سورة البقرة الآيات (87- 92)
المقدمة
الحمد لله الذي جعل كل آية من آيات القرآن مرقاة إلى السعادة وإشراقة نور تملأ الجوانح والأركان وحاجزاً دون الوهم والوساوس الشيطانية وإفاضة يعرف الإنسان من خلالها حقيقة السعادة والشقاوة لتكون عوناً له على الهداية والرشاد والإستسلام الطوعي لأحكام الشريعة , قال تعالى[إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]( ).
لقد أراد الله عز وجل للقرآن أن يكون الوثيقة السماوية الخالدة في الأرض وهو من أبهى مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، وكل آية من القرآن حجة بذاتها وحجة بصلتها مع غيرها من الآيات .
وهذا هو الجزء الخامس عشر من التفسير , ويتضمن تفسيراً لست آيات من سورة البقرة، وكل واحدة منها مدرسة في الإنذار والبيان وتجليات الحكمة وبرهان لتقبيح الدعاوى الزائفة.
إنها مضامين قدسية من عالم الملكوت كاشفة عن اسرار غيبية ومعارف الهية ويصدقها الحس والوجدان، وتدعو إلى الإتعاظ من قصص وسنة الأمم السابقة من أتباع الأنبياء، وفيها شاهد على توالي النعم الإلهية عليهم خاصة من بين الناس مع الإمهال والتقريب إلى منازل التوبة بتنزيل الكتب ودعوة الأنبياء إلى الله، ولقد إنتفع المسلمون من مضامين قصص القرآن وبيانه لأحوال المليين وأهل الكتاب، ليصدق على هذه الآيات الامرأة والمسمى لها من وجوه:
الأول : نزول هذه الآيات من الله بالنص وبواسطة جبرئيل عليه السلام.
الثاني : إختصاص نزول الآيات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم تنزل هذه الآيات على نبي قبله، وليس من نبي بعده فهو[وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ]( ).
الثالث : مطابقة أخبار هذه الآيات لواقع وحال الأمم السابقة، ومجيؤها بلغة الخطاب حجة إضافية، ولا يقبل الخبر القرآني إلا الصدق، قال تعالى[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( ).
الرابع : التوثيق بعلوم الغيب للوقائع في الأزمنة الغابرة، ومنها ما غاب عن الوجود الذهني للناس، قال تعالى بخصوص قصص القرآن[ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( ).
وتضمن هذا الجزء تفسير الآيات 87-92 من سورة البقرة وتبدأ أول آية بقوله تعالى[وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ…..] وتبدأ آخر آية منها[وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ] وفيه آية في بيان عظيم شأن موسى عليه السلام بين الأنبياء وإخلاصه في جذب بني إسرائيل إلى الإيمان، وكل بعثة نبي نعمة على الناس جميعاً، تجلت بتوثيقها في القرآن مع بيان الآيات والدلالات التي جاء بها، ومن مضامين الكتاب والبينات التي جاء بها موسى عليه السلام البشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة إلى التصديق به، لتكون قصص الأنبياء السابقين في القرآن وما لاقوه من قومهم من الأذى الشديد حجة على صبر المسلمين في جنب الله وتعاهدهم لسنن ونهج الأنبياء، وفيه تنمية لملكة الصبر والسعي في سبيل الله عند المسلمين، قال تعالى[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( ).
قوله تعالى [وَلَقدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابن مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ] الآية 87.
الإعراب واللغة
(قرأ أهل الكوفة الرسل مثقل في جميع القرآن، وقرأ ابن كثير القدس بسكون الدال حيث وقع، الباقون بتثقيلها)( ).
ولقد: الواو حرف عطف، واللام: قالوا إنه جواب قسم محذوف، ولا دليل على أنه للقسم.
قد: حرف تحقيق.
آتينا: فعل ماضِ وفاعل.
موسى: مفعول به أول.
الكتاب: مفعول به منصوب الفتحة.
وقفينا: عطف على آتينا.
عيسى: مفعول به أول، إبن: بدل أو صفة، مريم: مضاف إليه، البينات: مفعول به ثان.
وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم.
وأيدناه: عطف على ما تقدم.
بروح القدس: الباء: حرف جر، بروح: امرأة مجرور وعلامة جره الكسرة وهو مضاف، القدس: مضاف إليه مجرور بالكسرة.
أفكلما: الهمزة للإستفهام، والفاء: عاطفة، كلما: ظرف زمان متضمن معنى الشرط.
جاءكم: فعل ماضِ، ومفعول به مقدم.
رسول: فاعل مرفوع بالضمة، والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها.
بما: الباء: حرف جر.
ما: امرأة موصول مجرور بالباء محلاً.
لا: نافية، تهوى: فعل مضارع، أنفسكم: فاعل مرفوع، وهو مضاف، والضمير مضاف اليه.
إستكبرتم: فعل ماضِ وفاعل، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم.
ففريقاً: الفاء: حرف عطف، فريقاً: مفعول به مقدم.
كذبتم: فعل ماضِ وفاعل.
وفريقاً: الواو: حرف عطف.
فريقاً: مفعول به مقدم لتقتلون.
تقتلون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو: فاعل.
قفينا: أي اتبعنا وأصله من القفا (قفي) القاف والفاء والحرف المعتل أصلٌ صحيح يدلُّ على إتْباعِ شيءٍ لشيء. من ذلك القَفْو، يقال قَفوت أثَرَه. وقَفَّيتُ فلاناً بفلانٍ، إذا أتْبَعتَه إيّاه)( )، والقفا كل تابع وهو مؤخر العنق ومنه أستل الإصطلاح “قافية الشعر” لأنها قفو وتتبع البيت.
وفي الحديث: يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ( ).
عيسى: علم أعجمي، وهو بالسريانية يشوع، وقيل عبراني، وقد يكون مشتقاً من العيس وهو في العربية(بياض يخالطه شقرة) ( )، ومنه سُميت بعض الإبل العيس وهي كرام الإبل ويقال: جملٌ أَعْيَسُ، وناقة عَيْساء( )، وهذا المعنى للامرأة بالعربية أمارة لغوية على أنه عربي، لإتحاد الإشتقاق وفرع لقاعدة عقائدية وهي عربية القرآن، قال تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ).
مريم: ذكر أنه علم أعجمي ولهذا منع من الصرف، ولكن المريم في اللغة العربية من النساء كالزير من الرجال، والزير الذي يخالط النساء ويمازحهن بغير شر، وسيأتي بيان لامرأة عيسى ومريم في سورة آل عمران( ).
البينات: جمع بينة وهي المعجزة والحجة الظاهرة والدليل الواضح.
والإستكبار: طلب الترفع وترك الإذعان للحق، ويقال إستكبر الرجل أي رفع نفسه فوق مقدارها .
وأصل الهوى الميل إلى الشيء، وقال القرطبي: سمي الهوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار.
وهذا بعيد لإستعماله في الحق أيضاً، وعن عائشة قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه و سلم وأقول وتهب المرأة نفسها ؟ فلما أنزل الله عز و جل { ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت } قالت قلت والله ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك( ).
وإستعمال الهوى في الغالب لمعاني الشهوة واللهو ونحوهما لا يدل على الحصر بها، ولعل التسمية مستعارة من امرأة الهواء لما في هذا الميل من العاطفة والإقبال ورغبة النفس.
في سياق الآيات
تبدو في الآية لغة التخويف والتوبيخ لأولئك الذين نقضوا الميثاق، ولكنها هنا تظهر من خلال موضوع النبوة وتوالي أسباب الهداية، وإقامة الحجة عليهم.
فبعد صيغ الإنذار والذم جاءت هذه الآية للإخبار عن بعثة موسى عليه السلام ومن بعده عيسى في إشارة إلى لزوم التصديق بالنبوات، وعدم التفريط والتكذيب ببعضها.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التصديق بالنبوات والرسالات السماوية السابقة على نحو العموم المجموعي (وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تخيروا بين الأنبياء( ).
وتتضمن الآية الحجة على بني إسرائيل بالنعمة العظيمة التي أنعمها الله تعالى عليهم بنزول الكتاب على موسى، إلى جانب النعم الأخرى التي ذكرتها هذه الآيات وهي:
الأولى : تفضيل بني إسرائيل على العالمين في زمانهم.
الثانية : نجاتهم من آل فرعون بعد العذاب الشديد الذي كانوا يلاقونه منهم، قال تعالى[وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ]( ).
الثالثة : شق ماء البحر وإنشطاره إلى قسمين ليمشي بنو إسرائيل فيه، ويعبروه بسلام وأمن هرباً من فرعون وقومه.
الرابعة: غرق آل فرعون بعد تعقبهم لبني إسرائيل، وفيه دلالة على أن المعجزة والنعمة الإلهية العظيمة لاينتفع منها عدو الإسلام بل هي خاصة بالمؤمنين، ولو آمن فرعون وجنوده قبل عبور البحر فهل يتغشاهم الماء ويغرقون .
الجواب لا، لتبدل الحكم مع تغير الموضوع، ولإختلاف النية، فيكون حينئذ العبور إتباعاً وتسليماً بنبوة موسى عليه السلام ونصرته والله واسع كريم، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]( ).
الخامسة : مواعدة الله عز وجل لموسى عليه السلام أربعين ليلة.
السادسة : عفو الله تعالى عن بني إسرائيل بعد إتخاذهم العجل وظلمهم لأنفسهم، قال تعالى [ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ]( ).
السابعة : إتيان موسى الكتاب والفرقان لهداية بني إسرائيل.
الثامنة : حث موسى عليه السلام لبني إسرائيل على التوبة وإخباره لهم بتوبة الله تعالى عليهم، قال تعالى [فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( ).
التاسعة : بعثهم بعد الصاعقة التي أصابتهم بسبب سؤالهم رؤية الله جهرة.
العاشرة : بيان علة البعث وهي رجاء شكرهم لله تعالى على النعم، وفيه بيان للفارق، بين المؤمن والكافر، فبنو إسرائيل بعثهم الله بعد الصاعقة، ولم تصب الصاعقة موسى وهارون , وفيه آية أخرى وشاهد على المعجزة وإرادة التأديب، أما فرعون وجنوده فقد غرقوا في البحر وهلكوا وإنتهت أيامهم [فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]( ).
الحادية عشرة : تغشي السحاب الأبيض الرقيق بني إسرائيل، ووقايتهم من الحر والبرد وشدة حرارة الشمس.
الثانية عشرة : نزول مادة حلوة كالعسل على بني إسرائيل وهي المن، مع طائر لذيذ هو السلوى، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى]( ).
الثالثة عشرة : إنقضاء أيام التيه، ودخول بني إسرائيل القرية بأمر من عند الله مع دعوتهم للإستغفار وإظهار الخشوع لله تعالى.
الرابعة عشرة : إستسقاء موسى لبني إسرائيل، ونزول الأمر الإلهي له بضرب الحجر بعصاه وإنفجار الماء منه.
الخامسة عشرة : تعدد عيون الماء الذي يخرج من الحجر بعدد أسباط بني إسرائيل.
السادسة عشرة : زجر بني إسرائيل عن الفساد والفجور وإشاعة الفحشاء في الأرض.
السابعة عشرة : إقرار بني إسرائيل بنعمة المن والسلوى، الذي يستلزم الشكر منهم، ولكنهم قالوا [لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ] ( ).
وسألوا موسى مما تخرجه الأرض من الطيبات مع أنه أدنى رتبة من المن والسلوى الذي ينزل من السماء، فاستجاب لهم الله تعالى وأمرهم بالنزول إلى أرض مصر، قال تعالى[إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ]( ).
الثامنة عشرة : بعثة عيسى عليه السلام ثم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنجاة بني إسرائيل من الذلة والمسكنة، بإتباع الأنبياء والإمتثال لأوامر الله تعالى ، وفي عيسى ورد في التنزيل[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ…]( ).
التاسعة عشرة : أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل، وأمرهم بتلقي الأحكام بقوة وعدم التفريط بها.
العشرون : عظيم فضل الله تعالى على بني إسرائيل بعد توليهم وإعراضهم.
الحادية والعشرون : تغشي بني إسرائيل برحمة الله.
الثانية والعشرون : الأمر الإلهي بذبح بقرة للكشف عن الجاني بعد حدوث جريمة قتل، وتردد بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لموسى عليه السلام قال تعالى[فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ]( ).
الثالثة والعشرون : إخبار هذه الآيات عن تخلف فريق من بني إسرائيل عن شكر النعم، وعن مقابلتها بالرضا والقبول، إذ أنهم أعرضوا عن الآيات والأحكام، ولم يواظبوا على الإمتثال للأوامر الإلهية وأداء العبادات، مع إتخاذهم العجل،وإعتدائهم في السبت , قال تعالى[الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ]( )، وما فيه من الظلم لأنفسهم.
الرابعة والعشرون : أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن لا يعبدوا إلا الله تعالى، وأن يبر كل واحد منهم والديه ويحسن إليهما، ولا ينحصر هذا الحكم بالذكور منهم بل يشمل الأناث من بني إسرائيل.
الخامسة والعشرون : تعاهد صلة الرحم، والإحسان إلى اليتامى والمساكين، وبيان وجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وتعاهد شطر من بني إسرائيل لهذه الأحكام مع توالي النعم على عموم بني إسرائيل.
السادسة والعشرون: تفضل الله تعالى بزجر بني إسرائيل عن الإقتتال فيما بينهم ومن مصاديق هذا الزجر الميثاق والعهد الإلهي، وصيرورة هذا الإقتتال بمثابة قتل النفس، قال تعالى[وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ]( ).
السابعة والعشرون : تعاقب الأنبياء بعد موسى عليه السلام وبلوغ بني إسرائيل دعوتهم وأخبار نبوتهم وما جاءوا به من عند الله.
وجاءت الآيات التالية بذكر نعم أخرى على بني إسرائيل وهي:
الأولى : نزول القرآن وما فيه من تصديق التوراة، وحفظ شريعة موسى عليه السلام من التحريف والتغيير، وتثبيت إمتياز بني إسرائيل على الكفار المشركين، لأن اليهود أتباع كتاب سماوي هو التوراة لذا لم تذكره الآية بالامرأة بل قالت في وصف القرآن[مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ]( ).
الثانية : توجه القول والدعوة المتعددة لهم للإيمان والتصديق بالقرآن، بقوله تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ].
الثالثة : مجئ موسى عليه السلام لبني إسرائيل بالمعجزات الحسية كآية العصا وإتخاذهم العجل عند غيابه، وفيه دليل على لزوم تعاهد إتباع موسى عند غيبته وعند إنتقاله إلى الرفيق إلأعلى لأنه جاء بالآيات البينات الدالة على صدق نبوته , وما يخبر به عن الله ، قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ
آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ] ( ).
الرابعة : تعدد وكثرة المواثيق التي أخذها الله على بني إسرائيل، ومنها ما إقترن بآيات التخويف والوعيد، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ]( ).
وصلة هذه الآية بالآية السابقة [اُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ] ( )، من وجوه :
الأول : إبتدأت الآية السابقة بامرأة الإشارة (اولئك) بينما إبتدات هذه الآية بالإخبار عن التنزيل.
الثاني : إقامة الحجة على الذين أعرضوا عن الكتاب وإنشغلوا بالدنيا وزينتها.
الثالث : بيان فضل الله عز وجل على الناس بتنزيل الكتب السماوية وبعثة الأنبياء ، بلحاظ نظم هاتين الآيتين فان إنقطاع الناس للدنيا لم يمنع من نزول الكتاب ووصول دعوة الهداية والآيات إليهم , وفيه حث للمسلمين بالقيام بوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برفق وهو من عمومات قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الرابع : أخبرت الآية السابقة بأن العذاب لا يخفف عن الذين يجحدون بالتنزيل جاءت هذه الآية بذكر فضل الله على أهل الكتاب والناس بالنبوة والتنزيل .
الخامس : يفيد الجمع بين الآيتين إقامة الحجة الجاحدين والفاسقين وغلبة الهوى على نفوسهم وخياراتهم ، قال تعالى في ذم الكفار [أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ]( ).
السادس : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه منها :
الأول : اولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ولقد آتينا موسى الكتاب .
الثاني : فكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة .
الثالث : اولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم .
السابع : بيان علة الإستكبار والجحود الذي عليه الكفار وهو المانع الذاتي لحبهم الدنيا وإنقطاعهم إلى الدنيا، مع وجود وتعدد المقتضي للإيمان.
الثامن : لما أخبر الله عز وجل الملائكة بجعل خليفة في الأرض احتجوا على فساده ووقوع القتل في الأرض بغير حق، وما في هذا القتل من التعدي على الخليفة وأسرار نفخ الله الروح في آدم.
أي أن الملائكة لم يرضوا بأن يتعرض للقتل بغير حق المخلوق الذي أكرمه الله بالنفخ فيه من روحه خصوصاً وأن آية البحث أخبرت بأن الأنبياء ذاتهم تعرضوا للقتل، ولكن الله عز وجل أجاب الملائكة بالقول[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علمه في المقام أمور :
الأول : توالي بعثة الأنبياء للناس.
الثاني : إكرام الأنبياء ببقاء أسمائهم معروفة عند الناس ببركة القرآن والتنزيل مطلقاً، وفيه دعوة للناس للإيمان.
الثالث : لهث فريق من الناس وراء زينة الدنيا ليس برزخاً دون توجه وتوجيه دعوة الإيمان لهم.
الرابع : مجئ القرآن بفضح الذين كذبوا الأنبياء، والذين قتلوهم، ومن خصائص القرآن بقاؤه إلى يوم القيامة مع سلامته من التحريف والتبديل والتغيير رسما وتلاوة .
الخامس : سوء عاقبة الكفار، وخلودهم في الجحيم.
وبعد أن أخبرت الآية التالية عن الإصرار على العناد(وقالوا قلوبنا غُلف) ( )،إنتقلت الآية التي بعدها إلى زمان نزول القرآن، ولم تذكر امرأة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم محاكاة لذكر آية البحث لامرأة موسى وعيسى عليه السلام، ولكنها ذكرت القرآن بصفة (الكتاب) وبينه وبين التوراة في المقام عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول : ورود كل من التوراة والقرآن بامرأة الكتاب.
الثاني : الشهادة السماوية بأن كلاً من التوراة والإنجيل والقرآن من عند الله.
الثالث : إرادة إتحاد موضوع التنزيل بين التوراة والإنجيل، وفيه حجة وتذكير لهم.
الرابع : مجيء كل من الآيتين بصيغة الجملة الخبرية.
أما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول : مجيء التوراة إلى موسى عليه السلام لقوله تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ]( )، أما القرآن فأنه جاء لبني إسرائيل[وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( )، وجاء للناس جميعاً.
الثاني : القرآن مصدق للكتب السماوية السابقة، وليس من كتاب ينزل من السماء بعد القرآن.
الثالث : إستحقاق الذين يجحدون بالقرآن اللعنة والطرد من رحمة الله، بعد قيام الحجة عليهم بإعراضهم عن الحق والتنزيل، كما في هذه الآية أو يجحدون بما عرفوا كما في الآية بعد التالية.
الرابع : نزلت التوراة على موسى عليه السلام، ونزل القرآن على خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والصلة بين هذه الآية والآية التالية من وجوه:
الأول : أختتمت هذه الآية بصيغة الخطاب، وجاءت الآية التالية بصيغة الغائب.
الثاني : تتضمن كل من الآيتين الذم والتبكيت للذين يجحدون بالنبوة.
الثالث : يؤكد الجمع بين الآيتين جهاد الأنبياء في دعوة الناس لسبل الإيمان، وأن سعيهم وتبليغهم خير محض.
الرابع : بيان القبح الذاتي للكفر والضلالة.
الخامس : عطف مضامين الآية التالية على هذه الآية، فمع التعدي على الأنبياء قالوا إن قلوبنا لا تفهم ولا تعي مما يدل على الإصرار على الظلم والتعدي وعدم إظهار الندم على سوء الفعل والظلم.
بحث مشترك
تستقرأ بلحاظ نظم الآيات من إخبار الآية الكريمة عن نزول الكتاب على موسى عليه السلام بصيغة الإحتجاج والتوبيخ لأهل الجحود بأن نزول التوراة على موسى نعمة من عند الله على بني إسرائيل، وأنه جاء بأحكام الشريعة ، وبيان الحلال والحرام .
وفيه شاهد على إقرار المسلمين بالكتب السماوية السابقة، ودعوة لبني إسرائيل إلى التوراة وما فيها من الأحكام والبشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ]( ).
وتبين الآية عظيم منزلة موسى لذا فإنه من الرسل الخمسة أولي العزم، وهذا أيضاً من إعجاز القرآن، وهو تعدد الوجوه والمقاصد في الخبر القرآني، وتوكيد تعدد المعاني للفظ المشترك بحسب موضوع الآية وموضعها من القرآن مما يؤكد صدق القول بأن ترتيب الآيات توقيفي وإحاطة كلمات القرآن المحدودة باللا محدود من الوقائع والأحداث وهو من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، فلقد أنزل الله عز وجل التوراة لتكون على وجوه:
الأول : إنها نبراس ومدرسة لأجيال بني إسرائيل.
