بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمـــة
الحمد لله عدد ما خلق ويخلق ، والحمد لله سعة السموات والأرض ، وعالم الأكوان ، الحمد لله الذي جعل الحمد لله حاجة للإنسان وبه تطمئن نفس قائل الحمد وسامعه .
الحمد لله الذي جعل الحمد له تعالى يزيح الهموم ، ويفتح آفاقاً من سبل الخير والرجاء وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
والإجماع على رفع الدال من (الحمد) لإفادته الثبوت والإستقرار ، واستدامة الحمد لله عز وجل وحده في كل زمان ومكان .
واللام في (لله) للإستحقاق ، أي أن الحمد كله مستحق ومستقر ودائم لله عز وجل على نعمه التي لا تحصيها الخلائق ، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا]( ).
الحمد لله الذي جعل نعمه على العباد وسيلة للإيمان به والتصديق بالنبوة والتنزيل ، الحمد لله الذي خلق الإنسان من تراب ، وابتدأه بشآبيب الرحمة وكتب له رزقه قبل أن يولد ، وجعل هذا الرزق أكثر أضعافاً مما يحتاج لبيان فضل الله عز وجل على الناس في قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
فلم يبق الله عز وجل الناس على فقرهم وفاقتهم بل أغناهم وأغدق عليهم ، وانتفع البر والفاجر من النعم السماوية والأرضية.
ومن الشواهد الجلية عليه في هذا الزمان استخراج ثروات وكنوز الأرض ، وانتفاع البلدان التي تستخرج فيها وغيرها من الأمصار في التجارة والصناعة .
وسيأتي زمان بتسخير خزائن الأفلاك والكواكب للناس مما يستلزم الشكر لله عز وجل ، وإجتناب الكفر والجحود والإغترار بالذين كفروا الذين تحذر وتنذر منهم الآية لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَاد.
وهل قول [الحمد لله]حاجة للناس ومن عمومات فقرهم لله عز وجل ورحمته وواسع فضله ، الجواب نعم .
وعن الإمام علي عليه السلام (ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو في آخر وتره يقول اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما اثنيت على نفسك)( ).
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا ، وما أسررنا وما أعلنا [لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ]( ).
الحمد لله على نعمة العافية ، اللهم اجعل شكرنا لك على هذه النعمة سبباً لإستدامتها ، ومناسبة لمحو الأمراض ومقدماتها ، وليكون الثناء عليك سبحانك وسيلة لمحوها والشفاء منها .
ليكون من معاني قول الله [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، يمحو الله الأمراض بالدعاء وبفضل منه تعالى ، لإقرارنا بالتخلف عن الشكر بالنعم المتتالية في الأبدان وصحتها.
قال الكاهلي (كتبت إلى الإمام أبي الحسن عليه السلام في دعاء الحمد لله منتهى علمه فكتب إلي : لا تقولن منتهى علمه فليس لعلمه منتهى ولكن قل منتهى رضاه).
الحمد لله على سعة الرزق ، والأمن في النفس والأهل ، وجعل ساعة الغبطة والسعادة في الدنيا أضعاف ساعات الحزن والكآبة .
الحمد لله الذي بعث الأنبياء والرسل ، وأنزل الكتب السماوية لهداية الناس وختمها برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عنده تعالى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
وفي تلاوة آياته سياحة في عالم الملكوت ، وتقريب إلى رحمة الله تعالى ، وجلب للحسنات ، وتطهير من الذنوب .
الحمد لله واسع المغفرة ، باسط اليدين بالرحمة ، منزل البركات ، صارف الكيد والمكر وسبل الإغواء والتغرير الذي تحذر آية البحث في مفهومها منه .
وهل هذا الصرف من مصاديق [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( )، الجواب نعم .
فلا يختص حفظ الله عز وجل للناس في أبدانهم وأموالهم ، بل يشمل حفظ عقيدة التوحيد ، والتصديق بالنبوة ، ووجود وتوارث أمم تؤمن باليوم الآخر ، وتستعد له بالعمل الصالح ، وهذا التوارث من مصاديق [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) ( ) .
وعندما ساد الشرك في الجزيرة ، وتمادى الذين كفروا في الغي وارتكاب المعاصي ، ونصبوا الأصنام في البيت الحرام الذي جعله الله [مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( )، تفضل الله عز وجل وبعث النبي محمداً بالرسالة الخاتمة وأنزل عليه سور القرآن التي ابتدأت بالسور القصيرة ذات صبغة الإنذار والتخويف والوعيد منها [أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ]( )، [إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا* يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ]( ).
وكل آية منها دعوة للتفكر والتدبر ، ووثيقة سماوية خالدة تدعو الناس في كل زمان للإيمان لبيان أن تنجز فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومدن وقرى الجزيرة عامة تم بآيات القرآن وإعجازها وبالسنة النبوية التي هي وحي سواء كانت السنة القولية أو الفعلية ، وجريان المعجزات الحسية على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومنها حديث الإسراء والمعراج ، وفوران الماء من بين يديه في الحديبية بعد أن أشرف الصحابة على العطش .
و(عن جابر قال عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها ثم أقبل على الناس فقال ما لكم قالوا ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا نشرب إلا ما في ركوتك .
فوضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا فقلت لجابر كم كنتم يومئذ قال لو كنا مائة ألف لكفانا كنا خمس عشرة مائة)( ).
ومنها إنشقاق القمر ، وتسليم الحجر عليه من قبل أن يبعث ، إذ ورد (عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني لأعرف حجرا بمكة ، كان يسلم عليّ قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن)( ).
ومنها شفاء عدد من الصحابة على يديه ، خاصة في ميدان القتال ، ومحو أثر الجراحات عن بعضهم ، وهذا لم يمنع من إصابة النبي محمد نفسه بالجراحات ، لإقامة الحجة على الذين كفروا وبيان قانون نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل في الميدان بمعجزة من عند الله عز وجل .
ولم يتعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم للجراحات المتعددة إلا في معركة أحد ، لبيان قرب القتل بالسيف منه لولا أن جعل الله له واقية بالمعجزة ونصرة الملائكة .
وبعد أن صدر الجزء الخامس والستون بعد المائتين من تفسيري للقرآن (معالم الإيمان) خاصاً بتفسير آية واحدة من خمس كلمات من سورة آل عمران [لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ]( ).
يصدر هذا الجزء وهو السادس والستون بعد المائتين من تفسيري للقرآن إن شاء الله بعنوان (لم يغز النبي (ص) أحدا).
وقد صدرت بذات العنوان الأجزاء :
(164-165-166-168-169-
170-171-172-174-176-
177-178-180-181-182-
183-187-193-194-196-
204-212-216-221-229-
239-256-261)
وفق منهجية خاصة بلحاظ بدايات سرايا وكتائب ومعارك الإسلام الدفاعية حسب التتابع التأريخي لها.
ومما تضمنه الجزء الأخير منها وهو الواحد والستون بعد المائتين من هذا السِفر :
التضاد بين الجمعين يوم بدر ، قال تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ]( ).
قانون نبوة محمد (ص) سلام دائم.
قانون الصلح فتح مبين.
لماذا نزلت آيات القتال في المدينة.
لماذا يغزو المشركون في شوال.
كتيبة وادي القرى.
كتيبة أم القرى معجزة.
من معجزات معركة الخندق.
قانون خيبة المشركين في المعارك مقدمة لصلح الحديبية.
سرية أبي بكر إلى بني كلاب بن فزارة.
سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة .
من شروط الحديبية .
مكر قريش بعد الحديبية .
هجوم بني بكر على خزاعة .
سرية بشير بن سعد إلى يمن وجبار .
سرية ابن أبي العوجاء إلى بني سليم.
سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح.
سرية غالب بن عبد الله الليثي الثانية .
كتيبة النبي (ص) إلى وادي القرى .
سرية شجاع بن وهب الأسدي .
سرية كعب بن عمير الغفاري إلى بني قضاعة .
الصلة بين صلح الحديبية وآية (واعدوا) .
قانون صلح الحديبية سلم مجتمعي.
سرية إسامة بن زيد إلى الحرقة من جهينة .
سرية خالد بن الوليد لهدم العزى .
عمرة القضاء .
عمرة القضاء عز للإسلام .
تسمية غزوة عمرة القضاء.
زواج النبي (ص) من ميمونة بنت الحارث .
دعاء النبي (ص) عند التوجه لفتح مكة .
قانون فتح مكة استئصال لعبادة الأوثان .
دخول النبي (ص) مكة خاشعاً .
معجزة قلة قتلى فتح مكة .
قانون مصاحبة الوحي للنبي محمد (ص) .
قانون سرايا النبي (ص) بالوحي من عند الله.
قانون المعجزة عضد.
زينب (بنت رسول الله (ص)) في طريق الهجرة .
سعي النبي (ص) بين الصفا والمروة.
وجوب السعي بين الصفا والمروة .
سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة .
إطلاق المهاجرين والأنصار لأسراهم .
دفع النبي (ص) ديات القتلى .
ومن بديع خلق الإنسان التناسب الطردي بين تقدمه في العمر والإكثار من الحمد لله ، والإنقطاع إلى ذكره وعبادته وإصلاح اللسان والجوارح لمكارم الأخلاق ، وللتوبة والإنابة ، ليكون طول العمر نعمة مستقلة بذاتها ،ومناسبة للنعم ، ومقدمة لدخول عالم البرزخ بشهادة الإيمان والنجاة من مساءلة منكر ونكير .
قال تعالى [وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ]( ) وتبعث خاتمة الآية أعلاه الناس على الدعاء لطول العمر للذات والأولاد وأهل الإيمان.
وأسأل الله عز وجل طول عمري وعمر أولادي ذكوراً وإناثاً وأحفادي بتعظيم شعائر الله ، ومصاحبة القرآن ، وأداء الفرائض ، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أصحابه بطول العمر .
قال أحمد (حَدَّثَنَا بَهْزٌ وَحَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ : دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا هُوَ إِلَّا أَنَا وَأُمِّي وَأُمُّ حَرَامٍ خَالَتِي قَالَ فَقَالَ قُومُوا فَلِأُصَلِّي لَكُمْ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةٍ قَالَ حَجَّاجٌ قَالَ فَصَلَّى بِنَا صَلَاةً.
قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لِثَابِتٍ أَيْنَ جَعَلَ أَنَسًا قَالَ جَعَلَهُ عَلَى يَمِينِهِ قَالَ ثُمَّ دَعَا لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَتْ أُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ خُوَيْدِمُكَ ادْعُ اللَّهَ لَهُ ، فَدَعَا لِي بِكُلِّ خَيْرٍ.
قَالَ بَهْزٌ وَكَانَ فِي آخِرِ مَا دَعَا بِهِ اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ)( ).
وقد ورد حديث آخر في ذات الكتاب باسناد آخر (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُومُوا فَلَأُصَلِّ لَكُمْ قَالَ أَنَسٌ فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُمْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ)( ).
فهل المقصود ذات الواقعة أم يفيد تعددها ، المختار هو الثاني خاصة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى طعام ووجود اليتيم في الحديث أعلاه ، وعدم وجود أم أنس ، لبيان أن مادة الصلات الإجتماعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أداء الصلاة ، وتنمية حبها في النفوس.
ولا يتعارض الدعاء بطول العمر مع تعيين آجال العباد .
والقول بأن العمر لا يزيد ولا ينقص ليس بحجة إذ ينقضه قول الله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )وقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )وقال تعالى [ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ]( ).
ومن الشكر لله عز وجل استحضار الفرد والجماعة نعم الله الخاصة والعامة عليهم ، ومن أعظم نعم الله الإيمان الذي تترشح عنه نعم كثيرة في النشأتين.
وورد (بسند ضعيف عن أنس بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر : من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ، والتحدث بنعمة الله شكر ، وتركها كفر ، والجماعة رحمة)( ).
ولما أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدخول مكة (بدأ بالمسجد فدخل الكعبة وصلى ثمان ركعات)( ).
وقد شرعت سجدة الشكر عند تجدد النعمة وهي سجدة واحدة يقول فيها في السجود (سبحان ربي الأعلى وبحمده)أو كلمات الشكر والحمد لله.
وفي آخر أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بمقتل الأسود العنسي الكذاب الذي تنبأ باليمن فسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لله شكراً (قتله فيروز الفارسي )( ) .
(وقال محمد بن إسحاق: وكان جميع ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة سبعا وعشرين غزوة : غزوة ودان وهى غزوة الابواء، ثم غزوة بواط من ناحية رضوى .
ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الاولى يطلب كرز بن جابر .
ثم غزوة بدر العظمى التى قتل الله فيها صناديد قريش، ثم غزوة بنى سليم حتى بلغ الكدر .
ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب، ثم غزوة غطفان وهى غزوة ذى أمر ثم غزوة بحران معدن بالحجاز، ثم غزوة أحد، ثم حمراء الاسد .
ثم غزوة بنى النضير، ثم غزوة ذات الرقاع من نخل، ثم غزوة بدر الآخرة .
ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بنى قريظة، ثم غزوة بنى لحيان من هذيل .
ثم غزوة ذى قرد، ثم غزوة بنى المصطلق من خزاعة، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون .
ثم غزوة خيبر، ثم عمرة القضاء، ثم غزوة الفتح، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة تبوك.
قال ابن إسحاق: قاتل منها في تسع غزوات: غزوة بدر وأحد والخندق وقريظة والمصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف)( ).
وعددها سبع وعشرون ، ولم يثبت اسم الغزو عليها.
وقد تقدم هذا الخبر في الجزء التاسع والعشرين بعد المائتين ص140 والمعدن أي يعدن الناس بمعنى يقيمون ، ومنه جنة عدن .
وقال ابن حزم : غزا صلوات الله وسلامه عليه خمساً وعشرين غزوة وهي على ترتيبها .
وقد ذكرتُ النص في الجزء السادس والخمسين بعد المائتين ص112 ، إنما كان المشركون هم الغزاة .
وهذا الجزء هو الثامن والعشرون بعنوان (لم يغز النبي (ص) أحداً) في بيان الشواهد والدلائل على أن المشركين هم الذين سلوا السيوف بعد السيوف وانفقوا الأموال الطائلة وغزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمدينة مرة بعد أخرى ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
وقد تقدم الجزء التاسع والخمسون بعد المائتين من هذا السفِر خاصاً بتفسير الآية من مصاديق [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا..]( ) ولا يحصي عدد الذين آمنوا بتلاوة القرآن وسماع آياته إلا الله عز وجل.
ويتضمن هذا الجزء (تسعين) قانوناً مستقرأً من التنزيل والسنة والسيرة النبوية.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جمعه بين صناعة السلام ومنع القتال والحرب مع دعوته السماوية لنقض ما عليه الناس من عقائد وثنية ، وكيان اجتماعي متوارث قائم على القوة ، وسلطة القبيلة فنزل القرآن بقوله تعالى [إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ]( ).
حرر في الرابع عشر من شهر شعبان 1446
15/2/2025
قانون البعثة النبوية سلام
لقد أمضى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث عشرة سنة من نبوته في مكة ، وتحمل فيها الأذى الشديد ، ولم تقع معركة بينه وبين المشركين ، ولا ملاقاة بالسيف أو الآلات الحادة كالسكاكين بينه وبين أي منهم سواء رؤساء قريش أو غلمانهم أو سفهائهم ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار أن في هجرة ثلاثة وثمانين من الصحابة وتسع عشرة من الصحابيات إلى الحبشة دفعاً لمثل هذه الملاقاة ، فقد كان الصحابة في ثبات واعتزاز بمقامات الإيمان ، ومعه يزداد حنق وغيظ المشركين .
ليكون من الغايات في هجرة الحبشة حسرة المشركين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ) .
وصحيح أن الآية أعلاه مدنية ومن سورة آل عمران إلا أنه لا يمنع من الاستصحاب القهقري لأحكامها لإتحاد الموضوع في تنقيح المناط وإن لم يقل الأصوليون بالاستصحاب القهقري ، ولكن علوم القرآن أعم .
لقد كانت مدة البعثة النبوية بلحاظ القتال وعدمه على شعبتين :
الأولى : مدة خمس عشرة سنة لم يقع فيها قتال ، فأول معركة في الإسلام هي معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة بتحشيد ونفير من رؤساء الكفر من قريش ، وكانت هجرة رهط من الصحابة من مكة إلى الحبشة وثيقة سلام نبوية للأجيال المتعاقبة .
الثانية : وقوع أربع معارك بعد الهجرة كان الغزاة فيها جميعاً الكفار وهي معركة بدر ، أحد ، الخندق ، حنين ، والثلاثة الأولى كان الغزاة فيها قريش وحلفاءهم ، أما الرابعة فكان الغزاة هم هوازن وثقيف .
لقد دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هذه المعارك مضطرين وللدفاع عن التوحيد والتنزيل والنبوة وهو من الشواهد على قانون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلام محض .
لقاء الأنصار في العقبة أربع مرات
لقد هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذات الليلة التي أخبره جبرئيل في صبيحتها بأن قريشاً عزموا على قتلك في الفراش ليلتئذ ، وقد يسر الله عز وجل له أمر الهجرة بمعجزة إذ صار له أنصار في المدينة (يثرب).
إذ كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينشط في دعوته إلى الله أيام موسم الحج لأنه في الأشهر الحرم ، ذي القعدة ، وذي الحجة ، ومحرم ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( )، ولقدوم قبائل العرب إلى مكة لأداء حج بيت الحرام ليكون بناء إبراهيم وإسماعيل البيت الحرام مقدمة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الآيات مشاركة إسماعيل في رفع قواعد البيت ، قال تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( )، لتكون هذه المشاركة شاهداً على اختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الحج عندما ملأت الأصنام البيت الحرام.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحض القبائل عند اللقاء بهم على إيوائه ونصرته والتنزيل (ويقول : من رجل يؤوينى حتى أبلغ كلام ربى، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربى عز وجل)( ).
فأنعم الله عز وجل عليه باللقاء بجماعة من أهل يثرب في العقبة عشية يوم النحر عند جمرة العقبة.
ومن الإعجاز في المقام وجوه :
الأول : تكرر اللقاء أربع مرات ، في كل سنة مرة .
الثاني : عقد هذا الإجتماع بعيداً عن أعين كفار قريش مع شدة مراقبتهم ورصدهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحذيرهم الوفود في موسم الحج منه ومن دعوته .
الثالث : الإزدياد في عدد الرجال والنساء في كل مرة .
إلا أنهم اشترطوا وصوله إلى المدينة ليذبوا عنه ، وعن عبادة بن الصامت (إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدم علينا يثرب مما نمنع به أنفسنا وأرواحنا وأبناءنا ولنا الجنة)( ).
لقد التقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأهل يثرب من الأوس والخزرج في سني الدعوة المكية ، ويلتقي بهم أفراداً وجماعات منها :
الأول : لقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسويد بن الصامت أخي بني عمرو بن عوف الأوسي ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام ، فلم يبعد ولم يجب ، ثم انصرف إلى المدينة ، فقتل في بعض حروبهم .
لتمر الأيام ويهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وتقع معركة بدر ثم معركة أحد ، فقام الحارث بن سويد بقتل المجذر بن زياد الذي قتل أباه في بعض حروب الجاهلية فاستغل الحارث الإرباك الذي حصل يوم أحد فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمر بن الخطاب بقتل الحارث إن ظفر به ففاته فكان بمكة ثم بعث إلى أخيه الجلاس يطلب التوبة.
وعن ابن عباس فأنزل الله فيه (كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم) إلى آخر القصة) عن الواقدي ( ).
الثاني : قدوم وفد من أهل يثرب يطلبون الحلف من قريش ، فالتقاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليدعوهم إلى خير الدنيا والآخرة ، ويتلو عليهم آيات القرآن لينسوا الغاية التي جاءوا لها ، وكأنه من قانون تقديم الأهم على المهم طوعاً وانطباقاً وقهراً.
الثالث : قدوم مائة من بني عبد الأشهل إلى مكة برئاسة أبي الحيسر أنيس بن رافع يلبون الحلف من قريش (فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام .
فقال إياس بن معاذ منهم وكان شاباً حدثاً: يا قوم، هذا والله خير مما جئنا له. فضربه أبو الحيسر وانتهره، فسكت.
ثم لم يتم لهم الحلف، فانصرفوا إلى بلادهم بالمدينة، ومات إياس بن معاذ، فقيل إنه مات مسلماً)( ).
ولا تعني هذه اللقاءات بوقوع لقاء واحد فقط في كل سنة ، فقد يتداخل في سنة واحدة أكثر من لقاء في موسم الحج في البيت الحرام أو في منى ، أو عرفة ، أو في غير موسم الحج عند البيت الحرام .
الرابع : لقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم موسم الحج عند البيت الحرام عند العقبة في موسم الحج بستة نفر من الخزرج هم :
الأول : (أبو أمامة أسعد بن زرارة ابن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، واسم النجار: تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة.
الثاني : عوف بن الحارث بن رفاعة (بن الحارث) بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار، وهو ابن عفراء.
الثالث : رافع بن مالك بن العجلام بن عمرو بن عامر بن زريف بن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم ابن الخزرج.
الرابع : قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد (بن عليّ بن أسد بن) ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج بن حارثة.
الخامس : عقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة.
السادس : جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة.
لقد دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفد الأوس والخزرج إلى الإسلام، فكان من صنع الله تعالى لهم أنهم كانوا جيران اليهود، فكانوا يسمعونهم يذكرون أن الله تعالى يبعث نبياً قد أظل زمانه، فقال بعضهم: هذا والله النبي الذي يتهددكم به اليهود، فلا يسبقونا إليه. فآمنوا وأسلموا)( ).
وكانت يومئذ حرب بين الأوس والخزرج هي حرب بُعاث ، فلذا لم يحضر هذا اللقاء إلا أفراداً من الخزرج ، وكانوا يرجون بدخول الإسلام وفيض النبوة إيقاف هذه الحرب.
وقالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنا سندعو قومنا من الأوس والخزرج إلى الإسلام ، وعسى الله أن يجمع كلمتهم ، وقالوا (فإن اتبعوك فلا أحد أعز منك. فانصرفوا إلى المدينة، فدعوا إلى الإسلام، حتى فشا فيهم، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
لقد دخلت آيات القرآن بيوت المدينة ، ومن خصائص القرآن قانون تجلي السنخية السماوية لآيات القرآن، وقانون القرآن سور جامع على الخير والصلاح.
لقد كانت هذه اللقاءات في موسم الحج تتم بحذر وحيطة من عيون قريش ورصد رؤسائها المباشر لما يقوم به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإيذائهم له في ذات الوقت الذي يعرضون عليه الأموال والثروة وكثرة الزوجات ، والرئاسة العامة على قريش وحلفائها ولكنه أبى إلا الجهاد السلمي في الدعوة إلى الله ، وترك الدعة والرخاء والجاه والسلطان ، وهو من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على صدق نبوته .
كما كان الذين يلتقون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويسمعون آيات القرآن يتعرضون لتوبيخ وتهديد قريش خاصة وأن التحذير صدر من قريش للذين يدخلون مكة بلزوم عدم الإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
بيعة العقبة الأولى
في موسم الحج من السنة الثانية عشرة للبعثة النبوية قدم مع وفد الحاج من أهل يثرب جماعة من المسلمين ومن الآيات أنهم من الأوس والخزرج أي أنهم نبذوا بإسلامهم الحرب والقتال بينهم ، وهو من النواة والمصاديق الأولى لقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
وسميت بيعة العقبة نسبة إلى تلة صغيرة في مشعر منى تم فيها لقاء النبي محمد من الأنصار بعيداً عن عيون قريش وهو في هذا الزمان مسجد صغير من طابق واحد بجانب الطوابق والأدوار الشاهقة لجسور رمي الجمرات ، ويسمى مسجد البيعة .
فقد حضر في موسم الحج اثنا عشر من الأنصار ، إذ حضرها خمسة من الستة الذين لقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الموسم السابق ، وتخلف جابر بن عبد الله بن رئاب ، وهو غير جابر بن عبد الله الأنصاري.
وحضر البيعة سبعة آخرون :
الأول : (معاذ بن الحارث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار، وهو ابن عفراء أخو عوف المذكور قبل.
الثاني : ذكوان بن عبد قيس بن خلدة وقيل خالد بن مخلد بن عامر ابن زريق. وذكوان هذا رحل إلى مكة، فسكنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مهاجري أنصاري ، قتل يوم أحد.
الثالث : عبادة بن الصامت بن قيس بن الأصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم ابن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج بن حارثة.
الرابع : يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم بن عمرو ابن عمارة ، من بني غصينة ، ثم من بلي، حليف لهم.
الخامس : العباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن زيد بن غنم ابن سالم بن عوف بن عمرو بن الخزرج بن حارثة.
فهؤلاء خمسة من الخزرج.
ومن الأوس بن حارثة رجلان وهما :
الأول : أبو الهيثم مالك بن تيهان ، وهو من بني عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو ابن مالك بن الأوس بن حارثة .
الثاني : عويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس بن حارثة)( ).
وبايع هؤلاء الاثنا عشر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام ، وليس من أمر للقتال والدفاع ، لذا سميت بيعة النساء .
لتكون أول بيعة جماعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خارج مكة و(عن عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض علينا الحرب، على ألا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف.
قال : فمن وفى ذلك منكم فأجره على الله)( ).
لقاء وفد الأنصار بالنبي (ص)
لقد اجتهد وفد الأنصار في التخطيط للقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعيداً عن عيون قريش الذين لو علموا بأوان ومكان اللقاء لسارعوا إلى تفريقهم ، ومنعوا من فرصة بناء دولة الإسلام بهجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة , ولو علمت به قريش وحالت دون عقد هذا اللقاء لتعذر عقده في تلك السنة وربما في سنوات أخرى ، فتفضل الله عز وجل بتنجز هذا اللقاء الرسالي وهو من مصاديق قوله تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ]( ).
لقد حرص الأنصار على إتمام حجهم بالوقوف على عرفة ثم رمي الجمرات ، وذبح الهدي والتقصير ، وطواف البيت الحرام ، والسعي بين الصفا والمروة .
والعودة إلى منى للمبيت فيها ، عندئذ سعوا إلى لقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه في أداء مناسك منى والبيت الحرام يصعب الإجتماع ، ويتعذر اللقاء العام خاصة وأن لقاءهم مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتم سراً وبالخفاء عن عيون ورجالات قريش .
لقد تدنى رؤساء قريش وأذلوا أنفسهم بأن صاروا عيوناً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين المستضعفين ، وكان موعد الأنصار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة في احدى ليالي التشريق.
وعن كعب بن مالك (فَلَمّا فَرَغْنَا مِنْ الْحَجّ وَكَانَتْ اللّيْلَةُ الّتِي وَاعَدْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهَا ، وَمَعَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَوْ جَابِرٌ سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا ، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا ، أَخَذْنَاهُ مَعَنَا ، وَكُنّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَمْرَنَا ، فَكَلّمْنَاهُ وَقُلْنَا لَهُ يَا أَبَا جَابِرٍ إنّك سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا ، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا ، وَإِنّا نَرْغَبُ بِك عَمّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنّارِ غَدًا ، ثُمّ دَعَوْنَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبَرْنَاهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إيّانَا الْعَقَبَةَ . قَالَ فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ ، وَكَانَ نَقِيبًا . قَالَ فَنِمْنَا تَلِك اللّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا ، حَتّى إذَا مَضَى ثُلُثُ اللّيْلِ خَرَجْنَا مِنْ رِحَالِنَا لِمَعَادِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَتَسَلّلُ تَسَلّلَ الْقَطَا مُسْتَخْفِينَ حَتّى اجْتَمَعْنَا فِي الشّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ ، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا ، وَمَعَنَا امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِنَا : نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمّ عُمَارَةَ إحْدَى نِسَاءِ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ بْنِ نَابِي ، إحْدَى نِسَاءِ بَنِي سَلِمَةَ وَهِيَ أُمّ مَنِيعٍ.
قَالَ فَاجْتَمَعْنَا فِي الشّعْبِ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى جَاءَنَا وَمَعَهُ عَمّهُ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ إلّا أَنّهُ أَحَبّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ وَيَتَوَثّقَ لَهُ .
فَلَمّا جَلَسَ كَانَ أَوّلَ مُتَكَلّمٍ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ – قَالَ وَكَانَتْ الْعَرَبُ إنّمَا يُسَمّونَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ : الْخَزْرَجَ ، خَزْرَجَهَا وَأَوْسَهَا – : إنّ مُحَمّدًا مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا ، مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا فِيهِ فَهُوَ فِي عِزّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ وَإِنّهُ قَدْ أَبَى إلّا الِانْحِيَازَ إلَيْكُمْ وَاللّحُوقَ بِكُمْ فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إلَيْهِ وَمَانِعُوهُ مِمّنْ خَالَفَهُ فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمّلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ)( ).
قال الأنصار للعباس : قد سمعنا ما قلت ، ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتكلم ، وكانوا تواقين إلى سماع كلامه لأنه شعبة من الوحي ، وهي ساعة ساعة شدوا الرحال من يثرب من أجلها يريدون سماع ما يطلبه الرسول ويتدبرون في معاني كلامه ، والمائز الذي يميزه عن كلام عامة الناس والرؤساء والزعماء ، لقانون مجئ خاتم النبيين بالنفع العام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
لقد كعب بن مالك (فتكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تنعون منه نساءكم وأبناءكم.
قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: والذي بعثك بالحق، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر)( ).
لقد حضر الأنصار موسم الحج في السنة الثالثة عشرة للهجرة ، لأداء مناسك الحج وللقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووضع أسس وقواعد الدعوة الإسلامية .
لماذا سميت بيعة النساء
في رواية عن عباد بن الصامت ذكر ذات نص بيعة العقبة الأولى من غير أن يذكر العقبة إنما أخبر بأنها حدثت في مجلس وحول النبي جماعة من أصحابه ، إذ قال عبادة بن الصامت (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : بَايِعُونِى عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ تَسْرِقُوا وَلاَ تَزْنُوا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلاَ تَعْصُوا فِى مَعْرُوفٍ.
فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ فِى الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ)( ).
وسميت هذه البيعة بيعة النساء لوجهين :
الأول : خلو البيعة من احتمال وقوع حرب وقتال بين المسلمين والمشركين ، ولأن الحرب من خصائص الرجال .
الثاني : وجوه شبه بين شروط بيعة العقبة الأولى وبيعة النساء التي نزلت بعد صلح الحديبية ، وبها بايعت نساء مكة النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة .
وكان الأوس والخزرج أخوين لأم وأب ، وأصلهما من اليمن من سبأ ، وامهما قيلة بنت كاهل ، امرأة من قضاعة ، لذا يقال للأوس والخزرج أبناء قبلة ، وقيل كانت بيعة العقبة الأولى في رجب ، والمشهور والمختار أنها في موسم الحج من السنة الثانية عشرة للبعثة النبوية والموافق لسنة 621م.
أسماء الذين حضروا البيعة الأولى
لقد بايع النبي محمداً فيها اثنا عشر رجلاً منهم خمسة من الذين حضروا في العام الماضي وهم :
الأول : أسعد بن زُرَارة (من بني النجار).
الثاني : عوف بن الحارث بن رفاعة ابن عَفْراء (من بني النجار).
الثالث : رافع بن مالك بن العَجْلان (من بني زُرَيْق).
الرابع : قُطْبَة بن عامر بن حديدة (من بني سلمة).
الخامس : عُقْبَة بن عامر بن نابي (من بني حَرَام بن كعب).
وكلهم من الخزرج .
وحضر هذه البيعة جابر بن عبد الله بن رئاب ولكنه لم يحضر بيعة العقبة الثانية وحضر سبعة آخرون وهم :
السادس : معاذ بن الحارث ، ابن عفراء من بني النجار .
السابع : ذَكْوَان بن عبد القيس من بني زُرَيْق .
الثامن : عبادة بن الصامت من بني غَنْم .
التاسع : يزيد بن ثعلبة من حلفاء بني غنم .
العاشر : العباس بن عُبَادة بن نَضْلَة من بني سالم.
وحضر اثنان من الأوس هما :
الحادي عشر : أبو الهَيْثَم بن التَّيَّهَان من بني عبد الأشهل.
الثاني عشر : عُوَيْم بن ساعدة من بني عمرو بن عَوْف .
وتدل بيعة العقبة الأولى على صبغة السلم التي تتصف بها رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومع أنها دعوة حق ونفع عام في النشأتين فانه كان يبلغ الناس على نحو سري ، وبالصلة الشخصية ويتلو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الذي يلتقي به من زوار البيت الحرام آيات وسور قصار من القرآن ، ويطلب منه إخفاء الأمر عن قريش ، وهذا التقييد (عن قريش) دعوة للآخرين لنقل الدعوة النبوية لأهل الأمصار والقرى ، وكانت قريش على الطرف الآخر تحذر الناس من الإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع التهديد والتخويف .
وعن جابر بن عبد الله (مكث رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم عكاظ ومجنة في الموسم يقول : من يؤوينى ؟ من ينصرنى ، حتى أبلغ رسالة ربى وله الجنة فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر كذا قال فيه فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون : احذر غلام قريش لا يفتنك ويمضي بين رحالهم وهم يشترون إليه بالأصابع.
حتى بعثنا الله من يثرب فآويناه وصدقناه فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه حتى لم تبق دار من الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمون يظهرون الإسلام)( ).
سفارة مصعب بن عمير
ولما أراد الأنصار الإنقلاب إلى المدينة بعد إكمال مناسك الحج بعث معهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصعب بن عمير بن هاشم من بني عبد الدار بن قصي .
وكان مصعب بن عمير شاباً ترعرع في دلال ، فهو يلبس أحسن وأغلى الثياب ، وعرف بأنه (أعطر أهل مكة) لأنه يتعطر بأغلى وأطيب العطور ، وكان أبواه ينعمانه ، وتحبه أمه خِناس بنت مالك ، حباً جماً ، ومع هذا حينما علموا باسلامه في دار الأرقم بن أبي الأرقم اخذوه وحبسوه .
وآذوه بغية إرتداده عن الإسلام ولكنه أظهر الثبات في مقامات الإيمان وذكر أنه خرج إلى الحبشة مهاجراً ثم عاد من الحبشة وامتنعت أمه خٍناس بن مالك من الإنفاق عليه لإسلامه مع كثرة أموالها.
وأقبل مصعب (يوماً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه قطعة من نَمِرَةٍ قد وصلها بإهاب، فنكس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤوسهم رحمة له، وليس عندهم ما يغيًرون عليه، فسلم فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام .
وقال : لقد رأيت هذا وما بمكة فتى من قريش، أنعم عند أبويه منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير في حب الله ورسوله)( ).
وبالإسناد عن الإمام علي عليه السلام قال (إنا لجلوس مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد إذ طلع علينا مصعب بن عمير ما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم بكى للذي كان فيه من النعمة و بما فيه اليوم.
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كيف بك إذا غدا أحدكم في حلة و راح في حلة و وضعت بين يديه صحفة و رفعت أخرى و سترتم جدر بيوتكم كما تستر الكعبة.
فقالوا : يا رسول الله نحن يموئذ خير منا اليوم نتفرغ للعبادة و نكفي المؤنة .
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنتم اليوم خير منكم يومئذ)( ).
وحينما عاد مصعب من المدينة مع سبعين رجلاً من الأنصار في بيعة العقبة الثانية أخذ يخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مسارعة أهل المدينة في دخول الإسلام (وبعثت إليه أمه: يا عاق، أتقدم بلداً أنا به ولا تبدأ بي ، فقال : ما كنت لإبدأ بأحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى أمه فأرادت حبسه، فقال: إن حبستني لأحرضن على قتل من يتعرض لي، فبكت وقالت: اذهب لشأنك، فقال: يا أماه ، إني لك ناصح وعليك شفيق، فأسلمي، قالت: والثواقب( ) لا أدخل في دينك.
وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، وقدم قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً لهلال ربيع الأول قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم باثنتي عشرة( ) ليلة)( ).
وعن البراء بن عازب قال (أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، ثم قدم علينا عمار وبلال.
و(عن أبى إسحاق، سمعت البراء ابن عازب قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس، فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشئ فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جعل الاماء يقلن: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما قدم حتى قرأت [سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى]( ) في سور من المفصل)( ).
وبعد الرفاه والسعة صار مصعب يعيش الفاقة ، ويرتدي طواعية أخشن الثياب ، منقطعاً إلى ذكر الله ، داعياً الناس إلى الإسلام ، يدل التبدل في هيئته إلى التقشف الاختياري على صدق دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قال: أعطى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يوم أحد مصعب بن عمير اللواء فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب فجعل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول له في آخر النهار: تقدم يا مصعب، فالتفت إليه الملك فقال: لست بمصعب، فعرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه ملك أيد به.
قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى قال: أخبرنا عمرو بن صهبان عن معاذ بن عبد الله عن وهب بن قطن عن عبيد بن عمير أن النبي، صلى الله عليه وسلم، وقف على مصعب بن عمير وهو منجعف على وجهه فقرأ هذه الآية [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ]( ).
ثم قال : إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس زوروهم وأتوهم وسلموا عليهم، فو الذي نفسي بيده لا يسلم عليهم مسلم إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه السلام.
قال: أخبرنا أبو معاوية الضرير قال: حدثنا الأعمش عن شقيق عن خباب بن الأرت قال: هاجرنا مع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله فمنا من مضى ولم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير .
قتل يوم أحد فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، قال فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، فقال لنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهد بها.
قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري عن أبيه قال: كان مصعب بن عمير رقيق البشرة حسن اللمة ليس بالقصير ولا بالطويل، قتل يوم أحد على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة وهو ابن أربعين سنة أو يزيد شيئا، فوقف عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو في بردة مقتول فقال: لقد رأيتك بمكة وما بها أحد أرق حلة ولا أحسن لمة منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة. ثم أمر به يقبر فنزل في قبره أخوه أبو الروم بن عمير وعامر بن ربيعة وسويبط بن سعد بن حرملة)( ).
وبعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مع الأنصار الذين بايعوا النبي في بيعثة العقبة الأولى ليقوم بالوظائف العقائدية التالية :
الأولى : تعليم الأنصار القرآن .
الثانية : أداء الصلاة جماعة بالأنصار .
الثالثة : دعوة أهل يثرب لدخول الإسلام .
الرابعة : إعانة المهاجرين الذين يقدمون إلى يثرب ، وتوفير أسباب السكن لهم .
الخامسة : التوطئة لقدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً إلى المدينة .
السادسة : وظائف السفارة .
وقيل أن الأنصار هم الذين كتبوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبعث لهم رجلاً يفقههم في الدين ويقرئهم القرآن.
والأول أرجح وهو بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمصعب بن عمير مع رجال بيعة العقبة الأولى .
ولا مانع من الجمع بين الأمرين بأن حمل هؤلاء الرجال عند قدومهم إلى مكة الطلب بأن يبعث لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد أصحابه .
وذكر أن مصعب بن عمير هو أول سفير في الإسلام ، والمختار أن أول سفارة في الإسلام هي هجرة ثلاثة وثمانين رجلاً وتسع عشرة امرأة إلى الحبشة في السنة الخامسة للهجرة ، ولقائهم بالنجاشي ملك الحبشة ، وتعهده بسلامتهم في مملكته ، ولقد رد طلب وفد كفار قريش إعادتهم إليهم .
وتدل سفارة مصعب بن عمير على نشر الدعوة الإسلامية بالحكمة والموعظة والبرهان ، وليس بالسيف والقتال ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( ).
سعي مصعب إلى المدينة
لم يتردد مصعب في الإستجابة لأمر رسول الله بالهجرة إلى المدينة ، ولما قدم المدينة (يثرب) نزل على أسعد بن زرارة ، مع قيامه بالذهاب إلى بيوت الأنصار لتثبيت إيمانهم ، ويتصل بأهل المدينة من الرؤساء والعامة يتلو عليهم آيات القرآن ، ويدعوهم إلى الإسلام ويهيئ المقدمات لهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلقي الناس بالقبول والرضا والترحيب.
فلقد هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل إلى الطائف يدعو أهلها للإسلام ، ويسألهم إيواءه وحمايته من قريش فلم يجد منهم إلا الأذى الشديد .
وبعث في طلبه عمرو بن الجموح وهو في المدينة يستطلع أمر الدين الذي سارع عدد من رجالات وشباب الأوس والخزرج بدخوله ، فذهب إليه مُصعب بن عمير وحدثه عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والغايات والمقاصد الحميدة منها .
وقرأ عليه الآيات الأولى من سورة يوسف فأسلم عمرو بن الجموح .
وهل من موضوعية لأداء مُصعب بن عمير الصلاة جماعة في المدينة في دخول الناس الإسلام والتهيئ العام لدخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين الآخرين إلى المدينة ، الجواب نعم ، لتكون سفارة مصعب بن عمير على وجوه :
الأول : سفارة مُصعب بن عمير معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : بيان مصداق لقانون التوفيق والنجاح في الأوامر والنواهي النبوية .
الثالث : بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمصعب بن عمير من الوحي .
الرابع: الحاجة إلى مقدمات هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويترشح الوجوب والإستحباب على المقدمة لوجوب أو استحباب ذيها .
الخامس : قانون موضوعية السفارة في الإسلام .
السادس : قانون منافع السفارة في الإسلام .
السابع : قانون سفارة مصعب بن عمير سلم محض .
الثامن : قانون سفارة مصعب بن عمير جهاد من غير مسايفة .
وتجلت منافع سفارة مصعب بن عمير إلى المدينة بأن جاء في العام التالي معه إلى مكة سبعون من الأنصار .
والنسبة بينهم وبين من بقي فيها من المسلمين عموم وخصوص مطلق ، والمختار أن الذين بقوا فيها من المسلمين أكثر من الذين وفدوا إلى مكة .
لقد امتنع رؤساء قريش عن دخول الإسلام فأنعم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسلام كثير من وجهاء ورؤساء الأوس والخزرج ، وهل تصل أخبار إسلامهم إلى قريش.
الجواب نعم ، وهو سبب لإزدياد حنقهم وحسدهم ، وظهور غيظهم وبقسوة مستحدثة مع زيادة إيذائهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة .
أسباب خشية الأنصار أيام العقبة
لقد كان الأنصار يتحدثون وهم في المدينة وفي الطريق إلى مكة لماذا يبق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الكفار مع احتمال قتلهم له ، وكيف السبيل إلى انقاذه من الطرد والخوف في جبال مكة .
وعندما وصل الأنصار إلى مكة سعوا إلى لقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا يخشون من جهات :
الأولى : المشركون الذين قدموا معهم من المدينة إلى يثرب .
الثانية : رؤساء قريش وسطوتهم وقسوتهم .
الثالثة : تآلف المشركين عليهم في الموسم .
فصار الأنصار يناشدون سراً وبحذر ، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم واتفقوا على الإجتماع في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند الهضبة قرب الجمرة الأولى من منى في ظلمة الليل وبسرية تامة .
وعندما حان الموعد صاروا ينسلون الواحد والاثنين بهدوء وخفية ، ولم يعلموا أنهم سيدخلون مكة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاتحين بعد تسع سنين لتهدم الأصنام ، ويستأصل الشرك ومفاهيم الضلالة ، والفواحش ، وكان مصعب قد قدم مع وفد من الأنصار ، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن دخول كثير من أهل يثرب الإسلام ، وعمر مُصعب يوم بيعة العقبة الثانية نحو ست وثلاثين سنة .
بيعة العقبة الثانية
يقوم العرب بحج بيت الله الحرام كل عام منذ أن نادى إبراهيم في الناس بالحج بأمر من الله عز وجل ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
ومن الإعجاز الزماني في المقام تسمية الشهر الذين يكون فيه الحج شهر ذي الحجة ، وجعله الله عز وجل شهراً حراماً لا يجوز القتال والإغارة والسلب والنهي فيه.
ليكون هذا المنع فيه وفي شهر ذي القعدة مقدمة لتوجه الناس للحج بأمن وطمأنينة على بيوتهم وعوائلهم وأموالهم ، وهو نظام إجتماعي وتشريعي وتنفيذي لا يقدر عليه وعلى استدامته إلا الله عز وجل ، قال سبحانه [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
وفي السنة الثالثة عشرة للبعثة النبوية قدم وفد الحاج من المدينة (يثرب) وكان فيه المسلمون والمشركون.
وعدد المسلمين ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان هما نسيبة بنت كعب أم عمارة من بني مازن بن النجار .
وأم منيع واسمها : أسماء بنت عمرو بن عدي من بني سلمة ، وكان الأنصار يكتمون أمرهم وعزمهم على الإجتماع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جماعة المشركين الذين معهم في وفد الحاج القادم من المدينة.
كما كانوا يحرصون على عدم معرفة قريش باجتماعهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة أيام التشريق مع شوقهم لهذا الإجتماع ، وهذا الشوق من خصال أهل الإيمان .
ولما اجتمع بهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أخذ عليهم الميثاق والبيعة بالأسس القويمة لبناء دولة الإسلام والذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونصرة القرآن ، وتسمى هذه البيعة بيعة العقبة الثانية.
نص بيعة العقبة الثانية
قال جابر بن عبد الله الأنصاري (ثم بعثنا الله تعالى فأتمرنا واجتمعنا فقلنا: متى نذر رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف في جبال مكة ويخاف ؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين حتى توافينا عنده، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك.
قال (تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العشر واليسر، وعلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله، لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة).
فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر السبعين رجلا إلا أنا فقال : رويدا يا أهل يثرب.
فإنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم وعلى قتل خياركم وعلى مفارقة العرب كافة، فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة، فذروه فهو أعذر لكم عند الله.
فقلنا: ابسط يدك يا أسعد بن زرارة، فو الله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها.
فقمنا إليه نبايعه رجلا رجلا، يأخذ علينا شرطه ويعطينا على ذلك الجنة)( ).
و(روى البخاري ، حدثنى إبراهيم ، حدثنا هشام ، أن ابن جريج أخبرهم قال عطاء ، قال جابر: أنا وأبى وخالاى من أصحاب العقبة)( ).
لقد عطف الله عز وجل قلوب الأنصار على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفته الرسالية ليتناجوا بينهم بنصرته قولاً وفعلاً ، وهو من مصاديق ما ورد في دعاء إبراهيم عليه السلام لذريته عند البيت الحرام يوم أسكن إسماعيل وأمه هاجر في مكة كما ورد في التنزيل [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ]( ).
ومن غير أن تصل النوبة لإستعماله السيف ، وهذه المناجاة من استجابة الله عز وجل لدعاء إبراهيم ، ومن مصاديق قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
افتخار الأنصار ببيعة العقبة الثانية
وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وشيوع الإسلام ، صار الأنصار يفتحرون ببيعة العقبة الثانية ثم صاروا يتحدثون عنها إلى أولادهم والتابعين ، وحرصوا على ذكر أسماء الاثني عشر الذين اشتركوا في بيعة العقبة الأولى .
مع توثيق أسماء الثلاثة والسبعين رجلاً والمرأتين اشتركوا في بيعة العقبة الثانية .
وما أحاط بكل منهم من الأخطار التي لم تنته عند أوان الإجتماع ، لشدة قسوة قريش ، وملاحقتهما للمسلمين خاصة وأن الأنصار فتحوا باب انتشار الإسلام خارج مكة ، وفي المدن والقبائل ، لأن تأثير المسلم في المدينة أكثر منه في القرية .
وأخبر الأنصار بأن كلاً من البيعتين الأولى والثانية ميثاق ، ووثقوا مضامين كل منهما .
ومن أمد الله في عمره من أصحاب بيعة العقبة الثانية جابر بن عبد الله الأنصاري ، وكان من مكثري الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحفاظ للسنن ، وفقد بصره في آخر عمره ، وتوفى سنة (أربع وسبعين وقيل سنة ثمان وسبعين وقيل سنة سبع وسبعين بالمدينة)( ).
وكان عمره يوم وفاته أربع وتسعين سنة.
ومما رواه جابر بن عبد الله عن بيعة العقبة الثانية (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم مجنة وعكاظ وفي المواسم بمنى يقول (من يؤويني ، ومن ينصرني ، حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة).
فلا يجد أبدا أحدا يؤويه ولا ينصره، حتى أن الرجل ليرحل من مضر أو اليمن، فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون: احذر فتى قريش لا يفتنك يمضي بين رحالهم، وهم يشيرون إليه بأصابعهم، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه حتى لم تبق دار من دور يثرب إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الاسلام.
وفيه شاهد بأن الإسلام انتشر خارج مكة بالبرهان وآيات القرآن وليس بالسيف ، وهو من الشواهد على عنوان هذا الجزء من (معالم الإيمان) وهو (لم يغز النبي (ص) أحداً).
وحتى المنافقين حينما إزداد عددهم لم يقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحداً منهم ، ولم يهددهم بالقتل إنما نزلت آيات القرآن في ذمهم وتوبيخهم لينحسر النفاق تدريجياً ، ويقل أثره وضرره.
استقبال البراء البيت الحرام
قال ابن إسحاق باسناده عن كعب بن مالك الذي كان ممن حضر بيعة العقبة الثانية الذي قال (خرجنا في حجاج قومنا، وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور، سيدنا وكبيرنا. فلما وجهنا لسفرنا، وخرجنا من المدينة، قال البراء لنا: والله يا هؤلاء، إني قد رأيت رأياً، والله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا ، قال: فقلنا: وما ذاك .
قال: قد رأيت ألا أدع هذه البنية مني بظهر – يعنى الكعبة – وأن أصلي إليها.
قال: فقلنا: والله ما بلغنا عن نبينا أنه يصلى إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه. قال: فقال: إني لمصلٍ إليها، قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل، قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام، وصلى إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة. قال: وقد عبنما عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة على ذلك؛ فلما قدمنا مكة قال لي: يا بن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنى والله لقد وقع في نفسي منه شيء؛ لما رأيت من خلافكم إياي فيه.
قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – وكنا لا نعرفه، ولم نره قبل ذلك – فلقينا رجلاً من أهل مكة، فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: هل تعرفانه ؟
قلنا: لا، قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه ؟
قلنا: نعم – قال: وقد كنا نعرف العباس ، كان لا يزال يقدم علينا تاجراً – قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس بن عبد المطلب، قال: فدخلنا المسجد؛ فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس مع العباس؛ فسلمنا؛ ثم جلسنا إليه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل ؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه؛ وهذا كعب بن مالك – قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الشاعر.
قال: نعم – قال: فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله؛ إنى خرجت في سفري هذا؛ وقد هداني الله للإسلام، فرأيت ألا أجعل منى هذه البنية بظهر، فصليت إليها؛ وقد خالفني أصحابي في ذلك؛ حتى وقع في نفسي من ذلك شيء؛ فماذا ترى يا رسول الله.
قال: قد كنت على قبلةٍ لو صبرت عليها ! فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصلى معنا إلى الشام. قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات؛ وليس ذلك كما قالوا:؛ نحن أعلم به منهم.
صفات النبي (ص)
لقد تجلت معاني النبوة في ملامح وجه وهيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى صار الأنصار يتأملون ما فيها من دلائل النبوة ، خاصة وأن أغلب الخمسة والسبعين الذين حضروا البيعة لم يروا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل .
لقد صاحب الوحي النبي محمداً ، في هذا اللقاء مما انطبعت صبغته على هيئته المباركة لتكون عوناً للناس في دخول الإسلام ، وبعثاً للطمأنينة في نفوسهم.
وكان النبي مهاباً أزهر اللون ، ليس بالأبيض الأمهق أي شديد البياض ، ولا بالأدم الأسمر ، لين الكف ، طيب الرائحة .
و(عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أَفلج الثَّنيتَيْن والرُباعيَّتين، إِذا تكلّم رئي من بين ثناياه كالبرق.
وعن سمَاك بن حَرْب قال، سمعت جابرَ بن سَمُرة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أَشْكَلَ العين، ضَليعَ الفم، مَنْهُوس العَقب.
حدثنا ابن أَبي شيبة قال، حدثنا عباد بن العوام، عن عباد بن حجاج، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة قال: كان في ساقي رسول الله حموشة، وكان لا يضحك إِلا تبسمًا، وكنت إِذا نظرت إِليه قلت: أَكحل العينين وليس بأكَحل.
قال ابن شبة ( ): حدثنا غندر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت أَبا إِسحاق يقول، سمعت البراء يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً مربوعًا، بعيدًا ما بين المنكبين، عظيم الجمة إِلى شحمة أُذنيه، عليه حلة حمراء، ما رأَيت شيئًا قط أَحسن منه صلى الله عليه وآله وسلم. حدثنا عبد اللّه بن رجاء قال، حدثنا إِسرائيل، عن أَبي إِسحاق، عن البراء
قال : ما رأَيت أَحدًا من خلق اللّه أَحسن في حلة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إِن جمّته لتضرب قريبًا من منكبيه، قال: وسمعته يحدث بهذا الحديث مرارًا ما سمعته حدث به قط إِلا ضحك.
حدثنا الحكم بن موسى قال، حدثنا معقل بن زياد، عن الأَوزاعي، عن حسان بن عطية، عن رجل من أَصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضخم الهامة، حسن اللِّمة، عظيم العينين، نهد الأَشفار، أَبيض مشربًا بياضه حمرة، دقيق المسربة( )، شثن الكفين، في صدره دفو- قال أَبو زيد بن شبة: أَي ارتفاع لا قصير ولا طويل، إِذا مشى مشى تكفّيًا كأَنما يمشي في صعد، كأَن عرقه اللؤلؤ، لم أَر قبله ولا بعده مثله.
وعن أَبي الطفيل قال: رأَيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما على وجه الأَرض رجل رآه غيري، قال: قلت كيف رأَيته? قال: كان رجلاً أَبيض مليحًا مُقَصَّدًا، إِذا مشى كأنما يهوي في صبوب.
حدثنا أَبو أَحمد قال، حدثنا مسعر قال، سمعت عونًا- يعني ابن عبد اللّه- يقول: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يضحك إِلا تبسمًا، ولا يلتفت إِلا جميعًا ، قال مسعر: في صلاة. قال: في غير صلاة.
وعن أُسامة بن زيد، عن أَبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: قلت للربيع بنت معوّذ بن عفراء: صفي لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا بني لو رأَيته رأَيت شمسًا طالعة. حدثنا خلف بن الوليد قال، حدثنا إِسرائيل، عن سماك قال، سمعت جابر بن سَمُرَة يقول- وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم- فقال له رجل: وجهه مثل السَيْف، فقال: بل وجهه مثل الشَمْس والقمر مستديرًا، ورأَيت خاتمه عند غُضْرُوف كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده.
