بحث منطقي في آية 126من سورة آل عمران

بحث منطقي
لكل علم مبادئ ومفاهيم تقتبس  من مضامينه وموضوعاته وهي على أقسام:
القسم الأول: المبادئ التصورية، وهي التي يتوقف عليها تصور الموضوع وأجزائه وجزئياته، وإستحضار المحمول، وماهية المسائل حين طروها والخوض فيها.
 وجاءت الآية بذكرموضوع المدد الإلهي للمسلمين في أرض جرداء، وبين جبال وتضاريس وعرة، مع قلة في العدد والمؤونة واليقين بعدم إمكان وصول مدد للمسلمين، لأنهم خرجوا جميعاً من المدينة للقتال، وليس من بلدة أخرى مسلمة غير يثرب وكان المسلمون يتوقعون عودة الكفار للقرائن المقالية والحالية منها:
الأولى: عدم تعرض جيش الكفار للخسارة الكبيرة في أحد كتلك التي نزلت بهم يوم بدر.
الثانية: كثرة الأخبار التي تصل بقرب عودتهم، لذا جاءت الآية السابقة بقوله تعالى [مِنْ فَوْرِهِمْ] أي وإن أطلوا عليكم ساعة نزول هذه الآية المباركة، فليس من فاصلة ووقت بين الوحي بالبشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  وبين نزول الملائكة للنصرة.
 ولو تأخر النبي في تلاوة هذه الآية على المسلمين، فهل تتأخر الملائكة في النزول فيه وجوه:
الأول: المدار على عودة الكفار فحالما يعودون ينزل الملائكة للنصرة.
الثاني: لابد من إجتماع تلاوة الآية وسماع المؤمنين لها، وفقههم لمضامينها وفيه مسائل:
الأولى: إنه موضوع لنزول الملائكة.
الثانية: يعلم المسلمون آية النزول وتتحقق البشارة.
الثالثة: يكون نزول الملائكة عيداً لأجيال المسلمين.
الثالث: المدار على نزول الآية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والصحيح هو الأول والثالث، فالنزول على النبي إعلان سماوي لتحقق البشارة،وتنجز الوعد بالمدد الملكوتي حالما يعود الكفار للقتال.
الثالثة: إظهار الكفار الرغبة في الثأر والإنتقام من المسلمين.
الرابعة: طمع الكفار في تحقيق النصر بعد أن رأوا إنهزام أكثر المسلمين، في بدايات المعركة.
الخامسة: إدراك رؤساء قريش ويهود المدينة أنهم فشلوا في تحقيق الغايات التي جمعوا لها لها هذه الجيوش، وقطعوا المسافات الطويلة، وأنفقوا الأموال الطائلة من أجلها.
لقد أراد الله عز وجل من هذه الآية تصور المسلمين لكيفية المدد الإلهي، وإدراك قرب السماء منهم، وزوال المسافات بين السماء والأرض بالصبر والتقوى اللذين ذكرتهما الآية السابقة على نحو الشرط في النصرة، وبعث السكينة في نفوسهم بتصور حضور الملائكة في المعركة.
 أي أن عالم التصور له موضوعية في طمأنينة القلوب التي ذكرتها هذه الآية، ليكون عالم التصور مناسبة ومقدمة لبعث القوة والعزيمة في نفوس المؤمنين، وإزاحة غبار الجزع والعناء الذي ترشح عن خوض المعركة بعدد  وعدة قليلين.
وهل يساهم نزول الملائكة في إرتقاء المسلمين في فنون القتال، وإقتباس الدروس من الملائكة في المطاردة والهجوم، الجواب نعم، فان منافع النعمة الإلهية لاتنحصر في موضوع واحد،بل هي متعددة في أوانها، وفي أفراد الزمان اللاحقة ليكون النفع منها متعدداً بلحاظ وجوه:
الوجه الأول: ساعة نزول النعمة لينتفع منها الذين يحضرون نزولها.
الوجه الثاني: الذين يسمعون بالنعمة وموضوعها في زمانها وأوان وقوعها، وهؤلاء على قسمين:
القسم الأول: المسلمون، فيزدادون إيماناً.
القسم الثاني: الكفار الذين تصل إلى أسماعهم أخبار النعمة التي تفضل الله بها على المسلمين، وهم على شعب:
الأولى:  الذين يتعظون منها وتدركهم التوبة، لتكون النعمة وسيلة لجذبهم إلى منازل الإيمان.
الثانية: الذين تمتلأ قلوبهم فزعاً وخوفاً من المنزلة والرفعة التي بلغها المسلمون.
الثالثة: من يظهر الكره والغيظ للمسلمين حسداً، قال تعالى [عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ]( ).
الوجه الثالث: الأجيال المتعاقبة التي يبلغها خبر وموضوع النعمة.
ومن إعجاز القرآن والشواهد على أنه معجزة عقلية، توثيق النعم الإلهية على المسلمين بكتاب سماوي لا يطرأ عليه التغيير، ولا تصل إليه يد التحريف، ولا يمكن أن يضيع أو تنسى آياته، وكيف يضيع والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يتلونه خمس مرات في اليوم، وما تمر دقيقة على الأرض إلا وهناك أعداد من المسلمين يؤدون الصلاة أثناءها جماعات وفراداً بلحاظ أمرين:
الأول: التباين في ساعات الليل والنهار بين أقطار الأرض.
