المقدمـــة
الحمد لله الحنان المنان واهب العطايا الجزيلة والتي لا يقدر على هبتها إلا هو سبحانه ، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) , وصلى الله على النبي محمد وآله الطاهرين .
ومن لطف الله عز وجل أن كل فرد من البشر تأتيه عطايا عظيمة فيها اختلاف عن غيره من البشر بآية في الخلائق ومظهر لبديع صنع الله عز وجل ، وجميل إحسانه على الإنسان إذ جعله [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الحمد لله الذي جعلنا متخلفين عن إحصاء النعم التي تفضل بها علينا ، ولا يحصيها ويحفظها إلا هو سبحانه ، والذي يزيد فيها كماً وكيفاً كل يوم ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
الحمد لله الذي تفضل علينا وأغرقنا بالنعم التي أبى الله عز وجل إلا أن تأتي بعضها دفعة متتالية وأخرى تدريجية ، وهل صرف البلاء من النعم ، الجواب نعم ، إنه من أعظم النعم ، ولا يقدر على صرفه في الليل والنهار إلا الله عز وجل، ليكون مناسبة للدعاء والإستغفار والشكر والتضرع إلى الله ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
وجاء الأمر من الله عز وجل في الآية أعلاه إلى الناس مباشرة لبيان انتفاء الواسطة بينه وبينهم ، فصحيح أن الملك جبرئيل ينزل بالتنزيل والرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بالتبليغ ، ولكن قوس الصعود خال من الحاجب والبرزخ إذ يسمع الله الدعاء حالما يصدر من العبد ، يعلم به إن كان سراً أو خفياً ، قال تعالى [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى]( ).
ولو كان الإنسان يدعو سراً من غير ضرورة فهل يستجيب الله عز وجل له , أم لابد من الجهر بالدعاء.
الجواب هو الأول ، وهو من لطف الله عز وجل ، ومن الشواهد عليه قراءة القرآن في الصلاة اخفاتاً في صلاة الظهر والعصر.
الحمد لله الذي جعل القرآن هدى ورحمة ، وشاهداً على كل عصر ، وهو الدليل والصراط والأمل في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وقد صدر الجزء السابق من هذا السِفر وهو الجزء الستون بعد المائتين من هذا السِفر بخصوص (قانون آيات السلم محكمة غير منسوخة) وهو الجزء الحادي عشر في هذا الموضوع ، وفيه (224) قانوناً ، وكل قانون موعظة ومادة للبحث والإستنباط.
ويختص هذا الجزء المبارك الذي بين يديك بقانون (لم يغز النبي (ص) أحدا) ويختتم بفتح مكة سلماً , وبتوفيق وهداية من الله عز وجل توالي صدور هذه الأجزاء فلله الحمد والشكر أمس واليوم وغداً.
ونسأله تعالى صدور أجزاء أخرى من هذا السِفر بعدد وكيف ومضمون بما هو أهله [إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
ونتطلع إلى الإنتفاع العام الأمثل من هذا التفسير ، وليكون إشراقة إيمانية ومنهاج علم يفتح الآفاق أمام العلماء في الغوص في خزائن آيات القرآن ، واستخراج الدرر واللاّلئ التي تضيئ مسالك العرفان للسلامة في النشأتين.
ومن فضل الله عز وجل صدور سبعة وعشرين جزءًّ من هذا السِفر خاصة بقانون (لم يغز النبي (ص) أحدا) وهي :
(164-165-166-168-169-
170-171-172-174-176-
177-178-180-181-182-
183-187-193-196-204-
212-216-221-229-239-
256-261)
الحمد لله على هذه النعمة ودلالتها التفصيلية بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان وأصحابه في حال دفاع في كل معركة من معارك الإسلام ، بدر ، وأحد ، الخندق ، حنين وغيرها بلحاظ الشواهد من القرآن والسنة .
الحمد لله حمداً كثيراً ونسأله تعالى أن نسبحه بكرة وأصيلا ، وأن يجعل أيامنا بغبطة وسعة في الرزق ، ويصرف عنا وأهلينا شرور الدنيا ، ببشارة قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، ومن مصاديق الآية أعلاه وجوه :
الأول : يمحو الله السيئات ويثبت الحسنات .
الثاني : يمحو الله البلاء ويثبت الخير وأسباب الصلاح .
الثالث : يمحو الله مفاهيم الكفر والضلالة ، ويثبت معالم الإيمان.
الرابع : يمحو الله المقاصد الخبيثة للمشركين في هجومهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ويثبت النصر للإسلام ، وفي معركة بدر قال تعالى [وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ]( ).
الخامس : يمحو الله مكر المشركين ، ويثبت مكره بما فيه النفع العام للأجيال المتعاقبة ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
السادس : يمحو الله عبادة الأوثان ويثبت مبادئ التوحيد إلى يوم القيامة.
السابع : يمحو الله ما يشاء برحمته وفضله ، ويثبت ما يشاء بلطفه وإحسانه.
ولا يحصي ما يمحوه الله وما يثبته في كل دقيقة من أفراد الزمان الطولية إلا هو سبحانه ، إذ تعجز الخلائق عن الإحاطة بالمواضيع والأحكام والسنن والأجناس التي يطرأ عليها المحو ، ويتم فيها الإثبات والأعداد المتراكمة بسرعة لمصاديق كل منهما.
ونسأل الله عز وجل أن يمحو عنا سيئاتنا ، ويغفر لنا ، ويهدينا لفعل الحسنات ويثبت الأجر عليها غير منقوص ، وأن يصلحنا لتلاوة للقرآن والعمل بأحكامه ببركة صبر وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل من موضوعية لآية المحو والإثبات أعلاه في سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإغتيال ، وفي نصره في سراياه ، الجواب نعم ، لذا جاء هذا الجزء وهو الواحد والستون بعد المائتين من كتابي كتابي (معالم الإيمان في تفسير القرآن) في بيان وجوه من الإعجاز والفضل الإلهي في سرايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها كانت للدفاع وتفريق جموع المشركين الذين يريدون غزو المدينة وسقوط عروش الكفر في الجزيرة على التوالي والتعاقب ، ويتضمن هذا الجزء بعض الدراسات عن كل من :
الأولى : معجزة صلح الحديبية ، وتفضل الله بتسميته فتحاً مبيناً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
الثانية : معجزة عمرة القضاء .
الثالثة : معجزة فتح مكة والذي تم سلماً من غير قتال ، وليس من طرف مؤهل للصلح مقابل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عند دخولهم مكة.
الحمد لله نور السموات والأرض ومن معاني هذه التسمية المباركة تغشي لطف الله لسكانهما ودفع الشرور والأذى عنهم ، وجعلنا ندرك أنواره بسور القرآن ، والآيات الكونية ، ومعجزات النبوة.
لذا جعل الله عز وجل التنزيل ضياءً مصاحباً للناس إلى يوم القيامة ليس من حاجب أو برزخ بينهم وبينه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الحمد لله الذي بعث النبي محمداً [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ومن مصاديق هذه الرحمة وجوه :
الأول : نزول القرآن وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الآيات حال نزولها .
الثاني : تجلي المعجزات الحسية على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن صيغة العموم في المقام [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] بقاء معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية بين الناس إلى يوم القيامة.
الثالث : لقد كانت قريش وأهل الجزيرة على الضلالة ، وعبادة الأوثان فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للقضاء على عبادة الأوثان والطاغوت ، ومن معجزاته انقراض هذه العبادة إلى يوم القيامة .
لقد بعث الله عز وجل الأنبياء والرسل وعددهم مائة ألف وثلاثة وعشرون ألف نبي ، ولم يُقض على عبادة الأصنام ، ونصبت ثلاثمائة وستون صنماً في المسجد الحرام ، فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فأرادت قريش قتله ، وأحكموا خطة الهجوم عليه في فراشه ، وفي ذات الليلة التي أحاط عشرة من فتيان قريش ببيته نزل جبرئيل وأمره بالهجرة إلى المدينة في معجزة له ، وبات الإمام علي عليه السلام في فراشه للتورية والتمويه على المشركين .
الحمد لله حمداً طيباً مباركاً ، ونسأله تعالى أن يكون صدور هذا الحمد منا دائماً متصلاً في الدنيا وعالم البرزخ ، وفي الآخرة لحاجتنا إلى الحمد لله في الآخرة أكثر من حاجتنا إليه في الدنيا .
الحمد لك اللهم عدد خلقك ، وزنة عرشك ، ومداد كلماتك ، قال تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا]( ).
فلو كان جنس البحر أي بحار الدنيا كلها ، والمداد هو الحبر الذي يؤخذ من الدواة ليكتب به القلم .
وصحب سلمان الفارسي (رجل ليتعلم منه فانتهى إلى دجلة وهي تطفح ، فقال له سلمان : أنزل فاشرب . فشرب ، قال له : ازدد ، فازداد . قال : كم نقصت منها ، قال : ما عسى أن أنقص من هذه؟ قال سلمان : فكذلك العلم ، تأخذ منه ولا تنقصه)( ).
اللهم لك الحمد حتى ترضى ، ولك الحمد أن ترضى بفضلك ولطفك وإحسانك إذ أن أعمالنا لا ترقى بنا إلى مراتب الرضا .
الحمد لله الذي أكرم الناس بأن فتح لهم باب الدعاء الذي لا ينقطع في أي ساعة من ساعات الدنيا ، وهدى الناس إلى الدعاء بالفطرة والتنزيل وضمن لهم الإجابة.
ومن آيات وبركة الدعاء انتفاع الأموات والذين لم يولدوا بعد من دعاء الأحياء ، ليكون مناسبة لبر الوالدين وإصلاح الذراري ، وفي التنزيل [وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي]( )، لبيان انتفاع الأب والجد من صلاح الذرية ، وتعاهدهم للفرائض العبادية .
ولم يرد لفظ (اصلح لي) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً رسولاً للناس جميعاً ومن أفراد رسالته أن يبلغ الناس بقوله تعالى [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ]( ).
ومع الإيمان وأداء الصلاة قد ينقدح في ذهن المؤمن احتمال تخلف بعض ذريته عن مراتب الإيمان ، وأداء الفرائض فيفزع إلى الدعاء لضمان امتناع ذريته عن التقصير والتفريط خاصة وأن الأمر بالدعاء في الآية أعلاه ورد مطلقاً ومن مصاديقه :
الأول : ادعوني لأنفسكم استجب لكم .
الثاني : ادعوني لذراريكم استجب لكم .
الثالث : ادعوني لآبائكم استجب لكم .
الرابع : ادعوني لدنياكم استجب لكم .
الخامس : ادعوني لآخرتكم استجب لكم .
وآية الدعاء أعلاه من سورة غافر , وهي مكية نزلت قبل الهجرة وتتضمن أدعية عديدة ومنها قوله تعالى [غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ]( )، لتكون حرزاً لسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيد قريش ، ومقدمة لنجاته في طريق الهجرة .
وهي دعوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه باتخاذ الدعاء وسيلة مباركة للنصر في ميادين الدفاع ، وإخبار وإنذار لقريش بأن الدعاء سلاح الأنبياء.
وعن ابن عباس في حديث طويل (قال : لما أنزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم سورة غافر قرأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، فسمعها الوليد ثم انطلق إلى مجلس بني مخزوم.
فقال : والله لقد سمعت من محمد كلاما آنفا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمونق وإن له الحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه يعلوا ولا يعلى ، ثم انصرف.
فقالت قريش : لقد صبأ الوليد، والله لئن صبأ الوليد لتصبأن قريش كلها، وكان يقال للوليد ريحانة قريش ، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه)( ).
و(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ أَلَا نَبْنِي لَك عَرِيشًا تَكُونُ فِيهِ وَنُعِدّ عِنْدَك رَكَائِبَك ، ثُمّ نَلْقَى عَدُوّنَا ، فَإِنْ أَعَزّنَا اللّهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوّنَا ، كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُخْرَى ، جَلَسْت عَلَى رَكَائِبِك ، فَلَحِقْت بِمَنْ وَرَاءَنَا .
فَقَدْ تَخَلّفَ عَنْك أَقْوَامٌ يَا نَبِيّ اللّهِ مَا نَحْنُ بِأَشَدّ لَك حُبّا مِنْهُمْ وَلَوْ ظَنّوا أَنّك تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلّفُوا عَنْك ، يَمْنَعُك اللّهُ بِهِمْ يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُونَ مَعَك . فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرًا ، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرِ .
ثُمّ بُنِيَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَرِيشٌ فَكَانَ فِيهِ)( ).
والحديث ضعيف سنداً خاصة وأن عبد الله بن أبي بكر بن محمد (65-135) لم يسمع من سعد بن معاذ إنما حدثه بعضهم (حُدّث) بأن سعد بن معاذ ومتأخر عنه زماناً.
نعم تم بناء العريش ولكنه بني ليتفرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدعاء ، أما صبيحة المعركة فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان وهو الإمام والقائد.
وقد قدم للمبارزة أقرب الناس إليه إذ أمر حمزة والإمام علي وعبيدة بن الحارث بن المطلب لمبارزة عتبة بن ربيعة وأخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة الذين أصروا على المبارزة فسقطوا قتلى لينزل قوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ]( ).
الحمد لله الأول والآخر وهو [غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ]( )، لا يقدر على إحصاء نعمه على الناس إلا هو سبحانه ، احاط بكل شئ علماً وليس من شئ متحرك أو جامد في الوجود إلا بأمره ومشيئته ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ]( ).
الحمد لله الذي هو وحده أهل أن يُحمد ويُعبد في السراء والضراء ، كاشف الكرب ، الذي أبى إلا أن يجعل مع العسر يسراً وسعة وفرجاً
الحمد لله على التوفيق لكل كلمة كتبتها من هذا السِفر بلطف وفيض منه تعالى مع شدة المرض والسقم هذه الأشهر بسبب ابتلاء قبل أربعين سنة [قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( )، وتخلف في هذه الأيام عن منهاجي في التأليف خاصة وأني أقوم بفضل الله عز وجل بالتأليف والمراجعة والتصحيح لمؤلفاتي بمفردي والحمد لله والى حين صدورها .
وأسأل تعالى أن يتم علي نعمة طباعة هذا الجزء وأجزاء أخرى لاحقة لبيان معجزات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم المتجددة ، وأقوم في هذه الأيام باعادة كتابة (فلسفة الرؤيا في الإسلام) مع مضاعفة صفحاته وصدوره بجزئين في دراسات قرآنية مستحدثة والحمد لله ، قال تعالى [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، بيده مقاليد الأمور [وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
حرر في الثاني عشر من شهر ذي الحجة 1445هـ
19/6/2024
قانون الرحمة والإحسان من خصال خليفة الأرض
لقد كانت وستبقى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة ورأفة للناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن الرحمة دخول الإسلام وإقامة حدود الله ، والتحلي بالأخلاق الحميدة ، والعمل بمنهاج السنن الرشيدة في حال الضعف والقوة ، وفي الفقر والغنى ، والحكم والسلطان ، ولا عبرة بقول بعض الفلاسفة في القرن التاسع عشر الميلادي من أن الأخلاق من صنع الضعفاء ، وأن الرحمة والصبر والإحسان حيلة ابتكرها الضعفاء لينالوا بها منافع من الأقوياء لعجزهم عن انتزاعها بالقوة( ).
ولا أصل لهذا القول ، إذ قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) لبيان حسن خلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوة وبعدها ، وفي مكة وبعد الهجرة إلى المدينة ، وسيادة أحكام وسنن الإسلام ، وانقياد قبائل العرب له ، ولأحكام التنزيل قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
ويدل على إستدامة هذا الخلق العظيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن غادر الحياة الدنيا ، وكذا حسن خلق الأنبياء ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
وهذه السورة من آخر ما نزل من القرآن للتأكيد السماوي على حسن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ توجه الأمر من الله إليه بالإنقطاع إليه ، والإكثار من الإستغفار ، ليكون ذكر الله حاضراً عنده في كل دقيقة ، مع إنه لا يقول ولا يفعل إلا بالوحي والتنزيل.
وجاء قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، خطاباً من الله عز وجل للنبي محمد ، فهل يكون تقديره : وما أرسلنا كل نبي ورسول إلا رحمة للعالمين.
الجواب يتجلى قانون كل بعثة نبي ورسول رحمة من عند الله ، وهذه الرحمة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فمنهم من يكون نعمة ورحمة لقريته وبلدته ، وجيل أو بعض أجيال من الناس ، أما رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي للناس جميعاً بأجيالهم المتعاقبة ، فيها صلاح لأهل الأرض من المسلمين وغيرهم ، فلابد من إقتباس الأمم من القرآن والسنة ، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين ، ومما يقتبسه الناس من الأنبياء التراحم والإحسان للغير قريباً كان أو بعيداً .
ويتنافى الغزو مع الرحمة والإحسان إلا إذا كان مسير السرايا في سبيل الله ، ولصرف أذى المشركين ، ومنعهم من الإجهاز على المؤمنين ، والإضرار بهم في أنفسهم وأموالهم ، وإرادة حملهم على ترك الإسلام ، فعندئذ يكون المسير نحوهم لتفريقهم رحمة بهم وبالمسلمين والناس جميعاً .
وفي المقام مسائل :
الأولى : قانون الملازمة بين النبوة ورحمة الناس .
الثانية : قانون النبوة إحسان محض للناس جميعاً .
الثالثة : قانون كل نبي من المحسنين ، وفي أمر وخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
قانون الأخلاق الحميدة فرع خلافة الأرض
الصبر والعفو والإحسان سجية ثابتة متوارثة في الأرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ليكون من معاني الآية أعلاه بلحاظ موضوع الأخلاق على وجوه :
الأول : إني جاعل في الأرض خليفة) يتحلى بمكارم الأخلاق .
الثاني : إني جاعل في الأرض خليفة) لأثيبه على حسن الخلق .
(عن أبي الدرداء : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من أعطيَ حظه من الرفق أعطي حظه من الخير ، ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من الخير.
وقال : ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، وإن الله يبغض الفاحش البذيء ، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة)( ).
الثالث : إني جاعل في الأرض خليفة) يتصف بالتقوى .
والنسبة بين التقوى وحسن الخلق عموم وخصوص مطلق ، فالتقوى أعم ، وتشمل العدالة وأداء الفرائض العبادية والصلاح ، والخشية من الله بالغيب.
الرابع :إني جاعل في الأرض خليفة ينشر الأخلاق الحميدة ويبقيها تركة لمن بعده ، وعن عائشة قالت (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله)( ).
الخامس : إني جاعل في الأرض خليفة) بأخلاق حميدة لا تغادر الأرض إلى يوم القيامة .
السادس : إني جاعل في الأرض خليفة) بعد أن يصحب الملائكة في الجنة ، ويقتبس من إنقطاعهم إلى التسبيح والعبادة .
السابع : إني جاعل في الأرض خليفة) وأبطش بالذين يحاربونه ، وفي التنزيل [إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ]( ).
الثامن : إني جاعل في الأرض خليفة) تسر أخلاقه الحسنة الملائكة ، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة في قانون الخلافة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
التاسع : إني جاعل في الأرض خليفة) يزين الأرض بأخلاقه ، وفي الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
لبيان أن هذه المرتبة السامية لا تنال إلا بالوحي ، فهذه الآية من الدلائل على عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
العاشر : إني جاعل في الأرض خليفة) يرث سنن النبوة لتبقى حاضرة بين الناس بالقرآن والتنزيل والوحي ، وفيه مسائل :
الأولى : قانون الدنيا دار النبوة .
الثانية : قانون الدنيا دار الوحي والتنزيل ، فيغادر الأنبياء الأرض في آجالهم ، ولكن التنزيل باق إلى يوم القيامة ، والشاهد عليه بقاء آيات وسور القرآن إلى يوم القيامة ، كما أنزلت من غير زيادة أو نقصان .
الثالثة : قانون مصاحبة الأخلاق الحميدة الناس في كل زمان لتكون حجة في النشأتين .
الرابعة : قيام المشركين بغزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين ، وغيرها ، فصبر عليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله ، ليهتدي من بقي منهم ، وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الحادي عشر : إني جاعل في الأرض خليفة تكون إخلاقه الحميدة أحسن القصص ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ]( ).
توثيق القرآن للوقائع
من إعجاز القرآن توثيق وقائع معارك الإسلام بما فيه النفع العاجل والآجل للمسلمين في حال السلم والحرب ، فتقع معركة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين في شطر من نهار ، فتنزل آيات قرآنية بخصوصها ، وفيه مسائل :
الأولى : انبساط قانون الآية القرآنية دستور للمسلمين عند القتال ومقدماته .
الثانية : قانون إنتفاع أجيال المسلمين الأمثل من الآية القرآنية .
الثالثة : قانون آيات القتال رحمة عامة ، لما فيها من وجوب الدفاع عن النبوة والتنزيل ، والوعد الكريم بنيل مرتبة الشهادة لمن يقتل في دفع شرور المشركين ، قال تعالى [وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ]( ).
الرابعة : حضور الآيات التي تخص المعركة السابقة في المعركة اللاحقة بما فيه الموعظة والعبرة ، والإنتفاع العام ، وتدارك المؤمنين الخطأ كما في ترك الرماة مواضعهم في معركة أحد ، وكانوا سبب خسارة المسلمين فيها.
بينما رجع الفارون من الطلائع الأولى في معركة حنين فاشتد القتال وانهزمت هوازن وثقيف ، وهذا الرجوع من السكينة بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( ) ، ومن الإتعاظ من آيات معركة أحد.
الخامسة : التوثيق السماوي لحقيقة وهي أن المشركين هم الغزاة في معارك الإسلام .
السادسة : قانون دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوحيد والسلم في الميدان .
السابعة : بيان موضوعية الوحي في خطط المعارك وسير الأحداث فيها.
الثامنة : قانون الآية القرآنية برزخ دون تحريف الوقائع .
التاسعة : قانون استنباط المسائل والأحكام من توثيق القرآن للوقائع ، وباب هذا الإستنباط مفتوح لكل جيل ، وهو من الشواهد على بقاء القرآن غضاً طرياً , وترشح العلوم منه.
العاشرة : قانون سلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقيصة بفضل الله عز وجل في حفظه ، قال تعالى [لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
التضاد بين الجمعين يوم بدر
وقعت معركة بدر بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين مشركي قريش في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية الشريفة ونزل بخصوصها قوله تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، وهناك مسائل :
الأولى : لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتال ، والمشهور أنه خرج للإستيلاء على قافلة أبي سفيان ، ولم يثبت هذا القول كتاباً وسنة.
الثانية : يبعد موقع معركة بدر عن المدينة المنورة مائة وخمسين كيلو متر ، وعن مكة ثلاثمائة كيلو متر .
الثالثة : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وليس عندهم إلا سبعين بعيراً ، يتعاقبون على ركوبها ليتعظ كل مسلم ومسلمة ، وفيه تنمية لملكة الصبر ، والتوكل على الله.
بينما حضرت جيوش قريش ركباناً على الخيل والإبل .
الرابعة : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يأكلون في الطريق إلى بدر ما يشبه الجشب( ).
بينما يذبح جيش قريش كل يوم تسعة أو عشرة من الإبل بتبرع من أحد رؤسائهم ووجهائهم .
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دخوله وأصحابه إلى معركة بدر بالفقر والفاقة ، وهو من مصاديق الذلة في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الخامسة : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية عدم افتتان أصحابه بالأموال والزينة والمؤونة التي عند جيش مشركي قريش ، ولم تمنعهم كثرة خيلهم ولمعان سيوفهم من الدفاع.
إذ قد يفتتن الناس بما عند أحد طرفي القتال من الهيئة التي تدل على الثراء وكثرة الأموال إلى جانب الشهرة ، كما في شهرة قريش بين القبائل ، ولكن الصحابة لاقوهم بالصبر وحسن التوكل على الله عز وجل ورجاء الثواب من عنده تعالى إذ قال [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
السادسة : التباين بين الفريقين يوم بدر من جهة الرغبة في القتال أو عدمها ، إذ كان المشركون يصرون على القتال ، بينما يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه اجتناب القتال ، وهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على ضلالة كفار قريش ، وشدة تعلقهم بعبادة الأوثان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ]( )، وقد نزلت هذه الآية في معركة بدر ، وموضوعها أعم .
السابعة : انتفاء موضوع وسبب القتال ، وهو خشية قريش من استيلاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قافلة أبي سفيان القادمة من الشام ، فبعد أن بعث أبو سفيان رسالة إلى قريش يستغيثهم لإنقاذ القافلة ، وخرجوا في ثلاثة أيام ، بعث لهم وهم في الطريق إلى بدر أن قد سلمت القافلة وهي على مشارف مكة فارجعوا ، ولكنهم أبوا الرجوع ، لذا قال تعالى [وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ]( ).
ولم يرد لفظ (تواعدتم) و(لاختلفتم) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
الثامنة : التباين والتضاد العقائدي بين الجمعين ، فقد كان اللقاء يوم بدر بين المؤمنين والكفار ، وهل يمكن القول بأنه إذا لم تقع معركة بدر بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين ، تقع معركة أخرى فلابد من النزاع بالسيف ، الجواب لا دليل عليه ، فقد كانت معجزة القرآن تجذب الناس جماعات إلى الإسلام .
التاسعة : معركة بدر من الشواهد بأن المشركين هم الغزاة الذين يصرون على القتال ، وأن النبي محمداً رسول السلام إذ أراد صرف القتال .
معجزة بناء المسجد النبوي
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بناؤه المسجد النبوي حال وصوله إلى المدينة المنورة فليس ثمة فترة بين وصوله وسط المدينة وبين بناء المسجد النبوي ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان موضوعية بناء المساجد في الإسلام وأداء الصلاة فيها .
الثانية : اتخاذ المساجد وعاء مكانياً وعقائدياً لتبليغ الأحكام .
الثالثة : استقبال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوفود القادمة إلى المدينة.
الرابعة : بيان قانون المساجد خالصة لوجه الله ، قال تعالى [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا]( ).
الخامسة : التعريض بقريش بنصب الأصنام في البيت الحرام .
السادسة : المسجد النبوي بشارة ومقدمة لفتح مكة وتطهير البيت الحرام من الأصنام والأوثان ، قال تعالى في خطاب إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام [وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تطهيره البيت الحرام من الأصنام إلى يوم القيامة ، فلا عودة لمفاهيم الشرك في البيت الحرام.
إنما يعمره المسلمون طيلة أيام السنة بأداء العمرة والطواف ، ويأتونه أفواجاً لأداء الحج كل عام ، وهم ينادون (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك).
لماذا طلب عتبة يوم بدر مبارزة بني عبد المطلب خاصة
لقد كرر عتبة بن ربيعة يوم بدر دعوته قريشاً لترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشأنه ، وعن الإمام علي عليه السلام في حديث أن عتبة كان (ينهى عن القتال ويقول لهم: يا قوم اعصبوها برأسي وقولوا: جبن عتبة بن ربيعة.
وقد علمتم أنى لست بأجبنكم.
فسمع بذلك أبو جهل فقال: أنت تقول ذلك، والله لو غيرك يقوله لاعضضته، قد ملات رئتك جوفك رعبا.
فقال: إياى تعير يا مصفر استه .
ستعلم اليوم أينا الجبان.
فبرز عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد حمية فقالوا: من يبارز .
فخرج فتية من الانصار مشببة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن نبارز من بني عمنا من بني عبد المطلب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قم يا حمزة، وقم يا على، وقم يا عبيدة بن الحارث بن المطلب)( ).
ترى لماذا طلبوا خصوص بني عبد المطلب في المبارزة ، الجواب من جهات :
الأولى : إرادة الإنتقام من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإصابته في أهل بيته ، والفت في عضده .
الثانية : بغض قريش لبني هاشم من حين دعوة النبوة ، إذ بدأت حربهم بالحصار الإجتماعي والإقتصادي على بني هاشم في مكة لثلاث سنوات من السنة السابعة إلى العاشرة للهجرة النبوية الشريفة.
الثالثة : إذا قتل بعض الأنصار في المبارزة فلا يكون له أثر عند أهل مكة ، أما إذا قتل بعض بني عبد المطلب فيشيع الأمر في مكة ، ويكون زاجراً للناس عن دخول الإسلام ، ليكون قتل عتبة وأخيه وابنه من مصاديق قوله تعالى [فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
الرابعة : إدخال الحزن لبني هاشم في مكة وحلفائهم .
الخامسة : قطع كفار قريش الأرحام بسبب إصرارهم على الكفر وعبادة الأوثان ، قال تعالى [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ]( ).
ولكن عتبة لم ينتفع منها بل أخذته حمية الجاهلية بعد أن عيّره أبو جهل بأنه خاف من سيوف بني هاشم ، فكان أن قتل عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد بعد إصرارهم على المبارزة ، وأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حمزة بن عبد المطلب والإمام علي وعبيدة بن الحارث بن المطلب أن يخرجوا لمبارزتهم ، فنزل قوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ] ( ).
قانون نبوة محمد (ص) سلام دائم
لما أخبر الله عز وجل الملائكة بأنه [جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) احتجوا على فساد الإنسان وسفك الدماء في الأرض التي هي ملك لله عز وجل فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] ( ) فمن مصاديق احتجاج الملائكة إصرار مشركي قريش على القتال ، وإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار .
ومن معاني جواب الله عز وجل للملائكة الوعد بالنصر والظفر للنبي والمؤمنين في الميدان ، وإزاحة مفاهيم الكفر من الأرض ، ووقف سفك الدماء ، فبينما كان العرب يغير بعضهم على بعض بالباطل ، وينهب بعضهم بعضاً ، وليس من أمان في الأرض ، وكل فرد يحرس عياله وماله استتب الأمن في الجزيرة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من معجزاته وشاهد على حضور الوحي في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال الحرب والسلم ،ومنها عندما ينسحب المشركون من ميدان المعركة لا يلاحقهم ويطاردهم المسلمون ، ولا يرمونهم بالسهام والنبال .
ليتجلى قانون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلام دائم ، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، بصيرورة الرسالة الخاتمة برزخاً دون إشاعة سفك الدماء ، ومنها نزول قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
ومنها وقف الإقتتال بين القبائل العربية ، وهجران الحمية ، وصيرورة المسلمين إخوة ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، ومن معاني الأخوة في المقام وجوه منها :
الأول : الإخوة في الإيمان.
الثاني : الإخوة في أداء الفرائض العبادية .
الثالث : الإخوة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الرابع : المسلمون أخوة في الدفاع ضد غزوات المشركين .
الخامس : الأخوة والتشابه في طاعة الله والرسول ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
السادس : تعاون المسلمين في الصالحات وعمل الخير ، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
السابع : الأخوة والتأزر بين المسلمين في نشر مفاهيم السلم والسلام في الأرض .
الثامن : الأخوة في حفظ وتعاهد القرآن ، والعمل بأحكامه.
قانون الصلح فتح مبين
لقد كان صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة نصراً عظيماً للمسلمين .
ومن إعجاز القرآن وتوثيقه للسنة النبوية تسمية هذا الصلح بالفتح المبين بقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، ليكون حجة وبرهاناً على أن الإسلام دين السلم والصلح والتنزيل الذي يشمل الحياة وأمور الدين والدنيا ، وينفذ إلى شغاف القلوب فلا تصل النوبة إلى القتال ، وإلى قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالغزو .
ولكن تسمية الصلح بالفتح لم تمنع من قيام النبي محمد وأصحابه بالدفاع ، وبقائهم في حال يقظة واستعداد للقتال لإنبساط مضامين آية الوقاية والحيطة على الأزمنة المختلفة بقوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( ).
إن تسمية صلح الحديبية فتح مبين مدرسة عقائدية وعسكرية وإجتماعية مستحدثة في تأريخ الإنسانية ، وفيها ترغيب بالصلح مطلقاً سواء مع شروط الفريق الآخر أو بدونها ، ومع فقدان أرض أو مال أو حرث أو سلامتها ، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
ليكون رضا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشروط قريش في صلح الحديبية ترجمة لآيات القرآن ، ونشراً لشآبيب الرحمة ، ومقدمة لفتح مكة والجزيرة .
فحتى لو لم يتم فتح مكة في السنة الثامنة فان الإسلام فشا وانتشر بين أهلها ، والبلدان والقرى في الجزيرة العربية ، وكان عدد الذين دخلوا الإسلام بين صلح الحديبية وفتح مكة أكثر من عدد الذين دخلوه من بداية البعثة النبوية ولحين صلح الحديبية ، مما يدل على تحقق فتح مكة أيضاً سلماً بتآكل صفحة الشرك ، وتناقص عدد الكفار فيها .
لماذا نزلت آيات القتال في المدينة
تقسم سور القرآن تقسيماً استقرائياً إلى قسمين :
الأول : السور المكية التي نزلت قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن نزلت خارج مكة .
الثاني : السور المدنية وهي السور التي نزلت بعد هجرة النبي إلى المدينة وإن نزلت خارج المدينة مثل آية إكمال الدين [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، إذ نزلت عند عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع في غدير خم الذي يبعد عن مكة (157)كم ، أي أنه أقرب اليها من المدينة ، وقيل نزلت الآية يوم عرفة ، ومع هذا تسمى آية مدنية وهي من آيات سورة المائدة التي هي من آخر سور القرآن نزولاً.
ولم تتضمن سور القرآن أمراً بالهجوم والغزو ، إنما نزلت آيات من السور المدنية تأمر بالقتال المشروط والمقيد بالدفاع ، وفيه مسائل:
الأولى : قانون التوثيق السماوي لوقائع ومعارك الإسلام وهو من الشواهد على أن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة عقلية لإنفراد هذا التوثيق ببقائه إلى يوم القيامة سالماً من التحريف ، وهذه السلامة من عند الله ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، وفيه إكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين حضروا ميدان المعارك ليكون صبرهم وثباتهم حسرة على الكافرين والمنافقين ، ومنهم الذين إنسحبوا من وسط الطريق إلى معركة أحد بتحريض ورئاسة عبد الله بن أبي بن أبي سلول.
الثانية : قانون كل معركة من معارك الإسلام مدرسة تستقرأ منها المواعظ والعبر .
الثالثة : قانون كل آية من آيات القتال ضياء ونبراس لحال الحرب والسلم.
الرابعة : قبل الهجرة لم يكن هناك قتال ، ولكن بعد الهجرة إزداد غيظ رؤساء قريش فجهزوا الجيوش لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وهل من معاني قوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ]( )، بشارة رجوع المشركين خائبين من غزوهم المدينة ، الجواب نعم .
لبيان قانون تضمن الجملة الخبرية في القرآن البشارة للمسلمين والإنذار والوعيد للذين كفروا .
إلى جانب ما تدل عليه الآية أعلاه من الأمراض النفسية وأسباب الكدورة والخصومة بسبب امتلاء النفوس بالغيظ والحنق.
لماذا يغزو المشركون في شوال
بين معركة أحد والخندق سنتان ، إذ وقعت الأولى في شوال من السنة الثالثة للهجرة ، ووقعت الثانية في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ، وحتى معركة حنين وقعت في الثالث عشر من شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة بمباغتة جيوش قبيلتي هوازن وثقيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عند خروجهم من مكة وفي واد يسمى حنين .
ترى لماذا يختار المشركون غزو المدينة والقتال في شوال.
الجواب من وجوه :
الأول : استباق الزمان وقبل أن تدخل الأشهر الحرم الثلاثة ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، مما يدل على الغيظ الذي يملأ نفوسهم ، وإرادتهم البطش والإنتقام من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثاني : اطمئنان المشركين لكثرتهم وعدتهم ، لبيان أن صرف أذاهم معجزة حسية خالدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى]( ) .
الثالث : خشية وفزع الكفار من كثرة الناس الذين يدخلون الإسلام خاصة من الأبناء ، فأرادوا سوقهم معهم إلى ميدان القتال ، وسماعهم الشعر والرجز بفتح الراء والجيم – الذي هو من أقسام الشعر ، وهو أسهلها ولا يستلزم كلفة كثيرة ، وكان في الجاهلية نوع بديهي في سياق الكلام .
لذا فان معنى الرجز – بفتح الراء والجيم – يختلف عن الِرجز بكسر الراء وسكون الجيم الذي هو بمعنى العذاب .
والنسبة بين الرِجز والرِجس عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء بينهما الأذى والضرر ، ومادة الإفتراق أن الرجز هو العذاب ، ومنه قوله تعالى [فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ]( )، وأما الرجس فهو النجاسة سواء كانت عينية كالبول والغائط أو معنوية كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الرابع : انتقام وثأر المشركين لآلهتهم من الأوثان التي نزل القرآن بذمها وتقبيح عبادتها والتقرب بها إلى الله بالتوسل بها .
كتيبة وادي القرى
يبعد وادي القرى عن مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحو (200) كم ، وكان يسمى قديماً (ديدان) وبه ذكر في كتابات الآشوريين ، وقيل في التوراة أيضاً.
ويسمى في هذا الزمان وادي الجزل ومحافظة العلا ، وسمي وادي القرى لتعدد وكثرة القرى في هذا الوادي ،وقال ياقوت الحموي (ووادي القرى واد بين الشام والمدينة، وهو بين تيماء وخيبر فيه قرى كثيرة، وبها سُمي وادي القرى. قال أبو المنذر: سمي وادي القرى لأن الوادي من أوله إلى آخره قرىً منظومة، وكانت من أعمال البلاد وآثار القرى إلى الآن بها ظاهرة إلا أنها في وقتنا هذا كلها خراب ومياهها جارية تتدفق ضائعة لا ينتفع بها أحد)( ).
وقيل كانت هذه القرى منازل ثمود وعاد وأهلكهم الله بجحودهم بما جاء به الأنبياء.
ونزل بها اليهود وقبائل من العرب ، وعقدوا حلفاً ، وكان للعرب على اليهود طعمة وأكل في كل عام ، ودفعوا عنهم قبائل قضاعة ، وهي بلدة جميل بثينة .
(وروي أن معاوية بن أبي سفيان مر بوادي القرى فتلا قوله تعالى [أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ]( ).
ثم قال : هذه الآية نزلت في أهل البلدة وهي بلاد ثمود فأين العيون فقال له رجل: صدق الله في قوله، أتحب أن أستخرج العيون، قال : نعم.
فاستخرج ثمانين عيناً، فقال معاوية: الله أصدق من معاوية)( ).
وأراد النعمان بن الحارث الغساني ملك الشام غزو وادي القرى فحذره نابغة بني ذبيان بأبيات منها :
(تجنب بني حُن فإن لقاءهم … كريهٌ وإن لم تلقَ إلا بصابرِ
همُ قتلوا الطائيَ بالحِجر عَنوة … أبا جابر واستنكحوا أم جابر) ( ).
مما يدل على شوكة أهلها ، وشدة قتالهم ، لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ فتحها من غير قتال يذكر ، ولم يقصدها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج لها من المدينة إنما مرّ عليها منصرفه من خيبر لبيان معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : تحقيق أكثر من غاية بخروج من المدينة واحد .
الثانية : تحقق الفتح من غير قتال .
الثالثة : الخزي للمنافقين الذين قالوا أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سيخسرون الجولة في خيبر .
الرابعة : التخفيف عن الصحابة ، وكان الذين حضروا وادي القرى هم أصحاب الحديبية ، وعددهم ألف وأربعمائة.
ولما وصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى وادي القرى أرسل إلى أهلها ودعاهم إلى الإسلام وأخبرهم بأنهم يحرزون أموالهم وأنفسهم ، لكنهم أبوا إلا القتال ، ولم ينصتوا لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، عندئذ حشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه (ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة ، وراية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عباد بن بشر)( ).
لقد تلقوا دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم للإسلام بالخروج للمبارزة ، وهو أقبح رد وشر يأتي على أهله .
إذ برز أحدهم يطلب القتال ، فقتله الزبير بن العوام ، ثم برز آخر منهم فبرز له الإمام عليه السلام فقتله ، ثم برز آخر فقتله أبو دجانة وسقط منهم أحد عشر رجلاً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلما يسقط منهم قتيل يدعوهم إلى الإسلام ويخبرهم أنه رسول الله ويحضهم على الإمتناع عن قتاله الذي لا يجلب لأهله إلى الخزي والخيبة والخسران ، قال تعالىلِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ وكان إذا حان وقت الصلاة صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه بمرآى من العدو ، وعند إنقضاء الصلاة يتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ليدعوهم من جديد للإسلام .
كتيبة أم القرى معجزة
هذه الكتيبة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : أوان هذه الكتيبة .
الثانية : الحاجة إلى هذه الكتيبة .
الثالثة : سرعة تحقق الغايات منها ، ودخول الناس الإسلام بعد حصار ثلاثة أيام .
الرابعة : قلة الخسائر في النفوس في هذه الكتيبة فلم يسقط أحد من المسلمين قتيلاً باستثناء عبد واحد ، وكان عدد قتلى اليهود خمسة .
بعد أن تم فتح خيبر سار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى وادي القرى ، وتبلغ المسافة بين خيبر ووادي القرى نحو مائتي كيلو متر ، وتقطع آنذاك بأربعة إلى خمسة أيام .
وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جنوب خيبر من موضع اسمه الصهباء .
إذ كان شمال خيبر تقطنه قبيلة بني عذرة التي لم تدخل في الإسلام بعد ، ولها حلف مع اليهود ، وقد حاربوا المسلمين في غزوة الأحزاب ، وقيل أنهم يهودي الديانة.
وفي كتيبة وادي القرى قُتل عبد أسود لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمى (بدعم) كان يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آتاه سهم غارب فقتله مما يدل على أن أهل وادي القرى يطلقون السهام الكثيرة صوب المسلمين من غير تعيين.
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي نجاته من هذه السهام في المعارك المتعددة .
وحينما قتل بدعم قال بعض الصحابة (هنيئا له الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا والذى نفسي بيده إن الشملة التى أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشعل عليه نارا.
فلما سمعوا بذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شراك من نار أو شرا كان من نار)( ).
لبيان وجوب التنزه عن الغلول ، قال تعالى وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
طريق القافلة والسرية
وفيه وجوه :
الأول : يجب أن يكون الدليل خريتاً أي خبيراً حاذقاً بالدلالة ، وفي طريق هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة (قال ابن إسحاق : واستأجر أبو بكر من بني الديل هادياً خريتاً يقال له: عبد الله بن الأريقط وكان مشركاً – أو قال على دين الكفار – فأمنه ودفع إليه الراحلتين وواعده غار ثور بعد ثلاث)( ).
الثاني : اختيار الدليل أقصر طريق ممكن .
الثالث : لا يعزف الدليل عن الطريق القصير إلا لوجود أولوية وراجح مثل عدم وجود الماء فيه ، وتوفر الماء في طريق آخر أطول منه ، فيقدم .
الرابع : إجتناب الطريق الذي فيه عدو وإن كان هو الأقصر والأحسن .
الخامس : اختيار الطريق الصالح لسير القوافل من غير عسر على الإبل.
فاراضي أعالي خيبر شديدة الوعورة لذا اجتنبها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند مسيره من خيبر إلى وادي القرى .
السادس : اجتناب الأرض التي تبطئ سير القوافل ، وتزيد من عطش الإبل ، أو تعرضها للإصابات .
السابع : من صفات الدليل الأمانة والصدق ، والوفاء ، وعدم الغدر أو الخيانة .
لقد كان طريق كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسرايا أصحابه شاقاً لا يخلو من وعورة لبيان صدق جهاد المهاجرين والأنصار.
وفي الطريق إلى خيبر كان دليل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسيل بن نويرة وعبد الله بن نعيم وهما من قبيلة أشجع وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتفاءل بالأسماء الحسنة فقال له (من أين يا حسيل ، قال : قدمت من الجناب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما وراءك .
قال : تركت جمعاً من غطفان بالجناب ، قد بعث إليهم عيينة يقول لهم : إما تسيروا إلينا وإما نسير إليكم ، فأرسلوا إليه أن سر إلينا حتى نزحف إلى محمد جميعاً، وهم يريدونك أو بعض أطرافك)( ).
ثم بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريقه إلى خيبر بشير بن سعد (فَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَبَعَثَ مَعَهُ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا اللّيْلَ وَيَكْمُنُوا النّهَارَ.
وَخَرَجَ مَعَهُمْ حُسَيْلُ بْنُ نُوَيْرَةَ دَلِيلًا، فَسَارُوا اللّيْلَ وَكَمَنُوا النّهَارَ حَتّى أَتَوْا أَسْفَلَ خَيْبَرَ فَنَزَلُوا بِسِلَاحٍ ، ثُمّ خَرَجُوا مِنْ سِلَاحٍ حَتّى دَنَوْا مِنْ الْقَوْمِ، فَقَالَ لَهُمْ الدّلِيلُ: بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْقَوْمِ ثُلُثَا نَهَارٍ أَوْ نِصْفُهُ فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ كَمَنْتُمْ وَخَرَجْت طَلِيعَةً لَكُمْ حَتّى آتِيَكُمْ بِالْخَبَرِ وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ سِرْنَا جَمِيعًا. قَالُوا: بَلْ نُقَدّمُك. فَقَدّمُوهُ فَغَابَ عَنْهُمْ سَاعَةً ثُمّ كَرّ عَلَيْهِمْ.
فَقَالَ : هَذَا أَوَائِلُ سَرْحِهِمْ فَهَلْ لَكُمْ أَنْ تُغِيرُوا عَلَيْهِمْ.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ أَغَرْنَا الْآنَ حَذِرَنَا الرّجَالُ وَالْعَطَنُ. وَقَالَ آخَرُونَ: نَغْنَمُ مَا ظَهَرَ لَنَا ثُمّ نَطْلُبُ الْقَوْمَ.