الثاني : نزول التوراة برزخ دون الكفر والجحود بالنبوة.
الثالث : إنها مانع من الصدود عن التنزيل مطلقاً.
الرابع : فيها إنذار من إنكار النسخ في الأحكام.
إعجاز الآية
الأول : إظهار تتابع الرسل والأنبياء من إجل هداية بني اسرائيل.
الثاني : في الآية إخبار عن كيفية تلقي شطر من الناس كقريش للدعوة الاسلامية وعن كفرهم بالرسالة لمخالفتها لرغبات النفس الشهوانية وما يشتاقون إليه من اللذات الحسية مما يتعارض مع الأحكام السماوية.
الثالث : ما تدل عليه الآية بالدلالة التضمنية والمفهوم من المدح والثناء على المسلمين في إيمانهم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنهم كانوا على جاهلية ووثنية ولم تتعاقب عليهم الرسل والأنبياء.
الرابع : الإخبار عن توالي بعثة الأنبياء بعد موسى عليه السلام، قال تعالى[ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى]( ).
الخامس : تأكيد قبح الصدود عن الأنبياء وتكذيب معجزاتهم.
السادس : بيان عظيم منزلة المسلمين وإستحقاقهم لوراثة الأرض بإيمانهم وتصديقهم بمن لا نبي بعده.
السابع : إن الله عز وجل يتعاهد الشريعة والكتاب المنزل بإرسال الرسل والأنبياء، وكان النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، وتلك مسألة تتفرع عنها دراسات عديدة منها إعتبار الإمامة والمصاديق العقائدية في سنته صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية والتقريرية، قال تعالى في إبراهيم[إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا] ( )، فمن باب الأولوية أن ينال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة الإمام في سبل الهداية .
وهل حفظ النبوات وأسماء الرسل ومنهم موسى وعيسى عليهم السلام بنزول القرآن من عمومات [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( )، الجواب نعم، وتتجلى معاني فعل التفضيل(خير) في المقام من وجوه :
الأول :إن حفظ ذكر الأنبياء بوساطة القرآن.
الثاني : بقاء القرآن سالماً من التحريف إلى يوم القيامة.
الثالث :قراءة الآيات التي فيها ذكر موسى وعيسى كل يوم وإلى يوم القيامة.
الرابع :الله خير حافظاً بأن جعل ذكر الأنبياء على لسان أهل الأرض صدق نبوة موسى وعيسى وما لاقاه الأنبياء من الأذى في جنب الله.
الخامس : عدم طرو التحريف والتغيير على قصص الأنبياء أو أسمائهم في القرآن ، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
السادس : ذم الذين آذوا الأنبياء.
السابع : الثناء على الذين إتبعوا موسى وعيسى عليهما السلام في القرآن والسنة النبوية.
وفي قوله تعالى[وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ] مسائل :
الأولى : الشهادة من الله عز وجل بأن التوراة كتاب نازل من عنده تعالى.
الثانية : تتابع الرسل وتوالي الكتب النازلة من السماء وهل هو من اللطف الإلهي بالناس أم من الحجة عليهم وعمومات قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، الجواب الأمران معاً.
الثالثة : إن الإستكبار والجحود من فريق من الناس، لم يمنع من بعثة وتوالي الأنبياء، فلم يغضب الله على أهل الدنيا وقطع منهم جيل التنزيل وسلطان النبوة وما فيها من المعجزات، بل تفضل فانزل القرآن وجعله محفوظاً وحاضراً بين الناس في المساجد والمنتديات والأسواق والبيوت.
ومن إعجاز القرآن أنه نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومع هذا فكل أمة تعتبره نازلاً لها وعليها أو أنه يمكن إستقراء هذا المعنى من لغة الخطاب في القرآن التي هي عامة وخاصة وتتوجه لأهل كل ملة ونحلة فجاءت بصيغة[يَاأَيُّهَا النَّاسُ]( )، و[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]( )، و[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ]( ).
وخطابات خاصة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ]( )، إلى جانب لغة الأمر بلفظ(قل) وغيره، ولا ينحصر موضوع تلك الخطابات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل هي عامة للمسلمين , وهو من الشواهد على وراثتهم الأرض وحملهم لواء التوحيد إلا ما خرج بالدليل، كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا]( )، وقد يأتي الخطاب بلفظ متحد، ولكنه مشترك ومتعدد في موضوعه وجهته كما في قوله تعالى[قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ]( ).
وقد يأتي الخطاب في أول الآية وهو الغالب، وقد يأتي في وسط أو آخر الآية، كما آية البحث فبعد أن جاءت بصيغة الغائب والتوثيق التأريخي لأحوال الأمم والأذى والضرر الذي وقع على الأنبياء أختتمت بصيغة الخطاب[فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ]( )، ليكون من إعجاز القرآن إتخاذ لغة اللوم والذم للإصلاح وتجديد الإنذار والدعوة إلى الإسلام ليكون من أسرار القرآن أم كل آية منه نزلت من السماء لتكون سلاحاً وسبيل هداية ورشاد وشاهدا على أهل الأرض.
ويمكن أن نسمي الآية بآية “وقفينا من بعده” ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية، وورد لفظ قفينا في القرآن أربع مرات، منها إثنتان في آية واحدة( ).
الآية سلاح
تساهم لغة التوبيخ في الآية في دعوة الناس لسبل الهداية والإيمان، وتبين للمسلمين الاصل الزائف الذي يعتمده أهل الجحود كي لا يغتروا بهم، ولا يؤثروا سلباً في إيمانهم وتقوي الإيمان عند المسلمين بما تظهره من وجوه البطلان في مفاهيم الضلالة.
وصحيح أن الآية جاءت خطاباً لبني إسرائيل، ولكنها تأديب للمسلمين ومدرسة فقهية وعقائدية وكلامية، من جهات:
الأولى: بيان فضل الله عز وجل على بني إسرائيل، إذ تقدم قوله تعالى[فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )،ومنه البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال ابن مسعود: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حمار، فقال لي : يابن أمّ عبد، هل تدري من أين اتّخذت بنو اسرائيل الرهبانية. قلت : الله ورسوله أعلم.قال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السلام يعملون بمعاصي الله سبحانه، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبقَ منهم إلاّ القليل،
فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبقَ للدين أحد يدعو إليه، فتعالوا نتفرّق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى يعنون محمّداً فتفرّقوا في غيران الجبال، وأحدثوا الرهبانية، فمنهم من تمسّك بدينه ومنهم من كفر، ثم تلا هذه الآية وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ.
وجاءت هذه الآية بذكر وجوه من تفضيل بني إسرائيل وهي:
الأول : بعث الله عز وجل موسى عليه السلام رسولاً نبياً من بينهم.
الثاني : نزول الكتاب على موسى عليه السلام وذكره بامرأة مخصوص.
الثالث : مجيء الآيات القرآنية بذكر التوراة على نحو التعيين وبالامرأة وهو التوراة.
الرابع : إجتماع الكتاب والآيات الحسية عند موسى عليه السلام، منها آية العصا.
الخامس : بعث الأنبياء والرسل بعد موسى.
السادس : عدم وجود فترة بين بعثة موسى عليه السلام وبعثة عيسى عليه السلام لبعثة الأنبياء والرسل الذين جاءوا بينهما.
السابع : بعث عيسى بالآيات الباهرات.
ومن إعجاز آية البحث أنها ذكرت نزول الكتاب على موسى، ومجيء البينات لعيسى، مع أن كل واحد منهما جاء الكتاب والبينات، قال تعالى[وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ] ( )، وفي عيسى ورد قوله تعالى[قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا] ( ).
الثامن : تفضل الله عز وجل بتأييد وتعضيد عيسى بجبرئيل ليكون مدداً سماوياً لبني إسرائيل في الهداية إلى العمل بالتوراة والإنجيل وتوارث البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسع : مجيء الرسل بما لا يهوى بنو إسرائيل في دلالة على جهاد الأنبياء ليتعاهدوا منازل الإيمان وسبل النجاة في النشأتين.
الثانية : إقامة الحجة على الأمم السابقة عامة، وبني إسرائيل خاصة بكثرة بعثة الأنبياء والرسل( ).
الثالثة : إنتفاع الناس جميعاً من الخطابات القرآنية الموجهة إلى بني إسرائيل، وهذا الإنتفاع مطلق وشامل للناس جميعاً، فكأن كل خطاب قرآني سور للموجبة الكلية، في منطوقه أو مفهومه , ليكون رحمة وموعظة.
الرابعة : خطابات القرآن لبني إسرائيل ودلالاتها دعوة للناس للإسلام، وتخفيف عن المسلمين في الدعوة والجهاد.
مفهوم الآية
الآية بيان لعظيم نعمته تعالى على بني اسرائيل وأنها جاءت بعد الإخبار القرآني عن نقض فريق منهم المواثيق وإقدامهم على التنازع والظلم فيما بينهم وتتضمن الآية معاني الإحتجاج.
وتنهى الآية في مفهومها عن غلبة الهوى على النفس والإختيار وتدعو إلى قهر النفس الشهوية والغضبية وإصلاح المجتمعات بالإستعداد العام لقبول الآيات والبراهين والحجج السماوية.
وتذم الآية خصلة الكبر وتخبر في مفهومها عن وقوف الهوى والعناد وراء رفض فريق من الناس لنبوة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما تؤكد الآية نزول رحمة الله تعالى وبعثه للأنبياء بالفرائض والسنن سواء رضي الناس أو لم يرض شطر منهم، (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : يقول الله عز وجل: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما ألقيته في النار( ).
وجاء الحديث القدسي بصيغة المضارع مما يدل على أنه قانون كلي في الإرادة التكوينية، وأن الكبرياء والترفع على الناس مجلبة للبلاء وصنوف العذاب.
وفي الآية مسائل:
الأولى : إن أكرم موسى إذ أنزل عليه الكتاب وهو التوراة، وفيه فضل ونعمة على بني إسرائيل.
وجاءت الآية للتذكير بهذه النعمة والدعوة إلى عدم الجحود بها، وهي من أفراد ومصاديق الميثاق ، وتتضمن موضوعاته وأحكامه.
الثانية : ذكر حقيقة عقائدية وهي عدم الوقوف عند رسالة موسى عليه السلام فبعثة الأنبياء متصلة من بعده، والآية تدل في مفهومها إلى ذم الذين لايؤمنون بالرسالات والمعجزات العقلية والحسية.
الثالثة : لم يبدأ الظلم للأنبياء بعدم التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد سبق تكذيب الأنبياء من بعد موسى عليه السلام قال تعالى[فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي]( ).
الرابعة : الشهادة السماوية لنبوة موسى وعيسى عليهما السلام، وبقاء هذه الشهادة حاضرة بين الناس وتتصف نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعضيد ونصرة الأنبياء السابقين بما لم يحصل مثله تعضيد في تأريخ الإنسانية إذ يتلو المسلمون نبأ نزول الكتاب على موسى وعيسى من وجوه:
الأول : إقرار المسلمين بأن أخبار النبوات السابقة حق وصدق.
الثاني : تلاوة المسلمين لأنباء الرسل على نحو الوجوب في الصلاة الواجبة والمندوبة.
الثالث : تعاهد وحفظ المسلمين للآيات التي تذكر نبوة موسى وعيسى.
الرابع: تلقي المسلمين لمسألة نبوة الأنبياء السابقين بالتصديق والتسليم.
الخامس : تدبر المسلمين بقصص الأنبياء، وإقتباس المواعظ منها.
الخامسة : لقد خلق الله عز وجل الناس، ولم يتركهم وشأنهم، بل تفضل بأمرين متلازمين.
الأول : بعث الأنبياء، وتتفرع عنه مسائل :
الأولى : مجئ النبي بالمعجزة والبينة التي تؤكد صدق نبوته.
الثانية : تصديق النبي للأنبياء السابقين.
الثالثة : عمل النبي بالشريعة التي جاء بها أو التي كانت سائدة من قبله، بلحاظ كبرى كلية وهي أن النبي الرسول يأتي بشريعة، أما النبي فانه يعمل بالشريعة التي جاء بها الرسول، وقد إنفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رسول لم يعمل بشريعة من قبله وليس من نبي بعده يعمل بشريعته بل عملت بها[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل( )، فان قلت إن آدم عليه السلام لم يعمل بشريعة السابقة له والجواب نعم، ولكن الأنبياء والرسل تعاقبوا بعده.
الثاني :تنزيل الكتب من السماء، وفيه مسائل:
الأولى : بيان قانون كلي وهو أن النبي يتلقى الأوامر من الله عز وجل وهو من معاني الرحمة الإلهية بالناس، قال تعالى[وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
الثانية : مصاحبة الكتاب السماوي والوحي للنبي، فلابد أن تتجلى مصاديق الوحي عند كل نبي.
الثالثة : ملازمة التنزيل للإنسان من حين هبوط آدم وحواء إلى الأرض وإلى يوم القيامة.
الرابعة : الناس شرع سواء في التنزيل، أي أن التنزيل ليس خاصاً بالأنبياء، وليس بعض الناس أفضل وأقرب من بعض للتنزيل والنهل منه، ولكن شطراً من الناس حجبوا عن أنفسهم نعمة النهل من التنزيل والعمل به.
السادسة : جاء من بعد موسى عليه السلام إثنان من الرسل أولوا العزم هما عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتتابع من بعد موسى أنبياء على شريعته، مع أن الآية جاءت بصيغة الجمع [وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ] وفيه وجوه:
الأول : إطلاق صفة الرسول على النبي مطلقاً بلحاظ البعثة والرسالة من عند الله تعالى.
وسيأتي في تفسير الآية ذكر عدد من أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى مثل داود وسليمان وزكريا ويحيى.
الثاني : إرادة عيسى والنبي محمد عليهما السلام بلحاظ أن الإثنين أقل الجمع.
الثالث : إشارة إلى تعاقب الرسل.
ولا تعارض بين هذه الوجوه الثلاثة خصوصاً وأن الآية جاءت في مقام الإحتجاج.
الرابع : في الآية شهادة ووثيقة سماوية بأن عيسى رسول من عند عز وجل.
الخامس :تتضمن رسالة عيسى التصديق الذاتي بها، لما جاء به من الآيات الحسية والدلالات التي تؤكد صدق نبوته، وفي التنزيل حكاية عن عيسى[وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ]( ).
السادس : تفضل الله تعالى بتأييد عيسى بروح القدس لإظهار معالم الدين ونصرته ووقايته من الأذى والكيد إلى أن يتم رسالته، وهل تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على ان عيسى عليه السلام لم يقتل ولم يصلب، لأنها أخبرت عن حصول التأييد والنصرة على نحو الإطلاق، الجواب تدل على حتمية إنتصار عيسى وبيان رسالته وإقامة الحجة والبرهان على صدقها، ووجود أنصار وأتباع له.
السابع : الإخبار عن حال بني إسرائيل في تلقي الرسل وما يأتون به من عند فمع البينات وتأييد روح القدس لابد من الإستجابة والإمتثال، وولكن فريقا من الناس واجه عيسى بالصدود والإعراض.
وفي الآية مدح للذين صدّقوا بنبوته وإتبعوه، وفيها ثناء على المسلمين لتصديقهم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه وإختيار الشهادة تحت راية التوحيد.
الثامن : بيان حقيقة عقائدية وهي عدم التوافق بين المبادئ والهوى، خصوصاً بالنسبة لأولئك الذين إشتروا الحياة الدنيا ومالوا إليها وركنوا الى زينتها.
التاسع : اللوم والذم على الإستكبار والتجافي عن الحق.
العاشر : فضح ما إرتكب فريق منهم مع الأنبياء، إذ تقسم الآية فعلهم وصيغ تصرفهم مع الأنبياء إلى قسمين:
الأول: التكذيب والإعراض عن الأنبياء.
الثاني: قتل الأنبياء.
وإن كان لفظ القتل أعم من مباشرته فقد يكون بإغراء السلطان بهم.
الحادي عشر : بيان جهاد أنبياء بني إسرائيل وأنهم يبذلون الوسع لمنع إتباع الناس الهوى.
الآية لطف
لقد شرّف الله عز وجل الأنبياء بالنبوة والرسالة، ومع أن فريقاً من بني إسرائيل قابلوا الرسل بعد موسى بالتكذيب أو القتل، فان الله عز وجل لم ينتقم منهم ويستأصلهم من الأرض بل بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً ومنهم بنو إسرائيل , قال تعالى[إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ) .
وجاءت هذه الآية بتذكيرهم بالنعم الإلهية عليهم، وفيها دعوة للتدارك، وتقريب للطاعة، وجذب للإيمان.
ومن الإعجاز في البعثة النبوية مجئ الآيات العقلية تعضيداً وتثبيتاً للآية الحسية، وتوثيقاً لها يستمر إلى يوم القيامة، فهذه الآية لطف إلهي ببني إسرائيل، وكذا مضامينها والتذكير بها وتلاوة المسلمين لها.
وهل ينحصر هذا اللطف بأيام تنزيل القرآن، للزوم تصديق وإتباع بني إسرائيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه أعم.
الجواب هو الثاني، فهذه الآية غضة طرية تدعو بني إسرائيل للإسلام، وتؤكد لهم أن التصديق بنبوة عيسى ومحمد عليهم السلام عزيمة وواجب وليس رخصة .
وجاء الخطاب للحاضر من بني إسرائيل مع أن الذين إستكبروا وجحدوا غيرهم وفيه دعوة لتلقي الخطاب التكليفي من غير إعتبار للتركة الثقيلة التي في تكذيب رسالة الأنبياء لإرادة الهداية إلى سبل الإيمان، ويتلو المسلمون على نحو الوجوب كل يوم عدة مرات [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، فجاءت آية البحث دعوة للناس للنهج القويم الذي يقود إلى السلامة والأمن في النشأتين.
إفاضات الآية
إبتدأت الآية بذكر نزول الكتاب على موسى عليه السلام،والمقصود من الكتاب التوراة، والمراد من الألف واللام في (الكتاب) العهد وصف كتاب مخصوص وهو التوراة كما ذكر موسى عليه السلام بصفة الرسول وإرادة الألف واللام فيه , قال تعالى [فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ] ( )، وفي نعت التوراة بالكتاب أمور:
الأول: إكرام موسى وبني إسرائيل وأن الذي أنزل عليه علم وأوامر وأحكام من عند الله عز وجل .
الثاني: توكيد عظيم النعمة الإلهية على بني إسرائيل بإتيان رسولهم الكتاب.
الثالث: إقامة الحجة على بني إسرائيل بالإخبار عن نزول الكتاب وأحكام الشريعة على نبيهم.
الرابع: إن الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو ذات سنخية وسماوية الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام مع فارق في تكامل أحكام الشريعة في القرآن، فاذا كان بنو إسرائيل قد آمنوا برسالة موسى عليه السلام فمن باب الأولوية القطعية أن يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته.
الخامس: توجيه اللوم لفريق من بني إسرائيل على إيذائهم لموسى عليه السلام، وفي التنزيل حكاية عن موسى[لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ]( ).
وهل يمكن القول بأن الجحود بالبشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق هذا الأذى، الجواب لا دليل عليه، والقدر المتيقن هو إيذائهم لموسى عليه السلام من وجوه:
الأول: إصرار طائفة منهم على الجحود , كما ورد في التنزيل[اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ]( )،وتخلفهم عن نصرته وإعانته في قتال الجبارين.
الثاني: الكيد والمكر الخبيث الذي وجهه بعض الرؤساء لموسى عليه السلام، فقد روي (أن قارون دس إليه امرأة و زعم أنه زنى بها)( ).
الثالث: رمي جماعة منهم موسى عليه السلام بالأدرة، وهي نفخة في الخصية .
ومنه الحديث: إن بني إٍسرائيل كانوا يقولون إن موسى آدر من أجل أنه كان لا يغتسل إلا وحده ) وفيه نزل قوله تعالى[لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى]( ).
السادس : التذكير ببشارة موسى عليه السلام والتوراة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبيان حقيقة وهي أن إخبار موسى عليه السلام عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرع الكتاب النازل من السماء، وجزء منه.
وبعد ذكر نعمة نزول الكتاب من السماء على موسى عليه السلام جاء الشطر التالي من الآية بالإخبار عن إتباعه بالرسل، فهل هناك صلة بين الأمرين، وهل جاء الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام بالإخبار والبشارة بالرسل.
الجواب نعم، وهو من فضل الله تعالى على بني إسرائيل،ونعمة وعون لهم لتلقي الأحكام بالرضا والقبول، وفي قوله تعالى[وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ] حجة بلزوم التصديق بنبوة الأنبياء الذي جاءوا من بعد موسى ومنهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم تذكر الآية الأنبياء الذين تقدم زمانهم على موسى عليه السلام لأنها جاءت للحجة عليهم لتصديقهم بنبوته دون ما بعده من الرسل.
