المقدمـــة
الحمد لله حمداً متصلاً دائماً بصيغة البركة رجاء نمائه من عند الله ونحن أحياء وأموات .
فمن فضل الله عز وجل مضاعفة الحسنات وليس من حصر لهذه المضاعفة وأسبابها وأوانها .
وهل يختص قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( )، للترغيب والوعد بالثواب على الإنفاق في سبيل الله , وهل يختص الثواب بهذا الإنفاق أم يشمل فعل الخيرات .
المختار هو الثاني لوحدة الموضوع في تنقيح المناط للثواب العظيم على العمل الصالح .
وفي الحديث (أن فقراء المهاجرين قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم. قال: “وما ذاك؟”.
قالوا: يُصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعتقون ولا نُعْتِق. قال : أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم : تسبحون وتكبرون وتحمدون دُبُر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين
قال : فرجعوا فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا، ففعلوا مثله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)( ).
كما تأتي مضاعفة الحسنات ابتداءً من عند الله بلطف منه ، وبدعاء وعمل الصالحين .
الحمد لله الذي هدانا لحمده ، وأرشدنا لسبل التوفيق ، منها تلاوة كل واحد من المسلمين والمسلمات قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، سبع عشرة في اليوم على نحو الوجوب العيني ، وتتجلى الإستجابة من جهات :
الأولى : عظيم فضل الله على المسلمين والناس .
الثانية : وجوب قراءة الآية أعلاه بأمر من عند الله عز وجل ورسوله بقراءة سورة الفاتحة في الصلاة .
و(عن عبادة بن الصامت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب)( ).
الثالثة : الوعد الإلهي المطلق غير المقيد بقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، لتجتمع صبغة القرآنية مع الدعاء في تلاوة سورة الفاتحة .
الحمد لله على نعمة الإسلام ، والتوفيق لأداء الفرائض العبادية ، الحمد لله على نعمة الرزق الكريم الذي لا ينال أي فرد قليلاً أو كثيراً منه إلا بفضل وإذن من عند الله عز وجل .
الحمد لله رب العرش العظيم الذي [أَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( )، ومنه :
الأول : قانون السلم التي تتصف بها الرسالات السماوية . ولا يحصي عدد الذين انتفعوا من الرسالات السماوية في السلامة من الظلم للذات والغير إلا الله عز وجل .
الثاني : الإقتتال والمعارك التي صرفها الله عز وجل عن العباد سواء في الخصومات الشخصية أو القبلية أو الدولية أو بين المسلمين والمشركين .
ومن فضل الله عز وجل تعطيل الفتك باستعمال سلاح الدمار الشامل مع كثرة انتشاره في هذا الزمان.
الثالث : قانون ميل الناس بالفطرة إلى السكينة والتراحم ، والثناء على ذي الرحمة والعفو ، لذا وصّى الله عز وجل بالرحم ، ووعد بالثواب على صلته ، وقد ورد مرتين في القرآن بقوله تعالى [وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ]( ).
ووردت نصوص كثيرة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صلة الرحم ، و(عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتجزىء عني من الصدقة النفقة على زوجي وأيتام في حجري ، قال : لك أجران : أجر الصدقة ، وأجر القرابة)( ).
و(عن سليمان بن عامر عن النبّي صلى الله عليه وآله وسلم قال : صدقتك على مسكين صدَقة واحدة وعلى ذي الرّحم إثنتين لأنّها صدقة وصلة.
الزهري عن حميد بن عبد الرّحمن عن أمّه أُم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أفضل الصّدقة على ذي الرّحم الكاشح)( ).
الحمد لله الذي جعل أيام السلم أضعاف أيام الحرب ، وإن حدث قتال يقع في بقعة محدودة ، وسرعان ما يبعث الله السكينة في النفوس.
ويحتمل قوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( )، وجوهاً :
الأول : إنه خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : يشمل الخطاب حكام المسلمين ورؤساء الفرق والقبائل من المسلمين.
الثالث : الميل إلى السلم قانون عام يتغشى أهل الأرض .
المختار هو الأخير ، إذ أن مضمون الآية ميل المشركين إلى السلم مما يدل على العموم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ) لأن الإقتتال خلاف الفطرة الإنسانية .
وهل من موضوعية لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرة الله عز وجل له في ميلهم إلى السلم ، الجواب نعم .
وهل هو من الشواهد العامة على سلامة آيات السلم من النسخ ، الجواب نعم ، ومن عمومات قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
لبيان قانون عدم إنحصار سلامة آيات السلم من النسخ بمضمون ذات الآيات بل يتعدد الدليل من خارجها.
اللهم صل على الرحمة المهداة ، والنعمة المتصلة ، خاتم النبيين ، حبيبك محمد وعلى آله وسلم تسليماً ، ونشهد أنه بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، وجاهد فيك حق الجهاد ، وقد صدح منادياً للإيمان في هضاب وأودية مكة وأطرافها ، وأٍسواقها ، ومحال القبائل في منى وعرفات ، وهو من مصاديق خطابك الكريم له [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
ثم هاجر فيك ولك ومن فضلك وبهدي جبرئيل إلى المدينة حيث هديت قلوب الأنصار له لتتخذ دعوته صبغة الجهاد العالمي ، والنداء النبوي المتعدد في صيغته ، وهو الذي صدر بخصوصه الجزء السابق من هذا السِفر وهو الجزء التاسع والخمسون بعد المائتين والذي اختص بتفسير الآية [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ]( ).
لينال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الآية من بين الأنبياء وعامة الناس اسم (المنادي) ومن الإعجاز أن نداءه عام للناس كافة ولكنه مقيد في موضوعه وهو الإيمان .
وهذا الجزء هو الستون بعد المائتين والحمد لله في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً من جهة الكم في أجزاء التفسير ، والكيف والإستقراء والإستنباط في هذه الأجزاء المباركة ، إلى جانب وجود أكثر من ستة عشر ألف قانون في هذا السِفر كل قانون أو اثنين أو ثلاثة تصلح أن تكون أصلاً ومنهاجاً لرسالة دكتوراه.
ومن فضل الله عز وجل أقوم بتأليف كتبي في التفسير والفقه والأصول وتصحيحها بمفردي إلى أن تصدر مطبوعة والحمد لله ، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
فهذه القوانين ذات صبغة سماوية مترشحة ومستقرأة عن الدستور السماوي الثابت والسالم عن المعارضة ، وبخصوص القانون الوضعي قيل أنه كبيت العنكبوت لايصطاد إلا الحشرات الضعيفة ، وهذا القول ليس بتام ، وفيه نوع غبن وظلم للقوانين الوضعية مع أنها لم ترتق إلى مضامين قوانين السماء.
ويختص هذا الجزء بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) والذي صدرت بخصوصه عشرة أجزاء من هذا السِفر وهي الأجزاء :
206-207-208-214-215-
233-240-241-242-248
وهي مباحث علمية مستحدثة تستقبل زمن العولمة بالحجة والبرهان ، وتبين أن الإسلام دين السلم والسلام ، وأن القرآن نزل لنشر الأمن في ربوع الأرض ، وهو من الشواهد على اللطف الإلهي في حفظه من عند الله ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
الحمد لله الذي تفضل علينا بأن نحمده مع طلوع فجر كل يوم بأداء صلاة الصبح وعدم إنحصار الحمد ساعتئذ بقول الحمد لله ، إذ أن تكبيرة الإحرام حمد لله ، وكذا الركوع والسجود إلى جانب تلاوة آيات سورة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) وسورة أخرى من القرآن في كل ركعة من ركعتي صلاة الصبح ، لبيان إرتقاء المسلمين لأسمى المراتب بتعاهد أبهى صيغ الحمد لله خمس مرات في اليوم وعلى نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلم.
ومن الآيات أداء المسلمين الصلاة بشوق وبهجة وصيرورتها جزءً من حياتهم اليومية , وفيه نعمة الخير والبركة والصحة والسلامة ، وهذه النعمة من أسباب تشريع أداء المسلم الصلاة على كل حال ، في حال الصحة والمرض ، وعن قيام وجلوس واستلقاء ، قال تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
الحمد لله عند شروق الشمس كل يوم وإلى يوم القيامة ، ففيه شاهد على بديع صنع الله ، ومناسبة للذكر والعفو والمغفرة والرزق الكريم لقانون اقتران توالي الرزق مع ضياء الشمس ، وكل فرد من الرزق ضياء يطل على النفوس يقابل من المسلمين بالشكر لله عز وجل ، ومنه أداء الصلاة اليومية ومنها صلاة الصبح ، قال تعالى [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
الحمد لله على تعيين أوان صلاة الظهر بزوال الشمس عن كبد السماء تذكيراً بالآيات الكونية ، وشكراً لله عز وجل عليها كنعمة ، ورجاء قولياً وعملياً لاستدامتها ، وبقاء الحياة معها لقانون تجدد النعم بالشكر على شطر منها ، ولا يتم هذا القانون إلا بفضل ولطف من عند الله عز وجل , ورضاه بالقليل .
لقد أكرم الله عز وجل الإنسان وجعله [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لينهض بأعباء عمارة الأرض بالذكر والعبادة والصلاح ، إذ خلقه الله من نطفة وجعله ذا عقل فخاطبه بوجوب الإيمان ونبذ الكفر والضلالة ، ولزوم عمل جوارح وأركان الإنسان بمبادئ الإسلام ، ورغّب الله عز وجل عقل وروح وجوارح الإنسان بالإحسان للغير ، والتنزه عن سفك الدماء والفساد في الأرض .
ولم يترك الله عز وجل الناس يكابرون الأهواء والرغائب بل بعث الأنبياء والرسل ، وأنزل الكتب السماوية لهدايتهم وزجرهم ، وختم الله عز وجل النبوة والتنزيل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
وجاءت السنة النبوية كاشفة لأحكام الدين ، ومصداقاً واقعياً للتنزيل ومنها منهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باشاعته الرحمة والتراحم والإحسان ، والإمتناع عن الغزو والقتال ، وإجتنابه القتل .
والمتبادر من النسخ هو المحو ، ونسخ حكم حاضر لحكم سابق ، ولكن للنسخ عند الصحابة والتابعين معنى أعم إذ يشمل كلاً من :
الأول : التخصيص .
الثاني : التقييد .
الثالث : الإستثناء .
و(عن ابن عباس قال [الشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ]( ) فنسخ من ذلك واستثنى فقال إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا( ).
فجعل ابن عباس الإستثناء نسخاً .
وقالوا بأن مائتي آية واثنتي عشرة آية منسوخة ، ولا أصل لهذا القول.
ومن معاني سلامة آيات السلم من النسخ أمور :
الأول : قانون حضور آيات القرآن في الواقع اليومي للناس .
الثاني : قانون دعوة الناس للهدى والإيمان بالتنزيل السماوي .
الثالث : آيات السلم من الشواهد على أن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاضرة بين الناس لتبليغهم آيات القرآن ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
الرابع : بيان موضوعية تلاوة المسلمين القرآن كل يوم وبقاء آياته غضة طرية .
الخامس : قانون سلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقصان.
السادس : تجليات معالم الإيمان ، وتهذيب النفوس ببركة التنزيل .
السابع : لم تنزل أكثر من مائة آية مكية ومدنية من القرآن في مواضيع متعددة من السلم والصلح والموادعة والإحسان العام كي تنسخها آية واحدة تتضمن معنى السيف والقتل ، إذ أن القرآن كتاب الرأفة ، وقد تعدد قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ) .
الثامن : لقد ابتدأت كل سورة من القرآن بقوله تعالى [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ).
وهو شاهد على أن النبي محمداً جاء بالرحمة للناس جميعاً ، ولا يعلم ويحصي كثرة أفراد ومصاديق الرحمة التي تغشت الأرض برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الله عز وجل .
وما ذكر بنسخ آية السيف لمائة وأربع وعشرين آية قد تدخل فيه الآيات المتكررة بذات اللفظ والمعنى مثل قوله تعالى [وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ]( ).
وجاءت بالفاظ أخرى مثل [لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ]( )وفي قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ]( ) وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً]( )وقوله تعالى [أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً]( ).
ومن إعجاز القرآن توجه الخطاب في هذه الآيات إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلحق به الأمة وأجيالها لنشر ألوية السلم بين الناس .
الحمد لله بعدد النعم الإلهية على الناس في أجيالهم المتعاقبة والتي لايحصيها إلا هو سبحانه.
الحمد لله الذي رزقنا قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية ، نسأله تعالى أن يجعل عدد حمدنا له بعدد أفراد العالمين من الجن والإنس.
فمن اللطف الإلهي ابتداء القرآن بالبسملة ، ثم [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وكل آية منهما مدرسة في الفقاهة ، ومدد من عند الله لكل مسلم ومسلمة في الدنيا والآخرة ، ودعوة للسلم والتراحم بين الناس ، وهما مجتمعين ومتفرقين شاهد على سلامة آيات السلم من النسخ لدلالتها على أن الحياة الدنيا دار الرحمة ، ودار الحمد والشكر لله عز وجل ، والثناء على الله في الحال السراء والضراء ، وحال السلم والحرب لذا تجب الصلاة على كل حال ، ومنها صلاة الخوف قصراً ، قال تعالى [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا]( ).
والصلاة خير محض ، وتؤدى على كل حال , وهي باعث للرحمة في قلوب المسلمين وقلوب أعدائهم ولا يعلم كثرة ما صرف من القتال وسفك الدماء بسبب الصلاة إلا الله عز وجل وحده ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
ليكون من معاني وجوبها على المسلمين في كل يوم بعثها الطمأنينة والسكينة في النفوس ، وجعلها تميل إلى العفو والصفح وهو من الشواهد على سلامة آيات السلم من النسخ , وقوله تعالى [أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
لبيان أن إقامة المسلمين الصلاة سبب لقانون بعث الطمأنينة في نفوسهم ونفوس عامة الناس ، وهل تشمل الطمأنينة في المقام المشركين ، الجواب نعم .
لأصالة الإطلاق في ذكر القلوب في الآية أعلاه ، إذ أنها لم تقل (الا بذكر الله تطمئن قلوبكم) إنما ذكرت القلوب مطلقاً.
وهل تختص هذه الطمأنينة بذكر الله في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما بعده أم أنه قانون مصاحب للحياة الدنيا ، المختار هو الثاني .
حرر في التاسع من شهر شوال 1445هـ
18/4/2024
آيات السلم الُمحكمة المتقدمة
قد تقدم جدول آيات للسلم ذكر أنها منسوخة بآية السيف ، وقد بيّنا أنها محكمة غير منسوخة في أجزاء متعددة بخصوص أجزاء (آيات السلم محكمة غير منسوخة) هي كالآتي :
الآية السورة رقم الجزء الصفحة
قوله تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] البقرة 83 206 119
قوله تعالى [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ] البقرة 109 206 126
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا] المائدة 2 206 137
قوله تعالى [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ] المائدة 13 206 145
قوله تعالى [وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ] الأنعام 106 206 147
قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] الأنعام 159 206 149
قوله تعالى [وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ] يونس41 206 152
قوله تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ] المؤمنون 96 206 171
قوله تعالى [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ] العنكبوت 46 206 179
قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] البقرة 115 207 35
قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] البقرة 256 207 65
قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] البقرة 180 207 101
قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] الأعراف 199 207 113
قوله تعالى [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ] البقرة 191 207 132
قوله تعالى [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] الكافرون 6 208 27
قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] البقرة 217 208 79
قال تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً] النساء 90 214 190
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] الأحزاب 56 233 25
قوله تعالى [َلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ] البقرة 139 241 131
قوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] البقرة 190 241 149
قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ] البقرة 159
نسخت بالإستثناء في [إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا] 241 156
قال تعالى [وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] الأنفال 3
نسخت بآية الزكاة على قول 241 157
قال تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] البقرة 115 241 160
قوله تعالى [فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا] البقرة 158 241 170
قوله تعالى [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ] البقرة 191 241 201
قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] البقرة 217 241 226
قوله تعالى [إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ] النحل 115 241 277
قوله تعالى [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] البقرة 115 241 280
قوله تعالى [قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] البقرة 83 241 288
قوله تعالى [وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] آل عمران 20 242 22
قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] آل عمران 28 242 25
قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] آل عمران 111 242 53
قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] آل عمران 120 242 85
قوله تعالى [وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا] النساء 80 242 88
قوله تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ] النساء 81 242 111
قوله تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ] النساء 63 242 114
قوله تعالى [لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ] النساء 84 242 128
قوله تعالى [فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ] النساء 88 242 156
قوله تعالى [سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ] النساء 91 242 194
قوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ] النساء 90 242 210
قوله تعالى [مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ] المائدة 99 248 78
قوله تعالى [وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ] الأنعام 66 248 157
قوله تعالى [ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ] الأنعام 91 248 236
قوله تعالى [وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ] الأنعام 104 248 257
ويبدأ هذا الجزء بذكر أحكام الآية 108 من سورة المائدة ، وبرقم الآية الخامسة والأربعين .
الآية الخامسة والأربعون: قوله تعالى [وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
قال ابن حزم (نسخت بآية السيف)( ).
وبه قال الكرمي( ).
وقال ابن سلامة (نهاهم الله تعالى عن سب المشركين بما هو ظاهر الأحكام. وباطنها باطن المنسوخ، لأن الله تعالى أمر بقتلهم، والسب يدخل في جنب القتل، وهو أغلظ وأشنع ، نسخ ذلك بآية السيف)( ).
وبخصوص سبب نزول هذه الآية أن مشركي قريش توعدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يسبوا الله إذا استمر بسب الهتهم وهي الأوثان مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذم الأوثان إذ نزلت آيات قرآنية في ذم عبادة الأوثان ، وهذا الذم رحمة وإنذار لهم.
و(قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية [إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ]( )، قال المشركون : يا محمد لتنتهينّ عن سبّ الهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم اللّه تعالى أن يسبوا أوثانهم)( ).
ونزلت آية البحث بصيغة الجمع لإفادة المعنى العام ، ولا يختص الأمر برسول الله ولا بآيات التنزيل لأنها حكم إلهي ثابت يتلوه المسلمون في كل يوم.
فالمختار أن النهي لا يختص بآيات القرآن لوجوب قراءته ، وليس من كراهة أو حرمة في تلاوة أي آية منه.
إذ تتعلق الآية بالجدال والإحتجاج بين المسلمين والمشركين ، وأن المسلمين يسبون آلهة الكفار لبعث النفرة منها ، بالإضافة إلى أن المدار على عموم المعنى وليس سبب النزول وحده .
فأحكام الآية باقية إلى يوم القيامة ، وهي مدرسة بالخلق الحميد وإقامة الحجة على بطلان عبادة الأوثان من غير اللجوء إلى السب والشتم ، لبيان قانون عدم الحاجة للجوء المسلمين لسب آلهة المشركين أمس واليوم وغداً.
(وقال ابن عباس : وسببها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب إما أن ينتهي محمد وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما نسب إله ونهجوه فنزلت الآية)( ).
ومن إعجاز الآية ورود الاسم الموصول [وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ].
وقال ابن عطية (وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل بـ[الَّذِينَ] وذلك على معتقد الكفرة فيها)( ).
ولكن المعنى أعم ، وهو من إعجاز الآية فالمقصود من[الَّذِينَ يَدْعُونَ] العاقل وغير العاقل ، لتشمل الآية الرؤساء والملوك الذين يتخذهم المشركون آلهة سواء في حياتهم أو بعد موتهم .
وهل هذه الآية من آيات الموادعة ، الجواب نعم ، والأهم أنها تهدي المسلمين إلى طرق أخرى وإتخاذ البرهان سبيلاً في الإحتجاج ، والقرآن يفسر بعضه بعضا فكما نهت هذه الآية عن سب آلهة الذين كفروا فان آيات أخرى أمرت المسلمين بالجدال بالحكمة والبرهان ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
وهذه الآية مكية ، والمختار أنها غير منسوخة وأن أحكامها باقية إلى يوم القيامة لأن الملاك فيها هو الموادعة وقيام المسلمين بالجدال بالحجة ، وبيان البرهان من آيات التنزيل ، والمعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتخاذ الآيات الكونية حجة على الذين كفروا في بطلان عبادة غير الله عز وجل .
وهل في قصص القرآن حجة في المقام ، وغنى عن السب ، الجواب نعم ، بقيام إبراهيم عليه السلام بكسر الأصنام ، وإمتناع النار عن إحراقه .
نعم توعدهم بكسرها ، وسمّاها أصناماً ، [وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ]( ).
أي صنعتموها بأيديكم فلا تصلح للعبادة ، بينما ردوا عليه حتى بعد أن كسرّها [قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ]( )، لبيان شدة جحود الذين كفروا فمع تكسير الأصنام وبطلان سحرها لا زالوا يسمّونها آلهة.
فمن باب الأولوية أن سب أصنام الذين كفروا من قريش وغيرهم قد لا يثنيهم عن إتخاذها آلهة فدعا الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى ترك سّبها.
وجاءت الآية [وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ]( )، بصيغة الجمع وتقديرها (ياأيها الذين آمنوا لا تسبوا الذين يدعون من دون الله).
وتدل خاتمة الآية على أن الذين كفروا افتتنوا فلابد من علاج وإصلاح ولا يتم بالسب والشتم الذي قد يؤدي إلى العناد والإصرار والتحدي.
ترى كيف يكون نسخ آية السيف لآية الموادعة هذه ، الجواب بقتل الكفار أو دخولهم الإسلام ، واستئصال سب الله عز وجل ، لكن خاتمة الآية تدل على بقاء الإمتحان والإبتلاء بقوله تعالى [ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
وفيه وعيد للذين كفروا ، وزجر لهم عن سبّ الله عز وجل ، وبعث للسكينة في قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتفقه للمسلمين في الدين ، بأن الدنيا دار إختبار وأن الأعمال تحضر مع أصحابها يوم القيامة ليكون الجزاء عليها ، فلا يضر المشركون باتخاذهم الأصنام آلهة إلا أنفسهم ، قال تعالى [وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ]( ).
وهل الخطاب (فذرهم) من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم تلحق به الأمة .
المختار هو الثاني وهو من الشواهد العقائدية والتأريخية على سلامة الآية من النسخ ، وبقاء حكمها الأمر الذي يملي على المسلمين الصبر والدفاع عن النبوة والتنزيل بالحكمة والموعظة الحسنة.
الآية السادسة والأربعون: قوله تعالى[فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ]( ).
هذا الجزء خاتمة الآية [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] ( ) نسخت بآية السيف وقال به ابن سلامة( )، وابن حزم( ) ، والكرمي ( )، والمقري( ) .
وهذه الآية من سورة الأنعام وهي مكية ، وقد ورد لفظ [فَذَرْهُمْ] في القرآن ست مرات ، منها مرتان في سورة الأنعام وهي :
الأولى : قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ] ( ).
الرابعة : قوله تعالى [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ] ( ).
الخامسة : قوله تعالى [فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ]( ).
السادسة : قوله تعالى [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ] ( ).
واختلف في اليوم [الَّذِي يُوعَدُونَ] هل هو يوم القيامة أو يوم معركة بدر ، والمختار هو الأول لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ*يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ]( ).
وكذا في قوله تعالى [فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ]( ) ولم يرد لفظ [يُصْعَقُونَ] في القرآن إلا مرة واحدة ، ويتعلق بيوم القيامة ، إذ ورد (عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :لا تخيروني من بين الأنبياء ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوِزيَ بصعقة الطور)( ).
دلالة سلامة آية (فذرهم) من النسخ
ومن معاني دلالات قولنا بسلامة آية [فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] من النسخ أمور :
الأول : استدامة حال السلم في الأرض .
الثاني : سيادة الأخلاق الحميدة ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وصحيح أن الخطاب في الآية أعلاه موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن أجيال المسلمين مأمورون بانتهاج سيرته ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]( ).
الثالث : تجدد دعوة القرآن كل يوم للإيمان ، وزجره عن الشرك والإفتراء وعن [زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا]( ).
وهو من رشحات فضل الله عز وجل في رحاب تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن خمس مرات في الصلاة اليومية الواجبة ، قال تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ]( ).
معجزة تناقص أعداء النبوة
ويحتمل قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ]( ) وجوهاً :
الأول : إنقطاع الأعداء من الجن والإنس أيام النبوة .
الثاني : إنقطاع الأعداء من الإنس أيام النبوة دون الأعداء من الجن.
الثالث : بقاء أعداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الجن والإنس إلى ما بعد النبوة .
والمختار هو تناقص عدد أعداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء على نحو يومي ظاهر للناس ، ليكون من المعجزات الحسية له ، وهو الذي يدل عليه لجوء مشركي قريش إلى الصلح في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، والذي سمّي بصلح الحديبية ، ولكن الله عز وجل سمّاه الفتح المبين و(عن عبد الله بن مسعود قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي ، وكان إذا أتاه اشتد عليه فسرّي عنه وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبرنا أنه أنزل عليه إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا( ) .
كما سمي بيعة الرضوان ، إذ ورد عن البراء (قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية) ( ).
ولا يعني قوله تعالى [فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] ترك المشركين يبثون سمومهم ، بل أن هذا القول وعد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ووعيد للمشركين .
فهو وعد بأن الله عز وجل يمنع المشركين من جمع الأنصار والأعوان لمحاربة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو سبحانه يهدي الناس إلى الإيمان ، فقوله تعالى [فَذَرْهُمْ]أي أن الله عز وجل لا يتركهم وشأنهم بل تتوجه لهم سبل الهداية والبشارة والإنذار وأفراد الإبتلاء الطارئ ، ومن الأدلة عليه توالي دخول الناس الإسلام كل يوم من أيام النبوة.
فالآية الكريمة من مصاديق قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ) فيشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدق إيمان المسلمين ، ويشهد إفتراء المشركين في أيام حياته ، ليقف في يوم المحشر شفيعاً للمسلمين ، وشاهداً على الكافرين .
قانون قهر الحكمة للشيطنة
وأختتمت الآية بقوله تعالى [فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ]( )الذي قيل أنه منسوخ بآية السيف ، أي أن أحكام هذه الآية تمنع أعداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الجن والإنس من الاستمرار بالإفتراء.
ولكن القدر المتيقن من آية السيف هو إرادة مشركي مكة وما حولها ، أي أن آية البحث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بترك المشركين يفترون من حين نزولها في مكة إلى أن نزلت سورة التوبة .
والمراد من زخرف القول أي الباطل المزّين (عن أبي ذر قال : قال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم : تعوذ شياطين الانس والجن.
قلت : يا رسول الله وللانس شياطين .
قال : نعم )( ).
وقال (ابن عباس : الجن هم الجان وليسوا بشياطين ، والشياطين ولد إبليس وهم لا يموتون إلا مع إبليس ، والجن يموتون فمنهمم المؤمن ومنهم الكافر .
وعن ابن مسعود قال : الكهنة هم شياطين الإِنس) ( ).
لبيان مقابلة هذه الشيطنة بأقوال وأفعال متعددة بالصبر والحجة والبرهان ، إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا للمسلمين حياة جهاد ويتقوم بالصبر ، يدل قوله تعالى [فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ]( )، على وجوب توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدعوة عامة الناس للإسلام بالمعجزة العقلية وهو القرآن ، وتثبيتها في صدور المسلمين ، وتبليغ الأحكام الشرعية للناس .
وآية البحث مكية ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في دعوة أهل مكة والوافدين إليها للإسلام ، كما كان يتخذ من الأشهر الحرم خصوصاً شهر ذي القعدة وذي الحجة ومحرم مناسبة لدعوة وفد الحاج للإسلام ، ويزور القبائل في منازلهم في مِنى وفي أسواق مكة لتلاوة القرآن عليهم ، وإخبارهم برسالته وما رزقه الله من الوحي الذي هو أعم من القرآن .
و(عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ألا وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه.
ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه)( ).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (فله أن يعقبهم بمثل قراه) هذا في حال المضطر الذي ليس عنده طعام ويخشى على نفسه الهلاك ، فله أن يأخذ من مالهم بقدر قراه واستضافته عوض ما منعوه مع شدة حاجته .
وهل يجب عليه إعادته عند السعة كما في السرقة في سني المجاعة ، الجواب لا.
قانون عدم الإنشغال بأهل الإفتراء
لقد أراد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عدم الإنشغال بأفراد من الذين كفروا يقومون بالإفتراء والكذب على الله ، وبالجحود بالنبوة والرسالة .
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي اتخاذ مدة النبوة القصيرة وعاءً وزمانياً لبيان أحكام الشريعة لأجيال الناس المتعاقبة ، وتثبيت آيات القرآن في الصدور والوجود اليومي بتلاوة كل مسلم لها سبع عشرة مرة في اليوم فنزل قوله تعالى [أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
فآية البحث دعوة سماوية لعدم الوقوف الدائم عند إفتراء الذين كفروا ، إنما تفضحه المعجزة .
ومن الشواهد كان أبو لهب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أكثر الناس عداوة له ، ومع هذا نزل قوله تعالى [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ]( ).
فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني هاشم وأقام لهم مأدبة تجلت فيها معجزة له من السنين الأولى للبعثة النبوية بكفاية الطعام القليل لنحو أربعين شخصاً منهم ، ولما عرض عليهم تأييده في نبوته ، بادر أبو لهب بالقول : ما سحركم مثل هذا الرجل .
إذ ورد (عن البراء بن عازب قال : لما نزلت هذه الآية [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ]( ) جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً ، منهم العشرة يأكلون المسنة( )، ويشربون العس( )، وامر علياً برجل شاة صنعها لهم ثم قربها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخذ منها بضعة فاكل منها ، ثم تتبع بها جوانب القصعة.
ثم قال : ادنوا بسم الله ، فدنا القوم عشرة . . عشرة . فأكلوا حتى صدروا ، ثم دعا بقعب من لبن فجرع جرعة فناولهم.
فقال : اشربوا بسم الله . فشربوا حتى رووا عن آخرهم ، فقطع كلامهم رجل فقال لهم : ما سحركم مثل هذا الرجل ، فاسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ فلم يتكلم .
ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ، ثم بدرهم بالكلام فقال : يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم من الله والبشير ، قد جئتكم بما لم يجيء به أحد . جئتكم بالدنيا والآخرة فاسلموا تسلموا ، وأطيعوا تهتدوا)( ).
فتفرق بنو هاشم ولم يفاتحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمضمون آية إنذار الأقربين .
ولم يرد على أبي لهب ، وعدم الرد هذا من مصاديق قوله تعالى [فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ]( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال : فلما كان الغد قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (يا علي ان هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول.
فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فعد لنا بمثل الذي صنعت بالأمس من الطعام والشراب ثم اجمعهم لي . ففعلت ، ثم جمعتهم ، ثم دعاني بالطعام فقربته ، ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا وشربوا حتى نهلوا.
ثم تكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم أحداً في العرب جاء قومه بافضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله ان أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على أمري هذا فقلت وأنا احدثهم سناً : إنه أنا . فقام القوم يضحكون)( ).
لبيان قانون سلامة الدعوة إلى الله من افتراء الكافرين.
قانون الدعوة بالسلم المجتمعي
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يحمل السيف في دعوته إلى الله ، إلى أن اضطر للدفاع.
والأصل عند انتفاء هذه الضرورة هو الدعوة بالحجة والدليل الواضح على نبوته .
لقد كانت معارك الإسلام الأولى شاهداً على استغناء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن السيف قبلها وبعدها ، وما بعدها أكثر وضوحاً وجلاء ويدل عليه قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
وهل تدل هذه الآية على إنقطاع حكم آية السيف ، وأنها خاصة بمكة وما حولها في مدة محدودة وهي من العاشر من شهر ذي الحجة من السنة العاشرة إلى العاشر من شهر ربيع الثاني من السنة الحادية عشرة للهجرة .
الجواب نعم ، لبيان قانون الإستدلال بآيات متعددة من القرآن على سلامة آيات الصلح والسلم والموادعة من النسخ ، وقانون دعوة النبوة بالسلم المجتمعي وتحقيق الأمن المستديم.
ومن المستبعد عقلاً نسخ (124) آية من القرآن بآية واحدة والمدار على الإستدلال بعدم ثبوت هذا النسخ من القرآن والسنة .
ومن آيات الرحمة العامة في القرآن قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فالسيف ضد للرحمة ، وهي ثابتة في القرآن ، وليس فيه كلمة السيف.
وهل انتفاء لفظ السيف من القرآن قرينة أو أمارة على عدم ثبوت نسخ آيات السلم والصلح في القرآن ، الجواب نعم إلى جانب ميل النفوس بالفطرة إلى السلم والسكينة والطمأنينة في اليوم والليلة ، وفي المدينة والقرية من غير تدابر وشقاق وسفك للدماء .
الآية السابعة والأربعون : قوله تعالى [قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ]( ).
ورد قوله تعالى أعلاه في القرآن أربع مرات وهي :
الأولى : الآية أعلاه في أمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : في شعيب وإنذاره لقومه [وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ]( ).
الثالثة : خطاب وأمر من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
الرابعة : خطاب وأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ]( ).
وهل هذا التعدد والتكرار أمارة على عدم نسخ الآية ، الجواب نعم ، مع تعدد الموضوع بلحاظ مضامين هذه الآيات والجمع بينها ، ولا يقدح بهذا المعنى كون هذه الآيات مكية .
وذكر أن هذه الآية منسوخة بآية السيف كل من ابن سلامة( )، وابن حزم( )، والكرمي( ).
وقال ابن الجوزي (للمفسرين فيه قولان أحدهما أن المراد بها ترك قتال الكفار فهي منسوخه بآية السيف والثاني التهديد فهي محكمة وهو الأصح)( ).
وقال المقري بنسخها بآية السيف ( ).
اتحاد سنخية النبوة
من أسرار الجمع بين الخطاب في هذه الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنذار النبي شعيب لقومه [وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ]( )، سلامة الآية من النسخ لأن شعيباً لم يدخل حرباً ولم يخض قتالاً مع قومه .
وهو من الأنبياء العرب وهم ، هود ، صالح ، وإسماعيل ، وشعيب ، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنهم يتكلمون العربية وفي ترتيب زمان بعثة الأنبياء ورد توثيق عن (الكلبي قال : أوّل نبي بعثه الله في الأرض ادريس ، وهو اخنوخ بن يرد ، وهو يارد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم.
ثم انقطعت الرسل حتى بعث نوح بن لمك بن متوشلخ بن اخنوخ بن يارد ، وقد كان سام بن نوح نبياً.
ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبياً ، وهو إبراهيم بن تارح وتارح هو آزر( ) بن ناحور بن شاروخ بن ارغو بن فالغ ، وفالغ هو فالخ وهو الذي قسم الأرض ابن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح.
ثم إسماعيل بن إبراهيم فمات بمكة ودفن بها ، ثم إسحاق بن إبراهيم مات بالشام.
ولوط بن هاران بن تاريح وإبراهيم عمه هو ابن أخي إبراهيم.
ثم إسرائيل ، وهو يعقوب بن إسحاق ، ثم يوسف بن يعقوب ، ثم شعيب بن بوبب ابن عنقاء بن مدين بن إبراهيم.
ثم هود بن عبد الله بن الخلود بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح ، ثم صالح بن آسف بن كماشج بن اروم بن ثمود بن جابر بن ارم بن سام بن نوح.
ثم موسى وهارون ابنا عمران بن فاهت ابن لاوي بن يعقوب ، ثم أيوب بن رازخ بن أمور بن ليغزر بن العيص.
ثم داود بن ايشا بن عويد بن ناخر بن سلمون بن بخشون بن عنادب بن رام ابن خصرون بن يهود بن يعقوب ، ثم سليمان بن داود.
ثم يونس بن متى من سبط بنيامين بن يعقوب ، ثم اليسع من سبط روبيل بن يعقوب ، والياس بن بشير بن العاذر بن هارون بن عمران.
وذا الكفل اسمه عويدياً من سبط يهود بن يعقوب.
وبين موسى بن عمران وبين مريم بنت عمران أم عيسى ألف سنة وسبعمائة سنة ، وليسا من سبط.
ثم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وكل نبي ذكر في القرآن من ولد إبراهيم غير إدريس ، ونوح ، ولوط ، وهود ، وصالح ، ولم يكن من العرب أنبياء إلا خمسة : هود ، وصالح ، وإسماعيل ، وشعيب ، ومحمد.
وإنما سموا عرباً لأنه لم يتكلم أحد من الأنبياء بالعربية غيرهم ، فلذلك سموا عرباً)( ).
وقد اجتهد شعيب في نصح ووعظ قومه ، ودعاهم إلى الإيمان ، وإلى العدل وعدم البخس في الميزان وكانوا أهل نعمة وتجارة وزراعة ، وتمر القوافل التجارية على بلداتهم ، وكانوا يستوفون حقهم في الميزان ، وينقصون حق غيرهم ، وهم أصحاب الأيكة .
لقد اجتهد الأنبياء في التبيلغ والبشارة والإنذار ، ومنهم شعيب إذ تدل آيات القرآن على عدم اتخاذه السيف سبيلاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي الدعوة إلى الله .
أما قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بحمل السلاح فهو للدفاع ودفع الشرك والمشركين عن ثغور الإسلام ، ولبيان أن مشركي قريش من أشد أقوام الأنبياء شقاء وعداوة للنبوة ، وإصراراً على محاربتها بالسيف مع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالمعجزة العقلية إلى جانب المعجزة الحسية .
نبوة محمد (ص) فضل من الله على قريش
من معجزات القرآن ورود لفظ [أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ] في القرآن أربع مرات ، وكلها تشير إلى قوم شعيب وتكذيبهم الرسل ، وانتقام الله عز وجل منهم ، قال تعالى [كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ]( ).
لقد استضعفوا شعيباً وأصحابه ، وهددوه بالقتل إن لم يكف عن نصحهم وإنذارهم ، فأمره الله أن يخرج من البلدة ، لتأتي الصيحة لهم [فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ]( ).
لبيان فضل الله عز وجل على قريش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمع أنهم أخرجوه من مكة لم ينزل بهم العذاب ، والله عز وجل قادر على عذابهم دون أن يمس البيت الحرام أذى ، ثم جهزوا الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فصبر وقاتل دفاعاً إلى أن اهتدى أكثرهم ، فتم فتح مكة سلماً من غير قتال يعتد به .
وفي قوله تعالى [قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ]( )، إنذار لقريش من الخروج لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن معاني [عَلَى مَكَانَتِكُمْ] الأمر لقريش بالبقاء في مكة .
ترى ما المقصود من القوم في قوله تعالى [قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ]( )، هل هم كفار قريش ، الجواب المعنى أعم ، ويشمل المشركين عامة ، إذ يفسر القرآن بعضه بعضا ، قال تعالى [وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
مراتب الدعوة النبوية
تتعدد أقسام ومراتب دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والجهات التي يدعوها ، ومنها :
الأول : إنذار العشيرة والأقربين ، قال تعالى [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ]( )، ليكون هذا الإنذار تركة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند هجرته إلى المدينة ، وهو من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم بأن يغادر المكان والبلدة ، ولكن إنذاراته تبقى فيها متجددة.
ومن خصائص الآية دعوة مشركي قريش للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإمتناع عن محاربته.
وقد أكرم الله عشيرته الأقربين بقوله تعالى [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ]( )، بينما ورد بخصوص قومه الإنذار والوعيد والتحدي بقوله تعالى [اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ].
ليدخل في القوم المشركون من الأقربين ومن الآيات قلة عددهم إذ أظهر أبو لهب وولداه العداوة الشديدة للنبوة والتنزيل ، فنزل ذم أبي لهب وزوجته من السماء بقوله تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ]( ).
وآية البحث مكية ، نزلت قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، ومات أبو لهب في السنة الثانية للهجرة .
عموم الإنذار القرآني
الإنذار في الآية وقوله تعالى [اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ] أعم من أن ينحصر بأهل مكة وما حولها إنما يشمل العرب وغيرهم بلحاظ قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
ويدل قوله تعالى [إِنِّي عَامِلٌ] في آية البحث على سلامتها من النسخ بآية السيف ، لأن عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ الرسالة متصل ومتجدد .
وقال في الكشاف (يحتمل : اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم)( ).
ولكن معنى الآية حبط عمل المشركين واسقاط ما في أيديهم ، ببيان حسن العاقبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، ولحوق الخسارة والخزي للظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والجحود ، والعداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقانون آيات القرآن لا تغري المشركين بالتعدي والظلم ، وقانون حبط عمل المشركين ، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ]( ).
ومن معاني آية البحث ونزولها في مكة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زجر المشركين عن تجهيز الجيوش لمحاربته وأصحابه .
وقال في الكشاف (والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي ، فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم)( ).
ولكن الآية لا تدعو المشركين إلى الثبات على كفرهم ، إنما هو التهديد والوعيد والدعوة إلى التوبة بدليل خاتمة الآية [إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] كما أن عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا ينحصر بالثبات على الإسلام إنما الجهاد في التبليغ والدعوة ونشر أحكام الشريعة .
قال تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن بيانه لإتحاد سنخية التبليغ بين الأنبياء وإنذارهم لقومهم وكيف نفعت هذه الصيغ في هداية الناس ، وانحسار الكفر فقد ورد قوله تعالى [اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ]( )، في القرآن مرتين بصيغة الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وورد مرة أخرى بخصوص شعيب إذ ورد في التنزيل [وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ]( ).
وعلى فرض تقدير نسخ هذه الآية بآية السيف يكون تقديرها : لا تعملوا على مكانتكم واني عامل بينكم بالسيف ، ولم يثبت هذا المعنى ونحوه.
فالمختار أن الآية تهديد في الدنيا من البلاء والخزي ، الذي يصاحب الكفر ، ووعيد في الآخرة من العذاب الأليم في الآخرة .
والآية بشارة للمسلمين بالظهور على القوم الكافرين ، ودحض مفاهيم الشرك والوثنية.
تقدير [اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ]
ليس معنى [اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ] اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة ، بل تقدير الآية على وجوه :
الأول : اعملوا على مكانتكم الضيقة المنحسرة .
الثاني : اعملوا على مكانتكم بانعدام الناصر لكم واني عامل بنصر وعون من الله عز وجل .
الثالث : اعملوا على مكانتكم حتى ينزل بكم البلاء والعذاب ، واني عامل بالنصر والظفر ، وقال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الرابع : اعملوا على مكانتكم من الجهالة والغرر واتباع الشيطان وانا عامل بما ينزل عليّ من القرآن والوحي .
الخامس : اعملوا على مكانتكم واني عامل بما يدعوكم إلى التوبة والإنابة.
السادس : اعملوا على مكانتكم واني عامل بالمعجزات التي تدعوكم إلى الإيمان .
السابع : اعملوا على مكانتكم فان العذاب آتيكم .
الثامن : اعملوا على مكانتكم من الضلالة بعد إقامة الحجة عليكم.
التاسع : اعملوا على مكانتكم للخسران والخيبة إني عامل لحسن العاقبة .
العاشر : اعملوا على مكانتكم [وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
الحادي عشرة : اعملوا على مكانتكم في الكفر إني عامل ومعي المهاجرون والإنصار ، لذا قال تعالى [وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ]( ).
الثاني عشر : اعملوا ما شئتم فاني شاهد عليكم يوم القيامة .