فَشَجُعُوا عَلَى النّعَمِ فَأَصَابُوا نَعَمًا كَثِيرًا مَلَأُوا مِنْهُ أَيْدِيَهُمْ وَتَفَرّقَ الرّعَاءُ وَخَرَجُوا سِرَاعًا)( ).
مما يدل على عدم إنحصار وظيفة الدليل بتعيين الطريق ، بل يكون مستشاراً وأميناً ، وفي كتيبة ذات الرقاع تشققت وجرحت أقدام الصحابة في المسير لشدة الحرارة ، وكثرة الحجارة والأشواك في الطريق ، فلم تمنعهم من السعي نحو الغايات الحميدة للتبليغ ، ودفع شرور الشرك ، فسالت الدماء من اقدامهم ، فلفوها بالخرق لقطع جريان الدم ، مع قلة الخرق التي عندهم أيضاً ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، الجواب نعم .
ووقعت كتيبة ذات الرقاع في شهر جمادى الأولى من السنة الرابعة ، وكان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم (400) من المهاجرين والأنصار ، ولم يقع قتال وإن تواجه الجمعان ، وفيها نزلت صلاة الخوف ، قال تعالى [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا]( ).
سرية عمر بن الخطاب إلى هوازن
في شهر شعبان من السنة السابعة بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمر بن الخطاب في سرية من ثلاثين صحابياً إلى تربة في طريق صنعاء ونجران ، ومعهم دليل من بني هلال.
فكان يسير بهم الليل ويكمن النهار ، ومع هذا فقد بلغ الخبر هوازن فتركوا منازلهم وهربوا ، فلم يلقوا منهم أحداً ، ولم يقع قتال ، والغاية من هذه السرية تأديب الأعراب المشركين .
وفي طريق عودة السرية إلى المدينة اقترح بعضهم على عمر أن يقاتل جمعاً آخر من قبيلة خثعم فأبى (فقيل له: هل لك في قتال خثعم .
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرني إلا بقتال هوازن في أرضهم)( ).
وهل في هذه السرية إنذار إلى هوازن بالإمتناع عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حنين بعد تلك السرية بنحو أربعة عشر شهراً ، الجواب نعم ، وهو من المصاديق العملية لقوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ]( ).
إذ هجموا ثلاثين ألفاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في وادي حنين فكانت عاقبتهم الهزيمة بمعجزة وفضل من الله على المسلمين لذا خاطب الله المسلمين [لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ).
ووردت كلمات ففي هذه الآية لم ترد في غيرها وهي (مواطن) (حنين) (كثرتهم) لبيان أن لفظ (حنين) مثل (بدر) لم يذكر كل منهما إلا مرة واحدة في القرآن ولكن آيات عديدة تدل عليها وتبين الوقائع فيهما ، والأحكام المستنبطة منهما .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام قلة عدد أفراد السرية مع بعد المسافة ، ومقاصد هذه السرية والإستعداد لقتال القوم ، وهل إنذارهم عندما سمعوا بقدوم أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق الرعب في حديث الإمام الباقر عليه السلام قال (قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ نُصِرْت بِالرّعْبِ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، وَأُعْطِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَأُحِلّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تُحْلَلْ لِنَبِيّ كَانَ قَبْلِي ، وَأُعْطِيت الشّفَاعَةَ خَمْسٌ لَمْ يُؤْتَهُنّ نَبِيّ قَبْلِي)( ) ، الجواب نعم.
فلا يختص هذا الرعب بقدوم شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل يشمل سراياه وإنذارات القرآن .
سرية بشير بن سعد الأنصاري
بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصحابي بشير بن سعد في ثلاثين رجلاً إلى بني مرة في فدك في شهر شعبان من السنة السابعة للهجرة .
وكان بنو مرة يتواطئون في محاربة الإسلام وصدّ الناس عن الإيمان ، وكأن السنة السابعة للهجرة سنة تأديب القبائل المعادية ، ومنعهم من الحيلولة دون دخول أبنائهم الإسلام .
ولما وصل سعد إلى محل القوم وجد الشاء والماعز والبقر ، فسأل عنهم ، فقيل في بواديهم فاستاق النعم والشاء ، وانحدر إلى المدينة راجعاً ، وتناجى بنو مرة وصرخ المنادي في واديهم يخبرهم ، فاجتمع عدد كبير منهم في ذات الليلة وساروا مسرعين في أثر بشير وصحبه وأدركوهم في ذات الليلة ، فجرى التراشق بالنبال.
واستمر التراشق حتى الصباح ، وفنى نبل أصحاب بشير ، فأجهز عليهم رجال بني مرة ، فقتلوا طائفة منهم ، وانسحبت طائفة أخرى ، وكان بشير قد قاتل قتالاً شديداً ، وارتث بين القتلى ، أي كان به رمق ، فقيل قدمات ، فتركوه ورجع بنو مرة بنعمهم وشياههم .
ولما انصرف القوم تحامل بشير على قدمه وانتهى إلى فدك ، وأقام عند رجل يهودي أياماً حتى قوي على المشي ، فرجع إلى المدينة (فَأَقَامَ عِنْدَ يَهُودَ حَتّى بَرِئَتْ جِرَاحُهُ فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ)( ) بعد أن شاعت أخبار بأنه قُتل.
وتدل هذه السرية بأن سكن فدك لم يختص باليهود بل كانت قبائل عربية تقطنها ، خاصة وأنها عامرة ببساتينها وكثرة نخيلها وزراعاتها .
من معجزات معركة الخندق
كان قتل الإمام علي عليه السلام لعمرو بن ود العامري معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : بعث الخوف واليأس والقنوط في قلوب المشركين خاصة مع الحوار والتحدي والقصائد التي تبادلها الإمام علي عليه السلام وعمرو بن عبد ود بمرأى ومسمع من الفريقين .
الثانية : التخفيف عن المسلمين من وطأة الحصار .
الثالثة : دعوة الناس للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن عمرو بن عبد ود العامري فارس قريش ، وقد حضر معركة بدر وجرح فيها فتخلف عن معركة أحد ، ليكون هذا الجرح إنذاراً له ، ودعوة له للكف عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
الرابعة : هذه المبارزة ونتيجتها بشارة فك الحصار عن المدينة وأهلها.
الخامسة : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن جهود عشرة آلاف من المشركين أحاطوا بالمدينة انحصرت بمبارزة واحدة ورمي بالسهام والنبال والحجارة لمدة عشرين ليلة .
السادسة : لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع في معركة الخندق ، ومع هذا يطلق عليها أكثر المفسرين وكتاب السيرة غزوة الخندق للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها احدى غزواته الستة والعشرين ونحوها.
بينما بيّن القرآن أن جيوش المشركين هي التي قدمت للقتال إلى المدينة المنورة من جهات متعددة ، قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا]( )، مع بيان حال الذعر والفزع عند طوائف من المسلمين فصرف الله عز وجل كيد المشركين الغزاة .
السابعة : بيان قانون حضور المعجزة في كل معركة من معارك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه دعوة للناس للإيمان ، وزيادة لإيمان المسلمين ، وإصابة المنافقين بالوهن والإرهاب ، ومع شدة وطأة الحصار على المسلمين ، وعزم عشرة آلاف من المشركين على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فان المعجزات والبشارات تترى بالكتاب والسنة والوقائع .
وعن الصحابي عمرو بن عوف المزني (قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب ، فخرجت لنا من الخندق صخرة بيضاء مدوّرة ، فكسرت حديدنا وشقت علينا.
فشكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ المعول من سلمان ، فضرب الصخر ضربة صدعها ، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة ، حتى لكأن مصباحاً في جوف ليل مظلم.
فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكبر المسلمون.
ثم ضربها الثانية ، فصدعها وبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها ، فكبر وكبر المسلمون.
ثم ضربها الثالثة ، فصدعها وبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها ، وكبر وكبر المسلمون.
فسألناه فقال : أضاء لي في الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب ، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها.
وأضاء لي في الثانية قصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها.
وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، فابشروا بالنصر . فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صادق بأن وعدنا النصر بعد الحصر ، فطلعت الأحزاب.
فقال المسلمون [هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا]( ).
وقال المنافقون : الا تعجبون! يحدثكم ويعدكم ويمنيكم الباطل ، يخبر أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ، ومدائن كسرى ، وإنها تفتح لكم ، وإنكم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا ، وأنزل القرآن وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا( ).
لبيان التعدد بين أصحاب النفاق والذين في قلوبهم مرض ، والنسبة بينهما عموم وخصوص من وجه ، ويدل هذا التعدد على شدة الأذى الذي يلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الكفار من الخارج ، ومن المنافقين من بين صفوف المسلمين.
ترى ما هي النسبة والصلة بين معركة الخندق وصلح الحديبية ، الجواب صلح الحديبية فرع فضل الله عز وجل على المسلمين في معركة الخندق وعودة المشركين خائبين منها بعد الإعداد الكبير لها ، وتسيير الجيوش العظيمة ، حتى أحاطت بالمدينة المنورة ، وبعد أن بذلت قريش أموالها في غزوتهم هذه التي أرادوا استئصال الإسلام فيها .
لقد كان عدد جيش المشركين يومئذ عشرة آلاف رجل ، فهل كان عدد منهم مسلمين يخفون إسلامهم ، المختار نعم ، خاصة من أبناء رؤساء الكفر ، وهو أمر ساهم في خذلان جيش المشركين ، وعجزهم عن إتخاذ قرار موحد بغزو المدينة ، وإن كان هذا العجز بفضل من عند الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأجيال المسلمين في كل زمان ومنه قانون مصاحبة الرعب والفزع للمشركين حتى في حال الكثرة في العدد والعدة ، لأصالة الإطلاق .
لقد نزل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، في معركة أحد ، وهل هو بشارة هزيمة الأحزاب في معركة الخندق ، الجواب نعم .
وهو من إعجاز القرآن بأن تأتي الآية بصيغة الخبر والإخبار عن واقعة ولكنها تدل أيضاً على الإنشاء والبشارة لتبعث السكينة في نفوس المسلمين.
وهل يصدق على قتل عمرو بن عبد ود العامري بأنه ومن قتل معه يوم الخندق بأنهم طرف ، الجواب نعم .
قانون خيبة المشركين في المعارك مقدمة لصلح الحديبية
لقد كان انتقال مشركي قريش من غزو المدينة وقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، وأحد ، والخندق إلى إمضاء صلح الحديبية وبعد سنة من معركة الخندق التي اجتمعت فيها الأحزاب للإجهاز على الإسلام بعشرة آلاف مقاتل حيث عقد النبي لوائين لواء للمهاجرين ، ولواء للأنصار ، وجعل على كل عشرة من الصحابة عريفاً وعلى كل عشرة عرفاء رقيباً ، في تنظيم عسكري دقيق ، قال تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا]( ).
وتشاحوا في سلمان الفارسي إذ قال المهاجرون سلمان منا ، لأنه جاء من خارج المدينة وبيع على يهودي قبل عتقه ، فيلحق بالمهاجرين ، وقال الأنصار سلمان منا ، لأنه كان في المدينة ينتظر بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : سلمان منا أهل البيت ، لصدق إيمانه وتقواه ، وهذا القول رسالة نبوية إلى كل اعجمي برفع نسبهم وحسبهم في الإسلام.
و(عن جابر بن عبد الله قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال : يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد ، ألا إن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( )، ألا هل بلغت؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : فليبلغ الشاهد الغائب)( ).
و(عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أنسابكم هذه ليست بمسيئة على أحد ، كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملأوه( )، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة ، أكرمكم عند الله أتقاكم .
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله يقول يوم القيامة أمرتكم فضيعتم ما عهدت إليكم ورفعتم أنسابكم فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم ، أين المتقون ، أين المتقون ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)( ).
لتكون خيبة قريش ، وانقلابهم دون إدراك غاياتهم الخبيثة من جمع الأحزاب وهناً لهم ، فمع إنسحابهم تجلت قوة الإسلام ، ودبّ الوهن في صفوف المشركين ، وإن همّوا بعد الإنسحاب من معركة أحد بالرجوع للإغارة على المدينة.
فحينما وصلوا الروحاء تلاوم الرؤساء فيما بينهم ، وتصوروا حالهم عند الرجوع إلى مكة خائبين فقالوا : لا محمداً قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم ، بئس ما صنعتم ، أرجعوا إلى المدينة .
فبلغ خبرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فسارع إلى ندب أصحابه في طلبهم فقال (ألا عصابة تشدد لأمر الله تطلب عدوها فإنها أنكأ للعدو وأبعد للسمع ، فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من الجروح والقروح الذي أصابهم يوم أُحد.
ونادى منادي رسول الله : ألا لا يخرجن فيها أحد إلاّ من حصر يومنا بالأمس.
فكلمه جابر بن عبد الله فقال : يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع ، وقال لي : يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجلٌ فيهم ، ولست بالذي أُؤثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلف على أخواتك ، فتخلفته عليهن ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه)( ).
أما في معركة الخندق ومع أن عدد جيوش المشركين أكثر من ثلاثة أضعاف عددهم في معركة أحد ، فانهم لم يفكروا بالعودة والإغارة على المدينة بعد أن حاصروها لنحو عشرين ليلة ، وعدم رجوعهم هذا من مصاديق قوله تعالى في معركة الخندق [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
وهل في الآية أعلاه بشارة صلح الحديبية ، وهل لها موضوعية في خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى عمرة الحديبية من غير أن يحمل وأصحابه الأسلحة إلا سلاح الراكب .
الجواب نعم ، لبيان قانون تعيين القرآن لمنهاج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويأتي الوحي اليومي المتصل لتعضيده.
وقانون خيبة المشركين مقدمة لصلح الحديبية ودليل على أن قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، متصل في موضوعه وحكمه وأثره.
إن انسحاب المشركين من معركة أحد في نفس يوم إشعالهم لها خيبة لهم وأن هذه الخيبة صاحبتهم حتى حملتهم على قبول صلح الحديبية ، لبيان قانون موضوعية خيبة المشركين يوم أحد في إتمام صلح الحديبية .
الأعرابي عين لأهل خيبر
تبعد خيبر عن المدينة من جهة الشمال (100) كم وفيها نحو سبع حصون ، وخزّن أهلها المؤن ، كما أخبر عين لهم ، إذ أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابي عباد بن بشر في فوارس طليعة له يستكشفون الأمر ، فاخذوا إعرابياً من أشجع فقال له عباد (من أنت؟ قال: باغٍ أبتغي أبعرةً ضلت لي، أنا على أثرها. قال له عباد: ألك علمٌ بخيبر؟ قال: عهدي بها حديث، فيم تسألني عنه)( ).
لقد أخفى هذا الأعرابي كونه عيناً ليهود خيبر ، وأظهر الحياد ، والإخبار عن الحال ، إنما كان يقصد إثارة الخوف والرعب في قلوب المسلمين بأمور لا أصل لها من تفخيم قوة أهل خيبر ، وكثرتهم ، وحلفائهم ، وتجهيزاتهم للإحتماء بالحصون مدة عام.
إذ قال (كان كنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس ساروا في حلفائهم من غطفان، فاستنفروهم وجعلوا لهم تمر خيبر سنةً، فجاءوا معدين مؤيدين بالكراع والسلاح يقودهم عتبة بن بدر، ودخلوا معهم في حصونهم .
وفيها عشرة آلاف مقاتل، وهم أهل الحصون التي لا ترام، وسلاحٌ وطعامٌ كثير لو حصروا لسنين لكفاهم، وماءٌ واتنٌ يشربون في حصونهم، ما أرى لأحدٍ بهم طاقة)( ).
عندئذ رفع عباد بن بشر السوط وضربه ، وقال : ما أنت إلا عين لهم ، ثم هدده بضرب عنقه إن لم يقل الحقيقة ، عندئذ طلب الأعرابي من عباد الأمان وتعهد له بصدق الحديث فآمنه.
وهل يحتمل إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لطائفة من أصحابه منهم عباد بن بشر بحقيقة حصون خيبر ، والتفخيم الشائع عن كثرتهم ، وأنهم عشرة آلاف وكثرة أسلحتهم ومؤنهم ، المختار نعم .
لأن هذا الإخبار من الوحي وليثبت قلوب الصحابة ، ويحصنها من الخوف ومن الفزع عند ملاقاة القوم .
لقد كان اختيار يهود خيبر أعرابياً عيناً لهم ، ويقوم باخافة المسلمين دهاء ومكراً ، لصعوبة الشك بالأعرابي فهو ليس من أهل خيبر ولا ممن سكن حصونها ، ولكن سرعان ما فضحه الله عز وجل عندئذ.
قال الأعرابي : أن القوم أي أهل خيبر مرعوبون منكم ، خائفون وجلون ، وإن لم يكن عدد الصحابة الذين مع النبي كثيراً.
إذ أنه من مصاديق ما ورد عن الإمام علي عليه السلام قال (أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء : نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم)( ).
ثم قال الأعرابي (وإن يهود يثرب بعثوا ابن عمٍّ لي وجدوه بالمدينة، قد قدم بسلعةٍ يبيعها، فبعثوه إلى كنانة بن أبي الحقيق يخبرونه بقلتكم وقلة خيلكم وسلاحكم. ويقولون له: فاصدقوهم الضرب ينصرفوا عنكم، فإنه لم يلق قوماً يحسنون القتال وقريش والعرب قد سروا بمسيره إليكم لما يعلمون من موادكم وكثرة عددكم وسلاحكم وجودة حصونكم! وقد تتابعت قريش وغيرهم ممن يهوى هوى محمد.
تقول قريش : إن خيبر تظهر ، ويقول آخرون : يظهر محمد ، فإن ظفر محمد فهو ذل الدهر ، قال الأعرابي: وأنا أسمع كل هذا)( ).
لقد أمر كنانة بن أبي الحقيق الأعرابي : إذهب معترضاً طريق المسلمين فانهم لا يشكون فيك ، ولا يستنكرون مكانك لأنك راع في أبلك ، وأحزرهم لنا ، وادن منهم ، ثم أخبرهم عن كثرة عددنا فلابد أن يسألوك ، وعجل الرجعة إلينا ، فأتي عباد بن بشر بالأعرابي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره الخبر .
(فقال عمر بن الخطاب : اضرب عنقه. قال عباد: جعلت له الأمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمسكه معك يا عباد فأوثقه رباطاً)( ).
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمضى أمان عباد ، ولما دخل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خيبر عرض عليه الإسلام فأسلم الأعرابي.
شروط قريش في صلح الحديبية
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية أمور:
الأول : وصول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مشارف مكة بقصد العمرة ، بينما كان المشركون يغزون المدينة للقتال .
الثاني : انتقال الحال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين من القتال إلى المفاوضات وعقد الصلح .
الثالث : منع الحرب والقتال بين الفريقين لعشر سنوات .
الرابع : جواز دخول القبائل في عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ بادرت خزاعة للدخول فيه .
الخامس : لا إسلال أي لا سرقة ، ولا إغلال أي لا خيانة .
ولم تلبث قريش أن خانت بنود الصلح باعانتها بني بكر ضد خزاعة ، وهل فتح مكة من مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا]( ).
الجواب لا ، فليس من تدبر في الفتح بل هو رحمة وأمن وسلام دائم ، وسبيل هداية ورشاد للناس ، فهو من مصاديق قوله تعالى [فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ]( ).
السادس : حرص قريش على رجوع النبي في سنته هذه من غير أن يدخل مكة ، ويرجع في العام القابل فيعتمر ويدخل مكة ، وتخليها قريش له ولأصحابه مدة ثلاثة أيام .
السابع : لا يدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالسلاح والدروع إلى مكة ، إنما معهم سلاح الراكب أي السيوف القصيرة في القرب.
الثامن : لا يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأحد من أهل مكة إذا أرادوا اتباعه أي من المسلمين الذين يكتمون إسلامهم بين المشركين .
التاسع : لا يمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً من أصحابه إن أراد البقاء في مكة والإقامة فيها ، إذ قال سهيل بن عمرو ممثل قريش في مفاوضات صلح الحديبية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (على انه لا يأتيك منا احد بغير اذن وليه – وان كان على دينك الا سددته الينا.
فقال المسلمون : سبحان الله، أيكتب هذا ؟ كيف يرد الى المشركين وقد جاء مسلما .
فقال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -: نعم انه من ذهب منا إليهم فابعده الله، ومن جاء منهم الينا سيجعل الله له فرجا ومخرجا)( ).
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي إمتناع أصحابه عن الإرتداد والإنقلاب.
وقد تقدم في الجزء (258) من هذا السِفر (قانون العصمة من طاعة الذين كفروا.
وقانون سلامة المسلمين من الإرتداد ومقدماته.
وقانون استمرار إرتقاء المسلمين في سلم المعارف الإلهية، وتوقيهم من الإنقلاب والإرتداد ص192).
وعن عطاء قال (خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم معتمراً في ذي القعدة معه المهاجرون والأنصار حتى أتى الحديبية ، فخرجت إليه قريش ، فردوه عن البيت حتى كان بينهم كلام وتنازع حتى كاد يكون بينهم قتال)( ).
لقد كان صلح الحديبية ورجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة نصراً عظيماً ، لذا سماه الله فتحاً ، وكان حاجة وضرورة وسلماً مجتمعياً ، وشاهداً على صبغة الرحمة العامة في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
سرية أبي بكر إلى بني كلاب بن فزارة
عن (إياس بن سلمة، حدثني أبي، قال: خرجنا مع أبي بكر ابن أبي قحافة وأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علينا فغزونا بني فزارة، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرسنا، فلما صلينا الصبح أمرنا أبو بكر فشننا الغارة، فقتلنا على الماء من مر قبلنا)( ).
وعن (إياس بن سلمة بن الاكوع عن أبيه قال غزوت مع أبى بكر إذ بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم علينا فسبى ناسا من المشركين فقتلناهم فكان شعارنا أمت أمت قال فقلت بيدى سبعة أهل أبيات من المشركين.
وقال أنا هاشم بن القاسم فثنا عكرمة بن عمار فثنا إياس بن سلمة بن الاكوع عن أبيه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر إلى فزارة وخرجت معه حتى إذا ما صلينا الصبح أمرنا فشنينا الغارة فوردنا الماء فقتل أبو بكر من قتل ونحن معه قال سلمة فرأيت عنقا من الناس فمنهم الذرارى فخشيت أن يسبقونى إلى الجبل فأدركتهم فرميت بسهم بينهم وبين الجبل فلما رأوا السهم قاموا فإذا امرأة من فزارة فيهم عليها قشع من أدم معها ابنتها من أحسن العرب فجئت اسوقهم إلى أبى بكر فنفلني أبو بكر ابنتها فلم أكشف لها ثوبا.
حتى قدمت المدينة ثم باتت عندي فلم أكشف لها ثوبا حتى لقيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السوق فقال يا سلمة هب لي المرأة.
فقلت يا نبى الله والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا فسكت حتى كان من الغد لقيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السوق ولم أكشف لها ثوبا.
فقال يا سلمة هب لى المرأة لله أبوك قال فقلت هي لك يا رسول الله قال فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة ففدى بها أسرى من المسلمين كانوا في أيدى المشركين)( ).
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان سلمة بن الأكوع يظن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطلبها لنفسه خاصة مع شدة جمالها وصغر سنها ، ولكنه اتخذها فداء لفكاك اسرى المسلمين عند المشركين في مكة .
ولم يكونوا أسرى حرب وقتال ، ولكن المشركين كانوا يحبسون المسلمين ، ويمنعونهم من مغادرة مكة خلافاً لشروط صلح الحديبية ، ومع هذا صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم ، وبذل المال ونحوه لفكاكهم ، والإذن لهم بالخروج من مكة .
سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة
إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان من السنة السابعة للهجرة ، ومعه مائة وثلاثون من الصحابة إلى (إلى بنى عوال – بضم العين – وبني عبد بن ثعلبة وهم بالميفعة وهى وراء بطن نخل إلى النقرة قليلا بناحية نجد وبينها وبين المدينة ثمانية برد بعثه في مائة وثلاثين رجلا ، ودليلهم يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجموا عليهم جميعا ووقعوا في وسط محالهم)( ).
والميفعة لغة : العالي من الأرض .
وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد رجلاً قال لا إله إلا الله ، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (هلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب)( ).
وتفقد آمر السرية غالب بن عبد الله أسامة بن زيد فجاء أسامة بعد ساعة من الليل ، فقال له غالب (ألم تر الى ما عهدت اليك ، فقال : خرجت في اثر رجل منهم يقال له نهيك جعل يتهكم بي حتى إذا دنوت منه قال: (لا اله الا الله).
فقال الأمير : أأغمدت سيفك .
فقال : لا والله ما فعلت حتى أوردته شعوب.
فقال : بئس ما فعلت وما جئت به تقتل امرءا يقول لا إله إلا الله.
فندم اسامة وسقط في يده وساق المسلمون النعم والشاء والذرية، وكانت سهمانهم عشرة أبعرة لكل رجل أو عدلها من الغنم وكانوا يحسبون الجزور بعشرة من الغنم)( ).
وبين المدينة وماء الميفعة ثمانية برد ، والبريد الواحد نحو 44كم ، وعند الحنفية والمالكية نصف هذه المسافة ، والبريد أربع فراسخ.
لقد كانت هذه السرايا لتأديب الأعراب ، ومنعهم من مزاولة السلب والنهب ، ومحاربة الإسلام ، وتربص بالمسلمين .
وكان دليل الصحابة في هذه السرية يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ونفذ الزاد الذي يحملون ، وصاروا يتقاسمون فردات التمر التي معهم ، وأصابهم الجهد .
وتوجه بعضهم باللوم على يسار ، واستمروا في السير حتى إذا دنوا من القوم حذرهم يسار قائلاً (لو صاح رجلٌ شديد الصوت لأسمع القوم، فارتأوا رأيكم)( ).
أي كونوا على حذر فان القوم إذا سمعوكم أجهزوا عليكم فلابد من الإمتناع عن الكلام ، أو الكلام بصوت خفي .
وقال ابن إسحاق باسناده (عن جندب بن مكيث الجهني قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي كلب ليث إلى بني الملوح بالكديد وأمره أن يغير عليهم، وكنت في سريته .
فمضينا حتى إذا كنا بالقديد.
لقينا الحارث بن مالك بن البرصاء الليثي فأخذناه فقال: إني إنما جئت لاسلم، فقال له غالب بن عبدالله: إن كنت إنما جئت لتسلم فلا يضيرك رباط يوم وليلة، وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك.
قال : فأوثقه رباطا وخلف عليه رويجلا أسود كان معنا، وقال: امكث معه حتى نمر عليك، فإن نازعك فاحتز رأسه.
ومضينا حتى أتينا بطن الكديد، فنزلنا عشية بعد العصر، فبعثني أصحابي إليه فعمدت إلى تل يطلعني على الحاضر، فانبطحت عليه وذلك قبل غروب الشمس .
فخرج رجل منهم فنظر فرآني منبطحا على التل فقال لامرأته: إني لارى سوادا على هذا التل ما رأيته في أول النهار، فانظري لا تكون الكلاب اجترت بعض أوعيتك.
فنظرت فقالت : والله ما أفقد منها شيئا، قال: فناوليني قوسي وسهمين من نبلي، فناولته فرماني بسهم في جنبي أو قال في جبيني، فنزعته فوضعته ولم أتحرك ، ثم رماني بالآخر فوضعه في رأس منكبي فنزعته فوضعته ولم أتحرك.
فقال لامرأته: أما والله لقد خالطه سهماي ولو كان ربيئة لتحرك، فإذا أصبحت فابتغي سهميَ فخذيهما لا تمضغهما علي الكلاب.
قال : فأملهنا حتى إذا راحت روائحهم وحتى احتلبوا وعطنوا وسكنوا وذهبت عتمة من الليل، شننا عليهم الغارة، فقتلنا واستقنا النعم ووجهنا قافلين به، وخرج صريخ القوم إلى قومهم بقربنا، قال: وخرجنا سراعا حتى نمر بالحارث بن مالك بن البرصاء وصاحبه .
فانطلقنا به معنا وأتانا صريخ الناس فجاءنا ما لا قبل لنا به، حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطن الوادي من قديد بعث الله من حيث شاء ماء ما رأينا قبل ذلك مطرا ولا حالا، وجاء بما لا يقدر أحد أن يقدم عليه، فلقد رأيتهم وقوفا ينظرون إلينا ما يقدر أحد منهم أن يقدم عليه، ونحن نجذبها أو نحدوها – شك النفيلي – فذهبنا سراعا حتى أسندنا بها في المسلك، ثم حدرنا عنه حتى أعجزنا القوم بما في أيدينا)( ).
أي أن القوم تناجوا واجتمعوا بأعداد كثيرة وتوجهوا نحو غالب بن عبد الله الكلبي وأصحابه المائة والثلاثين وهم عدد قليل بالنسبة لهؤلاء الذين قتل بعض رجالهم واستيقت انعامهم.
حتى إذا لم يكن بين جموعهم وبين أفراد السرية سوى بطن الوادي الذي يقطعونه بسهولة وسرعة حدثت معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن بعث الله عز وجل ماءّ على نحو دفعي مع عدم نزول المطر فصار الماء حاجزاً بينهم وصاروا ينظرون ، فسارع أفراد السرية بالتوجه نحو المدينة مع ما عندهم من أنعام المشركين ، وفي أخذ أنعامهم تأديب لهم ، ومنع من الإنتفاع بها للإغارة على المدينة .
قتل أسامة من نطق بكلمة التوحيد
قال الواقدي (وحدثني شبل بن العلاء، عن إبراهيم بن حويصة، عن أبيه عن أسامة بن زيد ، قال : كان أميرنا آخى بيني وبين أبي سعيد الخدري. قال أسامة: فلما أصبته وجدت في نفسي من ذلك موجدة شديدة حتى رأيتني وما أقدر على أكل الطعام حتى قدمت المدينة .
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلني واعتنقني واعتنقته، ثم قال لي : يا أسامة، خبرني عن غزاتك. قال: فجعل أسامة يخبره الخبر حتى انتهى إلى صاحبه الذي قتل .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قتلته يا أسامة، وقد قال لا إله إلا الله ، قال : فجعلت أقول: يا رسول الله، إنما قالها تعوذاً من القتل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا شققت قلبه فتعلم أصادقٌ هو أم كاذب ، قال أسامة: لا أقتل أحداً يقول لا إله إلا الله. قال أسامة: وتمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.
حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن عبيد الله بن عدي بن الجبار، عن المقداد بن عمرو قال: قلت: يا رسول الله أرأيت رجلاً من الكفار يقاتلني، وضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله، أقتله بعد أن قالها .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقتله ، قال: فإني قتلته فماذا ، قال : فإنه بمنزلتك التي كنت بها قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال)( ).
وفيه شاهد على الحكم حسب ظواهر الناس دون التحقيق في النوايا والسرائر ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع علمه بالوحي ببواطن المنافقين فانه يعاملهم على الظاهر والنطق بالشهادتين ، وحضور صلاة الجماعة لقانون الأحكام يعمل فيها بالظواهر .
وقد وردت رواية قتل أسامة للذي نطق بالقول لا إله إلا الله ، مرتين إحداهما في هذه السرية والأخرى في سرية أسامة إلى الحرقة في السنة الثامنة للهجرة كما سيأتي ان شاء الله ، وهل يحتمل تكرر الواقعة ، الجواب لا ، والمختار هو أنها وقعت في سرية أسامة إلى الحرقة .
قال البخاري باسناده عن (أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ يُحَدِّثُ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ قَالَ : فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ – قَالَ – وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ.
قَالَ : فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ،قَالَ : فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِىُّ ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِى حَتَّى قَتَلْتُهُ .
قَالَ : فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ فَقَالَ لِى : يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ .
قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا .
قَالَ : أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ .
قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَىَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ)( ).
لبيان قانون عصمة دم من يقول لا إله إلا الله ، وإن لم يكن مسلماً.
وقيل قتله من أجل جمله وغنمه فنزل قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
من شروط الحديبية
لقد اتفق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووفد قريش في صلح الحديبية (على وضع الحرب عن الناس عشر سنين.
يأمن فبهن الناس ويكف بعضهم عن بعض)( ).
ليكون صلح الحديبية نهاية لغزوات مشركي قريش للمدينة ، وقد اضطروا إليه بعد خسارتهم أموال وإبل التجارة في محاربة النبوة والتنزيل ، وفشلهم وخيبتهم في بدر وأحد والخندق وغيرها ، ومن مصاديق هذا الوضع لزوم عدم إعانة قريش ضد حلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم خزاعة.
ولكنهم لم يتقيدوا بهذا الشرط فبعد صلح الحديبية دخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخلت بنو بكر في عهد قريش ، فارادت بنو بكر وبنو نفاثة النيل من خزاعة لثأر قديم بينهم ، فأغاروا عليهم .
مكر قريش بعد الحديبية
لقد أعانت قريش بني بكر بالسلاح والرقيق (ويذكرون أن ممن أعانهم صفوان بن أمية وشيبة بن عثمان وسهيل بن عمرو)( ) .
وتفيد (ممن أعانهم) أعلاه التبعيض أي أن الذين أعانوهم من قريش أكثر من هؤلاء الثلاثة ، وسهيل بن عمرو هو الذي عقد صلح الحديبية مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو أولى الناس بالتقيد بشروطه ، وإن اسلم بعد فتح مكة وحسن إسلامه .
وكان عامة الذين تعرضوا للغزو والهجوم من بني كعب من خزاعة نساء وصبيان وضعفاء الرجال ، فقتلوا جماعة منهم وأدخلوهم إلى دار بديل بن ورقاء في مكة .
فخرج ركب من خزاعة وتوجهوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقوا القصائد بين يديه في بيان ما اصابهم من بني بكر وقريش ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ارجعوا وتفرقوا في البلدان)( ).
وهل من ملازمة بين الكفر ونقض العهود ، الجواب لا ، فقد يلزم الكافر بالعهد ، ولكن حنق وبغض كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل جعلهم يسعون في نقض العهود ، ويأملون نزول المصائب بالمسلمين وحلفائهم فكان فتح مكة حاجة للناس جميعاً.
هجوم بني بكر على خزاعة
لم يكن جميع بني بكر اشتركوا في الهجوم على خزاعة إنما خرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل ليصيبوا ثأراً بالنفر الذين قتلوا منهم ، والسبب هو كان رجل تاجر يسمى مالك بن عباد الحضرمي حليف الأسود بن رزن ، قتلته خزاعة عندما توسط أرضهم ونهبوا ماله ، فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه.
(فعدت خزاعة قبيل الاسلام على بني الاسود بن رزن الديلى وهم منخر بنى بكر وأشرافهم سلمى وكلثوم وذؤيب فقتلوهم بعرفة عند انصاب الحرم)( ).
وبيتوا خزاعة على ماء لهم اسمه (الوثير) وقتلوا رجلاً من خزاعة اسمه منبه ، واستيقظت خزاعة فاقتتلوا ، وقاتل مع بني بكر رجال من قريش بالليل مستخفين مع عيرهم وعبيدهم ، فلجأت خزاعة إلى الحرم طلباً للأمان عندئذ قالت بنو بكر لقائدهم يا نوفل انا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك ، رجاء الكف عن القتال لحرمة البيت .
فقال نوفل بن معاوية كلمة جحود (لا إله له اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم فلعمري انكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه)( ).
وهذه المقارنة باطلة ، فلا صلة أو مقاربة بين السرقة وسفك الدماء ، الذي هو أشد في كل مكان ، ويزداد إثمه في الحرم .
لبيان عدم انحصار الضلالة قبل الإسلام بعبادة الأوثان إنما في التمادي بسفك الدماء حتى في الحرم وداخل مكة ، وقتل بنو بكر عشرين من خزاعة.
وفي رد الملائكة حينما أخبرهم الله عز وجل عن جعله خليفة في الأرض [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، ومن علم الله عز وجل أن سفك الدماء في الحرم سبب لفتح مكة وإقامة أحكام الشريعة فيها .
وجوه الدعوة للإسلام في الميدان
تكون الدعوة النبوية في الميدان على وجوه :
الأول :الدعوة الإبتدائية ، قبل وقوع القتال إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادي (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) لبيان قانون الملازمة بين التوحيد والفلاح في النشأتين ، وقانون متجدد وهو لا يبدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قتالاً ، وهل هذه الصفة خاصة به ، أم هي شاملة لكل الأنبياء ، الجواب هو الثاني .
الثاني : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام عند سقوط قتيل من العدو لبعثهم على الإمتناع عن القتال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : الدعوة الإسلامية عند إنقضاء الصلاة ، فقد يستمر القتال لليوم الثاني ، أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى بأصحابه الفرائض اليومية الخمسة ، وكل مرة يدعو الكفار بعد الصلاة إلى الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ) .
إذ تدل الصلاة على أن النبي محمداً عبد الله ورسوله الذي بعثه لإنقاذ الناس من براثن الكفر والضلالة ، وقد تقدم بخصوص سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى ، وكان خروجه إلى الشام للتجارة في رجب سنة ست ، وقاتلهم بنو فزارة وانفلت زيد جريحاً من بين القتلى ، فنذر أن لا يمس رأسه غسل( ) حتى يغزو فزارة في وادي القرى .
ولما استبل من جروحه بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جيش إلى بني فزارة فقاتلهم في وادي القرى وأصاب فيهم مما يدل على أن سكن وادي القرى لا يختص بطوائف من اليهود بل معهم قبائل من العرب كانوا يقطعون الطريق ويقتلون المسلمين .
منافع معركة بدر يوم الخندق
بين المعركتين ثلاث سنوات ، إذ وقعت معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، ووقعت معركة الخندق في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ووقعت بينهما أمور ووقائع منها :
الأولى : توالي نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويحتمل وصول الآيات المدنية إلى أهل مكة على وجوه:
الأول : وصول هذه الآيات إلى أهل مكة حال نزولها مع موضوعية مسافة الطريق بينهما .
الثاني : تلقي مسلمي مكة على نحو الخصوص الآيات المدنية .
الثالث : وصول بعض الآيات المدنية إلى أهل مكة .
والمختار هو الأول ، فقد كان وفد الحاج والمعتمرين يتلون وينقلون الآيات عن قصد وتلاوة أو ينقلونها عرضاً عند سماعها منبهرين من مضامينها القدسية ، ومعانيها ، ودلالاتها .
ومن إعجاز الآية القرآنية حمل الناس على الإصغاء ، وهو من أسباب دخول كثير من الناس الإسلام خاصة وأن القرآن معجز ببلاغته .
الثانية : تبدل حال المسلمين من الذل الذي هو بمعنى القلة والضعف ، والنقص في العدة والسلاح والمؤونة .
ترى متى حدث هذا التبدل ، الجواب حدث في يوم معركة بدر لورود آية (ببدر) بصيغة الماضي بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وتقدير الآية : وكنتم أذلة ، وتدل عليه أمور :
الأول : موضوعية نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المعركة .
الثاني : مجئ الغنائم الكثيرة إلى المدينة .
الثالث : أسر المسلمين لسبعين من المشركين ، ومن الآيات قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببعث الأسرى إلى المدينة أمامه ، وحينما جاء زيد ابن حارثة إلى المدينة بالبشارة بالنصر ارتاب المنافقون ولم يصدقوا الأمر ، فحينما دخل الأسرى تجلت حقيقة النصر ، خاصة وأن عدداً منهم من وجهاء قريش المعروفين عند الأوس والخزرج مثل سهيل بن عمرو ، والعباس بن عبد المطلب ، عمرو بن أبي سفيان بن حرب.
الرابع : قبض الصحابة بدل الأسرى ، إذ دفع كل واحد منهم أربعة آلاف درهم فضة ، باستثناء الذين اطلقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير بدل والذين قاموا بتعليم صبيان المدينة ، كل واحد منهم يعلم عشرة.
وفي قبض المسلمين هذه الأموال عز للمسلمين ، ورفع لحال الذل التي كانوا عليها .
الثالثة : وقوع معركة أحد في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
الرابعة : تعدد السرايا التي خرجت من المدينة بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : قيام المشركين بغزو أطراف المدينة وحرق بعض النخيل .
السادسة : دخول طوائف من الناس الإسلام .
السابعة : توالي المعجزات الحسية على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يزيد إيمان المسلمين ، وفيه دعوة سماوية للناس للإيمان .
الثامنة : نزول آيات الآحكام في المدينة ، فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم توالي نزول الآيات وعمل المسلمين بها حال نزولها مع التهديد المتصل من قبل المشركين.
التاسعة : دبيب الضعف في جماعة المنافقين ، والنقص في عددهم لتوبة طائفة منهم لتوالي نزول الآيات التي تذمهم ، وتنذرهم وتتابع معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا]( ).
وتحقق النصر والظفر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع قلة عدد أصحابه .
بحث أصولي
تنقسم الأحكام الشرعية تقسيماً استقرائياً إلى قسمين :
الأول : الأحكام التكليفية وهي ، الواجب ، والمندوب ، والمباح ، والمكروه ، والحرام .
الثاني : الأحكام الوضعية وهي التي ليس فيها طلب أو نهي أو تخيير ، إنما هي سبب أو شرط أو مانع.
وكان صلح الحديبية مسبباً وسبباً ، أما كونه مُسبباً فقد أرهقت المعارك قريشاً ، وأدركوا عدم جدوى قتالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخشوا استياء ونقمة العرب عليهم عند صدّهم له ولأصحابه عن البيت الحرام في شهر حرام ، خاصة مع إنتشار الإسلام وأخبار معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين القبائل ، ولعمومات قوله تعالى [الصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
فمن معاني هذه الآية هداية الناس للصلح ، وميل القلوب لطوي صفحة القتال فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة صلح الحديبية سبباً لدخول جماعات وأفواج من الناس الإسلام ، ومعرفة عامة أهل الجزيرة بآيات القرآن ، والتدبر في مضامينها القدسية.
فحتى الذي لم يدخل الإسلام منهم فانه يمتنع عن نصرة رؤساء الكفر من قريش ، لذا حينما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة لم يقع قتال يذكر ، ولم تجتمع الناس للقتال مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية .
وأختلف هل الاسم عين المسمى أم الاسم غير المسمى ، والمختار هو الثاني وبه ورد النص عن الإمام الصادق عليه السلام ، فالله عز وجل له تسعة وتسعون اسماً ، وواجب الوجود بسيط .
وأسماء الأحكام التكليفية اصطلاحية ، تدل على المعاني ، ولا يشترط المطابقة التامة بين الاسم والمسمى ، فسمي الواجب لتأكيد وجوب إتيانه وحرمة تركه ، مع التسليم بالدلالة التضمنية بأنه حسن ومحبوب بالذات فكل ما يأتي من الله محبوب.
والواجب أعلى درجة من المستحب موضوعاً وحكماً ، وكذا في الأجر والثواب ، ولوجوب المبادرة إلى اتيانه واقتران البعث إليه بالإلزام وللتفريق بينه وبين المندوب.
ويسمى المستحب بالمندوب لندب الشرع إلى اتيانه ، وانتفاء الإثم في تركه.
سرية بشير بن سعد إلى يمن وجبار
في شهر شوال من السنة السابعة للهجرة ، وجبار واد قريب من خيبر لبيان الجهة التي توجهت لها السرية وأن الوقائع المتعلقة بخيبر لم تنته بفتح خيبر ، إذ كانت قبائل من العرب لهم أحلاف مع يهود خيبر .
وقد بلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن جمعاً من قبيلة غطفان واعدهم عيينة بن حصن الفزاري قبل أن يدخل الإسلام بأن يكون معهم على رسول الله وأن يغيروا على المدينة .
فصار بعث سرية لهم حاجة للمسلمين وعامة أهل المدينة ، والناس جميعاً لزجرهم عن التعدي ومباغتة المسلمين ، فدعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشير بن سعد الأنصاري وعقد له لواءً ، وبعث معه ثلاثمائة من الصحابة وكانوا يسيرون في الليل ويكمنون في النهار من أجل مباغتة المشركين ، وعدم معرفتهم بزحف السرية نحوهم ونزلوا بأرض تسمى سلاحاً قريباً من موقع القوم .
ثم دنوا منهم ، فاصابوا نعماً كثيرة ، وتفرق الرعاة ، وكان هذا التفرق عن مكر إذ حذروا الجمع ، وأخبروهم بأن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد قدموا وأغاروا على النعم ، فتفرق القوم ، وصعدوا إلى أعالي الجبال ، ولم يكتف بشير بن سعد بالإستيلاء على الأنعام بل سار وأصحابه نحو محال تجمع وسكن غطفان الذين اجتمعوا على قصد الإغارة على المدينة المنورة فلم يجدوا فيها أحداً .
ولقوا عيناً لعيينة بن حصن ، فقتلوه ، ثم لقوا رجال عيينة فناوشوهم بالسهام ، فانكشف جمع عيينة وتبعهم الصحابة فاخذوا منهم رجلين فلم يقتلوهما بل أسروهما ، وقدموا بالنعم وبالرجلين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعلنا اسلامهما ، فأرسلهما في الحال ، ولم يحتجزهما ، أو يقول بأنهما أسلما طلبا للسلامة ، لبيان قانون النطق بالشهادتين طريق التوبة والإيمان والأمن والسلام.
سرية ابن أبي العوجاء إلى بني سليم
لقد رجع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عمرة القضاء إلى المدينة في شهر ذي الحجة من السنة السابعة فبعث سرية من خمسين صحابياً بأمرة الأخرم ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم الذين كانوا يقيمون في صحراء نجد على طريق القوافل بين مكة والمدينة ، وكانوا يؤلبون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويظهرون العداء له وللإسلام .