ومن الآيات أن الرسل أولي العزم الخمسة إثنان قبل زمان موسى عليه السلام وهما نوح وإبراهيم، وإثنان بعد موسى وهما عيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، والخامس هو موسى عليه السلام.
وجاءت الآية بالإشارة إلى لزوم الإيمان برسالة عيسى عليه السلام، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنها وردت للإحتجاج على أمة من أهل الكتاب ضمن إحتجاج القرآن على الناس جميعاً، قال تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وصحيح أن الآية جاءت خطاب لبني إسرائيل إلا أنها دعوة للناس جميعاً للتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وآيات الله.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية، وهي حجة ونصر من الله عز وجل لموسى عليه السلام لتأكيد رسالته وتلقيه التوراة من عند الله عز وجل، ولقد نصر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معركة بدر بالملائكة مدداً، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
وجاء نصر الله عز وجل لموسى عليه السلام في المقام بهذه الآية الكريمة بأن أخبر الله عز وجل بإنزال الكتاب عليه، وفيه مسائل:
الأولى : إنه حجة بأن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية.
الثانية : نصرة الأنبياء بمعجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : المدد في الآية القرآنية باق إلى يوم القيامة لتلاوة المسلمين لها في كل زمان، وسلامة القرآن من التحريف.
الرابعة : عموم منافع نصرة الأنبياء وتغشيها للناس جميعاً، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
وفي الآية دعوة للمسلمين للإيمان بالتوراة والكتب السماوية السابقة مثلما يؤمنون بالقرآن، ولا يقابلوا بني إسرائيل بالمثل فهم آمنوا بالتوراة وجحدوا بالقرآن، ولكن المسلمين يؤمنون بالتوراة والقرآن والكتب السماوية كلها.
ثم أخبرت الآية بوجود رسل جاءوا متعقبين لموسى عليه السلام وكلهم يتلقون الوحي من عند الله، ويدعون الناس إلى الإسلام وفيه شاهد على رحمة الله عز وجل ببني إسرائيل والناس جميعاً، لأن كل بعثة نبي رحمة من عند الله عز وجل.
ومن إعجاز الآية انها لم تقل (وقفينا بعده بالأنبياء )وفيه مسائل:
الأولى : الرسول أخص من النبي، ومرتبة الرسالة أعلى من مرتبة النبوة ومتأخرة عنها زماناً بلحاظ شخص النبي فيبلغ النبوة أولا .
الثانية : توكيد عظيم منزلة الأنبياء الذين بعثهم الله لبني إسرائيل ولزوم التصديق بهم، فمنهم من يرى الملك ويسمع الوحي، ومنهم من يسمع من غير أن يرى.
الثالثة : إقامة الحجة على بني إسرائيل، ولزوم التصديق بالأنبياء على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، وفي عيسى عليه السلام ورد قوله تعالى[وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
الرابعة: دعوة بني إسرائيل إلى التدبر بمعجزات الأنبياء الذين بعثوا بعد موسى عليه السلام.
والصلة بين أول الآية , وقوله تعالى [وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ] من وجوه:
الأول: عدم ترك الناس من غير رسول نبي يدعوهم إلى الله فترة من الزمان.
الثاني: الرسالة اللاحقة توكيد للرسالة السابقة، فالرسل الذين جاءوا بعد موسى عليه السلام يدعون للتصديق بنبوة موسى عليه السلام ونزول التوراة عليه من عند الله.
الثالث: بيان منزلة موسى عليه السلام في مراتب النبوة، وموضوعية نزول التوراة من عند الله، قال تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ]( ).
الرابع: توكيد الفضل الإلهي العظيم على بني إسرائيل ببعثة موسى عليه السلام، ومجيء الرسل تباعاً من بعده وإن لم يأتِ بعض الرسل بشرائع مبتدعة، إلا أن وجود النبي والرسول بين ظهرانيهم دعوة سماوية متجددة لعبادة الله، ومناسبة كريمة لكي يرى بنو إسرائيل المعجزات الحسية والشواهد التي تدل على وجوب الإيمان وإتباع الأنبياء، وتلقي البشارات بالقبول.
ويحتمل موضوع ومكان مجيء الرسل الذين جاءوا بعد موسى عليه السلام وجوهاً:
الأول : إنهم جاءوا لخصوص بني إسرائيل.
الثاني : كانوا في بني إسرائيل ولكن دعوتهم للناس كافة.
الثالث : التعدد والتباين في مكان وقوم الرسل.
الرابع : المعنى الأعم، وهو تعدد الرسل في بني إسرائيل بعد موسى، وتعددهم للأمم الأخرى مع كثرة الأنبياء عند بني إسرائيل على نحو الخصوص وهو من نعم الله عز وجل على بني إسرائيل, قال تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، والله واسع كريم، وان كان ظاهر الآية يؤكد إرادة الرسل الذين جاءوا لبني إسرائيل على نحو الخصوص لبيان فضل الله عليهم، وللحجة فلا يستطيعون القول بوجود فترة بين موسى وعيسى خالية من الأنبياء، والتعدد من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة.
ويدل تعاقب الأنبياء على محاربتهم للتحريف , ويحتمل قوله تعالى [وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ] وجهين:
الأول : إن عيسى عليه السلام يخرج بالتخصص من الرسل الذين ذكرتهم الآية [وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ].
الثاني : إنه من عطف الخاص على العام، وإن عيسى عليه السلام من الرسل الذين بعثهم الله عز وجل بعد موسى.
ولا تعارض بين القولين، وليس من ثمرة للتباين بينهما، فتدل الآية على كثرة الرسل الذين بعثهم الله عز وجل بعد موسى، وكان عيسى عليه السلام نبياً رسولاً.
وبينت الآية المنزلة العظيمة لعيسى عليه السلام بين الرسل، وكيف أن الله عز وجل خصه بالبينات والدلالات الواضحات، كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وأيده الله بجبريل، وفيه حجة في لزوم التصديق برسالة عيسى عليه السلام.
وذكر ان روح القدس كان مع عيسى من صغره لم يفارقه في حياته كلها، قال تعالى[وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ]( ).
وبعد أن بدأت الآية بصيغة الجملة الخبرية إنتقلت إلى صيغة الجملة الإنشائية بصيغة الخطاب بلغة اللوم والذم في كيفية مقابلة الأنبياء، فمتى ما جاء الرسول بما يخالف الهوى وحب الدنيا، وقام بالدعوة إلى الله والحث على إتيان العبادات والتكاليف أقدم فريق على قتله مثل يحيى وزكريا، أو تكذيبه وإنكار نبوته كما في عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إن علة التصديق بموسى عليه السلام هي أنه رسول من الله، وهذه العلة تنطبق على الرسل الذين من بعده، مما يفيد وحدة الموضوع في تنقيح المناط ولزوم التصديق بكل الرسل الذين جاءوا من بعد موسى عليه السلام خصوصاً وانهم يأتون بالآيات والبراهين الدالة على صدق نبوتهم.
التفسير الذاتي
جاءت هذه الآية في سياق بيان نعم الله عز وجل على بني إسرائيل، ولطفه تعالى في تقريبهم إلى منازل الطاعة والصلاح، من وجوه:
الأول: بعث موسى عليه السلام رسولاً إلى بني إسرائيل، إن ذكر بعثة موسى عليه السلام في نظم وذكر نعم الله عز وجل على بني إسرائيل شاهد على أن نبوته نعمة عظيمة عليهم، يجب أن يقابلوها بالشكر والثناء على الله عز وجل.
ويتجلى هذا الشكر بتصديقه وإتباعه، وليس إيذاءه , قال تعالى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي]( ).
ولقد جعل الله عز وجل موسى رائداً وإماماً لبني إسرائيل في النجاة من آل فرعون بما رزقه من المعجزات.
الثاني: نزول التوراة على موسى عليه السلام لقوله تعالى في أول الآية محل البحث [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ] وفيه بيان لعظيم النعمة الإلهية على بني إسرائيل بنزول التوراة، وما فيها من الأحكام والسنن، ولزوم العمل بها، وعدم التخلف عما فيها من الأوامر والنواهي.
وجاءت الآيات بتسمية القرآن بالكتاب، قال تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وفيه دعوة لبني إسرائيل للعمل بمضامين وأحكام القرآن.
الثالث : تفضل الله عز وجل بتعاقب الأنبياء والرسل على بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام، وهو من عمومات قوله تعالى [فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] من جهات:
الأولى : كثرة الذين بعثهم الله عز وجل إلى بني إسرائيل مبشرين ومنذرين.
الثانية : مجئ هؤلاء الأنبياء بعد الرسول موسى عليه السلام.
الثالثة : مع قيام بني إسرائيل بقتل أو تكذيب فريق من الأنبياء، فان الله عز وجل لم يحجب عنهم هذه النعمة العظيمة.
الرابعة : كان مجئ الأنبياء إلى بني إسرائيل على نحو التتابع، وليس من فترة بين موسى وبينهم، ومن الآيات في موضوع النبوة في بني إسرائيل أن رزق الله عز وجل هارون النبوة بدعاء موسى وفي أيامه ليكون له وزيراً، قال تعالى [سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ]( ).
الخامسة : لم تقل الآية (وقفينا من بعده بالأنبياء) بل ذكرت الرسل وهم أخص من الأنبياء فكل رسول نبي وليس العكس.
ولفظ (رسل) في الآية عنوان لبيان فضل الله على بني إسرائيل وأن الله عز وجل يبعث لهم الرسل الذين يأتون بالشرائع والأحكام، ويشمل هذا اللفظ الأنبياء الذين بعثهم الله لبني إسرائيل.
وعلى فرض إرادة (الرسل) على نحو الخصوص في الآية فانها لا تدل على عدم بعث الأنبياء بين الرسل، بل جاءت الآية للمعنى الأعم ودلالة كثرة الأنبياء الذين بعثهم الله عز وجل إلى بني إسرائيل ومنهم الرسل، وأن تعدد الرسل إلى بني إسرائيل فضل إضافي عليهم وعلى الناس .
وهل فيه مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب نعم، لما يؤسسه هؤلاء الأنبياء من الدعوة إلى إتباعه، ويتعاهدونه بالعمل بالتوراة وأحكام الشريعة.
الرابع : بعثة نبي الله عيسى عليه السلام.
الخامس : مجئ عيسى عليه السلام بالمعجزات الباهرات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وفيه دعوة لبني إسرائيل للهداية والإيمان، وتلك المعجزات نعمة عظيمة على بني إسرائيل، فليس عيسى عليه السلام وحده هو المقصود بتلك الآيات، فالمقصود بنو إسرائيل والناس جميعاً، فهم شرع سواء بمعجزات الأنبياء.
السادس : نسبة البينات إلى الله عز وجل وأنه هو الذي آتاها عيسى دعوة إلى عموم بني إسرائيل لعدم الإفتتان بنبوة عيسى عليه السلام من وجهين:
الأول : حث بني إسرائيل على عدم الجحود بنبوته وتكذيبه، وإغراء السلطان به.
الثاني: نهي النصارى عن الغلو في عيسى، والإخبار بأنه ليس رباً وإلهاً بل هو عبد الله عز وجل آتاه البينات، وفي التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا]( ).
ترى لماذا قالت الآية (عيسى ابن مريم) .
الجواب فيه توكيد لحقيقة أنه ولد من غير أب في آية ومعجزة من عند الله، ولأنها مكرمة له ولأمه تمنع من المعارضة، وتدفع الشك وأسباب الريب وتحتمل هذه الآية وجهين:
الأول: آية ولادة عيسى من غير أب من البينات التي ذكرتها الآية بقوله تعالى [وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ]( ).
الثاني: إنها ليس من البينات التي ذكرتها الآية.
الجواب هو الثاني،أي أن تلك الولادة معجزة أخرى قائمة بذاتها غير البينات التي آتاها الله عز وجل له، والظاهر هناك صلة بين ولادته من غير أب وإحيائه الموتى وهو سر من أسرار نفخ الله عز وجل من روحه في مريم قال تعالى [فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا]( )، وقد يشكل عليه بأن آدم نفخ الله عز وجل فيه من روحه ولم يولد في رحم، ومع هذا لم تكن عنده آية إحياء الموتى من أولاده.
والجواب جاء إحياء عيسى للموتى آية بينة ورحمة وفضلاً عليه وعلى بني إسرائيل، ودعوة لهم للإيمان، وكان للنفخ موضوعية في هذه الآية بفضل الله عز وجل، وقد رزق الله آدم سجود الملائكة له، والسكن في الجنة قال تعالى [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ]( ).
وبعد ذكر الآية للنعم التي تفضل الله عز وجل بها على بني إسرائيل قال تعالى [فَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ] مما يدل على إرادة لغة الخطاب في الآية كلها وان بدايتها جاءت لتذكير بني إسرائيل بالنعم.
وتحتمل الآية وجهين:
الأول: يأتي بعض الرسل بما تهوي نفوس بني إسرائيل.
الثاني: ما يأتي به الرسل على قسمين، قسم موافق لهوى فريق من بني إسرائيل، وقسم غير موافق لهواهم.
الثالث: ليس للآية مفهوم فلا تعني بأن من الرسل من يأتي بما تهوى نفوس بني إسرائيل.
والصحيح هو الثالث فلا تدل الآية على مجئ الرسل بما تهوى النفوس بغير مرضاة الله ولكنها جاءت لبيان علة صدود شطر من الناس عندما يأتي الرسول بالتكاليف والعبادات الشاقة، ودعوتهم لقتال الظالمين.
وقد جاءت الآية بثلاثة أفعال قبيحة هي:
الأول : الإستكبار، وعدم التسليم بمعجزات النبوة, وجاءت آيات القرآن بالوعيد للذين يستكبرون عن طاعة الله , قال تعالى[وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ]( ).
الثاني : تكذيب فريق من الأنبياء.
الثالث : قتل فريق من الأنبياء الذين بعثهم الله عز وجل للبشارة والإنذار، وقوله تعالى [وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ] دليل على إرادة عدد من الأنبياء السابقين وليس خصوص الرسل منهم، لأن آيات القرآن ذكرت وقوع هذا القتل على الأنبياء قال تعالى [وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ]( ).
ويحتمل موضوع الإستكبار في الآية وجوهاً:
الأول: إنه ذنب وإثم بذاته.
الثاني: إنه ذنب ومقدمة للتكذيب والقتل.
الثالث: إنه مقدمة للوقوع بالذنب والمعصية والتعدي على الأنبياء.
الرابع: الإستكبار برزخ دون التدبر بالآيات.
ولا تعارض بين هذه الوجوه , فمقابلة الرسل بالإستكبار معصية وجحود، وجاءت آيات القرآن بذم الإعراض والتجافي عن آيات الله , وفي الإحتجاج على الكفار ساعة قبض أرواحهم , قال تعالى[وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ]( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: التوكيد على نبوة موسى، وبيان وظيفة من وظائف نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي التصديق بالرسالات التي جاءت قبله.
ومن اللطف الإلهي أن هذه الوظيفة ليست من السنة وحدها بل من التنزيل الباقي إلى يوم القيامة من غير تحريف أو تغيير، وورثها المسلمون إلى يوم القيامة، وهو من عمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(أدبني ربي فأحسن تأديبي) ( ).
فهذه الآية تأديب للمسلمين جميعاً بالتصديق بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام والأنبياء الآخرين.
ومن الإعجاز أن الآية ذكرت الرسل بصيغة الجمع وفيه دليل على عظيم فضل الله تعالى على بني إسرائيل بكثرة الرسل من بعد موسى وإشارة إلى أن موسى عليه السلام بشّر بالأنبياء والرسل الذين يأتون من بعده، ودعا إلى تصديقهم وإتباعهم.
الثانية: توكيد حقيقة وهي أن عيسى عليه السلام جاء بالبينات والدلالات الدالة على نبوته وصدق رسالته.
وتقدير الآية أن رسالة عيسى تتضمن الحجة الذاتية , والشهادة على صدق نبوته إلى جانب التأييد والمدد الإلهي له.
وفيه إمارة على ظهور ديانة النصرانية، وكثرة أتباع عيسى عليه السلام وإن كذّبه قوم وحاولوا قتله.
وإذ ذكرت الآية ما رزق الله عز وجل عيسى من البينات فإنها لم تذكر ما آتى الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، والجواب أن هذه الآية ذاتها من البينات والبراهين الدالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالواسطة ودعوة إلى إستقراء ومعرفة الآيات التي جاء بها من عند الله، وجاء التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
والآية تحد وبيان وشاهد على إقرارهم بالآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان موسى عليه السلام آتاه الكتاب وعيسى رزقه الله البينات وأيده بروح القدس فماذا أعطى الله محمداً الجواب هو أن الله عز وجل آتى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب والبينات الدالة على نبوته وأيده بجبرئيل وصالح المؤمنين، فالآية حجة للمسلمين، ودليل يومي ظاهر على مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأخبار الغيب , قال تعالى[ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( ) وتتجلى يوميته بتلاوة المسلمين للآيات وظهور نزولها من الله عز وجل.
الثالثة : بيان عظيم منزلة عيسى بن مريم عند الله عز وجل والإخبار السماوي من كونه رسولاً من عند الله جاء بالمعجزات.
الرابعة : إقامة الحجة، وتوبيخ من لم يصدق بنبوة عيسى عليه السلام لأنه جاء بالبينات، وأيده من عند الله بروح القدس.
ولم تقف الآية عند الإخبار عن تأييد الله لعيسى بل ذكرت أمرين:
الأول: جريان المعجزات على يد عيسى عليه السلام , ومن إعجاز اللفظ القرآني أن المعجزة تجري على يد النبي ويذكرها القرآن بأنها نعمة من الله، وأنه تعالى هو الذي يؤتيها للنبي بقوله تعالى[وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ] وفيه دلالة على أن أي نبي لا يخفي أو يكتم ما يأتيه من الله عز وجل، فلا بد أنه يبينه، ويظهره للناس لذا جاء وصفها (بينات ) آية إعجازية لأنها بيان للحق ولزوم عبادة الله .
وفي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
الثاني : جاء التأييد الإلهي لعيسى بروح القدس.
والله تعالى قادر على أن يؤيده من غير واسطة , وفيه وجوه:
الأول : بيان فضل الله تعالى على عيسى عليه السلام .
الثاني : الإخبار عن حقيقة في الإرادة التكوينية وهي لوتخلف الناس عن نصرة الرسول فإن الله ينصره بالملائكة.
الثالث :خسارة وخيبة من يكذب بنبوة عيسى عليه السلام،لأنه مؤيد بروح القدس.
الرابع : تبكيت وذم الذين كذبوه وأرادوا قتله.
الخامس : بيان آية في مدرسة النبوة وهي أن الرسول التالي يأتي بآية عظيمة إضافية على ما عند الرسول السابق فقد أنعم الله عز وجل على عيسى بتأييده بروح القدس.
السادس : قد نصر الله عيسى والأنبياء بغير واسطة، إذ جعل المعجزات تجري على أيديهم.
وتبين الآيات والشواهد أن ما عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعظم مما عند عيسى عليه السلام فقد نصره الله عز وجل بالملائكة مسومين، فهزم أعداءه وأظهر الله الإسلام على الدين كله، قال تعالى بخصوص واقعة بدر[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، وفيه دعوة للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعث اليأس في قلوب الذين يكذبونه، أو يحاولون قتله , ويسعون في الإضرار به وبالمسلمين.
الرابعة : الآية من علم الغيب والشهادة السماوية، وهو أمر ينفرد به القرآن، إذ أنها تتضمن كيفية تلقي أمر النبوة والرسل المتعاقبين، وتوثق إعراضهم عن الأنبياء من بعد موسى وإيذائهم لهم، ولا يشمل الذم اليهود الذين صدّقوا بالأنبياء من بعد موسى عليه السلام.
الخامسة : الأصل هو التصديق بالأنبياء، وهو من دين الفطرة، أما الذين لا يصدقون بهم فهم على مراتب متفاوتة، وأشدهم الذين يقومون بقتل الأنبياء، فجاءت الآية بالإخبار عن وجودهم، وحصل القتل العمدي للأنبياء بما هم أنبياء أي لأنهم يدعون إلى الله عز وجل، ويأمرون بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادسة: بيان ما كان يلاقيه الأنبياء من بني إسرائيل مع وجود قاعدة كلية تستغرق وتشمل بعثة كل نبي، وهي مجيؤه بالآيات الباهرات التي تدل على نبوته، والتي تفيد التحدي وتكون سالمة عن المعارضة.
السابعة:تخاطب النبوة العقل، والبينات حجة على الناس لما فيها من الدلالة على صدق الأنبياء، وهي نعمة على الناس، وقد ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب.
فجاءت الآية لدعوة بني إسرائيل للتوجه إلى الله تعالى بالشكر القولي والفعلي، ويتجلى الشكر الفعلي بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التفسير
قوله تعالى [ وَلَقدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ]
نعمة أخرى تذكرها هذه الآية وهي نزول الكتاب على موسى عليه السلام، والكتاب هنا هو التوراة، وفي الآية دلالات:
الأول : التذكير بالتوراة وتثبيت حقيقتها الشرعية وماهيتها السماوية.