الثالث عشر : إنذار لكم اعملوا على مكانتكم .
الرابع عشر : يا أيها الذين كفروا اعملوا على مكانتكم وعيد لكم يخزيكم فلا تصل النوبة إلى استعمال السيف .
لذا كان الخطاب في الآية [اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ]( )، يتوجه يوم التنزيل إلى عشرات الآلاف من المشركين ، ولم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا إلا ودخل اغلبهم الإسلام من غير استعمال للسيف وسفك الدماء ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد تقدم في الجزء الرابع والأربعين من هذا السِفر وفي تفسير قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( )، القوانين التالية :
الأول : قانون الجحود ضلالة وهلاك( ).
الثاني : قانون الجهاد بالكلمة( ).
الثالث : قانون الدعوة السلمية للإصلاح والصلاح( ).
الآية الثامنة والأربعون : قوله تعالى [انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
هذا الشطر جزء من الآية الكريمة [هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
وورد هذا الشطر ثلاث مرات في القرآن بصيغ متقاربة :
الأولى : الآية أعلاه .
الثانية : قوله تعالى [وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
وهذه آية كاملة معطوفة على الآية السابقة التي تتضمن الأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ] لبيان تحدث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه ونيابة عن المسلمين .
الثالثة : قوله تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ]( ).
وقال بنسخها بآية السيف ابن سلامة( ).
وبه قال ابن حزم( ) بخصوص [وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
وبه قال ابن الجوزي ( ).
وقال الكرمي قوله تعالى (وانتظر انا منتظرون)( )، بخصوص سورة هود ، وليس في القرآن هذه الجملة وهو سهو من النساخ لإفادتها معنى غير صحيح ، إذ تجمع بصيغة المتكلم الطرفين مع أنه بينهما تضاد ، والآية هي [وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( )، وقد ورد في سورة السجدة [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ]( ).
([وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ) قال بعضهم هاتان الآيتان اقتضتا تركهم على أعمالهم والاقتناع بإنذارهم ثم نسختا بآية السيف وقال المحققون هذا تهديد ووعيد معناه فستعلمون عاقبة أمركم وهذا لا ينافي قتالهم فلا وجه للنسخ)( ).
وقال المقري (قل انتظروا انا منتظرون نسخت بآية السيف)( ).
ولم يثبن النسخ ، فهذه الآية من آيات الإنذار والتهديد وإخبار بأن الكفار ينتظرون نتائج نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانوا يسعون في إغتياله وإرادوا قتله في فراشه في مكة فهاجر إلى المدينة (يثرب) في ذات الليلة بمعجزة عقلية وحسية معاً .
إذ نزل عليه جبرئيل وأمره بالهجرة بعد أن هيئ الله عز وجل له الأنصار في المدينة وأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم البيعة في العقبة الأولى والثانية .
ثم زحف الكفار في معارك الإسلام لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة خاصة وأن مشركي قريش كانوا يجاهدون بالسعي لقتله بعد خسارتهم في معركة بدر سبعين قتيلاً ووقوع سبعين آخرين أسرى بيد المسلمين.
فقد استمر هذا الإنتظار مع رجحان كفة المسلمين وخسارة وهوان المشركين .
والنسبة بين إنتظار الكفار وانتظار المسلمين عموم وخصوص من وجه ، فمرة يلتقي هذا الإنتظار بموضوع أو حكم متحد ، ومرة يختلف .
نعم النتيجة تكون بينهما التباين والتضاد فما يأتي للمسلمين من الرحمة والظفر يختلف ويتباين مع ما يأتي للكفار من الأذى والضرر ، فمثلاً قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( )، ينتظره الفريقان ، فيكون عزاً للمؤمنين ، وخزياً وخسارة للكافرين .
تقدير الانتظار
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين كفروا انتظروا الخزي والخسارة إنا منتظرون النصر والغلبة .
الثاني : انتظروا توالي نزول القرآن وإنا منتظرون له .
الثالث : انتظروا دخول الناس الإسلام ، وانا له منتظرون فيزيدنا قوة ومنعة .
الرابع : انتظروا كثرة البراهين التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانا منتظرون لها فتزيدنا إيماناً .
الخامس : قل انتظروا مضامين آية البحث وهي وعيد لكم ، وانا منتظرون لها وهي وعد وبشارة لنا .
وآية البحث كاملة هي [هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
إذ تأتي الملائكة للمشركين أو لقبض أرواحهم بأشد كيفية لإختيارهم الكفر مع قيام الحجة على قبحه ووجوب تركه.
أو [يَأْتِيَ رَبُّكَ] أي يأتي أمر الله عز وجل بعذاب وهزيمة المشركين .
[يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ] ومنها علامات الساعة .
(قال حذيفة بن أسيد والبراء بن عازب : كنّا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ما تذاكرون .
قلنا : نتذاكر الساعة.
قال : إنها لا تقوم حتّى تروا قبلها عشر آيات : الدخان ، ودابة الأرض ، وخسفاً بالمشرق ، وخسفاً بالمغرب ، وخسفاً بجزيرة العرب ، ويأجوج ومأجوج ، وناراً تخرج من قعر عدن ، ونزول عيسى ، وطلوع الشمس من مغربها)( ).
السادس : انتظروا تعديكم وهجومكم على المدينة انا منتظرون تلك الأيام ، وخزيكم فيها ، وفي وقائع معركة أحد نزل قوله تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ.
لبيان أن من معاني آية البحث الإخبار عن علمهم الغيب القريب الذي يتجلى بالبشارة بهذه الآية ، ومن خلال تهديد المشركين المستمر لغزو المدينة.
السابع : انتظروا قلة عددكم بدخول الناس الإسلام إنا منتظرون فتح مكة من غير قتال ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ]( ).
الثامن : انتظروا الويل ودخول العويل إلى دوركم بسبب تكذيبكم بالنبوة والتنزيل واشهاركم السلاح لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
[انْتَظِرُوا] بلحاظ السور المكية
هذه الآية من سورة الأنعام وهي مكية ، ويمكن الجمع بينها وبين آيات من سور مكية من وجوه :
الأول : انتظروا [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( ) [إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
الثاني : انتظروا [النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( )[إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
الثالث : [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ]( ) [انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
الرابع : انتظروا [لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ]( ) [إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
الخامس : انتظروا [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ) [إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
السادس : انتظروا [الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ]( ) [إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
السابع : انتظروا تعطيل تجارة قريش إلى الشام واليمن لتسخيرهم الأموال وإبل التجارة في الهجوم على المدينة وغزوها [إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ) قال تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
الثامن : قال تعالى [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ]( ) فانتظروا نزول الملائكة في معارك الإسلام لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إنا منتظرون .
التاسع : [أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ]( ) [انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
العاشر : انتظروا [لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ]( ) [إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
الحادي عشر : انتظروا [لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ]( )[ إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
الثاني عشر : انتظروا [الْقَارِعَةُ]( ) [ إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
الثالث عشر : انتظروا [يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ]( ) [إِنَّا مُنْتَظِرُونَ].
الرابع عشر : انتظروا [إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا]( ) [إِنَّا مُنْتَظِرُونَ].
الخامس عشر : انتظروا [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ]( ) [إِنَّا مُنْتَظِرُونَ].
السادس عشر : انتظروا [مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ]( )[إِنَّا مُنْتَظِرُونَ].
السابع عشر : انتظروا البينة والبرهان ، قال تعالى [لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً]( ) [إِنَّا مُنْتَظِرُونَ].
الثامن عشر : انتظروا [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ]( ) [إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
التاسع عشر : قل انتظروا [وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا]( ) [إِنَّا مُنْتَظِرُونَ].
العشرون : أول آية نزلت من القرآن هي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، ومنه [قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
لانبساط هذه القراءة على كل آية من القرآن من الآيات أن سورة العلق هذه وعيد للذين كفروا لبيان أن قوله تعالى [قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ] كثرة المصاديق اليومية في الحياة الدنيا التي ينتظرها الجميع فيحزن معها الكفار ، وتملأ السكينة نفوس المسلمين ، وتكون سبباً لهداية الناس ، ولم تنقطع هذه المصاديق بنزول آية السيف.
لتدل هذه المصاديق على سلامة آيات السلم من النسخ ، وبقاء آيات البشارة والإنذار على حالها ، فلا دليل على إرتقاء الإنذار القرآني إلى استعمال السيف .
الواحد والعشرون : [وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ]( ) [قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
الثاني والعشرون : [وَطُورِ سِينِينَ]( ) [قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ).
الثالث والعشرون : [أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ]( ) [قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ].
الرابع والعشرون : [قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ) [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]( )، لبيان البشارة بالعز والنصر للمسلمين مع بقاء آيات السلم محكمة من غير نسخ لها .
الخامس والعشرون : [قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ] [وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى]( ).
السادس والعشرون : [قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ] [أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى]( ).
لبيان قانون تعدد وتوالي نعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من غير استعمال للسيف، خاصة وأن هذه الآيات نزلت في مكة قبل الهجرة ، ولم يكن هناك قتال بين النبي والمشركين .
فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قانون توالي نزول آيات السلم مع توالي نزول النعم وشآبيب الرحمة .
السابع والعشرون : [قُلِ انْتَظِرُوا]( ) فلا شئ يحجب عنا نعم الله والنصر فانا منتظرون .
الثامن والعشرون : [قُلِ انْتَظِرُوا] [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى]( )، فانا منتظرون .
وترغب هذه الآيات الناس بدخول الإسلام ، وأثرها نفع أقوى من السيف ، فلا تصل النوبة للحاجة إليه .
التاسع والعشرون : [قُلِ انْتَظِرُوا] نصر الله لنا عند هجومكم علينا ، وغزوكم للمدينة .
الآية التاسعة والأربعون : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ]( ) .
قد تقدم بيان سلامة هذه الآية من النسخ في الجزء السابع بعد المائتين من هذا السِفر .
نزلت هذه الآية بمكة ونسخها قوله تعالى قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
وذكر أن الآية منسوخة بآية السيف ، قال الكرمي ( ) نسختها آية السيف ( ) وبه قال المقري ( ).
وعن السدي (في قوله [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ]( ) قال : تركوا دينهم ، وهم اليهود والنصارى [وَكَانُوا شِيَعًا] قال : فرقاً [لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] قال : لم تؤمر بقتالهم ، ثم نسخت فأمر بقتالهم في سورة براءة)( ).
أي يختص النسخ في الآية بقوله تعالى [لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ]( ).
ونسب الزمخشري نسخ الآية إلى القيل ( )، وهو تضعيف له .
ولا دليل على النسخ في هذه الآية ، إنما وردت للإعجاز البياني والإخبار من جهتين :
الأولى : الذين تفرقوا إلى شيع وفرق قبل البعثة النبوية من الأمم وأهل الملل السابقة ، مع أن الأصل إتحاد ملتهم وكتابهم .
الثانية : الذين تفرقوا وصاروا شيعاً كل فرقة وحزب ينتمون لحزبهم بالولاء ، ليكون من إعجاز الآية إخبارها عن علم الغيب في مستقبل الأيام ، واقترن هذا الإخبار بالذم والتهديد ، ومنهم أصحاب الأهواء والضلالة .
(وأخرج ابن أبي حاتم والنحاس وابن مردويه عن أبي غالب : أنه سئل عن هذه الآية { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً }( ) فقال : حدثني أبو أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنهم الخوارج )( ).
وتخبر ذات آية البحث بذاتها عن أحكامها وسلامتها من النسخ من جهات منها :
الأول : ورود الخطاب في الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ قانون بقاء خطابات القرآن إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سالمة من النسخ إلى يوم القيامة .
الثاني : قانون البراءة من الذين شطروا دينهم وأنهم إلى طوائف وأحزاب ، وصارت هذه الطوائف والأحزاب هي الأصل عندهم .
الثالث : تفويض أمر هذه الفرق والإختلاف بين الناس عامة ، وبين أهل الدين الواحد إلى الله عز وجل لقوله تعالى في آية البحث [إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ] .
الرابع : ورود (ثم) بعد التفويض لقوله تعالى [ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] لإرادة وقوفهم للحساب بين يدي الله ، وفيه شاهد على عدم عرضهم على السيف ، إنما يبقون يعملون في الحياة الدنيا دار الامتحان والإختبار والإبتلاء.
فجاءت آية البحث لإنذارهم وتحذير المسلمين منهم ، ومن إتباع منهاج الفرقة والشقاق .
الآية الخمسون : قوله تعالى [وَأُمْلِي لَهُمْ]
ذكر أنها نسخت بآية السيف( )، والآية كاملة هي [وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ]( ) لذا خصّ النسخ بأول الآية أما آخرها فهو محكم ، وذات كلمات الآية وردت في القرآن مرتين كآية مستقلة الأولى في سورة الأعراف ، والأخرى في سورة القلم الآية 45.
وينطبق القول بالنسخ على الآيتين معاً لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، وإن تعدد المعنى بلحاظ سياق الآيات .
وقد أخبرت آيات القرآن بأن توالي النعم والجاه على الكافرين إملاء واستدراج لهم ، إذ قال تعالى [وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ]( ).
لذا جاء الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بامهال الذين كفروا ، وهذا الإمهال مقرون بالإنذار بآيات القرآن والسنة النبوية .
وقد تكرر لفظ [إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ] بصيغة المتكلم مرتين في القرآن ، وكلاهما في آية واحدة وهو قوله تعالى [وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ]( ) ، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هداية الله عز وجل لهم للعمل وفق المشيئة الإلهية.
ومن مفاهيمه رجاء اللطف والرحمة العامة للمسلمين بتقريبهم إلى منازل الطاعة والفوز بالأجر والثواب .
ومن خصائص الحياة الدنيا إملاء الله عز وجل للكافرين في كل زمان استدراجاً لهم مما يدل على أن هذا الإعلاء إمهال وقانون عام من الإرادة التكوينية.
وتفضل الله وبعث النبي محمداً لإستئصال الكفر ومفاهيم الضلالة بالحجة والدليل والبرهان ، ومنه آية البحث التي تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر على الكافرين ، الصبر المقرون بالتبليغ إلى أن يأتي كيد الله عز وجل .
وهل آية السيف من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ]( )، الجواب نعم ، ولكنها ليست ناسخة لقانون الصبر النبوي على الكفار.
وفي آية البحث دعوة للمسلمين للصبر على كفر وظلم الذين كفروا لأنفسهم وعدم إشاعة فلسفة سفك الدماء ، لبيان أن آية السيف تهديد ووعيد محصور زماناً ومكاناً.
وقد دخل الناس الإسلام يومئذ بالمعجزة والوقائع والإنذار وحسن سمت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) ترغيب الناس بالإسلام بالسيرة النبوية ، وتأسيس وتثبيت قوانين الأخلاق الحميدة في الأرض والمترشحة عن الإيمان فهي ليست أفعال وجدانية أو بسبب التجربة أو القوانين الوضعية التي سرعان ما تتبدل أو يتم عدم التقيد بها عند الفرصة المناسبة ، إنما هذه القوانين ملكة واعتقاد وسعي لقصد القربة إلى الله عز وجل ، ودعوة للناس للهداية .
الآية الواحدة والخمسون قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ).
قد تقدم بيان سلامة هذه الآية من النسخ في الجزء السادس بعد المائتين من هذا السِفر .
وذكر أن موضوع النسخ في هذه الآية على ثلاثة أقسام :
الأول : أولها وهو [خُذْ الْعَفْوَ] منسوخ بآية الزكاة .
الثاني : وسط الآية وهو [وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ] محكم ، أي أمر بالمعروف.
الثالث : آخر الآية منسوخ بآية السيف .
وبه قال ابن سلامة( ) وابن حزم( ).
والمختار أن الآية غير منسوخة ويحتمل قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ] وجوهاً :
الأول : إرادة الزكاة فهي عفو وحصة زائدة قليلة ، وبه قال مجاهد .
الثاني : نسب نسخ الآية بالزكاة لابن عباس .
وورد عنه ما يشير إلى عدم نسخ الآية في إجابته لمسائل نافع بن الأزرق إذ (قال له : أخبرني [خُذْ الْعَفْوَ] قال : خذ الفضل من أموالهم ، أمر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ لك ( ).
قال : وهل تعرف العرب ذلك ، قال : نعم ، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول :
يعفو عن الجهل والسوآت كما … يدرك غيث الربيع ذو الطرد)( ).
الثالث : خذ بالصبر والعفو عن الكفار ، ونسخت الآية بالغلظة ، وأن لا يقبل منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
الرابع : خذ العفو من أخلاق الناس .
و(عن جابر قال : لما نزلت هذه الآية [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا جبريل ما تأويل هذه الآية ، قال : حتى أسأل .
فصعد ثم نزل فقال : يا محمد إن الله يأمرك أن تصفح عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أدلكم على أشرف أخلاق الدنيا والآخرة ، قالوا : وما ذاك يا رسول الله .
قال : تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك)( ).
وفي أسباب نزول هذه الآية ورد (عن قيس بن سعد بن عبادة قال : لما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمزة بن عبد المطلب قال : والله لأمثلن بسبعين منهم . فجاءه جبريل بهذه الآية [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ) فقال : يا جبريل ما هذا.
قال : لا أدري ، ثم عاد فقال : إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك ، وتعطي من حرمك)( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (إنه ليعرض لي صاحب الحاجة فابادر إلى قضائها مخافة أن يستغني عنها صاحبها، ألا وإن مكارم الدنيا والاخرة في ثلاثة أحرف من كتاب الله خذ العفو ، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين ، وتفسيره أن تصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك)( ).
و(عن عبد الله بن الزبير قال : ما نزلت هذه الآية إلا في أخلاق الناس [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ) وفي لفظ : أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس)( ).
ومثله عن عبد الله بن عمر .
ويدل استمرار العمل بالآية ومضامينها القدسية على سلامتها من النسخ .
الجمع بين آية [خُذْ الْعَفْوَ] والتي بعدها
و(عن ابن زيد قال : لما نزلت [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف يا رب والغضب ، فنزل وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ).
ولا دليل على هذا الجمع بين الآيتين في سبب النزول وإن كانتا متعاقبتين في القرآن ، والأصل هو تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية البحث بالقبول والرضا والعمل .
وإذا أطلق ابن زيد في كتب التفسير فالمراد منه هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وأبوه زيد تابعي ، أما جده أسلم فهو مولى عمر بن الخطاب ، اشتراه عمر في موسم الحج سنة (12) للهجرة في مكة ، واختلف في نسبه هل هو من سبي عين تمر ، أم يماني أم حبشي.
وتوفى أسلم سنة 80 للهجرة ، وتوفى زيد بن أسلم سنة 136 للهجرة.
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم من اتباع التابعين ، توفي سنة 182 هجرية.
ولم ينسب قوله هذا بالجمع بين الآيتين أعلاه إلى الصحابة أو التابعين ، ولعله اجتهاد منه ، ولا أصل له .
نعم التعاقب بين الآيتين من إعجاز القرآن وللبعث على ضبط اللسان والسيطرة على الجوارح ، والعصمة من الغضب.
فالآية التالية عون للعمل بمضامين آية البحث ، وإصلاح عام بخصوص موضوعها ، ومطلقاً ، لحاجة المسلم وكل إنسان للإستعاذة من الشيطان مع وجود السبب لهذه الإستعاذة بالوقائع أو بدونها .
وقد وردت ذات كلمات آية الإستعاذة هذه في سورة فصلت كما ورد في قوله تعالى [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]( ).
من معاني [خُذْ الْعَفْوَ]
ويحتمل قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ] وجوهاً :
الأول : خذ العفو من أخلاق الناس ، أي السهل المتيسر .
الثاني : خذ العفو الزائد وأحل واطيب المال .
الثالث : الفرد الجامع للوجهين أعلاه .
والمختار هو الثالث ، والآية غير منسوخة بآية الزكاة لتعدد موضوعها ، ولعدم التعارض بين فريضة الزكاة وأخذ الطيب والحلال ، والوسط من المال .
وهل يشكل بأن الآية تتضمن أخذ العفو ، وليس منح العفو ، الجواب لا ، لأن المراد من العفو قبول المتيسر والسهل والأحسن ، لتنمية ملكة الأخلاق الحميدة في المجتمعات ، فتكون مقدمة للتدبر في المعجزات النبوية وقبولها .
الإنفاق أعم من الزكاة
لا تعارض بين أخذ العفو مما زاد على الزكاة من الصدقات المستحبة والإنفاق في سبيل الله خاصة عند الحاجة لما هو أكثر من مال الزكاة.
والنسبة بين هذا الإنفاق وبين الزكاة عموم وخصوص مطلق ، فالإنفاق أعم ، لذا ورد الترغيب فيه قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
ولفظ أموالهم ونسبة الأموال لهم أفراداً وجماعات أعم من الحق الذي فيها من الزكاة والحقوق الشرعية .
وقد ورد في الجزء الرابع والأربعين من هذا السِفر (ويتحقق مصداق السبعمائة حبة من زراعة حبة واحدة (في زراعة نبت الجاورس وهو الدخن، وهي نبتة تنمو إلى إرتفاع خمسين سنتمتراً، ويشتمل على(600) نوع منتشرة في العراق وسوريا واليمن وروسيا وشرق آسيا، وأفريقيا وهذا التعدد في أنواعه وأماكن زراعته شاهد على إعجاز القرآن ومجيئه بالمثل القياسي الموجود في أماكن كثيرة من العالم .
وأمارة على إنتشار الإسلام وبلوغه مشارق ومغارب الأرض، وتداخل الأمصار وإطلاع الناس على أحوال الدول، وحصول الإستيراد والتصدير بين دول العالم ليتبادر إلى الذهن المصداق العملي للآية عند تلاوتها، وفيه ترغيب بالإنفاق ورجاء للثواب العظيم)( ).
إلى جانب إخبار آية البحث عن علم الغيب في تنجز الإستنساخ النباتي وزراعة الأنسجة ونحوها لمضاعفة الإنتاج من مختلف الحبوب وليس حبة الدخن وحدها .
خاتمة الآية محكمة
وتقدير خاتمة آية البحث : يا أيها الذين آمنوا في كل زمان أعرضوا عن الجاهلين ، فخاتمة الآية محكمة ، ويدل وصف الجاهلين على عدم مبادرتهم بالسيف ، والنسبة بين الجاهلين والكفار عموم وخصوص مطلق ، فالجاهلون أعم ، قال تعالى [وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ]( ).
وقد وردت الآيات بتحذير نوح عليه السلام من الجهالة بوعد الله ، قال تعالى [إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ]( )، لبيان أن الله عز وجل ينزه الأنبياء عن حال الجهالة ، ويرفعهم إلى مقامات اليقين ، وخاطب الله عز وجل النبي محمداً ودعاه للصبر على إعراض المشركين ، قال تعالى [وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ]( ).
ويدل على هذا التنزه قول موسى عليه السلام في قصة ذبح البقرة [قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ]( ).
وخاتمة الآية محكمة من وجوه :
الأول : إتصاف رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرحمة العامة ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ومنه الرحمة بالجاهلين.
الثاني : إجتماع المعجزات الحسية والعقلية برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لينتفع الجاهل من المعجزات الحسية ولتأخذ بيده للتدبر في المعجزات العقلية وإعجاز القرآن .
الثالث : لا دليل على نسخ الإعراض عن الجاهلين بالسيف ومن الشواهد عليه السيرة النبوية بالعفو ، والإمهال والإعراض عن الجاهلين.
الرابع : التكامل في آية البحث فأخذ العفو دعوة لعامة الناس للإيمان ، وإجتماع أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر بالمعروف ومنه الأمر إلى الجاهلين ، مع الإعراض عنهم .
لتبين الآية أن هذا الإعراض ليس من السالبة الكلية ، إنما يكون في ثنايا الأمر العام بالمعروف الذي يشمل الجاهلين أيضاً ، لبيان أن المراد من الإعراض في المقام ، وجوه :
الأول : الصبر على أذى الجاهلين .
الثاني : إمهال الجاهلين .
الثالث : توجه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى عامة الناس ، ومنهم أهل الغفلة والجهالة.
ولم تقل الآية (وأمر الجاهلين بالعرف وأعرض عنهم) لبيان قانون الأمر بالمعروف عام يشمل الناس جميعاً ، ويصيب الجاهلين قسط منه.
الآية الثانية والخمسون : قوله تعالى [وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ]( ).
قالوا بنسخ آخر الآية أعلاه بآية السيف ، وقد ورد ذات الشطر من الآية في سورة الأعراف ، وتقدم البيان بأنه ليس منسوخاً.
وكذا في هذه الآية مع لحاظ الإختلاف في موضوع الآية فقد ذكر في آية سورة الأعراف ذم الذين كفروا على جدالهم في أسماء ومسميات الأوثان والحجارة التي يعبدون .
وقد ورد ذات الموضوع في الآية (102) من سورة يونس هذه ، كما ورد في سورة يوسف إذ يخاطب يوسف صاحبيه في السجن بصيغة اللوم والذم [يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ]( ).
والصلة بين هذه الآيات من وجوه :
الأول : قانون جهاد الأنبياء بجعل كلمة الله هي العليا في كل الأحوال ، فيوسف عليه السلام يدعو إلى الله من السجن ، وعدم خشيته من الظالمين ، إذ كان الشرك هو السائد في مصر .
وقد جاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المشركين في مكة وما حولها ، ونزل القرآن لفضحهم ، ومن جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلاوته آيات القرآن حال نزولها وإن كانت تتضمن الذم لعبادة الأوثان ، والوعيد للذين يعبدونها ويتقربون بها إلى الله عز وجل .
الثاني : نبوة يوسف عليه السلام ودعوته إلى الله في مصر مقدمة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفتح المسلمين لمصر ، قال تعالى [فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ]( ).
وصحيح أن الآية أعلاه بخصوص يوسف عليه السلام ، والمختار أنها بشارة دخول المسلمين مصر من غير مشقة وقتال يعتد به ، وهو من مصاديق ما عند الأنبياء السابقين عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع وجه التفضيل بدخول أهل مصر الإسلام وحسن اسلامهم .
الثالث : من معاني الجمع بين الآيات موضوعية ونفع بيان وجوب التوحيد وبعث النفرة من مفاهيم الشرك.
الرابع : تلقي السجين والمستضعف دعوة الحق بالتدبر ، ومن دون جدال كما في صاحبي يوسف في السجن بخلاف مشركي قريش الذين أكثروا من جدال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عبادتهم الأوثان ، ثم حملوا السلاح لقتاله .
الخامس : عدم الحاجة للجوء إلى القتل والسيف في التبليغ ، لبيان أن هذه الآيات محكمة وهي باقية ويتجدد موضوعها في كل زمان وتتضمن التخويف والوعيد والإصلاح ، قال تعالى [إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى]( ).
وهل خاتمة الآية أعلاه شاهد على عدم نسخ آية السيف لآيات السلم والصلح والموادعة ، الجواب نعم .
ولم تقل الآية : ولقد جاءهم من ربهم الهدى والسيف.
وهل يمكن تقدير الآية : ولقد جاءهم من ربهم الهدى بالسيف ، الجواب لا ، لأن المتبادر من الهدى البيان والبرهان والحجة والرحمة ، وتتجلى في نزول القرآن ، قال تعالى [هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ]( ).
مشركو قريش يسألون آية حسية
لقد طلب المشركون مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآية حسية مثل ناقة صالح أو عصا موسى ، أو مثل إبراء عيسى للأكمه والأبرص ، وقد أجابهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على تساؤلهم هذا كما ورد في التنزيل [وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ]( ).
إنما جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات العقلية ، وأمره الله بالإنذار والبشارة ، ولا يملك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات شيئاً إلا أن يهبها الله عز وجل له .
وقد تكرر طلبهم كما في قوله تعالى [وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ]( )، أو ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كنز كما ورد في قوله تعالى [فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ]( ).
لبيان حب قريش للمال ، ويريد الله عز وجل لهم وللناس الإيمان ، وفيه وجوه :
الأول : قانون الإيمان علة خلق الناس ، وعمارتهم الأرض ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثاني : من اللطف الإلهي تقريب الناس للإيمان .
الثالث : قانون إنذارات القرآن من اللطف الإلهي بالناس .
الرابع : قانون الإيمان يأتي بالمال ، وهو حرز له .
الخامس : قانون السلم والصلح والموادعة دعوة سماوية للإيمان لذا فهي سالمة من النسخ .
السادس : قانون الإيمان عبور على الصراط ، ونجاة في الآخرة .
السابع : قانون آيات الإنذار زاجر عن الشرك ، وسبيل هداية للإيمان أمس واليوم وغداً .
الآية الثالثة والخمسون : قوله تعالى [وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ]( ).
وقال بنسخ هذه الآية كل من ابن سلامة( )، والكرمي( )، وقال المقري ( )بنسخها والآية التي بعدها [وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ] بآية السيف.
والمختار أن الآية للتهديد والإخبار بمجئ النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيادة الإسلام ، وتغشي الرحمة للمسلمين وحلول النقمة والعذاب بالذين كفروا.
وفي قوله تعالى [اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ]( )إنذار للمشركين بضيق سلطانهم ، وضعف شأنهم ، وإصابتهم بالوهن ، ففي الآية حذف : اعملوا على مكانتكم ونحن نعمل في واسع الأرض ، لتكون آية [إِذَا ضَرَبْتُمْ] شاهد سلم متجدداً في كل زمان ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
وهل تدل الآية أعلاه على قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) الجواب نعم ، لتأسيس قانون في هذا السِفر وهو عدم إنحصار اثبات سلامة آيات السلم من النسخ بذات الآيات بل تدل عليه آيات قرآنية كثيرة أخرى.
ومنه الآية أعلاه من وجوه :
الأول : ابتداء الآية بنداء الإيمان ، ومنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والإيمان بأن قلوب الناس بيد الله عز وجل وهو الهادي إلى سواء السبيل .
وعن (النواس بن سَمْعَان الكلابي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه.
وكان يقول : يا مقلب القلوب ، ثبت قلوبنا على دينك ، قال : والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه)( ).
فمع عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه سأل الله عز وجل أن يثبت قلبه وقلوب المسلمين على دين الإسلام .
لبيان أن الكفار أزاغ الله قلوبهم وأمالها عن مسالك الهدى والإيمان ، وضيّعوا على أنفسهم نعمة إنشراح القلوب والفوز بالثواب في الآخرة بسوء إختيارهم والكفر ، قال تعالى [فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ]( ).
أي أن عدم هداية الله عز وجل للكافرين لم تأت ابتداء إنما بعد أن اختاروا الكفر .
ومنه أنهم حجبوا عن أنفسهم نعمة تلقي نداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الذي ورد في القرآن تسعاً وثمانين مرة ، ولكن رحمة الله عز وجل تشملهم بنداء [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] الذي ورد في القرآن عشرين مرة.
وقد يرد أمر أو حكم في ذات النداءين الخاص والعام ليكون رحمة للمؤمنين وإنذاراً للكافرين ، كما في الأمر الجامع بالتقوى في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا]( )، و[يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ]( ).
لبيان إعجاز قرآني بقانون اكرام المسلمين بالأمر المتعدد بالتقوى ، إذ يتوجه إليهم الأمر بالتقوى بصفة الإيمان ، ثم يتوجه إليهم كافراد من عامة الناس ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا]( ).
لبيان قانون التوحيد وأنه ليس للناس جميعاً إلا إله واحد هو الله عز وجل .
الثاني : ورد قوله تعالى [إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] بصيغة الجملة الشرطية للدلالة على أن الضرب والسير في الأرض ليس دائماً ، وكأنه من الإستثناء من الإقامة والحضر الذي هو الأكثر في حياة الفرد والجماعة ، أما السفر فهو الأقل في عدد الأيام ، لذا ورد قوله تعالى [إِذَا ضَرَبْتُمْ] في القرآن مرتين ، إحداهما في الآية أعلاه ، والأخرى في قصر المسافر في صلاته لقوله تعالى [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا]( ).
وتبين الآية أعلاه شدة الإبتلاء الذي يلاقيه المسلمون بنعت الكافرين بالعداوة الشديدة لهم ، وكذا عداوة الشيطان لهم وللناس ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
ليكون من عداوة الشيطان للكافرين جهات :
الأولى : إقامتهم على الكفر .
الثانية : تحريضهم على المؤمنين .
الثالثة : محاربة النبوة والتنزيل مما يستلزم من المسلمين الصبر والمرابطة ، وفيه دفع لشر الشيطان ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثالث : النسبة بين الضرب في الأرض وبين الخروج للقتال عموم وخصوص مطلق ، فالضرب في الأرض أعم ويشمل السفر للتجارة والمكاسب وحج بيت الله والعمرة ، وزيارة ذوي القربى ، وحوائج الدنيا وأحسنه الضرب في سبيل الله الذي ذكرته آية البحث.
الرابع : ورود الآية بصيغة الجمع (إذا ضربتم) لوجوب أخذ المسلمين الحائطة بالتعدد عند السفر ، لذا وردت الأحاديث بكراهة سفر الإنسان منفرداً.
وعن (سعيد بن المسيب يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الشيطان يهم بالواحد ويهم بالاثنين فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم)( ).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ أَبَدًا)( ).
وقد ورد قول الشاعر امرؤ القيس (قِفَا نَبْكِ) لمخاطبة صاحبي السفر .
لبيان عادة أهل الجاهلية بالسفر ثلاثة أو أكثر ، خاصة مع كثرة مخاطر الطريق .
الخامس : تقييد السفر والسير في الأرض جماعة بأنه في سبيل الله ، والنسبة بينه وبين السير للقتال والكتائب والسرايا عموم وخصوص مطلق ، فحج البيت الحرام في سبيل الله ، وقضاء حوائج المؤمنين وفعل الخيرات من مصاديق في سبيل الله .
السادس : التدبر وحمل لواء السلم عند الضرب والسفر في الأرض ، وعدم التعجل بالإجهاز على إنسان ، وقد ورد لفظ [فَتَبَيَّنُوا] ثلاث مرات في القرآن ، اثنتين في هذه الآية ، وواحدة في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ).
وهي الآية التي يستدل بمفهومها على حجية خبر العدل الواحد من غير حاجة للجوء للتبين .
وهي من أهم المسائل الأصولية لأن كثيراً من الأحكام الشرعية وردت عن طريق خبر آحاد .
السابع : بيان قانون رد القاء السلام بالأمن والسلام لمن يلقيه ، وهي خصلة ينفرد بها المسلمون واتباع الشرائع السماوية ، إذ قال تعالى [وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا]( )، لتتجلى موضوعية كلمة (السلام عليكم) في المنع من الإجهاز على الفرد والجماعة .
وهذه الآية محكمة غير منسوخة لبيان موضوعية القاء السلام في إبقاء السيوف في أغمادها .
وفي أسباب نزول هذه الآية ذكر منها عن ابن عباس قال (كان الرجل يتكلم بالإسلام ، ويؤمن بالله والرسول ، ويكون في قومه.
فإذا جاءت سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بها حيه – يعني قومه – وأمام الرجل لا يخاف المؤمنين من أجل أنه على دينهم ، حتى يلقاهم فيلقي إليهم السلام.
فيقولون : لست مؤمناً وقد ألقى السلم فيقتلونه ، فقال الله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا]( ) إلى [تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] يعني تقتلونه إرادة أن يحل لكم ماله الذي وجدتم معه ، وذلك عرض الحياة الدنيا فإن عندي مغانم كثيرة ، والتمسوا من فضل الله . وهو رجل اسمه مرداس خلى قومه هاربين من خيل بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عليها رجل من بني ليث اسمه قليب حتى إذا وصلت الخيل سلّم عليهم فقتلوه.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله بديته ، ورد إليهم ماله ، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك)( ).
الآية الرابعة والخمسون : قوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ]( ).
قال بنسخها بآية السيف ابن سلامة( )، والمقري( ).
وتكرر القول بالنسخ في مثل هذه الآية من موضوع البلاغ في قوله تعالى [وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ]( )، نسختها آية السيف ، وقيل أن سورة آل عمران تحتوي من المنسوخ على عشر آيات.
والمختار أن الآية غير منسوخة إنما تبين وظائف النبوة العامة وهي البلاغ الذي هو سور الموجبة الكلية الشامل للبشارة والإنذار ، لتكون النسبة بين البلاغ وبينها هي العموم والخصوص المطلق ، فالبلاغ أعم .
وعند الله عز وجل يكون الحساب ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )، وقال تعالى [إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ]( ).
ولم تذكر هذه الآية أن التوفيق إلى الهدى بيد الله ، ولكن ذكرته آيات أخرى ، لنزول هذه الآية لبيان وظيفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإخبار بأن حساب الناس جميعاً بيد الله عز وجل إذ يقفون يوم القيامة للحساب لا يصاحبهم إلا عملهم .
لذا قالت آية أخرى [فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ]( ).
كلمة واحدة للبشارة والإنذار
ومن إعجاز القرآن مجئ الكلمة الواحدة للبشارة والإنذار في آن واحد ، ومنه قوله تعالى [عَلَيْكَ الْبَلَاغُ] في الآية أعلاه .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : عليك البلاغ بالبشارة .
الثاني : وعليك البلاغ بآيات القرآن .
الثالث : وعليك البلاغ بالإنذار .
الرابع : وعليك البلاغ فلا يصل الأمر إلى السيف .
الخامس : قانون كفاية البلاغ في هداية الناس .
السادس : قانون في البلاغ حجة على الناس ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
وقد ورد لفظ (عليك البلاغ) ثلاث مرات في القرآن وهي :
الأولى : قوله تعالى [وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ]( ).
الثانية : آية البحث .
الثالثة : قوله تعالى [فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ]( ).
ولم يرد لفظ (علينا الحساب) في القرآن إلا في آية البحث .
دلالة حرف العطف (أو)
ترى لماذا جاءت الآية بحرف العطف (أو) في قوله تعالى [بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ]( )، وهذا الحرف يفيد التخيير والترديد ، وقيل يفيد الشك كما في قوله تعالى [لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ]( ).
وقد ابتلي الذين كفروا بما وعدهم الله في معركة بدر بنزول الخسارة والهزيمة بهم ، وتعطلت تجارتهم إلى الشام واليمن لتسخيرهم الأموال وإبل التجارة وتجنيد رجال القبائل في هجومهم على المدينة في معركة أحد ، والخندق ، لمحاولة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
لبيان أن ورود حرف العطف (أو) لبيان وجوه :
الأول : قانون استدامة بلاغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى .
الثاني : لقد نزل البلاء بالكفار أيام النبوة ، وقبل نزول هذه الآية من سورة هود التي هي مكية لتتضمن الإنذار والإخبار من علم الغيب عن لحوق البلاء والضرر بالمشركين ، وإنذارهم من محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، وأحد ، والخندق .
الثالث : في الآية دعوة للمشركين للإمتناع عن إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة وعدم حمله على الهجرة بسلامة دينه واستدامة التنزيل والنجاة من القتل .
الرابع : قانون تجدد الإنذار للمشركين ، وعدم إنقطاع مصاديق إبتلائهم أيام النبوة وبعدها .
الخامس : دلالة الآية على قانون المدار على عموم الحكم وليس سبب النزول إذ يتكرر الضرر والبلاء للكفار ، لقانون مصاحبة البلاء للكفر .
قانون استدامة التبليغ
لو تنزلنا وقلنا بأن الآية منسوخة بآية السيف فهل توقف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن البلاغ والإنذار بعد نزول آية السيف ، الجواب لا ، فقد غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا وهو يقوم بالتبليغ من وجوه :
الأول : من البلاغ قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ ما ينزل من القرآن ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
الثاني : دلالة آية البحث على استمرار قيام النبي بالتبليغ إلى حين الوفاة لقوله تعالى [أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ]( ).
الثالث : قانون تجدد تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأحكام حتى بعد مغادرته الحياة الدنيا ، وهو من مصاديق استدامة وحضور القرآن والسنة النبوية في الواقع اليومي للمسلمين .
الرابع : قانون التبليغ من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، والمراد أجيال الناس المتعاقبة إلى يوم القيامة ، لتنقطع أيام السيف ، ويبقى التبليغ دعوة سماوية لله عز وجل كل يوم ومنه :
الأول : قانون أداء كل مسلم ومسلمة الصلاة اليومية .
الثاني : قانون تلاوة المسلمين القرآن كل يوم ، وتعاهد آياته .
الثالث : قانون سلامة القرآن من النقص والزيادة .
الرابع : قانون عمل المسلمين بأحكام القرآن والسنة ، وهو من التبليغ الفعلي.
الخامس : قانون قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وهل تدل الآية أعلاه على عدم نسخ آيات السلم ، الجواب نعم ، لما فيها من البعث للدعوة إلى الخير والصلاح والسلم ، ونبذ الحرب والقتال .
لتتعدد مصاديق قانون ثبوت أحكام آيات السلم والصلح والموادعة بلحاظ آيات القرآن الأخرى ومنها آيات استدامة التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
قانون عصمة الآية الذاتية من النسخ
يتجلى ثبوت سلامة آيات السلم من النسخ بذات الآية نفسها إذ يتعلق النسخ في الغالب بشطر من الآية ليأتي الشطر الآخر ويؤكد إنتفاء موضوع النسخ فيها ، كما في آية البحث التي ذكرت الوعد من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه سيرى ما ينزل بالمشركين من البلاء والحسرة والأسى ، وتعقبه قوله تعالى [وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ].
لقد كانت السور المكية تنزل بالوعيد والعذاب على الشرك فقالوا : متى هذا الوعد الذي تعدنا يا محمّد.
ونزل قوله تعالى [قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ]( ).
وهل تدل الآية أعلاه على سلامة آيات السلم من النسخ ، الجواب نعم ، لعدم ثبوت المشيئة الإلهية بإجراء حكم السيف على الناس ، إنما حكم البلاغ هو المتصل والمستمر أيام النبوة وبعدها.
ومن معاني هذا القانون هو النظر في مجموع كلمات الآية القرآنية التي قيل بأن شطراً منها منسوخ لإحتمال أن مضامين ذات الآية تنفي وقوع النسخ في جزء منها ، وهو من أسرار تقسيم كل سورة من القرآن إلى آيات متعددة ، وليس في القرآن سورة من آية واحدة أو من آيتين .
وأقصر سورة في القرآن هي سورة الكوثر، وتتألف من ثلاث آيات ، ومجموع كلماتها عشرة ، وهي قوله تعالى [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ]( ).
وهل يجوز النظر في عدم نسخ الآية بلحاظ الآيات المجاورة لها ، الجواب نعم.
إن كثرة آيات الإنذار في السور المكية وكذا في السور المدنية شاهد على بقاء موضوعها ونفعها ، وعدم نسخها مع كثرتها بآية واحدة هي آية السيف.
أوان الحساب
هل المراد الحساب في الآخرة ، أم في الدنيا والآخرة ، الجواب هو الأول وعليه الإجماع ، فمن الحساب إحصاء أعمال الناس أو الجزاء عليها والميزان والصراط ، ومن أسماء يوم القيامة يوم الحساب ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ]( )، وقد ورد لفظ (يوم الحساب) أربع مرات في القرآن ، كلها تتعلق بيوم القيامة ، فان قلت قد ورد في الآية التالية [وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( ).