وعن ثابت عن أَنس بن مالك قال: ما مسست ثوبًا لَيّنًا خزًا ولا غيره أَلين من كف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شممت طيبًا قط مسكًا ولا عنبرًا أَطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان أَحسن الناس، وأَشجع الناس، وأَسمح الناس، مختصر القدمين، له لمة إِلى شحمة أُذنيه، وفوق شحمة أُذنيه صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن صالح بن مسعود عن أبي جحيفة قال: أَتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكتب لنا ثنتي عشرة قلوصًا. فكنا في استخراجها فجاءت وفاته فمنعوناها حتى اجتمعوا، قال صالح: فقلت لأَبي جحيفة:
أَخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: رجلاً أَبيض قد شمط عارضاه صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن قتادة قال: قلت لأَنس : كيف كان شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم? كان شعرًا رَجِلاً ليس بالجَعد ولا السَبْط، بين أُذنيه وعاتقه.
وعن أبي هريرة (يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من رآني في النوم فقد رآني، إِن الشيطان لا يتخيلني”. قال أَبي: فحدثت به ابن عباس ، وأَخبرته أَني قد رأَيته فقال: رأَيته? قال: إِي واللّه لقد رأَيته، قال: فذكرت الحسن بن علي عليهم السلام فقلت: إِني والله لقد ذكرته وتُقْيَاهُ في مشْيَته. فقال ابن عباس: إِنه كان يشبهه)( ).
أخبار عربية نبي آخر زمان
لقد علم أمية أن نبي آخر زمان عربي ، وكان هو من الأصناف ، ويصل الرحم وينبذ عبادة الأوثان ، ويمتنع عن شرب الخمر.
وزهد في الدنيا ولبس المسوح وتعبد ، وعلى صلة طيبة مع علماء النصارى ويقرأ التوراة والإنجيل ولأن زمانه هو زمان بعثة خاتم النبيين ، فظن هو الذي سيوحى إليه ، ولكن هذا العالم أخبره بأنه من قريش لإقامة الحجة عليه ، ودعوته لترك الحسد ، وللتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما يبعثه الله ، وهل هذا الإخبار من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
ولما بعث الله عز وجل النبي محمداً امتنع أمية عن التصديق برسالته حسداً واستكباراً.
رسائل النبي (ص) إلى ملوك عصره
بعد صلح الحديبية بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة عدد من أصحابه برسائل إلى ملوك عصره يدعوهم إلى الإسلام ، منهم المقوقس حاكم مصر ، والنجاشي ملك الحبشة ، وكسرى ملك فارس ، وأرسل دِحية الكلبي إلى هرقل عظيم الروم .
(وقيصر لقب لكل من ملك الروم، ويقال لكل من ملك الفرس: كسرى، والترك : خاقان، والحبشة: النجاشى، والقبط: فرعون، ومصر: العزيز، وحمير: تبع.
وكان اسم قيصر الذى كان بالشام وكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتابه : هِرَقل، بكسر الهاء وفتح الراء، هذا هو المشهور. وقال الجوهرى: يقال أيضًا: هرْقل، بإسكان الراء، ولا ينصرف للعجمة والعلمية.
وتنازع ابنا عبد الحكم في أنه هل كان يقال له: هرقل أم قيصر؟ وترافعا إلى الشافعى، رحمه الله تعالى، فقال: هو هرقل، وهو قيصر، فهرقل اسم علم له، وقيصر لقب)( ).
والأخشيد لقب ملوك فرغانة ومعناه ملك الملوك و(أصبهبذ لقب ملوك طبرستان وصول لقب ملوك جرجان وخاقان لقب ملوك الترك والأفشين لقب ملوك أشروسنة وسامان لقب ملوك سمرقند وقيصر لقب ملوك الروم وكسرى لقب ملوك العجم والنجاشي والحطي لقب ملوك الحبشة وفرعون قديما لقب ملوك مصر ، وحديثاً السلطان)( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذى نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله)( ).
ولم ينتظر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هلاك قيصر وكسرى بل بعث لهم الرسائل والكتب يدعوهم إلى الإسلام ، وهذا الإرسال من الشواهد على سلمية بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتصال دعوته إلى الإسلام بالحجة والبرهان المقرون باللطف والود .
أمية بن أبي الصلت
هو عبد الله بن أبي ربيعة الثقفي ، وأمه من بني أمية رقية بنت عبد شمس وهو من رؤساء ثقيف ، وكان من الأحناف.
وكان يقرأ التوارة والكتب القديمة ، فلبس المسوح تعبداً ، وحرم شرب الخمر.
ورث الشعر من والده ، وكان يبغض عبادة الناس للأوثان ، وهو من أبرز الشعراء ، واتصف شعره بالإلهيات والحنفية ، ووردت في شعره ألفاظ مجهولة لا تعرفها العرب ، لذا لم يحتج علماء اللغة بشعره .
وقد سمع أمية من علماء النصارى البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي من ميراث عيسى عليه السلام ، قال تعالى [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ]( ).
وعن أبي سفيان في حديث طويل أنه خرج مع أمية بن أبي الصلت وطليق بني أمية (إلى الشام فكلما نزلنا منزلا أخرج أمية سفرا فقرأها علينا قال فكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى النصارى قال فجاءوه وأكرموه وذهب معهم إلى بيعتهم .
ثم رجع وسط النهار فطرح ثوبيه وأخذ ثوبين له أسودين فلبسهما وقال يا أبا سفيان هل لك في عالم من علماء النصارى إليه يتناهى علم الكتاب تسأله عما بدا لك.
قلت لا أرب لي فيه والله لئن حدثني ما أحب لا أثق به ولأن حدثني بما أكره لأوجلن منه .
فذهب ويخالفه شيخ من النصارى فدخل علينا فقال ما منعكما أن تذهبا إلى هذا الشيخ .
قال قلنا لسنا على دينه قال فإنكما تسمعان عجبا وتريانه قال أثقفيان أنتما .
قلنا لا ، ولكن قرشيان قال فما يمنعكما من الشيخ فوالله إنه ليحبكم ويوصي لكم)( ).
فمكث أمية بن أبي الصلت عند عالم النصارى إلى قريب منتصف الليل وأصبح حزيناً كئيباً لا يكلم أحداً ثم ارتحلوا ، وبعدد ليلتين تكلم أمية وهو في حال خوف ورهبة إذ أظهر إيمانه بالمعاد وبعث الناس للحساب بعد أن سمع كلام عالم النصارى ، وقال (يا أبا سفيان لنبعثن ثم لنحاسبن وليدخلن فريق الجنة وفريق النار .
قلت ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك قال لا علم لصاحبي بذلك ثم لا فيّ ، ولا في نفسه)( ).
أي أنه لا يعلم حاله في الآخرة ولا حال أمية بن أبي الصلت ، وهو الأمر الذي جعل أمية في حال خوف وفزع .
قال أبو سفيان (حتى قبلنا غويطة دمشق وإياها كنا نعمد فبعنا متاعنا وأقمنا بها شهرين ثم ارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى)( ).
ولم يعلم أبو سفيان ورجالات قريش أن دمشق تكون بالإسلام ، وبأمر من عمر بن الخطاب دار حكم لولده يزيد ثم معاوية بن أبي سفيان.
أسلم يزيد يوم الفتح وكان من [الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ]( ) وأعطاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين مائة من الإبل وأربعين أوقية فضة .
وفتح قيسارية بالشام .
وعن أبي العالية قال حدثني (أبو مسلم قال غزا يزيد بن أبي سفيان بالناس فغنموا فوقعت جارية نفيسة في سهم رجل فاغتصبها يزيد فأتى الرجل أبا ذر فاستعان به عليه فقال له رد على الرجل جاريته فتلكأ عليه ثلاثا .
فقال إني فعلت ذاك لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يقول أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية يقال له يزيد .
فقال له يزيد بن أبي سفيان نشدتك بالله أنا منهم ، قال لا ، قال فرد على الرجل جاريته)( ).
توفى يزيد سنة ثماني عشرة (ولما احتضر استعمل أخاه معاوية على عمله، فأقره عمر على ذلك احتراما ليزيد ، وتنفيذا لتوليته)( ).
وممن مات في تلك (السنة في الطاعون أبو عبيدة أمين الامة، ومعاذ بن جبل سيد العلماء، والامير المجاهد شرحبيل بن حسنة حليف بني زهرة، وابن عم النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، الفضل بن العباس وله بضع وعشرون سنة، والحارث بن هشام ابن المغيرة المخزومي أبو عبد الرحمن من الصحابة الاشراف، وهو أخو أبي جهل، وأبو جندل بن سهيل بن عمرو العامري)( ).
لقد اتصل أمية بن أبي الصلت بأحد علماء النصارى في طريق عودتهم إلى مكة وقال له (أخبرني عن هذا النبي الذي ينتظر .
قال هو رجل من العرب قلت قد علمت أنه من العرب فمن أي العرب هو قال من أهل بيت تحجه العرب.
قلت وفينا بيت تحجه العرب ( ) .
قال هو من إخوانكم من قريش .
فأصابني والله شيء ما أصابني مثله قط وخرج من يدي فوز الدنيا والآخرة وكنت أرجو أن اكون إياه قلت فإذا كان ما كان فصفه لي.
قال رجل شاب حين دخل في الكهولة بدو أمره يجتنب المظالم والمحارم ، ويصل الرحم ويأمر بصلتها وهو محوج كريم الطرفين متوسط في العشيرة أكثر جنده من الملائكة)( ).
حسد أمية بن أبي الصلت
لقد واجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهل الحسد والإستكبار والجحود لذا قال تعالى [وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ]( ) ولقد حسد رؤساء قريش بني هاشم بأن يكون نبي آخر زمان منهم ، واتصل هذا الحسد حتى بعد الهجرة ، وهو من أسباب معركة بدر ، وأحد ، والأحزاب.
واتضح يوم حنين ، إذ أظهروا الشماتة عند هزيمة جيش المسلمين في بداية معركة حنين مع أنها وقعت بعد فتح مكة ، ولكن المشركين كانوا في المدة التي جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبعضهم .
ومنهم كَلَدَة بن الحنبل الذي صرخ (ألا بطل السحر اليوم، فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك، فوالله لان يربنى رجل من قريش أحب إلى من أن يربنى رجل من هوازن)( ).
وكلدة هذا أخو صفوان لأمه على قول ، وفي رواية قال كَلَدة (بطل سحر ابن أبي كبشة اليوم)( ).
وفي عودة لأمية بن الصلت من الشام بعد معركة بدر ، مرّ على موضع بدر وكان محطة للمسافرين فقيل له هنا في هذا القليب أُلقي عتبة وشيبة ابنا ربيعة وهما ابنا خال أمية فأخذته حمية الجاهلية الأولى وجدع أذني ناقته حزناً عليهما ، واتخذ من الشعر وسيلة لتحريض قريش للأخذ بثأرهما إذ قال في رثاء قتلاهم يوم بدر:
(أَلّا بَكَيْتِ عَلَى الْكِرَا … مِ بَنِي الْكِرَامِ أُولِي الْمَمَادِحْ
كَبُكَا الْحَمَامِ عَلَى فُرُو … عِ الْأَيْكِ فِي الْغُصْنِ الْجَوانِحْ
يَبْكِينَ حَرّى مُسْتَكِي … نَاتٍ يَرُحْنَ مَعَ الرّوَائِحْ
أَمْثَالُهُنّ الْبَاكِيَا … تُ الْمُعْوِلَات مِنْ النّوَائِحْ
مَنْ يَبْكِهِمْ يَبْكِ عَلَى … حُزْنٍ وَيَصْدُق كُلّ مَادِحْ)( ).
في قصيدة طويلة ، ونال فيها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتقوم عليه الحجة ، ولبيان شدة الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، حتى من الذي كان موحداً حنيفاً يعبد الله ، ولم ينظر أمية إلى وقائع معركة بدر ويتدبر في أسبابها.
وسبق أن قال شعراً في مدح عبد الله بن جدعان على كرمه ، وذكر ابن قتيبة في غريب الحديث (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان في الهاجرة .
قال ابن قتيبة : كانت جفنته يأكل منها الراكب على بعيره، وسقط فيها صبي فغرب، أي: مات.
ومنها على ما قاله ابن هشام بن الكلبي : كان له مناديان ينادي أحدهما بأسفل مكة، والآخر بأعلاها، وكان أحدهما سفين بن عبد الأسد، والآخر أبا قحافة، وكان أحدهما ينادي: ألا من أراد اللحم والشحم، فليأت دار ابن جدعان، وينادي الآخر: إن من أراد الفالوذج، فليأت دار ابن جدعان، وهو أول من أطعم الفالوذج بمكة؛ ذكر هذا الفاكهي في أخبار مكة.
ومنها: أن أمية بن أبي الصلت قبل أن يمدح ابن جدعان كان قد أتى بني الريان من بني الحارث بن كعب؛ فرأى طعام بني الريان لباب البر والشهد والسمن، وكان طعام ابن جدعان التمر والسويق ويسقي اللبن، فقال أمية: من الكامل :
ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم … فرأيت أكرمهم بني الرّيّان
ألبرّ يلبك بالشّهاد طعامهم … لا ما يعلّلنا بنو جدعان
فبلغ خبر شعره عبد الله بن جدعان، فأرسل ألفي بعير إلى الشام تحمل إليه البر والشهد والسمن، وأمر منادياً ينادي على الكعبة: ألا هلموا إلى جفنة عبد الله بن جدعان، فقال أمية بن أبي الصلت عند ذلك: من الوافر
له داع بمكّة مشمعلٌّ … وآخر فوق كعبتها ينادي
إلى ردح من الشّيزى عليها … لباب البرّ يلبك بالشّهاد)( ).
وكان أمية يمدح عبد الله بن جدعان فينال من عطاياه .
ومن شعر أمية بن أبي الصلت مدحه لسهيل بن عمرو رئيس وفد كفار قريش في صلح الحديبية :
أبا يزيد رأيت سيبك واسعاً … وسجال كفك يستهل ويمطر)( ).
وعن (عمرو بن الشريد أن أباه أخبره أنه أنشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من شعر أمية بن أبي الصلت مائة قافية فقال: كاد يسلم -يعني أمية والله)( ).
وقدمت أخته الفارعة بنت أبي الصلت الثقفي بعد فتح مكة (على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح الطائف ، وكانت ذات لب وعفاف وجمال وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعجب بها ، وقال لها يوماً : هل تحفظين من شعر أخيك شيئاً .
فأخبرته خبره وما رأت منه وقصت قصته في شق جوفه وإخراج قلبه ثم صرفه مكانه وهو نائم وأنشدت له الشعر الذي أوله :
باتت همومي تسري طوارقها … أكف عيني والدمع سابقها
نحو ثلاثة عشر بيتاً منها قوله :
ما رغب النفس في الحياة وإن … تحيا قليلاً فالموت سائقها
يوشك من فر من منيته … يوماً على غرة يوافقها
من لم يمت غبطة يمت هرماً … للموت كأس والمرء ذائقها
وفي الخبر لما حضرت وفاته قال عند المعاينة :
إن تعف يا ربي تعف جما … وأي عبد لك لا ألما
ثم قال :
كل عيش وإن تطاول دهراً … صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي … في قلال الجبال أرعى الوعولا
ثم مات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا فارعة كان مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته (فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين)( ))( ).
ذخائر تعدد لفظ (الناس) في الآية
ولابد من أسرار ودلالات على تعدد ذكر قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( )، للفظ (الناس) ومنه :
الأول : كأن الناس جميعاً يعضدون النبي محمداً وأصحابه .
الثاني : يأتي الناس بالأخبار وضروب الإنذار .
الثالث : تبرأ الناس من المشركين ، وغاياتهم الخبيثة بالهجوم على المدينة ، وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وهذا التبرأ من مصاديق مكر الله عز وجل في قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، فمن مكر الله عز وجل جعل قلوب الناس تميل إلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحملهم على التدبر في آيات القرآن ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
الرابع : بيان قانون الصراع ين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، وبين الرسالة والمشركين ، ليتجلى قانون نهي المؤمنين عن الفتور في الدعوة إلى الله.
قانون الإتعاظ بأسباب النزول
لقد نزل القرآن في مدة ثلاث وعشرين سنة متفرقاً على التوالي والنجوم ، قال تعالى [وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا]( ).
بخلاف الكتب السماوية السابقة التي نزلت كل واحد منها جملة واحدة.
وكان كفار قريش ونحوهم تواقين لنزول آيات وسور القرآن مرة واحدة ، وقالوا : هلا نزل عليه القرآن مرة واحدة .
وليس من حصر للمنافع والمقاصد والحكم لنزول القرآن مفرقاً ومنها :
الأول : ما يخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتثبيت فؤاده .
الثاني : نزول القرآن على التعاقب والنجوم بشارة سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل أو الموت إلى حين نزول القرآن كاملاً ، وبيان الله عز وجل لأحكام الشريعة الخاتمة ، إلى أن نزل قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا]( ).
وبخصوص قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( )، و(عن ابن عباس قال : لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيت إلي نفسي وقرب أجلي)( ).
الثالث : التخفيف والتيسير في حفظ المسلمين لآيات القرآن وتفسيرها والتدبر في معانيها وما فيها من البشارة والإنذار والأوامر والنواهي .
و(عن عثمان وابن مسعود وأبي : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرئهم العشر( ) فلا يجاوزونها إلى عشر اخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل فيعلمنا القرآن والعمل جيمعاً.
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن عطاء بن السائب عن ابي عبد الرحمن السلمي قال : كنا اذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نعرف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها)( ).
ونزول القرآن مفرقاً من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ]( )، وصحيح أن هذه الآية وردت في آيات وأحكام الصوم إلا أن موضوعها أعم ، وهذا علم من علوم القرآن بأن تنزل الآية في حكم خاص ولكن مضامينها تتغشى الأحوال والمواضيع المتعددة لأصالة الإطلاق وقانون إحاطة آيات القرآن باللامتناهي من الحوادث والوقائع .
الرابع : إقامة الحجة على الذين كفروا ، وبيان إحاطة الله عز وجل علماً بأحوال الناس ، وتفضله بالبيان والسنن التي فيها تهذيب للنفوس وإصلاح للمجتمعات ، ونبذ للتعدي والظلم ، قال تعالى [وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الخامس : التوثيق والخلود لأسباب النزول ، لتكون وقائعها حاضرة عند الناس في الوجود الذهني والمجتمعات .
السادس : تقريب مضامين الآية القرآنية إلى الأذهان ، وتيسير فهم عامة الناس للآية القرآنية .
السابع : اتخاذ العلماء أسباب النزول مادة ومقدمة ونوع طريق لفهم مضامين ودلالات الآية القرآنية .
الثامن : إنقطاع المسلمين لانتظار نزول آيات القرآن ، عند الحوادث ومطلقاً ، وفيه إنشغال عن الغزو والقتال ، نعم تنزل الآيات لتثبيت المسلمين في مقامات الهدى والإيمان .
قانون تضاؤل النفاق
النفاق هو إظهار الإيمان قولاً أو فعلاً مع إضمار الكفر وإخفاء الجحود برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويمكن القول أن من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم محاربته للنفاق ووجود طائفة من المنافقين بين ظهراني المسلمين ومحاربة القرآن والنبي لهم ، ويحضر المنافقون معهم صلاة الجماعة ، ويخرجون معهم في الكتائب والسرايا ، ولكن ما أن يجدوا فرصة للنيل من الإسلام حتى يظهروا ما في سرائرهم ويثبطوا العزائم ، وينشروا الإشاعات التي تبعث الإرباك والكدورة في نفوس المسلمين وعوائلهم .
لقد كانت مدة النبوة ثلاثاً وعشرين سنة ، منها عشرة سنة قضاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، وليس فيها نفاق ومنافقون ، وكذا في السنة الأولى من هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن النفاق نشأ في المدينة بعد انتصار المسلمين في معركة بدر بمعجزة ومدد من عند الله عز وجل .
فأظهر الكفار الإيمان ونطقوا بالشهادتين من غير تسليم برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد أنذرهم الله عز وجل ، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا]( ).
وذكرت هذه الآية بصيغة الذم ثلاثة أصناف :
الأول : المنافقون .
الثاني : الذين في قلوبهم مرض .
الثالث : المرجفون في المدينة .
ويحتمل وجهين :
الأول : التعدد في هذه الفئات .
الثاني : الإتحاد وأنهم داخلون في المنافقين .
والمختار هو الأول لأصالة الظاهر بافادة واو العطف المغايرة والتعدد ، ليتجلى إعجاز الآية باشتراك هذه الفئات والجماعات بمحاربة الإسلام والسعي للإضرار بالنبوة والتنزيل ، في داخل المدينة وخارجها ، ومنه القيام ببث الأخبار الكاذبة عن قوة جيوش المشركين ، وعن وقوع قتلى وأسرى في صفوف سرايا الإسلام كذباً ، فيقولون للمرأة قُتل زوجُك ، ويقولون للأب لم أذنت بخروج ولدك في السرية الفلانية وأنه سيكون إما مقتولاً أو أسيراً .
وأيهم أكثر ضرراً على الإسلام من هؤلاء الأفراد الثلاثة ، المختار هم المنافقون بلحاظ تتبع صفاتهم المذمومة في القرآن والسنة وتعدد ضررهم وإتساع دائرته.
وعن عبد الله بن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ثلاث من كن فيه فهو منافق . إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان . وتلا هذه الآية [وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ]( ) إلى آخر الآية)( ) وفيه تحذير إلى يوم القيامة من خصال النفاق .
إلى جانب انصافهم بخصلة المرض في القلوب وقيامهم بالإرجاف وبث الإشاعات الخبيثة في المدينة .
وفي المرسل عن الإمام الصادق عليه السلام قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ثلاث من كن فيه كان منافقا وان صام وصلى وزعم أنه مسلم، من إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، إن الله عزوجل قال في كتابه إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ( ).
لبيان أن النفاق كيفية نفسانية وسلوك وأفعال تدل على ضعف الإيمان وعدم التخلص من الكفر في النوايا والمقاصد .
أقسام اللام في آية
قال تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
تكرر لفظ (الناس) مرتين في هذه الآية.
وتنقسم لام التعريف أو أل التعريف إلى أقسام ، وهذه الأقسام هي:
الأول : لام العهد : التي تدخل على المعهود لدى المتكلم أو المخَاطب أو هما معاً سواء هو عهد ذكري ، أو عهد ذهني ، أو عهد حضوري ، ومنه (الرسول) في قوله تعالى [فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ]( ) أي عصى موسى عليه السلام.
الثاني : ألف لام الإستغراق : وهي التي تستغرق جميع أفراد الجنس مثل لفظ الإنسان في قوله تعالى [وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا]( )، وعلامتها إمكان مجئ (كل) بدلها.
الثالث : ألف لام الجنس والماهية مثل قوله تعالى [وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( ).
الرابع : الألف واللام الزائدة عن بنية الكلمة ، وتختص بالدخول على الأسماء النكرة فقط للتعريف بها وهي على شعبتين :
الأولى : الألف واللام الزائدة اللازمة وهي التي لا يصح تجريدها منها مثل الاسم الموصول : الذي ، التي.
الثانية : الألف واللام الزائدة غير اللازمة : وهي التي يصح تجريدها منها مثل لفظ (المؤمن) (الإنسان).
وورد الألف واللام في الآية المتقدمة [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ]( )، ثلاث مرات كلها من الألف واللام الزائدة ، الأولى لازمة في الذين ، واثنتين زائدتين زيادة غير لازمة في لفظ الناس فيصح قول الذين قال لهم ناس .
ويكون الجمع خمس مرات في الآية بلحاظ واو الجماعة في (جمعوا) وتقديرها : الناس الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم الناس .
وسبب نزول الآية هو خيبة المشركين من نتائج معركة أحد ، فمع مجئ ثلاثة آلاف منهم حتى أشرفوا على المدينة ، يريدون قتل النبي وأصحابه ، ومع هذا يسميها علماء التفسير وكتاب السيرة النبوية والتأريخ بأنها غزوة قام بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى هو الغازي في معركة أحد وهو لم يقاتل إلا مضطراً ودفاعاً.
ومن بين أجزاء تفسيري للقرآن (معالم الإيمان) صدرت تسعة وعشرون جزءً بخصوص (لم يغز النبي (ص) أحدا) آخرها هذا الجزء المبارك.
لقد انسحب أبو سفيان وجيش المشركين في ذات يوم المعركة وفي الطريق أظهروا الندم وتلاوموا بينهم ، وقالوا نرجع نستأصلهم ونأني على بقيتهم ، في إشارة إلى كثرة قتلى المسلمين يوم أحد إذ استشهد سبعون منهم يومئذ.
وقول أن لفظ الناس يعود إلى نعيم بن مسعود الأشجعي الذي لاقى جيش المشركين وهو في طريقه إلى المدينة وركب من عبد قيس.
والمختار لا يطلق لفظ الجمع في القرآن على المفرد من الخلائق .
ولما أخبر جبرئيل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بما عزم عليه جيش المشركين نادى في أصحابه صبيحة اليوم التالي لمعركة أحد فخرج في مائتين ونيف كلهم اثقلتهم الجراحات ولكنهم لبوا نداء النبوة للحاق بهم حتى وصل إلى حمراء الأسد فسمع المشركون بقدومه فخافوا وعجلوا في مواصلة الطريق منقلبين إلى مكة.
ولما علم المشركون بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج في طلبهم استأجر أبو سفيان جماعة قادمين إلى المدينة في تجارة لهم .
فقال : إن لكم عليّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمداً ومن معه ، إن أنتم وجدتموه في طلبي أخبرتموه أني قد جمعت له جموعاً كثيرة .
فاستقبلت العير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقالوا له : يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعاً كثيرة ، وأنه مقبل إلى المدينة .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون الذي معه [حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في الآية أعلاه في موضوع واقعة أحد ، لبيان صدق جهاد وصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ملاقاة الذين كفروا ، وانفرادهم بحال من الدفاع مع قلتهم وكثرة عدد وعدة المشركين .
ولبيان انفراد كل معركة من معارك الإسلام الأولى بخصوصية ودلائل ومعجزات خاصة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
[تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] زاجر عن الإرهاب
لقد كانت مدة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً وعشرين سنة ، ثلاث عشرة سنة في مكة قبل الهجرة تحمل فيها أشد الأذى هو وبنو هاشم وأصحابه.
وعن (أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أوذي أحد مثل ما أوذيت في الله)( ).
وطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طائفة من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة فهاجر ثلاثة وثمانون رجلاً وتسع عشرة امرأة ، ولما عزم المشركون على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه نزل جبرئيل في نهار تلك الليلة وأمره بالهجرة إلى المدينة.
وأول عمل قام به في المدينة قيامه ببناء المسجد النبوي للصلاة جماعة وإلقاء الخطب لبيان عبوديته لله ، والنهي عن الغلو بشخصه الكريم.
ثم عقد وثيقة المدينة مع اليهود الذين فيها .
ومن إعجاز هذه الآية اتحاد الصفة في أعداء المسلمين بأنهم أعداء لله فمن خصائص واو العطف أنها تشرك في الحكم المعطوف والمعطوف عليه ، ليخرج الجمع بينها أهل الكتاب ، إذ أن الآية خاصة بالمشركين الذين أكثروا من غزو المدينة وسعوا في اغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد نفى القرآن عداوة النصارى للمسلمين بقوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
إسلام الطفيل الدوسي
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية الغيرية شواهد من إسلام عدد من الصحابة وسط حملة العداء والإفتراء المنظمة ضده التي تنفق عليها قريش الأموال الطائلة ، لبيان قانون عدم اغترار الصحابة بالذين كفروا .
وفي إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي انه قدم إلى مكة ، وكان رجلاً شريفاً لبيبياً شاعراً ، فمشى إليه رجال من قريش ، وقالوا له إن النبي محمداً فرق جماعتنا وشتت أمرنا ، وفرق بين الرجل وابيه ، والأخ وأخيه ، وبين الرجل وزوجته ، يقصدون دخولهم الإسلام ، وقالوا له بصيغة التحذير والإنذار (وَإِنّا نَخْشَى عَلَيْك وَعَلَى قَوْمِك مَا قَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا ، فَلَا تُكَلّمَنّهُ وَلَا تَسْمَعَنّ مِنْهُ شَيْئًا)( ).
واستمع لهم ولكنه عدل وأنصت إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلو القرآن ، ليكون من معجزات القرآن جذب الناس طوعاً وقهراً للإنصات لآياته .
(قال : فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شيء من قوله وأنا لا أريد أن أسمعه
قال : فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي عند الكعبة .
قال : فقمت منه قريبا فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله .
قال : فسمعت كلاما حسنا .
قال : فقلت في نفسي : واثكل أمي والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته وإن كان قبيحا تركته .
قال : فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه .
فقلت : يا محمد إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا للذي قالوا فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك فسمعته قولا حسنا فاعرض علي أمرك .
قال : فعرض علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام وتلا علي القرآن فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه
قال : فأسلمت وشهدت شهادة الحق)( ).
ومن إيمان الطفيل أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية يصدقه معها الناس في دعوته ، فصحيح أنه مهاب عند قومه بني دوس ولكن الأمر عظيم ، عقيدة مستحدثة ، ودعوة تمحو وتنسف ما عليه هم وآباؤهم من عبادة الأوثان خاصة وأن النبي محمداً ليس معه جيش ، فلا يرون إلا معجزات حسية وآيات القرآن ، وهي معجزة عقلية باهرة .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم اجعل له آية .
قال الطفيل (فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر وقع نور بين عيني مثل المصباح، فقلت: اللهم في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا بي مُثْلًةَ وقعتَ في وجهي لفراق دينهم، فتحول النور فوقع في رأس سوطي، فجعل الحاضرون( ) يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق .
فأتاني أبي فقلت له: إليك عني فإنك لست من ديني، ولست منك، قال : ولم يا بني ، قلت: إني أسلمت واتبعت دين محمد، قال: يا بني ديني دينك.
فقلت : فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ففعل فجاء فعرضت عليه الإسلام، ثم أتتني صاحبتي، فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني، قالت: ولم بأبي أنت.
قلت: فرق بيني وبينك الإسلام، إني أسلمت واتبعت دين محمد، فقالت: ديني دينك، فأسلمت، ثم دعوت دوساً إلى الإسلام فأبطأوا عليَّ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: قد غلبتني دوس فادع الله عليهم، فقال : اللهم اهد دوساً ( ).
وقال لي : أخرج إلى قومك فادعهم وارفق بهم)( ).
ويدل خبر إيمان الطفيل على بداية قانون إنحسار نفوذ وسلطان قريش ، لقانون غلبة المعجزة النبوية على سلطان المشركين ، كما في معجزة إبراهيم عليه السلام ونجاته من النار ، وفضح النمرود ، وكما في عصا موسى عليه السلام ، ولحوق الخزي بفرعون ثم هلاكه وجنوده في البحر .
جراحات النبي محمد (ص) في معركة أحد
قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وقعت معركة أحد في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة بهجوم وغزو من كفار قريش ثأراً منهم لهزيمتهم وفرارهم في معركة بدر قبل سنة ، وكانوا خلالها يرسلون رسائل التهديد والوعيد للمهاجرين والأنصار .
إذ زحف ثلاثة آلاف من المشركين من مكة حتى أطلوا على مشارف المدينة وسرحوا خيلهم وإبلهم في مزارع أهل المدينة ، وصاروا يرمون بالسهام من يأتي لسقيها فاشتكى أهل المدينة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومع هذا تسمى في كتب التفسير والسيرة بأنها غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعد غزوة أحد من غزوات النبي محمد مع أنه في مقام الدفاع واضطر وأصحابه إلى القتال .
وبخلاف معركة بدر التي لم يصب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها بالجراح فقد اُصيب يوم أحد بجراحات كثيرة منها :
الأول : شج في وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وسال منه الدم ، فقامت فاطمة عليها السلام تغسله بالماء ، وعلي عليه السلام يصب عليها ، فلما رأت أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة ، أخذت قطعة حصير فاحرقته حتى اذا صار رماداً الصقته بالجرح فاستمسك الدم( ).
الثاني : كسر رباعية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي السن بين الثنية والناب .
الثالث : جرح وجنة النبي ، والوجنة ما ارتفع من الخد ، والنسبة بين الخد والوجنة عموم وخصوص مطلق .
الرابع : شق شفة النبي السفلى .
الخامس : سقوط النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق ، وجحشت ركبته أي قشطت وهو دون الخدش.
السادس : تهشيم البيضة التي على رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي الخوذة .
السابع : وصول حجارة المشركين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكثرت وتوالت هذه الحجارة حتى سقط على جنبه ، مما يدل على قرب أفراد جيش المشركين منه ، وأن نجاته يومئذ معجزة حسية جلية.
الثامن : نادى ابن قمئة في الميدان بما يسمعه الفريقان قتلت محمداً.
الحديبية ليست غزوة
قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا]( ).
موضوع الآية أعلاه هو صلح الحديبية ، وقد صدر لي والحمد لله الجزء (256) والجزء (261) من معالم الإيمان بخصوص صلح الحديبية ، ويسميه عدد من المفسرين وكتاب السيرة غزوة الحديبية مثل ابن جُزي الكلبي في (التسهيل لعلوم التنزيل) والثعلبي المتوفى سنة (427) هجرية في تفسير (الكشف والبيان) ، والزمخشري في (الكشاف) ، وابن كثير في تفسيره ، وأبو حيان القرناطي في تفسير البحر المحيط والذي كتبه أثناء إقامته في مصر وبعد أن جاوز الخمسين من عمره .
وابن حزم في جوامع السيرة ، وابن هشام في السيرة النبوية ، والواقدي في المغازي ، وكل منهم ذكر لفظ غزوة الحديبية على نحو متعدد ، باستثناء ابن هشام الذي ذكرها مرة واحدة ( ).
مع أن الآيات والوقائع والأخبار المتواترة تدل على أنها ليست غزوة إنما هي صلح محض .
ولم يأت هذا الصلح عقب قتال بين الفريقين ، ولم يخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للحديبية للقتال ، إنما خرج للعمرة بناء على رؤيا هي شعبة من الوحي إذ رآى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كأنه دخل مكة وطاف بالبيت فاخبر أصحابه وفرحوا ، ونزل فيها قرآن [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
وليس في الرؤيا تعيين لأوان دخولهم البيت الحرام فاستبشر الصحابة واستعدوا للعمرة .
وتبادر إلى أذهان طائفة من الصحابة أن الدخول سيكون في ذات السنة ، وخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألف وأربعمائة من الصحابة كما في رواية جابر الأنصاري وليس معهم سلاح إلا سلاح الراكب ، وهي سيوف صغيرة في أغمادها ، كالخناجر التي يلبسها كثير من أهل اليمن وعُمان في هذا الزمان.
وفي السنة قبل الأخيرة من القرن الماضي سافرت إلى الأردن لعلاج زوجتي المهندسة فاطمة الصفاف رحمها الله بحرينية الجنسية في مستشفى الدكتور زيد الكيلاني والذي بالغ في إكرامي فرأيت مراجعين من اليمن في المستشفى يحملون تلك الخناجر والجنابي في حزام حول الخاصرة والتي أصبحت كالزينة وعنوان الشخصية .
وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى القبائل المحيطة بالمدينة يدعوهم للخروج معه ، فتخلف كثير منهم خشية من بطش قريش ، اعتمدوا أصل الإستصحاب وهو أصل عقلائي قبل أن يكون من علم الأصول ، إذ قالوا أن عشرة آلاف من المشركين زحفوا قبل سنة ، وأحاطوا بالمدينة ، وحفر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خندقاً حولها بمشورة من سلمان الفارسي .
ليطوقوا مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأكثر من عشرين ليلة ، وحدثت المبارزة التأريخية بين الإمام علي وفارس مضر عمرو بن عبد ود العامري .
حيث صرعه الإمام علي ، وكان من أسباب هزيمتهم ، وبعث الله عز وجل على المشركين ريحاً فقلعت خيامهم .
وعن ابن مسعود أنه كان يقرأ هذا الحرف [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ) بعلي ابن أبي طالب ( ).
ومع أن الحديبية ليس غزوة للنبي محمد فقد سمّى الله عز وجل الصلح يومئذ بأنه فتح مبين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولأجيال المسلمين ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ) والواو اعتراضية .
لإفادة أن الصلح في كل زمان ومكان هو خير من الخصومة والإقتتال سواء الصلح داخل الأسرة ، والحيلولة دون الطلاق ، أو الصلح بين الأفراد والجماعات والقبائل والدول .
لقد كان [َتقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَاد] شاهداً على قوتهم وشأنهم بين القبائل ، وكثرة حلفائهم.
فجاء خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للعمرة من غير أسلحة قتالية دليلاً على عدم الاغترار بهم أو الخوف من سطوتهم ، هذا الخوف الذي منع عدداً من رجالات القبائل حول المدينة من الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحديبية خشية بطش قريش ، لبيان أن نزول آية البحث مقدمة للخروج إلى الحديبية وعقد صلح الحديبية الذي هو ثمرة صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وتحملهم الأذى في سبيل الله .
قانون بعثة النبي محمد (ص) حاجة للناس
لقد قام إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت الحرام وإصلاحهم لإستقبال المعتمرين ووفد الحاج ، وقال تعالى في خطاب لإبراهيم ومن بعده لإسماعيل ذوريتهما [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
ومع تقادم الأيام والسنين صار العرب يقدسون الرؤساء الذين يموتون وينصبون لهم التماثيل ليتقربوا بها إلى الله زلفى ، ثم صاروا يخشونها كجزء من عالم الغيب ، والحياة بعد الموت.
فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من جوار البيت ليقوم في السنة الثامنة للهجرة بهدم واسقاط جميع الأصنام في البيت الحرام ، ومن وجوه تفضيله على الأنبياء السابقين معجزة عدم عودة نصب الأصنام في البيت الحرام وهي معجزة متجددة كل يوم إلى يوم القيامة .
و(عن جابر قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت لوجهها وقال جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا( ).
و(قال ابن مسعود وابن عبّاس : لما إفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلثمائة وستين صنماً ، صنم كل قوم بحيالهم ، ومعه مخصرة فجعل يأتي الصنم فيطعن في عينه أو في بطنه ثمّ يقول [جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ) بجعل الصنم ينكب لوجهه وجعل أهل مكة يتعجبون ، ويقولون فيما بينهم ما رأينا رجلاً أسحر من محمّد)( ).
لبيان أن عدد الأصنام في مكة أكثر من أي بلدة أخرى فصارت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للناس ورحمة عامة بهم ، فلم يترك الله عز وجل أجيال الناس تغرق في الضلالة ، ومن مصاديق الحاجة والرحمة العامة في المقام أنه حالما نقضت قريش بنود صلح الحديبية باعانتها لبني بكر حلفائهم على خزاعة الذين دخلوا في عهد رسول الله خاصة وأن صلتهم مع بني هاشم توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكة.
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قبل فتح مكة (فَإِنّا لَمْ نَجِدْ بِتِهَامَةَ أَحَدًا مِنْ ذِي رَحِمٍ وَلَا بِعِيدِ الرّحِمِ كَانَ أَبَرّ بِنَا مِنْ خُزَاعَةَ)( ).
قاعدة تداخل الضمائر
قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الضمائر جمع الضمير وهو فعيل بمعنى اسم مفعول من أضمرت الشئ إذا أخفيته وسترته فهو مضمر ، فسمي به لاستتاره في مقابل الاسم البارز والظاهر ، ومصطلح الضمير تسمية من مدرسة البصرة وهو الشائع لغة ، وتسميه مدرسة الكوفة الكناية بلحاظ مقابلة الكناية للتصريح .
ومن الضمائر للمتكلم : أنا ، نحن ، إنّا ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
أو مخاطباً مثل : أنت ، أنتما ، أنتم ، أنتن .
أو غائب مثل : هو ، هي ، هما ، هم ، هن .
ولا يدل الضمير على حدث أو زمان فعل .
ومن الضمائر الضمائر المتصلة وهي خمسة تاء الفاعل وفروعها ألف الإثنين ، ياء المخاطبة مثل قوله تعالى [فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا]( ) و(نا) المتكلمين ، وتأتي للمتكلم المنفرد للتفخيم ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى]( ) ونون النسوة ، وواو الجماعة .
لبيان دلالة الألفاظ على المعاني على نحو الحقيقة ، فاذا سُمع اللفظ فان معناه يتبادر إلى الوجود الذهني سواء كان :
الأول : اسم أو فعل .
الثاني : الجملة خبرية أو إنشائية .
الثالث : الجملة فعلية أو اسمية .
والضمير اسم جامد يدل على متكلم أو مخاطَب أو غائب ، ويكون بلحاظ الجنس مذكراً أو مؤنثاً ، فكأن الضمير كناية عن اسم العلم.
فالأصل هو إطلاق الاسم على الشئ ، فانيب عنه بالضمير لمعرفة السامع به ولسياق الكلام ، ووجود قرائن ومناسبة تزيل الإبهام ، وتمنع من الغموض وللدلالة على ما يسمى (مرجع الضمير) إذ تشمل الضمائر المتكلم ، والمخاطَب ، والغائب والمتحدث عنه بنسق بديع.
ففي قوله تعالى [لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( )، تداخل الضمير ، فالمراد من الهاء في (لنريه) هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أما الضمير في (إنه) فيعود لله عز وجل .
وورد حكاية عن الكفار عند قيام الساعة [قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا]( )، فاختلف في الضمير (الهاء) هل يعود إلى قيام الساعة ، أو الحياة الدنيا أو الإعراض عن الدعوة النبوية ، أو الأعمال الصالحة ، أو الجنة.
ووردت في سورة الجن مائة واثنا عشر ضميراً.
ومن خصائص الضمير في القرآن ربط اللاحق بالسابق ، وكأنه مادة للعطف ، وتعدد معاني الضمير المتحد في القرآن ليشمل عدة وجوه ، ويراد منه مقاصد متعددة ، وهو من أسرار بقاء القرآن غضاً طرياً تقتبس منه الدروس والمسائل .
وقد يأتي ضمير الشأن الذي يدل على المفرد أو المفردة الغائبة ، ويأتي في موقع المبتدأ ، او اسماً لكان وأخواتها ، أو إن وأخواتها .
وفي التنزيل [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( )، لأن ضمير الشأن المنفصل (هو) مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.
وتسمية (ضمير الشأن) من مدرسة البصرة كما سموه ضمير الأمر ، أما علماء النحو في الكوفة فسموه ضمير (المجهول) وقيل لعدم العلم بعائديته وهذا القول ليس بتام.
قانون حاجة الصفا والمروة للفتح
لقد جعل الله عز وجل جبل الصفا ، وجبل المروة من الشعائر ودلائل الإيمان ، قال تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( )، فقد نصب المشركون الأصنام على كل من الجبلين.
والمختار قول نستحدثه في باب التفسير والعقيدة وهو أن المراد بالشعائر في الآية هو ذات جبل الصفا ، وجبل المروة وحجارتهما وموضعهما ليكونا من الشعائر المكانية بالذات وجوارهما البيت الحرام ، وللتأكيد على قدسية البيت الحرام من باب الأولوية القطعية وحرمة نصب الأصنام على الصفا والمروة وقرب فتح مكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
أما الطواف بينهما فهو أيضاً من شعائر الله ، وهو من الشعائر العبادية الفعلية.
ومن معاني نعت جبل الصفا والمروة من الشعائر المكانية أن الله عز وجل جعلهما علماً لطاعته والشعائر واحدتها شعيرة .
والسعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج من زمن إبراهيم عليه السلام لبيان نعمة الله في إنقاذ هاجر وإسماعيل من العطش ، وحفظ ذريته لحين ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولا تختص أسباب النزول بالسعي بين الصفا والمروة ، وتحرج المسلمون لأن المشركين كانوا يطوفون بينهما أيضاً .
ومن دلائل قوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ]( )، حتمية حصول الفتح ، وإسلام أهل مكة كيلا يصعد على الصفا والمروة مشرك وإلى يوم القيامة .
فالقدسية المكانية لذات جبل الصفا وجبل المروة وكذا للسعي بينهما الذي هو عبادة وعلامة .
ليكون معنى قوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ]( )، على وجوه :
الأول : إنه شعيرة مكانية من شعائر الله ، يستبشر المسلم والمسلمة عند الصعود عليهما .
الثاني : هناك شعيرة زمانية مثل شهر رمضان وأوان الحج .
الثالث : هل جبل عرفة من شعائر الله المكانية أم يختص الحكم بالصفا والمروة .
الجواب إنه شعيرة زمانية مكانية ففي يوم محدد من السنة وهو التاسع من شهر ذي الحجة يقف وفد الحاج على جبل عرفة على نحو الوجوب العيني على كل حاج وحاجة ،قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ]( ).
و(عن عبدالرحمن بن يعمر الديلى قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة وأتاه أناس من أهل نجد فسألوه عن الحج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج عرفة فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه)( ).
الرابع : إنه من الشعيرة العبادية بالسعي بينهما ، فهذا السعي ركن من أركان الحج والعمرة ، وذهب أبو حنيفة إلى كونه واجب غير ركني من تركه عليه دم أي شاة أو بَدَنَة.
مسائل في الصفا والمروة
الأولى : قانون تعاهد جبل الصفا والمروة والمحافظة عليهما.
الثانية : قانون منع نصب الأصنام على أي من الجبلين ، وإزاحة الأصنام التي وضعت.
الثالثة : قد ثبت في علم الأصول أصالة الحقيقة ، فالكلام العربي ينصرف إلى المعنى الذي وضع له إلا مع القرينة الصارفة إلى المجاز .
والمختار المستحدث أن اللفظ القرآني على أقسام :
الأول : المراد من اللفظ القرآني الحقيقة .
الثاني : إرادة المجاز .
الثالث : إرادة الحقيقة والمجاز معاً في الكلمة الواحدة كما في الآية .
والشعائر جمع شعيرة وهي العلم في دين التوحيد .
الرابعة : قانون منع البناء على الصفا أو المروة والمسعى الذي بينهما ، وكانوا أيام الجاهلية يبنون البيوت حولهما بما لا يزاحم الطواف فمثلاً كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم على امتداد جبل الصفا.
الخامسة : قانون عدم جواز الأخذ من جبل الصفا أو المروة ، ولو أخذ منهما لتوسعة طريق أو بناء ونحوه فيجب إعادة هذا الجزء بصخر وحصى من أحد جبال مكة القريبة من البيت وإعادتهما على هيئتهما أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، خاصة مع إزدياد عدد وفد الحاج بالملايين.
السادسة : إدراك المسلمين لقدسية جبل الصفا والمروة ، وغبطة المسلم عند الفوز بالصعود عليهما .
السابعة : وجوب السعي بين الصفا والمروة ، وهو من الدلائل لما أذهب إليه بأن ذات جبل الصفا وجبل المروة من شعائر الله المكانية.
الثامنة : لو دار الأمر بين التوسعة الأرضية العرضية للمسعى بين أصل طول جبل الصفا وجبل المروة ، وبين التوسعة العمودية ، تقدم التوسعة الأرضية لأنها أقرب لسعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، مع الحاجة إلى التوسعة العمودية والطوابق المتعددة لاستيعاب كثرة الحجيج ، ومنع الزحام ، وقاعدة نفي الحرج في الدين .
التاسعة : في الآية وعد من الله عز وجل بأنه يحفظ جبل الصفا وجبل المروة إلى يوم القيامة .
وفي تعاهد المسلمين وولاة الأمور لجبلي الصفا والمروة وحجارتهما وهيئتهما وفيه أجر وثواب لأنهما من مصاديق الشعائر في قوله تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
والمسافة بين الجبلين هي 394,5م .
ومجموع الأشواط السبعة نحو (3) كم .
العاشرة : كون ذات جبلي الصفا والمروة من شعائر الله شاهد ومثال بأن ملك الأرض لله عز وجل وهو الذي اختار مكان البيت ويتفضل بحفظ الشعائر المكانية والزمانية والفعلية ،قال تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الحادية عشرة : من الشعائر الفعلية قوله تعالى [وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ]( ).
معنى (ألم)
وردت في الحروف الهجائية في أول سورة البقرة معاني قد تقدم ذكر بعضها في الجزء الثاني من هذا السِفر( ) منها :
الأول : انها حروف هجاء للتحدي وتعجيز المشركين ، والحروف الهجائية لا تدخل في الإعراب أو البناء .
الثاني : نزلت الحروف المقطعة في أول السور للتنبيه وهي مبنية لا محل لها من الإعراب.
الثالث : (الم) اسم خبر لمبتدأ محذوف والتقدير (هذه الم).
أي أن (الم) اسم آخر لسورة البقرة ولم يثبت هذا المعنى ، وقد ورد النص المتعدد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن اسم السورة هو سورة البقرة ، منه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : ألم تر ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح .
قال : فلعله قرأ سورة البقرة .
قال : فسئل ثابت فقال : قرأت سورة البقرة)( ).
ومنه المناجاة يوم معركة حنين وساعة الشدة ، ومنه أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عمه العباس بالمناداة : يا أصحاب سورة البقرة ، لتصبح شعاراً وعنواناً وباعثاً على الصبر عند لمعان السيوف .
وبعد انتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وارتداد طوائف من العرب منهم بنو حنيفة في أرض اليمامة برئاسة مسيلمة الكذاب إذ اجتمع حوله قريب من مائة ألف بحمية الجاهلية الأولى ، فجهز أبو بكر (لقتاله خالد بن الوليد في قريب من ثلاثة عشر ألفًا، فالتقوا معهم فانكشف الجيش الإسلامي لكثرة من فيه من الأعراب، فنادى القراء من كبار الصحابة: يا خالد، يقولون: ميزنا من هؤلاء الأعراب فتميزوا منهم، وانفردوا، فكانوا قريبا من ثلاثة آلاف، ثم صدقوا الحملة، وقاتلوا قتالا شديدا، وجعلوا يتنادون: يا أصحاب سورة البقرة، فلم يزل ذلك دأبهم حتى فتح الله عليهم ووَلَّى جيش الكفار)( ).
و(قيل للبراء : كان النبي صلى الله عليه وسلم فيمن ولى دبره يوم حنين قال : والذي لا إله إلاّ هو ما ولّى رسول الله دبره قط ، لقد رأيناه وأبو سفيان بن الحرث آخذ بالركاب والعباس آخذ لجام الدابة.
وهو يقول : أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب .
قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس : ناد يامعشر المهاجرين ويامعشر الأنصار وكان العباس رجلاً صويّتاً.
ويروى من شدة صوت العباس أنه أُغير يوماً على مكة فنادى : واصباحاه فأسقطت كل حامل سمعت صوته جنينها.
فجعل ينادي : ياعباد الله ، يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، وعطف المسلمون حين سمعوا صوته عطفة البقر على أولادها فقالوا : يالبيك يالبيك يالبيك وجاؤوا عنقاً واحداً فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصابة من الأنصار فقال : هل معكم غيركم .
فقالوا : يا نبي الله لو عمدت إلى برك العماد من ذي يمن لكنّا معك ، ثم أقبل المشركون فالتقوا هم والمسلمون ، وتنادى الأنصار : يا معشر الأنصار ثم( ) قصرت الدعوة على بني الحرث والخزرج .
فتنادوا فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول إلى قتالهم فقال هذا حين حمي الوطيس ، فأخذ بيده كفّاً من (الحبِّ) فرماهم وقال : شاهت الوجوه.
ثم قال : انهزموا ورب الكعبة ، انهزموا ورب الكعبة.
قال : فوالله مازال أمرهم مدبراً وجدّهم كليلا حتى هزمهم الله تعالى)( ).
عصمة النبي (ص) من ترك ميدان القتال
من معجزات وخصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا ينهزم من ساحة الميدان ، وهو من الشواهد على حفظ الله عز وجل له ورجوع الصحابة إليه خلافاً للمتبادر بقيام القائد بتسهيل إنسحابه ، أو فراره وترك ميدان المعركة عند الشعور بقرب الهزيمة ، ولكن النبي محمداً بقي في موضعه وليس معه إلا نحو مائة من الصحابة في وجه عشرين ألفا من المشركين مندفعين في القتال ، ويدل قول جابر بن عبد الله الأنصاري (فَانْطَلَقَ النّاسُ إلّا أَنّهُ قَدْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ)( ).
لقد كانت خطط مالك بن عوف محكمة لولا فضل الله في تحقيق النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معجزة حسية ، إذ نزلت الملائكة للنصرة ، وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل ما فعله في معركة بدر إذ أخذ قبضة من تراب الأرض ورماها في وجوه القوم ، فملأت عيونهم وأفواههم مع كثرتهم .
و(عن أبي عبد الرحمن الفهري قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حنين ، فسرنا في يوم قائظ شديد الحر فنزلنا تحت ظلال الشجر ، فلما زالت الشمس لبست لامتي وركبت فرسي ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، قد حان الرواح يا رسول الله .
قال أجل ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا بلال ، فثار من تحت سمرة كان ظله ظل طائر( ) فقال : لبيك وسعديك وأنا فداؤك . ثم قال : أسرج لي فرسي . فأتاه بدفتين من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر.
قال : فركب فرسه ثم سرنا يومنا فلقينا العدوّ وتشامت الخيلان فقاتلناهم ، فولى المسلمون مدبرين كما قال الله عز وجل ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله ، فاقتحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن فرسه ، وحدثني من كان أقرب إليه مني : أنه أخذ حفنة من تراب فحثاها في وجوه القوم وقال : شاهت الوجوه .
قال يعلى بن عطاء : فأخبرنا أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا : ما بقي منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه من التراب ، وسمعنا صلصلة من السماء كمر الحديد على الطست الحديد ، فهزمهم الله عز وجل)( ).
لبيان مصداق لإستضعاف المؤمنين في ميدان المعركة ونصر الله لهم ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ]( ) ويكون من مصاديق تقدير الآية أعلاه ، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في أرض المعركة .
ومن الآيات في معرفة المسلمين بقانون ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال ، وفيه مسائل :
الأولى : لما انهزموا حضر في الوجود الذهني الشخصي والنوعي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال في مكانه ، وأنهم يعرضونه للقتل فصار هذا الحضور سبباً لإنقلابهم إلى ميدان القتال بشدة بأس.
الثانية : إدراك المسلمين لقانون ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان طريق النصر والظفر .
الثالثة : من خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشجاعة والنجدة والصبر والبأس المقرون بحسن التوكل على الله .
الرابعة : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان ، وعصمته من الفرار في أصعب المواقف معجزة حسية له .
الخامسة : قانون الثبات في ميدان القتال تدبير نبوي ، وفيه دعوة للمسلمين للإمتناع عن الفرار .
وثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان من أسباب إصابة المشركين بالخوف والرعب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ) .
لقد انحاز النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهة اليمين كيلا يحول دون المنهزمين في إنسحابهم لأن نصره من عند الله ، ولأن هؤلاء المنهزمين سيعودون للقتال وهم على خيلهم وإبلهم ، وأخذ ينادي (أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ هَلُمّوا إلَيّ ، أَنَا رَسُولُ اللّهِ أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ)( ).
مجلد (معجزات الميدان)
يدعو قوله تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ]( ) إلى إحصاء الوقائع التي نزلت فيها المعجزة لنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهل يشترط فيها وجود شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا، بدليل ذكر صيغة الجمع [نَصَرَكُمُ] وصفة [كَثِيرَةٍ] منها معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وقريظة والسرايا التي بعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد نسب الله عز وجل لنفسه نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر بقوله [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) وقال تعالى [إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ]( ).
ومن معجزات الميدان نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل يختص نزولها بالآيات الواردة بخصوص معركة بدر ، ومعركة أحد ، والخندق ، الجواب لا ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ) إذ تدل صيغة المضارع على تجدد نزول الملائكة ، وهو أحد طرق نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويلزم تأليف مجلد أو أكثر يختص بمعجزات الميدان من جهات :
الأول :قانون نصر الله للأنبياء .
الثاني : قانون نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : نصر الله للأنبياء وإن طال الزمن واشتد أذى المشركين لهم ولأصحابهم ، قال تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ]( ).
الرابع : كيفية نصر الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ففي كل واقعة كيفية وسبل للنصر تختلف عن غيرها .
الخامس : قانون الدعاء لجلب النصر .
السادس : قانون قلة عدد قتلى المسلمين في الميدان .
السابع : مقدمات النصرالحسية والعقلية .
الثامن :مصاديق الرحمة في الميدان لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدفاعية ، لعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
التاسع : بيان افراد قانون لا يبدأ النبي القتال .
العاشر : النصر بالوحي والآيات الكونية .
الحادي عشر : نتائج وفيض وبركة النصر الإلهي .
وجوه نصر النبي (ص)
قال تعالى [وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ]( ).
يمكن تقسيم النصر إلى جهات :
الأولى : النصر الحسي الظاهر .
الثانية : النصر الخفي .
الثالثة : النصر الذي يدرك بالعقول .
الرابعة : النصر بآيات التنزيل .
الخامسة : النصر بخذلان الذين كفروا ، وفي معركة أحد قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
السادسة : النصر بالمدد من عند الله .
السابعة : النصر بنزول الملائكة ، وفي معركة بدر قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )والنسبة بين المدد من الله ونزول الملائكة عموم وخصوص مطلق ، فالمدد أعم .
الثامنة : الأنفال والغنائم وتوزيعها وفق الكتاب والوحي ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
التاسعة : النصر بالوحي والتنزيل .
العاشرة : النصر بالآيات الكونية كما في هبوب الرياح العاتية التي اقتلعت خيام المشركين في معركة الخندق .
الحادية عشرة : قانون دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقدمة للنصر ، وهل يختص دعاؤه بالمعارك التي حضرها ، الجواب لا ، إنما يشمل وجوهاً :
الأول : السرايا التي بعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : صرف المعارك والإقتتال بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين المشركين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثالث : الدعاء لبعث الخوف والقنوط في قلوب الذين كفروا ، وصرفهم عن القتال .
الرابع : هداية الناس للإسلام ، وكلما يدخل شخص الإسلام يصيب جبهة الكفر الضعف ، وهو من عمومات قوله تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ .
الثانية عشرة : النصر بصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
الثالثة عشرة : النصر بسيوف أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ) بخصوص معركة الخندق ، وأخرج (ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ هذا الحرف [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ) بعلي بن أبي طالب)( ) للدلالة على موضوعية قتل الإمام علي عليه السلام لعمرو بن ود العامري في معركة الخندق.
قانون مصاحبة الثبات للنبوة
يدل قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ]( ) وقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ) على أن سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية من عند الله.
ومن خصائص الإنسان التدبير بالتقدم عند السعة والمندوحة ، والإنسحاب عند الشعور بالحاجة إلى الإنسحاب خاصة في مواطن الخوف ، واقتراب القتل منه ، والسكوت والتراجع عند الإستهزاء والإستخفاف وعدم وجود الناصر .
ولكن النبي محمداً أظهر الثبات في دعوته إلى الله من أول أيام البعثة النبوية ، وهو من معجزاته ، إذ لاقى أشد الأذى في نفسه وأهل بيته وأصحابه ، وتوسلت إليه قريش بالإغراء بالأموال وكثرة الزوجات .
وفي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري أن عتبة بن ربيعة قال للنبي (يا محمد أنت خير ام هاشم أنت خير ام عبد المطلب انت خير ام عبد الله فلم يجبه قال فبم تشتم آلهتنا وتضلل أباءنا.
فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسنا ما بقيت.
وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت.
وان كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستعين بها أنت وعقبك من بعدك ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساكت ولا يتكلم.
فلما فرغ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسم الله الرحمن الرحيم [حم *تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ]( ) فقرأ حتى بلغ [فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ]( ).
فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم ان يكف عنه ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم.
فقال أبو جهل يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته انطلقوا بنا اليه فأتوه.
فقال ابو جهل والله يا عتبة ما حسبناك إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد فغضب.
وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا قال ولقد علمتم اني من اكثر قريش مالا ولكني أتيته فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة قرأ بسم الله الرحمن الرحيم [حم *تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ]( ) حتى بلغ [فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ]( ).
فامسكت بفيه وناشدته الرحم ليكف ولقد علمتم ان محمدا اذا قال شيئا لم يكذب فخفت ان ينزل بكم العذاب)( ).
وقد تحقق مصداق الصاعقة عندما أصرت قريش على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، فقتل كل من أبي جهل ، وعتبة بن أبي ربيعة مع أخيه شيبة ، وابنه الوليد بن عتبة.
لبيان أن تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على عتبة سورة فصلت ، وقراءة عتبة لها في حضرة المشركين إنذار لهم من تجهيز الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر بذريعة إرادته وأصحابه الإستيلاء على قافلة أبي سفيان ، ولا أصل لهذه الإرادة .
غايات المشركين من الأحزاب
في معركة الخندق التي وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة زحف عشرة آلاف من المشركين من مكة وحواليها إلى المدينة .
ويمكن تصور الجهود والأموال التي بذلتها قريش في جمع هذه الأعداد من مكة والمدن والقرى القريبة والبعيدة منها فلا غرابة أن ترى تعطل تجارة قريش إلى اليمن والشام ، لإنشغالهم بالطواف على القبائل ، وحشد الجيوش ، مع تسخيرهم إبل التجارة لتنقلهم وللبذل للقبائل واستضافتهم ، واقراضهم .
ويدل قوله تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا]( ) على كثرة الجهات والأماكن التي جاء منها المشركين لمعركة الخندق :
الأول : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : جعل المهاجرين والأنصار بين قتيل وجريح وأسير .
الثالث : سبي نساء وصبيان المدينة .
الرابع : تخريب المدينة ونهب محلاتها ودورها ، ومنها محلات اليهود ، ومنها سوق الصاغة ، وسوق المواد الزراعية ، قال تعالى [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ]( ).
وكلمة (كذلك) في الآية أعلاه مركبة والكاف بمعنى مثل : أي مثل ذلك ، وبالإضافة إلى ذلك ، فيتجدد أذاهم وفتكهم وتخريبهم عند الغزو ، فكفى الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل المدينة شر كفار قريش ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الخامس : إيقاف نزول آيات القرآن ، والتي جذبت الناس للإسلام ، وفضحت قريش ، وبينت قبح الكفر وسوء عاقبة الذين ماتوا على الكفر من آبائهم ، وانطباق ذات الحكم على الذين يموتون على الكفر .
السادس : منع دخول الناس الإسلام .
السابع : إحكام قبضة وسطوة قريش وكبار الظالمين على الناس .
الثامن : استدامة عبادة الأوثان في الجزيرة وبقاء الأصنام منصوبة في المسجد الحرام .
التاسع : المنع من ذم الأباء الذين غادروا الدنيا على الشرك والضلالة ، وفي التنزيل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ]( ).
العاشر : الثأر لخسائر المشركين في معركة بدر وأحد ، وغيرها .
الحادي عشر : إرادة الحسد والتشفي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبني هاشم والصحابة الأوائل ، ومحاولة إعادة اعتبار قريش الذين شعروا بالمهانة .
الثاني عشر : تجديد التجارة بين مكة والشام ، ومكة واليمن .
الثالث عشر : تأديب القبائل بعد أن شاعت تلاوة آيات القرآن بينهم ، وأظهروا ميلاً لدخول الإسلام ، ونفرة من عبادة الأوثان ، واستهانة بقريش بعد خسارتهم في معركة بدر وأحد بمعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتدل هذه الوجوه متحدة ومتعددة على صدق قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
محاولات قتل النبي (ص)
لقد أدركت قريش بأن آيات القرآن مستمرة في النزول وأنها لا تنزل إلا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبقتله يتوقف نزولها فاجتهدوا بمكر لقتله على نحو القضية الشخصية من وجوه :
الأول : القضية الشخصية بالإغتيال والغدر ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) كما في عزم قريش على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه في الليلة التي هاجر فيها إلى المدينة إذ أخبره جبرئيل في النهار بما عزمت عليه قريش ، ترى لماذا لم ينتقم جبرئيل من قريش ليلتئذ وتكون آية لأهل مكة ، الجواب أراد الله عز وجل دخول الناس الإسلام طواعية وإقامة الحجة على قريش بتجهيزهم الجيوش لقتال النبي ومنها بعث رجال من قريش أشخاصاً لإغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة.
الثاني : تعريض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقتل من قبل السفهاء بنعته بأنه مجنون وأن الشياطين يوحون له .
الثالث : حبس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثلما يفعل مع الشعراء الذين يذمون ويهجون الناس في أشعارهم ، قال تعالى[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) ومعنى [لِيُثْبِتُوكَ] على جهات :
الأولى : الشد في الوثاق والقيد باليدين والرجلين ، قال ابن عباس (ليثبتوك في الوثاق)( ).
الثانية : ليثبتوك في الحبس ، قاله عطاء والسدي .
الثالثة : معنى (ليثبتوك) أي يخرجوك ، كما يقال : قد اثبته في الحرب أي أخرجه .
والصحيح هو الأول .
لتتقادم الأيام ويقوم سهيل بن عمرو بشد وثاق ابنه أبي جندل مع تعذيبه لإسلامه وعزمه على الهجرة إلى المدينة .
وفي صلح الحديبية وبينما يكتب الإمام علي عليه السلام بنود الصلح باملاء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(قال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ، ولكن لك من العام المقبل فكتب.
فقال سهيل : وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا .
فقال المسلمون : سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟ فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمر ويرسف في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترد إلي .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنا لم نقض الكتاب بعد .
قال : فوالله لا أصالحك على شيء أبدا .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فأجزه لي .
قال : ما أنا بمجيزه
قال : بلى فافعل
قال : ما أنا بفاعل
فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما لقيت في الله ؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله
فقال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : ألست نبي الله ؟ قال : بلى
فقلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى
قلت : فلم نعطى الدنية في ديننا إذن ؟ قال : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري
قلت : أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا
قال : فإنك آتيه ومطوف به
فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر : أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال : بلى
قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى
قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن ؟ قال : أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه تفز حتى تموت فو الله إنه لعلى الحق
قلت : أوليس كان يحدثنا إنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا
قال : فإنك آتيه ومطوف به)( ).
الرابع : إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بطائح مكة ليهيم على وجهه وإن وصل إلى قرية أو قبيلة تقوم قريش بالتحريض عليه ، وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية أعلاه [أَوْ يُخْرِجُوكَ].
بينما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً إلى المدينة بأمر من جبرئيل وبالوقت الملائم الذي أراده الله بعد أن صار في المدينة أنصار يقدم عليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسبقه إليها عدد من الصحابة وأولهم مصعب بن عمير سفيره إلى الأوس والخزرج ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ]( ).
ومن الإعجاز أنه في كل مرة يريد المشركون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينقذه الله ويفضح الذين كفروا ويلحقهم الخزي والكأبة واليأس .
الخامس : محاولة اغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة حنين من قبل شيبة بن عثمان بن أبي طلحة ثأراً لأبيه الذي قتله الإمام علي عليه السلام في معركة أحد .
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدّارِ . قُلْت : الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِنْ مُحَمّدٍ وَكَانَ أَبُوهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ ، الْيَوْمَ أَقْتُلُ مُحَمّدًا . قَالَ فَأَرَدْت بِرَسُولِ اللّهِ لِأَقْتُلَهُ فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتّى تَغَشّى فُؤَادِي ، فَلَمْ أُطِقْ ذَاكَ وَعَلِمْت أَنّهُ مَمْنُوعٌ مِنّي)( ).
وروي الخبر مفصلاً بالإسناد عن عكرمة مولى ابن عباس( ).
انتفاخ الضغائن
مما تمتاز به معركة أحد وجود طلقاء مكة في جيش المسلمين ، نعم كان المنافقون قد حضروا معركة الخندق وبعض كتائب وسرايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل كتيبة بني المصطلق إذ بلغ النبي محمداً أنهم يجمعون الحشود للإغارة على المدينة برئاسة الحارث بن أبي ضرار.
فخرج إليهم حتى لقيهم على ماء لهم يسمى المريسيع من ناحية قديد فالتقيا وانهزم بنو المصطلق .
وتزاحم المسلمون على الماء ، فازدحم جهجاه بن سعيد أجير عند عمر بن الخطاب مع سنان الجُهني حليف بني عوف من الخزرج على الماء ، فصرخ الجهُني : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين .
وكان عبد الله بن أبي بن سلول حاضراً (وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ غُلَامٌ حَدَثٌ فَقَالَ أَوَقَدْ فَعَلُوهَا ، قَدْ نَافَرُونَا وَكَاثَرُونَا فِي بِلَادِنَا ، وَاَللّهِ مَا أَعُدّنَا وَجَلَابِيبَ قُرَيْشٍ إلّا كَمَا قَالَ الْأَوّلُ سَمّنْ كَلْبَك يَأْكُلْك [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ]( ).
ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوّلُوا إلَى غَيْرِ دَارِكُمْ .
فَسَمِعَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَمَشَى بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَذَلِكَ عِنْدَ فَرَاغِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِنْ عَدُوّهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ .
فَقَالَ مُرْ بِهِ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إذَا تَحَدّثَ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ لَا وَلَكِنْ أَذّنْ بِالرّحِيلِ وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَرْتَحِلُ فِيهَا ، فَارْتَحَلَ النّاسُ)( ).
أما في معركة حنين فقد خرج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه العشرة آلاف ، ومعلم ألفان من مسلحة الفتح ، فهم هؤلاء الألفان ليسوا كلهم من الطلقاء أو مسلمة الفتح ، فمنهم من أسلم قبل هذا اليوم ولكنهم أخفوا إسلامهم ، أو تعذرت عليهم مقدمات وأسباب الهجرة إلى المدينة ، ومن الطلقاء من لم يدخل الإسلام في قلبه فضلاً عن الإيمان ، وفي ذم الأعراب ، قال تعالى [قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
والمؤلفة قلوبهم الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدنى مرتبة من الأعراب خاصة مع قصر الفترة بين الدخول في الإسلام ، وبين معركة حنين ومدتها أقل من شهر ، ومنهم من خرج مع النبي وهو على كفره مثل صفوان بن أمية بالمدة التي جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم.
ولما هاجمت جنود هوازن وثقيف المسلمين في الوادي وانهزمت طلائع المسلمين وبان وكأنه هزيمة وخسارة للمسلمين بان الكفر عند طائفة من أهل مكة دفين.
قال ابن اسحاق (فَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ وَرَأَى مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكّةَ الْهَزِيمَةَ تَكَلّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الضّغْنِ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ : لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ وَإِنّ الْأَزْلَامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ ، وَصَرَخَ جَبَلَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ وَهُوَ أَخِيهِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ مُشْرِكٌ فِي الْمُدّةِ الّتِي جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَلَا بَطَلَ السّحْرُ.
الْيَوْمَ فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ اُسْكُتْ فَضّ اللّهُ فَاكَ فَوَاَللّهِ لَأَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَهْجُو كَلَدَةَ
رَأَيْتُ سَوَادًا مِنْ بَعِيدٍ فَرَاعَنِي … أَبُو حَنْبَلٍ يَنْزُو عَلَى أُمّ حَنْبَلِ
كَأَنّ الّذِي يَنْزُو بِهِ فَوْقَ بَطْنِهَا … ذِرَاعُ قَلُوصٍ مِنْ نِتَاجِ ابْنِ عِزْهِلِ)( ).
و(كَلَدَةَ) أخو صفوان بن أمية لأمه.
ومن خصائص حال الإضطراب في الميدان دنو الجندي من القائد وارتفاع الحواجز بينها.
قانون مصاحبة الوهن للنفاق
لقد كان أثر وضرر المنافقين على المؤمنين في الميدان قليلاً إذ توالت آيات القرآن في النزول من جهات :
الأولى : ذم المنافقين وبيان قبح أفعالهم.
الثانية : ذكر المنافقات مع المنافقين في الذم ولغة التوبيخ في خمس آيات من القرآن ، مع أن ذكر المنافقين بصيغة المذكر شامل لهن ، ومن الآيات ما جمعت بينهم وبين المشركين مع أن المنافقين نطقوا بالشهادتين ويقيمون الصلاة ولكنهم يخفون الكفر في قرارة أنفسهم ، قال تعالى [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
الثالثة : قلة عدد المنافقين بالنسبة لكثرة المسلمين الناطقين بالشهادتين.
الرابعة : تناقص عدد المنافقين على نحو مطرد مع توالي نزول آيات القرآن ، وتجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والنقلية .
الخامسة : انتفاء الحاجة إلى أشخاص المنافقين ، ففي الطريق إلى معركة أحد انسحب عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق مع ثلاثمائة من أصحابه راجعين إلى المدينة بذريعة أنهم لا يظنون وقوع قتال ، وقد أخزاهم الله عز وجل بذات هذا الإدعاء.
إذ قال عبد الله بن أبي (ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي والد جابر بن عبد الله.
فقال يا قوم اذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم .
قالوا لو نعلم انكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال.
فلما استعصوا عليه وأبوا الا الانصراف قال ابعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم وهؤلاء القوم هم المرادون بقوله تعالى وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ( ).
السادسة : إزدياد عدد المسلمين على نحو مطرد في الأسبوع والشهر ، وزيادة أموالهم ومؤنهم .
السابعة : حداثة النفاق ، إذ بدأ بعد انتصار المسلمين في معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وخشية الكفار من الذين آمنوا.
الثامنة : ثبات المسلمين في مقامات الإيمان ، وإعراضهم عما يقوله المنافقون ، أما في معركة حنين فكان وجود المنافقين ضعيفاً ففي خمس سنوات بين معركة أحد ، ومعركة حنين إنحسر النفاق وقلّ أهله ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهن وانحسار النفاق بعد فتح مكة
لم يكن أثر يذكر للمنافقين يوم فتح مكة أو في معركة حنين ، إذ يصاب المنافق بالفزع والقنوط حينما يرى عشرة آلاف مسلم في كتائب منظمة ، وجحافل إيمان خرجت طاعة لله والرسول ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
والتي تبعث على التدبر طوعاً وقهراً في صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويشمل الخطاب أعلاه المنافقين ، وهو من لطف الله عز وجل بالذين ينطقون بالشهادتين بتقريبهم إلى منازل الإيمان ، وتنقيح القول والفعل.
وهل فتح مكة من الرحمة التي تذكرها الآية أعلاه ، الجواب نعم ، وهو من الشواهد على طاعة المسلمين لله والرسول ، واستجابتهم للتنزيل والوحي.
ترى كيف ضعف وقلّ النفاق وتضاءل أثره في فتح مكة ، الجواب من إعجاز القرآن تهذيب النفوس وإصلاح السلوك ، والتنزه عن النفاق والحصانة منه.
فقد خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة في الطريق إلى حنين ألفان من مسلمة الفتح ، ومنهم حديثو عهد بالإسلام بعد محاربتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، واسلموا عندما رأوا غلبة الإسلام بفتح مكة وامتلاء البيت الحرام ، وأزقة مكة بعشرة آلاف من المؤمنين كان صبرهم وقبض أيديهم عن النهب والسلب والقتل معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعندما بلغ المسلمين خبر مجئ جيوش هوازن وثقيف قال عباس بن مرداس السلمي وهو من المؤلفة قلوبهم أسلم يوم الفتح ، وهو من المخضرمين في قصيدة يذم فيها هوازن ويحذرهم من قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنها :
(أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا … مِنّي رِسَالَةَ نُصْحٍ فِيهِ تِبْيَانُ
أَنّي أَظُنّ رَسُولَ اللّهِ صَابِحَكُمْ … جَيْشًا لَهُ فِي فَضَاءِ الْأَرْضِ أَرْكَانُ
فِيهِمْ أَخُوكُمْ سُلَيْمٌ غَيْرَ تَارِكِكُمْ … وَالْمُسْلِمُونَ عِبَادَ اللّهِ غَسّانُ
وَفِي عِضَادَتِهِ الْيُمْنَى بَنُو أَسَدٍ … وَالْأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ
تَكَادُ تَرْجُفُ مِنْهُ الْأَرْضُ رَهْبَتَهُ … وَفِي مُقَدّمِهِ أَوْسٌ وَعُثْمَانُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : أَوْسٌ وَعُثْمَانُ قَبِيلَا مُزَيْنَةَ)( ).
ومن الآيات أن النبي محمداً لم يمنع الطلقاء من مصاحبته في مسيره إلى حنين ، ولم يخش انخذالهم وخذلانهم وفيه معجزة ذاتية له ولم يجعلهم بعيدين عنه خوفاً من غدرهم والذي ظهر واقعاً وكانت الواقية منهم الوحي ، بزجرهم عن الغدر ومحاولة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولما باغتت هوازن وثقيف المسلمين في وادي حنين إذ خرجوا لهم من الشعاب والأودية ، انهزمت الطلائع الأولى للمسلمين ، وفي قول الذين انهزموا هم الطلقاء ، وكأنهم يدعون المسلمين للهزيمة والفرار اقتداء بهم.
نعم كان الهجوم سريعاً وشديداً ولكن الثبات في الميدان ملكة راسخة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصحابة .
وعن (جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ لَهُ طَوِيلٍ أَمَامَ هَوَازِنَ ، وَهَوَازِنُ خَلْفَهُ إذَا أَدْرَكَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ وَإِذَا فَاتَهُ النّاسُ رَفَعَ رُمْحَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ فَاتّبَعُوهُ)( ).
وكان مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زوجتاه أم سلمة وميمونة فضربت لهما قبة ، ومعهما عدد من الصحابيات منهن أم سليم .
و(عن أنس أن أم سليم اتخذت خنجرا يوم حنين. قال أبو طلحة: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر. فقالت: يا رسول الله أتخذه إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه. وقال عفان: بعجت به بطنه، أقتل الطلقاء وأضرب أعناقهم انهزموا بك، قال فتبسم رسول الله وقال: يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن)( ).
ويدل هذا الخبر على أن الطلقاء هم سبب هزيمة المسلمين في بدايات المعركة فهم أول من أنهزم.
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العفو والرحمة ، ومنع غلبة حال الغضب والبطش والإنتقام ، فقال لأم سليم بأن الله عز وجل كفانا شر هوازن وثقيف وزاد علينا من فضله ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
و(قال ابن عقبة : ولما أصبح القوم ونظر بعضهم إلى بعض، أشرف أبو سفيان، وابنه معاوية ، وصفوان بن أمية ، وحكيم بن حزام على تل ينظرون لمن تكون الدائرة)( ).
لقد كانت هوازن وثقيف يعدون العدة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل فتح مكة بسنة ، مما يدل على أن سبب معركة حنين ليس قصد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتح الطائف.
والمختار أن عدد المنافقين في تناقص من حين معركة الخندق وخيبة المشركين ، وتوالي نزول آيات القرآن في ذم وفضح وإنذار المنافقين ثم تم صلح الحديبية ، وفيه خيبة للمنافقين ودلالة على عدم حصول النفع من إتصالهم مع المشركين ، وتسريب أخبار المسلمين لهم .
ثم جاء فتح مكة بعد صلح الحديبية بسنتين سلماً من غير قتال ، لتخرج السرايا من مكة لهدم الأصنام [وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ]( ).
الإفراط في الكذب
يحرم الإفراط الكذب وهو الإخبار عن الشئ بخلاف ما هو عليه ومنه الكذب في المزاح في شبكات التواصل.
والصدق مطابق الكلام للواقع ، قال تعالى [إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ]( ).
ووردت عن معاوية بن حيدة أنه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ويل للذي يُحَدِّث فيكذب، ليضحِكَ الناس، ويل له، ويل له)( ) وتكرار الويل لشدة عقوبته.
وذكر حوادث خرافية جرت لهم وهي ليست من الترفيه بل يضر المجتمع بتنمية خصلة الكذب القبيحة ، وصيرورة اصطناع الكذب ، ويختلط الباطل مع الحق ، وقصد إضحاك الناس من الكذب قبيح ، ويجلب النحاسة والنسيان .
والكذب مذموم في الجد والهزل ، فلا يجوز هذا الكذب وبرنامجه ، ولا بأس بخروج هؤلاء الممثلين في أفلام دينية وأخلاقية وإرشادية ، ويجوز الكذب لدفع فتنة مع عدم إمكان التورية ، ولكن هذا الكذب في بعض البرامج هو فتنة .
وعن أبي بكر قال (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر وهما في الجنة ، وإياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور وهما في النار ، ولا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، ولا يزال يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام (الكذب مذموم إلا في أمرين: دفع شر الظلمة، وإصلاح ذات البين)( ).
أركان الصلاة هي
الأول : النية .
الثاني : تكبيرة الإحرام .
الثالث : القيام اثناء تكبيرة الإحرام .
الرابع : القيام المتصل بالركوع أي السابق للركوع بأن يأتي المصلي بالركوع من قيام.
الخامس : الركوع .
السادس : السجدتان .
من أجزاء الصلاة :
الأول : القراءة .
الثاني : السجدة الواحدة .
الثالث : التشهد .
الرابع : السلام .
الخامس : الترتيب والموالاة .
السادس : القنوت .
وأركان الصلاة عند مشهور المسلمين أربعة عشر ، وما عداها واجبات وسنن مثل التسبيح في الركوع والسجود ، والتسميع أي قول : سمع الله لمن حمده عند الرفع من الركوع وهو واجب على الإمام والمنفرد دون المأموم .
وقد فرض الله عز وجل الصلاة على المؤمنين من أيام آدم عليه السلام قال تعالى [إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
وجاءت السنة النبوية القولية والفعلية بأداء الصلاة بالكيفية التي فرضها الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لذا قال النبي (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ).
وهو من الشواهد بأن النبي محمداً جاء بالفرائض العبادية وهي لواء سلام وأمن للناس ، ووسيلة سماوية لنشر الإسلام من غير أن تصل الحاجة إلى السيف .
قانون الوقاية من ضرر المنافقين
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم إضرار المنافقين بالإسلام ، ودخول الناس فيه ، فقد كانت آيات القرآن تفضح المنافقين ، وتثني على المؤمنين ، وترغب بالإيمان ، وفي طريق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة أحد انخزل رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة رجل من مجموع الجيش الذي تعداده ألف رجل .
وعن (عن ابن شهاب وغيره قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل من أصحابه ، حتى إذا كانوا بالشرط بين أحد والمدينة انخذل عنهم عبد الله بن أُبَيَّ بثلث الناس ، وقال : أطاعهم وعصاني والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا ، فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق وأهل الريب ، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام من بني سلمة يقول :
يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضرهم عدوهم . قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكن لا نرى أن يكون قتال)( ).
لبيان التضاد في قول المنافقين في محل وموضوع واحد وهو من علامات النفاق ، فحينما انسحبوا قالوا علام نقتل أنفسنا ، وعندما عاتبهم عبد الله بن عمرو قالوا لا نعلم ولا نحتمل وقوع قتال .
ويريد عبد الله بن أبي في قوله (أطاعهم وعصاني) أي استمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقول الشباب الذين اقترحوا الخروج من المدينة وملاقاة جيش المشركين عند جبل أحد لأن عبد الله بن أبي أشار على النبي بالبقاء في المدينة والقتال في أزقتها ، ولم يعلم أن النبي لم يطعهم إنما اتبع الوحي ، وقال تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ) .
وقال تعالى في ذم الذين يستأذنون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القعود عن الدفاع [إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ]( ).
وفي معركة الخندق وأثناء حفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الخندق حول المدينة أخبر أصحابه بأن جبرئيل أخبره بأن أمتي ظاهرة على قصور الحيرة ، ومدائن كسرى ، وقصور بصرى من أرض الروم.
فاستبشر المسلمون (وقالوا : الحمد لله موعود صدق بأن وعدنا النصرُ بعد الحصر (فطبقت الأحزاب فقال : المسلمون [هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ]( ) وقال المنافقون : ألا تعجبون يُمنّيكم ويعدكم الباطل،
ويخبركم أنَّه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى،
وأنَّها تفتح لكم وأنتم إنَّما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أنْ تبرزوا،
قال : فأنزل القرآن وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا( ).
وفي معركة حنين حينما تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم و المسلمون لهجوم هوازن المباغت انهزمت الطلائع الأولى من المسلمين ومعم مسلمو الفتح ، و(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ وَرَأَى مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكّةَ الْهَزِيمَةَ تَكَلّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الضّغْنِ .
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ : لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ وَإِنّ الْأَزْلَامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ . وَصَرَخَ جَبَلَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ وَهُوَ أَخِيهِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ مُشْرِكٌ فِي الْمُدّةِ الّتِي جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَلَا بَطَلَ السّحْرُ الْيَوْمَ فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ اُسْكُتْ فَضّ اللّهُ فَاكَ فَوَاَللّهِ لَأَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ)( ).
وقد توعد الله عز وجل المنافقين بالعذاب الأليم في الآخرة ، قال تعالى [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا]( )
والمختار أن أكثر المنافقين تابوا لتوالي النصر والفتح بالمعجزة ، وتوبيخ الله للمنافقين بآيات عديدة وجهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالقول والزجر، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وإذا لم يؤذ المنافق المؤمنين ولم يظهر مخالفة أحكام الشريعة فهو في الظاهر مسلم ما دام ينطق الشهادتين ، ويعامل معاملة المسلمين.
ولا يصح نعت طائفة أو فرقة بأنهم منافقون ، فالله وحده [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( )
ندم وحسرة قابيل
لقد لحق الخزي قابيل بن آدم في قتله أخيه هابيل ، ومنه ذكر قصتهما في القرآن وتلاوة المسلمين لها ، ويحتمل ندم قابيل في قوله تعالى [فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ]( ) وجوهاً :
الأول : الندم في الدنيا ، من جهات :
الأولى : ندم قابيل لتقديمه قرباناً قليلاً ، وعدم قبول الله عز وجل له.
الثانية : الندم لتهديده أخيه بالقتل ، وامتناع أخيه بمقابلة التهديد بمثله ، إذ قال هابيل [لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ]( ).
الثالثة : حسرة وندامة قابيل بسبب الإثم العظيم لقتله أخيه ، وسفكه الدم الحرام ، وانتظاره سوء العاقبة بدخول النار .
وقد تقدم الإنذار والوعيد من أخيه هابيل بالقول [إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ]( )، وكان قتل قابيل لهابيل ظلماً لنفسه ولأخيه ، ولآدم وحواء وللبشرية.
ونزلت آية البحث لمنع وقوع القتال والقتل بين المسلمين والذين كفروا بإعراض المسلمين عما في أيديهم ، وبالإنشغال بذكر الله وأداء الفرائض العبادية والزهد في الدنيا ، والتحلي بالصبر والحيطة والحذر من مكائد الذين كفروا ، ومن تسخيرهم الأموال في محاربة النبوة والتنزيل.
وقوله تعالى [لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ]( ) من مصاديق فضح حيّل الذين كفروا وإضعاف لكيدهم ، قال تعالى [ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ]( ) لبيان قانون كل آية قرآنية توهين لكيد الذين كفروا .
وفيه شاهد على الغنى عن قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالغزو والقتال ، لقانون الآية القرآنية تفرق شمل الذين كفروا ، وقانون دعوة الآية القرآنية الناس مجتمعين ومتفرقين إلى الإيمان ، وفي التنزيل [وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ]( ).
الرابعة : ندم قابيل لصيرورته مادة للذم من قبل المسلمين ، وخزيه عندهم في آيات القرآن ، وان ذكرته الآيات بصفة البنوة لآدم .
وورد عن عبد الله بن مسعود (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل الأولي الذي هو أول قاتل . قيل هو قابيل قتل أخاه هابيل)( ).
وقد ورد في الحديث النبوي ذكر قابيل بالاسم ، إذ قال الإمام علي عليه السلام (يا رسول اللّه، بأبي أنت وأمي، وما منزلة الأمير الجائر المعتدي الذي لم يصلح لرعيته، ولم يقم فيهم بأمر اللّه .
قال : هو رابع أربعة، وهو أشد الناس عذابًا يوم القيامة: إبليس، وفرعون، و (قابيل) قاتل النفس، والأمير الجائر رابعهم.
ومن احتاج إليه أخوه المسلم في قرض فلم يقرضه وهو عنده حرَّم اللّه عليه الجنة يوم يجزي المحسنين)( ).
لبعث التوادد والتراحم بين المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، وفيه ابتعاد عن الخصومة والشقاق الذي قد يكون مقدمة للكدورة والأذى .
وتدعو آية الأخوة الإيمانية أعلاه المسلمين إلى التعاون والتكافل لعدم الإفتتان بالذين كفروا وأموالهم وكثرة أسفارهم وجني الأرباح فيها ، وللإمتناع عن مودة وولاية الذين كفروا أو اللجوء إليهم والإقتراض منهم وفرضهم الشروط غير الشرعية ومنها الفائدة الربوية ، قال تعالى [لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الثاني : الندم في القبر وعالم البرزخ ويندم قابيل لخسارته في النشأتين ، وورد لفظ الخاسرين اثنتي عشرة مرة في القرآن ، ولم يرد قوله تعالى [فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ]( )، إلا بخصوص قابيل.
مع ورود لفظ (الخاسرون) بصيغة الجمع المرفوع أحدى عشرة مرة ، وورد بصيغة النصب والجر اثنتى عشرة مرة ، منه قوله تعالى [قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ]( ).
فحالما دخل قابيل القبر واجه ضغطة القبر ، ثم سؤال منكر ونكير وشدة ايذائهما له ، ثم استدامة عذاب القبر ، قال تعالى [وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( ).
لتجتمع عنده الخسارة مع الندامة ويترشح عنها الخزي يوم القيامة ، ولم يرد لفظ [فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ]إلا في الآية أعلاه ، وكذا لم يرد لفظ (النادمين) معرفاً بالألف واللام في القرآن إلا في الآية أعلاه بخصوص قابيل وحسرته وأسفه .
وفي قوم صالح عليه السلام قال تعالى [فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ]( ) .
لبيان قانون القتل والكفر يورث الندامة ، ومن الخسارة أسباب الحسرة والندامة وعذاب القبر ، ودخول النار واللبث الدائم فيها ، قال تعالى في قوم صالح [قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ]( ).
لتترتب الندامة في عالم البرزخ على سوء الفعل والمعصية في الدنيا ، وتعلق موضوع الندم بالحياة الدنيا لبيان السعة والمندوحة بفضل الله عز وجل على الناس ، وندبهم للتوبة والإنابة والرجوع إلى دين التوحيد والتصديق بالأنبياء ، واللجوء إلى باب الدعاء الذي ترّغب فيه آية البحث.
وفي ندامة وحسرة الكافر في الآخرة قوله تعالى [وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ]( ).
والنسبة بين الآخرة ويوم القيامة عموم وخصوص مطلق إذ تبدأ الآخرة من دخول الإنسان القبر ، لذا قال النبي (عليه الصلاة والسلام : من مات فقد قامت قيامتُه)( ).
والنسبة بين الندامة والخسارة عموم وخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما ، وتجتمع الندامة والخسارة للقاتل الذي يسفك الدماء ظلماً ، وينشر الفساد في الأرض .
الثالث : ندم وخزي قابيل يوم القيامة ، وفضحه بين الخلائق ، ومجئ هابيل حاملاً رأسه بيده يسأل حقه من أخيه الذي قتله ظلماً .
وعن عبد الله بن مسعود (وناس من الصحابة [فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ]( ) ليقتله ، فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال ، فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنماً له وهو نائم ، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات ، فتركه بالعراء ولا يدري كيف يدفنه.
فبعث الله غرابين أخوين ، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ثم حثا عليه التراب ، فلما رآه قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ( ).
الرابع : الندم المصاحب للخسارة عند الجزاء يوم القيامة لقوله تعالى [فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ]( ).
وهل تبعث هذه الآيات الندامة في نفوس الذين كفروا ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : تضمن هذه الآيات الذم والتعريض بالذين كفروا .
الثانية : نزول آيات من القرآن بقانون التحذير من الذين كفروا.
الثالثة : إدراك الناس لبغض الله عز وجل للذين كفروا وسخطه عليهم ، وهذا الإدراك من مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
وصحيح أن موضوع هذه الآية هو آدم عليه السلام إلا أنه ينبسط على الأجيال المتعاقبة من ذريته وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، أي خصّ الله عز وجل الإنسان بالنفخ فيه من روحه وأهله به لمقام الخلافة في الأرض .
موضع قتل هابيل
لقد ذكرت قصة قتل قابيل بن آدم لأخيه هابيل في القرآن كأول جناية قتل وسفك دماء بغير حق في الأرض حسداً وبتحريض من الشيطان وذكرا في القرآن بصفة ابني آدم بقوله تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ]( ).
وذكرا في العهد القديم بالاسم ومنه (4:1 وعرف آدم حواء امراته فحبلت وولدت قايين وقالت اقتنيت رجلا من عند الرب.
4:2 ثم عادت فولدت اخاه هابيل وكان هابيل راعيا للغنم وكان قايين عاملا في الارض .
4:3 وحدث من بعد ايام ان قايين قدم من أثمار الأرض قربانا للرب.
4:4 وقدم هابيل ايضا من ابكار غنمه ومن سمانها فنظر الرب الى هابيل وقربانه .
4:5 ولكن الى قايين وقربانه لم ينظر فاغتاظ قايين جدا وسقط وجهه)( ).
وورد في انجيل لوقا (11:50 لكي يطلب من هذا الجيل دم جميع الانبياء المهرق منذ انشاء العالم.
11:51 من دم هابيل الى دم زكريا الذي اهلك بين المذبح و البيت نعم اقول لكم انه يطلب من هذا الجيل)( ).
وكان لهابيل يوم قُتِل عشرون سنة ، وفي مصرعه وموضع قتله وقبره وجوه :
الأول : أخرج ابن عساكر عن الإمام علي عليه السلام (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بدمشق جبل يقال له قاسيون فيه قتل ابن آدم أخاه)( ).
الثاني : قال ابن عباس : على جبل نود .
الثالث : قال بعضهم : عند عقبة حرّا.
الرابع : حكى محمد بن جرير عن الإمام جعفر الصادق قال (بالبصرة في موضع المسجد الأعظم فلما قتله بالعراء لم يدر ما يصنع به ،لأنه كان أوّل ميّت على وجه الأرض من بني آدم فقصده السباع ، فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعلقت به الطير والسباع تنظر متى يرمي به فتأكله)( ).
وبلحاظ عنوان وموضوع هذا الجزء من التفسير وهو (لم يغز النبي (ص) أحداً) فان ذكر الله عز وجل لقصة ولدي آدم وقتل أحدهما الآخر موعظة وعبرة لبعث المسلمين من جهات :
الأولى : بعث الأمن والسكينة في المجتمعات .
الثانية : الاقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كثرة العفو واحترازه من القتل وإشاعته وهذا الاقتداء من معالم الإيمان.
الثالثة : تذكير وبعث آيات القرآن الأخرى النفرة من القتل.
الرابعة : نزول الآيات التي تتضمن الوعيد على سفك الدماء ، قال تعالى [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا]( ).
وسئل الإمام الباقر عليه السلام (وإنما قتل واحدا فقال: يوضع في موضع من جهنم إليه منتهى شدة عذاب أهلها لو قتل الناس جميعا كان انما يدخل ذلك المكان، ولو كان قتل واحدا كان إنما يدخل ذلك المكان ، قيل : فانه قتل آخر ، قال يضاعف عليه)( ).
الخامسة : في ذكر قصة ولدي آدم في العهد القديم ثم في القرآن إنذار للناس من محاربة وقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسراف بسفك الدماء والإقامة على عبادة الأوثان والجحود بالنبوة .
الصلة بين القرينة الحالية وأسباب النزول
القرينة لغة من فعيلة بمعنى مفعولة مأخوذ من المقارنة ، ومادة الفعل قرن الذي يدل على الجمع والمصاحبة والوصل ومن المقارنة والمصاحبة قال تعالى [وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ]( )، وسميت زوجة الرجل قرينته لأنها تصاحبه.
وعرفت القرينة بوجوه متعددة أكثرها في بيان وظيفتها ، من دون أن تعين ماهيتها وحقيقتها مثل :
الأول : قال الجرجاني : القرينة أمر يشير إلى المطلوب .
الثاني : ما نصب للدلالة على المراد .
الثالث : تبين القرينة معنى اللفظ وتفسره .
الرابع : الإمارة المرشدة للسامع أو المتكلم .
ويمكن تعريف القرينة بأنها أمارة ودليل مستقل أو غير مستقل مصاحب للفظ ، ومقترن به ليساعد على تجلى المراد من اللفظ ، ويدفع الإيهام عنه .
ومن القرائن غير المستقلة بنفسها : الإستثناء والشرط وتقييد الإطلاق بالصفة مثل : أكرم العالم العامل ، بقيد صفة العامل .
وقد يفيد اللفظ بنفسه المعنى من غير أن يحتاج إلى قرينة لإفادة معناه التام ومنه الأسماء الحسنى ، وقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ) وقد تصرف القرينة اللفظ من معناه الحقيقي إلى المجاز.
وكما تبين القرينة المراد من النص فانها قد تكون لها موضوعية في ثبوت المراد وبيان أحكامه .
والقرينة الحالية : هي دليل غير لفظي يصاحب النص فيبين دلالته وثبوته وأحكامه واطلاقه أو تقييده ، وفيها مسائل :
الأولى : أثر القرينة الحالية في بيان علة الحكم .
الثانية : أركان القرينة الحالية .
الثالثة : وظيفة وأثر القرينة الحالية .
الرابعة : طرق الوقوف على القرينة الحالية ، من الأحوال والملابسات التي حفّت بالمتكلم أوان صدور الخطاب منه .
ومن القرائن القرينة اللفظية وتسمى المقالية والصوتية ، ويدخل فيها النبر والزجر والتنغيم ، ومنها علامة الإعراب كالرفع والنصب أو الترتيب وسنخية الحرف فقوله تعالى [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]( )، يدل على أن العلماء هم الذين يخشون الله وان جاء ذكرهم في الآية فاعلاً متأخراً.
وغالباً ما تعرف القرينة بأثرها ووظيفتها وليس ماهيتها وحدها المانع الجامع .
مثلاً يقال : القرينة هي ما يبين معنى اللفظ ويفسره ، وهي الأمارة التي ترشد السامع بأن المتكلم أراد المجاز كما لو قال : جاءنا جماعة بينهم أسد ، أي رجل شجاع .
ويمكن تعريف القرينة بأنها دليل مصاحب للنص له موضوعية في بيانه ودلالته وثبوته وترجيحه ، ومنع اللبس فيه .
وتدل القرائن التي صاحبت السيرة النبوية على قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) وهي شواهد يومية يستقرأ منها العلماء بأن الإسلام انتشر بالمعجزة الحسية والعقلية ، وأن عبادة الأوثان كانت هشة ومخالفة لأحكام العقل ، فجاء التنزيل ناسخاً وهادماً لها .
بين نظم وسياق القرآن
النسبة بين نظم القرآن والسياق هي العموم والخصوص المطلق ، فالنظم أعم ويشمل ترتيب آيات وسور القرآن حسب ما بين الدفتين ، والإبتداء بسورة الفاتحة ثم سورة البقرة والإنتهاء بسورة الناس ، والتناسب والإعجاز في نظم القرآن وتركيب الفاظه .
أما السياق فهو لحاظ مجرى الكلام ومتعلقه وسابق الكلام ولاحقه في فهم معنى الآية القرآنية .
والأعم منها هو تفسير القرآن بالقرآن ، فما تجد موضوعاً أو حكماً في آية قرآنية إلا وتجد مثله في آية قرآنية أخرى .
ومن إعجاز القرآن دلائل التنزيل التي يدل عليها سياق الآيات والصلة بين الآيات المتجاورة فمثلاً بعد ورود أربع آيات [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ]( ).
جاء قوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ]( ).
لبيان أن السياق سياق دعاء وتضرع وإلحاح في المسألة وأن استجابة الله عز وجل أعم من موضوع الدعاء وهو من أسرار مجئ آية الإستجابة بصيغة الغائب [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ] ثم لغة الخطاب [أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى] ثم عادت الآية إلى صيغة الغائب لشمولها للمؤمنين من الأولين والآخرين .
ويأتي اقتراحنا (التفسير بالسياق) بصلة كل آية من القرآن ابتداء من البسملة ثم [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، مع كل آية من القرآن .
ولسياق الآيات موضوعية في تحديد سبب النزول وتقويته أو تضعيفه خاصة وأن كثيراً من أسباب النزول وردت عن التابعين وكثير من آيات القرآن ليس لها سبب نزول كما ينفع سياق الآيات في قواعد الترجيح ، والقراءة .
اجتماع القرائن في آية
قد تجتمع القرينة المقالية والعقلية والحالية في آية واحدة
إذ أن القرينة على ثلاثة أقسام :
الأول : القرينة اللفظية .
الثاني : القرينة الحالية .
الثالث : القرينة العقلية ، وهي التي يستقرأ المدلول منها بواسطة العقل وفق موازين الفطرة ، و(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما خلق الله العقل قال له : أقبل ، فأقبل ، ثم قال له : أدبر ، فأدبر ، فقال : وعزتي ما خلقت خلقا أعجب إلي منك ، بك آخذ ، وبك أعطي ، وبك الثواب ، وعليك العقاب)( ).
مثلاً قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( )، فان القرينة اللفظية تدل على أن المراد من الناس ليس كلهم لذكر الناس في الآية على نحو متعدد ومتغاير.
وتدل القرينة العقلية وملاكها على أنه ليس الناس جميعاً أخبروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأن جيش المشركين الذي انسحب من معركة أحد يريد العودة والإغارة على المدينة مرة أخرى وكما لو قال شخص : رأيت الناس ، وقد ورد قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] عشرين مرة في القرآن وهي مطلقة غير مقيدة .
ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع (أَيّهَا النّاسُ إنّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، وَكَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا ، وَإِنّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلّغْت)( ) وجوهاً :
الأول : المراد أهل موسم الحج الذين حضروا حجة الوداع .
الثاني : عامة الصحابة والمسلمين أيام خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحاضر والغائب .
الثالث : إرادة أجيال المسلمين كافة .
والمختار هو الأخير لقوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، ودلالة توجه الخطاب في الآية أعلاه للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
وقد ورد عن ابن عباس في خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منى في حجة الوداع (فو الذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته : فليبلغ الشاهد الغائب لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)( ).
لتدل هذه الخطبة على حرمة الإقتتال بين المسلمين .
الإستثناء قرينة
من القرينة العقلية قوله تعالى [تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا]( )، فان العقل والواقع يدل على أن الريح لا تدمر الأرض والجبال ومنه مثلاً قول الإمام علي عليه السلام [وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا]( )، وضم اليه قوله تعالى [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ]( )، لبيان أن أقل الحمل ستة أشهر .
ومن خصائص القرينة أنها لا ترتقي إلى مرتبة الدليل إلا إذا كان لها تأثير في ثبوت النص ودلالته أو أحكامه أو منعه أو طرو النسخ عليه ، أو ترجيح أحد النصين عند التعادل والتراجيح بعد تعذر الجمع بينهما.
أما القرينة الحالية فهي الهيئة والإشارات والحركات والسوابق واللواحق كالتي تدل أن المراد ليس الحقيقة بل المجاز ، وهي كثيرة لا تقع تحت الحصر والتخمين .
المراد من لفظ الناس في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ]( )، أن وقائع المعركة والناس آنذاك يفيد المجاز وأن الألف واللام في الناس لا تفيد الإستغراق ولا الجنس انما تفيد جماعة.
وقد ذكرت في الجزء الخامس والستين بعد المائتين من تفسيري للقرآن في الآية أعلاه (أما لفظ الذين أعلاه فيعود للمهاجرين والأنصار، وأما الثاني فيعود لنعيم بن مسعود وركب عبد قيس ، وللركبان وأهل القرى في الطريق بين مكة والمدينة الذين حذّروا المسلمين .
والمقصود من (إن الناس) هم رؤساء الكفر من قريش، وأما الناس الذين جُمعوا فالمراد عامة جيش المشركين الذي زحف من مكة أو الذين التحقوا بهم في الطريق .
كما يمكن تقدير الآية : ان الناس قد جمعوا لكم الناس ) ولكن موضوع الجمع أعم من الناس ، لبيان شموله الناس وعدة ورواحل وأسلحة جيش الذين كفروا).
وهذه الآية الكريمة شاهد ودليل متعدد على قانون (لم يغز النبي محمد (ص) أحداً) من جهات :
الأولى : مجئ ثلاثة آلاف مقاتل من المشركين من مكة إلى المدينة بقصد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل أصحابه بين قتيل وأسير .
وهل كان رجالات قريش كأبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل يعلمون بأن عدد المسلمين في المدينة أقل كثيراً من تعداد جيشهم هذا ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الثانية : إشراف جيوش قريش على المدينة وسعيهم لغزوها لولا أن خرج لهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالثة : وقوع القتال في معركة أحد في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
الرابعة : مناجاة وعزم جيوش المشركين الرجوع إلى القتال بعد إنسحابهم من المعركة .
الخامسة : تهديد أبي سفيان قبل الإنسحاب بالقتال في العام القادم .
قال ابن إسحاق (وَلَمّا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ نَادَى : إنّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْقَابِلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِرَجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ قُلْ نَعَمْ هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدٌ)( ).
وكأن النبي محمداً يعلم بأن المشركين سيهمون بالرجوع للقتال في تلك الأيام فيحنما إنسحبوا متقلبين إلى مكة (بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ اُخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَا يُرِيدُونَ فَإِنْ كَانُوا قَدْ جَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ مَكّةَ ، وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ.
وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنّ إلَيْهِمْ فِيهَا ، ثُمّ لَأُنَاجِزَنّهُمْ قَالَ عَلِيّ : فَخَرَجْت فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ فَجَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ وَوَجّهُوا إلَى مَكّةَ)( ).
بين الحقيقة والمجاز
الحقيقة هي استعمال اللفظ في معناه الذي وُضع له ، أما المجاز فهو استعمال اللفظ في غير معناه الحقيقي بلحاظ جهتين :
الأولى : العلاقة والشبه بين الحقيقة والمجاز .
الثانية : القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي ، فاذا قلت وصلنا إلى ساحل البحر فالمراد الحقيقة ، والمجاز مثل العلم بحر لا ساحل له .
فالعلاقة والشبه بين البحر في سعته والعلم الذي ليس له حدّ وشبه بانعدام الساحل له .
أما القرينة فهي إنعدام الماء والساحل والعمرمقيد لتسخيره في طلب العلم ، وعدم الملل منه ، وكذا إذا قلت : رأينا أسداً في الغابة فيحمل هذا اللفظ على الحقيقة ، أما إذا قلت رأينا أسداً في المعركة فالمراد الرجل الشجاع .
فالعلاقة هي وجه الشبه بين الأسد والرجل الشجاع ، وإن كانت على نحو الموجبة الجزئية ، لما ثبت في علم الأصول بأن من علامات الحقيقة الإطراد ، والإستمرارية بذات الصفة كالشجاعة ، وهو مفقود في الرجل الشجاع الذي إذا رأى أشجع منه أو يحمل سلاحاً أشد وأنفذ تراجع , وفي بدايات معركة أحد خرج أبو سعد( بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، وَهُوَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ هَلْ لَك يَا أَبَا الْقُصَمِ فِي الْبِرَازِ مِنْ حَاجَةٍ .
قَالَ نَعَمْ .
فَبَرَزَا بَيْن الصّفّيْنِ فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلِيّ فَصَرَعَهُ ثُمّ انْصَرَفَ عَنْهُ وَلَمْ يُجْهَزْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ أَفَلَا أُجْهِزْت عَلَيْهِ .
فَقَالَ إنّهُ اسْتَقْبَلَنِي بِعَوْرَتِهِ ، فَعَطَفَتْنِي عَنْهُ الرّحِمُ وَعَرَفْتُ أَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ قَتَلَهُ . وَيُقَالُ إنّ أَبَا سَعْدِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ خَرَجَ بَيْنَ الصّفّيْنِ فَنَادَى : أَنَا قَاصِمٌ مَنْ يُبَارِزُ بِرَازًا ، فَلَمْ يَخْرَجْ إلَيْهِ أَحَدٌ . فَقَالَ يَا أَصْحَابَ مُحَمّدٍ زَعَمْتُمْ أَنّ قَتْلَاكُمْ فِي الْجَنّةِ وَأَنّ قَتْلَانَا فِي النّارِ كَذَبْتُمْ وَاَللّاتِي لَوْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ حَقّا لَخَرَجَ إلَيّ بَعْضُكُمْ فَخَرَجَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلِيّ فَقَتَلَهُ)( ) .
فمع وجود شجعان في الصحابة فانهم لم يخرجوا له .
وكذا في معركة الخندق عندما تحدى عمرو بن عبد ود العامري فارس مضر الصحابة .