الثاني : توكيد نزول الكتاب على موسى عليه السلام وتثبيت القرآن لنزول التوراة من عند الله عز وجل.
الثالث : التصدي لإحتمال التجرأ بصدد هذا الموضوع ومنع شيوع التحريف في الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام.
الرابع : إبطال ما إفتراه بعضهم من نفي لنزول الكتب من السماء، والتصدي بلغة الذم لما حصل من إنكار وجهل، وجاء في التنزيل [ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ]( ).
الخامس : فضل القرآن على اليهود بحفظ التوراة في الجملة، وإعتبارها وموضوعيتها، وهو آية من آيات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما جاء به من تصديق النبوات من قبله، وصيانتها وتوقير واكرام الأنبياء وتنزيه ساحتهم إلى يوم القيامة.
السادس : تنبيه بني اسرائيل إلى ضرورة حفظ التوراة من التحريف، ودعوتهم الى الإلتزام بما جاء فيها من الشرائع والأحكام لاسيما وان الحاجة تزداد إلى النصوص الصحيحة مع تشعب الدراسات والعلوم.
السابع : مشقة ما يأتي به الأنبياء من التكاليف والاحكام ولزوم العمل بها واتباعها وان لم تظهر النفس لها الإنقياد التام، لما في تلك التكاليف من السعادة الأبدية.
الثامن : الحث على الإيمان بالأنبياء على نحو العموم المجموعي أي أن النبوة موضوع واحد ولا يتحقق الإمتثال والإعتقاد بها إلا بالايمان بالأنبياء على نحو العموم المجموعي وبما جاؤوا به من عند الله تعالى.
التاسع : إقرار المسلمين بالتوراة وبالأصل السماوي لرسالة موسى وعيسى عليهما السلام، ولم يكتشف الناس بعد المنافع العامة على البشر مطلقاً، وعلى أهل الملل السماوية ما لهذا الإقرار وما ترتب عليه من صيغ التسامح ولو على نحو الموجبة الجزئية.
وقال الرازي (روي عن ابن عباس أن التوراة لما نزلت أمر الله تعالى موسى بحملها فلم يطق ذلك، فبعث الله لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حملها فخففها الله على موسى فحملها)( ).
ولكن الحديث مرسل ومنقطع ولم يذكر الرازي المتوفي سنة 606 هــ السند بينه وبين عبدالله بن عباس المتوفى سنة 68 هــ، وان كان مثل هذا غير بعيد عقلاً، وهو عنوان القدسية والشأن العظيم للتوراة.
والأرجح أن الرازي أو من سبقه أخذ الحديث مسنداً ولكن للإختصار لم يذكر السند.
ويمكن النظر إلى الحديث من جانب المقارنة بالقرآن الذي هو أشرف الكتب السماوية وما يرد من إكرام يتعلق بالكتب المنزلة فانه يتضاعف ويزداد بخصوص القرآن وقد خصّ الله عز وجل القرآن بشرف الثقل المعنوي والعقلي دون الحسي وحده، لذا ترى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأخذه العرقُ والعناء في الشتاء البارد عند نزول الآية .
وإذ كانت وطأة نزول الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شديدة، قال تعالى[إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً]( )، لتكون ساعة النزول شاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلقيه الوحي من السماء.
قوله تعالى [ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ]
جاءت الآية لبيان نعمة أخرى على بني اسرائيل بأن الله عز وجل لم يتركهم من بعد موسى عليه السلام من غير نبي بين ظهرانيهم، أو أن يكتفوا بالتوراة وما فيها من الأحكام، بل تتابع الأنبياء من بعد موسى عليه السلام على بني إسرائيل، وكل منهم يبلغ أحكام الله , ويجاهد في سبيل صلاحهم ولكنهم قابلوا بعضهم بالصدود وبعضهم بالقتل.
وتعتبر الآية شاهداً على عظيم فضله تعالى على الناس عامة وعلى بني اسرائيل خاصة بتعاقب بعث الانبياء والرسل، وفي ذم الذين إعتدوا على النبوة ورد في التنزيل [فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، فجاءت هذه الآية لتوكيد أصل الموضوع وهو وجود الأنبياء من بعد موسى عليه السلام ولكي لا يدعى أن هناك فترة من بين موسى وعيسى عليهما السلام.
وهل الرسل الذين جاءوا من بعد موسى عليه السلام [ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ] هم جميعاً من بني اسرائيل، أم أن الإطلاق في الآية يدل على الأعم.
الجواب هو الثاني لأن الآية جاءت بلحاظ البعثة والإرسال من الله تعالى الشامل للناس جميعاً وليس لخصوص بني اسرائيل.
ظاهر لغة الخطاب والقدر المتيقن من الفهم وما يستفاد من ذيل الآية أن الرسل توالوا عليهم من بعد موسى عليه السلام وهو من مصاديق النعم والتفضيل الذي خصّ الله به بني إسرائيل , وتجديد متصل لدعوتهم للإيمان، قال تعالى في خطاب لهم[اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( ).
وليس من مانع من شمول عيسى عليه السلام بالآية، لأن العطف فيها من عطف الخاص على العام ولما في بعثته من الخصوصية والآيات والدلالات والبينات، مع وجود أنبياء آخرين في نفس الفترة لأمم أخرى لاسيما وأن الإخبار في الآية لم يقيد بأمة أو مكان بل إنحصر التقييد بالزمان وإن إرسالهم كان بعد موسى عليه السلام.
ويشمل منطوق الآية رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته للناس جميعاً.
وفي الآية إظهار لموضوعية التوراة في بعثة الرسل الذين أعقبوا بعثة موسى عليه السلام .
وفي التتابع والترادف بين الأنبياء مسائل:
الأولى : الإقرار والتصديق بالأنبياء السابقين.
الثانية : بيان جهاد وصبر الأنبياء في جنب الله.
الثالثة : تأكيد نعمة الله على بني إسرائيل بمصاحبة النبوة لهم، ومن قومهم وبين ظهرانيهم.
الرابعة : يدل تعاقب الأنبياء على أمور:
الأول : تتابع التنزيل.
الثاني : تأكيد الأحكام الشرعية ومسائل الحلال والحرام.
الثالث : تجلي وحضور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند بني إسرائيل.
الرابع : توالي وتجديد البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : وجود أمة مؤمنة في كل زمان بلحاظ قانون كلي وهو وجود أتباع وأنصار لكل نبي من الأنبياء في حياته , وهل هذه الأمة على مرتبة واحدة من التقوى والصلاح في كل زمان من أيام أبينا آدم , الجواب لا بدليل التفضيل والثناء في الخطاب الإلهي للمسلمين[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامسة : تعاقب الأنبياء على بني إسرائيل نعمة قائمة بذاتها من وجوه:
الأول : لم تفز أمة بتتابع بعثة الأنبياء مثل بني إسرائيل، ففي كل طبقة منهم هناك نبي أو أكثر، ولا يغادرهم نبي إلى الرفيق الأعلى إلا ويبعث الله عز وجل نبياً منهم.
الثاني : تواتر أخبار السماء والوحي بين بني إسرائيل.
الثالث : تهيء أسباب الهداية ومقدمات الصلاح.
الرابع : بعثة الأنبياء مدد من الله لثبات بني إسرائيل على الإيمان، لا لحاجة من الله عز وجل إليهم، بل هو فضل من عنده تعالى ومن عمومات قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
الخامس : كل بعثة نبي لطف ورحمة من الله عز وجل.
السادسة : كل طبقة وجيل من بني إسرائيل يتلقى الأوامر والأحكام من السماء، ومن آيات النبوة إنتفاء الواسطة بين الله والنبي ، وكذا لا واسطة بين النبي والناس.
السابعة : من منافع وخصائص تتابع الأنبياء التوثيق السماوي للكتب النازلة ومنها التوراة والبشارة باللاحق من الرسل.
الثامنة : نهج المؤمنين من بني إسرائيل بضياء من الوحي والتنزيل، وبمقدورهم الرجوع إلى النبي في أمور الدين والدنيا، وشؤونهم العامة والخاصة.
ولما أخبر الله عز وجل الملائكة بجعل خليفة في الأرض إحتجوا بأن الإنسان يفسد كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، فلم يؤنبهم الله على كلامهم، ولم يتركه سدىً بل أجابهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وفي هذا الجواب حجة وبيان كريم، ويدل بالدلالة الإلتزامية على أمور:
الأول : تأكيد إكرام الله للملائكة إذ أن إخبارهم بموضوع الخلافة إكرام قائم بذاته.
الثاني : إن خلافة الإنسان في الأرض أمر حتم لا يقبل المحو.
الثالث : عدم التعارض بين إكرام الله للملائكة وفضله على الإنسان بالخلافة، قال تعالى[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( ).
ومن علم الله عز وجل في المقام هو تفضله ببعثة الأنبياء وتعاقبهم وتتابعهم نبياً بعد نبي إلى أن جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن[كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ]( ).
وعن ابن عباس في قوله{ولقد آتينا موسى الكتاب} يعني التوراة جملة واحدة مفصلة محكمة {وقفينا من بعده بالرسل} يعني رسولاً يدعى اشمويل بن بابل، ورسولاً يدعي مشتانيل، ورسولاً يدعى شعيا بن أمصيا، ورسولاً يدعى حزقيل، ورسولاً يدعى أرميا بن حلقيا وهو الخضر، ورسولاً يدعى داود بن أيشا وهو أبو سليمان، ورسولاً يدعى المسيح عيسى ابن مريم، فهؤلاء الرسل ابتعثهم الله وانتخبهم للأمة بعد موسى بن عمران، وأخذ عليهم ميثاقاً غليظاً أن يؤدوا إلى أممهم صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصفة أمته)( ).
قوله تعالى [ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ]
يدل موضوع ذكر عيسى في المقام على ما في بعثته من نعمة على بني إسرائيل سواء كان ذلك بالآيات والمعجزات التي جاء فيها، أم في دعوته إلى النصرانية بإعتبار أنه نبي رسول جاء بشريعة جديدة.
وعيسى من الرسل الخمسة أولي العزم، وقد ورد ذكره في القرآن خمساً وعشرين مرة، ولد بناحية بيت القدس، وأوحى الله إليه وعمره ثلاثون سنة، وقيل كان بين موسى عليه السلام وبينه ألف سنة، وبينهما ألف وسبعمائة نبي، وبين عيسى ومحمد خمسمائة وستون سنة وقيل ستمائة سنة (بعث الله فيها أربعة أنبياء ثلاثة من بني اسرائيل وواحد من العرب هو خالد بن سنان العبسي ) ( ).
والبينات التي آتى الله عيسى عليه السلام هي المعجزات من أحياء الموتى وقيل الذين أحياهم عيسى عليه السلام باذن الله أربعة نفر، وإبراءه للأكمه والأبرص، وتلك نعمة مركبة على بني اسرائيل ان يكون بين ظهرانيهم نبي رسول بعد مئات السنين على بعثة موسى عليه السلام وان يأتي القرآن بالإحكام وبالآيات الباهرات ويؤكد المعجزات الحسية وأن ينتفع بنو إسرائيل واقعاً من تلك النعم .
وهو من مصاديق قوله تعالى في خطاب لبني إسرائيل[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
ومن الآيات التي جاء بها عيسى عليه السلام الإنجيل وشريعته الجديدة، بالإضافة الى قصة مولده من غير أب أي انه ذاته معجزة تكوينية وتشريعية، وأمه مريم بنت عمران بن ماشان، وأم مريم حنة جدته وقيل إسمها حبابة، (وعن ابن عباس أنها الحجج والدلالات التي ذكرها الله في آل عمران والمائدة).
بحث لغوي
ذكر أن مريم امرأة أعجمي ووزنه مفعل وبناؤه قليل وميمه زائدة ولا يجوز أن تكون أصلية لفقد فعيل في الأبنية العربية, ومريم بمعنى الخادم وتقدم ان مريم بالعربية من النساء كزير من الرجال، وبه فسر قول رؤبة: (قُلْتُ لِزَيْرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ) ( ).
(قال أَبوعمرو ومَرْيَم مَفْعَل من رام يَرِيم وفي الحديث ذكر رِيمٍ بكسر الراء امرأة موضع قريب من المدينة) ( )، مما يدل على أن اللفظ عربي، ويقال: “لا أريم عن مكاني” من قولهم رامه يريمه ريماً أي برحه.
وإذا ورد قولان في لفظ قرآني أحدهما يقول بأنه أعجمي وآخر يقول بأنه عربي ففيه ذلك أربع صور:
الأولى : وجود دليل يدل على أنه عربي.
الثانية : وجود دليلين يدل أحدهما على أنه عربي، والآخر أنه أعجمي.
الثالثة : عدم وجود دليل على انه أعجمي أو عربي.
الرابعة : وجود دليل يدل على أنه أعجمي.
ففي الصور الثلاث الأولى يعتبر عربياً ولو على الظاهر والأرجح لعمومات قوله تعالى [ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ]( ) ونحوه من الآيات.
والصورة الرابعة تستلزم المزيد من التحقيق والبحث والإستقصاء اللغوي واللساني والتأريخي والعلمي، خصوصاً مع إستحضار مسألة في تأريخ الألسنة وهي إحتمال أن تلك الألفاظ التي يُقال أنها أعجمية كانت عربية بالأصل ثم جاء القرآن ليعيدها إلى الأصل، فأخذ الغير لها وإنتقالها بالعرض لا يمنع من إتيان القرآن لها أو أن العرب نطقوا بها ايضاً، لذا فعند الترديد يكون القرآن دليلاً مرجحاً لعربية اللفظ القرآني، قال تعالى[وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ]( ) لإرادة ألفاظ وكلمات القرآن.
ويمكن أن نؤسس قاعدة قرآنية ولغوية وهي :
إذا ورد قولان في لفظ قرآني، قول بأنه عربي وآخر بأنه أعجمي فيعتبر عربياً .
وهذه القاعدة تتفرع من قاعدة كبرى كلية تأسيسية أيضاً وهي “أصالة عربية اللفظ القرآني”.
قوله تعالى [ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ]
في الآية إعجاز قرآني يدل على المنزلة العظيمة لعيسى عليه السلام والإعانة والتقوية الظاهرة له في دعوته والتي تثبت واقعاً في هذا الزمان بعدد أتباع عيسى عليه السلام من النصارى، وكثرتهم في الأقطار وإن جاءت هذه الكثرة في شطر منها بأسباب معروفة تتعلق بالتبشير والمال ونحوه، كما أنها تمت في غياب الإسلام عن تلك الشعوب والأمم، ولكنه لا يمنع من وجود الحقيقة إنما يؤثر في سلب صفة الكمال ويدل على البدلية وعدم وصول الدعوة الإسلامية لهم مما أثر سلباً في عقائد بعضهم .
فقالوا بالأقانيم الثلاثة وغالوا في منزلة عيسى عليه السلام. وعبروا عن الذات مع الوجود باقنوم الأب , وعن الذات مع العلم باقنوم الابن , وعن الذات مع الحياة باقنوم روح القدس وجمعت بجملة (أباً وإبناً روحاً قدساً) وأقروا بأن الأقنوم الأول هو القديم وهو أصل الموجودات وأطلقوا صفة الأب على الله وليس بتام، كما تركوا ذكر صفة الإرادة والمشيئة المطلقة والقدرة الواسعة، والكلام وغنى الله وحاجة الكائنات والموجودات له في ذاتها وإستدامتها.
وإطلق امرأة الابن على المسيح وقد ورد في القرآن حكاية عنه[إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ]( )، وأرادوا بأقنوم روح القدس لتكّون عيسى في بطن مريم من غير أب.
وفي روح القدس وجوه:
الأول : إنه جبرئيل عليه السلام و سمي بالروح لوجوه:
الأول : للتشريف والإكرام، ولبيان علو منزلته.
الثاني : إنه يحيي الأديان بما ينزل به من الآيات والبينات.
الثالث : الغالب على فعله الروحانية، ليكون في إسمه رد على الذين قالوا إنه ينزل بالقتال والحرب.
الرابع : في تسميته بالروح إنذار وتوبيخ إلى الذين يعادونه، قال تعالى[قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
الخامس : (أنه سمي به وأضيف إلى القدس لأنه كان بتكوين الله تعالى إياه روحاً من عنده من غير ولادة والد ولده)( ).
السادس : لأنه ينزل بالوحي إلى الأنبياء، فتحيا به الحياة ، وهو مصداق العبادة ، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
السابع: لأنه لم تضمه أصلاب الرجال وأرحام النساء.
الثاني : المراد به الإنجيل لأن به إحياءً للدين وتنظيماً للمصالح.
الثالث : الامرأة الذي يحيي به عيسى عليه السلام الموتى، روي عن ابن عباس( ).
الرابع : إنه الروح الذي نفخ فيه، فالقدس هو الله تعالى ونسب روح عيسى عليه السلام الى نفسه تشريفاً له كما يقال بيت الله، عن الربيع.
لقد شاع أن جبرئيل هو الذي نفخ في مريم فولد عيسى عليه السلام، أو أنه هو الذي تعاهده في كل الأحوال، وكان يرافقه حتى أنه صعد معه إلى السماء، ولذا يتبادر إلى الذهن أن الروح هو جبرئيل.
وإعتماد منهج التفسير الذاتي للقرآن يساعد عليه، فقد ورد في نزول القرآن قوله تعالى [ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ]( )، وفي آية أخرى[نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ]( )، ووردت تسميته بقوله تعالى [ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
بحث كلامي
الفرق بين النبي والرسول
لقد شرّف الله عز وجل الأنبياء وأكرمهم وفضلهم على سائر خلقه , فهم قادة الأمم في سبل الصلاح , ومن ضمنهم الرسل وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً.
والرسول نبي إختاره الله للتبليغ والإخبار عنه , ومن غير واسطة إنسان آخر إلا أنه يمتاز عن النبي بأمور وفي الفرق بينهما اقوال ووجوه:
الأول : إن النبي لا يعاين الملك بخلاف الرسول، وعن زرارة قال: سألت ابا جعفر الباقر عليه السلام عن قوله تعالى [وكان رسولاً نبياً]( ) ما الرسول وما النبي؟ قال: النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول الذي يرى في المنام ويسمع الصوت ويعاين الملك( ).
الثاني : الرسول من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي من لم ينزل عليه، وإنما يدعو إلى كتاب من قبله.
الثالث : الرسول الذي نسخ بالكتاب الذي انزل عليه شريعة من قبله ومن لم يكن كذلك منهم فهو نبي، ولكن ظاهر هذه الآية يفيد ان الرسل الذين كانوا بعد موسى عليه السلام على شريعة موسى، ولم يرد في الأخبار تعدد الكتب المنزلة بعد موسى ولعلها تدل على وجود بعض الرسل من غير أن يكون لهم كتاب ينسخون به شريعة من سبقهم من الرسل.
الرابع : الرسول الذي يأتيه الملك ظاهراً ويأمره بدعوة الخلق، ومن لم يكن كذلك بل يرى في النوم فهو نبي.
الخامس : ما ورد عن الامام الرضا عليه السلام: الرسول الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلماته وينزل عليه الوحي، وربما يرى في منامه نحو رؤيا ابراهيم عليه السلام، والنبي يسمع الكلام، وربما رأى الشخص ولم يسمع، والامام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص، قال تعالى[وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي]( ).
السادس : حكم النبي خاص به نفسه ، أما الرسول فهو نبي مأمور بالتبليغ .
السابع : في الصحيح عن الاحول قال: سمعت زرارة يسأل ابا جعفر عليه السلام قائلاً: اخبرني عن الرسول والنبي والمحدّث. فقال: الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلاً، فيراه ويكلمه واما النبي فهو يرى في منامه على نحو ما رأى ابراهيم عليه السلام ونحو ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اسباب النبوة قبل الوحي حتى اتاه جبرئيل من عند الله بالرسالة، وكان محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل عليه السلام ويكلمه بها قبلاً.
ومن الانبياء من جمع له النبوة ويرى في منامه يأتيه الوحي فيكلمه ويحدثه من غير ان يكون رآه في اليقظة واما المحدّث فهو الذي يُحدَّث فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه .
الثامن : ان الرسول هو المبتدئ بوضع الشرائع والأحكام ، والنبي هو الذي يحفظ شريعة الله قاله الجاحظ مع بقاء الصفة الأصلية للنبي أو الرسول.
التاسع : النبي والرسول واحد . واستدل بقوله تعالى[وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ] وقيل لوكان النبي والرسول بمعنى واحد للزم تحصيل الحاصل , وليس بتام ومن الأدلة على التباين الرتبي بينهما [ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ]:
العاشر : قال القاضي “ان الرسول الثاني لا يجوز ان يكون على شريعة الأول حتى لا يؤدي إلا تلك الشريعة بعينها من غير زيادة ولا نقصان مع أن تلك الشريعة محفوظة يمكن معرفتها بالتواتر عن الأول”، وهناك تباين جهتي في القول أعلاه، فالزيادة أو النقصان في الشريعة السابقة لا يعني أن الرسول الثاني ليس على شريعة الأول وقد ورد في الشريعة الإسلامية قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( ).
