولاية ، لم يقبل له صوم ولا صلاة )، فإن الاخذ بالاربع ، لا يكون بناء على بطلان عبادات تاركي الولاية ، إلا إذا كانت أسامي للاعم . وقوله عليه السلام : ( دعي الصلاة أيام اقرائك ) ضرورة أنه لو لم يكن المراد منها الفاسدة ، لزم عدم صحة النهي عنها ، لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها (1).
دلالة وضع الفاظ العبادات للصحيحة على نحو الخصوص، فلا تصل النوبة الى اعتبار التقسيم لأن الأصل بسيط لا يصلح للتعدد والقسمة الى طرفين او اكثر خصوصاً مع اعتبار التمام والغرض والإفهام في وضع اللفظ ازاء المعنى وان الشارع اراد التمييز عند الوضع واختيار اللفظ بين الصحيح والفاسد لقاعدة نفي الجهالة والغرر ولمنع اللبس وقاعدة قبح العقاب بلا بيان وموضوعية ترتب الآثار والثواب على العبادة الصحيحة دون الفاسدة.
فيكون التقسيم على فرض تماميته متعلقاً بمرحلة لاحقة من مراحل الإستعمال فلا يكون هذا التقسيم حجة ودليلاً.
(1) وهذا وجه من وجوه استدلال الأعمي باستعمال الفاظ العبادات في الصحيح والفاسد بالإستقراء من النصوص الواردة عن المعصومين عليهم السلام ويشكل عليه ما اشكل على الأول من ان التقسيم واستعمال اللفظ في العبادة الفاسدة انما للبيان والإيضاح وللإعتماد على المرتكز في الأذهان ثم ان قوله عليه السلام:“بني الإسلام على خمس“، لا يعني بالضرورة ارادة الفاسدة ايضاً او الناقصة وقبول الصلاة مطلقاً ممن يؤديها وعدم القبول لا يتعلق بماهية الصلاة واجزاء تتأمل بشرط خارج منها لأن موضوع الولاية يختلف عن موضوع الصلاة.
وتفسر السنة بعضها بعضاً كما يفسر القرآن بعضه بعضاً ويقيد بعضها بعضاً، والإقرار بالولاية او عدمه اجنبي عن انطباق اللفظ، ويطرأ على القبول اوعدمه لأن لفظ الصلاة والعبادات متعلق بالأمر المولوي الذي يعني اجتماع الأجزاء والشرائط وليس بلحاظ الإمتثال او عدمه، ولا مدخلية لإعتقاد المكلفين فيه كما ان موضوعه بناء الإسلام وبيان العقيدة الصحيحة.
وإستدل الأعمي بقوله صلى الله عليه وآله وسلم“دعي الصلاة ايام اقرائك“([35]). وتقريب الإستدلال تعلق الأمر بغير المقدور ولفظ الصلاة ينطبق قهراً على الصلاة ايام الحيض وهي فاسدة قطعاً، فجاء لفظ الصلاة لإرادة الفاسدة منها مما يعني عدم حصر اللفظ بارادة الصلاة الصحيحة، ويمكن الإشكال على قول الأعمي هذا، اذ لا يعني انطباق لفظ الصلاة على افرادها اثناء الحيض لأنها سالبة بانتفاء الموضوع فلا صلاة ايام الحيض بل المقصود هو عدم اداء الصلاة اثناء الحيض ولفظ الصلاة هنا مركب من معنى الصلاة وارادة الشارع افرادها الصحيحة، ومن عدم اهلية حال الحائض لإتيانها وجاء اللفظ للبيان، ولو كان اللفظ خاصاً بالصحيحة فما هي اللغة التي يرد فيها الحديث، بل للصحيحي ان يستدل به فانه عليه السلام لم يقل (دعي صلاتكِ أيام اقرائكِ).
بل ان الجمع بين النصوص وعدم ترك الصلاة بحال يفيد عدم وجود صلاة ايام الحيض وان ايامه خارجة عن التكليف بالصلاة تخصيصاً.
وقد وردت الآيات القرآنية بأحكام الطلاق مثلاً كما في قوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ]([36])، [الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ]([37])، [فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ]([38]) ولم يقل أحد بارادة المعنى الأعم للطلاق وانه يشمل الفاسد، بل اجتهد الفقهاء في بيان شرائط الطلاق الصحيح واسباب البطلان ليكون متعلق الآيات والنصوص الافراد الصحيحة منه دون الفاسدة، واذا قيل ان فلاناً طلق زوجته يتبادر الى الأذهان الطلاق الصحيح الجامع للشرائط ولا يأتي احد يسأله: هل انك طلقت طلاقاً صحيحاً ام طلاق فاسداً، كذلك بالنسبة لنهي الحائض عن الصلاة، فالمراد ماهية وموضوع الصلاة، وربما لا يدخل هذا الحديث في حريم النزاع فهو اجنبي عن الصلاة الصحيحة والفاسدة، فالقدر المتيقن من النهي هو ترك الصلاة في أيام الحيض، فلا تصل النوبة الى مسألة الجامع بينهما وليس هناك تلبس للمبدأ في الحال، بل ان الحديث يدل بالدلالة الالتزامية على المنع من الصلاة الفاسدة الفاقدة لبعض الاجزاء والشرائط كما في انعدام الطهارة عند الحائض، و(دعي صلاتك) المراد ليس افراد الصلاة اثناء ايام الحيض وقد علمنا عدم اتيانها، ولكن المراد اسم الجنس الذي ينطبق على افراده متعددة ومتعلقة هنا نسبة الصلاة الى المرأة وليس المراد العهد.
ومع هذا فان استعمال اللفظ في الفاسدة موجود في الأخبار ولا يفيد الدلالة على الوضع للأعم للقرائن التي تحف بالخبر والموضوع وللثابت شرعاً وعقلاً ووجداناً ان الألفاظ لم توضع الا للصحيح منها وكذا الشارع لا يريد الا المعنى الصحيح.
بقي أمور : الاول : إن أسامي المعاملات ، إن كانت موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة أو للاعم ، لعدم إتصافها بهما، كما لا يخفى، بل بالوجود تارة وبالعدم أخرى، وأما إن كانت موضوعة للاسباب، فللنزاع فيه مجال، لكنه لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضا، وان الموضوع له هو العقد المؤثر لاثر كذا شرعا وعرفا والاختلاف بين الشرع والعرف فيما يعتبر في تأثير العقد، لا يوجب الاختلاف بينهما في المعنى، بل الاختلاف في المحققات والمصاديق، وتخطئة الشرع العرف في تخيل كون العقد بدون ما اعتبره في تأثيره، محققا لما هو المؤثر، كما لا يخفى فافهم (1).
(1) تقسم ابواب الفقه الى قسمين عبادات ومعاملات ومنهم من اضاف لها الأحكام، ومن المعاملات البيع والرهن والإجارة والوديعة والنكاح ونحوها.
وألفاظ المعاملات موضوعة للمسببات وليس للأسباب باعتبار ان استعمال الشارع هو ذاته استعمال العرف وانها منبثقة من حاجة الناس والعقلاء اليها والشارع امضى هذه العناوين ولكن قيدها بقيود شرعية دقيقة تحول دون الضرر والغبن.
والمسببات امر بسيط اما ان يكون موجوداً او غير موجود كالملكية والزوجية ونحوها مما هو مترتب على العقود والايقاعات، لذا قال الماتن بانه يتصف بالوجود تارة وبالعدم اخرى فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة او الأعم، ولكن هذه البساطة والتقسيم لا يمنع من دخولها في النزاع وخضوع الموجود منها للنزاع أي ان الموجود يدل على ارادة الصحيح محضاً أم انه يشمل الفاسد، وتعدد المسببات من الأثر او عدمه فاذا كانت المسببات لا تترتب الا على العقد الصحيح يمكن الاستدلال على لزوم الاصطفاء من اللفظ عند العزم على ترتيب الأثر قبل ان تصل النوبة لوضع الأسماء للأسباب من الإيجاب والقبول في العقود كالبيع والإجارة والإيقاع كالوقف والطلاق، والبيع يكون اثره انتقال عين بعوض، وفي الإجارة انتقال ملك منفعة كعوض، وذهب المشهور الى التمسك بالإطلاق حتى على القول بوضعها للمسببات وهو الأصح، لرفع جزئية ما احتمل جزئيته او شرطية ما احتمل شرطيته له، واليه مال الماتن، اذ جمع الماتن بين مراد الشارع والعرف لأن ارادة التاثير والقصد واحدة عند الشارع والعقلاء والعرف، ولو ان الشارع اراد غير الذي اراده العرف لنصب قرينة دالة عليه وبما انه لم ينصب قرينة تدل على الخلاف بل صدر منه التشريع على نحو الإطلاق كما في قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ] والموضوع المترتب على الأثر واحد عند الشرع والعرف.
اما وضع الفاظ المعاملات للصحيح فيمكن ان يستفاد من دليل غير ما التقى به الشارع مع العرف في هذا الخصوص،فالاصل ان يكون بين العرف والشرع عموماً وخصوصاً مطلقاً وليس التساوي، فالشرع يتفق مع العرف في اصل المسميات واحكامها الأولية ثم ينفصل عنه بالتقييد والشروط والموانع من خلال التشريع في الكتاب والسنة، نعم قد يخالف العرف الشرع في بعض العقود مثل بيع الفضولي وعقد الصبي المميز، وقالوا انه صحيح بنظر العرف وفاسد بنظر الشرع، واستدل به على عدم كون الصحة عند الشرع والعرف بمعنى واحد، والحق انه لا تباين في المقام، فالعرف لا يعتبر هذه العقود صحيحة بل ان موضوعية العقد تتجلى بالأثر والمسبب وليس السبب، بل ان اطلاق الفاظ المعاملات تطلق في العرف على الفاسد وعلى نحو العناية خصوصاً وان المسامحة في العرف أكثر منه في الشرع لكن هذه المسامحة ظاهرة ومعروفة حتى في العرف نفسه.
وقال الماتن بان الاختلاف بين الشرع والعرف في المحققات والمصاديق دون المعنى الموضوع له، ومنهم من قال ان الاختلاف في المعنى الموضوع له وليس في المحققات، مثلاً ان العرف لا يرى دخل البلوغ في العقد والشارع يعتبره فيكون الاختلاف في المعنى فيصبح العقد العرفي أعم من العقد الشرعي بناءً على وضع الفاظ المعاملات للصحيح دون الأعم، واما بناء على وضعها للأعم فتكون النسبة بين العقد العرفي والشرعي التساوي، والاشكال على هذا القول من وجوه:
الأول: ان العقد العرفي اصطلاح لا اصل له وهو لغو، ولا يجوز اختراعه بدعة وجعله بعرض واحدمع العقد الشرعي.
الثاني: الاصل ان يكون العرف تابعاً للشرع واذا اختلف عن الشرع فيسقط عن الاعتبار ولا يكون مؤهلاً للاستدلال، واذا دار الأمر في أيهما اقرب الى الوضع الشرع أم العرف، الجواب: هو الشرع، وكذا بالنسبة للاستعمال.
الثالث: الاصل عدم وجود اختلاف بين الشرع والعرف لا في المعنى ولا في المحققات والمصاديق، واذا ظهر اختلاف فهو تجاوز من العرف لابد من طرحه وتركه فالعرف يجب ان يكون مرآة للشرع.
الرابع: ان ميل بعض الفقهاء باعطاء موضوعية للعرف في الأحكام الشرعية وبما يزيد على اعتباره في اصل الشرع لا يخلو من ضرر حال أو لاحق ولابد من التوقي منه والحذر من التمادي فيه.
الحادي عشر الحق وقوع الاشتراك ، للنقل والتبادر ، وعدم صحة السلب ، بالنسبة إلى معنيين أو أكثر للفظ واحد . وان أحاله بعض ، لاخلاله بالتفهم المقصود من الوضع لخفاء القرائن ، لمنع الاخلال أولا ، لامكان الاتكال على القرائن الواضحة ، ومنع كونه مخلا بالحكمة ثانيا ، لتعلق الغرض بالاجمال أحيانا ، كما أن استعمال المشترك في القرآن ليس بمحال كما توهم ، لاجل لزوم التطويل بلا طائل ، مع الاتكال على القرائن والاجمال في المقال ، لو لا الاتكال عليها . وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى جل شأنه ، كما لا يخفى ، وذلك لعدم لزوم التطويل ، فيما كان الاتكال على حال أو مقال أتي به لغرض آخر ، ومنع كون الاجمال غير لائق بكلامه تعالى ، مع كونه مما يتعلق به الغرض ، وإلا لما وقع المشتبه في كلامه ، وقد أخبر في كتابه الكريم ، بوقوعه فيه قال الله تعالى ( فيه آيات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات)(1).
(1) ينقسم المشترك الى قسمين: مشترك لفظي، ومشترك معنوي، واذا ورد المشترك بصيغة الإطلاق فالمراد هو الأول وكذا في المتن والمشترك اللفظي: هو لفظ موضوع او مستعمل في معنيين او اكثر كل واحد منها مغاير للآخر، فيكون اللفظ متحداً والمعنى متعدداً، كما في لفظ العين فانه يطلق على العين الباصرة والبئر والرابية والجاسوس وغيرها.
وتحتمل وجوه لنشأة هذا التعدد منها:
1- ان شخصاً واحداً يضع لفظاً واحداً لمعنيين او اكثر.
2- تعدد الواضع بمعنى ان واضعاً يضع اللفظ لمعنى، والآخر يضعه لمعنى الآخر.
3- قيام قبيلة او مصر بوضع اللفظ لمعنى، وقيام قبيلة او مصر آخر ممن يتكلم بذات اللغة بوضعه لمعنى آخر.
4- استعارة اللفظ لمعنى ثم لمعنى آخر لوجود شبه وعلاقة والتقاء بينهما، ثم اتسع استعماله في المعنى الجديد مع المعنى الذي وضع له اللفظ بالإصالة والإستقلال فاصبح استعماله فيهما بعرض واحد، ولم يتضح اصل الفرق بينهما، وربما استعمل في معنى ثالث بذات الطريقة.
4- ميل الناس الىالمشترك لما فيه من اليسر والتخفيف في الفهم والتفهيم واعتياد الألسن والأسماع ولوجود القرينة الصارفة عن المعنى الذي وضع له اللفظ اصلاً او التي تدل على ارادة المعنى الجديد.
5- وجود اللفظ وجوداً ذهنياً دائماً مع قلة استعماله في الواقع الخارجي، فلا يفنى اللفظ في معنى معين نقل استعماله فيه في مقابل صورته الذهنية بمعنى ان النفس ترى للفظ جمالاً وحلاوة لا يستوعبها معنى واحد مخصوص وان كان موضوعاً له، فكأن ادراكاً يحصل بان اللفظ ذاته مجمل له قابلية الجعل والتنزيل لمعنى آخر بلحاظ القرينة.
6- اختلاف البلاغة وتعدد الأمصار لأهل اللغة الواحدة، ثم تداخلها وتأثير بعضها بالبعض الآخر.
7- وجود وجوه من الشبه والإلتقاء بين المعاني المتعددة تؤدي الى استئناس العقول لإنطباق لفظ معين.
8- استحسان استعمال اللفظ في معان أخرى غير التي وضع لها.
9- كما يقال بوجود قرينة تدل على افادة المعنى المطلوب من المشترك كذلك كانت هناك قرينة بعد الوضع ادت الىاستعمال المشترك في معان اخرى.
10- الأقرب ان المشترك لم يوضع لعدة معان وعرض واحد، بل انه بالأصل وضع لمعنى معين ثم استعمل في غيره لعلاقة وشبه حتى صار الإستعمال وكأنه مشترك.
والمشهور شهرة عظيمة عند الأصوليين وقوع المشترك اللفظي كما هو حال اهل البلاغة،فهو وضع طبيعي ولفظ واحد لمعنيين او اكثر متغايرين في الماهية والجنس، واستدل الماتن بالنقل في لغة العرب واستعمالهم للفظ واحد لأكثر من معنى لا جامع بينهما.
والإشتراك واقع في اكثر لغات العالم وهو ممكن لغة وعقلاً وموجود فعلاً الا ان الخلاف هنا في الوضع والإستعمال الذي هو اعم ولم تنحصر اسباب المشترك بوجه واحد مستغرق لكل المشتركات.
وإستدل الماتن بالنقل والتبادر وعدم صحة السلب أي في كل معنى من المعاني التي يستعمل فيها المشترك، ولكن النوبة لا تصل الى هذا الإستدلال لأن الإستعمال اعم من الحقيقة والمجاز وهذا الإستدلال يرد لبيان الحقيقي وما يميزه عن المجاز.
وقال الماتن وان احاله بعض أي قال باستحالة وقوع المشترك اللفظي بامتناع وجوده.
وفي المشترك اللفظي في اللغة اقوال اربعة:
1- امتناع وجوده في اللغة، وبه قال جماعة .
2- امكان حصول المشترك اللفظي.
3- وقوع المشترك اللفظي، وبه قال الماتن على نحو القطع وهو الصواب.
4- وجوب المشترك اللفظي، فهناك تناقض بين القول الاول والاخير، اما الثاني والثالث فبرزخ بينهما.
واستدل القائل بامتناعه بوجوه كما هو ظاهر الماتن منها:
1- إخلال المشترك بالتفهيم والفهم المقصود من الوضع، لأن القرائن الدالة على ارادة فرد من المشترك دون غيره خفية في الغالب.
2- المشترك اللفظي مخل بالحكمة، لأن الغرض لابد ان يتعلق بامر معين مقصود وليس مجملاً يحتمل عدة معان.
واجاب الماتن بايجاز لبيان ان القرائن على قسمين، منها ما هو خفي، ومنها ما هو ظاهر جلي وبالإمكان الإعتماد على القرائن الواضحة دون الخفية.
ورد الماتن على مسألة الإخلال بالحكمة بان حكمة الوضع والتفهيم اعم من ان تنحصر بالتفهيم الشخصي فقد يتعلق الغرض بالإجمال واحالة الفرز والتعيين والتشخيص الى المخاطب لقرائن حالية او مقالية يعرف المتكلم ان المخاطب يعلمها خصوصاً وان المعنى المقصود لم يدخل فرداً في المشترك الا بعد التفاهم العرفي والعقلي على ملائمته للدخول والإشتراك في اللفظ كواحد من معانيه.
والمجمل هو اللفظ الذي ليس له ظهور بالفعل ولو كان بسبب عرضي وهو على اقسام منه المجمل بالذات مثل اوائل السور القرآنية الم، الر، بالإعلال , ويكون المجمل فعلا وإسما ولفظا مفردا ومركبا , وعن السيد المرتضى وجماعة أن آية السرقة مجملة بلحاظ لفظ اليد وتعيينه [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا]([39]), والمشهور بخلافه.
والمشترك اللفظي يحتاج الى قرينة لتعيين بعض معانيه، والمشترك المعنوي كقوله تعالى [أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ] فهو لفظ موضوع لمعنى واحد ويكون المعنى مشتركاً بين المتعدد وليس المتحد.
واما المبين فهو اللفظ الذي له دلالة ظاهرة على المعنى المقصود.
وقيل بعدم استعمال المشترك اللفظي في القرآن دون غيره وانه محال للزوم حصول احد محذورين:
الأول: التطويل بلا طائل , لأن المشترك يحيلك على القرائن، وهذا يستلزم البحث والتحقيق والمشقة والجهد.
الثاني: الإجمال في المقال وعدم تعيين الفرد المطلوب وانقداح عدة معان من اللفظ القرآني وهو امر غير لائق بكلامه تعالى.
وكلا المحذورين يمكن ردهما، والإحالة إلى القرائن من الموضوعات الإضافية للغة ولا تستلزم جهداً أو مشقة , وفيها حسن ذاتي ومنع من تداخل المعاني.
ولم يكتف الماتن بالرد على من نفى الإجمال بل انه بين ما في الإجمال من الحسن واللطف واستشهد بالمتشابه في القرآن.
وإستشهد بالتشابه في القرآن ولكنه قياس مع الفارق فإن موضوع المتشابه مختلف عن المشترك اللفظي، وقد بينا في مباحث علم التفسير اكثر من عشرين وجهاً لمعنى المحكم والمتشابه([40])، وفي قوله تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا] يحمل المتشابه على الإعجاز والبلاغة والهداية، اما المعنى الخاص فهو الذي ورد في الآية بما يحتمل معه التأويل والمشاكلة والمماثلة التي تؤدي الى فناء اللفظ في معان مخصوصة، ودفع التحقيق واستحضار القرائن اللبس والتردد، وهو ليس من المشترك اللفظي بل من باب توظيف اللفظ في بعض لوازم المعنى،فورود المتشابه في القرآن لا يدل على ثبوت المشترك اللفظي لتعدد معاني المتشابه،وقد ذهب كثير من علماء التفسير الى تعلقه بالمعنى والتأويل والتفسير.
وقيل ان المشترك واقع (بالنقل) فان النقل لم يميز بين وضع اللفظ لمعنى معين ونقله الى معنى آخر اي انه لم يميز بين المعنيين ولا يستطيع اثبات حصول الوضع لمعنى معين او لأكثر من معنى ولا مجال للإستصحاب القهقري في المقام، وقد يكون الوضع قد حصل لمعنى معين ثم تلافى وزال هذا المعنى واستعمل اللفظ في معنى آخر يعتبر في الأصل مجازياً، او ان المعنى الأصل الذي وضع له اللفظ استعمل فيه لفظ آخر على نحو المجاز والاستعارة لينفرد المجازي باللفظ ثم يشترك معه معنى آخر او اكثر.
واستدل بالتبادر، وصحيح ان التبادر من العلامات التي يميز بواسطتها المعنى الحقيقي من المعنى المجازي، ولكن القدر المتيقن من التبادر وترتب الأثر عليه هو ان اللفظ حقيقة في المعنى في زمان التبادر وليس له قوة الإستصحاب القهقري، فلا يدل على ارادة الزمان السابق الا على نحو ترجيح التواتر الإجمالي، واليقين الموضوعي الإستقرائي بالقرينة الإحتمالية، وقيد الإستقرائي الذي ذكرناه لإحتمال منافاته للواقع خصوصاً وان تصور معنى معين في الذهن بمجرد اطلاق اللفظ لا يتوقف على اصل وضع اللفظ، بل على العرف والقرائن الحالية او المقالية، فالتبادر لا يصلح لإثبات واقع رجعي، أو إعتبارالإستصحاب القهقري الذي يطلق عليه احياناً أصالة الثبات.
والشك في المقام على وجهين، فتارة يكون بالوضع والمعنى الذي وضع له اللفظ اصلاً في اللغة، واخرى يشك في مراد المتكلم من اللفظ بغض النظر عما وضع له اللفظ، والبحث في المقام يتعلق بالأول وهو اصل الوضع وقد لا تكون فيه ثمرة كبيرة، اما الثاني فمرجعه الأصول اللفظية، فالوضع في الإصطلاح نوع ارتباط بين اللفظ والمعنى، متى ما فهم الأول فهم الثاني سواء على نحو التبادر والوضع التعييني او على الوضع التعيني الذي يعني كثرة استعمال اللفظ في معنى مخصوص بما لا يستلزم استحضار القرينة.
الثالث عشر : إنه اختلفوا في أن المشتق حقيقة في خصوص ما إختار ه لأنها أعم تلبس بالمبدأ في الحال ، أو فيما يعمه وما انقضى عنه على أقوال ، بعد الاتفاق على كونه مجازا فيما يتلبس به في الاستقبال ، وقبل الخوض في المسألة ، وتفصيل الاقوال فيها ، وبيان الاستدلال عليها ، ينبغي تقديم أمور : أحدها : إن المراد بالمشتق هاهنا ليس مطلق المشتقات ، بل خصوص ما يجري منها على الذوات ، مما يكون مفهومه منتزعا عن الذات ، بملاحظة اتصافها بالمبدأ ، واتحادها معه بنحو من الاتحاد ، كان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور والايجاد ، كأسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهات ، بل وصيغ المبالغة ، وأسماء الازمنة والامكنة والآلات ، كما هو ظاهر العنوانات (1).
(1) المشتق (هو اللفظ الذي اطلق على الذات بلحاظ اتصافها بمبدأ معين سواء كان ترشح اتصاف الذات به:
1- بحلولها فيه.
2- بصدورها عنه.
3- انتزاعها منه ونسب إلى المعتزلة القول بالمعنى الأعم وشمول لفظ المشتق حتى للذي إنقضى عنه زمان التلبس بالذات ، وقال الأشاعرة بالخصوص .
4- وبين المشتق في الأدب والمشتق في علم الأصول عموم وخصوص من وجه، فهو في الأدب مأخوذ من لفظ آخر مع احتوائه لحروفه والتقائه معه في الترتيب او مطلقاً وهناك أختلاف في أصل الاشتقاق في اللغة على قولين :
الأول : أصل الإشتقاق هو الفعل ، قالت مدرسة الكوفة في اسم الفاعل واسم المفعول وظرف الزمان والمكان والمصادر المزيدة .
الثاني : المصدر هو أصل الإنشقاق ، وبه قالت مدرسة البصرة .
ولا بد من اجتماع علماء اللغة والمجتمعات اللغوية الكبرى للإتفاق على قول في أصل الإشتقاق والتخفيف عن الدارسين ، وهل هو الفعل أو المصدر أو المادة بحروفها أو الهيئة والوضع ، فالماضي والمضارع والمصدر مشتقات ادبية، وليست مشتقات في علم الأصول، فمادة الإجتماع اسم الفاعل والمفعول ونحوهما، لأن الأفعال تبين النسبة بين الذات والصفة، وليس الذات حال اتصافها بالصفة، اما اسم الفاعل والمفعول فهما مشتقان في كلا الإصطلاحين.
وصحيح ان اسم الفاعل مثل (ضارب) مشترك بحسب المفهوم بين الأزمنة الثلاثة، امساً واليوم وغداً، ولكن اوان التلبس يعرف بلحاظ القرائن والعرف والقدر المتيقن عند اهل المحاورة وقوله تعالى[وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا]([41])، بيان تعدد مصاديق وعد الشيطان لاتباعه في الزمن الماضي والمستقبل ، نعم تدل الآيات والنصوص على عدم شموله لعالم الآخرة ، لأنها دار حساب بلا عمل ، وحتى في الدنيا فان الشيطان لا سلطان له على المؤمنين وفي التنزيل[لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ]([42])، وقالوا ان المشتق في الإصطلاح الأصولي بسيط ليس مركباً من الذات ومبدأ الإشتقاق فالذات خارجة عن مفهوم المشتق، ولابد من الرجوع إلى القرآن في بيان المفاهيم الأصولية لتنمية ملكة التفسير والتأويل وتأكيد قانون قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]([43]).
والمشتق من جهة الإستعمال على ثلاثة اقسام:
الأول: مجيء المشتق في ذات لم تتلبس بعد بالمبدء، ولكنها ستتلبس به فيما بعد كما تقول للذي يدرس الطب بانه طبيب، فزمان النسبة الآن وأيام الدراسة، وزمان التلبس بالمبدأ وهو صفة الطبيب لا يكون الا غداً وفي المستقبل.
الثاني: استعماله في ذات متلبسة بالمبدأ في الحال كما في القاضي اثناء مزاولته القضاء، فالذات هو شخص القاضي، والمبدأ هو القضاء، والحال هو أوان نسبة القضاء،فاذا كان الآن مطابقاً لإتصافه بالقضاء، فالإستعمال على نحو المطابقية.
الثالث: تعلق المشتق بذات كانت في الأصل متلبسة بالمبدء قبل حال النسبة، فاذا احيل القاضي على التقاعد ووصفته بعد الإحالة على المعاش بانه قاضِ، فزمان النسبة الآن اما اوان التلبس بالمبدء أي القضاء فهو الأمس.
أو أن شخصاً كان وزيراً أو نائباً ، فيقال له بعد إنقضاء عمله هذا بالوزير أو النائب .
والإجماع على ان استعماله في الأول مجاز، وفي الثاني حقيقة،أما في الثالث أعلاه فهو محتاج الى القرينة أو العناية، كما في المثال أنه في معرض كونه طبيباً لأنه يدرس الطب.
وتنقسم تلبس المبدأ بالحال إلى قسمين :
الأول : ما ينقطع فيه تلبس الذات بالمبدأ كالوزير .
الثاني : ما يصاحب المبدأ الذات ولا يغادره كما في الطبيب إلا نحو عرضي .
ويمكن تقسيم تلبس المبدأ بالذات من جهة السيف الزماني إلى قسمين :
الأول : دفعة واحدة وليس فيه مجاز سابق كما في الذي يصح غنياً دفعة واحدة أو ينال منصباً من غير مقدمات .
الثاني : ما يأتي بالتدريج والإستعداد والعمل له ، كما في طالب كلية الهندسة فانه يطلق عليه لفظ مهندس من باب المجاز.
والإختلاف وقع في الثالث وان زمان التلبس بالمبدأ هو الأمس، وهذا الخلاف ناجم عن اعتبار تلبس الذات بالمبدأ في الجملة أي من دون تقييد التلبس بزمان دون زمان، ولكن هذا التلبس يخرج ما لم يتلبس بالمبدأ الا ان يطلق عليه على نحو التعليق والمشارفة ، فالمجازية لأن العرض لم يتم في محله بعد فلم يتولد عنوان المشتق، والذي قال بحقيقته فيما انقضى عنه ان حصول التلبس بالمعنى الأعم يشمل ما انقضى عنه المبدأ، وكأنه بعرض واحد مع بقاء المتولد في الحال، فمثلاً لا يقال للحيوان انه ماء لعمومات قوله تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]([44]) لأن الماء عنصر التكوين بل ان الحيوان يعرف بصورته النوعية، اما بالنسبة للمشتق كضارب فيتعلق به العنوان لأنه جهة الصدور، فلذا ورد التعريف بالمشتق بانه ذات تتلبس بالمبدأ كانسانية الإنسان، وزيدية زيد عندما قام بالفعل او حتى قبلالقيام بالفعل على نحو التعليق والمشارفة، وان كانت الإنسانية امر منتزع عن نفس الذات من غير امر خارج عنها، اما القيام بفعل كالضرب فهو منتزع عن اتصاف الذات بمفهوم خارج متحد مع الذات.
ثم إنه لا يبعد أن يراد بالمشتق في محل النزاع ، مطلق ما كان مفهومه ومعناه جاريا على الذات ومنتزعا عنها ، بملاحظة اتصافها بعرض أو عرضي ولو كان جامدا ، كالزوج والزوجة والرق والحر ، وإن ابيت إلا عن اختصاص النزاع المعروف بالمشتق ، كما هو قضية الجمود على ظاهر لفظه ، فهذا القسم من الجوامد أيضا محل النزاع (1).
(1) المشتق اصطلاح نحوي شائع على الألسنة ويدرس في كافة مستويات الدراسة، ويعطى اهمية خاصة في اللغة والنحو والميزان الصرفي، فالأولى ان يكون الإصطلاح الأصولي لهذا المعنى غيره للتخفيف والتيسير والبيان، خصوصاً وان لفظ المشتق لا ينطبق على موضوعه وتعدد اطرافه، فاسم الفاعل مثلاً بسيط، وعنوان شخصي يشتق من عنوان شخصي آخر هو الفعل، اما موضوع المشتق في الأصول فيتعلق بعدة اطراف:
1- الذات.
2- المبدأ.
3- الحال أي أوان نسبة التلبس، أي أن الحال هنا ليس الزمن الحاضر.
4- تلبس الذات بالمبدأ.
5- أوان التلبس بلحاظ أفراد الزمان الطولية الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل.
والحال وهو أوان النسبة سواء اتفق مع زمان التلبس أو سبقه أو تآخر عليه ويحتمل المراد من الحال وجوهاً :
الأول : حال النطق .
الثاني : حال النسبة .
الثالث : حال التلبس .
وسيأتي كلام الماتن أن المراد من الحال حال التلبس لا حال النطق ، وان ملاحظة انطباق المشتق على الذات لا يكفي لهذا المشترك اللفظي، وان كان اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وغيرها حقيقة في الحال مع السعة في اللغة والكلمات والمصطلحات ويمكن اختيار اصطلاح آخر بملاحظة حيثية اخرى كالتلبس او الحلول.
وإن كانت صفة الإصطلاح الأصولي تكفي قرينة على ان المراد المعنى الأخص، للتلبس بحال الأصول، وان صدق المعنى الأصولي على النحوي كما في الزوج والحر.
ويأتي لفظ المشتق في علم الأصول من وجوه :
الأول : اتصاف الذات بمفهوم خارج عنها تتلبس به بعرض كما في ضارب.
الثاني : حلوله فيها كالمرض والصحة .
الثالث : اتصاف الذوات بالعرض غير زائل كالسواد والبياض، او زائلكالضحك والأكل.
الرابع : الإنتزاع كالفوقية، والتحتية، او الزوجيةوالأبوة والبنوة ، والملكية .
وان ذهب بعضهم الى عدم اعتبار الزوجية والملكية من الأمور الإنتزاعية وانها من الأمور الإعتبارية، والإعتبار برزخ بين الوجود الخارجي والذهني ولكن لا مانع من اجتماع الأمرين بحسب اللحاظ والحيثية.