وقد سبق وأن خرج إليهم بنفسه في شهر شوال من السنة الثانية للهجرة وبعد معركة بدر ، عند ماء يقال له الكدر ، وكان معه مائتان من الصحابة ولم يقع قتال .
وحدث أن خرج عين جاسوس لبني سليم وأخبرهم بقدوم سرية المسلمين لهم ، فاجتمعوا واستعدوا لقتالها .
وعندما وصل الصحابة فوجئوا بكثرة الجموع وتهيؤهم للقتال ، فدعاهم ابن أبي العوجاء السلمي للإسلام ، فقالوا (لا حاجة لنا إلى ما دعوتم إليه ، فرموهم ساعة وجعلت الامداد تأتى حتى أحدقوا بهم من كل جانب ، فقاتل القوم قتالا شديدا حتى قتل عامتهم)( ).
فلم يكتف بنو سليم بعدم قبول الدعوة إلى الإسلام ، ولم يتركوا للصحابة الرجوع من حيث جاءوا إنما بادروا إلى رميهم بالنبال ثم قاتلوهم وأجهزوا عليهم .
وأصيب آمر السرية بجراحات عديدة ، ولكنه تحامل حتى استطاع الإنسحاب من ميدان المعركة بمن بقي معه من الصحابة وقدموا المدينة في أول يوم من شهر صفر سنة ثماني للهجرة.
وذكر أن هذه السرية لم تقع ، وقد تقدمت الإشارة أن عدد قتلى المسلمين في هذه السرية اثنا عشر شهيداً في الجزء السادس والستين بعد المائة من هذا السِفر.
دروس من سرية ابن أبي العوجاء
الأولى : عدم انقطاع عداوة المشركين للإسلام بصلح الحديبية أو عمرة القضاء.
الثانية : جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإستتباب الأمن والإستقرار في المدينة ، لقانون الملازمة بين الأمن وتدبر الناس في معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : استمرار خروج السرايا من المدينة في الدعوة إلى الله ، وإقامة أفراد السرايا الصلاة في أفواه القرى ، وتلاوتهم القرآن.
الرابعة : تجلي استمرار وتجدد طاعة الصحابة لله ورسوله ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الخامسة : قانون دعوة المسلمين الناس للإيمان قبل ابتداء القتال ، فلم تبدأ سرية ابن أبي العوجاء السلمي القتال إنما دعوا إلى الشهادتين وإلى دخول الإسلام .
ومن الإعجاز في هذه الدعوة حضورها في الوجود الذهني عند الذين يسمعونها ، كما يقومون بنقلها إلى غيرهم لتكون ممن يبلغ بها الشاهد الغائب والغائبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
السادسة : عدم خشية الصحابة من كثرة المشركين ، إذ تفاجئوا بكثرة المشركين وإحاطتهم بهم ، مع أن عدد أفراد السرية خمسون رجلاً فقط .
السابعة : الضرر الفادح عند بلوغ المشركين زحف وتوجه المسلمين نحوهم .
لبيان وجوب شكر أجيال المسلمين لله عز وجل على عدم انكشاف كتائب وسرايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الكثيرة للمشركين ، والحاجة إلى اتباعهم طريقة السير في الليل ، وكيف أنهم يكمنون في النهار للتورية ، ومنع معرفة المشركين بمسيرهم كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الغالب لا يخبر عن الجهة التي يتوجهون إليها ، وكان يبعث العيون والطلائع أمامه .
الثامنة : إنسحاب آمر السرية ابن أبي العوجاء مع شدة جراحه ، ورجوعه إلى المدينة ، وإخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالواقعة.
التاسعة : مع كثرة قتلى المسلمين في هذه السرية ، فلم يذكر وقوع قتلى بين المشركين ، وهو من أسباب معرفتهم بقدوم السرية نحوهم واستعدادهم لقتالها ، مع أنها لم تأت للقتال بدليل قلة عدد أفرادها .
العاشرة : سرعة تبدل حال بني سليم ، وعدم بقائهم على الكفر والضلالة ، إذ سرعان ما دخلوا الإسلام تباعاً ، ومنهم (قيس بن نُشْبَة السلمي، بن أَبي عامر بن حارثة بن عبد بن عبس بن رفاعة بن الحارث بن بُهْثنة بن سُلَيْم متأُلهًا في الجاهلية، قد نظر في الكتب .
فلما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعثته قدم عليه فقال: اِعرض عليَّ ما جئت به وأَخبرني باسمك ونسبك، فتسمى له وانتسب، وعرض عليه الإِسلام .
فقال : واللّه إِن اسمك لاسم النبي المنتظر، وِإن نسبك لشريف، وِإن ما جئت به لحق، أَشهد أَنك رسول اللّه، ثم قال:
تابعت دين محمد ورضيته … كلّ الرّضا لأَمانتي ولديني
ذاكَ أمْرُؤ نازَعْتُه قول الهدى … وعقدت فيه يمينه بيميني
أَمِن الفلا لما رأَين الفعل من … عف الخلائق طاهر ميمون
أَعني ابن آمنة الأَمين ومن به … أَرجو السلامة من عذاب الهون
قد كنت آمله وأَنظر دهره … فالله قَدَرَ أَنه يهديني
وقدم عليه قدر بن عمار في وفد بني سلَيْم فأَسلم، وكان جميلاً وسيمًا، وقال في إِسلامه:
عقدت يميني إِذا أَتيت محمدًا … بخير يد شدت بحجزة مئزر
وذاك امرؤ قاسمته شطر دينه … ونازعته قول امرىءً غير أَعسر
وِإنَّ امرأً فارقته عند يثرب … لخير نصيح من معد وحمير
وكان قد خرج إِلى بلاد قومه في الوفد، ووعدوا النبي صلى الله عليه وسلم أَن يوافوه لنصره على أَهل حنين، فرجع أَصحابه وليس فيهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأَين الغلام الحسان الصدوق الإِيمان، الطليق اللسان. قالوا: مات وفي موعدهم النبي ، قال عباس بن مرداس :
سَرَيْنعا وواعدنا قُدَيْدًا محمدا … يَؤُمَ بنا أَمرًا مِن اللّهِ مُحْكَمَا
يجوس العدا بالخيل لاحقة الكلى … وتدعو إِذا جنّ الظلام مقدما)( ).
الحادية عشرة : لقد شهدت بنو سليم فتح مكة تحت ألوية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ لقوه في القديد ، وكان عددهم سبعمائة (وفيهم العباس بن مرداس، وأنس بن عباس بن رعل، وراشد بن عبد ربه فأسلموا وقالوا: اجعلنا في مقدمتك واجعل لواءنا أحمر وشعارنا مقدما ، ففعل ذلك بهم فشهدوا معه الفتح والطائف)( ).
وكان اسم راشد بن عبد ربه غاوي بن عبد العزى وكان يسدن للصنم ، فاسلم وابدل النبي صلى الله عليه وآله وسلم اسمه وقال له : انت راشد بن عبد ربه .
وحسن اسلامه ، وشهد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكة وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (خير قرى عربية خيبر وخير بني سليم راشد وعقد له على قومه)( ).
مما يدل على أن خيبر عربية السكن والتأريخ وإن سكنها معهم اليهود , وأكثر يهود خيبر من العرب .
غايات المشركين من معركة أحد
قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة وصلت جيوش المشركين إلى مشارف المدينة ، وعددهم ثلاثة آلاف رجل ، ألف من قريش وحلفائها ، وألفان من القبائل الحليفة لقريش وهم نوع مرتزقة .
لتتحمل قريش الأعباء المالية في تجهيزهم ، وتكون هذه النفقات على حساب قوافل التجارة ، وكأن قوله تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( )،تحذير لقريش من محاربة النبوة وإنذار بتعطيل تجارتهم.
وقد حصل هذا التعطيل بتسخير قريش لأموال وإبل التجارة في تجهيز الجيوش والأسلحة لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وكانت الغاية متعددة من جهات :
الأولى : محاربة النبوة والتنزيل .
الثانية : الثأر لقتلى قريش في معركة بدر ، وعددهم سبعون ، وفيهم من الرؤساء .
الثالثة : تدارك قريش للذل الذي لحقها في معركة بدر ، وإدراكهم بتضاؤل هيبتهم بين القبائل ، ليكون من مفاهيم قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، انتقال حال الذلة إلى قريش مع التباين في مفهوم الذلة في المقام ، فذلة المسلمين قلة العدد والمؤن والعدة ، وذلة قريش الهوان والضعف والنقصان الجلي في الهيبة ، ولم يتحقق هذا التدارك إنما رجعوا من معركة أحد بالحزن والخيبة والندامة ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الرابعة : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقف نزول آيات القرآن والتي كانت تنزل نجوماً وعلى التوالي ، ولم يعلموا أن كيفية النزول هذه وعد من الله عز وجل بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحين إكمال نزول آيات القرآن ، والتي لا ينزل جبرئيل بها على غيره .
الخامسة : صيرورة المهاجرين والأنصار بين قتيل وأسير ، وادخالهم مكة موثقين بالحبال مثلما دخل أسرى المشركين المدينة في واقعة بدر ، ولكن خاب سعيهم ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
السادسة : ليعلم أهل الجزيرة وغيرهم أن قريشاً هم الغزاة ، وهم الذين اختاروا المكان والزمان للقتال .
السابعة : عرض قريش لكثرتهم وأسلحتهم ، فقد كانوا في ميدان معركة أحد أكثر من أربعة أضعاف عدد المسلمين .
الثامنة : طلب قريش النصر والغلبة في القتال ، لذا كان حملة لوائهم من بني عبد الدار هم أول من طلب المبارزة وأصروا عليها.
التاسعة : تأكيد قريش بأنهم هم الغزاة ، وبأيديهم المبادرة للقتال ، وهل يدل قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )، على أن المشركين هم الغزاة ، الجواب نعم لإخبار الآية بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج من بيته للدفاع .
العاشرة : ذبّ قريش بالسيف والدماء عن عبادة الأوثان في مكة وجزيرة العرب .
الحادية عشرة : بعث الخوف في قلوب الناس من دخول الإسلام.
الثانية عشرة : محاولة منع الناس من الإنشغال والتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمضامين القدسية لآيات القرآن ، خاصة بعد نصره في معركة بدر ، وهل تدل نسبة النصر في معركة بدر إلى الله عز وجل بقوله [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ] على الإعجاز في هذا النصر .
الجواب نعم ، لأن نصر الله عز وجل بالأسباب وبدونها وبالعلل الغيبية ومنها نزول الملائكة ، ومعرفة الفريقين بهذا النزول ، ليزداد المسلمون إيماناً ، وينزجر المشركون عن غزو المدينة ، وبخصوص معركة بدر نزل قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الثالثة عشرة : غلبة حمية الجاهلية على كفار قريش ، ومناجاتهم بتجديد القتال .
الرابعة عشرة : المحافظة على طريق القوافل إلى الشام واليمن ، إذ أن إظهار قريش قوتها وكثرة الرجال الذين معها مانع للقبائل التي تمر عليها القوافل من الإغارة عليها .
معجزة عدم فرار النبي محمد (ص) في الميدان
من خصائص المعارك الكر والفر بين الفريقين ، نعم يختلف الحال في اللقاء بين المسلمين والمشركين ، لوجود المدد من عند الله عز وجل للمسلمين ومنه تحليهم بالصبر والتوكل على الله [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
ومن حب الله عز وجل لهم في المقام إعانتهم في الثبات في الميدان ، فيثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان بالوحي ، ليتأسى ويقتدي به الصحابة من المهاجرين والأنصار .
ويتجلى المدد في الميدان بقوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ]( )، لبيان أن الله عز وجل ينصر الذي يختصهم في سبيله ويدافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، قال تعالى [وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]( ).
وأشد ما لاقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الميدان يوم معركة أحد ولم ينهزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد أو غيرها مع قرب العدو منه , ووصول سهامهم وحجارتهم إليه , وسيلان الدم من وجهه.
لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بألف من المهاجرين والأنصار إلى حيث جيوش المشركين ، إذ صاروا على بعد خمسة كيلو متر عن المسجد النبوي ، وأطلقوا إبلهم وخيلهم في مزروعات الأنصار.
ومن يأتي لأرضه وزراعته يرمونه بالسهام ، مما يدل على أنهم هم الغزاة المعتدون.
وهل يدل قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )، بالدلالة التضمنية على وجوب عدم ترك الصحابة مقاعدهم التي عيّنها لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الجواب نعم ، لقوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
لقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرماة : إذا رأيتم الطير تتخطفنا فلا تتركوا أماكنكم ، ووعدهم بسهامهم في الغنائم ، وكان عددهم خمسين برئاسة عبد الله بن جبير.
وكلما أغارت عليهم خيل المشركين والتي برئاسة عكرمة بن أبي جهل وخالد بن الوليد رشقوها بالسهام ، إلى أن رأوا المشركين في الميدان يفرون مع كثرة عددهم أمام المسلمين .
فاستصحبوا واستحضروا واستصحبوا النصر في معركة بدر ، وظنوا أن المشركين قد انهزموا ورأوا النساء تركب الإبل للفرار مرتبكات ، عندئذ ترك أغلبهم مقاعدهم خلف جيش المسلمين ونزلوا إلى الميدان طمعاً بالغنائم ، وخشية أن يستأثر بها المقاتلون .
وبقي آمر الرماة عبد الله بن جبير في محله وهو من الأوس .
وعن (الزبير بن العوام، والبراء بن عازب: لقد رأيتنا ننظر إلى خدم هند بنت عتبة، وصواحبها مشمرات هوارب يرفعن عن سوقهن، حتى بدت خلاخلهن، وانهزم القوم ما دون أخذهن قليل ولا كثير، وكانت الهزيمة لا شك فيها، ودخل المسلمون عسكر المشركين فانتهبوه.
ترك الرماة مقاعدهم
لقد كان ترك الرماة مكانهم الذي أقامهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهم أسباب خسارة المسلمين يوم أحد سبعين شهيدا .
فلما رأى أصحاب عبد الله بن جبير وهم الرماة ما حصل للمشركين قالوا: أي قوم، الغنيمة الغنيمة، لم تقيمون ها هنا في غير شئ، قد هزم الله تعالى العدو، وهؤلاء إخوانكم قد ظهروا، وهم ينتهبون عسكرهم، فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم، فقال عبد الله بن جبير ومن وافقه: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكم : احموا ظهورنا ولا تبرحوا من مكانكم، وإذا رأيتمونا نقتل، فلا تنصرونا، وإن غنمنا فلا تشركونا، احموا ظهورنا.
فقال الاخرون: لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا.
وانطلقوا فلم يبق مع أميرهم عبد الله بن جبير إلا دون العشرة، وذهب الباقون إلى عسكر المشركين ينتهبون، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين، ونظر خالد بن الوليد إلى الجبل وقلة أهله، فكر بالخيل وتبعه عكرمة بن أبي جهل – وأسلما بعد ذلك – فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم، وثبت أميرهم عبد الله، فقاتل حتى قتل، فجردوه ومثلوا به أقبح مثله، وكانت الرماح قد شرعت في بطنه، حتى خرقت ما بين سرته إلى خاصرته إلى عانته، وخرجت حشوته، وأحاطوا بالمسلمين)( ).
عندئذ أغارت خيل المشركين عليهم ، فرموها بالسهام ولكنها استطاعت أن تصل إليهم ، وكان عدد خيل المشركين مائتين فقتلوا عبد الله بن جبير ومن بقي معه ، وجاءوا للمسلمين من الخلف وقتلوا منهم واحدثوا الإرباك فيهم .
فانهزم عدد من المسلمين ، وهمّ آخرون بالفرار لولا أن عصمهم الله عز وجل ، كما في قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
لتدل هذه الآية على ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في منزله في الميدان مع كثرة جراحاته ، وهذا الثبات معجزة له لقتاله وقلة من الأصحاب حوله ولرجوع أكثر المسلمين للميدان بسبب ثباته.
وهل ذكر الطائفتين هنا من باب الحصر والتعيين ، أم أن ذكرهما من باب المثال وان آخرين غيرهم همّوا بالفرار ، المختار هو الأول .
منافع المعركة السابقة في اللاحقة
يتجلى علم جديد وهو ما هي منافع كل معركة سابقة للمسلمين بالمعركة اللاحقة بحضور آيات القرآن التي تخص المعركة السابقة ، مثل [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، ليدخل المسلمون معركة أحد وهم واثقون من النصر من عند الله عز وجل ، وكما في قوله تعالى [إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ]( )، التي نزلت في معركة بدر ولما انهزم المشركون في معركة بدر بعد أن سقط منهم سبعون قتيلاً ، وأسر سبعين منهم ، نزل قوله تعالى [الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( )، إلى جانب السنة النبوية القولية والفعلية ، وفي المقام مسائل :
الأولى : منافع معركة بدر وفق الكتاب والسنة .
الثانية : منافع معركة أحد التي تجلت في معركة الخندق للمسلمين بامتناع الصحابة عن الإلحاح على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج إلى المشركين ، كالحاحهم عليه في معركة أحد وثباتهم خلف الخندق بصبر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعدم الفرار للإتعاظ من معركة أحد ، قال تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
الثالثة : أضرار المشركين يوم بدر التي ظهرت في معركة أحد .
الرابعة : أضرار المشركين يوم معركة أحد التي ظهرت لها شواهد في معركة الخندق .
الخامسة : منافع معركة بدر وأحد في معركة الخندق ، خاصة وأن معركة بدر سور الموجبة الكلية في المنفعة العامة للمسلمين في حال السلم والحرب .
السادسة : منافع معركة بدر وأحد والخندق مجتمعة ومتفرقة في صلح الحديبية ، وصيرورتها سبباً لإضطرار كبار قريش للصلح في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة .
أيهما أكثر المعجزات العقلية أم الحسية للنبي (ص)
قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]( ).
لقد رزق الله عز وجل الأنبياء المعجزة الحسية ، فليس من نبي إلا وعنده معجزة شاهداً سماوياً على صدق نبوته لأتصاف المعجزة بخصائص :
الأول : أنها أمر خارق للعادة لم يقع مثله في الواقع وعالم السبب والمسبب .
الثاني : إقتران المعجزة بالتحدي لأهل الصنعة والفن والعلم ، فيقفون أمامه عاجزين ومنه عجز السحرة عن الإتيان بمثل عصا موسى ، قال تعالى [فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ]( ).
وورد لفظ [السَّحَرَةُ] ثماني مرات في القرآن ، كلها بخصوص سحرة فرعون.
وهل يدل هذا الحصر الموضوعي على إنقطاع السحر وأثره ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كمعجزة عقلية تتمة لمعجزة موسى الحسية بالعصا ، الجواب نعم .
الثالث : التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن الناس في التصديق بنبوته بالمعجزة ، وهل تخاطب المعجزة الحسية العقول ، الجواب نعم ، للتباين الرتبي بينها وبين السحر ونحوه ، فيدرك الناس أنها من عند الله .
الرابع : معجزات الأنبياء دعوة إلى الله ، وجذب إلى منازل الإيمان ، ومشيئة إلهية جلية حاضرة في الواقع اليومي للناس لتعضد الآيات الكونية التي تطل على الناس كالشمس ، والقمر ، والكواكب ، والسحاب ، ونزول المطر ونحوها .
وتفضل الله عز وجل ورزق النبي محمداً المعجزة العقلية وهو القرآن لتستنبط منه الأحكام ، وتتفرع عنه العلوم في كل زمان .
والمختار أن المعجزات العقلية هي الأكثر فعدد آيات القرآن (6236) آية تجد أغلب آيات القرآن أولها في شئ ، ووسطها في شئ ، وآخرها في شئ آخر ، وكذا فان الجمع بين مضامينها علم آخر تستنبط منه المسائل ، لذا خصصت في تفسير كل آية من هذا السِفر باباً اسمه (الصلة بين أول ووسط وآخر الآية).
من منافع معركة أحد في معركة الخندق
لقد نزل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) في معركة أحد وانقضائها في ذات اليوم الذي ابتدأت فيه ، ومن منافعها في معركة الخندق وجوه :
الأول : بعث الخوف في قلوب المشركين من لقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثاني : إصابة الذين كفروا بالكبت والوهن والعجز عن إظهار غيظهم بصيغ الإنتقام .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة المشركين عاجزين عن الثأر لقتلاهم في معركة بدر وغيرها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الثالث : دخول طوائف من الناس الإسلام بين معركة أحد والخندق .
الرابع : لقد ابتدأت الآية أعلاه بالإخبار عن قطع وهلاك طائفة من الكفار إذ قتل منهم يوم أحد اثنان وعشرون رجلاً وقبلها بعام سقط منهم في معركة بدر سبعون من شجعانهم ووجهائهم ليحضر هلاكهم في الوجود الذهني للمشركين ، ومجتمعاتهم ، فيظهر على ألسنتهم وأحاديثهم لذا أتى المشركون معهم في معركة أحد بالنساء ليضربن الدفوف وينشدن الإشعار ليس لبعث الحماسة في نفوسهم فحسب ، بل معه محاولة إزالة الخوف والرعب من صدورهم ولكنه لا يزول أبداً لأن الله عز وجل هو الذي ألقاه في قلوبهم ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
وهل كانت هند بنت عتبة وصويحباتها يعلمن بقانون امتلاء صدور رجالاتهن بالرعب ، الجواب نعم ، لقانون استبانة ما يقذفه الله من الرعب في القلوب على الألسنة والجوارح ، وفيه مسائل :
الأولى : إنه من مصاديق عموم الرحمة الإلهية في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثانية : قانون زجر المشركين عن تكرار غزو المدينة ، ولا يعلم ما صرف من القتال بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين بقذف الله الرعب في قلوب المشركين إلا الله عز وجل .
الثالثة : قانون نزول الرعب في قلوب المشركين تخفيف عن المسلمين .
ومن الإعجاز أن الرعب لم ينزل في ساحة المشركين ، إنما في قلوبهم ليترشح عنه الفزع في مجتمعاتهم رجالاً ونساءً ، وفي ساحتهم ومنتدياتهم.
الرابعة : قانون التباين بين معسكر الإيمان والصبر ، ومعسكر الخوف والرعب للمشركين وهو من أسباب معجزة انقضاء معركة بدر ، وحنين في ذات اليوم التي بدأت بها كل منهما ، قال تعالى [فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
وتجلى خوف ورعب المشركين في معركة الأحزاب بعجزهم عن إقتحام الخندق الذي يحيط بالمدينة من أكثر جهاتها ، كما كانت بعض الأماكن منه يمكن عبورها ، لذا عبرها عمرو بن عبد ود العامري وأربعة من المشركين ، إذ تقدم عمرو بن عبد ود وطلب المبارزة ، وألح بالطلب ، وقام بتعيير المسلمين لإمتناعهم عن الإستجابة لمبارزته وهو فارس مضر ، فبرز له الإمام علي عليه السلام فقتله ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
وهل من موضوعية لرعب وخوف المشركين يومئذ في كفاية المسلمين القتال ، الجواب نعم.
ومن وجوه الكفاية في المقام بقاء عشرة آلاف من المشركين لعشرين ليلة حول المدينة يخشون إجتياز الخندق ، إلى أن بعث الله عز وجل عليهم ريحاً عاتية فتنادوا بالإنسحاب بخيبة ، ليكون قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، إخباراً عن حال المشركين في معركة أحد ، وبشارة للمسلمين بتجدد إنقلاب المشركين في خيبة وندامة وحسرة في كل معركة قادمة ، ومنها معركة الخندق ، وحنين ، قال تعالى [وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ]( ).
لماذا يريد المشركون القتال ويريد النبي (ص) إجتنابه
يختص هذا الجزء من معالم الإيمان بقانون (لم يغز النبي (ص) أحدا) والنسبة بينه وبين إجتناب النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتال عموم وخصوص مطلق ، فهذا الإجتناب أعم ، فهو سجية وخصلة كريمة من خصال الأنبياء ، فان قلت قد ورد قوله تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
والجواب قد قاتلوا دفاعاً ولاستدامة بقاء لواء الإسلام عالياً في الأرض ، وتدل على هذا المعنى معارك الإسلام الأولى فقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع مع إضطرار للقتال ، كما في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين ، ومع مناجاة المشركين بالقتال ، وإنفاقهم الأموال الطائلة في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فقد نزل قوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( )، لبيان قانون عدم جعل الشروط والقيود على قبول السلم.
لبيان حقيقة وهي أن رضا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشروط المشركين في صلح الحديبية من رشحات آيات القرآن ودعوتها للسلم والصلح مطلقاً ، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
ويبين قوله تعالى [وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا]( )، حال التضاد بين المؤمنين بثباتهم على الإيمان واستدامة دفاعهم في كل الأحوال ، وبين المشركين وما أصابهم من الوهن والضعف وأثر تعطل تجارة الشتاء إلى اليمن ، وتجارة الصيف إلى الشام على حالهم برميهم بالخيبة والحسرة .
ومن أسرار إجتناب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القتال علمه بجذب المعجزات وشواهد التنزيل الناس إلى الإسلام ولو على نحو التوالي في تعاقب الأيام ، قال تعالى [قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
من هو الراوية عبد الله بن أبي بكر
المقصود بن عبد الله بن أبي بكر الذي يروي عنه ابن إسحاق ويقول عنه حدثني هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري (65-135)هجرية ، حدّث عن أنس بن مالك ، وعروة بن الزبير ، وعمرة ، وكان يرسل كثيراً.
وحدث عنه الزهري مع أنه أكبر منه ، وابن إسحاق ، ومالك ، وسفيان بن عيينة .
و(قال مالك : كان رجل صدق، كثير الحديث، وقال ابن سعد: كان ثقة عالما كثير الحديث.
عاش سبعين سنة ، قال : وتوفي سنة خمس وثلاثين ومئة)( ).
حرمة الجمع بين الأختين في الزواج
تنزل كلمتان من القرآن فتؤسس لنظام اجتماعي عام ينفذ إلى كل بيت من بيوت المسلمين في مشارق ومغارب الأرض ليتقيدوا به كما في قوله تعالى [وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ]( ).
لتصبح حرمة الجمع هذه من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها من علاماته في الكتب السماوية السابقة لبيان أن الإسلام دين السلم المجتمعي ، وفيه منع للغبن .
و(عن قبيصة بن ذؤيب أن رجلاً سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين ، هل يجمع بينهما ، فقال : أحلتهما آية( ) وحرمتهما آية ، وما كنت لأصنع ذلك .
فخرج من عنده فلقي رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أراه علي بن أبي طالب فسأله عن ذلك فقال : لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً .
وأخرج ابن عبد البر في الاستذكار عن إياس بن عامر قال : سألت علي بن أبي طالب فقلت : إن لي( ) أختين مما ملكت يميني ، اتخذت إحداهما سرية وولدت لي أولاداً ، ثم رغبت في الأخرى فما أصنع ، قال : تعتق التي كنت تطأ ، ثم تطأ الأخرى ، ثم قال : إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله من الحرائر إلا العدد . أو قال : إلا الأربع ، ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب)( ).
لبيان الإطلاق في لفظ الأختين وتقدير الآية على وجوه منها :
الأول : حرمة الجمع بين الأختين النسبيتين .
الثاني : حرمة الجمع بين الأختين من الإماء .
الثالث : حرمة الجمع بين الأختين احداهما حرة والأخرى أمة .
وبعدم جواز الجمع بين الأختين في ملك اليمين قاله أيضاً عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر ، وفيه شاهد على تفرع الحكم الذي يرد مطلقاً.
إذ كان العرب يجمعون بين الأختين في الجاهلية ، فنهى الله عز وجل عنه ، وأخبرت الآية بأنه لا تثريب عليهم في إختيار إحداهما ومفارقة الأخرى .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (الإِسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله)( ).
وجاءت الآية التالية بحرمة نكاح المحصنات ، ذوات الأزواج أو في العدة الرجعية ، قال تعالى [وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ]( ).
وكذا تجد أحد عشر نهياً في شطر من آية واحدة وهي [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ]( ).
وتدل كثرة الأوامر والنواهي في الشريعة السماوية على انشغال المسلمين بضبط الأحكام ، والتفقه في الدين ، والإمتثال لأمر الله عز وجل ، وفيه بالدلالة الإلتزامية شاهد على تثبيت السنن الشرعية بحال السلم .
سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح
في شهر صفر من السنة الثامنة .
وكان مع غالب بن عبد الله خمسة عشر من الصحابة مما يدل على أنها ليست سرية قتال ولكن خبر جندب مكيث يدل على وقوع القتال ، ومع هذا قال ابن هشام (خَبَرُ غَزْوَةِ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ اللّيْثِيّ بَنِي الْمُلَوّحِ)( ).
ويسكن بنو الملوح بالكديد وتبعد عن مكة (190) كم واسمها اليوم الحمض .
وعن جندب الجهني أنه كان في ذات السرية قال (حَتّى إذَا كُنّا بِقُدَيَدٍ لَقِيَنَا الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ وَهُوَ ابْنُ الْبَرْصَاءِ اللّيْثِيّ فَأَخَذْنَاهُ فَقَالَ إنّي جِئْت أُرِيدُ الْإِسْلَامَ مَا خَرَجْت إلّا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُلْنَا لَهُ إنْ تَكُ مُسْلِمًا فَلَنْ يَضِيرُك رِبَاطُ لَيْلَةٍ وَإِنْ تَكُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ كُنّا قَدْ اسْتَوْثَقْنَا مِنْك ، فَشَدَدْنَاهُ رِبَاطًا ، ثُمّ خَلّفْنَا عَلَيْهِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِنَا أَسْوَدَ وَقُلْنَا لَهُ إنْ عَازّك فَاحْتَزّ رَأْسَهُ)( ).
ويبعد وادي قديد عن مكة نحو (150)كم ، وساروا حتى وصلوا الكديد عند الغروب في ناحية الوادي ، قال جندب بن مكيث (وَبَعَثَنِي أَصْحَابِي رَبِيئَةً لَهُمْ فَخَرَجْت حَتّى آتِيَ تَلّا مُشْرَفًا عَلَى الْحَاضِرِ فَأَسْنَدْت فِيهِ فَعَلَوْتُ عَلَى رَأْسِهِ فَنَظَرْت إلَى الْحَاضِرِ فَوَاَللّهِ إنّي لَمُنْبَطِحٌ عَلَى التّلّ إذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ خِبَائِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ إنّي لَأَرَى عَلَى التّلّ سَوَادًا مَا رَأَيْته فِي أَوّلِ يَوْمِي ، فَانْظُرِي إلَى أَوْعِيَتِك هَلْ تَفْقِدِينَ مِنْهَا شَيْئًا ، لَا تَكُونُ الْكِلَابُ جَرّتْ بَعْضَهَا ؛ قَالَ فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ لَا ، وَاَللّهِ مَا أَفْقِدُ شَيْئًا .
قَالَ فَنَاوِلِينِي قَوْسِي وَسَهْمَيْنِ فَنَاوَلَتْهُ قَالَ فَأَرْسَلَ سَهْمًا ، فَوَاَللّهِ مَا أَخَطَأ جَنْبِي ، فَأَنْزِعُهُ فَأَضَعُهُ وَثَبّتّ مَكَانِي ، قَالَ ثُمّ أَرْسَلَ الْآخَرَ فَوَضَعَهُ فِي مَنْكِبِي ، فَأَنْزِعُهُ فَأَضَعُهُ وَثَبّتّ مَكَانِي.
فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ لَوْ كَانَ رَبِيئَةً لِقَوْمِ لَقَدْ تَحَرّكَ لَقَدْ خَالَطَهُ سَهْمَايَ لَا أَبَا لَك ، إذَا أَصْبَحْتِ فَابْتَغِيهِمَا ، فَخُذِيهِمَا ، لَا يَمْضُغُهُمَا عَلَيّ الْكِلَابُ . قَالَ ثُمّ دَخَلَ . قَالَ وَأَمْهَلْنَاهُمْ حَتّى إذَا اطْمَأَنّوا وَنَامُوا ، وَكَانَ فِي وَجْهِ السّحَرِ شَنَنّا)( ).
واستقاقوا النعم ، فتنادى القوم بينهم ، واجتمعوا باعداد كبيرة لا طاقة لأفراد السرية بهم ، الذين مروا بابن البرصاء الليثي الذي قال أنه قادم إلى المدينة ليعلن اسلامه ، فاخذوه وصاحبهم معهم ، وأوشكوا أن يدركوا أفراد السرية ويقتلوهم ويسترجعوا النعم ، حتى إذا لم يكن بينهم وبين القوم إلا وادي قُديد ، أرسل الله الوادي بالسيل من غير سحابة ولا مطر ، فعجزوا عن إجتيازه ، وصاروا ينظرون مبهورين في دهشة ، فساق الصحابة النعم ، وقدموا بها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان عدد قتلى المشركين ستة ، ولم يقتل أحد من أفراد سرية غالب بن عبد الله الليثي .
وتدل هذه السرايا على أمور :
الأول : استمرار المشركين في إثارة الفتن وقطع الطرق العامة.
الثاني : جمع الجموع للإغارة على المدينة.
الثالث : جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لا يختص بمشركي قريش بل يشمل الكفار في الجزيرة.
الرابع : دعوة الناس إلى الإسلام.
الخامس : وصول كلمة التوحيد لعقر دار الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
السادس : ترغيب الرجال والنساء منهم بالإسلام دين السلم والأمن العام والزاد إلى الآخرة ، قال تعالى [فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
سرية غالب بن عبد الله الليثي الثانية
لقد عاد غالب بن عبد الله الليثي من سرية بني الملوح في شهر صفر من السنة الثامنة للهجرة فبعثه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذات الشهر ومعه مائة رجل إلى محل مصاب أصحاب بشير بن سعد قريباً من فدك.
إذ كان قد قتل عدد من أفراد سريته ، وفي رواية محمد بن سلمة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه ما حصل لبشير بن سعد واصحابه هيأ الزبير بن العوام وقال له : سر حتى تنتهي إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد فان أظفرك الله بهم فلا تبق فيهم ، وهيأ معه مائتي رجل وعقد له لواء.
فقدم غالب بن عبد الله الليثي من الكديد قد ظفره الله عليهم فقال صلى الله عليه وسلم للزبير : اجلس ، وبعث غالب بن عبد الله في مائتي رجل فيهم أسامة بن زيد، وعلبة بن زيد الحارثي ، وأبو مسعود عقبة بن عمرو، وكعب بن عجرة)( ).
ولما صارت السرية قريبة من محل سكناهم بعث غالب الطلائع ، فبعث علبة بن زيد في عشرة ينظرون إليهم ، فرأى جماعة منهم ، فعاد وأخبر غالب.
وروى ابن سعد عن حويصة بن مسعود قال (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية مع غالب بن عبد الله الى بني مرة فأغرنا عليهم مع الصبح وقد أوعز الينا أميرنا ألا نفترق وواخى بيننا.
فقال : لا تعصوني فاني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني) وانكم متى ما عصيتموني فانما تعصون نبيكم.
قال : فآخى بيني وبين أبي سعيد الخدري ، قال : فأصبنا القوم)( ).
(قال محمد بن عمر : وفي هذه السرية خرج أسامة بن زيد في اثر رجل منهم يقال له نهيك بن مرداس أو مرداس بن نهيك وهو الصواب، فأبعد وقوي المسلمون على الحاضر وقتلوا من قتلوا، واستاقوا نعما وشاء) ( ).
كتيبة النبي (ص) إلى وادي القرى
لقد قاتل أهل وادي القرى يومهم حتى أمسوا ، مع أنه بدأهم بالدعوة إلى الإسلام والإنذار من الكفر والقتال خاصة وأن حصون خيبر أكثر منعة وحصانة منهم ، وقد بلغهم فتحها ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصبر عليهم ، ويمهلهم ، ويرجو إسلامهم.
وفي اليوم الثاني وعندما ارتفعت الشمس اعطوا ما في أيديهم ، وكان فتحها عنوة ، وغنم المسلمون الأموال والأنعام والمتاع الكثير ، وأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وادي القرى أربعة أيام ، وقسم ما أصاب من الغنائم على أصحابه .
ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم أنه ترك الأرض والنخيل بيد اليهود وعاملهم عليها مثل خيبر فلم ينتقم منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإصرارهم على القتال .
(قال البلاذري: وولاها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عمرو بن سعيد بن العاص، وأقطع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جمرة – بالجيم – ابن هوذة – بفتح الهاء، والذال المعجمة – العذري رمية بسوطه من وادي القرى)( ).
واستشهد ستة عشر رجلاً من المسلمين في معارك خيبر ووادي القرى ، وقيل عدد قتلى اليهود في خيبر (93) رجلاً ، والمختار أن عددهم ثلاثون كما مبين في الجدول الخاص في الجزء السادس والستين بعد المائة من هذا السِفر .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أهل فدك عندما سمعوا بسقوط خيبر سارعوا إلى طلب الصلح من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان معه الف وستمائة من أصحابه لا سبيل لأهل فدك لقتالهم ، ومع هذا قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلب الصلح هذا ورضي بالأموال التي بذلوها.
فكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، قال تعالى [مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
ووهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدكاً لفاطمة عليها السلام ، وسمع أهل تيماء بنصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقع أرضهم بعد خيبر ووادي القرى فصالحوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي خيبر سبيت صفية بنت حيي بن أخطب فاعتقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتزوجها ، وهذا الزواج بعد أن قتل أبوها وزوجها معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لتفوز بصفة إكرام خالدة وهي أمومة المؤمنين بقوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
التوجه إلى الجبهة الشمالية
لقد ابتدأ فتح حصون خيبر وما جاورها من القرى عنوة وبالقتال ،ولكن تداعت البقية بقبول الصلح مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد علق صلح الحديبية العداء والقتال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكفار قريش ، فتوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجبهة الشمالية إلى الذين كانوا يناصرون كفار قريش ، ويمدونهم بالمال والتعضيد لتفتح حصون خيبر ، ويأمن المسلمون جهة الشمال أيضاً فصارت المدينة في مأمن ، وهو مناسبة لأمور :
الأول : توالي نزول آيات القرآن.
الثاني : تفقه المسلمين في الدين.
الثالث : معرفة أحكام الحلال والحرام ، لبيان فضل الله في قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( )، وهو أن الصحابة من المهاجرين والأنصار استراحوا من ميدان القتال.
ولم يختص التفقه في الدين بطائفة منهم ، إنما يجتهدون جميعاً بالتفقه في الدين ، وضبط تلاوة آيات القرآن وتأويلها ، وتوثيق السنة النبوية القولية والفعلية .
وبالإسناد (عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: إنما أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزهن إلى العشر الآخر حتى يتعلموا ما فيهن من العمل، قال: فتعلمنا العلم والعمل جميعا)( ).
الرابع : تأمين جهة شمال المدينة بعث للسكينة في نفوس أهلها كافة .
الخامس : إنه مقدمة لعمرة القضاء ، وبعث للطمأنينة في نفوس الصحابة من الخشية على أهليهم وأموالهم من بعدهم في المدينة .
السادس : الفتح في جبهة الشمال دعوة للناس لدخول الإسلام.
سرية شجاع بن وهب الأسدي
لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شجاع بن وهب ومعه (24) من الصحابة إلى جمع من هوازن بناحية ركبة من وراء المعدن ، وتبعد عن المدينة خمسة أميال في شهر ربيع الأول من السنة الثامنة.
وتدل قلة عدد أفراد السرية على أنها ليست للقتال والمطاردة خاصة وأن هوازن أشداء في القتال ، وفي إصرارهم على محاربة النبوة والتنزيل ، ويدل عليه هجومهم المباغت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة حنين .
وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أمره أن يغير عليهم)( ).
فخرج شجاع بن وهب وأصحابه وكانوا يسيرون في الليل ، ويكمنون في النهار كي لا يصل خبرهم إلى هوازن ويتنادون بالنفير ، فجاءوهم وهم غارون لغيرهم غير موجودين في محالهم ، فقال شجاع لأصحابه (إلا تمعنوا في الطلب)( ).
وهو من الشواهد على عدم قصدهم القتال ، إنما أرادوا تأديب الذين يحاربون النبوة ويزاولون الإغارة على الغير ، ويريدون الهجوم على المدينة إنما أرادت السرية أموراً :
الأول : زجر المشركين عن غزو المدينة ، ممن تصلهم السرايا وغيرهم ، قال تعالى [فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ]( ).
الثاني : نشر مبادئ وفرائض الإسلام ، وإقامة الصلاة في الجادة العامة ، وفي محال ومياه القبائل .
الثالث : دعوة الناس للإسلام .
الرابع : بيان قانون ملازمة الوهن والخيبة للشرك والضلالة .
الخامس : إظهار عز الإسلام وكثرة أعداد المسلمين ، وإخلاصهم في طاعة الله والرسول ، قال تعالى [مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا]( ).
السادس : تثبيت بنود صلح الحديبية ، ونشرها وجعلها أعم من أن تنحصر بكفار قريش .
السابع : منع القبائل من الإنصياع لمكر قريش ، أو التحالف فيما بينها لمحاربة الإسلام ، وغزو المدينة .
لقد استاقت هذه السرية أنعاماً كثيرة وشياه وعدلوا البعير بعشر من الغنم في قسمة الغنائم .
ومدة غياب السرية خمس عشرة ليلة .
وآمر السرية شجاع بن وهب بن ربيعة بن أسد من المسلمين الأوائل ، وممن هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وعاد إلى مكة لما بلغهم إسلام قريش ثم هاجر إلى المدينة وآخى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين أوس بن خولي الأنصاري ، وشهد بدراً وأحداً والخندق وسائر المشاهد.
(قال ابن إسحاق شهد بدراً من بني أسد بن خزيمة اثنا عشر رجلاً عبد الله بن جحش وعكاشة بن محصن وأخوه أبو سنان بن محصن وشجاع بن وهب وأخوه عقبة بن وهب ويزيد بن قيس وسنان بن أبي سنان ومحرز بن نضلة وربيعة بن أكثم ومن حلفائهم كثير بن عمرو وأخواه مالك بن عمرو ومدلج بن عمرو)( ).
وبعد صلح الحديبية بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المنذر بن الحارث الغساني بغوطة دمشق ودعاه للإسلام ، فلم يُسلم ، ولكن حاجبه مُري أسلم وبعث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب مع شجاع يقرئه السلام ويخبره أنه على دينه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : صدق .
واستشهد شجاع يوم اليمامة في السنة الحادية عشرة للهجرة ، المعركة التي وقعت بين المسلمين والمرتدين برئاسة مسيلمة الكذاب ، واليمامة في اقليم نجد ، وتعرف في هذا الزمان باسم العارض ، وفيها مدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية .
سرية كعب بن عمير الغفاري إلى بني قضاعة
من أرض الشام في خمسة عشر رجلاً فانتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام في شهر ربيع الأول من السنة الثامنة للهجرة .
وتدل قلة عدد أفراد السرية مع طول المسافة بين المدينة وذات أطلاح على مسائل :
الأولى : استتاب الأمن في أكثر ربوع الجزيرة ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : توجه سرايا السلام إلى شمال المدينة بعد تأمين أشق الجهات وهي مكة وكفار قريش .
الثالثة : طاعة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسعيهم في نشر مبادئ الإسلام ، وأداء الفرائض العبادية خارج الجزيرة ، ولما وصلوا إلى المكان وجدوا جمعاً كثيراً منهم .
فدعاهم أفراد السرية إلى التوحيد ، ودخول الإسلام ، ولكن القوم لم يستجبوا ، ولم يكتفوا بعدم الإستجابة بل رشقوا أفراد السرية بالنبال ، ثم قاتلوهم قتالاً شديداً ، وقتل آمر السرية كعب بن عمير وأكثر أفرادها ، وكان أحدهم جرح جرحاً بليغاً ، وفيه رمق ، فلما أن برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشق عليهم.
وهمّ بأن يبعث إليهم سرية فبلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر فتركهم و(عن الحرث بن فضيل قال: كان كعب بن عمير يكمن النهار ويسير الليل حتى دنا منهم فرآه صيدهم فأخذهم بعلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءوا إليهم على الخيول فقتلوهم، قال ابن عمر: قتلوهم بقضاعة)( ).
وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يرسل جيشاً إلى مناطق قضاعة بعد عودة جيش مؤتة في جمادى الأولى من السنة الثامنة برئاسة الأمراء الثلاثة : زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن رواحة ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث جيشاً إلى قضاعة في شهر جمادى الآخرة من السنة الثامنة نفسها إلى ذات السلاسل وهي ماء لقضاعة فسميت المنطقة باسمه .
الصلة بين صلح الحديبية وآية (واعدوا)
ترى هل من صلة وأثر بين الصلح وآية [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( ) الجواب نعم من جهات :
الأولى : كل من الصلح والآية أعلاه سلم ورحمة .
الثانية : الصلح مناسبة لإعداد العدة لملاقاة العدو لما فيه من حفظ النفوس والمندوحة في الوقت ، وتوفير المال وإزدهار التجارات.
الثالثة : الصلح مناسبة كريمة لنشر مبادئ وأحكام الإسلام .
وهل كان مشركو قريش يدركون هذا الأمر عند إمضائهم صلح الحديبية ، المختار نعم .
وهو أمر ظاهر للوجدان بأمارات متعددة ، منها دخول أبنائهم ذكوراً وإناثاً الإسلام مع شدة إيذاء الآباء لهم .
مما يدل على اضطرار المشركين للصلح ليكون من معاني صفة (مبين) في قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، أن صلح الحديبية فتح قاهر للمشركين.