والجواب المراد من سرعة الحساب حضور الأعمال كلها عند الله ، وحساب الناس في آن واحد ، من غير تحديد أو إمهال أو تفكر.
أما السعة أو الإبتلاء في الدنيا فهو امتحان ، ويكون سبباً للمغفرة ورفع الدرجة للمؤمن ، وعقوبة أو استدراجاً للكافر ، قال تعالى [فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ]( ).
وقيل للإمام علي عليه السلام كيف يحاسب الله الناس على كثرتهم ، فلم يغضب ولم يوبخ السائل بل أجاب (كما يرزقهم على كثرتهم)( ).
ففي كل ساعة يتوجه الرزق إلى الناس جميعاً من غير تزاحم ، ولا يخطأ الرزق في مقصده وغايته كماً وكيفاً.
لبيان قانون لعالم الآخرة شواهد في الدنيا وفيه وجوه :
الأول : قانون الترابط بين الدنيا والآخرة .
الثاني : قانون وقائع الدنيا تذكير بالآخرة .
الثالث : قانون الفطرة الإنسانية سبيل إلى النجاة في الآخرة.
فمثلاً يدرك الإنسان القبح الذاتي والغيري للظلم وانه ضد للعدل والإحسان الذي تستأنس به النفوس ، ونزل القرآن بالتذكير بعالم الآخرة بشدة العقاب على ظلم الإنسان لنفسه وظلمه لغيره .
وتحتمل الجهة التي يتوجه لها خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الذين لا يؤمنون وجوهاً :
الأولى : الذي يصلهم خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل مكة أيام نزول الآية .
الثانية : الكفار والمشركون أيام النبوة .
الثالثة : المعنى الأعم ، وشمول الذين كفروا في كل زمان وإلى يوم القيامة .
والمختار هو الأخير ، وهو من مصاديق سلامة الآية من النسخ وبقاء مضامينها حاضرة بين الناس ، وهو من تجليات تلاوة المسلمين في مشارق ومغارب الأرض القرآن في الصلاة ، وعلوم التفسير والترجمة لآيات القرآن ومعانيها .
الآية الخامسة والخمسون : قوله تعالى [مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ]( ).
قال ابن سلامة : نسختها آية السيف( )، وبه قال الكرمي( )، والمقري( ).
تكرر مضمون هذه الآية في سورة هود وفي سورة الزمر أعلاه .
والآية من آيات الوعيد ، وتشمل :
الأول : الإبتلاء والعذاب في الدنيا ، قال تعالى [وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ]( ).
ويتصف هذا العذاب باقترانه بالخزي إذ يدل قوله تعالى [عَذَابٌ يُخْزِيهِ] على التعدد فالخزي غير العذاب ، ويكون هذا الخزي تارة مترشحاً من العذاب وأخرى مستقلاً ليكون عذاباً نفسياً وإجتماعياً مصاحباً للعذاب البدني.
وليس من حصر لموضوع العذاب الذي يلحق الذين كفروا في الحياة الدنيا وكيفيته وشدته ، وفيه زجر لهم عن البقاء في مستنقع الكفر والضلالة.
ومن أسرار سلامة هذه الآية من النسخ تجلي مصاديق الخزي للذين كفروا في الحياة الدنيا أيام النبوة وبعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا .
وما آية السيف إلا مصداق من مصاديق هذا البحث ، لما فيها من الذم والخزي للمشركين إذ قال تعالى [فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
لبيان التضييق على المشركين ومنع إنبساطهم في البلاد ، وما فيه من نشر مفاهيم الضلالة والشك والريب والنفاق .
ليكون هذا العذاب والخزي أشد من السيف على المشركين ، وأكثر نفعاً للمجتمعات ، وللمسلمين خاصة ، إذ يرون البلاء والضرر كيف ينزل بالذين كفروا .
ومن مصاديق قوله تعالى [مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ]( )، دخول الناس أفواجاً في الإسلام ، لينطبق عليهم في الدنيا مصداق لقوله تعالى [فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ]( )، فالسعيد الذي تاب ودخل الإسلام.
والشقي الذي بقي في منازل الكفر ليقيم في العذاب يوم القيامة ، ولم يرد لفظ (شقي) ولفظ (سعيد) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
ومن العذاب في الدنيا هزيمة المشركين يوم معركة بدر ، إذ لحق الخزي يومئذ جميع الكفار رجالاً ونساءً وليس الذين حضروا المعركة منهم خاصة.
ومن خصائص آية البحث ودلالات سلامتها من النسخ إطلالتها كل يوم على الناس بالإنذار ووجود آيات أخرى تتضمن ذات المعنى ، ولم يقل أحد بأنها منسوخة ، مثل قوله تعالى [وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ]( ) .
وليس من حصر لوجوه العذاب التي تأتي للذين كفروا ، منها الظاهر والمحسوس ، ومنها الخفي الذي لا يدرك إلا بالتفكر والتدبر ، كما في قوله تعالى [أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ]( ).
لقد تكرر لفظ [عَذَابُ] في الآية مرتين الأول في الدنيا ، والآخر دائم ومستديم في الآخرة .
ليكون من خصائص عذاب الدنيا البعث للنجاة من عذاب الآخرة بالتوبة والإنابة ، وفيه وجوه :
الأول : قانون حاجة الناس في الدنيا والآخرة لآيات القرآن .
الثاني : قانون آيات الوعيد رحمة عامة .
الثالث : لا يحصي إنتفاع أجيال الناس من آيات الوعيد إلا الله عز وجل.
الرابع : قانون العذاب الدنيوي زاجر للناس عن مقدمات العذاب الأكبر في الآخرة.
الخامس : قانون فضل الله على المؤمنين بالنجاة من العذاب في الدنيا والآخرة .
فمن منافع هذه الآية الإنذار للذين كفروا ، ومن الثوابت قانون استدامة إنذار الذين كفروا ، وقانون سلامة آيات الإنذار من النسخ.
الآية السادسة والخمسون : قوله تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
قال بنسخ هذه الآية بآية السيف : ابن سلامة( )، وابن حزم( )، الكرمي( )، المقري( ).
وقد ورد ذات النص القرآني جزء من آية من سورة فصلت بقوله تعالى [وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ).
وقد تقدم بيان عدم نسخ قوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ.
ومن معاني التفسير بالنظائر في المقام بيان قانون الإحسان أعظم نفعاً من السيف ، فرد السيئة بالحسنة يجذب القلوب ، ويقطع دابر الفتنة.
وهذا الأمر من الشواهد على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل لعلمه بخفايا النفوس ، ونزعة الفطرة الإنسانية ، وميلها للمحسن ، خاصة إذا كان الإحسان بالوحي والتنزيل وموجهاً إلى أكثر الناس عداوة ليكون سنخية ثابتة عند المؤمنين لشموله الأقل عداوة ، وشموله للأقربين من باب الأولوية القطعية.
فمضامين هذه الآية محكمة غير منسوخة وهي مصداق لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) ، من وجوه :
الأول : النسبة بين الرحمة والإحسان عموم وخصوص مطلق ، فالإحسان فرع الرحمة .
الثاني : قانون استئصال الإساءة من المجتمعات بالإحسان العام .
الثالث : قانون حب الله عز وجل للمحسنين ، قال تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الرابع : الرد بالأحسن من الحلم ، والتنزه عن الجهالة .
ولم تذكر آية البحث لفظ (الإحسان) ولكنها ذكرت الأحسن من السيئة ، وفيه وجوه :
الأول : الإعراض عن الأذى .
الثاني : قانون المبادرة إلى السلام حسنة .
الثالث : الإستغفار للمسيئ .
الرابع : التحلي بالصبر وعدم رد الأذى بمثله ، سواء كان لفظياً أو فعلياً.
الخامس : حسن الصلة مع صاحب الجفاء .
ومن رد الإساءة بالإحسان إقامة الحجة على الطرف الآخر ، وحمله على الإشفاق .
ورد في سورة فصلت وسورة المؤمنون ، وكل منهما سورة مكية ، وهو خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتلحق به الأمة إلى يوم القيامة.
وهل يمكن القول بأن هذه الآية ناسخة لآية السيف لبقاء مضامينها متجددة كل يوم ، الجواب لا ، لأن من شرائط النسخ تأخر زمان نزول الناسخ على زمان المنسوخ ، نعم يدل بقاء مضامينها على عدم نسخ آية السيف لها ، ولنظائرها من الآيات ، فان قيل كيف يمكن الجمع بينهما ، الجواب حكم آية السيف محدود من جهات :
الأولى : موضوع آية السيف لخصوص المشركين عبدة الأوثان .
الثاني : الزمان محصور بأربعة أشهر من حين يوم عيد الأضحى من السنة العاشرة .
الثالث : إرادة المشركين في مكة وما حولها لإستئصال الشرك في الجزيرة بعد قيام الحجج المتعددة عليهم بالمعجزات العقلية والحسية ,
وهل دخول الناس أفواجاً في الإسلام معجزة وحجة على هؤلاء المشركين ، الجواب نعم ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُوَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًافَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( )لبيان قانون تجدد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أيام النبوة وبعدها.
أكثر المعجزات في القرآن ذكراً معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم معجزات موسى التسعة ، منها عصا موسى التي ذُكرت في القرآن ست مرات بلفظ (عَصَاكَ) وثلاث بلفظ (عَصَاهُ) قال تعالى [فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ]( ).
وهل المراد من (الأحسن) في قوله تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] أحسن من ذات السيئة ، أم الأحسن بالذات والأثر ، الجواب هو الثاني ، فلا يكون الرد بأدنى الحسن ، إنما بالأفضل والأحسن من ذات الحسن .
والمراد من الأحسن في قوله تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] وجوه:
الأول :العفو .
الثاني : قانون التجاوز عن الإيذاء والإساءة والإفتراء .
الثالث : الصلة وتعاهدها .
الرابع : قانون الصبر الجميل المقرون باللطف .
الخامس : إقامة البرهان على دعوة الحق .
السادس : تلاوة آيات القرآن بقصد رد الإساءة بالأحسن أو مطلقاً من غير هذا القصد ، ولكن التلاوة تؤدي ذات النفع في إصلاح النفوس ومنع الفتن.
لتكون تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن خمس مرات في اليوم في الصلاة من مصاديق الدفع بالأحسن .
الآية السابعة والخمسون : قوله تعالى [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ]( ).
هذه الآية من سورة الشورى وهي مكية .
قال ابن سلامة( )وابن حزم( )، نسختها آية السيف ، ونسب ابن الجوزي هذا النسخ إلى القيل( )، واختار عدم نسخ الآية .
لقد ورد لفظ (حفيظ) ثماني مرات في القرآن اثنتين منها في صفات الله عز وجل ، قال تعالى [وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ]( ).
وواحدة في تزكية يوسف لنفسه إذ قال لملك مصر [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ]( ).
لبيان قانون تزكية النبي نفع عام للناس لمنع المجاعة ، وهلاك الناس بالقحط وامتناع السماء .
حرمة إتخاذ الكافرين أولياء
ذكرت الآية إتخاذ الكافرين أولياء من دون الله ، ولم تقل اتخذوا من دونه آلهة ، كما في قصة أهل الكهف [هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ]( )، والنسبة بين الآلهة والأولياء عموم وخصوص مطلق ، فاتخاذ الآلهة أشد كفراً وجحوداً.
لقد نزل القرآن بانذار العرب والناس جميعاً من اتباع أولياء من دون الله ، قال تعالى [اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ]( ).
وتضمن القرآن ذم الذين اتخذوا أولياء من دون الله ليقربوهم إلى الله زلفى كالأصنام ، وقالوا نحن نقر بأن الله خالق كل شئ ، ولا نعبد هؤلاء الأولياء ولكنها تقربنا إلى الله زلفى ، وهذا القول مغالطة باطلة بعث الله عز وجل النبي محمداً لتنزيه الأرض منها.
وهل تشمل الآية الذين يتقربون إلى الله عز وجل بالأنبياء والأئمة في دعائهم ، المختار لا.
فهو من باب التوسل بالله عز وجل ورجاء الشفاعة ، ولا يصدق على هذا التقرب بأنه من الولاية واتخاذ الأولياء من دون الله لإقرار كل مسلم ومسلمة بالتوحيد ، وأن الولاية لله عز وجل وحده.
لأن هذه الآيات قيدت الولاية المذمومة بأنها من دون الله ، أي من الطواغيت والأوثان ونحوها ، وقال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( )، بينما نزل القرآن بولاية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الصلاح والتقوى لتكون ولايتهم شعبة وفرعاً من ولاية الله عز وجل ولطفاً منه تعالى ، قال سبحانه [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ]( ).
وفي سبب نزول الآية أعلاه ورد (عن عمار بن ياسر قال : وقف بعلي سائل وهو راكع في صلاة تطوّع ، فنزع خاتمه فأعطاه السائل ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعلمه ذلك ، فنزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ]( ).
فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه ، ثم قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)( ).
والولاية لله عز وجل وحده ، وهو الذي جعل ولاية الرسول والمؤمنين لعامة المسلمين ، لطفاً واشتقاقاً من ولايته .
مما يدل على أن المراد بقوله تعالى [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ]( )، وقيد (من دونه) هو غير ولاية الرسول والأئمة والصحابة واتباع نهجهم والتوسل بهم مع الإقرار العام بأن الله عز وجل أقرب إلينا [مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( ).
لقد ورد الذم للذين لم يخلصوا عبادتهم لله عز وجل ، وجمعوا بينها وبين حب وعبادة الطواغيت والملائكة أو الصالحين أو الأصنام لبيان قانون وجوب التوحيد ، وقانون بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت مبادئ التوحيد في الأرض إلى يوم القيامة .
وتخبر آية البحث على أن الأولياء من دون الله لا يقربون الناس إلى الله عز وجل.
وفي آية البحث تخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم يوكل بالناس ، وأن أمرهم لا يرجع إليه ، إنما هو نذير لهم جميعاً ، واقترن الإنذار بالبشارة لهم بالنجاة والصلاح.
ومن إعجاز الآية ورودها بصيغة الماضي [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا] للبشارة بانقطاع الشرك برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بالتبليغ والبشارة والإنذار.
وهل يمكن القول بأنهم انقطعوا بالسيف وآية السيف ، الجواب لا ، فقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الصراع بين الإيمان والكفر ، بشآبيب الرحمة من وجوه :
الأول : المعجزة الحسية وتعددها على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : المعجزة العقلية المتتالية بنزول آيات القرآن تباعاً .
الثالث : بناء فطرة الإنسان على التوحيد والعبودية لله عز وجل ، وفي التنزيل [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
وهذه الآية ليست خطاباً مجرداً بل أنها تنفذ إلى شغاف القلوب ، وتجد استجابة فطرية لها ، وإدراك حاجة الإنسان للعبادة .
فنزل القرآن بالصلاة والصيام والزكاة والحج وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأسوة الحسنة والإمام في أداء العبادات وبيان أحكامها وكيفيتها وبعثه المسلمين على أدائها.
ولم يغادر الدنيا إلا وقد اتقنوا الفرائض العبادية وتعاهدها ووهنت مفاهيم الكفر ، إذ دخل الرؤساء وعامة الناس الإسلام.
فلم تصل النوبة إلى السيف ، وهو من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخبرت الآية بأن [اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ] فهو الذي يرقب أحوالهم ، وقد أمر الملائكة بكتابة أعمالهم ، والله سبحانه يمهلهم ثم يقفون بين يديه للحساب .
وأختتمت الآية بالخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ] هذه الخاتمة التي قيل أنها منسوخة بآية السيف ، ولا دليل على هذا النسخ.
وهل ينحصر الخطاب فيها بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الجواب لا ، إنما يشمل الخطاب العلماء والحكام وأجيال المسلمين إلى يوم القيامة ، وتقدير الآية : وما أنتم عليهم بوكلاء .
كما يمكن التقديم والتأخير في الآية وتقديرها : وما أنت على الذين اتخذوا من دون الله أولياء بوكيل الله حفيظ عليهم ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان منهاج النبوة القائم على الرحمة والرأفة .
الثانية : من حفظ الله عز وجل لأعمال الذين كفروا إحصاء أعمالهم ، ومنعهم من الطغيان في الأرض بعد رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويحجب عنهم النصر في المعارك فيلحقهم الخزي مع استعدادهم لها ، والتجهيز بالعدة وكثرة العدد والخيل والمؤن ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
لقد تكرر قوله تعالى [وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ] ثلاث مرات في القرآن ، وهل يدل هذا التعدد على السلامة من النسخ ، الجواب نعم ، خاصة وأن آية السيف لم ترد إلا مرة واحدة بخصوص من تبقى على الشرك من أهل مكة بعد تجلي المعجزات ، كما نزل قوله تعالى [نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ]( ) أي لست عليهم بمسلط تحملهم على دخول الإسلام جبراً وقهراً ، إنما أنت رسول تذكر الناس بوجوب الإيمان ، وأن الأرزاق وتقلب أحوال الناس وهدايتهم أمور بيد الله عز وجل .
و(عن جرير قال : أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل ترعد فرائصه ، فقال : هوّن عليك فإنما أنا ابن إمرأة من قريش كانت تأكل القديد في هذه البطحاء ثم تلا جرير { وما أنت عليهم بجبار})( ).
كما نزل قوله تعالى [فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ]( ) .
الآية الثامنة والخمسون : قوله تعالى [لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ]( ) وتمام الآية هو قوله تعالى [فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ]( ).
في هذه الآية وجهان :
الأول : الآية منسوخة ، وفيه شعبتان :
الأولى : نسخت بقوله تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ]( ). قاله ابن عباس ومجاهد و(قال أبو العالية والكلبي : هذا قبل أن يؤمروا بالقتال)( ) بخصوص قوله تعالى [وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ]( ) .
الثانية : نسخت الآية بآية السيف ، قاله الكرمي( )، وقال ابن الجوزي أنه قول الأكثرين( ).
الثاني : الآية غير منسوخة ، وهو المختار .
ومن الإعجاز في آية البحث ورود قول [لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ]( ) في آية أخرى من القرآن .
لماذا صيغة الجمع [لَنَا أَعْمَالُنَا] صدور هذا القول من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه ونيابة عن المسلمين عند سماعهم اللغو مع الإعراض عنه .
ومن إعجاز الآية تقييد اللغو بصدوره من الجاهلين وأعداء النبوة وتمام الآية هو [وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ]( ).
و(عن علي بن رفاعة قال : كان أبي من الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ، وكانوا عشرة ، فلما جاؤوا جعل الناس يستهزئون بهم ، ويضحكون منهم ، فأنزل الله [أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا]( ).
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد عن مجاهد [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ] إلى قوله [لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ]( ) قال : في مسلمة أهل الكتاب .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ]( ) قال : كنا نحدث أنها أنزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق يأخذون بها ، وينتهون إليها ، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وصبرهم على ذلك قال : وذكر لنا أن منهم سلمان ، وعبد الله بن سلام .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ]( ) قال : يعني من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب .
وأخرج ابن مردويه عن سلمان الفارسي قال : تداولتني الموالي حتى وقعت بيثرب ، فلما يكن في الأرض قوم أحب إلي من النصارى ، ولا دين أحب إلي من النصرانية ، لما رأيت من اجتهادهم.
فبينا أنا كذلك إذ قالوا : قد بعث في العرب نبي ، ثم قالوا : قدم المدينة فاتيته فجعلت أسأله عن النصارى قال : لا خير في النصارى ، ولا أحب النصارى قال : فاخبرته أن صاحبي قال : لو أدركته فأمرني أن أقع النار لوقعتها.
قال : وكنت قد استهترت بحب النصارى ، فحدثت نفسي بالهرب ، وقد جرد رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف ، فأتاني آتٍ.
فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فقلت : اذهب حتى أجيء وأنا أحدث نفسي بالهرب قال لي : لن افارقك حتى أذهب بك إليه ، فانطلقت به فلما رآني قال : يا سلمان قد أنزل الله عذرك الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ( ).
ومن المشركين من كان يؤذي حديثي العهد بالإسلام فأمرهم الله عز وجل بالإعراض عنهم.
ويتجلى هذا الأمر في ثنايا الجملة الخبرية التي نزلت بها الآية.
ولم يرد لفظ [لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا]( ) إلا في آية البحث ، أي ليس من جدال وإحتجاج بيننا لأن الحجة قد قامت ، والمعجزة بينة ، وبرهان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم جلي ، ويدرك بالعقل والحواس ، والآية من اللطف الإلهي .
وهو من عمومات [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) ومن مصاديق هذه الرحمة رحمة الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالتخفيف عنهم ، واقتران هذا التخفيف بتوالي المعجزات ، وهداية الناس لمسالك الإيمان .
ومن معاني [لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ]( ) أي لنا ديننا وهو الإسلام وأداء الفرائض العبادية ، وفيه الإستقامة ثم الأجر والثواب ، ولكم أعمالكم من ظلم النفس والجحود والإصرار على المعصية ، فلا جدال بيننا وبينكم .
لقد أراد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإنشغال بتبليغ الرسالة ، وتثبيت أحكام الشريعة .
ومن الإعجاز في آية البحث قانون عموم العدل النبوي ، فاتخاذ الإنسان الكفر منهاجاً ليس برزخاً دون الحكم بالعدل وحفظ حقه ، وهو من مصاديق الرحمة العامة للنبوة في الآية أعلاه من سورة الأنبياء.
وهذا العدل سبيل لدخول الناس الإسلام ، ومنع من الغرور والإستيلاء على حق الغير .
قانون كتائب النبي (ص) أمن عام
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يخرجون في الكتائب والسرايا حول المدينة .
ويمرون على القرى وأصحاب الإبل والأنعام ، وعدد منهم كفار ، فلا يؤذونهم ، إنما يصدح صوت الأذان في أفواه ومداخل القرى ، ويقيم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة جماعة.
ويسمع الناس ولأول مرة في التأريخ قراءة القرآن ، ويجيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أسئلتهم ، ويرون المعجزات ولم يؤخذوا من أموال الناس شيئاً مع كفرهم.
ولم تمر الأيام والشهور حتى دخل عامة أهل المدينة والأعراب حولها الإسلام طواعية من غير استعمال للسيف ، قال تعالى [مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زيادة عدد الذين يقولون [لَنَا أَعْمَالُنَا] في كل يوم وينقص عدد الذين يتلقون الخطاب بالذم [وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ] فالذي كان يتلقاه ينتقل إلى فئة الإيمان ، ويصبح ينادي [لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ]( ).
ومن الإعجاز في تقسيم القرآن إلى آيات وسور التداخل الموضوعي والحكمي بين مضامين الآيات القرآنية ، إذ تضمنت الآية مسائل :
الأولى : ابتداء الآية باسم الإشارة للبعيد (فلذلك) لبيان الصلة الموضوعية بينها وبين الآيتين السابقتين .
الثانية : موضوعية سنخشية العمل في الدنيا ، وفي عالم الحساب يوم القيامة .
الثالثة : توجه الخطاب والأمر المتعدد من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن وجوه :
الأول : الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فادع) وورد هذا الفعل مرتين في القرآن والخرى في قوم موسى عليه السلام [فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ]( )، لبيان تفضيل المسلمين في تلقي دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستجابة ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، فتبين آيات القرآن سنخية وكيفية هذه الدعوة ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الثاني : الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستقامة وفق ما أمره الله عز وجل.
وهل يختص هذا الأمر بالنبي محمد ، الجواب لا ، إنما يشمل أجيال المسلمين لقوله تعالى في آية أخرى [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
الثالث : تقييد ماهية الإستقامة بأن الله عز وجل قد أمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، ويتجلى هذا الأمر في آيات القرآن ، وعموم الوحي ، لذا قال النبي محمد (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)( ).
ومن إعجاز أحكام الشريعة الإسلامية وموضوعية آيات القرآن فيها ، تلاوة كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) لبيان قانون الإمتثال للأمر الإلهي بتوفيق وهداية منه تعالى.
وتطل هذه الآية كل يوم على المسلمين إلى يوم القيامة ، وتقديرها : فادعوا واستقيموا كما أمرتم بالقرآن والسنة .
وورد النهي بقوله تعالى [وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ]( )، ويعود الضمير في (أهواءهم) إلى الكفار والمنافقين والجهلة ، قال تعالى [وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ]( ).
عودة الآية لصيغة الأمر
لقد عادت الآية لصيغة الأمر فبعد النهي عن إتباع أهواء الذين كفروا ، ورد الأمر [وَقُلْ آمَنْتُ].
لبيان تقديم لغة الأمر في القرآن ولزوم العمل بأحكام الشريعة ، إذ ورد النهي بين ثلاثة أوامر ، فبعد الأمر بالدعوة إلى الله بالقول والفعل ، وبعد الإستقامة بالقول الفعل ، وعدم اتباع أهواء الظالمين وأهل الجهالة بالقول والفعل ، جاء الأمر بأن يقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويعلن للناس جميعاً أموراً :
الأول : تأكيد نزول الكتب من الله عز وجل على الأنبياء ، لبيان أن القرآن ليس أول كتاب سماوي نازل من عند الله عز وجل .
الثاني : الإيمان والتصديق بكل الكتب السماوية التي نزلت من عند الله سبحانه .
الثالث : بيان قانون انتفاء التعارض بين الكتب السماوية السابقة وبين القرآن .
الرابع : دعوة المسلمين والناس جميعاً لإكرام الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل والزبور .
الخامس : إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً بأن الله عز وجل أمر بأقامة العدل ، ومنع التعدي بينهم ، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
والمضامين المتقدمة لآية البحث سالمة من النسخ والتعديل ، ويدل تكرار الأمر [أُمِرْتَ][وَأُمِرْتُ] في الآية على أمور :
الأول : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأوامر من الله عز وجل .
الثاني : قانون الله وحده هو الذي يوجه الأوامر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : سلامة الأوامر التي تنزل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من التحريف لنزول الملائكة بها .
الرابع : قانون الأوامر التي تنزل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس جميعاً ، ولا تختص هذه الرحمة بالمعاصرين لأيام النبوة ، إنما تشمل الأجيال المتعاقبة من أهل الأرض.
الخامس : من مصاديق الرحمة العامة قانون التضاد بين الأوامر الإلهية وبين الإرهاب وقانون حرمة إخافة الناس على إختلاف مذاهبهم ومشاربهم.
وتقدير الآية (قل وأمرت إذ عدل بينكم) مع تحقق مصاديق هذا العدل في الواقع العملي لقانون الإمتثال الأمثل من النبي للأوامر الإلهية .
السادس : قل يا محمد للناس الله ربنا وربكم لبيان أن العدل طريق الإيمان وفيه اسقاط لحجة الذين كفروا ، ومنع للناس من إعانتهم في حربهم على النبوة والتنزيل .
ومن معاني الآية (الله ربنا وربكم) هو الذي أمرني بالأوامر الواردة في آية البحث .
ثم تضمنت آية البحث الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد بأن يقول لهم [لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ]( )، وقيل أنه منسوخ وهو بعيد.
فقد جاء بعد أربعة أوامر ونهي ، ثم تعقبه أوامر أخرى من الله عز وجل بأن يقولها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً .
والمختار انتفاء النسخ في مضامين الآية مجتمعة ومتفرقة .
الأمر إلى النبي بالدعوة بقوله تعالى [فَادْعُ] وفيه دعوة إلى آيات القرآن الأخرى لبيان المراد من هذه الدعوة وأنها دعوة بالبرهان والمعجزة المتعددة.
ومنها آيات القرآن وتوالي نزولها بمعنى نزول القرآن نجوماً وعلى نحو التدريج ، ومنها حسب الوقائع والأحداث وما يسمى بأسباب النزول هو وحده معجزة أخرى مستقلة ، وقد دلت سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الغنى عن السيف ، وعدم الحاجة له ، إنما أدرك المشركون أن الإسلام دخل بيوتهم وأتسع في الأمصار من أبواب المدينة المنورة والهجرة إلى الحبشة فلجأوا إلى السيف وهو مرتبة شديدة من مراتب الظلم الذي يتصفون به .
وجاءت آية البحث بلفظ الفاء [فَادْعُ]لبيان الفورية في الدعوة إلى الله وعدم إرجائها ، وهل تلاوة آية البحث دعوة إلى الله عز وجل ، الجواب نعم.
وهل تختص الدعوة بهذه التلاوة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الجواب لا ، فكل تلاوة من مسلم أو مسلمة لهذه الآية هي دعوة إلى الله عز وجل ، لذا جاءت الآيات بصيغة الجمع فان قلت ليس في القرآن (أدعوا إلى) بصيغة الجمع ، والجواب تلحق أجيال الأمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الله عز وجل .
الآية التاسعة والخمسون : قوله تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ]( ).
وهذه الآية من سورة الأحقاف وهي مكية وذكر أن الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر الوارد في أول الآية نسخ بآية السيف ، قاله ابن سلامة( )، والكرمي( )، والمقري( ).
ولا دليل على النسخ خاصة مع التمثيل بسنة أولي العزم من الرسل وفيه إشارة إلى أنهم غادروا الدنيا وهم يقيمون على الصبر .
أولو العزم من الرسل
وفي تعيينهم وأسمائهم وجوه :
الأول : أولو العزم من الرسل نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو الوارد عن الإمام الباقر عليه السلام( )، وعن ابن عباس.
وعن الإمام الصادق عليه السلام (سمّوا أولي لعزم لأنهم بعثوا إلى شرق الأرض ، وغربها ، جنها ، وإنسها).
الثاني : ما أخرجه ابن عساكر وغيره ([فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ]( )، قال : نوح وهود وإبراهيم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا وكانوا ثلاثة ورسول الله صلى الله عليه وسلم رابعهم قال نوح [يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ]( )، إلى آخرها فظهر لهم المفارقة وقال هود حين قالوا [إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ]( ) فأظهر لهم المفارقة قال لإِبراهيم [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ]( )، فأظهر لهم المفارقة وقال يا محمد [قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ]( )، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكعبة فقرأها على المشركين فأظهر لهم المفارقة)( ).
وصفة أولي العزم أعم من أن تختص بالصبر لقانون الملازمة بين النبوة والصبر ، نعم من الأنبياء من لم يبعث في معشر مشركين أو بعث فيهم ولكنهم لم يحاربوه ، والصبر شطر النبوة ، لقانون الأنبياء نالوا أعلى مراتب الصبر وكثير من الأنبياء فارقوا قومهم لإعراضهم عن آيات النبوة وجحودهم مثل الرسول صالح ، ولوط.
الثالث : (عن ابن عباس [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ]( ) قال : هم الذين أمروا بالقتال حتى مضوا على ذلك نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان)( ).
الرابع : (عن جابر بن عبد الله قال : بلغني أن أولي العزم من الرسل كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر)( )، وظاهر قوله (بلغني) أنه لم يسمع الحديث من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا دليل على نسبة الحديث إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولو بالواسطة .
و(وقال وهب بن منّبه اليماني : إن يونس بن متى كان عبداً صالحاً ، وكان في خلقه ضيق ، فلما حملت عليه أثقال النبوّة ولها أثقال لا يحملها إلا قليل . تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل ، فقذفها من يده ، وخرج هارباً منها . يقول الله لنبيه (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تكن كصاحب الحوت)( ).
ووهب بن منبه يكثر من الإسرائيليات ، ولا دليل على قذف يونس أثقال النبوة من يده ، كما أن الخروج من أولي العزم ليس عن تصور من النبي ، إنما هي منزلة رفيعة خاصة من بين الرسل .
ولكنه جمع سهواً بين آيتين من سورتين ، فلم يرد لفظ صاحب الحوت إلا في قوله تعالى [فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ]( ).
لقد تكرر الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (اصبر) منها [اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ]( )، [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ]( )، [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ]( )، [وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ]( )، [فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا]( )، [وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا]( )، [وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ]( )، [فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا]( )، [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ]( )، [وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وورد لفظ (اصبر) تسع عشرة مرة ، كلها خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء واحدة في تعليم وتأديب من لقمان لابنه بقوله تعالى [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
لبيان قانون الصبر سلاح المؤمن وتركة الأنبياء وصفة الصالحين .
ومن معاني التعدد في الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر عصمة الصبر النبوي عن النسخ ، إلى جانب دلالة السنة القولية والفعلية على تعاهد الصبر ، والحضّ عليه .
(وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه واله أنه قال: ثلاث من رزقهن فقد رزق خير الدارين: الرضا بالقضاء، والصبر على البلاء، والدعاء في الرخاء.
وعن ابن عباس قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه واله فقال: يا غلام أو يا غليم ألا اعلمك كلمات ينفعك الله بهن ؟ فقلت: بلى، فقال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله فإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن في الصبر على ما نكره خيرا كثيرا، وإن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا. وعنه عليه السلام إذا ادخل الرجل القبر قامت الصلاة عن يمينه والزكاة عن شماله والبر يظلل عليه، والصبر ناحية يقول: دونكم صاحبي فاني من ورائه، يعني إن استطعتم أن تدفعوا عنه العذاب، وإلا فأنا أكفيكم ذلك ، وأدفع عنه العذاب.
وعنه صلى الله عليه واله: عجبا لامر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لاحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له.
وعنه صلى الله عليه واله: الصبر خير مركب: ما رزق الله عبدا خيرا له ولا أوسع من الصبر. وسئل صلى الله عليه واله هل من رجل يدخل الجنة بغير حساب ؟ قال: نعم كل رحيم صبور)( ).
ولو دار الأمر بين هل انتصر الإسلام بالصبر ، أم انتصر بالسيف ، المختار هو الأول من وجوه :
الأول : قانون مصاحبة الصبر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل يوم من سني البعثة النبوية والتي بلغت ثلاثاً وعشرين سنة .
الثاني : تحلي المسلمين الأوائل بأبهى معاني الصبر ، ولقد تحملوا الأذى الشديد من المشركين .
وهل هجرة طائفة من الصحابة إلى الحبشة في السنة الخامسة للبعثة النبوية من الصبر ، الجواب نعم ، وهو من اشد ضروب الصبر على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين وأهليهم.
وهل الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة من الجهاد ، الجواب نعم .
فهي صبر وجهاد بالأنفس والأموال وهذا المعنى لا يتعارض مع ورود واو العطف بين الهجرة والجهاد ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
قال تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( )، أي من ضيق ولتعدد مصاديق الجهاد وشدة ومقدمات الأذى ، منه جهاد النفس .
و(عن ابن عباس [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( )، قال : هذا في هلال رمضان؛ إذا شك فيه الناس ، وفي الحج ، إذا شكوا في الهلال ، وفي الأضحى وفي الفطر وفي أشباهه)( ).
وموضوع الآية أعم ، وهو مسألة سيالة من باب الطهارة إلى باب المواريث ويشمل أحكام الفتوى والضرورة وعدم العلم بالحكم ، وفي الآية تخفيف عن المسلمين مجتمعين ومتفرقين ، ومن مصاديق قوله تعالى [بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ).
نعم ورد عن ابن عباس قول آخر (كان يقول : في قوله [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( )، توسعة الإسلام؛ ما جعل الله من التوبة ومن الكفارات)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنه سئل (عن المحرم يريد إسباغ الوضوء فتسقط من لحيته الشعرة أو الشعرتان ، فقال : ليس بشيء مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ( ).
وسئل (عن الجنب يغتسل فينتضح من الأرض في الإناء؟ فقال: لا بأس، هذا مما قال الله تعالى مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ( ).
و(عن فضالة بن عبيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله)( ).
ولتنقطع الهجرة بفتح مكة وتبقى الهجرة الدائمة إلى مقامات الإيمان وتعاهدها .
قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عَنْه)( ).
الآية الستون : قال تعالى [فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ*لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ *إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ]( ) .
وفي [لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ] خطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لست بمسلط عليهم تقهرهم على الإيمان ومن تولى فلله الولاية والقهر ، وقال الثعلبي (فانّك تقاتله حتّى يسلم)( )، ولا دليل على هذا القول .
وقال ابن عطية (هي آية موادعة منسوخة بالسيف)( ).
وقال السورة مكية والقتال إنما نزل بالمدينة ، وفي الرد عليه مسائل:
الأولى : صحيح أن آيات القتال نزلت في المدينة لكنه لا يعني نسخ كل من آيات الموادعة .
الثانية : لقد قيدت آيات القرآن القتال كما في قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
وتتجلى القيود في الآية من جهات :
الأولى : توجه النداء إلى الذين آمنوا فلابد من الإيمان في تعيين القتال وأوانه وكيفيته ، والجهة التي يقاتلون ، ومن معانيه وجوه :
الأول : حرمة الإقتتال بين المسلمين أنفسهم .
الثاني : تعاون المسلمين في القتال ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً]( ).
الثالث : موضوعية الإيمان في دخول المعركة .
الرابع : صيغة الدفاع في قتال المسلمين .
الثانية : الأمر للمسلمين بالقتال [وَقَاتِلُوا] من غير تراخ أو وهن أو ضعف ، قال تعالى [وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ) .
الثالثة : قتال المسلمين للدفاع عن بيضة الإسلام .
ومن رحمة الله نزول آيات القتال في المدينة بعد أن زيادة وكثرة عدد المسلمين ، وزيادة قوتهم وعدتهم ، ومنها ما غنمه المسلمون من المشركين في معركة بدر ، ولم تكن هذه الغنائم علة أو جزء علة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر ، إنما كان مشركو قريش هم الذين أصروا على القتال وابتدأوا بالدعوى للمبارزة يومئذ ، كما تقدم بيانه .
الرابعة : كون قتال المسلمين خالصاً لوجه الله ، لقوله تعالى [قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ..]( ) فاذا لم يتحقق هذا الشرط فلا قتال.
ولو دار الأمر بين القتال والصلح فالمختار يقدم الصلح ، والظاهر من سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقديمه إجتناب القتال كما في معركة بدر ورصده لعسكر المشركين رجاء امتناعهم عن القتال ، ولكن أبا جهل وأمية بن خلف أصرا على القتال .
(وقال صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل أحمر: إن يك في أحد من القوم خير فعند صاحب هذا الجمل الاحمر، إن يطيعوه يرشدوا .
يا علي ناد حمزة – وكان أقربهم من المشركين – من صاحب الجمل الاحمر ، فقال: هو عتبة وهو ينهى عن القتال، ويأمر بالرجوع ويقول: يا قوم اعصبوها اليوم برأسي وقولوا: جبن عتبة، وأبو جهل يأبى)( ).
وميل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصلح يوم الحديبية ، إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إلَى خُطّةٍ يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَةَ الرّحَمِ إلّا أَعْطَيْتُهُمْ إيّاهَا)( ).
وهل يحضر قيد [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] في غير القتال كالإحتجاج والتبليغ والصبر ونحوه ، الجواب نعم ، للأولوية القطعية ، ليكون [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] سور الموجبة الكلية الشامل لأعمال المسلمين في جماعتهم ، وصلاتهم مع غيرهم ، ليكون قيد [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ليكون من معانيه رأفة ورحمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالناس جميعاً .
ومن معانيه تفقه المسلمين في الدين ، والفصل والتمييز بين الغايات والمقاصد الحسنى ، فيعملون بها ، وبين الغايات الخبيثة فيمتنعون عنها .
وقد ورد قوله تعالى [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] خمساً وأربعين مرة منها قوله تعالى [وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]، والذي يتعلق بالإنفاق والحض عليه.
وهو عنوان عام في بذل المال في سبيل الله ، وإخراج الزكاة ، والحقوق الشرعية ودفعها لمستحقيها .
وتكرر [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] مرتين في آية تخص بني اسرائيل بقوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ]( ).
لقانون اتحاد سنخية عمل المؤمنين قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعدها .
ولبيان تعدد مصاديق [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] لقانون الملازمة بين الإيمان والإنفاق .
الآية الواحدة والستون : قال تعالى [فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ]( ).
هذه الآية من آيات القتال ، والمراد من المنّ إطلاق الأسير بلا عوض ، ويتعلق النسخ بقوله تعالى [فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً]( )إذ قال بنسخه بآية السيف ابن سلامة( ).
و(فِي قَوْلِهِ [فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً]( ) قَالَ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَهَا قَوْلُهُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ( ).
و(عن ابن عباس [فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً]( ) قال : الفداء منسوخ نسختها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)( ).
وذكر أول آية السيف شاهد على أن تسميتها بآية السيف متأخرة زماناً عن أيام الصحابة .
و(عن مجاهد قال نسخت هذه الآية [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( ) قوله عز و جل [فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً]( ) فإما السيف والقتل وإما الإسلام)( ).
ولكن هناك تباين موضوعي بين هذه الآية التي تتعلق بالأسرى ، وبين آية السيف التي تتعلق بميدان القتال ، وحيث يوجد المشركون في مكة وما حولها .
والمختار أن الآية محكمة غير منسوخة ، وهي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )،وتقدير هذه الآية في المقام على جهات :
الأولى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين في ميادين القتال.
الثانية : وما أرسلناك إلا بالمن بعد أو الفداء في الأسرى.
الثالثة : وما أرسلناك إلا لحقن الدماء .
وعندما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لأن من الناس من [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] ( ) ليرى الملائكة كل يوم آلاف الشواهد العبادية التي هي من علم الله بخصوص خلافة الإنسان في الأرض وإلى يوم القيامة بما يدل على حكمة الله وبديع صنعه بأمرين :
الأول : عمارة الأرض بالناس .
الثاني : صيرورة الإنسان في الأرض خليفة .
ولم ينل الملائكة هذه الرتبة في السماء ، لبيان إكرام الله عز وجل للإنسان والتي تجلى من البداية بأمور :
الأول : خلق الله عز وجل آدم وحواء في الجنة .
الثاني : نفخ الله من روحه في آدم ، وفي التنزيل [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
الثالث : تعليم آدم عليه السلام الملائكة الأسماء بتعليم وإحسان ولطف من الله عز وجل ، قال تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
لتأهيل آدم وهو في الجنة للخلافة في الأرض ، وهو لا يزال ضيفاً في السماء ، ولتقدم هذه الخلافة على العلم والمعجزة ، لذا كانت أول آية نزلت من القرآن [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]( )، وهو من الإتقان في صنع الله عز وجل ، قال تعالى [صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ]( ).
ليكون تقدير آية الخليفة في المقام على وجوه :
الأول : [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] يمتنع عن سفك الدماء إلا بالحق .
الثاني :[ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] يحاربه الذين كفروا.
الثالث : [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] خاتم النبيين محمداً.
الرابع : [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] يدافع عن بيضة الإسلام.
الخامس : [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] ليقيم الناس الصلاة خمس مرات في اليوم ، ويصوموا شهر رمضان ، ويحجوا البيت الحرام .
النسبة بين أذان إبراهيم والنبي محمد (ص) لحج البيت
لقد أمر الله عز وجل إبراهيم ومعه ابنه إسماعيل ببناء البيت الحرام برفع قواعده وكل منهما نبي رسول ، ثم أمر الله إبراهيم عليه السلام بالنداء العام في الناس لحج البيت الحرام ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
والنسبة بين أذان إبراهيم والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للحج على وجوه :
الأول : أذان ونداء إبراهيم لمن حول البيت من قبيلة جرهم ونحوهم ، وأذان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحج للناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، وتقدير الآية : وما أرسلناك باذان الحج إلا كافة للناس .