والآية الكريمة في ظاهرها والأخبار الواردة تدل بالدلالة التضمنية على خلاف هذا القول، ولو في شطر من هؤلاء الرسل.
الحادي عشر : إن ذكر الأنبياء بلغة العموم والإطلاق لا يعني أنهم على مرتبة واحدة من جهة تلقي الوحي والوظائف، فقد ورد في كتاب البصائر عن الباقرين عليهما السلام: “المرسلون على أربع طبقات، فنبي تنبأ في نفسه لا يعدو غيرها، ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ويعاين الملك وقد أرسل إلى طائفة قلوا أو كثروا كما في قوله تعالى [ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ]( ) وقال: يزيدون ثلاثين الفاً.
ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل أولي العزم.
وقد كان إبراهيم نبياً وليس بامام حتى قال [ إِنِّي جَاعلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ]( ) أي من عبد صنماً أو وثناً وتجاوز الحد متعدياً لا يصلح للإمامة، وقد يرد الرسول بالمعنى اللغوي الأعم الشامل للنبي والرسول ويرد أحياناً بالمعنى الأخص .
الثاني عشر : بعثة النبي خاصة بالبشر, أما الرسول فيكون من البشر ويكون من الملائكة قال تعالى[اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً]( ).
الثالث عشر : أن الرسول هو المبعوث إلى أُمَّة، والنبي هو المحدث الذي لا يبعث إلى أمة، قاله قطرب)( ).
الرابع عشر : التداخل بين وظائف النبوة والرسالة، مع بقاء الصفة الأصلية للنبي أو الرسول، فتارة يقوم الرسول بمسؤوليات النبوة، وأخرى يقوم النبي بأعباء الرسالة.
إن ذكر الرسل على وجه الخصوص دون الأنبياء في الآية محل البحث له دلالات منها أولوية وموضوعية هداية الناس وعظم الحجة على بني إسرائيل لما ميّز الله عز وجل به الرسل وآتاهم من أسباب الدعوة والآيات الباهرات لاسيما وأن الآية تندرج في صيغ اللوم وبيان الفضل الإلهي، وهل بني إسرائيل ذكروا من باب المثال وأن الأمم الأخرى بعث لها ما بعث إلى بني اسرائيل، أم انهم خصوا وإنفردوا بنعمة كثرة الأنبياء دون غيرهم.
الأقوى هو الثاني وهو حجة عليهم.
وهل بعث الرسول لا يكون إلا بعد إندراس شريعة من سبقه من الرسل، أم أنه أعم.
فعلى القول الأول تعتبر الشريعة السابقة مندرسة ولو بالتحريف والتغيير إذ ما الفائدة من وجود الامرأة من غير وجود الموضوع والمسمى.
أما على القول الثاني فإنها باقية , والرسل جاءوا ليؤكدوا العمل بها ولدوام نفاذ أحكامها , ولتعاهد التوراة وصيانتها من التحريف والضياع حتى بلوغ مرحلة الاسلام والعمل بالقرآن، الجواب: هو الثاني فلا تصل النوبة للإندراس , من غير أن يتعارض هذا البقاء مع أحكام النسخ بين الشرائع لأنه يؤكد بأن كل شريعة لاحقة في طول الشريعة السابقة.
قوله تعالى [أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمْ]
الهمزة في (أفكلما) للإستفهام الإنكاري، وفيه لوم وذم مركب لهم، لأن الأصل هو تلقي الرسل بالتصديق والقبول والإتباع، بإعتبار ان كل بعثة نبي رحمة وفضل من الله تعالى على الناس جميعاً.
ومن الآيات أن بينت الآية علة الإعراض والجحود بالنبوة لعدم موافقة أحكام الرسالة لهوى تلك النفوس، مما يدل على عدم تهاون الأنبياء في أداء رسالاتهم وإن تسببت في نفرة النفوس والعناد والحرب على النبي وما جاء به من عند .
وفي الآية إشارة إلى مجيء رسالة خارج بني اسرائيل لتثبيت دعائم التوحيد، وقطع الطريق بوجه غلبة الهوى وسلطانه وحجبه للمعارف والقيم.
وذكرت الآية الإستكبار في مواجهة الآيات وهو مرحلة متقدمة زمانا وغير القتل والتكذيب، وفيه دلالة على موضوعية الإستكبار في الإعراض عن الأنبياء وعدم الإصغاء إلى صوت الحق والهداية.
وتدعو الآية بني اسرائيل والناس جميعاً إلى نبذ التجبر والعناد والإستكبار على الأنبياء للزوم تحكيم العقل في معرفة النبوات والآيات التي يأتي بها كل نبي مرسل منه تعالى.
وفي الآية عبرة وموعظة للمسلمين لما فيها من الإخبار عن حال
أهل العناد في تلقي رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن دأبهم الإستكبار على النبوات، واذا كانوا يقابلون الأنبياء من بني اسرائيل بالجحود والعناد , فمن باب أولى أن يقابلوا النبي الذي يبعث من غيرهم بذات العناد والإستكبار , وإن كان قياس الأولوية ليس كافياً في المقام لموضوعية المعجزة الخالدة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي القرآن.
وصحيح ان الآية جاءت بصيغة اللوم والذم إلا أنها رحمة ببني إسرائيل ودعوة لهم لإصلاح الذات وتطهير النفوس ونبذ الهوى وعدم جعل موضوعية له في معرفة الحقائق، وهي من عمومات قوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( ).
واذا كانت الآية توجه اللوم إلى بني إسرائيل فمن باب أولى أن يشمل المشركين والوثنيين الذين يعرضون عن النبوات.
وتظهر هذه الآية حاجة الناس إلى أخذهم بقوة لدعوتهم إلى الإيمان والإلتفات الى الآيات والبراهين التي جاء بها الأنبياء.
ومن الناس من أسلم كرهاً ولكنه تدبر في آيات القرآن وحسن إسلامه وإرتقى في مراتب الإيمان وصلحت سريرته وعلانيته.
وتشمل الآية الناس في أيام التنزيل كما تشمل الأجيال السابقة ممن قابل الأنبياء بالإستكبار والعناد، ويخرج منهم بالتخصص أولئك الذين قابلوا الأنبياء بالتصديق وآمنوا بما جاءوا به من عند ، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ]( ).
قوله تعالى [فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ]
تبين الآية حصول تناقض وتضاد بين الرسالة وهوى النفس، وتدل على قبح الإستكبار إلا أنه ليس علة تامة للتكذيب والقتل والتعدي، والتكذيب والقتل مرحلة أخرى تدل على الإصرار والعناد والجحود، فالإستكبار مذموم شرعاً وعقلاً، وينتج عنه الإمتناع عن الإنصياع للحق، وتظهر الآية ما لاقاه الأنبياء من الأذى من قومهم وهو على قسمين:
الأول: تكذيب فريق من الأنبياء.
الثاني: قتل فريق آخر.
وهل تعني الآية عدم وجود فريق آخر يتباين ويختلف عن هذين القسمين، ولا ينكر ان بني إسرائيل صدّقوا برسالة موسى عليه السلام وأتبعوه، ولكن الآية قيدت حصول التكذيب والقتل بالمنافاة والتعارض بين هوى النفس والرسالة، وبالإمكان تقدير قيام فريق منهم بترك الأنبياء والوقوف عند حال برزخية وهي عدم التصديق او التكذيب ولكنهم أبوا إلا تكذيبهم , والأصل هو وجوب إتباع الآيات والتسليم بالمعجزات.
وجاءت الآية السابقة بالإشارة الى حبهم الدنيا واختيار زينتها والتنعم بها، والا فقد تعشق النفس القتل في سبيل الله تعالى , وليس من فعل أقبح من قتل نبي، وجاء القرآن ليوثق هذا الفعل ويثأر للأنبياء بترديد وتلاوة المسلمين للآيات التي تؤكد ذم المتعدي على حرمة النبوة، وورد قوله تعالى في سورة الأحزاب [فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا]( ).
فهل تدل الآية على أخذ المسلمين الثأر والإنتقام للأنبياء من بني اسرائيل الجواب لا، من وجوه:
الأول : إن الذين قتلوا الأنبياء من أمة سابقة على الإسلام ومجيء الخطاب لبني اسرائيل عامة لا يعني انهم قاموا بالقتل بقرينة الفارق الزماني.
الثاني : إذا كان الأبناء راضين بفعل الآباء، فهو أمر لا يصلح أن يكون علة تامة لتحملهم لأوزار فعل الآباء، ومؤاخذتهم عليه في الدنيا.
الثالث : عمومات قوله تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( ).
نعم قد تبين الآية أعلاه حاجة الناس أخذهم بقوة، وإقامة الحجة عليهم بلزوم الدفاع بالسيف عن الإسلام وعن النبوة.
وتعديهم وظلمهم للأنبياء سبب تأريخي لمجيء الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف للدفاع عن بيضة الإسلام بعد إقامة الحجة بالبراهين والآيات الباهرات.
وتحذر الآية الناس من الإستكبار والإعراض عن الرسالة، وفي هذا التحذير جذب للنبوة ودعوة لرؤية الآيات والتدبر بمعانيها ودلالاتها، ومضامين الصدق والحق فيها وهو شاهد على أثر لغة الإنذار القرآني، وكثرة منافعه , قال تعالى[وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ]( ).
قوله تعالى [ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ] الآية 88.
القراءة
القراءة المشهورة غلف بسكون اللام، وروي (عن ابن عباس أنه قرأها بضم اللام) وبه قرأ ابن محيصن بضم اللام( ).
وعلى القراءة الأولى تكون جمع أغلف أي أنها صم لا تعي شيئاً ومنه الأغلف الذي لم يختن.
وقال ابن منظور: وإذا سكنت اللام كان جمع أَغلف وهو الذي لا يعي شيئاً.
وفي صفة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وبيان منافع وأثر نبوته يَفْتَح قُلوباً غُلْفاً أَي مُغَشَّاة مغطاة( ).
وعلى الثانية تكون جمع غلاف، أي انها أوعية للعلم،كما أن الغلاف وعاء لما فيه(وعن ابي عمرو غُلُف بضمتين).
ومع التباين في حركة الحرف ولفظ الكلمة، فان المعنى واحد لإرادة مفهوم الإستكبار والجحود.
الإعراب واللغة
وقالوا: الواو إستئنافية، قلوبنا: مبتدأ، ونا: مضاف إليه، غلف: خبر، والجملة الإسمية في محل نصب مقول القول، بل: حرف عطف وإضراب.
لعنهم: فعل ماض ومفعول به مقدم.
امرأة الجلالة: فاعل، بكفرهم: الباء: حرف جر.
كفر: امرأة مجرور بالكسرة، وهو مضاف، والضمير مضاف إليه.
فقليلاً: الفاء إستئنافية.
قليلاً: نعت لمصدر محذوف، أي: يؤمنون إيماناً قليلاً.
ما: نكرة مبهمة صفة لقليلاً.
يؤمنون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، والواو: فاعل.
غلف: جمع أغلف أي لا يعي ولا يفهم، أو مغشاة بأغطية لا يدري أحد ما وراؤها.
موضوع النزول
بيان وهن إعتذار الذين يجحدون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتفضل الله تعالى ببيانه رحمة للمسلمين، ودعوة لهم للتدارك والإلتفات إلى سلوك سبل مرضاته تعالى.
وتبين الآية موضوعية المعجزات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته الناس للإقرار والتسليم بها، وعجز الذين ينكرون نبوته عن إبطائها وتقييدها وحصرها مكاناً وزماناً، قال تعالى[يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
ويتجلى ذات موضوع النزول في قريش كفار مكة الذين قابلوا الدعوة إلى الإسلام بالصدود والإعراض[وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ]( )، والأكنة الغطاء على الشيء ويحجب الوصول إليه، فالإعتذار بأن القلوب غلف ومغلفة ومغلقة حجة عليهم، وفضح لكذبهم وقبح إدعائهم.
وإذ وصفوا قلوبهم بأنها في أكنة ومغلفة فإن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاءهم بالآيات العقلية والحسية التي تصل براهينها إلى شغاف القلوب، وتمنع من الإعتذار عن الصدود وتبين ما في القول بأن قلوبهم غلف من مجانبة الحقيقة والواقع.
إذ أن الوعي والفهم عند العقول من عمومات قوله تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( )، بتقريب أن الإنسان يدرك بحواسه الآيات ويسخّرها القلب في سبل الهداية والرشاد.
وتبين الآية قانوناً كلياً إنتفاء اليأس من الإيمان حتى عند أشد الناس جحوداً لقوله تعالى[فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ] فإحتمال الإيمان موجود عند الناس جميعاً وإن كان ضعيفاً وقليلاً عند أهل العناد، وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرادة عموم الناس به ومن يكن بعيداً عن الهداية قد يصبح مؤمناً على نحودفعي ويلجأ إلى التوبة والإنابة.
في سياق الآيات
بعد إخبار الآيات السابقة بأنهم إشتروا الحياة الدنيا بالإعراض عن نعيم الآخرة والسعادة الدائمة فيها، وحال الإستكبار والتجبر الذي واجهوا به النبوات المتصلة من غير إظهار للندم والتدارك في بعض منها لتوالي الآيات وظهور البينات .
جاءت هذه الآية لتبين زيف إدعائهم فهم لم يمتنعوا عن دخول الإسلام لإنعدام المقتضي، بل لوجود المانع الذاتي والعرضي وهو الإستكبار الذي يكون برزخاً دون التدبر في الآيات، قال تعالى[ومَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
ومن خصائص الإنسان إظهار الندم عند الخطأ، والعزم على عدم تكراره وفعله، ولكن حال الإستكبار حالت دون الإنتفاع الأمثل من النبوات، فجاءت هذه الآية لتبين إحتجاجهم ولجاجهم وجدالهم للإعراض عن النبوات والآيات.
وتثبت الآية الكريمة تعدد وجوه وصيغ الجحود، وتبين مظهراً صريحاً وإعلاناً مقروناً بالإصرار، لذا تضمنت ذماً ولعنة عاجلة لهم.
وجاءت الآية السابقة حجة على الذين لم يصدقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبينت ما تعرض له الأنبياء السابقون، فشطر من الأنبياء لقوا حتفهم، مع انهم جاءوا بالآيات والدلالات القاطعة التي تؤكد صدق نبوتهم، وقتلَهم الكفار لا لشيء إلا لمخالفة ما جاء به الأنبياء لأهوائهم , قال تعالى[وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ] ( )، وشطر من الأنبياء لاقاهم قومهم بالتكذيب، فجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للناس جميعاً، وتلقاها المسلمون بالتصديق والقبول، والجهاد تحت راية الإسلام.
وجاءت هذه الآية وثيقة سماوية وشهادةً تؤكد إصرار فريق من الناس على الجحود بالآيات، وعدم تصديقهم بها بإدعائهم أن قلوبهم خاوية، وفيه حجة على الكفار لإمتناعهم عن الإستماع للآيات، والتدبر في معانيها القدسية.
وفي الآية شاهد على أن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي القرآن عقلية تخاطب العقول وتنفذ إلى شغاف القلوب، وتكون حجة قاطعة على الناس حتى الذي يكفر بها، إذ أن قولهم [قُلُوبُنَا غُلْفٌ] خلاف أصل الخلق وماهية الإنسان، وجاء قولهم بصيغة الجمع مما يدل على إتفاقهم على العناد وتكذيب الآيات.
وتبين الآية ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون من الكفار الذين أصروا على التكذيب بالآيات والبراهين، ومن مفاهيم الآية الإعجازية أن قولهم لم يترك سدى.
إذ ذكرت الآية مغالطتهم بما يتضمن فضحهم وبيان قبح سرائرهم، ونزول الغضب الإلهي عليهم الأنبياء، قال تعالى [وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ]( ).
وتتضمن الآية الإشارة الى قانون السببية وأن اللعنة حلّت بالكفار بسبب تكذيبهم للأنبياء وقتل فريق منهم، وقد يترشح عن إجتماع هذا الفعل القبيح ونزول اللعنة الإصرار على الإعراض عن الآيات، وعدم الإقرار بالآيات إلا على نحو جزئي وقليل , لذا جاء القرآن بالثناء على المسلمين الذين يتوبون إلى الله ولم يصروا على ما فعلوا من الفاحشة أو ظلمهم النفس والوعد لهم بالجنة، قال تعالى[وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
وجاءت الآية بصيغة الماضي (وقالوا) والذي يفيد الإمضاء والقطع، وجاءت بصيغة الجمع الذي يفيد الإستغراق والعموم، مما يدل على العناد والإصرار على الجحود بالنبوة , ومع هذا فان آيات اللطف الإلهي وأسباب تقريبهم إلى الهداية والإيمان لم تنقطع عنهم، وجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بهم، وتقريباً للناس إلى منازل التوبة والإنابة.
وجاءت هذه الآية حجة عليهم، وتنبيهاً لهم، وزاجراً عن قولهم (قلوبنا أي غلف) لا نفقه شيئاً، ويبين هذا القول توالي الدعوات لهم بالإيمان، ووجود أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، قال تعالى[مِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ] ( ) وأن الأنبياء لم يتركوا بني إسرائيل وشأنهم بل توددوا إليهم، وذكّروهم بوجوب طاعة الله ولزوم التصديق بالأنبياء.
ترى ما هي الصلة بين تكذيب وقتل الأنبياء الذي ذكرته الآية السابقة وبين قولهم قلوبنا غلف، فيه وجوه:
الأول : جاء قولهم (قلوبنا غلف) جواباً على التقبيح الوارد في خاتمة الآية السابقة [كُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمْ] ( ).
الثاني : القول رد على دعوة المسلمين لهم بالإيمان، بإعتبار أن الإيمان إقرار وتسليم بالجنان.
الثالث: هو قول يقولونه عند التعدي على الأنبياء، والتكذيب بهم.
الرابع: كما يحث بعضهم بعضاً عند الخلوة على عدم تحديث المسلمين بما فتح الله عليهم، فإنهم يقولون فيما بينهم إن قلوبنا غلف.
الخامس: ليس من صلة بين تكذيب وقتل الأنبياء وقولهم قلوبنا غلف، وهذا القول متأخر زماناً، وهو مصاحب لدعوة المسلمين لهم.
والأصل في المقام هو الإطلاق إلا مع ورود مخصص موضوعي أو زماني، ولما ردت هذه الآية إدعائهم بأن قلوبهم خاوية وعليها حجب تمنع من الفقه والتدبر بالآيات.
جاءت الآية التالية لتكشف حقيقة تأريخية، وهي إستنصارهم على الذين كفروا بالتطلع إلى أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وظهوره على الدين، وهزيمته للكفار والمشركين وأنهم عرفوه حين بعثته بالبشارات التي عندهم، قال تعالى[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، ليكون الإستفتاح والمعرفة شاهدين على أن قلوبهم ليست غلف، إلا أن يكون أمراً مستحدثاً وطارئاً.
فجاءت الآية لنفيه، وتكرر في هذه الآية والآية التالية نزول اللعنة على الكفار، قال تعالى[وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا]( ).
وإبتدأت الآية بحرف العطف الواو للتأكيد على إتصال مضامين الآية بالآية السابقة وإن تباينت لغة الخطاب بين خاتمة الآية السابقة التي جاءت بصيغة الخطاب وجاءت هذه الآية بتمامها بصيغة الغائب فإبتدأت الآية السابقة ببيان فضل الله على بني إسرائيل بقوله تعالى[وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ]( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين تخلف فريق من بني إسرائيل عن شكر الله عز وجل على نعمة نبوة موسى عليه السلام، وتعاقب الأنبياء الذين بشّروا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن.
وأيهما أشد تكذيب الأنبياء السابقين وقتل عدد منهم أم تلقيهم دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام بالقول(قلوبنا غلف)، الجواب هو الأول، وكل من الكبائر , والقول يمكن الرجوع عنه , وهذه الآية دعوة للتوبة والإنابة , مما يدل على تجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس، وعجز الكفار عن دحضها أو الجدال فيها فلجؤوا إلى الإعتذار الذاتي الذي يتضمن الإقرار بالقصور والعجز والتخلف عن العناية بالذات، والسلامة في الدارين.
إعجاز الآية
بعد إظهار جحودهم تبين الآية ما لحقهم من السخط الإلهي في الحياة الدنيا عن استحقاق وبعد تجرأ منهم، لا تنفي الآية الإيمان على نحو السالبة الكلية والإطلاق فتركت للمسلمين باباً للرجاء والأمل لدعوتهم للإسلام، لأن قلة الإيمان من الكلي المشكك وهي قابلة للزيادة والإتساع وفيه دليل على الرحمة والرأفة التي جاء بها القرآن للناس جميعاً.
وهل هذه القلة من فضل الله عليهم , الجواب نعم وهو من عمومات قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) في الإحتجاج على الملائكة حينما أنكروا قيام الإنسان بالإفساد في الأرض فمن علمه تعالى عدم إطباق قلوب الناس على الكفر والجحود.