جعلهم الله عز وجل يضطرون إليه ، ويوافقون عليه وهو من أسرار نسبة الفتح إلى الله عز وجل ، مثلما نسب سبحانه النصر في بدر إليه وأنه هو الذي نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
فما كان مشركو قريش يرضون بالصلح في الحديبية وشروطه لولا فضل الله عز وجل في حملهم إليه ، وبعث الفزع والخوف في نفوسهم من الإمتناع عنه ، خاصة مع الخسارة الشديدة التي لحقتهم في النفوس والأموال وتعطيل قوافل تجارة الشتاء إلى اليمن ، وقوافل تجارة الصيف إلى الشام.
الإحتراز بعد صلح الحديبية
لقد خرجت سرية بشير بن سعد بعد صلح الحديبية وقبل أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعمرة القضاء التي اتفق مع كفار قريش بخصوصها ، بأن لا يدخل وأصحابه مكة عام الحديبية ، ولكن يعودوا لأداء العمرة في شهر ذي القعدة من العام التالي أي السنة السابعة للهجرة .
وفي المقام مسائل :
الأولى : إذا كان عيينة بن حصن الفزاري يعد العدة للهجوم على المدينة فيمكن أن يباغت أهلها في أي ساعة من ليل أو نهار ، فكما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يسيرون في الليل ، ويكمنون في النهار ، فكذا يمكن للمشركين اتباع ذات النهج.
الثانية : يحتمل وجود قبائل أخرى من المشركين يريدون غزو المدينة أيضاً سواء عن اتفاق بينها ، أو كل قبيلة على نحو مستقل ، أو منها ما يكون على اتفاق وتنسيق ، ومنها ما يكون على نحو فردي .
الثالثة : هل لكفار قريش يد في تحريض القبائل على النبي وإرادة الهجوم على الروضة النبوية ، وحاضرة العالم الإسلامي الوحيدة وهي المدينة المنورة ، هذا الأمر ليس مستبعداً ، بل هو مستقرأ من مكر كفار قريش وسعيهم في محاربة النبوة والتنزيل .
وتجلى الأمر باعانتهم لحلفائهم بكر بن وائل على خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي موضع سره وقولهم في صلح الحديبية (نَحْنُ فِي عِقْدِ مُحَمّدٍ وَعَهْدِهِ وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ فَقَالُوا : نَحْنُ فِي عِقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ.
وَأَنّك تَرْجِعُ عَنّا عَامَك هَذَا ، فَلَا تَدْخُلُ عَلَيْنَا مَكّةَ ، وَأَنّهُ إذَا كَانَ عَامٌ قَابِلٌ خَرَجْنَا عَنْك فَدَخَلْتهَا بِأَصْحَابِك ، فَأَقَمْت بِهَا ثَلَاثًا ، مَعَك سِلَاحُ الرّاكِبِ السّيُوفُ فِي الْقُرُبِ لَا تَدْخُلُهَا بِغَيْرِهَا)( ).
قانون صلح الحديبية سلم مجتمعي
حينما تم صلح الحديبية وعودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة ، نزل عليه في الطريق قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا]( ).
وقال أنس بن مالك : أن هذه الآيات نزلت (مرجعه من الحديبية وهم يخالطون الحزن والكآبة وقد نحر الهدي بالحديبية فقال : لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعاً)( ).
لبيان قانون صلح الحديبية نعمة عظمى على النبي والصحابة وأجيال المسلمين والناس جميعاً ، وفيه رد على بعض الصحابة الذي أظهر الحزن لأن العمرة لم تتم بدخول مكة لقانون صلح الحديبية فتح مبين ويدل عليه أحاديث عدد من الصحابة (وقال جابر : ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية)( ).
و(عن البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية)( ).
و(قال مقاتل بن سليمان : لما نزل قوله تعالى [وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ]( )، فرح المشركون والمنافقون وقالوا : كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به ولا بأصحابه فنزلت بعدما رجع من الحديبية [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) أي قضينا لك قضاء فنسخت هذه الآية تلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لقد أنزلت علي سورة ما يسرني بها حمر النعم)( ).
وهو الوارد من طريق عكرمة عن ابن عباس (في قوله [وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ]( ) قال : نسختها هذه الآية التي في الفتح ، فخرج إلى الناس فبشرهم بالذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . فقال رجل من المؤمنين : هنيئاً لك يا نبي الله قد علمنا الآن ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ، فأنزل الله في سورة الأحزاب [وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا]( ) وقال [لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا]( ) فبين الله ما به يفعل وبهم)( ).
لقد كان السلم المجتمعي غاية تجلت في آيات القرآن ، وفي السيرة النبوية ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، وتحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الظلم والتعدي من قبل المشركين في مكة.
ثم أزداد هذا الظلم بقيام كفار قريش بطلب القتال فغزوا مدينة الرسول كما في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، فرد الله كيدهم بمعجزات حسية وعقلية جلية ، فاذعنوا للصلح والسلم ، ورضي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشروطهم ليسود الأمن الجزيرة وتدخل أفواج الناس الإسلام ، ولأن الكفر ومفاهيم الشرك عرض زائل سرعان ما اضمحل بعد سنتين في فتح مكة.
من معاني الفتح في صلح الحديبية
لقد نزل القرآن بآية وهي الإخبار عن كون صلح الحديبية فتحاً مبيناً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )لتأتي الآية بعد التالية من ذات السورة [وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا] ( ).
لبيان أن هذا النصر غير الفتح ومتعقب له ، ومتأخر عنه زماناً ، للتباين بين صيغة الماضي في [فَتَحْنَا] وصيغة المضارع في [وَيَنْصُرَكَ]وعطف النصر على الفتح.
وهل فيه بعث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للتوجه بالكتائب والسرايا لتفريق جموع الأعراب والذين يعدون العدة للإغارة على المدينة ، الجواب نعم ، وقوله تعالى [وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا]( )، بشارة توالي نصر الإسلام ، وتوالي الفتوح بعد صلح الحديبية ، ومنها فتح خيبر ومكة والطائف .
وعودة السرايا بعد صلح الحديبية بالنصر والظفر ، وقلة الخسائر ، وهو من مصاديق نعت النصر في الآية أعلاه [نَصْرًا عَزِيزًا] أي مستديماً وقاهراً للكفار ، وفيه عز للمؤمنين .
وهل صيغة السلم في هذا النصر من صفة العزيز ، الجواب نعم ، والدليل عليه أن صلح الحديبية نصر وفتح مع أنه لم يأت عن قتال وسفك دماء .
والنسبة بين هذا النصر والفتح عموم وخصوص مطلق ، فالنصر أعم ، وقد يقع النصر ولا يحصل الفتح كما في معركة بدر [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )وفي هذه الآية بلحاظ صلح الحديبية مسائل :
الأولى : النصر في معركة بدر مقدمة لصلح الحديبية .
الثانية : تبدل حال المسلمين بعد معركة بدر من الذلة والضعف والإستضعاف إلى المنعة والقوة .
الثالثة : بيان قانون الأولوية القطعية في المقام ، فاذا كان الله قد نصر المسلمين في معركة بدر مع قلتهم وضعفهم ، فمن باب الأولوية أنه سبحانه ينصرهم مع الكثرة وتوالي المعجزات العقلية والحسية ، وكانت معركة بدر وأحد والخندق نصراً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ،وشاهداً على عدم وقوع هزيمة له طيلة أيام النبوة .
مع إتصاف المشركين بخصال ورجحان من وجوه :
الأول : كثرة العدد ، ففي كل معركة يكون عدد المشركين ثلاثة أضعاف عدد المسلمين أو أكثر.
الثاني : كثرة المؤن والأسلحة التي عند المشركين .
الثالث : وفرة الخيل والإبل والدروع التي عند المشركين .
الرابع : تعيين أوان وموضع المعركة من قبل المشركين أنفسهم ،ويتجلى بتخطيطهم للإغارة على المدينة ، وجمع الجموع لإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد أغاظ صلح الحديبية المشركين بما فيهم الذين أبرموا العقد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي احترز منهم بالسرايا لتفريق جمعهم ، وكسر شوكتهم ، ومنعهم عن صدّ الناس عن دخول الإسلام .
لقد كان صلح الحديبية رحمة ونعمة على المسلمين ، قال تعالى [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]( ).
السرايا بعد صلح الحديبية
لقد تعدد خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسراياه من المدينة بعد صلح الحديبية ومن غاياته :
الأول : الإستعداد لعمرة القضاء.
الثاني : منع الأعراب من الإغارة على المدينة.
الثالث : إخبار أهل القرى والبوادي ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورة المسلمين في حال منعة وعز .
الرابع : تلاوة آيات القرآن على عامة الناس وبعثهم على الإصغاء لها والتدبر في مضامينها القدسية.
ومن إعجاز القرآن سهولة حفظ كلماته وآياته من قبل المسلم وغير المسلم ، لذا جاءت السورة المكية قليلة الكلمات وتتضمن الإنذار والوعيد على الكفر ، وعبادة الأوثان ، وكثير من رجال القبائل بلغتهم آيات القرآن قبل صلح الحديبية .
الخامس : ترغيب الناس بدخول الإسلام خاصة مع إزاحة المانع بصلح الحديبية ، إذ كان العرب يمتنعون عن دخول الإسلام خشية من رجالات قريش وسطوتهم ، وقد زالت بصلح الحديبية .
السادس : تأمين المدينة المنورة ، ومنع الإغارة عليها .
السابع : قطع أمل قريش بتحريض القبائل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعند دراسة هذه السرايا يتجلى أمر وهو لم تكن الغنائم غاية فيها ، وكانت أغلبها لتفريق الذين ينوون الإغارة على المدينة .
الثامن : هذه السرايا لم تتم إلا بالوحي ، وبأمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان الصحابة يعلمون هذا القانون لذا يتلقون الأمر بالخروج وتعيين الأمير ، والجهة التي يتوجهون إليها بالقبول والرضا ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
التاسع : إطلاع أهل الجزيرة على معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية ، ومن الآيات أن الطرق إلى المدينة المنورة مفتوحة للناس جميعاً ، لذا تعددت الوفود التي جاءتها بعد صلح الحديبية ليروا صبغة التوحيد في العبادات ، ومنها الصلوات اليومية الخمسة ، ومكارم الأخلاق ، ومحاسن العادات ليكون من معاني قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( )، أن هذه المحافظة وسيلة مباركة لجذب الناس للإيمان .
العاشر : إظهار حقيقة كثرة عدد المسلمين ، وضربهم في الأرض بأمن وأمان ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ]( ).
سرية إسامة بن زيد إلى الحرقة من جهينة
أختلف في تأريخ هذه السرية على وجوه :
الأول : قبل صلح الحديبية .
الثاني : قبل معركة مؤتة .
الثالث : بعد معركة مؤتة كما عن البخاري .
الرابع : قبل فتح مكة ، وبالإسناد عن إسامة بن زيد أنه قال (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم الى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الانصار رجلا منهم فلما غشيناهم قال لا اله الا الله فكف الانصاري وطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا اسامة اقتلته بعد ما قال لا اله الا الله قلت كان متعوذا فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن اسلمت قبل ذلك اليوم)( ).
ويدل هذا الخبر ونحوه على أن هذه السرية قبل معركة مؤتة ، وأنها ليس لثأر أسامة ممن قتل أباه زيد بن حارثة .
وقول أسامة (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم إلى الحرقة) لا يدل على أنه كان آمر السرية وإن لم ينفه .
وفي رواية السدي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث أسامة أحب أن يثنى عليه خيراً ، ويسأل عنه أصحابه .
فلما رجعوا هذه المرة لم يسألهم عن أسامة في معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليظهر الصحابة الذين معه أقوالهم فيه فجعلوا يحدثون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يا رسول سالله لو رأيت أسامة، ولقيه رجل فقال الرجل لا اله الا الله)( ).
وروى ابن ابي حاتم قال (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لاهل مرداس بديته ورد ماله إليهم)( ).
لأن الذي قتله أسامة هو مرداس بن نهيك من بني حرقة حليف لبني مرة في أرضهم ولا يدل خبر أسامة هذا على أنه الأمير في السرية ، كما أنه لم يتولى أمرة السرايا إلا بعد استشهاد أبيه بغزوة مؤتة في شهر رجب من السنة الثامنة للهجرة .
وتدل هذه الواقعة على حرمة قتل من نطق بكلمة التوحيد من غير مسوغ شرعي ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
وعن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبحناهم وكان منهم رجل إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا، وإذا أدبروا كان حاميتهم، قال: فغشيته أنا ورجل من الانصار، فلما تغشيناه قال: لا إله إلا الله.
فكف عنه الانصاري وقتلته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله.
قال : فقلت: يا رسول الله إنما كان متعوذا من القتل.
قال: فكررها علي، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ)( ).
سرية خالد بن الوليد لهدم العزى
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعثه السرايا بعد فتح مكة مباشرة لهدم الأصنام التي في الجزيرة بعد أن اسقط بيده ثلاثمائة وستين صنماً في البيت الحرام وهو يتلو قوله تعالى [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ).
وتدل تلاوة هذه الآية على إقرار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بأن فتح مكة وهدم الأصنام بأمر ومشيئة من عند الله عز وجل لأن الآية تبدأ بالأمر إلى النبي (قل) وهل يشمل الأمر الصحابة وأجيال المسلمين المتعاقبة ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : إلحاق الأمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخطابات الموجهة إليه من عند الله إلا الخطاب الخاص مثل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
وحتى الخطابات الخاصة يمكن أن يتلقاها المسلمون بصيغة الغائب ، وتقدير الآية أعلاه : قولوا إنما الرسول بشر مثلنا يوحى إليه.
الثانية : المدار على عموم المعنى وليس سبب وموضوع النزول ، لقانون : في كل يوم من أيام الحياة الدنيا هناك مصداق متعدد للآية القرآنية ، ومنه الآية أعلاه إذ يأتي الحق والصلاح بالأقوال والأفعال الخاصة والعامة ليزيح الباطل ، ويطرد مفاهيم الضلالة.
وكان الصنم العزى بيتاً تعظمه قريش مع أنهم مجاورو البيت الحرام ، وتعظمه كنانة ، ومضر كلها ، ويتوارث سدانتها بنو شيبان من بني سُليم حلفاء بني هاشم ، وقد ذكرها الله عز وجل في القرآن بقوله [أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( ).
ومن إعجاز القرآن توثيق عدد من أسماء الأصنام التي كان العرب يعبدونها ويتقربون بها إلى الله ، ويتوسلون إليها لقضاء الحوائج ، والسلامة في السفر.
فبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة خالد بن الوليد ومعه ثلاثون من الصحابة إلى الصنم العزى لهدمه لخمس بقين من شهر رمضان .
ولما سمع سادنها السلمي بمسير خالد إليها علق عليها سيفه يريد منها أن تقاتل خالداً ، وصعد إلى الجبل متحرفاً .
وحينما وصل إليها خالد هدم البيت ، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : هدمت ، قال نعم يا رسول الله .
فسأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هل رأيت شيئاً ، أي ظهر شئ غريب اثناء الهدم ، قال خالد : لا .
(قال : فإنك لم تهدمها ، فارجع إليها فاهدمها ، فرجع خالد وهو متغيظ)( ).
وحينما وصل خالد إليها ، جرد سيفه فخرجت إليه امرأة سوداء عريانة ، ناشرة شعرها تولول ، تضرب بانيابها ، وخلفها سادنها.
والظاهر أنها من الجن ، فجعل السادن يصيح بها تحريضاً لها على خالد وأصحابه وأنشد (
أَيَا عُزّ شُدّي شِدّةً لَا شَوَى لَهَا … عَلَى خَالِدٍ أَلْقِي الْقِنَاعَ وَشَمّرِي
يَا عُزّ إنْ لَمْ تَقْتُلِي الْمَرْءَ خَالِدًا … فَبُوئِي بِإِثْمِ عَاجِلٍ أَوْ تَنَصّرِي)( ).
(قال خالد : وأخذني اقشعراراً في ظهري)( ).
فعلاها خالد بالسيف ، وهو يقول :
يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لاَ سُبْحَانَك … إنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكَ .
ثم ضربها ، ففلق رأسها ، فاذا هي حُممة( ) وقيل قتل السادن ، والمختار أنه أسلم ثم ضرب البيت الذي كانت فيه ، وأخذ ما كان فيه من الأموال وتحقق له.
أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالرجوع ، وأنه لم يفعل شيئاً في الأولى ، فرجع إلى مكة وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما وقع.
ثم قال خالد (الحمد لله الذي أكرمنا وأنقذنا من الهلكة! إني كنت أرى أبي يأتي إلي العزى بحتره؛ مائة من الإبل والغنم، فيذبحها للعزى، ويقيم عندها ثلاثاً ثم ينصرف إلينا مسروراً، فنظرت إلي ما مات عليه أبي، وذلك الرأي الذي كان يعاش في فضله، كيف خدع حتى صار يذبح لحجر لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الأمر إلي الله، فمن يسره للهدى تيسر، ومن يسره للضلالة كان فيها)( ).
ومن شدة عناية قريش بالعزى أنه بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وكثرة المهاجرين والأنصار حوله أظهر بعضهم الخشية على العزى تمسكاً بالأصنام ومفاهيم الضلالة .
وكان سادنها قبل الهجرة النبوية (أفلح بن النضر السلمي) من بني سُليم ، فلما حضرته الوفاة دخل عليه أبو لهب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليعوده ، فوجده حزيناً ، فقال له : ما لي أراك حزيناً ، قال : أخاف أن تضيع العزى بعدي ، بمعنى أنه يستغيث بأبي لهب وقريش .
(قال له أبو لهب : فلا تحزن ، فأنا أقوم عليها بعدك ، فجعل أبو لهب يقول لكل من لقي : إن تظهر العزى كنت قد اتخذت عندها يدا بقيامي عليها ، وإن يظهر محمد على العزى – وما أراه يظهر – فابن أخي ، فأنزل الله تبارك وتعالى تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ( )، وسبب نزول هذه السورة أعم .
الحاجة لهذه السرايا
لقد كانت هذه السرية حاجة للمسلمين والناس لمنع الإقتتال ، وهي من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة حينما أخبرهم الله عز وجل عن جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، فرد عليهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنشر ألوية السلم والأمن المجتمعي في الجزيرة والعالم ، ومنع سفك الدماء أيام النبوة وبعدها ، إذ أنزل الله عز وجل القرآن رسولاً سماوياً للسلام بين الناس ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
لقد أراد أعوان الشيطان الفتنة وسعوا إلى قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإغارة على المدينة هذا مع علمهم بصلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكفار قريش .
مما يدل على أن عدم انحصار أعداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكفار قريش ، ويدل عليه أيضاً هجوم هوازن وثقيف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعد فتح مكة في معركة حنين ، وقال تعالى [فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ]( ).
الشعر في الميدان
من أدوات حرب المشركين على النبوة والتنزيل الرَجَز خاصة وأنه أسهل في النظم من الشعر ، إذ أنه إرتقاء للسجع بأن أدخل بعض الشعراء الوزن على السجع ، فيختار قائله الكلمات التي يريدها الهاء ويتصف الرجز بسرعة الإنتشار لسهولة نظمه وحفظه ونطقه والإصغاء إليه ، واتخذه الكفار وسيلة لإثارة الناس وتحريضهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
ونزل القرآن في مكة بذمهم وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ) .
وبعد الهجرة وعندما كرر المشركون الهجوم على المدينة المنورة وغزوها ، وتلاقت الجيوش في الميدان ، صار المشركون ونساؤهم يكثرون من الشعر والرجز في الميدان ، وقبل المعركة ، فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالرد عليهم.
وقال (لكعب بن مالك : اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل وقال لحسان : قل وروح القدس معك)( ).
وروح القدس هو جبرئيل لبيان تعدد وظائف جبرئيل ، وعدم إنحصارها بالنزول بآيات القرآن .
ولما نزل ذم الشعراء في القرآن بقوله تعالى [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ]( ) استثنى الذين يتصفون بالخصال الحسنة الآتية :
الأولى : الإيمان .
الثانية : عمل الصالحات .
الثالثة : ذكر الله كثيراً ، ومنه أداء الفرائض اليومية الخمس ، وقول الشعر في رضوان الله .
الرابعة : الذين انتصروا بعد أن ظلمهم الذين كفروا لينطبق الإستثناء في قوله تعالى [إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ]( )، على حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك شعراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينطبق على كل مسلم يقول الشعر في تعظيم شعائر الله إلى يوم القيامة .
ومن الإعجاز في نظم الآيات أعلاه مجئ ثلاث آيات في ذم الشعراء والإستثناء بآية واحدة ، وكأنه من القاعدة الكلية بأن المستثنى أقل من المستثنى منه ، ولشمول هذه الآيات للناس جميعاً مع إختلاف مذاهبهم ، وهي إنذار ووعيد للشعراء وبشارة للمؤمنين منهم ، ودعوة لهم لإلقاء الشعر الإيماني لما فيه من النفع .
ليكون من إعجاز القرآن الغيري هذا الإستثناء ، ولولاه لكف المسلمون عن إلقاء الشعر ، ولبقي الميدان للمشركين وحدهم مع ماله من التأثير والسلطان على النفوس في الجملة .
قانون الشعر سلاح
الشعر باب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحض الشعراء على قول ما فيه رضوان الله ، والإبتعاد عما فيه سخطه ، قال تعالى أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
لقد كانت الآيات المكية تهزم الذين كفروا وعبادتهم للأوثان وبقيت نبراساً وضياءً اهتدى بنوره الشعراء من الصحابة ، وصاروا يلقون الشعر ارتجالاً وبما يؤذي الذين كفروا ، لبيان أمور :
الأول : قانون إبطال آيات القرآن لسحر شعراء الضلالة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ]( )..
الثاني : قانون تأسيس القرآن للشعر الإيماني .
الثالث : قانون تنمية القرآن لملكة الشعر عند المؤمنين وتوارثهم له.
الرابع : قانون الإنتفاع الأمثل من الشعر بآيات القرآن ، فبعد أن كان الشعر للهجاء والمدح والغزل والقبلية ، صار الشعر يؤتى به لتعظيم شعائر الله .
الخامس : قانون تفسير وتأويل آيات القرآن بما يهذب الشعر في سبل التقوى.
السادس : موضوعية السنة النبوية في سيادة الشعر الإيماني واجتناب الشعراء القبيح من الشعر ، ومنهم من ترك الشعر عند دخوله الإسلام .
قانون نسخ آيات القرآن للشعر في سوق عكاظ
لقد كان العرب يجتمعون في سوق عكاظ ويتبارون في الشعر ومن أشعارهم ما سمي لاحقاً المعلقات السبعة ، ولم يثبت تعليق العرب لها في الكعبة ، إنما أظهرها حماد الراوية (60-156) هجرية ، الذي رآى زهد الناس بالشعر ، فجمعها وقطع ابن خلدون بتعليقها في أركان الكعبة ، ولم يثبت .
وهذا الزهد العام من إنقطاع الناس إلى القرآن والسنة وافتخارهم بأشعار حسان بن ثابت وغيره من شعراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن شعر حسان في مدح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (
وأَحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عيني … وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ
خلقتَ مبرأً منْ كلّ عيبٍ … كأنكَ قدْ خلقتَ كما تشاءُ)( ).
وفي التسليم بنبوته قال :
(أغَرُّ، عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّة ِ خَاتَمٌ … مِنَ اللَّهِ مَشْهُودٌ يَلُوحُ ويُشْهَدُ
وضمَّ الإلهُ اسمَ النبيّ إلى اسمهِ .. إذا قَالَ في الخَمْسِ المُؤذِّنُ أشْهَدُ
وشقّ لهُ منِ اسمهِ ليجلهُ … فذو العرشِ محمودٌ، وهذا محمدُ
نَبيٌّ أتَانَا بَعْدَ يَأسٍ وَفَتْرَة ٍ … منَ الرسلِ، والأوثانِ في الأرضِ تعبدُ
فَأمْسَى سِرَاجاً مُسْتَنيراً وَهَادِياً … يَلُوحُ كما لاحَ الصّقِيلُ المُهَنَّدُ
وأنذرنا ناراً، وبشرَ جنة ً… وعلمنا الإسلامَ، فاللهَ نحمدُ
وأنتَ إلهَ الخلقِ ربي وخالقي … بذلكَ ما عمرتُ فيا لناسِ أشهدُ
تَعَالَيْتَ رَبَّ الناسِ عن قَوْل مَن دَعا …سِوَاكَ إلهاً، أنْتَ أعْلَى وَأمْجَدُ
لكَ الخلقُ والنعماءُ، والأمرُ كلهُ … فإيّاكَ نَسْتَهْدي، وإيّاكَ نَعْبُدُ)( ).
وفي توثيق معركة الأحزاب وبيان أن المشركين هم الغزاة الذين حشدوا القبائل وتأكيد انسحابهم خائبين : قال حسان (
هلْ رسمُ دارسة ِ المقامِ، يبابِ …متكلكٌ لمسائلٍ بجوابِ
ولَقَدْ رَأيْتُ بِهَا الحُلولَ يَزِينُهُمْ … بِيضُ الوُجُوهِ ثَوَاقِبُ الأحْسَابِ
فدعِ الديارَ وذكرَ كلّ خريدة ٍ …بَيْضَاءَ، آنِسَة ِ الحدِيثِ، كَعَابِ
واشْكُ الهُمُومَ إلى الإلهِ وَمَا تَرَى …مِنْ مَعْشَرٍ مُتَألَبِينَ غِضَابِ
أمُّوا بِغَزْوِهِمِ الرّسُولَ، وألّبُوا …أهْلَ القُرَى ، وَبَوَادِيَ الأعْرَابِ
جَيْشٌ، عُيَيْنَة ُ وَابنُ حَرْبٍ فيهِم …متخمطينَ بحلبة ِ الأحزابِ
حتّى إذا وَرَدُوا المَدينة َ وارتَجَوْا …قَتْلَ النّبيّ وَمَغْنَمَ الأسْلابِ
وَغَدَوْا عَلَيْنَا قَادِرِينَ بأيْدِهِمْ …ردوا بغيظهمِ على الأعقابِ
بهُبُوبِ مُعصِفَة ٍ تُفَرِّقُ جَمْعَهُمْ …وجنودِ ربكَ سيدِ الأربابِ
وكفى الإلهُ المؤمنينَ قتالهمْ …وَأثَابَهُمْ في الأجْرِ خَيْرَ ثَوَابِ
مِنْ بَعدِ ما قَنَطوا، فَفَرّجَ عَنهُمُ …تنزيلُ نصّ مليكنا الوهابِ
وَأقَرَّ عَيْنَ مُحَمّدٍ وَصِحابِهِ …وأذلَّ كلَّ مكذبٍ مرتابِ)( ).
الإعجاز في سرايا النبي (ص)
يبين تعدد سرايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقلة القتلى من المسلمين والذين كفروا معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : إخلاص الصحابة ، وتفانيهم في طاعة الله.
الثانية : تحقق النصر للمسلمين في سراياهم .
الثالثة : تجدد الرعب بين المشركين من سرايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند خروجها من المدينة أو شيوع أخبارها (قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدٌ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نُصِرْت بِالرّعْبِ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا.
وَأُعْطِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَأُحِلّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تُحْلَلْ لِنَبِيّ كَانَ قَبْلِي ، وَأُعْطِيت الشّفَاعَةَ خَمْسٌ لَمْ يُؤْتَهُنّ نَبِيّ قَبْلِي)( ).
الرابعة : هذه السرايا زاجر لكفار قريش عن المكر والخبث وتحريض القبائل ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : تعليم الصحابة بأن صلح الحديبية وعمرة القضاء ليست نهاية الدعوة إلى الله عز وجل ، لأن عدداً من القبائل يصرون على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإقامتهم على الكفر، وعبادة الأوثان.
السادسة : بيان قانون قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في سبيل الله دفاع محض ، وقانون خلو قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من التعدي ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
السابعة : قانون سرايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقضاء على التعدي ، وتنزيه الجزيرة من الفساد والظلم ، وهو الذي تحقق في الواقع باستتباب الأمن تحت ألوية التوحيد ، وإقامة الصلاة والفرائض العبادية الأخرى.
ويدل عليه مجئ أكثر من سبعين ألف مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأداء حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة.
وهل فيهم من القبائل التي توجهت لهم السرايا بعد صلح الحديبية وعمرة القضاء ، الجواب نعم.
سرايا النبي مقدمة للدفاع في معركة حنين
يتبادر إلى الذهن أنه بفتح مكة تنتهي المعارك في الجزيرة ، ويمتنع من بقي من الكفار عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجوه :
الأول : تجلي معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : قانون فتح مكة سلماً معجزة .
الثالث : كثرة عدد المسلمين ، إذ دخل الإسلام آلاف من البشر بعد صلح الحديبية قال تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( )، هذا قبل عام الوفود وهو العام التاسع للهجرة النبوية أي بعد فتح مكة ومعركة حنين .
الرابع : قلة أعداد المشركين ، وإصابتهم بالوهن والضعف ، مع نقص مواردهم ، قال تعالى [وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ]( ).
الخامس : إدراك عامة الناس لإنتفاء النفع في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
السادس : توالي نزول آيات القرآن ، وما فيها من البشارة والإنذار ، وبيان الأحكام الشرعية .
السابع : تفاني أهل البيت والصحابة في الدفاع عن النبوة والتنزيل ، قال تعالى [وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
الثامن : معرفة أهل الجزيرة بأن الذي يقتل في محاربة النبوة والتنزيل مأواه النار ، كما تجلى في معركة أحد حينما برز يوم أحد أبو سعد بن أبي طلحة حامل لواء المشركين أخذ ينادي للمبارزة فلم يبرز له أحد من الصحابة (فَقَالَ يَا أَصْحَابَ مُحَمّدٍ زَعَمْتُمْ أَنّ قَتْلَاكُمْ فِي الْجَنّةِ وَأَنّ قَتْلَانَا فِي النّارِ كَذَبْتُمْ وَاَللّاتِي لَوْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ حَقّا لَخَرَجَ إلَيّ بَعْضُكُمْ فَخَرَجَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلِيّ فَقَتَلَهُ)( ).
(فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهر التكبير وكبر المسلمون، وشدوا على المشركين يضربونهم حتى اختلت صفوفهم)( ).
ولم يتعظ المشركون فتكرر ذات المر في معركة الخندق ، فبعد أن عبر عمرو بن عبد ود العامري وجماعة معه الخندق دعا للمبارزة وألح في الدعوة للمبارزة .
وقال (أيها الناس إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار، أفما يحب أحدكم أن يقدم على الجنة أو يقدم عدوا له إلى النار ، فلم يقم إليه أحد، فقام علي عليه السلام دفعة ثانية وقال: أنا له يا رسول الله، فأمره بالجلوس، فجال عمرو بفرسه مقبلا ومدبرا إذ جاءت عظماء الاحزاب فوقفت من وراء الخندق ومدت أعناقها تنظر، فلما رأى عمرو أن أحدا لا يجيبه قال :
ولقد بححت من النداء بجمعهم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن الشجاع موقف القرن المناجز
إني كذاك أني لم أزل متسرعا قبل الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى والجود من خير الغرائز
فقام علي عليه السلام فقال : يا رسول الله ائذن لي في مبارزته، فقال: ادن، فدنا فقلده سيفه وعممه بعمامته وقال : امض لشأنك ، فلما انصرف قال : اللهم أعنه عليه)( ).
فقتله الإمام علي عليه السلام وانهزم المشركون الذين عبروا الخندق مع عمرو منهم عكرمة بن أبي جهل وهيبرة بن أبي وهب المخزومي .
وأصابت جيوشهم الخيبة والحسرة ، ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
عدد السرايا بين صلح الحديبية وعمرة القضاء
المدة الزمنية بينهما سنة كاملة ، وقد تعددت فيها الكتائب والسرايا مع لحاظ قلة الخسائر من الطرفين ، وهو من مصاديق تسمية صلح الحديبية بالفتح ، ومنها :
الأولى : توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حصون خيبر ومعه (1600) من الصحابة في الأيام الأخيرة من شهر محرم من السنة السابعة ، وقيل خرج في صفر من ذات السنة ، وتم فتح حصون خيبر وسقط ستة عشر شهيداً من المسلمين ، وثلاثون من اليهود ، وقيل قتلى اليهود (93) ولم يثبت .
وقد أسست قاعدة وهي لو دار الأمر بين العدد الأدنى والأكثر من القتلى في معارك الإسلام فالأرجح والمختار هو الأدنى والأقل وهو القدر المتيقن المتفق عليه .
الثانية :توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ألف وستمائة من الصحابة إلى وادي القرى لتأديب الساكنين فيها ، ومنعهم من المكر وإعانة المشركين ضد المسلمين .
وجعل عدد من كتاب السيرة الخروج إلى خيبر ووادي القرى واحداً ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرجع من خيبر إلى المدينة بل سار منها إلى وادي القرى .
الثالثة : سرية عمر بن الخطاب إلى هوازن ، ومعه ثلاثون من الصحابة في شهر شعبان من السنة السابعة للهجرة ، ولما علموا بقدوم المسلمين هربوا ولم يقع قتال .
الرابعة : سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة ، ومعه ثلاثون من الصحابة ، وجرى رمي بالنبال ، وجرح بشير بن سعد .
الخامسة : سرية أبي بكر إلى بني كلاب ومعه جماعة من الصحابة ولم يقتل أحد من المسلمين في هذه السرية ، وقتل أربعة من المشركين .
السادسة : سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى أهل الميفعة بنجد ، ومعه مائة وثلاثون من الصحابة في شهر رمضان من السنة السابعة وقتل في هذه السرية سبعة من المشركين .
السابعة : سرية بشير بن سعد إلى غطفان ومعه ثلاثمائة من الصحابة في شهر شوال من السنة السابعة .
ولم يقع قتال في هذه السرية لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي تحقق الغايات الحميدة من هذه السرايا من غير سفك دماء ، وهو من الشواهد على ميل الناس إلى الإسلام ، ونفاذ المعجزات الى قلوبهم ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
الثامنة : سرية بشير بن سعد إلى غطفان في شهر شوال من السنة السابعة ، أي قبل عمرة القضاء بشهر واحد ، بعد أن بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن عيينة بن حصن يجمع الرجال والسلاح للإغارة على المدينة والظاهر أنه علم بقرب خروج النبي وأصحابه إلى عمرة القضاء ، وبقاء القليل من الرجال في المدينة ، فلم يختر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إرجاء عمرة القضاء ، ولا إقامة أكثر أصحابه في المدينة احترازاً من هجوم القبائل .
بل وجه سرية من أصحابه برئاسة بشير بن سعد لتفريق جمعهم.
تجليات السرايا
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث السرايا لرد اعتداء الأعراب ، ولعقد معاهدات صلح مع رؤساء القبائل ، وقد تقدم في الجزء السادس والخمسين بعد المائتين كل من :
الأول : قانون قلة القتلى في المعركة اللاحقة عن السابقة أيام النبوة رحمة عامة.
الثاني : قانون عجز المشركين مستقبلاً عن الغزو والهجوم .
الثالث : قانون السكينة في الحياة الإجتماعية اليومية في المدينة ، وعدم نشر الخوف والرعب بين الناس بسبب غزو المشركين ص 125.
الرابع : قانون حفر الخندق من مصاديق [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ص126.
الخامس : قانون ترشح بركات ومنافع آية التطهير على المؤمنين في الدنيا ونيل الثواب على محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته للمؤمن ، وعلى حب المسلم والمسلمة لهم . ص 131 .
السادس : قانون تنمية ملكة التوكل على الله عند المسلمين في كل معركة من معارك الإسلام.ص 135.
السابع : قانون حرمة مكة ، ولزوم تعاهدها ص 139.
الثامن : قانون قلة القتلى في المعركة اللاحقة عن السابقة أيام النبوة رحمة عامة. ص 147 .
التاسع : قانون عجز المشركين مستقبلاً عن الغزو والهجوم . ص 148.
العاشر : قانون علوم القرآن غير متناهية و[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) ص 149.
الحادي عشر : قانون امتناع النبي (ص) عن قتل المنافقين ص 151.
الثاني عشر : قانون امتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل المنافقين سبق وأن وقع في كتيبة بني المصطلق أيضاً ص 152.
الثالث عشر : قانون إنتفاء الكراهة في الخروج إلى أُحد ص 153.
الرابع عشر : قانون صرف الله عز وجل الهم بالفشل والجبن عن المؤمنين بدليل إخبار ذات الآية الكريمة عن ولاية الله عز وجل لهم. ص 154.
الخامس عشر : قانون تعدد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الواقعة الواحدة ص 168.
السادس عشر : قانون الإنذار والوعيد من تسخير نعمة إبل وأموال التجارة في محاربة النبوة والتنزيل ص 168 .
السابع عشر : قانون الوعد والوعيد في الجملة الخبرية ص 168.
الثامن عشر : قانون حفر الخندق سلام دائم ص 171.
التاسع عشر : قانون الخوف والخشية من الله ، قال تعالى [فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).ص 172.
العشرون : قانون تقريب الوقائع التأريخية إلى أهل زمان تلاوة القرآن . ص 174.
الواحد والعشرون : قانون الصلاة بين ظهراني المشركين جهاد ص 178.
الثاني والعشرون : قانون إذا أنزل الله عز وجل نعمة لأهل الأرض فانه أكرم من أن يرفعها ص 179.
الثالث والعشرون : قانون مضاعفة النعمة لسيد المرسلين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها عصمته وأهل بيته ص 179.
الرابع والعشرون : قانون سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل في ميدان القتال وخطط المشركين لإغتياله ص 179.
الخامس والعشرون : قانون دفع النبي (ص) القتال بحفر الخندق ص 187.
السادس والعشرون : قانون بعث اليأس والقنوط في نفوس المشركين .ص 187.
السابع والعشرون : قانون صرف القتال أولى من وقوعه ص 188.
الثامن والعشرون : قانون حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على سلامة نساء المسلمين واليهود في المدينة ، ومنع المشركين من استباحتها ، ومن نهب الأموال ص 188.
التاسع والعشرون : قانون عصمة المؤمنين من الخوف من غزو المشركين لهم ص189.
منافع السرايا بعد صلح الحديبية
لقد كان صلح الحديبية فتحاً عظيماً ، ويتبادر إلى الذهن ميل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الإستراحة ، ووضع السلاح بعد عناء سني الإضطهاد والقتال وسقوط أربعة عشر شهيداً في معركة بدر وسبعين في معركة أحد وقتل سبعة وثلاثين من الصحابة في سرية التبليغ في بئر معونة غدراً من أصل أربعين مجموع أفراد السرية .
وقتل أفراد وسرية تبليغ القرآن برئاسة عاصم بن ثابت الأنصاري في سرية الرجيع وعددهم عشرة عندما أحاط بهم مائة من المشركين (فقالوا انزلوا فأعطوا بأيديكم ولكم العهد والميثاق وأن لا نقتل منكم أحدا.
فقال عاصم بن ثابت أيها القوم أما أنا فلا انزل في ذمة كافر ثم قال اللهم أخبر عنا نبيك فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق منهم خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر.
فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها فقال الرجل الثالث هذا أول الغدر والله لا أصحبكم ان لى بهؤلاء أسوة يريد القتلى فجرروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم فانطلق بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بعد وقعة بدر فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيبا وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر فلبث خبيب عندهم أسيرا حتى أجمعوا قتله)( ).
قانون تأديب الأعراب قبل عمرة القضاء دفاع
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بمكر وخبث كفار قريش وأنهم لا يقفون عند الصلح ، ولم يرضوا به إلا كرهاً فيلجأون إلى المكر والخبث والدهاء ، ومنه تحريض الأعراب والقبائل وكأن هذا التحريض خارج طرفي الصلح فيكون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصجابه إلى عمرة القضاء مناسبة لفراغ وثغرة في المدينة ، فقد يجرأ الأعراب على غزوها ، وحتى قبل هذه العمرة فان هذا الغزو أمر محتمل .
لذا توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى رصد أخبار القبائل والأعراب حول المدينة ، فوجه السرايا لأمور :
الأول : تفريق الأعراب وتشتيت جمعهم .
الثاني : بعث الفزع والخوف في نفوسهم من المسلمين وآيات القرآن.
الثالث : دعوة الناس إلى الإسلام ، ومن وجوه ترغيبهم في الإيمان مسير السرايا نحوهم ، والتي تظهر معالم الإيمان في حلها وترحالها .
الرابع : هذه السرايا من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الخامس : نشر الأمن في ربوع الجزيرة ، وتأمين خروج الصحابة من المدينة نحو الشام ومكة وفي الطرق الأخرى .
السادس : زجر القبائل عن الإنقياد لقريش ومكرها .
السابع : بيان قانون وهو عدم انقطاع الجهاد بصلح الحديبية .
الثامن : تحقق مصداق الجهاد من غير إراقة دماء ، فأكثر هذه السرايا لم يقع فيها قتال ، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، حينما احتجوا على وجود الذي يفسد ويسفك الدماء في الأرض.
لبيان تسليم الملائكة بأن الذي يفسد في الأرض غير الخليفة فيها.
فهذه السرايا استئصال للفساد ، ومنع من سفك الدماء ، ودعوة للناس للإيمان ، لوجوه :
الأول : قانون التضاد بين الإيمان والفساد .
الثاني : قانون التضاد بين الإيمان وسفك الدماء .
الثالث : قانون النبوة والتنزيل زاجر عن الفساد وسفك الدماء ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]( ).
الغايات الحميدة من السرايا
لقد جاء صلح الحديبية رحمة عامة ، وفضل من عند الله عز وجل على النبي إلى وأصحابه ، وأجيال المسلمين إلى يوم القيامة لتبدأ مرحلة جديدة من الجهاد والصبر والدعوة إلى سنن الإيمان ، وتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأعراب وقبائل المشركين الذين أظهروا عزمهم على محاربة الإسلام ويريدون غزو المدينة .
فسار لهم بنفسه تارة ، وأرسل السرايا من أصحابه تارة أخرى ، ومن منافع هذه السرايا وجوه :
الأول : نشر ألوية الإسلام وبيان وجوب عبادة الله وحده .
الثاني : قانون الحرب على الشرك وعبادة الأوثان .
الثالث : قطع الطريق على كفار قريش ، ومنعهم من تحريض القبائل ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : قانون نشر الأمن في الجادة العامة والطرق بين الأمصار والقبائل .
الخامس : قانون بيان نعمة الإسلام ، وعز الإيمان .
السادس : الإستعداد لعمرة القضاء بالأمن لأهل المدينة ، فحينما رضيت قريش بمجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة في العام التالي لصلح الحديبية لأداء العمرة فانهم لم يكفوا عن المكر والدهاء وتحريض أذرع ورجال القبائل ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبذل الأموال لهم .
السابع : ترغيب الناس في الإسلام ، وجعل أهل القرى والأرياف يرون النسك والزهد والإيمان الذي يتصف به الصحابة .
الثامن : هذه السرايا مظهر لقوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
التاسع : الإخبار العملي للناس بأن الدعوة إلى الإسلام لا تنحصر بقريش وأهل مكة بل هي عامة ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
عمرة القضاء
لقد رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا بأنه وأصحابه يطوفون بالبيت الحرام ، منهم من حلق رأسه ومنهم من قصر شعره ، فأخبرهم فاستبشروا ، وتبادر إلى أذهان بعضهم تحقق مصداق هذه الرؤيا في الحديبية ، ولكنهم عادوا من الحديبية من غير أن يطوفوا بالبيت الحرام ، فأرتاب المنافقون وأخبرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم يقل بتحقق الدخول في ذات السنة .
حتى إذا جاءت عمرة القضاء دخلوا المسجد الحرام ، فنزل قوله تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ) .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية بين أمور :
الأول : قتال قريش في الشهر الحرام وهو ذو القعدة .
الثاني : الرجوع إلى المدينة صبراً .
الثالث : عقد الصلح مع المشركين .
وحتى مع القتال لا يتحقق دخول مكة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأن خيل المشركين مهيأة للقتال والإنقضاض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
فاختار الصلح والموادعة ، ومع القتال لا تتحقق عمرة القضاء ، خاصة وأنه لم يمر أكثر من سنة على واقعة الخندق ، وزحف عشرة آلاف من جيوش المشركين على المدينة .
فتم الصلح ليكون نعمة عظمى ، وفضلاً من عند الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأجيال المسلمين وليعود في السنة التالية وفي ذات شهر ذي القعدة فيؤدي وأصحابه العمرة ، ولتكون بشارة العودة إلى مكة بفتح مبين ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]( ).
تسمية عمرة القضاء
والتي تمت في شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة وتسمى هذه العمرة على وجوه :
الأول : عمرة القضاء ، وقد يتبادر إلى الذهن أنها قضاء عن عمرة الحديبية التي صدّ فيها المشركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ومنعوهم من دخول البيت الحرام مع أنهم صاروا على بعد (20) كم منه ، وهذا المعنى صحيح ، لإرادة البيان والتفسير وإن كانت تلك العمرة لم تفسد حتى تؤدى غيرها قضاء ، كما لو فسدت عمرة الفرد بالجماع .
ولكن عمرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وألف وأربعمائة من أصحابه لم تفسد ، وكانت عمرة تامة ، فلذا حينما يذكر عدد عمرات النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقال أنه اعتمر أربع مرات ، ثلاثة في شهر ذي القعدة ، وواحدة التي كانت مع حجة الوداع .
الثاني : عمرة القضية ، أي المقاضاة من قريش .
الثالث : عمرة القصاص ، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقتص من مشركي قريش الذين منعوه من العمرة في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، فاعتمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة ، وفيها نزل قوله تعالى [الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ]( ).