وحينما يكون الذات ضارباً فان الضرب صادر عنه وقائم بغيره وان الذات تلبست بالمبدأ الصادر منها، وفيه أطراف :
الأول : الضارب .
الثاني : الضرب .
الثالث : المضروب ويمكن تسميته الذات المضروبة.
الرابع : وما يترتب على الضرب.
اما لو جاء الفعل عن قيام الفاعل به كالمشي والركل او الأكل والشرب فانه يسمى (ايجاداً) ولو كانت الذات هي اسم المفعول كالمضروب والمحمول فانه تلق يصلح ان يكون عنواناً للذات مع انه امر خارج عنها.
وقال الماتن فلا وجه لما زعم بعض الأجلة من الإختصاص باسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبهة، والظاهر انه صاحب الفصول اذ قال: فهل المراد به ما يعم بقية المشتقات من اسمي الفاعل والمفعول والصفة المشبهة وما بمعناها واسماء الزمان والمكان والآلة، وصيغ المبالغة، كما يدل عليه اطلاق عناوين كثير منهم، كالحاجبي وغيره .
او يختص باسم الفاعل وما بمعناه كما يدل عليه تمثيلهم به، واحتجاج بعضهم باطلاق اسم الفاعل عليه دون اطلاق بقية الأسماء على البواقي مع امكان التمسك به ايضاً وجهان، اظهرهما الثاني لعدم ملائمة جميع ما أورده في المقام على الأول.
وما ذهب اليه الماتن من صيغة العموم هي الأصح، لأن التمثيل لا يدل على الإختصاص والحصر بل يبين الفرد الأمثل والأظهر، كما ان اطلاق اسم الفاعل عليه يترشح من البيان الذي يسببه التمثيل، واثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، نعم يمكن القول بان المشتق من الكلي المشكك من جهة التلبس بالمبدأ.
فمنه ما يكون سريعاً وزائلاً كالشرب والأكل بانقضائه او يكون ملكة وشأنية ومبدأ متصلاً كلون البشرة،وكما في ملكة الإجتهاد التي ينقضي التلبس بها بانعدام القدرة على الإستنباط او بالنسبة للصنائع .
وقد يكون متصلاً عاماً كما في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]([45])، ليكون من الإعجاز القرآني أنه أعم وأعظم من تقسيمات الأصول التي هي استقرائية .
وكما في ثبوت صفة النبوة وتوالي الوحي للنبي وعدم مغادرته له إلى حين انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، ويدل عليه قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]([46])([47]) وتقدير الآية في المقام : أفائن مات وهو رسول أو قتل وهو رسول انقلبتم على أعقابكم بعد موته .
إذ يلتقي الحال وهو أوان النسبة مع زمان التلبس في كل زمان في بيان فضل الله .
بالإضافة الى مسألة نضيفها قد تكون الأمور المنتزعة من تلبس الذات بالمبدأ في الحال في أوان ولكن الأمور الإنتزاعية منه متصلة وباقية في الدنيا والأخرة ، كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]([48])، لبيان مسائل :
الأولى : أن الخطاب في الآية موجه الى كل المسلمين والمسلمات الى يوم القيامة في كل زمان يتوجه الخطاب [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] بدليل عطف الآية أعلاه على آية نداء التشريف لجميع المسلمين والمسلمات والتي جاءت قبلها بست آيات بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً…]([49]) وهو من تلبس الذات بالمبدأ في الحال مما انقضى ذات الفعل ولكن لم ينقض الخطاب بالنصر وذات النصر ، فيفخر كل جيل من المسلمين بأن خطاب النصر موجه لهم في كل زمان .
الثانية : لقد انقضى زمان تلبس الذات بالمبدأ بخصوص الذين حضروا المعركة ولكن تلبس الذات بالمبدأ مستمر ومتصل بالمعنى الأعم للنصر ومنافعه .
ان المشتق عبارة عن المعنى والعنوان والصبغة التي تكون عليها الذات بلحاظ طرو عرض او عرضي، والمراد من العرض هو المقولات التسع في مقابل الجوهر.
والموجود الممكن على قسمين، اما ان يكون متحيزاً وهو الجوهر والحاصل في مكان ويشار الى جهته وموضعه اشارة حسية فيقال انه هناك، او يكون حالاً في الجوهر، وهو العرض فالعرض لا يتقوم بذاته وان كان له وجود خارجي.
ولا يستغني عن غيره لأنه حال ولا وجود له بدون جسم، فمن العرض الألوان والطعوم والروائح والعلوم والإرادة ونحوها مما تعرض في الأجسام والجواهر، وقد قسم العرض الى تقسيمات عديدة منها ما يتعلق بالحكم فيما يقبل في مفهومه القسمة، واما ان يكون بالكيف.
ومنها العرض الساري وغير الساري، والأول من كان كل جزء من الحال يلاقي كل جزء من المحل.
والعرض الخارجي، والخاص، والإضافي , والعرض القار وهو الذي تجتمع اجزاؤه في الوجود كالسواد والبياض .
والعرض اللازم والعارض، لذا ذكر الحكماء ان الأجناس العالية للممكنات عشرة وهي الأعراض التسعة والجوهر، واطلقوا عليها اسم المقولات العشر وهي:
1- الكم، 2- الكيف، 3- الأين، 4- المتى، 5- الوضع، 6- الملك، 7- الإضافة، 8- ان يفعل، 9- ان ينفعل، 10- الجوهر.
والأنسب ان تجري القسمة والإصطلاح على نحو يكون ملائماً للواقع باعطاء الجوهر إعتباراً أكثر , فالمقولات التسعة كلها اعراض لا تتقوم بذاتها بل تحتاج الى الجوهر وهو المحل، فالأولى أن تكون القسمة على وجهين:
الأول: الجوهر.
الثاني: العرض: ويتكون من مقولات تسع وهي 1-الكم2- الكيف إلى آخر المقولات التسعة أعلاه.
ومراد الماتن من (العرضي) هو الأمر الإعتباري الموجود في الإعتبار، والذي هو برزخ بين الوجود العيني الخارجي وبين الوجود الذهني مثل الزواج والملكية والرقية ونحوها.
والمختار هو خصوص اللفظ وأنه يطلق حقيقة على ذات أوان تلبسها بالمبدأ ، وهو مجاز لمى انقضى عند التلبس إلا مع الدليل الذي يدل على الخلاف في بعض الصور والشاهد ، وأختيار قول أحدى المدرستين هو الأولى ، والمختار أن أصل الإشتقاق هو الفعل فهو بسيط وحاضر حتى عند ذكر المصدر ، وهو اللفظ الدال على الحدث المنسوب إلى فعل الفاعل ، وأما اسم المصدر فهو اللفظ الذي يدل على الحدث بما هو ، فالوضوء مثلاً اسم مصدر ، ولم يكن متقدموا النحويين يفرقون بين المصدر واسم المصدر ، فكل ما دل على الحدث فهو مصدر انما حصل هذا التفريق في كلام المتأخرين ، نعم المصدر على قسمين :
الأول : قياسي .
الثاني : سماعي .
أما المصدر فهو مقصور على السماعي مثل قرأ قراءة توضأ ووضوء ، وقيل الوضوء بالفتح هو الماء المعد للوضوء اغتسل غُسلاً أنفق أنفاقاً .
ويقال أن المصدر اسم دال على الحدث ، وهو جار على فعله أي أن عدد حروف المصدر لا ينقص عن عدد حروف فعله سواء في اللفظ كما في قول : ضرب ضرباً ، أو تقديراً ، دافع دفاعاً أو تزيد حروفه عن حروف فعله كما في القول أحسن إحساناً أو تنفق عن حروف العقل مع تعويض مثل وهب هبة .
كما يشهد به ما عن الايضاح في باب الرضاع ، في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان ، أرضعتا زوجته الصغيرة ، ما هذا لفظه : ( تحرم المرضعة الاولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين ، وأما المرضعة الاخرى ، ففي تحريمها خلاف ، فاختار والدي المصنف ( رحمه الله ) وابن ادريس تحريمها لان هذه يصدق عليها أم زوجته ، لانه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه هكذا هاهنا ، وما عن المسالك في هذه المسألة ، من ابتناء الحكم فيهاعلى الخلاف في مسألة المشتق . فعليه كلما كان مفهومه منتزعا من الذات ، بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتيات – كانت عرضا أو عرضيا – كالزوجية والرقية والحرية وغيرها من الاعتبارات والاضافات ، كان محل النزاع وإن كان جامدا (1).
(1) لقد استشهد الماتن على دخول هذا القسم من الجوامد في المشتق بما ورد في الإيضاح للإستدلال علىابتناء بعض الأصحاب الحرمة في الزوجة الثانية، وفق مبحث المشتق، فعلى القول بالمعنى الأعم للمشتق وان استعمال المشتق في ذات كانت متلبسة بالمبدء قبل حال النسبة حقيقة وليس مجازاً تحرم الزوجة الكبيرة الثانية لصدق اسم ام الزوجة عليها وان كانت الصغيرة حال رضاع الثانية لها تعتبر ربيبته، اما على القول بان المشتق وضع لخصوص حال التلبس فلا يصدق على الزوجة الكبيرة الثانية انها ام الزوجة عند ارضاعها للصغيرة لأنها حالة الرضاع ليست زوجته فقد انقضت حالة الزوجية.
فالزوجة من الجوامد وجريان النزاع فيها يدل على جريانه في بعض الجوامد وعبارةالإيضاح هكذا: انه لو ارضعت الصغيرة زوجتاه على التعاقب فالأقرب تحريم الجميع لأن الأخيرة صارت ام من كانت زوجته، ان كان قد دخل باحدى الكبيرتين والا حرمت الكبيرتان مؤبداً وانفسخ عقد الصغيرة([50]).
لأن الحرمة تنشر في ام الزوجة وان لم يدخل بها، ولكن حرمة الصغيرة معلقة على الدخول باحدى المرضعتين، اذا كان الرضاع جامعاً للشرائط، وتحرم البنت حتى لو كان اللبن من غيره لأنها تصبح ربيبته من الزوجة المدخول بها، فحرمة الصغيرة اجنبية عن نزاع المشتق ولا تصل النوبة اليه والبحث فيها فقهي محض.
ومنهم من قالبان حرمة المرضعة الأولى ابتناء على وضع المشتق للمعنى الأعم لأنه لا يتصور زمان يجتمع فيه زوجية المرتضعة وامومة المرضعة، ولكن الحكم لا يبتنى على الدقة العقلية بل يكفي الصدق العرفي ثم ان الصغيرة تكون بنتاً له، والكبيرة اماً لها دفعة واحدة فانفسخ نكاحهما، هذا بالإضافة الى النص ففي مرسلة علي بن مهزيار عن ابي جعفر عليه السلام: ان رجلاً تزوج بجارية صغيرة فارضعتها امرأته ثم ارضعتها امرأة له اخرى، فقال ابن شبرمة تحرم عليه الجارية وامرأتاه، فقال ابو جعفر عليه السلام: اخطأ ابن شبرمة تحرم عليه الجارية وامرأته التي ارضعتها اولا، فأما الأخيرة فلم تحرم عليه كأنها ارضعت ابن ته.
وقد نوقش في السند فمنهم من توقف عند احد رجال السند وهو صالح بن حماد كالعلامة، والتوقف ليس جرحاً، وقال ابن الغضائري:“صالح بن ابي حماد الرازي ابو الخير ضعيف“، وتردد فيه النجاشي.
وكثير من الرجاليين لا يأخذ بتضعيف ابن الغضائري لكثرة من يضعف من الحسان ثم ان ابن الغضائري نفسه لم يقف كثير من علماء الرجال على شيء من جرح ولا تعديل بخصوصه، ولنعم ما قال المجلسي: “ان الاعتماد على هذا الكتاب أي كتاب ابن الغضائري يوجب رد اكثر اخبار الكتب المشهورة“، ومنهم من لم يعتبر الرواية مرسلة وان المراد من الإمام ابي جعفر هو الإمام محمد الجواد، ولكن الإرسال هو الظاهر وان الحديث صادر عن الإمام الباقر عليه السلام.
فما دام النص موجوداً لا تصل النوبة الى علم الأصول بل بالعكس يمكن استقراء مباحث المشتق من النصوص ويستدل المشهور بهذه الرواية مثلاً بكون المشتق مجازاً فيما انقضى التلبس عن الذات.
ويمكن ان نناقش ما ذهب اليه ابن ادريس في حرمة المرضعة الثانية لأنها ام زوجته وانه ليس من المشتق وفق المعنى الإصطلاحي، ولا تصل النوبة الى مبحث المشتق، بمعنى اذا تزوج امرأة حرمت امها على التأبيد وكفاية صدق عنوان ام الزوجة في آن ما نسباً او رضاعاً، فما ورد ذكره عن المسالك ان ابتناء الحكم فيها على الخلاف في مسألة المشتق، لم يثبت.
نعم ذهب الشيخ في النهاية وابن الجنيد الى عدم حرمة الثانية لأن الصغيرة خرجت من الزوجية الى البنتية، فأم البنت غير محرمة على ابيها، والظاهر ان النوبة لم تصل عند المتقدمين الى مبحث المشتق أي انهم لم يشترطوا بقاء صدق الإشتقاق وحال التلبس في المشتق حقيقة، والقول بحرمة الثانية مبني على عمومات قوله تعالى [وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ] ([51]) ولأن الرضاع له لحمة كلحمة النسب، وان كانت هذه المسألة خارجة بالتخصص بالإضافة الى النص.
ان المباحث الأصولية اللاحقة والمستحدثة يجب ان لا تكون دليلاً ينسب الى المتقدمين اذا لم يثبت انهم استندوا اليها في الإستنباط والحكم، نعم لصاحبها ان يستدل عليها في زمانه او ان يؤيد او يعارض قول المتقدمين او المتأخرين برجوعه الى المباحث الأصولية المستحدثة بشرط ان يبقى المتقدم على حاله من الإستدلال وذكر الفتوى مجردة منه، فقد يلتقي قول المتقدم والمتأخر مع الإختلاف والتباين في الدليل، خصوصاً وان المتقدمين لم يعتمدوا الدليل الأصولي كثيراً.
وهذا بخلاف ما كان مفهومه منتزعا عن مقام الذات والذاتيات، فإنه لا نزاع في كونه حقيقة في خصوص ما إذا كانت الذات باقية بذاتياتها (1)، ثانيها : قد عرفت أنه لا وجه لتخصيص النزاع ببعض المشتقات الجارية على الذوات ، إلا أنه ربما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزمان ، لان الذات فيه وهي الزمان بنفسه ينقضي وينصرم ، فكيف يمكن أن يقع النزاع في أن الوصف الجاري عليه حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال ، أو فيما يعم المتلبس به في المضي.
ويمكن حل الاشكال بأن انحصار مفهوم عام بفرد – كما في المقام – لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام ، وإلا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة ، مع أن الواجب موضوع للمفهوم العام ، مع انحصاره فيه تبارك وتعالى (2).
(1) أي ان النزاع في موضوع المشتق واستعماله في ذات كانت متلبسة بالمبدأ، انما هو بلحاظ الصفات الخارجة عن الذات سواء كانت عرضاً متأصلاً كالبياض والسواد والقراءة والكتابة، او عرضياً وهو الأمور الإعتبارية كالزوجية والملكية والحرية والرقية والغصبية، اما بخصوص الذات والمفهوم المنتزع منها كالإنسانية المنتزعة من الإنسان والقوة المنتزعة من الجيش، والذاتيات وهي الجنس والفصل، والحد العام كالناطقية والحيوانية.
فانه لا نزاع فيها لأن الحقيقة فيها منحصرة بما اذا كانت الذات باقية على ذاتها ببقاء الذات وموضوعها، فعندما تتبدل الصورة، ويتغير الموضوع ولا يجري لإستصحاب إنتفاء الموضوع كما في الممسوخات، والكلب الذي يصبح ملحاً، فلا يبقى موضوع للنجاسة، فهذه العناوين الذاتية لا يجري فيها النزاع، فالذات لم تكن باقية بعد انقضاء المبدأ كي يحصل نزاع هل الوصف حقيقة ام مجازاً بعد ارتفاع المبدأ وانقضاء التلبس.
(2) المعروف ان الزمان وعاء للحوادث، والوقائع والتغير والتلبس تطرأ على الذوات وتلبسها في المبدأ، اما ان يكون الزمان ذاتاً فهذا بعيد لأنه من اركان المشتق باعتباره يمثل الحال أي اوان نسبة التلبس بالمبدأ وزمان التلبس او انقضائه.
فليس للزمان افراد ثلاثة استقبالي وتلبسي وانقضائي على نحو الإستقلال نعم له افراد ثلاث هي الماضي والحال والمستقبل الا ان هذه الأفراد تصلح ان تكون وعاء للذات وللمبدأ، لذا قلنا في بداية البحث ان المشتق في علم الأصول يختلف عن المشتق في اللغة، فالأول قائم بذاته، وينتزع عنوانه من غير حاجة الى استحضار اطراف اخرى، ومراده من القول (بان انحصار مفهوم…) ان افراد الزمان طولية متعاقبة متصلة كما يصدق على بعضها الإنقضاء فان بعضها الآخر يكون حالاً وغيرها لم يأتِ بعد فيوم الجمعة مثلاً وليلة القدر موضوعة لعدة افراد طولية متعاقبة.
ويمكن القول انه قياس مع الفارق فلا جامع بين افراد الزمان المنقضية والحالية الا الزمان كاسم جنس، وان المفهوم العام لم ينحصر بفرد، بل ان المفهوم الكلي ينحل الى عدة مصاديق وافراد، نعم انحصار المفهوم بفرد مخصوص لا يفقده صفته وحقيقته كمفهوم، فالإنحصار لا يعني ان اللفظ وضع للفرد ويعرف هذا بصيغة الإطلاق وارادة المعنى والمفهوم الأعم دون القضية الشخصية، فلو كان انحصار المفهوم الكلي بفرد مشتتاً لكليته لما وقع الخلاف هل المعنى الذي وضع له لفظ الجلالة هو مفهوم واجب الوجود وهو كلي ام فرده وهو الباري عز وجل، واذا كان لفظ الجلالة وضع للذات المقدسة فهو علم، واذا كان لمفهوم الوجوب في مقابل الممكن فهو اسم جنس، اذ ان الإسم ينقسم الى قسمين: اسم الجنس الذي لا يختص بواحد دون آخر من افراد جنسه مثل رجل، حائط، نهر، واسم العلم الذي يدل على فرد معين ولم يوضع لإثنين او اكثر، واسم الجنس ينقسم الى قسمين ايضاً اسم الجنس الجمعي وهو الذي يتضمن معنى الجمع ليدل على الجنس كله مثل: انسان، مسلم، تفاح، واسم الجنس الإفرادي وهو الذي يدل على الجنس مما ليس له فرد لا باضافة تاء ولا ياء النسبة كما في: ماء.
فافراد الزمان خارجة عن نزاع المشتق لأن الزمان لا يتلبس بمبدأ ويبقى، بل ان الزمان نفسه ينعدم.
وبعد ان قال الماتن بعموم مبحث المشتق، وانه لا ينحصر ببعض المشتقات الإسمية استدرك وقال (ربما يشكل) وربما تفيد التكثير او التقليل، والظاهر ان المراد منها في المقام هو التقليل.
واسم الزمان هو نفسه منقض ومنصرم فاذا حصل فعل في زمن مخصوص كمخرج، ومكتب، أي ان ذلك الآن والجزء من الزمان كان مخرجاً او مكتباً، فان الزمان هو الذات التي تلبست بالمبدأ، ولكن هذه الذات ليس لها وجود مستديم حتى بعد انقضاء التلبس بالمبدأ وزوال المبدأ كي يناقش موضوع الخلاف وهل اطلاق العنوان عليه بعد التلبس حقيقة او مجاز، فالذات ليس لها استقرار ولا استدامة خارج أوان الفعل، كما لو قلت مولد فلان الأول من شهر رمضان سنة كذا فاسم الزمان لا يوضع للأعم من حال الحدوث لأن بقاءه ممتنع ولأن الزمن غير قار الذات.
والزمان عنوان جامع لأفراد الليل والنهار وينحل الى أجزاء وآنات صغيرة مما لا يقبل القسمة لقصر مدتها، وينقسم الزمن الى ماضي وحاضر ومستقبل.
قد عرف الزمان بانه:
1- عدد حركات درج الفلك.
2- المدة المتوهمة بين حركة الدرجة الأولى منها وبين حركة ما يتلوها من الدرجة الأخرى.
3- عرفه الفلاسفة بانه عبارة عن مقدار الحركة والمتوسط، ويسمى بالآن السيال.
4- منهم من قال انه موجود قائم بنفسه غير جسم ولا جسماني وهو واجب الوجود لذاته، ولكنه من الممكن وكونه قائماً بنفسه وغير جسم لا يدل على انه واجب الوجود.
وما ذكره الماتن محل اشكال بعيد لأنه قياس مع الفارق لعدم حصول الشبه بين الموضوعين وللتباين بينهما، فالزمان جوهر مستقل غير مفتقر الى محل يتقومه او حركة تفعله بمعنى انه لا مبدأ مستديم يتلبس به تنطبق على ذات المبدأ للأحوال الثلاث من الإستقبال وحال التلبس وانقضائه بل هو وعاء يتلبس به ويعبر عنه بالأزمنة امس واليوم وغداً، او زمان مضى ولو قبل لحظة والآن، والزمان القادم والزمان أمر حادث، وواجب الوجود سبحانه ليس متحيزاً وغير مفتقر الى محل وهو الأزليوالأبدي الدائم، فكل زمان يأتي في المستقبل يكون وجوده مقارناً له، ومما يعتبر في المشتق بقاء الذات مع انقضاء المبدأ كالكاتب والقاضي اذ ان الذات تكون باقية مع انقضاء الكتابة والقضاء، فالزمان تنعدم فيه الذات الذي هو الزمان وهو مبني على التصرم، فكتابة الكفاية مثلاً لا تدخل في النزاع لأن كلاً من الزمان والكتابة قد انقضى وان كان هذا المثل لا يتعلق بالزمان بل بالكتابة الا على القول بان الزمان وضع ليوم متجدد في السنة بحسب الحركة الفلكية.
وقد ذهب بعض الأعلام الى النظر الى الفرد الواحد من الزمان بلحاظين الأول الجزئية، والثاني الكلية، فتارة ينظر لزمان الفعل كالمأكل والمقتل من جهة جزئية وتعني زواله بمجرد حصول انقضاء اوان الفعل، وتارة بلحاظ الجامعة الكلية كمفهوم عام ولكن ليس بعنوان الزمان بافراده الطولية ولكن ذات الزمان المتصف بالفعل وحده، وهو بعيد.
فافراد الزمان لا تصلح ان تكون ذاتاً تتلبس بالمبدأ فهو من الممتنع انما تصلح ان تكون ذاتاً واواناً للتلبس.
وفي الفقرة التالية يخرج الماتن الأفعال من حريم النزاع، فآنات الزمان تخرج منه من باب اولى، ان المشتق بالمعنى الإصطلاحي عبارة عن مفهوم للذات منتزع منها بملاحظة تلبسها بمبدأ الإشتقاق.
ثالثها : إنه من الواضح خروج الافعال والمصادر المزيد فيها عن حريم النزاع ، لكونها غير جارية على الذوات ، ضرورة أن المصادر المزيد فيها كالمجردة ، في الدلالة على ما يتصف به الذوات ويقوم بها – كما لا يخفى – وإن الافعال إنما تدل على قيام المبادي بها قيام صدور أو حلول أو طلب فعلها أو تركها منها ، على اختلافها (1).
(1) لقد اكد الماتن على خروج الأفعال من النزاع، وجاء لفظ الأفعال بصيغة الجمع ليشمل الماضي والحاضر والمستقبل، وخروج المصادر المجردة مثل قتْل وسفر وضرْب، والمزيد فيها كالإحسان، والمصدر هو اسم الحدث الجاري على الفعل،أما اسم المصدر فهو اسم الجنس المنقول عن موضوعه الى افادة الحدث، كالكلام والثواب، فالمصدر بهيئته وضع لنفس ذات حدث، لا بما هو كاسم المصدر او بما هو منتسب كما في الأفعال، فالمصدر يكون بشرط شيء اذ يلاحظ فيه الإنتساب الى الفاعل، واسم المصدر بشرط لا اذ لا انتساب فيه، فلا يصلحان ان يكونا مبدأ للإشتقاق فالمصدر يدل على اضافته الى فاعله مثل: العالم الليالي، اكرام زيد حاتم، فحاتم هو الفاعلسواء علىالقول بان المصدر هو مبدأ الإشتقاق، وبه قال المتقدمون،اوالقول بان الفعل هو اصل الإشتقاق، وعن جماعة من المتأخرين ان مبدأ الاشتقاق اسم المصدر، قال ابن مالك:
المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأمن من أمن
بمثله او فعل او وصف نصب وكونه اصلاً لهذين انتخب
والمشتق لا يختص بالمشتق الإصطلاحي مما له مصدر حقيقي بل يجري في الجوامد التي لها مصادر جعلية كالزوجية والرق وهي من مقولات الإضافة، ومقولات الكم والكيف كالأبيض والأسود وهي من مقولات النسبة والأمور العرضية المتولدة عن قيام احدى المقولات بموضوعاتها.
ويمكن تأسيس قاعدة وهي:(ان الأصل في المخلوقات التركيب الا ان
إزاحة شبهة : قد اشتهر في ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان ، حتى أخذوا الاقتران بها في تعريفه . وهو اشتباه ، ضرورة عدم دلالة الامر ولا النهي عليه ، بل على إنشاء طلب الفعل أو الترك ، غاية الامر نفس الانشاء بهما في الحال ، كما هو الحال في الاخبار بالماضي أو المستقبل أو بغيرهما ، كما لا يخفى ، بل يمكن منع دلالة غيرهما من الافعال على الزمان إلا بالاطلاق والاسناد إلى الزمانيات (1).
يدل دليل على البساطة).
(1)فالزمان وعاء للفعل بحسب حركته وتعاقب آناته لذا قسم الفعل الىالماضي والحال والمستقبل، وجعلوا عنصر الزمان هو الفرق بينه وبين الإسم بالإضافة الى حركته، ويلاحظ في حديث أمير المؤمنين عليه السلام:“الإسم ما انبأ عن المسمى والفعل ما انبأ من حركة المسمى، والحرف ما اوجد معنى في غيره“، ان الإسم غير المسمى وان الزمان لم يذكر في اصل التعريف للفعل ولكنه اعم من نفيه لأن عدم الإيجاد اعم من عدم الوجود ولأن التعريف ورد على نحو الإختصار .
ان ذكر الحركة يدل بالدلالة الإلتزامية على ارادة الزمان فيه، اذ ان الحركة لابد لها من وعاء زماني لاعتبار الزمان في الفعل،واستدل بالتبادر حين الاطلاق على ارادة الزمان
الماضي كما في قولك (جاء زيد)، بالإضافة الى الإطراد وهو شيوع استعمال اللفظ في المصاديق الواجدة لملاك الإستعمال، وان لم يصح الإطلاق فيكون من عدم الإطراد وهو من علامات المجاز كاستعمال لفظ اسد في زيد.
وقالوا ان الأفعال الإنشائية لا تدل على الحال والزمان كما في الأمر والنهي والإستفهام لأنها تدل على البعث على الفعل في الأمر كما في الطلب او البعث على الترك والنهي عنه، كما في الترك، والسؤال، وحتى على القول بان هذه الأفعال لها مادة وهيئة، والمادة هي ذات الماهية وتركيب الحروف،اما الهيئة فهي تدل على ذات الطلب او النهي.
ولكن الأفعال اعم من الإنشائية فتشمل الخبرية وعليها المدار في التقسيم الزماني، فالأقوى ان الأفعال تدل في هيئتها وتركيبها على الزمان من جهة التقسيم الإجمالي، بل حتى الأفعال الإنشائية فانها تدل على الزمان سواء بالإجمال او بلحاظ القرينة، وقول الماتن (والا لزم القول بالمجاز والتجريد) أي لو ان الفعل يدل على الزمان وان الزمان ملحوظ حين وضع اللفظ ازاءه، فانهيعني ارادة المجاز وليس الحقيقة عند الإسناد الى غير الزمانيات مما يتعلق بالزمان موضوعاً واعتباراً، والزمان فيه جزء مدلوله نحو:
الا ليت الشباب يعود يوماً فاخبره بما فعل المشيب
والمراد من المجردات هي الأفعال المستديمة التي لا ينحصر اوانها بزمان مخصوص من الماضي او المضارع او الأمرولكن دلالة الفعل على الزمان لا تعني الحصر به، فما يدل على الزمان اعم من ان يتعلق بموضوع او فرد واحد، فلا حاجة للإنتقال الى المجاز عند الإسناد الى الزمانيات او غيرها لأن افراد الحقيقة متعددة وفي تعريف الفعل انه لفظ دل على معنى في نفسه مقترن باحد الأزمنة الثلاثة“ .
فالزمان قيد للفعل ويدل عليه الفعل بالدلالة الإلتزامية وعلى نحو عرضي.
نعم لا يبعد أن يكون لكل من الماضي والمضارع بحسب المعنى خصوصية أخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة، في الزمان الماضي في الماضي، وفي الحال أو الاستقبال في المضارع، فيما كان الفاعل من الزمانيات، ويؤيده أن المضارع يكون مشتركا معنويا بين الحال والاستقبال، ولا معنى له إلا أن يكون له خصوص معنى صح انطباقه على كل منهما، إلا أنه يدل على مفهوم زمان يعمهما (1).
(1) هذا استدراك من الماتن يلتقي به مع تعريف النحويين للفعل وعلى نحو المطابقة في المعنى تقريباً وان اختلف اللفظ والهيئة، فالفعل يدل على وجود النسبة في خصوص زمان مخصوص، فالخصوصية التي في الفعل تدل علىخصوص زمان معين كالماضي والحاضر والمستقبل، فلا يصح استعمال احدها مكان الآخر من غير ان يتغير المعنى والدلالة، فلا يقال: زيد صام غداً، او انه يحج في العام الماضي فهيئة الفعل تدل على معنى مخصوص وارادة فرد من افراد الزمان الثلاثة، فهيئة الماضي هي الحكاية عن تحقق النسبة التلبسية، اما هيئة المضارع فهي الأخبار عن حصول النسبة التلبسية في الحال او الإستقبال.
ويؤيده ان المضارع يكون مشتركاً معنوياً بين الحال والإستقبال ولا معنى له الا ان يكون له خصوص معنى صح انطباقه على كل منهما، لا انه يدل على مفهوم زمان يعمره، كما ان الجملة الإسمية كزيد ضارب يكون لها معنى صح انطباقه على كل واحد من الأزمنة مع دلالتها على واحد منها اصلاً فكانت الجملة الفعلية مثلها.
واظهر الماتن الإقرار ضمناً بدلالة الفعل على الزمن بلحاظ خصوصية فيه زائدة على الحدث تتعلق بالوعاء الزماني للفعل، فالماضي يدل على انقضاء زمان الحدوث، والمضارع اخبار عن آنية الحدوث وانه حاصل في الحال، والمستقبل يفيد الترقب والتطلع اذ ان مفردات الكلام وضعت للبيان وافادة المعنى بين المتكلم والمخاطب ومما يؤيد وجود خصوصية اخرى في دلالة الفعل على الزمان، وهذه الخصوصية من حيثيات الفعل وهيئته بحيث ينطبق على كل من الحاضر والمستقبل لا من قبيل المفهوم المستوعب لهما.
وإستدل الماتن بالجملة الإسمية كـ(زيد ضارب) الذي يصح انطباقه على الأزمنة الثلاثة، ولكن هناك فارق بينهما يرجع الى الفرق بين الإسم الذي هو انباء عن المسمى وهيئته، وبين الفعل الذي يعني الحدوث في زمان معين يكون قهراً احد الأزمنة الثلاثة فكأن الجملة الإسمية من قبيل اللابشرط، اما الفعل فانه من قبيل بشرط شيء.
ثم اتجه الماتن الى تأييد قوله بان الفعل لا يتضمن الدلالة على الزمان الا بالدلالة الإلتزامية واستدل بان الزمن الماضي لا ينحصر استعماله حقيقة في الزمن الماضي بل قد يستعمل في المستقبل حقيقة وليس مجازاً، والعكس بالنسبة للمضارع فقد يستعمل حقيقة في الماضي وانما يعرف زمان كل منهما بالإضافة والقرينة، ثم ذكر الماتن مثلاً يجيئني زيد بعد عام، وقد ضرب قبله بايام) أي ان الفعل ضرب جاء بصيغة الماضي مع انه لم يحصل بعد، والمثل الآخر، لإفادة الفعل المضارع الماضي بالنسبة لحال النطق: “جاء زيد في شهر كذا، وهو يضرب في ذلك الوقت او فيما بعده“، ومراده انه جاء في شهر منصرم وكان يضرب عند مجيئه فاستعمل الفعل (يضرب) لإرادة الزمن الماضي مع انه مضارع.