ومن إعجاز الآية كشفها عن أقوالهم وذكر حالهم في مواجهة النبوات والإخبار عن وقائع في الأزمنة السالفة , قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
في الآية مسائل:
الأولى : توثيق القول الذي لا أصل له وإدعائهم أن قلوبهم لا تميز الآيات والبراهين الدالة على النبوة.
الثانية : صيغة الجمع في الآية، وكأن قولهم (قلوبنا غلف) مما تواطئوا عليه في منتدياتهم، قال تعالى[قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ]( ).
الثالثة : بيان فضل الله عز وجل على بني إسرائيل بتوالي النعم وأن قلوبهم ليست غلفاً، ولا أصل لهذه الدعوى من فريق منهم.
الرابعة : بيان علة جحودهم بالآيات.
ويمكن تسمية الآية الكريمة بآية (وقالوا قلوبنا غلف) ولم يرد لفظ غلف في القرآن إلا مرتين مع إتحاد المعنى والموضوع( ).
الآية سلاح
تعتبر الآية وثيقة سماوية توضح الأسباب التي تحول دون إيمانهم كالعناد والإستكبار، كما أنها تشفي صدور المسلمين بما فيها من الإخبار عما لحق الظالمين من الذم.
وتمنع الآية من اليأس والقنوط، والتساؤل عن علة عدم إيمانهم، فالآية تنفي النقص في النبوات , وتبين القصور والمعصية عند الذين يجحدون بها.
وفي الآية بيان لعناد الكفار والفاسقين، وإصرارهم على عدم التصديق بالآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي قولهم [قُلُوبُنَا غُلْفٌ] حجة عليهم، لما يتضمنه من الإقرار الضمني بالآيات، ومقابلتهم لها بالجحود بعد أن تعذر عليهم إنكارها.
ولا تدل الآية على إختيارهم الجدال وإثارة أسباب الشك والريب لوجود آيات أخرى تؤكده، ولكن قولهم [قُلُوبُنَا غُلْفٌ] يدل على عجزهم عن الجدال، وإنقطاع حيلتهم، وفيه نصر للإسلام وهزيمة للكفر والضلالة.
وفي الآية تخفيف عن المسلمين بالإخبار عن نزول اللعنة بالكافرين وإستدامة إستحقاقهم لها، وتدعو الآية المسلمين إلى أخذ الحائطة للدين بالحذر من الكفار وأهل العناد والجحود، وإن كان هذا العناد سبباً للضعف والوهن عندهم.
وتنفي الآية قولهم، وتكذب إدعاءهم بإن قلوبهم فارغة وأنهم لايفقهون القول، فقد جعل الله تعالى العقل عند الإنسان رسولاً باطنياً، وحجة وآلة لمعرفة الحجة وللتميز بين الأشياء(عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يُزهرُ، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مُصْفَح: فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره. وأما القلب الأغلف فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس فقلب[المنافق] عَرَفَ ثم أنكر. وأما القلب المُصْفَح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يَمُدّها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القُرحة يَمُدَّها القيح والدم، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه”)( ).
مفهوم الآية
الآية دعوة للإيمان وتوبيخ للكافرين الذين يركبون جادة العناد المظلمة، ويصرون على الإعراض عن الآيات، وتبين سوء إعتذارهم وتفضح تخلفهم عن درك الواقع.
وتؤكد الآية غضب وسخط الله تعالى على أعداء النبوة والجاحدين برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومع هذا فالآية لا تبعث اليأس في نفوس المسلمين منهم بل تتضمن الإشارة إلى أن قوماً منهم سيختارون الإسلام على القول بأن المراد من القلة هنا العدد وإن شملت مفهوم قلة الإيمان بالنسبة لتلك الطائفة من أهل الكتاب.
والإخبار عن إيمان القلة إعجاز قرآني سواء في تحقيق وصدق هذا الإخبار وأن الذين يؤمنون منهم قلة في العدد والجاه، أو بمنع طرو الشك والريب والإستغراب من عدم إيمان الكثرة منهم.
وتذكر الآية علة الجحود والإعراض بما يختلف عن إدعائهم وإن كان هذا الإدعاء ذماً للذات وهو قبيح موضوعاً ودلالة، فلقد رزق الإنسان العقل وجعله ميزاناً وحاكماً على الجوارح وآلة للتمييز والإختيار وإذا ما كان العقل نوعياً وبلحاظ الجماعة فإنه يكون أقرب لمعرفة الحق وحسن الإختيار، وعند العكس وسوء الإختيار يكون الإثم أكبر للحجة النوعية.
وظاهر الآية أن قلة الإيمان بسبب ما لحقهم من اللعنة، وفيه تنبيه وتحذير من الجحود بالرسالة لما يتعقبه من اللعنة، والطرد من رحمة الله تعالى.
وتبين الآية علة اللعن والإقصاء من رحمة وانها ليست بسبب قولهم بامتناع قلوبهم عن الإصغاء لدعوى الحق، بل لكفرهم وجحودهم وكأن قولهم قلوبنا غلف مقدمة للكفر وشاهد عليه.
وفي الآية مسائل:
الأولى : بيان جحود الكفار بإقرارهم على أنفسهم بالقصور، والتخلف عن التفقه في الدين، قال تعالى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ]( ).
الثانية : تعطيل الكفار لوظيفة العقل عندهم في باب العبادات والعقائد، وقد جعل الله عز وجل العقل نعمة عند الإنسان، ويرد لفظ القلب أحياناً ويراد منه العقل والفكر.
الثالثة : بيان سبب تخلف الكفار عن التصديق بالآيات وهو حلول اللعنة الإلهية وطردهم من رحمة الله، فمن أهم مصاديق رحمة الله الإيمان، والتصديق بالنبوة، والآيات التي جاء بها الأنبياء.
الرابعة : توكيد حقيقة وهي أن الله عز وجل لا يظلم الناس مطلقاً، ومنهم الكفار، قال تعالى [وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ) وأهم أفراد ظلم الإنسان لنفسه هو إختياره الكفر والعناد.
ومن الآيات أن الآية لم تذكر نزول لعنة الله بالكافرين وحدها، بل ذكرت علتها والقبح الذاتي الذي يتصف به الكفار، وهو إختيارهم الكفر والجحود وقتلهم الأنبياء بغير حق.
الخامسة : بيان حقيقة وهي الملازمة بين الكفر ونزول لعنة الله، ولكن هذه الملازمة لا تمنع من فوز العبد بالتوبة وولوج بابها المفتوح إلى يوم القيامة.
السادسة : تبين الآية ان الحجة لله تعالى على العباد، فمع حلول اللعنة بالكفار فلابد أن يدخل قلوبهم جزء من الإيمان ولو على نحو صرف الطبيعة، وبما يجعلهم يدركون الآيات، ولكنهم لا يتدبرون فيها لوجود المانع، وهذا المانع ذاتي عند الكفار، حصل بإختيارهم الكفر، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار، وهو من عمومات قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
السابعة: من الإعجاز مجيء الآية بصيغة الجمع، ويحتمل قولهم [قُلُوبُنَا غُلْفٌ] وجوهاً:
الأول : قال هذا الكلام الرؤساء من الكفار فصار كأنه صادرمن الجميع لرضا العامة بما قاله رؤساؤهم وإمضاؤهم لأقوالهم وأفعالهم.
الثاني : إنه قول نفر وجماعة منهم، فنسبه الله تعالى لهم جميعاً لموافقته لحال الجميع.
الثالث : انه قول جماعة وفرقة منهم، وصيغة الجمع لا تدل على الإستغراق والعموم، بل ذكر طائفة من الكفار، توجه لهم اللوم في الآية الكريمة، ولكن هذا التخصيص لا يعني الحصر الموضوعي للتشابه بين الكفار عموماً وإلتقائهم بالجحود.
الرابع : قال جماعة منهم [قُلُوبُنَا غُلْفٌ] وقال آخرون قريباً منه، فجاءت الآية لذكر المعنى الأعم الذي يكون شاملاً لأقوال وأفعال الكفار في المقام والظاهر أنه قول نفر وجماعة من رؤسائهم مع وجود أتباع لهم على ذات النهج والقول، وتبين الآيات والشواهد والوقائع أن نفراً من رؤسائهم كانوا يأتون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه، ويجادلونه، ولكن جهة صدور (قلوبنا غلف) أعم من هؤلاء لذا نسب إليهم جميعاً.
ولا يعني هذا عدم وجود فئة وطائفة منهم تنهاهم عن هذا القول، ولا ترضى به، لذا كانت أعداد منهم تدخل الإسلام، ومنهم جماعة من كبار علمائهم مثل عبد الله بن سلام وأخيه.
وتبين الآية قول فريق من اليهود الذين كانوا في المدينة المنورة أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل في الآية تحذير للمسلمين من نقضهم العهود والمواثيق.
الجواب لا دليل عليه، نعم تدعو الآية للإحتراز منهم بالمعنى الأعم بإخبار المسلمين عن حال عدوهم، وتوثيق كلام أهل العناد والجحود وبيان علة إمتناعهم عن الإنصياع لأوامر الله وتصديق النبوة، والعمل بأحكام الشريعة، وما فيها من الأوامر والنواهي.
وهذا الإخبار مناسبة لتفقه المسلمين في الدين، ودعوة للصبر وتحمل الأذى وأسباب الصدود من أهل الكتاب وتلقيها بالحجة والبرهان والحكمة، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على مدح المسلمين والثناء عليهم لإيمانهم، لما فيها من وصف الجاحدين بلغة الذم بقوله تعالى [فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ] ومن الإعجاز أن هذه القلة إشارة إلى عدم اليأس منهم، وإمكان دخول جماعة أو فريق منهم الإسلام، ممن ينعم عليه الله بالهداية، وينجو من اللعنة والغضب الإلهي.
وتذكر الآية ثلاثة أمور:
الأول : قول الذين جحدوا بنبوة محمد (قلوبنا غلف).
الثاني : النفي الإلهي لهذا القول.
الثالث : بيان علة تخلفهم عن الإيمان، وما إعتذروا عنه وأن سبب التخلف هذا ليس لأن قلوبهم غلف لا تفقه الحجة والبينة بل لأن لعنة الله نزلت بهم.
الرابع : قلة إيمانهم، وهذه القلة أثر ونتيجة لنزول لعنة الله تعالى بهم.
ومن إعجاز الآية أنها لا تنفي الإيمان تماماً عنهم، وفيه دعوة للمسلمين للجدال بالحق والبرهان، وهو من عمومات قوله تعالى[لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
الآية لطف
تدعوة الآية الناس جميعاً إلى التفقه في الدين، والتدبر في الآيات وعدم الإعراض عنها، فهي لطف من عند الله، وحجة على الناس، ورحمة بهم جميعاً.
ومن إعجاز القرآن أن تأتي الآية في ذم قول لقوم، فيكون هذا الذم مدرسة تستنبط منها الدروس والعبر والأحكام، وتحتمل الآية وجهين:
الأول: الأصل هو سلامة قلوب الناس من الغلف ومن مقدمات عدم الفقه والفهم وهذه السلامة من عمومات قوله تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
الثاني: إنحصار الغلف بالذين قالوه من أهل الكتاب .
والصحيح هو الأول، فللقلب وظائف عقائدية تتعلق بالعبودية لله، ولزوم الإقرار بالوحدانية، وجاءت معجزات النبوة لإعانة القلوب والجوانح على أداء وظائفها، وليس للإنسان أن ينسب تخلفه عن الإيمان إلى القصور في القلب وعجز العقل عن القيام بوظائف العبودية لله، بل أن سبب هذا التخلف هو حلول اللعنة الإلهية بالجاحد الذي أصر على الكفر.
ومن اللطف الإلهي أن الآية تؤكد قبح الكفر والجحود، وأضراره على الفرد و الجماعة، وتدعو الناس جميعاً إلى نبذه لقبحه الذاتي والعرضي وأنه يجلب اللعنة والطرد من رحمة الله تعالى، وقد يجعل الإنسان يصر على المعصية ويمتنع عن الإستجابة للبشارات، والخشية مما تتضمنه الإنذارات.
وتتضمن الآية مدح المسلمين لأنهم رأوا ببصيرتهم الآيات، وتيقنوا من صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات التي جاء بها وموافقتها للبشارات الواردة في الكتب السماوية السابقة.
وإذا كان الجاحد بالوحدانية والنبوة تحل عليه لعنة الله، فان المؤمن يفوز برحمة الله في الدنيا والآخرة، قال تعالى[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ]( ).
إفاضات الآية
لقد أكرم الله الإنسان، ورزقه العقل وبه فضّله وشرّفه وأقام الحجة عليه، ويأتي القلب أحياناً في القرآن ويراد منه العقل والفهم، كما في هذه الآية إذ أرادوا إنكار ما أدركه العقل ومنافعه في الدنيا والآخرة، فجاء الرد الإلهي ليتضمن توكيد نعمة الله على الإنسان بالعقل والتمييز بين الأشياء وإدراك المعجزات وإعانة الإنسان في إختيار الإيمان والفوز بالنشأتين.
وتؤكد الآية على عجز الإنسان عن تعطيل وظائف العقل، وجلبه المنفعة للإنسان، وأن القلوب لا تكون خاوية ولا تتخلف عن إدراك المعجزات التي جاء بها الأنبياء، أو المعجزات الكونية التي تدل على وجوب الصانع، والنبوة فرع الإلوهية والتوحيد وهي الواسطة بين الله تعالى وبين البشر
لقد جعل الله عز وجل العقل كالعين الباصرة في الظلام الحالك ، وجعل الحواس له وزراء ثم تفضل بالتنزيل وجعله كضياء الشمس ولكنه يمتاز عليه من جهات:
الأولى : إستدامة إشعاع التنزيل في الليل والنهار.
الثانية : عدم إمتناع مكان أو موضوع عن ضياء الآيات إذ ينفذ لها بفضل الله، فأينما يذهب الإنسان فهناك آيات كونية وحجج سماوية.
الثالثة : دخول ضياء التنزيل لشغاف كل قلب، قال تعالى[قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ]( )، فلذا تضمنت آية البحث نفي دعوى فريق من الجاحدين بالنبوة أن قلوبهم لا تفقه معالم الدعوة.
الرابعة : القرآن كلام الله وهو سراج مضيء يجذب الأبصار ويدعو القلوب للتدبر في المعارف الإلهية.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
تدل الآية على توجيه الإنذارات السماوية إليهم بواسطة النبي، وان المؤمنين يجتهدون في دعوتهم إلى الإسلام، لأن قولهم [قُلُوبُنَا غُلْفٌ] يتضمن العناد والإصرار وإدعاء أنهم لا يفقهون لغة الإنذار والدعوة إلى الله، ولمانع ذاتي عرضي فجاء الرد عليهم من عند الله.
وهذا الرد نصرة ومدد متجدد لنبيه وللمؤمنين وإخبار عن علة تخلفهم عن الإقرار بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسبب طردهم من رحمة الله عز وجل لما جاء في خاتمة الآية السابقة بانهم كانوا يكذبون بفريق من الرسل، ويقتلون فريقاً آخر.
وإبتدأت الآية بقول لفريق من الذين جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم(وقالوا قلوبنا غلف) ثم تضمنت الآية وصفهم بصيغة الذم وبيان علة تخلفهم عن التدبر معجزاته وإمتناعتهم عن الإصغاء لما جاء به من عند الله بقولهم (قلوبنا غلف).
وهل هو من عمومات الختم على القلوب في قوله تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ]( ).
الجواب لا، للتباين بين الإدعاء بالقول وبين الوصف بالطبع والختم على القلوب، نعم هذا القول مقدمة للختم على القلوب، وإقرار بالجحود لذا ذكرت الآية علة الجحود وهو غضب الله عز وجل عليهم وطردهم من رحمته بسبب كفرهم وإصرارهم على الجحود.
ووتتجلى الرحمة في المقام بالإنصات للإنذارات والبشارات السماوية، ليكون التبليغ والدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك والضلالة من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ترى لماذا لم تقل الآية(بل لعنكم الله بكفركم) الجواب إبتدأت الآية بصيغة الغائب فجاء وسطها وآخرها بذات الصيغة، وفيه رحمة من الله بالناس بأن لا يأتي التوبيخ والذم بلغة الخطاب، بل جاء بما يبقى باب التوبة مفتوحاً، وأكدت خاتمة الآية هذا المعنى بقوله تعالى[فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ] .
التفسير الذاتي
إنتقلت هذه الآية إلى لغة الغائب والحكاية عما يقوله الجاحدون حينما تقوم عليهم الحجة والبرهان بلزوم إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بنزول القرآن والعمل بما فيه من الأحكام والسنن، فادعوا أنهم لا يفهمون الكلام، مع أن النبي محمداً يتلو عليهم آيات بينات وحجج باهرات، قال تعالى[أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا]( )، لوجود المانع الذاتي عندهم وهو حجة إضافية عليهم، قال تعالى [وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ]( ).
وكأنهم إدعوا بأن الله عز وجل خلق قلوبهم لا تستطيع قبول الحق والبيان، ولا تبصر البينة والدلالة لذا جاءت الآية بتكذيبهم بأن العلة ليس في تخلف القلوب في خلقها عن إدراك الآيات، فقد خلق الله عز وجل قلوبهم لتتلقى الآيات بالقبول، وهو من مصاديق وأصل الفطرة في خلق الإنسان، ولكنهم إختاروا الضلالة، وغلبت عليهم الشهوة.
وورد لفظ (غلف) في القرآن مرتين وبذات الموضوع وصيغة الذم مرة في هذه الآية، والأخرى [وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين أن لعنة الله في المقام تتعلق بالطبع على قلوبهم بسبب جحودهم وكفرهم، وقيل: وفي هذه الآية رد على المجبرة لأن فريقاً من بني إسرائيل (قالوا مثل ما يقولونه من أن على قلوبهم ما يمنع من الإيمان ويحول بينها وبينه فكذبهم الله تعالى في ذلك( )، وقال الزمخشري: وكمذهب المجبرة أخزاهم الله( ).
ولكنه قياس مع الفارق، والآية وردت لذم فريق من أهل الكتاب أصروا على الإعراض عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من الدلالات الباهرات، والمعجزات القاهرات، فلا يصح أن تشرك بذمهم فرقة من المسلمين لقول وإجتهاد مخالف لما عليه علماء الإسلام في مسألة كلامية سواء قالوا بأن الله تعالى لو شاء منع الكفار أن لا يعبدوا الأصنام لما عبدوها أو لما يشبهه من القول.
وفيه إنشغال وإشغال عن مضامين الآية الكريمة وما لها من المقاصد السامية في إقامة الحجة على أولئك الذين جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد يكون مقدمة وسبباً للفتنة بين المسلمين وبعث النفرة بينهم، مع أن القرآن نزل رحمة بهم وسلاحاً بأيديهم ضد أعدائهم، وليس من مانع من الإحتجاج بين الفرق الكلامية من المسلمين, ولكن ليس في علم التفسير وبالإستدلال بالآيات التي تأتي لذم غيرهم،وهذا الذم يعني في مفهومه مدح المسلمين لأنهم صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإنشرحت صدورهم بالإسلام ومبادئه، وقوله تعالى [كنتم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، حاكم، وشاهد , وقانون حاضر في مختلف المسائل.
وجاء الذم لفريق من الذين هادوا بقوله تعالى [مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ]( ).
ليكون من معاني اللعنة المذكورة في الآية الخذلان والإبعاد عن رحمة الله، والحجب عن الإنتفاع من لطفه تعالى , وأسباب التقريب إلى الطاعة المصاحبة للحياة الدنيا.
وفي قلة الإيمان المذكورة في الآية أعلاه من سورة النساء وجوه:
الأول: إرادة النقص والقلة في عدد المؤمنين منهم.
الثاني: ضعف الإيمان وعدم ثباته.
الثالث: تبعيض الإيمان، كما في قوله تعالى قبل آيتين[تُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ]( ).
الرابع: وقوفهم عند مسمى الإيمان , وصرف الطبيعة منه مما لا يعبأ به، وقال الزمخشري: (قَلِيلُ التَّشَكِّي لِلْمُهِمِّ يُصِيبُهُ)( ).
أي عديم التشكي، ولكنه خلاف الأصل، ويحتاج إلى قرينة صارفة وهي مفقودة في المقام، إذ أن القليل شئ وموضوع وليس أمراً عدمياً، والقليل من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة .
ولكن المستقرأ من الآيات أنه من أدنى مصاديق القلة، وكأنه أصل الفطرة الباقي عند الإنسان حتى في حال نزول اللعنة الإلهية به.