إذ (خرج عمرو بن عبد ود و هو مقنع بالحديد فنادى : من يبارز ؟ فقام علي بن أبي طالب فقال : أنا لها يا نبي الله فقال : إنه عمرو اجلس ثم نادى عمرو : ألا رجل يبرز ؟ فجعل يؤنبهم و يقول : أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها ؟ أفلا تبرزون إلى رجلا ؟ فقام على فقال : أنا يا رسول الله : اجلس ثم نادى الثالثة فقال :
ولقد بحت من الندا … ء لجمعهم : هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشجع موقف القرن المناجر
ولذاك إني لم أزل … متسرعا قبل الهزاز
إن الشجاعة في الفتى … والجود من خير الغرائز
قال : فقام علي (عليه السلام) فقال : يا رسول الله أنا فقال : إنه عمرو فقال : و إن كان عمرا فأذن له رسول الله صلى الله عليه و سلم فمشى إليه حتى أتى و هو يقول :
لا تعجلن فقد أتا … ك مجيب صوتك غير عاجز
في نية و بصيرة … و الصدق منجي كل فائز
إني لأرجو أن أقيـ … م عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى ذكرها عند الهزاهز
فقال له عمرو : من أنت ؟ قال : أنا علي قال : بن مناف ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب فقال : يا بن أخي من أعمامك من هو أسن منك فإني أكره أن أهريق دمك .
فقال له علي : لكني و الله لا أكره أن أهريق دمك ! فغضب فنزل وسل سيفه كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو علي مغضبا واستقبله علي بدرقته فضربه عمرو في درقته فقدها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه وضربه علي على حبل عاتقه فسقط وثار العجاج وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير فعرفنا أن عليا قد قتله فثم يقول علي :
أعلى تقتحم الفوارس هكذا … عني وعنهم أخروا أصحابي
اليوم يمنعني الفرار حفيظتي … ومصمم في الرأس ليس بنابي
إلى أن قال :
عبد الحجارة من سفاهة رأيه … وعبدت رب محمد بصواب
إلى آخرها.
قال : ثم أقبل علي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يتهلل فقال له عمر بن الخطاب : هلا استلبته درعه فإنه ليس للعرب درع خير منها ؟ فقال : ضربته فاتقاني بسوأته فاستحيت ابن عمي أن أسلبه قال : وخرجت خيوله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق
و ذكر ابن إسحاق فيما حكاه عن البيهقي أن عليا طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه فمات في الخندق وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال : هو لكم لا نأكل ثمن الموتى)( ).
لبيان أن شجاعة الإمام علي عليه السلام حقيقة بفضل ومدد من عند الله عز وجل ، ومن الدلائل الأخرى عليه قلعه لبابه .
و(عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – بِرَايَتِهِ فَلَمّا دَنَا مِنْ الْحِصْنِ خَرَجَ إلَيْهِ أَهْلُهُ فَقَاتَلَهُمْ.
فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ فَطَاحَ تُرْسُهُ مِنْ يَدِهِ فَتَنَاوَلَ عَلِيّ – عَلَيْهِ السّلَامُ – بَابًا كَانَ عِنْدَ الْحِصْنِ فَتَرّسَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ وَهُوَ يُقَاتِلُ حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ ثُمّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ حِينَ فَرَغَ فَلَقَدْ رَأَيْتنِي فِي نَفَرٍ سَبْعَةٍ مَعِي ، أَنَا ثَامِنُهُمْ نَجْهَدُ عَلَى أَنْ نَقْلِبَ ذَلِكَ الْبَابَ فَمَا نُقَلّبُهُ)( ).
من أنواع المجاز
من أنواع المجاز قسمان :
الأول : المجاز بالحذف إذ تنتقل الكلمة من معناها الأصلي إلى غيره لحذف لفظ ، كما في قوله تعالى [وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ]( ) فالأصل هو فأسأل أهل القرية ، وتكون فيه القرية مضاف إليه مجرور ، ولكن لحذف أهل صار لفظ القرية مفعولاً به منصوباً .
قال تعالى [وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ]( ).
إذ يحمل الكلام على الحقيقة بسؤال يعقوب لأبنية وأشجار وطيور القرية لأن يعقوب نبي وتجيبه القرية بفضل من الله ، ويحمل هذا الكلام على المجاز ، وتقديره وأسال أهل القرية التي كنا فيها ، والمكارين الذين ساقوا الإبل .
وفي سليمان عليه السلام الذي هو من ذرية يعقوب ورد حكاية عنه في التنزيل [وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ]( ).
وجاءت الآية بصيغة الجمع [عُلِّمْنَا] والمختار أن صيغة الجمع للأفراد في القرآن لا تختص بشخص واحد .
ويحتمل المراد من (علمنا) في الآية النبي داود والنبي سليمان ، ويحتمل أكثر منهما في أنبياء بني إسرائيل ، والمختار هو الأخير .
وأسأل ذات العير ليأتيك الجواب بفضل من الله عز وجل .
وقوله تعالى [أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ]( ) والأصل أو كذوي صبيب .
الثاني : المجاز بالزيادة أي بزيادة لفظ مثل قوله تعالى [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ]( ) بزيادة الكاف أي ليس مثله شئ ، فيكون فيه إعراب [مِثْلِ] النصب ولكن دخلت عليه الكاف الزائدة فصار مجروراً ، ومن معاني الحرف القرآني الزائد التوكيد وليس الحشو .
ومنهم من أنكر المجاز بالحذف والزيادة ، ولكنه خلاف صغروي كحصول التغيير في المعنى .
حمل مريم بعيسى (ع)
(قيل : إن جبرئيل أخذ ردن قميصها بأصبعه فنفخ فيه فحملت مريم من ساعتها ووجدت حس الحمل ، عن ابن عباس .
وقيل : نفخ في كمها فحملت، عن ابن جريج ، وروي عن الباقر عليه السلام أنه تناول جيب مدرعتها فنفخ نفخة فكمل الولد في الرحم من ساعته، كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر، فخرجت من المستحم وهي حامل مثقل فنظرت إليها خالتها فأنكرتها، ومضت مريم على وجهها مستحيية من خالتها ومن زكريا [فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا]( ) أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد، وقيل: معناه انفردت به مكانا بعيدا من قومها حياء من أهلها وخوفا من أن يتهموها بسوء ، واختلفوا في مدة حملها فقيل: ساعة واحدة .
قال ابن عباس : لم يكن بين الانتباذ والحمل إلا ساعة واحدة ، لأن الله تعالى لم يذكر بينهما فصلا لانه قال: فحملته، فانتبذت به، فأجاءها، والفاء للتعقيب، وقيل: حملت به في ساعة، وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زاغت الشمس من يومها وهي بنت عشر سنين، عن مقاتل.
وقيل : كانت مدة حملها تسع ساعات، وهذا مروي عن أبي عبد الله، وقيل. ستة أشهر ، وقيل: ثمانية أشهر، وكان ذلك آية وذلك أنه لم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غيره)( ).
والقائل ثمانية أشهر هو عكرمة وأنه لا يعيش لثمانية أشهر غيره لبيان معجزة في ولادة عيسى عليه السلام.
وتجتمع في ولادة عيسى عليه السلام القرينة اللفظية كما في هذه الآيات والقرينة الحالية والعقلية .
ونسب ابن كثير إلى المشهور أن مدة حملها بعيسى مثل حمل النساء باولادهن ، إذ قال (فالمشهور الظاهر -والله على كل شيء قدير-أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن؛ ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس، يقال له: يوسف النجار.
فلما رأى ثقل بطنها وكبره، أنكر ذلك من أمرها، ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها، ثم تأمّل ما هي فيه، فجعل أمرها يجوس في فكره، لا يستطيع صرفه عن نفسه، فحمل نفسه على أن عرض لها في القول، فقال: يا مريم، إني سائلك عن أمر فلا تعجلي عليّ.
قالت: وما هو؟ قال: هل يكون قط شجر من غير حبّ؟ وهل يكون زرع من غير بذر؟ وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت: نعم -فهمت ما أشار إليه-أما قولك: “هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر.
فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب، ولا بذر وهل خلق يكون من غير أب .
فإن الله قد خلق آدم من غير أب ولا أم. فصدقها، وسلَّم لها حالها ، ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة، انتبذت منهم مكانًا قصيًّا، أي: قاصيًا منهم بعيدًا عنهم؛ لئلا تراهم ولا يروها)( ).
ولم يثبت هذا المشهور المقصود به أن حملها تسعة أشهر ، كما أن مقتضى الآيات التسارع في الحمل والطلق ، وكلام عيسى ومجئ مريم بعيسى إلى قومها مفتخرة بولادته بعد أن كانت وجلة منهم .
وهذه السرعة المتتالية معجزة في ولادة عيسى واحتراز ووقاية من قتل مريم اثناء الحمل أو محاولتها اسقاطه دفعاً للظنة والتهمة.
وقيل القرائن أصدق الأدلة مثلاً تفيد الواو التشريك في الحكم من غير دليل على إفادة تقدم المعطوف عليه على المعطوف أو بالعكس وان كان التبادر وهو الأول ، كما لو قلت : جاء زيد وعمرو .
أما الفاء فانها تفيد التعقيب والترتيب والفورية إلى جانب الإشتراك بالفعل كما في قوله تعالى [فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا* فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا]( ).
لبيان قصر مدة حمل مريم بعيسى وتكلمه في المهد واتيانها قومها به ومنافع معجزة كلامه بذهاب الخشية منهم.
وصحيح أن الفاء للتعقيب ولكن تعقيب كل شئ بقدره وحسبه ، ولكن يرد على القول بأن حملها تسعة أشهر مجئ ثم التي تفيد التراخي والتباطئ في بيان مراحل خلق الإنسان بقوله تعالى [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا]( ).
ومن إعجاز القرآن ذكر معجزات الأنبياء وتوثيقها ودعوة الناس للتفكر فيها ، وبعثهم على المقارنة بينها وبين معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كمادة للإيمان من غير حاجة للجوء إلى القتال ، وسفك الدماء ، ليكون هذا الذكر من مصاديق الحسن في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ]( ).
فمن حسنها صيرورتها وسيلة لدرء القتال بين المسلمين وغيرهم .
بين متعة الحج ومتعة النساء
المتعة : اسم جامع لمن اعتمر في أشهر الحج وهي شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، وجمع بينها وبين الحج في سفر واحد .
فمثلاً إذا اعتمر في شهر ذي القعدة وأكمل مناسك العمرة تجوز له محرمات الإحرام كافة ويتمتع بما يحرم على المحرم من الطيب والنساء والثياب وغيرها إلى حين الإحرام للحج قبل يوم عرفة .
وعن الإمام الباقر عليه السلام (المتمتع بالعمرة إلى الحج أفضل من المفرد السائق للهدى وكان يقول: ليس يدخل الحاج بشئ أفضل من المتعة)( ).
أما متعة النساء فهي عقد نكاح بمهر إلى أجل مسمى كالشهر أو السنة أو السنوات بحيث ينتهي بانتهاء مدته من غير طلاق ، أو هبة الزوج لها ما تبقى من مدته ، مع وجوب العدة ، ويسمى النكاح المنقطع ولا ميراث فيه إلا مع الشرط .
(أخرج ابن المنذر من طريق عمار مولى الشريد قال : سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح؟ فقال : لا سفاح ولا نكاح . قلت : فما هي ، قال : هي المتعة كما قال الله . قلت هل لها من عدة؟ قال : نعم . عدتها حيضة . قلت : هل يتوارثان؟ قال : لا)( ).
و(عن أبي نضرة قال : قرأت على ابن عباس [فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً]( ) قال ابن عباس (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) فقلت : ما نقرؤها كذلك ، فقال ابن عباس : والله لأنزلها الله كذلك .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : في قراءة أبي بن كعب فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى .
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن سعيد بن جبير قال : في قراءة أبي بن كعب : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى .
وأخرج عبد الرزاق عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرؤها : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن .
وقال ابن عباس : في حرف أبي : إلى أجل مسمى)( ).
والمدار على المرسوم في المصاحف .
وذكرت أسماء بنت أبي بكر متعة النساء .
وفي السنن الكبرى للنسائي ورد (عن مسلم القري قال : دخلنا على أسماء ابنة أبي بكر فسألناها عن متعة النساء فقالت فعلناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)( ).
و(عن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المتعة يوم الفتح)( ).
و(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : حَرَّمَ أَوْ هَدَمَ الْمُتْعَةَ النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ)( ).
وعن جابر بن عبد الله قال (كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام( ) على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث)( ).
وفي صحيح مسلم (عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه سبرة أنه قال : أذن لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمتعة فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر كأنها بكرة عيطاء فعرضنا عليها أنفسنا فقالت ماتعطي ؟ فقلت ردائي .
وقال صاحبي ردائي وكان رداء صاحبي أجود من ردائي وكنت أشب منه فإذا نظرت إلى رداء صاحبي أعجبها ثم قالت أنت ورداؤك يكفيني فمكثت معها ثلاثا ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع فليخل سبيلها)( ).
و(عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ يَقُولُ قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ وَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِهَا قَالَ جَابِرٌ : عَلَى يَدَىَّ دَارَ الْحَدِيثُ تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْد رَسُولِ اللَّهِ ،صلى الله عليه وسلم .
فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ خَطَبَ فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ يُحِلُّ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمَ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَزَلَ مَنَازِلَهُ فَافْصِلُوا حَجَّكُمْ مِنْ عُمْرَتِكُمْ وَأَبِتُّوا نِكَاحَ هَذِهِ النِّسَاءِ لاَ أُوتَى بِرَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً إِلَى أَجَلٍ إِلاَّ رَجَمْتُهُ)( ).
وعن (رجل من بني سبرة عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع إن الله قد حرم المتعة فلا تقربوها يريد متعة النساء ومن كان على شئ منها فليدعها)( ).
وهذا الحديث ضعيف للإبهام في السند من جهتين رجل من بني سبرة عن أبيه والإرسال ، إذ قسمتُ الحديث رواية تقسيماً مستحدثاً إلى قسمين :
الأول : الحديث واضح السند .
الثاني : الحديث مبهم السند .
(وروى شعبة عن الحكم قال : سألته عن هذه الآية [فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ]( ) أمنسوخة هي ، قال : لا.
قال الحكم : قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) : لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنا إلاّ شقي.
أبو رجاء العطاردي عن عمران بن الحصين قال : نزلت هذه الآية (المتعة) في كتاب الله ، لم تنزل آية بعدها تنسخها ، فأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينهنا عنه .
وقال رجل بعد برأيه ما شاء .
قال الثعلبي : قلت ولم يرخص في نكاح المتعة إلاّ عمران بن الحصين ، وعبد الله بن عباس وبعض أصحابه وطائفة من أهل البيت .
وفي قول ابن عباس يقول الشاعر :
أقول للرّكب إذ طال الثواء بنا … يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
هل لك في رخصة الاطراف ناعمة…تكون مثواك حتى مرجع الناس)( ).
ووردت روايات عن طريق أهل البيت عليهم السلام تفيد عدم تحريم نكاح المتعة ، و(عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : سمعت أبا حنيفة يسأل أبا عبد الله عليه السلام عن المتعة ، فقال : عن أي المتعتين تسأل ، قال : سألتك عن متعة الحج فأنبئني عن متعة النساء ، أحقّ هي ، قال : سبحان الله ، أما تقرأ كتاب الله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً( ).
ووردت حرمة المتعة بالعنوان الثانوي الخاص بأفراد ، إذ ورد عن عمار الساباطي (قال: قال أبوعبد الله عليه السلام لي ولسليمان بن خالد : قد حرمت عليكما المتعة من قبلي مادمتما بالمدينة لانكما تكثران الدخول علي فأخاف أن تؤخذا، فيقال: هؤلاء أصحاب جعفر)( ).
كراهة المتعة في رسالتي العملية
المختار كراهة المتعة في هذا الزمان والتي تتنزه عنها عوائل المؤمنين ، والكراهة لما فيها من الكدورة وتعطيل الأرحام والسرية والخفاء ومزاحمة الزواج الدائم وما فيه من النعم والبركة والإنجاب .
وفي رسالتي العملية (الحجة) والمسجلة بدار الكتب والوثائق في بغداد برقم 345 لسنة 2001 :
(مسألة 337) يكره للمرأة مطلقاً خصوصاً الباكر التمتع للعناوين الاضافية والغضاضة وتعطيل الإنجاب في الغالب بل قد يكون مانعاً من النكاح الدائم الذي تستحب اشاعته وقصده( ).
ومن وجوه الكراهة :
الأول : منع الجهالة والغرر.
الثاني : تقديم الأهم على المهم والأهم هو الزواج الدائم مع إمكانه.
الثالث : أفضلية الزواج الدائم ، وانتقال المرأة إلى بيت الزوجية، واستحباب إنجاب الأولاد ، وحاجة الأمة لهم اليوم وغداً.
الرابع : منع الفتنة والإفتتان ،والتخلص مما في الزواج المنقطع من العيب والأذى عند الأعم الغالب من أهل العراق وغيرهم في هذا الزمان.
الخامس : قد تصدق عليه عمومات النهي عن عضل المرأة مطلقاً ، قال تعالى [فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ]( )، والعضل هو التضييق بالمنع من التزويج وأصله الإمتناع، والعلم عند الله.
وهناك فرق بين متعة الحج ، ومتعة النساء ، فمتعة الحج هي خروج الحاج من إحرامه بعد أن أحرم من الميقات وأدى مناسك العمرة في مكة ، وصار ينتظر الإحرام للحج .
كتيبة خيبر( )
خيبر مدينة فيها سبعة حصون ومزارع ونخل كثير ، وتبعد عن المدينة المنورة نحو (153)كم ، من جهة الشمال باتجاه الشام وكان سكانها من اليهود ويسمون يهود خيبر .
وسبب تسميتها قيل نزل بها رجل من العمالقة اسمه خيبر بن قانية بن هعبيل بن مهلائل بن أرم ، وهو أخو عاد بن أرم بن سام بن نوح.
وقال حسان بن ثابت (
فَإِنّا وَمَنْ يُهْدِي الْقَصَائِدَ نَحْوَنَا … كَمُسْتَبْضِعٍ تَمْرًا إلَى أَرْضِ خَيْبَرَا)( ).
وتتصف خيبر بكثرة الماء والزرع والسكان ، وأكثر محاصيلها التمر لكثرة نخيلها وأصل أكثر سكان خيبر هم من العرب من قبيلة عنزة ممن تهودوا.
وقد حكم البابليون منطقة خيبر أيام الملك نابونيد الذي تولى عرش بابل من سنة 555 إلى 539 قبل الميلاد بعد وفاة نبوخذ نصر الثاني .
وينتمي بنو النضير وبنو قريظة إلى قبيلة جذام اليمنية التي هاجرت إلى الحجاز ، وشمال الجزيرة ، وترجع عائلة مرحب وفارس اليهود إلى قبيلة حِمير.
ولعل سبب تهودهم عبادة العرب للأوثان ونفرة النفس والعقل منها ، وكان العرب يعتنون بانسابهم وليس بالديانة إلى أن جاء الإسلام ليتجلى قانون الأولوية للإيمان .
وخيابر جمع خيبر ، وأسماء حصون خيبر هي :
الأول : حصن القموص ، وهو أقوى وأغنى وأمنع حصونها ، وهو حصن أبي الحقيق ، وفيه رؤساء اليهود رهط حيي بن أخطب.
الثاني : حصن ناعم الذي قتل عنده الصحابي مسعود بن سلمة ألقيت عليه رحى .
الثالث : حصن الشق .
الرابع : حصن النطاة .
الخامس : حصن السلالم .
السادس : حصن الطيح .
السابع : حصن الكتيبة .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد تعاقد مع يهود خيبر كما هو الحال مع اليهود في المدينة ، ولكنهم نقضوا عهدهم بعقد نوع حلف مع مشركي قريش ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقيامهم بتحريض الأحزاب على المسلمين .
وتعددت إرادتهم الفتنة منها تأليب يهود بني قريظة لخيانة عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقيل أنهم وضعوا خطة لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الذي كان يخشى من قريش ونقضها العهد واستعانتها بيهود خيبر وأموالهم وأسلحتهم وحصونهم المنيعة .
والخشية من هذه الإستعانة ليس علة تامة لكتيبة خيبر ، فمن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يهجم أو يقاتل على الإحتمال ، كاحتمال إعانة اليهود لقريش ضده ، أو إحتمال هجوم قريش على المدينة ، نعم حينما بلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن بني المصطلق يعدون العدة للهجوم على المدينة ، وأن رئيسهم الحارث بن أبي ضرار يجمع الجموع منهم ومن غيرهم.
وتأكد من الأمر سار إليهم ففرق جمعهم ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( )، أم أن القدر المتيقن من الآية هو الإحتراز والتهيئ والمرابطة داخل المدينة ، المختار هو الأول .
ومن الآيات في المقام أن النبي محمداً عرض الزواج على جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق بعد وقوعها في السبي فرضيت لتنال مرتبة أم المؤمنين ، ويفوز قومها بمصاهرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعتق السبايا بسببها.
(وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق، وكانت سبيت في غزوة بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها، وتزوجها سنة ست من الهجرة.
وتوفيت سنة ست وخمسين، وهي التي أعتق المسلمون بسببها مائة أهل بيت من الرقيق، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك من بركتها على قومها)( ).
لقد عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة من صلح الحديبية في شهر ذي الحجة من السنة السادسة ، ومكث فيها إلى أيام من محرم من السنة السابعة .
ثم خرج إلى خيبر لقيام أهلها بايواء رؤساء بني النضير الذين أخرجهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة ، منهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وكنانة بن ربيع .
إذ ذهبوا إلى مكة وصاروا يحرضون المشركين العرب على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وينكرون نبوته والبشارة بها التي جاء بها الأنبياء السابقون ، وتحشيد الأحزاب في معركة الخندق التي وقعت في السنة الخامسة للهجرة ، وصار يهود خيبر يخططون مع قبيلة غطفان العربية للإغارة على المدينة وغزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقتله .
وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن رواحه في سرية إلى خيبر لاستطلاع أخبارهم ، فأكد عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم صحة الخبر .
وكما استعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة في خروجه لصلح الحديبية نهيلة بن عبد الله الليثي ، استعمله عند التوجه إلى خيبر .
ودفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الراية إلى الإمام علي عليه السلام وكانت بيضاء( ).
الذين خرجوا إلى خيبر
كان عدد الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر الفا وأربعمائة عدد الذين خرجوا إلى الحديبية .
وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة عشرون امرأة (أم سلمة زوجته، وصفية بنت عبد المطلب عمته ، وأم أيمن، وسلمى امرأة أبي رافع مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، وامرأة عاصم بن عدي ولدت سهلة بنت عاصم بخيبر، وأم عمارة نسيبة بنت كعب، وأم منيع وهي أم شباث، وكعيبة بنت سعد الأسلمية، وأم متاع الأسلمية، وأم سليم بنت ملحان، وأم الضحاك بنت مسعود الحارثية، وهند بنت عمرو بن حزام، وأم العلاء الأنصارية، وأم عامر الأشهلية، وأم عطية الأنصارية، وأم سليط)( ).
وأم سليط هي أم أبي سعيد الخدري ، و(عن عبد الله بن أنيس، قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ومعي زوجي حبلى، فنفست بالطريق فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انقع لها تمراً فإذا أنعم بله فامرثه ثم تشربه. ففعلت فما رأت شيئاً تكرهه.
فلما فتحنا خيبر أحذى النساء ولم يسهم لهن، فأحذى زوجتي وولدي الذي ولد. قال عبد السلام: لست أدري غلام أم جارية)( ).
ومعنى أحذى أي اعطاهن عطايا ولم يضرب لهن بسهام .
وعن امرأة من بني غفار (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار، فقلنا: يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا – وهو يسير إلى خيبر – فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا فقال : على بركة الله .
قالت: فخرجنا معه، قالت: وكنت جارية حدثة السن، فأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله ، قالت : فوالله لنزل رسول صلى الله عليه وسلم إلى الصبح ونزلت عن حقيبة رحله( ).
قالت : وإذا بها دم مني وكانت أول حيضة حضتها، قالت: فتقبضت إلى الناقة واستحييت.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم قال : ما لك لعلك نفست .
قلت : نعم ، قال : فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك .
قالت: فلما فتح الله خيبر رضخ لنا من الفئ، وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها وعلقها بيده في عنقي، فوالله لا تفارقني أبدا، وكانت في عنقها حتى ماتت، ثم أوصت أن تدفن معها.
قالت: وكانت لا تطهر من حيضها إلا جعلت في طهورها ملحا، وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت)( ).
وذكر الواقدي الخبر عن أمية بنت قيس بن أبي الصلت ويحتمل أنه سهو من النساخ لأن أمية بن أبي الصلت رجل كان يتجر إلى الشام فلقي هناك أهل الكتاب وأخبروه بأن نبياً يبعث في العرب ، فلما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم اغتاظ ببعثته من بني هاشم ، وبعد الهجرة جاء أمية ليسلم وصده الحسد .
وذكر في الأخبار أنه السبب في قول قريش عند الإستفتاح (باسمك اللهم) في حادثة مع الجن عند خروجهم إلى الشام للتجارة وخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدد من المملوكين .
ونسوة من بني غفار استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للخروج معهم لمداواة الجرحى ، ونحوها ، ومعه عشرة من يهود المدينة شاركوا في فتح خيبر.
وعن الواقدي باسناده (فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشَرَةٍ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ غَزَا بِهِمْ إلَى خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَهُمْ كَسُهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ)( ).
وكان يهود خيبر يظنون امتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتالهم لكثرة عددهم قيل يزيدون على عشرة آلاف رجل ، ولمنعة حصونهم التي جهزوها بالمؤون ، وكثرة أسلحتهم وعتادهم ، ووفرة مياههم.
وطالما كان يهود المدينة يحذرون المسلمين من قتالهم.
وكانوا يستعرضون قوتهم وأسلحتهم كل يوم ويقولون محمد يغزونا هيهات هيهات فوقاهم الله شر يهود خيبر ، ومحاولة فتح حصونها ، كما قاموا بارسال الأخبار إلى كنانة ابن أبي الحقيق عن قلة عدد المسلمين والنقص في أسلحتهم ومؤنهم ، وتحالفت غطفان مع أهل خيبر برئاسة عيينة بن حصن فكان تهديداً كبيراً للمسلمين.
الرَجَزُ في الطريق إلى خيبر
باسناد ابن إسحاق عن الصحابي نصر بن دهر الأسلمي قال (أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ فِي مَسِيرِهِ إلَى خَيْبَرَ لِعَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ وَهُوَ عَمّ سَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ ، وَكَانَ اسْمُ الْأَكْوَعِ سِنَانٌ انْزِلْ يَا ابْنَ الْأَكْوَعِ فَخُذْ لَنَا مِنْ هَنَاتِك، قَالَ فَنَزَلَ يَرْتَجِزُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ :
وَاَللّهِ لَوْلَا اللّهُ مَا اهْتَدَيْنَا … وَلَا تَصَدّقْنَا وَلَا صَلّيْنَا
إنّا إذَا قَوْمٌ بَغَوْا عَلَيْنَا … وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا … وَثَبّتْ الْأَقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَرْحَمُك اللّهُ ؛ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : وَجَبَتْ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ أَمْتَعْتنَا بِهِ فَقُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ شَهِيدًا.
وَكَانَ قَتْلُهُ فِيمَا بَلَغَنِي ، أَنّ سَيْفَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُقَاتِلُ فَكَلَمَهُ كَلْمًا شَدِيدًا ، فَمَاتَ مِنْهُ فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ شَكّوا فِيهِ وَقَالُوا : إنّمَا قَتَلَهُ سِلَاحُهُ حَتّى سَأَلَ ابْنُ أَخِيهِ سَلَمَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النّاسِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهُ لَشَهِيدٌ وَصَلّى عَلَيْهِ فَصَلّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ)( ).
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فخذ لنا من هناتك) طلب منه أن يحدو بذكر الله ، لأن الإبل تستحث وتسرع بالحداء ، والذي يكون شعراً أو رَجَزَاً .
والرَجَز – بالفتح- أحد بحور الشعر ، قيل وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي ، والمختار أنه سابق للخليل ومن شعراء الجاهلية الذين أرجزوا عنترة بن شداد ، وعبد الله بن رؤبة.
(وزعم يونس : أن العجَّاج أشْعَرُ أهلِ الرَّجَز والقصيد، وقال: إنما هو كلام؛ وأجودهم كلاماً أشعرهم، والعجَّاج ليس في شعْره شيء يستطيع أحد أن يقول: لو كان مكانه غيره لكان أجود، وذكر أنه صنع أُرجَوزَته :
قد جَبَر الدِّين الإلهُ فجبرْ
في نحو من مائتي بيت، وهي موقوفة مقيدة ، ولو أطلقت قوافيها وساعد فيها الوزن لكانت منصوبة كلها)( ).
ورؤبة ولد في الجاهلية ، وقال الشعر فيها ثم تم أدرك الإسلام وأسلم وعاش إلى أيام الوليد بن عبد الملك ، وابنه رؤبة راجز مشهور .
ويكثر الشعراء من استعمال الرجز لسهولته لأنه من تفصيلة واحدة (مستفعلن) وسمي (حمار الشعر) لكثرة لجوء الشعراء إليه .
واسم الرجز مأخوذ من الناقة التي ترتعش عند قيامها بسبب المرض أو الضعف ، لما في الرَجَز من اضطراب وتقلب في الكلام ، وتسمى قصائده الاراجيز ، ومفردها ارجوزة ، ويسمى قائلها راجزاً ، وقيل الرجز ليس بشعر إنما هو اشطار بيوت في الغالب .
واحتج القائل بأن الرجز ليس بشعر لوروده على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ لا يجري على لسانه الشعر إذ (رمي النبي صلى الله عليه وسلم بحجر في إصبعه ، فقال :
هل أنتِ إلاّ إصبع دميتِ … وفي سبيل الله ما لقيتِ)( ).
والرَجَز – بفتح الراء والميم- بينما ورد الرُجز –بضم الراء- وسكون الجيم – ويراد منه الأوثان وتقديسها والإقتراب منها ، وورد مرة واحدة في القرآن بقوله تعالى [وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ]( ).
كما ورد في القرآن لفظ (الرِجز) بكسر الراء ثلاث مرات في القرآن ، وفي آيتين متجاورتين ، ويراد منه العذاب ، قال تعالى [وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ]( ).
واشتهرت خيبر بالحمى (وقدم أعرابي خيبر بعياله ، فقال :
قلت لحمى خيبر استعدي … هاك عيالي فاجهدي وجدي
وباكري بصالب وورد … أعانك الله على ذا الجند
فحم ومات وبقي عياله)( ).
وهل يدفع الدعاء الحمى في خيبر وغيرها ، الجواب نعم ، لقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
كما تدفع بالصدقة وعمل الصالحات .
توجه أبي سفيان إلى المدينة
لقد شعرت خزاعة بالذل بمباغتة بني بكر لهم ومظاهرة قريش لها ، إذ هجمت عليهم بنو بكر عند ماء لهم يسمى الوتير قريباً من مكة فانهزم رجال خزاعة ولجأوا إلى الحرم إلى مكة وبيوتها رجاء الأمان.
و(عن عطاء بن أبي مروان، قال: قتلوا منهم عشرين رجلاً، وحضروا خزاعة في دار رافع وبديل، وأصبحت خزاعة مقتلين على باب بديل – ورافع مولى لخزاعة. وتنحت قريش وندموا على ما صنعوا، وعرفوا أن هذا الذي صنعوا نقض للمدة والعهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم)( ).
فقطعت وفود خزاعة أربعمائة وخمسين كيلو متراً من مكة وضواحيها إلى المدينة لسؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم النجدة والإغاثة ، وبعد وفد خزاعة برئاسة عمرو بن سالم الخزاعي.
جاء نفر من خزاعة برئاسة بُديل بن وًرقاء الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكدوا ما قاله الوفد الأول من سقوط القتلى منهم ومظاهرة قريش لبني بكر ، فاستمع لهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووعدهم خيراً وعادوا إلى مكة.
فقال (رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِلنّاسِ كَأَنّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ لِيَشُدّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدّةِ . وَمَضَى بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ وَأَصْحَابُهُ حَتّى لَقُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ بِعُسْفَانَ قَدْ بَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِيَشُدّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدّةِ وَقَدْ رَهِبُوا الّذِي صَنَعُوا .
فَلَمّا لَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بُدَيْلِ بْنَ وَرْقَاءَ قَالَ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْت يَا بُدَيْلُ وَظَنّ أَنّهُ قَدْ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَ تَسَيّرْت فِي خُزَاعَةَ فِي هَذَا السّاحِلِ ، وَفِي بَطْنِ هَذَا الْوَادِي ، قَالَ أَوَ مَا جِئْت مُحَمّدًا ؟ قَالَ لَا)( ).
فلما فارق بُديل توجه أبو سفيان إلى مبرك راحلة بُديل ، فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى فلم أنه قدم من المدينة لأن أهلها يطعمون الأنعام التمر .
فسارع أبو سفيان الخطى إلى المدينة، ودخل بيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاصداً ابنته أم المؤمنين أم حبيبة ، فطوت الفراش ومنعته من الجلوس عليه.
وقالت له (فَقَالَ يَا بُنَيّةُ ؟ مَا أَدْرِي أَرَغِبْت بِي عَنْ هَذَا الْفِرَاشِ أَمْ رَغِبْت بِهِ عَنّي ؟ قَالَتْ بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَأَنْتَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ نَجَسٌ وَلَمْ أُحِبّ أَنْ تَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ أَصَابَك يَا بُنَيّةُ بَعْدِي شَرّ)( ).
وذكر قولها (وَأَنْتَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ نَجَسٌ) ابن إسحاق من غير اسناد ولو ضعيف ، وعلى فرض صحته فلا إشكال فيه أما مع عدم ثبوته فهل يتعارض مع الأمر بمعاملة الوالدين بالمعروف وإن كانا مشركين ، قال تعالى [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا]( ) وإن كان طي الفراش ومنعه من الجلوس عليه شاهداً عملياً على نفرتها من الشرك .
ثم أتى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد النبوي وكلمه وسأله تشديد عقد صلح الحديبية وزيادة مدته لأكثر من عشر سنين فلم يرد عليه بكلمة .
فأدرك أبو سفيان عدم رضا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن فعل قريش وإعانتهم لبني بكر على خزاعة .
ثم سأل أبو سفيان أبا بكر أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أتى له من تأكيد عقد صلح الحديبية وزيادة مدته فأبى أبو بكر عليه ، وفيه دلالة على أن أبا سفيان موفد من قبل قريش ولم يأت من تلقاء نفسه.
وهل من موضوعية لوجود أم حبيبة بني أبي سفيان زوجة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي بيته في إختيار قريش له أم لشأنه ووجاهته في قريش وحدها ، لا مانع من الجمع بين الأمرين .
ثم كلم أبو سفيان عمر بن الخطاب فزجره ثم دخل على الإمام علي عليه السلام فكلمه فاعتذر .
وكانت فاطمة عليها السلام حاضرة والحسن وعمره خمس سنوات ، فالتفت أبو سفيان (إلى فاطمة فقال: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فقالت: ما بلغ بني ذلك، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال علي: يا أبا سفيان، أنت سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم ألحق بأرضك.
فقال: أترى ذلك مغنياً عني شيئاً قال: ما أظن ذلك، ولكن لا أجد لك سواه.
فقام أبو سفيان في المسجد فقال: يا أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس. ثم ركب فانطلق راجعاً إلى مكة حتى قدمها، وأخبر قريشاً بما فعل وبما لقي، فقالوا له: ما جئت بشيء، وما زاد علي بن أبي طالب على أن لعب بك)( ).
ويدل هذا الخبر على انتظار قريش لأبي سفيان وما يأتي به من المدينة خصوصاً وأن أكثرهم لم يرضوا على إعانة جماعة منهم لبني بكر ضد خزاعة ، منهم صفوان بن أمية ، وشيبة بن عثمان ، وسهيل بن عمرو.
وعكرمة بن أبي جهل ، ومكرز بن حفص ، وحويطب بن عبد العزى ، وقاتلوا متنكرين متنقبين مع الإعانة بالسلاح والرجال والعبيد ، وجرى هجوم بني بكر في ماء لخزاعة اسمه الوتير .
وكان عدد قتلى خزاعة (عشرين رجلاً)( ).
ودخل رؤساء قريش منازلهم قبل إنكشاف الفجر وهم يظنون أنهم لم يُعرفوا ، وأن نقضهم هذا للصلح لا يبلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، وأظهرت قريش الندم على ما فعلوا ، وتلاوموا بينهم (وجاء الحارث بن هشام وابن أبي ربيعة إلى صفوان بن أمية، وإلى سهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، فلاموهم فيما صنعوا من عونهم بني بكر، وأن بينكم وبين محمد مدة، وهذا نقضٌ لها.
وانصرف ذلك القوم ودسوا إلى نوفل بن معاوية، وكان الذي ولى كلامه سهيل بن عمرو، فقال: قد رأيت الذي صنعنا بك وأصحابك وما قتلت من القوم، وأنت قد حضرتهم تريد قتل من بقي منهم، وهذا ما لا نطاوعك عليه فاتركهم لنا. قال: نعم. فتركهم فخرجوا)( ).
أي يتركون الباقين من خزاعة الذين دخلوا مكة ولجأوا إلى دار بُديل بن ورقاء ودار رافع الخزاعي لبيان أن بني بكر لم يرعوا للحرم ومكة حرمة .
ونوفل بن معاوية الدؤلي هو رئيس بني بكر يومئذ ورأس الفتنة .
كتيبة بني لحيان
لقد حزن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على القتلى القراء أصحاب الرجيع ظلماً وعدواناً في السنة الرابعة.
وكان موضوع هذه السرية نشر معالم الإيمان وأحكام الشريعة ، إذ أوفدت قبيلتان من القبائل العربية من المدينة وهما عضل والقارة وافدهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقصد الكيد والمكر وأخبروه بدخول أفراد منهم الإسلام ، وسألوه أن يبعث معهم نفراً من أصحابه ليتفقهوا في الدين ويقرئوهم القرآن ، ويعلموهم أحكام الشريعة ، فبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معهم عشرة من قراء القرآن ومنهم :
الأول : عاصم بن ثابت.
الثاني : مرثد بن أبي مرثد.
الثالث : عبد الله بن طارق.
الرابع : خبيب بن عدي.
الخامس : زيد بن الدثنة.
السادس : خالد بن بكير.
السابع : معتب بن عبيد( )( ).
فلما وصلوا إلى موضع يسمى الرجيع بين مكة وعسفان غادر الوفد بهم واستصرخوا عليهم هذيلا ، فأغار عليهم نحو مائتي رجل رماة من بني لحيان من هذيل( ) بعد أن تتبعوا آثارهم إذ عرفوها من ماكلهم التمر إذ أن نوى التمر خلفهم أمارة على الخروج من المدينة فوجدوه في منزل نزله هؤلاء الصحابة ، قال الرماة من بني لحيان (نوى تمر يثرب) ولما أدركوهم أحاطوا بهم وقالوا لهم بلغة المكر والغدر (انزلوا واعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدا)( ).
و(انْتَزَعَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ طَارِقٍ يَدَهُ مِنْ الْقِرَانِ ثُمّ أَخَذَ سَيْفَهُ وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُ الْقَوْمُ فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتّى قَتَلُوهُ فَقَبَرَهُ رَحِمَهُ اللّهُ بِالظّهْرَانِ)( ) .
واقتادوا (خُبَيْبُ بْنُ عَدِيّ وَزَيْدُ بْنُ الدّثِنّة فَقَدِمُوا بِهِمَا مَكّةَ) ( ).
واشترك صفوان بن أمية بزيد بن الدثنة ليقتله بأبيه أمية بن خلف إذ بعثه مع مولى له يقال له نِسطاط إلى التنعيم خارج الحرم ، فقُتل هو وخبيب.
وحضر رهط من قريش القتل منهم أبو سفيان بن حرب الذي قال لزيد عندما قدم ليقتل (أَنْشُدُك اللّهَ يَا زَيْدُ أَتُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا عِنْدَنَا الْآنَ فِي مَكَانِك نَضْرِبُ عُنُقَهُ وَأَنّك فِي أَهْلِك.
قَالَ وَاَللّهِ مَا أُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا الْآنَ فِي مَكَانِهِ الّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ وَأَنّي جَالِسٌ فِي أَهْلِي ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ مَا رَأَيْت مِنْ النّاسِ أَحَدًا يُحِبّ أَحَدًا كَحُبّ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ مُحَمّدًا ثُمّ قَتَلَهُ نِسْطَاسُ يَرْحَمُهُ اللّهُ)( ).
ذات أنواط
قال : فسرنا معه إلى حنين، قال: وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط، يأتونها كل سنة فيعلقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها ويعكفون عليها يوما.
قال: فرأينا ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سدرة خضراء عظيمة، قال: فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الله أكبر ! قلتم والذى نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم)( ).
قانون جهاد النبي (ص) وأصحابه بالتنزيل والحكمة
لقد كانت سرية الرجيع علمية محضة لم تخرج للإستطلاع أو القتال أو الغزو فاشترك المشركون في قتل رجالها بغير حق.
لتبين حاجة الجزيرة إلى الإصلاح والتنزه عن الأخلاق المذمومة والغدر ، وتدل على لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وعلى أن النبي محمداً لم يتبع سبيل لمعان السيوف والإكراه لدخول الناس الإسلام .
كما تبين هذه الواقعة صدق إيمان الصحابة وتضحيتهم وتعظيمهم لشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحرصهم على سلامته ليتلقى تمام آيات القرآن ، ويكمل تبليغ أحكام الرسالة ، ونزل بعد حجة الوداع قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) .
وكان خُبيب قُتل صبراً ، أي أنه لم يقتل في معركة ولا عن غفلة ، وصلى ركعتين عند قتله ، فصارت سنة لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم علم بها ولم ينكرها ، فكانت من السنة التقريرية ، وبعد معركة الخندق قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الآن نغزوهم ولا يغزونا نسير إليهم)( ).
لبيان أن غزو المسلمين للمشركين بآيات التنزيل والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة ، والصبر في تحمل الأذى .
قانون مسير النبي (ص) إلى بني لحيان سلم مجتمعي
لقد سار إلى بني لحيان ليس للثأر والإنتقام فالشهداء [فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ]( ) إنما خرج لهم ومعه مائتان من أصحابه للتأديب وزجرهم وغيرهم من أهل القرى عن الإغارة على المدينة وعن التعدي على المسلمين وإغراء قريش لهم لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وإثارة الفتن في الجزيرة ، وتبعد ديار بني لحيان نحو مائتي ميل باتجاه مكة فهي أقرب إلى مكة من المدينة ، وتقع في أرض وعرة.
ووصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الموضع الذي قتل فيه أفراد سرية الرجيع فترحم عليهم ودعا لهم ، وما أن علم بنو لحيان بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصوله قريباً من منازلهم حتى فروا هاربين إلى رؤوس الجبال .
وأقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ديارهم يومين ويبعث بعض أصحابه ليتعقبهم ، ولكنهم تمنعوا برؤوس الجبال العالية.
ومن الشواهد على أن النبي محمداً لم يغز أحداً في المقام وجوه :
الأول : قلة إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ديار بني لحيان ، فلو أطال الإقامة لاضطروا للنزول من رؤوس الجبال لإصابتهم بالجوع والعطش .
الثاني : عدم إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم السرايا من الصحابة إلى رؤوس الجبال خاصة وأن عدد الصحابة الذين معه مائتان .
الثالث : إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تخريب دور بني لحيان انتقاماً وثأراً للقراء العشرة والغدر بهم.
لتكون سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة لبني لحيان وغيرهم للندامة والأسى على ظلمهم وتعديهم ، والتفكر في دخول الإسلام ، وأنهم لا يجدون عندئذ إلا الرحمة في الدارين .
سرية كراع الغميم
هذه السرية فرع كتيبة بني لحيان لبيان التداخل بين الكتائب النبوية ، وسرايا الصحابة ، والتفسير العملي لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الآن نغزوهم ولا يغزونا نسير إليهم)( ).بأن هذا الغزو لوجوه :
الأول : التخويف وبث الذعر في نفوس المشركين .
الثاني : زجر المشركين عن تكرار غزو المدينة .
الثالث : بيان قوة الإسلام .
فليس هو غزو قتال ، إنما هو من مصاديق قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) لبيان أن إخافة المشركين من فضل الله عز وجل وسبب لكف المشركين أيديهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
لقد سار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى عُسفان ، وبعث سرية إلى كراع الغميم التي تبعد عن مكة نحو (64 ) كم (فَبَعَثَ عَشَرَةَ فَوَارِسَ إلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ لِتَسْمَعَ بِهِ قُرَيْشٌ ثُمّ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ عَنْهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً)( ).
وقال ابن سعد (فبعث أبا بكر في عشرة فوارس لتسمع به قريش فيذعرهم، فأتوا الغميم ثم رجعوا ولم يلقوا أحدا)( ).
لقد كانت الوقائع إنذار لقريش وزجر لهم عن الهجوم على المدينة وإخبارهم بإكرام الني صلى الله عليه وآله وسلم لمكة والحرم ، فسمعت قريش باقتراب خيول المسلمين منهم ، فظنوا أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يريد دخول مكة فأصابهم الرعب والفزع ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
ثم عاد هؤلاء الفرسان من كُراع الغميم إلى حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وادي عسفان فانقلب النبي وأصحابه المائتين إلى المدينة من غير أن يلقوا قتالاً ، أو يجلبوا غنائم ، ومع هذا فقد أعلن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شكره لله عز وجل على هذه النعمة .
وعن (جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ حِينَ وَجّهَ رَاجِعًا : آيِبُونَ تَائِبُونَ إنْ شَاءَ اللّهُ لِرَبّنَا حَامِدُونَ أَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ)( ).
وورد في الخبر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول هذا الدعاء في كل مرة يعود فيها من السفر وعن (عن عبد الله بن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركب راحلته كبر ثلاثا، ثم قال [سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ]( ).
ثم يقول : اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى. اللهم، هون علينا السفر واطو لنا البعيد. اللهم، أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل. اللهم، اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا.
وكان إذا رجع إلى أهله قال : آيبون تائبون إن شاء الله، عابدون، لربنا حامدون)( ).
كتيبة ذي قرد وأسبابها
(ذو قرد : موضع قرب المدينة أغاروا به على لقاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فغزاهم)( ).
وقال ياقوت الحموي (ذو قَرَد: ماء على ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر)( ) ووقعت هذه الكتيبة في ربيع الأول من السنة السادسة للهجرة قبل صلح الحديبية ، وعند البخاري ومسلم كانت قبل خيبر بثلاثة أيام ، والأرجح هو أن كتيبة ذي قرد هي نفسها التي تسمى غزوة الغابة ، ومنهم من فرق بينهما وقال بخصوصها (حسان بن ثابت :
أخذ الإله عليهم بحزامة … ولَعزة الرحمن بالاسداد
كانوا بدارٍ ناعمين فبدلوا … أيام ذي قَرد وُجوهَ عباد)( ).
وسبب كتيبة ذي قرد أن عيينة بن حصن أغار في أربعين فارساً من غطفان على أطراف المدينة في السنة السادسة للهجرة ، وكانت لقاح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترعى في ذي قرد وعددها عشرون لقحة ، وكان الراعي يؤوب بلبنها كل ليلة عند الغروب .
واللقاح : جمع لقحة وهي ذات اللبن ، قريبة العهد بالولادة ، فاغارت خيل غطفان برئاسة عُيَيْنة بن حِصن على لقاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان (فيها رجل من بني غفار ومعه امرأته، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح)( ).
واكتفى ابن إسحاق بالقول رجل من غفار ولم يقل أنه أبو ذر .
ورآهم مسلمة بن الأكوع الذي قال (فخرجت أنا ورباح غلام النبي صلى الله عليه وسلم بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت بفرس لطلحة بن عبيدالله أريد أن أنديه مع الابل.
فلما كان بغلس أغار عبدالرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل راعيها وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل، فقلت: يا رباح اقعد على هذا الفرس فألحقه بطلحة وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد أغير على سرحه.
قال : وقمت على تل فجعلت وجهي من قبل المدينة، ثم ناديت ثلاث مرات : يا صباحاه.
قال : ثم اتبعت القوم معي سيفي ونبلي)( ) ..الحديث.
استئذان أبي ذر
(وكان أبو ذر قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى لقاحه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أخاف عليك من هذه الضاحية أن تغير عليك .
ونحن لا نأمن من عيينة بن حصن وذويه وهي في طرف من أطرافهم، فالح عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لكأني بك قد قتل ابنك وأخذت امراتك، وجئت تتوكا على عصاك .
فكان أبو ذر يقول: عجبا لي، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لكاني بك وأنا ألح عليه ، فكان والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال أبو ذر : والله إني لفي منزلنا، ولقاح رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – قد روحت وعطفت وحلبت عتمتها، ونمنا، فلما كان الليل أحدق بنا عيينة بن حصن في أربعين فارسا، فصاحوا بنا وهم قيام فاشرف لهم ابني فقتلوه، وكانت معه امراته وثلاثة نفر فنجوا، وتنحيت عنهم، وشغلهم عني إطلاق عقل اللقاح، ثم صاحوا في أدبارها، فكان آخر العهد)( ).
وقدم أبو ذر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بما وقع.
وكان قريباً من لقاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إبل لعبد الرحمن بن عوف فأخطأ عيبينة وأصحابه مكانها فلم يصلوا إليها ، وانشغلوا بلقاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
اجتماع الخيل عند رسول الله (ص)
خرج سلمة بن الأكوع ومعه رباح غلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعثه سلمة على الفرس ليخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإغارة على سرحه ، وقال سلمة (خرجت قبل أن يوذن للأولى)( ) أي الأذان لصلاة الصبح .
وقال ابن هشام أن ابن الأكوع (صَرَخَ بِالْمَدِينَةِ الْفَزَعُ الْفَزَعُ فَتَرَامَتْ الْخُيُولُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ)( ).
(قال ابن إسحاق : وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم صياح ابن الاكوع يصرخ بالمدينة : الفزع الفزع .
فترامت الخيول الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أول من انتهى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرسان المقداد بن عمرو، وهو الذي يقال له ابن الاسود حليف بني زهرة)( ).
وحضر المقداد مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيته .
وليس من علامة تدل على النفير والخروج ، فعاد المقداد إلى بيته واضطجع حتى أتاه أحدهم وقال له (إن الخيل قد صيح بها، فخرجت) ( ) مما يدل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن في عجلة من أمره ، وأن هذه الكتيبة ليست للغزو بسبب اللقاح إنما هي لإستعراض قوة المسلمين ، ولـتأديب القبائل المتحالفة مع المشركين وغيرهم ، وكانت غطفان على حلف مع يهود خيبر ، وصلة مع كفار قريش .
ولما اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع من الصحابة (ثم قال : اخرج في طلب القوم حتي ألحقك بالناس) ( ).
وكان عند الصحابي أبي عِياش فرساً فأشار عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطيه لغيره يحسن ركوبه ، ولكنه أبى فتعثر به فرسه .
إذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يَا أَبَا عِيَاشٍ لَوْ أَعْطَيْت هَذَا الْفَرَسَ رَجُلًا ، هُوَ أَفْرَسُ مِنْك فَلَحِقَ بِالْقَوْمِ ؟ قَالَ أَبُو عَيّاشٍ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا أَفْرَسُ النّاسِ ثُمّ ضَرَبْتُ الْفَرَسَ ، فَوَاَللّهِ مَا جَرَى بِي خَمْسِينَ ذِرَاعًا حَتّى طَرَحَنِي .
فَعَجِبْت أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَوْ أَعْطَيْتَهُ أَفْرَسَ مِنْك ، وأنا أقول : أنا أفرس الناس . فزعم رِجَالٌ من بني زُرَيْق أن رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَعْطَى فَرَسَ أَبِي عَيّاشٍ مُعَاذَ بْنَ مَاعِصٍ أَوْ عَائِذَ بْنَ مَاعِصِ بْنِ قَيْسِ بْنِ خَلَدَةَ وَكَانَ ثَامِنًا ، وَبَعْضُ سَلَمَةِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ أَحَدَ الثّمَانِيَةِ وَيَطْرَحُ أُسَيْدَ بْنَ ظُهَيْرٍ ، أَخَا بَنِي حَارِثَةَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ . وَلَمْ يَكُنْ سَلَمَةُ يَوْمَئِذٍ فَارِسًا ، وَقَدْ كَانَ أَوّلَ مَنْ لَحِقَ بِالْقَوْمِ عَلَى رِجْلَيْهِ . فَخَرَجَ الْفُرْسَانُ فِي طَلَبِ الْقَوْمِ حَتّى تَلَاحَقُوا)( ).
توجه النبي (ص) إلى ذي قرد
ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خمسمائة ونودي : يا خيل الله أركبي ، وهذه الكتيبة هي أول كتيبة ينادى لها بهذا النداء .
واستخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة ابن أم مكتوم (وأقام سعد بن عبادة في ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة خمس ليالٍ حتى رجع النبي صلى الله عليه وسلم)( ).
لبيان الإحتراز من غزو المشركين للمدينة ، وهو شاهد على شدة الأذى الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه . .
وأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوماً وليلة في ذي قرد يرصد ويستطلع الأمر ، وفيه دلالة على أمور :
الأول : قانون سرعة استجابة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : قانون الدفاع عن الحقوق والأموال .
الثالث : قانون ملاحقة الغزاة المشركين المعتدين ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
وقسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه لكل مائة جزوراً ، وجاء قيس بن سعد فارساً على فرس له يسمى الورد ومعه أحمال تمر وعشر جزائر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو لا يزال في ذي قرد بعثها أبوه سعد بن عبادة.
فأثنى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمام أصحابه وقال (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا قيس، بعثك أبوك فارساً، وقوى المجاهدين، وحرس المدينة من العدو؛ اللهم ارحم سعداً وآل سعد! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم المرء سعد بن عبادة! فتكلمت الخزرج.
فقالت: يا رسول الله، هو بيتنا وسيدنا وابن سيدنا! كانوا يطعمون في المحل، ويحملون الكل ويقرون الضيف، ويعطون في النائبة، ويحملون عن العشيرة .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا في الدين)( ).
(ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بئرهم قالوا: يا رسول الله، ألا تسم بئرهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا ولكن يشتريها بعضكم فيتصدق بها. فاشتراها طلحة بن عبيد الله فتصدق بها.)( ).
وانفرد الواقدي بخبر البئر هذا ، وفيه قانون نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إتخاذ السم آلة في الحرب والقتال ، وقال سلمة بن الأكوع بخصوص هذه الواقعة : (فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف فقال : اخذت لقاح النبي صلى الله عليه وسلم.
فقلت: من أخذها قال: غطفان.
قال: فصرخت ثلاث صرخات: واصباحاه ! قال: فأسمعت ما بين لابتي المدينة.
ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم وقد أخذوا يستقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي، وكنت راميا، وأقول،: أنا ابن الاكوع اليوم يوم الرضع .