ولكن هذا الإستعمال خلاف الأصل، ويدل على استعمال الفعل في غير ما وضع له من زمن الحدوث تجوزاً وليس حقيقة، وهو الأمر الذي يعرف بالقرينة، كما انه يمكن استعمال الفعل الماضي بدل المضارع في الجملة اعلاه، والمضارع بدل الماضي فيصح المعنى بقولك يجيئني زيد بعد عام، وسيضرب قبله بايام.
وتقول: جاء زيد شهر كذا، وقد ضرب في ذلك الوقت او فيما بعده.
اما لو لم تكن قرينة او اضافة تدل على استعمال الفعل في غير ما وضع
ثم لا باس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عما عداه ، بما يناسب المقام ، لاجل الاطراد في الاستطراد في تمام الاقسام . فاعلم أنه وإن اشتهر بين الاعلام ، أن الحرف ما دل على معنى في غيره ، وقد بيناه في الفوائد بما لا مزيد عليه ، إلا أنك عرفت فيما تقدم ، عدم الفرق بينه وبين الاسم بحسب المعنى ، وأنه فيهما ما لم يلحظ فيه الاستقلال بالمفهومية ، ولا عدم الاستقلال بها ، وإنما الفرق هو أنه وضع ليستعمل وأريد منه معناه حالة لغيره وبما هو في الغير ، ووضع غيره ليستعمل وأريد منه معناه بما هو هو . وعليه يكون كل من الاستقلال بالمفهومية ، وعدم الاستقلال بها ، إنما اعتبر في جانب الاستعمال ، لا في المستعمل فيه ، ليكون بينهما تفاوت بحسب المعنى ، فلفظ ( الابتداء ) لو استعمل في المعنى الآلي ، ولفظة ( من ) في المعنى الاستقلالي ، لما كان مجازا واستعمالا له في غير ما وضع له ، وإن كان بغير ما وضع له ، فالمعنى في كليهما في نفسه كلي طبيعي يصدق على كثيرين ، ومقيدا باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي ( 2 ) عقلي ، وإن كان بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهنا كان جزئيا ذهنيا ، فإن الشئ ما لم يتشخص لم يوجد ، وإن كان بالوجود الذهني ، فافهم وتأمل فيما وقع في المقام من الاعلام ، من الخلط والاشتباه (1).
له، فيكون الأصل استعماله في زمانه المتعارف له للإطلاق، والتبادر والإطراد وهما من علامات الحقيقة ولا ينطبقان على استعمال الفعل لغير زمان حدوثه بالقرينة المعينة وتعدد الدال والدلول.
(1) تعرض الماتن الى الحرف كقسم من اقسام الكلام بما يخص مبحث المشتق من اجل متابعة التعرض لجميع اقسام الكلام اطراداً في النظر اليها بخصوص ما يتعلق بها في المقام، وفي كلام الماتن نوع اعتذار وتفسير لإعادة بحث الحرف بعد ان ذكره في باب الوضع ولكنه هنا لبيان الفرق بين الإسم والفعل من جهة والحرف من جهة اخرى، ليأتي الإطراد واستيعاب الكلام لجميع اقسام الكلام، والمعروف وجود فرق بين الإسم والفعل من جهة وبين الحرفز
فالحرف لا يدل على معنى الا في غيره، وقيل (ان وجوده آلياً ومرآة لحال الغير) ولكن هذا التعريف لا ينطبق على الحرف، ولا يصلح تفسيراً للتعريف المتقدم، فهو ليس مرآة لغيره نعم معناه لا يتضح الا بالإضافة الى غيره كالإسم المجرور , وقد ورد في الحديث ما يدل على موضوعية الحرف, منه قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكل حرف عشر حسنات.
ولكن الماتن نفى وجود فرق بين الإسم والحرف في المعنى كماتقدم، وقال ان الفرق بينهما بحسب اللفظ , وانكر القول باستقلال الإسم بالمعنى وافادته للمفهوم، وعدم استقلال الحرف بافادة المعنى، فالفرق ان الحرف وضع للإستعمال كغيره ولكن المراد منه الدلالة الناقصة التي لا تتم الا بغيره، والهاء في قول الماتن (وضع لغيره) أي لهيئة الإسم والفعل، فوضع اللفظ فيهما ليستعمل في المعنى على نحو الإستقلال، فحرف الجر (الباء) يحتاج في معناه الى غيره، اما الإسم والفعل فان كلاً منهما يفيد المعنى لذاته وعلى نحو الإستقلال.
ثم اقر الماتن بوجود هذا الفرق بينهما , ولكنه منحصر في جانب الإستعمال وشرط الواضع، لا في المستعمل فيه الذي يعتبر هو المعنى مما يعني عدم التفاوت بينهما في المعنى، ولكن هذا الفارق في الوجود الذهني والدقة العقلية لا يصح اعتباره سبباً لتخطئة الأعلام وما تعارف عليه قديماً وحديثاً بان الحرف ما دل على معنى في غيره .
فالتحليل العقلي لا ينافي البساطة فالإنسان مثلاً بسيط وان كان التحليل العقلي يحلله الى جنس وفصل، وعلم الأبدان يجزئه الى أعضاء واركان وحواس، وحصول معنى الحرف في غيره لا يعني ان وجوده الذهني موجود في غيره، كما في وجود العرض، فله استقلاليته في المادة والهيئة وله موضوعية في الكلام بحيث لا يستطيع الإستغناء عنه بذاته لذا اعتبر قسماً من اقسام الكلام وما ذكروه للإستدلال على وحدة المعنى بينه وبين الإسم ليس بتام ويدل على وجود فارق لغوي في المعنى بينهما من وجهين:
الأول: التباين في موضوع الجملة، فسرت من البصرة يكون محلها ابتداء سيري البصرة، او سرت ابتداء البصرة، فجاء استعمال ابتداء وهو اسم بدل الحرف الذي يفيد الربط.
فالجملة الإسمية ابتداء سيري البصرة، موضوعها الإبتداء، أي ابتداء السير وباضافة وقرينة علمنا ان المقصود من فرد الإبتداء هذا هو ابتدائي أنا دون غيري بالسير والمشي وجود كلمة (سيري) المتكونة من كلمتين ايضاً، فالإبتداء لا تعرف ماهيته الا بكلمة السير.
الثاني: الإختلاف في المعنى، قال الماتن قبل اسطر (ان الجملة الإسمية كزيد ضارب، يكون لها معنى صح انطباقه على كل واحد من الأزمنة) وكأنها من باب لا بشرط، اما بالنسبة للجملة التي فيها الحرف فهي بشرط شيء وتفيد زمناً مخصوصاً، فهناك فرق بين (سرت من البصرة) وبين: اسير من البصرة، او سوف اسير من البصرة بلحاظ الزمان، ولكن ابتداء سيري من البصرة يستوعب الأزمان الثلاثة، كما ان قولك سرت من البصرة يتعلق بفرد واحد من السير، اما ابتداء سيري فهو مفهوم كلي وان انطبق على فرد واحد، وقد يفيد معنى مغايراً فابتداء سيري ظاهره نفي السير قبله، اما سرت ففيه اخبار عن حال معينة من السير دون غيرها.
رابعها: إن اختلاف المشتقات في المبادئ، وكون المبدأ في بعضها حرفة وصناعة، وفي بعضها قوة وملكة، وفي بعضها فعليا، لا يوجب اختلافا في دلالتها بحسب الهيئة أصلا، ولا تفاوتا في الجهة المبحوث عنها، كما لا يخفى، غاية الامر إنه يختلف التلبس به في المضي أو الحال، فيكون التلبس به فعلا، لو أخذ حرفة أو ملكة، ولو لم يتلبس به إلى الحال، أو انقضى عنه، ويكون مما مضى أو يأتي لو أخذ فعلياً، فلا يتفاوت فيها أنحاء التلبسات وأنواع التعلقات ، كما أشرنا إليه (1).
(1) هذا هو الأمر الرابع من الأمور الستة التي اراد الماتن تقديمها قبل الخوض في مسألة المشتق وانه حقيقة في خصوص استعماله للذات المتلبسة بالمبدأ ام انه اعم، ويكون موضوعاً للجامع بين الذات المتلبسة بالمبدأ وبين ما انقضى عنها التلبس.
والظاهر ان هذا الأمر اشارة للتفصيل في المبادئ بخصوص المقام، فلا يقال ان بعضها يكون حقيقة في الأعم اتفاقاً وبحكم المبدأ الذي يكون التلبس فيه على نحو الإستدامة، ومنالمبادئ ما يكون بعضها حرفة كالبقال والخباز وبائع الحبوب او صناعة كالسائق والخياط والميكانيك، وفي بعضها قوة كالكاتب بالقوة والتعلم والمحاسب، ومن يزاول التعلم وينال المبدأ بالإكتساب.
ومنها ما هو فعلي بالذات كالحيوان لما فيه من الحياة.
وهذا الإختلاف لا يسبب التباين في دلالتها ولا موضوعية له في الإختلاف الناشيء بين الأصوليين في مرحلة انقضاء تلبس الذات بالمبدأ، نعم يكون الإختلاف جزئياً بخصوص الواقع الفعلي وحال التلبس، ومراده بالحال حال النسبة والجري، فنطلق عليه انه مجتهد مع انه كان نائماً وحينما نقول ان زيداً نجار لا يعني هذا انه ساعة النطق كان يزاول النجارة، بل يكفي انه بالقوة سيكون نجاراً ولم يتلبس بها، لذا فان اطلاقه هنا مجازونقول هذا مهندس مع انه ليس متلبساً بعمله حال النطق او انقضى عنه
خامسها : إن المراد بالحال في عنوان المسألة ، هو حال التلبسلا حال النطق ضرورة أن مثل ( كان زيد ضاربا أمس ) أو ( سيكون غدا ضاربا ) حقيقة إذا كان متلبسا بالضرب في الامس ، في المثال الاول ، ومتلبسا به في الغد في الثاني ، فجري المشتق حيث كان بلحاط حال التلبس ، وإن مضى زمانه في أحدهما ، ولم يأت بعد في آخر ، كان حقيقة بلا خلاف ، ولا ينافيه الاتفاق على أن مثل ( زيد ضارب غدا ) مجاز ، فإن الظاهر أنه فيما إذا كان الجري في الحال ، كما هو قضية الاطلاق ، والغد إنما يكون لبيان زمان التلبس ، فيكون الجري والاتصاف في الحال ، والتلبس في الاستقبال . ومن هنا ظهر الحال في مثل ( زيد ضارب أمس ) وأنه داخل في محل الخلاف والاشكال (1).
العمل به وان كان متلبساً به فعلاً، فسواء كان المراد من المبدأ فعليته او صنعته او حرفته فان الدلالة واحدة في مبحث المشتق.
فاختلاف المشتقات من جهة المبادئ او وجوه التلبس لا يوجب تفاوتاً في الجهة المبحوث عنها في مبحث المشتق.
(1) في قول الماتن بيان وتعريف للحال لمنع اللبس في أوان التلبس، فهناك فرق بين اعتبار حال التلبس وحال النطق، فالأول خاص معين يدل على اوان الفعل، والثاني عام وغيرمعين، أي ان الأول يخص وقتاً محدداً، والثاني قد يكون نكرة غير منحصر بوقت محدد، وحتى لو كان أوان النطق معيناً، فانه قد يكون سابقاً للأول او مقترناً او متأخراً عنه، وفي علم الأصول يعرف المشتق بانه كل لفظ اطلق على الذات حال اتصافها بمبدأ من المبادئ سواء كان اتصاف الذات بتلك الصفة باعتبار حلول الصفة فيها كما في زيد عادل او صدورها منها مثل الرجل كريم او انتزاعها عنها كما في (فلان متزوج) كما يعرف مثلاً بانه حقيقة في المتلبس بالمبدأ في الحال.
واقسام الحال اربعة:
1- حال النطق أي الزمان الذي ينطق فيه الإنسان للإخبار عن اتصاف الذات بالمبدأ.
2- حال التلبس أي اوان تلبس الذات بالمبدأ، فالمراد من (زيد صائم) أي انه متلبس في ذلك الوقت بالصيام.
3- حال الجري وهو النسبة الإيقاعية واستصحاب تلبس الذات بالمبدأ في الزمان الواقع بين حال التلبس وحال النطق، فاذا قلت (زيد كاتب) وانما كان كاتباً قبل يومين، فاليوم المتوسط وهو يوم امس هو الجري.
4- حالالنسبة: أي نسبة تلبس الذات بالمبدأ قبل او اثناء او بعد انقضاء التلبس، ولابد ان يكون موضوع المشتق خاصاً بالتلبس وزمانه لإفادته المعنى والبيان لدى المتكلم والسامع وللإنصراف والتبادر.
ونشكل على الماتن ان قيد امس في “كان زيد ضارباً امس” يخرجه عن حريم النزاع في المقام لأن لفظ امس قرينة على تعلق الكلام والموضوع بتلبس مضى وانصرم مفهومه، وان الخلاف بين الأصوليين فيما اذا قلنا “زيد ضارب” ولم نقيده بيوم امس، وان كنا نعلم انه حال النطق لم يكن ضارباً، والفرق بينهما ان الجملة الأولى التي ذكرها الماتن (كان زيد ضارباً امس) فيها اخبار عن تلبس الذات بالمبدأ يوم امس، فهي لم تخبر عن زمان النطق واتصاله بحال النسبة بل فصلت بينهما، واخبرت عن حال النسبة في زمان غير زمان النطق، فحينما تقول (زيد طالب) في وقت قد انهى دراسته ولم يعد طالباً، وقع الخلاف بين الإعلام هل هو حقيقة ام مجازاً.
لأننا وصفناه بوصف قد انقضى عنه،وكون زيدضارباً حقيقة يوم امس اجنبي عن مبحث المشتق الذي يعتبر فيه حال النسبة، وفي هذا المثال تتعلق حال النسبة أي نسبة الضرب الى زيد بيوم امس وليس اليوم، نعم لو كان ضارباً قبل يومين، وقلنا انه ضارب يوم امس لدخل الأمر في باب المشتق بالمعنى الإصطلاحي، وهل يطلق عليه عنوان الضرب يوم امس من باب الحقيقة ام المجاز لتردد الضرب بين أمس الذي سبق هذا اليوم مباشرة، أم المراد الزمن السابق لليوم سواء كان قبل يوم أو شهر او سنة، وحتى هذا الأمر عالجته اللغة فاذا اريد اليوم السابق لليوم الذي أنت فيه قبل التنوين واذا اريد غيره منع من الصرف.
ولا اشكال في صحة كلام الماتن من اطلاق الضرب على الأول حقيقة وفي الثاني مجازاً، لأنه في الأول جملة خبرية وفي الثاني تكون اقرب الى الجملة الإنشائية، والحق ان هذين المثالين خارجان من مفهوم المشتق وفق الاصطلاح الاصولي لعدم جريان الاحوال الثلاث على كل منهما للقيد الزماني الوارد في المثالين وهما (أمس) و(غداً)، الا ان الأمر سهل بالنسبة للمقام خصوصاً وانه جاء على نحو المثال، ولكنه لا يدل على المدعى ولا يثبت ان المراد هو حال التلبس في الرد على من قال ان المراد بالحال حال النطق.
ثم ان قوله (ضارباً امس) ينفي وجود حالات ثلاث للتلبس خصوصاً ما وقع فيه النزاع من انقضاء حال تلبس الذات بالمبدأ وهو الضرب فيخرج عن محل النزاع بهذا الحصر.
ويعود الماتن الى الإقرار بموضوعية حال النطق من غير التصريح به بقوله “وانما الخلاف في كونه حقيقة في خصوصه او فيما اذا جرى عليها في الحال بعد ما انقضى عنها التلبس، وهذا الكلام لا يتعلق بالمثالين لإنعدام الأخبار عن حال النطق، واذا كان ظاهراً بالقرينة والقيد الزماني الذي يفيد حصر الحقيقة وتعيينها واخراج الأزمنة الاخرى بالتخصص فتكون جرياً وانطباقاً من المجاز.
وقد ذهب المشهور الى اعتبار حال التلبس , والأقوى هو اعتبار حال التلبس مع موضوعية حال النطق، وحال التلبس يدل عليه مفهوم التعريف تارة واخرى يكون ظاهراً اما بالنسبة لحال النطق فيدل عليه المفهوم، وقد يتداخلان معاً فحينما تقول (زيد مسافر) لعدم ظهور موضوعية للزمان في الجملة الإسمية، فالمراد حال التلبس وحال النطق الا ان تدل قرينة على
سادسها: إنه لا أصل في نفس هذه المسألة يعول عليه عند الشك، وأصالة عدم ملاحظة الخصوصية، مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم، لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له(1).
الإنصراف عن احدهما.
فالمراد من حال التلبس بالمبدأ هو فعلية اتصاف الذات بالمبدأ، وقيام المبدأ بها.
وجعل الماتن (امس) قيداً للموضوع وحال التلبس وادخل الزمان في مفهوم الإسم ومدلوله بحيث فصل بين حال النطق وحال التلبس، الا انه لا يصلح قاعدة كلية في بحث المشتق.
(1) لقد نفى الماتن وجود اصل لفظي او عملي يمكن الرجوع اليه عند الشك في عموم المشتق او خصوصه، ولا نحتاج الأصل الا في القسم الثالث من اقسام المشتق وهو انقضاء تلبس الذات بالمبدأ، للإجماع على انه مجاز فيما لو لم تتلبس الذات بالمبدأ، وحقيقة حال تلبس الذات من المبدأ.
والأقوى ان مسألة الأصل سيالة في الأصول اللفظية والأصولية، وقد لا يكون التعارض المدعى تاماً لوجود اسباب الترجيح بينها او ما هو اكثر من اسباب الترجيح لأن مثبتات الأصول اللفظية حجة.
ان اجراء اصالة عدم ملاحظة الخصوصية يعني ان الوضع للمعنى الأعم، وهو معارض مع اصالة عدم ملاحظة العموم كما قال الماتن ولكن التدقيق قد لا يثبت هذا التعارض بين القاعدتين.
فقد يكون بين الإصالتين عموم وخصوص مطلق، نعم يمكن ان يقال ان اصالة عدم ملاحظة الخصوصية معارضة مع اصالة ملاحظة الخصوصية باعتبار ان الخاص هو القدر المتيقن والمراد من الكلام على خلاف العام مع وجود القرينة ومقدمات الحكمة والا فقد لا تصل النوبة الى هاتين الاصالتين اثباتاً وثبوتاً، لاصالة الاطلاق واصالة عدم ملاحظة الخصوصية متفرعة عنها.
وهل تعتمد اصالة الحقيقة خصوصاً وان الموضوع يدور بين المجاز والحقيقة الجواب ان الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له وتنقسم الى لغوية وشرعية وعرفية.
والحقيقة اللغوية ما كان وضع اللفظ بيد واضع اللغة كالإنسان والماء، والشرعية اللفظ الذي وضعه الشارع وثبت من قبله، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، والأصل اللفظي هو الحكم الظاهري الذي يعمل به في باب الإلفاظ ويسمى اصلاً لفظياً عقلائياً، وسمي اصلاً لأنه مجعول في حق الشارع، وهو لفظي لأن مجراه باب الألفاظ، وعقلائياُ لأن مدركه بناء العقلاء ومنه اصالة الحقيقة، واصالة الظهور، واصالة عدم الإشتراك، واصالة عدم النقل.
فالعقلاء اذا شكوا ان هذا اللفظ المعين وضع لموضوع خاص ام لا، فانهم يبنون على عدم وضعه للخاص، ولكن لو علموا انه موضوع لمعنى، وشكوا هل وضع لمعنى آخر ايضاً سواء على نحو الإستقلال ام الإشتراك بنوا على العدم ويعبر عنه باصالة عدم الإشتراك، واذا شكوا هل اضمر الماتن في كلامه شيئاً وحذف متعلقاً، او مضافاً يبنون على العدم لإصالة عدم الإضمار، واذا شكوا هل جاء الكلام لقصد الظاهر ام انه اراد التعريض والإساءة والتلميح لموضوع آخر يبنون على اصالة الظاهر.
واذا شك العقلاء هل بنى المتكلم على العموم ام اراد المعنى الأخص بنوا على العموم ويعبر عنه باصالة العموم.
ولا ملازمة بين اصالة العموم واصالة الحقيقة فالأولى الشك في ارادة ومجازية العام والمطلق، واصالة الحقيقة هي الشك في مجازية اللفظ، وذهب جمع الى القول بان المتكلم بالعام يريد ترتيب حكم عام وقاعدة كلية.
فلا يمكن ان يكون عندنا اصالتان متعارضتان في مورد واحد وبلحاظ حيثية واحدة بمعنى ان يقال باصالة العموم من جهة، واصالة عدم العموم من جهة اخرى، فالمعروف هو اصالة العموم واصالة الإطلاق، خصوصاً
فإذا عرفت ما تلونا عليك ، فاعلم أن الاقوال في المسألة وإن كثرت ، إلا أنها حدثت بين المتأخرين ، بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدمين ، لاجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مباديه في المعنى ، أو بتفاوت ما يعتريه من الاحوال ، وقد مرت الاشارة إلى أنه لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده ، ويأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار ، وهو اعتبار التلبس في الحال ، وفاقا لمتأخري الاصحاب والاشاعرة ، وخلافا لمتقدميهم والمعتزلة (1).
وان ارادة العموم ترد عند الشك في الوضع وليس في الإستعمال، وبعد العلم بكيفية الإستعمال، وقيل ان مجرى اصالة العدم العقلائية بعد العلم بالوضع.
وقد يقال ان اصالة عدم ملاحظة العموم اخص من اصالة العموم لقيد الملاحظة ولكنه يحتاج الى بيان، وهل تتعلق الملاحظة بالوضع ام بالإستعمال ام المستعمل فيه، والظاهر انها تتعلق بالوضع فهو يتعلق بالعموم واجماله، والملاحظة فرد منه.
(1) لقد كان الخلاف في مسألة المشتق بين المتقدمين ينحصر في قولين:
الأول: وضعه لخصوص المتلبس مطلقاً في كل المقادير.
الثاني: وضعه للأعم، وقد نسب الى اكثر الأشاعرة المجاز مطلقاً، والى مشهور الامامية والمعتزلة الحقيقة مطلقاً، ثم نشأت اقوال تفصيلية بين المتأخرين منها:
1- التفصيل بين اسم الفاعل واسم المفعول.
2- التفصيل بين ما اذا كان المبدأ من الملكات والصناعات او غيرهما، فالضارب مثلاً ينحصر بالتلبس، اما العالم والسائق والنجار ونحوه فيتصل لأن العلم والصنعة ملكة، ويزول الضرب من الشخص ولكن ملكة الإستنباط راسخة عنده لإجتماع شرائطها وتحصيلها.
3- التفصيل بين المتعدي كضارب، وغيره كعالم.
ويدل عليه تبادر خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال (1).
4- التفصيل بين ما اذا طرء ضد وجودي، وغيره فحينما يكون انسان يسكن مدينة، ويتحول الى مدينة اخرى او انسان تعلم لغة اخرى فمرة ينسى لغته
الأصلية ومرة يحافظ عليها مع اللغة الجديدة.
5- ما يمكن التفصيل بين الجوامد والمشتقات، فالأولى عناوين للذاتيات كالحجر، والثانية عناوين للعرضيات كضارب.
وربما كان التوهم للتفاوت بما يعتريه من الأحوال والا فان الموضوع هو دلالة هيئة المشتق على خصوص المتلبس او الأعم، ولقد اختار الماتن اعتبار التلبس بالمبدأ في الحال حقيقة دون استعماله في المنقضي فهو مجاز وبه قال متأخروا الأصحاب واكثر الأشاعرة.
واستدل الماتن بتبادر خصوص التلبس بالمبدأ في الحال ثم جمع بين ما انقضى عنه وجعله بعرض واحد كالمتلبس به في الإستقبال من جهة المجاز ولكنهما ليسا بعرض واحد خصوصاً مع اختلاف المبادئ وانحاء التعلق، فالبحث يجب ان يتعلق بالفرد المشكوك فيه وهو ما انقضى فيه تلبس الذات بالمبدأ، لذا قال الماتن وصحة السلب مطلقاً عما انقضى عنه كالمتلبس به في الإستقبال أي هل يخرج التبادر هذا الفرد بالتخصيص او التخصص والتبادر في الإصطلاح هو انسباق المعنى الى الذهن من اللفظ عند سماعه.
(1) بينما يتعرض الماتن الى الأقوال في المسألة واشكاله على تعددها عند المتأخرين بلحاظ التفاوت في المبادئ او الأحوال اتجه الى ذكر وجوه الإستدلال على ما اختاره، وهو اعتبار التلبس في الحال، واستدل بالتبادر، وسيأتي قول الماتن بان القائل بعدم الإشتراط بالتلبس بالحال يستدل ايضاً بالتبادر.
ومن الأصوليين من لم يستدل بالتبادر مع ان اختياره نفس اختيار الماتن، والتبادر يتوقف على العلم الإجمالي الإرتكازي للعلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى، وانسباق الذهن الى معنى بلحاظ مادة اللفظ ذاته، وليس باعتبار القرينة الحالية او المقالية، لذا قالوا ان التبادر علامة الحقيقة، ولا يمنع من انطباقه على مبحث المشتق، ولكن التبادر هنا لا يتعلق باصل الوضع والعلم به، بل بتخصيص فرد معين من افراد ثلاثة او تساويها او اثنين منها بعرض واحد.
فصحيح ان التبادر فرع العلم الإجمالي الإرتكازي ولكن العلم التفصيلي يتوقف على التبادر، فمعرفة فرد الحقيقة في المشتق يتوقف على التبادر، وما استدل به الماتن هو الصحيح، والظاهر ان استعمال التبادر هنا على نحو الإستعمال المجازي لمفهومه.
ويقول الماتن ببساطة مفهوم المشتق الأمر الذي يتفرع عنه جرياً وانطباقاً القول بوضعه لخصوص المتلبس دون ما اذا انقضى عنه التلبس، لأن القول بالأعم يستلزم وجود جامع بين حال التلبس بالمبدأ، وزمان انقضائه، ليكون اللفظ موضوعاً للجامع، وللتباين بين الوجود والعدم، ووجود العرض المحمول حال التلبس وانعدامه عند الإنقضاء او انعدام المبدأ ذاته فان المعنى يكون متبايناً تباين الملكة وعدمها، والوجوه المحتملة خمسة:
1- ان المشتق موضوع لخصوص التلبس بالحال.
2- انه موضوع للأعم بالإشتراك المعنوي.
3- للأعم بالإشتراك اللفظي.
4- للتلبس المستقبلي دون غيره.
5- لما انقضى عنه التلبس على نحو الحصر.
والقسم الرابع والخامس يخرجان بالتخصيص.
والمشترك اللفظي هو الذي وضع لمعنيين او اكثر بحيث يكون كل معنى مغاير للآخر فهو متحد اللفظ ومتعدد المعنى كما تقدم بيانه، والمشهور هو امكان وقوع المشترك الفظي وقال الماتن بوجوبه، وذهب جماعة الى امتناعه في اللغة والمختار امكانه ووقوعه.
اما الإشتراك المعنوي فهو اللفظ الذي وضع لمفهوم كلي ويستعمل في مصاديق بلحاظ اشتراكها في صدق المفهوم الجامع، ولابد للمشترك بقسميه من جامع، وليس من جامع بين المتلبس بالحال والذي انقضى عنه التلبس بالمسمى والذات والأجزاء، وقالوا: “ولا يمكن ان يكون هناك جامع بين التلبس والإنقضاء الا من ناحية الزمان”، والأقوى ان الزمان نفسه ليس بجامع بلحاظ انقسامه الى آنات انشطارية متعددة.
والقائل بامتناع المشترك اللفظي في اللغة العربية او غيرها فمدركه انه خلاف البيان والغرض من وضع الألفاظ ازاء المعاني، فالغرض هو ايصال المعنى واضحاً الى السامع بحيث يفهم المراد من اللفظ وهو لا يتم بالمشترك لأنه يدل على عدة معاني بعرض واحد فيحصل معه اللبس وهو خلف.
واعتماد نظرية التعهد والإلتزام النفساني في الوضع بمعنى ان اللفظ وضع لمعنى معين على نحو التعهد وان ارادة معنى آخر يعتبر ناقضاً لعهده، لا تعني الحصر بمعنى واحد على القول بالاشتراك.
وهناك فروق بين الإشتراك اللفظي والمعنوي:
الأول: ان الإشتراك اللفظي يوضع لمعنى شخصي، وفرد معين او مفهوم كلي، اما المشترك المعنوي فيوضع لمفهوم ومعنى كلي له مصاديق متعددة.
الثاني: ان الإشتراك المعنوي وضع على نحو متحد، وفي مقابل معنى كلي، بينما وضع المشترك اللفظي لأفراد متعددة متباينة وعلى نحو الإستقلال لكل منها.
الثالث: ان انطباق المشترك المعنوي على معانيه المتعددة والمتشخصة في الخارج على نحو الإستقلال لكل منها هو اشتراكها في المفهوم الكلي الذي وضع له اللفظ، اما المشترك اللفظي فالظاهر وضعه لكل فرد منها بوضع خاص لا يرتبط بالمعنى الآخر.
وصحة السلب مطلقا عما انقضى عنه، كالمتلبس به في الاستقبال، وذلك لوضوح أن مثل : القائم والضارب والعالم، وما يرادفها من سائر اللغات، لا يصدق على من لم يكن متلبسا بالمبادئ ، وإن كان متلبسا بها قبل الجري والانتساب ، ويصح سلبها عنه (1).
الرابع: ان الإتحاد في المشترك المعنوي في حيثية مخصوصة جامعة لأفراده، تجدها في كل معنى من المعاني المتعددة له، اما في المشترك اللفظي فان الإتحاد يقع في اللفظ ولا جامع مشترك بين المعاني التي وضع لها، نعم قد تكون هناك حيثية او وجه شبه بينها.
الخامس: هناك نسبة تحليلية بين معاني المشترك المعنوي، فصحيح ان لكل فرد من افراده وجوداً مستقلاً ولكن بينها نوع ارتباط يتبادر الى الذهن الرابط بينها ويسمى مفهوم النسبة، فحينما نطلق لفظ الطير فانه عنوان للطيران والإرتفاع في الجو، فهناك مفهوم كلي يتبادر الى الذهن.
(1) هناك اصطلاحان احدهما صحة السلب، والآخر عدم صحة السلب، فالأول يعني السلخ الذهني لمعنى كلي عن فرد مخصوص،فلفظ العالم يتبادر منه الى الذهن تحصيل العلم والإرتقاء وبلوغ المراتب العالية في العلم، فاذا سمع انسان بمن يدرس مقدمات العلم ومبادئه فيرى صحة سلب مفهوم العالم المرتكز في تصوره ولا يصدق حمل لفظ العالم عليه فتكون هذه علامة كون طالب العلم معنى مبايناً للعالم ولو على نحو الموجبة الجزئية وعدم كونه مصداقاً حقيقياً ويكون استعماله فيه مجازياً وليس حقيقيا.
اما الآخر وهو عدم صحة السلب فيعني انطباق المصداق الخارجي على المعنى الذي وضع له اللفظ على نحو مطابق للإرتكاز والوجود الذهني وان كان هذا الوجود اعم من الوضع فيشمل المنقول وان اعتبروه حجة في الوضع، فاذا رأينا شجرة الرمان فانه يصدق عليها انطباق لفظ الشجر وصحة حمله عليها، ولا يمكن ان نسلب عنها لفظ الشجر، وعدم السلب هذا علامة الحقيقة وليس المجاز، والحمل على قسمين:
الأول: الحمل الأولي وهو الذي يتحد فيه المحمول مع الموضوع من جهة المفهوم، ويكون المحمول مقوماً للموضوع وحداً له، سواء كان حداً تاماً أي ان المتصور مجموع الأجزاء وهو الجنس القريب مع الفصل القريب، او حداً ناقصاً أي ان المتصور بعض اجزاء الشيء المساوي كتعريف الإنسان بالناطق، وحد الشيء معناه الذي ينطبق عليه الوصف ويمنع غيره من التداخل معه.
فالحمل الأولي يبين ماهية وحقيقة الشيء كالعالم فيما عنده من العلوم، اما قيامه بالإفتاء والإستتنباط والإستنتاج فهو ليس حملاً اولياً.
والثاني:الحمل الشائع الصناعي الذي يعني النظر الى الموضوع بلحاظ ما يلحقه من الآثار والأحكام واطلاق صفة الشائع عليه لإعتبار شيوعه بين الناس، ونعته بالصناعي لغلبة تداوله في العلوم التي تسمى الصناعات.
والحمل الشائع يأتي بعد مرحلة الأولي وبعد تصوره وتشخصه أي ان الأولى سمي بذلك لأنه الأصل والإبتداء في التصور والظهور فالإنسان حيوان ناطق بالحمل الأولي، وهو ضاحك او ماشِ بالحمل الشائع الصناعي، فكونه ضاحكاً لا يصح الا بعداعتبار وجوده وتشخصه، كما ان الضحك ليس جزء من ماهيته بل هو عرض لا تتقوم الإنسانية به، وكذا بالنسبة للعالم فان علمه لا يتقوم بالإفتاء وصرف الذات، فهل يمكن ان يكون للمشتق معنيان احدهما بالحمل الأولي والآخر بالحمل الشائع الصناعي سواء قلنا بان معناه بسيط او مركب كما هو ظاهر كلامهم في ادخاله في مبحث الحقيقة والمجاز، الأقوى لا، لشمول الاصطلاح لهما معاً، ولارادة معنى وموضوع مخصوص من المشتق سواء كان بالحمل الأولي او الشائع الصناعي.