ليكون هذا الأصل كالكوة التي يدخل منها ضياء الإيمان والهدى إلى القلب، وهو من رحمة الله عز وجل بالناس عموماً في الدنيا، بعدم غلق باب التوبة، وبقاء المانع الذاتي عن الإيمان جزئياً، وهو شاهد بان القلوب بيد الله عز وجل بحيث تستعصي على أصحابها إذا أرادت منها الإطباق على الجحود والكفر، بخلاف ما لو أرادت منها الإيمان التام والإرتقاء في مراتب الهداية والصلاح والتقوى.
من غايات الآية
تتضمن الآية مسائل:
الأولى: فضح الباطل الذي يقوله أهل الجحود.
الثانية: إعانة المسلمين في الإحتجاج على أهل الكتاب.
الثالثة: نفي ما يدعون مما يخالف الواقع وأصل الخلق ومخالفة هذا الإدعاء لوظائف الشكر لله على نعمه العظيمة عليهم.
فلقد أكرم الله عز وجل بني إسرائيل بالنعم المتوالية، وهذه النعم مناسبة لتنمية ملكة التدبر.
الرابعة: ترشح الآثار عن اللعنة الإلهية بأن يتخلف ممن تصيبه اللعنة عن وظائفه ولا يفقه أسباب هذا التخلف.
فجاءت هذه الآية رحمة بهم، ليعرفوا تلك الأسباب، وما فيها من الدعوة لهم للتدارك والإنابة.
الخامسة: تفقه المسلمين في أمور الدين، وإرتقاؤهم في سلم المعارف بمعرفة أحوال الأمم السابقة، وإصلاح المسلمين للجدال والإحتجاج وإقامة البرهان على لزوم إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
السادسة: من آثار اللعنة قلة الإيمان، وبقاء هذه القلة والمسمى عنواناً للطف الإلهي لأنها باب للتدارك والتبصر في الآيات لمن أراد أن يختار الإنابة والتوبة.
التفسير
تتعلق الآية الكريمة بفريق من الذين جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم, والسنخية الظاهرة في إعراضهم عن النبوة وان تعددت أشخاص الأنبياء وتعاقبت أجيالهم، وتوالت الآيات والبراهين.
لقد أبوا الإستماع لدعوة الإسلام كما في قوله تعالى [ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ ]( )، إنهم يعلنون إصرارهم على الكفر والجحود وكأن الدعوة الاسلامية لا تشملهم أو أنها جاءت لأمم أخرى غيرهم، مع أن البشارات جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإقترنت بالدعوة للتصديق بنبوته وإتباعه ونصرته , قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
ويدل الأمر الإلهي بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدلالة التضمنية على وجود أعداء له , وأنه يدخل في قتال وحرب معهم، وفيه بشارة بنصره وغلبته عليهم.
ولا يصدق على ما يزعمون مفهوم الإعتذار وإن كانوا أهل كتاب، فهو نوع غرور وتفويت لفرصة الهداية على أنفسهم , وتبين الآية أن الدعوة الإسلامية بلغت الناس فقوم آمنوا وصدّقوا ,وآخرون قابلوها بالصدود فجاءت الآية وثيقة سماوية تؤكد عجزهم عن إيجاد نقص أو عيب بذات الدعوة، فإتجهوا إلى ذم أنفسهم والقول بأن قلوبهم مطبوع عليها، ولم يمنع هذا القول النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، قال تعالى[قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي]( ).
بحث استدلالي
إن ذكر الوجوه المحتملة لكلمة (غلف) من غير البحث عن دليل يرجح بعضها أو جميعها ليس حجاباً عن فهم مضامين اللفظ القرآني، فمع تعدد مفهوم اللفظ تتضاعف وظيفة العلماء والحاجة إلى البحث والتحقيق وإستحضار الدليل اللغوي والقرآني والعقائدي والعرفي لفهم معنى اللفظ او إختيار مرحلة ذكر الإحتمالات بعرض واحد أو الحال التي تعتبر أقل منها نفعاً وهي الترجيح من غير مرجح.
ومن الإرتقاء في علوم القرآن عدم التعارض بين الأقوال، وكلها تدل على السعة والمندوحة في معاني اللفظ القرآني من غير خروج عن ظاهر اللفظ ودلالاته الشرعية واللغوية.
إن وجود حرف الإضراب (بل) أمارة على فضح ما إدعوه , وفيه بيان للواقع، وبطلان إدعائهم وتصريحهم (قلوبنا غلف) وعدم تحقق الاكتفاء الذاتي من العلم وأحكام الشرائع إلا بدخول الإسلام.
والأرجح أن الغلف بمعنى الصم وأنهم أرادوا الامتناع عن سماع الدعوة بلغة الإستخفاف والإعراض، ويدل بالدلالة التضمنية على الجحود والكفر وهو شبيه لما ورد في التنزيل، حكاية عنهم [ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ]( ).
قوله تعالى [وقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ]
الآية كناية عن العناد والإستكبار عن سماع الآيات ودعوة الحق، (وقال ابن عباس: أي قلوبنا ممتلئة علماً لا تحتاج الى علم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا غيره) ( )، وقيل ان قلوبهم كالغلاف الخالي أي ليس فيه ما يجعله يميز بين الأقوال ويعرف صدق دعوة الإسلام وفهم الآيات.
لقد جاء الرد من الله تعالى فورياً ليمنع الغرر والزيغ، ويرفع الجهالة وينبه المسلمين الى زيف ما يدعي فريق من الناس من الاستغناء العقائدي، بل إن علة إعراضهم هي إبتعادهم عن رحمة الله، وإختيارهم الكفر والجحود.
لقد جاء قولهم على نحو الإطلاق [قُلُوبُنَا غُلْفٌ] وفيه إخبار عن الإشتراك العام في الجحود على نحو السالبة الكلية، وحجة عليهم وتثبيت للإقامة على العناد.
والإدعاء بان القلوب غلف ليس بصحيح، وهو مخالف لأصل الخلق والنعم التي خص بها الإنسان وشرّفه وجعله أسمى وأفضل من كثير من الخلائق.
لقد أعطى الإنسان العقل وجعله رسولاً باطناً فحينما يجحد الإنسان هذه النعمة وينفيها وهي عنده يسخرها لهواه ولأغراض الدنيا، فانه يغضب ، لمخالفته لأبسط قواعد الشكر.
لقد جعل القلوب أوعية وأغلفة لفهم الأمور والتمييز بين الحق والباطل، وتعطيلها ومنعها من القيام بوظائفها إفساد وتضييع للمصلحة الخاصة والعامة، ومانع من انتفاع الأجيال اللاحقة من النبوات .
فتفضل الله عز وجل بفضح وذم الذين أصروا على عدم إتخاذها بلغة للسعادة الأبدية، قال تعالى[يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ]( ).
وفي الآية حجة عليهم لمعرفتهم بموضوعية القلوب في الفهم والإدراك وان رزقهم العقل لمعرفة سبل الهداية، والقلب هو العضو الذي يبعث الحياة في البدن، وقد يراد منه العقل كما في المقام.
قوله تعالى [بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكفْرِهِمْ ]
فضح لهم وبيان لشمولهم بالدعوة الإسلامية وأن المانع من قبولهم للإسلام إنما هو طردهم من رحمة الله، وسلب التمكن من الإيمان وإنعدام أسباب الإستجابة عندهم وأنهم إختاروا الإقصاء من منازل الرحمة بمحض إرادتهم فخسروا أنفسهم ورضوا بالشقاء .
وتبين الآية أن الفطرة السليمة تقبل الإسلام إلا أن يطرأ عليها بالعرض سوء الإختيار وما يكون حاجباً ومانعاً عن الإستجابة والإمتثال للأمر المولوي.
ولعل في إدعائهم عدم صلاحية قلوبهم لقبول الدعوة إشارة لنسبة الأمر إلى الله عز وجل لأنه تعالى آتاهم الكتاب، والظن بالإكتفاء به، وفي التنزيل[قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ]( )، توكيداً بأن لم يجعل القلوب غلفاً ومستعصية على الفهم والفقه.
ترى ما المراد بالكفر هنا الجواب هو الجحود بمعجزات النبوة والإمتناع عن التصديق بها أو الإقرار بأنها من عند الله وتبين الآية قانوناً كلياً من وجوه:
الأول : إن الله عز وجل ينصر أنبياءه بأن يرمي أعداءهم الذين حاربوهم وعادوهم وأبوا الإنصات لهم بالطرد من رحمته، والذم والتقبيح في الدنيا، فلم يستمعوا للبينات والدلالات الخاصة بالنبوة بل أعرضوا عنها.
الثاني : يقصي الله عز وجل الكافر والجاحد عن رحمته، ويبعده عن سبل الهداية والرشاد.
الثالث : مع القبح الذاتي للكفر فإن له أضراراً عرضية بصاحبه في الدنيا والآخرة.
الرابع : ترتب الأثر على الكفر بسوء الإختيار والفعل، لترشح قلة إيمانهم عن الكفر.
قوله تعالى [ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ ]
إخبار وإعجاز قرآني بأن إعراضهم عن الآيات وإستحقاقهم اللعنة والطرد من رحمة الله لا يحول دون إيمان فريق منهم.
وهل تتعلق القلة في الآية أعلاه بالعدد الذي يؤمن منهم أي يكون تقدير الآية: فقليلاً منهم ما يؤمنون) أم بمقدار الإيمان بالآيات وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن بدرجة لا تدعهم يتركون ما هم عليه، ولا ينحصر موضوع قلة عدد المؤمنين بايام النبوة بل ينبسط مباركاً ليشمل الأحقاب المتعاقبة وهو أمر يدرك بالوجدان والشواهد فانت ترى وإلى الآن أعداداً من أهل الكتاب وغيرهم يدخلون في الإسلام أفراداً وأسراً وجماعات ذكوراً وأناثاً، ولكنه لم يغادر تلك القلة بالنسبة لمجموع بني إسرائيل.
والصحيح هو الثاني بلحاظ مقدار الايمان بالآيات والنبوة، وان (قليلاً) هنا صفة لمصدر محذوف أي يؤمنون إيماناً قليلاً , ولا مانع من تعدد معاني القلة وشمولها للعدد، وهو الذي تدل عليه الشواهد والتأريخ إذ آمن قليل منهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم, فكانوا حجة وسبق للأمم في دخول اللإسلام .
وفي الآية لطف وإحسان من الله تعالى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ففي نبي الله نوح عليه السلام ورد في التنزيل [ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ]( )، وكانت الآية في قومه، بينما الآية هنا بشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن نفراً منهم سيؤمنون ، فلابد من دخول فريق منهم الإسلام لوجوه:
الأول : هذا القول ليس منهم جميعاً.
الثاني : قولهم (قلوبنا غلف ) نوع عناد وإستكبار لا يستطيع الوقوف أمام تتابع الآيات.
الثالث : بيان الحقيقة التكوينية الثابتة وهي ان الإيمان ينفذ إلى مواطن الكفر ويثبت وجوده بين أركانها كما هو ظاهر في السيرة و التاريخ إذ تجد الإيمان ينبع فجأة في بيوت الملأ والوجهاء من مجتمع أهل الكفر.
الرابع : فضل الله عز وجل على الناس ولعمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الخامس : هذا الإيمان من نعمة الله عليهم وعلى الناس , ومن مصاديق قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
والفاء في [فقليلاً] إستئنافية للتعقيب أو السببية، أي أن الآية بينت علة تلك القلة، وسبب عدم دخولهم في الإسلام أفواجاً، وأخبرت عن إختيارهم البعد عن رحمة الله بعنادهم وإستكبارهم وإستقرارهم بمنازل اللعن والطرد من رحمة الله .
وفي هذا البيان والإخبار سكينة وحرز للمسلمين ومنع للشك الذي قد يسببه إعراض اليهود وتأويلهم له بالإكتفاء العقائدي، وتتضمن الآية الخزي لأهل الصدود عن النبوة والسكينة للمسلمين , ودعوة لهم للطعن والإستهزاء بالحجة الواهية التي قالوا بها، ولإثبات مرجوحية ما يدّعون.
وذكر الرازي وجهاً للقلة من بين وجوه ثلاثة بقوله (معناه لا يؤمنون أصلاً لا قليلاً ولا كثيراً كما يُقال: قليلاً ما يفعل بمعنى لا تفعل البتة) ( ).
وقال الطبرسي: والذي يليق بمذهبنا ان يكون المراد به لا ايمان لهم اصلاً( ).
قال الكسائي: تقول العرب مررنا بأرض قليلاً ما تنبت يريدون لا تنبت شيئاً( ).
ولكنه خلاف الظاهر ولا يخلو من تكلف وليس من قرائن صارفة اليه، بل إن الواقع والوجدان بخلافه والقلة أمر وجودي، ونفي الإيمان أصلاً أمر عدمي فلا وجه لحمل اللفظ في معناه على ضده أو للتفاؤل كما في تسمية الفلاة والصحراء والفضاء الواسع الذي ليس فيه ماء أو ظل بالمفازة تفاؤلا أو تسمية اللديغ السليم, للإختلاف في الكم دون الكيف بين السالبة الجزئية التي تشير اليها الآية والسالبة الكلية التي تعني سلب الايمان اصلاً، ولأن السالبة الجزئية لا تنعكس إلى كلية أو جزئية أخرى لجواز ان يكون موضوعها أعم من محمولها، وبقايا الحنيفية تجدها حتى عند الكفار الوثنيين، فوجودها عند المليين بذات المقدار أو أكثر من باب الأولوية والإنصاف.
والآية دعوة للمسلمين بعدم اليأس من اليهود كأمة وأفراد، إذ أن الإخبار عن إيمان القليل وإيراده بلغة التنكير يجعل كل فرد منهم مورداً ومصداقاً محتملاً للإيمان والاقرار برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وذكر عن قتادة والأصم وأبي مسلم وجها آخر للقلة بأنه صفة المؤمن أي لا يؤمن منهم إلا القليل، اللعنة والكفر، أي أن اللعنة تعلقت بالكثير الكافر منهم وأن القلة المؤمنة خرجت من اللعنة بالتخصيص لاسيما وأن الجملة جاءت فعلية وبصيغة المضارع (يؤمنون) , قال تعالى[وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ]( ).
وموضوع الآية يعني قلة الايمان عند أولئك الذين توجه لهم اللوم والذم في الآية السابقة وأنهم كانوا يكذبون الأنبياء ويقتلون بعضهم، فلم يكن عندهم من الإيمان إلا القليل، نعم، هذا لا يمنع من التأويل الآخر للآية الذي ذهب إليه جماعة من المفسرين وهو أن قليلاً منهم يؤمنون بالآيات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون في الآية إخبار عن حال الجحود عندهم إلا القليل منهم.
ويكون إيمان القلة حجة على الأكثر منهم، وسبباً لتقريبهم من منازل الإيمان، إذ أن لغة الذم في القرآن وسيلة للهداية , والزجر عن الجحود والمعصية.
وإن تلك المرتبة من ضعف الإيمان لا تحجب عنهم غضب الجبار ونزول اللعنة، لأنهم لم ينطقوا بالشهادتين ولم ينتقلوا إلى الإسلام فإن قلت: ان قوماً منهم بل من علمائهم قد أسلموا واحسنوا اسلامهم ولا زال الاسلام يغزو قلوب بعض أبنائهم، قلت: إن هؤلاء خرجوا بالتخصص من موضوع هذه الآية بدليل انهم لم يقولوا (قلوبنا غلف) بل استمعوا واستجابوا.
وتحتمل علة قلة إيمانهم وجوهاً:
الأول : بسبب قولهم (قلوبنا غلف).
الثاني : الإصرار على الجحود والكفر.
الثالث : نزول لعنة الله بهم، وطردهم من رحمة الله.
الرابع : إختيارهم الكفر والجحود.
الخامس : قلة الإيمان إبتلاء وعقوبة عاجلة من عند الله بعرض واحد مع اللعنة.
السادس : قلة الإيمان بيان لحالهم من الجحود، فكما أنهم قالوا قلوبنا غلف جاءت خاتمة الآية لوصفهم بأن إيمانهم قليل.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية وتعدد معاني اللفظ القرآني.
قوله تعالى [ وَلَما جَاءَ هُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَ هُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ] الآية 89.
الإعراب واللغة
ولما: الواو إستئنافية، لما: ظرفية بمعنى حين , وتتضمن معنى الشرط وقد تكون رابطة.
جاءهم: فعل ماض ومفعول به.
كتاب: فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره.
من عند: جار ومجرور.
امرأة الجلالة: مضاف إليه.
مصدق: صفة لكتاب، لما: اللام حرف جر، ما: امرأة موصول في محل جر، معهم: مع ظرف مكان دال على موضع الإجتماع لأنه مضاف منصوب.
وكانوا: الواو حرف عطف، والمعطوف هو الجواب المحذوف.
كانوا: فعل ماضِ ناقص، والواو إسمه.
من قبل: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
يستفتحون: فعل مضارع، الواو: فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر كانوا.
على الذين: جار ومجرور، كفروا: فعل ماضِ، الواو: فاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول.
فلما: الفاء حرف عطف، جاءهم: فعل ومفعول.
ما عرفوا: ما امرأة موصول فاعل، عرفوا: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول.
كفروا: فعل ماض، والواو: فاعل، به: جار ومجرور متعلقان بكفروا.
فلعنة: الفاء للتعليل، لعنة: مبتدأ.
امرأة الجلالة: مضاف إليه، على الكافرين: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لعنة.
لمّا: حرف وجود لوجود، ومنهم من يسميها لما الحينية على القول بانها ظرف بمعنى حين، وهي تختلف عن (لما) التي تنفي الفعل المضارع وتجزمه.
ومن إسمائه تعالى “الفتاح” وهو الحاكم (وعن ابن الأثير يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده)( )، وفاتحة كل شيء أوله، ويستفتحون أي يستنصرون لأن الفتح يعني النصر، وقيل معناه يستحكمون ربهم على كفار العرب، وفي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين( ).
اللعن: الإبعاد وهو في الإصطلاح الطرد والبعد من رحمة الله عقوبة على المعصية، (اللعين الشيطان صفة غالبة لانه طرد من السماء وقيل لانه ابعد من رحمة الله تعالى) ( )، ويقول العرب لكل كريه ملعون، وإذا تمرد الرجل منهم أبعدوه عن منزلهم وطردوه كي لا تلحقهم جرائره، والمعنى الإصطلاحي أعلاه هو المراد في الآية.
في سياق الآيات
بعد قولهم بان قلوبهم غلف وانهم لا يفقهون شيئاً من براهين النبوة وبعد الإخبار عن قلة ايمانهم واللعنة التي تتعقب الكفر جاءت الآية للإخبار السماوي عن نعمة أخرى وفضل عظيم على بني اسرائيل، فمع جحودهم واستكبارهم فان أنزل عليهم الآيات والكتاب وأحكام سماوية في العبادات والمعاملات.
وتظهر الآية الكريمة جانباً من سوء تلقي فريق من الناس للكتاب السماوي وهو القرآن مع انه جاء مطابقاً لما عندهم من البشارات والكتب كالتوراة والإنجيل.
ومن الإعجاز في نظم الآيات أن يأتي ذكر وتعداد النعم الإلهية على بني إسرائيل بصيغة اللوم والبرهان وتدل هذه الآية بالدلالة التضمنية والإلتزامية على نعم عظيمة منها:
الأولى : مجئ كتاب إلى بني إسرائيل من عند الله.
الثانية : إكرام بني إسرائيل بتوالي نزول الكتب عليهم.
الثالثة : عدم وجود موضوعية وأثر سلبي لكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير بني إسرائيل فقد أخبرت الآية بأن الكتاب وهو القرآن جاء إلى بني إسرائيل وهو لا يعني إنحصار مجيئه بهم، ولكن القرآن كتاب سماوي موجه للناس جميعاً، ومنهم بنو إسرائيل،وذكرهم على نحو
خاص يفيد الإكرام والفضل والإحسان الإلهي عليهم وهو من عمومات قوله تعالى [فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ) وفيه حجة عليهم .
فإن قلت ما الدليل على إرادة القرآن بلفظ الكتاب الوارد في الآية والجواب من وجوه:
الأول : وصف الكتاب بأنه مصدق لما مع بني إسرائيل من التوراة والإنجيل.
الثاني : بيان حقيقة وهي تقدم الإخبار والبشارة على المصداق، وأن هذا الإخبار حق بحيث جعل عندهم معرفة بالتنزيل اللاحق.
الثالث : الشهادة بنزول التوراة والإنجيل بالبيان والوضوح وحصول المعرفة عند الناس.
الرابع : الثناء على الأجيال المتعاقبة من المؤمنين عند أهل الكتاب، قال تعالى[لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ]( ).
الخامس : إتحاد الفرد من التنزيل وشخص النبي الذي ينتظره أهل الكتاب، وإذا كان فريق من أهل الكتاب جحدوا بنبوته فالإحتجاج عليهم من وجوه:
الأول : لم يظهر نبي بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إنقطاع الوحي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : تجلي مصاديق الإيمان بأمة عظيمة هم المسلمون ومجيء الشهادة من الله عز وجل بكونهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابعة : حث بني إسرائيل على عدم التفريط بنعمة نزول القرآن فهو نعمة ورحمة من عند الله .