الثاني : أذن إبراهيم للحج ومعه إسماعيل بدليل الإستصحاب إذ اشترك معه في رفع القواعد من البيت ليشترك معه بالأذان للحج ، ويتعاهد من بعده هذا الأذان والعناية بضيوف الرحمن، بدليل توجه الخطاب والتكليف لهما معاً في تطهير البيت الحرام ، قال تعالى [وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( )، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد أذن معه الصحابة وثم التابعين .
الثالث : بعد أذان إبراهيم للحج بين الناس دبّت عبادة الأوثان إلى الناس ، ونصبوا الأصنام في البيت ، ولما فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة وجد فيها ثلاثمائة وستين صنماً فكسّرها [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ).
الرابع : لقد بنى آدم عليه السلام البيت الحرام باعانة من جبرئيل الذي نقل له القواعد ثم حجر البيت من جبل أبي قبيس لذا أخبرت الآية عن وجود قواعد البيت ، وأن إبراهيم وإسماعيل رفعا هذه القواعد لبيان قانون وهو ملازمة وجود البيت للإنسان في الأرض ، إذ نسبه الله عز وجل لنفسه بقوله تعالى [وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
وأول من حج البيت في بنائه هو آدم وحواء بعد أن كانت الملائكة تحجه .
وهل يختص بناء البيت بآدم وإبراهيم أم هناك أنبياء آخرون قاموا ببناء البيت بينهما أو بعد إبراهيم عليه السلام قبل أن تصل النوبة إلى ولاية قريش للبيت وعمارتهم له ، المختار وجود انبياء تعاهدوا عمارة البيت الحرام .
الخامس : انقطاع نصب الأصنام في البيت الحرام من حين بعثة النبي محمد وإلى يوم القيامة ، وهو من أسباب تفضيله على الأنبياء.
السادس : نزول القرآن بوجوب حج المسلمين والمسلمات للبيت الحرام مع الإستطاعة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( )، وحجب المشركون عن أنفسهم حج البيت لإختيارهم الكفر الذي هو مانع من دخول البيت ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]( ).
وقد تقدم أن الآية أعلاه ذكرت وجوب الحج على الناس ، ليشمل الوجوب آدم وحواء لأنهما من الناس ، وذكر الإستطاعة في الآية بشارة الرزق الكريم للمسلمين وتهيئة مقدمات الحج لهم ، وإزاحة الموانع وأسباب الصد عنه .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النسبة التصاعدية للحج بين كل سنة والتي تتعقبها .
وقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراً خائفاً ومعه أحد أصحابه ، ليدخلها بعد ثماني سنوات في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة ، ومعه عشرة آلاف من أصحابه ، وفيه معجزة له .
وبعد الفتح بسنتين يتوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحجة الوداع ومعه نحو مائة ألف من أصحابه وفيه آية ومعجزة لم يشهد لها التأريخ مثيلاً .
وكان فتح مكة سلماً وليس عنوة ولا صلحاً ، وكذا بالنسبة لمقدماته.
وهل كان من المسلمين يوم فتح مكة أو حجة الوداع ممن دفعوا فداء عن أسرهم يوم بدر أو منّ عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قاموا بتعليم كل واحد منهم عشرة من صبيان المدينة القراءة أو عتقهم من غير فداء إنما بمنّ وإحسان من عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم.
لقد كان عدد أسرى المشركين يوم بدر سبعين ، وكثرة هذا العدد معجزة للنبي بلحاظ عدد جيش المشركين أكثر من ثلاثة أضعاف عدد المسلمين في المعركة إلى جانب أن عدتهم أضعاف هذا العدد .
وكانت عند المسلمين يومئذ فرس واحدة ، وقيل فرسين ، أما المشركون فقد جلبوا معهم مائة فرس فأخزاهم الله بالهزيمة وقتلاً وأسراً.
لبيان أن قانون السلم في الإسلام محكم غير منسوخ ، فليس آيات السلم وحدها محكمة ، إنما كان منهاج ومبادئ الإسلام هي سلام محض ، ودعوة إلى السلام والأمن ، ومنه إعادة أسرى المشركين سالمين إلى مكة ، فان قلت يدل أول آية البحث على القتال ببأس شديد بقوله تعالى [فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ]( ).
فالجواب إرادة الدفاع عن النبوة ببسالة ليكون بعده النصر من عند الله ثم شد وثاق أسراهم ، فهذه الآية بشارة ودعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالرأفة بالمشركين بعد القتال ، وعدم إشاعة القتل .
وهو من الشواهد على قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، بحضور الرحمة حتى في ميدان المعركة .
والنسبة بين الرحمة وبين المن والفداء عموم وخصوص مطلق ، فالرحمة أعم.
ومن الإعجاز حضورها حتى مع الأعداء المشركين الذين اعتدوا وأصروا على القتال ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعندما أزدادت قوة المسلمين وكثر عددهم ، وضعف جانب المشركين ، هل سقط المن أو الفداء ، الجواب لا .
بل هو حكم باق إلى أن تكون هدنة أو صلح ، ولم تقل الآية حتى يقضى على المشركين ، لبيان السعة والإمهال في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
لبيان توالي الآيات والمعجزات التي يكون أثرها في هداية الناس أقوى من السيف ومن منافعها منع المشركين من العودة للقتال والحرب ، لذا فان قوله تعالى [حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا]( )، بشارة ودعوة للصبر مع الإحتراز ، قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( ).
لبيان أن الآية أعلاه من آيات السلم لما فيها من إخافة ومنع العدو من الهجوم والتعدي .
لقد بدأت مع بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيام الإيمان والتقوى ليترشح عنها الأمن والسلم العام للمسلمين والناس جميعاً.
نسخ سورة المائدة وما فيها من العفو والصفح لآية السيف
لقد ورد فعل الأمر (اعف) مرتين في القرآن وهما :
الأولى : نزلت الآية بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للعفو بقوله تعالى فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
فأمر الله عز وجل رسوله الكريم أن يعفو عن الصحابة من المهاجرين والأنصار ويستغفر لهم ويستمر في مشاورتهم ، من غير سخط عليهم .
الثانية : في ذم الذين ينقضون الميثاق ويحرفون الكلم من غير المسلمين ، فأمر الله عز وجل النبي محمداً أن يعفو عنهم إذ قال تعالى [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
ومن الإعجاز في التفسير بالنظائر تضمن الآية السابقة التي تتعلق بالمسلمين الأمر من الله عز وجل أن يستغفر لهم ، أما الآية أعلاه التي تخص غيرهم فلم تتضمن الأمر بالإستغفار لهم ، إنما أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمرين :
الأول : العفو عنهم .
الثاني : الصفح عنهم .
وكل فرد منهما من الإحسان الذي يحبه الله ويحب من يفعله لقوله تعالى في خاتمة الآية أعلاه [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
لبيان قانون استغفار النبي للمسلمين نعمة عظمى ، وقانون تجدد استغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأجيال المسلمين في كل زمان .
وهل يدل قوله تعالى في الآية أعلاه [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، على عدم نسخ آية السيف لآيات العفو والصفح والإحسان الذي هو سور الموجبة الكلية في الرحمة والتجاوز عن التعدي والظلم ، الجواب نعم .
خاصة وأن الآية أعلاه من سورة المائدة وهي من أواخر سور القرآن نزولاً من القرآن ، وكأنها ناسخة لآية السيف باستدامة العفو والصفح العام ، والمشهور أن سورة التوبة التي تتضمن آية السيف هي آخر سور القرآن نزولاً من السماء ، ولا تدل آية السيف على نسخ مضامين آية العفو لإخبارها بأن هذا العفو والصفح والإحسان بأمر من الله عز وجل وأنه سبحانه يحب المحسنين .
لبيان قانون أن النبي محمداً هو إمام المحسنين ، ولم يفارق منازل الإحسان طرفة عين لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( )، ولما في السنة النبوية من وثائق الإحسان النبوية.
قانون الصبر طريق السلم
من معاني قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، صيرورة هذا النصر عبرة وموعظة ، فما دام نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر من مدد الله ، فان نصر الله يحضر في المعارك اللاحقة للإستصحاب ، ولأن الله إذا أنعم بنعمة فانه أكرم من أن يرفعها ، ولحبه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وبغضه للكافرين ، قال تعالى [أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
ويدل هذا المعنى لآية [بِبَدْرٍ] على كثرة الآيات التي تفيد مضامنيها معاني قوله تعالى [قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( )، وهو من أسرار وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن على نحو الوجوب العيني سبع عشرة مرة في اليوم بعدد ركعات الصلاة اليومية ، لينتفع منها القارئ والسامع ، فيزداد المسلم إيماناً ، وينفذ الخوف والفزع إلى قلوب الذين كفروا .
لذا يمكن احتساب آية [بِبَدْرٍ] من آيات السلم المحكمة مع أنها تتعلق بموضوع القتال والحرب ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
فقد فرض الله عز وجل القتال على المسلمين مع كراهيتهم له ، ولكن الله ضمن لهم النصر في ميدان المعركة وبعدها .
ومن معاني الآية دعوة المسلمين للصبر عند فرض القتال ، وهل هذا الصبر سلاح ، الجواب نعم لوجوه :
الأول : قانون الصبر في القتال سلاح .
الثاني : قانون إنفراد المؤمنين بالصبر عند اللقاء ، قال تعالى [وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
ومما تمتاز به هذه الآية إنفرادها بقوله تعالى [يَأْلَمُونَ] وورود [تَأْلَمُونَ] مرتين فيها .
الثالث : قانون ترتب الأجر والثواب على الصبر ، قال تعالى [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( )ولم يرد لفظ [يُوَفَّى] في القرآن إلا في هذه الآية .
قانون الصبر في حال السلم سلام
هناك مسألتان :
الأولى : أيهما أكثر الصبر في حال السلم أم القتال .
الثانية : أيهما أكثر أجراً الصبر في حال السلم أم القتال .
أما المسألة الأولى فالصبر في حال السلم هو الأكثر من وجوه :
الأول : قانون أيام السلم أضعاف أيام القتال .
الثاني : قانون حاجة الإنسان للصبر في اليوم والليلة ، وفي المسائل الإبتلائية .
الثالث : قانون أداء الفرائض العبادية صبر .
الرابع : الصبر على أذى الذين كقروا والمنافقين مما هو أدنى من القتال ، قال تعالى [وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا]( ) وهل ذات الهجر يستلزم الصبر ، الجواب نعم خاصة وأن من الذين كفروا من هو قريب أو جار ونحوه .
الخامس : قانون أداء الفرائض العبادية من أبهى مصاديق الصبر ، ومن أسماء شهر رمضان شهر الصبر لما ورد (عن سلمان الفارسي قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر يوم من شعبان.
فقال : يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم شهر مبارك ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوّعاً.
من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه.
وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة.
وشهر المواساة وشهر يزاد في رزق المؤمن ، من فطر فيه صائماً كان له مغفرة لذنوبه ، وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء .
قلنا : يا رسول الله كلنا نجد ما يفطر الصائم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على مذقة لبن ، أو تمرة ، أو شربة من ماء.
ومن أشبع صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة ، وهو شهر أوّله وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار ، من خفف عن مملوكه فيه غفر له وأعتقه من النار.
فاستكْثروا فيهِ مِنْ أَرْبعَ خِصَالٍ : خَصْلَتَان تُرْضُونَ بِهمَا رَبَّكُمْ ، وَخَصْلَتَانِ لاَ غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا .
فَأمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَان تُرْضُونَ بِهِما رَبَّكُمْ فَشَهَادَةُ أنْ لاَ إلهَ إلا اللهُ وَتسْتَغْفِرونَهُ ، وَأمَّا اللَّتَانِ لاَ غِنَى بِكُمْ عَنْهُما فَتَسْأَلُونَ الْجنَّةَ وتَعُوذونَ بِهِ مِنَ النَّار)( ).
السادس : قانون الصبر تثبيت لحال السلم ، ومانع من الخصومة والشقاق.
السابع : قانون درء الفتنة بالصبر .
الثامن : قانون الحاجة إلى الصبر في التبليغ والجدال ،والإحتجاج ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد تقدم أن قوله تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا]( )، غير منسوخ ( ).
أما المسألة الثانية ففيها وجوه :
الأول : قانون الصبر في حال القتال أكثر أجراً منه في حال السلم.
الثاني : هل الإنفاق في سبيل الله من الصبر ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ) لبيان أن الشح والإمتناع عن الزكاة والخمس والإنفاق في سبيل الله يؤدي إلى الضرر العام بالأمة والنظام السياسي والإجتماعي فيها.
الثالث : قانون لمعان السيوف أشد وطأة على النفوس من حال السلم .
نعم القول الشائع : الثواب على قدر المشقة ليس مطلقاً ولا مطرداً ، وقد يأتي الثواب الأكثر من العمل الصالح الأخف مثلاً : الصلاة جماعة أفضل خمساً وعشرين مرة من صلاة المنفرد ، وتخفيف ركعتي صلاة الصبح أفضل من إطالتهما ، وقصر الصلاة في السفر ثوابها تام ، وأفضل من الإتمام حينئذ.
وعن عائشة (أن النبي قال لها في حجتها أجرك على قدر نفقتك لم يرو هذا الحديث عن سفيان الثوري إلا مهران)( ).
ومتعلق الحديث هو النفقة والترغيب ببذل المال الكثير وليس المشقة والعناء .
الرابع : في الصبر بالمرابطة والتمرين ومقدمات القتال والدفاع أجر عظيم أكثر في حال السلم .
ولو أجرينا دراسة مقارنة في حياة السلم أو المسلمين جميعاً أيهما أكثر :
الأول : الثواب في حال السلم .
الثاني : الثواب في حال القتال ، على فرض أن الثواب في حال القتال أكثر من الصبر في حال السلم والدعة .
المختار هو الأول لوجوه :
الأول : آيات وأيام السلم أضعاف أيام القتال .
الثاني : توجه الخطاب لكل مسلم ومسلمة بالإستعانة بالصبر والصلاة ، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ) وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حزنه أمر استعان بالصلاة والصبر ( ).
والمختار أن النسبة بين الصبر والصوم عموم وخصوص مطلق ، إذ أن الصبر أعم ، ويلزم المسلم الصبر في طاعة الله ، والصبر في أداء الأمانة ، والصبر عن الحرام ، والإمتناع عن الغيبة والنميمة.
الثالث : تعدد وكثرة الإبتلاء في الحياة الدنيا ، ومجئ الإبتلاء للمسلمين بصفة الإيمان للأجر والثواب ، قال تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ]( ) ليكون من معاني الصبر في المقام دفع أسباب ومقدمات القتال ، لتترى المعجزات الحسية والعقلية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهداية الناس للإيمان ، وليبتلى الناس بما يشغلهم بأنفسهم ، لتكون الآية أعلاه من الشواهد السماوية على قانون الصبر طريق السلم والأمن .
أيهما أكثر في ألفاظ آيات القتال
آيات القتال على شعبتين :
الأولى : الآيات التي ذكرت مادة (قتل ) ومشتقاتها مثل [وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
الثانية : الآيات التي تدل على القتال والدفاع وإن لم يرد فيها لفظ القتال .
الأمر يلزم إحصاء الآيات التي تخص القتال والدفاع بتتبع آيات القرآن من سورة الفاتحة إلى سورة الناس .
والمختار أن الشعبة الثانية هي الأكثر في عدد الآيات والموضوع ، وقد ترد آيات متتالية تتعلق بالقتال من غير أن ترد فيها مادة (قتل) ونحوها مثل قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ*إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ]( ).
ومثل آيات مقدمات القتال وآيات النصر .
ومن دلائل هذه الكثرة غلبة أيام السلم في حياة المسلمين ، ودفع الله عز وجل مقدمات القتال عنهم وعن الناس جميعاً .
وفي هذا الإحصاء مسائل :
الأولى : حصر آيات القتال .
الثانية : التدبر في آيات القتال .
الثالثة : بيان وجوه الإعجاز في آيات القتال .
الرابعة : قانون سلامة آيات السلم والصلح من النسخ .
الخامسة : التخفيف عن العلماء والمحققين في إحصاء وبيان آيات القتال ، وإن وردت بالفاظ أخرى .
السادسة : إقتباس الدروس والمواعظ من آيات القتال .
السابعة : الشروع بإحصاء فرعي آخر عنوانه : آيات القتال ومقدماته التي تدل على السلم ونبذ القتال ، ومنها قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
النسبة بين آيات وأحكام القرآن
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومن أهم الأشياء في حياة الناس العامة الأحكام والقواعد والسنن ففيها ضبط للعبادات والمعاملات والصلات الإجتماعية.
وتتصف أحكام القرآن بالعدالة على نحو إعجازي ليكون فيها دعوة للناس للإيمان ، ووجوب صدورهم عنها ، وهي برزخ دون الشقاق والخلاف .
وقيل أن آيات الأحكام خمسمائة آية ، والمختار أنها أكثر ، كما أن الآية الواحدة من آيات الأحكام قد تتضمن أوامر متعددة كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
فهذه الآية لم تحسب من آيات الأحكام بينما هي تتضمن الوجوب من جهات :
الأولى : الركوع .
الثانية : السجود .
الثالثة : وجوب عبادة الله .
الرابعة : فعل الخير.
لبيان قانون شمول آيات الأحكام للعبادات .
ولم يرد لفظ (افعل) في القرآن إلا مرة واحدة عندما أخبر إبراهيم ابنه إسماعيل بأنه رآى في المنام بأنه يذبحه ، قال تعالى [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ]( ).
ولم يرد لفظ (افعلوا) في القرآن إلا مرتين ، إحداهما في الآية أعلاه ، من سورة الحج .
والأخرى في أمر موسى عليه السلام لقومه بالتعجيل بذبح البقرة كما ورد في التنزيل [قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ]( ).
تعدد النواهي في آية واحدة
لقد ورد لفظ (حرمت) ثلاث مرات في القرآن منها مرتان حرمت عليكم وهما :
الأولى : قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
وفي الآية نشر لحرمة النكاح من وجوه :
الأول : حرمة نكاح الأمهات ، وجاءت الآية بصيغة الجمع لتشمل الأم الصلبية وأمها وإن صعدت.
الثاني : حرمة نكاح الأخوات ، وودت الآية بصيغة الجمع لجهات :
الأولى : تعدد الأخوات للفرد الواحد .
الثانية : الأخوات من الأب .
الثالثة : الأخوات من الأم .
الثالث : حرمة نكاح المسلم لاحدى أخواته سواء من الأب والأم ، أو من الأب أو من الأم وحدها .
الرابع : حرمة نكاح العمات أخوات الأب .
الخامس : حرمة نكاح الخالات أخوات الأم .
السادس : حرمة نكاح بنات الأخ ، سواء كان الأخ من الأب أو من الأم ، أو من الأبوين .
السابع : حرمة نكاح المسلم لأمه من الرضاعة بعد نشر الحرمة بشروط الرضاعة .
الثامن : حركة نكاح المسلم لأخواته من الرضاعة ، ممن رضعن معه من ثدي واحد في الحولين .
وفي رسالتي العملية (الحجة) ذكرتُ ((مسألة 276)( ) لو كانت المرتضعة بنتاً فتحرم على :
1- الفحل لأنه يصبح لها أباً.
2- تحرم على ابيه لأنه يصبح لها جداً.
3- تحرم على اخوة الفحل لأنهم اعمامها.
4- تحرم على ابنائه لأنها تصبح اختاً لهم من الرضاعة، وان كانوا من زوجة غير التي ارضعتها ولم تكن حية وقت الرضاعة.
5- تحرم على ابناء المرضعة النسبيين لأنهم يصبحون اخوتها من الأم، فلو كان للمرضعة اولاد وهي قد تزوجت ثلاثة وارضعت بنتاً من لبن الفحل (الزوج) الثاني، فان اولاد المرضعة من الازواج الثلاثة بالولادة يصبحون جميعاً اخوة بالرضاعة للمرتضعة، نعم اولادها الرضاعيون من الزوج الأول والثالث لا يكونون اخوة لها بالرضاعة لاشتراط اتحاد الفحل في نشر الحرمة.
6- تحرم على الاخوة الرضاعيين من نفس صاحب اللبن وان كانوا ارتضعوا من ثدي زوجة اخرى، فلو ان امرأته ارضعت بنتاً وبعد اربعين سنة ارضعت زوجة اخرى له ولداً بشرائط الرضاعة فان البنت تصبح اخته وتنشر الحرمة بينهما.
(مسألة 277) بين كل من النسب والمصاهرة والرضاعة عموم وخصوص من وجه فمادة الالتقاء القرابة ومادة الافتراق في النسب الاتصال النسبي، وفي المصاهرة المزاوجة، وفي الرضاعة الرضاع الذي يقوم مقام القرابة من غير نسب او نكاح، فكما تحرم عليك أم زوجتك وابنتها من زوج آخر تحرم عليك أمها وبنتها الرضاعية)( ).
التاسع : حرمة نكاح أم الزوجة سواء دخل بالزوجة أو لم يدخل بها.
العاشر : بنات الزوجة من زوج آخر بشرط الدخول بالزوجة .
الحادي عشر : زوجة الابن ، أو التي عقد عليها الابن وان لم يدخل بها ، فتحرم على أبيه بذات العقد وحده .
إذ تحرم زوجة الأب وزوجة الابن وأم الزوجة بوقوع العقد ، وإن لم يحدث الدخول ، فالعقد على البنت يحرم أمها ، أما البنت فلا تحرم إلا بالدخول بالأم .
وقيدت الآية حلائل الأبناء بأنهم من الأصلاب لتخرج حليلة الابن بالتبني فلا تحرم حليلته كمسألة زيد بن حارثة .
ولما نكح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله زينب بنت جحش بعد أن فارقها زوجها زيد بن حارثة تحدثت قريش وهم في مكة كيف يتزوج زوجة ابنه ، فنزل قوله تعالى [وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ]( ).
جمع الآية للأوامر والنواهي
قد تجمع الآية الواحدة بين عدة أوامر وعدة نواهي .
وقد تأتي الآية القرآنية بصيغة الجملة الخبرية ، ولكنها تتضمن الأوامر أو النواهي .
ولابد من إحصاء جديد بتتبع آيات القرآن آية آية لوجوه :
الأول : عدد الأوامر بصيغة (افعل) ونحوها في القرآن مثل [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثاني : عدد النواهي بصيغة (لا تفعل) ونحوها في القرآن .
الثالث : الآيات التي تجمع بين الأوامر والنواهي مع عدد كل منهما في ذات الآية مثل [الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ]( ).
الأمر في ثنايا الخبر
إحصاء عدد الأوامر بصيغة الجملة الخبرية ودلالتها على استدامة دعوة القرآن إلى التعايش المجتمعي مع حفظ سنن الإيمان العبادية كما في قوله تعالى [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ]( )، إذ تدل الآية على الأوامر من جهات :
الأولى : وجوب الإيمان وقانون الملازمة بين الإيمان والفلاح .
الثانية : وجوب أداء الصلاة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الثالثة : وجوب الخشوع في الصلاة .
وعن الإمام علي عليه السلام (أنه سئل عن قوله [الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ]( ) قال : الخشوع في القلب ، وإن تلين كنفك للمرء المسلم ، وأن لا تلتفت في صلاتك)( ).
و(عن ابن عمر في قوله [الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ]( ) قال : كانوا إذا قاموا في الصلاة اقبلوا على صلاتهم ، وخفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم ، وعلموا أن الله يقبل عليهم فلا يلتفتون يميناً ولا شمالاً)( ).
وهل الأمر بأداء الصلاة ، واتيانها عن خشوع وخضوع لله عز وجل من آيات السلم ، المختار نعم ، لما فيها من الدعوة السماوية إلى الإجتهاد في العبادة والصبر ، ورجاء الفضل والفلاح ، والتوفيق من عند الله عز وجل .
النواهي بلغة الخبر
إحصاء النواهي القرآنية بصيغة الجملة الخبرية ، وما تتضمنه بالدلالة المطابقية أو التضمنية أو الإلتزامية على إرادة السلم علم مستحدث ، لبيان قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) منه مثلاً قوله تعالى [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
إذ ورد في هذه الآية امران :
الأول : وجوب التوحيد ، المستقرأ من لغة الخطاب وتحريم الشرك بالله.
الثاني : البر والإحسان للوالدين.
وتضمنت الآية ست نواهي .
وكل من الأمرين والنواهي في الآية تدعو إلى النسك والتقوى والإمتناع عن المعاصي ، وعن سفك الدماء من غير حق ، وقد ورد الخطاب إلى المسلمين من عند الله [وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
ويمكن تقسيم الإحصاء في باب الأوامر والنواهي تقسيمات متعددة منها:
الأول : الأوامر في القرآن .
الثاني : الآيات التي تتضمن أمراً واحداً .
الثالث : الآيات التي تتضمن أمرين .
الرابع : الآيات التي تتضمن ثلاثة أوامر أو أكثر .
الخامس : الأوامر التي وردت في القرآن بصيغة الجملة الإنشائية.
السادس : الأوامر التي وردت في القرآن بصيغة الجملة الخبرية.
وقوله تعالى [التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
دعوة للتحلي بكل خصلة من الخصال الحميدة الواردة في الآية فتكون في دلالتها الإلتزامية تسعة أوامر وهي :
الأول : وجوب التوبة .
الثاني : وجوب عبادة الناس لله عز وجل وحده ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الثالث : وجوب الحمد لله .
الرابع : وجوب عمارة المساجد ، وصيام شهر رمضان.
الخامس : وجوب الصلاة والركوع فيها .
السادس : وجوب السجود والخشوع لله عز وجل ، قال تعالى [الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ]( ).
السابع : وجوب الأمر بالمعروف .
الثامن : وجوب النهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
و(عن ابن عباس الآمرون بالمعروف قال : بلا إله إلا الله [وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ]( )، قال : الشرك بالله [وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ] قال : الذين لم يغزوا)( ).
التاسع : تعاهد أحكام الحلال والحرام التي جاء بها القرآن والسنة ، ويمكن تقسيم هذا الأمر إلى قسمين :
الأول : حفظ الأوامر والإمتثال لها .
الثاني : إجتناب ما نهى الله عز وجل عنه ، قال تعالى [وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا]( ).
قانون حفظ القرآن سور لآيات السلم
من معاني القرآن معجزة عقلية حفظه سالماً من التحريف والزيادة والنقصان مع مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة على نزوله.
وهل يطمئن بعد هذا التوسع في طباعة القرآن بملايين النسخ والإنتفاع من الصناعات الإلكترونية في توثيقه وحفظه ، الجواب لا .
لأن عوادي الزمان لا يعلم بها إلا الله ، إنما يبقى هذا الحفظ بفضل ولطف ومدد من عند الله عز وجل ، فهو الذي يمنع القرآن من الغياب عن الصدور وعن الواقع اليومي للناس ، والمكتبات وأصل العلوم للإستنباط منه فكما يمسك الله عز وجل [السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا]( ).
فانه تعالى يحفظ القرآن كل يوم ، وليس من حصر لوجوه وكيفية حفظ الله عز وجل للقرآن ، وهذا التعدد من إعجاز القرآن ، ومنها اليسر والسهولة في حفظ الصغار والكبار للقرآن ، فاذا شرع الإنسان بحفظه خفف الله عز وجل عنه ، ويسر له الحفظ ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ]( )، ومنها قانون حفظ القرآن جهاد.
والآية أعلاه ، وإن كانت ضمن آيات فريضة الصيام والرخصة بالإفطار للمريض والمسافر ، ولكن موضوعها أعم ، وفيه وجوه مستحدثة في المقام :
الأول : الآية قانون من الإرادة التكوينية للتيسير والتخفيف عن المسلمين في أمور الدين والدنيا .
الثاني : لا يعلم كيفية التيسير العام والخاص إلا الله عز وجل ، فكما أن الناس يختلفون في بصمة الأصابع والعين ، فكذا يختلفون في كيفية التيسير لهم في الصوم والفرائض العبادية الأخرى ، ومقدماتها ، قال تعالى [بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ).
الثالث : قانون إقتران اليسر مع الفرض العبادي ، فلما قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، فان اليسر مصاحب للصيام ، ومنه الرزق الكريم ، والإعانة الجسدية على الصيام ، وعطف الناس على الصائم ، والبركة في شهر رمضان ، والإقبال بشوق على الصيام.
وهناك من الآيات أو شطر من الآية ما يشمل أمور الدنيا ، أو الآخرة ، أو يشمل الدنيا والآخرة مجتمعتين مما يدل على إمكان تأليف مجلدات في شطر آية ، ومنها قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ]( )، وهو جزء من آية قرآنية في فريضة الصوم وهو قوله تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ولم يرد لفظ (اليسر) في القرآن إلا في الآية أعلاه بينما ورد (العسر) مرتين في آية أخرى تدل التيسير والتخفيف في قوله تعالى [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]( ).
وفي مرسلة الحسن البصري (قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فرحاً مسروراً ، وهو يضحك ويقول : لن يغلب عسر يسرين فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا( ).
لأن العسر أعيد معرفاً بالألف واللام ، فهو واحد ، فالثاني عين الأول ، أما (يسراً) فقد ورد نكرة مرتين ، والنكرة إذا اعيدت نكرة ، كانت الثانية غير الأولى .
وهل من شواهد من القرآن والسنة تدل على إرادة الإطلاق في اليسر خارج الصوم والفرائض العبادية ، الجواب نعم منها قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا]( ).
وهل آيات السلم من التخفيف عن المسلمين ومصاديق [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ]( )، الجواب نعم ، فكما أن هناك تضاد بين اليسر والعسر ، فهناك تضاد في ذات السلم والحرب ، ومن اليسر استدامة أيام السلم ، ودفع الله القتال عن المسلمين وعامة أهل الأرض.
ومن اليسر في السنة النبوية عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا خُيِّر بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثمًا، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله عز وجل)( ).
إلى جانب أجوبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تتصف بالتيسير والتخفيف في أمور العبادات منها في الحج.
إذ ورد (عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر ، ثم قعد للناس فجاءه رجل ، فقال : يا رسول الله ، إني حلقت قبل أن أنحر ، قال : لا حرج.
ثم جاءه آخر فقال : إني حلقت قبل أن أرمي ، قال : لا حرج .
فما سئل عن شيء إلا قال : لا حرج ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : كل عرفة موقف ، وكل مزدلفة موقف ، ومنى كلها منحر ، وكل فجاج( ) مكة طريق ومنحر)( ).
وفي باب الذباحة ورد عن كعب بن مالك (أَنَّ امْرَأَةً ذَبَحَتْ شَاةً بِحَجَرٍ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا)( ).
وهل اليسر في أحكام الشريعة من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض ، بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، الجواب نعم .
إذ أمدّ الله الذي له ملك السموات والأرض الناس بالتخفيف والتيسير في أمور الدين والدنيا ، وليكون من تقدير قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( )، بالتخفيف وتيسير العبادة ، وهو الذي يتجلى بانتفاء الموانع بين العباد والصلاة ، وبينهم وبين الذكر ، إذ يستطيع الإنسان أن يذكر الله بلسانه وبقلبه من غير أن يمنعه أحد ، قال تعالى [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ]( ).
ومن لطف الله أنه يقبل العمل العبادي المخفف بالأجر والثواب العظيم.
و(عن معاذ قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : إني أحبك لا تدعن أن تقول في دبر كل صلاة : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)( ).
قانون [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ]( ) سور لآيات السلم
تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر في الصيام .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا يريد الله بكم اليسر في الصيام ولا يريد بكم العسر في مقدمات ولوازم الصيام.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا يريد الله بكم اليسر في الصلاة والصيام والزكاة والخمس وحج بيت الله الحرام .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا يريد الله بكم اليسر في المكاسب وطلب الرزق والمعاش .
الخامس : يريد الله بكم اليسر في المعاملات .
السادس : يريد الله بكم السلم والأمن.
إذ أن النسبة بين اليسر والسلم عموم وخصوص مطلق ، والنسبة التضاد بين اليسر والحرب ، لذا قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
وهل آية البحث شاهد على عدم نسخ آية السيف لآيات السلم والصلح ، الجواب نعم ، وهي تعضيد لها ، لذا قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
والنسبة بين اليسر والصلح عموم وخصوص مطلق والإجماع على أن آية البحث [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ]( ) آية محكمة عير منسوخة لتكون سور الموجبة الكلية في تعضيد آيات السلم وبقاء أحكامها ثابتة إلى يوم القيامة.
ومن الآيات الحسية الظاهرة أن المؤمن يلتفت في مناسبات عديدة إلى هذا التيسير وإزالة الحواجز والموانع دون الأداء .
قوانين في اليسر
يتضمن قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ]( )، قوانين من الإرادة التكوينية وهي :
الأول : قانون إرادة اليسر للمسلمين .
الثاني : قانون حجب العسر عن المسلمين .
الثالث : قانون اقتران اليسر بالإسلام ، فمع دخول الإسلام يأتيه اليسر على نحو دفعي وتدريجي كما ينتظر اليسر المسلمين والمسلمات الذين لم يولدوا بعد .
الرابع : قانون الترغيب بالإسلام .
الخامس : قانون الزجر عن محاربة النبوة والتنزيل .
وهل تدل الآية في مفهومها على إرادة العسر للمشركين بالله الذين حاربوا النبوة والتنزيل كمشركي قريش ، الجواب نعم .
وهل يريد الله العسر لغير المسلمين مطلقاً ، الجواب لا ، إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الرحمة للمسلمين وأهل الكتاب وللناس جميعاً .
والعسر ضد للرحمة ، نعم الذين حاربوا النبوة والتنزيل ضلوا الطريق فنزل بهم العسر ، قال تعالى [الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا]( ).
والنسبة بين الرحمة واليسر عموم وخصوص مطلق ، فالرحمة أعم ويلزم المسلمين الشكر لله عز وجل على نعمة التيسير في صيام شهر رمضان وغيره من النعم .
لذا اختتمت آية رمضان بقوله [وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، وتقديره:
الأول : يريد الله بكم اليسر لعلكم تشكرون ، مع البيان والتفسير لهذا التقدير .
الثاني : لا يريد الله بكم العسر لعلكم تشكرون.
الثالث : لعلكم تشكرون على التوفيق لأداء الصيام .
الرابع : لعلكم تشكرون على الهداية .
الخامس : لعلكم تشكرون بالقول والعمل .
السادس : لعلكم تشكرون بتعاهد سنن التقوى .
السابع : من اليسر تقريب الله العباد لمنازل الشكر .
وتكرر الجار والمجرور في الآية مرتين لتأكيد فضل الله ، وأن كلاً من اليسر ودفع العسر نعمة مستقلة تلزم بذاتها الشكر لله وكذا إجتماعها مع الأخرى .
قانون مصاديق السلم في القرآن
يرد السلم في القرآن من وجوه :
الأول : النص بلفظ السلم .
الثاني : السلم سبب نزول الآية القرآنية .
الثالث : الآية القرآنية مقدمة للسلم .
الرابع : دلالة الآية على السلم .
الخامس : بعث الآية المسلمين على السلم والصلح .
السادس : تحبيب السلم إلى النفوس وجعله من شعب الإيمان ، قال تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
السابع : تنمية الآية القرآنية ملكة الصبر عند المسلمين .
الثامن : بعث المودة والرأفة والأمن والسلم في المجتمعات .
ومن رشحات آيات السلم قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
والنسبة بين السلم والظلم تضاد ، وكذا النسبة بين الإسلام والإرهاب لقانون تنزه مبادئ وأحكام الإسلام عن الظلم ، وقانون الإرهاب فرع الظلم .
وهل من آيات السلم والرحمة إكرام القرآن للمرأة ، الجواب نعم .
وفي هذا المبحث نقترح على علماء الإسلام في هذا الزمان والأزمان اللاحقة إحصاء آيات السلم والأمن المجتمعي والمودة والرحمة والرأفة بين الناس، بأن نتبع آيات القرآن من أولها آية آية لتشمل آيات السلم وجوهاً :
الأول : قانون دعوة الآية إلى السلم في منطوقها .
الثاني : قانون دعوة الآية إلى السلم في مفهومها .
الثالث : قانون من آيات السلم المجتمعي كل آية فيها رحمة وتدعو إلى التراحم بين الناس .
الرابع : الآيات التي تدعو إلى الصبر ، ونبذ الخصومة والقتال .
الخامس : السلم في ثنايا آيات القتال .
السادس : آيات المهادنة والموادعة .
السابع : آيات الصلح .
الثامن : مصاديق الصلح في السنة النبوية مثل :
الأولى : وثيقة المدينة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم واليهود .
الثانية : معاهدة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة ورئيسهم مخشي بن عمرو الضمري في شهر جمادى من السنة الثانية للهجرة في كتيبة العشيرة .
الثالثة : صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السادسة للهجرة مع مشركي قريش الذين قاتلوه ظالمين في معركة بدر ، وغزوا المدينة في معركة أحد والخندق .
الرابعة : صلح الحديبية ، وصلح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع وفد نصارى نجران الذين جاءوا إلى المدينة المنورة بعد أن وصلهم كتاب النبي محمد يدعوهم إلى الإسلام ، أو الجزية ، فلم يهملوا الكتاب إنما تدارسوه فيما بينهم فقرروا إرسال وفد من رؤسائهم.
وعن ابن عباس (هم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم . منهم السيد وهو الكبير ، والعاقب وهو الذي يكون بعده ، وصاحب رأيهم ، فقال رسول الله لهما : أسلما .
قالا : أسلمنا . قال : ما أسلمتما . قالا : بلى . قد أسلمنا قبلك . قال : كذبتما يمنعكم من الإسلام ثلاث فيكما . عبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ، وزعمكما أن لله ولداً ، ونزل إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ( ).
ثم نزلت آية المباهلة [فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( ).
الثامن : قانون آيات السلم والتسامح والتعاون والتكافل سلم دائم.
ويتقوم هذا العلم الجديد بدراسة وإحصاء آيات السلم والموادعة والصبر والتراحم واستقراء مصاديق السلم المجتمعي ، والعفو والصفح منها ، فمثلاً آيات سورة الفاتحة كلها من آيات السلم ، وكذا آيات الإنقطاع إلى الله عز وجل.
التاسع : قانون آيات الإحسان والتحية والسلام من آيات السلم.
أكتب هذه السطور في اليوم الأخير من شهر شعبان لسنة 1445 والحمد لله ، نسأل الله التوفيق لأداء فريضة الصيام في هذا العام وكل عام.
وهل هذا الدعاء من أدعية السلم والدعوة إليه ، وسؤال طول العمر ، الجواب نعم ، قال تعالى [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ]( ).
توثيق السلم في السنة النبوية
تتجلى الحاجة إلى كتابة فصل من جهات :
الأولى : قانون السلم في السنة النبوية القولية .
الثانية : قانون السلم في السنة النبوية الفعلية .
الثالثة : قانون أداء المسلمين فريضة الصلاة خمس مرات في اليوم اعلان للسلم العالمي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الرابعة : قانون أداء المسلمين كل فريضة عبادية كالزكاة والصيام والحج لواء عام للسلم الدولي والتعايش والرأفة المجتمعية .
إلى جانب موادعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع رؤساء ووجهاء قبائل ، منها استعداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لموادعة عيينة بن حصن الفزاري ، والحارث بن عوف المري يوم الأحزاب لمنع زهوق الأرواح .
وعلى قول مشهور لا أصل له بأن آية السيف نسخت مائة وأربع وعشرين آية من آيات السلم والصلح والموادعة ، بينما تصل آيات السلم والموادعة والرحمة العامة بين الناس على نحو هذا المنهاج الذي نذكره في هذا الجزء لأول مرة في التأريخ أضعاف هذا العدد.
فمثلاً آيات سورة الفاتحة من آيات السلم والموادعة والرحمة العامة ، وأولها البسملة التي هي شعار يومي للسلم والأمن .
لذا نقترح إحصاء آيات السلم والصلح والموادعة والهدنة والصبر ودفع الخصومة والإقتتال منطوقاً ، ومفهوماً ، ودلالة .
ويمكن أن تصل آيات السلم إلى أكثر من ألف آية من بين (6236) آية بعد تعيين وضبط القواعد الكلية لهذا المنهاج ، قال تعالى [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا]( ).
وقد تقدم في الجزء الخامس بعد المائتين من هذا السِفر قوانين تخص المقام منها :
الأول : قانون البسملة سلام .
الثاني : قانون اتباع الوحي سلم ورحمة عامة .
الثالث : قانون العبادة مودة بين الناس .
الرابع : قانون السلام في آية (وقاتلوا) .
الخامس : قانون معجزات آدم دعوة للسلم .
السادس : قانون أسماء مكة شعار متجدد لمحاربة الإرهاب .
السابع : قانون تكرار الحج دعوة للسلم .
الثامن : قانون الإسلام ينهى عن الإرهاب .
التاسع : قانون البراءة من فعل الكفار .
العاشر : قانون التذكير بالمعاد ، وهذا التذكير سلم ورحمة.
قانون جزء الآية أعم من موضوعها
من مصاديق الإعجاز العقلي للقرآن تجدد علومه ، واستخراج كل من يغوص في خزائنه للآلئ مستحدثة .
من إعجاز الآية القرآنية أنها خزينة تستقرأ منها العلوم في كل زمان ، فهناك آيات كثيرة من آيات القرآن البالغ عددها (6236) آية يرد أولها في شيء ووسطها في شيء وآخرها في شيء ، أو أولها في شئ وآخرها في شيء آخر ، وتكون النسبة بينها عموماً وخصوصاً مطلقاً ، أو عموماً وخصوصاً من وجه .
فقد يظن قارئ القرآن أن موضوع الآية القرآنية متحد خاصة مع انتهاج علماء التفسير هذا المنحى ، ولكن عند التدبر في كثير من آيات القرآن تجد هناك أجزاء وجملاً منها يكون موضوعها أعم مما يلزم إعادة كتابة علم التفسير من جديد وفق منهجية أعم لقانون لو دار معنى الآية القرآنية بين خصوص موضوعها والمعنى الأعم ، فالصحيح هو الأعم .
فمثلاً قوله تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وذكر ابن عباس أن المراد من قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ].
(اليسر الإفطار والعسر الصيام في السفر)( ).
وهذا صحيح ولكن موضوع الآية أعم ، ومنه وجوه :
الأول : اليسر في أداء التكاليف العبادية عامة ، ومنها الصيام ، إذ ييسر الله عز وجل أداء المسلمين الصلاة ، وأداء الزكاة والخمس وتهيئة أسباب الإستطاعة لطائفة منهم ليؤدوا حج بيت الله الحرام .
الثاني : استحضار هذا الجزء من آية الصيام في تلاوة كل آية من القرآن.
والنظر هل هو مناسب لها إبتداء من آيات سورة الفاتحة مثلا [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] فمن رحمة الله عز وجل إرادة اليسر بالمسلمين .
ومثلاً [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( )، بشارة اليسر لكم يومئذ وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وقوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، ومن معاني تقديره: إياك نعبد فيسر لنا العبادة ، وإياك نعبد بالتيسير الذي تفضلت به ، وإياك نستعين لتيسير أمور الدين والدنيا .