وكذا بالنسبة لحمل الزوجية على الأربع فانه من الحمل الشائع الصناعي لأن الزوجية ليست من ذاتيات الأربع ولا تتقوم ذات الأربع بها نعم مع التزاحم في باب البرهان وهو لازم للذات وخارج عن ماهيتها.
اما الحمل البسيط والحمل المركب، فالأول الذي يأتي بمفاد كان التامة، والمحمول معه هو الوجود وثبوت الشيء، وتسميته بالبسيط لأن الإثبات فيه ليس مركباً بل يتعلق بما هو من غير اضافة خارجية على ماهيته كالماء بغض النظر عن طهارته او جريانه او كثرته.
اما الحمل المركب فهو ما كان بنحو كان الناقصة، والتي يتم فيها اثبات شيء لشيء، ويتعلق باثر او حكم او عرض من اعراضه، ومثاله (الإنسان ماشِ) اذ يتم فيه اثبات شيء لشيء لذا يطلق عليه المركب.
وقال الماتن صحة السلب مطلقاً، والإطلاق هنا على قسمين :
الأول : يتعلق بالمعنى من غير تقييد بحيثية معينة .
الثاني : يتعلق بانواع المشتق، والقول بالتفصيل بين اسم الفاعل واسم المفعول، وبين ما اذا كان المبدأ من الملكات والصناعات او غيرهما ونحوه من الوجوه التي قال بها المتأخرون وقد تقدم ذكرها، وتتعلق صحة السلب او عدمها بالحمل الشائع الصناعي لذا يمكن ان نستدل به على ان المشتق مركب وليس بسيطاً.
واستدلال الماتن بصحة السلب صحيح، اذا ان نعت القائم والضارب كمشتق لا يتصل الى زمان ما بعد انقضاء التلبس فلا يشمل واقعاً حال الجري والإنتساب، بالإضافة الى طرو الضد الوجودي قهراً وانطباقاً، فالقائم حينما ينقضي زمان تلبسه بالقيام يكون قاعداً او نائماً وبحالة وكيفية منافية للمشتق بعد فقده المبدأ، مما يدل بالدلالة التضمنية على مجازية اطلاق المشتق عليه سواء كانت بنحو الحمل كالقيام والضحك والمشي، او العرض كالبياض والسواد مع ظهور التضاد بين اللونين فلو كان حقيقة لكان هناك تضاد بين المبدأ وبين الوصف.
كيف وما يضادها بحسب ما ارتكز من معناها في الاذهان يصدق عليه، ضرورة صدق القاعد عليه في حال تلبسه بالقعود، بعد انقضاء تلبسه بالقيام، مع وضوح التضاد بين القاعد والقائم بحسب ما ارتكز لهما من المعنى، كما لا يخفى (1)ولا يرد على هذا التقرير ما أورده بعض الاجلة من المعاصرين ، من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط ، لما عرفت من ارتكازه بينها ، كما في مبادئها إن قلت: لعل ارتكازها لاجل الانسباق من الاطلاق، لا الاشتراط قلت : لا يكاد يكون لذلك ، لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء ، لو لم يكن بأكثر (2).
والضدان والنقيضان من المتقابلين، والضدان هما العرضان الوجوديان من نوعين مع عدم امكان الإجتماع بينهما، وعدم توقف تصور احدهما على تصور الآخر كالسواد والبياض، والنقيضان هما الإيجاب والسلب وهما الوجودي والعدمي كما يمكن الإستدلال بالإطراد ايضاً لعدم اتصال المنقضي عند المبدأ.
(1) ان التضاد بين حال التلبس وحالالنسبة بالنسبة لما انقضى عنه التلبس ينفي وجود الجامع بينهما ان نجده من حيثية اخرى يكون مدار الفهم وصيغة المخاطبة دائرة مدارها، فحينما ينقضي تلبس القيام ويصدق عليه انه الآن متلبس بالقعود، فلا ريب انه يحصل تضاد وتعارض في العناوين الإشتقاقية المأخوذة من المبادئ الوجودية المتضادة.
وكذا بالنسبة للسواد والبياض، ونفي اجتماع الضدين يدل على عدم الوضع للأعم الا ان يقال بان المشتق اعم، وانه لا مفهوم يستلزم الحصر بالتلبس بالحال، بمعنى ان المشتق موضوع للأعم ويحتاج الى قرينة زائدة لمعرفة ان المراد هو التلبس بالحال او انقضاء التلبس.
(2) والمراد المحقق الميرزا حبيب الله الرشتي في بدائعه بنفي التضاد بين الأوصاف المتقابلة المذكورة لنفي القول باشتراط التلبس في صدق المشتق إن قلت : لعل ارتكازها لاجل الانسباق من الاطلاق ، لا الاشتراط . قلت : لا يكاد يكون لذلك ، لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء ، لو لم يكن بأكثر (1).
ولتعليل القول بالأعم، وتعليقاً على الإستدلال فان مفهوم البياض يفنى عند طرو السواد فيكون الصدق مجازياً والا لزم تصادق المتضادين قال في البدائع: قلت: وهذا الإستدلال في غاية السقوط ونهاية الفساد لأن مفهوم ابيض على القول بعدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق ليس مضاداً لمفهوم اسود، بل النسبة بينهما على هذا القول نسبة التخالف بطريق العموم من وجه لا نسبة التضاد كما لا يخفى، فالجسم العارض له السواد بناء على هذا القول مادة لإجتماع المفهومين فلا اشكال.
وقول الماتن من عدم الإشتراط، أي عدم اشتراط التلبس بل اطلاق المشتق وشموله للمعنى الأعم، والضمير في بينها عاقد للصفات كالقيام والقعود والبياض والسواد والعلم والجهل، ومباديها أي مبادئ الصفات.
(1) لقد قال الماتن بان التضاد مترشح عما ارتكز في الأذهان من معاني الصفات ودلالالتها على نحو الحقيقة والصدق، لأن المجاز خلاف الأصل، ثم استحدث الماتن اشكالاً بقوله (ان قلت) ان الإرتكاز ليس بحجة لأنه اعم من ان ينحصر بالتلبس ولا يدل على الوضع فلعل ارتكاز التضاد متولد من الإنسباق الإطلاقي وليس من حاق اللفظ واصل وضعه، أي ان التضاد لا يثبت الا بمقدمتين:
الأولى: من الوضع المخصوص وهو غير ثابت.
الثانية: انه وضع للمعنى الأخص وارادة التلبس دون غيره، ولكن التبادر الإطلاقي لا يدل بالضرورة على الوضع بمعنى عدم الملازمة بينه وبين الوضع لإحتمال النقل والتفاهم على اساس العرف، ثم اتجه الماتن الى رد هذا الإشكال بقوله (لا يكاد يكون لذلك) أي ان الإرتكاز الذهني بين المتضادات ليس بسبب التبادر الإطلاقي لأن المشتق يستعمل في المنقضي عنه التلبس بل هو اكثر من حال التلبس وهذه الكثرة تمنع من انصراف الإطلاق الى خصوص حال التلبس، فلابد ان يكون اعتبار حال التلبس دون غيره مبنياً على حاق اللفظ وانه موضوع لخصوص المتلبس بالمبدأ دونما انقضى عنه.
والضمير في (ارتكازها) عائد للمضادة بين الصفات فهذه المضادة لا تدل على التعدد في وضع المشتق لأنها امارة على الإطلاق وهي فرع الإنسباق الإطلاقي الذي هو اعم من الوضع لأن الإستعمال اعم من الحقيقة والمجاز وكثير من الأسماء الموضوعة لمعنى جامع تستعمل بازاء فرد خاص منها بلحاظ مقدمات الحكمةلوجود قدر متيقن في مورد التخاطب.
والمشتق في اطلاقه ينصرف الى خصوص المتلبس، وهذا لا يدل على انه وضع له دون ما انقضى عنه التلبس، فاجاب الماتن بالرد على هذا الإشكال بان المشتق يستعمل في موارد الإنقضاء بصورة كثيرة وشائعة مما ينفي دعوى الإنصراف الى المتلبس، ومع عدم ثبوت الإطلاق كعلة للإنسباق يبقى عندنا اشتراط وضعها لخصوص المتلبس، أي ان الماتن اعتمد طريقة السبر والتقسيم، فبعد اثبات ان الإطلاق ليس علة لإرتكاز التضاد، فانه يعني اشتراط التلبس وليس القول بالأعم، ولأن التلبس المطلق اعم من التلبس الفعلي، ولكن الإنسباق من الإطلاق لا يدل على التضاد خاصة وان الإطلاق اعم من الوضع.
وهناك مفهوم مردد بين عدة مصاديق على نحو الإجمال، كما في مفهوم اليوم وهو يبدأ من طلوع الفجر او من طلوع الشمس على اختلاف بين الاصطلاح الشرعي والطبيعي، فلو بدء الإنسان عمله عند طلوع الشمس، فعند ترك مقدار الفجر الصادق وبدأ من المفهوم الثاني للفجر فهل يبقى مفهوم اليوم عليه لأن الشك ليس في الفرد الخارجي بل في تعيين المعنى الذي ينطبق عليه اللفظ فالشك في بقاء المفهوم وتردده بين ما هو مقطوع الإرتفاع، وما هو مقطوع البقاء.
إن قلت : على هذا يلزم أن يكون في الغالب أو الاغلب مجازا ، وهذا بعيد ، ربما لا يلائمه حكمة الوضع . لا يقال : كيف ، وقد قيل : بأن أكثر المحاورات مجازات . فإن ذلك لو سلم ، فإنما هو لاجل تعدد المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد . نعم ربما يتفق ذلك بالنسبة إلى معنى مجازي ، لكثرة الحاجة إلى التعبير عنه . لكن أين هذا مما إذا كان دائما كذلك فافهم (1).
وهذا الموضوع قريب من مبحث المشتق الا ان الأصوليين لم يقفوا عنده طويلاً بل اكتفوا بذكره في ذيل مسألة استصحاب الكلي.
وقد تتعدد المعاني المجازية او يكثر استعمال معنى مجازي معين حتى يشيع وينتشر ويزيد على استعمال اللفظ في معناه الحقيقي ويسمى بالمجاز المشهور، وهذا لا يتعارض مع الأصل وهو الإستعمال الحقيقي للفظ، فقد تكون الحاجة لكثرة استعمال المجاز طارئة.
(1) ويرد على هذا المبنى ان اكثر استعمال اللفظ يكون في حالات المجاز والإنقضاء، وليس الحقيقة باعتبار ان الإستعمال الحقيقي يتعلق بحال التلبس بالمبدأ واستعمال اللفظ في المجاز على نحو الكثرة والغلبة خلاف حكمة الوضع في التي تعني وضع اللفظ للمعنى الذي تكثر الحاجة اليه في المحاورات والتخاطب بمعنى ان المجاز امر عرضي طارئ، فلو كان المعنى المجازي محتاجاً اليه لوضع له اللفظ ناقص بالأصل وكثرة المجازات تدل على الحاجة اليها مما يعني ان المشتق يستعمل في المعنى الأعم من المتلبس بالمبدأ من غير منافاة بينه وبين الوضع بمعنى انه كما يكثر استعمال المجازفكذا يطلق المشتق على المعنى الأعم، وبعد ان ذكر الماتن الإشكال قال ان هناك فرقاً بين الإستعمال الحقيقي والإستعمال المجازي، فالأول دائمي، والآخر اتفاقي أي ان الإستعمال المجازي وان كثر فانما هو اتفاقي لأنه عبارة عن استعمال للفظ في غير ما وضع له وهو على اقسام:
قلت: مضافا إلى أن مجرد الاستبعاد غير ضائر بالمراد، بعد مساعدة الوجوه المتقدمة عليه، إن ذلك إنما يلزم لو لم يكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال التلبس، مع أنه بمكان من الامكان، فيراد من جاء الضارب أو الشارب وقد انقضى عنه الضرب والشرب جاء الذي كان ضاربا وشاربا قبل مجيئه حال التلبس بالمبدأ، لا حينه بعد الانقضاء، كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال، وجعله معنونا بهذا العنوان فعلا بمجرد تلبسه قبل مجيئه (1).
1- المجاز فيالكلمة بوجود وجه مشابهةبين المعنى الحقيقي والمعنى المستعمل فيه.
2- المجاز في الإسناد كما في قولهم (جرى النهر) انما الجريان للماء.
3- المجاز في الحذف كما في قوله تعالى [وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ]([52]) أي اسأل اهل القرية.
فالمجاز لم يتوقف على وضع الواضع واذنه وترخيصه وتحديده للمعاني المجازية او تحديد وجوه الشبه بينها وبين المعاني الحقيقية بل يكفي توافق النفوس واستحسانها وميلها الى اطلاق اللفظ على معاني مستحدثة.
والمائز الذي جعله الماتن غير كاف، فكما يعترف بان اكثر استعمال اللفظ في المجاز فلماذا لا يكون استعمال المشتق في المجاز ايضاً خصوصاً وان موضوع المشتق كله مستحدث ومتأخر عن الوضع.
(1) الخروج من حصول حالة المخالفة او التضاد على القول بالمعنى الأعم في المشتق يدفع الى التفصيل والقول بالمجاز فيما انقضى عنه التلبس وهو حسن وموافق للمشهور خصوصاً وأن الصفات المتقابلة كالضارب والنائم يقعان على موضوع وشخص واحد ومأخوذة من مبادئ متضادة وهما الضرب والنوم، فلو كان كل منهما حقيقياًلحصلت مخالفة لإجتماع
الاول : فيما يتعلق بمادة الامر من الجهات ، وهي عديدة : الاولى : إنه قد ذكر للفظ الامر معان متعددة ، منها الطلب ، كما يقال ، أمره بكذا . ومنها الشأن ، كما يقال : شغله أمر كذا . ومنها الفعل ، كما في قوله تعالى : ( وما أمر فرعون برشيد ). ومنها الفعل العجيب ، كما في قوله تعالى : ( فلما جاء أمرنا ). ومنها الشئ ، كما تقول : رأيت اليوم أمرا عجيبا . ومنها الحادثة ، ومنها الغرض ، كما تقول : جاء زيد لامر كذا . ولا يخفى أن عد بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم ، ضرورة أن الامر في ( جاء زيد لامر ) ما إستعمل في معنى الغرض ، بل اللام قد دل على الغرض ، نعم يكون مدخوله مصداقه ، فافهم ، وهكذا الحال في قوله تعالى ( فلما جاء أمرنا ) يكون مصداقا للتعجب ، لا مستعملا في مفهومه ، وكذا في الحادثة والشأن . وبذلك ظهر ما في دعوى الفصول، من كون لفظ الامر حقيقة في المعنيين الاولين ، ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشئ ، هذا بحسب العرف واللغة(1).
المقصد الأول: في الأوامر، وفيه فصول: المبدأ الذي انقضى التلبس به مع المبدأ الذي حصل التلبس به فعلاً في ذات واحدة، فلابد من مائز ومرتكز في الأذهان يفصل بينهما او قرينة تدل عليه بما يعني تعدد الرتبة فيكون التلبس في الحالة من افراد الحقيقة والذي انقضى عنه من المعنى المجازي.
(1) جرت عادة الاصوليين بعد ذكر عدة مباحث لغوية كنوع مقدمة جعل مبحث الأوامر في بآيات مباحث علم الأصول او قل انها برزخ بينهما، اذ ان الأوامر ليست من المسائل الأصولية بناء على ما وضع كضابطة للمسألة الأصولية ككبرى لقياس ينتج حكماً كلياً فرعياً كعلم الرجال والتحقيق في نوع الخبر هل هو صحيح ام موثق ام حسن ام ضعيف، والإجماع على انه ليس من المسائل الأصولية بل يقع صغرى في مقدماتها.
ومبحث الأوامر لا يتعلق بحجية الظهور التي تعتبر من المسائل الأصولية بل انه من مباحث اصل الظهور واثباته.
وقدم الماتن ما يتعلق بمادة الأمر (الألف، الميم، الراء) وذكرت سبعة معان لمادة الأمر وجاء بالأمثلة مع ان بعض الأمثلة يصلح لمعان اخرى غير التي تقابلها كما في الفعل، والشأن والشيء، لذا قال الماتن ان بعضها من اشتباه المصداق بالمفهوم، ولكنه اقرب الى تعدد المصاديق منه الى الإشتباه بين المصداق والمفهوم، لذا قال بعض شراح الكفاية انه بمعنى ما استعمل فيه لفظ (الأمر) مصداق لأحد هذه المعاني، لا انه مستعمل في مفهومه، وهذا التقريب لايدل عليه ظاهر عبارة الماتن، وحتى الطلب فانه اعم من ان يكون مفاعلة بين شخصين فقد يكون طلباً وسعياً لبلوغ غاية او حاجة كطلب الماء.
وقد وقع الخلاف في تعدد معاني مادة الأمر هل هو من المشترك اللفظي ام من المشترك المعنوي، ومنهم من جعل الإشتراك اللفظي بين الأمر بمعنى الطلب وبين معنى الشأن لما يقال شغله أمر كذا، لتبادر كل منهما من اللفظ، ولكن الماتن اشكل عليه بان لفظ الأمر لم يستعمل في مفهوم الشأن حتى يعتبر من معانيه بل استعمل في مصداقه، أي ليس الشأن من المعاني الحقيقية للأمر، والأقوى ان الشأن من معاني الأمر، وان قياس الألفاظ لا يؤخذ بالدقة والتحليل العقلي كما في باب الفصل والجنس
وانه من المشترك اللفظي والمعنوي بحسب اللحاظ ومفردات معانيه، فالأمر تارة يكون انشائياً كما في الطلب، وتارة يكون خبرياً كما في الشأن والحادثة الا انه يدل على مفهوم عام وعنوان جامع لمعانيه التي يجمعها، وقولك (جئت لغرض كذا) يفهم الغرض والغاية من اللام.
ليبقى معنى الأمر هو الشأن والفعل والحاجة، ومنهم من قال انه مشترك لفظي واشكل على هذا القول ومنهم من جعله مشتركاً معنوياً بين الكل ومنهم من احتمل كونه مشتركاً لفظياً بين الطلب وباقي المعاني، وهو من المشترك المعنوي بين المعاني الأخرى عدا الطلب واستبعد المشترك اللفظي.
ومع الاتفاق على وجود جامع بين معاني الأمر فقد اختلف في الجامع بين معانيه عدا الطلب، على اقوال:
1- الشيء. 2- الفعل.
3- الشأن. 4- الشغل.
لقد حرص القائلون بالتفصيل على افراد الطلب , ويمكن ان يدخل بالإشتراك المعنوي بلحاظ جهتي وهوان مفاد وغاية الطلب فعل وشأن ما وان ترشح عن الإرادة والبعث سواء كانت الارادة التكوينية أو التشريعية، وان موضوع آلة الطلب هي القول او الفعل او الكتابة اوالإشارة، وكذا بالنسبة لموضوعه لأن الأمر يؤخذ بحسب صدوره من الفاعل.
فهو فعل ومن المشترك المعنوي ايضاً لإمكان تصوير الجامع، والمفهوم العام الجامع بين الطلب والمعاني الأخرى للأمر، وقد يراد من الأمر الذوات والأعيان كما في عمومات لفظ الشيء، نعم يرد الأمر بمعنى الشيء أي ان المراد منه الذوات والجواهر، لذا اختار الماتن كون الأمر حقيقة في الطلب في الجملة والشيء لغة وعرفاً، وما لا يدخل تحت هذين العنوانين يعتبر مجازاً باعتبار ان الشيء يدل على ذات ما، كما انه عام فيشمل ايضاً الصفات كالحسن والقبح والملكات كالعلم والكرم، والأفعال كالأكل والشرب والأعيان كالشجر والماء.
والطلب ايضاً متعدد فيشمل الطلب الوجوبي والندبي والطلب العبادي، والطلب بين العالي والداني من الناس، وتارة يعرف المائز بين معاني الأمر والمقصود منها بالأمارات والقرائن المقالية والحالية، ولا يعني هذا انه مفهوم كلي متكثر المعنى بحيث يشمل مصاديق كثيرة.
وأما بحسب الاصطلاح، فقد نقل الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص، ومجاز في غيره، ولا يخفى أنه عليه لا يمكن منه الاشتقاق، فإن معناه حينئذ لا يكون معنى حدثيا، مع أن الاشتقاقات منه ظاهرا تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم، لا بالمعنى الاخر، فتدبر (1).
(1) ويشكل على ما في المتن من وجوه:
1- ان التقسيم الى حقيقة ومجاز امر منفصل عن المعنى الإصطلاحي اذ ان الحقيقة والمجاز يتعلقان باصل الوضع في الحقيقة واستعمال اللفظ في معنى آخر في المجاز لوجود وجوه للنسبة بينه وبين الحقيقة.
2- عدم ثبوت الإتفاق على اعتبار لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص وهو صيغة (افعل) وانه مجاز في غيره.
3- الإصطلاح الأصولي مأخوذ من اللغة، وفرع للمعنى الأعم من الحقيقة والمجاز والحقيقة اللغوية او الشرعية او العرفية، الا ان يثبت باصل الوضع ان مادة الأمر موضوعة للقول المخصوص أي صيغة افعل باعتبار ان هذه الصيغة هي المراد من لفظ الأمر اصطلاحاً وهو امر لم يثبت، وعلى فرض ثبوته فلا موضوعية للإصطلاح في المقام لتقدم المعنى اللغوي الحقيقي رتبة على الاشتقاق والإستعارة.
نعم يمكن القول انه في الإصطلاح الأصولي يعني صيغة افعل وبذا لا يرد الإشكال الذي ذكره الماتن بخصوص الاستفادة اذ ان الإشتقاق لا يؤخذ من المعنى الإصطلاحي سواء كان جامداً كما في صيغة افعل لأن معناها ليس حدثياً، اوعلى القول بان مبدأ الإشتقاق هو المصدر الذي هو معنى يدل على الحدث، واسم المصدر يدل على لفظ وهذا اللفظ يدل على الحدث.
وإنما المهم بيان ما هو معناه عرفا ولغة، ليحمل عليه فيما إذا ورد بلا قرينة، وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة، ولا حجة على أنه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز (1).
(1) أي لو ثبت نقل الأمر من اصل الوضع واستعماله في القول المخصوص وقوله (لو ثبت النقل) أي النقل الى القول المخصوص والمعروف في علم المنطق ان المنقول هو استعمال اللفظ في معنى نقل له من معناه الحقيقي، فيدل على ان استعماله في القول المخصوص جاء متأخراً، وقد يكون استعمال مادة الأمر في الإصطلاح بالصيغة الخاصة، والإشتقاق بلحاظ معنى آخر، وان المدار ليس على الإشتقاق انما على بيان معنى الأمر لغة وعرفاً بعد تحديده اصطلاحاً، وقد استعملت مادة “الأمر” في القرآن بمعاني متعددة من غير استقراء للإشتراك اللفظي او المعنوي او الحقيقة والمجاز فينصرف الى المعنى الخاص متحداً او متعدداً، بلحاظ القرائن ومناسبة المقام لحجية الظواهر ولثبوت تعدد معاني مادة الأمر وهناك من اوصل معاني لفظ الأمر الى اربعة وعشرين معنى منها التهديد والإمتحان والإختبار والتعجيز والإستهزاء والطلب الحقيقي، باعتبارها دواعٍ لإيقاع النسبة بين المبدء والفاعل كما لو كان ايقاعها بداعي الطلب.
ولا بأس بالإشارة في المقام الى النسبة بين الطلب والإرادة لأن الآمر هو فاعل مريد، لذا فمن صفاتهتعالى الثبوتية انه مريد وعليه إجماع علماء الإسلام، وان اختلفوا في معنى الإرادة وهل هي نفس العلم ام علم خاص يتعلق بما في الفعل من المصلحة الباعثة على تحصيله من غير ان يتأثر سبحانه بمولدات هذه الإرادة، وهل النسبة بين العلم والإرادة التساوي ام العموم والخصوص من وجه ام التباين.
ونسب الى الإشاعرة القول بالتغاير بين الإرادة والطلب، أي ان النسبة بينهما التباين وما وضع بازاء احدهما غير الذي وضع بازاء الآخر.
وما ذكر في الترجيح ، عند تعارض هذه الاحوال ، لو سلم ، ولم يعارض بمثله ، فلا دليل على الترجيح به ، فلا بد مع التعارض من الرجوع إلى الاصل في مقام العمل (1).
اما المعتزلة فقالوا بالإتحاد بينهما وان الإرادة نفس الطلب أي ان النسبة بينهما التساوي.
(1) انتقل الماتن الى موارد الترجيح فيما اذا دار الأمر بين الإشتراك اللفظي او المعنوي، او الحقيقة والمجاز من الترجيح بالغلبة او الظن، وتقديم المجاز على الإشتراك او العكس.
وقال الماتن لابد مع التعارض من الرجوع الى الأصل في مقام العمل، وليس المراد الأصل اللفظي بل الأصل العملي كالإستصحاب والبراءة والإشتغال.
ولكن هناك خلط بين معاني اللفظ ومادة الأمر، وبين اصل الإشتقاق والوضع، فمسألة الإشتراك اللفظي او المعنوي، او الحقيقة والمجاز ليس لها اعتبار كبير في المراد من اللفظ بل تتعلق بالمادة التي تدل على الحدث، اما الهيئة فتعني الدلالة على نسبة المادة الى الفاعل، وفي الماضي تدل على تحقق الحدوث، اما في الفعل المضارع فتدل على التلبس به في الحال او المستقبل.
ولا تصل النوبة الى الأصول العملية في موارد التعارض بل ان التعارض غير موجود في القرآن بين معاني اللفظ والأمر، فقد يستعمل اللفظ بارادة المعنى المتعدد منه من غير تعارض بينها، وبحسب التفسير والتأويل أي ان ذات اللفظ يستعمل في عدة معان، ويثبت التعدد او الإتحاد في المعنى بحسب تفسير الآية وتأويلها وسياقها.
فمثلاً قوله تعالى [وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ] والذي ذكره الماتن مثالاً لإرادة الفعل من لفظ (الأمر) فانه اعم وقد يراد منه شأن فرعون، والأمر أي الطلب وأوامر فرعون التي يصدرها في قتل المسلمين واستحياء نسائهم الجهة الثانية : الظاهر اعتبار العلو في معنى الامر ، فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمرا ، ولو أطلق عليه كان بنحو من العناية ، كما أن الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء ، فيكون الطلب من العالي أمرا ولو كان مستخفضا لجناحه (1).
وجمع الجيوش للحاق بموسى عليه السلام وقومه، كما ذكر انه أمر بذبح شاة وقال لا آكل كبدتها الا ويجتمع عندي ستمائة الف مقاتل.
وايضاً الفعل العجيب كما في حكمه ومسألة موته غرقاً، وشأنه ايضاً وادعائه الربوبية وابتلاء وامتحان واستدراج فرعون بالملك،ويمكن ان يراد منه الحادثة لكثرة الحوادث التي تدل على جهل وجحود وضلالة فرعون واعراضه عن الرسول والآيات التي جاء بها ودخوله وقومه النار خصوصاًَ وان لفظ (امر) في الآية يحتمل تعدد المعاني والمفاهيم قال تعالى [إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ].
ان مباحث الأصول تستلزم الفقه في علوم القرآن وعدم تطبيق النظريات المستقرأة من العلوم العقلية والتي لم تثبت كليتها واطلاقها على علوم القرآن، والاصل ان تكون علوم القرآن مصدراً للأصول، فعمومات قاعدة انتفاء التعارض في القرآن، تشمل الفقه والأصول وغيرهما.
(1) بعد بيان المعاني المتعددة للفظ الأمر جاءت الجهة الثانية لبيان اعتبار العلو في الأمر وفيه وجوه:
1- اعتبار العلو: أي يشترط في الأمر ان يكون من العالي الى الداني.
2- عدم اعتبار العلو: فيصح الأمر اذا جاء الطلب من المساوي او من الداني الى العالي.
3- انه حقيقة في الأول اعلاه، وفي الثاني مجاز، ويحتاج الى مؤونة زائدة وعناية.
4- اعتبار الإستعلاء فلابد للعالي في الآمر من اظهار هيئة الإستعلاء سواء بصيغة الأمر، او بالقرائن، او بالتشديد، والتوكيد، والتهديد ونحوها، فالعالي اذا اصدر امراً خالياً من الإستعلاء فانه لا يتعدى الطلب والسؤال فلا يكون امراً على هذا المبنى.
5- عدم اعتبار الإستعلاء فيكون الطلب من العالي الى الداني امراً وان كان مستخفضاً لجناحه، ومجيء امره بصيغة الرجاء والتوسل والحث والترغيب، فالمعتبر في الأمر هو منزلة ومقام العالي دون التفات الى استعلائه واستدل عليه بالعرف والوجدان.
6- اعتبار الإستعلاء احياناً، وعدم اعتباره احياناً اخرى بحسب القرائن والإمارات، فالعالي قد يأتي بطلب وهو لا يقصد الأمر وان كان عالياً كما هو بين الناس لأن العلو من الأمور المتزلزلة غير الثابتة وقد يأمر مستخفضاً لجناحه، ولم يعتبر الإستعلاء ولكن القرائن تفيد الأمر لكفاية العلو.
7- اعتبار احد الأمرين اما العلو او الإستعلاء، اما جانب العلو فبين، وهو اعتبار العلو واقعاً، اما الإستعلاء فيعتبر بمفرده، كما لو طلب المساوي من مثله ولكن بصيغة الإستعلاء، وكذا بالنسبة للداني من العالي، فالعلو مفقود ولكن الإستعلاء موجود.
وقد ضعفه الماتن اذ انه لا يصدق عليه أمر لموضوعية العلو في الأمر، لأن العقلاء لا يرضون للداني ان يأمر العالي، ويقبحون منه استعلاءه لمنافاته للواقع والعرف والوجدان.
وأما إحتمال اعتبار أحدهما فضعيف ، وتقبيح الطالب السافل من العالي المستعلي عليه ، وتوبيخه بمثل : إنك لم تأمره ، إنما هو على استعلائه ، لا على أمره حقيقة بعد استعلائه ، وإنما يكون إطلاق الامر على طلبه بحسب ما هو قضية استعلائه ، وكيف كان ، ففي صحة سلب الامر عن طلب السافل ، ولو كان مستعليا كفاية (1).
(1) أي اعتبار احد الأمرين العلو او الإستعلاء على نحو التخيير وليس التعيين، ولا تخلو العبارة من مسامحة، اذ ان المراد عدم كفاية الإستعلاء حصراً لصحة سلب الأمر عن طلب المستعلي غير العالي، وان مدار الأمر على العلو، اما الإستعلاء فهو فرع العلو وليس امراً مستقلاً ذا موضوعية في عناوين الأمر.
ثم ان العقلاء يذمون الطالب الأدنى اذا وجه امراً الى العالي بصيغة الإستعلاء ويوبخونه بالقول لِمَتأمره؟ او ليس لك ان تأمره لأن العلو من شرائط الأمر عقلاً وشرعاً وعرفاً، وان الأدنى ليس له ان يوجه الأمر لمن هو اعلى منه، وسيرة العقلاء والظواهر حجتان، فلا اعتبار بالإستعلاء ان صدر من الداني والسافل الى الأعلى منه بل انه يكون محل توبيخ وتقبيح واستهجان من العقلاء، وقد لا يصدق عليه حينئذ انه استعلاء الا على نحو المجاز والعناية الزائدة وكأنه من اللغو العملي، فلا يصح القول بكفاية الإستعلاء لثبوت الأمر حقيقة، والإستعلاء وحده اذا كان صادراً من الأدنى الى الأعلى فلا يصدق عليه انه امر على نحو الحقيقة.
الجهة الثالثة : لا يبعد كون لفظ الامر حقيقة في الوجوب ، لانسباقه عنه عند إطلاقه ، ويؤيد قوله تعال [فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ] ([53])وقوله صلى الله عليه وآله: ( لو لا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك ) وقوله صلى الله عليه وآله: – لبريرة بعد قولها : أتأمرني يا رسول الله ؟ : ( لا ، بل إنما أنا شافع ) إلى غير ذلك (1).
(1) الأمر مركب من مادة وهيئة، وتأتي المادة بصيغة فعل الأمر او الماضي او المضارع وهي موضوعة بالوضع الشخصي، واما الهيئة فهي موضوعة للنسب والإضافة والإرتباط لتكون عنواناً للمحاورة والبيان باعتبارها فرداً من المعاني الحرفية فالمادة تمثل النسبة الباعثية، ويكون المأمور مبعوثاً، والهيئة موضوعاً لنسبة هذه المبعوثية وايجاد المادة، وبحسب مفهوم الطلب ايجاد المادة فان صيغة الأمر تفيد وجوهاً محتملة:
1- الوجوب، لإصالة الإطلاق باعتبار ان الإستحباب يحتاج الى مؤونة زائدة لما فيه من حصة اضافية وهي الإذن في الترك، بينما يكون الوجوب هو المتبادر من الطلب وصيغة الأمر.