كما ورد عن ابن عباس إذ قال (نزلت هذه الآية في صلح الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدّ عن البيت ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل ، فلما كان العام القابل تجهز وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا أن لا تفي قريش بذلك ، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم ، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام ، فأنزل الله ذلك)( ).
سبب تسمية عمرة القصاص
وتدل تسمية هذه العمرة بالقصاص لبيان أنها تمت قهراً وعنوة على قريش وأنهم غير راضين على دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة لإدراكهم بأن هذا الدخول على وجوه :
الأول : إنه نصر وفتح .
الثاني : في هذه العمرة حرب على عبادة الأوثان .
الثالث : الصدح والنداء بمفاهيم التوحيد في البيت الحرام بصورة جماعية إذ يردد ألفان من الصحابة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك).
الرابع : إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الجماعة في المسجد الحرام لأول مرة من غير خوف وأذى من قريش إذ كانوا قبل الهجرة يؤذونه أثناء تلاوته وعند ركوعه وسجوده حول الكعبة.
و(عن عبد الله( ) قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلى ورهط من قريش جلوس، وسلا جزور قريب منه.
فقالوا: من يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره ؟ فقال عقبة بن أبى معيط: أنا.
فأخذه فألقاه على ظهره.
فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم عليك بهذا الملا من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللم عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بأبى جهل بن هشام، اللهم عليك بعقبة ابن أبى معيط، اللهم عليك بأبى بن خلف – أو أمية بن خلف – شعبة الشاك.
قال عبد الله : فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا، ثم سحبوا إلى القليب غير أبى، أو أمية بن خلف ، فإنه كان رجلا ضخما فتقطع.
وقد رواه البخاري في مواضع متعددة من صحيحه، ومسلم من طرق عن ابن إسحاق به)( ).
ليكون معنى القصاص في المقام أعم من أداء مناسك العمرة بل يشمل أداء الصلاة بأمن في البيت الحرام إذ كبر على رجالات قريش رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يعمرون المسجد الحرام بالصلاة ، فغادروا مكة إلى رؤوس الشعاب طيلة الأيام الثلاثة التي بقي فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة.
وتعيين هذه المدة بشرط من قريش في صلح الحديبية ، فتقيد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه شرط مخالف لكتاب الله ، وأحكام الحج والعمرة.
لقد خرج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذه العمرة كل الذين شهدوا الحديبية إلا من مات كما خرج معه آخرون ، فكانت عدتهم ألفين من الرجال عدا النساء والصبيان ، وأحرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذي الحُليفة ، فلبس ولبس معه المسلمون لباس الإحرام للدلالة على نسخ التوحيد لمفاهيم الشرك في الجزيرة إلى يوم القيامة .
وسبب تسميتها عمرة القصاص أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه اقتصوا فيها من مشركي قريش الذين صدوهم عن عمرة الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة في السنة السابعة للهجرة في ذات الشهر الحرام وهو ذو القعدة بخشوع وشكر لله عز وجل.
إزاحة الموانع دون عمرة القضاء
يقتضي الأمر تأمين المدينة وما حولها استعداداً لعمرة القضاء ، بتفريق جموع المشركين من حولها ، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يخرجون إلى عمرة القضاء وليس معهم أسلحة ودروع وسيوف ، وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الإحتياط والإحتراز بأن جعل الأسلحة قريبة منهم للجوء إليها عند الضرورة ، ويتبادر إلى الأذهان الإحتراز من مكر قريش ، ولكن أخبار هذه السرايا قبل عمرة القضاء تدل على خشية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قيام الأعراب بغزو المدينة ، ومن مكر قريش أنها لا تقاتل دائماً بل تسخر أذرعاً لها ، وتنفق عليهم الأموال وتحرضهم بالشعر والرجز والتفاخر ، وهو من مكرهم الذي ذمه الله ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وهذا المكر ظاهر في كل زمان من طرف العدو القوي الذي يريد تصغير خسارته مع النيل من عدوه وإضعافه بأيدي آخرين .
فان قلت قد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى صلح الحديبية فهل كان هناك احتراز ، الجواب نعم ، بتعدد الكتائب والسرايا قبل صلح الحديبية .
لقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتهيئة مقدمات عمرة القضاء وفوّت على الذين في قلوبهم مرض فرصة التشفي والتخريب ، ومنعهم من الإرهاب بزجرهم في عقر دارهم وبيان أن يد الإسلام تصل إليهم ، ومن المدد في المقام آيات القرآن وما فيها من تخويف للكافرين وتبكيت وفضح للمنافقين ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
منافع كثرة المسلمين في عمرة القضاء
وإذ كان وفد كل قبيلة يتألف من سبعين أو مائة رجل إلى الحج ، أما العمرة فيأتون أفراداً ، ليفاجئ العرب بمجئ ألفين مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى عمرة القضاء عدا النساء والصبيان ، وهو معجزة جهادية وعددية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن العرب نادراً ما تحمل معها النساء والصبيان في السفر.
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى لوجوه :
الأول : العمرة فعل عبادي تشمل الرجل والمرأة ، قال تعالى [إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الثاني : إكرام الإسلام للمرأة بصحبة النساء مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الإخبار المتقدم على الأمن العام في هذه العمرة .
الرابع : بشارة السلم المجتمعي وسلامة السبل والطرق في الإسلام.
الخامس : بعث الخوف والرعب في قلوب مشركي مكة ، ومنعهم من نقض بنود صلح الحديبية .
السادس : بيان قانون صلح الحديبية نفع عام للناس جميعاً .
السابع : قانون ترغيب الناس بدخول الإسلام ، فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن كل آية قرآنية ، وكل فعل نبوي دعوة للناس لدخول الإسلام .
عمرة القضاء عز للإسلام
لقد شهدت مكة حدثاً لم تشهده من قبل إذ دخل ألفان من المسلمين صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويكبرون ويهللون ويلبون بألسنة التوحيد التي لم تعهدها قريش وخسرت الأموال والرجال في محاربتها في بدر ، وأحد ، والخندق ، وليس بين معركة الخندق وعمرة القضاء إلا سنتين ، كان في احداهما صلح الحديبية.
لقد أدركت قبائل العرب قوة الإسلام وخيبة قريش ، وهي من مصاديق الفتح المبين في قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
فعمرة القضاء فتح من غير إراقة دماء وحضّ لقبائل العرب وقريش لدخول الإسلام ، وهي مقدمة لفتح مكة.
لقد اشترطت قريش ألا يبقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة أكثر من ثلاثة أيام .
ففي اليوم الثالث (أَتَاهُ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وَدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ ، فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْيَوْمِ الثّالِثِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ وَكّلَتْهُ بِإِخْرَاجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مَكّةَ ؟ فَقَالُوا لَهُ إنّهُ قَدْ انْقَضَى أَجَلُك ، فَاخْرُجْ عَنّا.
فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا عَلَيْكُمْ لَوْ تَرَكْتُمُونِي فَأَعْرَسْت بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ، وَصَنَعْنَا لَكُمْ طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ.
قَالُوا : لَا حَاجَةَ لَنَا فِي طَعَامِك فَاخْرُجْ عَنّا فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ)( ) هو وأصحابه.
وخلف مولاه أبا رافع على ميمونة فأتى بها والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بسرف ، فبنى بها وهو في حال حل غير محرم ، وانصرف وأصحابه إلى المدينة في شهر ذي الحجة ويبعد وادي سرف عن المسجد الحرام نحو (15) كم ، وكان عمرها يومئذ احدى وخمسين سنة.
وقام سفهاء مكة بايذاء ميمونة والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسنتهم فقال لهم أبو رافع : هذه والله الخيل والسلاح ببطن يأجج ، وانتم تريدون نقض العهد والمدة أي مدة عشر سنوات تضع الحرب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقريش كما في صلح الحديبية.
عندئذ لوا راجعين منكسين وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
ما نزل من القرآن بخصوص عمرة القضاء
من فضل الله عز وجل على الناس بالنبوة والتنزيل عدم إنحصار المعجزة ومنافعها في أوانها ومحيطها وإن كانت حسية ، وقد جمعت عمرة القضاء بين المعجزة الحسية والعقلية ، ومن العقلية نزول الآيات الخاصة بها ، منها قوله تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
فقد جاءت رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل صلح الحديبية ، إذ رآى في المنام أنه وأصحابه يدخلون المسجد الحرام ويطوفون فيه ويتمون نسكهم بأمان بدليل ذكر الآية بحلق وتقصير الرؤوس وهو آخر أفعال العمرة .
وتحقق مصداقها في عمرة القضاء ، ترى لماذا اثنى الله على نفسه في الآية أعلاه ، الجواب من وجوه :
الأول : موضوعية الرؤيا الصادقة في تأريخ النبوة .
الثاني : لا يقدر على تنجز الرؤيا في الواقع إلا الله عز وجل .
الثالث : لقد ورد لفظ [صَدَقَ اللَّهُ] ثلاث مرات في القرآن وهي :
الأولى : قوله تعالى [قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا]( ).
الثالثة : قوله تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
الرابع : الرد من الله على المنافقين والذين شككوا بما أخبر عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الخروج إلى الحديبية بأنه رآى في المنام أنه سيدخل وأصحابه مكة معتمرين فلما لم يدخلها في الحديبية قال بعضهم أين الوعد ، فتحقق في عمرة القضاء .
لبيان قانون تسليم المسلمين بأن رؤيا النبي محمد وحي ، وهو أسمى مرتبة من الرؤيا الصادقة والمراد من صدق الله رؤيا الرسول تحققها في عمرة القضاء .
وفيه درس في الصبر ، وحسن التوكل على الله عز وجل ، وقبول ما يأتي منه تعالى وإن أبطأ وتأخر تحققه فهو رحمة عامة وخاصة من عند الله عز وجل.
والصبر عن النسك سنة واحدة مع وصف صلح الحديبية بأنه فتح مبين تكون عمرة القضاء فرعاً ورشحة منه .
ونزل قوله تعالى [الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ]( )، إذ نزلت الآية لما صدّ المشركون النبي محمداً وأصحابه عن دخول مكة عام الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة ، فأنعم الله عز وجل عليه وأصحابه بدخولهم مكة في العام التالي في ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم.
ليكون من معاني الآية أي الشهر الحرام الذي دخلتم فيه مكة في مقابل الشهر الحرام الذي صدكم فيه المشركون عام الحديبية.
[وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ] أي دخولكم مكة في عمرة القضاء قصاص بحرمة الشهر وبلدة مكة حين صدوكم عنها .
و(عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في صلح الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صد عن البيت ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل.
فلما كان العام القابل تجهز وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا أن لا تفي قريش بذلك ، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم ، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام ، فأنزل الله ذلك)( ).
تسمية غزوة عمرة القضاء
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقد صلح الحديبية ثم عمرة القضاء من غير قتال أو سفك دماء .
ولا يصدق على أي منهما أنها غزوة ، ومع هذا فقد أفرد بعضهم باباً اسمه (غزوة عمرة القضية)( ).
نعم هذه التسمية فرد نادر فالأصل أنها ليست غزوة أو هجوم .
لقد كانت عمرة القضاء ثواباً وجزاءً عاجلاً من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على صبرهم ودفاعهم عن النبوة والتنزيل ، وهي نصر مبين ، وبداية انقطاع الحروب والمعارك في الجزيرة ، وإنحسار سلطان المشركين ، وإصابتهم بالوهن والضعف .
لقد كانت عمرة القضاء من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ]( ).
وفيها حجة على كفار قريش من جهات منها :
الأولى : إضطرار قريش للقبول بدخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه البيت الحرام .
الثانية : نداءات التوحيد التي أطلقها النبي لتعيد أيام إبراهيم عليه السلام وقوله تعالى [وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
الثالثة : فضح قريش بين قبائل العرب بمنعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من البقاء في مكة أكثر من ثلاثة أيام ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الرابعة : رؤية أهل مكة والوافدين إليها كثرة أعداد المسلمين وإخلاصهم في طاعة الله ورسوله .
قانون عمرة القضاء سلم مجتمعي
لقد كانت عمرة القضاء على وجوه :
الأول : قانون عمرة القضاء سلام .
الثاني : قانون عمرة القضاء سلم مجتمعي .
الثالث : قانون تبعث عمرة القضاء السكينة في النفوس .
الرابع : قانون منع عمرة القضاء من الثأر ، والنسبة بين سفك الدماء والثأر عموم وخصوص مطلق ، فسفك الدماء أعم ، وقد يأتي ابتداء وبالحروب والمعارك.
وحينما احتجت الملائكة على جعل الله عز وجل الإنسان في الأرض خليفة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، رد الله عز وجل عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
الخامس : قانون عمرة القضاء حائل دون سفك الدماء .
السادس : قانون عجز المسلمين والناس جميعاً عن الإحاطة بمنافع عمرة القضاء بدليل قوله تعالى بخصوصها [فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا] في قوله تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
وهل يختص الخطاب في الآية أعلاه [فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا] بأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه شامل لأجيال المسلمين ، المختار هو الثاني لأصالة العموم ، والإطلاق في ذخائر الفضل الإلهي في عمرة القضاء ، وتجدد منافعها كل زمان لقانون عمرة القضاء عيد لأجيال المسلمين .
السابع : عمرة القضاء تعظيم لشعائر الله ، قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
الثامن : هل يحيط الملائكة بمنافع عمرة القضاء في الأجيال أم يشملها قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، المختار هو الثاني.
وأن الملائكة تطلع على هذه المنافع فتزداد شكراً لله عز وجل ، ودعاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في عمرة القضاء والمؤمنين وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ).
زواج النبي (ص) من ميمونة بنت الحارث
في طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عمرة القضاء بعث ابن عمه جعفر بن أبي طالب ليخطب له ميمونة بنت الحارث زوج اختها الصغرى أسماء بين يديه ، وقيل أن العباس بن عبد المطلب هو الذي اقترح على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزواج منها .
وكانت ميمونة قد تزوجت سابقاً .
وأخرج ابن سعد : أن ميمونة بنت الحارث كانت زوجة لمسعود بن عمرو بن عمير الثقفي في الجاهلية ثم فارقها ، فخلف عليها أبو رهم بن عبد العزى من بني مالك فتوفى عنها .
وقيل طلقها لما علم باسلامها ، ولاظهارها الفرح بانتصار المسلمين في خيبر .
وكانت تدعو الله عز وجل لتكون زوجة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منذ أن فارقها زوجها .
ولما انتهت إليها خطبة رسول الله وهي على بعيرها (فَقَالَتْ الْبَعِيرُ وَمَا عَلَيْهِ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ)( ).
الأخوات المؤمنات( )
وقد ذكرهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الوصف والثناء وهن :
الأولى : ميمونة بنت الحارث .
الثانية : أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث زوج العباس بن عبد المطلب.
وهي التي ضربت أبا لهب بالعمود عندما دخل دار العباس ، واحتمل مولاه أبا رافع فضربه بالأرض ثم برك عليه يضربه لاسلامه وإظهاره الغبطة بنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، وما لبث أبو لهب إلا سبعة ليال بعدها حتى رماه الله عز وجل بداء العدسة ، وهو مرض كالطاعون فمات منه .
الثالثة : اختها لأمها أسماء بنت عميس الخثعمية زوجة جعفر بن أبي طالب هاجرت معه إلى الحبشة في السنة الخامسة للهجرة ، وأنجبت له عبد الله وعون ومحمد .
وبد أن استشهد في مؤتة تزوجها أبو بكر وولد منها محمد بن أبي بكر وبعد وفاته تزوجها الإمام علي عليه السلام وانجبت له يحيى بن علي ، وقيل توفى في حياة أبيه ولم يعقب ، وروت أسماء أحاديث عديدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : أختها لأمها سلمى بنت عميس زوجة حمزة بن عبد المطلب .
وأمهن جميعاً هند بنت عوف بن زهير .
وقد وصفت بأنها أكرم عجوز في الأرض أصهاراً ، فصهرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحمزة ، وأبو بكر ، والعباس بن عبد المطلب ، وجعفر الطيار ، والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
ومنهم من ذكر بدل ميمونة اختها زينب بنت خزيمة الهلالية العامرية ، وكانت زوجة لطفيل بن الحارث ، ثم طلقها فتزوجها أخوه عبيدة بن الحارث بن المطلب ، فلما استشهد في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة ، وخرجت من العدة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبراً لخاطرها ، وكان عمرها يومئذ ستين سنة ، وكانت تسمى أم المساكين لرحمتها إياهم ، وتوفيت في السنة الرابعة للهجرة .
والمختار الأول ، وفق التسلسل أعلاه ، وكان اسمها برة فاسماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ميمونة .
هبة المرأة نفسها للنبي (ص)
نزل القرآن بالإخبار عن حكم من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب النكاح ، إذ قال تعالى [وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
فاذا كانت هناك امرأة مؤمنة بالله ورسوله والملائكة واليوم الآخر عرضت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتزوجها من دون مهر ومن غير أن تنتظر هل يخطبها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما هو الأصل والعادة بأن الرجل هو الذي يخطب المرأة .
فالمراد من الهبة هنا عرضها الزواج من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير مهر فللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يقبل العرض وينكحها حينئذ بعقد نكاح لتفوز بصحبة النبي ومعاشرته وأمومة المؤمنين ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
وللنبي الإمتناع عن قبول هذه الهبة وعن الزواج منها ، وهو أمر خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده .
فقبول هذه الهبة خاص به وهذا القبول ليس بديلاً عن عقد النكاح .
والأصل وجوب المهر في عقد النكاح ، فهو حق جعله الله عز وجل للمرأة ويجوز أن تهبه لزوجها بعد الزواج ، ويحل للزوج قبول هذه الهبة لقوله تعالى [وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا]( ).
فمع حلية أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم له ممن أتاهن مهرهن ، قال تعالى [أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( )، وما ملكت يمينه من السراري مثل مارية القبطية [مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ]( )، وفي الغنائم وهي صفية بنت حي بن أخطب إذ اعتقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتزوجها.
وهل لها الإمتناع بعد العتق من الزواج ، الجواب نعم .
لبيان أن رضاها بالزواج مع قتل أبيها وزوجها شاهد على إيمانها.
والمراد من [وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ]( )، أي قرابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهة أبيه ، ومن جهة أمه .
وكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعمام وعمات إخوة لأبيه ، وقيل ليس لأمه أخ أو أخت ، والمراد عشيرة أمه وهم بنو زهرة ، لذا كانوا يقولون (نحن أخوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم) لبيان إباحة زواجه من ذوي قرباه ، وكذا بالنسبة للمسلمين.
فيتساوى معه أفراد الأمة في هذا الحكم ، وينفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصيه تعدد الزوجات أكثر من أربعة ، وقبول هبة المرأة نفسها له بلا مهر ، لذا قال تعالى [خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
و[اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ] ( )، من ذوي قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(وأخرج ابن سعد عن أبي صالح مولى أم هانىء قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم هانىء بنت أبي طالب فقالت : يا رسول الله إني مؤتمة ، وبني صغار.
فلما أدرك بنوها عرضت عليه نفسها فقال : الآن فلا . إن الله تعالى أنزل عليَّ [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ]( ) إلى [هَاجَرْنَ مَعَكَ] ولم تكن من المهاجرات)( ).
من هي المرأة التي وهبت نفسها للنبي (ص)
عن الإمام الباقر عليه السلام في الآية قال (لا تحل الهبة إلا لرسول الله صلى الله عليه وآله، وأما غيره فلا يصلح نكاح إلا بمهر)( )، وقد تقدم تفصيل في الجزء (246).
واختلف في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على جهات :
الأولى : هي ميمونة بنت الحارث الهلالية أم المؤمنين لقولها عندما بلغتها خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها وهي على البعير (الْبَعِيرُ وَمَا عَلَيْهِ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ( ).
ولم يرفع ابن هشام بيانه بأن ميمونة وقولها هذا هو سبب نزول الآية ، والمختار عدم ثبوت هذه الملازمة وسبب النزول في المقام .
وذكر أن العباس بن عبد المطلب أصدقها عن رسول الله (أربعمائة درهم) ( ).
وعن ابن عباس قال : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة وهو محرم أي لأداء عمرة القضاء.
و(عَنْ رَجُلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ : وَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِى تَزْوِيجِ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ)( ).
والحديث مقطوع ، و(عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ وَلَا يَخْطُبُ)( ).
الثانية : (عن عروة : أن خولة بنت حكيم بن الأقوص كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم)( ).
الثالثة : عن عكرمة انها أم شريك الدوسية وهي غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانت جميلة ، فقالت عائشة (ما في امرأة حين وهبت نفسها لرجل خير قالت أم شريك : فأنا تلك فسماها الله تعالى (مؤمنة) فقال [وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ]( ) فلما نزلت هذه الآية قالت عائشة : إن الله يسارع لك في هواك)( ).
الرابعة : (هِيَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي سَامَةَ بْنِ لُؤَيّ ، فَأَرْجَأَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ)( ).
الخامسة : إنها امرأة من الأنصار كما في الخبر عن الإمام الباقر عليه السلام (جاءت امرأة من الانصار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فدخلت عليه وهو في منزل حفصة ،والمرأة متلبسة متمشطة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقالت: يا رسول الله إن المرأة لا تخطب الزوج، وأنا امرأة أيم لا زوج لي منذ دهر ولا ولد ، فهل لك من حاجة ؟ فإن تك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله خيرا، ودعا لها.
ثم قال: يا اخت الانصار جزاكم الله عن رسول الله خيرا، فقد نصرني رجالكم، ورغبت في نساؤكم)( ).
السادسة : (وَيُقَالُ إنّ الّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ ، وَيُقَالُ أُمّ شَرِيكٍ غَزِيّة بِنْتُ جَابِرِ بْنِ وَهْبٍ مِنْ بَنِي مُنْقِذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، وَيُقَالُ بَلْ هِيَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي سَامَةَ بْنِ لُؤَيّ ، فَأَرْجَأَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ)( ).
وقد تقدم في الجزء السادس والأربعين بعد المائتين من هذا التفسير أن القول بأن التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هي زينب بنت جحش ضعيف( ) خاصة وأن تزويجها نزل من عند الله عز وجل.
وجاءت الآية بصيغة النكرة المقيدة [وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً]( )، ولا تفيد النكرة في سياق الإثبات العموم فاذا قيل أعبر نهراً فلا يعني أنه يعبر كل نهر ، ولكن هذا لا يعني عدم دلالة الآية على امرأة معينة ، فالمراد هو امرأة معينة وإن اختلف فيها .
و(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ فَقَامَتْ قِيَامًا طَوِيلًا فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إِيَّاهُ فَقَالَ مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي هَذَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِزَارَكَ جَلَسْتَ لَا إِزَارَ لَكَ فَالْتَمِسْ شَيْئًا.
فَقَالَ مَا أَجِدُ شَيْئًا فَقَالَ الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ قَالَ نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ يُسَمِّيهَا.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ)( ).
وتبين الآية حلية نكاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمرأة التي وهبت نفسها له ، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج امراة بغير مهر فهذه الهبة والحلية من مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم تقع في الواقع .
ومختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في باب النكاح على قسمين :
الأول : التوسعة ، ومنه النكاح بأكثر من أربعة ، والنكاح بالهبة بشرط أن تكون الواهبة لنفسها مؤمنة ، فلا يصح قبول هبة المنافقة لنفسها .
الثاني : التضييق بقيد الهجرة من ذوي قرباه بقوله تعالى [اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ]( )، ولم يرد لفظ هاجرن في القرآن إلا في الآية أعلاه.
هل جعلت قريش عوائق دون عمرة القضاء
لقد اتصفت شروط قريش في الحديبية بالقسوة والتشديد ، ومنها إمتناعهم عن دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة وأداء العمرة ، ولم يفصل بينهم وبينها إلى نحو عشرين كيلو متر .
ويتوارث العرب من أيام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حرمة منع الناس من دخول مكة والحرم ، قال تعالى [وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا]( ).
وكانت قريش ترجو وقائع تحول دون مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للعمرة في قابل باشعال فتنة القبائل والأعراب ، وتجهيزهم بالمال والسلاح خفية.
ولم يشترط النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قريش في صلح الحديبية عدم تحريض القبائل ضده ، لوجود هذا الشرط في الصلح بشرط لا إغلال أي لا خيانة .
والأصل تلقي القبائل والأعراب صلح الحديبية بالقبول والكف عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن أشد أعدائه وهم كفار قريش رضوا بالصلح معه ، ولكن عدداً من القبائل جمعوا الجموع للإغارة على المدينة ، فسار إليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه تارة.
وبعث أصحابه إلى جهات أخرى لتفريق الجموع ، وقطع الطريق على قريش بجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يضطر إلى الإقامة في المدينة عندما يحين أوان عمرة القضاء ، لتكون سرايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد صلح الحديبية مقدمة لأداء عمرة القضاء وسلامة المسلمين وأهل المدينة أثناء أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها .
لقد كان العرب يولون عناية فائقة لحال أهليهم عندما يهمون بالغزو أو السفر والضرب في الأرض خشية قيام الأعداء بالإغارة على بيوتهم وسبي نسائهم وأولادهم غيلة أو طمعاً أو ثأرا ، فكيف مع كثرة أعداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل من الأعراب والقبائل، وحتى الذي لم يكن عدواً فانه يطمع بالغنائم .
لقد قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج إلى القبائل والأعراب حول المدينة والقريبين منها في كتائب يقودها بنفسه مثل كتيبة خيبر ، وكتيبة وادي القرى ، وسرايا الصحابة المتعددة لتفريق جموعهم ، وليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قانون تأمين المدينة حتى في حال غيابه وأكثر أصحابه.
لبيان قانون السرايا قبل وبعد صلح الحديبية من الوحي ، وهل كان رجالات قريش يظنون إشغال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن عمرة القضاء بالشروط التي فرضوها في صلح الحديبية ، وبعزمهم على تحريض القبائل ، المختار نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) .
اعتمر النبي (ص) أربع مرات
منها عمرة القضاء وهي قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار بأداء مناسك العمرة في شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة لما تعاقد عليه مع كفار قريش في صلح الحديبية (عن ابن عباس، قال اعتمر رسول الله أربع عمر: عمرة الحديبية وعمرة القضاء والثالثة من الجعرانة والرابعة التى مع حجته)( )، والمراد العمرة بعد الهجرة .
وعمرة الحديبية كاملة ، وذكر (إنّهُمْ حِينَ حَلَقُوا رُءُوسَهُمْ بِالْحِلّ احْتَمَلَتْهَا الرّيحُ فَأَلْقَتْهَا فِي الْحَرَمِ)( ).
والمراد من عمرة الجعرانة مرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الطائف حين قسم غنائم حنين .
وبعد صلح الحديبية خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر ووادي القرى ثم أقام في المدينة الأشهر التالية :
الأول : شهر ربيع أول .
الثاني : شهر ربيع الثاني .
الثالث : شهر جمادى الأولى .
الرابع : شهر جمادى الآخرة .
الخامس : شهر رجب .
السادس : شهر شعبان .
السابع : شهر رمضان .
الثامن : شهر شوال .
وكان يبعث السرايا خلال هذه الأشهر للتبليغ وبما يأمن معه محيط المدينة ، ليكون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عمرة القضاء في ذات الوقت الذي حدده كفار قريش معجزة له بتأمين المدينة حال غيابه نحو عشرين يوماً.
لقد خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه جميع الذين صدوا معه في صلح الحديبية وعددهم ألف وأربعمائة ، وخرج معهم غيرهم من الصحابة ، وكان المجموع الفين من الصحابة.
وعندما علمت قريش بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم غادر أكثرهم مكة حسداً واستكباراً ، وبقي شطر منهم.
قال ابن إسحاق (وَتَحَدّثَتْ قُرَيْشٌ بَيْنَهَا أَنّ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فِي عُسْرَةٍ وَجَهْدٍ وَشِدّةٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ صَفّوا لَهُ عِنْدَ دَارِ النّدْوَةِ لِيَنْظُرُوا إلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَسْجِدَ اضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ وَأَخْرَجَ عَضُدَهُ الْيُمْنَى.
ثُمّ قَالَ رَحِمَ اللّهُ امْرِئِ أَرَاهُمْ الْيَوْمَ مِنْ نَفْسِهِ قُوّةً ثُمّ اسْتَلَمَ الرّكْنَ ، وَخَرَجَ يُهَرْوِلُ وَيُهَرْوِلُ أَصْحَابُهُ مَعَهُ حَتّى إذَا وَارَاهُ الْبَيْتُ مِنْهُمْ وَاسْتَلَمَ الرّكْنَ الْيَمَانِيّ ، مَشَى حَتّى يَسْتَلِمَ الرّكْنَ الْأَسْوَدَ ، ثُمّ هَرْوَلَ كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى سَائِرَهَا)( ).
مما يدل على أن مكان دار الندوة في مقابل جبل المروة .
وظن الصحابة أن هذا الرمل فعل مخصوص في عمرة القضاء لوجود سببه ، ولكن عندما حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع لزمها فصارت سنة مستحبة.
لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة في شهر ذي القعدة ، ليدخل مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة ، وساق ستين بدنة .
حمل الرسول (ص) وأصحابه السلاح في طريق العمرة
لقد حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السلاح ، والدروع ، والخوذ ، والرماح ، وقاد مائة فرس ، واستعمل على السلاح بشير بن سعد (فقيل يا رسول الله: حملت السلاح وقد شرطوا أن لا ندخلها عليهم بسلاح الا سلاح المسافر، السيوف في القرب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انا لا ندخله عليهم الحرم، ولكن يكون قريبا منا، فان هاجنا هيج من القوم كان السلاح منا قريبا)( ).
وقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخيل أمامه وعليها محمد بن مسلمة ، إلى أن بلغوا مر الظهران ، فوجدوا نفراً من قريش راعتهم كثرة الخيل وضبط سيرها ، والحيطة التي هم عليها ، فسألوا محمد بن مسلمة ، فقال هذا رسول الله يصبح في هذا المنزل غداً إن شاء الله .
ثم رأى هؤلاء النفر سلاحاً كثيراً مع بشير بن سعد ، فعادوا مسرعين إلى مكة ، وأخبروا قريشاً بما رأوا من الخيل والسلاح .
ففزعت قريش (وقالوا والله ما أحدثنا حدثا، وإنا على كتابنا، ومدتنا، ففيم يغزونا محمد في أصحابه.
ولكن حينما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الحرم رأت قريش عدم وجود أسلحة معهم ، نعم كان معهم أعظم سلاح وهو التلبية كاعلان للتوحيد في مكة (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك).
ليكون دخول النبي محمد مكة في عمرة القضاء فتحاً عقائدياً ، ومقدمة لسيادة مبادئ الإسلام في مكة سواء بفتحها أو بسبل أخرى لا يعلمها ولا يقدر عليها إلا الله عز وجل ، وفي التنزيل [لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
وقال ابن عقبة : بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة بنت الحرث يخطبها عليه.
روى محمد بن عمر عن جابر قال : أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب المسجد، لانه سلك طريق الفرع، ولو لا ذلك لاهل من البيداء.
قالوا : وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي والمسلمون معه يلبون، حتى انتهى إلى مر الظهران، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح إلى بطن يأجج حيث نظر إلى أنصاب الحرم.
وبعثت قريش مكرز -بكسر الميم، وسكون الكاف، وكسر الراء، وبالزاي – بن حفص في نفر من قريش حتى لقوه ببطن يأجج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه ، والهدي والسلاح قد تلاحق، فقالوا له: والله يا محمد ما عرفت صغيرا ولا كبيرا – بالغدر، تدخل بالسلاح في الحرم على قومك، وقد شرطت لهم ألا تدخل إلا بسلاح المسافر، السيوف في القرب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لا أدخل عليهم بسلاح)( ).
ومصاحبة السلاح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقربه منه ، من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( )، ليكون هذا الإحتراز من أطراف متعددة منها :
الأول : كفار قريش واحتمال غدرهم أو غدر بعض جهالهم وغلمانهم.
الثاني : الأعراب الذين قد يتعرضون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الطريق إلى أداء عمرة القضاء ، أو عند الرجوع منها .
الثالث : القبائل والكفار الذين قد يغزون المدينة عند غياب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وألفين من أصحابه عدا النساء والصبيان في عمرة القضاء .
خسارة وخيبة المشركين
لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ليلة الهجرة بأمر من جبرئيل ، وليس معه إلا واحد من أصحابه على خوف وضرر من المشركين الذين أرادوا قتله تلك الليلة ، قال تعالى [إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
وصارت قريش تقفو أثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن علي بن إبراهيم (ما زال أبو كرز الخزاعي يقفو أثر النبي صلى الله عليه وآله فوقف على باب الحجر، يعني الغار، فقال: هذه قدم محمد، والله أخت القدم التي في المقام، وقال: هذه قدم أبي قحافة أو ابنه، وقال: ما جازوا هذا المكان إما أن يكونوا صعدوا في السماء، أو دخلوا في الأرض، وجاء فارس من الملائكة في صورة الانس فوقف على باب الغار وهو يقول لهم: اطلبوه في هذه الشعاب، فليس ههنا، وتبعه القوم فعمى الله أثره وهو نصب أعينهم، وصدهم عنه وهم دهاة العرب)( ).
وقد تقدم تعدد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة إلى المدينة وتوالي المعجزات عند وصوله إلى المدينة لتشن قريش الغارات وتزحف بالجيوش العظيمة على المدينة لإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
لبيان معجزة نجاته من القتل والإغتيال في كل مرة ، وقد سبق وأن قتل عدد من الأنبياء لهم من غير قتال ومبارزة جيوش للكفار مع مصاحبة المعجزة للأنبياء ، التي هي زاجر عن التعدي عليهم.
فاراد الله عز وجل الثأر لهؤلاء الأنبياء بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أشد أسباب القتال ، وتعدد جهة صدورها ونوعها والأموال الطائلة التي بذلها الكفار لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
وكل معركة دخلها المشركون ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي من الصد عن سبيل الله ، وذهبت الأموال التي انفقوها في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين هباءً ، وصارت حسرة عليهم وندامة ، ولم تمنع من هزيمتهم وخسارتهم هذه المعارك ثم يلحقهم العذاب الأخروي بالخلود في النار.
نقض قريش بنود الصلح
ولم يكن هجوم بني بكر على خزاعة هذا نقضاً لصلح الحديبية ولكن إعانة رجالات قريش لبني بكر وقتالهم وعبيدهم معهم ليلاً هو الذي نقض الصلح لأن خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولتمادي قريش بالغي والفساد .
فخرج عمرو بن سالم الخزاعي ثم أحد بني كعب مع أربعين راكباً من قومه وتوجه إلى المدينة ، ودخل المسجد النبوي وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم جالساً بين الصحابة .
فبين عمرو بن سالم المصيبة والظلم الذي وقع عليهم شعراً يناشد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً :
(يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا … حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدًا … ثُمّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاك اللّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا … وَادْعُ عِبَادَ اللّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ قَدْ تَجَرّدَا … إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا … إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكّدَا … وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْت أَدْعُو أَحَدًا … وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا
هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدًا … وَقَتَلُونَا رُكّعًا وَسُجّدَا)( ).
لبيان أن خزاعة دخلت الإسلام وأن قتلاهم من الذين يؤدون الصلاة اليومية .
قأجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم (نُصِرْت يَا عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ ” ثُمّ عُرِضَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنَانٌ مِنْ السّمَاءِ فَقَالَ إنّ هَذِهِ السّحَابَةَ لَتَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ)( ).
الوفد المهيب
كما صاحبت المعجزة كل نبي من الأنبياء والرسل ، فقد جعل الله عز وجل وداً لهم في النفوس وهيبة للوحي الذي يتلقونه من بين الناس ، مع تحليهم بالتواضع وحسن الخلق .
وفي الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وهل تدل هذه الآية على قانون (لم يغز النبي (ص) أحدا) الذي صدرت بخصوصه (سبعة وعشرون) جزءً من هذا السِفر ، وقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخةِ) الذي صدر بخصوصه (أحد عشر) جزء.
وقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) الذي صدرت بخصوصه (سبعة عشر) جزءً .
وقانون (آيات الدفاع سلام دائم) الذي صدرت بخصوصه (سبعة) أجزاء ، الجواب نعم .
لبيان تصديق آيات القرآن بعضها لبعض ، وانتفاء التعارض بين العلوم والمسائل المستنبطة من القرآن .
وبعد مضي سبع سنوات على خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة [خَائِفًا يَتَرَقَّبُ] ليس معه إلا واحد من أصحابه دخلها في عمرة القضاء ومعه ألفان من الصحابة ، ومنهم عدد كثير من أهل مكة الذين هاجروا إلى المدينة بسلامة دينهم ، هذا عدا النساء والصبيان الذي يدل حضورهم في عمرة القضاء على الأمن والعز للمؤمنين .
لقد كانت القبائل تأتي إلى مكة في موسم الحج ، ولكل قبيلة منزل معلوم في منى ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة يطوف عليهم لجهات :
الأولى : دعوة القبائل جماعات وأفراداً إلى الإسلام .
الثانية : تلاوة آيات القرآن عليهم .
الثالثة : بيان المعجزات التي رزقه الله عز وجل .
الرابعة : سؤال إيوائه وحمايته من قريش.
واستجاب له وفد الآوس والخزرج من أهل يثرب ليكتب الله لهم الثناء الخالد والمتجدد كل يوم بمدحهم والمهاجرين في القرآن ، وتلاوة المسلمين لهذا المدح كل يوم في الصلاة وخارجها إلى يوم القيامة.
ومن الآيات التي تضمنت الثناء عليهم قوله تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ]( ).
وعن كعب بن مالك في كيفية عقد البيعة قال (فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بنى مازن بن النجار، وأسماء ابنة عمرو بن عدى بن نابى إحدى نساء بنى سلمة، وهى أم منيع)( ).
ويدل عدد وفد الأوس والخزرج أعلاه على متوسط عدد وفود كل قبيلة ، وإن كان هذا العدد لا يعني مجموع وفد الأوس والخزرج فقد كان منهم كفار ، ولم يحضروا عقد البيعة .
وفي عمرة القضاء تفاجئت مكة بدخول ألفين من الصحابة يحيطون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو موكب لم تشهده مكة ، لم تأت قبيلة بوفد من ستمائة أو أكثر للحج ، فكيف وقد دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العمرة بألفين من الصحابة.
وكانت أيام حج ليس بينهم وبين يوم عرفة إلا ثلاثة أيام لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة صبيحة اليوم الرابع من شهر ذي الحجة من السنة السابعة ، واشترطت قريش مدة إقامته وأصحابه في مكة بثلاثة أيام ، أي إلى اليوم السابع من شهر ذي الحجة .
وأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم محدقون به ، متوشحون بالسيوف ، لم يفارقوه ويلبون معه .
لبيان أنه عبد لله عز وجل ، لم يطرأ على أصحابه الغلو في شخصه ولكنهم يسلمون برسالته من عند الله ، قال تعالى [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا]( ).
وعبد الله بن رواحة آخذ بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القصواء وهو يرتجز بِشعره ويقول (
خَلّوا بَنِي الْكُفّارِ عَنْ سَبِيلِهِ … خَلّوا فَكُلّ الْخَيْرِ فِي رَسُولِهِ
يَا رَبّ إنّي مُؤْمِنٌ بِقَيْلِهِ … أَعْرِفُ حَقّ اللّهِ فِي قَبُولِه
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ … كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ … وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ)( ).
لقد ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه السلاح بعيداً عن مكة في موضع يسمى (يأجج).
و(قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ : ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِنْ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَهُوَ الشّهْرُ الّذِي صَدّهُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتّى إذَا بَلَغَ يَأْجُجَ وَضَعَ الْأَدَاةَ كُلّهَا الْحَجَفَ وَالْمَجَانّ وَالنّبْلَ وَالرّمَاحَ وَدَخَلُوا بِسِلَاحِ الرّاكِبِ)( ).
وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابن عمه جعفر بن أبي طالب بين يديه ليخطب له ميمونة بنت الحارث العامرية .
فخطبها له ، وهي خالة عبد الله بن عباس ، وخالد بن الوليد ، فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب ، وكانت أختها أم الفضل زوجته ، فزوجها العباس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وأشاعت قريش بأن أصحاب مكة سيأتون وفداً أنهكتهم الحروب ، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالسعي في الطواف ، والرمل وما يشبه الهرولة بعد إجتياز ركن الحجر الأسود.
ليرى المشركون في دار الندوة وغيرها قوتهم والفتوة التي يتصفون بها ، وليبعث السرور والأمل في نفوس المسلمين والمسلمات من أهل مكة الذين عجزوا عن الهجرة مع اختلاف أسباب هذا العجز.
مجئ وفد ثان للنبي محمد (ص)
لقد لجأ رجال وعوائل إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي في مكة عندما طاردهم بنو بكر .
وبديل بن ورقاء اسلم ابنه نافع قبله وقتل في بئر معونة شهيداً ، وقتل ابنه عبد الله بن بديل في صفين مع الإمام علي عليه السلام لأن خزاعة خرجت معه .
واستعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بديل بن ورقاء الخزاعي على سبي هوازن.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه بعث بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم ويسر بن سفيان إلى بني كعب الذين كانوا اعداءهم ليستنهضوهم للخروج إلى تبوك ، وشهدوها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحضر بديل حجة الوداع مع النبي محمد .
لم تكتف خزاعة بوفد عمرو بن سالم الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل بعثوا (بدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ حَتّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، فَأَخْبَرُوهُ بِمَا أُصِيبَ مِنْهُمْ وَبِمُظَاهَرَةِ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ ثُمّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إلَى مَكّةَ)( ).
ومن خصائص هذه الوفود أنهم حضروا هجوم بني بكر على خزاعة ، وعاشوا تفاصيلها ، وتأكد لهم مشاركة رجال من قريش في الهجوم على خزاعة ، فاجابهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطمأنهم .
وهل كانت خزاعة تخشى تمادي قريش وبني بكر في الغي والفتك في الحرم وخارجه ، الجواب نعم لأصالة الإستصحاب والوجدان ، فلجأوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أنه أصبح ملجأ المستضعفين والمظلومين أفراداً وجماعات وقبائل.
إخبار النبي (ص) عن قدوم أبي سفيان وغايته
بعد مجئ وفد خزاعة إلى المدينة يشكون ما نزل بهم من ظلم قريش قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : كأنكم بأبي سفيان يأتي ليشد العقد ويزيد في المدة ويرجع بغير حاجة.
أي أنه يريد الزيادة في العشر سنوات مدة وقف الحرب لما يتضمنه من منع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من معاقبة قريش على نقضها صلح الحديبية وفي قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا مسائل :
الأولى : إنه من علم الغيب الذي أطلعه الله عز وجل عليه .
الثانية : ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشخص أبي سفيان بالاسم لبيان صدقه .
الثالثة : منع إفتتان بعض الصحابة بما يقوله أبو سفيان ، والميل إلى إجارته .
الرابعة : بعث السكينة والطمأنينة في نفوس الصحابة بأن أبا سفيان يرجع خاوي الوفاض .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد خرج أبو سفيان من مكة يطوي الأرض فلقي بديل بن ورقاء في عسفان .
وظن أبو سفيان أنه قادم من المدينة ولقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخفى بديل عنه الأمر فأجابه : سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بعض هذا الوادي .
قال أبو سفيان : أوما جئت محمداً ، قال : لا.
فلما غادر بديل المحل عمد أبو سفيان إلى برك ناقته فأخذ من بعرها وفته بيده فرأى فيه النوى ، فقال : أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً ، لأن النوى علامة علف الدواب من تمر المدينة.
فبادر أبو سفيان بالتوجه إلى المدينة ، ولقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قدوم ابي سفيان على رسول الله (ص)
لم تكن إعانة قريش لبني بكر بخافية على أهل مكة وكثير منهم مسلمون ، فبعث رؤساؤها أبا سفيان إلى المدينة ، وعندما وصلها دخل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فقال: يا محمد اشدد العقد وزدنا في المدة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ولذلك قدمت ، هل كان من حدث قبلكم ، فقال معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل)( ).
متجاهلاً ما حدث لخزاعة ، وكأنه ينفي اشتراك رجال من قريش في هجوم بني بكر على خزاعة.
وخرج من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطاف على عدد من كبار المهاجرين يسألهم تجديد العقد والزيادة في المدة ، فأبوا عليه ، وقالوا جوارنا من جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وذهب إلى فاطمة الزهراء فاعتذرت وسألها أن تأمر الحسن أو الحسين ، ثم قال (قال : فكلمي عليا ، فقالت : أنت فكلمه .
فكلم عليا)( ).
فأشار على أبي سفيان بأن يكون باعلان الإجارة بين الناس مع أن هذه الإجارة لا تجزي ولا أثر لها .
وقيل أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم (قال حين أدبر أبو سفيان اللهم خذ على أسماعهم وابصارهم فلا يرونا الا بغتة ولا يسمعوا بنا الا فجأة)( ).
وبعد أن قاد أبو سفيان الجيوش ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد ، ثم معركة الخندق وسقوط الشهداء من المسلمين في كل من المعركتين دخل المدينة بعد صلح الحديبية بأمن وأمان لم يثأر منه أحد ، ولم يسمعه الصحابة كلاماً يؤذيه.
ودخل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكلمه ودخل على ابنته أم حبيبة زوج الرسول أي أنه دخل إلى بيوت النبي محمد ، ثم طاف على الصحابة ، ورجع إلى بيت فاطمة وهو مجاور لبيت عائشة ، لبيان سماحة الإسلام ، وأن رجع أبو سفيان خاوي الوفاض.