وأرتجز حتى استنقذت اللقاح منهم واستلبت منهم ثلاثين بردة.
قال: وجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس فقلت: يا رسول الله قد حميت القوم الماء وهم عطاش فابعث إليهم الساعة.
فقال : يا ابن الاكوع، ملكت فأسجح ” ثم رجعنا ويردفني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ناقته حتى قدمنا المدينة)( ).
فأسجع أي فأعف للدلالة على قانون نهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن منع المشركين المحاربين من الماء ، وخبر استنقاذ سلمة اللقاح من غطفان بعيد بدلالة أن امرأة الغفاري ركبت ناقة من إبل رسول الله التي نهبتها غطفان وعادت بها إلى المدينة .
وكانت غطفان يجعلون إبلهم في أبواب دورهم ، فانتهزت امرأة الغفاري التي سبوها مع الإبل غفلة منهم ليلاً ، فركبت ناقة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى قدمت المدينة ، وأخبرت النبي بتفاصيل الواقعة ، وحال غطفان ثم قالت (يا رسول الله إني قد نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال : بئسما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها، إنه لا نذر في معصية الله ، ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقة من إبلي، فارجعي إلى أهلك على بركة الله)( ).
في وصف ملوك الأمصار
قال المسعودي (ومن طرائف أخبار ملوك الصين أن رجلاً من قريش من ولد هَبَّار بن الأسود( ) لما كان من أمر صاحب الزنج بالبصرة ما كان واشتهر، خرج هذا الرجل من مدينة سيراف، وكان من أرباب البصيرة وأرباب النعم بها، وفي الأحوال الحسنة، ثم ركب منها في بعض مراكب بلاد الهند، ولم يزل يتحول من مركب إلى مركب، ومن بلد إلى بلد، يخترق ممالك الهند، إلى أن انتهى إلى بلاد الصين فصار إلى مدينة خانفوا.
ثم دعته همته إلى أن صار إلى دار ملك الصين .
وكان الملك يومئذ بمدينة خمدان ، وهي من كبار مدنهم، ومن عظيم أمصارهم، فأقام بباب الملك مدة طويلة يرفع الرقاع ويذكرأنه من أهل بيت نبوة العرب .
فأمر الملك بعد هذه المدة الطويلة بإنزاله في بعض المساكن وإزاحة العلة من أموره وجميع ما يحتاج إليه، وكتب إلى الملك المقيم بخانقوا يأمره بالبحث عنه، ومسألة التجار عما يدعيه الرجل من قرابة نبي العرب صلى الله عليه وسلم .
فكتب صاحب خانقوا بصحة نسبه، فأذن له في الوصول إليه، ووصله بمال واسع، وأعاده إلى العراق، وكان شيخاً فهماً، أخبر أنه لما وصل إليه، وسأله عن العرب، وكيف أزالوا ملك العجم، فمّال له: باللهّ عز وجل .
وما كانت العجم عليه من عبادة النيران والسجود للشمس والقمر من دون الله عز وجل .
فقال له : لقد غلبت العرب على أجَلِّ الممالك، وأنفسها، وأوسعها رَيعاً، وأكثرها أموالاً، وأعقلها رجالاً، وأهداها صوتاً، ثم قال له: فما منزلة سائر الملوك عندكم. فقال: ما لي بهمِ علم .
فقال للترجمان قل له: إنا نعدُّ الملوك خمسة، فأوسعهم ملكاَ الذي يملك العراق، لأنه في وسط الدنيا، والملوك مُحْدِقَة به، ونجد اسمه ملك الملوك، وبعده ملكنا هذا، ونجده عندنا ملك الناس، لأنه لا أحد من الملوك أسوس منا، ولا أضبط لملكه من ضبطنا لملكنا، ولا رعية من الرعايا أطوع لملكها من رعيتنا، فنحن ملوك الناس .
ومن بعده ملك السباع، وهو ملك الترك الذي يلينا، وهم سباعُ الِإنْس، ومن بعده ملك الذيلَةِ، وهو ملك الهند، ونجده عندنا ملك الحكمة أيضاً، لأن أصلها منهم .
ومن بعده ملك الروم، وهو عندنا ملك الرجال، لأنه ليس في الأرض أتم خلقاً من رجاله، ولا أحسن وجوهاً منهم، فهؤلاء أعيان الملوك، والباقون دونهم .
ثم قال للترجمان : قل له : أتعرف صاحبك إن رأيته. يعني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال القرشي: وكيف لي برؤيته وهو عند اللّه عزّ وجلّ؟ فقال: لم أرد هذا، وإنما أردت صورته، فقلت: أجل، فأمر بسَفَطٍ فأخرج فضع بين يديه، فتناول منه درجاً .
وقال للترجمان : أره صاحبه، فرأيت في الدرج صور الأنبياء، فحركتُ شفتيَّ بالصلاة عليهم، ولم يكن عندهم أني أعرفهم، فقال للترجمان: سَلْه عن تحريكه لشفتيه، فسألني، فقلت: أصلي على الأنبياء: ومن أين عرفتهم؟ فقلت: بما صُوِّرَ من أمورهم .
هذا نوح عليه السلام في السفينة ينجو بمن معه لما أمر اللّه عزّوجلّ الماء فعمَّ الماء الأرض كلها بمن فيها وسلمه وَمَنْ معه .
فقال : أما نوح فصدقت في تسميته، وأما غرق الأرض كلها فلا نعرفه، وإنما أخذ الطوفان قطعة من الأرض ولم يصل إلى أرضنا، وإن كان خبركم صحيحاً فعن هذه القطعة .
ونحن معاشر أهل الصين والهند والسند وغيرنا من الطوائف والأمم لا نعرف ما ذكرتم، ولا نَقَلَ إلينا أسلافنا ما وصفتم، وما ذكرت من ركوب الماء الأرض كلها فعن الكوائن العظام التي تُفزع النفس إلى حفظة وتتداوله الأمم ناقلة له، قال القرشي: فَهِبْتُ الرد عليه وإقأمة الحجة؛ لعلمي بدَفْعِهِ ذلك .
ثم قلت: وهذا موسى صلى الله عليه وسلم وبنو إسرائيل، فقال: نعم على قلة البلد الذي كان به وفساد قومه عليه .
ثم قلت : هذا عيسى ابن مريم عليه السلام على حماره الحواريُّونَ معه، فقال: لقد كان قليل المدة، إنما كان أمَده يزيد على ثلاثين شهراً شيئاً يسيراً، وعلا من سائر الأنبياء وأخبارهم ما اقتصرت على ذكر بعضه .
ويزعم هذا القرشي وهو المعروف بابن هبار أنه رأى فوق كل صورة كتابة طويلة قد دوِّن فيها ذكر أسمائهم، ومواضع بلدانهم، ومقادير اعمارهم، وأسباب نبواتهم وسيرهم .
وقال : ثم رأيت صورة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جمل وأصحابه مُحْدِقون به في أرجلهم نعال عربية من جلود الِإبل، وفي أوساطهم الحبال، قد علقوا فيها المساويك، فبكيت .
فقال للترجمان: سله عن بكائه، فقلت: هذا نبينا وسيدنا وابن عمنا محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: صدقت، لقد ملك قَومه أجَلّ الممالك، إلا أنه لم يعاين من الملك شيئاً، إنما عاينه من بعده ومن تولى الأمر على أمته من خلفائه.
ورأيت صور أنبياء كثيرة منهم من قد أشار بيده جامعاً بين سبَّابته وإبهامه كالحلقة، كأن يصف أن الخليقة في مقدار الحلقة، ومنهم من قد أشار بسبابته نحو السماء كالمُرْهِبِ للخليقة بما فوق، وغير ذلك .
ثم سألني عن الخلفاء وزيّهم وكثير من الشرالى فأجبته على قدر ما أعلم منها .
ثم قال: كم عمر الدنيا عندكم؟ فقلت: فقد تنوزع في ذلك، فبعض يقول: ستة آلاف سنة، وبعض يقول. دونها، وبعض يقول: أكثر منها .
فقال : ذلك عن نبيكم. فقلت: نعم، فضحك ضحكاً كثيراً ووزيره أيضاً، وهو واقف على إنكار ذلك .
وقال: ما حسبت نبيكم قال هذا، فزللت فقلت: بلى هو قال ذلك، فرأيت الِإنكار في وجهه، ثم قال للترجمان: قل له ميز كلامك فإن الملوك لا تكلم إلا عن تحصيل، أما زعمت أنكم تختلفن في ذلك، فإنكم اختلفتم في قول نبيكم .
وما قالت الأنبياء لا يجب أن يختلف فيه، بل هو مسلم لها، فاحذر هذا وشبهه أن حكيه، وذكر أشياء كثيرة ذهبت عنيِ لطول المدة)( ).
وفي هذا الزمان بذل بعض الذوات جهداً رسمياً في الصين للعثور على (هذه الصور أو تحصيل خبر عنها فلم يجد) .
وخبر ابن وهب هذا ضعيف رواية ودراية ، ولكن الشواهد على علم الأمم السابقة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متعددة ، وفيه دعوة للناس للتصديق برسالته , والإمتناع عن الحرب على القرآن والإسلام.
إن في ذكر أهل البيت والصحابة لأوصاف وخصال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كفاية في إيجاد صورة كريمة له في التصور الذهني وبما يبعث على إكرامه والسعي في الإقتداء به ، ومن الإعجاز في نبوته تصديق ملامحه وصفاته لرسالته السماوية ودعوة للإقتداء به ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
حرمة مكة
و(عن أبي شُرَيح العدوي أنَّه قال لعَمْرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن لي -أيها الأمير -أن أحدثَك قولا قام به رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم الغَد من يوم الفتح، سَمِعَته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تَكَلَّم به، إنه حمد الله وأثنى عليه .
ثم قال : إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلايحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد تَرَخَّصَ بقتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب.
فقيل لأبي شُرَيح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيًا، ولا فارًّا بدم، ولا فارًّا بخَرَبَة)( ).
وعن (الحارث بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية.
قانون الأمن في مكة
والسنة في المقام بيان وتفسير لآيات القرآن التي تتضمن لزوم إكرام مكة منها نعت الحرم بأنه آمن في آيتين من القرآن ، قال تعالى [أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ]( )، وقوله تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ]( ).
وفي دعاء إبراهيم ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
ولم تكن مكة آنذاك بلداً ، فسأل إبراهيم أن يجعلها بلداً وأن يكون آمناً.
ويدل قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا] على استجابة الله عز وجل لدعاء إبراهيم بصيرورة مكة بلداً ، فألح إبراهيم بالدعاء أن تكون مكة آمنة ، وأن تتنزه ذرية إبراهيم عن عبادة الأوثان ، وهل فيه بشارة فتح النبي مكة وهدمه جميع الأصنام فيها ، الجواب نعم.
قانون حرمة القتل في مكة
لقد ورد (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض والشمس والقمر ، ووضع هذين الاخشبين فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة .
وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا يلتقط لقطتها إلا من عرفها . قال العباس : إلا الإِذخر فإنه لقينهم وبيوتهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إلا الإِذخر)( ).
و(عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج من مكة إلى الغار أراه قال: التفت إلى مكة وقال : أنت أحب بلاد الله إلى الله ، وأنت أحبّ بلاد الله إليّ ، ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك ، فأعدى الأعداء من عَدَا على الله في حرمه ، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذُحُول الجاهلية)( ).
والذحول : جمع ذحل وهو القتل بسبب ثأر كان في الجاهلية قبل الإسلام ، ليبين الحديث أفراد اَ من المعاصي والكبائر التي يكون أصحابها أبغض الناس عند الله ، مع أنها دون الشرك بالله وفيه زجر ونهي عن ثلاثة:
الأول : القتال في الحرم المكي .
الثاني : قتل غير القاتل ثأراً وظلماً ، والمراد من (غير قاتله) في الحديث أعلاه الإسناد المجازي أي قاتل من هو ولي دمه ، كالذي يثأر لقتل أبيه فيحرم عليه قتل أخ أو أب أو ابن القاتل وغيرهم من ذويه وإن فرّ وإنهزم القاتل ، قال تعالى [وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( ).
الثالث : القتل ثأراً على أمر حدث في الجاهلية ، لأن الإسلام يجّب ما قبله ، ولصيرورة المسلمين بالإسلام إخوّة ليس بينهم عصيبة قبلية ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
وفي هذا الحديث شاهد بأن الحرم المكي من الشعائر المكانية ، ولتأكيد حرمة سفك الدماء ، التي ذكرها الملائكة عند خلق آدم وإخبار الله عز وجل لهم بأن الإنسان سيكون [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، قال تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
وعن الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن أعتى الناس على الله عز وجل من قتل غير قاتله ، ومن ضرب من لم يضربه)( ).
فمن علم الله عز وجل الذي تذكره الآية أعلاه في آخرها حرمة مكة، ومع أن مكة أحلت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ساعة من نهار فانه اجتهد في الدعاء والعمل لمنع القتل فيها ، وأوصى أصحابه وحملة الألوية على اجتناب القتال والقتل.
ولما قاتل خالد بن الوليد يوم فتح مكة توجه له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باللوم والتذكير بأنه نهاه عن القتال فاعتذر خالد بأن المشركين بدأوا القتال . .
أسماء الأصنام في القرآن
الأصنام الكبيرة وذات الشأن عند العرب عامة متعددة ومنها التي ورد ذكرها في القرآن وجمعت في ثلاث آيات من القرآن وهي :
الآية الأولى : قوله تعالى [وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا]( ).
الآية الثانية : قوله تعالى [أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( ).
الآية الثالثة : قوله تعالى [أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ]( ).
وهذه الأصنام هي :
الأول : ود .
الثاني : سواع .
الثالث : يعوق .
الرابع : نسر .
الخامس : اللات .
السادس : العزى ، واللام هنا الزائدة لزوماً .
السابع : مناة .
الثامن : الصنم بعل .
و(عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد: أما وَد: فكانت لكلب بدومة الجندل .
وأما سواع : فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غُطَيف بالجُرُف عند سبأ، .
أما يُعوقُ: فكانت لهَمْدان، وأما نسر: فكانت لحمير لآل ذي كَلاع، وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام.
فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم. ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخَ العلم عُبِدت)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام (قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام في ذكر مسجد الكوفة : منه سارت سفينة نوح، وكان فيه نسر ويغوث ويعوق)( ).
ومن مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) توثيق القرآن للأصنام العامة عند العرب في ثلاث آيات ، وفيه ذم لهم وبيان لحاجة الناس لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأكثر الأصنام كانت تماثيل لرجال صالحين كان قومهم يتبركون بهم ، فلما ماتوا حزنوا عليهم ، وارادوا احياء ذكراهم بنصب تماثيل لهم ، وتسموا بأسمائهم ، بل بالعبودية لهم مثل اسم (عبد ود) .
أنواع الأصنام عند العرب
الأول : الأصنام النوعية الكبيرة التي تدين لها القبائل مثل الصنم هبل ، العزى ، بعل .
الثاني : الأصنام المنصوبة في البيت الحرام وعددها يوم فتح مكة ثلاثمائة وستون صنماً ، وهي على شعبتين :
الأولى : الأصنام الكبيرة التي يقدم لها الناس النذور والهدايا .
الثانية : الأصنام التي تعود إلى القبائل ، كل قبيلة لها صنم خاص في البيت الحرام .
الثالثة : الأصنام التي في الطرقات العامة .
الرابعة : الأصنام الصغيرة ومنها التي في البيوت .
وهل كان العرب يبذلون الأموال لأولياء المسجد الحرام لقبول نصب الأصنام الخاصة ، المختار نعم ، وإن لم أجد هذه المسألة مذكورة في كتب التأريخ والسيرة وفيه نوع حاجة من القبائل لقريش التي اتخذتها وسيلة لحمل القبائل على الصدود عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لذا قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ]( ).
الخامسة : الأصنام التي يحملها المسافر معه .
السادسة : الأصنام المؤقتة التي تصنع لساعتها أو يومها ، فكان بعضهم يصنع الصنم الصغير من التمر ويضعه كالتعويذة عند رأسه ليأكله في الصباح.
ولولا بعثة النبي محمد هل هدمت هذه الأصنام أم إزداد عددها ، أم بقيت على ذات العدد .
الجواب أبى الله إلا منع تنامي تعلق الناس بها ، ونسج الأساطير حولها بما يبعث الرهبة لها في النفوس .
ومع تفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإزاحته الأصنام وعبادتها في الجزيرة ثم في خارجها فلا حاجة لمثل هذا التساؤل ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
في مكة أكثر الأصنام
من خصائص الحياة الدنيا إجتماع أمور :
الأول : إقامة الله الحجة على الناس ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، وتقييد ووصف الحجة بأنها بالغة لبيان وضوحها ، وقربها من كل إنسان ، وعجز الناس عن الإعتذار يوم القيامة عن التخلف عن قبولها والعمل بمضامينها ، قال تعالى [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]( ).
الثاني : موضوعية العقل الشخصي ، والعقل النوعي في خيارات الأفراد والمجتمعات وشأنه في طرق الإستدلال ، لذا جاء الإسلام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
لبيان التعاون والتآزر في تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات .
ولقد غاب العقل النوعي عن الواقع العقائدي للناس أيام الجاهلية ، إذ اتخذوا الأصنام والرؤساء أرباباً من دون الله عز وجل ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، إنقاذ الناس من براثن الوثنية التي كانوا عليها .
ومن خصائص القرآن أن كل آية منه رحمة للناس ، وإزاحة لجزء من مفاهيم الوثنية ، ويمكن القول بأمور :
الأول : قانون تسهيل آيات القرآن لصلح الحديبية .
الثاني : قانون تقريب آيات القرآن لأوان فتح مكة.
الثالث : قانون فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمكة سلماً.
والأصل أن تكون مكة في عصمة وحرز من نصب الأصنام فيها سواء في البيت الحرام أو في بيوت أهل مكة لأنهم مجاورون لبيت الله الذي نالوا به وبجواره الشرف والشأن الرفيع بين قبائل العرب ، والدول العظمى آنذاك ، وهذه العصمة والحرز من مصاديق الأمن في قوله تعالى [وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ]( )، ودعاء إبراهيم عليه السلام كما ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ]( ).
ولكن المشركين نصبوا الأصنام حتى في جوف الكعبة وبأعداد كثيرة ، وصارت كل قبيلة تنصب لها صنماً في البيت الحرام يأتون إليه ويزورونه عند القدوم إلى مكة كعنوان واعتبار لهم ، مع أن البيت الحرام هو بيت الله عز وجل قال تعالى [وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( )، ومن أصدق وجوه التطهير تنظيف وتنزيه البيت الحرام من الأصنام.
جهاد إبراهيم (ع) ضد الأصنام
لا ينحصر تقديس وعبادة الأوثان بالعرب قبل الإسلام ، فقد توارثت بعض الأمم تقديسها ، وجعلوا لها سدنة ، ومثلاً كان آزر من سدنة أحد الأصنام ، واسم أبي إبراهيم هو تارح بن ناخور .
وعن محمد بن إسحاق أن (تارخ هو آزر)( ).
(وقال سعيد بن المسيب ومجاهد ويمان : آزر اسم صنم وهو على هذا التأويل في محل نصب.
وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره أتتخذ آزر أصناماً آلهة)( ).
وهذا المعنى بعيد ، وقول أن آزر لقب غالب لأب إبراهيم فذكر في القرآن به وذكر أن آزر اسم ذم ومعناه المخطئ.
وآزر (من أهل كوثى قرية من سواد الكوفة ، أو آزر ليس باسم بل سب وعيب معناه : معوج ، كأنه عابه باعوجاجه عن الحق ، وضاع حق أبوته بتضييعه حق الله تعالى ، أو آزر اسم صنم وكان اسم أبيه تارح)( ).
و(عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم . قال : يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك.
فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي.
فيقول الله تبارك وتعالى إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار)( ).
وكان قومه الكنعانيون يعبدون الأصنام ويجعلون لكل نجم صنماً ، ليتقربوا بواسطته إلى النجم لبعد النجم وعظيم شأنه عندهم .
وتؤكد على هذه الأقوال على حقيقة وهي وجود عبادة الأصنام في الأمم السابقة والذي وثقه القرآن في جهاد إبراهيم بالإحتجاج على قوله ثم قيامه بكسرها وإرادة نمروذ وقومه حرق إبراهيم في النار بسبه فانجاه الله.
وورد حكاية عنه في التنزيل [وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ]( ).
لقد كان جهاد ابراهيم ضد عبادة الأصنام متعدداً ومركباً ، فقد احتج على أبيه وقومه وذم عبادتها وقام بتهشيمها عندما خرجوا في عيد لهم ، ثم لجأ إلى مكة ورفع قواعد البيت الحرام إذ يدل قوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ]( ) على دعوته الناس لحج البيت.
وهذه الدعوة واقية من عبادة الأصنام ، كما توجه بالدعاء لعصمته وذريته من عبادة الأوثان ، وورد في القرآن [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ]( ).
ومع كون إبراهيم الإمام في محاربة عبادة الأصنام ، ومع نبوته وعصمته من المعاصي فانه التجأ إلى الدعاء لوقايته وابنائه من عبادتها فلم يقل إبراهيم (واجنب بني أن يعبدوا الأصنام) بل لجأ إلى الله عز وجل بمفارقته الدنيا على التنزه عن عبادة الأوثان ووراثة الأبناء لها لإعانة الذرية في الإقتداء به ، وليتفضل الله بالثناء عليه في القرآن ، ولقانون الأسوة الرسالية ، قال تعالى [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا]( ).
ولبيان افتتان الناس بالإصنام ، وإرغام بعض الرؤساء أتباعهم لتقديسها واتباعها ، وللخشية بأن التقدم في العمر مناسبة للضعف والوهن والتراخي في العقيدة لبيان وجوه :
الأول : قانون اقتران الثبات على الإيمان والعمل الصالح بالدعاء .
الثاني : قانون الدعاء وسيلة لاستدامة النهج الإيماني .
الثالث : قانون الدعاء واقية من الإرتداد والنكوص عن الصراط المستقيم.
لذا يتلو كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم والليلة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، على نحو الوجوب العيني وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتلوه في كل ركعة مع أنه سيد المرسلين [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
ومع اجتهاد إبراهيم عليه السلام في محاربة الأصنام والذين يعبدونها فانها بقيت ونمت ، وتسربت إلى البيت الحرام ومجاوريه من ذرية إبراهيم ، فتفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من ذرية إبراهيم ليستأصل عبادة الأوثان إلى يوم القيامة وهو من وجوه تفضيله على الأنبياء السابقين .
ومع منافاة تقديس وعبادة الأوثان للعقل فان النبي محمداً لم يستعمل السيف لإزالتها وتهشيمها بل كانت الآيات القرآنية والسنة النبوية وسيلة سامية لتنزيه النفوس عن تقديسها ، فكان تهشيمها يوم فتح مكة تتويجاً لنفاذ آيات التوحيد إلى شغاف القلوب ، وهو من الشواهد على عنوان هذا الجزء وثمانية وعشرين جزءً سابقة من هذا السِفر (لم يغز النبي (ص) أحداً).
لا أصل لحديث الغرانيق
لم يرد هذا الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو عن الصحابة الأوائل ، أو عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ، أو عن أحد المشركين آنذاك ، سواء أيام جاهليته أو بعد دخوله الإسلام .
والحديث ضعيف رواية ودراية ، والرواية نص ومتن الحديث الذي اضيف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الصحابي أو الإمام المعصوم.
والقسم الثاني وهو علم الحديث دراية فهو الذي يبحث حال الرواة من جهة القبول والرد وهو ما يعرف بسند الحديث .
(ومن طريق سليمان التيمي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وهو بمكة ، فأتى على هذه الآية [أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( ) فألقى الشيطان على لسانه : إنهن الغرانيق العلى ، فأنزل الله [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ])( ).
والحديث ضعيف سنداً بمجهول (عمن حدثه) ونزلت هذه الآية وعبد الله بن عباس لم يولد به ، إذ أنه ولد قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث سنين .
كما ورد الحديث مرسلاً عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قرأ سورة النجم ، فلما بلغ [أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( ) قال : إن شفاعتهن ترتجى ، وسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرح المشركون بذلك.
فقال : إلا إنما كان ذلك من الشيطان ، فأنزل الله [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ]( ) حتى بلغ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ( ).
وقد قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة ولد في أيام عمر بن الخطاب ، وكان مكفوفاً ، توفى سنة 94 هجرية .
فلم يثبت هذه الواقعة وهي خلاف منهاج وقوانين السنة النبوية .
والغرانيق : الذكور من طير الماء واحدها غرنوق سمي به لبياضه وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم إلى الله فسميت بالطيور التي تعلو في السماء وترتفع .
وقال المجلسي في البحار بعد ساق حديث الغرانيق بالتفصيل (حديث الغرانيق من الخرافات التى روتها العامة، وهو موضوع مما لا أصل له)( ).
لقد كانت مدة بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً وعشرين سنة ينزل عليه فيها القرآن وبضبط فيها كل ما ينزل عليه ، فلابد أن هذه الواقعة لا أصل لها .
وقال المجلسي (روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة( ) أنه سئل عن هذه القصة فقال :هذا من وضع الزنادقة، وصنف فيه كتابا.
وقال الامام أبو بكر البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعونون، وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أنه صلى الله عليه وآله قرأ سورة (والنجم) وسجد فيها المسلمون والمشركون والانس والجن وليس فيه حديث الغرانيق ، وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق)( ).
وكثيرة هي آيات القرآن التي تدل على عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإضافة للتنزيل والتي تنفي مثل هذه الواقعة.
لقد كانت مدة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً وعشرين سنة نزلت فيها (6236) آية ليس فيها إلا الضبط في التلاوة من قبل الملك جبرئيل والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فلا عبرة بحديث لا أصل له.
والمختار أن القرآن خال من الزيادة أو النقيصة وأن الذي بين الدفتين هو الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
دخول النبي محمد (ص) مكة
من معاني قوله تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ]( )، أي إلى مكة .
(عن مجاهد [لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ] قال : إلى مولدك إلى مكة)( ).
و(عن علي بن الحسين بن واقد قال : كل القرآن مكي أو مدني غير قوله [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ]( ) فإنها أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة حين خرج مهاجراً إلى المدينة . فلا هي مكية ولا مدنية ، وكل آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة فهي مكية فنزلت بمكة أو بغيرها من البلدان ، وكل آية نزلت بالمدينة بعد الهجرة فإنها مدنية نزلت بالمدينة أو بغيرها من البلدان)( ).
(وهي رواية العوفي عن ابن عباس قال (ابن قتيبة) : معاد الرجل : بلده لأنّه ينصرف ثم يعود إلى بلده.
قال مقاتل : خرج النبي عليه السلام من الغار ليلا ثم هاجر من وجهه إلى المدينة ، فسار في غير الطريق مخافة الطلب ،فلمّا أمن ورجع إلى الطريق نزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة ، فاشتاق إليها وذكر مولده ومولد آبائه .
فأتاه جبريل عليه السلام فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك ، قال : نعم .
قال : فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ]( ) إلى مكة ظاهراً عليها.
قال مقاتل : قال الضحاك : قال ابن عباس : إنّما نزلت بالجحفة ليس بمكة ولا المدينة)( ).
(وقال مقاتل: إنه صلى الله عليه وآله خرج من الغار، وسار في غير الطريق مخافة الطلب، فلما رجع إلى الطريق و نزل بالجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة اشتاق إليها ، وذكر مولده و مولد أبيه، فنزل جبرئيل وقال: تشتاق إلى بلدك ومولدك ؟ فقال صلى الله عليه وآله: نعم.
فقال جبرئيل عليه السلام : إن الله يقول [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ]( ) يعني مكة ظاهرا عليهم، وهذا مما يدل على نبوته، لانه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر)( ).
وجملة (ووقع كما أخبر) أوردها المجلسي من كلام الفخر الرازي الذي قال (قال أهل التحقيق : وهذا أحد ما يدل على نبوته ، لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر فيكون معجزاً)( ).
كيفية فتح مكة
واختلف في فتح مكة على ثلاثة أقوال :
الأول : فتحت مكة عنوة وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد ، وجمهور العلماء ، وأهل السير ، واستدلوا بجهات :
الأولى : بحديث أبي هريرة (احصدوهم حصداً) وقد تقدم عدم ثبوت هذا الحديث كتاباً وسنة ودلالة ، كما أن أبا هريرة ذكره بعد سنة أربعين للهجرة وهو في طريقه وبعض المسلمين إلى معاوية في دار حكمه ، ولو كان لبيان قبل هذا الزمان ، ولا يحتاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمناداة أبي هريرة ليقول له (اهتف لي بالأنصار) فهم قريبون من النبي .
الثانية : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، وهذا الخبر يحتمل نفي فتح مكة عنوة ، وفي طريق النبي محمد إلى مكة أسلم أبو سفيان.
(فقال العباس : يا رسول الله إن أبا سفيان يحب الشرف فقال صلى الله عليه وسلم : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن و من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن .
قال ابن حزم : هذا نص في أنها فتحت صلحا لا عنوة)( ).
الثالثة : وقوع القتال من خالد بن الوليد وجيشه ، وهذا صحيح ولكنه قتال محدود وقليل ولا عبرة بالقليل النادر ، وسرعان ما تفرق جماعة المشركين وبدليل قلة القتلى ، ويدل لوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لخالد على قتاله الذي اعتذر بأنهم ابتدؤه بالقتال على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفتح مكة عنوة .
الرابعة : حديث أبي مرة مولى عقيل (أن أم هانئ بنت أبى طالب حدثته أنه لما كان عام الفتح فر إليها رجلان من بنى مخزوم فأجارتهما، قالت: فدخل علي علي فقال: أقتلهما ، فلما سمعته أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فلما رأني رحب.
وقال : ما جاء بك ، قلت : يا نبى الله كنت أمنت رجلين من أحمائي فأراد علي قتلهما.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ.
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غسله فسترت عليه فاطمة، ثم أخذ ثوبا فالتحف به، ثم صلى ثمانى ركعات سبحة الضحى)( ).
والمراد من سبحة الضحى أي نافلة الضحى .
الثاني : فتحت مكة صلحاً ، وبه قال الشافعي ، واستدل على وقوع فتح مكة صلحاً من جهتين:
الأولى : عدم جمع الغنائم أو قسمتها بين المقاتلين ، وهذا لايدل على فتح مكة صلحاً ، فقد تفتح البلد عنوة ويرى الإمام عدم أخذ الغنائم ، إنما يمن على أهلها ، وقد فتح عدد من البلدان أيام عمر وعثمان فلم تقسم ، مع وجوه كثير من الصحابة مع خصوصية مكة إذ جعلها الله عز وجل بلداً آمناً وحرماً له سبحانه .
وفي دعاء إبراهيم ورد في التنزيل [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
الثانية : (أَمَانٍ عَلَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرْطٍ شَرَطَهُ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ غَدَاةَ يَوْمِ الْفَتْحِ ، قَبْلَ دُخُولِ مَكَّةَ عَلَى إِلْقَاءِ سِلَاحِهِمْ ، وَإِغْلَاقِ أَبْوَابِهِمْ ، وَوَافَقَ الشَّافِعِيَّ عَلَى فَتْحِهَا صُلْحًا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ)( ).
وقال النووي بأن احاديث مشهورة تدل على أن النبي صالح قريشاً بمرّ الظهران قبل دخول مكة ، وليس من أحاديث في المقام ، فلم يتم صلح بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقريش .
بل استعدت طائفة من قريش للقتال ، وسرعان ما صرفوا أنظارهم عن فكرة القتال ، وهذا الانصراف من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الثالث : ذهب الماوردي بأن فتح شطر من مكة عنوة ، للقتال الذي جرى بين قريش ، وبين خالد بن الوليد وجيشه ، وشطر منها فتح صلحاً .
والمختار قول استحدثه هنا وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة سلماً ، وهو من مصاديق وعد الله عز وجل له [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ]( ).
فلا يصدق عليه فتح ، إنما يقال عودة النبي إلى مكة بنصر من الله .
لقد دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة وأكثر أهلها مسلمون ، وهم مستعدون لتنزيه البيت الحرام من الأصنام ، وإعلان حكم الشريعة في مكة ، فأراد الله عز وجل بمجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة وحدها حقن الدماء ، وهداية أهلها للإسلام طواعية بعد أن نقض كفار قريش بنود صلح الحديبية وأشاعوا الفساد ، وسفكوا الدماء بقتل رجال من خزاعة وفي الحرم .
مسائل في فتح مكة
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند فتح مكة مسائل :
الأولى : إقبال أهل مكة رجالاً ونساءً على بيعة النبي محمد من غير تردد ، وعدم اكتفائهم بالنطق بالشهادتين .
الثانية : انعدام المعارض لبيعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين أهل مكة .
الثالثة : سعادة وغبطة أهل مكة بدخولهم الإسلام .
ولا تنعقد هذه السعادة إلا باعجاز ولطف وفيض من عند الله عز وجل ، فبعد أن حاربه عمه أبو لهب ورؤساء قريش في بدايات الدعوة أقبل الناس على بيعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة .
وعن (أُمَّ سَلَمَةَ تُحَدِّثُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ فِي دُعَائِهِ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَإِنَّ الْقُلُوبَ لَتَتَقَلَّبُ قَالَ نَعَمْ مَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ بَشَرٍ إِلَّا أَنَّ قَلْبَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَزَاغَهُ.
فَنَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّنَا أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تُعَلِّمُنِي دَعْوَةً أَدْعُو بِهَا لِنَفْسِي قَالَ بَلَى قُولِي اللَّهُمَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي وَأَجِرْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ مَا أَحْيَيْتَنَا)( ).
الرابعة : تولي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلقي البيعة بنفسه للرجال والنساء فلم يغب عنها .
الخامسة : إجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأسئلة أهل مكة أثناء البيعة وبعدها .
السادسة : قانون مبايعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جزء من النظام العام في الإسلام .
السابعة : قانون مبايعة النبي محمد عهد شخصي ونوعي .
الثامنة : قانون مبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهاية لمعاداته وقتاله ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
لا أصل لحديث (احصدوهم حصداً)
قال تعالى [لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ* وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ]( ).
المراد من البلد هو مكة ، وجمع البلد البلدان والبلاد كما في قوله تعالى [لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ]( )، هذه الآية التي اختص بتفسيرها الجزء الخامس والستون بعد المائتين من تفسيري للقرآن (معالم الإيمان) وجميع كتبي في التفسير والفقه والأصول معروضة على موقعنا www.marjaiaa.com.
وفي السنن الكبرى للنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قال يا معشر الانصار إن قريشا قد جمعوا لنا فإذا لقيتموهم فاحصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا الصفا ميعادكم)( ).
وفي دلائل النبوة للبيهقي ورد الحديث بصيغة الإطلاق من غير تقييد باداة الشرط (إذا لقيتموهم) إذ ورد باسناده عن عبد الله بن رباح عن أبي هريرة بخصوص فتح مكة قال (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد على إحدى المجنبتين وبعث زبيرا على المجنبة الأخرى ، وبعث أبا عبيدة على الحسر( ) ، ثم رآني ، فقال : يا أبا هريرة فقلت : لبيك وسعديك رسول الله ، قال : اهتف لي بالأنصار ولا تأتيني إلا بأنصاري ، قال : ففعلت.
ثم قال : انظروا قريشا وأوباشهم فاحصدوهم حصدا .
فانطلقنا فما أحد منهم يوجه إلينا شيئا ، وما منا أحد يريد أحدا منهم إلا أخذوه .
وجاء أبو سفيان فقال : يا رسول الله ، أبيدت خضراء قريش ، لا قريش بعد اليوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن.
فألقى الناس سلاحهم ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبدأ بالحجر فاستلمه ، ثم طاف سبعا وصلى خلف المقام ركعتين ، ثم جاء ومعه القوس آخذ بسيتها فجعل يطعن بها في عين صنم من أصنامهم وهو يقول : [جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ).
ثم انطلق حتى أتى الصفا فعلا منه حتى يرى البيت ، وجعل يحمد الله ويدعوه والأنصار عنده يقولون : أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ، ورأفة بعشيرته ، وجاء الوحي ، وكان الوحي إذا جاء لم يخف علينا .
فلما رفع الوحي قال : يا معشر الأنصار ، قلتم : أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ، ورأفة في عشيرته ، كلا فما اسمي إذا – ثلاث مرات – كلا إني عبد الله ورسوله ، المحيا محياكم ، والممات مماتكم ، فأقبلوا يبكون.
وقالوا : يا رسول الله ، والله ما قلنا إلا الضن بالله وبرسوله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم)( ).
وكذا في كتب عديدة من السيرة .
والأوباش الغوغاء واخلاط الناس وكان الزبير على جهة ، وخالد بن الوليد على جهة أخرى وأبو عبيدة على الحسر أي الذين لا دروع لهم .
واختلف العلماء في فتح مكة هل فتحت عنوة وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وجمهور العلماء وأهل السير ، وقال الشافعي : فتحت صلحاً ، وقيل انفرد الشافعي بهذا القول .
واستدل الجمهور بأن مكة فتحت عنوة بحديث (احصدوهم حصداً).
وبقول النبي من ألقى سلاحه فهو أمن ، من دخل دار أبي سفيان فهو أمن ، بأنه لو كانوا آمنين لم يحتج إلى هذا.
ولكن اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره .
ومعنى (احصدوهم حصداً) أي اقتلوهم قتلاً بالجملة ، والحديث ضعيف دلالة ولابد من ملاحظته سنداً ، وهو ضعيف من جهة المناسبة ، فلم يخبر أبو هريرة عن هذا الحديث إلا وهم في طريقهم إلى معاوية بن أبي سفيان أي بعد السنة الواحدة والأربعين للهجرة ولو كان لبان قبل هذا الزمان ومن أكثر من واحد من المهاجرين والأنصار.
ثم أن الأنصار كانوا قريبين من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أبي هريرة ، وهذا الحديث لا ينهض لمعارضة لكل من :
الأول : قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثاني : قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح (اليوم يوم المرحمة اليوم أعز الله فيه قريشاً)( ).
الثالث : عدم حدوث قتال معتد به في فتح مكة .
الرابع : تواتر الأخبار بقلة عدد القتلى يوم فتح مكة ، ومجموع القتلى أيام فتح مكة ثلاثة من المسلمين ، وسبعة من المشركين .
الخامس : قرب وإحاطة الأنصار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا تصل النوبة لدعوة لأبي هريرة كي ينادي له الأنصار ، وفي حديث سراقة بن مالك الذي كان معه كتاب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتبه له في طريق الهجرة إلى المدينة .
فحضر سراقة بعد فتح مكة وعند خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها إذ قال (خَرَجْت وَمَعِي الْكِتَابَ لَأَلْقَاهُ فَلَقِيته( ) بِالْجِعْرَانَةِ . قَالَ فَدَخَلْت فِي كَتِيبَةٍ مِنْ خَيْلِ الْأَنْصَارِ . فَجَعَلُوا يَقْرَعُونَنِي بِالرّمَاحِ وَيَقُولُونَ إلَيْك إلَيْك ، مَاذَا تُرِيدُ.
قَالَ فَدَنَوْت مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ وَاَللّهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى سَاقِهِ فِي غَرْزِهِ كَأَنّهَا جُمّارَةٌ . فَرَفَعْت يَدِي بِالْكِتَابِ ثُمّ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا كِتَابُك لِي ، أَنَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرّ ادْنُهْ . قَالَ فَدَنَوْت مِنْهُ فَأَسْلَمْت) ( ).
السادس : كان عدد الصحابة يوم فتح مكة عشرة آلاف ، ولم يذكر هذا الحديث أيام الفتح ولا بعدها ، وأن أبا هريرة رواه بعد أكثر من ثلاثين سنة من فتح مكة وبعد أن غادر أكثر كبار الصحابة الدنيا.
والمختار قول مستحدث ومصطلح جديد ، وهو فتحت مكة سلماً ، ولم يرد هذا المصطلح ويتبادر إلى الذهن عن قول (فتحت عنوة) وقوع قتال شديد وحصار ونحوه .
وأما الفتح صلحاً فيدل على المفاوضات واجتناب القتال أو وقوع القتال ثم عقد الصلح ، وهو أمر لم يقع .
معجزة بيعة أهل مكة
حالما تم فتح مكة جلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقريش وغيرهم من أهل مكة لتلقي البيعة على الإسلام والشهادة أي الإيمان بالله وشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول عبده ورسوله .
وذكر عبودية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل خضوع وتطامن وتذلل لله عز وجل ، ومنع من الغلو بشخصه الكريم ، ومقدمة لنزع حب الاصنام من قلوب الناس للأولوية ، فاذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبداً لله عز وجل فمن باب الأولوية أن غيره من الناس والخلائق عباد داخرون لله عز وجل ، وفي التنزيل [إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا]( ).
فبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرجال بالمصافحة ، ثم جلس لمبايعة النساء من غير مصافحة ولا تمسه امرأة إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم منه ، وفي بيعة النساء إكرام لهن وإقرار بشأنهم ، وحاجة الإسلام لهن ، وكانت بيعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهن بوحي من عند الله عز وجل .
(وقال ابن جرير : ثم اجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاسلام فجلس لهم فيما بلغني على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل من مجلسه فأخذ على الناس السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا.
فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء وفيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة لحدثها لما كان من صنيعها بحمزة فهي تخاف أن يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدثها ذلك فلما دنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعهن.
قال بايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا ، فقالت هند والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال ولا تسرقن فقالت والله إني كنت أصبت من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة وما كنت أدري أكان ذلك علينا حلالا أم لا.
فقال أبو سفيان وكان شاهدا لما تقول أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنك لهند بنت عتبة ، قالت نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك.
ثم قال ولا يزنين فقالت يا رسول الله وهل تزني الحرة ثم قال ولا تقتلن أولادكن قالت قد ربيناهم صغارا حتى قتلتهم أنت وأصحابك ببدر كبارا فضحك عمر بن الخطاب حتى استغرق.
ثم قال [وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ]( ) فقالت والله إن إتيان البهتان لقبيح ولبعض التجاوز أمثل ثم قال ولا يعصينني فقالت في معروف)( ).
عداوة صفوان بن أمية
لقد ورث صفوان رياسة بني جمح وعداوة الإسلام من أبيه أمية بن خلف ، وزاد في سخطه وحنقه بأن قُتل أبوه في معركة بدر كافراً ، وكان من قادة المشركين في معركة أحد ، وأنفق المال الكثير في الإعداد لها وتجهيز الجيوش مالاً كثيراً قتله بلال.
ليقتل فيها عمه أبي بن خلف بحربة من يد النبي محمد بعد تقدمه نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتله وهو يقول (لانجوت إن نجا).
وهو الوحيد الذي قتله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده وكان قد أعلن في مكة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة عزمه على قتل النبي فتوعده النبي.
ورد (عن عروة بن الزبير قال: كان أبى بن خلف أخو بنى جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفته قال: بل أنا أقتله إن شاء الله.
فلما كان يوم أحد أقبل أبى في الحديد مقنعا وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد.
فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله، فاستقبله مصعب بن عمير أخو بنى عبد الدار يقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبى بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه فيها بالحربة فوقع إلى الارض عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم.
فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور فقالوا له: ما أجزعك إنما هو خدش.
فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أقتل أبيا، ثم قال: والذى نفسي بيده، لو كان هذا الذى بى بأهل ذى المجاز لماتوا أجمعون فمات إلى النار، فسحقا لاصحاب السعير)( ).
وسعى صفوان في تدبير خطة لإغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بارساله أحد رجالات بني جمح وهو عمير بن وهب ، وهو من شياطين قريش ، وتعهد له بسداد كل ديونه ، وإذا قتل يضم بناته إلى عياله.
ومن معجزات ومختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إخبار عمير بن وهب حالما دخل عليه في المدينة بما اتفق عليه هو وصفوان في حجر إسماعيل من إرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأعلن عمير إسلامه لأنه لم يكن معهما أحد عند الحجر أحد ، وقد أحاط مخطط الإغتيال بسرية تامة .
وصار صفوان بن أمية يخبر أهل مكة بأنه سيرد عليكم نبأ سعيد من المدينة ، ويخرج من مكة ليستقبل القادمين من المدينة ويسألهم ، هل حدث حدث في المدينة ينتظر نبأ الإغتيال ، فيقولون لم يحدث فيها حدث إلى أن جاءه خبر إسلام عمير بن وهب الذي عاد إلى مكة ولم يمر بصفوان ولم يسلم عليه ، وأظهر إسلامه فاقسم صفوان ألا يكلمه .
و(عن نافع بن جبير، قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا فنظرت إلى النبل تأتى من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبدالله بن شهاب الزهري يومئذ يقول: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد، فجاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان بن أمية، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إليه)( ).
صفوان يوم الفتح
عندما تم فتح مكة خاف صفوان بن أمية على نفسه لشدة محاربته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فخرج من مكة هارباً ، ولكن عمير بن وهب استأمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لصفوان فآمنه ، فطلب عمير عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمارة على الأمان الرسالي فأعطاه إياها .
فلحق صفوان وأخبره عن الأمان وأراه عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن عائشة (قالت: خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن، فقال عمير بن وهب: يا نبى الله إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر، فأمنه يا رسول الله صلى الله عليك.
فقال : هو آمن.
فقال: يا رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك.
فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمامته التى دخل فيها مكة.
فخرج بها عمير حتى أدركه وهو يريد أن يركب في البحر، فقال: يا صفوان فداك أبى وأمي الله الله في نفسك أن تهلكها، هذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جئتك به.
قال: ويلك اعزب عنى فلا تكلمني.
قال: أي صفوان فداك أبي وأمي أفضل الناس وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس، ابن عمك عزه عزك وشرفه شرفك وملكه ملكك.
قال: إنى أخافه على نفسي.
قال: هو أحلم من ذلك وأكرم.
فرجع معه حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك قد أمنتنى ، قال : صدق .
قال: فاجعلني بالخيار فيه شهرين.
قال : أنت بالخيار أربعة أشهر)( ) .
و(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ : أَنّ أُمّ حَكِيمِ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، وَفَاخِتَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ – وَكَانَتْ فَاخِتَةُ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ وَأُمّ حَكِيمٍ عِنْدَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ أَسْلَمَتَا .
فَأَمّا أُمّ حَكِيمٍ فَاسْتَأْمَنَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِعِكْرِمَةَ فَأَمّنَهُ فَلَحِقَتْ بِهِ بِالْيَمَنِ فَجَاءَتْ بِهِ.
فَلَمّا أَسْلَمَ عِكْرِمَةُ وَصَفْوَانُ أَقَرّهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عِنْدَهُمَا عَلَى النّكَاحِ الْأَوّلِ)( ).
مهلة النبي (ص) لصفوان
ومع فتح مكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه لم يرد سؤال صفوان بالمهلة لشهرين بل ضاعفها له ، وفيه وجوه :
الأول : إنه من مصاديق قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
الثاني : بيان نفاذ الإيمان إلى القلوب بالمعجزة العقلية والحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : توالي المعجزات الفعلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : صيرورة رؤوس الكفر الكفر غرباء عن الناس ، ونفرة الناس منهم ، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
السادس : مضاعفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المهلة لصفوان بن أمية من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
السابع : موضوعية المعجزات في هداية الناس مجتمعين ومتفرقين إلى الإسلام بما فيهم رؤساء الكفر والضلالة وأهل العناد والحسد .
وقد أهدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم دم أربعة أفراد عند دخوله مكة لشدة إيذائهم له وللمسلمين ، ولم يكن صفوان بن أمية منهم مع أنه جهّز الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعث من يقتله في المدينة ، وسعى وانفق الأموال في قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وعند دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة خاف صفوان على نفسه فخرج من مكة قاصداً ميناء الشعيبة ليركب البحر إلى اليمن ومعه غلام له اسمه يسار فأستأمن له عمير بن وهب فلم يرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم شفاعته ، فقبلها وطلب عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاه إياها .
وعندما حضر صفوان بين يدي رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكرهه على الإسلام خاصة وأنه مشرك ظالم ، مما يدل على فتح مكة سلماً ، فطلب صفوان مهلة شهرين ليتفكر هل يدخل الإسلام ، فأعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعة أشهر وهو من مصاديق قوله تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ]( ) .
ثم دخل الإسلام بعد معركة حنين وحسن إسلامه ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكنيه ولا يناديه باسمه .
و(عن عبد الله بن حارثة انه قال: لما قدم صفوان بن أمية بن خلف الجمحي قال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: على من نزلت يا أبا وهب؟ قال: نزلت على العباس بن عبد المطلب، قال: نزلت على أشد قريش لقريش حبا)( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لصفوان بن أمية : يا أبا أمية)( ).
وشهد صفوان بن أمية بن خلف الجمحي معركة اليرموك أميراً ، وملك قنطاراً من الذهب وروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ومات صفوان بن أمية بمكة سنة اثنتين وأربعين) ( ).
لبيان قانون دخول أعداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام بالحجة والمعجزة وآيات القرآن ، ويكون حسن اسلامهم شاهداً آخر على صدق نبوته من غير أن يستعمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السيف ضدهم أو مقابلتهم بالعنف والبطش .
دلالة رد النبي (ص) على صفوان
لقد استعار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من صفوان بن أمية عند الخروج من مكة إلى حنين سبعين درعاً حُطمية( ) وما يكفيها ويصاحبها من السلاح .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (جرت في صفوان بن أمية الجمحي ثلاث من السنن: استعار منه رسول الله صلى الله عليه وآله سبعين درعا حطمية .
فقال : أغصباً يا محمد .
قال : بل عارية مؤداة، فقال: يا رسول الله اقبل هجرتي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله : لا هجرة بعد الفتح.
وكان راقدا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وتحت رأسه رداؤه فخرج يبول فجاء وقد سرق رداؤه، فقال: من ذهب بردائي ؟ وخرج في طلبه فوجده في يد رجل فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: اقطعوا يده .
فقال : أتقطع يده من أجل ردائي يا رسول الله ، فأنا أهبه له، فقال صلى الله عليه وآله : ألا كان هذا قبل أن تأتيني به ، فقطعت يده)( ).
وفي قول أن الدروع ثمانون درعاً ، وقول أنها مائة درع وأكثر.
وتدل مخاطبة صفوان للنبي باسمه (اغصباً يا محمد) على أن صفوان لا يزال على الكفر ، ولم يغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجابه بما يبعث الطمأنينة في نفسه بأن الدروع وما معها مضمونة .
وهذا القول من الوحي ، وعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( )، وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوقوع المعركة والقتال مع هوازن وثقيف .
الثانية : تهيئة المسلمين للإستعداد للمعركة وعدم الركون لفتح مكة وإن كان نعمة عظيمة .
الثالثة : حاجة المسلمين إلى السلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( ).
الرابعة : بشارة النصر في معركة حنين ، وأن دروع صفوان لا تؤخذ أو تسلب ، وقد وهبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غنائم حنين.
الخامسة : قانون وثاقة الصحابة في العارية واستعمالهم للدروع ولوازمها ثم إعادتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : قانون جواز الإقتراض والإستعارة من الكافر عند الحاجة والضرورة.
السابعة : قانون الملازمة بين النبوة والوفاء بالعهد .
الثامنة : قانون حفظ المؤمنين الأمانة والوديعة والعارية ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]( ).
التاسعة : إقامة الحجة على هوازن وثقيف إذ حملوا النبي محمداً على استعارة الدروع من صفوان بن أمية .
العاشرة : استعارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السلاح من صفوان بن أمية من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( ).
الحادية عشرة : تحريض المسلمين على اقتراض واستعارة السلاح لدفع شرور الذين كفروا ، ولا تختص هذه الإعارة بالطلب من الذين كفروا بل تستحب فيها بين المسلمين ، وفيه الأجر والثواب للمعير والمستعير .
الثانية عشرة : تجلي قانون وهو استعارة المسلمين السلاح للدفاع عن النبوة والتنزيل وعن أنفسهم .
الثالثة عشرة : هذه الإستعارة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( ).
الرابعة عشرة : لحوق الإثم للذين كفروا لإضطرار النبي محمد والمؤمنين لإستعارة السلاح .
معجزة قصر بقاء النبي (ص) في مكة بعد الفتح
لقد تم فتح مكة في العاشر من شهر رمضان ، ليبدأ عصر جديد مشرق بنور الإيمان ، وسقوط نظام عبادة الأوثان ونصب الأصنام في الكعبة الشريفة ، وزوال سلطان رؤساء الكفر في مكة ودخولهم الإسلام .
والمتبادر بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الفتح عدة أشهر في مكة لتنظيم الشؤون السياسية والإجتماعية فيها ، وضبط الأمن وشوقاً إلى مكة وجوار البيت الحرام .
ولتفقه الناس في أحكام الشريعة ، والمنع من الإرتداد والصدود عن الإسلام .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عجل بالخروج من مكة بعد أن جعل عليها والياً أحد شباب قريش ومن مسلمة الفتح هو عتّاب بن أسيد ، وهو من بني أمية وعمره يومئذ عشرون سنة .
وأقام للناس الحج في تلك السنة وهي السنة الثامنة للهجرة ، وحج المشركون بالكيفية التي كانوا عليها ، مما يدل على بقاء الشرك في الجزيرة بعد فتح مكة وقبل أن ينزل قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
وروي أن عتّاب بن أسيد خطب فيما بعد (مسنداً ظهره إلى الكعبة يحلف: ما أصبت في الذي بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثوبين كسوتهما مولاي كيسان)( ).
لبيان النزاهة والورع والزهد أيام الإسلام الأولى .
خروج النبي (ص) من مكة
لما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخروج من مكة استعمل عليها عتّاب بن أسيد ، وهو شاب من بني أمية ومن مسلمة الفتح ، وجعل معه معاذ بن جبل ليعلم الناس القرآن وأحكام العبادات .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية عدم وجود أي اعتراض من بني هاشم أو شيوخ قريش على هذا التنصيب ، وقيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولاه على مكة بعد معركة حنين ، ورجوعه من الطائف ، والأول أصح .
وحج عتّاب بالمسلمين ، كما حج المشركون على ما كانوا عليه في الجاهلية ، لمجئ بعض وفود العرب وهم على شركهم.
وبعد أن صلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة في مكة خرج منها يوم السبت السادس من شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة ومعه اثنا عشر الفاً من المسلمين ، عشرة آلاف الذي جاءوا معه من المدينة وما حولها ، وألفان من أهل مكة ممن سبق دخوله الإسلام قبل الفتح ، ومن أسلم يوم الفتح .