2- المعنى الأعم للوجوب والإستحباب لإشتراكهما في طلب الفعل، وان كلاً منهما مركب، ويلتقيان بالمنع من الترك والإذن فيه، وهما بعرض واحد من جهة الحاجة الى المؤونة الزائدة فلا يصح التمسك بالإطلاق لإثبات الوجوب كما ان الطلب فيهما من الكلي المشكك الذي له مراتب متعددة تتجلى بالشدة في الوجوب، والضعف والإسترخاء في الإستحباب، وليس هناك نوع مغايرة بينهما فلا يتبادر الوجوب من الطلب واشكل على هذا القول بان شدة الطلب في الوجوب كافية للمائز وعدم الإشتراك مع الإستحباب، لأن الأخير عنوان ضعيف لا يقدر على الإشتراك مع الوجوب، ولكن هذا الإشكال ليس بتام لأنه لا ينفي المؤونة الزائدة في الإستحباب ولأن الإستعمال اعم من الحقيقة والمجاز والنقاش في الكبرى وهو المعنى الأعم.
واستشهد الماتن بالآية الثالثة والستين من سورة النور لإفادة الأمر الوجوب على نحو الحقيقة، لأن التحذير يدل على الوجوب لوجود المقتضي للحذر.
ولكن الحذر في الآية لا يدل على الوجوب حصراً بل يفيد التنبيه واخذ الحائطة للدين وهو حسن عقلاً وشرعاً، والمخالفة التي تحذر منها الآية اعم من مخالفة الوجوب فتشمل مخالفة الإستحباب التي لا تعني الإذن في تركه بل الإتيان بخلافه،فالآية لا تثبت المدعى لذا لم يجعلها الماتن من الأدلة على قوله بل جعلها مؤيداً، والتأييد أدنى رتبة من الدليل.
وتتمة الآية [فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ]([54]) تفيد التعرض للفتنة وهي من الكلي المشكك وتعني الإمتحان والإبتلاء، والآية تدعو لأخذ الحائطة للدين واجتناب الوقوع في الشبهات.
ثم ذكر الماتن الدليل الثاني للقائلين بدلالة الأمر على الوجوب بالخبر:“لولا ان اشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة“([55])، وبما ان استحباب السواك عليه الإجماع والنصوص فلابد ان الأمر هنا يدل على الوجوب.
ولكن الوجوب هنا يترشح من قرينة المشقة المانعة منه أي ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بالسواك لما فيه من المشقة، ولو امر به لأصبح واجباً، ولبيان ان احكام الشريعة واوامرها من عند الله وخالية من المشقة.
كما استدل الماتن بحديث بريرة اذ انها كانت أمة لعائشة، وزوجها عبد اسمه مغيث فلما اعتقتها عائشة علمت بريرة بخيارها في نكاحها بعد العتق وارادت عدم تجديد عقد النكاح مع زوجها، فاشتكى زوجها الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: “ارجعي الى زوجك، فانه ابو ولدك وله عليك منة، فقالت: يا رسول الله اتأمرني بذلك؟ فقال: لا انما انا شافع” .
وتقريب الإستدلال ان نفيه صلى الله عليه وآله وسلم للأمر بالرجوع يدل على المرتكز في الأذهان من دلالة الأمرعلى الوجوب فلذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: “انا شافع“، للتمييز بين الأمر والشفاعة.
وفيه:
1- ان المراد بالأمر هنا الحكم الشرعي بمعنى ان بريرة تقول هل على كل من تفارق زوجها عند العتق ان ترجع اليه.
2- الظاهر ان بريرة سمعت حقها في عدم الرجوع من الصحابة وبعد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ارادت ان تعرف الحكم الشرعي من فيّ رسول الله.
3- الحديث لا يدل على استعمال الأمر في الوجوب لأن الشفاعة اعم، وهي تتعلق بالوجوب والإستحباب والإباحة بل والمكروه، فحينما يخرج الوجوب بالتخصص لا يبقى الإستحباب وحده مفاد الشفاعة.
4- لقد جاء جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبريرة حكماً شرعياً للأمة عبر اجيالها المتعاقبة والى يوم القيامة.
5- قد يرد الجواب في القضية الشخصية، ولكن المراد منه تأسيس او تثبيت قاعدة كلية وحكم فرعي وهو ان المرأة اذا اعتقت انفسخ زواجها من العبد.
وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره ، وتوبيخه على مجرد مخالفته ، كما في قوله تعالى[قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ] ([56]) وتقسيمه إلى الايجاب والاستحباب ، إنما يكون قرينة على إرادة المعنى الاعم منه في مقام تقسيمه ، وصحة الاستعمال في معنى أعم من كونه على نحو الحقيقة ، كما لا يخفى (1).
(1) استشهد الماتن بسيرة العقلاء لإثبات دلالة الأمر على الوجوب، بعد ذكر الآية القرآنية والحديثين الشريفين فان مؤاخذة العبد على عدم استجابته لأمر المولى يدل على كون الأمر حقيقة في الوجوب.
لقد قصد الماتن امرين معاً:
الأول: ظهور الأمر في الوجوب.
الثاني: نشوء الوجوب من وضع اللفظ للأمر وهو مراده في قوله “لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب” وليس من ملازمة بين الظهور العرفي وبين حقيقة الوضع فقد يفيد الإستعمال معنى معيناً من غير ان يكون هذا المعنى هو المراد في اصل الوضع.
كما استشهد الماتن بذم وتقبيح فعل ابليس، ومؤاخذته على تركه الإمتثال لأمره تعالى في السجود لآدم، فلو كان هناك اذن في ترك السجود لما توجه له اللوم ونزل عليه العقاب من عنده تعالى.
ولما جاء التوبيخ لإبليس بالسؤال الإستكباري عن المانع الذي حال دون استجابته للأمر، وقد يشكل عليه بان نواميس السماء لها خصوصية تختلف عن نواميس واحكام الأرض، ولكن حقيقة الأمر متحدة لحجية ظواهر الإلفاظ ولأن الآيات نزلت مبينة وجاءت لإفهام بني آدم والمسلمين ولإعتبارها اصلاً لإشتقاق القواعد الكلية لعلم الكلام والأصول وغيرهما.
وأما ما أفيد من أن الاستعمال فيهما ثابت، فلو لم يكن موضوعا للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز، فهو غير مفيد (1).
وقد ذكر الماتن تقسيم الأمر الى الإيجاب والإستحباب وانه موضوع للجامع بينهما فكل منهما قسيم للآخر مع وجود مقسم لهذه الأقسام، ولكنه قيده في مقام التقسيم بلحاظ القرينة وليس على نحو دائم، وبين ان صحة الإستعمال في معنى اعم من كونه على نحو الحقيقة وهذا القول حجة عليه ايضاً، فكما لا يكون استعمال لفظ الأمر في المعنى الأعم حقيقة فكذا يمكن القول ان استعماله في الوجوب لا يدل على الحقيقة، لقاعدة الإستعمال اعم من الحقيقة والمجاز، ويبقى عنده الإحتجاج بالوضع ودونه خرط القتاد.
والمدار على ظهور الأمر عرفاً وليس اثبات الوضع ونشوئه من حاق اللفظ، فاثبات الوضع ليس سهلاً والثمرة منه في المقام شبه معدومة.
وليس من دليل على ان إستعمال اللفظ في القرآن والسنة وأيام النزول كان منحصراً بلحاظ اصل الوضع التعييني بل الأصل فيه هو الوضع التعيني الا ان يدل دليل على الوضع التعييني وجعل الواضع اللفظ دالاً على المعنى.
(1) القائل بالمعنى الأعم للأمر افاد بان ثبوت استعمال الأمر في الإستحباب بعرض واحد مع الوجوب مما يدل على ان كلاً منهما قسيم للآخر من غير حاجة للإستعانة بقرينة زائدة لدلالة الأمر على الإستحباب، وإنتفاء الإشتراك اللفظي وهو خلاف الأصل، كما انه اذا كان حقيقة في احدهما فهو مجاز في الآخر، والمجاز متفرع عن الأصل، ومع عدم ثبوت انه حقيقة في احدهما ومجاز في الآخر يتعين وضع الأمر لجامع الطلب، ورد الماتن هذا القول بانه غير مفيد لأنه عند تعارض الأحوال من الحقيقة والمجاز، والإشتراك اللفظي او المعنوي وما قيل من ترجيح المجاز عند والاستدلال بأن فعل المندوب طاعة ، وكل طاعة فهو فعل المأمور به ، فيه ما لا يخفى من منع الكبرى ، لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي ، وإلا لا يفيد المدعى (1)، الجهة الرابعة: الظاهر أن الطلب الذي يكون هو معنى الامر ، ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي ، بل الطلب الانشائي الذي لا يكون بهذا الحمل طلبا مطلقا (2).
التعارض مع الإشتراك او غلبة الإشتراك المعنوي فان الترجيح هنا استحساني ولا يفيد الظن المعتبر، ما دام لا يوجب الظهور العرفي في معنى خاص ولإختلاف المقامات واعتبار القرائن، واثر الأصل العملي كالإستصحاب والبراءة والإشتغال اذا لم يكن هناك ظهور له حجية.
فاراد الماتن ان يؤكد حقيقة وهي ان المدار على ظهور اللفظ في احد الأحوال، لأن الظهور مقدم على المرجحات التي ذكرها الأصوليون للرد على ما افاده القائل بالمعنى الأعم واستعمال اللفظ فيه والدلالة على وضعه له أي للمعنى الأعم، لقد رد الماتن القول بان مجرد الإستعمال في الجامع ليس حجة على وضع لفظ الأمر لجامع الطلب، وقلنا ان المدار على الظهور العرفي وليس اصل الوضع في الجملة خصوصاً مع تعذر معرفة اصل الوضع، وقوله هذا حجة عليه في ظاهر ما ادعاه من الملازمة بين الوجوب واصل الوضع.
(1) وهذا وجه آخر من ادلة ارادة المعنى الأعم للطلب، وهو ان المستحب طاعة وفاعله ممدوح وحينما يؤتى به يصدق عليه انه امتثال للأمر، وهو برهان يفيد الإشتراك المعنوي والعنوان الجامع للأمر.
واشكل عليه الماتن من انعدام الكبرى وعدم ثبوتها وهي وضع الأمر للجامع، لتكون كل طاعة فعلاً للمأمور به على نحو الحقيقة، اما لو كان الإستعمال مجازياً في المندوب فلا يثبت المدعى.
(2) ومنهم من اشكل على تقسيم الإرادة والطلب الى الواقعي والإنشائي لأن الإرادة كيفية نفسانية لا تصلح للإنشاء باعتبار ان الإنشاء عبارة عن الإيجاد، والماتن ملتفت الى هذا الإشكال اذ اعترف بالإنفكاك بين الإرادة الحقيقية والطلب المنشأ بالصيغة الكاشفة عن مغايرتهما وقال (وهو مما لا محيص من الإلتزام به)، وقال انه لا يتعارض ولا يضر بدعوى الإتحاد اصلاً وكأن الماتن قسم الطلب والإرادة الى:
1- الطلب الحقيقي.
2- الطلب الإنشائي.
3- الإرادة الحقيقية.
4- الإرادة الإنشائية.
وقال ان المغايرة بين الطلب الإنشائي والإرادة الإنشائية او بين الإرادة الحقيقية والطلب الإنشائي لا تضر بالبحث لأن موضوعنا هو الطلب الحقيقي والإرادة الحقيقية وهما ليسا متغايرين.
لقد قام الماتن بتقسيم كل من الطلب والإرادة الى عدة اقسام ثم جعل المغايرة في بعض اقسامهما بلحاظ قصد الإصطلاح والمعنى، فكل منهما ينحل الى:
1- الوجود الحقيقي.
2- المفهوم.
3- الوجود الإنشائي.
فيكون الإتحاد بالأصل والعينية، وتكون المغايرة بين الطلب الإنشائي والمعنى الحقيقي للإرادة.
لأن الغالب في الطلب هو انشاؤه، وارادة اتيانه من قبل الغير اما حقيقة الإرادة فهي العزم والقصد وما سمي بالكلام النفسي.
ومال بعض الاصوليين كالخونساري الى القول بالتغاير بين الطلب والإرادة،ولابد من رجوع مباحث علم الكلام الى المعصوم.
وتعتبر مسالة الإرادة من اهم المسائل الكلامية وكثرت فيها اختلافات المتكلمين وتعددت اتجاهاتهم واقوالهم والنزاع بينهم في اكثره نزاع صغروي ولفظي، فقد اختلفوا في الإرادة على وجوه:
1- انها صفة زائدة على الذات.
2- عين الذات.
3- انها فرع العلم بالأصلح والنظام الأحسن.
4- انها من عوارض الذات كما تبدو في الإرادة الإنسانية.
5- انها أول مخلوق لله، ومنها تفرعت وتشعبت المخلوقات الأخرى.
6- انها من صفات الفعل.
والإرادة لها معنيان الأول الحب، والثاني العزم على اتيان الفعل، والحب عند الإنسان كيفية نفسانية تتعدى قدراته، وهي عنوان رغباته وطموحاته وميله بحسب غلبة النفس الشهوية او الغضبية واثر العقيدة والهدى في توجيه الإرادة.
لكن معناها بالنسبة للباري يختلف عنه في الماديات والأرواح الحيوانية والإنسانية ذات الوجود الممكن التي تشعر بالحاجة الى الغير دائماًُ.
فصفاته تعالى عين ذاته، وارادته سبحانه غير مسبوقة بالتصور او التصديق او الميل النفسي.
لذا قالوا ان الإرادة من صفات الذات، وانها تعني الحب الإلهي، واعتبرت عين الذات، فواجب الوجود منزه عن الأعراض والكيفيات النفسانية وبلحاظ الأثر وتوجه الأمر ودلالتها على قدرته تعالى يمكن اعتبارها صفة فعلية واضافية كالخلق والرزق والتدبير خصوصاً مع موضوعية القيود الزمانية والمكانية والحدوث والكثرة، وهي ايضاً فرع الحب الإلهي ودلالة عليه لأنه سبحانه يحب الخير والكمال.
فالإرادة بلحاظ تعلقها بافعاله الإختيارية صفة ذاتية، اما بالنظر لتعلقها بالأفعال والموجودات الخارجية فهي بالتبع.
فالحب الإلهي يتعلق بالإصالة بذاته المقدسة، اما تعلقه بمخلوقاته فبالتبع، لذا يتجلى فيها بديع صنعه وصفة الكمال والحكمة والنظام الأحسن مع بقاء المخلوقية والإمكان، وقد اطلق الفلاسفة اصطلاح (العناية) على الصفة التي تتغشى النظام الأحسن ولإثبات ان نظام الوجود هو الأحسن والأمثل بطريقين:
الأول البرهان اللمي.
فهو سبحانه محب للخير والكمال وبما ان صفاته عين ذاته لذا فان نظام الكون الذي جاء بارادته ومشيئته سبحانه هو افضل نظام لأنه احاط بكل شيء علماً، الموجود والمعدوم وهو العالم بالنظام الأحسن، والقادر على كل شيء، فابتدع الوجود على افضل حال وهو الواسع الكريم الذي لا يبخل بشيء ولا تنقص خزائنه.
الطريق الثاني: وهو الدليل الإني.
فالتدبر في المخلوقات وما فيها من التمام والكمال والأسرار والمنافع يدل على انها النظام الأحسن، ولا يضرها المخلوقية والأمكان بل انهما يزيدان العالم جمالاً وبهجة لما يدلان عليه من قدرة الصانع وبديع خلقه وعظمته، ومبحث اتحاد الطلب والإرادة الذي عليه الإمامية والمعتزلة او تباينهما كما عليه الأشاعرة بحاجة الى تنقيح في عناوينه.
فقد يحدث احياناً خلط اثناء التحقيق بين:
1- ارادة الفاعل.
2- ارادة الآمر، فالآمر غير الفاعل وان احتاج كل منهما الى ذات المقدمات للإتيان بالفعل الإختياري ولابد من التمييز بين ارادة واجب الوجود، وارادة الإنسان المختار للتباين بينهما.
وقد اتفق علماء الإسلام على انه تعالى متكلم واختلفوا في مقامات:
1- الطريق الى ثبوت كونه تعالى متكلماً، فقال الأشاعرة انه العقل، وقال المعتزلة انه السمع لقوله تعالى [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا]([57]) واليه مال الإمامية والحق هو الطريقان معاً.
2- وعن المعتزلة ان كلامه تعالى اصوات وحروف قائمة بغيره لا بذاته فهو تعالى قادر على كل شيء وهو الذي يجعل الكلام في الأشياء.
3- وعن الحنابلة والكرامية([58])، انه اصوات وحروف قائمة بذاته تعالى، وعبارة عن حروف واصوات مركبة تركيباً مفهماً.
4- وعن الأشاعرة ان كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف بل هو معنى قائم بذاته يسمى الكلام النفسي الذي يعبر عنه بالعبارات المختلفة وهو مغاير للعلم وليس بحرف ولا صوت ولا امر ولا نهي ولا خبر ولا استخبار.
5- اختلفوا في الكلام هل هو قديم ام حادث، وقال الأشاعرة بقدم المعنى وقالوا الحنابلة بقدم الحروف.
وقالوا انه ليس بارادة ولا علم وانما الإنشاء بالطلب والمنع، وان الطلب صفة قائمة بذاته والكلام قديم، فلا يكون هو الطلب الإنشائي لان الكلام اللفظي ليس بقديم، واشكل عليه بانه لو كان الكلام قديماً لزم تعدد القدماء، وهذا الإشكال غير تام لان القائل بقدم الكلام لايعتبره امراً منفصلاً عن الذات المقدسة، وكأنه في هذه المسألة يقول بان صفاته عين ذاته، لأن غرض الأشاعرة من القول بالكلام النفسي هو دفع وهم، ولاثبات انه تعالى ليس محلاً للحوادث، وان الطلب قديم قائم بذاته تعالى للتسالم بين المتكلمين بانه تعالى ليس محلاً للحوادث، فكون الشيء محلاً للحوادث يدل
لا يخفى أنه ليس غرض الاصحاب والمعتزلة، من نفي غير الصفات المشهورة، وأنه ليس صفة أخرى قائمة بالنفس كانت كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي، كما يقول به الاشاعرة، إن هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام إن قلت: فماذا يكون مدلولا عليه عند الاصحاب والمعتزلة ؟ قلت : أما الجمل الخبرية ، فهي دالة على ثبوت النسبة بين طرفيها ، أو نفيها في نفس الامر من ذهن أو خارج ، كالانسان نوع أو كاتب وأما الصيغ الانشائية، فهي على ما حققناه في بعض فوائدنا موجدةلمعانيها في نفس الامر ، أي قصد ثبوت معانيها وتحققها بها ، وهذا نحو من الوجود ، وربما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه شرعا وعرفا آثار ، كما هو الحال في صيغ العقود والايقاعات (1).
على انه حادث ومتغير، وكل متغير ممكن، وحينئذ لا يكون الطلب عندهم هو الإنشائي، لأن الطلب الإنشائي ليس بقديم فهو امر مترجل الى الخارج في حينه وبلحاظ اسبابه ومناسبته فهو كصدور الإلفاظ ان التكلم ليس من صفات النفس لأنه انشاء وفعل مترجل الى الخارج وقد التزموا بان الطلب صفة قائمة بذاته تعالى.
اما بالنسبة للخبر والجملة الخبرية فقالوا ان الكلام هو العلم بثبوت النسبة او عدم ثبوتها بين طرفيها وهما الموضوع والمحمول، وقال الماتن (من ذهن او خارج كالإنسان نوع او كاتب) والمراد من الذهن هو المعقولات الثانية التي موطنها الذهن كالنوعية والجنسية، اما الكتابة فهي مما ثبت في الخارج كالمشي والأكل ونحوهما، ومفاد كلامه (قدس سره) ان الجملة الخبرية لا تدل الا على ثبوت النسبة بين طرفيها او عدمها في ذات الأمر، ولا تدل على العلم بالثبوت ولكنه عند واجب الوجود لا ينفصل عن العلم به لأن علمه عين ذاته.
(1) لقد اراد الماتن التقريب بين قول المعتزلة والأشاعرة وهو صلح لا يرضاه الطرفان بلحاظ ادلة الأشاعرة، ولكن فكرة التقريب وتقسيم الطلب والإرادة امر حسن لوحدة الموضوع في تنقيح المناط وللإجماع على انه تعالى متكلم وانه سبحانه ليس محلاً للحوادث، لذا فان النزاع صغروي، لقد انكر الإمامية والمعتزلة الكلام النفسي، والكلام اما ان يكون خبراً واما انشاءً، وليس في الخبر صفة زائدة في النفس، بل انه مركب من الموضوع والمحمول والنسبة بينهما، وكذا بالنسبة للإنشاء كالتمني والترجي والإستفهام والنداء فليس فيه صفة زائدة تسمى الكلام النفسي، فقد ذكرت صفاته تعالى وليس فيها صفة الكلام النفسي.
والمراد من الصفات غير المشهورة الكلام النفسي والتمني والترجي ونحوها فلا دليل على وجود صفة الكلام النفسي كمدلول للكلام اللفظي، فاذا كان الأصحاب والمعتزلة ينفون الكلام النفسي فما هو المدلول على الكلام اللفظي والجملة الخبرية وثبوت النسبة بين طرفيها وهما الموضوع والمحمول كما في حال الإيجاب ونفيها بينهما كما في حال السلب، بمعنى ان الجملة الخبرية لا تحتاج الى الكلام النفسي ومدلول دال عليها، بل انها بذاتها تتضمن تلك الدلالة، وان ذهب الأشاعرة الى القول بان نسبة احد طرفي الخبر الى الآخر قائمة بنفس المتكلم بصفة غير الإرادة لأنه قد يخبر عما لا يعلمه او يشكه، وقد يأمر بما لا يريده كما في حال اختبار السيد لعبده، او المعتذر الذي يقول افعل ما شئت، وهو لا يريد من المخاطب ان يفعل شيئاً او يقتص منه ولكن لرفع اللوم.
نعم ادراك النسبة في باب التصور والوجود الذهني يحتاج الى العلم النظري والدلالة العقلية وهو امر خارج الأخبار واثبات النسبة كما ان الجملة الإنشائية تأتي بصيغة ايجاد مفاهيمها في الذهن والخارج وهذا من اسرار استعمال الإلفاظ ازاء المعاني المخصوصة في باب المجاز والمنقول، لذا تترتب على اللفظ احكام كالأمر والنهي، وعقود كالبيع والصلح والنكاح، وايقاعات وغير ذلك من الآثار الشرعية والعرفية.
لقد استدرك الماتن بان الصيغ الإنشائية وان افادت المعنى المقصود منها بالدلالة المطابقية مثل صيغة الإستفهام والتمني والترجي فانها تدل بالدلالة الإلتزامية على ثبوتها في النفس وانها موضوعة لإيقاعها وانشائها، وان الداعي لصدورها ثبوت تلك الصفات في النفس، فكلمة التمني (ليت) انما هي مترشحة عن ميل وتمنِ لذلك الشيء وكذا الترجي والإستفهام فانها امور تدل على وجود تلك الصفات في النفس.
فالجملة الخبرية لا تدل على ثبوت النسبة في النفس وكذا بالنسبة للإنشائية فانها لا تدل دائماً على ادراك المتكلم وسبق التصور، فبعد ان ابطل الماتن القول بان مداليل الألفاظ مطابقة للصفات والكلام النفسي اعترف بكون الصفات النفسية مدلولة للكلام اللفظي بالدلالة الإلتزامية سواء بالوضع او الإطلاق، باعتبار ان انشاء الطلب كاشف عن قيامه في النفس اما وضع ايقاعه أي الدلالة الإلتزامية العقلية الوضعية او لأجل الإطلاق وانصراف اللفظ اليه.
ولكن لابد من التفصيل والبيان ومنع الخلط والإرباك، فالإرادة عند واجب الوجود تختلف عن الإرادة عند الإنسان والمخلوق فالله سبحانه لا يفكر ولايهم ولا يتصور.
وقد ذكر الماتن قول الشاعر:
ان الكلام لفي الفؤاد وانما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
وبيت الشعر هذا استدل به الأشاعرة على الكلام النفسي كما في الشوارق وان هناك صفة قائمة بالنفس غير الإرادة واللفظ يدل عليها، وان النفس فيها صفة تسمى الكلام يدل عليها اللفظ وهو حاك لها.
والبيت للشاعر الأخطل ابي مالك غياث بن غوث (9 – 90) للهجرة (640 – 708) م وهو من بني تغلب ونشأ في اطراف الحيرة بالعراق، وتهاجى مع جرير والفرزدق، وتقرب الى الأمويين واكثر من مدحهم، واعتبر شاعرهم، والإستدلال بهذا البيت الشعري غير تام لوجوه:
1- جهة الصدور فهو لم يصدر عن نبي او معصوم، وليس بحجة ولم يصدر عن مسلم، فالأخطل نشأ على المسيحية.
2- لا يدل على المدعى بالكلام النفسي، وان الطلب صفة زائدة في النفس غير الإرادة.
3- الشعر لا يكفي للإستدلال في علم الكلام، فحجته في اللغة ومعاني الإلفاظ، وتلك الحجة تأتي من الشعراء في الجاهلية في الغالب ممن لم يخالط لسانهم المولدين.
4- مراد الشاعر الأخطل هو الإنسان وكلامه وجوانحه ولا يقصد البحث الكلامي وكلامه سبحانه.
5- الشاعر يذهب في أحيان كثيرة الى المعنى المجازي، والى الحس والوجدان، والخيال، والمثال، ومع طرو الاحتمال يبطل الاستدلال.
6- لا يعتمد الشاعر دائماً الإلتزام بالحقائق والقواعد الكلية فقد يقصد في شعره قضية في واقعة.
بحث منطقي
تعلق مواضيع علم المنطق بالافكار وليس بالإلفاظ لذا عرف المنطق بانه علم قوانين الفكر، والعلم الذي يدرس صورة الفكر لا مادته، وانه آلة تعصم الذهن من الخطأ، كما اطلق عليه اسم علم التفكير الصحيح.
نعم يتعرض للإلفاظ باعتبارها رموزاً للمعاني وصيغ لسانية وضعت لإفادة المعاني وبيانها، فيحتاج التعرض للألفاظ ببيان دلالتها، والدلالة هي العلم بوجود الشيء يتبعه وجود ذهني لشيء آخر ملازم له، وتكون الدلالة من الدال والمدلول.
لأن اللفظ الدال على معنى يلزم منه العلم بشيء آخر، وهو المدلول وعلم الأصول يحتاج تعريفات علم المنطق فيما يخص الالفاظ والدلالة وغيرها.
وتنقسم الدلالة الى قسمين:
1- الدلالة اللفظية.
2- الدلالة غيراللفظية.
والدلالة اللفظية تنقسم الى ثلاثة اقسام:
1- الدلالة اللفظية الطبعية: وهي التي يكون الدال فيها شيئاً طبيعياً او ملازمة طبيعية تتعلق بطبع الإنسان مثل دلالة الأنين على الألم.
2- الدلالة اللفظية الوضعية: وهي الدلالة التي تترشح من وضع اللفظ او استعماله في المعنى الموضوع له مثل دلالة لفظ الطعام على الحنطة، ودلالة لفظ العبادة على الصلاة، وهذه الدلالة هي التي تكون غاية للمنطقي لأنها المستعملة في الصنائع والمحاورات وقد قسمت الى ثلاثة اقسام هي:
أ- الدلالة المطابقية: وهي الدلالة التي يدل اللفظ فيها على تمام المعنى الموضوع له مثل: القرآن كتاب الله النازل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ب- الدلالة التضمنية: وهي الدلالة التي يدل اللفظ فيها على جزء المعنى الموضوع له مثل دلالة لفظ المسلم على المؤمن، او دلالة الطواف على الحج.
ج- الدلالة الإلتزامية: وهي الدلالة التي يدل اللفظ فيها على امر ملازم ذهنياً للمعنى الموضوع له اللفظ، فهو خارج عنه مثل دلالة الشمس على الضياء، ودلالة المطر على السحاب.
3- الدلالة اللفظية العقلية وهي الدلالة التي يكون الدال فيها هو الإستدلال والحكم العقلي مثل مصاديق العلة والمعلول، والسبب والمسبب، والأثر والمؤثر.
4- الدلالة غير اللفظية وهي الدلالة بغير اللفظ كما لو كانت بالإشارة او العرض المفاجئ او النظر.
وهي على ثلاثة اقسام:
1- الدلالة غير اللفظية الطبيعية: وهي التي يكون الدال فيها شيئاً طبيعياً مثل دلالة انتفاخ العينين عند الغضب، واحمرار الوجه عند الخجل، والحزن عند المصيبة، والخوف عند توقع المكروه.
2- الدلالة غير اللفظية الوضعية: وهي الدلالة التي يكون الدال فيها شيئاً مصطلحاً او متعارفاً عند الناس بوضعهم له مثل حدود البلدان.
3- الدلالة غير اللفظية العقلية: وهي الدلالة التي يكون الدال فيها او حكم العقل مثل دلالة امتلاء الآفاق بالضياء على طلوع الشمس، ودلالة الحرب على القتل والضرر.
ولا بأس بايجاد اصطلاح آخر للدلالة غير اللفظية كما لو كانت تسميتها بالدلالة الذاتية، او قسمتها الى الدلالة الذاتية والدلالة العرضية التي تتعلق بالاعراض الدائمة غير اللفظية كالألوان.
وفي اصول الكافي عن الإمام ابي الحسن عليه السلام: “ان لله ارادتين ومشيئتين، ارادة حتم وارادة عزم ينهى وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء، نهى آدم عليه السلام وزوجته ان يأكلا من الشجرة وشاء ان لا يأكلا، ولو لم يشأ ان يأكلا لما غلبت شهوتهما مشيئة الله، وامر ابراهيم ان يذبح اسحاق ابن ه ولم يشأ ان يذبحه، ولو شاء لما غلبت مشيئة ابراهيم مشيئته”، وعنه عليه السلام: “امر الله ولم يشأ، وشاء ولم يأمر، أمر ابليس ان يسجد لآدم وشاء ان لا يسجد، ولو شاء لسجد، ونهى آدم عن اكل الشجرة وشاء ان يأكل منها ولو لم يشأ لم يأكل”، فعلمه تعالى في المعلومات ثابت، كما يمكن ان يستدل بهذه الأحاديث في تقسيم الارادة، وان الإرادة المتحدة مع الطلب هي ارادة الحتم وهي المقصودة في المقام، ومن اقسام الارادة ما لا تتعلق بالأمر الى المخلوقين، بل تتعلق بالخلق والايجاد.
ويمكن استقراء تقسيم للإرادة من هذا الحديث وهو ارادة حتم سواء كانت تكوينية او تشريعية وهذه الإرادة لا راد لها، وارادة عزم، ومنها التكليف في الدنيا، اما الإرادة التشريعية فهي العلم بوجود المصلحة في فعل العبد وصدورها عنه باختياره من غير إكراه ولا اجبار لأنها عبارة عن بعث العبد الفعل باحداث الداعي لإيجاد الفعل خارجاً باختياره مما يعني ان علتها التامة ليست الإرادة التكوينية بل ارادة الفعل واختياره.
إشكال ودفع : أما الاشكال ، فهو إنه يلزم بناء على اتحاد الطلب والارادة ، في تكليف الكفار بالايمان ، بل مطلق أهل العصيان في العمل بالاركان ، إما أن لا يكون هناك تكليف جدي ، إن لم يكن هناك إرادة ، حيث أنه لا يكون حينئذ طلب حقيقي ، وإعتباره في الطلب الجدي ربما يكون من البديهي ، وإن كان هناك إرادة ، فكيف تتخلف عن المراد ؟ ولا تكاد تتخلف ، إذا أراد الله شيئا يقول له : كن فيكون . وأما الدفع ، فهو إن إستحاله التخلف إنما تكون في الارادة التكوينية وهي العلم بالنظام على النحو الكامل التام ، دون الارادة التشريعية ، وهي العلم بالمصلحة في فعل المكلف . وما لا محيص عنه في التكليف إنما هو هذه الارادة التشريعية لا التكوينية ، فإذا توافقتا فلابد من الاطاعة والايمان ، وإذا تخالفتا ، فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان (1).
فالطلب والإرادة متحدان في الإرادة التكوينية والتكاليف وانها جدية وليست صورية وان تخلف شطر من الناس عن الإمتثال، فالإرادة التكوينية لا تخلف في متعلقها سواء بالنسبة للنظام الأحسن او لفعل العبد، فانه من الارادة التشريعية وقد توجه الأمر الى العبد ولكن فعله ليس جزء من الإرادة التشريعية المحضة بل يكون جزء علة منه فعل العبد.