الثالث : قانون السلم ودفع مقدمات الفتنة والقتال من اليسر الذي أراده الله للمسلمين .
الرابع : اليسر في إزاحة الموانع التي تحول دون أداء الفرائض العبادية .
مسائل في اليسر
ونذكر مسائل مستحدثة :
الأولى : هل يختص إرادة اليسر من عند الله بالمسلمين في عباداتهم أم يشمل المعاملات أيضاً .
الثانية : هل يختص اليسر من عند الله بالمسلمين .
الثالثة : القول بقانون الملازمة بين الإيمان واليسر .
أما المسألة الأولى فالمختار هو أصالة الإطلاق فيشمل اليسر المعاملات أيضاً .
وأما المسألة الثانية فاليسر لطف من عند الله ، وقال تعالى [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ]( ).
ولا يختص اللطف في الآية أعلاه بالرزق بل هو مطلق والرزق فرع منه
وأما المسألة الثالثة فالجواب نعم وهو من رشحات [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ]( )، ولكنه لا يعني حصر اليسر بالمسلمين فقط إلا مع الدليل ، لأن اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره.
ومن الآيات ذات المعنى العام الذي يشمل موضوعها وغيره لأصالة العموم ولإحاطة كلمات القرآن باللامحدود من الوقائع والأحداث :
الأولى : وما جعل عليكم في الدين من حرج .
الثانية : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد .
الإختلاف في معنى النسخ
للنسخ في الإصطلاح معنيان بحسب التقادم الزماني :
الأول : ما كان عند الصحابة والتابعين بارادة :
الأول : المخصص للعام.
الثاني : المقيد للمطلق .
الثالث : الإستثناء .
وكل منها يسمى الناسخ ، كما هو الظاهر عن ابن عباس وعدد من التابعين.
الثاني : نسخ وإبطال ورفع أمر وحكم ثابت في الشريعة بأمر جديد لاحق يحل محله في موضوعه ، بحيث لو لم يأت الناسخ لبقي حكم المنسوخ على حاله ، لذا يناقش المتأخر وفق هذا المعنى النسخ عند المتقدمين مع أنهم لا يقصدون المحو التام للحكم .
ويحدث أحياناً خلط في المعنى والمقاصد من كل منهما لذا لابد من الفصل والبيان .
وقد يطلق على الإستثناء بأنه نسخ ، فمثلاً ورد عن ابن عباس (قال {الشعراء يتبعهم الغاوون}( ) فنسخ من ذلك واستثنى فقال {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً})( ).
وذكر أن قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا]( ) منسوخة بقوله تعالى [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ]( ) وهو ليس من النسخ في الإصطلاح.
وكأن طائفة من المتأخرين عملوا بالإستصحاب القهقري في معنى النسخ ، إذ عرفوه بأنه مجئ حكم جديد يدل على حكم ثابت سابق في الشريعة ، فحملوا عليه لفظ النسخ عند المتقدمين ، ولكن المدار على المسمى وليس الاسم .
النسخ في القرآن
هناك مسائل في النسخ :
الأولى : الإجماع على وجود النسخ في القرآن ولا عبرة بالقول القليل النادر ، قال تعالى [مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثانية : عدم وجود نسخ في القرآن قاله جماعة ، قال تعالى [لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
الثالثة : دعوى كثرة النسخ في القرآن ، وقال بعضهم عدد آيات القرآن المنسوخة خمسائة آية ، وقيل خمسمائة وخمسون آية .
وروى (أبو عبد الرحمن السّلمي : إنّ علياً عليه السلام مرّ بقاص يقصُّ في جامع الكوفة بباب كندة فقال : هل تعلم النّاسخ من المنسوخ .
قال : لا. قال : هلكت وأهلكت.)( ).
على أن الآيات المنسوخة قليلة يسهل تعلمها ومعرفتها .
والمختار وجود ناسخ ومنسوخ في القرآن ، ولكن الآيات المنسوخة قليلة.
وقال أحد المعاصرين (اذا كانت أحكام في القرآن تبدلت في ربع قرن ، فان حكمة التبديل أظهر بعد مرور أربعة عشر قرناً).
ولا يخلو هذا الكلام من مغالطة لوجوه :
الأول : الآيات المنسوخة قليلة ، ويأتي النسخ أحياناً على شطر من الآية.
الثاني : النسخ رحمة للمسلمين والناس عامة ، فمثلاً أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وغيرهم عن الإمام علي عليه السلام قال (إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً]( ).
كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي درهماً.
ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ( ).
الثالث : التباين الزماني والإختلاف في أحوال الناس والمجتمع بين زمان المنسوخ والناسخ ، إذ نزلت آيات أوان شدة الأذى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وكثرة المشركين ، وحداثة العهد بالإسلام وأحكامه ، ونزل الناسخ بعد سيادة أحكام الإسلام ودخول الناس [فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
ليكون علم الناسخ والمنسوخ من الشواهد على جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، وصبرهم على الأذى ، وهو بيان فضل الله عز وجل على المسلمين.
الرابع: اختلاف الحكم في ربع قرن أيام النبوة المباركة في مسائل محدودة لتستقر إلى يوم القيامة وذات الأحكام الناسخة إنما استقرت بحكمة وإعجاز من عند الله عز وجل ، وعلمه تعالى بملائمتها لكل الأحوال ، لقوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا]( ).
الخامس : من الشواهد على انتفاء موضوع النسخ في آيات وأحكام القرآن لآلاف وملايين السنين القادمة ، قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ]( )يردده كل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة .
وقد صدر الجزء السابق من هذا السِفر خاصاً بتفسير الآية أعلاه.
السادس : قانون إحاطة وشمول آيات وأحكام القرآن المحدودة باللامحدود من الوقائع والأحداث .
السابع : من إعجاز القرآن وقوع النسخ ليبقى صالحاً لآلاف السنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ومع تبدل أحوال الناس وتباين المكان والزمان فان أحكام القرآن هي الضياء والنبراس والمنهاج ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) .
إحصاء آيات السلم في القرآن
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) ومنه بيان ماهية علوم القرآن وتعددها ، وقانون استمرار وتوالي استنباط واستقراء علوم القرآن في كل زمان ، فمع مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة على نزول تمام القرآن لا زالت الذخائر تترى من الآية القرآنية بذاتها أو بالصلة بينها وبين غيرها من الآيات أو بمفهومها.
والمشهور في علم التفسير أن آيات السلم منسوخة بآية السيف ، ولكن عند التحقيق يتجلى قانون آيات السلم محكمة غير منسوخة .
ويشمل هذا التحقيق ألفاظ الآية ومصداقها ودلالاتها ومفاهيمها ، وتفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولي والفعلي لها ، وعرض السنة النبوية عليها ، واستمرار عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بالآية والذي يدل على عدم إبطال أحكامها .
ولم يذكر واحد من علماء التفسير أن قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ] ( )من آيات السلم والموادعة ، بينما تدل مضامينها على أنها من آيات السلم لقانون إتخاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النداء سلاحاً ودعوة إلى الله عز وجل.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه بقي ثلاث عشرة سنة في مكة يدعو إلى الله ، ويتلو القرآن بين المشركين من غير أن يحمل سلاحاً.
وحينما أراد بعض الصحابة مقابلة اعتداء المشركين بمثله نهاهم عنه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) وهذه الآية أيضاً من آيات السلم.
وكذا الآية التي ليست مكية ولا مدنية ، إذ نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ]( ) فهي من آيات السلم سواء بأمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة من مكة ، أو بفتحها سلماً في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة .
إحصاء الجمل الخبرية والإنشائية في القرآن
قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( ).
ومن مصاديق هذه الآية إعجاز وتجدد علوم القرآن وكشفه للحقائق وبيانه لماهية الوقائع للإتعاظ والإعتبار .
وأيهما أكثر العلوم والقوانين والمسائل التي استخرجت واستقرئت من القرآن أم التي ستستخرج وتستقرأ منه في قادم الآيام.
المختار هو الثاني فمع مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة على نزول القرآن فلا تزال علوم القرآن في بداياتها ، فلا تنقضي غرائب ومعجزات القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا]( ).
والمراد من الكتاب في الآية أعلاه من سورة النحل هو القرآن ومن تبيانه لكل شئ بيانه للعلوم التي يتضمنها ، وفي المقام مسائل :
الأولى : الدعوة إلى إحصاء الجمل الخبرية ، والجمل الإنشائية في القرآن ، وتحتمل من جهة عددها أن تكون أكثر من أربعة أضعاف عدد آيات القرآن التي هي (6236) آية.
الثانية : إحصاء الجمل الخبرية والإنشائية مدرسة علمية تفتح آفاقاً للعلماء وتيسر لهم البحث والتحقيق ، ويتجلى فيه إعجاز متعدد لنظم القرآن ، وذخائر علومه .
الثالثة : تتجلى في هذه الإحصاء شذرات من مصاديق البيان والهدى في القرآن ، قال تعالى هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ.
الرابعة : دلالة مضامين الجمل الخبرية والإنشائية في القرآن على سلامة آيات السلم من النسخ ، لبعث آيات القرآن المسلمين للإجتهاد في طاعة الله ، ولغة الإحتجاج.
وعدم التعارض بينها وبين الإعراض بدليل قوله تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا]( ).
فان قلت تأتي الجملة الخبرية أو الإنشائية بخصوص القتال ، والجواب يدل مجموع آيات القرآن على أن هذا القتال دفاع ومقدمة للسلم المجتمعي وسيادة الأمن في الأرض ، فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه الإمام في الصبر ونشر ألوية السلم ، ودفع أسباب القتال .
التفسير المتواتر (علم جديد)
نبين هنا علماً مستحدثاً بتأليف وإحصاء خاص اسمه التفسير المتواتر والنسبة بينه وبين الحديث المتواتر عموم وخصوص مطلق ، فالحديث أعم ، وينقسم الحديث إلى قسمين :
الأول : الخبر المتواتر ، الذي ينقل لنا بعدة طرق يمتنع تواطؤ رواته على الكذب ، ولا الخطأ في إدراك الواقعة.
الثاني : خبر الواحد .
والحديث المتواتر مشتق من التواتر وهو التتابع ، قال تعالى [ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى]( )، ومنهم من أضاف التواتر الإجمالي ، والمختار هو التقسيم إلى اللفظي والمعنوي .
والحديث المتواتر هو الذي يرويه جماعة عن جماعة بشروط :
الأول : رواته عدد كثير ، والمختار أن المتواتر يكفي فيه ثلاثة في كل طبقة.
الثاني : كثرة الرواة في كل طبقة جمعاً عن جمع إلى أن ينتهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : تجلي حقيقة عدم تواطئ الرواة على الكذب .
الرابع : مستند خبر الرواة هو الحس ، فيقول كل واحد منهم سمعت أو رأيت ، بما لا يحتمل معه الخطأ والنسيان .
الخامس : عدم تعارض الحديث المتواتر مع آيات القرآن .
وينقسم الحديث المتواتر إلى قسمين :
الأول : المتواتر اللفظي : أي تواتر بذات اللفظ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعصوم طبقة عن طبقة ، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم (صَلُّوا كما رِأَيتموني أُصلِّي)( )، (من كذّب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)( ).
الذي رواه نحو سبعين صحابياً ، أما التابعون الذين رووا الحديث فهم أضعاف هذا العدد .
ومثل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من كنتُ مولاه فَعَليٌّ مولاه)( )، في بيعة الغدير والذي رواه أكثر من مائة صحابي بين رجل وامرأة ، منهم أبو بكر ، وأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأبي بن كعب ، وأسامة بن زيد ، وسلمان الفارسي ، وأسعد بن زرارة الأنصاري ، وأسماء بنت عميس ، وأنس بن مالك ، وبريدة بن الحصيب ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وجابر بن سمرة ، وحسان بن ثابت ، وأبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري ، وغيرهم .
وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وزيد بن الأرقم ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعد بن عبادة ، وسهل بن حُنيف ، وسمرة بن جندب .
وبالإسناد (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ:كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا بِغَدِيرِ خُمٍّ فَنُودِيَ فِينَا الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ وَكُسِحَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ تَحْتَ شَجَرَتَيْنِ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ (عليه السلام).
فَقَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ قَالُوا بَلَى قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ قَالُوا بَلَى.
قَالَ فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ.
فَقَالَ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ.
قَالَ فَلَقِيَهُ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ هَنِيئًا يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ)( ).
الثاني : المتواتر بالمعنى : وهو الحديث الذي يروى بمعناه مع الإختلاف في ألفاظه بما لا يغير مضمون الحديث ، وتشترط فيه أمور:
الأول : معرفة الراوي بلغة العرب .
الثاني : حفظ الراوي للحديث عند أدائه له .
الثالث : علم الراوي بفحوى ومضمون الحديث .
الرابع : اتصال السند ، وخلوه من الإرسال .
الخامس : عدم جعل الرواية الحلال حراماً ولا العكس .
السادس : الرواية الشفوية قبل عصر التدوين .
السابع : لا يكون الحديث بالمعنى في ألفاظ العبادة والأخبار التوقيفية.
واختلف في تحديد عدد الرواة في كل طبقة من طبقات السند على أقوال متعددة منهم من قال ثلاثة ، وقيل أربعة ، وخمسة ، وعشرة رواة .
والمختار كفاية الثلاثة ، وإن لم تكن الثلاثة أقل الجمع علة تامة في المقام.
إحصاء التفسير المتواتر
وينطبق ذات تقسيم الخبر على الأحاديث الواردة بخصوص علم التفسير ، فلا بأس بأفراد علم مستقل ومؤلف خاص بالتفسير المتواتر مع التسامح في عدد الرواة وأقله ثلاثة رواة في كل طبقة من الرواة .
والنسبة بين التفسير بالمأثور ومقترح التفسير المتواتر هو العموم والخصوص المطلق ، فالتفسير بالمأثور هو الأكثر .
وهذا الإحصاء والبيان لا يتعارض مع موضوعية خبر الواحد في التفسير فهو ثروة علمية أخرى ما دام لا يتعارض مع آيات وأحكام القرآن خاصة بالنسبة للخبر الصحيح .
رفع اليدين بالدعاء
إذ ورد نحو مائة حديث في رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه في الدعاء ولكن بالفاظ متعددة .
ومن المتواتر المعنوي أحاديث المهدي عند المسلمين جميعاً فالقدر المتيقن المتواتر هو ظهور الإمام المهدي وأنه حق ، إذ وردت الأخبار عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول المسيح ابن مريم من السماء في آخر الزمان ، وخروج يأجوج ومأجوج وظهور الإمام المهدي.
وقال ابن حجر الهيتمي (أن منكر المهدي الموعود إن كان لإنكار السنة رأسا فهو كفر يقضى على قائله بسبب كفره وردته فيقتل).
أيهما أكثر المتواتر اللفظي أو المعنوي
المقصود من المتواتر اللفظي هو الذي تواتر نقله بلفظه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير تبديل بكلماته أو حروفه ، أما المتواتر المعنوي فهو الذي نقله جماعة عن جماعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه مع تبدل في الفاظه لم يغير معناه ،ومن غير إرسال أو أنقطاع في السند .
والمختار أن التواتر المعنوي هو الأكثر والتواتر اللفظي قليل .
ويحتمل كرم حاتم الطائي ، وعدل كسرى ، وفتوحات الإسكندر مثلاً وجوهاً :
الأول : إنها من المتواتر المعنوي خاصة وأنه لم يشترط العدالة في الرواة في المقام .
الثاني : انها من المتواتر التأريخي ، فليس فيها إسناد عدول ، لإنقطاعها لما قبل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما هي الكثرة وعدم التواطئ على الكذب.
الثالث : انها من المتواتر الإجمالي .
الرابع : إنه ليس من المتواتر ، إنما هي أخبار ، والخبر يحتمل الصدق والكذب إلا الخبر الوارد في القرآن والسنة فانه حق ، قال تعالى [اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا]( ).
الخامس : إنها من الأخبار الشائعة المتوارثة .
المختار اصطلاح جديد في هذا البحث وهو أنها من المتواتر التأريخي .
قيود القتال
هل قيود القتال في القرآن من مصاديق نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان ، الجواب نعم .
ومنها قيود القتال في قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
والقيود الواردة في الآية أعلاه محكمة متعددة من وجوه :
الأول : ابتدأت آية البحث بحرف العطف (الواو) للدلالة على الصلة بينها وبين الآية السابقة ، وهل من قيد للقتال في الآية السابقة ، الجواب نعم ، ومنه الأمر من الله بقوله [وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( )، فمن التقوى التقيد بشروط القتال وعدم التعدي .
الثاني : شرط القتال في سبيل الله وليس لمصالح ومنافع دنيوية أو غنائم.
الثالث : قتال المسلمين للذين يقاتلونهم على نحو الحصر والتعيين ، فمن لم يقاتلهم من أهل الكتاب والكفار لا يقاتلونه .
الرابع : دلالة الآية على قانون قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للدفاع وحفظ النبوة والتنزيل والنفوس ، وهو الذي تدل عليه الوقائع ومعارك الإسلام الأولى ومقدماتها ونتائجها .
الخامس : حرمة الإعتداء لقوله تعالى [وَلَا تَعْتَدُوا] (والأصل في النهي الحرمة إلا مع الدليل على إفادة الكراهة) وهو منتف في المقام.
السادس : دلالة خاتمة الآية على بغض الله للمعتدين مطلقاً في القتال وغيره .
وهل من قيود أخرى للقتال في آيات القرآن الأخرى ، الجواب نعم .
فمن إعجاز القرآن قانون تعدد الموضوع أو الحكم في أكثر من آية واحدة ، منها آيات السلم والمهادنة والصلح ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
وعن (النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون اهله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد)( ).
وبلحاظ عنوان هذا الجزء في المقام مسائل :
الأولى : تعدد قيود القتال في القرآن والسنة .
الثانية : قيود القتال محكمة غير منسوخة .
الثالثة : قانون قيود القتال سلام وبرزخ دون وقوع القتال وتجدده .
الرابعة : قانون قيود القتال فقاهة للمسلمين ، ومانع من غلبة التفس الغضبية .
تقسيم عالم الآخرة
كل اسم من أسماء يوم القيامة يدل على وصف مخصوص لجانب من أهواله .
ويمكن تقسيم عالم الآخرة إلى أقسام :
الأول : عالم القبر ، وهو المسمى البرزخ ، وهو من حين الموت ، ومنه عذاب القبر ، وفتنة القبر ، ومنكر ونكير ، ويكون الناس فيه على ثلاث شعب وهي :
الأولى : يكون القبر للمؤمن روضة من رياض الجنة.
الثانية : يكون القبر حفرة من حفر النيران للكافر .
الثالثة : يكون المستضعفون الذين لا يعلمون مسكوتاً عنهم ، وفي التنزيل [قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ]( ).
الثاني : الصيحة ويوم الخروج من الأجداث ، قال تعالى [يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ]( ).
والنسبة بين يوم القيامة ويوم الخروج عموم وخصوص مطلق ، فيوم القيامة أعم ، وهو أخص بالنسبة لعالم الآخرة ، لذا لم يقل القرآن يوم الآخرة ، نعم ورد بقوله تعالى اليوم الآخر ، قال تعالى [وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثالث : يوم الحوض والعرض على الله عز وجل ،
الرابع :يوم الميزان.
الخامس : يوم الصراط .
وكلها من مصاديق وأهوال يوم القيامة و(عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قال عشر كلمات عند كل صلاة غداة وجد الله عندهن مكفياً مجزياً : خمس للدنيا ، وخمس للآخرة :
حسبي الله لديني ، حسبي الله لما أهمني ، حسبي الله لمن بغى عليّ ، حسبي الله لمن حسدني ، حسبي الله لمن كادني بسوء ، حسبي الله عند الموت .
حسبي الله عند المسألة في القبر ، حسبي الله عند الميزان ، حسبي الله عند الصراط ، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب)( ).
السادس : عالم الخلود ، إما إلى الجنة أو النار .
موعظة في جبل أحد
قال رسول الله (ص) جبل أحد يحبنا ونحبه وهو على باب الجنة) ومن معانيه أن رؤية المسافر له من بعيد يبشره بقرب أهله ودخول طيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالضمير في (نحبه ويحبنا ) يعود لأجيال المسلمين المتعاقبة ، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام لا تخلو ساعة كل يوم من زوار لجبل أحد ، وكذا في شطر من الليل .
وهو من معاني قوله تعالى [وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ].
ومنها مواساة المسلمين والمسلمات والتخفيف عن ذكرى الشهداء، ونضيف لها وجوهاً :
الأول : الشهادة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن المسلمين لم يخسروا معركة أحد .
الثاني : بشارة دخول شهداء أحد السبعين الجنة .
الثالث : دعوة المسلمين الثبات على الإيمان وعدم الجزع .
الرابع : من الآيات في المقام قيام الملايين من المسلمين والمسلمات كل عام بزيارة جبل أحد وشهداء معركته بشوق ، والتي وقعت في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية .
الخامس : تتجدد البشارة والغبطة كل يوم للمسلمين عند الدنو من جبل أحد بزيارة مسجد وقبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : دعوة المسلمين لإقتباس المواعظ والعبر من معركة أحد ، وبيان صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار في معركة أحد ، وهو من مصاديق آية البحث [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ]( ) إذ اجتمع في ميدان معركة أحد كل من :
الأول : المنادي للإيمان وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الذين استجابوا لنداء الإيمان وهم المهاجرون والأنصار .
الثالث : التقى معهم في ميدان المعركة مشركو قريش الذين امتنعوا عن الإستجابة للمنادي للإيمان مع أنهم أكثر الناس سماعاً لنداءاته .
الرابع : فضح المنافقين بانسحابهم من وسط الطريق إلى المعركة مع كثرة عددهم وهم ثلاثمائة ، نحو ثلث جيش المسلمين ، وبعد أن سمعوا نداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان.
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَتّى إذَا كَانُوا بِالشّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ ، انْخَزَلَ عَنْهُ( ) عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ بِثُلُثِ النّاسِ وَقَالَ أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي ، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ فرَجَع بِمَنْ اتّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ وَالرّيْبِ وَاتّبَعَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ ، يَقُولُ يَا قَوْمِ أُذَكّرُكُمْ اللّهَ أَلّا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيّكُمْ حَضَرَ مِنْ عَدُوّهِمْ .
فَقَالُوا : لَوْ نَعْلَمُ أَنّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمَا أَسْلَمْنَاكُمْ وَلَكِنّا لَا نَرَى أَنّهُ يَكُونُ قِتَالٌ . قَالَ فَلَمّا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ وَأَبَوْا إلّا الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ قَالَ أَبَعْدَكُمْ اللّهُ أَعْدَاءَ اللّهِ فَسَيُغْنِي اللّهُ عَنْكُمْ نَبِيّهُ)( ).
قانون مصاحبة معجزات النبي (ص) للأزمنة اللاحقة
من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض أن كل نبي له معجزة وهي على جهات :
الأولى : المعجزة الحسية المتحدة التي تأتي مرة واحدة .
الثانية : رؤيا الوحي وهي أخص وأعلى من الرؤيا الصادقة ، ومنها [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
الثالثة : المعجزة الحسية المتحدة ولكنها متكررة مثل عصا موسى ، وناقة صالح.
الرابعة : المعجزة العقلية وهو القرآن .
وقد صاحبت المعجزة الحسية والعقلية نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين نزول الوحي عليه ، فقد يقول بعضهم الوحي أمر خاص بالنبي ، وحديث خفي من جبرئيل إليه ، وسمع باذنه ونقر بقلبه ، إنما يتجلى الوحي من وجوه :
الأول : حال الشدة والتفصد عرقاً في أوان شدة البرد ، فينفصم عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوحي ، وجبينه يتفصد عرقاً .
الثاني : إصابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكرب والحزن والمشقة ساعة نزول الوحي.
و(عن عبادة بن الصامت قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وترمَّد وجهه)( ).
الثالث : سماع من حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصواتاً غير مألوفة كدوي النحل .
الرابع : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآيات الباهرات ، وإخباره عن المغيبات بعد إنفصام الوحي .
وليس من حد لفضل الله عز وجل على الأنبياء عامة ، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ، وفي خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]( )، فتوالت المعجزات عليه ، وصاحبته في دعوته إلى الله عز وجل.
وكل آية قرآنية معجزة وأمر خارق عجزت العرب في بلاغتها وأشعارها ورجزها وقريضها أن تدرك مسالكه.
ليأتي الذكاء الإصطناعي في ثورة فكرية وعلمية مذهلة ، ولكنه يتخلف عن سبر أغوار الآية القرآنية ، ومنها آية البحث.
ومن دلالاتها أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتخذ نداؤه الذكاء الإصطناعي متكأ لقانون وجوب التوحيد والتصديق بنبوته ، وتأكيد ملائمة أحكام القرآن لهذا الزمان ، وللأزمنة اللاحقة التي تأتي فيها علوم مستحدثة أخرى.
لبيان قانون سبق معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأفراد الزمان الطولية ، وأن معنى معجزة القرآن العقلية لا يختص بمخاطبة العقول بل يشمل عصمته وثبات وثبوت إعجازه مع إرتقاء العلوم.
ليتجلى قانون حاجة العلوم للقرآن وعلومه ، ففي زمان الذكاء الإصطناعي يسمع الناس جميعاً نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان ، ومنها معجزات القرآن ، ولا يختص هذا السماع بالمسلمين دون غيرهم .
بحث منطقي في النسبة بين خديجة (ع) وبقية أزواج النبي (ص)
قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا]( ).
سألتي أحد الفضلاء اليوم هل خديجة من أمهات المسلمين مع أن الآية أعلاه نزلت في المدينة ولم تكن هي من الأحياء إذ توفيت (قبل الهجرة بثلاث سنين وثلاثة أشهر ونصف شهر)( ).
والجواب نعم هي من أمهات المسلمين وقد أكرمها الله فهي أول من أمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعها الإمام علي عليه السلام.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكرها بالحسنى ويثني عليها ويبالغ في مدحها بعد وفاتها ويصل أقاربها وصديقاتها .
وقول عائشة المشهور عند كل المسلمين (ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة من كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها)( ).
والنسبة بين خديجة وأزواج النبي محمد عموم وخصوص مطلق ، فمادة الإلتقاء بينهن الفوز بمرتبة أمهات المؤمنين ، وصحبة النبي اليومية.
أما ما تنفرد به خديجة فهو متعدد منه :
الأول : هي والإمام علي أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : جاهدت خديجة بأموالها .
الثالث : عانت من الحصار الذي فرضته قريش على بني هاشم في شعب –بكسر الشين- أبي طالب والذي استمر ثلاث سنين من السنة السابعة إلى العاشرة للبعثة النبوية .
الرابع : انفردت بين أزواج النبي محمد بأنها من سيدات نساء الجنة.
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أفضل نساء العالمين خديجة ، وفاطمة ، ومريم ، وآسية امرأة فرعون)( ).
الخامس : خديجة أم فاطمة سيدة النساء وأم أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الآخرين ، عدا إبراهيم فانه من مارية وهي سرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليست من أزواجه.
السادس : لم يتزوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة إلى حين وفاتها .
السابع : ضارب معها النبي محمد في مالها في التجارة .
ولم تكّذب خديجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما كذبت امرأة نوح نبوته ، وكما كذّبت امرأة لوط نبوته .
الثامن : كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها .
والآية أعلاه هي السادسة من سورة الأحزاب وهي سورة مدنية أي نزلت بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وكانت خديجة قد توفيت قبل هجرة النبي محمد بثلاث سنوات .
وموضوع الآية هو وجوب إكرام المسلمين لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وحرمة نكاحهن من بعده.
وسبب نزول الآية أن طلحة بن عبيد الله قال (إذا مات محمد لاتزوجن عائشة بنت عمي) وكان طلحة من تيم أيضاً .
إذ ورد عن ابن عباس (قال رجل من سادات قريش من العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حراء في نفسه لو توفي رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لتزوجت عائشة وهي بنت عمي.
قال مقاتل : هو طلحة بن عبيد الله.
قال ابن عباس : وندم هذا الرجل على ما حدث به في نفسه فمشى إلى مكة على رجليه وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله وأعتق رقيقا فكفر الله عنه)( ).
ومنهم من ذكر الخبر بالكناية عن الصحابي من دون ذكر اسمه .
والمدار في موضوع وحكم الآية على عموم المعنى وليس على سبب النزول ، فجاءت صفة الزوجية من النبي لخديجة إكراماً إضافياً لها بعد وفاتها .
ليكون ثناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها وصلته لإقاربها وصديقاتها من رشحات هذه الآية .
ويمكن أن نستدل فيه بمسألة مغايرة لما يقال في علم الأصول بعدم صحة الإستصحاب القهقري وهو ما كان مشكوكاً في الزمن السابق ، وتحققه يقيناً في الزمن اللاحق .
فلا يشمله دليل الإستصحاب لأن القدر المتيقن منه هو الشك اللاحق مع اليقين السابق ، بينما تشمل مضامين الآية وصفة الزوجية خديجة في قوله تعالى [وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( )، وان توفيت قبل نزول الآية.
وفي هذا الإستدلال المستحدث دعوة لعلماء الأصول للرجوع للقرآن شاهداً وحجة وضياء وبرهاناً قاطعاً.
قضاء الصلاة سلام
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وقد سألني أحد الخطباء ممن يحضر بحثي الخارج في الفقه والأصول والتفسير منذ أربع وعشرين سنة في مكتبي المتواضع والحمد لله من بعد أمتار معدودات عن ضريح أمير المؤمنين علي عليه السلام.
سألني عن جواز صلاة قضاء الفوائت لمن بدل صلاة ألف ركعة النوافل التي وردت عن الإمام الصادق عليه السلام بصلاة عشرين ركعة في العشرين الأوائل من رمضان عدا الليلة التاسعة عشرة فيصلي فيها مائة ركعة ، وكذا في الليلة الواحدة والعشرين والثالثة والعشرين ، ثم ثلاثين ركعة في كل ليلة من ثمان ليال الأواخر منه ، فيكون المجموع تسعمائة وعشرين ركعة ، منها عشرون ركعة في اليوم العشرين من شهر رمضان .
إذ ورد عن المفضل بن عمر عن الصادق عليه السلام (أنّه قال: تصلّي في شهر رمضان زيادة ألف ركعة : قلت : ومن يقدر على ذلك ؟ قال : ليس حيث تذهب ، اليس تصلّي في شهر رمضان زيادة ألف ركعة في تسع عشرة منه في كلّ ليلة عشرين ركعة، وفي ليلة تسع عشرة مائة ركعة، وفي ليلة إحدى وعشرين مائة ركعة، وفي ليلة ثلاث وعشرين مائة ركعة، وتصلّي في ثمان ليال منه في العشر الأواخر ثلاثين ركعة، فهذه تسعمائة وعشرون ركعة)( ).
والمختار نعم يجوز أداء قضاء صلاة الفوائت اليومية لمن فاتته عن عذر أو تقصير بدل هذه النوافل للصلاة اليومية الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، والصبح مع مراعاة الترتيب ، وهذا الجواز لوجوه :
الأول : قاعدة تقديم الأهم على المهم .
الثاني : تقديم الواجب أداء أو قضاء على المستحب ، وكذا في الصيام فان قضاء ما فات من الصيام أولى وأحق من الصوم نافلة ، قال تعالى [وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ) حتى على القول بأن زمن القضاء موسع وهو المختار .
الثالث : إنه نوع رجاء وتوسل عملي من المسلم بأنه يعلم عليه صلاة قضاء ويسعى في أدائها .
الرابع : الحرص والإجتهاد في قضاء الفوائت دليل على التقيد بأداء الصلاة في أوقاتها وعدم التفريط بها .
الخامس : ورد في قضاء الدّين عن الميت في قضية الخثعمية لما سألت (قالت: يا رسول الله ان فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبى شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه ؟ قال: نعم وذلك في حجة الوداع، متفق عليه.
وعن ابن عباس قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وآله فقال: ان أختى نذرت أن تحج، و انها ماتت فقال النبي صلى الله عليه وآله: لو كان عليها دين أكنت قاضيه: قال: نعم، قال: فاقض دين الله ، فهو أحق بالقضاء)( ).
ويدل جواب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فاقض دين الله ، فهو أحق بالقضاء) على الإطلاق في وجوب القضاء عن الميت وقضاء الحي عن نفسه الصلاة ، والصيام ، والحج ، والزكاة ، والخمس ، إلا أن يدل دليل على الخلاف .
السادس : إتيان فوائت الصلاة من مصاديق التوبة والصلاح وانشغال المسلم بعباداته أداء وقضاء مظهر من مظاهر السلم المجتمعي ، وحبس النفس عن إيذاء الغير .
رزق السجناء
قال تعالى [قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ]( ).
بيان معجزة ليوسف عليه السلام بالإخبار عما يأتي من الطعام للسجناء ، وتدل تسميته رزقاً على أنه في اليقظة ، ولأصالة الظاهر ، وأن الأصل هو حال الإنسان في اليقظة ، ولقوله تعالى [لاَ يَأْتِيكُمَا]و[قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا] الذي يدل على أنه أمر وجودي وليس عدمياً .
خلافاً لما ذهب إليه مشهور المفسرين بأن المراد ما يأتيكما في الرؤيا.
ما هو وما لونه ، وما مقداره وأوانه ، وهو من علم الغيب تلقاه يوسف بالوحي والإلهام ، لذا قال تعالى [ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي] ( ) لمنع الإفتتان به ، وللإخبار بأنه ليس من الكهنة أو أهل التنجيم ، ولبيان أن هذا الإخبار من علم الغيب ، وموضوع محاضرتنا استنباط مستحدث وهو عدم جواز إضراب السجناء ، إذا تهيئت لهم وسائل للتعبير وبيان الحاجة أكثر نفعاً من الإضراب لبيان أذاهم والمظلومية الإضافية التي يتعرضون لها .
وقد صدر لي قبل ثلاث وثلاثين سنة كتاب تفسير سورة يوسف والمسجل في دار الكتب والوثائق في بغداد برقم 272 لسنه 1991
قال تعالى [وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى]( ) ولما في هذا الإضراب وشدته من ظلم للنفس وأذى إضافي بشرط تهيئة وسائل للسجناء لبيان مدى الأذى الذي هم فيه مما يخالف الضوابط الإنسانية وأحكام السجون ، والسعي عند الجهات المختصة لحل المشاكل التي يلاقون .
، ولم يكن في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سجن ، ولا في أيام أبي بكر .
وقد دعا يوسف عليه السلام لأهل السجن : اللهم أعطف عليهم قلوب الأخبار ، ولا تعم عليهم الأخبار )( ) .
وكتب يوسف عليه السلام على باب السجن عند دعوة الملك له (هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان وحرقة الأصدقاء وشماتة الأعداء)( )، وخطاب يوسف في الآية المتقدمة لصاحبي السجن وهما من الكفار .
والرزق ما ينتفع منه من الحلال وأطلق بعضهم معنى الرزق ليشمل الحرام ، وفي الرزق أطراف:
الأول : الرازق وهو الله عز وجل ، ومن صفاته أيضاً الرزاق ، ولا يقال إلا لله عز وجل ، فهو المتصرف في ملكه بالحكمة والفضل على الخلائق ، وهو الذي يرزق الناس والخلائق جميعاً ، وفي التنزيل [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ]( ).
لبيان تفضل الله برزق الناس جميعاً مع تعدد الجهة التي يأتي منها الرزق ، والسعة فيها ، والله عز وجل يرزق النملة في الصخرة في البحر ، وهو سبحانه الذي يجعل الرزق يصل إلى السجناء ويخفف عنهم أحزانهم ، ويدعوهم للإلحاح بالدعاء والمسألة ، لقوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثاني : الرزق ، والله يشمل الطعام والأموال والثمار ، وما هو ملبوس ومطعوم ومشروب ومسكون كالعقار ، وسواء أكان في الدنيا ، أو في الآخرة ، قال تعالى [عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ) وقال تعالى [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ]( ).
ومن أبهى مصاديق الرزق الهداية والإيمان ، والسلامة من الفتنة والإفتتان وسيادة حال السلم والسلام والأمن في المجتمعات وبين الدول.
وهل في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، سؤال للنجاة من دخول السجن ، الجواب نعم .
والآية أعلاه محكمة غير منسوخة ، وهل هي من آيات السلم ، المختار نعم ، لما فيها من الإنقطاع إلى الدعاء وسؤال الهداية والصلاح .
وزمان يوسف عليه السلام متقدم زماناً على زمان موسى عليه السلام بنحو أربعمائة سنة ، فيوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم .
والتأويل ورد بمعاني متعددة قال تعالى في يوسف [وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ) ، والنسبة بين الأحاديث وتأويل الرؤيا عموم وخصوص مطلق .
والرزق بيد الله عز وجل ، وليس من حصر في الإيمان ، والبدن والصحة والولد والمال والطعام والزوجة الصالحة ، وصرق ضروب البلاء ، قال تعالى [هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ]( ).
و(عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن روح القدس نفث في روعي : أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)( ).
الدفاع والضرورة في معركة بدر
قال تعالى [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا]( ).
هذه الآية بخصوص واقعة بدر ، والمراد من العدّوة الدنيا شفير الوادي الأقرب إلى المدينة ، والعدوة القصوى شفير الوادي الأقصى ، والمراد من الركب أبو سفيان وقافلته وكان عددها ألف بعير قادمة من الشام محملة بالبضائع كالذهب والفضة والحنطة والشعير والقطن والكتان ومعها أربعون رجلاً.
فالتقوا على غير ميعاد لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج لقتال ، وكان عدد أصحابه ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وعدد جيش المشركين الزاحف من مكة تسعمائة وخمسين أي أكثر من ثلاثة أضعاف عدد المسلمين في الميدان .
هذا في العدد أما في الخيل والعدة والإبل فأكثر من عشر أضعاف ، فمثلاً كان عند المسلمين فرس واحدة وقيل فرسان ، بينما عند المشركين مائة فرس.
وعند المسلمين سبعون بعيراً أجهدوها بالتعاقب عليها كل ثلائة أو أربعة على بعير واحد ، بينما جاء المشركون بأكثر من سبعمائة بعير .
وكانوا يذبحون في الطريق من مكة إلى معركة بدر كل يوم تسعة أباعر وأحياناً عشرة أباعر ، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ذبحوا بعيراً في الطريق لحاجتهم إلى الإبل وركوبها.
ومع أن الاسم غير المسمى ولكنه يدل على المسمى والموضوع إذ تسمى معركة بدر في كتب التفسير والسيرة والتأريخ (غزوة بدر) للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا أصل لهذه التسمية .
إنما كان المشركون هم الغزاة ، وهم الذين أصروا على القتال ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما التقى الجيشان يرجو أن لا يقع القتال.
لذا صدر لي والحمد لله من معالم الإيمان (سبعة وعشرون جزءً) بقانون (لم يغز النبي (ص) أحدا) ، و(سبعة أجزاء) بقانون (آيات الدفاع سلام دائم).
قانون كتائب النبي محمد (ص) سلام
لقد كان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة نحو مياه بدر على وجوه :
الأول : الخروج في كتيبة استطلاع .
الثاني : نشر للدعوة الإسلامية .
الثالث : إقامة الصلاة في أفواه القرى .
الرابع : الإلتقاء بعامة الناس .
الخامس : رؤية الناس للمعجزات الحسية .
السادس : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه القرآن وما فيه من البشارة والإنذار .
السابع : عرض قوة الإسلام ، وبيان الشواهد على كثرة أصحاب رسول الله .
الثامن : تعليم الصحابة أداء الفرائض والخلق الحميد .
التاسع : حبس النفس عن الغزو وعن الإستيلاء على أموال الناس ، قال تعالى [وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
العاشر : بيان قانون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب وبعثه السرايا بالوحي .
الحادي عشر : تنمية ملكة طاعة الله ورسوله عند المسلمين ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ]( ).
الثاني عشر : بعث الخوف في قلوب المشركين ، وزجرهم عن العزم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( ).
الثالث عشر : كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلام ودعوة للسلم .
فيمر على قرى وشياه وإبل المشركين ولا يتعرض لها ، ولكن مشركي قريش الذين أرادوا قتله في فراشه وهاجر في نفس الليلة من مكة جهزوا الجيوش لقتاله بذريعة أنه يريد الإستيلاء على قافلة أبي سفيان .
ثم بعث أبو سفيان قد بعث (إلى قريش وهم بالجحفة : إني قد جاوزت القوم فارجعوا . قالوا : والله لا نرجع حتى نأتي ماء بدر)( ).
أسماء هذه المعركة
الأول : تسمى غزوة بدر : وبدر ماء تمر عليه القوافل ، وقيل فيه سوق في شهر شعبان من كل سنة للتجارة .
الثاني : غزوة بدر الكبرى : لموضوعيتها في تأريخ الإسلام .
الثالث : بدر القتال : لوجود كتيبة لاحقة باسم غزوة بدر لم يقع فيها قتال.
الرابع : غزوة بدر العظمى .
الخامس : معركة بدر : وبدر بئر في الموضع لرجل اسمه بدر ، ومنهم من أنكر سبب التسمية هذه .
السادس : يوم الفرقان : لتسميتها في القرآن بهذا الاسم ، قال تعالى [وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه التنبيه لوجوب العناية بالتنزيل حتى في يوم المعركة ، فليس المهم القتال في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إنما الأهم هو التنزيل .
وكل آية لها قدسية وشأن خاص [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ويمكن تسمية كلِِ من واقعة بدر وواقعة أحد بقوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ].
ولم يأت هذا الاسم لواقعة الخندق ، فليس فيها لقاء جيشين ، ولا لواقعة حنين لأن المشركين من هوازن وثقيف باغتوا المسلمين .
وتبين الآية أعلاه الصلة بين :
الأول : البشارة بجلب المسلمين الغنائم والأموال.
الثاني : وجوب التقيد بدفع الزكاة والخمس .
الثالث : صرف الزكاة في مواردها الخاصة ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الرابع : الإيمان بآيات القرآن التي نزلت يوم بدر ، لبيان موضوعية كل آية من القرآن ولزوم الإيمان بالآيات على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والإفرادي .
الخامس : بيان موضوعية يوم بدر في الإسلام بتسميته يوم الفرقان ، ويكون من تقديره جهات :
الأولى : يوم الفرقان بين الحق والباطل .
الثانية : يوم الفرقان بين الإيمان والشرك .
الثالثة : يوم الفرقان بين عبادة الله الواجبة وانقطاع عبادة الأوثان .
السادس : إختتام الآية بأن الله لا تستعصي عليه مسألة وهو الذي يظهر دين الإسلام .
قانون حسن المناظرة سلام
يظهر قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( )، التوظيف الحسن للمناظرة ، وعدم إرادة أهل الإيمان بها ، بل يقصد بها أهل الكفر والضلالة لتحديهم واظهار ما هم عليه من الباطل والكذب لتنبيه أعوانهم لمواطن النفاق التي اختاروها لأنفسهم .
ويخرج من الظلمات الذين يهتدون الى سبل الإيمان والباحثون عن الحقيقة وأسرار علة الخلق ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ *إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( ).