دخول أبي سفيان على أم حبيبة
حينما وصل أبو سفيان إلى المدينة واسمه صخر بن حرب بن أمية ذهب إلى بيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي قاد قبلها بخمس سنوات ثلاثة آلاف من المشركين لمحاربته في معركة أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة ، ثم حضر معركة الخندق قائداً.
لقد دخل إلى بيت ابنته أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان من زوجته الأولى صفية بنت أبي العاص وعمتها أروى بنت حرب (أم جميل) زوجة أبي لهب وكنيتها أم حبيبة نسبة إلى ابنتها من زوجها الأول ولبيان السماحة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لا يمانع في تسمية وكنية أزواجه بأسماء أبنائهن من الأزواج السابقين ، كما في أم سلمة أيضاً .
وأم حبيبة من المسلمين الأوائل ، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة ، ولكنه دخل النصرانية وأكب على الخمر حتى مات .
وسمعت أم حبيبة في رؤيا منام منادياً يناديها : يا أم المؤمنين ، فأولتها بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتزوجها ، فلما انقضت عدتها خطبها النبي محمد سنة سبع للهجرة وعمرها يومئذ (36) سنة.
وعادت من الحبشة ، وحينما جاء أبو سفيان المدينة دخل عليها وهو والدها ، فلما أراد الجلوس على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم (طوته دونه فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله وأنت امرؤ نجس مشرك. فقال: يا بنية لقد أصابك بعدي شر)( ).
وماتت أم حبيبة سنة أربع وأربعين للهجرة بالمدينة وعمرها (72) سنة .
ودخل أبو سفيان على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكلمه وطلب تمديد مدة الصلح ، فلم يرد عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فذهب (إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما أنا بفاعل ثم خرج حتى أتى عمر فكلمه فقال عمر أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لو لم أجد إلا الذرة لجاهدتكم بهم.
ثم خرج أبو سفيان حتى دخل على علي بن أبي طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها الحسن ابنها يدب.
فقال يا علي إنك أمس القوم بي رحما وأقربهم منى قرابة وقد جئت في حاجة فلا أرجعين كما جئت اشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ويحك يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه فالتفت إلى فاطمة.
فقال هل لك أن تأمرني ابنك هذا أن يجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر قالت ما بلغ ذلك ابني أن يجير بين الناس قال يا أبا الحسن إني أرى الامور قد اشتدت على ما تنصح لي قال والله ما أعلم شيئا يغنى عنك)( ).
ويدل هذا الخبر على أن أهل البيت والصحابة يعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عازم على فتح مكة بما لا رجعة فيه .
وهل هذا العزم من الوحي والإذن الإلهي ، الجواب نعم ، لبيان صحة وصواب الإختيار ، ووجود المقتضي وفقد المانع لفتح مكة في الوقت الذي أراده الله عز وجل .
والمختار أنها فتحت سلماً بفضل ولطف من عند الله ، قال تعالى [وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا]( ).
ومن معاني الآية دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المدينة مهاجراً ، ليتم بعد الهجرة فتح مكة .
أسباب فتح مكة
لقد كان فتح مكة ضرورة ، وليس من مانع دونه بعد إزدياد ومضاعفة أعداد المسلمين بعد صلح الحديبية ، وللتناسب العكسي بينه وبين النقص في أعداد المشركين لإتحاد الموضوع وذات الأفراد ، فكلما دخل فرد الإسلام نقص المشركون واحداً .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقيد بشروط صلح الحديبية مع غلظة وشدة رئيس وفد كفار قريش يومئذ ، وهو سهيل بن عمرو والذي كان أسيراً يوم بدر عند المسلمين ، وقد عجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإطلاق سراحه ببديل عنه ريثما يصل العوض .
ومع هذا تفاءل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقدومه يوم الحديبية لأنه كان يتفاءل بالأسماء ومنها اسم سهيل .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه حينما رآه قادماً (قد سهل لكم أمركم ، القوم يأتون إليكم بأرحامكم ، وسائلوكم الصلح ، فابعثوا الهدي وأظهروا التلبية لعلّ ذلك يليّن قلوبهم فلبّوا من نواحي العسكر حتّى ارتجّت أصواتهم بالتلبية .
فجاءوا، فسألوا الصلح .
وقال سهيل : هات نكتب بيننا وبينكم كتاباً)( ).
عندئذ دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ليكتب العقد فقال : أكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فأحتج سهيل وقال (ما الرحمن) فلا أدري ما هو ، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب ، فاحتج الصحابة وأبوا إلا كتابة بسم الله الرحمن الرحيم ، ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قطع احتجاجهم بالقول (اكتب باسمك اللهم)( ).
ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ، فبادر سهيل بالقول (والله لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك)( ).
وفيه حجة على قريش بأنهم هم الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأرادوا قتله ، ولا ملازمة بين حرمة القتال وصدق النبوة ، فقتال قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حرام وقبيح عقلاً وشرعاً ، لأنه ظلم وتعد ، وهو من جور وطغيان قريش.
وقد خرجت بعض الأصوات بينهم بترك قتاله كما في قول عتبة بن ربيعة بعد جدال وحوار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإغرائه بالأموال والنساء ، ليتوقف عن دعوته للإسلام فقرأ عليه النبي سورة حم السجدة حتى مرّ بالسجدة فسجد .
فرجع عتبة إلى نادي قومه إذ كانوا بانتظاره (فجلس إليهم فقال : يا معشر قريش قد كلمته بالذي أمرتموني به . حتى إذا فرغت كلمني بكلام لا والله ما سمعت أذناي بمثله قط ، فما دريت ما أقول له.
يا معشر قريش أطيعوني اليوم ، واعصوني فيما بعده . اتركوا الرجل واعتزلوه ، فوالله ما هو بتارك ما هو عليه ، وخلوا بينه وبين سائر العرب ، فإن يكن يظهر عليهم يكن شرفه شرفكم ، وعزه عزكم ، وملكه ملككم ، وان يظهروا عليه تكونوا قد كفيتموه بغيركم . قالوا : أصبأت إليه يا أبا الوليد)( ).
أي ملت إليه وإلى دين الإسلام ، وفي رواية أن عتبة قال لهم (وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ وَعِزّهُ عِزّكُمْ وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النّاسِ بِهِ قَالُوا : سَحَرَك وَاَللّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ قَالَ هَذَا رَأْيِي فِيهِ فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ)( ).
دعاء النبي (ص) عند التوجه لفتح مكة
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إعلانه العام التوجه إلى مكة لفتحها بعد نقض قريش العهد مع إحترازه بالدعاء إذ سأل الله عز وجل أن يعمي عنهم أخبار هذا المسير ، وتفاصيله من جهة كثرة الصحابة والسلاح ، ونية دخول مكة حتى تتم مباغتتهم (ثم ان رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلم الناس أنه سائر الى مكة وأمر بالجد والتهيؤ ، وقال اللهم خذ العيون والاخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها فتجهز الناس)( ).
ترى لماذا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله عز وجل خفاء المسير عن قريش فيه مسائل :
الأولى :الدعاء سلاح الأنبياء.
الثانية : قانون تقديم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء في إنجاز الحوائج .
الثالثة : بيان قانون حاجة المسلمين للدعاء في أمور دينهم ودنياهم .
الرابعة : إرادة قلة الخسارة من الفريقين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الخامسة : قانون حرمة مكة ، وحرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على منع سفك الدماء فيها (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض والشمس والقمر ، ووضع هذين الاخشبين فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة.
وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا يلتقط لقطتها إلا من عرفها .
قال العباس : إلا إلإِذخر فإنه لقينهم وبيوتهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إلا الإِذخر)( ).
السادسة : قانون الدعاء مدد للنبوة .
السابعة : قانون تعليم المسلمين ضرورة اللجوء إلى الدعاء في السراء والضراء ، قال تعالى [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ]( ).
الثامنة : زيادة إيمان المسلمين بتجلي منافع الدعاء وتحقق مصداقه بمباغتة قريش من غير أن يستعدوا للقتال ، ويجمعوا القبائل الحليفة لهم ، ومنهم بنو بكر الذين نقضت قريش صلح الحديبية بسببهم .
التاسعة : منع قريش من تسخير الأموال في التجهيز للدفاع .
العاشرة : إرادة سلامة المسلمين والمسلمات الذين في مكة ، وصرف كفار قريش عن البطش بهم ، وبعموم بني هاشم الذين بقوا فيها .
الحادية عشرة : سلامة البيت الحرام وتعاهد قدسيته ، وفتح مكة مناسبة لتطهيره وتحقيق مصاديق قوله تعالى في أمره إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام [أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
ليتحقق المصداق الدائم لمضمون هذه الآية يوم فتح مكة ويبقى متصلاً ومتجدداً على نحو يومي إلى يوم ينفخ في الصور.
وهل له موضوعية بصرف ضروب من البلاء وإرجاء يوم النفخ في الصور ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، وكنه عدم إطلاع الله الناس على أوان يوم النفخ هذا.
ولبيان موضوعية دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات في محو البلاء ، وفي جلب النفع والخير ، ومنه فتح مكة سلماً بعد ثلاث سنوات على هجوم عشرة آلاف من قريش وحلفائها على المدينة في معركة الأحزاب .
فذات هذه التباين معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كانت قريش تمنع النبي محمداً وأصحابه من الصلاة في البيت الحرام قبل الهجرة مع الأذى الشديد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وهو يتلو القرآن أو في حال السجود .
ليدخل عشرة آلاف مسلم المسجد الحرام يصلون جماعة خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معجزة ظاهرة له .
الثانية عشرة : كتمان سير المسلمين إلى مكة شاهد على تقيد الصحابة بطاعة الله ورسوله ، ولا عبرة بالفرد النادر الذي فضحه الله كما في كتاب حاطب بن أبي بلتعة البدري حليف بني أسد إلى أهل مكة والذي تقدم ذكره.
الرابعة عشرة : السعي للحوائج بكتمان أمر حسن ذاتاً قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود)( ).
الخامسة عشرة : قانون حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على منع سفك الدماء ، وهذا الحرص من الخصال المصاحبة للنبوة ، ومنه بيان وظيفتهم في البشارة والإنذار ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
قانون فتح مكة استئصال لعبادة الأوثان
الأصل هو فتح مكة من دون أسباب حالة ومباشرة لأنه حق وحاجة للناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
ففي فتح مكة استئصال لعبادة الأوثان ، وإزاحة لثلاثمائة وستين صنماً منصوبة في البيت الحرام ، قال تعالى [وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ) لبيان قانون وجوب طهارة البيت الحرام من الأوثان وأفعال الشرك وقانون تطهير البيت متجدد ومستمر ، ومن وظائف النبوة.
وتدل هذه الآية على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء لأنه طهر البيت الحرام من مفاهيم الشرك إلى الأبد ، فلا تدّب عبادة الأوثان ومفاهيم الشرك إلى البيت الحرام .
ومع هذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقيد بشرط صلح الحديبية ، ومن معجزاته توجه ملايين المسلمين من مشارق مغارب الأرض للبيت الحرام قبلة في صلاتهم خمس مرات في اليوم .
وأيام النبوة كان المسلمون يتوجهون إلى البيت الحرام في صلاتهم ، إذ نزل تحويل القبلة من بيت المقدس بعد أن استقبله سبعة عشر شهراً من حين هجرته إلى المدينة يثرب.
ولم يكن تحويل القبلة بالأمر السهل أو الخالي من المشاق والشكوك من أهل الريب ، فقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتطلع إلى تحويل القبلة ويتوق إلى إستقبال البيت الحرام في الصلاة ، وسأل جبرئيل عن الأمر (فقال له جبريل : إنما أنا عبد مثلك ، ولا أملك لك شيئاً إلا ما أمرت ، فادع ربّك وسله.
فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأل)( ) فأنزل الله[قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ]( ) .
وعن ابن عباس : أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وعن ( البراء بن عازب : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أخواله من الأنصار ، وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً ، وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت.
وأن أول صلاة صلاها صلاة العصر ، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه ، فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الكعبة ، فداروا كما هم قبل البيت ثم أنكروا ذلك.
وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجالاً وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله {وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم}( ))( ).
إعلان المسير إلى مكة
بعد أن جاء وفد خزاعة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واشتكوا له إعانة قريش لبني بكر عليهم بالسلاح والرجال وسقوط القتلى من خزاعة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالتجهز للتوجه إلى مكة .
وهل هذا الأمر من الوحي ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وذكرت الآية أعلاه نطق وكلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان الأولوية بأن أفعال النبي من الوحي ، لذا تلقى المهاجرون والأنصار نبأ التوجه إلى مكة بالقبول والرضا وأنه حق وصدق ، وقال حسّان بن ثابت في تحريض المسلمين والتذكير بمصاب رجال خزاعة :
(عَنَانِي وَلَمْ أَشْهَدْ بِبَطْحَاءِ مَكّةٍ … رِجَالُ بَنِي كَعْبٍ تُحَزّ رِقَابُهَا
بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَسُلّوا سُيُوفَهُمْ … وَقَتْلَى كَثِيرٌ لَمْ تُجَنّ ثِيَابُهَا
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَنَالَنّ نُصْرَتِي … سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَخْزُهَا وَعُقَابُهَا
وَصَفْوَانُ عَوْدٌ حَنّ مِنْ شُفْرِ اسْتِهِ … فَهَذَا أَوَانُ الْحَرْبِ شُدّ عِصَابُهَا
فَلَا تَأْمَنَنّا يَا ابْنَ أُمّ مُجَالِدٍ … إذَا اُحْتُلِبَتْ صَرْفًا وَأَعْصَلَ نَابُهَا
ولاَ تَجْزَعُوا مِنّا فَإِنّ سُيُوفَنَا … لَهَا وَقْعَةٌ بِالْمَوْتِ يُفْتَحُ بَابُهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُ حَسّانَ (بأيدي رِجَالٍ لَمْ يَسُلّوا سُيُوفَهُمْ) يَعْنِي قُرَيْشًا ، (وَابْنُ أُمّ مُجَالِدٍ) يَعْنِي عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ)( ).
كتاب حاطب إلى قريش
من الآيات التي تخص فتح مكة في سبب نزولها قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ]( ) إذ نزلت في الصحابي حاطب بن أبي بلتعة مع أن موضوع الآية باق إلى يوم القيامة للتضاد بين عداوة الكفار لأهل الإيمان واتخاذهم أولياء أو حتى بطانة ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
ومن معاني البطانة الخاصة والمستشار والمطلع على السري .
إذ اتفق اثناء التهيئ لخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة لدخول مكة مجئ مولاة لابي عمرو بن صيفي من بني هاشم اسمها سارة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قادمة من مكة ، فسألها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمسلة جئت .
قالت : لا .
قال : أمهاجرة جئت .
قالت : لا .
فلم يغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل سألها .
(قال : فما جاء بك .
قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني .
فقال لها : فأين أنت من شباب مكة.
وكانت مغنية نائحة .
قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر ، فحثّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليها بني عبد المطلب وبني المطلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة)( ).
وعلم حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى وأعطاها عشرة دنانير كما عن ابن عباس وحملهّا كتاباً إلى أهل مكة وفيه (من حاطب بن أبي بلتعة الى أهل مكة،
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم} يريدكم فخذوا حذركم)( ).
وفي رواية أن الكتاب تضمن (أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم وأنجز له موعده فيكم فإن الله وليه وناصره)( ).
فخرجت سارة من المدينة متوجهة إلى مكة فنزل جبرئيل وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما فعل حاطب ، فبادر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعث (عليّاً وعمّار وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مريد وكانوا كلهم فرساناً،
وقال لهم : أنطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فأن بها ظعينة معها كتاب من حاطب الى المشركين فخذوه منها وخلّوا سبيلها،
وأن لم تدفعه أليكم فاضربوا عنقها)( ).
وفيه مسائل :
الأولى : الدقة والضبط وتعيين الضعينة والمحل الذي يجدونها فيه واسم باعث الكتاب إلى أهل مكة .
الثاني : بيان الضرر الفادح الذي يترتب على وصول الكتاب إلى أهل مكة ، والمنع من حدوثه ، وهذا المنع ببركة الوحي ، لبيان قانون الوحي مدد في فتح مكة سلماً .
الثالث : تعدد الصحابة الذين خرجوا للحوق بالمرأة وهم من كبار الصحابة ، وكلهم فرسان للتعجيل بطي الأرض ، واللحاق بها ، والفرس أسرع من الناقة.
الرابع : منع سارة من الوصول إلى مكة إذا لم تخرج الكتاب الذي معها.
الخامس : ولو قتلت لبقي الكتاب في ظفيرتها لا يعلم به أحد إلا الله والرسول.
وأدركوها في روضة خاخ وهي قريبة من المدينة قرب حمراء الأسد على مسيرة يوم للماشي من المدينة ، وكانت من أحماء المدينة ، ولكثرة الأشجار فيها اتخذها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لرعي خيل وإبل وأغنام بيت أموال المسلمين ، وكذا الخلفاء من بعده .
وأدركها الصحابة في ذات المكان كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا لها : أين الكتاب .
فانكرت وجود الكتاب عندها ، وأقسمت بالله ليس معها كتاب ، فقاموا بتفتيش متاعها فلم يجدوا معها كتاب (فهمّوا بالرجوع فقال علي عليه السلام والله ما كذبنا ولا كذّبنا وسلّ سيفه وقال : أخرجي الكتاب وإلاّ والله لا جرّدنّك ولأضربنّ عنقك. فلما رأت الجد أخرجت من ذؤابتها قد خبأتها في شعرها ، فخلّوا سبيلها ولم يعترضوا لها ولا لمن معها ورجعوا بالكتاب الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
قبول النبي (ص) اعتذار حاطب
ورد عن أبي رافع (يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيًّا –عليه السلام- يَقُولُ بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ : انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا.
فَذَهَبْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِى الْكِتَابَ فَقَالَتْ مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ .
فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ . فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا فَأَتَيْنَا بِهِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم – فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ بِمَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم)( ).
فارسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حاطب وسأله : هل تعرف هذا الكتاب ، قال : نعم .
قال : فما حملك على ما صنعت .
فاعتذر حاطب إذ قال (فقال : يا رسول الله والله ما كفرتُ منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أجبتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته ، وكنت عزيزاً فيهم ، وكان أهلي بين ظهرانيهم ، فخشيت على أهلي فاردتُ أن أتخذ عندهم يداً ، وقد علمت أنَّ الله ينزل بهم بأسه ، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً. فصدّقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعذره)( ).
وحاطب بن بلتعة أصله من اليمن ، وله حلف في مكة مع بني أسد بن عبد العزى رهط الزبير بن العوام ، وشهد حاطب معركة بدر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من أسباب عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه .
وهل كشف أمر هذه الرسالة من مصاديق استجابة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه (اللّهُمّ خُذْ الْعُيُونَ وَالْأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتّى نَبْغَتَهَا فِي بِلَادِهَا)( )، الجواب نعم .
تحسس قريش الأخبار
لقد بلغ قريشاً أن محمداً زاحف بجيوش عظيم لا تدري الجهة التي يتوجه إليها ويطلبها ، وحتى مع إشعال النيران لم تعلم قريش بأنها لجيوش الإسلام ، إذ قال بديل بن زرقاء (هذه والله خزاعة حمشتها الحرب.
قال أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها)( ).
فسمعها العباس بن عبد المطلب فقال : ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الناس .
فقال ابو سفيان : واصباح قريش والله فما الحيلة ، قال العباس (لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك.
قال: فركب خلفي ورجع صاحباه.
وقال عروة: بل ذهبا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلما وجعل يستخبرهما عن أهل مكة)( ).
وفي كتب السيرة ذِكرٌ كثير لأبي سفيان والعباس بن عبد المطلب في طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعشرة آلاف من الصحابة إلى مكة لكل واحد قصة ، وكذا بالنسبة لمئات من أهل مكة في كيفية استقبالهم النبي وأصحابه.
فوقائع الفتح لا تختزل في شخص كافر تردد في اسلامه يومئذ ثم أسلم.
فالبركة والعز في عشرة آلاف مسلم دخلوا مكة فاتحين لها بالسلم والتكبير والتهليل ، وتلقاهم أهلها بالغبطة والرضا .
خطط فتح مكة
لم يدخل المسلمون مكة من جهة واحدة بل دخلوها من جهات متعددة بتوجيه وتعيين من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو الذي اختار الأمراء ، وأصحاب الألوية والرايات ، وعيّن المداخل من جهات أربعة ، لوجوه :
الأول : تفويت الفرصة على المشركين في الدفاع .
الثاني : بيان قوة الإسلام .
الثالث : الشكر العملي لله عز وجل .
الرابع : تحقيق الوصول الآمن إلى البيت الحرام ، لتنجز مصداق بأنه أمن وسلام ، قال تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( ).
الخامس : حقن الدماء .
إذ قسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين إلى أربع فرق وهي :
الأولى : فرقة تدخل مكة من أعلاها برئاسة الزبير بن العوام .
الثانية : فرقة بقيادة خالد بن الوليد تدخل مكة من أسفلها أي من خلف جبل أبي قبيس وهي الفرقة الوحيدة التي لاقت قتالاً عند الخندمة عندما اقتربت من جبل أبي قبيس .
الثالثة : فرقة تدخل مكة من جهة الشرق ، وفيها من المهاجرين برئاسة أبي عبيدة بن الجراح .
الرابعة : فرقة برئاسة سعد بن عبادة من الأنصار تدخل من جهة بين فرقة أبي عبيدة وفرقة خالد بن الوليد .
توجه النبي لفتح مكة
بعد مجئ وفد خزاعة إلى المدينة في شكواهم على قريش أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالتجهز وأخبرهم أن وجهته هي مكة بعد نقض قريش صلح الحديبية ، وبعث النبي للتورية سرية من ثمانية رجال برئاسة أبي قتادة بن ربعي إلى موضع اسمه (بطن إضم) لتضليل المشركين.
ونصب جماعات برئاسة عمر بن الخطاب في مداخل المدينة للتحقق في الداخلين إليها والخارجين منها ، والتحفظ على من سار في طريق المدينة إلى مكة كيلا تصل الأخبار إلى قريش.
ليكون دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباغتاً لهم ليس خشية وخوفاً منهم ، فقد صاروا قلة ، ولكن لحقن الدماء ومنع الإقتتال ، وبيان أن فتح مكة معجزة تمت بفضل من الله عز وجل .
فخرج وأصحابه من المدينة في العاشر من شهر رمضان ، وأرسل إلى القبائل المسلمة حول المدينة (اسلم ، ومزينة ، وجهينة ، وغفار ، وسُليم) باللحوق به ، فكان عدد أفراد الجيش عشرة آلاف ، وهذا العدد معجزة وتأكيد لتثبيت معالم الإيمان في الأرض.
وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه صائمين حتى إذا بلغوا الكديد أفطر ، ودخل مكة في العشرين من شهر رمضان مفطراً ، قال تعالى [أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
ووصل النبي وأصحابه إلى وادي الظهران ، ويسمى في هذا الزمان وادي فاطمة ، وهو قريب من مكة يبعد عنها 22 كم ، ولم تعلم قريش بوصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع قربهم من مكة ، وهو من مصاديق استجابة الله لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد عميت عليهم الأخبار (وخرج في تلك الليالى أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء يتجسسون الاخبار وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به)( ).
ومع هذا فقد بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عيوناً بين يديه وخيلاً يقتصون الأخبار ، ويحبسون العيون ، فأخذت خيل المسلمين أبا سفيان وصاحبيه .
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بأن يشعل كل واحد منهم ناراً ، فارتفعت عشرة آلاف موقد وشعلة من أصحابه لتصيب قريشاً بالفزع والخوف.
سبق رسائل الأمان فتح مكة
حينما توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكة لم يوجه رسائل تهديد ووعيد لأعدائه من قريش الذين أوغلوا في دماء المسلمين ، وبقصد الفت من عضدهم ، وبعث الفزع والخوف في نفوسهم ، إنما بعث قبله رسائل اطمئنان ودعوة للسلم والأمن .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دخل المسجد الحرام فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن .
وذكر أن العباس بن عبد المطلب قال (يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبّ الْفَخْرَ فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا قَالَ نَعَم مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِنٌ)( ).
لقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالإنتظام بكتائب ، وكانت كل قبيلة بكتيبة خاصة ، وتتوسطهم كتيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيها المهاجرون والأنصار لا يُرى منهم إلا الحدق من الحديد.
وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة الذي قال (الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمَ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ الْيَوْمَ أَذَلّ اللّهُ قُرَيْشًا . فَلَمّا حَاذَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ سَعْدٌ.
قَالَ وَمَا قَالَ فَقَالَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بَلْ الْيَوْمَ يَوْمٌ تُعَظّمُ فِيهِ الْكَعْبَةُ الْيَوْمَ يَوْمٌ أَعَزّ اللّهُ فِيهِ قُرَيْشًا .
ثُمّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ سَعْدٍ فَنَزَعَ مِنْهُ اللّوَاءَ وَدَفَعَهُ إلَى قَيْسٍ ابْنِهِ وَرَأَى أَنّ اللّوَاءَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ سَعْدٍ إذْ صَارَ إلَى ابْنِهِ)( ).
وكان حسان بن ثابت قد تصور في شعره فتح مكة قبل الفتح ، وكيف أن نساء سيلطمن الخيل بخمرهن وأن دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون من كداء .
فعندما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة رأى نساء يضربن الخيل بالخمر فتبسم وذكر استشراق حسان ، فقال لأبي بكر كيف قال حسان.
فانشده (عَدِمْنَا خَيْلَنَا إنْ لَمْ تَرَوْهَا … تُثِيرُ النّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ
يُنَازِعْنَ الْأَعِنّةَ مُصْغِيَاتٍ … عَلَى أَكْتَافِهَا الْأَسَلُ الظّمَاءُ
تَظَلّ ، جِيَادُنَا مُتَمَطّرَاتٍ … يُلَطّمُهُنّ بِالْخُمُرِ النّسَاءُ
فَإِمّا تُعْرِضُوا عَنّا اعْتَمَرْنَا … وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ
وَإِلّا فَاصْبِرُوا لِجِلَادِ يَوْمٍ … يُعِينُ اللّهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ)( ).
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ادخلوها من حيث قال حسان ، وهو من مصاديق دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له إذ قال له (أن روح القدس لن يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله)( ).
لقد أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسائل أمان لجميع أهل مكة بأن من دخل المسجد الحرام فهو آمن .
ولم يكن المسجد الحرام بمعشار سعته في هذا الزمان ، لذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ومن أغلق بابه فهو آمن)( ).
ليدل هذا القول بالدلالة التضمنية على حرمة السلب والنهب من بيوت مكة ، وأن دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها ليس غزوة أو ثاراً أو انتقاماً إنما هو تحرير لأهلها من عبادة الأوثان .
وألقى حسان بن ثابت قصيدته ومنها (
عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ … إلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خَلَاءُ
دِيَارٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَفْرٌ … تُعَفّيهَا الرّوَامِسُ وَالسّمَاءُ
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ … خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
فَدَعْ هَذَا ، وَلَكِنْ مَنْ لِطَيْفِ … يُؤَرّقُنِي إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
لِشَعْثَاءَ الّتِي قَدْ تَيّمَتْهُ … فَلَيَسَ لِقَلْبِهِ مِنْهَا شِفَاءُ
كَأَنّ خَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ … يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ
إذَا مَا الْأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْمًا … فَهُنّ لِطَيّبِ الرّاحِ الْفِدَاءُ
نوَلّيهَا الْمَلَامَةَ إنْ أَلَمْنَا … إذَا مَا كَانَ مَغْثٌ أَوْ لِحَاءُ
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا … وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللّقَاءُ)( ).
دخول النبي (ص) مكة خاشعاً
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة يحيط به المهاجرون والأنصار ، لا يستطيع أحد اختراقهم حتى من قبل أفراد القبائل التي حضرت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة من أعلاها بعد ثمان سنوات من خروجه من أسفلها خائفاً مستضعفاً ، لقد دخلها بتواضع وخشوع معتجزا بشقة بردة حمراء يضع رأسه تذللاً لله عز وجل .
و(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لَمّا انْتَهَى إلَى ذِي طُوًى وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُعْتَجِرًا بِشُقّةِ بُرْدٍ حِبَرَةٍ حَمْرَاءَ ، وَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِيَضَعَ رَأْسَهُ تَوَاضُعًا لِلّهِ حِينَ رَأَى مَا أَكْرَمَهُ اللّهُ بِهِ مِنْ الْفَتْحِ حَتّى إنّ عُثْنُونَهُ لَيَكَادُ يَمَسّ وَاسِطَةَ الرّحْلِ)( ).
وفيه شاهد على دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلماً إذ أنه لم يشتغل بتوجيه الجيوش للقتال والمبارزة بل كان منقطعاً إلى الله عز وجل ، وكان وهو على راحلته يتلو سورة الفتح ويرجع في قراءتها (عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ عَلَى نَاقَةٍ لِأُسَامَةَ حَتّى أَنَاخَ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ)( ).
لقد ضربت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبّة في الحجون ، ولم يخُرج أحداً من بعض بيوت بني هاشم التي باعها عقيل ظلماً وعدواناً، ولم يسأل عن بيت فارغ أو يفرغ له مع أن زوجته أم سلمة معه .
ثم توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى البيت الحرام يمشي المهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وعلى جانبيه حتى طاف بالبيت مع الأعداد الكثيرة التي كانت تطوف حوله .
لذا استلم الركن بالمحجن كراهة مزاحمة الذين في المطاف ، والمحجن عصا طرفها معكوف .
لقد صدّت قريش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سبع سنوات عن البيت الحرام بغير حق ، حتى جاءت عمرة القضاء ، وكان عدد الذين حضروا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها الفين ، ولكن بعدها بعام كان الفتح ومع النبي عشرة آلاف من الصحابة .
وهذه الأضعاف العددية مع قصر المدة بينهما من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية ، والشواهد على صدق نبوته.
فهذا الإطراد العددي معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فان خاف بعضهم المجئ إلى عمرة القضاء خشية انقضاض كفار قريش عليهم ، فقد خرجوا جميعاً للفتح وإزاحة المشركين ومفاهيم الكفر والضلالة عن البيت الحرام .
و(عن أنس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح وذقنه على رحله متخشعا)( ).
وفيه مسائل :
الأولى : تجلي مصداق العبودية لله عز وجل ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (اتخذني الله عبداً قبل أن يتخذني نبياً).
الثانية : إنشغال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشكر لله ، وفي التنزيل [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
الثالثة : تأديب الصحابة بالعناية بحرمة مكة ، والإمتناع عن النهب والسلب .
الرابعة : ترك رسالة نبوية لأجيال المسلمين في التأدب والخشوع عند دخول البيت الحرام .
الخامسة : توبيخ قريش على محاربتها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : الدعوة العملية العاجلة بازاحة الأصنام من البيت الحرام .
فتح مكة
ويسمى الفتح الأعظم ، وقد تم في اليوم العشرين من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة ، الموافق 10 يناير سنة 630 م .
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فبعد أن خرج من مكة وليس معه إلا واحد من أصحابه في خوف وحيطة من كفار قريش الذين أرادوا قتله في تلك الليلة التي هاجر فيها ليعود إلى مكة بعد ثمان سنوات ومعه عشرة آلاف من الصحابة مدججين بالسلاح ، ومع أنه ليس في مكة جيش للمشركين يمنع هذا الزحف المبارك ، فقد قسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة إلى كتائب تدخل مكة من جهات متعددة ، وكان أكثر أهل مكة يومئذ مسلمين كما عن الإمام الصادق عليه السلام .
ترى ماذا يعني فتح مكة ، فيه وجوه :
الأول : بسط سيادة أحكام الإسلام في مكة المكرمة .
الثاني : دخول أهل مكة ومن حولها الإسلام ، وهو من مصاديق [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
الثالث : كسر الأصنام التي في البيت الحرام ، وعددها ثلاثمائة وستون صنماً ، وإزاحة مفاهيم الشرك عن الصدور .
الرابع : تعيين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والياً على مكة لبيان أن مقاليد الحكم فيها تابعة لعاصمة الإسلام المدينة المنورة حيث يتولى شؤون الحكم وتبليغ الأحكام الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يغادر النبي محمد مكة عند الفتح إلا بعد أن عيّن عتّاب بن أسيد والياً عليها .
الخامس : الرد العملي على نقض كفار قريش لبنود صلح الحديبية باعانتهم بالخفاء حلفاءهم بني بكر ومدّهم بالرجال والسلاح للهجوم والإغارة على خزاعة وهم الذين دخلوا يوم الحديبية في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتحتمل اعانة قريش هذه لبني بكر وجوهاً :
الأول : للحلف الذي يربطهم مع بني بكر .
الثاني : الإنتقام من خزاعة لأنهم سارعوا في الدخول في عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الحنق والغيظ والعداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار هو الثاني والثالث أعلاه .
دخول النبي (ص) مكة
لقد دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة من أعلاها وأصحابه يسمعونه يقرأ سورة الفتح ، ويرجع بالقراءة ، وكان مطرقاً برأسه إلى الأرض خشوعاً وشكراً لله عز وجل.
و(عن أنس قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح وذقنه على رحله متخشعا)( ) .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخبر أصحابه في المدينة في سنوات الهجرة بأن الله عز وجل سيفتح عليه مكة كما ورد (عن جابر قال : كنت ممن لزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخلت معه يوم الفتح.
فلما أشرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أذاخر، ورأى بيوت مكة، وقف عليها فحمد الله – وأثنى عليه، ونظر إلى موضع قبته فقال: هذا منزلنا يا جابر حيث تقاسمت قريش علينا في كفرها.
قال جابر : فذكرت حديثا كنت سمعته منه قبل ذلك بالمدينة ، منزلنا إذا فتح الله علينا مكة في خيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر)( ).
ولم ينزل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين دخل مكة في قصر ولا في بيوت بني هاشم ، بل ضرب له أبو رافع (قبة بالحجون من أدم، فاقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتهى إلى القبة، ومعه أم سلمة، وميمونة زوجتاه)( ).
والقبة هنا هي التي تعمل من الجلد المدبوغ أدنى من الخيمة.
وعن أسامة بن زيد أنه قال يومئذ (يا رسول الله، أين تنزل بنا غَداً ، قال صلى الله عليه وسلم: وهل ترك لنا عَقِيلٌ من منزل .
وفي رواية : هل ترك لنا عَقِيلٌ من رباع أو دور ، وكان عقيلٌ ورث أبا طالب وطالباً، ولم يرثْ علي ولا جعفر شيئاً؛ لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرينِ إذ ذاك)( ).
ولكن ليس السبب الميراث ، إنما يدل كلام النبي بصيغة الإستفهام الإنكاري على أنه لا يحق لعقيل بيع دور بني هاشم الذين هاجروا إلى المدينة فاصحابها أحياء .
كما استولى بعض رؤساء قريش على دور وأملاك عدد من المهاجرين وباعوها بغير حق ، ولم يؤاخذهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان فتح مكة نعمة عظمى.
ومما يروى بخصوص هذه القبة واصدار الأوامر منها ، وتلقي البيعة فيها من عدد من الرجال والنساء .
وعن (أم وبرة بنت الحارث قالت جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو نازل بالأبطح وقد ضربت عليه قبة حمراء فبايعناه واشترط علينا قالت فنحن كذلك إذ أقبل سهيل بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي كأنه جمل أورق فلقيه خالد بن رباح أخو بلال بن رباح وذلك بعدما طلعت الشمس.
فقال ما منعك أن تعجل الغدو على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا النفاق والذي بعثه بالحق لولا بشئ لضربت بهذا السيف فلحتك وكان رجلا أعلم.
فانطلق سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألا ترى ما يقول لي هذا العبيد.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعه عسى أن يكون خيرا منك فالتمسه فلا تحده وكانت هذه أشد عليه من الأول)( ).
قتال في الخندمة
لقد أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد أن يدخل مكة من أسفلها ، وهذه هي المرة الأولى التي يتولى فيها خالد الأمرة ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (َقَالَ لِخَالِدٍ وَمَنْ مَعَهُ إنْ عَرَضَ لَكُمْ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَاحْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتّى تُوَافُونِي عَلَى الصّفَا فَمَا عَرَضَ لَهُمْ أَحَدٌ إلّا أَنَامُوهُ)( ).
ولم يثبت هذا القول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل أنه وجه اللوم لخالد بمرآى ومسمع من الصحابة عن قتاله.
(وجاء خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لم قاتلت وقد نهيت عن القتال ، فقال: هم يا رسول الله بدأونا بالقتال، ورشقونا بالنبل، ووضعوا فينا السلاح، وقد كففت ما استطعت، ودعوتهم إلى الإسلام، وأن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فأبوا، حتى إذا لم أجد بداً قاتلتهم، فظفرنا الله عليهم وهربوا في كل وجهٍ يا رسول الله.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قضى الله خيراً ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا معشر المسلمين، كفوا السلاح)( ).
وكان مع خالد قبيلة (أَسْلَمُ وَسُلَيْمٌ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَقَبَائِلُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى الرّجّالَةِ وَالْحُسّرِ وَهُمْ الّذِينَ لَا سِلَاحَ مَعَهُمْ)( ).
لقد تجمع عدد قليل من قريش بالخندمة ليقاتلوا المسلمين منهم صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل.
والخندمة موضع في مكة قريب من البيت الحرام ، ومن جبل أبي قبيس أي أن المسلمين دخلوا مكة من أطرافها الأخرى من غير قتال ، وقال ابن أثير هو جبل معروف عند مكة.
(عن ابن عباس قال قلت لأبي يا أبه كيف أسرك ابو اليسر –أي يوم بدر- ولو شئت لجعلته في كفك قال يا بني لا تقل ذلك لقد لقيني وهو أعظم في عيني من الخندمة جبل بمكة)( )وسرعان ما تفرقوا .
معجزة قلة قتلى فتح مكة
لقد أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وعامة المسلمين بعدم القتال عند دخول مكة ، وفيه بشارة انتفاء المقاومة وتجمع قريش للقتال ، وهو من أسرار حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كتمان أمر التوجه إلى مكة مع أن عدد أفراد الجيش عشرة آلاف ، والمسافة (450) كم بين المدينة ومكة ، ويسير الركبان بينهما ، ولم يقتل من المسلمين إلا ثلاثة ، إذ قتل كرز بن جابر الفهري وخنيس بن خالد الخزاعي وكانا في خيل خالد بن الوليد فشذا عنه ، وسارا في طريق غير طريقه ، فتلقاهما جمع من كفار قريش.
وقُتل خنيس قبل كرز بن جابر (فجعله كرز بين رجليه ثم قاتل حتى قتل وهو يرتجز :
قد علمت صفراء من بني فهر … نقية الوجه نقية الصدر
لأضربن اليوم عن أبي صخر … وكان حبيش يكنى أبا صخر)( ).
و(أصيب من المشركين قريب من اثنى عشر رجلا أو ثلاثة عشر رجلا ثم انهزموا.
وقال ابن سعد قتل أربعة وعشرون رجلا من قريش وأربعة من هذيل)( ).
والمختار أن عدد قتلى المشركين يوم فتح مكة هو سبعة ، وقد ذكرته في الجزء السادس والستين بعد المائة من هذا السفر ص 272.
وقد كان حماس بن قيس من بني بكر يعد سلاحه عشية دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة ويصلح منه.
فقالت له امرأته : لماذا تعد ما أرى ، والله ما اراه يقوم لمحمد وأصحابه شئ .
لبيان تسليم أهل مكة بكثرة وقوة عدد المسلمين والوهن الذي أصاب قريشاً ، ولكنه أصر قائلاً (وَاَللّهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ أُخْدِمَك بَعْضَهُمْ ثُمّ قَالَ :
إنْ يُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَا لِي عِلّةٌ … هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلَهْ
وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السّلّهْ)( ).
وفيه دلالة بأن نفراً من المشركين هم الذين بدأوا القتال ، ولكنهم سرعان ما انهزموا بعد أن قُتل نفر منهم ، وفرّ حماس ودخل بيته ثم قال لامرأته اغلقي عليّ بابي ، مما يدل على علمهم بقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أغلق بابه عليه فهو آمن من قبل أن يقاتلوا.
فقالت امرأته : فأين ما كنت تقول.
لبيان دخول الخزي للمشركين إلى بيوتهم فانشد شعراً يبين فيه فرار كبار رجال قريش وأنه أولى منهم بالفرار من سيوف المسلمين .
إذ قال (إنّكِ لَوْ شَهِدْت يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ … إذْ فَرّ صَفْوَانُ وَفَرّ عِكْرِمَهْ
وَأَبُو يَزِيدَ( ) قَائِمٌ كَالْمُوتَمَهْ … وَاسْتَقْبَلَتْهُمْ بِالسّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ
يَقْطَعْنَ كُلّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ … ضَرْبًا فَلَا يُسْمَعُ إلّا غَمْغَمَهْ
لَهُمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ … لَمْ تَنْطِقِي فِي اللّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ)( ).
سورة قريش حجة وبرهان
لقد نزل في مكة قوله تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ).
لبيان شرط استدامة النعمة بعبادة الله عز وجل وحده ، ولم يرد لفظ [رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] أو (رب البيت) إلا في الآية أعلاه لتذكير قريش بأنهم أولى الناس بعبادتهم لله لأنهم مجاورون للبيت الحرام الذين يملي عليهم إكرامه.
ولوجوب الشكر لله عز وجل على حال الغنى التي صارت عليها قريش مع أنه ليس من زراعة وحقول في مكة ، والأمن والشأن لهم بين الناس بأن تسير قوافلهم في الصحارى بأمان ، ولا تتعدى عليها القبائل والتي تتصف بالسلب والنهب ، وغزو بعضهم بعضاً.
إذ أن هذه القبائل تحتاج قريشاً بأن تفد عليها في موسم الحج ، وينزل رؤساؤها ضيوفاً على رجالات قريش وكأن هذه الضيافة أشبه بالإجارة كما كانوا يقترضون المال من قريش .
واختصت قريش بسورة قريش للإنذار والتذكير بنعم الله عز وجل عليهم ، ولزوم المبادرة إلى الإسلام.
و(عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ويل أمكم يا قريش لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.
ومن النعم التي تدل عليها سورة قريش عطفها الموضوعي على سورة الفيل ، فهي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف الجر اللام في [لِإِيلَافِ] لبيان إتصالها مع آخر سورة الفيل ويكون المقصود (فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش).
أي أن هلاك أبرهة وجنوده بآية حسية جلية من عند الله بعد أن توجه أبرهة بالفيل نحو مكة لهدم الكعبة مع مصالح اقتصادية وسياسية ودينية للحبشة أرادها أبرهة ومن خلفه .
لتستديم نعمة الجوار والشأن لقريش بين القبائل ، وليتعاونوا فيما بينهم في طاعة الله وتصديق الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم محاربته .
ومن الآيات ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد شهرين من واقعة الفيل ، ولو قدر لأبرهة والآلاف من جنوده دخول مكة لسبي النساء والصبيان وقتل الرجال.
فأراد الله عز وجل حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بطن أمه ، وببركته وبركة البيت الحرام وكونه أمناً حفظ الله عز وجل البيت والناس.
ليكون من شكر قريش لله عز وجل التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولو أنهم آمنوا لتضاعفت عليهم النعم ، وما سخّروا إبل التجارة لمحاربته ، ولاتبعتهم قبائل العرب إلا القليل منهم الذين تتوجه إليهم آيات القرآن كل يوم تدعوهم إلى الإيمان.
نعمة جوار البيت
من خصائص وشرائط دوام النعمة تعاهدها بالشكر لله عز وجل ، والإقامة على الإحسان ، وإجتناب جحودها ، وقد أكرم الله عز وجل قريشاً بأن خصهم بجوار البيت الحرام وهم من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام اللذين قاما برفع قواعد البيت الحرام ، ودعا إبراهيم عليه السلام الناس لحج البيت الحرام بأمر من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ]( ).
وتولت قريش سدانة البيت الحرام ، وتوالت عليهم النعم ، ورزقهم الله عز وجل الهيبة والإكرام من رجال القبائل ، فسخرت قريش هذه النعمة بالإستحواذ على التجارة وقوافل الإبل بين مكة والشام ، وبين مكة واليمن وغيرها.
دلالات ابتداء خطبة النبي (ص) يوم الفتح بالحمد لله
لقد وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند باب الكعبة وأخذ بعضادتي الباب ، وقد لاذت قريش بالبيت لا يعلمون ما سيحدث لهم مع عشرة آلاف مسلم دخلوا مكة ، مع صغرها وضيق أزقتها آنذاك .
وابتدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلامه بالحمد لله كما عن ابن عباس (الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده)( ).
وفيه وجوه :
الأول : بيان قانون النصر من عند الله ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ]( )، وقال تعالى [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني : إنقطاع عبادة الأوثان في البيت الحرام إلى يوم القيامة .
الثالث : تأكيد عبودية النبي لله عز وجل ، ومنع الغلو في شخصه الكريم ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
الرابع : تبكيت كفار قريش على محاربتهم النبي والتنزيل ، وبيان ذهاب أموالهم التي انفقوها في محاربته هباء منثوراً.
لقد أرادت قريش من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة الإمتناع عن ذم آبائهم الذين فارقوا الدنيا على عبادة الأوثان وعرضوا عليه الأموال والنساء والجاه العريض ، فامتنع عن الإنصياع لهم ، خاصة وأنه يتلو آيات التنزيل .