ونشكل على الماتن في قوله: “وما لا محيص عنه في التكليف انما هو هذه الإرادة التشريعية لا التكوينية فاذا توافقتا فلابد من الإطاعة والإيمان، واذا تخالفتا فلا محيص عن ان يختار الكفر والعصيان”، فلا تعارض او مخالفة بين الإرادتين خصوصاً وان التقسيم استقرائي، ومتعلق الإرادة التشريعية اعم، وكأن فعل العبد يتعلق بالإرادة التشريعية واختياره لسنة جعلها الله في الخلق، والإتحاد بين الطلب والإرادة بالمعنى الحقيقي واصل توجه الخطاب التكليفي.
(1) ما يذهب اليه الإمامية والمعتزلة واتبعهم الماتن فيه القول باتحاد الطلب والإرادة، ويرد عليه اشكال ذكره الماتن وذكر رده ودفعه، وموضوع الإشكال هو تكليف الكفار بالإيمان، وتكليف أهل المعصية بلزوم العمل بالأركان، فبناء على القول باتحاد الطلب والإرادة يحتمل أمران:
الأول: ان التكليف صوري لأن الأمر والطلب صدرا الى الكفار بالإيمان، ولكنهم لم يستجيبوا، فلو كانت الإرادة متحدة مع الطلب لما تخلفوا عن ارادته ومشيئته سبحانه.
الثاني: اذا كان التكليف جدياً فان المراد من الطلب متخلف عن الإرادة.
فمفاد الإشكال هو ثبوت الطلب للكفار بالأصول والفروع ولكنهم لم يعملوا، مما يعني عدم وجود ارادة لفعلهم مع وجود الطلب باعتبار انه تعالى لو اراد شيئاً فانه لا يتخلف ولا يمتنع لعمومات قوله تعالى [إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] فلو كان الطلب هو عين الإرادة، فثبوت انتفاء الإرادة يعني انتفاء الطلب والحال انه موجود وظاهر مما يدل على المغايرة بين الطلب والإرادة بحسب استدلال الأشاعرة واشكالهم علىاتحاد الطلب والإرادة.
اما دفع هذا الإشكال فيتلخص ببيان قسمي الإرادة وهي الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية، والإرادة هي اختيار كون الشيء في وقته، وصفة تقتضي ترجيح احد طرفي المقدور بالوقوع اما ارادته تعالى فانه تعالى هو المختار الذي لم يغلب ولم يقهر، وفي تعريف ارادته تعالى اقوال ومنها:
1- انها صفة قديمة زائدة على الذات قائمة به كالصفات الأخرى، عن الأشاعرة.
2- صفة زائدة قائمة بمحل، عن الجبائية.
3- صفة سلبية فالفاعل ليس بمكره ولا ساه، عن النجار.
4- العلم بالنظام الأكمل، عن الفلاسفة.
5- العلم بما في الفعل عن المصلحة، عن بعض محققي المعتزلة.
إن قلت : إذا كان الكفر والعصيان والاطاعة والايمان ، بإرادته تعالى التي لا تكاد تتخلف عن المراد ، فلا يصح أن يتعلق بها التكليف ، لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا قلت : إنما يخرج بذلك عن الاختيار ، لو لم يكن تعلق الارادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختيارية ، وإلا فلا بد من صدورها بالاختيار ، وإلا لزم تخلف إرادته عن مراده ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا (1).
6- صفة زائدة مغايرة للقدرة والعلم، مخصصة للفعل عن النافع يوم الحشر، حكاية عن الأشاعرة وغيرهم.
7- هي في فعل الله تعالى العلم بما فيه من المصلحة، وفي فعل غيره الأمر به، عن كشاف اصطلاحات الفنون.
(1) هذا بيان لإشكال قد يرد على اتحاد الطلب والإرادة، فاذا كان فعل العبد متعلقاً بارادته تعالى ومعلولها لا يتخلف عنها فيجب ان لا يتوجه له التكليف لأنه سالبة بانتفاء الموضوع لثبوت صفة الكفر والعصيان، او ثبوت الإيمان والطاعة عند العبد ويكون ملتجأ أو مضطراً الى الكفر او الى الإيمان فلا اختيار له في فعله فيسقط التكليف والإبتلاء لفقدان القدرة على الإداء والإختيار باعتبار تعلق ارادته تعالى بطاعة العبد او معصيته.
فاجاب الماتن على هذا الإشكال بنفي الجبر والإكراه في فعل العبد مما يدل بداهة على عدم تعلق فعل العبد بارادته التكوينية سبحانه، فلو اراد الله عز وجل من العبد ان يفعل لما تخلف عن ذلك، واجماع المسلمين على عدم تخلف ارادته تعالى عن مراده، ولكن الإرادة التشريعية هنا متعلقة باختيار العبد وما يقوده اليه عقله، ومما هو ثابت عنه المليين ان التكليف ابتلاء يمتحن به الله الناس مما يعني موضوعية واعتبار اختيار العبد فيخرج بالتخصص من مسألة اتحاد الطلب والإرادة، او ان الإرادة تتعلق بالأمر باعتبار انه هو الطلب، وفعل العبد امر اضافي لأن فيه موضوعية لاختياره.
إن قلت : إن الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما ، إلا أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار، كيف وقد سبقهما الارادة الازلية والمشية الالهية، ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالاخرة بلا اختيار قلت : العقاب إنما بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدماته ، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما ، فإن (السعيد سعيد في بطن أمه ، والشقي شقي في بطن أمه ) (1).
(1) ذكر الماتن اشكالاً يرد على قوله باعتبار ارادة الكافر والعاصي ومفاد الإشكال: ان ارادتهما لا تؤثر في موضوعية الإرادة الإلهية لأن المنتهى اليها، اذ ان العبد مخلوق ممكن، وكل الممكنات مستجيبة له تعالى مما يعني بالنهاية ان افعاله ليست اختيارية، لأن ارادة العبد في المحصلة الأخيرة ليست اختيارية، فلا يمكن ان تكون ارادته مخالفة لمشيئته الأزلية سبحانه، لذلك يكون التكليف غير اختياري ولا يصح العقاب على الكفر والعصيان لان فعل العبد خاضع لإرادته تعالى، فمع ثبوت الجبر في افعال العبد فانه لا يستحق العقاب علىالمعاصي، والعقاب بالإصطلاح هو الضرر المستحق المقارن للإستخفاف.
لقد قام الماتن بدفع شبهة الجبر هذه والتي ترشحت عن القول بعدم اتحاد الطلب والإرادة، ولكنه لم يدفعها بما اورده من التعليل بالسعادة والشقاوة الذاتيتين، بل انه مناسبة للجبري للإستدلال به او تفنيده، فقد عزا الماتن المعصية الى مقدمات ناشئة عن الشقاوة الذاتية من الميل والشوق وسلطان النفس الشهوية والغضبية لخصوص الذات، ولكن الإنسان ممكن ومن خلقه تعالى، والأمر يتعلق بالطلب الإلهي له بالإيمان واتيان الفرائض، وهذه المقدمات لا تكون سبباً للفصل بين الإرادة والطلب، انها خاضعة لإرادته تعالى، بل ان الناس بينهم لا يتخذون من هذه المقدمات عذراً للعبد عندما يخالف مولاه، فلا يقال انه لا يستحق العقاب لخبثه الذاتي، ولا يجعل الصلاح الذاتي شرطاً في شراء العبيد، وتحديد قيمتهم، بل ان الشقاوة الذاتية امر لم يثبت دوامه، لأن الإنسان ممكن وكل ممكن متغير وقابل للحوادث، فلابد من تأويل الحديث خصوصاً وان الله عز وجل جعل عنده العقل واللوم النفسي لذا فان نوعاً من النفوس يسمى النفس اللوامة وقد عرفت في الإصطلاح الكلامي بانها تميل مرة الى النفس الأمارة أي القوة الشيطانية التي تستجتمع جميع الرذائل، وتارة تلوم نفسها وتميل الى المطمئنة ذات الإعتقادات اليقينية الصحيحة ولا يصدر منها ذنب نهائياً.
والظاهر ان النفس اللوامة أعم من ان تكون نوعاً وقسماً على مرتبة متواطئة ومستقرة من النفوس بل ان النفس الأمارة والبهيمية والسبعية تكون احياناً لوامة وانها برزخ وواسطة للإنتقال الى النفس المطمئنة، وما ورد في توحيد الصدوق عن الإمام عليه السلام: “ان الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه”، وما ورد عن ابن ابي عمير قال: “سألت ابا الحسن عليه السلام عن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه، فقال: الشقي من علم الله وهو في بطن أمه انه سيعمل اعمال الأشقياء، والسعيد من علم الله وهو في بطن أمه انه سيعمل اعمال السعداء”([59]).
لابد من تأويله بانه من الأمورالعرضية للسعادة والشقاوة في عالم الذر او ان الله عز وجل جعل عند العبد ما يدرك ضمناً او بالالتزام ما ينتظره في الآخرة بلحاظ سلوكه وافعاله وسجاياه النفسية لعمومات أدلة الهداية [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]، فيشعر الانسان بالسعادة لميله للايمان وحيازته لملكة الهدى، ويشعر بالشقاوة لميله للعصيان والاخلاق الذميمة والافعال القبيحة، والتأويل ظاهر بلحاظ النصوص الأخرى والإرادة التشريعية وان المراد منه هو علم الباري عز وجل بما يفعله العبد في حياته قبل ان يولد، فالحديث يدل على سابق علمه تعالى بالأفعال واحاطته باحوال الخلائق وان علمه تعالى عين ذاته، وللجبرية ان يستدلوا به على اقوالهم ان اخذوه بمعزل عن الآيات القرآنية الأخرى والنصوص، وفي توحيد الصدوق عن اليماني عن الإمام الصادق عليه السلام قال: “ان الله خلق الخلق فعلم ما هم صائرون اليه، وامرهم ونهاهم، فما امرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل الى اخذه، وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل الى تركه”([60]).
كما ان اخبار الطينة والفطرة والقضاء والقدر لا تثبت الجبر، لقد جعل الله عز وجل للعبد الإختيار في الأفعال ليترتب عليها الثواب والعقاب، وذلك من نواميس الأرض منذ ان هبط اليها آدم وحواء، فالذنب حينما يرتكبه العبد يعتبر هو فاعله حقيقة وبإرادته وباشتياق اليه، والله عز وجل يعلم به، الا ترى ان العبد لو جاء بفعل بالإكراه لا يؤاخذ عليه، لذا يعتبر من اصول التكليف العامة الإختيار فاذا كان الإكراه من العباد الآخرين رافعاً للعقاب ومانعاً من ترتب المؤاخذة فمن باب اولى لو كان هناك اكراه بارادته تعالى على العبد لكان العقاب قبيحاً.
وفي رواية العرش عن الإمام الرضا عليه السلام قال: “سألته فقلت: الله فوض الأمر الى العباد، قال: الله اعز من ذلك، قلت: فجبرهم على المعاصي، قال: الله اعدل واحكم من ذلك، قال: ثم قال الله تعالى يا ابن آدم انا اولى بحسناتك منك، وانت اولى بسيئاتك مني، عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك”([61])، أي ان اللوم يتوجه الى العبد لأنه اساء توظيف فضله تعالى في خلقه وجعله قادراً على الإختيار بخصوص الفعل.
انه جزء من فلسفة الحياة الدنيا كدار ابتلاء وامتحان، والمفروض عدم الإبتعاد عن الطلب الأساسي في البحث وهو اتحاد الطلب والإرادة او عدمه وقول الماتن “والذاتي لا يعلل” مبني على فهم قول الإمام عليه السلام: “السعيد سعيد في بطن أمه، والشقي شقي في بطن أمه”، على ظاهره، وهذا الإستدلال قد ينافي القول باتحاد الطلب والإرادة الذي يذهب اليه ان لم تخرج افعال العباد من الإرادة الإلهية.
والذاتي الإيساغوجي أي كتاب الكليات الخمسة، والذاتي البرهاني الذي ينتزع عن نفس الذات ولا يصلح النسبة له في المقام، والذاتي هو المحمول الذي تتقوم ذات الموضوع به غير خارج عنها، سواء كان هو نفس الماهية كالإنسان، او كان جزء منه كما يوصف الإنسان بانه حيوان او ناطق فهو جزء ماهية ويسمى ذاتياً.
فالمراد من الذاتي يشمل النوع والجنس والفصل، لأن النوع نفس الماهية لذات الأفراد ويقابله العرضي وهو المحمول الخارج عن ذات الموضوع، ويحل به كاللون والحال او حال الضحك للإنسان.
فالسعادة والشقاوة عرضان وليس ذاتيين بل انهما نتيجة واثر لفعل او لجزاء حسن، ثواباً كان الجزاء او عقاباً.
اما وصف الناس بانهم معادن فلبيان اختلاف الناس في الطينة والسجايا والأخلاق والصفات، والخبر مع ضعف سنده جاء لبيان الإختلاف في السنخية والسلوك، ولتحذير المؤمنين من النظر الى الآخرين بمنظار الذات فيخدعون بالمنافق والكذاب، وهما لا يثبتان الجبر وجاءا اعم من مسألة الإرادة.
والفاعل على قسمين:
الأول: ما منه الوجود وهو العلة التامة للوجود، ومنحصر به تعالى سبحانه.
الثاني: ما به الوجود: أي المباشر للعمل المؤثر فيه والذي صدر الفعل منه على سبيل الإختيار كصناعة النجار للكرسي وخياطة الخياط للثوب.
وهناك تقسيم آخر للفاعل بلحاظ الفعل منها:
1- الفاعل بالطبع: وهو الذي يصدر منه الفعل لا عن قصد خاص لذات الفعل بل انه يأتي ملائماً لطبعه الأصلي، كالذي اعتاد كثرة اليمين، او اكل وجبة غذاء في وقت محدد لا عن جوع او رغبة، وكالذي اعتاد التدخين مع انه لا يرى أي فائدة فيه.
2- الفاعل بالرضا: وهو الذي يكون علمه بذاته سبباً لوجود شيء، وعلمه بوجود الشيء ذات علمه بوجوده كما في تصورات الإنسان واحلامه.
3- الفاعل بالقسر: هو الذي يصدر الفعل منه، وليس من شأنه الإختيار، ويكون فعله على خلاف طبعه وماهيته كالحجر الذي يلقى الى الأعلى.
4- الفاعل الموجب: وهو الذي يصدر الفعل عنه من غير ان يمتلك القدرة على منعه وعدم صدوره وليس له داع الى احد الطرفين الفعل او عدمه كالنار في احراقها، والفيضان في تغطيته لسطح الأرض، والمصباح في ضيائه.
5- الفاعل المختار: وهو الذي يؤثر في غيره وبامكانه ان لا يؤثر وان لا يفعل ولا يفيد الوجود.
فالإنسان ليس فاعلاً موجباً بل انه فاعل مختار ومؤثر في الأمور وذلك الفعل جاء معلولاً لخلقه تعالى له وجعله قادراًعلى الفعل وفي طريقين متباينين وهما الخير والشر وبصورة محدودة وليست مطلقة والا فان كثيراً من اهل الخير يود ان يؤتى ما يجعله يفعل اضعاف ما يقوم به ولكن قدراته محدودة وكذا بالنسبة للأشرار انها فلسفة الإمتحان في النشأة الأولى، والإنتهاء الى ارادته تعالى انما هي في فعل العبد لا تعني الجبر للتمييز بين الفاعل القريب والفاعل البعيد، فقد جعل الله عند العبد حق الإختيار، وان مسألة القضاء والقدر لا تعني الجبر والإكراه.
كما في رواية الكافي والصدوق في التوحيد عن علي بن جعفر الكوفي قال: عن الإمام الحسين عليه السلام: “كان أمير المؤمنين عليه افضل الصلاة والسلام جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفين اذ أقبل شيخ فجثا بين يديه، ثم قال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا الى الشام أبقضاء من الله وقدره؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أجل يا شيخ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد الا بقضاء من الله وقدره، فقال له الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين، فقال له: مه يا شيخ، فوالله لقد عظم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين، ولا اليه مضطرين، فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا اليه مضطرين؟ وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا، فقال له: وتظن انه كان قضاءً وقدراً لازماً انه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله، وسقط معنى الوعد والوعيد، فلم تكن لائمة للمذنب، ولامحمدة للمحسن،ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب تلك مقالة اخوان عبدة الاوثان،وخصماء الرحمن، وحزب الشيطان، وقدرية هذه الأمة ومجوسها، ان الله تبارك وتعالى كلف تخييراً، ونهى تحذيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يطع مكرهاً، ولم يملك مفوضاً، ولم يخلق السموات والارض وما بينهما باطلاً، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاُ، وذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار، فأنشأ الشيخ يقول:
أنت الإمام الذي نرجو بطاعتــه يوم النجاة من الرحمن غفرانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا جزاك ربك عنا فيه إحسانا
وتقريب الإستدلال بهذا الخبر هو ان أمير المؤمنين عليه السلام لم يرض للشيخ الإطلاق في فهم القضاء والقدر حينما قال: عند الله احتسب عنائي، وكأن المسير امر حتمي وقهري وان القضاء ليس حتمياً كي لا يبطل الثواب والعقاب ولكنه لا يعني التفويض بل منزلة بين المنزلتين، فالإحسان والثواب لمن سار وجاهد في سبيله تعالى، والعقاب لمن تخلف او خرج على الإمام، والأمر على نحو الإقتضاء وليس الإمضاء، وفي النبوي المشهور: القدرية مجوس هذه الأمة.
وسبب التشبيه بالمجوس هو اشتراكهما في سلب الإختيار عن العبد، فالمجوس ينسبون فعل الخير الى الله تعالى، والشر الى ابليس.
ومنها اخبار الطينة والميثاق منها ما رواه فضيل بن الزبير عن أبي جعفر عليه السلام قال: ” يا فضيل أما علمت ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنا أهل بيت خلقنا من عليين وخلق قلوبنا من الذي خلقنا منه، وخلق شيعتنا من أسفل ذلك، وخلق قلوب شيعتنا منه، وان عدونا خلقوا من سجين، وخلق قلوبهم من الذي خلقوا منه، وخلق شيعتهم من اسفل من ذلك، وخلق قلوب شيعتهم من الذي خلقوا منه، فهل يستطيع أحد من أهل عليين ان يكون من أهل سجين؟ وهل يستطيع أهل سجين ان يكونوا من أهل عليين؟”.
والخبر يدل على خلق الناس من طين متباين ولابد من تأويل هذه الأحاديث بما يتناسب وقواعد الإبتلاء في الدنيا وما جعله الله عز وجل عند الإنسان من اسباب الهداية والتوبة، واحاديث الطينة مدرسة اخلاقية تضيف امراً الى المؤثر في سجايا وخلق الإنسان الى جانب الوراثة والبيئة وتجعل موضوعية لأصل الخلق.
والهداية دعاء الله تعالى للخلق الى الإيمان بالحجة والبرهان والآيات الباهرات، وهي الدلالة الموصلة الى المطلوب والهداية في الإصطلاح على ثلاثة اقسام:
1- الهداية التكوينية: وهي افاضة الوجود وايجاد الخلائق وقد تقدمت الاشارة اليها.
2- الهداية التشريعية: وهي هداية الناس الى الطاعات بارسال الرسل وانزال الكتب، ولطف يرشد الناس لأداء الطاعات , ومن وجوه الهداية التشريعية تقريب العباد الى الطاعات وتهيئة اسبابها بما يساعده على اداء وهم ودفع : لعلك تقول : إذا كانت الارادة التشريعية منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل ، لزم – بناء على أن تكون عين الطلب – كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الالهية هو العلم ، وهو بمكان من البطلان (1).
العبادات كالولادة من ابوين مؤمنين ومقدمات الإيمان ومنها الطينة وايجاد اسباب الإنذار والتخويف للحذر من السيئات، ومن لطفه تعالى انه تفضل
على بعض خلقه من حين اصل الخلق بنوع الطينة الا ان هذا لا يعني انه على نحو الحتم والقطع، كما ان الحديث يتضمن المراتب التشكيكية المتعددة بين عليين وسجين.
وتأتي هذه الأحاديث للرد على المفوضة، وهناك آيات تدل على ارجاع فعل العبد الى مشيئة الله تعالى كقوله [يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ]([62]) الا انه لابد من تأويلها مع احكام التكليف الواردة في آيات القرآن وان الهداية والضلالة يتعلقان بالأسباب والمقدمات ايضاً وبقدرته تعالى وابتناء الهداية والضلالة على فعل العبد ونيته وعزمه، واساس التفويض ليس هو تخيل عدم حاجة الممكن في بقائه الى العلة وكفاية علة الحدوث، بل ان الأمر مستقل ومن يقول بالتفويض يقر بالخلق وبارادته تعالى التكوينية الا انه يدعي تفويض الفعل للعباد للحجة والإختبار والبرهان.
(1) هذا بيان لإشكال آخر لمن يقول بالمغايرة بين الإرادة والطلب باتخاذ الإرادة واسطة للقول بان الطلب هو العلم وهو خلاف، فالطلب انشاء ولفظ ونحوه، اما العلم فهو صفة نفسانية فكيف يكون هو المنشأ بالأوامر الشرعية الإلهية، والعلم ليس قابلاً للإنشاء بالصيغة أي ان هذا الإشكال يبتنى على القياس الإقتراني، وهو اذا كانت الإرادة التشريعية هي العلم والإرادة عين الطلب فالنتيجة ان الطلب هو العلم، وهذه النتيجة لم يقل بها احد مما يعني بطلان اتحاد الإرادة والطلب.
فاجاب الماتن على هذا الإشكال بنعته بالوهم وهو تضعيف له، وبان الإتحاد بين الإرادة التشريعية والعلم بالصلاح يتعلق بالمصداق، فمصداق الإرادة هو نفسه مصداق العلم وليس الإتحاد في المفهوم.
والمراد من المفهوم في الإصطلاح على اقسام:
1- المعنى المدلول من اللفظ سواء كان على نحو الحقيقة او المجاز.
2- ما يقابل المصداق: فيكون المراد منه هو المعنى الأعم الذي يفهم منه بالتبادر او بالواسطة سواء كان مدلولاً للفظ او لا.
3- ما يقابل المنطوق وهو يتعلق بالدلالة الإلتزامية مما لا يتضمنه معنى اللفظ ولا يكون مقصوداً له، فمع اتحاد الإرادة والعلم في المصداق فانهما لا يتحدان في المفهوم لأن الطلب يتعلق بالمفهوم باعتبار انه القابل للإيجاد باللفظ وليس الطلب الخارجي، فالطلب الخارجي ليس هو العلم، الإقرار بالمغايرة بين الإرادة الحقيقية والطلب الإنشائي، فالطلب الخارجي مبرز خارجي انشائي.
واكد الماتن على اتحاد الإرادة والعلم عيناً وخارجاً أي ان الطلب الإنشائي امر آخر يخرج بالتخصيص من الإتحاد بين الإرادة والطلب فلا تصل النوبة الى اتحاده مع العلم كما ذكر في الإشكال.
واتحاد الإرادة والعلم لأن صفاته تعالى عين ذاته وواجب الوجود بسيط ليس مركباً ومن مقومات التوحيد نفي المتعدد في الصفات عنه تعالى، قال الإمام علي عليه السلام: فمن وصفه قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزاه([63]).
“وفي خبر ابن بكير عن الإمام الصادق عليه السلام لما سئل عن علم الله ومشيئته، هما مختلفان ام متفقان قال: العلم ليس هو المشيئة الا ترى انك
الفصل الثاني فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه مباحث:
الاول: إنه ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها، وقد عد منها : الترجي ، والتمني ، والتهديد ، والانذار ، والاهانة ، والاحتقار ، والتعجيز ، والتسخير ، إلى غير ذلك (1).
تقول سافعل كذا ان شاء الله، ولا تقول سأفعل كذا ان علم الله تعالى،
فقولك ان شاء الله دليل على انه لم يشأ فاذا شاء كان الذي شاء كما شاء، وعلم الله السابق للمشيئة”([64]).
(1) قال الماتن (ربما) وهو هنا للتقليل والإحتمال اراد الماتن البيان وان معان كثيرة ذكرت لصيغة افعل وبلحاظ ما ذكره في الفصل الأول من ذكر سبع معان للفظ الأمر، ومنهم من جعلها اثنين وعشرين معنى يظهر معها الفرق بين مادة الأمر وصيغته، والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق فكل صيغة هي من مادة الأمر وليس كل موضوع لمادة الأمر هو من الصيغة، فالصيغة لم تستعمل في هذه المعاني كالتهديد والتمني والترجي، فاذا اراد شخص ان يتمنى او يتوعد فان التهديد ليس هو الصيغة لأن الصيغة تعني البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي، اما هذه الأمور من الترجي والتعجيز والإحتقار ونحوها، فتصلح ان تكون باعثاً للفعل والتحريك نحو المطلوب، ولكنها ليست صيغة بل انها عناوين مستقلة تكون داعياً لإنشاء الطلب، وكأنها تدل في مفهومها على الصيغة والتصريح بالصيغة هو المنطوق.
ومن المعاني التي ذكروها الترجي والتمني والإهانة كقوله تعالى [ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا ] ([65])، والتهديد [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ]([66])، والإنذار [ هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ ] ([67])، والإهانة [ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ ] ([68])، والتسخير كما في قوله تعالى [ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ] ([69]).
اتجه الى تقسيم آخر اذ قال ان استعمال انشاء الطلب بالصيغة هو بعث حقيقي، وتحريك صريح نحو المطلوب، اما اذا جاء الطلب بعنوان الإنذار والتهديد فهو مجازي، وبذا يظهر التباين بين الصيغة وهذه المعاني، ولكن مفهوم الحقيقة والمجاز لا يتم هنا لإجتماعهما على لفظ معلوم اما هنا فان الألفاظ متعددة، والأقوى ان دلالتها على الأمر بالمفهوم والواسطة وليس من باب الحقيقة والمجاز.
واذا كان مدار الحقيقة هو الوضع، والمجاز تابع له ولاحق به، فان اطلاق الأمر لا يدل على الوجوب، اذ ان الصيغة مركبة من المادة والهيئة، وتدل المادة على المعنى الحدثي، اما الهيئة فانها موضوعة لنسبة المادة الى الفاعل بلحاظ زمان ايقاع الفعل والتلبس به أو عدمه ولكن الوجوب يتأتى من امرين:
الأول: داعي البعث والتحريك على نحو اللزوم.
الثاني: الحكم العقلي او الشرعي.
والوجوب امر مركب من أمرين :
الأول : طلب الفعل .
الثاني : عدم الإذن بالترك .
والقول بان المنع من الترك هو عين الطلب لا يضر بالتركيب لأنه من التعريف والمفهوم وليس من الدلالة المطابقية بين الوجوب وعدم الترك، ومن غير ان تصل النوبة الى التحليل العقلي في معرفة المائز اللغوي والإعتباري بينهما .
اما الإستحباب فهو الأمر بالفعل مع اذن المولى بالترك، وقيل ان مفهوم الوجوب والإستحباب بسيط لذا ذهب شطر من المتأخرين الى القول بان الوجوب والإستحباب حقيقة واحدة وانهما من الكلي المشكك، والفارق بينهما ينحصر بالشدة والضعف، فالوجوب يدل على الطلب الشديد، والإستحباب يدل على الطلب الضعيف، والأصح هو الأول اذ ان المنع من الترك او ألإذن به له موضوعية في مفهوم الوجوب والإستحباب، وهو جزء من ماهيتهما فلابد ان يعتبر في التعريف .
والمنع من الترك في الوجوب والإذن به في الإستحباب ليس من الكلي المشكك بل بينهما مغايرة، فالوجوب لا ينحصر موضوعه بداعي البعث والتحريك بل انه يتضمن النهي عن الترك سواء من وضع الصيغة او الإنصراف او التبادر او بحكم العقل او من الإطلاق باعتبار ان الإطلاق لا يتنجز له ظهور فيما يحتاج الى مؤونة زائدة كالإستحباب الذي فيه مؤونة زائدة وهي الإذن بالترك.
ولا يعني قولنا بان الوجوب مركب من البعث الى الفعل وعدم الإذن بالترك يعني انه يستلزم مؤونة زائدة كالإستحباب فلا يصح ظهور الإطلاق في الوجوب والإذن يحتاج الى مؤونة زائدة، وللتبادر بالإضافة الى القول بان الظهور وضعي وهو اطلاقي، والوجوب ينتزع من ذات الطلب بلا شرط وليس بشرط لا، فانه لا يلحظ فيه قيد زائد كما هو الإستحباب، مع ان قيد الوجوب موجود ولكنه منصهر في ذات الطلب لغة وشرعاً وعرفاً
المبحث الثالث: هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب والبعث مثل: يغتسل، ويتوضأ، ويعيد ظاهرة في الوجوب أو لا لتعددالمجازات فيها، وليس الوجوب بأقواها، بعد تعذر حملها على معناها من الاخبار، بثبوت النسبة والحكاية عن وقوعها الظاهر الاول، بل تكون أظهر من الصيغة، ولكنه لا يخفى أنه ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام أي الطلب مستعملة في غير معناها، بل تكون مستعملة فيه، إلا أنه ليس بداعي الاعلام، بل بداعي البعث (1).
وكأن الوجوب بسيط.
(1) التبادر من علامات الحقيقة، وجعله الماتن هنا من علامات الوجوب، والنقاش في الكبرى وهي اثبات حجية التبادر كموضوع مستقل وفق القياس الإقتراني فتقول كل متبادر دليل وحقيقة، والوجوب متبادر من الأمر، فالنتيجة الوجوب حقيقة.
ثم اشكل الماتن على صاحب المعالم اشكالاً مركباً:
1- ان تكون كثرة النقل واستعمال الصيغة في الندب سبباً لضعف ظهور الوجوب في الصيغة او نقل مفهومها الى الندب وحملها عليه.
2- انه استبعد بالدلالة التضمنية صحة القول بان كثرة استعمال الصيغة في الندب. وادعى ايضاً كثرة استعمال الصيغة في الوجوب، وهو ادعاء صحيح ويصلح للإحتجاج والرد.
3- لو سلمنا بكثرة استعمال الصيغة في الندب، فان الإستعمال فيه يأتي مع القرينة. فكما ان التبادر علامة الحقيقة فان القرينة علامة المجاز لأنها تدل على المؤونة الزائدة.
4- كثرة الإستعمال لا تدل على حصول النقل لأن استعماله في الوجوب مستمر.
5- كثرة استعمال الصيغة بالندب معارضة بكثرة استعمالها في الوجوب فيتساقطان، فيرجع الى الأصل وهو الوضع او علامات الحقيقة والمجاز.
6- كثرة استعمال الصيغة في الندب لا يعني شهرتها فيه كي يرجح الندب عند الإتيان بالصيغة او يحصل التوقف والبحث عن قرينة لترجيح احدهما الوجوب او الندب لأن الشهرة وحدها غير كافية في المنقول.
ثم ذكر الماتن وجهاً آخر للرد على صاحب المعالم الذي توقف في افادة الأمر في الكتاب والسنة الوجوب لأن الصيغة فيهما كثيراً ما تستعمل في الندب، وان اقر بان الصيغة حقيقة في الوجوب لغة وعرفاً، قال الماتن “كثرة استعمال العام في الخاص حتى قيل ما من عام الا وقد خص” وكثرة الإستعمال هذه لم تصبح حائلاً دون ظهور صيغة العموم به، ولو حصل شك في ارادة الخاص او العام فينصرف الى العام، وكذا لو شككنا في التخصيص، فالأصل عدمه، ولا تدل صيغة العموم على ارادة الخصوص الا مع القرينة الصارفة اليه.
ولكنه قياس مع الفارق فليس من ملازمة بين استعمال الصيغة في الوجوب والندب، وبين استعمال اللفظ في العموم والخصوص، فالأول من ماهيات الأحكام ومن باب الحقيقة والمجاز، اما الآخر فان الخاص فرد من العام، وهو من باب تعدد المطلوب وكثرة الأفراد.
لا يقال : كيف ويلزم الكذب كثيرا ، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج ، تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علوا كبيرا فإنه يقال: إنما يلزم الكذب، إذا أتي بها بداعي الاخبار والاعلام ، لا لداعي البعث ، كيف ؟ وإلا يلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل ( زيد كثير الرماد ) أو ( مهزول الفصيل ) لا يكون كذبا، إذا قيل كناية عن جوده ، ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلا ، وإنما يكون كذبا إذا لم يكن بجواد، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ، فإنه مقال بمقتضى الحال(1).
(1) تكون الجملة تارة انشائية واخرى خبرية، وصيغة الأمر والبعث على
الفعل والتحريك جملة انشائية، ولكن صيغ الأخبار كما ذكر الماتن وفي لا صحيحة أبي بصير: قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الوضوء، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ بمد من ماء ويغتسل بصاع”، وفي الخبر عن الصادق عليه السلام قال: من سنن المرسلين السواك”([70])، وما يوجب الغسل او الوضوء او كما في قوله تعالى [فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ] ومع ثبوت خروجها عن موضوع الإخبار لما تتضمنه من البعث.