وجاء الإحتجاج لدحر الطاغوت الذي يخرج الناس من النور الى الظلمات، ووضع حاجز عقلي وعرفي بينه وبين الناس واتاحة الفرصة لهم بالتدبر بآيات الخلائق ، والنظر الى الملك بعين الإنسانية والإمكان والضعف والوقوع الحتمي للموت عليه.
والخطاب في الآية (أَلَمْ تَرَ) موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين من خلاله بل الناس جميعاً لتبقى مناظرة إبراهيم خالدة ينتفع منها البر والفاجر ولبيان منافع الإحتجاج في سبيل الله تعالى واهمية الدعوة عند السلطان الكافر وكيف أنه يغني عن السيف والقتال.
والتعجب الذي تدل عليه لغة الآية يبعث الشوق في النفس للتأمل في الإحتجاج ومتابعة القصة وتفاصيلها لذا لابد ان تكون نتيجتها بشارة قانون سكينة للمؤمنين وواعزاً للهداية واخباراً عن الأمن والسلامة .
وتبين الآية الزجر والنهي عن الشك في الذات المقدسة والتردد في وجود الصانع الخالق ووجوب عبادته .
اذ ان التعجب القرآني يعني في مفهومه الوعيد والتخويف والإنذار بزوال الملك واستحقاق البطش الإلهي، لأن الملك من عند الله تعالى فمع الكفر والجحود ينتفي الملك عن عدو الله لوجود المقتضي وفقد المانع والظاهر انه جزء من فلسفة خلق الإنسان وديمومة الحياة في الأرض
فمن رحمة الله تعالى بالناس قانون زوال ملك الضلالة والكفر كيلا يكون آلة للإغواء النوعي العام للناس وغلبة مبادئ الكفر والجحود على اكثر حالات المجتمعات ، لقانون منع انتشار مناهج الجهالة والغواية، قال تعالى [قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-]( ).
نعم لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار ابتلاء وامتحان وصراع بين الإيمان والكفر ولكنه لايعني استدامة طغيان الكفر وتوليه لشؤون السلطنة في بقاع الأرض، وانت ترى الشواهد التاريخية هذا فتارة تبرز دولة ايمان وتارة دولة كفر وتارة برزخ بينهما وكل من هذه الثلاثة على مراتب تشكيكية متفاوتة ولكن اضعفها واوهنها دولة الكفر، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
وترى من داخلها شعاع نور الإيمان يطلب الإتساع والإنتشار، والنور وان كان خيطاً ضعيفاً فانه يكون بيناً ظاهراً بهياً وسط الظلام يجذب القلوب ويلفت الأنظار كذلك احتجاج إبراهيم فقد كان ثورة وسط البلاط، ونبراساً ودعوة لقادة ووجهاء المملكة للرجوع الى الحق ونبذ الكفر إلى أن بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لينحسر الكفر ، وتمت إقامة دولة له في الأرض ، وهو من المعجزات العامة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قانون إنحسار أثر الطاغوت
لقد قضت هذه الآية وشبهها على تأثير الطواغيت على النفوس ومنعت من ظهور قول أحدهم بالربوبية في الأرض، ونهت عن الإنقياد لمن يحاول الخروج عن مفاهيم العبودية وما يلازمها من الإمكان والنقص والحاجة.
وذكر ان الذي حاج إبراهيم هو نمروذ بن كنعان وأنه أول من تجبر وادعى الربوبية، وفي حديث الإسراء عن الإمام علي قال: “كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صبيحة يوم الليلة التي أسري به فيها وهو بالحجر يصلي .
فلما قضى صلاته وقضيت صلاتي سمعت رنة شديدة فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة؟
قال: الا تعلم، هذه رنة الشيطان علم انه أسري بي الليلة الى السماء فآيس من ان يعبد في هذه الأرض”( ).
وفي الحديث (أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم لما بايع الأنصار ليلة العقبة صاح الشيطان يا أهل الجباجب( ) هذا مذمم يبايع بني قيلة على حربكم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا إزب العقبة أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك ] أي أقصد إلى إبطال أمرك)( ).
لقد جاء الإسلام بقانون القضاء على دعوى أمثال فرعون الربوبية في جزء من الأرض، وهذه الجزئية وعجزه عن بسط سلطانه على خارج أرض مملكته فضح وخزي له في الأرض إلى الأبد.
وتمنع الآية الإنسان من اتباع الشيطان في اغوائه للتجبر وادعاء ما يخرجه عن الإمكان والنقص والضعف والحاجة ومقامات العبودية، وقمع الشيطان والحد من سلطانه على النفس الإنسانية.
وعن مجاهد: أن نمرود بن كنعان و هو أول من تجبر و ادعى الربوبية)( )، وعلى هذا القول تتجلى آية من اللطف الإلهي بالعباد وتغشي رحمة الله للناس جميعاً، فعندما يظهر الكفر ويسود الجحود، ويستولي الكافر المتجبر على الحكم يبعث الله عز وجل رسولاً بآيات قاهرة، لتأكيد قانون في الأرض وهو إستدامة التخلية بين الناس والتدبر في آيات الله وإدراك حقيقة لزوم عبادته.
فإن قلت هذا في أيام النبوة والتي إنقطعت بإنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، فكيف لو حصل إستحواذ جبار على الحكم في الأزمنة اللاحقة.
والجواب لقد أصبح هذا الإستحواذ سالبة بإنتفاء الموضوع وأمراً ممتنعاً بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ونزول القرآن حجة عقلية دائمة في الأرض ووجود أمة مؤمنة تدعو الله وتفضح الكفر ومفاهيمه، وتجاهد في سبيل الله بالمال والنفوس لإعلاء كلمة التوحيد، وقهر الكفر ومفاهيم الضلالة نعمة عظمى على أهل الأرض ، قال تعالى[الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وعن مجاهد قال: ملك الأرض مؤمنان وكافران ، فأمّا المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين، وأمّا الكافران فنمرود وبخت نصر)( ) .
ويحتاج هذا الحصر وإطلاق الملك إلى دليل من كتاب أو سنة أو تأريخ معتبر ، وإلا فإن شتى المذاهب حكمت الأرض وتناوب على الحكم الصالحون والجبارون ، إلى أن صارت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة لأهل الأرض.
لينقطع حكم الطواغيت والجبارين بالسلم العام في أقطارالأرض ، وليس في الجزيرة وحدها ، وهو من الشواهد على أن موضوع آيات السلم عام يتغش أهل الأرض .
لماذا أخبر الله الملائكة عن خلافة الإنسان في الأرض
لله عز وجل المشيئة والتصرف المطلق في السموات والأرض [وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ترى لماذا أخبر الله عز وجل الملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، مع أن خلافته بعيدة عن مسكن الملائكة في السموات ولا تتعارض معها .
الجواب لا يعلم أو يحصي كثرة أسباب وعلل وغايات هذا الإخبار إلا الله عز وجل وهي توليدية متجددة ومتشعبة ، ونستقرأ بعضها من آيات القرآن والحديث النبوي ومنها :
الأول : الفضل من الله عز وجل ولطفه بالملائكة .
الثاني : ليجتهد الملائكة بالتسبيح والتهليل .
الثالث : بيان موضوعية خلافة الإنسان في الأرض في السموات أيضاً.
الرابع : قانون تعدد التفضيل من عند الله ، إذ فضل الله الملائكة بالسكن في السموات ، من غير خلافة ، وفضل الإنسان بالخلافة في الأرض .
الخامس : بيان المشيئة المطلقة لله عز وجل في السموات والأرض.
السادس : قانون إتحاد سنخية السموات والأرض ، وإنقياد الخلائق لله عز وجل .
السابع : تهيئة الملائكة لكتابة وإحصاء عمل الناس .
الثامن : البشارة للملائكة ببعثة الأنبياء في الأرض .
التاسع : بيان خلق الله عز وجل لجنس من المخلوقات يختلف عن الملائكة من وجوه عديدة منها جمع الإنسان بين العقل والهوى ، ويبعث أفراده يوم القيامة للحساب .
العاشر : بيان أهلية الإنسان للخلافة في الأرض بعمارتها بالتقوى والصلاح وعبادة الله، قال تعالى [يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]( ).
الحادي عشر : دعاء الملائكة للمؤمنين وحاجتهم لهذا الدعاء ، قال تعالى [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ]( ).
كيف علمت الملائكة بفساد الإنسان
لقد ذكر القرآن فضل الله عز وجل في إخبار الملائكة عن جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وهذه الآية مدرسة في المعرفة الإلهية سواء بالنسبة للشطر أعلاه أو لتمام الآية الكريمة وهو قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ). النسبة بين سفك الدماء وزهوق الروح عموم وخصوص مطلق ، فسفك الدماء أعم ويشمل الجراحات ، وكسر الأعضاء ، وهو من الإعجاز في رأفة الملائكة بالناس .
ولم تذكر الآية الكريمة في الفاظها كيفية معرفة الملائكة بفساد الإنسان في الأرض ، وكثر الحديث والتحليل في هذا الموضوع ، ولكن الأهم هو مضامين الآية القدسية ، والمواعظ والقوانين المستنبطة منها ، لذا تجد ذكر شذرات منها في أجزاء متعددة من هذا السِفر المبارك ، وبخصوص كيفية معرفة الملائكة هذه وجوه :
الأول : لقد قاست الملائكة على الجن الذين كانوا يعمرون الأرض .
الثاني : القياس على أصناف أخرى غير آدمية ، روي عن ابن عباس ومقاتل وغيرهم .
الثالث : علمته الملائكة من طبيعة الإنسان وجمعه بين العقل والهوى .
الرابع : فهم معنى الخليفة بالبرهان الإني بأن الخليفة الذي يفصل بين الناس في الخصومات والمظالم ، فلابد من وجود ظلم وتعدد وجوه الخصومة والتعدي .
الخامس : إخبار الله عز وجل للملائكة بما سيفعله الإنسان ، وبه قال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة .
والمختار هو الأخير ، إذ نزل القرآن بجوامع الكلم ، لذا أسستُ في هذا السِفر علم (التفسير بالتقدير) ومنه في المقام وجوه :
الأول : [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] من الأنبياء يكذبه ويقاتله المشركون ، فصار احتجاج الملائكة على فعل المشركين.
ليكون كلام الملائكة توسلاً إلى الله عز وجل بعدم وقوع معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين ، ليكون جواب الله عز وجل لهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، أي اني أعلم بنزولكم لنصرة الأنبياء ، واستدامة كلمة التوحيد في الأرض لبيان قانون أن الذي يتساءل عن فضل الله عز وجل ، فانه سبحانه يريه الحق ويجعله مستغفراً شاكراً .
الثاني : تفضل الله عز وجل وعلّم آدم الأسماء كلها وعرض المسميات على الملائكة ، فلم يستطيعوا معرفتها ، وقام آدم بتعليمهم بأمر من الله عند [قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( ) لبيان أن علم الملائكة محدود ، وأنهم بحاجة إلى رحمة الله .
الثالث : أني جاعل في الأرض التي هي من ملكي خليفة .
الرابع : أني جاعل في الأرض خليفة لأمتحانه وإختباره ، ليشكر الملائكة الله عز وجل بسقوط الإبتلاء والإمتحان عنهم .
الخامس : [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا] وهناك من الناس من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، أي ليس ذات الخليفة هو الذي يفسد في الأرض ويقتل بغير حق لذا تجد احتجاج الملائكة ورد بصيغة التنكير [أَتَجْعَلُ فِيهَا] فيكون تقدير تساؤل الملائكة : اتجعل فيها مع الخليفة ومن ذرية الخليفة من يفسد فيها ويسفك الدماء ، ويرد على هذا القول المستحدث منّا وصف عامة الناس بالخلفاء ثلاث مرات :
الأولى : وفي قوم هود قال تعالى [أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ]( ).
الثالثة : نزول الخطاب من الله عز وجل إلى المسلمين [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ]( ).
لتكون الخلافة على وجهين :
الأولى : الخلافة الخاصة من عند الله عز وجل وهم الأنبياء والرسل والأئمة والأولياء .
الثاني : الخلافة العامة بأن يخلف الناس بعضهم بعضاً .
وهذا الوجه الثاني فرع الأول وفي طوله ، وكل منهما يصدق عليه قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وعلى هذا التقسيم هل يصح تقدير معنى الخليفة على قسمين :
الأول : إرادة كلي في المعين الخاص بالأنبياء والأوصياء .
الثاني : إرادة اسم الجنس الإستغراقي الشامل للناس جميعاً.
فاحتج الملائكة على الوجه الثاني أعلاه .
لقد أطلع الله عز وجل الملائكة على جانب من أعمال بني آدم في الأرض لتكون مقدمة لكتابتهم وإحصائهم لأعمالهم وليحضروا معهم للشهادة يوم القيامة .
وجاء في هذا الزمان الذكاء الإصطناعي الذي يصور ذات الطفل الصغير كيف تكون هيئته بعد ستين سنة مثلاً ، وكيف يقوم ببعض الأفعال وإن لم يكن بالدقة العقلية أو العرفية ، وهو من مصاديق [عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ) .
ومن مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ) كفاية آيات السلم في هداية الناس وإصلاح المجتمعات، وبقاؤها محكمة غير منسوخة .
فلسفة الحوار في الإسلام سلام دائم
يتجلى قانون آيات السلم محكمة غير منسوخة بمضامين آيات القرآن ، بأولوية منهاج الحوار في القرآن والسنة النبوية ، وسيرة المسلمين المستقرأة بالفطرة والتفقه في القرآن والسنة النبوية .
لذا نؤسس هنا لقانون استقراء أحكام آيات السلم من الآيات الأخرى والسنة النبوية ، ومن هذه الآيات آيات الحوار ، وآيات العبادات والأحكام ، ومنها آيات الإمهال والإستغفار والإنابة والتوبة .
ومن آيات الحوار تفضل الله عز جل بإخبار الملائكة عن خلق آدم وتنصيب الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لبيان إكرام الله عز وجل للإنسان من حين خلقه وما له من شأن بين الخلائق ، ثم خاطب الله عز وجل آدم وهو في الجنة من جهات :
الأولى : الأمر من الله لآدم بتعليم الملائكة الأسماء .
الثانية : نهي الله لآدم وحواء من الأكل من الشجرة .
الثالثة : تحذير آدم وحواء من إغواء إبليس، قال تعالى [فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى]( ).
وإذ نعت الله عز وجل إبليس بأنه عدو لأدم وحواء ، وأشار إليه بصيغة الحضور واسم الإشارة القريب (هذا ) فقد ورد نعته بالخطاب إلى الناس بأن إبليس عدو مبين لهم ، كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ]( ) وقوله تعالى [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
ومن الإعجاز في القرآن وصف إبليس بأنه عدو لآدم وحواء ، وبالنسبة للناس عامة والمسلمين خاصة فانه عدو مبين .
فاذا كانت عداوة إبليس لآدم وحواء أخرجتهما من الجنة ، فان عداوته لبني آدم أشد لأنه يقود الذين يتبعونه إلى النار ، وليس للهبوط من الجنة فقط .
وهل كانت إقامة آدم وحواء في الجنة ، واختلاطهما مع الملائكة برزخاً دون شدة عداوة إبليس لهما ، الجواب نعم .
ترى ما هي النسبة بين الحوار والجدال ، المختار هو العموم والخصوص المطلق ، وأن الحوار أعم ، ويدل عليه قوله تعالى [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ]( ) فهي تجادل والنبي يحاور .
لبيان أن الله عز وجل يسمع كل جدال ، ليأتي الثواب للمؤمن في جداله وحواره ، بما فيه تعظيم شعائر الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفيه شاهد على موضوعية الحوار في الدعوة إلى الله عز وجل ، وأنه سبيل إلى الهدى والرشاد .
لذا نزل القرآن بالتحذير بخصوص سنخية الجدال ، قال تعالى [وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ]( ) ونزلت هذه الآية (في طعمة بن أبيرق إذ استودعه يهودي درعاً فجحده إياها وخانه فيها وطرحها في دار أبي مليل الأنصاري ، وأراد أن يرميه بسرقتها لما افتضح ، وأبو مليل هو البريء المشار إليه .
وقال عكرمة : سرق طعمة بن أبيرق درعاً من مشربة ورمى بسرقتها رجلاً من اليهود يقال له : زيد بن السمين .)( ) قال تعالى [وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا]( ) ومعنى خصيماً أي معيناً ، واللام هنا لام الإختصاص ، وتسمى لام الإستحقاق ،ويلحق العلماء والملوك والقضاء والمسلمين جميعاً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضوع هذه الآية والنهي الوارد فيها ، والآية من آيات السلم لمنعها من الإجحاف والظلم ومقدمات الفتنة والإقتتال .
(وقيل : إن الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد به غيره)( ).
والمختار أن المراد بالآية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون إنما عصم الله عز وجل النبي محمداً من إعانة الخائنين بآيات القرآن والوحي المتصل ، وهذه العصمة أعلى مراتب العصمة وهي من الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وموضوع الآية يشمل أصحاب السيئات الذين يلزم توبيخهم ، وفيه زجر عن الحمية القبلية ونحوها ، وما تؤدي إليه من غلبة النفس الغضبية .
ولم يذم القرآن الجدال مطلقاً ، إنما دعا إلى الجدال بالحجة والبرهان الذي هو دعوة إلى الله ، وتعضيد لهذه الدعوة ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( ).
أمثال القرآن سلام
لقد تعددت علوم القرآن ، وأسس لعلوم قائمة على الصدق والحكمة والبلاغة بأمثال تتصف بالموعظة .
والأمثال في القرآن على وجوه :
الأول : الأمثال الصريحة التي ورد فيها لفظ المثل ونحوه ، منه قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ) .
الثاني : الأمثال الكامنة ، وهي التي لم يرد فيها تصريح بلفظ المثال ، ولكنها تدل عليه ليكون مدرسة في الفهم والتدبر ، ومنه قوله تعالى [وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ]( ) .
وهل يصح إتخاذ آيات القرآن كمثال مرسل ، فيه وجهان :
الأول : عدم جواز التمثيل بآيات القرآن في الواقع بما فيه خروج عن أدب القرآن كما في القول عند المتاركة[لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ).
الثاني : جواز التمثيل بالقرآن في مقامات مخصوصة يكون فيها استحضار لذكر الله ، وبيان صدق التنزيل ، ومناسبته لكل الوقائع ، مثل ذكر آيات الصبر عند المصيبة ، قال تعالى [فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ]( ) .
ولا يجوز إتخاذ آيات القرآن مثالاً في المغالطة والقول الباطل ، أو في مقام الهزل والمزاح .
قال تعالى [وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ]( ) وفي الآية مسائل :
الأولى :قانون ترغيب الناس بالتدبر في أمثال القرآن .
الثانية : قانون بيان الإعجاز في المثل القرآني .
الرابعة : قانون الثناء على المسلمين لإتخاذهم الأمثال القرآنية موعظة وحجة .
الخامسة : قانون الأمثال القرآنية رحمة للناس كافة .
السادسة : قانون إحاطة الأمثال القرآنية بالوقائع إلى يوم القيامة إذ ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( )، بصيغة العموم الإستغراقي المتجدد (للناس) في كل زمان ، وهل هو من الشواهد على سلامة القرآن من التحريف ، الجواب نعم .
ومن معاني المثل أنه ماثل بالوجود الذهني للإنسان بحضوره من خلال لغة التشبيه .
ومن معاني عدم اللجوء إلى السيف والقتال كفاية ما في المثال القرآني من الدلائل والزجر عن الكفر ، وبيانه لقبح النفاق.
وورد لفظ [مَثَلًا لِلَّذِينَ] مرتين في القرآن في آيتين متعاقبتين بين موضوعيهما تباين وتضاد ، قال تعالى [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( ) لبيان موضوعية الجوار بين الآيات في الدلالة وتيسير استنباط الأحكام من القرآن .
المثل الصريح في القرآن
الأمثلة في القرآن علم مستقل بذاته ، يقرب الدلائل العقلية بالمدركات الحسية وإخراج الغامض والمبهم إلى الظاهر مع الحضور في الوجود الذهني والمجتمعات .
وبيان التشبيه بين الطرفين مع إدراك الناس لعدم المطابقة بينهما ، ومن الإعجاز في المثل القرآن معرفة وتدبر الناس جميعاً به ، لذا قال تعالى [وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ]( ).
ومن الإعجاز في الأمثلة القرآنية ملائمتها لكل الأزمنة ، والمراد من الامثلة الصريحة في القرآن هي التي ورد فيها لفظ المثل ومشتقاته الذي يفيد معنى المثل والتشبيه مثل [وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ]( ).
ومن الإعجاز في آيات المثال في القرآن أنها دعوة للسلم والأمن ، وإخبار قرآني عن سلامة آيات السلم من النسخ.
قال تعالى [مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ]( ).
وتيسير السنة النبوية بياناً وتفسيراً للقرآن ، وقد تأتي بصيغة المثل أيضاً ومنه في المقام قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَالدَّوَابُّ تَتَقَحَّمُ فِيهَا فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَوَاقَعُونَ فِيهَا)( ).
قانون البشارة بالمسلمين
ورد لفظ [مَثَلُهُمْ] ثلاث مرات ، واحدة في هذه الآية ، وتتضمن ذم المنافقين وخسارتهم في الدنيا والآخرة لإختيارهم العودة في الخطأ إلى الكفر والضلالة بعد الإيمان .
واثنتين في آية واحدة تتضمن الثناء على المسلمين في التوراة والإنجيل بقوله تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ) .
وفيه دعوة للمقارنة بين المؤمنين والمنافقين ، وترغيب بالإيمان وتنجز المصداق الواقعي للبشارات في الكتب السماوية السابقة بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته ، وتعاهد أجيالهم المتعاقبة التراحم والرأفة بينهم ، وإقامة الصلاة جماعة وفرادا .
وعن (عن ابن عباس { ذلك مثلهم في التوراة }( ) يعني مكتوب في التوراة والإِنجيل قبل أن يخلق السموات والأرض .)( ).
وهل قوله تعالى [سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ] ( )، في الدنيا أم في الآخرة ، الجواب فيهما معاً ، يعرفهم الناس بصفة المصلين ، وترى الملائكة علامة السجود في جباههم ، وما تدل عليه من الخشوع والتطامن لله عز وجل .
وتدل هذه الآية بالدلالة الإلتزامية على سلامة آيات السلم من النسخ لأن السجود والنسك علامة المسلمين التي وردت في الكتب السماوية السابقة والتي يعرفهم بها الملائكة والناس فلم يعرفوا بالسيف والقتال والقتل لبيان قانون المثل القرآني بيان وتفسير لمنهاج المسلمين ، وقانون المثل في القرآن سبيل هداية .
وقانون المثل القرآني موعظة وعبرة ، نسأل الله أن يجعله مدرسة يومية للأجيال .
وهل إغاظة الكفار المذكورة في الآية أعلاه من مصاديق ذم المنافقين بقوله تعالى [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ]( ).الجواب نعم ، إذ تؤدي مراتب السمو التي عليها المسلمون للحسرة والأسى في قلوب المنافقين مع أن ضياء المسلمين يشع في الآفاق وينفذ إلى البيوت ، ويدعو الناس للهدى ، وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الصلاة عماد الدين)( ).
والعمِاد هو الذي ترتكز عليه الخيمة في رفعها ، والبيت لبيان قانون الصلاة ضياء ينير سبل الناس إلى الآخرة ، وقانون الصلاة نور على الصراط .
فالتراحم والتقوى والإنقطاع إلى الله عز وجل منهاج حياتهم ولا يقاتلون إلا لضرورة للدفاع ، وصرف شرور المشركين .
الأول : قوله تعالى [أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ]( ).
الثاني : قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ]( ).
الثالث : قوله تعالى [وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ]( ).
الرابع : قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ]( ).
الخامس : قوله تعالى [فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
السادس : قوله تعالى [وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ]( ).
السابع : قوله تعالى [أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ]( ).
ويلاحظ تعدد المثل في هذه الآية الكريمة ، وهل في قوله تعالى [فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ] إخبار عن حروب هذا الزمان والأزمنة اللاحقة بصواريخ وقنابل تهلك البشر ، وتتلف الأشجار والبساتين إتلافاً تاماً ، الجواب نعم ، وفيه دعوة للسلم والحوار بين الدول وإجتناب الخسائر بالأموال والأنفس.
الثامن : قوله تعالى [كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ]( ).
التاسع : قوله تعالى [وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( )، ولم يرد لفظ (حفرة) في القرآن إلا في آية البحث.
العاشر : قوله تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ]( ).
الحادي عشر : قوله تعالى [كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ]( ) ولم يرد لفظ [اسْتَهْوَتْهُ] و[حَيْرَانَ] و[يَدْعُونَهُ] لبيان أن أمثلة القرآن علم قائم بذاته .
الثاني عشر : قوله تعالى [وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
ولم يرد لفظ [أَخْلَدَ] [تَتْرُكْهُ] [يَلْهَثْ] إلا في الآية أعلاه ، مع ورود لفظ [يَلْهَثْ] فيها مرتين .
الثالث عشر : قوله تعالى [إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ]( ).
الرابع عشر : قوله تعالى [مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ]( ).
الخامس عشر : قوله تعالى [إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ]( ).
السادس عشر : قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ]( ).
السابع عشر : قوله تعالى [كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ]( ).
الثامن عشر : قوله تعالى [وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ]( )، وردت كلمة (خبيثة) مرتين في هذه الآية ، ولم ترد مرة أخرى في القرآن ، لبيان قبح الخبيثة ، وكذا وردت فيها كلمة (اجتثت) ولم ترد في آية قرآنية أخرى.
التاسع عشر : قوله تعالى [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا]( ).
العشرون : قوله تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الواحد والعشرون : قوله تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ]( ).
ويتعدد المثل في هذه الآية بالتنعم بفضل الله من الأمن والطمأنينة ، وكيف أنهما من أعظم النعم ، ويزولان بالكفر والجحود بهما وبنعمة النبوة والتصديق بالنبوة والتنزيل ، وفي الآية تعريض وإنذار لقريش من محاربتها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيها دعوة للسلم والسعي للأمن والطمأنينة ، وحلّ الخلافات بلغة الحوار.
وهل دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قريش (اللهم أشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف) من الشواهد على سلامة آيات السلم من النسخ ، الجواب نعم ، لقانون الدعاء سلاح الأنبياء .
و(وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من أصبح منكم آمناً في سربه ، معافىً في بدنه ، وعندهُ قوت يومهِ؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)( ) وفيه تأديب للمسلمين ، ودعوة رسالية للتنزه عن الظلم ، وهو تفسير بياني لقوله تعالى [وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الثاني والعشرون : قوله تعالى [وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا]( ).
وتكرر ذات المثل برجلين ، أحدهما تقدم بعنوان (ضرب الله مثلاً رجلين ) في سورة النحل ، بأن الله عز وجل هو الذي ضرب المثل ، أما في هذه الآية فان الله عز وجل أمر النبي محمداً أن يضرب للناس المثل .
وهل يختص الأمر بالمثل في موضوع هذه الآية ، الجواب لا .
وتقدير الآية : وأضرب لهم الأمثال ، لما فيه المثل من تقريب المعاني إلى أذهان عامة الناس ، ولا يكون المثل النبوي إلا بالوحي ، ويستلزم مجلداً بالأمثلة في السنة النبوية ، منها قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (مثل القرآن ومثل الناس كمثل الأرض والغيث ، بينما الأرض ميتة هامدة ثم لا يزال ترسل الأدوية( ) حتى تبذر وتنبت ويتم شأنها ، ويخرج الله ما فيها من زينتها ومعايش الناس ، وكذلك فعل الله بهذا القرآن والناس)( ).
وعن (عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مثل أُمتي مثل المطر؛ لا يُدرى أوله خير أم آخره)( ).
وعن(أبي موسى يقول على المنبر : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل الجليس الصالح مثل العطار إنْ لم ينلك يعبقُ بك من ريحه،
ومثل الجليس السوء مثل القين إنْ لم يحرق ثيابك يعبق بك من ريحه.)( ).
ولم يكتف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمثل بل يأتي بالمصداق الواقعي ، إذ ورد عن ابن عباس قال (قيل يا رسول الله أي جلسائنا خير.
قال : [ من ذكركم بالله رؤيته ، وزاد في علمكم منطقه ، وذكركم بالآخرة عمله ])( ).
وفي مرسلة الحسن البصري قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (مثل المؤمن مثل السنبلة تميل أحياناً وتستقيم أحياناً – وفي ذلك تكبر – فإذا حصدها صاحبها حمد أمره كما حمد صاحب السنبلة بره ، ثم قرأ {إن الذين اتقوا إذا مسهم طيف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون})( ).
وعن (عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنما الناس كالإبل المائة ، لا تكاد تجد فيها راحلة)( ).
والمراد قلة وجود الصالحين وأهل الفضل والإحسان .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء ] قالوا : لا يبقى من درنه شيء قال : ( فذلك مثل الصلوات الخمس من درنه شيء ) يمحو الله بهن الخطايا ])( ).
وفي حديث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (يا علي إنما
منزلة الصلوات الخمس لامتي كنهرجار على باب أحدكم، فما ظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات في اليوم أكان يبقى في جسده درن ؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لامتي)( )
الثالث والعشرون : قوله تعالى [وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ).
الرابع والعشرون : قوله تعالى [فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ] ( ).
الخامس والعشرون : قوله تعالى [ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ] ( ).
السادس والعشرون : قوله تعالى [مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ] ( ).
السابع والعشرون : قوله تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ] ( ).
الثامن والعشرون : قوله تعالى [أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ]( ).
التاسع والعشرون : قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ]( ).
الثلاثون : قوله تعالى [ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ] ( ).
الحادي والثلاثون : قوله تعالى [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا] ( ).
الثاني والثلاثون : قوله تعالى [نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ] ( ).
الثالث والثلاثون : قوله تعالى [ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ]( ).
الرابع والثلاثون : قوله تعالى [كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ] ( ).
الخامس والثلاثون : قوله تعالى [كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ] ( ).
السادس والثلاثون : قوله تعالى [كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ] ( ).
السابع والثلاثون: قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ] ( ).
الفوز المبين
قال تعالى [وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
في ليلة الواحد والعشرين من شهر رمضان من السنة الأربعين للهجرة النبوية وفي مسجد الكوفة وأمير المؤمنين عليه السلام ينادي الصلاة الصلاة أوان صلاة الفجر أصيب ، إذ قام أشقى الآخرين عبد الرحمن بن ملجم وهو ليس من أهل الكوفة بضربه بسيف مسموم على رأسه فنادى عليه السلام (فُزْتُ وربِِّ الكعبةِ)( ).
وفاز وفزت فعل لازم ، ولكنه من الأفعال التي تتعدى بحرف الجر مثل فاز بالجائزة وفي هذا القول للإمام مسائل :
الأولى : بماذا فاز الإمام علي عليه السلام .
الثانية : كيف فاز .
الثالثة : لماذا فاز .
الرابعة : دلالة آيات القرآن على هذا الفوز مثل قوله تعالى [قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى]( ).
الخامسة : موضوعية السنة النبوية في هذا الفوز ، و(عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي : أما إنك ستلقى بعدي جهدا ، قال : في سلامة من ديني ، قال : في سلامة من دينك)( ).
السادسة : قراءة فقهية ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أقضاكم علي ) وردت نصوص عنه في الأحكام الشرعية يعمل بها كل فرد من المسلمين .
تقدير (فزت ورب الكعبة)
الأولى : فزت ورب الكعبة مضرجاً بدمي مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ستخضب هذه أي لحيته ، من هذه أي من هامته)( ).
الثانية : استشهد الإمام علي عليه السلام على يد أشقى الآخرين عبد الرحمن بن ملجم .
الثالثة : فزت وربِ الكعبة بالشهادة في المحراب إماماً في صلاة الصبح.
الرابعة : فزت ورب الكعبة بمغادرة الدنيا إمام ومولى المسلمين والمسلمات لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة الغدير (من كنتُ مولاه فَعَليٌّ مولاه)( ).
الخامسة : فزت بالإستقامة في طاعة الله .
السادسة : فزتُ وربِ الكعبة باللحوق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة المنتجبين ، قال تعالى ([مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ]( )كانوا صادقين في عهودهم بنصرة النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم [فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ] فرغٍ من نذره واستُشهد ، يعني : الذين قُتلوا بأُحدٍ [وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ] أن يقتل شهيداً [وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا] عهدهم)( ).
ومن مصاديق الآية ما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام ([فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى] أي أجله ، وهو حمزة وجعفر بن أبي طالب ، [وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ] يعني عليا عليه السلام ، يقول الله [وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا] ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء)( ).
السابعة : لم يقل الإمام علي عليه السلام فزت ورب الكعبة في معركة بدر عندما قتل أكثر السبعين من المشركين يومئذ بسيفه وأنتصر المسلمون، ولم يقله يوم صرع حملة لواء المشركين في معركة أحد ولم يقله عندما برز لعمرو بن عبد ود العامري الذي عبر الخندق مع أربعة من رؤساء جيش المشركين ثم صار يتحدى الصحابة في طلب المبارزة فلم يبرز له إلا الإمام علي عليه السلام .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ (برز الإيمان كله للشرك كله) نعم قوله عليه السلام (فزت ورب الكعبة ) يشمل هذه المواقع كلها على نحو العموم الإستغراقي.
الثامنة : فزت ورب الكعبة لولايتي للمسلمين لحين مغادرتي الدنيا ، لأصالة الإطلاق وعن (عمار بن ياسر قال : وقف بعلي سائل وهو راكع في صلاة تطوّع ، فنزع خاتمه فأعطاه السائل ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعلمه ذلك ، فنزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون }( ) فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه ، ثم قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)( ).
التاسعة : لقد واسى الإمام علي عليه السلام المسلمين بقوله فزت ورب الكعبة عند تلقيه ضربة أشقى الآخرين ، أي أن الإمام يعزينا وكأنه يخاطبنا (فزت ورب الكعبة) لأن هذه الضربة مصيبة لكل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة ، فلا غرابة أن نستحضر ذكرها بالأسى.
ولتتضمن البشارة بالأجر والثواب في قوله تعالى [وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
العاشرة : فزت ورب الكعبة بنيل مرتبة الشهادة ، والحياة عند الله ، قال تعالى [وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ]( ) لبيان قانون الشهادة أعلى مرتبة من الخلافة لما فيها من الحياة الدائمة من الخلافة ، وليس بين القتل والحياة عند الله إلا زهوق الروح .
ويمكن تقدير (فزت ورب الكعبة) بلحاظ كلمة مادة (فاز) في القرآن ، ومنها :
الأول : قوله تعالى [وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا]( )، والإمام علي أول القوم إسلاماً ، وأكثرهم طاعة لله عز وجل والرسول .
الثاني : قوله تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ).
في حديث صاحب الإمام علي عليه السلام ضِرار بن ضَمرة الضَّبابي في وصفه عندما ألح عليه معاوية .
قال (كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل ووحشته.
وكان غزير العبرة طويل الفكرة يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما خشن كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استفتيناه ، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له ، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين.
لا يطمع القوي في باطله ولا ييئس الضعيف من عدله.
وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نـجومه قابضا على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين.
ويقول يا دنيا غري غيري أبي تعرضت أم إلي تشوقت.
هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا لا رجعة لي فيها فعمرك قصير وخطرك حقير.
آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.
فبكى معاوية وقال رحم الله أبا حسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار قال حزن من ذبح ولدها في حجرها)( ).
وقال الإمام علي عليه السلام في الثناء على المؤمنين (لولا الآجال التي كتبت عليهم لم تستقر أرواحهم في أبدانهم طرفة عين)( ).
وقد ورد قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في القرآن تسعاً وثمانين مرة ، وورد عن ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أنزل الله آية فيها [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إلا وعليّ رأسها وأميرها)( ).
قوله تعالى [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ]( ) من آيات السلم
ورد لفظ [وَابْعَثْ] مرتين في القرآن :
الأولى : من مشورة الملأ من قوم فرعون بأن يجتمع السحرة من مدن مصر لملاقاة معجزة موسى في معجزة عصاه ، كما ورد قوله تعالى [قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ]( ) .
وبين إبراهيم وموسى عليهما السلام نحو سبعمائة سنة ، وهل اختص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعاء إبراهيم ، الجواب لا ، فقد كان إبراهيم يدعو لذريته .
ومن تجليات توارث دعائه ما ورد بخصوص يعقوب عليه السلام [أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
الثانية : في دعاء إبراهيم وإسماعيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بعد قيامهما ببناء البيت الحرام وإتمامه ، كما ورد في التنزيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين بيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء ، وفضل الله عز وجل على المؤمنين في الأحقاب المتعاقبة ، فبعد أن كانت القوة والسلطة للطاغوت الذي يدعو لعبادته ، وإنقياد الناس المطلق له مثل نمرود ، وجمعه وقومه الحطب لحرق إبراهيم ، ثم فرعون وحشره الناس طمعاً في غلبة السحرة لمعجزة موسى .
كان الناس على موعد مع مصداق بشارة الأنبياء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إماماً ورسولاً يدعو إلى عبادة الله وحده ، ويحمل الناس على هذه العبادة بالمعجزة الحسية والعقلية.
ليكون من معاني تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [خَاتَمَ النَّبِيِّينَ]( )إنقطاع الشرك بالله وغلق باب سيادة الكفار على رقاب الناس إلى يوم القيامة .
وهل من معاني الجار والمجرور في [وَابْعَثْ فِيهِمْ]شاهد على عدم وجود سلطان ملك أو طاغوت في الجزيرة أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتخفيف عنه ولنشر رسالته واصغاء الناس له بالحجة العقلية والمعجزة الحسية ، المختار نعم .
وقال تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
وهل شارك أحد من الناس مع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في نقل الحجارة من جبل أبي قبيس ورفع قواعد البيت ، المختار لا ، لظاهر الآية ، وللنصوص في منطوقها ومفهومها.
نعم شارك جبرئيل عليه السلام في تعيين مكان البيت ونقل القواعد والحجارة ، لتكون هذه المشاركة بشارة نزول جبرئيل بالقرآن إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته وألف من الملائكة يوم بدر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار .
وكان إبراهيم عليه السلام يأتي من بلاد الشام إلى مكة لزيارة زوجته هاجر وابنه إسماعيل فيها .
وفي حديث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (ثم لَبثَ( ) عنهم ما شاء الله، عز وجل، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبْرِي نَبْلا له تحت دوحة( ) قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الولد بالوالد، والوالد بالولد.
ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر.
قال: فاصنع ما أمرك ربك، عز وجل.
قال: وتعينني .
قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتًا -وأشار إلى أكَمَةٍ مرتفعة على ما حولها -قال: فعند ذلك رَفَعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني .
حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان [رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( )، قال : فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ).
أي تكرر منهما الدعاء وسؤال قبول العمل أثناء بناء البيت وعند تمامه والطواف حوله .
وكان جبرئيل يساعد إبراهيم في إحضار قواعد البيت وبنائه ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ) الجواب نعم.
ليكون تعاهد المسلمين حج البيت والعمرة دعوة للسلام ، ونشر للأمن في الجزيرة وبين الناس ، وبيان الصبغة العبادية للإسلام ، قال تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
ولم يرد لفظ (وأمناً) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
دلالة الجمع بين آيتي (وابعث)
من معاني ودلالات الجمع بين آيتي [وَابْعَثْ فِيهِمْ]( ) وجوه :
الأول : دعاء الأنبياء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل بعثته .
الثاني : تطلع الأنبياء لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : رجاء الأنبياء عمارة البيت الحرام برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : معرفة الأنبياء بقانون حاجة الناس لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : قانون تعضيد البيت الحرام لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : قانون اجتهاد الأنبياء في تهيئة مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد أخبر قوله تعالى [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ) عن منهاج رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل أن يبعث بألفي عام ، وعلى لسان رسول من الرسل الخمسة أولي العزم وهو إبراهيم ، ونبي رسول وهو إسماعيل في وقت واحد ، ويتجلى هذا المنهاج بوجوه :
الأول : نيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة الرسالة.
الثاني : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل مكة ، وبعث في جوار البيت الحرام .
الثالث : تفضل الله عز وجل بانزال آياته على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإعانته بالمدد لتلاوته القرآن على الناس .
الرابع : إصغاء المسلمين والناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو المستقرأ من قوله تعالى [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ]( ).
وتقدير الآية : يتلو عليهم آياتك فيتلقون التلاوة وإعجازها بالإستجابة ، لبيان قانون النفع العام للإصغاء لآيات القرآن ، ، ويدل عليه قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الخامس : تدل الآية أعلاه على حقيقة وهي أن قراءة القرآن مستمرة ومتجددة في كل زمان ، ويكون من معاني [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ] يتلو عليكم آياته فتتلونها على الناس ، ويتدبرون في معانيها ، واتباعكم لمضامين وأحكام هذه الآيات ، ويدل عليه قوله تعالى [وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى]( .
السادس : سلامة آيات القرآن من التحريف والزيادة والنقصان ، ففي كل زمان تتلى على الناس ذات آيات القرآن ، وكان إبراهيم وإسماعيل سألا الله عز وجل بقاء آياته رحمة للناس برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والنسبة بين الرحمة وحال السلم عموم وخصوص مطلق.
فالرحمة أعم لذا فان قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بشارة من الله عز وجل للناس بأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لواء سلام للناس جميعاً ، وفيه دلالة على سلامة آيات السلم والصلح والموادعة من النسخ .
أول النسخ
تقسم سور القرآن من جهة أوان والمكان العام للنزول إلى قسمين:
الأول : السور المكية التي نزلت قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وإن كان نزولها خارج مكة .
الثاني : السور المدنية وهي التي نزلت بعد الهجرة النبوية.
وذكر أنه ليس في السور المكية ناسخ ومنسوخ قال (ابن عباس : إن أول ما نسخ في القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود.
فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بضعة عشر شهراً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب قبلة إبراهيم.
وكان يدعو الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ]( ) إلى قوله [فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ] يعني نحوه.
فارتاب من ذلك اليهود وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله [قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ]( ) وقال فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ( ).
وكأنه من المنسوخ غير المتلو .
وظاهر آيات القبلة أن القرآن ذكر الناسخ دون المنسوخ الذي يُعرف بالدلالة التضمنية وليس بالنص .
ويتعلق علم الناسخ والمنسوخ بآيات القرآن ، وليس الموضوع وحده ، أي أن النسخ بدأ في السور المدنية ، نعم ذكر النسخ في قوله تعالى [وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ) ، نسخها قوله تعالى [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا]( ).
والمختار عدم النسخ بين الآيتين من جهات :
الأولى : وردت الآيتان بصيغة الإخبار ولا يقع النسخ في الأخبار ، وإن قال بعضهم بوقوعه .
الثانية : لم يرد نص صريح بالنسخ في المقام .
الثالثة : النسبة بين الآيتين عموم وخصوص مطلق ، فآية يستغفر بها الملائكة لمن في الأرض ، وآية يستغفر بها خصوص حملة العرش للذين آمنوا .