ليأتي حمده لله عند باب الكعبة وفي أول ساعات دخوله مكة فاتحاً لبيان سوء عاقبة قتلاهم الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام والذين جمعوا بين ذنب عبادة الأوثان ، وغادروا الدنيا على معصية محاربة الله ورسوله والتنزيل ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ).
ويتضمن هذا الجزء المبارك وقائع فتح مكة المبارك من غير قتال ، وليس من طرف آخر يصالحه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما فتحها سلماً بمشيئة من عند الله كما قال تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ]( ).
لقد دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكعبة يوم الفتح وصلى فيها ركعتين ، ثم خرج والناس في البيت تشرأب أعناقهم بخوف ، وبعد أن حمد الله واثنى عليه .
(قال : ما تظنون ، قالوا : نظنّ خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت.
قال : وأنا أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم)( ).
وهل ابتداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدخوله الكعبة وافتتاحه خطبته بالحمد لله أمارة على الأمان للناس ، الجواب نعم .
لقد بلغت قلوب قريش الحناجر ، وداخلهم الخوف والرعب يوم الفتح ليكون من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، أنه لم يجعل خوفهم أو وقوفهم يطول بل بعث الطمأنينة في نفوسهم بأن عفى عنهم بتلاوة آية من سورة يوسف وهي سورة نزلت عليه في مكة قبل الهجرة ليؤكد لهم أنهم إخوته وعشيرته ، وأن عليهم عبادة الله وحده وهي من أبهى وسائل المودة والصفاء ، وما يبعث الطمأنينة والبهجة في النفوس طريق للتوبة والإنابة ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
مفتاح الكعبة عند أم عثمان بن طلحة
وفي يوم فتح مكة دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عثمان بن طلحة وسأله مفتاح باب الكعبة ، وكان قد وضعه عند أمه سلامة ، خشية أن يؤخذ منه قهراً لإصراره على الإمتناع عن إعطائه.
وكان أبوه حامل لواء المشركين يوم أحد وقد قتله الإمام علي عليه السلام يومئذ ، لقد ذهب عثمان بن طلحة إلى أمه وسألها المفتاح فأبت أن تعطيه.
(فقال لتعطينه أو ليخرجن هذا السيف من صلبي فلما رأت ذلك أعطته فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكعبة ومعه بلال وأسامة بن زيد ، ودخل معهم عثمان بن طلحة وأغلقوا باب الكعبة دونهم ، وكان بنو طلحة يظنون أنه لا يستطيع أحد غيرهم يفتح باب الكعبة ، فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم المفتاح وفتحه بيده .
وعن (عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لما دخل مكة يوم الفتح بعث إلى أم عثمان بن طلحة أن ابعثي بالمفتاح فقالت لا واللات والعزى لا أبعث إليه بالمفتاح فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث إليها فيأخذه منها قسرا.
فقال عثمان بن طلحة يا رسول الله إنها حديثة عهد بالكفر فابعثني إليها فأرسل فقال يا أمه إنه قد حدث أمر غير الذي كان فاعلمي أنك إن لم تدفعي إليه المفتاح قتلت أنا وأخي فأعطته فجاء به مسرعا.
فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عثر ووقع المفتاح فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجثا عليه)( ).
دخول النبي (ص ) الكعبة
لقد أخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مفتاح باب الكعبة من عثمان بن طلحة ، وفتحه بيده وخلع نعليه ودخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وبلال وأغلقوا الباب عليهم طويلاً.
ليقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند أركان البيت يدعو الله ، ويشكره على نعمة الفتح ، ثم صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين بين الأسطوانتين و(قال ابن عمر: فكان أول من لقيت منهم بلالا فقلت: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: هاهنا بين الاسطوانتين)( ).
و(في صحيح البخاري وغيره أنه عليه السلام صلى في الكعبة تلقاء وجهة بابها من وراء ظهره، فجعل عمودين عن يمينه، وعمودا عن يساره، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، وكان بينه وبين الحائط الغربي مقدار ثلاثة أذرع.
قال ابن هشام : وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة .
فقال عتاب : لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا فسمع منه ما يغيظه ، فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته.
فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت لاخبرت عنى هذه الحصا.
فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : قد علمت الذى قلتم ، ثم ذكر ذلك لهم.
فقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك)( ).
ومع هذا جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عتّاب هذا والياً على مكة ، والإسلام يجّب ما قبله.
بشارة تولي النبي (ص) شؤون الكعبة
بعد أن طاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم حول البيت يوم الفتح طلب مفتاح باب الكعبة من عثمان بن طلحة إذ كانت السدانة عند بني طلحة من عبد الدار ، وكانوا في الجاهلية يفتحون الكعبة يوم الاثنين ، والخميس.
وجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً ليدخلها مع الناس فدفعه عثمان بن طلحة وأغلظ عليه بسبب دعوة متقدمة له للإسلام ، إذ قال له عثمان (يا محمد العجب لك حيث تطمع أن اتبعك وقد خالفت دين قومك وجئت بدين محدث)( ).
لقد حلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عثمان بن طلحة ، ولكنه قال له بقول من علم الغيب كما حدّث عثمان (يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت فقلت لقد هلكت قريش وذلت فقال بل عمرت يومئذ وعزت) ( )
وفي هذا الحوار معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو لم يخش إجهاز قريش عليه ، ومنعهم من نبأ توليه شخصياً أمور الحرم ، خاصة وأن عثمان كان يقول : فوقعت كلمته مني موقعاً ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال).
ثم دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الكعبة مع الناس يومئذ قبل الهجرة .
إعادة النبي (ص) المفتاح
عندما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الكعبة وبعد أن ثبت تسلمه مفتاح الكعبة طلقاً ليس لأحد غيره الحق فيه أو في هبته لمن يشاء ، لبيان أن استلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المفتاح نسخ لما توارث في الجاهلية بأنه عند بني شيبة من بني عبد الدار ، إنما هو جزء من ميراث النبوة .
وسأل العباس بن عبد المطلب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطيه المفتاح لتكون سدانة الكعبة له ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفعه إلى عثمان بن طلحة وقال (خذوها خالدة تالدة إلى يوم القيامة يا بني أبى طلحة لا ياخذها منكم إلا ظالم)( ).
وقيل فنزل قوله تعالى [أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]( )، ومع هذا لم ينقطع حقد وحسد بني طلحة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
و(قال الزهري : وبلغني أن شيبة بن عثمان قال: استدبرت رسول الله صلى الله عليه واله يوم حنين وأنا اريد أن أقتله بطلحة بن عثمان ، وعثمان بن طلحة، وكانا قد قتلا يوم احد، فأطلع الله رسوله على ما في نفسي فالتفت إلي وضرب في صدري، وقال : اعيذك بالله يا شيبة ، فأرعدت فرائصي، فنظرت إليه وهو أحب إلي من سمعي و بصري، فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأن الله أطلعك على ما في نفسي)( ).
ولم تمنع هذه الأحقاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أعطاء كل ذي حق حقه ، والإكثار من العفو ومنه العفو عن أكثر الذين استثناهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من العفو .
لقد أعطى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة عفواً عاماً للناس باستثناء نفر أسرفوا في إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فأمر يوم الفتح بقتلهم ، ومع هذا فانه عفى عن أكثرهم إذ كان يقبل الشفاعة ، والإعتذار ، والعفو مع تقادم الأيام ، فمن فرّ من مكة رجع بأمان من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
خيبة كفار قريش
عاشت قريش في قلق وخوف مدة غياب أبي سفيان ، وهل هو من مصاديق [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ) أم أن الآية أعلاه خاصة بميدان معركة أحد والمعارك الأخرى.
الجواب هو الأول لأصالة الإطلاق ، ووجود المقتضي وفقد المانع ، فلا زال رجالات قريش مقيمين على الشرك وعبادة الأوثان بجوار بيت الله الحرام ، بينما يملي هذا الجوار على أهله الإيمان بالله والصلاح.
وهل أظهروا الندامة على إعانتهم بني بكر على خزاعة بالسلاح والرجال ، وهل وجهوا اللوم لمن قام بنقض عقد الحديبية ، الجواب لا دليل عليه .
وعندما رجع أبو سفيان من المدينة إلى مكة سأله رجالات قريش (ما وراءك هل جئت بكتاب من محمد أو عهد قال لا والله لقد أبى علي وقد تتبعت اصحابه فما رأيت قوما لملك عليهم أطوع منهم له غير أن علي بن ابي طالب قد قال لي التمس جوار الناس عليك ولا تجير أنت عليه وعلى قومك وأنت سيد قريش واكبرها وأحقها أن تخفر جواره.
فقمت بالجوار ثم دخلت على محمد فذكرت له أني قد اجرت بين الناس وقلت ما أظن أن تخفرني.
فقال أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة.
فقالوا مجيبين له رضيت بغير رضى وجئتنا بما لا يغني عنا ولا عنك شيئا وإنما لعب بك علي لعمر الله ما جوارك بجائز وإن إخفارك عليهم لهين)( ).
لأن الإجارة لابد وأن تكون من جهة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو طرف الصحابة .
ودخل أبو سفيان على امرأته فحدثها بما جرى له في سفره إلى المدينة (فقالت قبحك الله من وافد قوم فمت جئت بخير)( ).
ورأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (سحابا فقال إن هذه السحاب لتبض بنصر بني كعب فمكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله أن يمكث بعد ما خرج أبو سفيان ثم اخذ في الجهاز وأمر عائشة أن تجهزه وتخفي ذلك)( ).
ومن الجهاز قنفية الحنطة طعاماً للمتاع .
قانون دخول الناس الإسلام خيبة للكافرين
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تزايد عدد المسلمين على نحو مطرد كل يوم وكل اسبوع وكل شهر.
ودخول أي فرد للإسلام ينقص مثله من الكفار الذين يصابون بالخيبة عند رؤية دخول الناس أفراداً وجماعات ثم أفواجاً في الإسلام.
وهل هو من مصاديق الخيبة في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، أم أن القدر المتيقن منها رجوع المشركين من معركة أحد في حسرة وخيبة لعدم تنجز أي غاية خبيثة من غاياتهم ، ومنها قتل النبي محمد وطائفة من أصحابه ، وسبي حرائر المدينة.
المختار هو الأول لوجوه :
الأول : أصالة الإطلاق .
الثاني : قانون الملازمة بين الكفر والخيبة .
ومع مجئ الآية أعلاه بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن الإنشاء والبشارة والإنذار البشارة للمسلمين بوهن عدوهم ، والإنذار للمشركين بالكف عن محاربة النبوة والتنزيل .
لبيان أن آيات القرآن أعم من تقسيم الجملة إلى خبرية وإنشائية ، فذات الجملة القرآنية تكون خبرية وإنشائية في آن واحد ، مع مجئ الآية أعلاه بصيغة المضارع (ليقطع) لبيان القطع المتوالي لأركان من المشركين .
وهل يختص هذا القطع بحال قتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم هو مطلق يشمل أحوالهم المختلفة ، الجواب هو الثاني ، ولا يتعارض مع هذا الإطلاق إختتام الآية بانقلابهم وعودتهم خائبين.
الثالث : قانون مصاحبة الخيبة للذين يحاربون النبوة والتنزيل.
الرابع : قانون بعث آيات الإنذار الخيبة في قلوب المشركين ، وهو من الإعجاز بنزول السور المكية بالإنذار والوعيد للذين كفروا .
الخامس : قانون ترشح الخيبة عن الرعب الذي يملأ صدور الذين كفروا ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
الصلاة اليومية معجزة النبي محمد (ص)
من خصائص الأنبياء قانون الملازمة بين النبوة والتعاهد اليومي للصلاة ، فليس من نبي إلا وقد أتى للناس بالصلاة ، يؤديها بنفسه ، ويدعو أهله وعشيرته والناس إليها ، قال تعالى [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا]( ).
وليس من حصر لمنافع صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحرصه على أدائها في أوقاتها الخمسة عندما كان في مكة ، أما بعد الهجرة فقد كان يصليها جماعة إماماً للصحابة ، وأول عمل قام به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين دخوله المدينة هو بناء المسجد الذي سمي فيما بعد المسجد النبوي .
لقد كانت الصلاة أول فريضة نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واقترنت ببدايات البعثة النبوية ، فكان يؤديها في المسجد الحرام بين ظهراني رؤساء الشرك مما أثار غيظهم وحنقهم ، ولكنها كانت الشعار العبادي الذي دلّ الناس على نبوته وجعل عمار المسجد الحرام يدركون دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفعلية إلى الله بأداء الصلاة خمس مرات في اليوم .
ومن الآيات في حديث الإسراء تلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بالصلاة على نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة ، وحينما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سدرة المنتهي مرّ على موسى عليه السلام فقال موسى : بم أمرت ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أمرت بخمسين صلاة كل يوم .
فقال له موسى عليه السلام (ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحيت منه)( ).
عفو النبي عن الذين أسلموا
لم يوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم اللوم للذين أسلموا من الذين قتلوا طائفة من المسلمين بغير حق ، ومنهم بنو سُليم الذين اشتركوا في معركة حنين إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضد هوازن وثقيف ، ووقع في السبي من هوازن ستة آلاف من الذراري والنساء بسبب إصرار رئيسهم مالك بن عوف علي جلب النساء والصبيان والأنعام معه لساحة المعركة كي يقاتلوا دونهم .
إلى جانب كثرة الإبل والأغنام التي صارت غنائم بأيدي المسلمين .
وعندما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجعرانة جاءه وفد هوازن وأظهروا اسلامهم ثم سألوا الأموال والسبايا ، وتكلموا ثم (قام خطيبهم زهير بن صرد أبو صرد فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتى كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا لابن أبى شمر أو النعمان بن المنذر ثم أصابنا منهما مثل الذى أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت رسول الله خير المكفولين ، ثم أنشأ يقول :
امنن علينا رسول الله في كرم … فإنك المرء نرجوه وننتظر)( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قسم بين المسلمين السبايا والأموال ومع هذا لم يردهم إنما خيرهم بين النساء والأبناء وبين الأموال.
ولم ينظر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ظلمهم وقتالهم بشراسة لوأد الإسلام ، ولم يعرض عن طلبهم ، لبيان معجزة من معجزات النبوة بتحلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرأفة العامة بالناس ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فلما صلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصحابة الظهر قام وفد هوازن وقالوا ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال في الحال (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم).
لبيان أن السبايا صارت في حيازة وملك المهاجرين والانصار وعامة المسلمين الذين حضروا معركة حنين ، فلم يشأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتزاعها من المقاتلين ، فبادر المهاجرون وقالوا : وما كان لنا فهو لرسول الله ، وكذا قالت الأنصار .
ولكن الأقرع بن حابس أبى ، وقال : أما أنا وبنو تميم فلا .
وقال عيينة بن حصن : أما أنا وبنو فزارة فلا .
وقال العباس بن مرداس السلمي : أما أنا وبنو سليم فلا ، عندئذ (قالت بنو سليم : بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول عباس بن مرداس لبنى سليم: وهنتموني)( ).
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ستة فرائض من أول فيْ نصيبه ، فردوا إلى هوازن نساءهم وابناءهم في آية لم تقع في الجزيرة من قبل .
فتح مكة مفتاح الجزيرة
يدل قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، على موضوعية حال مكة وقريش عند عامة الناس ، فدخول قريش الإسلام وهم الذين قادوا الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيادة الإسلام في مكة.
وانتشار أخبار كسر الأصنام في البيت الحرام والجادة العامة والقرى دعوة للناس للكف عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع دعوتهم للإسلام ، ليدل قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( )، في مفهومه على أمور :
الأول : كثرة الناس الذين دخلوا الإسلام بعد فتح مكة .
الثاني : ذم الذين لم يدخلوا الإسلام بعد الفتح .
الثالث : الذين لم يدخلوا الإسلام أقل ممن دخله .
الرابع : البشارة بلحوق من بقي من الناس على الكفر بدخول الإسلام ، خاصة مع ورود الفعل [يَدْخُلُونَ] بصيغة المضارع الذي يفيد الإستمرار والتجدد.
وهذه هوازن التي حاربت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء وفد رؤسائها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد معركة حنين سائلين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يمّن عليهم باعادة السبايا والأموال فقال لهم (أَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبّ إلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ ؟ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ خَيّرْتَنَا بَيْنَ أَمْوَالِنَا وَأَحْسَابِنَا ، بَلْ تَرُدّ إلَيْنَا نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا ، فَهُوَ أَحَبّ إلَيْنَا.
فَقَالَ لَهُمْ أَمّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ وَإِذَا مَا أَنَا صَلّيْت الظّهْرَ بِالنّاسِ فَقُومُوا فَقُولُوا : إنّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَى رَسُولِ اللّهِ فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا ، فَسَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسْأَلُ لَكُمْ.
فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالنّاسِ الظّهْرَ قَامُوا فَتَكَلّمُوا بِاَلّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَمّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ .
فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ : وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلَا .
وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ أَمَا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا . وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا .
فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ : بَلَى ، مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
قَالَ يَقُولُ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ لِبَنِي سُلَيْمٍ وَهّنْتُمُونِي .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا مَنْ تَمَسّكَ مِنْكُمْ بِحَقّهِ مِنْ هَذَا السّبْيِ فَرَائِضَ مِنْ أَوّلِ سَبْيٍ أُصِيبُهُ فَرَدّوا إلَى النّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ)( ).
وقدم وفد ثقيف المدينة في شهر رمضان من السنة التاسعة للهجرة ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل يوم ارتحل عنهم أن يدعو عليهم فدعا لهم بالهداية وهو الذي تحقق وسيأتي بيان وفودهم إلى المدينة في جزء لاحق إن شاء الله.
قانون مصاحبة الوحي للنبي محمد (ص)
من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) إصلاح الأنبياء لمقام النبوة السامي الذي يرقى فيه الأنبياء في مراتب الرفعة والكمال ، ومنها إصلاح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنزلة الرسالة الخاتمة وتأهيله لتلقي الوحي ، قال تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
ومن هذا الإصلاح هداية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوة إلى الإنفراد في غار حراء والتفكر في بديع خلق السموات والأرض ، وتثبيت الجبال ، وزيغ الناس في عبادتهم للأوثان ، وكيفية إنقاذهم منها التي لا تتم إلا بمدد وعون من عند الله عز وجل ، فاعتزلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما يعبدون .
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل جابر بن عبد الله (عن أول ما نزل من القرآن فقال [يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ]( )، قلت : يقولون [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ).
فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبدالله عن ذلك قلت له مثل ما قلت . قال جابر : لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري فنوديت فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئاً.
ونظرت عن شمالي فلم أرَ شيئاً ، ونظرت خلفي فلم أرَ شيئاً.
فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه رعباً ، فرجعت فقلت دثروني فدثروني ، فنزلت [يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ]( )، إلى قوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ( ).
لقد نزل الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعمره أربعون سنة إذ جاءه الملك فقال : اقرأ ، فاجابه النبي : ما أنا بقارئ ، فأخذه الملك وغطه وقال : اقرأ ، فاجابه : ما أنا بقارئ ، فارسله وقال [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ]( ).
فصار فؤاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرتجف ، وسارع بالرجوع إلى البيت وكانت زوجه خديجة بنت خويلد في استقباله ، وهي تعلم بأمارات النبوة ، فقال : زملوني ، زملوني ، أي دثروني ، وصارت تطمئنه ، ليتوالى نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويأتيه الوحي على نحو متصل .
والنسبة بين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق ، فالوحي أعم ، ومنه إرشاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى كيفية الفعل واختيار القول المناسب ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ألا اني اوتيت القرآن ومثله معه)( ).
ومثل القرآن هو السنة النبوية ، وحضور الوحي عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القول والعمل والأمر والنهي ، والإجابة على الأسئلة ، لذا ورد قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة مرة في القرآن ، كلها موجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع تفضل الله عز وجل بالإجابة مثل [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( ).
قانون سرايا النبي (ص) بالوحي من عند الله
لقد كان الوحي حاضراً في كتائب النبي وسرايا أصحابه فلا يخرج من المدينة ولا يحدد عدد الصحابة معه إلا بالوحي.
وتكون للوحي موضوعية وهو الفيصل في السرايا من جهات :
الأولى : تعيين الجهة التي تتوجه إليها السرية .
الثانية : تحديد أوان خروج السرية .
الثالثة : اختيار آمر السرية وعدد أفرادها .
الرابعة : قانون وصايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسرايا من الوحي ، لذا ورد (عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَعَث جيوشه قال: “اخرجوا بسم الله، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا، ولا تُمَثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصّوامع)( ).
فان قلت قد سقط عدد من القتلى في سرايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والجواب قال تعالى [إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
وليحمل الظالمون من الذين كفروا وزر قتلهم ، ويفوز المؤمنون بالحياة في النعيم الدائم عند الله ، قال تعالى [وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ]( ).
وما دامت هذه السرايا من الوحي فلا يصح الجدال فيها ، أو الإختلاف الموضوعي في غاياتها الحميدة ، فهي خير محض ، وحاجة لنشر مبادئ التوحيد واستئصال مفاهيم الكفر إلى يوم القيامة ، ومنع تكرار تعدي المشركين وقيامهم بغزو المدينة وأطرافها.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حفظ المدينة من الغزو من حين الهجرة إلى يوم وفاته ثم معارك الردة ذات الشدة والضراوة والتي انتصر فيها المسلمون على مسيلمة الكذاب في اليمامة ، والأسود العنسي ، وسجاح ، وغيرهم من مدعي النبوة ومانعي الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لم تكن كتائب وسرايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم باجتهاد منه إنما كانت بوحي من عند الله ، وهو لا يتعارض مع قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
وفي معركة أحد عندما كسرت الرباعية من أسنان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسالت الدماء من وجنته قال (وهو يصعد على أحد : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم ، فأنزل الله مكانه لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ( ).
وموضوع الآية أعم من سبب النزول ، والمدار على عموم المعنى ، ووردت الآية بصيغة الأمر المتعدد والمتعاقب بمشاورة الصحابة ثم التوكل على الله بالإقدام على الفعل لبيان أصالة الإطلاق ودلالة الآية على حضور الوحي والمشيئة الإلهية في الميدان بما فيه نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ودفع شرور المشركين وان كانوا هم الأكثر في العدد والعدة ، وكانت الجولة والرجحان لهم.
ومن مصاديق قوله تعالى اعلاه وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس له من الأمر شئ قوله تعالى الذي نزل في معركة أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
لبيان أن قطع طرف وهلاك طائفة من المشركين يحرمهم من إمكان التوبة وهو من مصاديق ظلمهم لأنفسهم وغيرهم في الآية أعلاه ، فالذي قتل منهم في معركة بدر أو أحد أو الخندق هوى إلى النار ، ولم يدرك فتح مكة ودخول أهلها الإسلام.
لا أصل لرواية (احصدوهم حصداً)
من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسائل أمان وسلام إلى أهل مكة عشية دخوله إليها ، بأن حمّل العباس بن عبد المطلب وغيره رسائل منها :
الأولى : من دخل المسجد الحرام فهو آمن .
الثانية : من أغلق باب داره فهو آمن ، فغلق الناس أبوابهم.
وفيه شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة سلماً ، وأن أهل مكة أظهروا النية والفعل بعدم قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وورد رواية ذكرها (الامام أحمد بن حنبل في مسنده فقال: حدثنا بهز وهاشم قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت، وقال هاشم: حدثنى ثابت البنانى، حدثنا عبدالله بن رباح قال: وفدت وفود إلى معاوية أنا فيهم وأبو هريرة، وذلك في رمضان، فجعل بعضنا يصنع لبعض الطعام، قال: وكان أبو هريرة يكثر ما يدعونا، قال هاشم: يكثر أن يدعونا إلى رحله.
قال : فقلت : ألا أصنع طعاما فأدعوهم إلى رحلي ، قال : فأمرت بطعام يصنع، فلقيت أبا هريرة من العشاء قال: قلت: يا أبا هريرة الدعوة عندي الليلة.
قال: استبقتني ، قال هاشم: قلت: نعم فدعوتهم فهم عندي .
فقال أبو هريرة : ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الانصار ، فذكر فتح مكة، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة، قال: فبعث الزبير على أحد المجنبتين وبعث خالدا على المجنبة الاخرى وبعث أبا عبيدة على الجسر، وأخذوا بطن الوادي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته وقد وبشت قريش أوباشها .
قال : قالوا: نقدم هؤلاء، فإن كان لهم شئ كنا معهم، وإن أصيبوا أعطيناه الذى سألنا.
قال أبو هريرة : فنظر فرآني فقال : يا أبا هريرة ، فقلت: لبيك رسول الله، فقال : اهتف لي بالانصار ولا يأتنى إلا أنصارى ، فهتفت بهم فجاءوا فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم ،ثم قال بيديه إحداهما على الاخرى : احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا.
قال : فقال أبو هريرة: فانطلقنا فما يشاء واحد منا أن يقتل منهم ما شاء، وما أحد منهم يوجه إلينا منهم شيئا.
قال : فقال أبو سفيان: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن ، قال : فغلق الناس أبوابهم)( ).
وذكر في كتب أخرى .
ولا أصل لهذا الخبر واشاعة القتل في مكة يوم فتحها وقيام الأنصار بالقتل العشوائي بخصوص جماعة الأوباش أو غيرهم ، إنما كان أكثر أهل مكة مسلمين يوم الفتح ، وغلق الناس أبوابهم والتجاء كثير منهم إلى المسجد الحرام كان قبل دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة ، وكان مجموع القتلى يومئذ على قسمين :
الأول : ثلاثة شهداء من المسلمين .
الثاني : سبعة قتلى من المشركين .
ثم أن أبا هريرة ليس من الأنصار ، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يأتيني إلا أنصاري ، وكانت كتيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تتألف من المهاجرين والأنصار يحيطون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن اختراقهم ، فهم لم يفارقوه ، وهم قريبون منه ، فلا يحتاج دعوة أبي هريرة ليبلغهم بأمر ، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقتل العشوائي ، بل بقوا مصاحبين له يمنعون الناس من الوصول إليه .
ليدل بالدلالة الإلتزامية على امتناعهم عن القتال والقتل يومئذ ، ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال (احصدوهم حصداً).
لروى الحديث عدد من المهاجرين والأنصار والذين كانوا يحيطون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكيف وأن حديث احصدوهم هذا لم يُسمع من أحد إلا في السنة الأربعين للهجرة ، ولو كان لبان ، مما يدل على ضعفه دلالة ورواية .
ووصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة بأنه (يوم المرحمة) شاهد على أنه رسول السلام وحقن الدماء ، وأن مكة فتحت سلماً.
(وكانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بيد سعد بن عبادة فلما مر بها على أبي سفيان – وكان قد أسلم أبو سفيان – قال سعد إذ نظر إليه : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل المحرمة ، اليوم أذل الله قريشاً.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة الأنصار حتى إذا حاذى أبا سفيان ناداه: يا رسول الله أمرت بقتل قومك فإنه زعم سعد ومن معه حين مر بنا أنه قاتلنا .
وقال: اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل المحرمة اليوم أذل الله قريشاً وإني أنشدك الله في قومك فأنت أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم.
وقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف يا رسول الله والله ما نأمن من سعد أن تكون منه في قريش صولة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يا أبا سفيان اليوم يوم المرحمة اليوم أعز الله قريشاً.
وقال ضرار بن الخطاب الفهري يومئذ (يناشد رسول الله أن يكف عنهم سعد بن عبادة ، ويجنبهم وعيده :
يا نبي الهدى إليك لجا … جي قريش ولات حين لجاء
حين ضاقت عليهم سعة الأر … ض وعاداهم إله السماء
والتقت حلقتا البطان على القو … م ونودوا بالصيلم الصلعاء
إن سعداً يريد قاصمة الظه … ر بأهل الحجون والبطحاء
خزرجي لو يستطيع من الغي … ظ رمانا بالنسر والعواء
وغر الصدر لا يهم بشيء … غير سفك الدما وسبي النساء
قد تلظى على البطاح وجاءت … عنه هند بالسوءة السوآء
إذ تنادى بذل حي قريش … وابن حرب بذا من الشهداء
فلئن أقحم اللواء ونادى … يا حماة اللواء أهل اللواء
ثم ثابت إليه من بهم الخز … رج والأوس أنجم الهيجاء
لتكونن بالبطاح قريش … فقعة القاع في أكف الإماء
فانهينه فإنه أسد الأس … د لدى الغاب والغ في الدماء
إنه مطرق يريد لنا الأم … ر سكوتاً كالحية الصماء)( ).
ولم يقتل سعد بن عبادة أحداً ، ومع هذا ارسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سعد بن عبادة فنزع اللواء من يده وجعله بيد قيس ابنه ، بمعنى أن اللواء لم يخرج من يده.
فاستجاب سعد للأمر ولكنه أراد أمارة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمامته ليطمئن بأن الأمر صادر منه ، فدفع اللواء إلى ابنه قيس.
(وروي أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر علياً فأخذ الراية، فذهب بها حتى دخل مكة فعزرها( ) عند الركن)( ).
بكلمة تهديد بالقتل صدرت من آمر الكتيبة الصحابي الجليل سعد بن عبادة بادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أخذ الراية منه ، مما يدل على عدم صحة قول احصدوهم.
وتدل وقائع فتح مكة ومقدماتها وقلة القتلى فيه على أن خبر احصدوهم حصدا ، مع حركة يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدفع بهذا الخصوص لا أصل لها ، ومخالفة لأحكام ودلالة آيات القرآن ولتكون صيغة السلم في فتح مكة من مصاديق دعاء إبراهيم بالأمن العام في مكة في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ]( )، وقوله تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( ).
وهذه الرواية لا تنهض لمعارضة الروايات والأخبار المتواترة التي تبين الرحمة النبوية يوم فتح مكة منها ما روي عن أبي هريرة نفسه ، إذ (أخرج مسلم والطيالسي والبيهقي عن أبي هريرة قال قالت الانصار يوم فتح مكة أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته وجاء الوحي وكان الوحي إذا جاء لم يخف علينا فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي الوحي.
فلما رفع الوحي قال يا معشر الأنصار قلتم اما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته كلا فما اسمي اذن كلا إني عبد الله ورسوله.
المحيا محياكم والممات مماتكم فأقبلوا يبكون وقالوا والله ما قلنا إلا للضن بالله ورسوله فقال إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم)( ).
مما يدل على تجلي صبغة العفو والرأفة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأهل مكة ، وكما أن رواية (احصدوهم حصداً) مخالفة لشواهد السلم في فتح مكة من جهة الرواية فلابد من التحقيق فيها من جهة الدراية وحال الرواة وأوان رواية أبي هريرة لها بعد سنة أربعين من الهجرة عند توجهه إلى معاوية.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكة بيسر وحقن للدماء ، فمثلاً كان النبي محمد في أذى من هبار بن الأسود لشدة إيذائه لزينب بنت الرسول واسقاطها ما في بطنها في طريق الهجرة إلى المدينة ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة (إن وجدتم هباراً فأحرقوه بالنار.
ثم قال : اقتلوه فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار .
فلم يوجد ثم أسلم بعد الفتح وحسن إسلامه وصحب النبي صلى الله عليه وسلم)( ).
لقد دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة (من أذاخر ونهى عن القتال)( ).
ولم يذكر كتاب السيرة حديث احصدوهم حصداً ، ومنهم ابن سعد الذي ذكر لفظ (فتح مكة) في كتابه أعلاه (132) مرة ، وابن الأثير ، والطبري في تأريخ الرسل والملوك ، والأزرقي في أخبار مكة ، وابن المطهر في البدء والتأريخ ، واليعقوبي في تأريخه ، والخطيب البغدادي في تأريخ بغداد ، مع أنهم ذكروا فتح مكة وبعض الوقائع يومئذ.
وحينما قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (اذهبوا فأنتم الطلقاء)( ).
فهذا القول عفو عام عن الناس ، نعم سبقه استثناء إذ أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (بقتل ستة نفر وأربع نسوة: عكرمة بن أبي جهل وهبار بن الأسود وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ومقيس بن صبابة الليثي والحويرث بن نقيذ وعبد الله بن هلال بن خطل الأدرمي وهند بنت عتبة وسارة مولاة عمرو بن هشام وفرتنا وقريبة، فقتل منهم بن خطل والحويرث بن نقيذ ومقيس بن صبابة)( ).
أي لم يقتل من هؤلاء العشرة إلا ثلاثة منهم .
دروس كسر الأصنام يوم الفتح
لم يكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يريد القتل في فتح مكة إنما أراد إصلاح الناس ، وإزاحة الأصنام من البيت الحرام هذه الأصنام التي لاقى بسببها العداوة والهجرة والأذى الشديد من رؤساء قريش ، حتى جاء يوم الفتح فخلى الله عز وجل بينه وبين الأصنام التي يعبدون لتكون الآيات المكية التي كانت تذم الأصنام والتزلف إليها بشارة هدمها ، قال تعالى [وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا]( ).
لقد فاق كفار قريش في كفرهم وطغيانهم وعبادة الأوثان الأمم السالفة ، فلم يكتفوا بالعكوف عليها بل حاربوا النبي محمداً والتنزيل والذين آمنوا بالرسالة الخاتمة .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم توجهه بنفسه لكسر مئات الأصنام التي في البيت الحرام.
و(قال ابن مسعود وابن عبّاس : لما إفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلثمائة وستين صنماً ، صنم كل قوم بحيالهم ومعه مخصرة فجعل يأتي الصنم فيطعن في عينه أو في بطنه ثمّ يقول [جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( )، بجعل الصنم ينكب لوجهه ، وجعل أهل مكة يتعجبون ، ويقولون فيما بينهم ما رأينا رجلاً أسحر من محمّد)( ).
وتحقق النصر والفتح والظفر للإسلام ، وتوالى نزول القرآن وتعددت معجزات النبي محمد الحسية واتصال الوحي .
ليكون فتح مكة من مصاديق قوله تعالى [لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ]( )، لبيان عدم انتفاع قريش من تكذيبهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي الحق ، والقرآن حق ، قال تعالى [بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ]( ).
ومن معاني قوله تعالى [وَزَهَقَ الْبَاطِلُ] أي أزيح الكفر والشرك عن السيادة في المجتمعات وسلطان الحكم ، وحوصر الفساد والظلم ، بأحكام الشريعة المتكاملة ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا]( ).
و(عن قتادة عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال قال لي جابر بن عبد الله : دخلنا مع النبي مكة وفي البيت وحوله ثلثمائة وستون صنما فأمر بها رسول الله فألقيت كلها لوجوهها وكان على البيت صنم طويل يقال له هبل فنظر النبي إلى علي وقال له : يا علي تركب علي أو أركب عليك لالقي هبل عن ظهر الكعبة.
قال الإمام علي عليه السلام قلت : يا رسول الله بل تركبني فلما جلس على ظهري لم أستطع حمله لثقل الرسالة قلت يا رسول الله بل أركبك ، فضحك ونزل وطأطأ لي ظهره واستويت عليه فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو أردت أن أمسك السماء لامسكتها بيدي فألقيت هبل عن ظهر الكعبة ، فأنزل الله تعالى وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا( ).
إن الدروس والمواعظ المستنبطة من فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وأجيال المسلمين في كسر الأصنام يوم الفتح متجددة وفيها دعوة للتوحيد ونبذ مفاهيم الشرك.
لقد كانت الأصنام منصوبة في البيت الحرام والجادة العامة ، وهناك في البيوت أصنام صغيرة ، ومثلها يتخذها المسافر معه حرزاً
لتصبح رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصره من عند الله حاجة للبشرية إلى يوم القيامة ، وسبباً للرزق الكريم والأمن واستدامة الحياة الدنيا ، قال تعالى [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا]( ).
قانون المعجزة عضد
من إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اقتران المعجزة الحسية بالعقلية طيلة أيام رسالته ، وهو من أسباب تعجيل فتح مكة من بين غزوات وهجوم متوال من قبل جيوش المشركين على المدينة المنورة.
ومن الإعجاز عدم استياء الأنصار من شدة الأذى الذي لاقوه بسبب هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم لأن المعجزات كانت عضداً له ولهم ، وهو من المنافع العامة للمعجزة ، وتتصف معجزات النبي محمد بالتجدد سواء العقلية منها أو الحسية .
أما العقلية فهي آيات القرآن ، ولا يحصي المنافع المتجددة منها كماً وكيفاً في أي يوم من حين نزولها وإلى يوم القيامة إلا الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ]( )، ولم يرد لفظ (كل يوم) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وليس من مسلم أو مسلمة إلا وينتفع من آيات القرآن من جهات :
الأولى : تلاوة آيات القرآن ، وما تفيضه عليهم هذه التلاوة من صبغة الخشوع والصلاح ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]( ).
الثانية : التدبر في آيات القرآن ، واقتباس الفرد والجماعة الدروس والمواعظ منها .
الثالثة : تجلي المصاديق الواقعية للنص القرآني وفيه غنى ، و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القرآن غنى لا فقر بعده ولا غنى دونه)( ).
الرابعة : إتخاذ المسلمين القرآن إماماً في أمور الدين والدنيا .
الخامسة : إنصات المسلمين لتلاوة القرآن بالإستماع والإصغاء ، أو السماع العرضي ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
وقد تكرر كل من لفظ (استمعوا) و(انصتوا) مرتين في القرآن ، وكلها بخصوص تلاوة القرآن لبيان أنه أشرف مسموع ، وان الإنصات له اثناء الصلاة واجب وهو الأصل في معنى صيغة الأمر .
دلالات لفظ (لعلكم) في القرآن
ورد هذا اللفظ ثماني وستين مرة في القرآن مقسمة على سور القرآن كالآتي :
سورة البقرة : أربع عشرة مرة .
سورة آل عمران : خمس مرات .
سورة المائدة : خمس مرات .
سورة الأنعام : أربع مرات .
سورة الأعراف : ست مرات .
سورة الأنفال : مرتين .
سورة يوسف : مرة واحدة .
سورة الرعد : مرة واحدة .
سورة النحل : خمس مرات .
سورة الأنبياء : مرة واحدة .
سورة الحج : مرتين .
سورة الشعراء : مرة واحدة .
سورة النحل : مرتين .
سورة النور : خمس مرات .
سورة القصص : مرتين .
سورة الزخرف : مرتين .
سورة الروم : مرة واحدة .
سورة فاطر : مرة واحدة .
سورة يس : مرة واحدة .
سورة غافر : مرة واحدة .
سورة فصلت : مرة واحدة .
سورة الجاثية : مرة واحدة .
سورة الحجرات : مرة واحدة .
سورة الذاريات : مرة واحدة .
سورة الحديد : مرة واحدة .
سورة الجمعة : مرة واحدة .
وورد في الغاية منها على وجوه :
ثماني مرات [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] وهي :
الأولى : قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
السادسة : قوله تعالى [قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
السابعة : قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ]( ).
الثامنة : قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
ويلاحظ أن خمس مرات منها خطاب للمسلمين ، ومنها الترغيب بتلاوة القرآن والإنصات له والتحلي بالتقوى ، وفيه شاهد بأن رسالة النبي محمد رسالة سلام وأمن ودعوة سماوية لعبادة الله وحده مقرونة بالمعجزات فلم يلجأ إلى الغزو.
ترى لماذا لم تقل الآية (ترحمون) مطلقاً من غير تقييد الرحمة في المقام ، بلعل ، الجواب لبيان أن نزول الرحمة العامة لا تختص بفعل عبادي واجباً أو مندوباً ، إنما تشمل التكاليف الخمسة.
العفو عن عبد الله بن أبي سرح
كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد أسلم وهاجر إلى المدينة ، وكان خطه حسناً ، فصار يكتب الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاذا قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكتب عليماً حكيماً كتب غفوراً رحيماً ، وإذا قال له أكتب غفوراً رحيماً كتب عليماً حكيماً .
وهو لا يعلم في المقام أموراً :
الأول : قانون حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن التي تنزل عليه وتلاوتها في الصلاة اليومية.
الثاني : كان جبرئيل يعارض ويتدارس القرآن مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرة كل سنة في شهر رمضان ، فاذا كتب عبد الله بن أبي سرح الكلمة بخلاف ما أنزلت فانها تنكشف بهذا التدارس وبتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها .
الثالث : تدارس وقراءة جبرئيل القرآن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرتين في السنة التي فارق فيها الحياة الدنيا ، إذ ورد عن عائشة عن فاطمة عليها السلام (أسر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي)( ).
الرابع : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتدوين آيات القرآن حال نزولها .
وارتد عبد الله بن سعد بن أبي سرح ولحق بمكة وقال : إني أنزل مثل ما أنزل الله ، وذكر أنه نزل فيه قوله تعالى [وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ]( ).
لذا كان افتراؤه عظيماً .
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال (و إن عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخو عثمان من الرضاعة أسلم وقدم المدينة، وكان له خط حسن، وكان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله دعاه فكتب ما يمليه عليه رسول الله صلى الله عليه وآله، فكان إذا قال له رسول الله صلى الله عليه وآله (سميع بصير) يكتب (سميع عليم) ، وإذا قال : والله بما تعملون خبير ، يكتب (بصير).
ويفرق بين التاء والياء وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: هو واحد، فارتد كافرا ورجع إلى مكة.
وقال لقريش: والله ما يدري محمد ما يقول، أنا أقول مثل ما يقول، فلا ينكر علي ذلك، فأنا انزل مثل ما ينزل.
فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله في ذلك [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ]( ).
فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكة أمر بقتله فجاء به عثمان قد أخذ بيده ورسول الله في المسجد.
فقال: يا رسول الله اعف عنه، فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله ثم أعاد فسكت ثم أعاد فقال : هو لك .
فلما مر قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه : ألم أقل من رآه فليقتله.
فقال رجل: عيني إليك يا رسول الله أن تشير إلي فأقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الانبياء لا يقتلون بالاشارة، فكان من الطلقاء)( ).
وفي يوم الفتح لجأ عبد الله بن أبي سرح إلى عثمان بن عفان ، وهو أخوه من الرضاعة ، وقال : يا أخي استأذن لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يضرب عنقي ، فغيبه عثمان في بيته حتى هدأ الناس ، وتوالى الناس رجالاً ونساءً في مبايعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أخذه عثمان بيده.
وعن أبي سعيد الخدري (حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله بايع عبد الله . قال : فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى فبايعه بعد الثلاث . ثم أقبل على أصحابه فقال : اما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله . قالوا : وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك ، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال : إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين)( ).
وحينما يبدل عبد الله بن أبي سرح خاتمة الآية أحياناً يقول له النبي صلى الله عليه وآله وسلم (هو واحد ، هو واحد) لبيان أنه لا يثبت في القرآن إلا ما نزل عليه وما أملاه وتلاه في الصلاة وخارجها.
لقد ارتد عبد الله بن أبي سرح وعاد إلى مكة وصار يهجو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسخّره كفار قريش لتحريض الناس على النبوة والتنزيل.
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بقتل أربعة نفر : عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والحويرث بن نفيل، و ابن خطل ومقيس بن صبابة ، وأمرهم بقتل قينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه واله، وقال : اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة)( ).
وهذا الأمر من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص مكة (وإنما احلت لي ساعةً من نهار) ( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إنّ الله حرّم مكّة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة ، لم تحلّ لأحد قبلي ولا يحلّ لأحد بعدي ولم يحلّ لي إلاّ ساعة من نهار ، فلا يعضد شجرها ولا نختلي خلالها ولا نفر صيدها ولا يحلّ لقطتها إلاّ المنشد.
فقال العبّاس : يا رسول الله إلاّ الأذخر فإنّه لقيوتنا وقتورنا وبيوتنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلاّ الأذخر)( ).
و(عن ابن عباس في قوله تعالى [لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ]( ) قال : مكة [وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ]( )، يعني بهذا النبي صلى الله عليه وسلم ، أحل الله له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء ويستحيي من شاء ، فقتل يومئذ ابن خطل صبراً ، وهو آخذ بأستار الكعبة ، فلم يحل لأحد من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل فيها حراماً بحرمة الله ، فأحل الله له ما صنع بأهل مكة)( ).
هبار بن الأسود
لقد آذى هبار بن الأسود رسول الله الله قبل الهجرة في مكة ، كما آذى زينب أكبر بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحينما خرجت مهاجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن امتنع زوجها أبو العاص بن الربيع أن يسلم.
(عمد لها هبار بن الأسود ورجل آخر فدفعها أحدهما فيما ذكروا، فسقطت على صخرة فأسقطت وأهراقت الدماء، فلم يزل بها مرضها ذلك حتى ماتت سنة ثمان من الهجرة)( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية أن هجرة كل فرد من أهل البيت أو الصحابة قصة مستقلة تستحق التدبر فيها ، واستقراء المسائل والعبر والمواعظ منها ، ومنها قصة هجرة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر قال: حدثت عن زينب أنها قالت: بينا أنا أتجهز بمكة للحوق بأبي لقيتني هند بنت عتبة بن ربيعة، زوجة أبي سفيان بن حرب فقالت: يا بنة محمد، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك ، قالت : فقلت: ما أردت ذلك. قالت هند: أي ابنة عم، لا تفعلي، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك أو بما تصلين به إلى أبيك، فإن عندي حاجتك فلا تضطني مني ، فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال.
قالت : والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل. قالت: ولكني خفتها، فأنكرت أن أكون أريد ذلك وتجهزت)( ).