والمشهور هو ظهورها في الوجوب ما دامت تحمل صفة الطلب والبعث، وعن جماعة انه الندب كما عليه المحقق الثاني والنراقي، ومنهم من قال بالتوقف لعدم وجود مرجح، واختار الماتن ظهورها في الوجوب وهو الذي ذهب اليه المشهور، ولكنه اختلف معهم في كيفية الظهور، فقد نفى الماتن ان يكون ظهور الجملة الخبرية في الوجوب على نحو المجاز وما قد يورده بعضهم على المجاز بانه كذب، فالجملة الخبرية التي جاءت للوجوب مستعملة في معناها الحقيقي وهو الإخبار عن ثبوت النسبة بين طرفيها، ولكن القصد مختلف، فهي ليست بقصد الإعلام والإخبار فقط بل بداعي البعث والتحريك، والإعلام نحو توكيد على الوقوع.
فالجملة الخبرية تأتي لإخبار المخاطب بارادة الفعل وعدم الإذن في تركه وان المخبر عالم بموضوعها ولا يريد مخالفة مضمونها، وكأن الأمر فيها جاء
على نحو الإخبار والقطع بتحصيله خارجاً ليصبح استعمال الجملة الخبرية الواقعة في مقام الطلب في معناها الحقيقي وهو الإخبار مع تضمنها الأمر، فلا تعارض بين اجتماع الأخبار والطلب في الجملة الخبرية.
ثم ان تقسيم الجملة الى اخبارية وانشائية انما هو تقسيم استقرائي مع امكان تداخلها في المضمون والغاية في بعض الأحيان، فالتقسيم الإستقرائي في القضايا والمواضيع لا يعني بالضرورة التغاير والتنافر بين الأقسام.
وقال الماتن ان الجملة الخبرية تدل على البعث بنحو آكد من الإنشائية باعتبار تضمنها للأخبار عن وقوع مضمون الطلب والإمتثال باعتبار ان الجملة الخبرية تثبت الوقوع وثبوت النسبة بخلاف الأمر والجملة الإنشائية فان الوقوع يتوقف على امتثال المأمور.
اذ قال الماتن (فيكون آكد في البعث من الصيغة) وهذا الترجيح للجملة الخبرية على الإنشائية في المقام ليس بتام اذ ان الأمر يفهم من الجملة الخبرية بالواسطة فيحتاج الى مؤونة زائدة وليس مباشرة كما في الإنشائية، وما كان بلا مؤونة زائدة افضل مما كان بمؤونة زائدة مع اتحاد الفرض ثم ان الجملة الخبرية لا تتحقق اكثر من الذي تحققه الإنشائية في البعث والتحريك وعليه العقل والوجدان، كما انها تحتاج الى البيان.
فكأن الجملة الخبرية من الفطريات التي تكون قياساتها معها، وان العقل لا يصدق بها بمجرد تصور طرفيها كالأوليات فلابد من وسط ولكنه لا يحتاج الى كثير طلب وفكر، فيكفي ان يدرك الذهن الغاية من الجملة الخبرية ليس الإعلام والإخبار فقط، بل هو الطلب والبعث والتحريك يستحضر توظيفه والسعي للإمتثال اليه.
اما بالنسبة للإنشائية فهي من باب الطلب والبعث من الأوليات اذ يصدق بها العقل لذاتها من غير مؤونة زائدة او سبب خارجي، فيحكم عليها العقل بذاتها بصدق الطلب والبعث فيها على نحو القطع بمضمون القضية.
وفي علم المنطق ينقسم اللفظ الى قسمين مفرد ومركب، والأول الذي لا جزء له مثل (الباء) في قولك وصلت بالسيارة، او اللفظ الذي له جزء الا ان جزءه لا يدل على جزء المعنى مثل القاف في كلمة القلم، و(عبد) في عبد الله لأنه جزء من اسم الشخص، فالمنطقي ينظر الى المعنى، اما النحوي فيعتبر (عبد) هنا مفرداً بلحاظ البناء والإعراب فكلمة عبد اسم له اعراب مستقل وهو الإضافة.
اما القسم الآخر وهو المركب فهو اللفظ الذي له جزء يدل على جزء معناه مثل ( الصلاة عبادة) فكل من الصلاة والعبادة جزء من معنى المركب، ويكون المركب تارة ناقصاً وهو الذي يبقى السامع ينتظر تتمة الكلام سواء بالخبر او جواب الشرط او المفعول او المضاف اليه، او الإسم المجرور كما لو قلت الصيام جنة من… وسكت، فان السامع ينتظر الإخبار عن الإسم المجرور وهو النار ليتم المعنى.
وتارة يكون المركب تاماًَ، وهو الذي تكون النسبة قائمة بين اجزائه وتنقسم الى قسمين:
الأول: ما اذا كان له حقيقة ثابتة في ذاتها بغض النظر عن اللفظ، وكيفية حكايته او كشفه لهذه النسبة، كما لو اخبرت عن حصول شيء او عودة الحاج او رؤية الهلال فهذه الجملة خبرية، وتسمى ايضاً الخبر، والقضية، والقول، وهو اعم من ثبوت النسبة بين الطرفين فقد تخبر عن صدق وقوع الفعل وقد لا تطابق الواقع.
الثاني: ان لا تكون للنسبة التامة حقيقة ثابتة، واللفظ هو الذي يحقق النسبة وتظهر بقصد المتكلم فلا حقيقة ثابتة توصف بصدق الكلام او كذبه بل هو انشاء لأن معانيها تنشأ باللفظ الذي يتعلق بالموضوع، وتلقي المخاطب له سواء على نحو الطلب او المنع او التمني او التهديد.
فالطلب بالجملة الخبرية لا يلزم الكذب وان ادعاه جماعة بسبب عدم وقوع المطلوب أي انه يخبر عليه في الجملة الخبرية في مقام الطلب، ولكن لم
يؤت بالفعل خارجاً، فيستلزم الكذب والله تعالى منزه عن القبيح، فاجاب الماتن على هذا الإشكال بان الكذب يتحقق اذا جاء بالجملة الخبرية بقصد الإخبار والإعلام عن الحصول والحدوث والتصديق، اما اذا كان بداعي البعث والتحريك كما هو الحال فليس بكذب، والا يلزم الكذب في غالب الكنايات كما في قولك: زيد كثير الرماد، وليس من رماد يقارن الكرم في هذه الأيام خصوصاً في المدن، ولكن مدار الصدق والكذب على اكرام الضيف وليس على كثرة الرماد وعدمه فهو كناية وتقريب للمعنى، فيكون الكلام كذباً اذا لم يكن كريماً.
ومع ان الإشكال ليس في محله للتسالم بان ارادة البعث ليست متعلقة بالصدق والكذب ولكن المثل من القياس مع الفارق خصوصاً وان الكنايات والمجاز فيها قول بالكذب ونحوه وان لم يكن تاماً، ومبحث الخبر والإنشاء مستقل واجنبي عنه فلماذا يحشر مع مبحث الكناية.
اما القول بان الجملة الخبرية آكد وابلغ في مقام الطلب ليس مطلقاً كما ان الجملة الانشائية أكثر ملائمة للناس لتباين مشاربهم ومداركهم واظهر في الحجة، فالأمر هو الأكثر وضوحاً ودلالة على الطلب والبعث.
هذا مع أنه إذا أتى بها في مقام البيان ، فمقدمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب ، فإن تلك النكتة إن لم تكن موجبة لظهورها فيه ، فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين محتملات ما هو بصدده ، فإن شدة مناسبة الاخبار بالوقوع مع الوجوب ، موجبة لتعين إرادته إذا كان بصدد البيان ، مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره ، فافهم (1).
(1) استدلال آخر ذكره الماتن لإفادة الجملة الخبرية الوجوب بمقدمات الحكمة وهي ان المتكلم في مقام بيان المراد وليس الإخبار عن امر اجمالي يحتاج الى توضيح اضافي آخر، وعدم وجود قرينة حالية او مقالية في مقام التخاطب وعدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب وقد تقدم الكلام فيها.
ومع اجتماع هذه المقدمات فان الجملة الخبرية تحمل على الوجوب ويمكن الإشكال عليه فان الاستدلال بمقدمات الحكمة يصلح في باب الإطلاق والتقييد، واذا اردنا الإستدلال بها على الوجوب فيمكن ايضاً الإستدلال بها على غيره، لأن النقاش في الكبرى وهو احراز ان المتكلم يريد البيان والتوضيح والجملة خبرية وليس انشائية.
بالإضافة الى ما تقدم من النقاش في كون الجملة الخبرية ابلغ في مقام التأكيد فانه يحتاج الى مقدمة وهي اثبات انه في باب البعث وليس الإعلام فقط كما انه لا يصل الى مقام الترجيح على الإنشاء على نحو الاطلاق، نعم ورد في علوم القرآن بان الجملة الخبرية تكون ابلغ في التعبير والبيان اينما جاءت، ولكن القرآن تضمن لغة الأمر للبعث والتحريك.
نعم ما في الإخبار من اشارة الى وقوع المطلوب على نحو التحقيق والحصول باعث على التحريك والبعث، ولكنه يحتاج الى الواسطة وهي ان الإعلام يدل على شدة الطلب وغالباً ما تستلزم الجملة الخبرية اصالة التوضيح الى مقام آخر لأنها بالأصل تفيد الإعلام والإخبار ويدل عليه قول الماتن “فلا اقل من كونها موجبة لتعيينه من بين محتملات ما هو بصدده” فهذا التعيين يستلزم استحضار الوسائط للإستدلال.
ويمكن الإستدلال بحجية الظهور على افادة الوجوب من الجملة الخبرية بعد ثبوت استعمالها في الأوامر بصيغة الخبر، وعدم وجود دليل على حصر الأمر بالجملة الإنشائية بالإضافة الى الإستعانة بالقرائن المقالية والحالية كما في الصناعة الفقهية بالجمع بين النصوص والإستدلال على افادة الوجوب والندب من الجملة الخبرية او الإنشائية بالنصوص والسنة الفعلية والتقريرية، فكلمة (ينبغي) قد تدل على الوجوب وقد تفيد الندب بحسب القرائن الأخرى، مما يدل على ان الجملة وحدها قد لا تفيد المطلوب، وانها قابلة لأن تكون للوجوب او الندب بحسب اللحاظ والقرائن، ولكن لو جاءت مجردة ولم يكن نص آخر بصدد موضوعها .
فتحمل على الوجوب او الندب، والأقوى ما ذهب اليه الماتن من حمل الجملة الخبرية على الوجوب بحجية الظهور والقرائن، مع عدم وجود مانع ودليل على انصرافها للندب او غيره.
المبحث الخامس : إن إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليا ، فيجزي إتيانه مطلقا ، ولو بدون قصد القربة ، أو لا فلا بد من الرجوع فيما شك في تعبديته وتوصليته إلى الاصل . لابد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات : إحداها : الوجوب التوصلي ، هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول الواجب ، ويسقط بمجرد وجوده ، بخلاف التعبدي ، فإن الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك ، بل لابد – في سقوطه وحصول غرضه – من الاتيان به متقربا به منه تعالى(1).
(1) يقسم الواجب بلحاظ القصد والنية الى قسمين واجب توصلي وواجب تعبدي، وفيه مسألتان:
الأول: ان النقاش في الكبرى وهو افادة الصيغة الوجوب بعد الإختلاف فيها وانها قد تفيد الندب او الجامع المشترك بين الوجوب والندب.
الثاني: ان تقسيم الواجب الى التعبدي والتوصلي اعم من ان ينحصر بالصيغة، بل يشمل الجملة الخبرية التي تتضمن البعث والداعي الى الفعل وتشمل الجملة الإنشائية وما يقصد به الأمر.
والواجب التوصلي مطلوب بذاته من غير صفة زائدة وقصد الداعي الإلهي للأجزاء بمجرد وجوده في الخارج بلا شرط سواء كان في اصل التشريع او في قصد الإمتثال، وقيل: وقد تطلق التوصلية ويراد منها “عدم اعتبار المباشرة او عدم اعتبار الإرادة والإختيار”.
ولكنه من اوصاف ومفاهيم الواجب التوصلي وليس هو تعريفاً له، فعندما يقال يسقط بمجرد وجوده في الخارج فانه يدل في مفهومه على عدم اعتبار المباشرة وان كان عدم الإعتبار هذا ليس مطلقاً، فقد تعتبر المباشرة بحسب الدليل واللحاظ والمناسبة والموضوع.
وكذا بالنسبة لإعتبار الإرادة والإختيار، فانها من لوازم الإيجاد المطلق الخالي من الشرط والقيد، فالمدار والمائز بين الواجب التعبدي والتوصلي هو قصد القربة وارادة ابراء الذمة بالإمتثال.
وقيل: “ان التوصلية هي ما لم يكن تشريعه لأجل اظهار العبودية” ولكنها ليست مجردة من صفة العبودية وطلب مرضاته تعالى ولو بقصد الرجاء والتوسل، ويجب ان يكون طلب مرضاته سوراً جامعاً لأفعال العباد والبحث عن مائز آخر بين التعبدي والتوصلي ثم ان المدار في التقسيم على فعل العبد وشرط وكيفية الإمتثال وليس اصل التشريع، واستدل برد التحية وانه لا يعتبر فيه قصد التعبد ومع ذلك يعتبر فيه المباشرة، مع ان رد التحية واجب، وغالباً ما يقصد به العبد رجاء الأجر والثواب، ويتجنب الانسان الإمتناع عن ردها لما فيه من الإستكبار والعصيان للأمر الإلهي، قال تعالى [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا].
وقد ذكرت في التوصلي والتعبدي والفرق بينهما وجوه وتعريفات:
الأول: ان التوصلي هو الذي يكون الغرض منه معلوماً للمأمور، والتعبدي هو الواجب الذي لا يكون الغرض من الأمر به معلوماً للمأمور.
ونسب هذا التعريف الى القدماء باعتبار ان المأمور اذا لم يعرف غرض الآمر يفعله امتثالاً لأمره لا لأجل تحصيل غرضه اما اذا عرف الغرض فانه يفعله لأجل ذلك الغرض ), ولا يخلو من تكلف .
وهذا التعريف يحول دون وجود تقسيم خارجي عقلي، ويستلزم استحضار مصاديق الواجب والبحث في كل منها بلحاظ الغرض والملاك والمصلحة التي في تشريعه والإمتثال له، ومعرفة هذا الغرض امر متعذر في الغالب وقد يحصل على نحو جهتي، صحيح انه وردت بعض الأخبار في
علل الشرائع واسرار الأحكام ولكنها لا تصلح للتمييز والتفريق بينها بل انها تفيد التداخل الى جانب تخلف الأوهام عن ادراك الغرض من التكليف، كما ان هذا التعريف يختلف عن التعريف المشهور للتعبدي والتوصلي.
الثاني: ان التعبدي لا يحصل الا بقصد القربة ويؤتى به للتعبد، اما اذا كان يحصل باتيانه سواء قصد به القربة او لم يقصد ولا يؤتى به للتعبد، فهو توصلي.
وهذا التعريف هو المشهور ويستلزم معرفة مواطن قصد القربة في الأفعال والإمتثال.
الثالث: التعبدي هو الواجب الذي تعتبر فيه المباشرة والإختيار، اما التوصلي فلا تعتبر فيه المباشرة ولا الارادة، ولو حصل بلا ارادة واختيار كزوال النجاسة عن الثوب الملقى تحت المطر فتحصل طهارته مع عدم الإختيار والإرادة، وكذا فان التوصلي قد يتحقق بالمحرم كما لو غسل الثوب في المكان المغصوب بخلاف التعبدي وقد تقدم في الصفحة السابقة ان هذا من لوازم المعرف وليس هو التعريف.
الرابع: التوصلي ما تفرغ الذمة باتيانه في الخارج , ولو بغير قصد القربة او المباشرة، اما التعبدي فيشترط ابراء الذمة فيه المباشرة والعزم وقصد القربة عقلاً وشرعاً فلا يسقط الأمر في التعبدي الا بقصد القربة أي ان قصد القربة شرط في المأمور به اما التوصلي فيسقط الإتيان به.
والمراد من قصد القربة هو قصد الإمتثال للأمر الإلهي تعبداً وطاعة، وان يشعر المكلف بالعبودية وان الأداء عليه واجب شرعي وطاعة للخالق وسعي في رضاه.
لقد قيد الماتن التعبدي بانه الواجب الذي لا يتحقق الغرض منه بمجرد اتيانه ووجوده في الخارج بل لابد من قيد قصد القربة وامتثال الأمر عند الإتيان بمتعلقه وهو الأصح في التقسيم، ولابد من ارادة ونية كما في الصيام فلو نام نهار الصوم واستيقظ عند الغروب ولم يتناول المفطرفلا يصح اعتباره له يوم صيام اذا لم تسبقه النية في ذات الليلة او في اول شهر رمضان.
قصد القربة
اجماع المسلمين على ارادة قصد القربة عند الإمتثال والنسبة بين القصد وقصد القربة هو العموم والخصوص المطلق على وجوه:
الأول : قصد القربة شرط شرعي من متعلق الأمر.
الثاني : انه امر اضافي آخر مع الواجب المأمور به، وكأن الواجب التعبدي مركب وينحل الى الأمر بالإمتثال وقصد القربة.
الثالث : انه قيد عقلي لصدق الإتيان بالمأمور به، ولا مانع من تداخل هذا الوجوه.
واختلف في مفهوم قصد القربة على وجوه :
الأول : انه عبارة عن قصد الأمر فقط، لذا ذهب الشيخ البهائي الى انكار الثمرة من بحث الضد لعدم مدخليته في قصد الأمر لكفاية عدم الأمر بالضد على فساده ولإستحالة الأمر بالضدين، وبما ان الضد غير مأمور به فيقع كعبادة فاسداً.
الثاني : قصد الله تعالى سبحانه كما قال الشهيد الثاني في الروض، ويكفي عن الجميع قصد الله سبحانه الذي هو غاية كل مقصد.
الثالث : الإتيان بالواجب التعبدي امتثالاً لأمر الله سبحانه.
الرابع : قصد المصلحة التي صارت سبباً للأمر، وبه قال الشيخ الأنصاري.
الخامس : موافقة طاعة الله تعالى، وفسرت الإطاعة بالإرادة، وقال في الروض “بمعنى موافقة ارادته” كما ان الطاعة والإمتثال من المترادف في الجملة.
السادس : ما يكون موجباً لمرضاة الله.
السابع : المراد من قصد القربة هو التشبيه بالقرب المكاني، فيكون العبد ساعة الواجب التعبدي منقطعاً الى الله تعالى , ولا يعني القرب المكاني والتعيين الجهتي والمكاني لواجب الوجود، بل هو إحساس وشعور يلازم العبد عند أداء العبادة أنه قريب من الله عز وجل، لذا ذكر هذا الوجه بلغة (التشبيه) بالقرب المكاني وإيقاع العبادة من الوجه الوجوب أو الندب، وهو من عمومات قوله تعالى [وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]([71]).
والمراد بالوجه الغاية التي من أجلها كان الحكم، وهو على جهات :
الأولى : اللطف في التكاليف والعبادات.
الثانية : كونه طرداً للمفسدة، الحاصلة في الترك.
الثالثة : إنه شكر لله عز وجل على نعمة، وبه قال أبو القاسم البلخي من المعتزلة.
الرابعة : عند الأشاعرة أن الأحكام شرعت لمجرد الأمر والنهي لا لأجل غاية أخرى، بناء على نفي الغرض عن أفعال الله تعالى، ونفي قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، والخلاف لفظي ، إنما الغاية منفعة ومصلحة العباد في النشأتين والله عز وجل [غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]([72]).
وهل ما ورد في الحديث القدسي : الصوم لي وأنا أجزي به([73])، يدل على الغاية الجواب لا ، إنما لإرادة عظيم الثواب على الصوم ولبيان حقيقة وهي انبساط صوم النهار على آنات متكثرة من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس يختلي فيها الصائم بمفرده ولا يعلم بحاله وتقييده بالصيام إلا الله عز وجل فلذا قال الله الصوم لي ، ولو إمتنع الناس عن الحج مثلاً فعلى الحاكم حملهم على الحج ، وتيسير أسباب الإستطاعة من الزاد والراحلة ، وإزاحة الموانع عن أدائهم للحج لوجوب عمارة البيت الحرام وتحقق مصداق العبادة وقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]([74]).
ولو إمتنع الناس عن الصيام في بلد من البلدان كما لو كانت ساعات الصيام طويلة وكثيرة فعلى الحاكم الندب الى الصيام وتيسير أمره والتخفيف عنهم في الوظائف ونحوها لقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]([75]).
1- الإتيان به بقصد التقرب الى الآمر.
2- ان الفعل حسن ذاتاً، وللملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.
3- ان الآمر مستحق لأن يطاع واهل لأن يعبد ولا تجوز معصيته.
4- رجاء الثواب والطمع في بلوغ منازل النعيم في الآخرة.
5- الخوف من عقابه سبحانه، واجتناب النار التي اعدها للكافرين والجاحدين والعاصين لأوامره، وما ورد عن الإمام علي: “ان قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وان قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وان قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار”([76])، لا يعني الذم لمن عبد الله رغبة او رهبة ولكن الحديث جاء لبيان مراتب العبودية وصيغ الكمال فيها
6- الإتيان بالفعل شكراً له تعالى على نعمة الخلق والإيجاد والرزق والصحة وغيرها.
7- الأمل في نعم اضافية مستحدثة.
8- داعي محبوبية الفعل.
9- هو شرط لإنطباق العنوان المأمور به.
المبحث السابع : إنه اختلف القائلون بظهور صيغة الامر في الوجوب وضعا أو إطلاقا فيما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهمه على أقوال :
نسب المشهور ظهورها في الاباحة وإلى بعض العامة ظهورها في الوجوب ، وإلى بعض تبعيته لما قبل النهي ، إن علق الامر بزوال علة النهي ، إلى غير ذلك والتحقيق: إنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال ، فإنه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب ، أو الاباحة ، أو التبعية، ومع فرض التجريد عنها، لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه غاية الامر يكون موجبا لاجمالها ، غير ظاهرة في واحد منها إلا بقرينة أخرى، كما أشرنا (1).
(1) اذا دار الأمر بين رجوع القيد الى الهيئة او الى المادة وليس من دليل على رجوعه الى احدهما، كما لو كان القيد في الجملة الشرطية ورجوعه الى نتيجة الجملة، او انه يتعلق بملحقات المادة كالمفعول به مثل: اقرأ القرآن او صل متطهراً، فاذا كان القيد راجعاً الى المادة فيكون معناه عليك الصلاة مع الطهارة، أي ان الصلاة مقيدة بالطهارة، ووجوبها مطلق سواء كنت متطهراً او لا.
اما لو كان القيد متعلقاً بالهيئة فيكون المعنى ان وجوب الصلاة في حال كونك متطهراً، ففي تقييد الهيئة ورجوع القيد اليها هناك قيدان، وفي تقييد المادة تقييد واحد، واشكل على ما افاده اعلاه صاحب الحاشية.
والنزاع في مقدار دلالة نسخ الوجوب وهل هو ينسخ الإباحة من الأصل او ينحصر بنسخ الوجوب وما يتبقى منه، وبالنسبة لباب النهي فانه يدل على رفع خصوص المنع من الترك فقط، ليدل الأمر بعد الخطر على الجواز باعتبار ان الوجوب مركب من امرين:
1- جواز الفعل.
2- المنع من تركه.
وقيل ان الوجوب امر بسيط فانه يرتفع بالنسخ، ولكن المسألة تتعلق بالأمر الثاني بعد الحظر وليس بالأمر الأول.
والمسألة قليلة الإبتلاء كما ان الشواهد فيها ظاهرة بالقرائن ولكن الآية من عمومات القضية في واقعة والقرائن تدل على خصوص النهي بحال الإحرام والحظر مقروناً بوقت وفعل معين يزول بزوال.
والأقوال في المقام كثيرة تصل الى عشرة اقوال، ولكن الماتن ابطلها لأنها مبنية على الإستعمال وموضوع البحث على قسمين:
القسم الأول: الأمر بشيء بعد النهي عنه كما في قوله تعالى [ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ](1) فانه امر بالصيد لمقام الفاء، وفعل الأمر اصطادوا المحمول في ظاهره على الوجوب والفورية لو كان مجرداً من القرينة، بعد ورود النهي عن الصيد في قوله تعالى [لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ](2) .
ولكن القرينة مركبة فهي ظاهرة في ملازمة النهي للإحرام، وكذا بالنسبة لزيارة القبور فقد روي عن أبي بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “نهيتكم عن ثلاث وأنا آمركم بهن نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن زيارتها تذكرة، ونهيتكم عن الأشربة أن تشربوا إلا في ظرف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكراً، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تأكلوها بعد ثلاث فكلوا و استمتعوا“([77])، وهو اكثر دلالة لأنه لم يقيد بحالة دون اخرى فلا تصل النوبة الى استقراء الوجوب بالإستحباب او الإباحة من الصيغة , وكأن مفاد هذا المبحث هو تخصيص اطلاق الوجوب بصيغة افعل.
القسم الثاني: ورود أمر بفعل شيء بعد التوهم بالمنع منه او حرمته كما في رواية يونس بن يعقوب مثلاً قال: “سألت ابا عبد الله عليه السلام عن الرجل يريد ان يتزوج المرأة واحب ان ينظر اليها، قال عليه السلام: تحتجز ثم لتقعد وليدخل فلينظر”، فان الأمر بالنظر ورد بعد توهم السائل ارادة المنع من النظر، ووقع الخلاف في المقام:
1- دلالة الأمر على الوجوب بعد الحظر او توهمه.
2- الإباحة وهو المشهور.
3- دلالة الأمر بعد الحظر تابعة لما قبل الحظر، فاذا كان قبله واجباً فيكون الأمر واجباً، ولو كان مستحباً او مباحاً فيكون كذلك بعده بشرط انتهاء ملاك الحظر.
ويمكن اضافة قسماً ثالثاً:
4- ورود امر بالمنع بعد الإذن بالفعل، وهذا الأمر بالمنع والنهي يفيد الحرمة او الكراهة.
والأمر يتعلق بالنسخ فهو حكم جديد مستحدث لا ينحصر بما كان قبل الحظر ولا بالاباحة بل لابد من الرجوع الى القرائن الخارجية، والاتيان بشاهد واحد او بعض الشواهد لا يدل على ثبوت قاعدة كلية وحكم مطلق.
فالاقوى انه لا يفيد الاباحة حصراً بل بحسب الدليل والقرائن الاخرى، فقوله تعالى [ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ] فبلحاظ الواجبات والمستحبات واحكام التكاليف الخمسة تعرف ان الاصطياد ليس بواجب وانه مباح، وكذا بالنسبة لمسألة زيارة القبور فالأمر لا يدل على وجوبها.
ان وضع قواعد كلية وتطبيقها على المواضيع الشرعية ليس صحيحاً دائماً فقد يكون أكثر من حكم في موضوع واحد لأن الموضوع ينقسم الى مصاديق وافراد متعددة لكل منها خصوصية ما، فمثلاً قولهم لا يصح التقرب الى الله بالمبغوض قاعدة عقلية كلية ولكن لا يصح النظر لكل فعل عبادي من خلالها وحدها لنحكم ببطلانه اذا كانت المبغوضية فيه جهتية،
المبحث الثامن : الحق أن صيغة الامر مطلقا ، لا دلالة لها على المرة ولا التكرار ، فإن المنصرف عنها ، ليس إلا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها ، فلا دلالة لها على أحدهما ، لا بهيئتها ولا بمادتها ، والاكتفاء بالمرة ، فإنما هو لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة ، كما لا يخفى . ثم لا يذهب عليك : أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين ، لا يدل إلا على الماهية – على ما حكاه السكاكي – لا يوجب كون النزاع ها هنا في الهيئة – كما في الفصول – فإنه غفلة وذهول عن كون المصدر كذلك ، لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا علىالماهية ، ضرورة أن المصدر ليست مادة لسائر المشتقات ، بل هو صيغة مثلها ، كيف ؟ وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ، فكيف بمعناه يكون مادة لها ؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها ، كما لا يخفى (1).
كما قالوا ببطلان صلاة المنفرد اثناء صلاة الجماعة.
(1) النزاع في دلالة الصيغة من جهة الوضع، وقد يكون من جهة الإطلاق لإفادته الوجوب وقد تقدم قول الماتن لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب لإنسباقه عند اطلاقه، فصيغة الأمر لا تدل على ارادة الإمتثال مرة واحدة، او اتيان الفعل عدة مرات سواء بلحاظ المادة او الهيئة، والمراد من المادة في المقام المصدر المجرد عن اللام والتنوين كما في قولك “صل صلاة”.
اما المعنى فهو اعم ويتعلق بايجاد الأمور به في الخارج، ومفاد الهيئة هو الحكم المجعول ومتعلقها المأمور به، وقيل الأولى ان يكون البحث من جهة الإمتثال وان كان المعنى واحداً بلحاظ الجهة، فالمتبادر من الصيغة على ما ذهب اليه الماتن طلب ايجاد ذات الفعل في المأمور به في الخارج من غير تقييد بالمرة او التعدد، وذكرت في المقام اقوال:
1- افادة الصيغة التكرار الى الأبد.
2- افادة التكرار بالتعدد القليل الذي يعني اكثر من مرة كما في المرتين او الثلاث.
3- تفيد الصيغة المرة الواحدة.
4- اشتراك الصيغة بين المرة والتكرار.
5- التوقف وعدم الميل الى احد القولين.
6- عدم افادة الصيغة لأحدهما، وهذا القول هو الذي مال اليه الماتن لأن هيئتها موضوعة لإفادة نسبة الطلب الى المخاطب، اما مادتها لا بشرط فلا تدل على المرة أو التكرار.
ويمكن الإستشهاد بالأمر بالصلاة على النبي وآله عند ذكر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهل تكفي المرة الواحدة ام الواحدة اذا ذكر عدة مرات في مجلس واحد او لابد من الصلاة عليه في كل مرة يذكر بها في المجلس المتحد او المتعدد واصالة الإطلاق تقتضي الأخير.
ان الإتفاق على ان المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل الا على الماهية المجردة لا موضوعية له في النزاع في المرة والتكرار، ولأنهما خارجان عن الماهية التي لا تتعدى في مفهومها ذاتها، ولعدم ثبوت الملازمة بين المصدر وبين مادة الصيغة، ولا اتحاد بينهما، ولعدم الدليل على افادة كل منهما ذات المعنى، فاذا كان المصدر لا يدل على المرة والتكرار فلا يعني هذا ان المادة لا تدل عليهما، لذا قال الماتن: “ضرورة ان المصدر ليس مادة لسائر المشتقات”، كي يستدل على اتحاده معها وافادته ذات المدلول، بل ان المصدر له هيئة مستقلة، والمصدر لا يفيد المرة والتكرار، وذهب جمع الى القول بالملازمة بين المصدر وصيغة افعل.
واستدل صاحب الفصول بان النزاع حاصل في الهيئة، وليس المادة بوجوه:
1- نص جماعة من العلماء عليه.
2- تحرير الأكثر للنزاع في الصيغة، وهو يعني ان النزاع في الهيئة لأن الصيغة عبارة عن الهيئة.
3- ان السكاكي حكى اتفاق العلماء، بان المادة وهي المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا تدل الا على الماهية المجردة والمرة والتكرار خارجان عن الماهية.
اما بالنسبة للأول فلا يصلح للحجة لوجود قول يعارضه، والأصل في المقام التعارض بالإضافة الى عدم ثبوت حجية بعض الأقوال في المقام اصلاً لأن الأمر يستلزم الدليل العقلي او الشرعي.
اما الثاني فان الصيغة اعم من ارادة الهيئة بالإضافة الى ان محل تحرير النزاع قد تكون فيه نوع مسامحة، فهو يحرر بادنى ملابسة ويكفي الإتحاد الجهتي مع موضوع النزاع.
ومادة الأمر من المشتقات وهي موضوعة للفعل الذي يقوم به الفاعل مجرداً عن أي اعتبار خاص يتعلق بالفاعل، ولم توضع هذه المادة والهيئة بمجموعهما لا للمرة ولا للتكرار، فالهيئة تدل على البحث والتحريك للحدث، والمرة يكفي لها صرف الوجود ليسقط الوجوب، بينما يستلزم التكرار الوجود الساري، وتعدد ايجاد الطبيعة، وهذا التعدد لا يستظهر من صيغة الأمر، بل من تركيب القضية الكلية وتعدد مصاديقها في الخارج كما في قولك “صم رمضان” فتعدد ايام الصيام ليس من صيغة الأمر بل من تعدد الأفراد غير الإرتباطية لأيام الصوم ولتعدد الحكم بتعدد الموضوع، فكل يوم يقع عليه الأمر بالصوم، بينما تكون المرة الواحدة مستقرأة من القضية الجزئية والمتحدة التي لا تقبل التجزئة والتعدد كما في قولك “صل الظهر” فيحصل الإمتثال باداء صلاة الظهر لذلك اليوم، لأن الأمر بمادته لا يدل الا على ذات الحدث، والهيئة لصرف النسبة الطلبية.