وهل الجمع بين الآيتين شاهد على عدم نسخ آية السيف لآيات السلم ، الجواب نعم ، فاستغفار الملائكة للناس سؤال لهدايتهم ، وعون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الإسلام .
الرابعة : إمكان نسبة العموم والخصوص بين الآيتين ، وأن إحداهما تخصص الأخرى .
ويكون تقدير قوله تعالى [وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ] أي ويستغفرون للذين آمنوا الذين في الأرض .
ولا يكتفى بالقول بالنسخ بما ذهب إليه بعض المفسرين أو المجتهدين لأن النسخ مجئ حكم قرآني برفع حكماً آخر متقدماً عليه زماناً في نزوله .
وهل يلزم التواتر في قبول النسخ الوارد في نص صريح أم يكفي خبر الواحد الثقة ، المختار هو الثاني .
وقد تقدم في الجزء السابق من هذا السِفر وهو التاسع والخمسون بعد المائتين (تخصيص الكتاب بخبر الواحد)( ).
الضمير العائد لاسم الجلالة أكثر من الأسماء الحسنى في القرآن
من إعجاز القرآن أن أسماء الله عز وجل الحسنى هي أضعاف مضاعفة لأي اسم ورد فيه ، وهو مدرسة في التوحيد ، وقهر للشرك ومفاهيم الضلالة ، وشاهد على موضوعية الأسماء الحسنى في التربية والتأديب ، ومناسبة للدعاء وسؤال الحاجات ، لذا قال تعالى [وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]( ).
ومع أن عدد آيات القرآن هو (6236) آية فان مجموع عدد اسم الجلالة (الله) في القرآن (2797) إلى جانب الأسماء الحسنى التي تكرر أغلبها في القرآن منها :
الأول : الله ، الأحد ، قال تعالى [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( )، و(عن جابر قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أنسب لنا ربك ، فأنزل الله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ*لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ( ).
الثاني : الرحمن .
الثالث : الرحيم .
الرابع : الرب .
الخامس : المالك .
السادس : الملك .
السابع : المليك ، والذي ورد مرة واحدة في قوله تعالى [فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ]( ) .
الثامن : الإله ، وقد يرد لفظ إله وآلهة في القرآن ذماً للمشركين وما يعبدون.
لقد استغرب المشركون من دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى إله واحد ، فنزل قوله تعالى [وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ]( )، وعن قتادة قال (عجب المشركون أن دعوا إلى الله وحده، وقالوا : إنه لا يسع حاجتنا جميعاً إله واحد)( ).
التاسع : القدوس .
العاشر : القادر ، و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر)( ).
ومن إعجاز القرآن بخصوص الأسماء الحسنى ورود عشرين اسماً منها في آخر ثلاث آيات من سورة الحشر مع قلة كلماتها ، ويمكن تسميتها آيات الأسماء الحسنى وهي قوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الحادي عشر : المؤمن .
الثاني عشر : المهيمن .
الثالث عشر: العزيز .
الرابع عشر : الجبار .
الخامس عشر : المتكبر .
السادس عشر : الخالق .
السابع عشر : البارئ .
الثامن عشر : المصور .
التاسع عشر :الحكيم .
العشرون : الحي .
الحادي والعشرون : القيوم .
الثاني والعشرون : القدير .
الثالث والعشرون : القوي .
الرابع والعشرون : الودود .
الخامس والعشرون : الولي .
السادس والعشرون : النصير .
السابع والعشرون : الأول .
الثامن والعشرون :الآخر .
التاسع والعشرون : الظاهر .
الثلاثون : الباطن .
وعن الإمام علي عليه السلام قال (سألت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن تفسير المقاليد فقال : يا عليّ سألت عظيماً .
المقاليد هو أن تقول عشراً إذا اصبحت وعشراً إذا أمسيت : لا إله إلاّ الله والله أكبر سبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، من قالها عشراً إذا أصبح وعشراً إذا امسى أعطاه الله تعالى خصالاً ستاً؛ أولهن : يحرسه من إبليس وجنده فلا يكون لهم عليهم سلطان.
والثانية : يعطى قنطاراً في الجنّة أثقل في ميزانه من جبل أُحد .
والثالثة : يرفع الله له درجة لاينالها إلاّ الأبرار .
والرابعة : يزوجه الله من الحور العين .
والخامسة : يشهده اثنا عشر ألف ملك يكتبونها في رقّ منشور يشهدون له بها يوم القيامة .
والسادسة : كمن قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وكان كمن حج واعتمر فقبل الله حجه وعمرته ، وإن مات من يومه أو ليلته أو شهره طبع بطابع الشهداء ، فهذا تفسير المقاليد)( ).
الحادي والثلاثون : التواب .
الثاني والثلاثون : الأكرم .
الثالث والثلاثون :الأعلى .
الرابع والثلاثون : الحافظ .
الخامس والثلاثون : البَر .
السادس والثلاثون : الحسيب .
السابع والثلاثون : الحفيظ .
الثامن والثلاثون : الحق .
التاسع والثلاثون : المبين ، قال تعالى [أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ]( ).
الأربعون : الخبير .
الواحد والأربعون : البديع ، وفي التنزيل [بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ]( ).
الثاني والأربعون : الخلاق .
الثالث والأربعون : الرؤوف .
الرابع والأربعون : الرزاق .
الخامس والأربعون : الرقيب .
السادس والأربعون : الواحد .
السابع والأربعون : البصير .
الثامن والأربعون : السميع .
التاسع والأربعون : الشاكر .
الخمسون : الشكور .
الواحد والخمسون : العظيم .
الثاني والخمسون : الوهاب .
الثالث والخمسون : الشهيد .
الرابع والخمسون : العفو .
الخامس والخمسون : العليم .
السادس والخمسون : العلي .
السابع والخمسون : الغفور .
الثامن والخمسون : الغفار .
التاسع والخمسون : الغني .
الســــــــــتون : الـــــــــقاهر .
الواحد والستون : القدوس .
الثاني والستون : الفتاح .
الثالث والستون : القهار .
الرابع والستون : الكريم .
الخامس والستون : اللطيف .
السادس والستون : المتكبر .
السابع والستون : المتين .
الثامن والستون : الوكيل ، وفي التنزيل [وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
التاسع والستون : المجيد .
السبعون : الواسع .
الواحد والسبعون : الوكيل .
الثاني والسبعون : الوهاب .
الثالث والسبعون : النور .
الرابع والسبعون : الأحد .
الخامس والسبعون : المولى .
السادس والسبعون : الكبير .
السابع والسبعون : المتعالي .
الثامن والسبعون : العالم ، ومنه عالم الغيب والشهادة ، قال تعالى [عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ]( ).
وهناك أسماء عديدة تستقرأ من آيات القرآن منها :
الأول : المحصي ، وفي التنزيل [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( ).
الثاني : الباسط .
الثالث : القابض .
الرابع : النافع .
الخامس : الضار .
السادس : العدل .
السابع : الباقي .
الثامن : الجليل .
التاسع : الناصر .
العاشر : النصير .
الحادي عشر : الصمد ، وفي التنزيل [اللَّهُ الصَّمَد]( )، أي أن الله عز وجل الدائم الكامل الذي لا يأكل ولا يشرب ، ويصمد ويلجأ الناس له في حوائجهم.
الثاني عشر : المدبر .
الثالث عشر : الجامع ، لقوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ]( ).
الرابع عشر : الغالب .
و(عن ابن عباس وابن عمر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لله تسعة وتسعون اسماً ، من أحصاها دخل الجنة وهي في القرآن)( ).
وقد تقدم ذكر هذه الأسماء في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام .
منه مثلاً (وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً)( ).
والأسماء الحسنى والتدبر فيها دعوة للسلم ، وشاهد على عصمة آيات السلم من النسخ ، فمن اسماء الله السلام ، والرحمن ، والرحيم ، والغفار ، والوهاب ، والرزاق ، وفيها هداية للمسلمين للسلم والصبر والموادعة .
ومن الإعجاز تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات القرآن في الصلاة خمس مرات في اليوم ، ليتلو المسلمون الأسماء الحسنى فترق قلوبهم ، ويمنعوا النفس الغضبية من الإستحواذ على السنتهم واعضائهم .
إحصاء الأسماء الحسنى في القرآن
مع أن اسم الجلالة هو أكثر الأسماء والكلمات وروداً في القرآن موزعة على (86) سورة ويصل عدده هو والأسماء الحسنى الأخرى إلى أكثر نحو خمسة آلاف اسم مع إحتساب المتكرر منها فان الضمائر والأسماء الموصولة التي تدل على الله في القرآن أكثر من هذا العدد بالجمع بين الضمائر الظاهرة منها (هو) (الذي) مثل قوله تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ]( ).
وقد تختتم آية باسم من الأسماء الحسنى وتبدأ التي بعدها باسم موصول أو ضمير يعود لله عز وجل كما في قوله تعالى [وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن موضع كل اسم من الأسماء الحسنى في الآية القرآنية له دلالات خاصة ، إذا جاء غيره من الأسماء الحسنى بدله تغير المعنى على نحو جزئي .
وهو من إعجاز القرآن والشواهد على صدق نزوله عن عند الله عز وجل ، وأسرار حفظ الله لكلماته ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
وفي هذه الآية خمسة من الضمائر كلها تعود إلى الله عز وجل ، وليس فيها اسم من الأسماء الحسنى .
وفي آية الكرسي مثل وردت خمسة من الأسماء الحسنى (الله ، الحي ، القيوم ، العلي ، العظيم ) مع اثني عشر ضميراً تعود لله عز وجل ، وهناك آية في القرآن تسمى آية الضمائر لكثرة الضمائر فيها ، إذ وردت فيها خمسة وعشرون ضميراً للمؤمنات ، من مرفوع ومجرور لبيان موضوعية الستر والحجاب في الشريعة الإسلامية ، وهي قوله تعالى [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ويكون الإحصاء في المقام على وجوه :
الأول : إحصاء الأسماء الحسنى في القرآن .
الثاني : إحصاء اسم الجلالة في القرآن ، ويحتسب المتعدد كأفراد مستقلة.
الثالث : إحصاء الأسماء الموصولة التي تدل على الله عز وجل مثل (الذي) (مَنْ) (ذو) بمعنى الذي مثل [وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( )، وليس ذو التي من الأسماء الخمسة .
الرابع : الضمائر المنفصلة مثل انا ، انت ، نحن ، هو ، إيا ، وفي التنزيل [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، والكاف في (إياك) حرف خطاب .
الخامس : الضمير المتصل الراجع إلى الله تعالى مثل ياء المتكلم ، تاء الفاعل ، ياء المخاطبة ، واو الجماعة ، ضمير الجمع نا كما في قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
السادس : الضمائر المستترة والضمير المستتر الذي ليس له صورة ظاهرة لفظاً أو كتابة ، وفي قوله تعالى [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ]( )، فاعل يستهزئ ضمير مستتر تقديره هو يعود إلى الله عز وجل ، وكذا فاعل يمدّ يعود لله عز وجل ويلزم في هذا الإحصاء تتبع آيات القرآن آية آية وسورة وسورة ، مع إحتساب المكرر من الأسماء أيضاً فاذا ورد اسم لله في القرآن عشر مرات فيحتسب بذات العدد ، فمثلاً البسملة في أول السور :
اسم الجلالة : 113 .
الرحمن : 113 .
الرحيم : 113 .
بلحاظ خلو سورة التوبة من البسملة في أولها ، أما الواردة في سورة النمل [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( )فتكون مع الإحصاء العام للأسماء الحسنى .
مع تنظيم جدول كالاتي :
السورة الأسماء الحسنى الأسماء الموصولة الضمائر المنفصلة الضمائر المتصلة المجموع
الفاتحة 8 بلحاظ تكرار الرحمن والرحيم في البسملة __ 2 3 13
البقرة
آل عمران
لقانون ليس من إحصاء في القرآن إلا وله نفع في الدنيا وفي الآخرة.
وإحصاء الأسماء الحسنى مناسبة لاستقراء المسائل والعلوم منها، وهي رحمة للناس والخلائق ، ودعوة للرأفة والتراحم بين الناس ، ونبذ العنف والإرهاب وضروب الظلم .
دخول أفواج الناس قبل نزول آيات السيف
تقدير آية [انْتَظِرُوا] هو انتظروا توالي نزول آيات القرآن ودلائل النبوة وإنا منتظرون دخولكم وابنائكم الإسلام .
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سرعة وكثرة دخول الناس الإسلام ، فلم تمض تسع سنوات على الهجرة النبوية حتى توالى دخول القبائل في الإسلام ، وسميت هذه السنة سنة الوفود ، فجاء أكثر من سبعين وفداً إلى المدينة ليعلنوا إيمانهم وإيمان من خلفهم قبل أن تنزل آية السيف ، مما يدل على قلة الحاجة إليها ، ولكنها ضرورة كأنذار ووعيد لإزاحة مفاهيم الكفر من الجزيرة .
لبيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بقانون سيادة الإسلام قبل مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا .
لقد نزلت آية السيف في السنة العاشرة للهجرة ، وقد سبقها كل من :
الأول : صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، الذس سمّاه الله فتحاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
وعن (عبد الله بن مسعود يقول ” لما أقبلنا من الحُديبية أعرسنا فنمنا، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت، فاستيقظنا ورسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم نائم، قال: فقلنا أيقظوه، فاستيقظ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم فقال: افْعَلُوا كمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ، فكذلك من نام أو نسي .
قال: وفقدنا ناقة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم، فوجدناها قد تعلَّق خطامها بشجرة، فأتيته بها، فركب فبينا نحن نسير، إذ أتاه الوحي، قال: وكان إذا أتاه اشتدّ عليه; فلما سري عنه أخبرنا أنه أُنزل عليه [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
وعن أنس بن مالك، قال : لما رجعنا من غزوة الحديبية، وقد حيل بيننا وبين نسكنا، قال: فنحن بين الحزن والكآبة، قال: فأنزل الله عزّ وجلّ (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) ، أو كما شاء الله، فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم: لَقَدْ أُنزلَتْ عَليَّ آيَةٌ أحَبُّ إلي مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعا)( ).
ومن بنود صلح الحديبية (حين كتبوا الكتاب: أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده، دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد رسول الله وعهده .
وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وأنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك، وأقمت بها ثلاثًا معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب)( ).
الثاني : لقد كان عدد الذين دخلوا الإسلام بعد صلح الحديبية وإلى حين فتح مكة أي مدة السنتين أكثر من عدد الذين دخلوا الإسلام في سني البعثة السابقة كلها .
وأيهما صار عدده الأكثر حينئذ في الجزيرة المسلمون أم المشركون ، الجواب هو الأول ، حتى أنه لم يبق عند فتح مكة من الكفار في مكة إلا العدد الأقل ، وفيه شاهد على عدم وصول التوبة للحاجة العامة لآية السيف ، إنما هي رحمة وسبيل هداية للذين لا زالوا مقيمين على الكفر.
الثالث : فتح مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة بعد نقض كفار قريش شروط الصلح وهجومهم مع بني بكرعلى خزاعة وهم عيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذين دخلوا في عقده يوم الحديبية .
وهل كانت إعانة قريش هذه انتقاما من دخول خزاعة في عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لثارات سابقة ، أم وفاء للحلف الذي بينهم وبين بني بكر .
لماذا أعانت قريش ضد خزاعة
لقد أعان كفار قريش بني بكر بن وائل على خزاعة بالسلاح والرقيق (وأعانهم قوم من قريش بأنفسهم مستخفين، وانهزمت خزاعة إلى الحرم.
فقال قوم نوفل بن معاوية: يا نوفل، الحرم، اتق الله إلهك. فقال الكافر: لا إله له اليوم، والله يا بني كنانة إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تدركون فيه ثأركم فقتلوا رجلاً من خزاعة يقال له: منبه، وانجحرت في دور مكة ، فدخلوا دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ودار مولى لهم اسمه رافع، وكان هذا نقضاً للعهد الواقع يوم الحديبية)( ).
وتحتمل هذه الإعانة وأسبابها وجوهاً :
الأول : الإنتقام من خزاعة لدخولهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : زجر القبائل عن الدخول في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : بعث الخوف في قلوب عامة أهل مكة وغيرهم ، لمنعهم من دخول الإسلام .
الرابع : سنخية المشركين بنقض العهود ، قال تعالى [الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ]( ).
الخامس : إرادة الإنتقام من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والثأر لقتلاهم في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، مع أنهم هم الغزاة في هذه المعارك .
السادس : طلب ثارات سابقة مع خزاعة .
السابع : تقديم قريش للوفاء بعهدهم مع بني بكر على عهد الصلح الذي أبرموه مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : دلالة هذه الإعانة على عدم رضا طائفة من كفار قريش بصلح الحديبية .
التاسع : ترشح التعدي ونقض العهود من منازل الكفر والضلالة والإستكبار .
العاشر : ظن كفار قريش بقاء هذه الإعانة سراً ، وعدم بلوغ أخبارها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ، وأنه يتقيد بشروط الصلح الذي مدته عشر سنوات ، وعن الإمام(جعفر الصادق بن محمد عن أبيه عن جده عليهم السلام قال : حدثتني ميمونة بنت الحارث : أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بات عندها في ليلتها ثم قام يتوضأ للصلاة فسمعته يقول في متوضئه ( لبيك لبيك لبيك ) ثلاثا ( ونصرت ونصرت ) ثلاثا قالت : فلما خرج قلت : يا رسول الله بأبي أنت سمعتك تقول في متوضئك [ لبيك لبيك ثلاثا ( نصرت نصرت ) ثلاثا كأنك ] تكلم إنسانا فهل كان معك أحد ؟
قال : ( هذا راجز بني كعب يستصرخني و [ ي ] زعم أن قريشا أعانت عليهم بني بكر ) ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم وأمر عائشة أن تجهزه ولا تعلم أحدا قالت : فدخل عليها أبوها فقال : يا بنية ما هذا الجهاز.
قالت : والله ما أدري قال : ما هذا بزمان غزو بني الأصفر فأين يريد رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قالت : لا علم لي قالت : فأقمنا ثلاثا ثم صلى الصبح بالناس فسمعت الراجز ينشده :
يا رب إني ناشد محمدا … خلف أبينا وأبيه الأتلدا
إنا ولدناك فكنت ولدا … ثمة أسلمنا فلم تنزغ يدا
إن قريشا أخلفوك الموعد … ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعمت أن لست تدعو أحدا … فانصر هداك الله نصرا ألبدا
وادع عباد الله يأتوا مددا … فيهم رسول الله قد تجردا
أبيض مثل البدر ينحي صعدا … لو سيم خسفا وجهه تربدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم نصرت ثلاثا أو لبيك لبيك ثلاثا ثم خرج النبي صلى الله عليه وآله و سلم فما كان بالروحاء نظر إلى سحاب منصب فقال : إن هذا السحاب لينتصب بنصر بني كعب)( ).
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو علمه بالوحي والإخبار السماوي نقض قريش الصلح ، ولزوم نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لخزاعة وأستئصال الكفر خاصة وأن أكثر أهل مكة دخلوا الإسلام سراً وعلانية .
وليكون فيه فتح مكة سلماً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) .
ومن معاني [وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ]( ) تجدد مصاديق الإنتظار وتعدد موضوعه ، ففي كل يوم هناك انتظار لنبأ ينفع المسلمين ، ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإبطال لذرائع المشركين .
ويكون مقدمة لفتح مكة ، قال تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
قانون إمهال الكفار سلام
من رحمة الله عز وجل للناس في الحياة الدنيا أنه جعلها دال الأمهال ، وليس من إنسان إلا وقد أمهله الله عز وجل في أيام حياته بما يعجز عن إحصائه إلا الله عز وجل ، ويتجلى يوم القيامة بعمومات قوله تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( ).
وقد أمهل الله عز وجل كفار قريش مع شدة محاربتهم للإسلام توبة وإنابة كثير منهم ، ولبيان أن الإمهال فرع السلم في الأرض ، وهو من رشحات كف أيدي الناس بعضهم عن بعض ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا]( ).
وإمهال الله للكفار [لِيَزْدَادُوا إِثْمًا]وأمهال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالوحي وصيغ الإنذار في قوله تعالى [وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ]( )، فهو من جهات :
الأولى : ليزدادوا أثماً .
الثانية : تذكير النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الكفار بعاقبة الإقامة على الكفر مع قيام الحجة عليهم .
الثالثة : توالي المعجزات العقلية والحسية وبلوغها المشركين ، وهو من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
ومن الشواهد اليومية في المقام تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن بشوق وعشق سبع عشرة مرة في اليوم ، ليسمع ويتدبر الكفار في الأمر ، وإدراكهم لقانون وجوب شكر الله عز وجل على النعم .
الرابعة : بيان قانون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلام دائم ، وأنه يدعو الناس للإيمان ، فمن آمن فقد فاز ، ومن بقي على الكفر تتوالى عليه الإنذارات وأفراد الإبتلاء .
تفسير النبي (ص) للقرآن دعوة للسلم
لقد قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير عدد كثير من آيات القرآن بوحي من عند الله عز وجل على وجوه :
الأول : التفسير ابتداء من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الإبتداء شعبة من الوحي ، و(عن عقبة بن عامر الجهني : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( )، ألا إن القوّة الرمي ثلاثاً ، إن الأرض ستفتح لكم وتكفون المؤنة ، فلا يعجزنَّ أحدكم أن يلهو باسهمه)( ).
لبيان أن الفتوحات بلطف وتيسير من الله عز وجل ، وأن القوة في الآية أعلاه التمرين على السلاح وأخذ الحائطة ، وإخافة العدو ، ومنع الإقتتال.
الثاني : التفسير عند سؤال المسلمين وجلبهم البيان .
و(عن ابن مسعود لما نزلت [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ]( )، شق ذلك على أصحاب رسول الله وقالوا :
أينا يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ( ).
الثالث : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن ودلالاتها وهو على المنبر وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من الحضّ على التقوى وهو على المنبر ويقول [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا]( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخطب على المنبر قائماً ، ويدل عليه قوله تعالى [وَتَرَكُوكَ قَائِمًا]( )، يخطب خطبتين يجلس بينهما ، وأول من جلس على المنبر معاوية بن أبي سفيان .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحض على الدعاء ويبين منافعه ، ليكون مراقبه من القتال وصرف له .
و(عن ابن مسعود قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أراه عوف بن مالك فقال : يا رسول الله إن بني فلان أغاروا عليّ فذهبوا بابني ، وبكى فقال : اسأل الله ، فرجع إلى امرأته ، فقالت له : ما رد عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأخبرها ، فلم يلبث الرجل أن رد الله إبله وابنه أوفر ما كان ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره فقام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وأمرهم بمسئلة الله والرغبة له ، وقرأ عليهم وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ( ).
الرابع : التفسير حال السفر ، وفي الكتائب وميدان الدفاع .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأسيسه لعلم تفسير القرآن وضبطه وقواعده ، ومنعه من التفسير بالرأي .
ومن آيات القرآن ما تعرفه العرب بمقتضى نعتهم ، ومنه يعرفه الناس جميعاً ولو بالترجمة ، ويسمى تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن بالتفسير بالمأثور ، وهو ثروة للمسلمين والناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وقد صدر لي والحمد الجزء 253-254 من هذا السِفر بعنوان (تفسير النبي (ص) للقرآن) إلى جانب جزءين بهذا العنوان صدرا في سنة 1992 أحدهما بدار الكتب والوثائق في بغداد برقم 165 لسنة 1992.
لتتجلى مسائل مستقرأة في المقام تدل على تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات السلم ، أو تفسير آيات القرآن الأخرى بما يستقرأ منه قانون تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن دعوة نبوية للسلم.
ومن الشواهد الإعجازية في المقام أن أول آية من القرآن تدعو إلى السلم في منطوقها ومفهومها بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]( ).
قانون آيات العبادة سلام
قال تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى]( ).
هاتان الآيتان تلحق بآيات السلم والشواهد على سلامة آيات السلم من النسخ لبيانهما الفلاح بالزكاة والصلاة .
ومن المعاني في المقام زكاة الفطرة ، وتسمى زكاة الأبدان ، وزكاة الخلق ، وزكاة الدين ، وفيها تمام الصوم .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى] ( )قال أخرج زكاة الفطرة ، وذكر اسم ربه فصلى قال : صلاة العيد)( ) وروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام( ).
لقد أخبر الله عز وجل عن علة خلق الناس وهي عبادته وطاعته ، إذ قال [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( )، ليكون من معاني الآية على وجوه :
الأول : ليعبدونِ لا للقتال بينهم .
الثاني : ليعدونِ وينتفعوا من النعم الدنيوية .
الثالث : ليعبدونِ ويأكلوا من رزقي .
الرابع : ليعبدونِ بسلام وأمن بينهم .
الخامس : ليعبدونِ بطاعة الأنبياء ، وعدم تكذيبهم ، وقد قام كفار قريش بتكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربته ، ومن خصائص الفرائض العبادية.
آيات نصر الله سلام
ورد لفظ [نَصْرُ اللَّهِ] أربع مرات في القرآن :
الأولى : قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( ).
الثانية : قوله تعالى [فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ]( ).
الثالثة والرابعة: قوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ]( ) .
لبيان شدة البلاء الذي أصاب الأنبياء السابقين والمؤمنين ، وحال الضجر وقلة الصبر التي نزلت بهم لإستطالة أيام الشدة والتضييق من قبل مشركي زمانهم ، وأئمة الجور والطواغيت وتكذيب وإفتراء المشركين على الأنبياء ، ونعتهم بالسحر والجنون وفي قوم قال تعالى [كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ]( ) ، وخشي بعض المؤمنين على دينه والثبات عليه .
و(عن خباب بن الأرت قال : قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو الله لنا؟
فقال : إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ثم قال : والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون)( ).
ومن الأنبياء من توالت عليهم وعلى أصحابهم البلايا واستبطأوا النصر الذي وعدهم الله.
وعن (أبي حمزة الجزري : قال صنعت طعاماً فدعوتُ ناساً من أصحابنا منهم : سعيد بن جبير وأرسلتُ إلى الضحّاك بن مزاحم فأبى أن يجيئني فأتيته فلم أدعه حتى جاء.
قال : فسأل فتىً من قريش سعيد بن جبير فقال : يا أبا عبدالله كيف تقرأ هذا الحرف فإنّي إذا أتيت عليه تمنّيت إنّي لا أقرأ هذه السورة : {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا}( ) قال : نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم.
وظنّ المُرسل إليهم أنّ الرُسل كذّبوهم.
قال : فقال الضحّاك : ما رأيتُ كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكّأ،
لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا)( ).
أي أن الواو في [وَظَنُّوا]لقود للناس الذي بعث إليه الأنبياء ، وليس لذات الأنبياء ، وهو تأويل لطيف بشرط وجود مصداق له ، ولكن ورد في القرآن خاصة بالتحقيق في كلمة [كُذِبُوا] في القرآن ليتبين أن الأنبياء هم الذين كذبهم قومهم ، قال تعالى [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا]( )ليدل جمع الآية أعلاه بين تكذيب الناس للرسل ، وبين مجئ نصر الله عز وجل على وحدة الموضوع بين الآيتين ، وأن واو الجماعة أعلاه يراد منها الأنبياء خاصة مع قاعدة عودة الضمير لأقرب مذكر .
ومن مصاديقها كثرة الآيات التي تتضمن تكذيب الكافرين للأنبياء والآيات ، ونجاة الأنبياء وأصحابهم في بيان أحوال متشابهة لحال قريش ، وبشارة نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ومن معاني قوله تعالى [أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ]( )، من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وفيه دعوة للصبر والحلم والإجتهاد في طاعة الله.
وليكون من معاني الآية وجوه :
الأول : بيان نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من عند الله وهو الذي تجلى بنسبة نصرهم يوم بدر لله عز وجل بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثاني : ألا إن نصر الله قريب [لَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الثالث : الا إن نصر الله قريب منكم مثلما كان قريباً من الرسل وأصحابهم .
الرابع : ألا إن نصر الله قريب فاصبروا في طاعة الله .
الخامس : ألا إن نصر الله قريب ، ولكم الأجر والثواب [يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وفي النبي هود وقومه عاد ورد قوله تعالى [فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ]( ).
وقال تعالى [وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ]( ). والمراد من عاد قوم هود ، وثمود ، قوم صالح ، وأصحاب مدين هم قوم شعيب ، وموضوع الآية أعم من قصص الأنبياء السبعة في نص الآية أعلاه ، إنما تشمل أنبياء ورسلاً كثيرين لكل قوم من هؤلاء ، كما في قوله تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وهل المراد الرسل الذين ارسلوا لهم ولغيرهم من قبلهم ، الجواب الأصل هو إرادة الرسل الذين بعثوا إليهم . خاصة مع حال التباعد المكاني بين البلدان، وقلة وسائط السفر ، ولكن هذا لا يمنع من إرادة الرسل السابقين أيضاً ، وانتشار أصحابهم في الأمصار ، وبشارتهم بالرسول اللاحق ، ومنه بشاراتهم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وأخبرت آيات أخرى عن تكذيب أقوام الأنبياء مثل فرعون وقومه وتكذيبهم رسالة موسى عليه السلام. وجاءت آية مطلقة لما لاقاه الأنبياء من قومهم ، قال تعالى [كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ]( ) ومع هذا لم تنزل على الأنبياء آية باجراء السيف على الكافرين برسالتهم جميعاً بل صبروا وجاءهم النصر من عند الله عز وجل ، وكذا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تنزل عليه آية تأمره باتخاذ السيف سلاحاً ضد الناس ، خاصة وأن رسالته جاءت في زمان ملل متعددة منهم أهل الكتاب السماوي كاليهود والنصارى ، وأمره الله عز وجل بقبول الجزية منهم ، وبقاء حكم الجزية إلى يوم مغادرة النبي الحياة الدنيا شاهد على عدم شمول آية السيف لهم . ومنهم المشركون الذين لم تنزل آية السيف إلا وقد دخل أغلبهم الإسلام ، وهل هذا الدخول من مصاديق نصر الله ، الجواب نعم ، لذا قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُوَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًافَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ). قانون هجرة النبي (ص) سلام لقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه أشد الأذى من الذين كفروا في مكة ، وما هجرة طائفة من الصحابة إلى الحبشة ، ثم هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأكثر أصحابه إلى المدينة إلا بسبب شدة الأذى بلحاظ الإبتعاد عن كفار قريش والذين لم يكتفوا بايذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحصارهم لأهل البيت ، ولكنهم أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه ، إلا أن أذى قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إزداد بعد الهجرة ، وهذا الأمر نادر في حياة الأنبياء ، فأظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الصبر المقرون بحسن التوكل على الله وفي الثناء عليهم قال تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ). وأخذ الحائطة من المشركين مع بناء المساجد في المدينة وإقامة الصلاة فيها ، وتوالي دخول الناس في الإسلام من غير أن يحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم السيف ، وكان أصحابه يهمون بالرد على أذى كفار قريش بالمثل ، ولكن النبي محمداً يمنعهم ، ويحول دون إتخاذ قريش الأسباب للهجوم والإفراط في التعدي. ولكن ذات توالي نزول آيات القرآن ملأ قلوب المشركين بالغيظ والسخط لأنها أقوى سلاح في التأريخ لصبغة السماوية والإعجاز في مضامينه وبلاغته وإنفراده بخصوصية قهر الحواجز التي تحول دونه ودون النفاذ للقلوب ، ومنها مثلاً سعي المشركين بين الناس لعدم الإستماع إلى القرآن ، ومقابلتهم بالتصفير بالفم ، والتصدية وهي التصفيق باليد مع أن من عادات النساء . و(عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته ، فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون [لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ]( )، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أخفى قراءته لم يسمع من يحب أن يسمع القرآن ، فأنزل الله {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها }( ))( ). وقد تقدم ذكر تفاصيل في معجزة الهجرة ، ونبين هنا معجزة أصل موضوع الأذى الذي تعرض له النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدها أكثر من الذي قبلها . و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثالثة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما يواري ابط بلال)( ). لقد كانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة حرباً على الإرهاب ،ودفعاً للقتال ، وحجة تأريخية ثابتة بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد القتال ، ولا يطلب ملاقاة المشركين ، فكل آية من القرآن هي سيف سماوي ينزل عليهم . وتبقى سلاحاً في الأجيال يدعو الناس للإيمان ، ويبين لهم مساوئ وقبح الكفر ومفاهيم الضلالة . لقد كان أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لطائفة من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة (مملكة أكسوم) رسالة سلام ، إذ هاجر أول فوج منهم في شهر رجب من السنة الخامسة للهجرة ، ويتألف من اثني عشر رجلاً وأربع نسوة ، ثم هاجرت طائفة أخرى على رأسهم جعفر بن أبي طالب . ولم تكن هجرتهم بمبادرة منهم ، إنما بالوحي من الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتتجلى مصاديق لقانون الوحي خير محض لذات النبي وأصحابه وعامة الناس. وبالإسناد (عَنْ أُمّ سَلَمَةَ بِنْتِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَتْ لَمّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النّجَاشِيّ ، أَمِنّا عَلَى دِينِنَا . وَعَبَدْنَا اللّهَ تَعَالَى لَا نُؤْذَى وَلَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ، ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إلَى النّجَاشِيّ فِينَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ جَلْدَيْنِ وَأَنْ يُهْدُوا لِلنّجَاشِيّ هَدَايَا مِمّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكّةَ. وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا الْأُدْمُ فَجَمَعُوا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا ، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إلّا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيّةً ثُمّ بَعَثُوا بِذَلِكَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ. وَأَمَرُوهُمَا بِأَمْرِهِمْ وَقَالُوا لَهُمَا : ادْفَعَا إلَى كُلّ بِطْرِيقٍ هَدِيّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلّمَا النّجَاشِيّ فِيهِمْ ثُمّ قَدّمَا إلَى النّجَاشِيّ هَدَايَاهُ ثُمّ سَلَاهُ أَنْ يُسَلّمَهُمْ إلَيْكُمَا قَبْل أَنْ يُكَلّمَهُمْ . قَالَتْ فَخَرَجَا حَتّى قَدِمَا عَلَى النّجَاشِيّ ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ عِنْدَ خَيْرِ جَارٍ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بِطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إلّا دَفَعَا إلَيْهِ هَدِيّتَهُ قَبْل أَنْ يُكَلّمَا النّجَاشِيّ)( ). علامات السلام بهجرة الحبشة من أسرار هجرة الحبشة بيان قانون عزم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على عدم قتال المشركين ، فمن ينوي القتال أو يخطط له يحرص على بقاء أصحابه حوله ويكثر من السواد . ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعلهم سفراء الإسلام في البلاد البعيدة ، ولتكون سلامتهم في طريق الهجرة والإقامة في الحبشة نعمة عظيمة من وجوه : الأول : صدق إيمان المهاجرين إلى الحبشة . الثاني : وجود نساء مهاجرات ومنهم رقية بنت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع زوجها عثمان بن عفان ( ). الثالث : صرف أسباب الملاحاة والجدال مع مشركي قريش . الرابع : بعث الخوف والفزع في قلوب مشركي قريش لما في هذه الهجرة من انتشار مبادئ الإسلام . الخامس : حمل المهاجرين إلى الحبشة آيات القرآن معهم إلى البلاد البعيدة ، وبيان إتحاد سنخية التنزيل بين القرآن والتوراة والإنجيل ، وهو الذي تجلى في حوار وفد قريش مع النجاشي ، إذ أرادوا إغراءه بالمسلمين بادعاء أن النبي محمداً يذكر عيسى بأنه عبد الله ورسوله ، سأل عمرو بن العاص النجاشي بأن يسلم المهاجرين له (قد صار اليك ناس من سفلتنا وسفهائنا فادفعهم الينا قال لا حتى أسمع كلامهم)( ). كما في حديث جعفر الطيار . وسمع النجاشي كلام الصحابة المهاجرين في التوحيد ، ورجحان عقولهم ، وأنهم أتباع رسول من الله يأمر بالفضائل وينهى عن الرذائل ، وفيه بالدلالة الإلتزامية إنتفاء الشر من وجودهم في الحبشة . ودعوة للنجاشي لحمايتهم من بطش قريش ، وهم قوم مشركون ، وكان النجاشي على ملة النصارى . ثم أمر النجاشي بأن يخلو سبيل هؤلاء المسلمين ، فخرجوا من عنده . قال جعفر الطيار (فقال عمرو بن العاص ان هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم غير ما تقول قال ان لم يقولوا في عيسى مثل قولى لم أدعهم في أرضى ساعة من نهار فأرسل الينا. فكانت الدعوة الثانية أشد علينا من الاولى قال ما يقول صاحبكم في عيسى بن مريم. قلنا يقول هو روح الله وكلمته ألقاها إلى عذراء بتول. فأرسل فقال أدع لى فلانا القس وفلانا الراهب وأتاه أناس منهم. فقال ما تقولون في عيسى بن مريم قالوا أنت أعلمنا بما نقول. فقال النجاشي وأخذ شيئا من الارض ما عدا عيسى ما قال هؤلاء بمثل هذا قال لهم أيؤذيكم أحد قالوا نعم فأمر مناديا فنادى من آذى أحدا منهم فاغرموه أربعة دراهم ثم قال أيكفيكم قلنا لا قال فأضعفوها)( ). وسيبقى أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رهطاً من أصحابه إلى الحبشة شاهداً من السنة النبوية على سلامة آيات السلم من النسخ ، ولا يقدح بهذا المعنى كون الأمر يتعلق بالسنة النبوية ، وأنه متقدم زماناً على عدد من الآيات المنسوخة ، إذ تدل هذه السيرة على منهجية نبوية ثابته وقانون حمل الأنبياء للواء السلم ، وقانون تأديب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه باتخاذ السلم منهجاً متوارثاً في أجيال المسلمين ، ولم يجمع أصحابه في مكة للدفاع ورد أذى قريش. وقد عاد المهاجرون إلى الحبشة ولكن إلى المدينة بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليها ، وليس إلى مكة لتكون سلامتهم على وجوه : الأول : عودتهم معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. الثاني : هجرة الحبشة سفارة عامة . الثالث : صرف أسباب الفتنة مع كفار قريش. الرابع : معجزة الحبشة مقدمة وبشارة لانتشار المسلمين في الأمصار. الخامس : قانون سلامة القرآن أحكامه عند التداخل مع الأمم والملل الأخرى ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ). آية الهلال قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ). لم يرد لفظ الهلال بصيغة المفرد في القرآن ، ولكن جاءت الدلالة عليه بوجوه : الأول : قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، وفيه ضبط شهور السنة الأخرى . الثاني : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ] والمراد يسألونك عن الهلال كيف يطل على أهل الأرض ثم يزداد نوره ويتسع إلى أن يصير بدراً ثم يأخذ بالنقصان إلى ليالي المحاق (القمر المظلم). وبعد ثلاث ليال من أول الشهر يسمى قمراً ، ولكل طور منه اسم خاص مثل التربيع الأول والأحدب المتزايد والبدر وفي القرآن سورة اسمها سورة القمر . ومن معاني صيغة الجمع في الآية تعدد الأهلة بلحاظ عدد الشهور. لقد جعل الله عز وجل تبدل هيئة القمر ومنازله آية كونية تدعو الناس للإيمان ، وفيه بهجة لهم ، وتحسين للمزاج وأسباب اللطف والمودة العامة ، لذا قال تعالى في الأهلة أنها [مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( )، لبيان قانون الملازمة بين الآيات الكونية والعبادات . وهل في القمر والشمس وجريانهما ترغيب بالعبادات وحضّ على أدائها ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق التسخير ، قال تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ]( ). الثالث : ورود لفظ القمر سبعاً وعشرين مرة في القرآن ، والنسبة بين القمر والهلال عموم وخصوص مطلق . ولا بد من الإستهلال ، والمختار كفابة شاهدين عدلين في رؤية الهلال ، وفي صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام (كان علي عليه السلام يقول : لا أجيز في الهلال إلا شهادة رجلين عدلين). هلال شوال ويوم غد هو الثلاثاء التاسع من شهر نيسان من السنة الرابعة والعشرين بعد المائتين للميلاد ، وهو أخر أيام شهر رمضان ، إذ سيرى الهلال في العراق والبلاد العربية وأوربا وأمريكا بالعين المجردة وفق المعطيات الفلكية الدقيقة من غير حاجة للمنظار والتكبير ، ليكون يوم الأربعاء هو أول أيام شهر شوال ، ويستحب غداً عند الغروب الإستهلال ، ويبقى الهلال بعد غروب الشمس نحو خمسين دقيقة في العراق ، نسأل الله عز وجل أن يجعله شهر بركة على المسلمين وأهل الأرض جميعاً ، وأن تتوقف الحروب المجحفة في فلسطين والسودان وسوريا وأوكرانيا وغيرها . قال تعالى [الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ]( ) لهما أجل وعمر ونظام دقيق يطلان على الإنسان كل يوم . مرّ رجل بأمراة جميلة في جنح الليل فراودها عن نفسها وسألها الحرام ، فأبت وقالت أي ثكلتك أمك أما لك من زاجر من كرم أما لك من دين . قال : والله لا يرانا إلا الكواكب . قالت : وأين مكوكبها ( ) . قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( ). ثبوت رؤية الهلال قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ). الحمد لله الذي أفرد شهر رمضان بالخصوصية وهي ذكره بالاسم في القرآن من بين الشهور مع أنه ليس من الأشهر الحرم ولا من أشهر الحج . وتثبت البينة الشرعية في الهلال بأحد وجوه : الأول : خبر شاهدين عدلين يشهدان برؤيتهما الهلال. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحكم بالبينة الشرعية أي شاهدين عدلين إلا ماخرج بالدليل مثل الزنا الذي تتقوم الشهادة فيه بأربعة شهود عدول ، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحكم بالوحي ولكنه يريد أن يعلم علماء وحكام المسلمين كيفية الحكم في المقام . الثاني : رؤية المكلف نفسه للهلال . ولا تثبت رؤية الهلال بقول المنجمين وان وافق إخبارهم الحكم الظاهري أو الواقعي ، وهل تلحق العلوم الفلكية الدقيقة في هذا الزمان بقولهم ، الجواب لا ، لأن المدار على الحكم الظاهري وموضوعية رؤية الهلال سواء بالعين المجردة أو العين المسلحة على اختلاف بين الفقهاء . والمختار هو رؤية الهلال بالعين المجردة ، وإذا ثبت في بلد يثبت في بلد آخر يجمعهما ليل واحد ، وقال جمع من الفقهاء لكل بلد رؤيته. نسأل الله عز وجل أن ييسر صيام رمضان كل عام. وقد وردت رواية حبيب الخزاعي عن الإمام الصادق عليه السلام (لاتجوز الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلاً عدد القسامة إلا من خارج المصر وفيه علة). والرواية ضعيفة بحبيب الخزاعي. وقال الحنفية : وان كانت في السماء علة كالغيم والغبار والأبخرة الثقيلة قبل الإمام شهادة الواحد العدل ، وعرف بأنه الذي غلبت حسناته سيئاته . أما التواتر والشيوع العام فهما فرع البينة الشرعية لرؤية الهلال . الثالث : إكمال عدة الشهر ثلاثين يوماً ، فالشهر القمري لا ينقص عن تسعة وعشرين يوماً ولا يزيد على ثلاثين . سقوط الجهاد عن المرأة سلم مجتمعي لقد نزلت آيات القتال بصيغة التذكير منها [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، والقاعدة إرادة المذكر والمؤنث بلفظ التذكير في التكاليف إلا أن يرد دليل على التخصيص ، كما في سقوط القتال عن المرأة . والجهاد أعم من القتال ، ويشمل مقدماته ، والتبليغ ، وأداء التكاليف العبادية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يرجح معه الضرر على الذات والغير ، فالذكورة شرط في القتال وهو ساقط عن النساء . نعم كانت أول من أمن بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم امرأة وهي زوجه خديجة بنت خويلد ، وأول شهيدة في الإسلام امرأة وهي سمية بنت خباط أم عمار بن ياسر ، كما حضرة امرأتان من الأنصار بيعة العقبة الثانية. إذ ورد عن جابر بن عبد الله في حديث (إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا : نسيبة بنت كعب أم عمارة احدى نساء بني النجّار، وأسماء بنت عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة وهي أمّ منيع، واجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء ومعه عمّه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلاّ أنّه أحبّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثّق له فلمّا جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب فقال : يا معشر الخزرج وكانت العرب إنما يسمّون هذا الحي من الأنصار : الخزرج؛ خزرجها وأوسها إنّ محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا ، وهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أبى إلاّ الانقطاع لكم واللحوق بكم)( ). والنسبة بين الجهاد والقتال عموم وخصوص مطلق ، فالجهاد أعم ، فيشمل الإنفاق في سبيل الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويتجلى قانون سقوط القتال عن النساء رحمة ، إلا مع الضرورة إذ تباح معها المحظورات . كما في معركة أحد إذ قاتلت أم عمارة نسيبة التي حضرت بيعة العقبة كما في حديث جابر أعلاه ، وكان خروجها إلى ميدان المعركة للإطلاع وتفقد أولادها سقاية الماء ، ولكنها عندما رأت تفرق أكثر أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنه ، واقتراب المشركين منه يريدون قتله دخلت المعركة. وكانت تذكر اشتراكها هذا بالفخر والرضا ، إذ قالت (خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس ومعى سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين. فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمى عن القوس، حتى خلصت الجراح إلي. قالت أم سعد بن الربيع : فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور، فقلت لها: من أصابك بهذا ؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا. فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات ، ولكن عدو الله كانت عليه درعان)( ). لقد أحضر المشركون النساء معهم إلى معركة أحد ، ومنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضور النساء في خيبر . و(عن حشرج بن زياد الأشجعي، عن جدته أم أبيه قلت: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزاة خيبر وأنا سادسة ست نسوة. قالت : فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن معه نساء . قالت : فأرسل إلينا فدعانا ، قالت: فرأينا في وجهه الغضب . فقال : ما أخرجَكنَّ ، وبامر من خرجتُنَّ . قلنا : خرجنا معك نناول السهام ونسقي السَّويق ، ومعنا دواءٌ للجرحى ، ونغزل الشعر ، فنعين به في سبيل الله. قال : قمنَ فانصرفنَ . قالت : فلما فتح الله عليه خيبر ، أخرج لنا سهاما كسهام الرجل. فقلت لها : يا جَدَّة ، وما الذي أخرج لكنّ ، قالت: التمر)( ). وسقوط القتال عن النساء تخفيف عنهن وعن المسلمين عامة ، ومناسبة لعنايتهن بشؤون الأسرة ، وتأديب للأولاد في طاعة الله ورسوله عند وجود الأزواج أو غيابهم في الدفاع والمرابطة والضرب في الأرض للتجارة. وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله عز وجل يفتح له الأمصار من غير حاجة للإستعانة بالنساء في القتال ، قال تعالى [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا]( ). إحصاء الآيات التي تنفي نسخ آيات السلم لقد صاحب علم الإحصاء والعد والحساب الإنسان من حين خلق الله آدم وحواء في الجنة إذ علّم الله عز وجل آدم الأسماء ثم أمره أن يخبر الملائكة بها ، قال تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ). والإحصاء علم يعتني بجمع البيانات بلغة الأرقام والحساب ، وتنظيمها وترتيبها والإنتفاع الأمثل منها بحسب الموضوع والحكم ، ويشمل علم الأحصاء كل أبواب الحياة منها ، الإجتماع ، والإقتصاد ، والتجارة ، والصناعة ، وحال السلم والحرب ، ومنها علوم القرآن ، فليس من حصر لمصاديق علم الإحصاء بخصوص كل من : الأول : سور القرآن . الثاني : آيات القرآن . الثالث : آيات الأحكام . الرابع : آيات السلم ، ودلائل سلامتها من النسخ. الخامس : تعدد الموضوع والحكم في الآية الواحدة . السادس : آيات البشارة . السابع : آيات الإنذار . الثامن : الآيات التي تجمع البشارة والإنذار . التاسع : آيات القتال . العاشر : آيات الوعد . الحادي عشر : آيات الوعيد . الثاني عشر : دلالة تكرار الكلمة في القرآن باحصاء الكلمات المكررة في القرآن . الثالث عشر : إحصاء الأسماء الحسنى لله عز وجل في القرآن ودلالتها مجتمعة ومتفرقة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]( ). الرابع عشر : إحصاء الخصال المحمودة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن . الخامس عشر : آيات الفرائض العبادية . السادس عشر : آيات الصلاة وأوقاتها وكيفيتها ، قال تعالى [أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ). السابع عشر : إحصاء آيات الحب والرجاء ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]( ). الثامن عشر : آيات إحصاء الصلح والموادعة . التاسع عشر : إحصاء آيات الصبر . العشرون : الآيات التي تجمع بين الصبر وفعل عبادي آخر ، كما في قوله تعالى [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى]( ). الواحد والعشرون : إحصاء آيات أولوية الصبر وبيان منافعه . الثاني والعشرون : إحصاء الأوامر الموجهة من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن منها بلفظ (قل) (328) مرة لبيان قانون الأوامر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن مدرسة عقائدية. الثالث والعشرون : إحصاء آيات المعاملات والتجارات . الرابع والعشرون : آيات المستحبات كالصدقة الزائدة عن الزكاة والخمس. الخامس والعشرون : آيات صلة القربى والأرحام ، قال تعالى [فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ). السادس والعشرون : آيات مواطن الحساب والجزاء في الآخرة . السابع والعشرون : آيات الجنة والنار ، والمقارنة بينها . وصحيح أن كثيراً من هذه الآيات مكية ، فهي لا تنسخ آية السيف لاشتراط تأخر زمان الناسخ على المنسوخ في ثبوت النسخ بين آيتين وآية السيف من سورة المائدة ، وقد تقدم أنها من آخر ما نزل من القرآن إلا أن هذه لا يعني قانوناً ثابتاً ، فالمختار موضوعية معاني الآية وتجليات ثبوت مضامينها ، واستدامة العمل بأحكامها ، وهل هي من آيات السلم والصبر والصلات الإجتماعية العامة. لتبقى شاهداً على عدم نسخ آية السيف لآيات السلم فقوله تعالى [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ]( )، من سورة النحل وهي مكية ، ولكن مضامينها تدل على عصمتها على النسخ ، وأن الصبر هو الأولى من العقوبة في كل زمان ، وتتجلى شواهد من السنة النبوية بامتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الثأر والإنتقام ، وعن رد التعدي بمثله ، قال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ). وفي قوله تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ]( ) ( )، ورد (عن الربيع قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وقد شج في وجهه وأصيبت رباعيته ، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم. فقال : كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى الشيطان ، ويدعوهم إلى الهدى ويدعونه إلى الضلالة ، ويدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، فهمَّ أن يدعو عليهم . فأنزل الله[لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ]( ). فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء عليهم)( ). علم جديد في النسخ ولو تتبعنا آيات القرآن لوجدنا أكثر من ألف آية استمر العمل بها أيام النبوة وما بعدها تدل على عدم نسخ آية السيف لآيات السلم والصلح والموادعة. لندخل علماً جديداً في باب الناسخ والمنسوخ وهو المدار على العمل بمضامين الآية وليس فقط تأخر نزول الناسخ على زمان المنسوخ ، فاذا استمر العمل بآية قرآنية إلى أن غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا ، وتلقاها أهل البيت والصحابة بالتسليم على أنها محكمة غير منسوخة ، فهو شاهد على سلامتها من النسخ وإن تقدم زمانها على آية السيف ، وقال بعض المفسرين أنها نسخت بآية السيف اجتهاداً منه ، وقد تكون بعض هذه الآيات أمارة على أنها ناسخة لآية السيف . قانون السنة النبوية بلاغ تعددت الآيات بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ والبشارة والإنذار ،وفي كل واحدة منها تتقدم صفة البشير على النذير ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )، وجاءت الكلمات أعلاه آية مستقلة ، وجاءت في آيات أخرى جزء من آية مثل [وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ). لبيان موضوعية السنة النبوية في التبليغ والبشارة والإنذار ، إذ تتضمن الآية أعلاه نزول القرآن من عند الله ، وجاءت آيات تخبر عن كونه بشارة وإنذاراً ، ثم أخبرت الآية أعلاه عن موضوعية السنة النبوية في المقام لأنها شعبة من الوحي ، ويمكن تأليف مجلد خاص من جهات : الأولى :البشارات في السنة النبوية . الثانية : الصلة بين البشارات القرآنية والنبوية تفسيراً واستحداثاً موضوعاً وحكماً . الثالثة : النسبة بين التبليغ والبشارة في المقام ، وهي العموم والخصوص المطلق ، فتبليغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعم . الرابعة : الصلة والإتحاد الموضوعي بين إنذارات القرآن وإنذارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . الخامسة : النفع العام من بشارات وإنذارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن ولاية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإنصات العام إلى بشاراته وإنذاراته . السادسة : تقسيم بشارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى قسمين : الأول : البشارات الدنيوية . الثاني : البشارات الأخروية . ومثل هذه الجهات الخاصة بالبشارات تكون أخرى بالإنذارات النبوية ، لبيان بقاءها إلى يوم القيامة ، وسلامتها من النسخ بآية السيف أو آية القتال ، ولا يعلم المنافع العظيمة لهذه البشارات والإنذارات إلا الله عز وجل ، فهي من المعجزات العقلية المتجددة . آيات (أدع) في القرآن ورد فعل الأمر (أدع) عشر مرات في القرآن ، ستة منها موجهة إلى موسى عليه السلام ،أربعة منها من قومه بني إسرائيل ، ثلاثة منها بخصوص صفات البقرة التي أمره الله عز وجل أن يذبحها بنو إسرائيل [قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ]( )وواحدة في التيه بسؤالهم موسى عليه السلام أنواعاً من الطعام غير المن والسلوى ، إذ أرادوا ما تنبت الأرض وما فيه من الجهد والعمل بالحراثة والزراعة ، بينما كان المن والسلوى ينزل عليهم من السماء . واثنتين من سؤال آل فرعون لموسى عليه السلام احداهما نعتوه فيها بأنه ساحر [وَقَالُوا يَاأَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ]( ) والأخرى مناشدة وتوسل بأن يدعو الله ليكشف عنهم صنوف العذاب التي نزلت بهم من الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم [آيَاتٍ مُفَصَّلاَتٍ]( ) مع إظهارهم الإستعداد للإقرار بربوبية الله المطلقة والعهد بالإيمان والتصديق برسالته ، وأنهم سيرسلون معه بني إسرائيل ، ولكنهم نكثوا . وتوجه الأمر (أدع) أربع مرات إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكل واحدة من عند الله عز وجل ، وهو إكرام من الله عز وجل له بقوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )ليكون تقدير قوله تعالى [ادْعُ] في آية البحث : فأدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة . ترى لماذا جاءت الآية بفعل الأمر (أدع) الجواب لتفسير الآية السابقة بأن الدعوة إلى سبيل الله واجب وحكم مستقل ، وأن الأمر فيها يختص بصيغة هذه الدعوة : بأن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة. فالجمع بين الآيتين من المطلق والمقيد ، وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والقيام بتبليغ الرسالة والدفاع والمرابطة من الحكمة والموعظة الحسنة ، الجواب نعم. وتعاهد آيات السلم والعمل بأحكامها من الحكمة والموعظة الحسنة في المفهوم والدلالة والأثر ، لبيان قانون آيات الدعوة شاهد على سلامة آيات السلم من النسخ . إنما تؤكد آية البحث بأن الأمر في الآية أعلاه يتضمن الدعوة إلى الله عز وجل على نحو الوجوب ثم الأمر بصفة هذه الدعوة ، وتبن آية أخرى الحاجة إلى الدعوة بقوله تعالى [وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ]( ). ومن معاني الجمع بين الدعوة إلى الله وصفتها بالحكمة والموعظة إنتفاء الحاجة للسيف في الدعوة إلى الله عز وجل ، وليس من حصر لمصاديق الدعوة بالسلم والطمأنينة العامة . القلم والسيف بين التنزيل والشعر تتجلى نعمة نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبقائه سالماً من التحريف والزيادة والنقصان بدخول أفواج الناس في الإسلام وتلاوة آيات القرأن ، ولا يصح مطلع بائية أبي تمام (حبيب بن أوس الطائي 188- 231 هجرية من البسيط بخصوص فتح عمورية : (السيف أصدقُ أنباءً من الكُتُبِ… في حَدِه الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ) وقيل : موضوع القصيدة هو أن المنجمين زعموا بأن عمّورية لا تفتح في ذلك الوقت الذي تم فيه فتحها ، إنما على المعتصم الإنتظار حتى ينضج التين والعنب . ولكن الشاعر أطلق صيغة التفضيل ، كما أن المنجمين يرصدون حركة الكواكب والنجوم وكشف الطالع وليس الرجوع إلى الكتب. وقال أبو الطيب المتنبي من البسيط : (حتى رجعت وأقلامي قوائل لي … المجد للسيف ليس المجد للقلم اكتب بها أبدأ قبل الكتاب بنا…فإنما نحن للأسياف كالخدم) ومعناه أن القوم كالأصنام فتوسلت لهم بالأقلام والتحذير فلم ينفع ، فقالت الأقلام أطلب المجد وبلوغ الغايات بالسيف ثم بعده أكتب الوقائع فان الأقلام تبع وخدم للسيف . وتبعث أول كلمة نازلة من القرآن على طلب العلم وشرف حمله ، وتدل على موضوعية القلم ومنافعه ، بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] قراءة إيمان وهداية وصلاح. لقد كان هؤلاء الشعراء يحرصون على مدح السلطان وتوثيق شجاعته ، والحروب التي خاضها ، وقد مدح المتنبي سيف الدولة الحمداني في حلب الذي قربه وأكرمه ، ثم صارت نفرة بينهما ، وكافور الأخشيدي وأبا شجاع فاتك في مصر ، ثم خرج في مصر متخفياً فاراً يوم عيد الأضحى سنة (350) للهجرة حال إنشغال أهل مصر بالإحتفال بالعيد ومراسيمه فقال قصيدته الشهيرة : (عِيدٌ بأيَّةِ حالٍ عُدْتَ يا عِيدُ … بما مضَى أم لأمْرٍ فيه تجْديدُ أما الأحبَّةُ فالبَيْداءُ دونَهمُ … فليْتَ بينَك بِيداً دونها بِيدُ)( ). في هجاء كافور ، وهي من أشد ضروب الشعر في الذم والهجاء. وكافور حاكم مصر (292-356)هجرية وهو من رقيق الحبشة ، وكان مخصياً أسود اللون ودميماً ، ودام حكمه (23) سنة . ومدح المتنبي أمراء العراق وفارس وابن العميد وعضد الدولة ابن بويه الديلمي في شيراز بعد فراره من مصر . وتصدى ابن جني لشرح قصائد المتنبي ، وقد التقاه في حلب ثم في شيراز ، وكان المتنبي يسأل أحياناً عن أبيات من شعره فيقول (أسألوا ابن جني فانه أعلم بشعري مني). ليبقى أبهى وأعظم البيان والتفسير ما يخص آيات القرآن وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ففيه الصدق والحق والأجر والثواب . إذ يبعث قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]( ) على طلب العلم واعطائه الأولوية وقد شيد صرح الإسلام بآيات القرآن ، وبقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجاهد في سبيل الله ثلاث عشرة سنة في مكة من غير أن يحمل سلاحاً ، فليس من جيش يجهزه الكفار لقتاله . وذات هجرته إلى المدينة سلم وأمن للناس ، وإعراض عن القوم المشركين ، وأذاهم ، ومنه أذى شعرائهم ، قال تعالى [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ]( ) والغاوون الضالون عن جادة الهدى والصواب ، فيتبعون أقوال الشعراء ، ويتبعون ذات نهجهم وآثارهم من الغي والقول باللسان خلاف سنن الهدى .
وفي الآية أعلاه إبطال لشبهة الذين كفروا بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم شاعر ، وفيه دعوة للناس لعدم الإصغاء إلى شعراء الباطل والزيف والبهتان.
ومن إعجاز القرآن الإستثناء في المقام ، إذ قال تعالى [ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ]( ).
و(عن عكرمة في قوله [الشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ]( ) قال : عصاة الجن)( ).
وموضوع الآية أعم ، ويشمل الكفار والضلال واتباع الشيطان ، ومنهم مشركو قريش في معارك الإسلام الأولى إذ أخزاهم الله عز وجل.
ومن مصاديق الإستثناء [إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] ما ورد (عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم قريظة لحسان : اهج المشركين وفي لفظ: هاجهم وجبريل معكم وفي لفظ: فإن روح القدس معك)( ).
إذ أخرج كفار قريش معهم لميدان المعركة عدداً من النسوة والقينات للشعر والضرب على الوفوف في إثارة بالباطل وفي مقدمات معركة أحد جنّدوا الشعراء للطواف على القبائل وتحريضها على القتال ، فجمعوا نحو ألفين من رجالاتها ساروا إلى المعركة كما كانت نساء قريش (يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار وكانت هند تقول :
نحن بنات طارق … نمشي على النمارق
الدر في المخانق … والمسك في المفارق
إن تقبلوا نعانق ونفرّق …النمارق أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق)( ).
ويسمى هذا الشعر رجزاً ، وبنات طارق أي بنات النجم والأفلاك العالية تفاخراً بالآباء والوامق : المحب ، قال تعالى [وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ]( )، وكانت النتيجة هزيمة جيوش المشركين في معركة بدر ، ورجوعهم من معركة أحد بخيبة وحسرة وأسى.
وعن يزيد بن عياض (أن النبي صلى الله عليه وآله سلم لما قدم المدينة تناولته قريش بالهجاء .
فقال لعبد الله بن رواحة رد عني فذهب في قديمهم واولهم ولم يصنع في الهجاء شيئا فأمر كعب بن مالك فذكر الحرب فقال :
نصل السيوف إذا قصرت بخطونا … قدما ونلحقها إذا لم تلحق
ولم يصنع في الهجاء شيئا
فدعا حسان بن ثابت فقال اهجهم وائت أبا بكر يخبرك بمعايب القوم فاخرج حسان بن ثابت لسانه حتى ضرب به على صدره وقال والله يا رسول الله ما احب أن لي به مقولا في العرب فصب على قريش منه شآبيب شر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اهجهم كأنك تنضحهم بالنبل)( ).
الرؤيا مدد
من بديع خلق الإنسان عالم الرؤيا والمنامات ، وكيف يسبح ذهن الإنسان في عالم مثالي يتضمن البشارة والإنذار في أمور الدين والدنيا ، ولا يعلم كثرة عدد الذين آمنوا والذين تابوا وأصلحوا بسبب الرؤيا إلا الله عز وجل .
(وعن أنس قال : أتى رسولَ الله أسقف فذكر أنه رأى في منامه الأُمم كانوا يمنعون على الصراط (……….) حتى أتت أُمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم غرّاً محجلين قال : فقلت : من هؤلاء الأنبياء؟
قالوا : لا.
قلت : مرسلون؟
قالوا : لا .
فقلت : ملائكة؟
قالوا : لا .
فقلت : من هؤلاء؟
قالوا : أُمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم غرّاً محجلين عليهم أثر الطهور، فلما أصبح الأسقف أسلم)( ).
وهل تكون الرؤيا دعوة للسلم ونبذ الخصومة والقتال ، الجواب نعم لبيان أنها مدد لآيات السلم ، وحضّ على التآخي والسلم المجتمعي.
ومن تأويل السلام والتحية في الرؤيا المودة والصلات الحسنة ، ومنها صلة الرحم ، ونبذ الخصومة ، وتأتي الرؤيا بالرزق الكريم والبشارات ، والإنذار من القتال وسفك الدماء ، ومن أهوال يوم القيامة وعالم الحساب .
قراءة في الجزء (259) من هذا السِفر
يختص الجزء السابق والحمد لله بتفسير قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ]( ).
وتقسم هذه الآية الناس إلى أقسام :
الأول : المنادي ، وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن الإعجاز في المقام أنه لم يرد لفظ (منادياً) في القرآن إلا في هذه الآية ، فلم يذكر لنبي ولا لأحد من الناس غيره ، وفيه تشريف وإكرام له ، ليكون من أسماء النبي محمد التي ينفرد بها المنادي .
الثاني : تلقي الناس كافة موضوع النداء وهو الإيمان بالله إلهاً واحداً لا شريك له ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، أي جميع الناس عربيهم وأعجميهم ، أحمرهم وأسودهم .
ومن الإعجاز في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجود بعض الصحابة من فارس والروم والحبشة .
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أُعطيت خمساً لم يُعطهنَّ نبي قبلي من الأنبياء وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى بلغ محرابه وأُعطيت الرعب مسيرة شهر يكون بيني وبين المشركين شهر فيقذف الله الرعب في قلوبهم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى خاصة قومه ، وبعثت إلى الجن والإنس ، وكان الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله ، وأمرت أن أقاسمها في فقراء أمتي ولم يبقَ نبي إلا قد أُعطي سؤله وأُخّرت شفاعتي لأمتي)( ).
ترى لماذا ذكرت الآية الإيمان مطلقاً ثم ذكرت التخصيص [أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ] الجواب من جهات :
الأولى : توكيد وجوب التوحيد .
الثانية : بيان أن الله عز وجل ربّ الناس جميعاً لذا جاءت الآية بصيغة الخطاب (ربكم).
الثالثة : وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، قال تعالى [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ]( ).
الرابعة : لزوم التنزه عن الشرك ومفاهيم الضلالة .
الخامسة : الأخذ والعمل بما نزل به القرآن من الأحكام .
وفي آية أخرى من سورة الشورى [اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ]( ).
ويمكن تسمية النداء في الآية بأنه النداء النبوي للإيمان .
الثالث : الذين تلقوا نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم على أقسام :
الأول : الذين استجابوا لنداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإيمان وهم المسلمون والمسلمات .
ومن فضل الله عز وجل اشتراكهم بمعنى ذات الإستجابة مع أنهم على أقسام أيضاً منهم من أمن من أول الدعوة وهاجروا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم الأنصار ، ومنهم من حارب النبي محمداً ثم تابوا ودخلوا الإسلام .
الثاني : أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين بقوا على ملتهم ولم يحملهم النبي والمسلمون على ترك ملتهم ، إنما كانوا في ذمة الإسلام ، يدفعون الجزية ليدافع المسلمون عنهم وعن أعراضهم وأموالهم.
والمختار انتفاء موضوع الجزية في هذا الزمان لأن الملاك هو المواطنة والتساوي في الحقوق والواجبات كما انتفى موضوع تحرير رقبة كفارة .
وإذا انتفى الموضوع انتفى الحكم ، وكذا إذا تغير الموضوع تبدل الحكم لأن الحكم تبع له .
الثالث : الكفار الذين استمعوا للنداء ولكنهم لم يستجيبوا له ، وهم على أقسام :
الأول : من حارب النبي ، وقتل في الميدان.
الثاني : من مات على الكفر ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ]( ).
الثالث : الكفار الذين لم يحاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ]( ).
وتبين آية البحث قانون الإمتثال المتجدد شاهد على نفي النسخ .
ويدل قوله تعالى [سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ]( ) على أن الإيمان أصل تقع تحته مصاديق مباركة وحسنة غير متناهية.
لقد أراد الله عز وجل لآيات القرآن البقاء في الأرض وبين الناس وعلى ألسنة المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وليحضر يوم القيامة بآياته ، ويشهد للذين استجابوا لنداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويقيم الحجة على الذين تخلفوا عن الإيمان ، وحاربوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد ورد في الجزء (204) قانوناً ، وكثير منها تم شرحه وبيانه ومنها :
الأول : قانون استدامة أحكام الإسلام وتجدد قول [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ]( )، وسلامة القرآن من التحريف ص 11 .
الثاني : قانون التضاد بين الذكر والغفلة ص 11.
الثالث : قانون الحياة الدنيا وعاء ومناسبة للنجاة من الخزي ، ودخول النارص 15.
الرابع : قانون انعدام النصير للظالمين مجتمعين ومتفرقين يوم القيامة ، والذي يدل في مفهومه على الولاية والنصرة للمؤمنين يوم القيامة ، قال تعالى في خطاب للمسلمين ، وتثبيت أقدامهم في منازل الإيمان [فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ]( ) .ص 23 .
الخامس : قانون التلاوة مدرسة أخلاقية تمنع من الهّم بالمعصية ، وتعصم الجوارح من الظلم والتعدي ، ويفاجئ المسلم يوم القيامة ص30 .
السادس : قانون تسخير الإكتشافات الكونية للإيمان ، وفق إعلام وعلوم إيمانية تصل إلى الناس جميعاً .ص54 .
السابع : قانون اسم المنادي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يناسب أكثر آيات القرآن ص 64.
الثامن : قانون الذي نادي للإيمان هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو لم يدع من نفسه أو لنفسه ، إنما دعا للإيمان بالوحي والتنزيل المقترن بالحجة والمعجزة . ص 87.
التاسع : قانون وجوب الدعاء والاستغفار ، والإستغاثة بالله عز وجل ورحمته غياث الناس أجمعين ، وملاذ الخائفين ، قال تعالى [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ]( ).ص 91.
العاشر : قانون القرآن معجزة عقلية يكرر أجيال المسلمين في كل زمان قول (ربنا) ولا تمر ساعة على أهل الأرض ومن أيام نزول القرآن إلا وهناك عدد من المسلمين يقولون (ربنا) في الصلاة وخارجها بتلاوة القرآن أو بالدعاء المأثور أو الدعاء الشخصي أو الحديث والجدال والإحتجاج ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .ص 109.
الحادي عشر : قانون الحياة الدنيا دار النداء إلى الإيمان ، ولا يعلم عدد الذين نادوا إلى الله ووجوب الإيمان بربوبيته وحده ، وعدد المرات التي نادى فيها كل واحد منهم إلا الله سبحانه ص130.
يوميات علمية للمرجعية الإسلامية
المرجع الصالح الطائي
الحمد لله الذي لا تنفد خزائنه .
ومنها فضله علينا بصدور الجزء (259) من معالم الإيمان ويختص بتفسير الآية (193) من آل عمران ، ونطبع أجزاءه المتتابعة على نفقتنا الخاصة وهو من أفضل موارد الخمس والحقوق الشرعية, وفيه النماء والبركة.
العدد : 80/24 في 20/3/2024
ليس من حد لفضل الله عز وجل على الأنبياء عامة ، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ، وفي خطاب إلى النبي محمد (ص) قال تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] ، فتوالت المعجزات عليه ، وصاحبته في دعوته إلى الله عز وجل .
وكل آية قرآنية معجزة وأمر خارق عجزت العرب في بلاغتها وأشعارها ورجزها وقريضها أن تدرك مسالكه.
العدد : 81/24 في 21/3/2024
النسبة بين الصحابة وبين المهاجرين والأنصار عموم وخصوص مطلق ، فالصحابة أعم ، والمختار أن الصحابي هو المسلم الذي رأى النبي محمداً (ص) وهو مسلم ، فلو رأى شخص كافر النبي محمداً (ص) في مكة ثم أسلم هذا الشخص ولكنه بعد إسلامه لم ير النبي (ص) فهو ليس من الصحابة . العدد : 82/24 في 22/3/2024
هل كثرة المساجد وانتشارها في أقطار الأرض من المعجزات الغيرية للنبي محمد (ص) ، الجواب نعم ، وهذه المعجزة في نماء طولاً وعرضاً.
وهل هو من مصاديق [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] الجواب نعم ، لذا وردت النصوص باستحباب الصلاة جماعة في المسجد .
العدد : 83/24 في 23/3/2024
قانون مصاحبة العصمة للنبوة ، فكل نبي معصوم ، وهو من الشواهد الحسية في تنزه الأنبياء عن صغائر الذنوب وكبائرها .
ترى هل الوحي معجزة ذاتية لا يعلم بها إلا النبي نفسه ، أم أنه معجزة جلية بما يترشح عنها لتكون حجة على الناس ، المختار هو الثاني.
العدد : 84/24 في 24/3/2024
تدل نسبة وفاة الناس إلى الله عز وجل [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ] على أن تفويض ملك الموت بقبض الأرواح وكالة وليس تفويضاً تاماً فلا يتصرف ولا يقبض روحاً إلى بأمر وإذن من عند الله ، قال تعالى [قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ].
وفيه حضّ للمسلمين للتوجه بالدعاء بأمور منها : تأجيل أوان الموت وسهولة قبض الروح ومغادرة الدنيا بالإيمان والمغفرة .
العدد : 85/24 في 25/3/2024
ولد الإمام الحسن عليه السلام في بيت النبوة والوحي في السنة الثالثة للهجرة.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا).
و(عن عائشة أن النبي (ص) كان يأخذ حسنا فيضمه إليه ثم يقول اللهم أن هذا ابني وأنا احبه فأحببه واحب من يحبه)تأريخ دمشق 13/197.
وفيه شاهد وحجة عامة بأن الحسن والحسين ولدا رسول الله (ص) ، وهل هما من الصحابة ، الجواب نعم من خيرة الصحابة.
العدد : 86/24 في 26/3/2024
المراد من اللطف في الإصطلاح هو تقريب العبد من منازل الطاعة والإمتثال ، وإزاحة الموانع عنها ، وإبعاده عن المعصية ومقدماتها من غير أن يصل إلى مرتبة الإلجاء ، لإرادة الثواب في التكليف.
العدد : 87/24 في 27/3/2024
لقد تحمل رسول الله (ص) الأذى الشديد من مشركي قريش بسبب تلاوته القرآن في البيت الحرام وفي المجالس واللقاء مع الناس من أهل مكة والمعتمرين ووفد الحاج .
لكي تتعاهد أجيال المسلمين القرآن ويصبروا على حفظه والتدبر في آياته والعمل بأحكامه.
العدد : 88/24 في 28/3/2024
من خصائص أولي العقول التفكر في خلق السموات وعظمتها ، ورفعها ، وفي قوله تعالى [خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا] وجهان:
الأول : للسماء عمد ، ولكن لا ترُى .
الثاني : السماء مرفوعة من غير عمد ، وجملة (ترونها) في موضع حال من السموات ، أي كما ترون السموات بغير عمد .
والمختار هو الثاني ، قال تعالى [وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ] وجاء العلم الحديث وصارت الطائرات والصواريخ والمركبات الفضائية تجوب الفضاء كل يوم ، وليس من عمد ، وليكون قوله تعالى [تَرَوْنَهَا] متجدداً في كل زمان.
العدد : 89/24 في 29/3/2024
عن عبد الله بن مسعود قال : لما برز عليٌ عليه السلام إلى عمرو بن ود ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: برز الإيمان كله إلى الشرك كله .
وكان ابن مسعود يقرأ هذا الحرف [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] بعلي بن أبي طالب.
العدد : 90/24 في 30/3/2024
في حديث صاحب الإمام علي (ع) ضرار بن ضمرة الضبابي في وصفه عندما ألح عليه معاوية .
قال : (كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل ووحشته وكان غزير العبرة طويل الفكرة يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استفتيناه ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له يعظم أهل الدين ويقرب المساكين لا يطمع القوي في باطله ولا ييئس الضعيف من عدله وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نـجومه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول يا دنيا غري غيري أبي تعرضت أم إلي تشوقت هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا لا رجعة لي فيها فعمرك قصير وخطرك حقير آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق فبكى معاوية وقال رحم الله أبا حسن كان و الله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار قال حزن من ذبح ولدها في حجرها) ابن أبي الحديد 2.
العدد : 91/24 في 31/3/2024
النسبة المنطقية بين البصر والبصيرة هي العموم والخصوص المطلق ، فأولو الأبصار يدركون بحواسهم الآيات الكونية ومعجزات النبوة الحسية ، قال تعالى [يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ].
والبصائر البينات والحجج القرآنية ، وأولو البصائر هم أهل النهى ، الذين يتفكرون بالآيات ويخشون الله بالغيب.
ولم يرد في القرآن أولو البصائر , لبيان كفاية الحواس في إقامة الحجة على الناس جميعاً ، قال تعالى [فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ].
العدد : 92/24 في 1/4/2024
النسبة بين الحوار والجدال هي العموم والخصوص المطلق ، وأن الحوار أعم ، ويدل عليه قوله تعالى [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ].
فخولة بنت ثعلبة تجادل في مسألتها والنبي (ص) يحاور كمدرسة للأجيال.
العدد : 93/24 في 2/4/2024
من مصاديق كون القرآن معجزة عقلية تجدد بشاراته وإنذاراته كل يوم في مشارق ومغارب الأرض بالوقائع وتلاوة كل مسلم ومسلمة آيات القرآن خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني وهو من المصاديق اليومية الحاضرة لقوله تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا].
العدد : 94/24 في 3/4/2024
معجزة إيمان طائفة بكل نبي ، وهذه الطائفة من الكلي المشكك في كثرة أو قلة أفرادها .
وهل من موضوعية للمعجزة العقلية في زيادة أعداد المؤمنين برسالة النبي محمد (ص) ، الجواب نعم (قال رسول الله (ص): ما مِنْ نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا).
من الجزء 259 من معالم الإيمان
العدد : 95/24 في 4/4/2024
قانون مصاحبة ملكة الصبر للأنبياء ، إذ يتحلى كل نبي بأبهى مصاديق الصبر والتحمل في طاعة الله، ودعوة الناس للإيمان، وهذا الصبر بمدد وعون من الله عز وجل ، قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ].
من الجزء 259 من معالم الإيمان
العدد : 96/24 في 5/4/2024
إلى/فضيلة الدكتور السيد وليد بن عزّ الدّين الهمّامي “حفظه الله”
جامعة الزيتونة بتونس
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نبعث لشخصكم الكريم هدية الجزء التاسع والخمسين بعد المائتين من تفسيرنا للقرآن ، وجميع كتبنا الفقهية والأصولية وفي علم التفسير على موقعنا (www.marjaiaa.com).
أما بخصوص أسئلتكم الكريمة فالجواب كالآتي :
يجوز تدخل الطب الحديث للتحكم في جنس الجنس وفق الضوابط الشرعية ، مع التقيد بقاعدة لا ضرر ولا ضرار الخاص والمجتمعي العام ، وهو لايتعارض مع قوله تعالى [يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ]وورد لفظ (يهب) في هذه الآية مرتين ، ولم يرد في آية أخرى من القرآن ، لبيان موضوعية نعمة الرزق بالولد أو البنت وأنه بمشيئة الله .
ولا يصح تغيير جنس الذكر إلى أنثى وبالعكس فلا اعتبار للميول الجنسية، وفي ذم الشيطان وإضلاله لمن يتبعه ورد في التنزيل حكاية عنه[وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ].
ولا موضوعية لإنحراف المشاعر والتخنث وعكسه ، ولا يتعارض العلم الحديث في التحكم بجنس الجنين مع الحكم الشرعي لأنه من نعم الله المستحدثة ومصاديق [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]
4- تجوز زراعة كبد أو كلية حيوان حتى الخنزير في جسم الإنسان ، لأن هذا العضو يصبح جزءً من جسم الإنسان ، فتجوز الصلاة فيه لأولوية حياة الإنسان ، ودفع الضرر .
وقد تكون هذه المسألة الإبتلائية محدودة زماناً إذ يتجه العلم الحديث لصناعة أعضاء صناعية ، والعلم عند الله .
23 رمضان 1445هـ
النجف الأشرف
العدد : 97/24 في 6/4/2024
يتجلى في النقل والعقل : القبح الذاتي والغيري للظلم ، وهو ضد للعدل والإحسان الذي تستأنس به النفوس ، وضد الفطرة وقوانين الإرادة التكوينية .
وفي حديث ابن عباس قال النبي محمد (ص) لمعاذ حين بعثه إلى اليمن (واتق دعوة المظلوم فانه ليس بينها وبين الله حجاب).
العدد : 98/24 في 7/4/2024
الدنيا دار النداء السماوي
من رحمة الله بالناس جميعاً قانون جعل الدنيا دار النداء اليومي للإيمان فلا يمر يوم على الدنيا إلا وهناك نداءات متكررة للإيمان تخاطب العقل والحواس منها التنزيل والآيات الكونية من وجوه:
الأول : الآيات الكونية الثابتة كالسماء والأرض .
الثاني : الآيات الكونية المتعاقبة كالليل والنهار والشمس والقمر.
الثالث : الآيات الموسمية كالغيث من السماء .
الرابع : الآيات الكونية الطارئة ككسوف الشمس ، وخسوف القمر ، وما فيهما من التذكير بعظيم قدرة الله ووجوب عبادته ، وبعث الطمأنينة في قلوب المؤمنين ، والخوف والرهبة في قلوب الكافرين.
العدد : 99/24 في 8/4/2024
يرجى عزل واخراج زكاة الفطرة الآن الى ما قبل زوال يوم غد الأربعاء ودفعها للفقير المستحق ، عن كل فرد من الأسرة (2000) الفا دينار في العراق ، فاذا كان عدد أفراد الأسرة خمسة تكون زكاتهم عشرة آلاف دينار ، وإن كان بعض أفراد العائلة غير موجود معهم.
وكل بلد بحسبه بمقدار ثلاثة كيلو غرام من القوت الغالب في البلد كالحنطة والرز والتمر ، ويجوز دفع قيمتها للفقير ، ويعتبر فيها قصد القربة لأنها عبادة كزكاة المال ، قال تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى].
العدد : 100/24 في 9/4/2024
لقد لاقى النبي النبي محمد (ص) وأهل بيته وأصحابه أشد الأذى من كفار قريش في مكة وشدة حصارهم له ولبني هاشم.
وهاجر (83) رجلاً و(19) امرأة منهم إلى الحبشة لسلامة دينهم وأنفسهم ، وأراد المشركون قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في فراشه فهاجر في ذات الليلة إلى المدينة ونام الإمام علي (عليه السلام) في فراشه ليلتئذ .
والمتبادر تخفيف الأذى عن النبي (ص) وأصحابه بعد الهجرة ولكن قريشاً هجمت على المدينة المنورة بالجيوش لقتال وقتل النبي (ص) وأصحابه.
لبيان أنفراد النبي (ص) من بين الأنبياء بشدة الأذى بعد الهجرة ونزول نصر الله عليه بالمعجزة الحسية والعقلية ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا].
العدد : 101/24 في 10/4/2024
صلاة العيد
وهي سنة نبوية ، قال تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى] وتصلى أول يوم من شوال ، والعاشر من ذي الحجة في المساجد والساحات إلا في مكة فتصلى في المسجد الحرام حصراً كيلا يخلو من المصلين والطائفين .
وتؤدى بعد طلوع الشمس بنحو ربع ساعة (قدر رمح)، وكيفيتها ركعتان تقرأ في كل منهما الفاتحة وسورة ، ويكبر في الأولى قبل الركوع خمس مرات ، وفي الثانية أربع ، وهذه التكبيرات مستحبة وكذا القنوت بعد كل واحدة منها والإفضل المأثور ، وتستحب قراءة سورة الأعلى في الأولى ، والشمس في الثانية.
ويأتي إمام صلاة العيد بخطبتين بعد صلاة العيد خلاف صلاة الجمعة ، ويستحب الغسل قبلها ، وتناول طعام ، والتكبير الخاص بعدها وهو : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا .
العدد : 102/24 في 11/4/2024
لقد جنـّد المشركون الشعراء في معارك الإسلام الأولى لتحريض القبائل على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكانت القينات في الطريق إلى بدر ، ونساء قريش في ميدان معركة أحد ينشدن الأشعار ، منها قول هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان قصيدة مطلعها :
نـحن بنـات طارق نمشي على النمارق
والطارق أي النجم لبيان علو ورفعة الآباء في المجد ، وذكر الله الطارق بلغة الموعظة والإنذار ، قال تعالى [وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ] فكانت نتيجة معركة أحد عودة المشركين بالخيبة والحسرة والعجز عن تحقيق أي غاية خبيثة لهم.
العدد : 103/24 في 12/4/2024
من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية تعاهد أجيال المسلمين الصلاة بأوقاتها وبالكيفية التي نزل بها الوحي , والتسليم بالثواب العظيم للصلاة جماعة وفراداً , وقوله (ص)(الصلاة عِماد الدين)البحار 74/75.
والعِماد ما تعتمد وترتكز عليه الخيمةُ والبيت ، لبيان منافع الأعمال العبادية ، وقبول البِر والإحسان مع أداء الصلاة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا].
العدد : 104/24 في 13/4/2024
قانون نهي المؤمنين عن العزلة عن قومهم إذ أن الناس يحتاجون إليهم في التبليغ , وبيان الأحكام بالقول , والفعل كأداء الصلاة والصيام وإخراج الزكاة , وذكر معجزات النبوة.
العدد : 105/24 في 14/4/2024
قانون ملازمة كلمة التوحيد للناس في كل يوم وليلة من أيام أبينا آدم وإلى أوان النفخ في الصور لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] ليحمل المسلمون لواء التوحيد بالتقيد بأحكام القرآن وأداء الفرائض العبادية ، ومنها صلاة كل مسلم ومسلمة في الأجيال المتعاقبة خمس مرات في اليوم , وتلاوة القرآن فيها على نحو الوجوب العيني ، واتباع السنة النبوية .
العدد : 106/24 في 15/4/2024
سؤال مع هدية قرآنية
كلمة جمع من كلمات الأحكام وردت في القرآن (12) مرة منها (6) في آيتين متجاورتين ، فما هي هذه الكلمة والآيتان .
هدية الجواب الصحيح مصحف مع (25) جزء من (معالم الإيمان) ورسالتنا العملية (الحجة) خمسة أجزاء .
لبيان أن الأسئلة القرآنية المترشحة عن إعجازه أعم من مليارات الكلمات المعروضة على الأنترنيت .
العدد : 107/24 في 16/4/2024
النسبة بين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق ، فالوحي أعم ومنه السنة النبوية .
وقال النبي محمد (ص) (أوتيت الكتاب ومثله معه) فالى جانب نزول جبرئيل بآيات القرآن فانه يأتي للنبي (ص) بالسنن والإحتجاج ونحوه.
العدد : 108/24 في 17/4/2024
رقم الايداع في دار الكتب والوثائق ببغداد
417 لسنة 2023