ترى إلى أين كان النبي متوجهاً عند خروجه من مكة ، فيه وجوه :
الأول : إلى المدينة ، راجعاً اليها ، ومن حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم توزيع غنائم معركة حنين (والذي نفسي بيده لو سلكت الأنصار وادياً لسلكتُ وادي الأنصار ، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار ، الأنصار كرشي وعيبتي فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم .
ثم قال : يا معشر الأنصار أما ترضون أن ينقلب الناس بالإبل والشاة وتنقلبون برسول الله إلى بيوتكم)( ).
الثاني : توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف لفتحها .
الثالث : إرادة قتال هوازن وثقيف .
والمختار أن النبي محمداً كان ينوي الإنقلاب إلى المدينة ولكن أخبار زحف جيوش هوازن وثقيف جعلته يستعد لملاقاتهم ويخرج من مكة إكراماً للحرم المكي ولعدم إشاعة القتل فيه.
وأستعار السلاح من صفوان بن أمية ، خاصة وأنه أخبر في اليوم الثاني للفتح عن حرمة مكة وانه لم يؤذن له فيها إلا ساعة من نهار ، وان كان هذا القول لا يمنع من الدفاع فيها ضد المشركين .
دعاء النبي (ص) عند الخروج لفتح مكة
حالما نقضت قريش صلح الحديبية باعانة بني بكر بالرجال والسلاح على خزاعة الذين دخلوا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أمر النبي أصحابه بالاستعداد للخروج في كتائب ، ولم يخبر أكثر أصحابه بالجهة التي يتوجه اليها .
(وقال: اللهم أعم الأخبار عنهم، يعني قريشاً)( ).
لبيان أن الإحتراز وحده لا يكفي فلابد أن يقترن بالدعاء لذا حينما قام حاطب بن أبي بلتعة بكتابة رسالة إلى قريش بيد سارة مولاة أبي لهب يخبرهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، نزل جبرئيل فأخبره بما فعل حاطب ، ولا يعلم منافع هذا الإخبار وما فيه من سرعة تنجز فتح مكة ، وحقن الدماء إلا الله تعالى .
فبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام (والزبير وقال: خذا الكتاب منها، فلحقاها وقد كانت تنكبت الطريق فوجد الكتاب في شعرها ، وقيل في فرجها ، فأتيا به إلى رسول الله)( ).
وهل من موضوعية لدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه في كشف رسالة حاطب بن أبي بلتعة مع أنه بدري ، الجواب نعم ، لبيان قانون حاجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للدعاء ، وقانون نزول الوحي استجابة للدعاء .
ومن منافع دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم أعم عنهم الأخبار) منع كفار قريش من النفير وتحريض القبائل المحيطة بهم ، عند سماع قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة.
ومن الآيات في المقام صيرورة المشركين في حال ضعف ونقص في الرجال والأموال ، وهو لم يمنع النبي محمداً من الدعاء باخفاء الله عز وجل خبر زحف المسلمين إلى مكة ، وفيه إكرام للبيت الحرام ، وعدم إشاعة القتل في الحرم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) لإرادة حقن الدماء من الفريقين ، ومنع مظاهر السلب والنهب ، ولبيان مصداق لما أخترته من قول مستحدث ، وهو فتح مكة سلماً.
لقد دلت السنة النبوية القولية والفعلية على حرمة القتال في مكة أمس واليوم وغداً ، وقصر الرخصة التي كانت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي ساعة من نهار يوم الفتح .
تطهير بيوت مكة من الأصنام
ابتدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكسر الأصنام التي في الكعبة بيده الشريفة وهو يتلو قوله تعالى [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ).
ثم أمر مناديه بالنداء في البيت الحرام وفي أزقة مكة (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدَعْ فِي بَيْتِهِ صَنَمًا إلّا كَسَرَهُ)( ).
وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدم إكراه أهل مكة على كسر الأصنام ومحاسبة ومعاقبة الذي يمتنع عن كسرها أو يتأخر فيه.
ولم يقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من يؤمن بنبوتي فليكس الأصنام التي في بيته بل أخبرهم عن التضاد بين الإيمان بالله واليوم الآخر وبين إبقاء الأصنام في البيت وفيه شاهد على بقايا الإبراهيمية عند أهل مكة.
وقانون ملازمة التكاليف لبيعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن يبايعه يجب عليه التنزه عن عبادة الأوثان ، ومنع وجودها في بيته خصوصاً وأنها تحجب دخول الملائكة للبيت .
وعن الإمام علي عليه السلام (عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ وَلَا صُورَةٌ وَلَا كَلْبٌ)( ).
لقد جاءت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبعث الحنيفية ومبادئ التوحيد من جديد .
وتمتاز ببقاء أحكامها إلى يوم القيامة ، باقامة كل مسلم ومسلمة الصلاة اليومية التي هي برزخ دون الإفتتان بالأصنام والتماثيل وإن وجدت في أماكن مخصوصة من البلاد فلا يفتتن بها المسلم أبداً فهي ليست من الوثنية أو الجاهلية .
سرايا التطهير
بعد أن تم فتح مكة ، وبايع أهلها رجالاً ونساءً النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعث النبي محمد السرايا إلى أطراف مكة وقرى ومدن الجزيرة ليس للقتال ، ولكن لهدم الأصنام التي يعبدون ، وهو من الشواهد على أمور :
الأول : انتشار الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ، وليس بالسيف.
الثاني : هذه السرايا من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وفي هدم الأصنام مسائل :
الأولى : إنه رحمة عامة وخاصة .
الثانية : إنه من قانون إزاحة كابوس الجهالة عن الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : فيه دعوة للناس لقانون التدبر بآيات القرآن ، قال تعالى [أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا]( )، وهذه الدعوة شاهد على صدق نزوله من الله لأنها مناسبة للإحتجاج.
الرابعة : إنه مناسبة لالتماس الإعجاز اللغوي والعقلي والعلمي في القرآن .
الخامسة : إنه من قانون إزاحة الموانع عن عبادة الناس لله عز وجل.
السادسة : محو الغشاوة عن أبصار وبصائر الناس .
الثالث : انتفاء الفترة بين فتح مكة وبين بعث السرايا لهدم الأصنام ، لبيان صبغة الجهاد في سبيل الله للنبي محمد وأصحابه ، وهذا الجهاد عقائدي وذو صفة اجتماعية .
الرابع : هذه السرايا ذات نفع عام وإصلاح للناس ، وتخلص من الجهالة والوثنية .
الخامس : هذه السرايا لتطهير الجزيرة من عبادة الأصنام إلى يوم القيامة.
السادس : لقد هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة خائفاً ليس بينه وبين قتل المشركين له إلا بضع ساعات بعد أن اتفق رؤساء قريش على خطة محكمة لقتله في فراشه لولا نزول جبرئيل بالوحي بمكر قريش وعزمهم على قتله في صباح الليلة التي هاجر فيها.
وأمره أن لا ينام في فراشه تلك الليلة وأن ينام الإمام علي عليه السلام محله ، وأن يترك مكة من ليلته مهاجراً إلى المدينة وكان قد أعد (جِهَازَهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ)( ).
إذ هاجر الصحابة قبله ولم يبق إلا هو والإمام علي وأبو بكر .
وعندما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة وقف عند موضع قريب منها يسمى الحزورة (وَنَظَرَ إلَى الْبَيْتِ فَقَالَ : وَاَللّهِ إنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللّهِ إلَيّ وَإِنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللّهِ إلَى اللّهِ وَلَوْلَا أَنّ أَهْلَك أَخْرَجُونِي مِنْك مَا خَرَجْت)( ).
لبيان الأذى الشديد الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كفار قريش ، وكذا ما لاقاه المهاجرون الآخرون عند فراق مكة والبيت الحرام ، قال تعالى بخصوص مكة [لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ* وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ]( ).
ليعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد ثماني سنوات فاتحاً لمكة بألوية السلام المصاحبة للتوحيد والداعية إليه من غير أن يبطش أو ينتقم من الذين خططوا لقتله أو الفتية العشرة المشركين الذين حملوا السيوف وتوجهوا لقتله في فراشه ، وقد أعلن اثناء دخول مكة أنه يوم المرحمة .
وهل كسر الأصنام من هذه المرحمة أم هو أمر خارج عنها ، الجواب هو الأول .
وفي الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار وبشارة الكتب السماوية السابقة برسالته ، قال تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
وقوله تعالى [أَخْرَجَ شَطْأَهُ] أي فراخ السنبل ونماء الزرع كناية عن إزدياد عدد المسلمين وقوتهم بعد أن بدأت الدعوة للإسلام بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، [فَآزَرَهُ] فقواه واشتد من الموازرة ، [فَاسْتَغْلَظَ] صار إلى الغلظة والسمك ، [فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ] أي استطال على قصبه وسيقانه ، جمع ساق.
[يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ] نتاج عملهم ، ونجاح زراعتهم في كثافتها وغلظها وبهجتها ، وكأنها كائنات حية .
لبيان إزدياد عدد الصحابة يوماً بعد يوم وزيادة إيمانهم ، وهو مما يسعد الملائكة الذين يدعون لهم ، قال تعالى [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ]( ).
ماهية السرايا بعد فتح مكة
من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حالما فتح مكة ببعث السرايا لهدم الأصنام التي في الجزيرة ، وهذا البعث والتعجل فيه معجزة حسية له فلم يرج من القبائل خصوصاً المؤمنين منهم هدم أصنامها ، وربما يثير الأمر فتنة بين أفراد القبيلة ، فكانت ظاهرة الإمتناع عن هدمها عند بعض أفراد القبائل.
ولم ينشغل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فتح مكة وتنظيم عبادات الناس وإصلاح النظام الإجتماعي فيها عن وظائف النبوة خارج مكة ، بل إتخذ منها مقراً لتوجيه السرايا لهدم الأصنام في الجزيرة.
لقد دخل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح إلى مكة عشرة آلاف من الصحابة .
فوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدة سرايا لهدم الأصنام التي في المدن والقرى من مكة والطرقات التي حولها .
ليبدأ إشراقة جديدة بأن وفد الحاج يأتي إلى مكة من الجهات الأربعة وليس من أصنام في طريقهم .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المقام مسائل :
الأولى : قانون أولوية كسر الأصنام التي في الجزيرة .
الثانية : تولي الصحابة كسر الأصنام ، وعدم الطلب من القبائل بكسر أصنامها .
الثالثة : التعجيل بكسر الأصنام ، قال تعالى [وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ]( ).
خبر قتل سبعين لا أصل له
ورد الخبر بخصوص القتل يوم فتح مكة الذي رواه الطبراني (حدثنا علي بن سعيد الرازي ثنا أبو حسان الزيادي ثنا شعيب بن صفوان عن عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس : عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم قال : إن الله عز و جل حرم هذا البلد يوم خلق السماوات والأرض وصاغه حين صاغ الشمس والقمر وما حياله من السماء حرام وإنه لا يحل لأحد قبلي وإنما حل لي ساعة من نهار ثم عاد كما كان .
فقيل له : هذا خالد بن الوليد يقتل فقال : قم يا فلان فأت خالد بن الوليد فقل له فليرفع يديه من القتل ، فأتاه الرجل فقال : إن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : اقتل من قدرت عليه فقتل سبعين إنسانا فأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له.
فأرسل إلى خالد فقال : ألم أنهك عن القتل .
فقال : جاءني فلان فأمرني أن أقتل من قدرت عليه فأرسل إليه ألم آمرك ؟ قال : أردت أمرا وأراد الله أمرا فكان امر الله فوق أمرك وما استطعت إلا الذي كان فسكت عنه نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فما رد عليه شيئا)( ).
وهذا الحديث ضعيف دلالة وتأريخياً ، وليس في الأخبار إشاعة القتل يوم فتح مكة وفي جهة واحدة من القتال قتل سبعون من المشركين ، كما أن تحريف الرسول الذي بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى خالد وذكره ضد ذات الأمر أمر بعيد ولا أصل له وقد ذكر ابن كثير هذا الخبر في السيرة النبوية( ).
لقد أوصى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه قبل دخول مكة بعدم القتال ، وفي خبر موسى بن عقبة ، وعروة بن الزبير (وَلَمَّا عَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم ثَنِيَّةَ كَدَاءٍ نَظَرَ إِلَى الْبَارِقَةِ عَلَى الْجَبَلِ مَعَ فَضَضِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ : مَا هَذَا وَقَدْ نَهَيْتُ عَنِ الْقِتَالِ .
فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ نَظُنُّ أَنَّ خَالِدًا قُوتِلَ وَبُدِئَ بِالْقِتَالِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ وَمَا كَانَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِيَعْصِيَكَ وَلاَ لِيُخَالِفَ أَمْرَكَ.
فَهَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنَ الثَّنِيَّةِ فَأَجَازَ عَلَى الْحَجُونِ وَانْدَفَعَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ حَتَّى وَقَفَ بِبَابِ الْكَعْبَةِ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ قَالَ فِيهَا.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ : لِمَ قَاتَلْتَ وَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنِ الْقِتَالِ .
فَقَالَ : هُمْ بَدَأُونَا بِالْقِتَالِ وَوَضَعُوا فِينَا السِّلاَحَ وَأَشْعَرُونَا بِالنَّبْلِ وَقَدْ كَفَفْتُ يَدِى مَا اسْتَطَعْتُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : قَضَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْر)( ).
ويدل هذا الحديث على إطلاق النهي عن القتال أي أنه لم يقيد عدم القتال بحال امتنع المشركون عن قتال المسلمين ، لبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الصبر على أذى المشركين واجتناب القتال ، وعلمه بأن فتح مكة يتم من غير حاجة إلى قتال والتقاء الصفين.
بلطف ووعد من الله ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]( ).
وعندما قال حامل لواء الأنصار سعد بن عبادة (اليوم يوم الملحمة) أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليه بأن يسلم اللواء (قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ سَعْدًا حِينَ وُجّهَ دَاخِلًا ، قَالَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمُ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ.
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ اسْمَعْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، مَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَدْرِكْهُ فَخُذْ الرّايَةَ مِنْهُ فَكُنْ أَنْتَ الّذِي تَدْخُلُ بِهَا)( ).
وأن يدخل الراية ادخالاً رقيقاً
وقد منح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهل مكة يوم الفتح عفواً عاماً باستثناء بضعة أنفس ، وهؤلاء أيضاً لم يقتلوا كلهم لنيلهم الشفاعة والعفو عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان مجموع القتلى يوم فتح مكة :
الأول : ثلاثة شهداء من المسلمين .
الثاني : سبعة قتلى من المشركين .
نعم ورد في وصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسعد بن عبادة حامل لواء الأنصار (أَنْ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَلاَ يُقَاتِلُوا أَحَدًا إِلاَّ مَنْ قَاتَلَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى سَرْحٍ وَالْحَارِثُ بْنُ نُقَيْدٍ وَابْنُ خَطَلٍ وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ وَأَمَرَ بِقَتْلِ قَيْنَتَيْنِ لاِبْنِ خَطَلٍ كَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
(وأخذ رسول الله مفتاح البيت من عثمان بن أبي طلحة وفتح الباب بيده وستره ثم دخل البيت فصلى فيه ركعتين ثم خرج فأخذ بعضادتي الباب، فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، أنجز وعده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده، فلله الحمد والملك لا شريك له .
ثم قال: ما تظنون وما أنتم قائلون قال سهيل: نظن خيراً ونقول خيراً، أخ كريم وابن عم كريم وقد ظفرت. قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف [لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ]( ).
ثم قال: ألا كل دم ومال ومأثرة في الجاهلية فإنه موضوع تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما.
ألا وأن مكة محرمة بحرمة الله لم تحل لأحد من قبلي ولا تحل لأحد من بعدي وإنما حلت لي ساعة ثم أغلقت، فهي محرمة إلى يوم القيامة.
لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، إلا أن في القتل شبه العمد الدية مغلظة والولد للفراش وللعاهر الحجر.
ثم قال: ألا لبئس جيران الذين كنتم فاذهبوا فأنتم الطلقاء)( ).
ماهية السرايا بعد فتح مكة
من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حالما فتح مكة ببعث السرايا لهدم الأصنام التي في الجزيرة ، وهذا البعث والتعجل فيه معجزة حسية له فلم يرج من القبائل خصوصاً المؤمنين منهم هدم أصنامها ، وربما يثير الأمر فتنة بين أفراد القبيلة ، فكانت ظاهرة الإمتناع عن هدمها عند بعض أفراد القبائل.
ولم ينشغل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فتح مكة وتنظيم عبادات الناس وإصلاح النظام الإجتماعي فيها عن وظائف النبوة خارج مكة ، بل اتخذ منها مقراً لتوجيه السرايا لهدم الأصنام في الجزيرة.
لقد دخل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح إلى مكة عشرة آلاف من الصحابة .
فوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدة سرايا لهدم الأصنام التي في المدن والقرى من مكة والطرقات التي حولها .
ليبدأ إشراقة جديدة بأن وفد الحاج يأتي إلى مكة من الجهات الأربعة وليس من أصنام في طريقهم .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المقام مسائل :
الأولى : أولوية كسر الأصنام التي في الجزيرة .
الثانية : تولي الصحابة كسر الأصنام ، وعدم الطلب من القبائل بكسر أصنامها .
الثالثة : التعجيل بكسر الأصنام ، قال تعالى [وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ]( ).
وفي أول أيام الفتح تولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه كسر الأصنام التي في البيت الحرام ، وصلى في داخل الكعبة الشريفة وخرج منها وأهل مكة مجتمعون ينتظرون ماذا يفعل بهم ثأراً لعمه والصحابة الذين قتلوا في غارات قريش على المدينة ، وللأذى الذي لاقاه وأهل البيت منهم ، ولكنه مسك بعضادتي البيت وبدأ بالتوحيد والشكر لله عز وجل على نعمة الفتح ، وأخبرهم بأنهم الطلقاء ولا شئ عليهم ثم جلس لأخذ البيعة من الناس رجالاً ونساء ، ثم شرع في توجيه السرايا حول مكة لهدم الأصنام .
لتكون هذه السرايا سفراء سلام وأمن فلا يتعرضون لأحد ، ولا يكرهون أهل القرى والرعاة على الإسلام إنما هم في وظيفة مخصوصة ، فكل سرية تخرج لهدم صنم معين ، معلوم المكان ، فاذا كان عنده أناس يقدسونه ويهدون له النذور ، يفاجأون بالخيل تهجم عليه وتكسره ثم تغادر المكان إلى مكة .
ومن الشواهد على صبغة السلم في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحقق أهداف الرسالة بازاحة موانع التوحيد من غير إشهار السيوف.
هدم الصنم مناة
الصنم مناة من أقدم أصنام العرب وهي صخرة كانت لهذيل وخزاعة على ساحل البحر بقديد بين مكة والمدينة وكان العرب يعظمونها ، واكثرهم تعظيماً لها الأوس والخزرج ، حتى أنهم إذا أدوا مناسك الحج وقفوا مع الناس في عرفة ومنى ، ولكنهم لا يحلقون رؤسهم ، فاذا نفروا لا يحلقون رؤوسهم ، إنما يأتون مناة ، ويحلقون رؤوسهم عندها ، ويقيمون عندها بعض الوقت مما يعني وجود سوق ومحل اجتماع وهدايا تهدى لها ، وذبائح تنحر عندها ، وقاموا بحفر الآبار عندها للإغتسال قبل دخول بيت الصنم .
وقال الشاعر :
إني حلفت يمين صدق برةً … بمناة عند محل آل الخزرج
ومع مجاورة الأوس والخزرج لقبائل من اليهود في المدينة فانهم لم يميلوا إلى ديانة اليهودية ، بل بقوا على حنيفية إبراهيم عليه السلام وحج البيت ولكنهم أدخلوا إليها مفاهيم الشرك والوثنية ، لبيان قانون الأصنام برزخ دون الإقرار بالتوحيد لذا أمر الله عز وجل النبي محمداً بمحاربة تقديس وعبادة الأوثان واستئصالها من الأرض.
وكانت العرب تتحرج من إعطاء ظهورها إلى مناة في المسير فتنحرف في طرق سيرها تعظيماً لها .
لذا قال الكميت بن زيد (60-126) هجرية في قصيدة له :
(وَقَدْ آلَتْ قَبَائِلُ لَا تُوَلّى … مَنَاةَ ظُهُورَهَا مُتَحَرّفِينَا)( ).
وعند خروج قريش من مكة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر توقفوا في الطريق عند مناة ونحروا الإبل عندها (قال ابن عقبة وزعموا ان اول من نحر لهم حين خرجوا من مكة أبو جهل بن هشام جزائر ثم نحر لهم صفوان بن أمية بعسفان تسع جزائر.
ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشر جزائر ومالوا من قديد إلى مناة من نحو البحر فظلوا فيها فأقاموا فيها يوما فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسع جزائر ثم اصبحوا بالجحفة فنحر لهم عتبة بن ربيعة عشر جزائر ثم اصبحوا بالابواء.
فنحر لهم مقيس بن عمرو الجمحى تسع جزائر ونحر لهم العباس بن عبدالمطلب عشر جزائر ونحر لهم الحارث بن عامر بن نوفل تسعا.
ونحر لهم أبو البختري( ) على ماء بدر عشر جزائر ونحر لهم مقيس الجمحى على ماء بدر تسعا ثم شغلتهم الحرب فأكلوا من أزوادهم.
وقال ابن عائذ كان مسيرهم واقامتهم حتى بلغوا الجحفة عشر ليال)( ).
وذكر ان عمرو بن لحُيَّ أبا خزاعة هو الذي احضر الأصنام من البلقاء بالشام حينما أخرج جرهم من مكة واستولى عليها ، وتولى حجابة البيت فيها.
ولما فتح الله عز وجل للمسلمين مكة ، بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مناة رجلاً لهدمها من ذات منطقة مناة ، وممن كانوا يعظمونها أيام الجاهلية هو وسعد بن زيد الأشهلي ليكون حجة على سدنتها ، ومن حولها ، لست بقين من شهر رمضان من السنة الثامنة ، وبعث معه سرية من عشرين فارساً .
وكانت مناة على ساحل البحر الأحمر مما يلي قديداً ، وحينما رأهم السادن ، سأل سعد بن زيد سؤالاً انكارياً : ما تريد ؟ قال : هدم مناة ، قال : انت وذاك ، على نحو التحدي ، وكأن مناة تحمي نفسها.
وعن الواقدي (فأقبل سعد يمشي إليها وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها فقال السادن مناة دونك بعض غضباتك ويضربها سعد فقتلها وأقبل إلى الصنم فهدمه)( ).
وفي قول أن السرية كانت بأمرة الإمام علي عليه السلام.
وقول آخر بعيد وهو أن السرية برئاسة أبي سفيان بن حرب ، وقد ورد (عن أبي اسحاق السبيعي أن ابا سفيان ابن حرب بعد فتح مكة كان جالسا فقال في نفسه لو جمعت لمحمد جمعا أنه ليحدث نفسه بذلك إذ ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بين كفيه وقال إذن يخزيك الله فرفع رأسه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم على رأسه فقال ما ايقنت انك نبي حتى الساعة إن كنت لأحدث نفسي بذلك .
وأخرج البيهقي وابن عساكر من طريق أبي السفر عن ابن عباس قال رأى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي والناس يطئون عقبه فقال بينه وبين نفسه لو عاودت هذا الرجل القتال فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضرب بيده في صدره فقال إذن يخزيك الله قال أتوب إلى الله واستغفر الله مما تفوهت به)( ).
وسموا أبناءهم : زيد مناة ، سعد مناة ، ثم عبد مناة ، وهي مؤنثة عند العرب وفي التنزيل [أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ]( ).
وكما تسمى اللات بالطاغية ، فكذا مناة تسمى بذات الاسم ، و(عن عروة بن الزبير قال : قلت لعائشة ما الصفا والمروة .
قالت : قول الله [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ …]( )، والله ما على أحد جناح ألاّ يطوف بين الصفا والمروة فقالت عائشة : ليس ما قلت يا ابن اختي إن هذه لو كانت على ما أولّها ما كان عليه جناح أن لا يطوف بهما ، ولكنّها إنّما نزلت في الأنصار وذلك وأنهم كانوا قبل أن يسلموا يصلون لمناة الطاغية وهي صنم من مكّة والمدينة بالمشلل)( ).
لبيان معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي مع عبادة الأوس والخزرج لبعض الأصنام فسرعان ما استجابوا لدعوة النبي محمد وبايعوه في العقبة وهم يعلمون أنه يحرم عبادة وتقديس الأصنام أو اللجوء أو التوسل إليها.
وكان العرب يرجون شفاعة هذه الأصنام ، ليدل بالدلالة التضمنية على إقرارهم باليوم الآخر .
هدم الصنم اللات
قال تعالى [أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( ).
لقد ذكر القرآن أسماء عدد من الأصنام ، وتقديس وعبادة العرب لها في توثيق سماوي لما كانوا عليه في الجاهلية وحاجتهم إلى الهداية إلى سبل الإيمان لتكون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق رحمة الله عز وجل لهم في الدنيا والآخرة.
إذ كانوا يظنون أن الأصنام ترزق وهي وسائط بينهم وبين الله ، وأنها شفيعة لهم .
و(عن عكرمة قال : قال النضر وهو من بني عبد الدار : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى ، فأنزل الله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ( ).
وكان صنم اللات في الطائف ، وهو صخرة مربعة وسدنتها من ثقيف ، وكانوا قد بنوا عليها بيتاً ، وصاروا يسمون الأسماء بها مثل : زيد اللات ، تيم اللات .
وقد تأخر هدم اللات عن فتح مكة لأنها في الطائف إذ أغلقت هوازن سور الطائف عليهم بعد معركة حنين إلى أن جاءوا في السنة التاسعة للهجرة إلى المدينة ودخلوا الإسلام .
واللات اسم رجل كان يلث السويق للحاج في الطريق ، فلما مات بنوا على قبره أستاراً ، وتقدسه ثقيف ومن حولهم.
وكانت تسمى الطاغية ، لذا سألت ثقيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدع لهم الطاغية ولا يهدمها ثلاث سنين ، وحجتهم أنهم لا يريدون ترويع قومهم بهدمها حتى ينتشر الإسلام في مجتمعاتهم ، ويدركوا بطلان عبادة الأصنام.
وأنهم يخشون السفهاء ونسائهم ، وصبيانهم عند المبادرة إلى هدمها أولئك سفهائهم والصبيان الذين سبق وأن قاموا برمي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحجارة عندما هاجر إلى الطائف حتى أدموا قدميه.
ولم يستجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لطلبهم بتأخير هدم اللات ثلاث سنوات ، ثم طلبوا سنتين فأبى ، ثم سنة واحدة ، بعدها أضروا يسألونه بالأشهر حتى سأل شهراً واحداً فأبى عليهم ، وسألوه أن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم وأن يعفيهم من الصلاة لأنهم أبو الإنحناء فيها.
وعن (ابن عبّاس : قدم وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال.
قال : ما هن .
فقالوا : لا ننحني في الصلاة ولا نكسر أصناماً بأيدينا (وتمتعنا باللات) سنة.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم ، وأما الطاعة للات فإني غير ممتعكم بها)( ).
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ناساً من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم ، فيقول لهم أهل اللات والعزى : ما أغنى عنكم قول لا إله إلا الله وأنتم معنا في النار .
فيغضب الله لهم فيخرجهم فيلقيهم في نهر الحياة ، فيبرؤون من حرقهم كما يبرأ القمر من خسوفه ، فيدخلون الجنة ويسمون فيها الجهنميين)( ).
سرية هدم اللات
ولما امتنع وفد ثقيف عن هدم اللات بأيديهم ، بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معهم المغيرة بن شعبة وهو من ثقيف أيضاً ومعه أبو سفيان وأمرهما بهدم اللات .
وأراد المغيرة أن يقدّم أبا سفيان ولكنه أبى عليه ، وأقام في ماله بذي الهدم أي ما وراء وادي القرى ، ودخل المغيرة على اللات و(علاها يضربها بالمعول، وقام قومه بني معتب دونه خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة بن مسعود.
وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها ويقلن :
لنبكين دفاع أسلمها … الرضاع لم يحسنوا المصاع.
قال ابن إسحاق : ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس : واها لك ، آها لك ، فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها أرسل إلى أبي سفيان.
فقال له : إن رسول الله قد أمرنا أن نقضي عن عروة بن مسعود وأخيه الأسود بن مسعود والد قارب بن الاسود دينهما من مال الطاغية ، فقضى ذلك عنهما)( ).
إذ كان عروة بن مسعود الثقفي قد أعلن إسلامه ورفع الأذان بين ظهراني ثقيف فرموه بسهم فقتلوه ، فلما أراد وفد ثقيف القدوم على النبي محمد سبقهم ابنه أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود لإجتنابهما الإجتماع على شئ مع ثقيف.
وسأل أبو مليح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضاء دين أبيه فاجابه إلى ذلك وسأله قارب بن الأسود قضاء دين أبيه لأن عروة والأسود اخوان لأب وأم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الأسود مات مشركاً.
لبيان معرفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالناس وحالهم عند الموت (فَقَالَ قَارِبٌ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا رَسُولَ اللّهِ لَكِنْ تَصِلُ مُسْلِمًا ذَا قَرَابَةٍ يَعْنِي نَفْسَهُ إنّمَا الدّيْنُ عَلَيّ وَإِنّمَا أَنَا الّذِي أُطْلَبُ بِهِ .
فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا سُفْيَانَ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ عُرْوَةَ وَالْأَسْوَدِ مِنْ مَالِ الطّاغِيَةِ ، فَلَمّا جَمَعَ الْمُغِيرَةُ مَالَهَا قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَمَرَك أَنْ تَقْضِيَ عَنْ عُرْوَةَ وَالْأَسْوَدِ دَيْنَهُمَا ، فَقَضَى عَنْهُمَا)( ).
هدم سواع
ورد ذكر الصنم سواع في قصة نوح عليه السلام ، قال تعالى [وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا]( ).
إذ كان شخص من الصلحاء يسمى سواعاً ، وقيل كان من قوم نوح ، فلما مات حزن الناس لفراقه ، وصاروا يتحدثون في مآثره ، فصنعوا صورة له ، ومع تقادم السنين تغلغل إبليس بينهم ، وقال لهم إن آباءهم وأجدادهم كانوا يعبدون تلك الأصنام فانذرهم نوح عليه السلام ودعا عليهم فاهلكهم الله وغرق الصنم سواع والأصنام الأخرى ، وقيل أخرج ابليس الصنم سواع وعرّفه للناس.
وفي أيام الجاهلية قبل الإسلام كان عند قبيلة هذيل المضرية على بعد ثلاثة أميال من مكة صنم اسمه سواع .
وتداولته الأيدي حتى صار عند عمرو بن لحّي الخزاعي ثم منحه إلى الحارث بن تميم ، فعكف عليه قومه ، وبنوا له بنياناً كالمعبد ، وتولت سدانته قبيلة بني لحيان.
وعندما تم فتح مكة بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذات شهر رمضان من السنة الثامنة الذي دخل فيه مكة إلى سواع ليهدمه عمرو بن العاص لهدم الصنم سُواع عند قبيلة هذيل ، وكان على صورة امرأة .
ولما انتهى إليه وجد عنده السادن ، فسأل عمرو : ما تريد .
إذ أدرك أنه ومن معه من الرجال ليسوا زائرين ، أو مقدسين للصنم ، فقال عمرو (أَمَرَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ أَهْدِمَهُ .
فَقَالَ لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ قُلْت : لِمَ ؟ قَالَ تُمْنَعُ . قُلْتُ حَتّى الْآنَ أَنْتَ عَلَى الْبَاطِلِ وَيْحَك فَهَلْ يَسْمَعُ أَوْ يُبْصِرُ ؟ قَالَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَكَسَرْته وَأَمَرْتُ أَصْحَابِي فَهَدَمُوا بَيْتَ خِزَانَتِهِ فَلَمْ نَجِدْ فِيهِ شَيْئًا ثُمّ قُلْتُ لِلسّادِنِ كَيْفَ رَأَيْتَ ؟ قَالَ أَسْلَمْتُ لِلّهِ)( ).
لبيان أن هذيلاً لم يحتجوا على هدم سُواع وكذا أكثر قبائل العرب ، وخالفت ثقيف في سؤالها النبي إرجاء هدم اللات ، ولم يستجب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، وعدم الإستجابة هذه رحمة بهم ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
مع أن هدم سُواع ومناة ونحوها تم في السنة الثامنة ، أما هدم اللات فتم في السنة التاسعة ، والأولى أن تتعظ ثقيف من القبائل الأخرى ، وتتلقى إشراقة شمس الإسلام بالقبول والرضا.
بعثة خالد بن الوليد إلى العُزى
لقد أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة خالد بن الوليد ومعه ثلاثون فارساً من الصحابة لخمس بقيت من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة ليهدم العزى وكان بنخلة التي تبعد عن مكة (42) كم من جهة الشمال الشرقي ، وهو وادي السيل الكبير الذي يفصل بين مكة والطائف .
والعُزى تأنيث الأعز ، مثل الكبرى تأنيث الأكبر ، وقيل اشتق لها العرب اسم من أسماء الله العزيز [تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
وتسمى بعض العرب ومنهم قريش باسم عبد العزى ومع أن قريشاً مجاورون للبيت الحرام فانهم كانوا يعظمون العُزى ، ويزورونها ويهدون لها وجعلوا عندها خزانة لحفظ ما يهدي إليها ويذبحون عندها الأنعام زلفى ، وجعلوا لها حفرة ومنحراً ينحرون فيه هداياها يسمى الغبغب كما تعظمها كنانة ومضر .
ومن أسباب نزول قوله تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( )، أن سادن العُزى قبل الفتح بسنوات أفلح بن النضر الشيباني من بني سليم اكتأب لما حضرته الوفاة.
فدخل عليه أبو لهب فرأه حزيناً فسأله عن سبب حزنه لاحتمال أن عليه ديناً فقال.
(أخاف أن تضيع العزى من بعدي قال أبو لهب فلا تحزن فأنا أقوم عليها بعدك فجعل كل من لقي قال إن تظهر العزى كنت قد اتخذت يدا عندها بقيامي عليها وإن يظهر محمد على العزى ولا أراه يظهر فابن أخي فأنزل الله عز و جل [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ) ويقال إنه قال هذا في اللات)( ).
لبيان أن سدنة الأصنام كانوا يستظهرون هدمها من بدايات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ نزلت سورة اللهب قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، ولموت أبي جهل في السنة الثانية للهجرة بعد معركة بدر .
واسم أبي لهب عبد العُزى إذ رماه الله بمرض العَدَسة وهي (قَرْحَةٌ كَانَتْ الْعَرَبُ تَتَشَاءَمُ بِهَا ، وَيَرَوْنَ أَنّهَا تُعْدِي أَشَدّ الْعَدْوَى ، فَلَمّا رُمِيَ بِهَا أَبُو لَهَبٍ تَبَاعَدَ عَنْهُ بَنُوهُ فَبَقِيَ ثَلَاثًا لَا تُقْرَبُ جِنَازَتُهُ وَلَا يُدْفَنُ فَلَمّا خَافُوا السّبّةَ دَفَعُوهُ بِعُودِ فِي حُفْرَتِهِ ثُمّ قَذَفُوهُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ بِعِيدِ حَتّى وَارَوْهُ.
وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ لَمْ يَحْفِرُوا لَهُ وَلَكِنْ أُسْنِدَ إلَى حَائِطٍ وَقُذِفَتْ عَلَيْهِ الْحِجَارَةُ مِنْ خَلْفِ الْحَائِطِ وَوُرِيَ)( ).
(وكان سدنتها وحجابها من بني شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم)( ).
والعزى أحدث من اللات ، وبني لها بيت وقيل كانوا يسمعون منها الصوت.
ولما انتهى إليها خالد هدمها ، فرجع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال له هدمت ، قال : نعم يا رسول الله ، فسأله النبي هل رأيت شيئاً ما عند هدمها ، قال لا ، قال : فانك لم تهدمها ، فارجع إليها فأهدمها.
(فَرَجَعَ خَالِدٌ وَهُوَ مُتَغَيّظٌ فَلَمّا انْتَهَى إلَيْهَا جَرّدَ سَيْفَهُ فَخَرَجَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةُ الرّأْسِ فَجَعَلَ السّادِنُ يَصِيحُ بِهَا. قَالَ: خَالِدٌ وَأَخَذَنِي اقْشِعْرَارٌ فِي ظَهْرِي، فَجَعَلَ يَصِيحُ :
أَيَا عُزّ شُدّي شَدّةً لَا تُكَذّبِي … عَلَى خَالِد أَلْقِي الْقِنَاعَ وَشَمّرِي
أَيَا عُزّ إنْ لَمْ تَقْتُلِي الْمَرْءَ خَالِدًا … فَبُوئِي بِذَنْبٍ عاجل أو تنصري
قَالَ: وَأَقْبَلَ خَالِدٌ بِالسّيْفِ إلَيْهَا وَهُوَ يَقُولُ :
يَا عُزّ كُفْرَانَك لَا سُبْحَانَك … إنّي وَجَدْت اللّهَ قَدْ أَهَانَك
قَالَ : فَضَرَبَهَا بِالسّيْفِ فَجَزّلَهَا بِاثْنَيْنِ ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ : نَعَمْ تِلْكَ الْعُزّى وَقَدْ يَئِسَتْ أَنْ تُعْبَدَ بِبِلَادِكُمْ أَبَدًا)( ).
وهذا الإخبار النبوي من علم الغيب فلا تدّب عبادة الأوثان في الجزيرة أبداً ، وبعد أن كان البيت الحرام وعاء مكانياً لنصب ثلاثمائة وستين صنماً صار البيت برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرزاً وواقية من عبادة الأوثان لأهل الجزيرة وعامة المسلمين والناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ثم استعرض خالد ما كان عليه أبوه من الجهالة ، والإسراف في تبذير المال عند الصنم العُزى إذ قال (أَيْ رَسُولَ اللّهِ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَكْرَمَنَا وَأَنْقَذَنَا مِنْ الْهَلَكَةِ إنّي كُنْت أَرَى أَبِي يَأْتِي إلَى الْعُزّى بِحِتْرِهِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ فَيَذْبَحُهَا لِلْعُزّى، وَيُقِيمُ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمّ يَنْصَرِفُ إلَيْنَا مَسْرُورًا، فَنَظَرْت إلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ أَبِي، وَذَلِكَ الرّأْيُ الّذِي كَانَ يُعَاشُ فِي فَضْلِهِ كَيْفَ خُدِعَ حَتّى صَارَ يَذْبَحُ لِحَجَرٍ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَضُرّ وَلَا يَنْفَعُ.
فَقَالَ : رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّ هَذَا الْأَمْرَ إلَى اللّهِ فَمَنْ يَسّرَهُ لِلْهُدَى تَيَسّرَ وَمَنْ يَسّرَهُ لِلضّلَالَةِ كَانَ فِيهَا)( ).
سرية الإمام علي (ع) لهدم الفُلس
الفُلس –بضم الفاء وسكون اللام-.
صنم قبيلة طي عند جبل آجا وسلما وهما قمتا جبلين توأمين شمال غربي مدينة حائل على مسافة 60كم منها.
وقيل سبب التسمية قبل الإسلام أن آجا وسلمى رجل وامرأة أرادا الزواج ، وهما من قبيلتين مختلفتين فامتنع أهل سلمى عن الزواج فهربا وقتل آجا على جبل ، وسلمى على الجبل الآخر منهما .
وفي شهر ربيع الآخر من السنة التاسعة للهجرة بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام في (150) من الأنصار على مائة بعير وخمسين فرساً لهدم الفُلس صنم قبيلة طي.
وعقد لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لواء أبيض وراية سوداءِ ولما وصلوا إلى جبل آجا وسلمى أغاروا مع الفجر على آل حاتم ، وتمكنوا من هدم الفُلس ، واستولوا على الخزائن التي فيه ، وهرب عدي بن حاتم الطائي الى الشام ساعتئذ.
(ووجد في خزانة الفلس ثلاثة أسياف: رسوب والمخذم – كان الحارث بن أبي شمر قلده اياهما – وسيف يقال له اليماني وثلاثة أدرع.
واستعمل علي عليه السلام على السبي أبا قتادة واستعمل على الماشية والرقة عبد الله بن عتيك.
فلما نزلوا ركك اقتسموا الغنائم وعزلوا للنبي صلى الله عليه وسلم صفيا رسوبا والمخذم، ثم صار له بعد السيف الآخر، وعزل الخمس، وعزل آل حاتم فلم يقسمهم حتى قدم بهم المدينة)( ).
وقد أكرم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سفانة بنت حاتم الطائي وأرسلها خلف أخيها عدي الذي ما زالت تكلمه عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى جاء المدينة ودخل الإسلام.
وقدم وفد قبيلة طي في ذات السنة التاسعة وهي التي تسمى عام الوفود برئاسة زيد الخيل ، وعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم الإسلام فأسلموا وبدل النبي اسم زيد الخيل إذ سمّاه (زيد الخير).
(وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ : مَا ذُكِرَ لِي رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ بِفَضْلٍ ثُمّ جَاءَنِي إلّا رَأَيْتُهُ دُونَ مَا يُقَالُ فِيهِ إلّا زَيْدَ الْخَيْلِ : فَإِنّهُ لَمْ يَبْلُغْ كُلّ مَا فِيهِ ثُمّ سَمّاهُ زَيْدٌ الْخَيْرُ وَقَطَعَ لَهُ فَيْدًا وَأَرَضِينَ مَعَهُ وَكَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَاجِعًا إلَى قَوْمِهِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ يُنْجَ زَيْدٌ مِنْ حُمّى الْمَدِينَةِ فَإِنّهُ قَالَ وَقَدْ سَمّاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِاسْمٍ غَيْرِ الْحُمّى وَغَيْرِ أُمّ مَلْدَمَ فَلَمْ يُثْبِتْهُ . فَلَمّا انْتَهَى إلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ نَجْدٍ يُقَالُ لَهُ فَرْدَةُ أَصَابَتْهُ الْحُمّى بِهَا فَمَاتَ فَلَمّا أَحَسّ بِالْمَوْتِ أَنْشَدَ
أَمُرْتَحِلٌ قَوْمِي الْمَشَارِقَ غُدْوَةً … وَأُتْرَكُ فِي بَيْتٍ بِفَرْدَةَ مُنْجِدٍ
أَلّا رُبّ يَوْمٍ لَوْ مَرِضْت لَعَادَنِي … عَوَائِدُ مَنْ لَمْ يُبْرَ مِنْهُنّ يَجْهَد
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ : وَقِيلَ مَاتَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ وَلَهُ ابْنَانِ مُكْنِفُ وَحُرَيْثٌ أَسْلَمَا وَصَحِبَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَشَهِدَا قِتَالَ أَهْلِ الرّدّةِ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ)( ).
مسائل في هدم الأصنام
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سرايا هدم الأصنام وجوه :
الأولى : عدم وقوع قتال ، أو وجود أمة تمنع من الهدم ، مع شدة تعلق العرب بهذه الأصنام ، لبيان منافع البعثة النبوية في إصلاح النفوس بالإسلام.
الثانية : اليسر والسهولة في الوصول إلى الأصنام وهدمها .
الثالثة : قانون هدم الأصنام تعجيل في دخول الناس الإسلام وإزالة حاجب دونه.
الرابعة : قانون هدم الأصنام تثبيت للإيمان في نفوس المسلمين .
الخامسة : فتح مكة باب لإزاحة الأصنام من البيت الحرام والجزيرة.
السادسة : تحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المشاق وقطع المسافات لهدم الأصنام مما يدل على قانون الحاجة العامة لهدم الأصنام.
السابعة : هدم الأصنام من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا]( ).
الثامنة : قانون الهداية العامة والرضا النوعي من الناس لهدم الأصنام من اللطف الإلهي والتخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق ما (روي عن أسماء بنت يزيد : أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يُكثر في دعائه : اللهم (يا) مقلَّب القلوب ثبَّت قلبي على دينك.
فقلتُ : يا رسول اللّه وإنَّ القلوب لتقلب .
قال : نعم ما خلق اللّه من بني آدمَّ من بشر إلاّ وقلبه بين اصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ فإن شاء أزاغه ، وإن شاء أقامه على الحق)( ).
التاسعة : عناية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلزوم هدم الأصنام وتوجيهه السرايا لأطراف الجزيرة لهدمها من غير إبطاء ، قال تعالى [أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ]( )، وهدمها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المترشح عن الإيمان .
عدد الصحابة في فتح مكة وحنين
لقد كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دخوله مكة عشرة آلاف وهم حسب قبائلهم وانتمائهم :
الأول : أربعة آلاف من الأنصار .
الثاني : ألف من المهاجرين .
الثالث : ألف من جهينة .
الرابع : ألف من مزينة .
الخامس : ألف من أسلم .
السادس : ألف من غفار .
السابع : ألف من أشجع .
ويلاحظ في كل معركة في الإسلام الرجحان من جهة الكثرة للأنصار ، وعن عروة والزهري وابن عقبة أن عدد المسلمين الذين زحفوا لفتح مكة اثنا عشر ألفاً وخرج معهم إلى حنين ألفان فيكون المجموع أربعة عشر ألفاً.
والأصح هو الأول أي خرج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة لفتح مكة عشرة آلاف من الصحابة .
عيون الطريق
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج من المدينة يسّير بعض الأفراد عيوناً وسرية استطلاع أمامه يكتشفون الطريق ، ويأتونه بالأخبار فهل فعل ذات الأمر عند خروجه من مكة.
المختار نعم ، ولكن المشركين كمنوا في شعب الوادي قبل وصول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بقليل .
وعن (سهل بن الحنظلية، أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى كان العشية، فحضرت صلاة الظهر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله إنى انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم وبنعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: ” تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله .
ثم قال : من يحرسنا الليلة ، قال أنس بن أبى مرثد: أنا يا رسول الله.
قال: فاركب.
فركب فرسا له وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرن من قبلك الليلة .
فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال : هل أحسستم فارسكم.
قالوا: يا رسول الله ما أحسسناه.
فثوب بالصلاة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلى ويلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته قال : أبشروا فقد جاءكم فارسكم.
فجعل ينظر إلى خلال الشجر في الشعب، وإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنى انطلقت حتى إذا كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما، فنظرت فلم أر أحدا.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل نزلت الليلة.
قال : لا، إلا مصليا أو قاضى حاجة.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد أوجبت، فلا عليك ألا تعمل بعدها)( ).
لبيان فضل وأجر الحراسة في سبيل الله ، وأنها تكفي عن النوافل ، فلا على الحارس أن يأتي بأعمال غير الحراسة إلا في الفريضة لأن الحراسة الشخصية دفع الضرر النوعي العام ، وهي من مصاديق قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل نزلت الليلة ؟ أي نزلت من فوق الفرس وتركت الرصد والتوثب ، فقال أنس لا إلا للصلاة وبقاء حاجة ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أوجبت في ثناء عليه وأنه أدى واجب الحراسة على أتم وجه ، وفيه غنى عن النوافل لأن الحراسة من الواجب على نحو قضين عين ، ومعنى أطنبوا السير أي اشتدوا وأستمروا في السير .
لقد قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم أنس بن أبي مرثد الذي تطوع لحراسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كيفية الحراسة ، والجهة التي يخشى منها قدوم العدو ، والشعب هو الطريق الذي يكون بين جبلين ، ولا يأتي العدو من جهة ارتباع الجبل ، إنما يأتي من الشعاب ، فعلى الحارس أن يكون في أعلى الشعب ، ويكون كالمرصد والرابية.
قانون خطط المشركين مكر ودهاء
لقد بذل المشركون الوسع في منع الرسالة الخاتمة من الإنتشار ، وانفقوا الأموال من أجل إعراض الناس عن النبوة ، وصدوهم عن الإستماع لآيات القرآن بوسائل متعددة ، وفرضوا الحصار على بني هاشم ، وبعد الهجرة جهزوا الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ونجحوا في جعل جيوشهم في كل معركة في بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين ، أكثر من ضعف عدد المسلمين في الميدان ، أما بالنسبة للخيل والعدة والأسلحة فالفارق أكثر من الضعف فانزل الله الملائكة وأخزى المشركين .
وفي معركة حنين كانت خطط مالك بن عوف محكمة لولا فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
لقد زحف مالك بن عوف ومعه عشرون ألفاً من هوازن وثقيف وقيس وجشم ، وقبائل أخرى ، ونزل بأوطاس ، وتبعد أوطاس عن حنين عدة أميال ، وأوطاس من ديار هوازن ، وقال (أحمد ابن فارس اللغوي في أماليه أنشدني أبي رحمه الله
يا دار أقوت بأوطاس وغيرها …. من بعد مأهولها الأمطار والمور
كم ذا لأهلك من دهر ومن …. حجج وأين حل الدمى والكنس الحور
ردي الجواب على حران مكتئب…… سهاده مطلق والنوم مأسور
فلم تبين لنا الأطلال من خبر …… وقد تجلي العمايات الأخابير)( ).
وفي أوطاس جرى الحوار بين دريد بن الصمة , وقد أحضرت هوازن معها دريد بن الصمة وهو شيخ كبير ، وكان معروفاً بالشجاعة وشدة البأس ، وضعوه في هودج لضعف جسمه عندما أخرجوه معهم للتيمن به وبرأيه ، فقال (ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء فقالوا: ساق مالك مع الناس أموالهم وعيالهم.
فقال: أين مالك فقيل له: هو ذا.
فسأله دريد: لم فعلت ذلك فقال مالك: ليكون مع الناس أهلهم وأموالهم فيقاتلوا عنهم.
فقال دريد : راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيء إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك.
ثم قال: ما فعل كعب وكلاب قالوا: لم يشهدها منهم أحد. قال: غاب الجد والحد ، لو كان يوم علاء ورفعة لم يغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم كما فعلت كعب وكلاب.
فمن شهدها من بني عامر قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر. قال: ذانك الجذعان: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، لا ينفعان ولا يضران .
يا مالك إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً ، ارفعهم إلى ممتنع ديارهم، وعلياء قومهم، ثم ألق الصباة على متون الخيل ، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك.
فأبى مالك ذلك، وخالفت هوازن دريداً واتبعوا مالك بن عوف، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده، ولم يغب عني:
يا ليتني فيها جذع … أخب فيها وأضع)( ) .
ثم زحفت هوازن وثقيف ومن معهم إلى حنين ، وأخذوا مواضعهم في جنبتي الوادي بانتظار مرور الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عند عماية الصبح أي لم ينكشف الصبح بعد .
إذ سبق مالك بن عوف إلى وادي حنين وملأوا مضايق ومنعطفات الوادي وصاروا في حال تأهب وأستعداد ، والظاهر أنهم بعثوا العيون وعلموا بخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة يوم السادس من شهر شوال ، وهذا الخروج ليس خافياً لكثرة الوافدين على مكة والخارجين منها ، وإمكان دسّ العيون بينهم ، ولكثرة عدد المسلمين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبطئ حركتهم .
عيون هوازن
لقد كان مالك بن عوف رئيس هوازن وثقيف يبعث العيون ، ويتابع أخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وعند فتح مكة دسّ الرجال لمعرفة حال أهل مكة فجاءوا له بالأخبار التي هي إنذار وتحذير له بأن أهل مكة دخلوا الإسلام ، ولا سبيل إلى تحريضهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو محاولة إغرائهم للضرر به ، والإنقلاب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عند ابتداء هوازن وثقيف بالهجوم ، أو تمرد الذين بقوا في مكة على الذي استعمله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليها وهو عتّاب بن أسيد الذي يبلغ من العمر إنذاك عشرين سنة ، وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وزجر لهوازن وثقيف من قتاله .
ولعله من أسباب قيام مالك بن عوف باخراج جميع النساء والصبيان والأنعام لهوازن معهم إلى ميدان المعركة ، لقد خشي امتناع أصحابه عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفتور طائفة منهم عن القتال بعد توالي معجزات النبي محمد ، ومنها فتح مكة سلماً من غير قتال يعتد به.
لقد ظن المشركون اشتداد القتال عند فتح مكة بما يضعف معه أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويقل عددهم ، ويدّب إليهم الوهن ويكتفون بفتح مكة ، وينشغلون بالطواف والإقامة فيها ، ويرجون مهلة طويلة من القتال ، فخاب ظن مالك بن عوف وأصحابه بفتح مكة سلماً ، ولم يقتل من المسلمين إلا ثلاثة ، ولم يقتل من المشركين إلا سبعة .
وهو من الشواهد على خروج ألفين من أهل مكة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى حنين لأن كثرة القتل والسلب والنهب تبعث النفرة في النفوس طوعاً وقهراً ليكون الآثار المترتبة على فتح مكة سلماً من معجزات ومختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهو من عمومات صفة المبين في قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، الآية التي نزلت في صلح الحديبية .
فعجلت هوازن بالهجوم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار.
لقد كانت العيون تأتي لمالك بن عوف عن حال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة وقد استتب الأمن في بدايات الفتح ، ثم جاءته العيون بخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة في الجادة العامة التي يمرون فيها على وادي وشعاب حنين.
فبعث مالك بن عوف (عُيُونًا مِنْ رِجَالِهِ ، فَأَتَوْهُ وَقَدْ تَفَرّقَتْ أَوْصَالُهُمْ فَقَالَ وَيْلَكُمْ مَا شَأْنُكُمْ ؟ فَقَالُوا رَأَيْنَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ فَوَاَللّهِ مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى)( ).
وفيه انذار له ولرؤساء الجيش الذين معه ، ولكنه لم يتعظ ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن عيون أعدائه حجة عليهم ، وسبب لبعث الخوف والحزن في نفوسهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
(وأخرج ابن سعد من طريق الواقدي عن شيوخه قالوا لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين بعث مالك بن عوف ثلاثة نفر يأتونه بخبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا إليه وقد تقطعت أوصالهم من الرعب وذلك ليلا قبل القتال)( ).
ولم يتعظ مالك بن عوف بل وبخ هؤلاء النفر وقال لهم (أف لكم، أنتم أجبن أهل العسكر، فحبسهم عنده فرقا أن يشيع ذلك الرعب في العسكر، وقال : دلوني على رجل شجاع، فاجمعوا له على رجل، فخرج ثم رجع إليه قد أصابه كنحو ما أصاب من قبله منهم .
فقال : ما رأيت ؟ قال : رأيت رجالا بيضا على خيل بلق، ما يطاق النظر إليهم، فو الله ما تماسكت أن أصابني ما ترى، فلم يثن ذلك مالكا عن وجهه ، وروى محمد بن عمر نحوه عن شيوخه)( ).
لبيان تكرار إنذار الكافرين من القتال ، وهو من رحمة الله بهم وبالصحابة ، مع علم الله عز وجل بأن الكافرين سيهزمون ، وتخيب ظنون الذين من خلفهم.