الثاني: سعة وقت كل فرد من الصلاة اليومية، فصلاة الصبح مثلاً يستمر وقتها من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والذي يستمر نحو ساعة ونصف.
 وإذا أجرينا حساب للساعات التي يستغرقها هذا الوقت خلال أربع وعشرين ساعة متحدة، بلحاظ التعدد في هذا الوقت في مجموع أقطار الأرض يكون نحو أربع عشرة ساعة ، فمثلاً يكون وقت صلاة الصبح في مكة في بعض الأيام من ساعة الخامسة إلى السادسة والنصف صباحاً.
 فترى شطراً من المسلمين في بلدان المشرق يصلون صلاة الصبح والوقت في مكة العاشرة من مساء اليوم السابق وبعضهم يؤديها في بلاد المغرب والساعة في مكة المكرمة هي الثانية عشرة ظهراً، والكل يؤديها لنفس اليوم والتأريخ.
 وهكذا بالنسبة للفرائض اليومية الأخرى، مما يدل على التداخل الزماني في أداء الصلاة من غير أن يتعارض مع لزوم تقيد كل بلد بأوان الصلاة أداءً وليس قضاء، ويتجلى هذا الأمر في هذا الزمان بأن يصلي المسلم في بلده صلاة المغرب ويفطر من صيامه، ويسافر إلى بلد آخر بالطائرة فيجد الشمس لم تغب بعد.
وقد بينت في رسالتي العملية (الحجة) صحة صيامه يومه ذاك، ويستحب له الإمساك لحين الغروب( ).
 إن البشارة القرآنية عالم رحب فيه أمور:
الأول: بالبشارة يسيح المسلم في عالم الملكوت.
الثاني: يرجو المؤمن المدد والنصرة في ساحة المعركة.
الثالث: يتطلع المسلم إلى البشرى ومصاديقها في حالات الحرج والضيق وفي الرخاء والسعة، وطول اللأمل.
ومنهم من جعل الإنشاء من التصور لأن الصورة الحاصلة من الشئ في الذهن للإنشاء بلا نسبة خبرية يذعن لها العقل، ليكون عالم التصور أكثر سعة، وتتضاءل المسافات من الإعجاز القرآني بين عالم التصور وعالم التصديق، وهو من الشواهد على عظيم فضل الله عز وجل، وأن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، يدركون ويرون مالا يرى الناس من مصاديق الخير والصلاح والفلاح، وأسباب الظفر والفوز في النشأتين.
القسم الثاني: المبادئ التصديقية: وهي التي توجب التصديق بثبوت ما يتعلق بالموضوع ليحصل معها الإقرار بنسبة المحمول إلى الموضوع.
وهذه الآية القرآنية بذاتها بشرى،وتتضمن بشرى ذات موضوع مخصوص، فمن إعجاز القرآن أن تكون الآية موضوعاً ووعاء لموضوع آخر مشابه له أو مباين.
وتدعو هذه الآية إلى التصديق بأمر خارق للعادة، لم يكن في حسبان المؤمنين حصوله يوم صدّقوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويوم خرجوا للقاء الكفار، ولكنهم كانوا يرجون النصر، ويتطلعون إلى رحمة الله عز وجل في دحر الكفر وخزي رجالاته.
 لقد صار المسلمون في حال ضيق شديد، فجاءهم الفرج من حيث لم يحتسبوا بالبشرى في هذه الآية الكريمة، ولا تحتاج تلك المعجزة إلى مؤونة في تصديقها.
ولم تستلزم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البيان التفصيلي وإقناع المسلمين بأن معجزة نزول الملائكة حق، بل أن تلاوة الآية وحدها سببل للتصديق من وجوه:
الأول: تسليم المسلمين بأن القرآن حق وصدق.
الثاني:القرآن كله بشرى للمؤمنين في كل من: 
الأول: نزول القرآن وأسباب النزول الخاصة بالآيات.
الثاني: كلمات القرآن تخترق شغاف القلوب.
الثالث: طراوة وعذوبة ألفاظه.
الرابع: ما تبعثه تلاوته في النفس من سكينة وطمأنينة.
الخامس: تقسيم القرآن إلى آيات، وكل آية مدرسة في موضوعها.
السادس: الأحكام التي تستنبط من آياته في الفقه والأخلاق والقانون وغيرها.
السابع: ما في القرآن من قصص الأنبياء والأمم السابقة، وما يقتبس منها من المواعظ والعبر.
الثامن: إعجاز القرآن ودخول الناس الإسلام بالإنصات له.
التاسع: مجئ القرآن بالبشارات بالمقام الرفيع والخلود الدائم للمؤمنين في الجنة، والحث على السعي إليها، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ] ( ).
العاشر: بشارات النصر والظفر بالكفار، وهزيمتهم أمام المسلمين، ففي القرآن الوعد للمسلمين بالغلبة والنصر، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الحادي عشر: الإخبار عما يلحق الكفار من الخزي والخلود في العذاب، وبما يطرد عن المسلمين الإنشغال بما عندهم من النعم الدنيوية الزائلة، قال تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ).
الثاني عشر: لقد جاء القرآن بوصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه بشير، ومن الآيات إقتران صفة الإنذار مع البشارة في صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

مواضيع ﺫات صلة