لبيان أن خشيتها من كفار قريش ومكرهم لم تمنعها من العزم على الهجرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رؤية أعدائه لمعجزات حسية له الى جانب المعجزات العقلية بنزول آيات القرآن ومضامينها القدسية ودلالاتها ، ومنها أيضاً ادعية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ، ودعاؤه على الكافرين عندما يتمادون في إيذائه.
وقد رآى هبّار بن الأسود هذا آية في أدعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستجابة الله له قبل هجرته إذ ورد عن عروة بن الزبير (عن هَبَّار بن الأسود قال: كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام، فتجهزت معهما، فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينه في ربه، سبحانه، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، هو يكفر بالذي [دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى]( ).
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم ابعث إليه كلبا من كلابك ، ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه فقال: يا بني، ما قلت له ، فذكر له ما قال له.
قال : فما قال لك ، قال : اللهم سلط عليه كلباً من كلابك .
قال : يا بني ، والله ما آمنُ عليك دُعاءه ، فسرنا حتى نزلنا الشراة ، وهي مأْسَدَة ، ونزلنا إلى صَوْمَعة راهب .
فقال الراهب : يا معشر العرب، ما أنزلكم هذه البلاد فإنها تسرح الأسْدُ فيها كما تسرح الغنم .
فقال لنا أبو لهب: إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوةً -والله-ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة، وافرشوا لابني عليها، ثم افرشوا حولها. ففعلنا .
فجاء الأسد فَشَمّ وجوهنا ، فلما لم يجد ما يريد تَقَبّض، فوثب، فإذا هو فوق المتاع، فشم وجهه ثم هزمه هَزْمة فَفَضخ رأسه. فقال أبو لهب: قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد)( ).
وفي قوله تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ]( )، وردت روايات عن ابن عباس ومنها (أن المستهزئين ثمانية : الوليد بن المغيرة ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والعاص بن وائل ، والحارث بن عدي بن سهم ، وعبد العزى بن قصي وهو أبو زمعة ، وكلهم هلك قبل بدر بموت أو مرض ، والحارث بن قيس من العياطل .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال [الْمُسْتَهْزِئِينَ] منهم : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والحارث بن قيس ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، وأبو هبار بن الأسود)( ).
زينب في طريق الهجرة
كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أوائل الذين بادروا إلى الإسلام .
ولكن زوجها أبا العاص بن الربيع امتنع عن دخول الإسلام حمية كيلا يقول قومه أنه دخله إرضاء لزوجته بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأنه من بني أمية ، وكان يحب زوجته كثيراً ، وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد .
لقد زوّجها صلى الله عليه وآله وسلم لأبي العاص قبل البعثة النبوية وكان ذا مال وأمانة ، ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آمنت به خديجة وبناته.
فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً للإسلام (أتوا أبا العاص بن الربيع فقالوا فارق صاحبتك ونحن نزوجك بأى امرأة شئت من قريش فقال لا والله لاأفارق صاحبتي ، وما يسرنى أن لى بامرأتي أفضل امرأة من قريش)( ).
وولد له ولد واسمه علي مات صغيراً ، وبنت اسمها أمامة والتي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحملها في الصلاة وتوفيت سنة (66) هجرية.
وكان أبو العاص قد وقع في الأسر يوم معركة بدر والذي أسره عبد الله بن جبير الأنصاري وقدم أخوه عمرو بن الربيع بمال دفعته إليه زينب بنت رسول الله ومنه قلادة لها كانت خديجة زوج الرسول قد أهدتها لها ليلة زفافها فلما رآها رسول الله ذكر خديجة ورقّ لابنته وقال (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا الذى لها فافعلوا فقالوا نعم)( ).
وفيه شاهد على رأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى مع الذين ناصبوه العداء ، وحرضوا القبائل لقتاله وهو بصفة الرسالة.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية عزم النساء المؤمنات على الهجرة إلى المدينة ، وكانت بعضهن لا تجد صحبة في الهجرة فتهاجر بمفردها ، ومنهن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط .
ولما اتمت زينب جهازها قدم لها لقيط بن الربيع وهو أخو زوجها بعيراً فركبته ، وأخذ قوسه وكنانته ، وخرج بها نهاراً يقود بعيرها وهي في الهودج.
فتناجى رجال من قريش بالباطل ، وكأنه تحداهم بهذا الخروج العلني وضح النهار ، فسعوا خلفها يقتفون أثرها فادركوها بذي طوى وهو اسم بئر ويسمى في هذا الزمان وادي الزاهر ، وهو قريب من مكة ، إذ يبعد عن المسجد الحرام (6) كم ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدم من مكة إلى المدينة يبيت فيه ، ويصلي الصبح .
وأدرك رجال قريش زينب في ذي طوى وهي في هودجها (فكان أول من سبق إليها هبار بن الاسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ونافع بن عبد القيس الفهرى فروعها هبار بالرمح وهى في هودجها وكانت المرأة حاملا فيما يزعمون فلما رجعت طرحت ذا بطنها)( ).
عندئذ نثر حموها كنانته ، وبرك على الأرض ، وأنذرهم من التقرب إليه بأن يرميه بالسهم ، فتراجعوا عنه ، وقيل أتاه أبو سفيان في جلة قريش ، فقال له كف عنا نبلك حتى نكلمك ، فكف ، فدنا منه أبو سفيان .
وتوجه إليه باللوم لأنه خرج بزينب نهاراً بمرأى ومسمع من قريش من الهزيمة والمصائب التي حلت بقريش في معركة بدر ، إذ أنها هاجرت بعد وقعة بدر بشهر ونحوه للشرط الذي أخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على زوجها بالإذن لها بالهجرة إلى المدينة.
وقال إنه ذكر لنا ، وما لنا في حبس بنت محمد عن أبيها من حاجة ، ثم طلب منه أن يرجع بها حتى إذا هدأت الأصوات وقالوا اننا رددناها ، خرج بها سراً فالحقها بأبيها .
(فاشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية فقالت بنو أمية نحن أحق بها لكونها تحت ابن عمهم أبى العاص فكانت عند هند ، فكانت تقول لها هذا في سبب أبيك)( ).
لبيان تلقي أهل البيت رجالاً ونساءً الأذى الشديد من الرجال والنساء من كفار قريش .
ولم يرد خبر للمدينة عن حال زينب ولكن النبي محمداً الذي [مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( )، قال (لزيد بن حارثة ألا تنطلق فتجيئني بزينب قال بلى يا رسول الله.
قال فخذ خاتمي فأعطها فانطلق زيد فلم يزل يتلطف حتى لقى راعيا فقال لمن ترعى قال لابي العاص فقال لمن هذه الغنم قال لزينب بنت محمد فسار معه شيئا.
ثم قال هل لك أن أعطيك شيئا تعطيها إياه ولا تذكره لاحد قال نعم.
فأعطاه الخاتم فانطلق الراعي فأدخل غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته.
فقالت من أعطاك هذا قال رجل ، قالت وأين تركته.
قال مكان كذا وكذا فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه فلما جاءته قال لها زيد اركبي بين يدى على بعيري قالت لا ولكن اركب أنت بين يدى فركب وركبت خلفه حتى أتت المدينة)( ).
وقوع أبي العاص في الأسر
يتصف أبو العاص بالأمانة ووفرة المال وأعطته قريش أموالاً في شهر ربيع من السنة السادسة للهجرة قبل صلح الحديبية للتجارة من الشام ، فجاءت العير محملة بالبضائع منها فضة كثيرة لصفوان بن أمية.
واتفق أن لاقتهم سرية زيد بن حارثة إلا العيص التي تبعد عن المدينة 124كم، ومع زيد مائة وسبعون راكباً فلاقوا في شهر جمادى الأولى عيراً لقريش راجعة إلى مكة محملة بالبصائع ، فاستولوا على القافلة وأسر عدداً من رجالها منهم أبو العاص بن الربيع ، فلما قدموا المدينة وأرسل أبو العاص إلى زينب مستجيراً بها ، وسألها أن تشفع له .
فلما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى صلاة الصبح وكبر الناس معه نادت زينب (أيها الناس إنى قد أجرت أبا العاص بن الربيع فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل عن الناس فقال هل سمعتم ما سمعت قالوا نعم قال أما والذى نفسي بيده ما علمت بشئ كان حتى سمعت منه ما سمعتم)( ).
لدفع وهم ، فقد يظن بعضهم أن هذا النداء جاء بأمر أو إذن من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم أصدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قانوناً عاماً إذ قال (إنه يجير على المسلمين أدناهم)( ).
أي إذا أعطى أدنى المسلمين إجارة لأحد أهل الكتاب أو الكفار تسري هذه الإجارة على كل المسلمين بأن يكون له الأمان منهم سواء كان المجير رجلاً أو امرأة حراً أو عبداً بشرط البلوغ والعقل.
وعن الإمام علي عليه السلام (قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذمة المسلمين واحدة يسعى بها ادناهم فمن اخفر مسلما فعليه لعنة الله والملئكة والناس اجمعين لا يقبل الله عزوجل منه صرفا ولا عدلا)( ).
ولا يحصي عدد الذي انتفعوا من هذا القانون كثرة إلا الله عز وجل ، سواء الذين أعطوا الإجارة وما فيه من العز لهم وإن كانوا عبيداً ، أو الذين نالوا الأمان والسلامة به في أيام النبوة وما بعدها من الوقائع والأحداث .
وبعد أن قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح وأجاب عن الأسئلة التي توجه إليه وتأويل رؤيا بعض الصحابة إن وجدت دخل على ابنته زينب ، وأكد عليها بأنها لا تحل لأبي العاص لبقائه على الكفر ، فقالت : إنه جاء في طلب مال القافلة التي جاء بها .
لتسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعانته ، وكان يوده قبل البعثة ، وليس بينهما إلا الصفاء .
فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعث إلى زيد بن ثابت وأفراد سريته ، فلما اجتمعوا إليه قال لهم (إن هذا الرجل منا بحيث تعلمون وقد أصبتم له مالا وهو مما أفاء الله عليكم وأنا أحب أن تحسنوا وتردوا الذى له إليه وإن أبيتم فأنتم أحق به)( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يكره الصحابة على اعادة الغنائم إنما يخيرهم ويرجو منهم إعادتها لأنه يعلم ما في هذه الإعادة من الرحمة العامة ، وجذب قلوب الناس للإسلام ولا يختص هذا الجذب بأصحاب الأموال بل يشمل عوائلهم وذويهم ومن خلفهم وغيرهم فهو من مصاديق [وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ]( ).
كما بين الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخذ من مال القافلة شئ ، وقيل أن سرية زيد هذه بعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإعتراض القافلة.
والمختار قانون عدم إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم سرية لإعتراض قافلة مطلقاً ، ولم تلق هذه السرية قتالاً من رجال القافلة ، والظاهر أن أبا العاص امتنع عن القتال وسفك الدماء خاصة مع كثرة عدد أفراد السرية .
ولما سمع زيد بن حارثة وأفراد سريته كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبله بساعة إجارة زينب بنت رسول الله لأبي العاص ، وقبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإجارة قاموا برد الأموال التي في حوزتهم.
وأطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا العاص وجميع رجال القافلة الذين تم أسرهم .
وحينما وصل أبو العاص إلى مكة المكرمة قام بتسليم كل ذي مال في القافلة ماله من غير نقصان ثم نادى : يا معشر قريش هل بقى لأحدكم مال لم يأخذه ، لإقامة الحجة عليهم ومنع معارضتهم ومكرهم عندما يعلن دخوله الإسلام.
فقالوا : جزاك الله خيراً لقد وجدناك وفياً كريماً ، فقال بين ظهراني قريش وبمسمع من أهل مكة (فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَاَللّهِ مَا مَنَعَنِي مِنْ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ إلّا تَخَوّفُ أَنْ تَظُنّوا أَنّي إنّمَا أَرَدْت أَنْ آكُلَ أَمْوَالَكُمْ فَلَمّا أَدّاهَا اللّهُ إلَيْكُمْ وَفَرَغْتُ مِنْهَا أَسْلَمْتُ)( ).
سعي النبي (ص) بين الصفا والمروة
بعد أن دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكعبة وصلى فيها ركعتين ودعا عند الإسطوانة ، طاف بالبيت الحرام سبع أشواط وابتدأ باستلام الحجر الأسود ، ثم صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين خلف مقام إبراهيم لقوله تعالى [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى]( )، وكان المقام ملاصقاً للبيت الحرام.
ثم أتى جبل الصفا وصعد بعضه حتى صار يرى الكعبة ، فاجتهد بالحمد لله والدعاء والشكر لله عز وجل ، والمهاجرون والأنصار معه ينظرون ما يفعل ثم سعى بين الصفا والمروة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( ).
و(عن عامر الشعبي قال : كان وثن بالصفا يدعى أساف ووثن بالمروة يدعى نائلة ، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما ويمسحون الوثنين.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين ، وليس الطواف بهما من الشعائر ، فأنزل الله [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ] فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه ، وأُنِّثَتْ المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثاً)( ).
إنما الصفا نسبة إلى آدم صفوة الله ، والمروة نسبة إلى المرأة وهي حواء ، ويتنزه القرآن عن تسمية الشعائر المكانية بأسماء الأوثان .
وعامر بن عبد الله الشعبي من التابعين سمع من عدد من كبار الصحابة واختلف أنه رآى الإمام علي عليه السلام وصلى خلفه .
(وقال : أدركت خمسمائة من الصحابة أو أكثر ، وقال ابن شبرمة: سمعته يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده علي)( ).
فكان حافظاً وما كتب شيئاً قط ، مما قد يوقعه في الخطأ والنسيان ، وقوله أدركت خمسمائة أعم من أن يسمع منهم.
وكان الشعبي مزاحاً (دخل عليه رجل ومعه امرأة في البيت فقال: أيكما الشعبي ، فقال : هذه، وأومأ إلى المرأة) ( ).
توفي الشعبي فجأة سنة أربع ومائة.
وجوب السعي بين الصفا والمروة
من أعمال العمرة المفردة وعمرة التمتع ، والحج واجباً أو مندوباً السعي بين الصفا والمروة ، وهو سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن قبل إبراهيم عليه السلام.
و(عن حبيبة بنت أبي بحران قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى ، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره ، وهو يقول : اسعوا فإن الله عز وجل كتب عليكم السعي)( ).
ويدل هذا الحديث على وجوب السعي بين الصفا والمروة من جهة الأمر (اسعوا) فالأصل فيه حمله على الوجوب كما تعضده أحاديث أخرى والسنة الفعلية ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (كتب عليكم السعي) أي فرض وثبت كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
(وأخرج الطبراني والبيهقي عن أبي الطفيل قال : قلت لابن عباس يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة وإن ذلك سنة ، قال : صدقوا أن إبراهيم لما أمر بالمناسك اعترض عليه الشيطان عند المسعى ، فسابقه فسبقه إبراهيم)( ).
وفي صيغة هذا السؤال الإنكاري غرابة (يزعم قومك) لعلها مستقرأة من قوله تعالى [لَا جُنَاحَ] في الآية [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( )، ورفع الجناح دليل على الإباحة وليس الوجوب ، ولكن السنة النبوية تدل على الوجوب ، ويحمل قوله تعالى [لَا جُنَاحَ] على ما كان الأنصار يتحرجون من السعي بينهما بسبب طواف المشركين بينهما.
لبيان سبب نزول لقوله تعالى [فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا] وهو كان على جبل الصفا صنم اسمه إساف وعلى المروة صنم اسمه نائلة ، فكان أهل الجاهلية يطوفون حول الصفا والمروة مع تعظيم لهذين الصنمين ، فهم لم يتركوا سنة إبراهيم عليه السلام بالسعي بينهما ولكن خلطوا معها تقديس الأوثان ، وهم ليسوا من مصاديق قوله تعالى [خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
إذ ورد عن ابن عباس في الآية أعلاه قال (كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فلما حضر رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد ، وكان ممر النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم.
فلما رآهم قال : من هؤلاء الموثقون أنفسهم؟ قالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله ، أوثقوا أنفسهم وحلفوا أنهم لا يطلقهم أحد حتى يطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم ويعذرهم .
قال : وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين ، فلما بلغهم ذلك.
قالوا : ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا ، فأنزل الله عز وجل [وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ]( )، وعسى من الله وإنه هو التوّاب الرحيم ، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم ، فجاؤوا بأموالهم.
فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا . قال : ما أمرت أن آخذ أموالكم ، فأنزل الله عز وجل [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ]( )، يقول : استغفر لهم [إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ]( )، يقول : رحمة لهم ، فأخذ منهم الصدقة واستغفر لهم ، وكان ثلاثة نفر منهم لم يوثقوا أنفسهم بالسواري فأرجئوا سنة لا يدرون أيعذبون أو يتاب عليهم ، فأنزل الله عز وجل [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ]( )، إلى آخر الآية [وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا]( )، إلى [ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( )، يعني إن استقاموا)( ).
ولم يرد لفظ (خلطوا) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وكره المسلمون الطواف حول الصفا والمروة بالكيفية التي عليها أهل الجاهلية من تعظيم أساف ونائلة ، فأمرهم الله عز وجل بالطواف ولا عبرة بوجود الصنمين ، لتكون الآية بشارة إزاحة الأصنام من البيت الحرام .
وقال الإمامية والشافعي وأحمد بن حنبل ، وفقهاء الحرمين بوجوب السعي لفحوى الخطاب والسنة النبوية .
وقال أبو حنيفة : ليس بفرض ، ومن تركه حتى رجع إلى بلده جبره بشاة .
(وأما قراءة ابن مسعود ، وابن عباس : فلا جناح عليه أن لايطوف بهما)( ).
فلا تدل على عدم وجوب السعي بينهما ، لوجوه :
الأول : المدار على ما مرسوم في المصاحف .
الثاني : صلة تقدمها جحد .
الثالث : تعدد الروايات الواردة عن ابن عباس نفسه بوجوب السعي بين الصفا والمروة .
الرابع : قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لتأخذوا عني مناسككم)( ).
والسعي بين الصفا والمروة على وجوه :
الأول : إنه ركن في الحج ، والعمرة .
الثاني : إنه واجب ليس بركن ، فمن تركه عمداً أو سهواً جبره بشاة.
الثالث : إنه مستحب ، وبه قال الثوري والشعبي وابن سيرين ، كما نسب إلى انس وابن عمر وابن عباس وأبي حنيفة واحتجوا بقوله تعالى [وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا]( ).
والمختار أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج ، وقد طاف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفا والمروة في عمرة القضاء وفي فتح مكة ، وفي حجة الوداع .
مع أمره للمسلمين والمسلمات بأخذ المناسك منه بالسعي بين الصفا والمروة ، وقال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
جبل الصفا والمروة من شعائر الله
يحتمل [مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ] في قوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( )، وجوهاً :
الأول : إرادة السعي بين الصفا والمروة ففي الآية حذف وتقديره : إن السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله.
الثاني : المراد ذات موضع الصفا والمروة ، لحمل منطوق الآية على ظاهره .
الثالث : العنوان الجامع للوجهين أعلاه .
والمختار هو الأخير لبيان أن من الشعائر ما يكون مكانياً ، فهو ثابت إلى يوم القيامة ، وليكون في الآية وعيد للمشركين على نصبهم الصنم أساف على جبل الصفا ، والصنم نائلة على المروة ، وذكر أنه فجر أساف بنائلة في الكعبة ، فمسخا حجرين ، فنصبا على الصفا والمروة للإتعاظ بهما ، ولبيان حرمة البيت الحرام ، ثم عبدا من بعد.
و(عن ابن حزم ، عن عمرة ، أنها قالت : كان إساف ونائلة رجلا وامرأة ، فمسخا حجرين ، فأخرجا من جوف الكعبة وعليهما ثيابهما ، فجعل أحدهما بلصق الكعبة ، والآخر عند زمزم ، وكان يطرح بينهما ما يهدى للكعبة .
ويقال : إن ذلك الموضع كان يسمى الحطيم ، وإنما نصبا هنالك ليعتبر بهما الناس ، فلم يزل أمرهما يدرس حتى جعلا وثنين يعبدان ، وكانت ثيابهما كلما بليت أخلفوا لهما ثيابا ، ثم أخذ الذي بلصق الكعبة ، فجعل مع الذي عند زمزم ، وكانوا يذبحون عندهما ، ولم تكن تدنو منهما امرأة طامث ، ففي ذلك يقول الشاعر بشر بن أبي حازم الأسدي أسد خزيمة :
عَلَيهِ الطَيرُ ما يَدنونَ مِنهُ …مَقاماتِ العَوارِكِ مِن إِسافِ)( ).
وهل يحتمل أنهما جلبا من الشام وأن أساف بهيئة رجل ونائلة بهيئة امرأة ، الجواب لا ، وقد ورد المسخ في القرآن ، فلما عتى قوم من الكافرين وتمادوا في ركوب المعاصي مسخوا ، قال تعالى [فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ]( ).
ولم يدم مسخ أكثر من ثلاثة أيام ، ولم يتوالدوا .
وخاسئين : مطرودين بذلة وحسرة وصغار ، إذ (روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لم يمسخ شيئاً فجعل له نسلاً وعاقبة)( ).
ويدل هذا الحديث على تحقق المسخ واقعاً ، ومن خصائصه إنقطاعه وعدم توالده لأن الله عز وجل أراد الخلافة في الأرض خالصة للإنسان ، قال تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
والذي يغادر صفة الإنسانية يهلك ، وهو لا يتعارض مع وجود جنس مستقل بذاته وهم الجن ، ليكون في قوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( )، وجوه :
الأول : حرمة وقدسية جبل الصفا ، وجبل المروة .
الثاني : وجوب تنزيه وتطهير جبل الصفا والمروة وليكونا ملحقين بالبيت الحرام في قوله تعالى لإبراهيم وإسماعيل [أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
الثالث : الوعد من الله عز وجل ببقاء جبل الصفا وجبل المروة إلى يوم القيامة .
الرابع : بيان وجوب السعي بين الصفا والمروة ، وأنه عبادة لله .
الخامس : شكر المسلم لله عز وجل إذا صعد على الصفا أو المروة وإذا سعى بينهما وإدراكه أنه عند شعائر الله .
السادس : من شعائر الله ما هو مكاني ومنه البيت الحرام ، والصفا والمروة ، ومنى ، ومزدلفة ، وعرفة ، والمسجد الأقصى ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( ).
ومن الآيات في المقام عدم وقوع قتال على الصفا أو المروة .
سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة
من المعجزات التي صاحبت فتح مكة بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم السرايا حول مكة تدعو الناس إلى الإسلام وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ]( ).
وأعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغاية من هذه السرايا بأنها للدعوة إلى الإسلام وليس للقتال ، وأبلغ أمراء وأفراد السرايا بها ، لأن فتح مكة حجة على الناس ، ودعوة لغلق أبواب الكفر والضلالة.
وكان مع خالد ثلاثمائة وخمسون من المسلمين ، ومنهم من الأنصار والمهاجرين .
ولم تكن السرية لخصوص بني جذيمة ، إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالداً بان يسير باسفل تهامة داعياً.
ترى لماذا كثرة عدد أفراد السرية مع أنها للدعوة وليس للقتال ، وفيه مسائل :
الأولى : سرية خالد هذه واحدة من عدة سرايا بعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حول مكة لغرض الدعوة ، وليتأكد الناس من فتح مكة سلماً.
الثانية : قطع دابر الشائعات المغرضة .
الثالثة : منع تحشيد جيوش الكفر للإغارة على مكة أو على المدينة ، خاصة وأن المهاجرين والأنصار خرجوا جميعاً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكة ، واستخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري .
وسار في الجيش عدد كبير من كل قبيلة ، مثلاً حضر ألف من مزينة ، وسبعمائة من سُليم وقيل ألف .
الرابعة : هذه السرايا من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، لما فيها من بيان عملي لكثرة المسلمين وحرصهم على إقامة الصلاة في أوقاتها .
الخامسة : تأكيد تحصين مكة وما حولها عند رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، لذا حينما انتقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وارتدت أكثر القبائل فرّ عتّاب بن أسيد والي مكة منها قبل أن يعود إليها وكان عمره يوم تولى الإمارة نيفاً وعشرين سنة وهو من بني أمية .
لقد نزلت سرية خالد بن الوليد بغميصاء ماء لبني جذيمة ، فلماذ رآى القوم خالداً أخذوا السلاح خشية قيام خالد بالثأر منهم لعمه الفاكه بن المغيرة وعوف بن عبد وهو أبو الرحمن بن عوف اللذين كانا تاجرين وأقبلا من اليمن ، فنزلا في أرض بني جذيمة فقتلوهما وأخذوا أموالهم والتجارة التي معهما.
لقد حمل بنو جذيمة السلاح عندما رأوا خالد بن الوليد خشية ثأره لعمه ، فقال لهم خالد : إن الناس قد أسلموا فضعوا السلاح ، وفي رواية أنهم أخبروه بأنهم مسلمون وأن عندهم مساجد ويقيمون الصلاة ، وقال رجل من بني جذيمة اسمه جحدم.
(ويلكم يا بني جذيمة ، إنه خالد والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار، ثم ما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق ، والله لا أضع سلاحي أبداً.
قال : فأخذه رجال من قومه، فقالوا: يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا ، إن الناس قد أسلموا، ووضعت الحرب، وأمن الناس ، فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم السلاح لقول خالد ، فلما وضعوه أمر بهم خالد عند ذلك فكتفوا، ثم عرضهم على السيف ، فقتل من قتل منهم.
فلما أنتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء ، ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ، ثم دعا علي بن أبي طالب عليه السلام ، فقال : يا علي أخرج إلى هؤلاء القوم ، فأنظر في أمرهم ، وأجعل أمر الجاهلية تحت قدميك)( ).
ولما كان وقت السحر (نادى خالد: من كان معه أسير فليدافه ، والمدا فة الاجهاز عليه بالسيف ، فأما بنو سليم فقتلوا من كان في أيديهم ، وأما المهاجرون والانصار فأرسلوا أساراهم)( ).
وقال الإمام محمد الباقر (فلما وضعوا السلاح أمرهم خالد عند ذلك فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم)( ).
إطلاق المهاجرين والأنصار لأسراهم
وفي رواية لما انتهى إليهم خالد (قال ما أنتم قالوا مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد في ساحاتنا وأذنا فيها، قال فما بال السلاح عليكم قالوا إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السلاح قال فضعوا السلاح قال فوضعوه.
فقال لهم استأسروا فاستأسر القوم فأمر بعضهم فكتف بعضا وفرقهم في أصحابه.
فلما كان في السحر نادى خالد من كان معه أسير فليذافه، والمذافة الاجهاز عليه بالسيف.
فأما بنو سليم فقتلوا من كان في أيديهم ، وأما المهاجرون والانصار فأرسلوا أسراهم)( ).
وكان عبد الله بن عمر في سرية خالد هذه (قال: ودفع إلى كل رجل منا أسيرا، حتى إذا أصبح يوما أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره.
قال ابن عمر: فقلت: والله لا أقتل أسيرى ولا يقتل أحد من أصحابي أسيره)( ).
وكذا امتنع المهاجرون والأنصار عن قتل أسراهم وحالوا دون مجزرة وإبادة عامة ليس لها سبب .
لبيان مرتبة الفقاهة التي كان عليها المهاجرون والأنصار ، وكيف أنها سبب لمنع سفك الدماء ، ولدرء الأذى والضرر وعدم طاعتهم آمر السرية لتأديب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم بقانون الأولوية لحقن الدماء .
و(عَنْ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ قَالَ كُنْت يَوْمَئِذٍ فِي خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، فَقَالَ لِي فَتَى مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ وَهُوَ فِي سِنّي ، وَقَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ بِرُمّةٍ وَنِسْوَةٌ مُجْتَمِعَاتٌ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْهُ يَا فَتَى ، فَقُلْت : مَا تَشَاءُ ، قَالَ هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِهَذِهِ الرّمّةِ فَقَائِدِي إلَى هَؤُلَاءِ النّسْوَةِ حَتّى أَقْضِيَ إلَيْهِنّ حَاجَةً تَمّ تَرُدّنِي بَعْدُ فَتَصْنَعُوا بِي مَا بَدَا لَكُمْ ، قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ لَيَسِيرٌ مَا طَلَبْت . فَأَخَذْت بِرُمّتِهِ فَقُدْته بِهَا ، حَتّى وَقَفَ عَلَيْهِنّ فَقَالَ اسْلَمِي حُبَيْشِ عَلَى نَفَذٍ مِنْ الْعَيْشِ:
أَرَيْتُكِ إذْ طَالَبْتُكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ … بِحَلْيَةَ أَوْ أَلْفَيْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ
أَلَمْ يَكُ أَهْلًا أَنْ يُنَوّلَ عَاشِقٌ … تَكَلّفَ إدْلَاجَ السّرَى وَالْوَدَائِقِ
فَلَا ذَنْبَ لِي قَدْ قُلْت إذْ أَهْلُنَا مَعًا … أَثِيبِي بِوُدّ قَبْلَ إحْدَى الصّفَائِقِ
أَثِيبِي بِوُدّ قَبْلَ أَنْ تَشْحَطَ النّوَى … وَيَنْأَى الْأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ)( ).
(قَالَتْ وَأَنْتَ فَحُيّيت سَبْعًا وَعَشْرَا ، وِتْرًا وَثَمَانِيًا تَتْرَى . قَالَ ثُمّ انْصَرَفْتُ بِهِ . فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي أَبُو فِرَاسِ بْنُ أَبِي سُنْبُلَةَ الْأَسْلَمِيّ ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْهُمْ عَمّنْ كَانَ حَضَرَهَا مِنْهُمْ قَالُوا : فَقَامَتْ إلَيْهِ حِينَ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ فَأَكَبّتْ عَلَيْهِ فَمَا زَالَتْ تُقَبّلُهُ حَتّى مَاتَتْ عِنْدَهُ)( ).
(وذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رأيت كأني لقمت لقمة من حيس فالتذذت طعمها فاعترض في حلقي منها شيء حين ابتلعتها فأدخل علي يده فنزعه .
فقال أبو بكر هذه سرية من سراياك تبعثها فيأتيك منها بعض ما تحب ويكون في بعضها اعتراض فتبعث عليا فيسهله)( )، وذكرها ابن هشام باسناده( ).
دفع النبي (ص) ديات القتلى
فلما كان من أمر خالد وايقاعه القتل في بني جذيمة بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام فأدى لهم ديات من قتلوا ، ودفع لهم عوض ما فقدوا من الأموال ، حتى الإناء الذي يلغ فيه الكلب .
فخرج الإمام علي عليه السلام من مكة ، ومعه مال بعثه رسول الله معه ، فدفع لهم ديات الذين قتلوا وفيه نوع اعتذار ولابد أن تبرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما فعل خالد قد بلغهم من باب الأولوية.
فقد بلغ الأجيال المتعاقبة وفيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز ولم يرض بسفك الدماء ، كما أنه يبادر إلى تدارك خطأ بعض السرايا بدفع الديات مع حاجته والمسلمين للمال.
وبعد أن دفع الإمام علي الديات ، سلّم لبني جذيمة عوض ما فقدوا من الأموال والأنعام .
(حتى إنه ليدي لهم ميلغة الكلب)( ) ، إذ دفع لهم قيمة الإناء الذي يلغ فيه الكلب مع أنه ليس له قيمة يعتد بها ، ولما أدى الإمام علي لهم دية كل شئ فقدوه ، بقيت عنده بقية من المال ، فلم يرجع بها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما قال لهم : هل بقي لكم دم أو مال لم يؤد إليكم ، قالوا : لا .
(قال : فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يعلم ولا تعلمون. ففعل.
ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر.
فقال : أصبت وأحسنت. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه ، حتى إنه ليرى بياض ما تحت منكبيه ، وهو يقول : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد، ثلاث مرات)( ).
لبيان معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكرامة للإمام علي عليه السلام الذي كان فارس معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، يظهر في بني جذيمة الحلم والرفق والمواساة ، وفيه جذب للإسلام وإزاحة للكدورة.
وتوجه عبد الرحمن بن عوف بالعتاب واللوم لخالد بن الوليد على استباحته لدماء بني جذيمة .
إذ قال عبد الرحمن بن عوف : عملت بأمر الجاهلية في الإسلام ، فقال إنما ثأرت لأبيك (فقال عبد الرحمن بن عوف: كذبت قد قتلت قاتل أبي، ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة ، حتى كان بينهما شيء.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال : مهلاً يا خالد ، دع عنك أصحابي ، فو الله لو كان لك أحد ذهباً ثم أنفقته في سبيل الله ، ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته)( ).
وفيه شاهد بأن لفظ الصحابي يطلق على المسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار .
سرية عمرو بن العاص لهدم الصنم سواع
لقد أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عمرو بن العاص في سرية لهدم الصنم سواع بعد فتح مكة ومعه نفر من الصحابة ، وقد ورد ذكر سواع في القرآن بقوله تعالى [وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا]( )، بخصوص قوم نوح ، إذ بعضها أصنام وصور رجال صالحين عبدوها في زمن نوح ، ثم عبدتها العرب ، وبعضها عبدتها العرب أيام الجاهلية.
لقد ظنوا التقرب بها إلى الله وبها يسقون المطر ، وتأمن الطرق ، و(عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد: أما وَد : فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع : فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غُطَيف بالجُرُف عند سبأ.
أما يُعوقُ : فكانت لهَمْدان، وأما نسر: فكانت لحمير لآل ذي كَلاع، وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح، عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم. ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخَ العلم عُبِدت)( ).
والصنم سواع منصوب على بعد ثلاثة أميال من مكة بأرض يقال لها زهاط من بطن نخلة ، وسدنته من بني لحيان .
ولما انتهت السرية إليه تلقاه سادن الصنم ، فقال ما تريد ، قال عمرو : امرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أهدم هذا الصنم ، قال : لا تقدر على ذلك ، قال : لم ، قال : تُمنع .
قال عمر (حتى الآن أنت على الباطل ويحك وهل يسمع أو يبصر قال فدنوت منه فكسرته وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته فلم نجد فيه شيئا)( ).
مما يدل على أن هذه السرية تتألف من أفراد متعددين وبعد أن كسروا الصنم ، دخل السادن في الإسلام.
معجزة توالي هدم الأصنام
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : توجيه السرايا نحو هدم الأصنام بعد أن كانت هذه السرايا تدافع عن النبوة والتنزيل.
الثانية : وجوب هدم الأصنام وان تحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الأذى الشديد .
الثالثة : هدم الأصنام إزاحة لمانع دون عبادة الناس لله عز وجل ، كما في حادثة سادن الصنم سواع ، فانه كان يظن عجز الناس عن هدمه ، وحينما رآى بعينه سرعة هدمه ، وعدم ترتب ضرر على هدمه بادر لدخول الإسلام .
الرابعة : تنزيه الأرض من مفاهيم الشرك .
الخامسة : بيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد كان الرؤساء أيام نوح يوصون أتباعهم بعدم ترك عبادة آلهتهم التي وجدوا آباءهم على عبادتها ، ومنها الأصنام الخمسة ، ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر.
ليسقط النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثمائة وستين صنماً كانت منصوبة في الكعبة ، اسقطها في ساعة واحدة ثم بعث السرايا لهدم أصنام القبائل .
و(عن ابن عباس قال : صارت الأصنام والأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ، أما ودّ فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبأ ، وأما يعوق فكانت لهمدان ، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع)( ).
السادسة : بيان وهن وضعف مجتمع الكفر ومفاهيم الضلالة فبعد فتح مكة سرعان ما تهاون أركان الكفر باستثناء معركة حنين والتي هزم الله عز وجل فيها هوازن وثقيف وانهزموا تاركين نساءهم وصبيانهم وأموالهم وأنعامهم لولا أن منّ الله ورسوله عليهم وجمعهم من الصحابة بعد توزيعهم عليهم ، وهذا الجمع والإعادة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
لماذا لم يبق النبي (ص) في مكة بعد فتحها
لقد مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس عشرة ليلة في مكة بعد فتحها ، وأظهر أنه لا يريد البقاء فيها مع أنها البلد الحرام ومحل ولادته وأهله وقوله تعالى [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ]( ).
إنما يريد الرجوع مع الأنصار إلى المدينة وفاءً ولأنها دار الإيمان ، وهل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخشى الإغتيال والمكر من قريش وغيرهم لو بقى في مكة ، الجواب نعم .
بدليل تجهيز هوازن وثقيف ثلاثين ألف رجل للهجوم عليه ، فوقعت معركة حنين بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأنصار والمهاجرين من مكة.
فلو غادر الأنصار وكثير من المهاجرين مكة بعد أن استوطنوا وتزوجوا في المدينة لأغارت هوازن على مكة وليس من جيش يذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة مع وجود المؤلفة قلوبهم الذين أظهروا الإسلام واخفوا الشك والريب .
وهم كالأعراب لم يدخل الإيمان في قلوبهم ، ويختلفون عن الأعراب بأنهم ذوو شأن ومن وجوه العرب ولهم تأثير بين الناس ، لذا استمالهم القرآن بدفع سهم لهم من الزكاة والصدقات وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فيستطيع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقتل بعضهم ليستقيم الآخرون ، ويخشون البطش ، ولا يظهرون الريب ، ولا يعلنون الشماتة عند نزول مصيبة بالمسلمين.
ولكن جاءت الرحمة باعانتهم وإكرامهم بالمال الوفير الذي هو من فضل الله وعدم إيذاء أو توبيخ أو قتل أي فرد منهم لعلم الله بتوبتهم واستقامتهم أو شطر منهم في قادم الأيام ولأن فتح مكة تم بالسلم والمرحمة ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
و(عن ابن عباس في قوله [وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ] قال : هم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلموا ، وكان يرضخ لهم من الصدقات ، فإذا أعطاهم من الصدقة فأصابوا منها خيراً قالوا : هذا دين صالح ، وإن كان غير ذلك ، عابوه وتركوه)( ).
و(عن يحيى بن أبي كثير قال : المؤلفة قلوبهم : من بني هاشم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ومن بني أمية أبو سفيان بن حرب ، ومن بني مخزوم الحارث بن هشام وعبد الرحمن بن يربوع ، ومن بني أسد حكيم بن حزام ، ومن بني عامر سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزي ، ومن بني جمح صفوان بن أمية ، ومن بني سهم عدي بن قيس.
ومن ثقيف العلاء بن حارثة أو حارثة ، ومن بني فزارة عينية بن حصن ، ومن بني تميم الأقرع بن حابس.
ومن بني نصر مالك بن عوف ، ومن بني سليم العباس بن مرداس .
أعطى النبي صلى الله عليه وسلم كل رجل منهم مائة ناقة مائة ناقة إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العزى ، فإنه أعطى كل واحد منهما خمسين)( ).
ومن أهم أسباب عدم بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة عند الفتح أكثر من خمسة عشر يوماً هو الوحي ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تنقله وحله وترحاله ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
قانون إستقراء الأمر والنهي من الخبر القرآني
هي البشارة والإنذار والوعيد من الجملة الخبرية في القرآن قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
نزلت هذه الآية في معركة أحد ، إذ زحف ثلاثة آلاف من المشركين من مكة وما حولها نحو مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقتله ووقف التنزيل ، وجعل المهاجرين والأنصار بين قتيل وأسير وطريد ، فأخزى الله المشركين .
الأول : قتل اثنين وعشرين منهم من بينهم حملة لواء المشركين من بني عبد الدار ، وهو من مصداق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الثاني : الكبت وهو شدة الغيظ والحزن .
الثالث : الرجوع إلى مكة بالخيبة والعجز عن تحقيق ما أملوا .
ليتجلى قانون استقراء الأمر والنهي والبشارة والإنذار ، والوعد والوعيد من الجملة الخبرية في القرآن ، لبيان أن علوم القرآن أعم من تقسيم علماء البلاغة والنحو الجملة إلى خبرية وإنشائية ، بل أن ذات الجملة القرآنية تكون خبرية وإنشائية في آن واحد خاصة وأن الجملة الخبرية في القرآن لا تحتمل إلا الصدق .
ومع نزول هذه الآية بخصوص معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة فانها تخبر عن نتيجة معركة الخندق ، ومعركة حنين بأنها ستكون بذات النتيجة من هلاك طائفة من الذين كفروا ، وشدة غيظهم وعودتهم خائبين .
وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين ، وإنذار للذين كفروا مجتمعين ومتفرقين بدعوة رؤساء قريش بالكف عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ودعوة العامة منهم بعدم طاعة رؤساء الكفر في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن الآية وردت بصيغة المضارع [لِيَقْطَعَ] الذي يفيد الإستمرار والتجدد.
ومن وجوه تقدير الآية : ليقطع طرفاً من الذين كفروا في معركة الخندق مع أن عدد أفراد جيوش الأحزاب عشرة آلاف رجل ليقطع طرفاً من الذين كفروا في معركة حنين ، ويهلك طائفة منهم في كل معركة.
فقد يظن بعض المسلمين بأن المشركين زحفوا في معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة بثلاثة آلاف وسقط من المسلمين سبعين شهيداً ، فكيف وقد جاءوا بعشرة آلاف في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة.
فجاءت هذه الآية [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ) بشارة عودة المشركين خائبين في كل غزوة يغزونها وكل معركة يدخلونها وهو الذي تم فعلاً .
أدعو العلماء إلى التدبر في كل خبر في القرآن واستقراء العلوم المستقبلية منه ، لذا يتضمن تفسيري معالم الإيمان في كل آية فصولاً ، منها إعجاز الآية الذاتي ، إعجاز الآية الغيري ، الآية سلاح ، مفهوم الآية ، الآية بشارة ، الآية إنذار ، إفاضات الآية ، الآية لطف .
وهل من بشارات هذه الآية قوله تعالى بخصوص معركة الخندق [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( )،بقتل الإمام علي عليه السلام لعمرو بن عبد ود العامري ، الجواب نعم .
معجزة الشفاء العاجل
ورد في التنزيل حكاية عن إبراهيم عليه السلام [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( )عطف المرض على الطعام والشراب ، لبيان قانون الصحة والمرض فرع الأكل والشرب ، ولتأديب المسلمين بالعناية بنوع الأكل والشرب ، وبيان فضل الله تعالى في حرمة لحم الخنزير ، وشرب الخمر ، وأضراره على البدن .
ونسب إبراهيم عليه السلام المرض إلى نفسه ، أما الشفاء فنسبه إلى الله عز وجل ، ليكون المرض كفارة للذنوب ، وقد يعيب المشركون على النبي المرض وأنه لو كان رسولاً من عند الله لما مرض ، فأخبرت الآية بأن الأنبياء يبتلون بالمرض أيضاً ، قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
وجاءت آية البحث [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ) بالفاء التي تدل على التعقيب والفورية ، وليس ثمة فترة بين المرض والشفاء .
وتقدير آية الشفاء أعلاه على وجوه :
الأول : وإذا مرضت فهو يشفين لأني نبي ، فهذا الشفاء العاجل كرامة من الله لمرتبة النبوة ، وإخبار لمعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه إذا مرض سرعان ما يشافيه الله .
الثاني : وإذا مرضت فهو يشفيني لأني رسول من الخمسة أولي العزم .
الثالث : وإذا مرضت فهو يشفيني لأني مؤمن ، ومن ثواب المؤمن في الدنيا سرعة شفائه من المرض .
الرابع : وإذا مرضت فهو يشفيني كنعمة علي كانسان .
ولا تعارض بين هذه الوجوه فالشفاء العاجل نعمة على الأنبياء ، وهي باقية لطفاً من الله على الناس جميعاً لأن الله عز وجل إذا انعم بنعمة على أهل الأرض فهو أكرم من أن يرفعها ، ولأن المسلم يتلو هذه الآية بالأصالة عن نفسه من غير أن يتعارض الأمر مع كونها حكاية عن إبراهيم عليه السلام ، وهو من مصاديق قانون المسلمين ورثة الأنبياء .
وفي عيسى عليه السلام ورد في التنزيل [وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ]( ) فابراء عيسى عليه السلام الأعمى من الولادة ، والأمراض الجلدية معجزة ، وقيده بأذن الله لمنع الغلو في شخصه.
ومن نعمة الشفاء التي وردت في قوله تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ) ، العقاقير الطبية والعمليات الجراحية في هذا الزمان ، والتي تتم تحت التخدير العام أو الموضعي بما فيه الشفاء من علة وداء مزمن ، أو مرض فيه الموت لولا هذه العمليات لبيان فضل الله عز وجل على الناس .
ولا بأس بإحصاء الإرتقاء في عالم الطب وأنواع العلاجات والعمليات الجراحية في المائة سنة السابقة التي صار سبيل نجاة ، وطول عمر لملايين من الناس ، وزيادة متوسط عمر الإنسان ، ولا يعلم ما سيأتي بخصوصه من ارتقاء بالذكاء الإصطناعي ونحوه إلا الله عز وجل ، مما يستلزم الشكر لله عز وجل على نعمة الطب ، وهي من مصاديق قوله تعالى [عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
وعندها سيتحقق قريباً بالعلم والتحصيل في بشارة الملائكة لإبراهيم بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، وفي التنزيل [قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ]( ).
وكان عمر إبراهيم مائة سنة وعمر سارة تسعين سنة حين حملت باسحاق.
وستأتي الأعوام القادمة ببشارة الإنجاب عن كبر ، وهو غير نعمة بنك الحامض النووي والبويضات ، ونسأل الله عز وجل علاجاً عاجلاً في بضع سنين لمرض السرطان وغيره من الأمراض المستعصية.
رقم الايداع في دار الكتب والوثائق ببغداد
692 لسنة 2024