تخطيط هوازن لمعركة حنين
لقد أدركت قبائل العرب سعي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخبار آيات القرآن لتنجز إسلام أهل جزيرة العرب وأن الأصنام التي فيها لابد وأن تتهاوى ، والعادات القبلية تنبذ ، والمشيخة تضعف ، ليكون حكم السماء هو السائد ومن خصائصه التساوي بين الأفراد .
وقد بلغ عامة العرب كيف أن المستضعفين والعبيد صحابة مقربون من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فغاظهم الأمر ، لبيان قانون معارك الإسلام بسبب إرادة الزعماء الكفار الحفاظ على سلطانهم ونفوذهم وعدم خضوعم لقانون وأحكام الحلال والحرام .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) مسارعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إغاثة الملهوف ونجدة المستضعف ، وإجارة المستجير .
و(عن سعد بن أبي وقاص قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة نفر فقال المشركون اطرد هؤلاء عنك فلا يخبرون علينا قال وكنت أنا وعبد الله بن مسعود يعني وبلال ورجل من هذيل ورجلين نسيت اسمهما فأنزل الله تعالى [وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ]( ) الآية ، قال وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ( ).
وعندما تم صلح الحديبية بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومشركي قريش ، وفتحت نافذة للمسلمين للسياحة والضرب في الأرض بصفة الإيمان ، وإقامة الصلاة في الجادة العامة بين المدن ، وتلاوة القرآن في الأسواق والموسم ملأ قلوب هوازن وثقيف ونحوهم الحسد والغيظ ، خاصة وأنهم يكرهون قريشاً أيضاً وإن كان الكفر سوراً جامعاً لهم .
وبعد صلح الحديبية بسنة أخذت هوازن تحرض وتحشد لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكانت هوازن وقبل سنة من فتح مكة يطوفون على القبائل ويعدون العدة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ويبدو أن مالك بن عوف يعتمد كثيراً على العيون وتتبع الأخبار فكان يعلم عدد المسلمين وعدتهم ، وكيف أن هوازن وثقيف أكثر عدداً وعدة وهو من أسباب استعارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السلاح من صفوان بن أمية ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ).
أن الصحابة كانوا يوجسون خيفة من اجتماع الكفار من العرب عليهم ، وأنهم أكثر رجالاً وعدة فحينما صار عددهم اثني عشر رجلاً عند الخروج من مكة شعر بعضهم بنوع من الأمان في جانب كثرتهم ، وانضمام مكة وأهلها لهم ، إذ لا يختص قوله تعالى [كَثْرَتُكُمْ] بالعدد بل يشمل مدن الإسلام والرجال والعدة والمؤن والسلاح بما فيه الدروع.
الهجوم المباغت
لما انقضى من الليل ثلثاه ، وحل وقت السحر قام مالك بن عوف بتعبأة جيوشه في وادي حنين .
ترى لماذا لم يوزعهم على مواضعهم من أول الليل ، الجواب من جهات :
الأولى : كان مالك بن عوف يرصد ويتابع حركة وسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثانية : خشية نوم الجنود في مواضعهم .
الثالثة : إصابة الجنود بالسأم بالإنتظار والمرابطة في مواضعهم من أول الليل .
الرابعة : النفرة من قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فأراد مالك بن عوف توثب أصحابه واستعدادهم للهجوم لقرب وصول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى وادي حنين ، ولكن هذا لم يمنع إمتلاء نفوسهم بالخوف والحزن لعمومات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ) .
وهذه الآية إنما نزلت في معركة أحد إلا أنها بشارة قانون متحد في كل معارك الإسلام ، وفي حال الحرب والسلم ، وهو بعث الرعب في قلوب المشركين.
وعن محمد بن عمر قال (لما كان ثلثا الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه فعبأهم في وادي حنين، وهو واد أجوف حطوط ذو شعاب ومضايق، وفرق الناس فيها، وأوعز إليهم أن يحملوا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه حملة واحدة)( ).
وبينما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسير هو وأصحابه في وادي حنين هجمت عليهم هوازن وثقيف من الشعاب والمضائق المتعددة هجمة رجل واحد من الأمام والميسرة والميمنة ، ولابد أن يربك هذا الهجوم الجيش ، فلا يدرون أي جهة يقاتلون إلى جانب رميهم بالسهام والنبال ، فحتى الذي في القلب تناله السهام ، وينسحب إليه الرجال من الأطراف .
وعن جابربن عبد الله (قَالَ لَمّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ إنّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا ، قَالَ وَفِي عَمَايَةِ الصّبْحِ وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ سَبَقُونَا إلَى الْوَادِي ، فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَحْنَائِهِ وَمَضَايِقِهِ وَقَدْ أَجْمَعُوا وَتَهَيّئُوا وَأَعَدّوا ، فَوَاَللّهِ مَا رَاعَنَا وَنَحْنُ مُنْحَطّونَ إلّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَدّوا عَلَيْنَا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَانْشَمَرَ النّاسُ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ.
وَانْحَازَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ ثُمّ قَالَ أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ هَلُمّوا إلَيّ أَنَا رَسُولُ اللّهِ أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ .
قَالَ فَلَا شَيْءَ حَمَلَتْ الْإِبِلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَانْطَلَقَ النّاسُ إلّا أَنّهُ قَدْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ الّذِينَ ثَبَتُوا وَفِيمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَابْنُهُ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبّاسِ وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : اسْمُ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ جَعْفَرٌ وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ الْمُغِيرَةُ وَبَعْضُ النّاسِ يَعُدّ فِيهِمْ قُثَمَ بْنَ الْعَبّاسِ ، وَلَا يَعُدّ ابْنَ أَبِي سُفْيَانَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرُ بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ لَهُ طَوِيلٍ أَمَامَ هَوَازِنَ ، وَهَوَازِنُ خَلْفَهُ إذَا أَدْرَكَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ وَإِذَا فَاتَهُ النّاسُ رَفَعَ رُمْحَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ فَأَتْبَعُوهُ)( ).
ولم يقع هذا الهجوم في ديار هوازن وثقيف وبلدتهم الطائف مما يدل على أنهم هم الغزاة المعتدون في معركة حنين ، ولا يصح تسمية وتعداد هذه المعركة بأنها من غزوات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
معجزة دفع المباغتة
اتصفت معركة حنين بخصائص من بين معارك الإسلام الأولى ، منها :
الأولى : كثرة عدد المسلمين في الميدان .
و(وعن الربيع بن أنس أن رجلاً قال : لن نغلب من قلة فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ( )، وذكرت أقوال متعددة فيمن قال هذا القول .
الثانية : مجئ معركة حنين بعد فتح مكة ، والمتبادر أن فتح مكة نهاية لمعارك الفتح ، ومناسبة وحجة وعلة لدخول الناس الإسلام ، ولكن تفاجئ المسلمون بجيش هوازن وثقيف ومجموع أفراده أكثر من مجموع جيوش المشركين في معركة بدر ، وأحد ، والخندق مجتمعة .
الثالثة : مباغتة جيش المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهذا لايعني أن المسلمين لم يحترزوا ، إذ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أصحابه بالتعبئة ووضع الألوية والرايات في أهلها. وركب بغلته ولبس درعين والمغفر والبيضة)( ).
الرابعة : انهزام أكثر المسلمين من الميدان في بداية المعركة .
قال أنس (استقلبنا من هوازن شئ، لا والله ما رأيت مثله في ذلك الزمان قط، من كثرة السواد، قد ساقوا نساءهم وأبناءهم وأموالهم ثم صفوا صفوفا، فجعلوا النساء فوق الابل وراء صفوف الرجال .
ثم جاؤوا بالابل والبقر والغنم، فجعلوها وراء ذلك لئلا يفروا بزعمهم فلما رأينا ذلك السواد حسبناه رجالا كلهم .
فلما انحدرنا في الوادي، فبينا نحن في غبش الصبح إن شعرنا إلا بالكتائب قد خرجت علينا من مضيق الوادي وشعبه .
فحملوا حملة رجل واحد، فانكشفت أوائل الخيل – خيل بني سليم – موليه وتبعهم أهل مكة وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شئ وارتفع النقع فما منا أحد يبصر كفه)( ).
قال ابن أسحاق (وَفِيمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ ، وَابْنُهُ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبّاس ِ وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ . وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : اسْمُ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ جَعْفَرٌ وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ الْمُغِيرَةُ وَبَعْضُ النّاسِ يَعُدّ فِيهِمْ قُثَمَ بْنَ الْعَبّاسِ)( ).
مما يدل على قلة الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع اشتداد هجوم هوازن المفاجئ .
لبيان أن نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بمعجزة لقانون لو تعارضت المعجزة مع حسن التدبير والنظام فان الغلبة والرجحان للمعجزة فهي أمر خارق للعادة .
ويدل ابتداء هوازن وثقيف بالهجوم على كون حنين غزوة غزاها المشركون ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو من مصاديق قانون (لم يغز النبي (ص) أحدا).
المؤلفة قلوبهم
المختار أن النسبة المنطقية بين الطلقاء والمؤلفة قلوبهم عموم وخصوص مطلق ، فالطلقاء أعم .
والمؤلفة قلوبهم هم الذين نطقوا بالشهادتين من غير أن يدخل الإيمان قلوبهم ، ومن اللطف الإلهي ذكرهم في آية الصدقات كأحد الأصناف الثمانية الذين يعطون من الزكاة وأنهم يعطون منها يتألفون على الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
ومنهم من قسم المؤلفة قلوبهم إلى قسمين :
الأول : مسلمون يرجى ثباتهم في منازل الإيمان .
الثاني : كفار يرجى إسلامهم .
ومنهم من قسمهم إلى ثلاثة وأربعة أقسام .
ولم يذكر لفظ الطلقاء في القرآن ، ولكنه من السنة النبوية ، لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لرجالات قريش يوم فتح مكة (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَعَظّمَهَا بِالْآبَاءِ النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تُرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ، قَالُوا : خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ . قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ)( ).
وورد ذكر المؤلفة قلوبهم في القرآن في مصارف الزكاة بقوله تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
ومن [الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ] أيام نزول الآية أعلاه أبو سفيان ، وعيينة بن بدر ، والأقرع بن حابس ، ويعلى بن أمية .
و(عن يحيى بن أبي كثير : أن المؤلفة قلوبهم من بني أمية : أبو سفيان بن حرب ، ومن بني مخزوم : الحارث بن هشام ، وعبد الرحمن بن يربوع.
ومن بني جُمَح : صفوان بن أمية ، ومن بني عامر بن لؤي : سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى.
ومن بني أسد بن عبد العزى : حكيم بن حزام .
ومن بني هاشم : سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، ومن بني فزارة: عيينة بن حصن بن بدر .
ومن بني تميم : الأقرع بن حابس ، ومن بني نص ر: مالك بن عوف.
ومن بني سليم : العباس بن مرداس ، ومن ثقيف : العلاء بن حارثة.
أعطى النبي صلى الله عليه وسلم كل رجل منهم مئة ناقة، إلا عبد الرحمن بن يربوع، وحويطب بن عبد العزى، فإنه أعطى كلَّ رجل منهم خمسين)( ).
و(عن الزهري قال، قال صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما بَرِح يعطيني حتى إنه لأحبُّ الناس إليّ)( ).
وخرج صفوان وهو كافر إلى حنين مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان في المهلة التي أمهله بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي أربعة أشهر ابتداءً من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة .
الظعن في الميدان
خرج المشركون في كل من معركتي أحد والخندق بالظعن( ) مع الإختلاف في القصد من هذا الخروج أما في معركة أحد فجاءت قريش بالنساء ليضربن بالدفوف ، ويلقين الأهازيج ويبعثن الحماسة في نفوس الرجال .
وأما في معركة حنين فقد أرادوا القتال دونهن والصبيان خشية الوقوع في الأسر ، فسبي منهم ستة آلاف رأس من النساء والصبيان ، ولو بقوا في الطائف لم يصبهم شئ خاصة مع سورها الذي قامت ثقيف ببنائه من اللبن في الجاهلية ، للوقاية من غارات القبائل .
وفي معركة أحد (خرج أبو سفيان صخر بن حرب، وهو قائد الناس، ومعه زوجته هند بنت عتبة بن ربيعة.
وخرج عكرمة بن أبى جهل بزوجته ابنة عمه أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة.
وخرج عمه الحارث بن هشام بزوجته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة.
وخرج صفوان بن أمية ببرزة بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية، وخرج عمرو ابن العاص بربطة بنت منبه بن الحجاج، وهى أم ابنه عبدالله بن عمرو ، وذكر غيرهم ممن خرج بامرأته)( ).
وقد خرجت هوازن بجميع النساء والصبيان والأنعام ، ومن منافع وبركة قوله تعالى [لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ]( ) عدم دخول الخوف إلى قلوب الصحابة من كثرة جيش المشركين وعدتهم ، وأهازيج النسوة اللاتي معهم .
مادة الإفتراق بين معركة أحد وحنين
وفيها وجوه :
الأول : عدد قتلى المسلمين في معركة حنين أربعة ومع أن هوازن وثقيف هم الذين بدأوا معركة حنين فقد قتل منهم جمع كثير .
و(قتل من ثقيف وبني مالك سبعون رجلاً، فأما الأحلاف من ثقيف فلم يقتل منهم غير رجلين لأنهم انهزموا سريعاً. وقصد بعض المشركين الطائف ومعهم مالك بن عوف، واتبعت خيل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المشركين فقتلتهم)( ).
وقُتل دريد بن الصمة وعمره أكثر من مائة سنة .
الثاني : ليس من غنائم للمسلمين .
الثالث : كثرة الغنائم والسبايا في معركة حنين .
الرابع : انسحاب قريش من معركة أحد ، بينما انهزمت جيوش هوازن وثقيف من ميدان معركة حنين تاركين النساء والصبيان والأنعام .
الخامس : لقد جاءت قريش بعدد من النسوة معهم وعددهن نحو اثنتي عشرة ، يضربن الدفوف ويحرضنهم بالأشعار وطلب الثأر لقتلى معركة بدر.
السادس : وقعت معركة أحد على مشارف المدينة المنورة ، بينما وقعت معركة حنين قريباً من مكة وعند خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها بعد فتحها ، ويبعد موضع معركة حنين عن مكة سبعة وعشرين كيلو متراًً تقريباً من جهة عرفات .
السابع : في معركة أحد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمسين من أصحابه على جبل الرماة برئاسة عبد الله بن جبير الأنصاري لمنع مجئ خيول المشركين من الخلف واستعد المسلمون للمعركة .
أما في معركة حنين فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سائرين وباغتتهم جيوش المشركين دفعة واحدة .
الثامن : ليس في معركة أحد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الصحابة من المهاجرين والأنصار .
أما في معركة حنين فقد كان معهم ألفان من مسلمة الفتح ومنهم المؤلفة قلوبهم ، وكان الطلقاء هم الذين انهزموا في المعركة .
التاسع : كان النصر حليف المسلمين في أول معركة أحد ، بينما انهزمت طلائعهم في أول معركة حنين .
إذ (لقى أبو طلحة أم سليم ومعها خنجر، فقال أبو طلحة: ما هذا ؟ فقالت: إن دنا مني بعض المشركين أن أبعج في بطنه، فقال أبو طلحة لرسول الله : أما تسمع ما تقول أم سليم.
فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله أقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك، فقال : إن الله قد كفى وأحسن يا أم سليم)( ).
وفي مرسلة ابن إسحاق (أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم رأى أم سليم بنت ملحان، وكانت مع زوجها أبي طلحة، وهي حامل بعبد الله بن أبي طلحة، وقد خشيت أن يغر بها الجمل، فادنت راسه منها، وأدخلت يدها في خزامه مع الخطام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -: ” أم سليم .
قالت : نعم بابي أنت وأمي يا رسول الله، أقتل المنهزمين عنك كما تقتل الذين يقاتلونك، فانهم لذلك أهل ،فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أو يكفي الله يا أم سليم .
وعند محمد بن عمر : قد كفى الله تعالى عافية الله تعالى أوسع)( ).
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين (لولا ابن جثامة الأصغر لفضحت الخيل اليوم)( ).
وفي رواية : لولا الصعب بن جثامة لفضحت الخيل )( ).
(وقالت امرأة من خزاعة يوم حنين:
إن ماء حنين لنا فخلوه … إن تشربوا منه فلن تعلوه
هذا رسول الله لن يعلوه
وقالت امرأة من المسلمين :
غلبت خيل الله خيل اللات … والله أحق بالثبات)( ).
العاشر : الآيات القرآنية التي نزلت بخصوص معركة أحد أكثر من الآيات الخاصة بمعركة حنين ، وهو من إعجاز القرآن لإنتفاع المسلمين من آيات معركة أحد عند وقوع معركة حنين وغيرها ، ومن هذا الإنتفاع مبادرة الصحابة الذين فروا يوم حنين بالعودة بالحال إلى ميدان القتال حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أسباب هزيمة هوازن وثقيف ، وفشل خططهم.
وهل يمكن القول بأنه لولا اتعاظ واعتبار المسلمين من الفشل والفرار في معركة أحد لما انتصروا في معركة حنين ، الجواب لا .
لأن النصر في كل منهما بفضل ولطف من عند الله ، وأمره سبحانه بنزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل من معارك الإسلام الأولى ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الحادي عشر : ذكر وقائع معركة أحد أكثر من ذكر وقائع معركة حنين في القرآن.
الثاني عشر : ورد اسم (حنين) ولم يرد اسم (أحد) في القرآن .
الثالث عشر : إصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات في معركة أحد ، إذ شج في وجهه ، وسال الدم منه ، وكسرت رباعيته وهي السن بين الثنية والناب ، وكسرت أي ذهبت منها فلقة ولم تقلع من أصلها ، وجرحت وجنته ، وشفته السفلى من باطنها ، وجُحشت ركبتاه( )، وسقط في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق .
الرابع عشر : مشاركة الزهراء عليها السلام في تطبيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد.
وعن عمر بن السائب (أنه بلغه أن مالكا أبا أبي سعيد الخُدْري لمَّا جرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد مَصّ الجرح حتى أنقاه ولاح أبيض، فقيل له: مُجَّه. فقال: لا والله لا أمجه أبدا. ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظُرْ إلى هذا فاستشهد .
ولم يصب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجروح في معركة حنين.
الخامس عشر : في معركة أحد نادى ابن قمئة : قتلت محمداً ، ولم يحدث هذا النداء في معركة حنين .
السادس عشر : كان عدد جيش المشركين في معركة أحد أكثر من ثلاثة أضعاف عدد المسلمين فيها ، وفي معركة حنين أكثر من ضعف المسلمين.
السابع عشر : وقعت معركة أحد قبل صلح الحديبية ، وفتح مكة ، ووقعت معركة حنين بعد فتح مكة .
الثامن عشر : كل من الجيشين في معركة حنين أكثر منه في معركة أحد.
التاسع عشر : الشهداء في معركة أحد أكثر منهم في معركة حنين ، فقد سقط سبعون شهيداً في معركة أحد ، ونزل فيهم قوله تعالى [وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ]( ).
وسقط أربعة شهداء في معركة حنين ، وقلة عدد الشهداء فيها معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أن المسلمين لم يكونوا في مواضع دفاعية .
العشرون : لقد ذكرت في الجزء الثاني والتسعين من معالم الإيمان (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما وقف على عمه حمزة، ورأى ما صنعوا به من المثلة أراد أن يدعو عليهم فنزلت الآية [لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ]( ).
والآية أعم من الدعاء، كما أنها تختص بذم الكفار الذين زحفوا من مكة المكرمة للإجهاز على الإسلام والمسلمين وفيها وعد ووعيد، وتدل في مضامينها على إستجابة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه، وسؤاله النصر.
الواحد والعشرون : كان رجالات قريش هم قادة جيش المشركين في معركة أحد ، بينما كان أكثرهم إلى جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة حنين .
الثاني والعشرون : حضور صحابيات إلى معركة أحد للطبابة ، وسقي الماء لقربها من المدينة ، ومنهم فاطمة عليها السلام ، وعائشة زوج النبي ، وصفية بنت عبد المطلب عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقاتلت بعضهن دفاعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل أم عمارة نسيبة بنت كعب من بني النجار ، وهي وأم منيع ممن حضروا بيعة العقبة .
الثالث والعشرون : سرعة رجوع الصحابة الذين فروا في معركة حنين .
الرابع والعشرون : ابتداء معركة أحد بأن دنا الفريقان بعضهم من بعض وصاح طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار صاحب لواء المشركين من يبارز ؟
فبرز له الإمام علي عليه السلام فقتله ، وقُتل الآخرون الذين حملوا لواء المشركين من بعده وهم :
الأول : عثمان بن أبي طلحة ، قتله حمزة بن عبد المطلب.
الثاني : أبو سعيد بن أبي طلحة (رماه سعد بن أبى وقاص فأصاب حنجرته فقتله)( ).
الثالث : مسافع بن طلحة .
الرابع : الحارث بن طلحة .
الخامس : كلاب بن طلحة .
السادس : الجلاس بن طلحة .
السابع : أرطأة بن شرحبيل .
الثامن : شريح بن قارظ .
التاسع : صواب وهو غلام بني عبد الدار .
أما معركة حنين فقد ابتدأت بمباغتة جيوش المشركين للمسلمين.
الخامس والعشرون : انتصار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في كل من معركة أحد وحنين .
تحشيد هوازن الجيوش
لما بلغ هوازن وثقيف فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمكة بادروا إلى الطواف على القبائل لتحريضهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجمعوا عشرين ألفاً من الرجال وخرجوا من الطائف نحو مكة ولا يزال النبي محمد مقيماً فيها مما يدل على إرادتهم القتال والغزو ابتداءً.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث أحد أصحابه وهو عبد الله بن حدرد الأسلمي ليستطلع له أمر هوازن (وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم .
فانطلق ابن أبى حدرد فدخل فيهم حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه ثم أقبل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره الخبر)( ).
ولم يبق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة طويلاً إذ دخلها وأصحابه في العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة ، ولم يقم فيها شهراً إذ خرج في اليوم السادس من شهر شوال .
بعد أن استعد للقاء ومن هذا الإستعداد (أَنّ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ أَدْرَاعًا لَهُ وَسِلَاحًا فَأَرْسَلَ إلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ . فَقَالَ يأ أَبَا أُمَيّةَ أَعِرْنَا سِلَاحَك هَذَا نَلْقَ فِيهِ عَدُوّنَا غَدًا ، فَقَالَ صَفْوَانُ أَغَصْبًا يَا مُحَمّدُ .
قَالَ بَلْ عَارِيَةٌ وَمَضْمُونَةٌ حَتّى نُؤَدّيَهَا إلَيْك ، قَالَ لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ فَأَعْطَاهُ مِئَةَ دِرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنْ السّلَاحِ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُمْ حَمْلَهَا ، فَفَعَلَ)( ).
ويدل هذا الضمان النبوي على البشارة بتحقيق النصر في معركة حنين .
في أواخر القرن الرابع الميلادي قال الخبير العسكري الروماني الميلادي (فيجتيوس) : أن من أراد السلام فليستعد للحرب) وكأنه أخذه من الآية أعلاه من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( ).
معركة حنين
من إعجاز القرآن توثيقه السماوي للوقائع والأحداث قبل النبوة وأيام النبوة وإخباره عن المغيبات ، وقد ذكر الله عز وجل معركة حنين في القرآن بالاسم إذ قال تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ).
وتسمية هذه المعركة باليوم لتكون يوماً من أيام التأريخ ومن أيام العرب ، ولقاء السيوف بين الإيمان والكفر ، وهو من عمومات قوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ]( ).
وهو لا يتعارض مع نزول الآية أعلاه في واقعة بدر لوحدة الموضوع في تنقيح المناط وستأتي دراسة مقارنة في المقام.
لقد تفاجئ العرب بفتح مكة ، فمن شروط صلح الحديبية الهدنة عشر سنوات ، ابتداءً من شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، وإذا انتهت الهدنة فان شهر ذي القعدة وذي الحجة ومحرم من الأشهر الحرم .
ولكن هوازن وثقيف لم ترض بالهدنة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقريش وظنوا أنها مناسبة لتقوية الإسلام وبسط نفوذ عقيدة التوحيد وأحكام الحلال والحرام على الجزيرة العربية خاصة وأن الناس في الطائف وغيرها صاروا يدخلون الإسلام جماعات وفرادا ، ولا يعلم دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة معتمرين في السنة السابعة للهجرة ، وهي عمرة القضاء ودلالاتها بقهر رؤساء الشرك والضلالة .
فأخذ رؤساء ورجالات هوازن وثقيف يتدارسون بينهم كيف يوقفون المد الإسلامي الذي نفذ إلى بيوتهم ويهدم مشيختهم.
إذ لا يفرق الإسلام بين السيد والعبد في الحقوق والواجبات الشرعية ، ومنها وجوب الصلاة والصيام والزكاة ، وقد يظن العبد في الصفوف الأولى من الصلاة وسيده خلفه ، وكانت هوازن تكره السجود ، وما فيه من رفع العجيزة .
وعندما نقضت قريش بنود صلح الحديبية وأعانت حلفاءهم بني بكر على خزاعة حلفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتظاهرت عليهم بسبب ثأر قديم بينهم توجه وفد من خزاعة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة مستصرخين ومستغيثين وطالبين النجدة برئاسة عمرو بن سالم الخزاعي فدخلوا المدينة فوقفوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في المسجد بين ظهراني أصحابه ، فأنشد عمرو بن سالم (يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا … حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدَا … ثُمّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا … وَادْعُ عِبَادَ اللّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ قَدْ تَجَرّدَا … إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا … إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكّدَا … وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا … وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا
هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدًا … وَقَتَلُونَا رُكّعًا وَسُجّدَا)( ).
ويدل البيت الأخير أعلاه على هجوم بني بكر وإعانة قريش لهم على قوم المسلمين منقطعين إلى ذكر الله ، وليسوا فقط حلفاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْنُ سَالِمٍ . ثُمّ عَرَضَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَنَانٌ مِنْ السّمَاءِ فَقَالَ إنّ هَذِهِ السّحَابَةَ لَتَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ)( ).لبيان علم الزجر ببشارة من آية كونية .
من هم الغزاة في معركة حنين
قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ).
تكاد تجتمع كلمات المفسرين وعلماء السيرة بأن معركة حنين هي غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويذكرونها عند تعداد غزوات النبي .
والصحيح أن هوازن وثقيف هم الغزاة والمعتدون مع أن مقدمات ووقائع المعركة التي يذكرونها تدل على أن الغزاة هم هوازن وثقيف.
وأخرج ابن مردويه والطبراني عن (ابن عباس قال : لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة حنين أنزل عليه [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( ) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا علي بن أبي طالب ، يا فاطمة بنت محمد جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا( ).
لقد فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة في العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة بمعجزة من عند الله من غير قتال يعتد به بعد مضي ثلاث سنوات على تحشيد قريش جيشاً كبيراً من عشرة آلاف رجل حاصروا مدينة الرسول ، الذي اضطر لحفر خندق حولها بمشورة من سلمان الفارسي .
وقد سمّى الله عز وجل مكة بأنها أم القرى لقوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، فالمتبادر أن القبائل تدخل الإسلام تبعاً لأهل مكة ، ولتجلي الآيات ولكن هوازن وثقيف أوجسوا خيفة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوجه إليهم في مدينتهم الطائف والتي تبعد عن مكة نحو ثمانين كيلو متراً .
فسار رؤساؤهم بعضهم إلى بعض وعزموا على المسير لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم طافوا على القبائل يحرضونهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخرجت معهم لقتال النبي طوائف ممن لم يسلم.
(وقالوا: قد فرغ لنا فلا ناهية له دوننا، والرأي أن نغزوه، فحشدوا وبغوا وقالوا: والله إن محمدا لاقى قوما لا يحسنون القتال فاجمعوا أمركم، فسيروا في الناس وسيروا إليه قبل أن يسير إليكم .
فاجمعت هوازن أمرها، وجمعها مالك بن عوف بن سعد بن ربيعة النصري بالصاد المهملة – وأسلم بعد ذلك، وهو – يوم حنين – ابن ثلاثين سنة، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها ونصر وجشم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال، وهم قليل)( ).
ونما إلى مسامع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما عزمت عليه هوازن وثقيف من قتاله فارسل عبد الله بن أبي حدرد ليأتيه بخبرهم ، فدخل فيهم ورآى سعيهم في جمع الرجال ومناجاتهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعجلهم في الخروج.
فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخرجت هوازن في عشرين ألفاً من المقاتلين ، وأخرجوا معهم النساء والذراري والأموال والشاء والإبل ليقاتلوا دونها ، وكان معهم دريد بن الصمة وهو شيخ مقاتل شجاع وشاعر كثير الغزو والقتال والظفر ، ولكنه بعمر مائة سنة وقيل أكثر .
وسمع دريد رُغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير فسأل فأخبروه بأن مالك بن عوف وهو رئيس القوم وكان عمره ثلاثين سنة ساقهم ليقاتل الرجال دونهم ، فدعى مالكاً وسأله لمَ أتى بهم قال ليقاتل كل رجل دون أهله وماله ، فقال دريد : راعي ضأن والله .
أي ليس بقائد ، ثم أردف وهل يرد المنهزم شئ في حديث طويل ، ولكن مالكاً أصر على حضورهم ، ولم يعلم مالك بن عوف وأصحابه بموضوعية المعجزة والنصر الإلهي وحضور الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ففي معركة حنين نزل قوله تعالى [وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا]( ).
وكانت آثار الملائكة يوم حنين ظاهرة ومن أسباب هزيمة جيش المشركين الكثير الذي هجم بغتة هجوم رجل واحد وفرار مقدمة جيش المسلمين.
وكما في عمرة القضاء فان النبي محمداً لا يطيل الإقامة في مكة إذ يبادر بعد أيام للخروج منها والعودة إلى المدينة ، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد وهو شاب من مسلمة الفتح ، ومعه معاذ بن جبل لتعليم الناس القرآن والتفقه في الدين .
وسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم باصحابه وكان عددهم اثنى عشر ألف رجل منهم ألفان من مسلمي الفتح وفيهم [الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ]( ) مثل الأقرع بن حابس وأبي سفيان وسهيل بن عمرو .
المشركون هم الغزاة يوم حنين
تسمى معركة حنين باسمين :
الأول : غزوة حنين ، نسبة إلى موضع المعركة .
الثاني : غزوة هوازن لأن أكثر جيش المشركين من قبيلة هوازن.
وتدل كلمة غزوة على أنها غزوة قام بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا تعد في كتب التفسير والسيرة والتأريخ بأنها من غزوات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولكن تدل كل الأخبار والوقائع بأن المشركين هم الغزاة فيها من وجوه:
الأول : المشركون هم الذين اختاروا مكان وزمان المعركة .
الثاني : إعلان هوازن وثقيف النفير لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومشيهم بين القبائل ومن قبل فتح مكة .
الثالث : كثرة جيوش المشركين ، إذ كان عددهم أكثر من عشرين ألفاً ، وهو أكثر عدد من فريقي المسلمين والمشركين في معارك الإسلام ، ويليها معركة الخندق بزحف عشرة آلاف من المشركين من مكة وأطرافها نحو المدينة ومحاصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه واضطراره لحفر خندق حول المدينة.
الرابع : زحف جيوش المشركين نحو مكة ، وعزمهم على دخولها لو طالت إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيها ، وعدم رعايتهم للبيت الحرام .
قانون ثبات النبي في ميدان المعركة
لقد كانت خطة هوازن وثقيف محكمة ولكن [يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
إذ كان النبي وأصحابه يسيرون في وادي حنين الذي له مضايق وشعاب وكمنت هوازن وثقيف والقبائل التي معهم في شعابه ومضايقه فخرجوا في عماية الصبح أي بقية ظلمة الليل قبل أن يسفر الفجر ، فخرجت كتائبهم وكانوا رماة وحملوا حملة رجل واحد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فانهزمت مقدمة جيش المسلمين ، وتبعهم غيرهم .
فثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه وانزاح إلى اليمين وأخذ يدعو أصحابه ونادى :
أنا النبي لا كذب …. أنا ابن عبد المطلب ( ).
ونادى العباس بن عبد المطلب وكان رجلاً صيتياً صوته جهوري قال : يا معشر الأنصار يا أصحاب السَمُرة أي بيعة الحديبية يا أصحاب سورة البقرة فرجع الصحابة ومنهم من ترك بعيره ورجع راجلاً ليقاتل .
وفي حديث لجابر بن عبد الله بخصوص يوم حنين (وأشرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ركائبه فنظر إلى مُجتَلَد القوم، فقال: “الآن حمي الوَطيس.
قال : فوالله ما راجعه الناس إلا والأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ملقَون، فقتل الله منهم من قتل، وانهزم منهم من انهزم، وأفاء الله على رسوله أموالهم وأبناءهم)( ).
لبيان قانون سرعة زوال نعمة التقلب في البلاد التي كان عليها المشركون ، وهذا الزوال بأيديهم وإصرارهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ]( ).
فقد أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار فامتلأت عيونهم وأفواههم منه فانهزموا وهو مصداق قول الله تعالى [وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا]( )، ووقع رجال منهم بالأسر وتركوا النساء والصبيان والأموال خلفهم لتصبح غنائم .
ومنها أربعون ألف شاة وأربعة وعشرون ألف من الإبل .
ثم أعاد لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم السبي من النساء والصبيان وهم ستة آلاف .
معجزة تدارك الهزيمة
لقد اختلفت معركة حنين عن معارك الإسلام السابقة بأن انهزم المسلمون في بداية المعركة لمباغتة جيوش المشركين لهم بالهجوم من جميع شعب الوادي بعد أن كمنوا فيه ، والظاهر أن لهم عيوناً رصدوا خروج النبي وأصحابه من مكة وتابعوا المحطات التي وصلوا إليها .
ففي معركة بدر لم ينهزم المسلمون ، إذ حدثت المبارزة التي قال الله تعالى فيها [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ]( ).
فقتل الإمام علي عليه السلام وحمزة وعبيدة بن الحارث كلاً من عتبة بن ربيعة وأخاه شيبة وابنه الوليد بن عتبة .
ثم التحم الجيشان ، ونزل ألف من الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
وهل من موضوعية وتدخل من الملائكة في رمية التراب التي رماها النبي محمد على المشركين لتملأ مناخرهم وأفواههم ، أم أن هذا الرمي معجزة حسية مستقلة غير نزول ونصرة الملائكة.
المختار هو الثاني خاصة مع نسبة رمي التراب لله عز وجل قال تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
ويمكن تأسيس قانون وهو لو تردد الأمر بين المعجزة المتحدة أو المعجزة المتعددة ، فالصحيح هو الثاني إلا مع القرينة والأمارة الدالة على اتحاد المعجزة ، نعم في رواية أشار جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ قبضة من التراب .
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ الْحَصْبَاءِ فَاسْتَقْبَلَ قُرَيْشًا بِهَا ، ثُمّ قَالَ شَاهَتْ الْوُجُوهُ ، ثُمّ نَفَحَهُمْ بِهَا ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ شِدّوا .
فَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ فَقَتَلَ اللّهُ تَعَالَى مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ ، وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ .
فَلَمّا وَضَعَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ يَأْسِرُونَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعَرِيشِ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَائِمٌ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ الّذِي فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُتَوَشّحًا السّيْفَ فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَخَافُونَ عَلَيْهِ كَرّةَ الْعَدُوّ.
وَرَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – فِيمَا ذُكِرَ لِي – فِي وَجْهِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْكَرَاهِيَةَ لِمَا يَصْنَعُ النّاسُ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَللّهِ لَكَأَنّك يَا سَعْدُ تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ الْقَوْمُ ، قَالَ أَجَلْ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ كَانَتْ أَوّلَ وَقْعَةٍ أَوْقَعَهَا اللّهُ بِأَهْلِ الشّرْكِ . فَكَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ بِأَهْلِ الشّرْكِ أَحَبّ إلَيّ مِنْ اسْتِبْقَاءِ الرّجَالِ نَهَى النّبِيّ أَصْحَابَهُ عَنْ قَتْلِ نَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)( ).
أما في معركة أحد التي وقعت في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة فقد ابتدأت بنصر المسلمين بعد أن قتل الإمام علي عليه السلام وعدد من الصحابة حملة لواء المشركين من بني عبد الدار وعددهم ثمانية إلى جانب عبدهم صواب.
والتحم الجيشان وهمّ المشركون بالفرار مع أن عددهم أكثر من أربعة أضعاف عدد المسلمين في الميدان وتوجهت النسوة اللاتي معهم إلى الإبل للفرار .
فترك أغلب رماة المسلمين مواضعهم مع توصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بألا يتركوها على كل حال .
وبقي رئيسهم عبد الله بن جبير مع ثمانية منهم من أصل خمسين إذ قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
قال: فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن.
فقال أصحاب عبدالله بن جبير: الغنيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنظرون ؟ قال عبدالله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة)( ).
ذخائر آيات معركة حنين
من إعجاز القرآن توثيقه السماوي للوقائع والحوادث التي حدثت أيام النبوة لوجوه :
الأول : بيان تفضل الله على المسلمين والناس .
الثاني : ذكر معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالث : قانون نسبة نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة حنين إلى الله عز وجل كما في معركة بدر ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الرابع : التذكرة والموعظة فيما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الأذى الشديد من المشركين .
الخامس : قرب القتل من النبي محمد في ميدان المعارك ، واستقراء قانون حفظ الله عز وجل له إلى أن يبلغ تمام الرسالة .
السادس : منع نسيان وقائع واحداث النبوة .
السابع : موضوعية أسباب نزول الآيات في معرفة مضامينها ودلالتها.
الثامن : منع الإفتراء والزيادة والنقصان في وقائع أيام النبوة.
انتهاء معارك النبوة في ذات اليوم
أربعة معارك كل معركة تنتهي في ذات اليوم الذي ابتدأت به غيرت تأريخ البشرية إلى يوم القيامة ، مع أن القتلى في كل منهم معدودون.
وهذه المعارك هي بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين ، والتي حضرها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون وقائعها منفردة ومجتمعة معجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة منها وقعت في شهر شوال وواحدة في شهر رمضان ، والسبب هو تعجل الكفار لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل حلول الأشهر الحرم الثلاثة المتصلة .
فبعد شهر شوال يأتي شهر ذي القعدة وذي الحجة ومحرم.
وهذه الثلاثة السرد أشهر حرم يحرم فيها القتال ولمعان السيوف والنهب والسلب عند العرب فيختار المشركون قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيها ، فالمشركون هم الغزاة والمعتدون في كل منها .
وهو من الشواهد على قانون (لم يغز النبي محمد (ص) أحداً) وهو الذي صدرت بخصوصه تسعة وعشرون جزء من تفسيري للقرآن (معالم الإيمان في تفسير القرآن) آخرها هذا الجزء المبارك وتأتي أجزاء أخرى بخصوصه إن شاء الله .
وفق منهجية خاصة بلحاظ تسلسل سرايا وكتائب ومعارك الإسلام الدفاعية .
حلية التصور الفوتغرافي
في التصوير الفوتغرافي أقوال :
الأول : الجواز للضرورة والحاجة والهوية والجواز ورخصة القيادة ونحوها ، والتوثيق ، وتصوير الجريمة .
الثاني : حرمة تصوير الفساق ، والعرايا ، وما فيه إشاعة الفواحش.
الثالث : اختلف في تصوير الذكرى كحال الغلبة والسفر ولا يخلو من التشديد خاصة وأن التصوير الفوتغرافي صار جزءً من الواقع اليومي للفرد والجماعة عند أهل الملل كافة .
والمختار جواز وإباحة التصوير الفوتغرافي وهو واقع يومي عام باستثناء الوجه الثاني أعلاه لأصالة الإباحة ولأن النهي النبوي الوارد عن التصوير ، هو التماثيل والأصنام ، كما تأتي بدليل نقلي متعدد .
منه أخبرنا أبو منصور الحسين بن طلحة بن الحسين وأم البهاء فاطمة بنت محمد قالا أنا إبراهيم بن منصور أنا أبو بكر بن المقرئ أنا أبو يعلى الموصلي نا كامل هو ابن طلحة نا ليث نا أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عرض علي الأنبياء جميعا فإذا موسى عليه السلام ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى فإذا أقرب من رأيت شبها به عروة بن مسعود ورأيت إبراهيم عليه السلام فإذا أقرب من رأيته به شبهاً صاحبكم يعني نفسه ورأيت جبريل عليه السلام فأقرب من رأيته به شبها دحية)( ).
والتصوير الفوتغرافي والفيديو هذه الأيام جزء من الواقع اليومي للفرد والجماعة والأنظمة وكان جبرئيل أحياناً يتجسد بهيئة دحية الكلبي عند الهبوط بالوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مرويات وصفية ، وكان دحية بهي الطلعة ، وشجاعاً.
صورة النبي عند ملك الروم
قد وردت الأخبار برؤية الصحابة صورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند ملك الروم ، ومع تعدد هذه الأخبار وجهة الصدور وهي أربعة فقد رميت بضعف السند منها .
(عن أبي أمامة الباهلي، عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة -يعني غوطة دمشق -فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني، فدخلنا عليه، فإذا هو على سرير له، فأرسل إلينا برسوله نكلمه .
فقلنا: والله لا نكلم رسولا إنما بعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلمناه وإلا لم نكلم الرسول فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك، قال: فأذن لنا .
فقال: تكلموا فكلّمه هشام بن العاص، ودعاه إلى الإسلام، فإذا عليه ثيابُ سوادٍ فقال له هشام: وما هذه التي عليك؟
فقال: لبستها وحلفت ألا أنزعها حتى أخرجكم من الشام. قلنا: ومجلسك هذا، والله لنأخذنه منك، ولنأخذن ملك الملك الأعظم، إن شاء الله، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
قال : لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار، ويقومون بالليل، فكيف صومكم؟ فأخبرناه، فمُلئ وجهه سوادًا فقال: قوموا. وبعث معنا رسولا إلى الملك، فخرجنا، حتى إذا كنا قريبًا من المدينة، قال لنا الذي معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال.
قلنا : والله لا ندخل إلا عليها، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك. فدخلنا على رواحلنا متقلدين سيوفنا، حتى انتهينا إلى غرفة فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله، والله أكبر فالله يعلم لقد تَنَفَّضَت الغرفة حتى صارت كأنها عِذْق تصَفّقه الرياح .
فأرسل إلينا : ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم. وأرسل إلينا: أن ادخلوا فدخلنا عليه وهو على فراش له، وعنده بطارقته من الروم، وكل شيء في مجلسه أحمر، وما حوله حمرة، وعليه ثياب من الحمرة، فدنونا منه فضحك، فقال: ما كان عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم؟ وإذا عنده رجل فصيح بالعربية، كثير الكلام .
فقلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تُحيى بها لا تحل لنا أن نحييك بها. قال: كيف تحيتكم فيما بينكم .
قلنا : السلام عليك. قال: وكيف تحيون ملككم؟ قلنا: بها. قال: وكيف يرد عليكم؟ قلنا: بها.
قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله، والله أكبر فلما تكلمنا بها والله يعلم -لقد تَنَفَّضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها، قال: فهذه الكلمة التي قلتموها حيث تنفضت الغرفة، كلما قلتموها في بيوتكم تنفضت عليكم غرفكم؟ قلنا: لا ، ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك.
قال : لوددت أنكم كلما قلتم تَنَفَّضَ كل شيء عليكم. وإني خرجت من نصف ملكي.
قلنا : لم؟ قال: لأنه كان أيسر لشأنها، وأجدر ألا تكون من أمر النبوة، وأنها تكون من حيل الناس. ثم سألنا عما أراد فأخبرناه. ثم قال: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه، فقال: قوموا ، فقمنا. فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كَثير، فأقمنا ثلاثًا.
فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا، فأعدناه. ثم دعا بشيء كهيئة الرَّبْعَةِ العظيمة مذهبة، فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح بيتا وقفلا فاستخرج حريرة سوداء، فنشرها، فإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل ضخم العينين. عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله. قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا آدم، عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شعرًا.
ثم فتح بابًا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا له شعر كشعر القطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللحية، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا نوح عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض، حسن العينين، صَلْت الجبين، طويل الخد، أبيض اللحية كأنه يبتسم.
فقال: هل تعرفون هذا ، قلنا : لا. قال: هذا إبراهيم عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا -والله -رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتعرفون هذا .
قلنا : نعم، محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: وبكينا. قال: والله يعلم أنه قام قائما ثم جلس، وقال: والله إنه لهو؟ قلنا: نعم، إنه لهو، كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عَجَّلته لكم لأنظر ما عندكم.
ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء، فإذا فيها صورة أدماء سحماء وإذا رجل جعد قطط، غائر العينين، حديد النظر، عابس متراكب الأسنان ، مقلَّص الشفة كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا موسى عليه السلام. وإلى جانبه صورة تشبهه، إلا أنه مُدْهَان الرأس، عريض الجبين، في عينيه قبل( ) ، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا هارون بن عمران عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل آدم سَبْط رَبْعَة، كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا لوط عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أبيض مُشْرَب حُمرة، أقنى، خفيف العارضين، حسن الوجه فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال هذا إسحاق عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة تشبه إسحاق، إلا أنه على شفته خال، فقال : هل تعرفون هذا ، قلنا : لا، قال : هذا يعقوب عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة رجل أبيض، حسن الوجه، أقنى الأنف، حسن القامة، يعلو وجهه نور، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب إلى الحمرة، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا إسماعيل جد نبيكم عليهما السلام.
ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة كأنها آدم، عليه السلام، كأن وجهه الشمس، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا يوسف عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أحمر حَمْش( ) الساقين، أخفش العينين ضخم البطن، رَبْعة متقلد سيفا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا داود عليه السلام .
ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة رجل ضخم الأليتين، طويل الرجلين، راكب فرسًا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا سليمان بن داود، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة بيضاء، وإذا شابٌّ شديد سواد اللحية، كثير الشعر، حسن العينين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا عيسى ابن مريم عليه السلام.
قلنا: من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء، عليهم السلام، لأنا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله.
فقال: إن آدم، عليه السلام، سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، فكان في خزانة آدم، عليه السلام، عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال. ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وإني كنت عبدًا لأشركم ملكه، حتى أموت. ثم أجازنا فأحسن جائزتنا، وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر الصديق فحدثناه بما أرانا، وبما قال لنا، وما أجازنا .
قال : فبكى أبو بكر وقال: مسكين لو أراد الله به خيرًا لفعل. ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندهم)( ) والحديث ضعيف سنداً ففي رجاله ضعفاء .
وفي قصة التابوت ورد (علماء السير والأخبار أن الله تعالى أنزل على آدم عليه السلام تابوتاً فيه صور الأنبياء عليهم السلام وكان التابوت من خشب الشمشاد طوله ثلاثة أذرع في عرض ذراعين فكان عند آدم ثم صار إلى شيث ثم توارثه أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم عليه السلام ثم كان عند إسماعيل لأنه كان أكبر أولاده ثم صار إلى يعقوب ثم كان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى عليه السلام فكان يضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه ثم كان عنده إلى أن مات ثم تداوله أنبياء بني إسرائيل إلى وقت أشمويل وكان في التابوت ما ذكر الله تعالى وهو قوله [فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ]( ) واختلفوا في تلك السكينة ما هي فقال علي بن أبي طالب : هي ريح خجوج هفافة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان)( )( ).
وبالإسناد (عن عبادة بن الصّامت: بعثني أبو بكر الصدّيق في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل ملك الروم لندعوه إلى الإسلام، فخرجنا على رواحلنا حتّى قدمنا دمشق، فذكره بمعناه. وقد رواه بطوله: عليّ بن حرب الطّائيّ فقال: ثنا دلّهم بن يزيد، ثنا القاسم بن سويد، ثنا محمد بن أبي بكر الأنصاريّ، عن أيّوب بن موسى قال: كان عبادة بن الصّامت يحدّث، فذكر نحوه.
لتدل هذه الأحاديث على وجود صور الأنبياء بأمر سماوي من عند الله ، لتكون بشارة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين ، وأحرز الملوك هذه الصور دعوة عامة للإيمان ، وزاجراً عن محاربة الأنبياء ، وأماناً لصحابة واتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند السياحة في الأرض .
صورة النبي محمد (ص) تأريخياً وفقهاً
ليس من صورة متوارثة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم تكن العرب تميل إلى رسم صور الأشخاص وإن كانت هذه الصناعة موجودة في أمم أخرى ، نعم وردت الأخبارالمستفيضة في بيان صفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن الزهري عن أنس قال لم يكن أحدٌ أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم من الحسن بن علي وأخرج البخاري في الحسين نحو هذا أيضاً من حديث محمد بن سيرين قال : أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين (عليه السلام) فجعل في طست فجعل ينكت وقال في حسنه شيئاً ، فقال أنس كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان مخضوباً بالوسمة)( ).
وتعددت الأخبار في صفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان التابعون وتابعو التابعين تواقين لمعرفة صفاته عليه السلام.
وقد انتقل الإمام علي عليه السلام إلى الكوفة وجعلها دار حكمه ، وصار أهلها يسألونه في علوم التفسير والسنة النبوية والفقه والأصول والمجتمع وغيرها ، ومنه ورد عنه عليه السلام (أنهم قالوا : يا علي صف لنا نبينا صلى الله عليه واله كأننا نراه ، فإنا مشتاقون إليه.
فقال : كان نبي الله صلى الله عليه واله أبيض اللون ، مشرباً حمرة ، أدعج( ) العين ، سبط الشعر( ) ، كثف اللحية( ) ، ذا وفرة ( )، دقيق المسربة ، كأنما عنقه إبريق فضة ، يجري في تراقيه( ) الذهب ، له شعر من لبته( ) إلى سرته كقضيب خيط إلى السرة ، وليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، شثن الكفين( ) والقدمين، شثن الكعبين، إذا مشى كأنما يتقلع( ) من صخر ، إذا أقبل كأنما ينحدر من صبب.
إذا التفت التفت جميعا بأجمعه كله( ) ، ليس بالقصير المتردد ، ولا بالطويل المتمعط ، وكان في الوجه تدوير .
إذا كان في الناس غمرهم( )، كأنما عرقه في وجهه اللؤلؤ، عرفه أطيب من ريح المسك .
ليس بالعاجز ولا باللئيم، أكرم الناس عشرة ، وألينهم عريكة( )، وأجودهم كفا.
من خالطه بمعرفة أحبه ، ومن رآه بديهة هابه، عزه بين عينيه( )، لم أر قبله ولا بعده مثله ، صلى الله عليه وآله تسليماً)( ).
و(عن جابر قال : قلت لابي جعفر عليه السلام: صف لي نبي الله عليه السلام قال : كان نبي الله عليه السلام أبيض مشرب حمرة، أدعج العينين، مقرون الحاجبين ، شثن الاطراف كأن الذهب افرغ على براثنه عظيم مشاشة المنكبين .
إذا التفت يلتفت جميعا من شدة استرساله، سربته سائلة، من لبته إلى سرته كأنها وسط الفضة المصفاة و كأن عنقه إلى كاهله إبريق فضة، يكاد أنفه إذا شرب أن يرد الماء، وإذا مشى تكفأ كأنه ينزل في صبب، لم ير مثل نبي الله قبله ولا بعده صلى الله عليه وآله)( ).
وإجماع علماء الإسلام على تحريم تصوير شخصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو نحته مجسماً بتمثال وهو لا يكون مطابقاً للأصل ، فلا يعدو أن يكون كذباً .
وهل هو من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار .
الجواب لا ، لأن القدر المتيقن من الحديث أعلاه هو الكذب في الحديث ، ونسبة قول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يقله .
وعن (أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعداً من بين عيني جهنم .
قالوا : يا رسول الله وهل لجهنم من عين .
قال : نعم . أما سمعتم الله يقول [إذا رأتهم من مكان بعيد]( ) فهل تراهم إلا بعينين .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق خالد بن دريك عن رجل من الصحابة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من يقل عليَّ ما لم أقل أو ادعى إلى غير والديه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً . قيل : يا رسول الله وهل لها من عينين؟ قال : نعم .
أما سمعتم الله يقول { إذا رأتهم من مكان بعيد }( ) )( ) .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة.
(قال أبو رافع : جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ وأخذ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم رداءه فخرج فقال : قد أذنا لك يا رسول اللّه.
قال : أجل يا رسول اللّه ولكنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو)( ).
والمراد من الصورة في الحديث التمثال والصنم ، وفيها تشبيه لخلق الله عز وجل ، مع العجز عن الإتيان بمثله ، لذا تحرم تماثيل ذوات الأرواج وهي وسيلة للإفتتان والإنشغال بغير ذكر الله وقيل أنها وسيلة للشرك.
ولا يشمل النهي والحرمة الرسم والتصوير الفوتغرافي المتعارف في هذا الزمان خاصة وأنه حاجة ووثيقة في المعاملات والمراد من التصوير الوارد في الحديث هو التمثال والنحت والأصنام .
ولم يكن العرب أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعرفون رسم الصور والفوتغراف إنما كان النهي لإجتناب عبادة الأصنام التي كانت في الجزيرة العربية .
ومن أسباب صناعة الأصنام أنه إذا مات الرجل الصالح حزنوا عليه ، وبنوا له تمثالاً ليزوروه ، ويعظموه .
ومن الأقوام من يبني على قبر الصالح من قومهم مسجداً ليعبدوا الله فيه.
وفي قصة أصحاب الكهف ، قال تعالى [قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا]( ).
حرمة مؤاخذة غير الجاني
قال تعالى [وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( ).
تدل هذه الآية على موضوعية أحكام في الدنيا والآخرة خاصة بلحاظ سياق الآيات ففي سورة الأنعام [وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]( ).
إذ يدل ورود (ثم) في الآية أعلاه على أن موضوع الآية هو الحياة الدنيا ، وعدم مؤاخذة إنسان بجريرة وعمل غيره ، كما تشمل هذه الآيات عالم الآخرة ، قال تعالى [وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى]( )، وقال تعالى [كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ]( ).
وفي الآية ورد عن ابن عباس قال (كانوا قبل إبراهيم صلوات الله عليه يأخذون الرجل بذنب غيره ، ويأخذون الولي بالولي في القتل ، حتى أنّ الرجل يُقتل بأبيه وأخيه وابنه وعمه وخاله ، والزوج يُقتل بامرأته ، والسيد يُقتل بعبده ، حتى كان إبراهيم فنهاهم عن ذلك وبلّغهم عن الله [وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى])( ).