وصيغة الأمر متعلقة بذات الحدث، وخطاب من الأعلى الى الأدنى يراد منه صدور الفعل من المخاطب من غير ان يتضمن الإتحاد او التعدد سواء في مادته او هيئته ولا يتضمن افادة صرف الطبيعة والإكتفاء بمرة واحدة، وطرد العدم بتحقق مسمى الوجود.
ولا الوجود الساري الذي لا يتحقق الإمتثال به الا بافراد عديدة فمادة الأمر تتعلق بذات وماهية الحدث، اما هيئته فتدل على النسبة الطلبية.
والمراد من الفورية هي الإمتثال على الفور ومن غير تأخير او ابطاء او تسويف اوان الإمكان، اما التراخي فهو جواز الإبطاء والتأخر في الإمتثال عن قصد، وصيغة الأمر لا تتضمن احدهما.
واستدل الطرفان بادلة بادر المعاصرون الى ابطالها وتفنيدها، فالقائلون بالتكرار استدلوا بتكرار الصلاة كل يوم مع ان الأمر في القرآن ورد باقامة الصلاة من غير تفصيل او امر زائد عليه، ولكن التكرار جاء من السنة التي هي بيان للقرآن، والمصدر الثاني للتشريع سواء السنة القولية او الفعلية او التقريرية، وللقاعدة الكلية المستقرأة من القرآن والسنة وهي ان خطابات الفرائض انحلالية، فلا تؤدى مرة واحدة الا ما ورد به الدليل كالحج الواجب، وحتى الواجب فان استحبابه للمكلف يتجدد كل سنة، فموضوعنا الدلالة اللفظية للأمر، ولم يدل على التكرار، والنقاش يظهر في قولك (اكرم العالم)، فهل يفيد تكرار الإكرام مع اختلاف آنات الزمان والأحوال ام تجزي المرة الواحدة.
اما قول الماتن (بان قضية اطلاقها تدل على جواز التراخي) فلا دليل عليه على نحو الاطلاق والعموم، فيمكن القول ان اطلاق الصيغة يدل على الفورية باعتبار ان الفورية امر بسيط لا يحتاج الى مؤونة زائدة، والتراخي يستلزم تلك المؤونة، وقد يفيد الإطلاق التبادر والمبادرة الى الفعل لذا فان تعريف المصدر المجرد عن اللام والنون لا يدل الا على الماهية على ما حكاه السكاكي اجنبي عن المقام لأنه تعريف خاص بالصناعة النحوية والمراد منه الماهية المجردة من الخصوصيات، ولا صلة له بالمرة والتكرار حسب الإصطلاح الأصولي.##
ووقع الخلاف بين مدرسة الكوفة والبصرة النحويتين، فالأولى قالت ان الأصل هو الفعل ثم اشتقت منه سائر المشتقات، اما الاخرى فقالت ان المصدر هو الأصل وهو المشهور بين النحويين، ولكن القدر المتيقن منه هو اصل الوضع الشخصي ثم تفرعه وانشطاره بحسب اللحاظ، وهذا المبحث بعيد عن المبحث الأصولي من المرة والتكرار , ولعل السكاكي حينما عرف المصدر لم يلتفت الى ارادة المرة والتكرار.
وللمرة والتكرار معنيان:
الأول: المراد من المرة هو الإمتثال لمرة واحدة والإكتفاء بفرد واحد من الطبيعة المأمور بها، اما التكرار فهو تعاقب الأفراد من ذات الفعل.
فيتحصل الأجزاء عند القائل بالمرة الواحدة باتيان فرد واحد من الطبيعة المأمور بها، اما التكرار فهو عدم تحقق الإمتثال الا بالإتيان بافراد متعددة من الطبيعة سواء على نحو طولي او عرضي.
الثاني: المراد من الدفعة سواء تحققت بمركب وافراد متعددة او بفرد واحد، فالمدار على الإندفاع لتحصيله في الخارج بامتثال متحد وان تعددت افراده، كما لو كان المكلف مأموراً بغسل الوجه مرة واحدة في الوضوء فسواء تحققت المرة بغرفة واحدة او غرفتين فانها تعتبر غسلة واحدة والمراد من التكرار هو الإنبعاث لإتيان الفعل بعد الإنبعاث فالأمر باكرام العالم يتحصل بالإكرام بعد الإكرام سواء اتحد الموضوع والحال ونوع الإكرام ام اختلف وان حصل الإكرام الأول بعدة افراد من الإكرام.
ومال الماتن الى تعلق الخلاف في المعنيين معاً، أي انه بنفي دلالة الصيغة على المرة او التكرار مطلقاً، اما ما أرده من الإشكال الذي وصفه بالوهم تضعيفاً له ومفاده اختصاص الخلاف بالأول، وارادة الفرد من الأمر وجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي “هل يتعلق الأمر بالطبيعة او الفرد” لأن المراد هو الفرد أو الطبيعة الموجودة في الخارج فيكون النزاع صغروياً في ارادة الفرد او الطبيعة فهما مما اذا اجتمعا افترقا واذا افترقا اجتمعا، فالطبيعة
المبحث التاسع : الحق أنه لا دلالة للصيغة ، لا على الفور ولا على التراخي ، نعم قضية إطلاقها جواز التراخي ، والدليل عليه تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها ، بلا دلالة على تقييدها بأحدها ، فلا بد في التقييد من دلالة أخرى ، كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية . وفيه منع ، ضرورة أن سياق آية[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]([78]) وكذا آية [فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ] ([79]) إنما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير ، من دون استتباع تركهما للغضب والشر ، ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر ، كان البعث بالتحذير عنهما أنسب ، كما لا يخفى (1)
لا توجد في الخارج على نحو مطلق والقضية المهملة التي تتصف بالإتساع بل توجد على نحو التشخص الموافق لمفهوم الأمر والذي ينطبق عليه المراد ويتحقق فيه الإمتثال أي ان موضوع المرة والتكرار يحتاج الى بحث مستقل.
وقيل : “البحث عن المرة والتكرار مما لا طائل تحته كالبحث عن الفور والتراخي، فان الأمر يصلح لكل منهما، ومن دون ان يكون له دلالة لفظية على احدهما” .
ولكنه مبحث شريف وان كانت الثمرة منه ليست كبيرة لصعوبة العثور على دليل يرجح احدهما.
(1) اختلف الأصوليون في افادة صيغة الأمر على الفورية ولزوم المبادرة في الأداء والإمتثال ام انها تفيد التراخي وعدم لزوم المبادرة للإمتثال ويكون المكلف في مندوحة في وقت الأداء وله ان يمتثل بالزمن الأول للأمر وله ان
يؤخر الى الزمن الثاني والثالث وهكذا.
الأول : انه يفيد الفورية، وبه قال الشيخ الطوسي .
الثاني : انه يفيد التوقف، وبه قال جماعة.
الثالث : انه يفيد الإشتراك بينهما، وبه قال السيد المرتضى.
الرابع : انه يفيد التراخي.
الخامس : لا موضوعية للفور او التراخي او للأعم منهما، ولا تتضمن الصيغة الدلالة على أحدهما.
السادس : لزوم التقديم لأن الإشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني وادلة البراءة القطعية حاكمة في المقام، ولكن قاعدة الاشتغال لا تدل على الفورية لعدم الملازمة بينهما، وقاعدة الاشتغال تعني تحقق الوجوب على المكلف ولزوم الامتثال، ولا تدل على أكثر من الطبيعة المهملة.
السابع : ينظر هل المأمور به مشروط بوقت يفوق أداؤه بفوائد أو غير مشروط يومئذ .
وفرق الماتن بين دلالة الصيغة وضعاً ودلالتها اطلاقاً وقال بان قضية اطلاقها وعدم التقييد باحدهما من الفورية او التكرار جواز التراخي، لأنه لو كان المراد الفورية لجاء البيان من المولى منعاً للجهل والغرر، ولأن الفورية قيد زائد على أصل طبيعة الأمر، واستدل الماتن على عدم دلالتها على الفور او التراخي بتبادر طلب ايجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقييدها باحدهما من التقييد بدلالة اخرى وامارة او قرينة من الخارج تدل على ارادة الفور او التراخي.
مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات ، وكثير من الواجبات بل أكثرها ، فلا بد من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب ، ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق ، وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه إرشادا إلى ذلك ، كالآيات والروايات الواردة في الحث على أصل الاطاعة ، فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة بنفسها ، ولو لم يكن هناك أمر بها ، كما هو الشأن في الاوامر الارشادية فافهم .
تتمة : بناء على القول بالفور ، فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا أيضا ، في الزمان الثاني ، أو لا ؟ وجهان : مبنيان على أن مفاد الصيغة على هذا القول ، هو وحدة المطلوب أو تعدده ، ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية ، لما كان لها دلالة على نحوالمطلوب من وحدته أو تعدده ، فتدبر جيدا (1).
(1) وبالإضافة الى الصيغة فهناك من قال بوجود دليل آخر خارج الصيغة يدل على الفورية، لا بمعنى ان الصيغة لا تدل عليها ولكن للتوكيد والبرهان الخارجي، وبذا تكون الفورية هي الأصل الا ان يرد دليل آخر خارج الصيغة يدل على التراخي , فاستدل على الفورية بآيتين:
1- قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ([80]) فالمسارعة الى المغفرة تعني المبادرة الى التوبة واتيان الأفعال التي تؤدي الى المغفرة فالآية تعني الفورية في طلب مرضاته ومغفرته تعالى.
2- قوله تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]([81]) فالآية حث على الإسراع وعدم التواني في ولوج أبواب الصالحات واتيان الواجبات.
وهذا الإستدلال اشكل عليه بان اسباب المغفرة كما في موضوع الآية الأولى، والخيرات كما في الآية اعلاه من سورة البقرة تصدق على الواجبات وعلى المستحبات، فكلها اسباب للمغفرة وباب للرحمة، ولكن المستحبات لا تجب المسارعة فيها لأنه يجوز تركها اصلاً، فيكون من باب اولى عدم وجوب المسارعة اليها فتضمنها للمستحبات والمسارعة فيها بحسب الآيتين يعني ان طلب المسارعة ليس على نحو الإلزام.
وإستدل الماتن على عدم صحة الإستدلال بالآيتين من وجهين:
الأول: عدم ورودهما الا للبعث نحو المسارعة الى المغفرة (من دون استتباع تركهما للغضب والشر) أي ان الآيتين خاليتان مما يدل على كون ترك المسارعة سبباً لنزول الغضب الإلهي لأنه ليس من تحذير وانذار في الآيتين.
الثاني: كثرة تخصيص وجوب الفور بالمستحبات، وبعض الواجبات الموسعة في وقتها، فرد السلام مثلاًُ فوري، اما الأمر بالمعروف فقالوا انه ليس فورياً، ولكن بعض مصاديق الأمر بالمعروف تكون في فوريتها وكثرة حسناتها اهم من رد السلام.
واذا كان التخصيص هو الأكثر باجتماع المستحبات وكثير من الواجبات فلا يصح افادة الفورية منهما لأنه لم يبق تحت عنوان العام الا القليل فيكون قرينة على صرف ظاهر الآيتين عن الوجوب الظاهر، فيحمل الأمر فيهما على استحباب الفورية الا ما دل الدليل على وجوب فوريته اوحملهما على مطلق الرجحان.
ونجيب على الإشكال الأول للماتن بان ثبوت الفورية او عدمها لا يتوقف على استتباع الترك بالغضب والشر كما قال، اذ ان الآية القرآنية لها منطوق ومفهوم، فمنطوقها يدل على المسارعة، اما مفهومها فيدل على العقاب لمن يتخلف عن امتثال امره تعالى، وتلك قاعدة كلامية فطرية معروفة عند المليين والعقلاء عامة، وتدل عليها شواهد قرآنية، فالترغيب
بفعل الصالحات يدل في مفهومه على المؤاخذة لمن يعصي الله، وقالوا ان الأمر بالشيء يدل على النهي عن ضده كما سيأتي ان شاء الله.
اما الإشكال الثاني الذي ذكره الكثير من الأصوليين فانه غير مناسب للموضوع، لأن الأمر ليس من العام والمخصص المتصل الذي يكون قرينة على ارادة ما عدا الخاص من العموم كقولك (اشهد ان لا اله الا الله) او المخصص المنفصل الذي يرد في كلام آخر مستقل قبله او بعده، والمعروف ان القرآن فيه عام وخاص، ولكن المسارعة الى الخيرات في الاية من باب السبر والتقسيم أي ان المسارعة ذاتها فعل مأمور به، اما بالنسبة للخيرات فتنقسم الى واجب ومندوب، فتكون المسارعة للواجبات على نحو الفورية والوجوب، وتكون المسارعة الى المستحبات فورية مستحبة، ولا تعارض بينها لتعدد الموضوع، ولأن القرآن بكلماته المباركة المحدودة يحيط باللامحدود، ولأننا لم نجد من يرد على هذا الإشكال بل اتخذ اقوى دليل على ابطال القول بالفورية قمنا بالرد هنا.
والأصل في الواجبات تقسيمها الى واجبات مؤقتة وغير مؤقتة، والأول ينقسم الى موسع ومضيق وغير المؤقت الى فوري وغير فوري، فيكون معنى الفورية من الآيتين وحكم العقل هو ان اتيان الموسع باول اوقاته على نحو الإستحباب، واثناء وقته على نحو الوجوب، فصلاة الظهر يدخل وقتها عند الزوال ويستمر الى ما قبل غروب الشمس بمقدار اربع ركعات، فافضل اوقاتها المبادرة الى اتيانها باول وقتها الا ان تأخيرها الى العصر تصدق معه الفورية، أي ان الفورية لها مراتب من الفضل فهي من الكلي المشكك، بمعنى ان الآيتين تدلان على الفورية كل بحسبه وبدليله وبحكمه التكليفي من الوجوب والإستحباب الا ان يرد مخصص لذات الفعل ويجوز معه تأخيره سواء كان المخصص من القرآن او السنة مما يتحصل معه الرجوع الى دليل آخر لمعرفة الفورية اوالتراخي، وبذا يكون الوصول الى مرتبة القيد ليس
فورياً ومباشراً بل بالواسطة وبعد التدبر ويمكن الإستدلال بالآيتين على ان الأصل بالواجبات هو الفورية الا ان يدل دليل على التراخي.
وهذا لا يتعارض مع قول الماتن ان قضية اطلاق الصيغة جواز التراخي باعتبار ان المتكلم في مقام البيان وليس من دليل على تقييد المطلوب بقيد الفور او التراخي، ومع ان الماتن لم يقل بدلالة الصيغة على الفورية الا انه تعرض له وما يتفرع عنه فيما لو لم يحصل الإمتثال على الفور وفيه وجهان:
الأول: لو اخل بالفورية في الزمان الأول فيجب ان يأتي به في الزمان الثاني أي ان الوجوب يكون فوراً ففوراً باعتبار ان الإخلال لم يحصل الا بزمان الفور الأول فيتجدد الخطاب والوجوب بل يبقى المأمور به على حاله باعتبار تعدد المطلوب والمراد من الفورية، فالمصلحة تتقوم بامرين:
1- الفورية.
2- ذات الفعل.
فلا يسقط الأمر بالإخلال بالفورية، نعم عدم الإتيان به على الفور مفوت لمرتبة من مراتب المصلحة مع عدم انتفائها بل تبقى بمراتب ادنى مع كل زمان.
الثاني: التداخل بين المصلحة القائمة بنفس الطبيعة وبين المصلحة في الفورية والأداء في الزمان الأول فاذا لم يأتِ بالمأمور به في الزمان الأول، فتنتفي المصلحة في الفعل لأنها متقومة بالفورية وتفوت بفواتها، وهذا هو مراده (بوحدة المطلوب) وكأنه من عمومات انتفاء المشروط بانتفاء شرطه.
ويمكن ذكر وجه ثالث وهو بقاء الأمر وموضوعه مع سقوط الفورية، فلو لم يأت بالفعل على الفور فان الفورية تسقط ولكن المصلحة في الفعل باقية وهي ان يؤتى به قضاء فيما بعد سواء على القول بالمواسعة او المضايقة.
ولكن القول بوحدة المطلوب ليس مطلقاً انما يعرف بالقرائن أي الأصل هو التعدد وليس البراءة من الوجوب فيما عدا الزمان الأول كما ذهب اليه بعض الأساطين ويدل على التعدد اصالة الإشتغال، وقاعدة نفي الحرج، وعمومات اللطف الإلهي، والإنابة والتدارك، لذا قال الماتن بان هذا التفريع لا تدل عليه الصيغة حتى على القول بالفورية، فانها لا تدل على اكثر من ارادة الطبيعية فوراً، فلا تدل على وحدة المطلوب وسقوط الأمر بعدم الإمتثال على الفور، او على تعدد المطلوب وهو تجدد الفور مع كل زمان، فالصيغة لا تتضمن هذا التفصيل المتعلق بما بعد زمان الفور، ولابد من الرجوع الى دليل آخر او الأصل سواء الإشتغالاو البراءة عن الوجوب فيما عدا الزمان الأول والعقل يحكم بالإشتغال، ووجوب تفريغها لذا شرع القضاء في العبادات وعدم سقوطها حتى مع انعدام شخص المخاطب، للزوم براءة الذمة كما في قضاء الصلاة والصوم والحج عن الميت نعم لو كان هناك اطلاق لفظي مثبت لوجوب الفور وعلى نحو وحدة الموضوع او تعدده فتصل النوبة الى حكم العقل كما في النصوص الواردة في القضاء عن الميت فقد وردت النصوص بها.
الفصل الثالث
الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء في الجملة (1)
(1) كان جمع من الأصوليين يعنونون الموضوع بان الأمر هل يقتضي الإجزاء او لا باستصحاب لفظ الأمر في العناوين ولتعلق الموضوع والمعنون بفعل المكلف وامتثاله وليس بالأمر بدل العنوان والتساؤل فيه بان اتيان المأمور به هل يقتضي الإجزاء او لا، لأن الإتيان بالمأمور به جامعاً للشرائط والقيود يجزي في باب الإمتثال ومع هذا فان باب الإجزاء من المباحث العقلية، وليس من مدلولات الإلفاظ اطلاقاً او وضعاً، لأن معرفة الإجزاء
او عدمه يعرف بحكم العقل وهو الذي يستقل بمعرفة كفاية الفعل، وان الإتيان به بعد امتثاله من تحصيل الحاصل وليس من صيغة الأمر مادة او هيئة، اذ ان صيغة الأمر تبعث على اداء الفعل.
ويسقط معه الأمر ويكون مبرئً للذمة فلا يستلزم اتيانه مرة اخرى لا اعادة ولا قضاء، والإعادة مثل اعادة الصلاة في وقتها، والقضاء الإتيان بها خارج وقتها كصلاة الظهر تعاد عند العصر، وتقضى في الليل.
وهذا لا يمنع من اعتبار المعنى اللغوي للإجزاء ويعني الإكتفاء، وقد يراد من الأجزاء او كفاية الفعل المأتي به عن مأمور به آخر ككفاية صلاة الفريضة في المسجد عن ركعتي تحية المسجد.
وقال الماتن (في الجملة) ويريد منه ان الإمتثال يكون على اقسام فتارة يأتي مطابقاً للحكم الواقعي، وفيه الإجزاء بلا اشكال كما لو رأى المكلف هلال شوال بنفسه فيجب عليه الإفطار في اليوم التالي.
او يتحقق الإجزاء باتيان المأمور بالحكم الظاهري البديل عند غياب الحكم الواقعي فيكون مجزياً وبديلاً عنه كما في شهادة البينة على رؤية
وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام ، ينبغي تقديم أمور : أحدها : الظاهر أن المراد من ( وجهه ) – في العنوان – هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا وعقلا ، مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة (1).
الهلال وترتب الحكم عليها مع ان البينة قد تخطأ، وقد يؤتى بالمأمور به وفق الحكم الإضطراري فانه يكون مجزياً كما لو صلى عن جلوس، وقوله ( بلا شبهة) لصحة الإمتثال وانعدام المانع، وتحقق الإجزاء عقلاً وشرعاً، والفرق بين الإتيان وعدمه، بالإتيان يسقط الأمر وبعدمه يبقى متعلقه.
(1) لابد من تحديد لمعالم الفعل الذي يؤتى به امتثالاً، وهذا التحديد والتعيين يترشح من الأمر المولوي وخصائصه ليكون المأتي به مطابقاً للمأمور به سواء من جهة الشرع او من جهة العقل، فمن الأول الطهارة والإستقبال والستر وعدم غصب المكان في الصلاة مثلاً، اما من النهج عقلاً فكما في قصد القربة على القول بانه قيد عقلي لأن العقل يحكم بلزوم التقرب الى الله عز وجل ليتحقق الإتيان بالمأمور أي من وجه المأمور به ان لا يكون رياء، لأن العقل يدرك عدم صحة التقرب بالمبغوض وان كان قصد القربة جزء من متعلق الأمر ولكنه لا يمنع من اعتباره في كيفية الإمتثال والطاعة عقلاً اذ انه لا دليل على التفصيل والفصل بين الأمر المعتبر شرعاً في العبادة والمعتبر عقلاً ؟
فقد يكون الشرط او القيد معتبراً عقلاً وشرعاً معاً كما في قصد القربة وان اختلفوا فيه، وهو الأنسب لعمومات ما يحكم به الشرع يحكم به العقل والمراد من حكم العقل هو ادراكه للأشياء وخصائها وليس البعث لأدائها او النهي عنها خصوصاًَ وان العقل هو مناط التكليف وله قوة التمييز بين الحق والباطل.
من القواعد الأصولية قاعدة التحسين والتقبيح العقليين فقد اختلف الأصوليون هل يحكم العقل بان للأفعال حسناً وقبحاً او انه ليس مؤهلاً للحكومة ولم تكن له تلك الوظيفة، وذكر ان حكم العقل هو ادراكه وليس له بعث وزجر، وان حكمه هو ادراكه لإستحقاق فاعل الحسن المدح، وفاعل القبيح الذم فعنده حكم مستقل من جهتين:
الاولى: يستطيع العقل ادراك الحسن والقبح الذاتيين للأفعال، وهذه المسألة تدل بدلالتها الإلتزامية على ان للأفعال ماهية ذاتية مستقلة من غير ان يترشح عليها حكم الشرع.
الثانية: ان فاعل الحسن يمدح، وان فاعل القبح يستحق الذم عقلاً والأولى من الإدراك والثانية من الحكم ونفى الأشاعرة هاتين الجهتين للعقل وقال بها الإمامية والمعتزلة يقال عقل يعقل عقلاً وعقل فهو عاقل من قوم عقلاء، وضد العقل: الحمقْ.
وعن الإمام الباقر عليه السلام في الكافي: قال: لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: اقبل فاقبل ثم قال له: ادبر فادبر ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو احب الي منك ولا اكملك الا فيمن احب، اما اني اياك آمر واياك انهى واياك اعاقب واياك اثيب([82]).
والعقل معرفة وظيفتهبالعلم بالفرائض والنواهي والتمييز بين الحق والباطل وهو جوهر مجرد قائم بذاته ومفارق في فعله، مجرد عن المادة ومحله الرأس , وقيل انه قوة في القلب تقتضي التمييز.
لقد جعل الله عز وجل العقل رسولاً دائماً عند الإنسان وآلة للعلم حتى
على قول بعض الفلاسفة انه مادة وطبيعة، وكما ان وظيفة البصر التمييز بين المرئيات، والسمع التفريق بين المسموعات كذلك القوة العاقلة تميز بين المدركات بما فيها المحسوسات فالعقل يستقل بالحكم من غير الرجوع الى الشرع ابتداء في حسن الأشياء وقبحها.
اما الأشاعرة فقد انكروا اتصاف الأشياء بالحسن والقبح عند العقل، بل المناط على حكم الشارع فما حسنه الشارع فهو حسن شرعاً وعقلاً وما قبحه فهو قبيح ولو عكس الأمر وجعل الشارع الحسن قبيحاً لأصبح كذلك ولتحول الوجوب الى الحرمة بالإضافة الى ظاهر القول بالجبر والإضطرار وان المجبور ليس عنده فعل يتصف بالحسن او القبح ثم ان الحسن والقبح له وجوه:
الأول: الكمال والنقص , فيقال العلم والكرم حسنان، والجهل والبخل قبيحان لأن الأولين لهما صفة كمال والأخيرين لهما صفة نقص.
الثاني: ملائمة النفس ومنافرتها ويقعان بذلك وصفاً للأفعال.
الثالث: المدح والذم.
والأخير هو محل النزاع، فالأشاعرة قالوا بعدم استقلال العقل دون الشرع وتتفرع عن هذه المسألة قاعدة اخرى وهي قاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع وهي مركبة من امرين يستحق كل منهما ان يكون قاعدة مستقلة خصوصاً وانه اتفق على القسم الأول منها وهو تبعية حكم العقل للشرع واختلفوا في الثاني وهو تبعية حكم الشرع لحكم العقل.
الأول: ما يحكم به الشرع يحكم به العقل.
الثاني: ما يحكم به العقل يحكم به الشرع.
اما الأول فلأن الشارع سيد العقلاء فاذا حكم بوجوب امر فلابد ان فيه نفعاً ومصلحة، واذا حكم الشرع بحرمة شيء فلابد ان فيه مفسدة يدركها العقل فحينئذ يحكم العقل بمقتضـى ذلك المــلاك اما ما يحكم به العقل ويدرك حسنه او قبحه فهل يحكم الشرع طبقاً له لأنه سـيد العقلاء ولعدم التعارض بين حكم الشرع وحكم العقــل لأن العقل شرع داخلي فليس بين حكميهما تعارض فيلتزم بالإطلاق بان ما حكم به احدهما يحكم به الآخر.
لقد انكر جماعة تلك الملازمة لأن وجود الحسن والقبح في الفعل اعم من ملازمة حكم الشرع لحكم العقل لأن ملاكات الأفعال لا يعلمها الا الله عز وجل وهي من باب المقتضي وليس من العلة التامة التي تحتاج الى جانب المقتضي فقد المانع فقد يرى العقل الملاك ولكن الشارع ينظر الى فقدان شرط او وجود مانع او حكم ثانوي له الحكومة كقاعدة لا ضرر ولا ضرار.
واستشهد ايضاً بافعال الصبي فهو يدرك المصالح في الأفعال كانقاذ الغريق، والصدق في الكلام، وقبح الكذب ومع هذا فان الشارع لم يلزمه ايجاباً وتحريماً ويشكل عليه بان يلزمه بقدر عقله فيعزر في بعض الأفعال القبيحة والمنهي عنها ويؤدب او يوبخ، ومن ذلك الأحكام الواجبة والمحرمة في بدء التشريع او اسلام قوم بحيث لو جاءت الأحكام على نحو دفعي للزمت النفرة والحرج.
ولحكمه باستحالة التكليف بلا بيان حكم الشارع بالبراءة أو مسألة ترك الضد مقدمة للضد الواجب فإذا كان تركه واجباً ففعله حرام كما قالوا، مثلاً بترك الصلاة لإنفاذ غريق وإزالة النجاسة عن المسجد.
هذه الأمور من حقيقة واقعية يدركها العقل النظري وهو قوة تقبل ماهيات الأمور الكلية.
وهي من الأوليات أي القضايا التي يصدق بها العقل لذاتها أيبدون سبب خارج عن ذاتها مثل “النقيضان لا يجتمعان”، والكل أعظم من الجزء.
أو الفطريات التي قياساتها معها فالعقل لا يصدق بها بمجرد تصوير طرفيها كالأوليات، بل لابد لها من وسط ولكنه يستلزمالطلب والفكر.
والحق أن النزاع في حجية العقل بين القائلين به من الإمامية وبين غير القائلين به من الأشاعرة بل وجماعة قليلة من الإمامية نزاع صغروي لأن المدار على حكم الشرع وفي القرآن تبيان لكل شيء والأصول العملية مثلاً كاصالة الإشتغال والبراءة لا يستدل بها الا عند غياب النص من القرآن والسنة.
وإنقسم الفلاسفة الغربيون في التصورات إلى قسمين:
1- العقل يدرك بذاته مجموعة من المفاهيم من دون أن يحتاج إلى الحس، كقول ديكارت بالنسبة لمفهوم الله عز وجل والنفس من الأمور غير المادية كالطول والعرض ونحوه من الأمور التي يستلزم ادراكها بالحواس.
2- ان ذهن الإنسان صفحة بيضاء والإتصال بالموجودات الخارجية يتم بواسطة الحس ويؤدي إلى ظهور الخطوط والصور فيه، ابيقور قال بأن العقل خال من أي شيء إلا ما كان مقطوعاً به في الحس.
ويمكن القول بأن العقل وبعد اقراره بالنبوة يجب ان ينقاد إلى أحكامها وهذا مالا يختلف في اثنان والعقل طريق مبارك دائم لاثبات وجود الصانع وعون على الهداية.
ويمكن بيان ذلك بذكر الوجهين من خلال النصوص:
الأول: ما ورد عنه عليه الســلام بالنهــي عن حصر طريق الشريعة بالعقل كما في قوله عليه السلام: ان دين الله لا يصاب بالعقول.
الثاني: اعتبار العقل طريقاً لفهم الشريعة كما في قولهم عليهم السلام: أن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول).
لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا فإنه عليه يكون ( على وجهه ) قيدا توضيحيا ، وهو بعيد ، مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع ، بناء على المختار ، كما تقدم من أن قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلا ، لا من قيود المأمور به شرعا(1).
(1) يناقش الماتن قيد المراد (على وجهه) ليتحقق الإمتثال والأجزاء خصوصاً وان البحث يجري فيما يضم الواجبات وانه لا ينحصر بالأمر به بل يشمل الإجزاء ماهية الفعل الذي يأتي به العبد امتثالاً وطاعة، والمراد من (على وجهه) ليس كيفية اداء المأمور به من جهة الشرع فقط كالقيام والركوع والسجود في الصلاة وان كانت اركاناً واجبة، وتبطل الصلاة بتركها ولو كانت كذلك لأصبح (على وجهه) توكيداً وقيداً توضيحياً كما لو قلت اكرم المؤمن الذي يحافظ على الصلاة فكل مؤمن يحافظ عليها، او جالس العالم المتعلم، فكل عالم متعلم، ولكن قولك جالس العالم العامل هو قيد احترازي.
وقال الماتن (وهو بعيد) لأنه خلاف الأصل في القيود وللنصوص وحكم العقل ولعدم سقوط الأمر الا بعد صحة الإمتثال الشاملة لجميع الشروط والقيود.
واشكل الماتن على ارادة خصوص الكيفية الشرعية من وجهين:
الأول: ان (على وجهه) يكون حينئذ قيداً توضيحياً لا اعتبار معتد به له كما انه خلاف الأصل والإيصار اليه الا مع القرينة.
الثاني: يلزم خروج التعبديات من النزاع اذا قلت ان (على وجهه) يراد منه الكيفية المعتبرة شرعاً فقط وليس شرعاً وعقلاً اذ لا يصدق الإمتثال في العبادات من غير القصد القربة وهو قيد عقلي، والعبادات هي اهم موارد بحث الأوامر ولابد من الإجزاء في اوانها وسقوط امرها.
والنقاش مع كلام الماتن من وجوه:
الأول: ان عبارة (من وجهه) ليست قرآناً او نصاً عن المعصوم بل هي عبارة وجدت في بعض الكتب الأصولية كالعدة والفصول وتقريرات الشيخ الأنصاري وظاهر القوانين.
الثاني: ان ارادة الكيفية الشرعية ليست علة تامة لإعتبار (من وجهه) قيداً توضيحياً خصوصاً وان المراد هو الأمر الشرعي.
الثالث: ان قصد القربة اختلفوا في اعتباره وقد ذكرنا فيما تقدم ستة عشر وجهاً لقصد القربة، منها انه شرط شرعي عن متعلق الأمر، ومنها انه قيد عقلي، والمختار انه قيد شرعي وعقلي، فلا مانع من اجتماعهما، لأن الشارع يحكم بارادة الإمتثال لأمره تعالى عند اتيان الفعل العبادي خصوصاً مع القول بالملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل.
الرابع: قوله (انه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع على المختار) المدار ليس على المختار ووجوه الخلاف، والا فكلما يحصل اختيار جديد لابد من تغيير مفاهيم العلوم وقوانينها، ويكفي ان يكون المتقدمون والمتأخرون يعتبرونه من القيود الشرعية خصوصاً مع عدم التنافي بين القيدين.
وعلى القول بان العقل له حكم وانه لا يقف عند حدود الإدراك، فان حكمه لا يكون مستقلاًَ عن الشرع ويحتاج مؤونة زائدة بحيث اذا جاءنا امر قرآني نظرنا قبل الإتيان به ماذا يضيف له العقل في حكمه وقيوده، كي يكون الإمتثال موافقاً للشرع والعقل، فهذا تشديد على النفس وخلاف سماحة الشريعة واحتياط خلاف الإحتياط، بل بالعكس اذا ثبت ان النصوص تدل على كفاية الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعاً فعلينا حينئذ اعتبار قصد القربة سواء بالدلالة التضمنية أو الإلتزامية، بمعنى انه يجب علينا ان نستقرأ معنى وماهية (قأ أأ
أ معنى وماهية