والوزر لغة الثقل والحمل ، ومنه تسمية الوزير أي الذي يحمل أثقال وتدبير الملك ، ويحرم حمل الغير كالأخ أو الأب مسؤولية الجاني فهو ظلم .
وفي يوم القيامة حيث العدل المطلق لا تحمل نفس وزر وإثم غيرها ، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ]( ).
فان قلت وقوله تعالى [وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ]( )، فهذه الآية في الذين يضلون غيرهم ، والذي يحرضون الآخر على الإنتقام والثأر من غير الجاني .
ويدل مجئ وازرة أي النفس المثقلة بالذنوب والخطايا ، وورد الإستثناء في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ]( ).
لبيان تنزه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الذنوب ، وهل يختص وضع الوز بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب لا ، فهذه الآية ترغيب للمسلمين بالدعاء بمحو الذنوب والتخلص من الهم بها والفزع من الحساب عليها في عالم البرزخ أو يوم القيامة ، وفي التنزيل [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
وفي المرسل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (سألت ربي مسألة ووددت أني لم أكن سألته ، فقلت : قد كانت قبلي الأنبياء منهم من سخرت له الريح ، ومنهم من كان يحيي الموتى.
فقال تعالى : يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويتك؟ ألم أجدك ضالاً فهديتك؟ ألم أجدك عائلاً فأغنيتك؟ ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أضع عنك وزرك؟ ألم أرفع لك ذكرك؟ قلت : بلى يا رب)( ).
وقد يقرأها أو يسمعها بعضهم بصيغة الخطاب عند اشباع الضمة في تزرُ.
ولا تزروا أنتم زرة وزر أخرى ، وهذا المعنى لا يستقيم .
نعم يمكن تقدير الآية بصيغة الخطاب للإتعاظ والإنذار والوعيد.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام لا يؤاخذ الناس بجريرة الظالم من الكفار وان كانوا أهل بيته وكان يوصي أصحابه باجتناب الإضرار بغير المعتدي ، وقد قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
لذا ترى عدد القتلى في كل معارك الإسلام قليلاً ، وفيه شاهد على قانون حقن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دماء الناس , وقانون الملازمة بين النبوة والعفو ، قال تعالى [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وكان أثر المعركة ينقطع بانتهائها فلا خطر ولا انتقام من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعد انتهاء المعركة .
فحينما قتل حمزة عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتتبع وقتل وحشي بن حرب الذي قتله والذي يقذف بالحربة قذف الحبشة نادراً ما يخطئ بها.
ولا الإنتقام من مولاه جبير بن مطعم الذي قال له (اُخْرُجْ مَعَ النّاسِ فَإِنْ أَنْتَ قَتَلْت حَمْزَةَ عَمّ مُحَمّدٍ بِعَمّي طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيّ ، فَأَنْتَ عَتِيقٌ)( ).
وفيه ترغيب لهم بالإسلام ، وقد تقدم في الجزء الرابع والستين بعد المائتين جدولاً بمجموع عدد القتلى في كل معارك في فترة النبوة.
قراءة قرآنية في التجري
التجري : لغة هو الجرأة وعدم الخشية أو الخوف في حال معرض معه للخوف ، وهو في اصطلاح علم الأصول فعل أو ترك باعتقاد أنه مخالف للمولى ، وعصيان لحكمه ، مع عدم المخالفة واقعاً.
كما لو أفطر يوم الثلاثين من شعبان بنية المعصية وظن أنه الأول من شهر رمضان ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، وهو لم ير الهلال ولم تثبت عنده الرؤية واتفق أن هذا اليوم هو إكمال لعدة شعبان فهذا من التجري ، أما لو كان ذات اليوم الأول من شهر رمضان فقد فعل معصية وفيه القضاء والكفار والإثم المضاعف للإفطار العمدي والمعصية.
أو شرب الخل وهو معتقد كونه خمراً محرماً فيتحقق التجري دون المعصية ، أو سرق من مال عمه ثم تبين أن عمه كان قد مات وأنه وارثه الوحيد .
والنسبة بين التجري والمعصية هي العموم والخصوص المطلق لأن المعصية هي الإقدام على مخالفة المولى فيما وافق الواقع .
وقد يطلق التجري على المعنى الأعم سواء صادف الواقع أو خالفه فيكون أعم من المعصية .
وهو فعل من أفعال القلب ومعناه العزم على المعصية ، والقصد إلى مخالفة المولى وفعل ما يعتقد أنه معصية.
قال تعالى [كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً]( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام ([قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ] ( )، قال: على نيته)( ).
وكذا عن الحسن البصري وقتادة( ).
كما ينطبق على الفعل الخارجي فهو من أفعال الجوارح ومعناه اتيان الفعل الذي يعتقد أنه مخالف لأمر المولى واختلف فيه على قولين :
الأول : قبح التجري ، لأنه من جهة خبث السرية وقبح النوايا ، ويسمى القبح الفاعلي.
الثاني : فهو فعله المترجل في الخارج ، ويسمى القبح الفعلي.
وفي استلزام أي منهما الحرمة الشرعية أقوال ، والمختار حرمة كل منهما.
ويقع الكلام في وجوه :
الأول : القبح العقلي .
الثاني : حرمة التجري شرعاً .
الثالث : صيرورة التجري سبباً للعقوبة ، وفيه أقوال ،
ونضيف لهذا الباب مبحثاً قرآنياً وهل من التجري القول على الله بغير علم ، الجواب نعم ، وإن صادف الواقع ، قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ]( ).
والجرأة على المعصية ومخالفة الأوامر والنواهي الإلهية من الكبائر وقيل أصل الكفر الجهل بالربوبية ، وأصل الكبائر الجرأة على مخالف أمر الله تعالى بارتكاب ما نهى الله عنه لإستحواذ النفس الغضبية أو الشهوية عليه.
وهل الإصرار على الصغيرة من التجري ، الجواب إن هذا الإصرار كبيرة ، وهذا الإصرار أشد من التجري لإصابته الواقع بالباطل ونذكر هنا مسألتين:
الأولى : مبحث التجري في القرآن.
الثانية : مبحث التجري في السنة النبوية .
ومبحث التجري هذا مستحدث لم يذكره المتقدمون ، ولم يرد في كتب الأصول للسنة ، وأن تكلموا عن الجرأة على الله في ارتكاب المعصية.
وعن الإمام الصادق عليه السلام ( عن رسول الله صلى الله عليه وآله: أربع من كن فيه لم يهلك على الله بعدهن إلا هالك: يهم العبد الحسنة فيعملها فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيته، وإن هو عملها كتب الله له عشرا .
ويهم بالسيئة أن يعملها فإن لم يعملها لم يكتب عليه شئ وإن هو عملها أجل سبع ساعات، وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال: لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها، فإن الله يقول: ” إن الحسنات يذهبن السيئات ” أو الاستغفار.
فإن هو قال : استغفر الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، العزيز الحكيم، الغفور الرحيم ذو الجلال والاكرام وأتوب إليه ” لم يكتب عليه شئ، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة ولا استغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات: اكتب على الشقي المحروم)( ).
وخاتمة الحديث مصداق للآية أعلاه ليأتي العفو والمغفرة للعبد من احدى جهتين :
الأولى : الإستغفار .
الثانية : فعل الحسنة من أول فريضة عبادية أو صدقة أو بِر واحسان ، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر .
والمبادرة إلى اتيان العمل الصالح بعد المعصية أو مطلقاً من مصاديق قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
ولو قال المكلف لازنين ، فهل هذا من التجري ، الجواب إنما هو معصية ، وما هي النسبة بين الإنقياد وحديث من بلغ ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ،
وهناك مسائل في علوم القرآن تتعلق بالمقام :
المسألة الأولى : هل قرب ودنو آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عنها من التجري بقوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( )، أم أن القدر المتيقن من الآية هو الأكل من الشجرة ، وأكثر المفسرون من ذكر الإختلاف في جنس الشجرة ، وهل هي التين أو العنب أو الحنطة .
و(عن ابن عباس قال : الشجرة التي نهى الله عنها آدم السنبلة . وفي لفظ البر)( ).
وعنه في رواية أخرى أنها : الكرم( ).
وفي رواية عن الإمام علي عليه السلام (هي شجرة الكافور)( )، وعن الإمام الرضا عليه السلام معنى أعم.
ومن معاني الا تقربا : في المقام أي لا تقرباها بأكل ، لأن الإباحة فيه وقعت( ).
والمختار حمل اللفظ القرآني على ظاهره إلا مع القرينة الصارفة إلى المؤول ، إنما نهى الله عز وجل آدم وحواء من الإقتراب من ذات الشجرة لأن هذا الإقتراب قد يكون مقدمة للأكل من الشجرة ، وهو من إكرام الله عز وجل لآدم وحواء بأن حذرهم مما قد يكون مقدمة لفعل المعصية وليس هو مقدمة لها على نحو القطع.
ويمكن أن نستدل بقوله تعالى [وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ]( ) بأن مقدمة الحرام حرام.
وهل ذات القرب إلى الشجرة ظلم للذات للنهي عنه أم أن الظلم يتحقق بالأكل من الشجرة .
المختار هو الأول ، وإن كان النهي عن التقرب من الشجرة نهيا إرشاديا ومنعا من الوقوع بالحرام ، وللهداية والمخرج من الشبهات والفتنة والضلالة.
و(عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه .
ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى( ) يوشك أن يرتع فيه)( ).
وتبين الآية أن الإقتراب من الشجرة قد يفضي إلى الحرام ، ولكن ليس على نحو القطع وأن الظلم يتعلق بالأكل من الشجرة .
وتقدير الآية : ولا تقربا هذه الشجرة فيكون هذا الإقتراب مقدمة للأكل منها فتكونا من الظالمين .
ولو سأل آدم وحواء الله عز وجل عندما نهاهما عن الأكل من الشجرة أن يحول بينهما وبين الإقتراب من الشجرة والأكل منها فهل يستجيب الله عز وجل لهما ، الجواب نعم ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
فان قلت إنما خلق الله عز وجل آدم ليكون [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فلابد من هبوطه وحواء إلى الأرض بعد الأكل منها.
الجواب ليس من حصر لوجوه الاختبار والإبتلاء من عند الله لآدم وحواء حتى يهبط إلى الأرض وقد يهبطان من غير ذنب أو معصية أو ظلم للذات وإن اختلف الموضوع ويكون هذا الهبوط سمواً ورفعة.
والمختار أن الإقتراب من الشجرة التجري لمخالفة الأمر الإلهي ، وإن لم يكن بقصد إرتكاب المعصية فيما هو ليس بمعصية كالإصرار على شرب مائع بقصد أنه خمر محرم بينما هو ماء مباح .
وهل جحود قريش برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحشيد الجيوش العظيمة لمحاربته من التجري أم المعصية ، الجواب إنه من المعصية والإثم ومن الكبائر ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
المسألة الثانية : ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( )، واتحد لفظ (الهم) وصدوره من امرأة العزيز ومن يوسف عليه السلام ، فهل موضوعه متحد أم متعدد.
المشهور والمختار هو التعدد ، وأن همّ يوسف غير همّ امرأة العزيز ، فقد همت بالفاحشة ، وهمّ بها ليضربها أو يقتلها إن أجبرته على الفاحشة فصرف الله عز وجل عنه السوء يعني القتل ، والفحشاء يعني الزنا ، كما ورد في الخبر عن الإمام الرضا عليه السلام( ).
فهم امرأة العزيز بيوسف حرام وهي تعلم بأنه حرام ومع هذا أقدمت عليه ولكنه لم يتحقق لم يصب الواقع ، وهو من التجري على الحرام الواقعي مما يدل على تنزه النبي عنه.
و(عن ابن عباس : أنه سئل عن هم يوسف عليه السلام ، ما بلغ؟ قال : حل الهميان – يعني السراويل – وجلس منها مجلس الخاتن ، فصيح به يا يوسف ، لا تكن كالطير له ريش ، فإذا زنى قعد ليس له ريش .
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي بن أبي طالب في قوله [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا]( ) قال : طمعت فيه وطمع فيها ، وكان من الطمع أن هم بحل التكة ، فقامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت ، فسترته بثوب أبيض بينها وبينه ، فقال : أي شيء تصنعي.
فقالت : استحي من الهي أن يراني على هذه الصورة . فقال يوسف عليه السلام : تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب ، ولا استحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت ، ثم قال : لا تنالينها مني أبداً . وهو البرهان الذي رأى)( ).
ولم يثبت هذا الحديث وحلّ يوسف تكة لباسه عن الإمام علي عليه السلام .
وهل هذا الهمّ من قبل امرأة العزيز من التجري ، الجواب إنما هو أشد من التجري لأنها تهّم وتقدم على فعل الفاحشة الحرام مع علمها بأنها حرام وهي في الواقع حرام ، وليس في الواقع أمراً مباحاً.
فحتى عند المشركين يحرم زنا ذات البعل ، وهو من القوانين التكوينية في خلق الإنسان ، وخلافته في الأرض .
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نهيه عن فعل الفاحشة ومقدماتها ومجيؤه بحرمة الزنا وإقامة الحد عليه عند تحقق شروطه ، وهو من أسباب محاربة المشركين لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ استمعوا إلى آيات القرآن وعلموا بتحريم الزنا والفواحش وكانوا يرغبون بالإقامة عليها ، قال تعالى [الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
ومع تحريم القرآن والسنة للزنا والفواحش [مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ]( )، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صبر على أذى الكفار في مكة ، وعندما هاجر إلى المدينة وكثر عدد المسلمين الذين تلقوا أحكام الحلال والحرام بالقبول والإمتثال لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدن وقرى الكفار ولكن هم الذين جهزوا الجيوش لقتاله فأخزاهم الله بتوالي هزائمهم وسقوط القتلى منهم وامتلاء نفوسهم بالرعب ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
المسألة الثالثة : هل من آية قرآنية تتضمن التجري وذمه إذ جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، الجواب نعم ، الجواب هو الثاني ، وقال تعالى [وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
وقد يتكلف ويقيم الكفار على التجري ، ويحتالون فيه كما في قوله تعالى [وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( )، فتكررت ذات خاتمة الآية في الآيتين وبينهما آيتان لتأكيد قبح معصية المشركين وسوء سريرتهم ، وأن تجريهم من القبح الفاعلي والفعلي.
وهل هو من التجري في معناه الإصطلاحي المستحدث هذه الأيام ، الجواب لا ، لأن ملاك التجري هو فعل يظنه محرماً وهو مباح ، مثل الدعاء في القنوت لأمور الدنيا ، ويظن أنه خارج أفعال الصلاة ، ومع هذا يأتي به عناداً ، وهو في الواقع ليس محرماً.
وقال تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً]( )، وفي الآية (قال المفسّرون : خرج كعب بن الأشرف في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش.
فقال أهل مكة : إنّكم أهل كتاب ، ومحمد صاحب كتاب ونحن أُمية، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم ، وإن أردت أن نخرج معك ، فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ، ففعل ذلك ، فذلك قوله [يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ]( )، ثم قال كعب لأهل مكة : ليجئ منكم ثلاثون ومنّا ثلاثون فلنلزق أكبادنا بالكعبة ، فنعاهد ربّ البيت لنجهدنَّ على قتال محمد ففعلوا ذلك ، فلمّا فرغوا قال أبو سفيان : إنّك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أمّيون لا نعلم فأيّنا أهدى طريقاً وأقرب الى الحق ، أنحن أم محمد .
فقال كعب : اعرضوا عليَّ دينكم.
فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحاج الكرماء ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفكّ العاني ونصل الرحم ونعمّر بيت ربّنا ونطوف به ، ونحن أهل الحرم ، ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم ، وديننا القديم ودين محمد الحديث. فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا ممّا عليه محمد ، فأنزل الله الآية [إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ]( ) يعني كعباً وأصحابه)( ).
المسألة الرابعة : من الآيات التي تدل على التجري قوله تعالى وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
فيمتنعون عن إخراج الزكاة والحقوق الشرعية ويظنون هذا الإمتناع نافع له في الدنيا وأنه خير ، بينما هو شر لهم .
التجري عدم المخالفة واقعاً كما لو شرب الماء معتقداً أنه خمر فيتحقق التجري دون المعصية أما لو شرب الخمر وهو يعلم بخمريته وحرمته يتحقق العصيان ، ولا موضوعية للتجري حينئذ ، وقيدناه بالعلم بحرمته لرفع القلم عن الذي لا يعلم.
والتجري فعل من أفعال القلب وكيفية نفسانية ، ومعناه العزم على معصية الولي ومخالفة أوامره أما إذا انطبق على فعل من أفعال الجوارح فهو فعل خارجي ، وقبح التجري عقلي وشرعي لدلالته على باطن الشخص وسوء سريرته وقصده واختاره.
يوميات علمية للمرجعية الإسلامية
المرجع الصالح الطائي
قال تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ].
المختار أن ذات جبل الصفا وجبل المروة من الشعائر المكانية التي يجب تعاهدها وتنزيهها وحفظها , وقولنا هذا مستحدث في تأريخ الإسلام , كما أن في الآية حذفاً وتقديره :إن السعي بين [الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ].
لتكون هذه الآية من موارد الجمع بين الحقيقة والمجاز في ذات الكلمة القرآنية بلحاظ قانون كلمات ومعاني القرآن أعم من معناها في النحو والبلاغة والكلام .
العدد : 331/24 في 26/11/2024
كتاب اللقطة
اللقَطة – بفتح القاف – وهي العين المعثور عليها من غير طلب , والمال الضائع الذي ليس عليه يدُ وتجده على غير طلب، وهي إما حيوان وتسمى الضالة، أو مال صامت أو إنسان.
تتصف اللقَطة بخصوصية وهي ضياعها عن صاحبها ولو بشاهد الحال , ويجوز أخذها والتعريف بها، وبعد التعريف تكون من أفراد مجهول المالك.
العدد : 332/24 في 27/11/2024
الأصل تلقي قريش رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق ، خاصة مع توارث البشارات ببعثته ، وتسمية أهل مكة له (الصادق الأمين) قبل البعثة ، وجريان المعجزات تترى على يديه ، والإعجاز الجلي لآيات القرآن.
وتضمن السور المكية الإنذار والوعيد الذي يأتي أحياناً بالتذكير بفضل الله عز وجل على قريش ، ولزوم مبادرتهم للإيمان ، كما في قوله تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ].
لبيان وجوب توارثهم لحنيفية إبراهيم ، والتنزه عن مفاهيم وأفعال الشرك , وانتهاك الحرمات.
وتتجلى عبادة الله في الآية أعلاه عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق برسالته واتباعه ، ولكنهم آذوه وأهل بيته وأصحابه ، فُسحب إلى القليب يوم بدر سبعون كافراً من رجالاتهم .
العدد : 333/24 في 28/11/2024
الأسبقية في المكان
من سبق إلى مكان من المسجد لصلاة أو عبادة أو قراءة قرآن أو دعاء بل وتدريس أو وعظ أو افتاء وغيرها كان احق به وليس لأحد ازعاجه سـواء توافق السابق مع المسبوق في الغرض أو تخالفا فيه .
فليس لأحد بأي غرض كان مزاحمة من سبق إلى مكان منه إلا أن تكون صلاة الجماعة راتبة فانها تقدم على غيرها من الأغراض , والأولى إلحاق صلاة الفرادى أول أوقات الصلاة في المساجد خاصة إذا كان اختيار مريد الصلاة في ذلك المكان لإنحصار محل الصلاة فيه أو لوجود راجح شرعي أو عقلي وليس لمجرد الإقتراح.
العدد : 334/24 في 29/11/2024
الدال والمدلول والدلالة
الدال هو الصورة اللفظية ، والكلمة المنطوقة لإرادة معنى مخصوص سواء كان متحداً أو متعدداً ، نكرة أو معرفة ، وهذا المعنى هو المدلول من الصورة والبصمة الصوتية.
فالمدلول صورة عقلية في الذهن وضع اللفظ أزاءها ، فاذا لفظ (هاتف) فما أن تسمعه حتى تحصل في الذهن الصورة المفترضة للهاتف ، ولو بدلنا أحد حروف (هاتف) وصار مثلاً (هاتك) لتغيرت الصورة في الذهن ، وانتقلت إلى مدلول آخر .
والدلالة ما يتوصل به إلى معرفة الشئ والملازمة بين الدال والمدلول.
والدلالة أعم من اللفظ وهي كون الشئ بحالة يلزم من العلم بها العلم بشئ آخر ، والشئ الأول هو الدال ، والثاني هو المدلول كدلالة الألفاظ على المعاني ، ودلالة النص ، وما يقتضيه النص ، ودلالة الرموز ، وإشارات المرور ونحوها .
وتجلى علم الدال والمدلول بقوله تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ].
لبعث الناس على التعلم ، وإحراز هذا العلم لتيسير أمور الحياة ، وأداء الناس للفرائض العبادية ، ليكون الاسم دالاً على المسمى بعد وقوع التسمية ، وهي وضع الاسم لذات المسمى .
العدد : 335/24 في 30/11/2024
المطلق والمقيد
المطلق لغة من الإطلاق بمعنى الإرسال ، فيكون المطلق بمعنى المرسل أي الخالي من القيد .
والمطلق : هو ما سُرِح وأخلي , والطالق من النساء التي انقطع عقد زواجها بالتخلية والإرسال ، والطالق من الإبل التي اطلقت في المرعى، ولا قيد لها .
والمطلق ما يدل على واحد غير معين , مثل (بقرة) في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً] ، أو (رقبة) في قوله تعالى [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا] .
والماء المطلق وهو الماء الذي بقي على أصل خلقته وطهارته من غير أن يخالطه شئ آخر سواء كان طاهراً كعصير الرمان فيكون ماء مضافاً أو يخالطه ما هو غير طاهر .
والمطلق في الإصطلاح الأصولي فهو اللفظ الدال على الماهية بلا قيد.
ومن المطلق النكرة في سياق الإثبات.
العدد : 336/24 في 1/12/2024
الحمد لله عدد ذرات الرمال ، وعدد الحركات والسكون في عالم الأكوان ، وعدد ترليونات الأفلاك والنجوم .
الحمد لله الذي جعل الحمد له إشراقة تزيح الكدورة عن النفوس ، وتبعث على الأمل والسعي في مسالك الحياة ، وإتخاذ الإستقامة منهاجاً ، ليكون الحمد لله من مصاديق الصراط في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] .
الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وأوانا ، وجعلنا ملوكاً في بيوتنا ، ومنحنا العز بفضل منه تعالى ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ].
العدد : 337/24 في 2/12/2024
البرهان اللمي والبرهان الإني
البرهان اللمي هو الإنتقال من العلم بالعلة إلى العلم بالمعلول فنقول مثلاً الشمس طالعة فالنهار موجود ، والإنتقال من المؤثر إلى الأثر .
أما البرهان الإني فهو الإستدلال بالعلم بالمعلول على العلم بالعلة ، والإنتقال من الأثر إلى المؤثر وهذا البرهان من الفطرة ، إذ قيل لبعض الأعراب : ما الدليل على أنَّ للعالم صانعاً ، فقال : إنَّ البعرة تدلُ على البعير ، وآثار القدم تدلُ على المسير ، وهيكل علَّوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة ، أما يدلاَّن على الصانع الخبير).
العدد : 338/24 في 3/12/2024
من خصائص يوم القيامة تطاير صحائف الأعمال ، ليؤتى المؤمنون أهل اليمين كتبهم في أيمانهم ، ويؤتى أهل الشمال الذين ماتوا على الكفر والظلم والنفاق كتبهم بشمالهم ومن وراء ظهورهم .
ونطرح مسألة مستحدثة وهي هل تكون كل الصحف يومئذ بلون واحد أم أن لون كتب أهل اليمين بلون ، وكتب أهل الشمال بلون آخر , وهي علامة ظاهرة على التباين والتضاد بينهم ، المختار هو الثاني ، قال تعالى [وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا* اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا].
العدد : 339/24 في 4/12/2024
قراءة سورة الفاتحة جزء من الصلاة من بدايات البعثة النبوية في مكة ، وتسالم المسلمون على تلاوتها في الصلاة يبعث على الطمأنينة بأنها كانت تقرأ في مكة خصوصاً وأن أصل تقسيم القراءة في الصلاة إلى جهرية وإخفاتية كان في مكة، لأن المشركين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند سماعه يتلو القرآن في النهار.
وقال النبي (ص) : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب).
العدد : 340/24 في 5/12/2024
الغَصبُ
الغصب هو الإستيلاء على ما للغير من مال ونحوه عدواناً ، قال تعالى [وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ].
وتتعلق بالغصب أحكام :
الأول : الحرمة .
الثاني : رفع اليد عن العين المغصوبة .
الثالث : الضمان .
ولو قام شخص بغصب أرض فغرسها وزرعها ، فالغرس والزرع ونماؤهما للغاصب إذا رضي المالك ، أما إذا لم يرض ولو بعوض وأجرة فيجب على الغاصب إزالة الزرع فوراً وإن تضرر به ، وطم الأرض ودفع الأَرش في قيمة الأرض لشمول الغصب بقاعدة الضمان , ولو بذل صاحب الأرض قيمة الغرس والزرع لا يجب على الغاصب إجابته ، ولكنها الأولى لعمومات قاعدة لا ضرر ولا ضرار ، وقاعدة السلطنة .
العدد : 341/24 في 6/12/2024
إحصاء لغة الجمع لله عز وجل
ترد صيغة الجمع في القرآن لتعظيم وإجلال مقام الربوبية ووردت خمس مرات في قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] وهي : إنّا ، نحن ، الضمير (نّا) في نزلنا ، وإنا ، وواو الجماعة في (لحافظون).
والله عز وجل هو الكبير المتعال ذو الكبرياء والعظمة ، وقال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ] [إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ].
وأقترحُ إحصاء لغة الجمع في القرآن التي يراد منها الله عز وجل وحده الذي لا شريك له ، ودلالات الإعجاز فيها ، وقد لا تجد في القرآن صيغة جمع ويراد منها المفرد لغير الله عز وجل , لبيان علم مستحدث في دلائل التوحيد في القرآن
العدد : 342/24 في 7/12/2024
كم مرة حج النبي (ص)
في عدد المرات التي حج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البيت الحرام وجوه:
الأول : حج النبي (ص) قبل الهجرة عشرين حجة ، وهو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام .
الثاني : حج النبي (ص) (ثلاث حجج: حجتين قبل الهجرة، وحجة الوداع) ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري .
الثالث : حج النبي (ص) قبل النبوة وبعدها لا يُعرف عددها ولم يحج بعد الهجرة إلا حجة الوداع.
العدد : 343/24 في 8/12/2024
قيل لبعض الأعراب : ما الدليل على أنَّ للعالم صانعاً .
فقال : إنَّ البعرة تدلُ على البعير ،وآثار القدم تدلُ على المسير ، وهيكل علَّوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة؛ أما يدلاَّن على الصانع الخبير).
لبيان حجية الفطرة ، وأن الأعراب ليس كلهم [أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا] وقد اثنى الله عز وجل على طائفة منهم فقال [وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]
العدد : 344/24 في 9/12/2024
صدور الجزء (264)
الحمد لله الذي جعل آيات القرآن مناهل للعلوم وفيضاً متجدداً إلى يوم القيامة ، وحقائق برهانية تجذب العقول إلى الإيمان وإشراقة سماوية تبعث السكينة في النفوس
وقد صدر لنا بفضل الله عز وجل الجزء (264) من معالم الإيمان في تفسير القرآن.
وهو خاص بتفسير آية واحدة من سورة آل عمران [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ].
العدد : 345/24 في 10/12/2024
تقسيم مستحدث للطف الإلهي
في الجزء (264) من معالم الإيمان قسمتُ اللطف الإلهي إلى أقسام :
الأول : اللطف الشخصي : الذي يأتي لأي إنسان بما يختلف عن غيره ومنه الهداية إلى الدعاء الخاص ، وهو كبصمة اليد وبصمة العين لبيان بديع صنع الله.
الثاني : اللطف الخاص : وهو الذي يأتي للأسرة والجماعة والفرقة وأهل البلد ، ومنه الألفة ، والتكافل ، ونزول المطر ، وصرف آفات السماء والأرض .
الثالث : اللطف العام : وهو الذي يصيب الناس جميعاً ، نعمة من عند الله .
وقد تتغشى نعمة ولطف من الله أهل الأرض جميعاً ، مثل تقريبهم إلى منازل عبادة الله ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] مع التباين كماً وكيفاً بين كل فرد وآخر.
كما قسمتُ اللطف الإلهي تقسيماً آخر إلى :
الأول : اللطف الظاهر للحواس .
الثاني : اللطف الذي تدركه العقول.
الثالث : اللطف الخفي الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل ، والذي يتغشى اللطف الشخصي , والخاص , والعام قال تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] .
العدد : 346/24 في 11/12/2024
صلاة الغفيلة
وهي مستحبة ومن ركعتين تؤدى بين المغرب والعشاء, والاقوى جواز جعلها من نافلة المغرب ، ويقـرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ].
وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة [وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] ثم يرفع يديه ويقول : اللهم اني اسألك بحق مفاتح الغيب التي لا يعلمها الا انت ان تصلي على محمد وآل محمد وان تفعل بي كذا وكذا” ويذكر حاجته.
والمختار الإتيان بالبسملة عند قراءة كل من الآيتين، وعدم ذكرها بعد الفاتحة في خبر ابن سالم الذي تضمن كيفية اتيان صلاة الغفيلة للتسالم على الاتيان بها بعد سورة الفاتحة كما هو الظاهر وان كانت آية مستقلة، ومن أنكر صلاة الغفيلة لم يثبت دليله.
العدد : 347/24 في 12/12/2024
تلقي النبي (ص) الأذى المتعدد
لقد ورد في الحديث المشهور عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت).
والأذى الذي لحق ويلحق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه :
الأول : الأذى لشخصه الكريم بالإستهزاء والسخرية منه وبادماء أهل الطائف لقدميه لأنه خرج إليهم بعد وفاة أبي طالب طالباً كف أذى قريش عنه .
الثاني : الأذى الذي لحق بني هاشم ومن أشهره الحصار الإجتماعي والإقتصادي الذي فرضته عليهم قريش لمدة ثلاث سنين من السنة السابعة للبعثة النبوية .
الثالث : الأذى الذي لحق الصحابة الأوائل من قبل أهليهم وعامة قريش وعبيدهم .
الرابع : تجهيز قريش الجيوش لقتال النبي (ص) وأصحابه في معركة بدر ، وأحد ، والخندق .
وفي شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة النبوية خرجت أول دفعة من مهاجري الحبشة وعددهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة ، ثم ازداد عددهم فصاروا ثلاثة وثـمانين رجلاً وتسع عشرة امرأة.
العدد : 348/24 في 13/12/2024
تسميت العاطس
تسميت العاطس هو الدعاء له بالهداية إلى السمت أي حسن الطريقة والسيرة .
(مسألة 622) يستحب للعاطس أن يقول “الحمد لله، وفي الخبر ان الإمام الصادق عليه السلام عطس فقال : الحمد لله رب العالمين ، ووضع أُصبعه على أنفه وقال : رغم أنفي لله رغماً داخراً.
(مسألة 623) يستحب تسميت العاطس بأن يقال له: يرحمك الله ، أو : يرحمكم الله ، ويستحب للعاطس أن يرد التسميت بقوله : يغفر الله لكم ، وإن دعا له بغيره يجوز أيضاً كما لو قال: يرحمكم الله .
(مسألة 624) يستحب للمصلي إذا عطس القول : الحمد لله.
(مسألة 625) الأقوى ترك من كان منشغلاً في صلاته تسميت العاطس.
العدد : 349/24 في 14/12/2024
صلاة الإستسقاء
تستحب صلاة الإستسقاء عند الجدب وغور الأنهار وقلة الأمطار وكيفيتها مثل صلاة العيدين.
والإستسقاء طلب الماء والغيث من الله ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ].
يسأل المصلون الله عز وجل في القنوتات الرحمة بإرسال الغيث واستعطافه عز وجل على خلقه ، مع الإستغفار من المعاصي والذنوب وأسباب منع قطر السماء، ويصح القنوت والدعاء بكل ما تيسر من وجوه السؤال والتضرع والسكينة، والأفضل المأثور الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعصومين عليهم السلام.
يستحب فيها أمور منها :
الأول: ان يصوم الناس ثلاثة ايام، وان يكون الخروج في اليوم الثالث، وان يكون الثالث يوم الإثنين أو يوم الجمعة.
الثاني : استحباب الغسل للإستسقاء
الثالث : يستحب خروجهم الى الصحراء حفاة على سكينة ووقار إلا في مكة كيلا يخلو المسجد الحرام من عماره ، قال تعالى [وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] .
الرابع : يستحب اخراج الشيوخ والأطفال والعجائز معهم واهل الصلاح والتقوى، وان يفرقوا بين الأطفال وامهاتهم.
الخامس : اذا خرج الإمام من الصلاة يستحب له بعد أن يستقبل القبلة تحويل رداءه بأن يجعل ما على يمينه على يساره وبالعكس.
السادس : إذا لم ينزل المطر يستحب إعادة الصلاة .
(مسألة 995) صلاة الإستسقاء سنة مؤكدة على الرجال والنساء خصوصاً اهل التقوى.
العدد : 350/24 في 15/12/2024
الركوع
الركوع ركن تبطل الصلاة بتركه عمداً او سهواً، وكذا زيادته في الفريضة، إلا في صلاة الجماعة فلا تضر الزيادة إذا كانت من المأموم بقصد المتابعة ونحوها، أما صلاة النافلة فلا تبطل بزيادة الركن سهواً.
من واجبات الركوع
الأول : الإنحناء على الوجه المتعارف بمقدار تصل يداه إلى ركبتيه، ويكفي وصول مجموع اطراف الأصابع التي منها الإبهام، والأحوط الإنحناء بمقدار إمكان وصول الراحتين اليهما.
العدد : 351/24 في 16/12/2024
الحجة / خمسة أجزاء
هي الرسالة العملية للـمـرجـع الديـنـي الشيخ صالح الطائي والمسجلة في دار الكتب والوثائق في بغداد برقم 345 لسنة 2001.
أي قبل ثلاث وعشرين سنة والحمد لله .
الجنة لغة واصطلاحاً
الجنة لغة هي الأرض ذات الشجر والنخل يستتر ما بداخلها مشتقة من مادة : جنن وهي بمعنى الستر ، ومنه سمي الجن لاستتارهم واختفائهم عن الأنظار ، والجن خلق خلاف الإنس .
وسمي الجنين لاستتاره في بطن أمه ، ومنه جِنّ الليل اختلاط ظلامه .
والجنة في الاصطلاح الشرعي هي دار الخلود في النعيم والكرامة الأبدية التي يتفضل بها الله عز وجل على عباده المؤمنين الذين عملوا الصالحات في حياتهم الدنيا ، جزاء وثواباً وإحساناً من الله عز وجل.
من الجزء (264) من معالم الإيمان
العدد : 353/24 في 18/12/2024
أٌقسام النسخ
ويمكن أن نقسم النسخ تقسيماً استقرائياً مستحدثاً إلى قسمين :
الأول : النسخ الأكبر : وهو النسخ بين الشرائع ، ويقع في الفروع وجزئيات وتفاصيل الأحكام ،
ولا نسخ في الأصول كالتوحيد والنبوة ، والإقرار بالمعاد ، وأصول العبادات ، ومن النسخ في الفروع حكاية عن عيسى عليه السلام في التنزيل [وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ].
ويختص النسخ بالرسل أولي الشرائع ، فالنبي لا ينسخ من الشريعة التي قبله بل يعمل بأحكامها .
الثاني : النسخ الأصغر : وهو النسخ بين آيات القرآن وهو قليل في القرآن , وليس كما قيل أيام تابعي التابعين واشتهر بعدهم أن آية السيف نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية من آيات السلم والصلح والموادعة.
العدد : 354/24 في 19/12/2024
رؤيا نمروذ في بابل
كان نمروذ بن كنعان بن كوش جباراً مستبداً في الملك لم يتورع عن ادعاء الربوبية، فلما نازع الله في سلطانه تعرض لسلسلة من أنواع الابتلاء والوعيد والانذار .
كان أولها ان رأى في منامه كأن كوكباً طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء، ففزع من ذلك فزعاً شديداً.
فدعا نمروذ السحرة والكهنة والقافّة وهم الذين يخطون في الأرض ويمشون فسألهم عن تأويل رؤياه .
فقالوا: هو مولود يولد في ناحيتك هذه السنة يكون هلاكك وهلاك اهل بيتك على يديه، فأمــر بذبح كل غـلام يولــد في تلك الناحية ســنتها وكان مــن قصة إبراهيـم المولــود في تلك الســنة ان جعل الله عليــه حجبـاً للنجــاة.
العدد : 355/24 في 20/12/2024
نشأة فاطمة الزهراء (ع)
النشـــأة هـي التربيـة والإعـــداد في الصغر، وبدايـات توجـيه أنماط السـلوك وظهور المعالم الأولية لخلق الصبي بما يتلقاه من الآداب ورياضة النفس.
لقد حبى الله عز وجل فاطمة الزهراء بكرامات عديدة , منها أن نشأتها ذات خصوصيات مباركة تنمو فيها مداركها باطراد فائق , فتكسب المعارف الدينية والإنسانية من أيام صباها لتكون مؤهلة لحمل عناوين الأسوة والريادة.
وبعد هجرة النبي محمد (ص) إلى المدينة أم سلمة بعد وفاة زوجها في السنة الرابعة للهجرة , وقالت (تزوجني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفوض أمر ابنته اليّ فكنــت أؤدبها وكانت والله أأدب مني وأعرف بالأشياء كلها).
العدد : 356/24 في 21/12/2024
الفرق بين النص والظاهر ونحوه
قسمتُ الكلام تقسيماً تفصيلياً مستحدثاً إلى :
الأول : النص : وهو الكلام الذي يفيد القطع والجزم ولا يشترك مع معناه المخصوص معنى آخر على نحو الظاهر أو المجمل .
الثاني : الأظهر ، وهو الأرجح والأولى في الظهور .
الثالث : الظاهر الذي يرقى إلى مرتبة النص بالقرينة مثل خطاب الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والمراد إلحاق الأمة به مثل (قل) إلا أن يدل دليل على إرادة خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : المؤول وهو المرجوح الذي صار راجحاً بالقرينة.
الخامس : المرجوح .
السادس : المجمل.
السابع : المجمل ثابت التعدد بتعدد معاني اللفظ من غير تعارض بينها ، وهو من أسرار إحاطة اللفظ القرآني باللامحدود حسب اللحاظ والجهة كما في قوله تعالى [فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ].
العدد : 357/24 في 22/12/2024
سودة أم المؤمنين
لقد كانت سودة بنت زمعة تحت السكران بن عمرو , وهما من السابقين في الإسلام.
وروي عن ابن عباس أنها رأت في المنام كأن النبي (ص) أقبل يمشي حتى وضع رجله على رقبتها ، فأخبرت زوجها وقصت عليه الرؤيا ، فقال لها لئن صدقت رؤياك لأموتن وليتزوجنك محمدٌ.
ثم رأت في ليلة أخرى أن قمراً انقض عليها وهي مضطجعة ، فأخبرت زوجها ، فأدرك أن الأمر قريب وقوعه ، ظاهر تأويله .
فقال لئن صدقت رؤياك لم ألبث إلا يسيراً حتى أموت ، وتتزوجين من بعدي , ولم يلبث إلا يسيرا .
وتكرار هذه الرؤيا من المعجزات الغيرية للنبي محمد وأن الرؤيا بشارة وإنذار ، وتوفت خديجة زوج النبي محمد (ص) وأكملت سودة عدتها قبل الهجرة فخطبها النبي من أبيها ، وقال كفئ كريم واستأذنها فرضيت مسرورة , فزوجها النبي لتفوز بمرتبة أم المؤمنين لقوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ].
(فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج ، فصار يحثي على رأسه التراب.
فقال بعد أن أسلم: لعمرك إنى لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب أن تزوج رسول الله (ص) سودة بنت زمعة) ابن كثير / السيرة النبوية 2/143.
العدد : 358/24 في 23/12/2024
لقد اختارت هوازن وثقيف معركة حنين وأوانها ومكانها بعد فتح مكة مباشرة في السنة الثامنة للهجرة فهم الغزاة، وكان عددهم ضعف عدد المسلمين ، وانتهجوا اسلوب المباغتة وحرب الحمامة ، فأخزاهم الله بهزيمة نكراء ثم قدموا في شهر رمضان من السنة التاسعة إلى المدينة لدخول الإسلام
وسألوا النبي أن يعفيهم من أمور منها الصلاة فاجابهم بقانون لا خير في دين لا صلاة فيه ، لبيان قانون مصاحبة الصلاة للناس من أيام آدم وإلى يوم ينفخ في الصور ، قال تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ].
العدد : 359/24 في 24/12/2024
هل يختص موضوع الدعاء في التنزيل [رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ] بعالم الآخرة والجزاء ، الجواب لا ، فمن خصائص القرآن قانون الدعاء للدنيا والآخرة ، ولبيان قانون وهو لو تردد الأمر بين إرادة الدنيا والآخرة أو الدنيا وحدها ، أو الآخرة وحدها ، فالصحيح هو قانون أصالة الإطلاق في الدعاء ، وإرادة عالم الدنيا والآخرة مجتمعين ومتفرقين ، منه الآية أعلاه.
ومنه الأمن والسلامة والرزق الكريم والعافية في الدنيا ، والخلود في النعيم في الآخرة .
العدد : 360/24 في 25/12/2024
اجتماع الأمر والنهي
مسألة أصولية لأنها عقلية نظرية وليست حكماً شرعياً كي تكون مسألة فقهية ، وليس المقصود إجتماع الضدين فهو محال ولكن المقصود هو التقاء الأمر والنهي في مصداق خارجي مركب من أمرين :
أحدهما مأمور به , والآخر منهي عنه ، كالصلاة في مكان مغصوب إذ يجتمع الأمر بالصلاة مع عنوان النهي عن الغصب .
وتقع نتيجتها باستنتاج حكم شرعي فرعي ، وهو هل الصلاة في المكان المغصوب صحيحة ، وقد اختلف في صحتها ، ومشهور علماء الإسلام صحتها مع الإثم على الغصب.
العدد : 361/24 في 26/12/2024
بين القَسم والحلف
وهما بمعنى واحد , ومن المترادف اللفظي أي دلالة أكثر من لفظ على معنى واحد مثل المفردات للعسل فيسمى الشهد ، الرحيق ، الورس ، والضريب .
وأسماء السيف مثل الصارم ، والحسام ، والصمصامة والصقيل وغيرها ، نعم لكل اسم دلالة لنوع خاص منها.
وورد التخصيص بين القسم والحلف في القرآن إذ ورد القسم ثـماني مرات في القرآن بما يفيد القطع والجزم والتنجز منها قوله تعالى [فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ][ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ].
أما الحلف فمعناه العهد ، وورد الحلف في القرآن في مسألة حنث اليمين ، وفي ذم المنافقين الذين يحلفون كذباً وزوراً , فورد لفظ يحلفون في القرآن عشر مرات كلها بذات المعنى ، قال تعالى [يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ] والعلم عند الله.
العدد : 362/24 في 27/12/2024
الجزء الثاني من (قوانين البرزخ)
قال تعالى [وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ].
البرزخ لغة الحاجز والحائل بين شيئين وهو في الإصطلاح عالم الحياة في القبر ما بعد الموت فيكون برزخاً بين الدنيا ويوم القيامة.
وأدناه نسخة الكترونية للجزء الثاني من كتابنا الموسوم (قوانين البرزخ) والحمد لله.
العدد : 363/24 في 28/12/2024
المجمل والمبين
في القرآن ذخائر علوم منها :
الأول : الناسخ والمنسوخ .
وقول مشهور بأن آية السيف نسخت أكثر من مائة آية , ولا أصل لهذا القول .
الثاني : العام والخاص .
الثالث : المجمل والمبين .
الرابع : الأمر والنهي .
الخامس : الوعد والوعيد .
السادس : المطلق والمقيد .
السابع : المحكم والمتشابه .
الثامن : العموم والخصوص .
التاسع : الظاهر والمضمر ، ومعنى الظاهر هنا غير معناه عند القسمة في علم الأصول إلى جهات :
الأولى : النص .
الثانية : الظاهر.
الثالثة : المجمل وبين الظاهر هنا والظاهر في تقسيم علم الأصول عموم وخصوص مطلق ، فالظاهر هنا أعم , ويشمل النص والظاهر .
العاشر : الحقيقة والمجاز .
الحادي عشر : الحلال والحرام .
الثاني عشر : الثواب والعقاب .
الثالث عشر : أمور الدنيا والآخرة .
العدد : 364/24 في 29/12/2024
الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما ، وتتجلى ملكيته للدنيا والآخرة بوضوح للخلائق يوم القيامة ، لذا قال تعالى [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ] وفيه دعوة للناس للخشية من الله عز وجل ، والإخلاص في عبادته ، والتنزه عن الظلم والفسق والفجور .
الحمد لله الذي ملأ الأكوان بآياته وسخّرها للناس ، ومن منافع هذا التسخير جذبهم إلى عبادته ، وبعثهم للتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لذا تفضل وأمره باعلان عالمية رسالته بقوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] لينهل الناس من خزائن القرآن وتتوالى عليهم النعم من ملك الله عز وجل.
العدد : 365/24 في 30/12/2024
لقد صدر بفضل وفيض من الله عز وجل الجزء (264) من معالم الإيمان ويختص بتفسير الآية (195) من سورة آل عمران , وأدناه نسخة الكترونية لهذا الجزء.
العدد : 366/24 في 31/12/2024
قوانين الجزء 266
وفيه القوانين التالية :
الأول : قانون نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل في الميدان بمعجزة من عند الله عز وجل .ص 7
الثاني : قانون البعثة النبوية سلام ص15
الثالث : قانون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلام محض . ص16
الرابع : من خصائص القرآن قانون تجلي السنخية السماوية لآيات القرآن، وقانون القرآن سور جامع على الخير والصلاح. ص20
الخامس : قانون مجئ خاتم النبيين بالنفع العام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).ص24
السادس : قانون التوفيق والنجاح في الأوامر والنواهي النبوية ص32
السابع : قانون موضوعية السفارة في الإسلام .ص33
الثامن : قانون منافع السفارة في الإسلام .ص33
التاسع : قانون سفارة مصعب بن عمير سلم محض .ص33
العاشر : قانون سفارة مصعب بن عمير جهاد من غير مسايفة .ص33
الحادي عشر : قانون الصراع ين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، وبين الرسالة والمشركين ، ليتجلى قانون نهي المؤمنين عن الفتور في الدعوة إلى الله. ص 51
الثاني عشر : قانون الإتعاظ بأسباب النزول ص51
الثالث عشر: قانون إحاطة آيات القرآن باللامتناهي من الحوادث والوقائع .ص52
الرابع عشر : قانون تضاؤل النفاق ص53
الخامس عشر : قانون عدم اغترار الصحابة بالذين كفروا . ص59
السادس عشر : قانون إنحسار نفوذ وسلطان قريش ، لقانون غلبة المعجزة النبوية على سلطان المشركين ، كما في معجزة إبراهيم عليه السلام ونجاته من النار . ص 61
السابع عشر : قانون بعثة النبي محمد (ص) حاجة للناس . ص66
الثامن عشر : قانون حاجة الصفا والمروة للفتح . ص67
التاسع عشر : قانون تعاهد جبل الصفا والمروة والمحافظة عليهما. ص69
العشرون : قانون منع نصب الأصنام على أي من الصفا والمروة ، وإزاحة الأصنام التي وضعت. ص69
الواحد والعشرون : قانون منع البناء على الصفا أو المروة والمسعى الذي بينهما. ص70
الثاني والعشرون : قانون عدم جواز الأخذ من جبل الصفا أو المروة. ص70
الثالث والعشرون : قانون ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال.ص75
الرابع والعشرون : قانون ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان طريق النصر والظفر .ص75
الخامس والعشرون : قانون الثبات في ميدان القتال تدبير نبوي ، وفيه دعوة للمسلمين للإمتناع عن الفرار .ص75
السادس والعشرون : قانون نصر الله للأنبياء .ص77
السابع والعشرون : قانون نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .ص77
الثامن والعشرون : قانون الدعاء لجلب النصر . ص77
التاسع والعشرون : قانون قلة عدد قتلى المسلمين في الميدان . ص77
الثلاثون : قانون لا يبدأ النبي القتال . ص77
الواحد والثلاثون : قانون دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقدمة للنصر .ص79
الثاني والثلاثون : قانون مصاحبة الثبات للنبوة . ص80
الثالث والثلاثون : قانون مصاحبة الوهن للنفاق . ص92
الرابع والثلاثون : قانون الوقاية من ضرر المنافقين . ص96
الخامس والثلاثون : قانون كل آية قرآنية توهين لكيد الذين كفروا . ص101
السادس والثلاثون : قانون الآية القرآنية تفرق شمل الذين كفروا . ص101
السابع والثلاثون : قانون دعوة الآية القرآنية الناس مجتمعين ومتفرقين إلى الإيمان . ص101
الثامن والثلاثون : قانون الكفر يورث الندامة ، ومن الخسارة أسباب الحسرة والندامة وعذاب القبر ، ودخول النار واللبث الدائم فيها. ص103
التاسع والثلاثون : نزول آيات من القرآن بقانون التحذير من الذين كفروا. ص105
الأربعون : قانون الأولوية للإيمان . ص128
الواحد والأربعون : قانون جهاد النبي (ص) وأصحابه بالتنزيل والحكمة . ص142
الثاني والأربعون : قانون مسير النبي (ص) إلى بني لحيان سلم مجتمعي . ص143
الثالث والأربعون : قانون سرعة استجابة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . ص150
الرابع والأربعون : قانون الدفاع عن الحقوق والأموال . ص151
الخامس والأربعون : قانون ملاحقة الغزاة المشركين المعتدين . ص151
السادس والأربعون : قانون نهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن منع المشركين المحاربين من الماء . ص152
السابع والأربعون : قانون الأمن في مكة . ص157
الثامن والأربعون : قانون حرمة القتل في مكة . ص158
التاسع والأربعون : قانون تسهيل آيات القرآن لصلح الحديبية . ص164
الخمسون : قانون تقريب آيات القرآن لأوان فتح مكة. ص164
الواحد والخمسون : قانون فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمكة سلماً. ص164
الثاني والخمسون : قانون اقتران الثبات على الإيمان والعمل الصالح بالدعاء . ص167
الثالث والخمسون : قانون الدعاء وسيلة لاستدامة النهج الإيماني . ص167
الرابع والخمسون : قانون الدعاء واقية من الإرتداد والنكوص عن الصراط المستقيم. ص167
الخامس والخمسون : قانون مبايعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جزء من النظام العام في الإسلام .ص174
السادس والخمسون : قانون مبايعة النبي محمد عهد شخصي ونوعي . ص174
السابع والخمسون : قانون مبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهاية لمعاداته وقتاله . ص174
الثامن والخمسون : بيان قانون دخول أعداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام بالحجة والمعجزة وآيات القرآن . ص185.
التاسع والخمسون : قانون وثاقة الصحابة في العارية واستعمالهم للدروع ولوازمها ثم إعادتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابها . ص186
الستون : قانون جواز الإقتراض والإستعارة من الكافر عند الحاجة والضرورة.ص186
الواحد والستون : قانون الملازمة بين النبوة والوفاء بالعهد .ص187
الثاني والستون : قانون حفظ المؤمنين الأمانة والوديعة والعارية . ص187
الثالث والستون : تجلي قانون وهو استعارة المسلمين السلاح للدفاع عن النبوة والتنزيل وعن أنفسهم . ص187
الرابع والستون : قانون حاجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للدعاء . ص191
الخامس والستون : قانون نزول الوحي استجابة للدعاء . ص191
السادس والستون : قانون ملازمة التكاليف لبيعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن يبايعه يجب عليه التنزه عن عبادة الأوثان . ص192
السابع والستون : قانون إزاحة كابوس الجهالة عن الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . ص193
الثامن والستون : قانون التدبر بآيات القرآن . ص193
التاسع والستون : قانون إزاحة الموانع عن عبادة الناس لله عز وجل. ص193
السبعون : قانون أولوية كسر الأصنام التي في الجزيرة . ص196
الواحد والسبعون : بيان قانون الأصنام برزخ دون الإقرار بالتوحيد لذا أمر الله عز وجل النبي محمداً بمحاربة تقديس وعبادة الأوثان واستئصالها من الأرض.ص202
الثاني والسبعون : قانون هدم الأصنام تعجيل في دخول الناس الإسلام وإزالة حاجب دونه.ص214
الثالث السبعون : قانون هدم الأصنام تثبيت للإيمان في نفوس المسلمين . ص214
الرابع والسبعون : قانون الحاجة العامة لهدم الأصنام. ص214
الخامس والسبعون : قانون الهداية العامة والرضا النوعي من الناس لهدم الأصنام من اللطف الإلهي والتخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . ص215
السادس والسبعون : قانون خطط المشركين مكر ودهاء . ص218
السابع والسبعون : بيان قانون معارك الإسلام بسبب إرادة الزعماء الكفار الحفاظ على سلطانهم ونفوذهم وعدم خضوعم لقانون وأحكام الحلال والحرام . ص222
الثامن والسبعون : قانون متحد في كل معارك الإسلام ، وفي حال الحرب والسلم ، وهو بعث الرعب في قلوب المشركين . ص225
التاسع والسبعون : قانون لو تعارضت المعجزة مع حسن التدبير والنظام فان الغلبة والرجحان للمعجزة فهي أمر خارق للعادة .ص228
الثمانون : قانون ثبات النبي في ميدان المعركة . ص244
الواحد والثمانون : قانون سرعة زوال نعمة التقلب في البلاد التي كان عليها المشركون ، وهذا الزوال بأيديهم وإصرارهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . ص245
الثاني والثمانون : قانون وهو لو تردد الأمر بين المعجزة المتحدة أو المعجزة المتعددة ، فالصحيح هو الثاني . ص246
الثالث والثمانون : قانون نسبة نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة حنين إلى الله عز وجل كما في معركة بدر . ص248
الرابع والثمانون : قانون حفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يبلغ تمام الرسالة . ص248
الخامس والثمانون :
السادس والثمانون : قانون الزكاة فرع الإيمان ومرآة له .ص260
السابع والثمانون : قانون نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة حنين معجزة له. ص262
الثامن والثمانون : قانون إمتناع آيات القرآن عن الإخفاء العام ، فلا تستطيع جهة أو سلطان منع وصولها إلى الناس أو حجبهم عن تلاوتها وسماعها. ص264
التاسع والثمانون : قانون حقن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دماء الناس. ص265
التسعون : قانون الملازمة بين النبوة والعفو ، قال تعالى [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]. ص265