الخامسة : دعوة المسلمين إلى العناية ببني إسرائيل في دعوتهم للإسلام، إذ جعل الله تعالى لهم موضوعية في نزول الكتاب، وهذا لا يتعارض مع موضوعية كل أمة وفرقة من الناس في الدعوة الإسلامية، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن مصاديق الرحمة ذكر هذه الآية لمجئ القرآن من عند الله لبني إسرائيل أي لدعوتهم للإسلام، وإثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره، فالقرآن كتاب جاء من عند الله للناس جميعاً ويمتاز بنو إسرائيل بأمرين:
الأول : تصديق القرآن لما في أيديهم من التوراة.
الثاني : قيامهم بالإستفتاح على الذين كفروا، رجاء النصر والظفر ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن عليه من عند الله، يقال (إستفتح زيد الله على فلان: سأل ودعا الله النصر عليه)( ).
وهذان الأمران مقدمة وتوطئة لدخول بني إسرائيل للإسلام، وجذب غيرهم من الناس لدخوله، وإذ إختتمت هذه الآية بالإخبار عن كفرهم وجحودهم بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
جاءت الآية التالية بالذم والوعيد على هذا الكفر، وهل هذا الذم من النعم الإلهية عليهم أم لا.
الجواب هو الأول لأنه إنذار وتوبيخ ودعوة إلهية للتدارك والإنابة، فقد لا يعرف إنسان خطأه وضلالته، ويصر على ما ورثه عن آبائه، وأخبر القرآن بأن فريقاً من الكفار إتبعوا آباءهم في الإعراض عن المعجزات والبراهين الدالة على وجوب عبادة الله وإتباع الأنبياء , قال تعالى[قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا]( ).
فتأتي هذه الآية لتبين ماهية ومصاديق الكفر وقبحها، وأن مدار الإيمان على التصديق بما أنزل الله تعالى من الكتب من السماء، وإبتدأت هذه الآية بحرف العطف الواو في دلالة على عطفها على الآية السابقة موضوعاً ودلالة.
وهل يشمل العطف خصوص أفراد الزمان بمعنى أن مضامين ووقائع هذه الآية جاءت متعقبة لقولهم [قُلُوبُنَا غُلْفٌ] أم هناك تداخل زماني بينهما.
الصحيح هو الثاني، فجاء العطف لبيان كثرة صيغ الجحود والصدود زمان التنزيل.
بحث بلاغي
من وجوه البلاغة والفصاحة (التكرير)، ويفيد التقرير وترسيخ المعنى وتوكيد المطلب والإخبار عن أهمية موضوعه، وفيه مراعاة للتباين بين عقول الناس وكثرة مشاربهم والإختلاف في مداركهم ومصالحهم وما يتفرع عنه من تعدد الأولى والأهم، ومنه تعدد ذكر بعض قصص وجهاد الأنبياء في القرآن.
والتكرار هنا لم يكن في المصاديق بل هو في الموضوع وبيان القبائح بلحاظ أنه مدرسة وعلم مستقل، والملاك هو إنذارهم وتنبيه المسلمين وإتعاظهم وللزيادة في إحترازهم.
وذكرت هذه الآية نزول الكتاب من عند الله، ونعتته بأنه مصدق وشاهد على نزول التوراة.
ومن إعجازالقرآن أنه مصدق للكتب السماوية، وكذا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ]( )، وفيه تعدد في الحجة والبرهان على أهل الكتاب .
وهذا التعدد من الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وذكرت الآية الكفر ثلاث مرات هو:
الأول:الذين كفروا من الأمم السابقة الذين كانوا يؤذون بني إسرائيل، فيستفتحون عليهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: توبيخ الذين يكفرون بالتنزيل ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: تغشي اللعنة الإلهية للكافرين.
ويبعث هذا التكرار النفرة من الكفر والكافرين، وفيه دعوة للناس جميعاً لإجتناب الكفر والنجاة من الضلالة والطرد من رحمة الله ، وفيه رحمة من عندالله بالناس جميعاً في الحياة الدنيا، وتوكيد بأنها دار إمتحان وإنذار وتحذير.
فمن مصاديق الإنذار والرحمة تكرار موضوع الكفر بصيغة الذم، وبيان ما يجلبه من الضرر والعذاب في الدنيا والآخرة.
أسباب النزول
ورد عن ابن عباس أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه.
فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء( )، وداود بن سلمة : يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبرونا بأنه مبعوث، وتصفونه بصفته.
فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم ، فأنزل الله [وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] ( ).
وذكرت أقوال قريبة منه، لذا قال جماعة ان معنى [يَسْتَفْتِحُونَ] يستعلمون من علمائهم صفة نبي يبعث من العرب فكانوا يصفونه لهم فلما بُعث أنكروه ( ).
وعن ابن عباس أيضاَ قال: كان يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء وقالت: اللهم إنا نسألك بحق النبي الامي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله تعالى “وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا “أي بك يا محمد، إلى قوله فلعنة الله على الكافرين.
وقال السدى: كانت العرب تمر بيهود فتلقى اليهود منهم أذى، وكانت اليهود تجد نعت محمد في التوراة أن يبعثه الله فيقاتلون معه العرب، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به حسدا، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل)( ).
وذكر(أن بني إسرائيل كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قد علموا خروجه بما عندهم من صفته وذكر وقته، وظنوا أنه منهم ، فكانوا إذا حاربوا الأوس والخزرج فغلبتهم العرب قالوا لهم: لو قد خرج النبي الذي قد أظل وقته لقاتلناكم معه واستنصرنا عليكم به و {يستفتحون} معناه يستنصرون)( ).
موضوع النزول
لقد إتخذ بنو اسرائيل البشارات ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلاحاً وأملاً رجاء العز والنصر على الأعداء.
وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل بسند ضعيف عن ابن عباس قال: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود ، فعاذت بهذا الدعاء : اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم ، فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا فهزموا غطفان ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفروا به ( ).
والآية أعم ويدخل في موضوعها وأفرادها ومصاديقها الأمل والسعة بظهور الإسلام وعز المؤمنين والنجاة من جور الظالمين.
والآية شهادة سماوية عن حال الإنتظار والتطلع عند أهل الكتاب للطلعة البهية لخاتم النبيين، لتكون موعظة للناس جميعاً، وترغيباً لهم بالتدبر بالمعجزات التي جاء بها، وكان بنو إسرائيل في المدينة يقولون لأعدائهم المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج فنقتلكم معه قتل عاد وإرم) ليتلقى المشركون البشارة ويترقبون قهراً وطوعاً وإنطباقاً مصداقها الواقعي، فالوعيد بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نوع تبليغ وإعلان لها، وتلك آية في قانون تهيئة مقدمات النبوة، وتعريف الناس بنبوته وأسباب نصرته عند بعثته .
وهل إنقطعت مضامين الآية الكريمة، وما فيها من الإستفتاح وتوعد أهل الكتاب بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن والإسلام، الجواب لا، فإن مضامين الآية القرآنية باقية، ولم تثبت نبوات الأنبياء السابقين بين أهل الأرض إلا بالقرآن وجهاد المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وكان الإستفتاح ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبباً لدخول فريق من الذين كانوا يتلقون الوعيد بنبوته الإسلام وجهادهم تحت لوائه.
إعجاز الآية
تثبيت وتوكيد موضوع الإستفتاح ورجاء النصرة والغلبة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه سيخرج وينتصر لهم وكيف أن الله عز وجل جعلهم يخبرون ويبشرون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقام الحجة عليهم لما في الإستفتاح من إقرار وإعتراف وشهادة .
وهو حجة إضافية أخرى تجعل أهل الكتاب لا يستطيعون إنكاره، ما فيه من كشف لأمور الغيب، وأحوال بني إسرائيل قبل البعثة النبوية وتطلعهم مجتمعين لأوانها، والذي يدل بالدلالة التضمنية على معرفتهم بقرب زمانها، وأنها حق وفيه إنذار للكفار ودعوة للناس جميعاً للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من باب الأولوية القطعية.
وفيه آية إعجازية أخرى وهي إحتمال إنتفاع الكفار من ذلك الإستفتاح لأنه شهادة من أهل الخبرة والدراية الذين أنزل عليهم الكتاب وأعلنوا تعليق نقض شريعتهم ببعثة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأن بعثته ورسالته ناسخة لما سبقها من الشرائع، قال تعالى[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أن اللعنة لم تمنع من نزول الآيات وإستمرار الإنذارات والبشارات ونزول الكتب السماوية عليهم بواسطة الأنبياء، فرحمة الله تعالى على الناس متصلة ودائمة ولكنهم يحجبون عن أنفسهم الإنتفاع الأمثل منها.
ومن معاني وخصائص المعجزة إقترانها بالتحدي، وفي الآية ضروب من التحدي تتجلى بوجوه منها:
الأول : الإخبار عن مجيء القرآن لبني إسرائيل مثلما جاء إلى العرب والناس جميعاً، لإفادة حقيقة من جهات:
الأولى : يدل خطاب العموم في القرآن[يَاأَيُّهَا النَّاسُ] على إرادة أمم وملل وجماعات خاصة، إذ أنه إنحلالي يصل إلى مرتبة الفردية أيضاً: يا أيها الإنسان.
الثانية : دعوة القرآن بني إسرائيل لتجديد التصديق بالتوراة والإنجيل، وأخرج الثعلبي عن ابن عباس: أن عبد الله بن سلام، وأسداً وأسيدا ابنَيْ كعب، وثعلبة بن قيس، وسلاماً ابن أخت عبد الله بن سلام، وسلمة ابن أخيه، ويامين بن يامين، أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بكتابك وموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بل آمنوا بالله ورسوله محمد، وكتابه القرآن، وبكل كتاب كان قبله، فقالوا: لا نفعل. فنزلت يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ.
الثالثة : المواساة للمسلمين، وحثهم على الثبات في مقامات الإيمان فلما أخبرت الآية السابقة عن قول أمة (قلوبنا غلف) جاءت هذه الآية بالإخبار عن مجيء الكتاب لهم لبيان علة إعراضهم عنه لإجتماع الإصرار على الكفر ونزول اللعنة بسببه.
ليكون من أسرار هذه الآية وقاية المسلمين من الإفتتان بالذين يجحدون بالتنزيل ويصدون عن معجزات النبوة.
الثاني : تأكيد نزول القرآن من عند الله، ولابد من دلالات خاصة وشواهد تبين نزول القرآن، ويتجلى ببراهين في البلاغة والإعجاز وتصديق الوقائع والأحداث لمضامين الآية القرآنية.
الثالث : تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة، وفيه دعوة لعلماء بني إسرائيل وغيرهم للدراسة المقارنة وبيان وجوه الشبه والتصديق من جهات:
الأولى : تصديق القرآن للتوراة.
الثانية : تصديق القرآن للإنجيل.
الثالثة : تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة كالزبور والصحف التي أنزلت على الأنبياء، قال تعالى[أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى]( )، أي أن في القرآن بيانا لمضامين الكتب الكتب السماوية السابقة على الأنبياء.
الرابعة : الفرد المتحد من الآيات القرآنية الذي يكون مصدقاً لهذه الكتب على نحو الإتحاد والتعدد.
الرابع : ذكر إستفتاح بني إسرائيل على الكفار الذين كانوا يؤذونهم في يثرب بأن الله سيبعث نبي آخر الزمان وينتقم لبني إسرائيل بلحاظ أنهم مؤمنون وسوف يستقبلون النبي بالتصديق.
الخامس : ذكر وتعيين موضوع الإستفتاح ووصف الطرف الآخر بأنهم كفار بيان لموضوع الإستفتاح وما فيه من صبغة الإيمان والإحتجاج عليهم.
وتبين الآية الكريمة حاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكان أهل الكتاب يرجون بها النصر والغلبة على الكفار، وهي رحمة من الله للكفار للتوبة والإنابة ودخول الإسلام.
ومن الآيات في المقام أن الذين نعتتهم الآية بالكفر بقوله تعالى[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، صاروا مسلمين ونالوا صفة الصحابة وصفة الأنصار، وخلدوا في القرآن بخصال الجهاد والتضحية والإيواء والنصرة.
وعن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك)( ).
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “يستفتحون” ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
الآية حجة وبيان للإتصال والترابط العقائدي بين الشرائع السماوية وتعاهد الأنبياء لها على نحو العموم المجموعي، فالرسول يبشر بشريعته ويصدق الشريعة السابقة، ويدعو إلى الشريعة اللاحقة له إلا في رسالتين:
الأولى: رسالة آدم عليه السلام إذ لا نبي قبله.
الثانية: رسالة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فآدم بلغ وأنذر وبشر برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يصدق دعوة سابقة، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صدّق النبوات السابقة .
وجاء بالإسلام من غير أن يبشر بشريعة لاحقة لأن التكامل في شريعته وهو من الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين , وورد في التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
والآية عون ودعوة للناس لدخول الإسلام بشهادة أهل الكتاب، وهي حجة بيد المسلمين، ودليل إنفراد الشريعة الإسلامية بأسباب البقاء والدوام في الأرض بفضل الله عز وجل ومجيء كتاب من الله موضوعا للإحتجاج من عمومات قوله تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] والآية مناسبة لتفقه المسلمين في الدين وإرتقاءهم في سلم المعارف الالهية بالعلم بأمور:
الأول : نزول القرآن لطف من الله ببني إسرئيل.
الثاني : من خصائص القرآن أنه تصديق للتوارة والإنجيل.
الثالث : معرفة أحوال الناس قبل نزول القرآن، وكيف أن الموحدين يتطلعون بشوق ولهفة إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
مفهوم الآية
الآية حجة بيد المسلمين على الذين أخفوا الآيات والأخبار التي وردت على لسان الأنبياء السابقين سواء في حقيقة وصدق بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أو في أداء الفرائض والصالحات.
وتحذر الآية من الإنتقال إلى مواضع الكفر والشرك عناداً وإصراراً بعد ثبوت الحجة، وقيام الدليل فمع وجود المقتضي وفقد المانع من إسلامهم ومجيء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات إختاروا الكفر إتباعاً للهوى فأستحقوا نعت الكفر ونزول اللعنة من الله تعالى، ولابد ان يحذر الذي يؤمن بالله من اللعنة والطرد من رحمته تعالى لأن فيه خسارة الدارين والضياع.
وجاءت خاتمة الآية بلعن الكافرين مطلقاً الذين جحدوا بالله والملائكة والأنبياء ورسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإختاروا العناد والبقاء والإنتقال إلى صفوف الكفر والضلالة.
وفي الآية مسائل:
الأولى : تفضل الله تعالى بانزال الكتاب سواء كان نزوله وخطاباته لهم أو لغيرهم ، ولا يتعارض هذا الإختصاص مع كونه كتاباً ودعوة سماوية أنه للناس كافة، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ] ( ) ويصدق عليه بأنه لهم لأن الأوامر والخطابات فيه إنحلالية تشمل الناس جميعاً.
الثانية : جاء نزول الكتاب متعقباً لإستكبارهم وتعديهم على الأنبياء وقولهم قلوبنا لا تفقه شيئاً.
الثالثة : توكيد الآية بأن الكتاب من عند الله تعالى ولابد أنه معجز، وفيه ما يكفي للإيمان وأنه مناسب لمراتب المعرفة المختلفة والمدارك المتباينة.
الرابعة : تتضمن الآية معاني اللطف، فنزول الكتاب نعمة وفضل وكونه مصدقاً لما معهم لطف إضافي، وتقريب إلى الطاعة وحث عليها.
الخامسة : في الآية حجة تأريخية على بني إسرائيل لأنهم كانوا ينتظرون بعثة خاتم النبيين لإستنقاذ الحق من الكفار المعاندين والخلاص من أذاهم.
السادسة : جحودهم بالآيات مع معرفتهم بها، ومطابقة علامات وأوصاف الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مع ما مذكور في التوراة، قال تعالى[فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
وكما أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مصدق لما جاء به موسى، فإن موسى عليه السلام والتوراة بشرا به وأخبرا عن نبوته ولزوم إتباعه.
السابعة : جاءت خاتمة الآية قاعدة كلية بأن لعنة تقع على المشركين والكافرين بالرسل والكتب التي أنزل .
الثامنة : في الآية إخبار عن نزول كتاب من عند الله عز وجل، وأن التبليغ وصل إلى الكفار والجاحدين، ولم ينحصر بالمسلمين.
التاسعة : المراد من الكتاب في المقام هو القرآن، مما يدل على تضمن الآية تعضيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولزوم الإصغاء للإنذارات التي جاء بها، قال تعالى[نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ]( ).
العاشرة : توكيد حقيقة وهي تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة، والمراد في المقام التوراة والإنجيل، وهذا التصديق شاهد على تفضيل المسلمين على غيرهم من أهل الملل السماوية لأنهم آمنوا بالكتاب الذي صدّق الكتب السماوية السابقة.
الحادية عشرة : تعيين المقصودين بموضوع هذه الآية، بالقيد الوارد بقوله تعالى [مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ] مما يدل على أن القرآن نزل بعد نزول كتب سماوية قبله، وفي الآية نكتة عقائدية وهي مع حصول التحريف في الكتب السماوية السابقة فان القرآن مصدق لأصل التنزيل وما لم تصله يد التحريف من تلك الكتب.
وفيه آية إعجازية ونعمة من الله عز وجل على المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً بان بقي من التوراة والإنجيل شطر سالم من التحريف يكفي لتصديق القرآن له، ويدل على كشف القرآن لمضامين الشطر الآخر الذي وقع فيه التحريف.
وفي هذا التصديق وجوه:
الأول: إنه شاهد على نزول القرآن من عند الله عز وجل.
الثاني: الصلة السماوية بين القرآن والكتب السماوية السابقة.
الثالث: حاجة الناس لنزول القرآن ولزوم التصديق به، إذ أن الكتاب السماوي السابق لا يحجب التصديق باللاحق، بل بالعكس فانه يدعو إلى التصديق به.
الرابع: تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة فضل من عند الله على أهل الكتاب، وهو وسيلة لجذبهم للإيمان، وعون لهم للتصديق بالقرآن.
الثانية عشرة : توارث أهل الكتاب للبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونزول القرآن لقوله تعالى [وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا].
الثالثة عشرة : بيان المائز بين أهل الكتاب والكفار بأن أهل الكتاب يتطلعون لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من بركات الكتب السماوية النازلة.
الرابعة عشرة : في إستفتاح أهل الكتاب على الذين كفروا وجوه:
الأول : إنه شاهد على إستعدادهم للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته.
الثاني : تلقي أهل الكتاب البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأنبياء السابقين بالقبول والرضا.
الثالث : موضوعية بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن في تحقيق النصر والغلبة لأهل التوحيد على الكفار، قال تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
الرابع : تعاهد أهل الكتاب للبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن.
الخامس : البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمر حتمي الوقوع , وليس ظنياً او أمراً محتملاً.
السادس : في البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مواساة لأهل الكتاب لما يلاقونه من الكفار، ودعوة لهم للصبر والدعاء وسؤال قرب بعثته.
السابع : في هذا الإستفتاح حجة على الكفار، وإخبار لهم بأن النبي الموعود في آخر الزمان سيخرج من بين ظهرانيهم، وفيه دعوة لهم للإسلام وقد آمن فريق من الكفار الوثنيين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حال بعثته أو عند هجرته إلى المدينة ورؤيتهم للآيات، وقد يمتنع فريق من الذين كانوا يستفتحون على الكفار عن الإيمان، ويدخل جماعات من الكفار الإسلام بسبب هذا الإستفتاح الذي هو مقدمة للتصديق.
وجاءت خطابات وإنذارات القرآن بالتوجه إلى المكلفين جميعاً بعرض واحد وعدم حصره بالرؤساء أو فريق مخصوص من الناس، قال تعالى[قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ]( ).
ليكون لأهل الكتاب فضل على الناس، وفيه شاهد بأن منافع التوراة والإنجيل أعم من أن تنحصر باليهود والنصارى، وتلك آية في التنزيل بأن تتعاهد الكتاب أمة من المتقين ولكن النفع منه يعم غيرهم من الأمم , وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثامن : صار هذا الإستفتاح برزخاً وحائلاً دون تصديق الكفار لمن ينكر نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب للتناقض بين الإستفتاح والتخويف والوعد بالنصر والغلبة على الكفار عند بعثته وبين إنكارها عند وقوعها فعلاً، لذا إدّعوا التباين بين الصفات المذكورة في التوراة عن نبي آخر زمان وبين صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بعثته.
فجاءت هذه الآية فضحاً لهم، ودعوة للتصديق بنبوته والقرآن، قال تعالى [وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ]( ).
التاسع : ذكرت الآية حجة واقعة وهي تصديق القرآن لما معهم، ومن وجوه هذا التصديق إتحاد والتقاء القرآن والكتب السماوية السابقة بصفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتوكيد على حقيقة وهي البشارة والعلامات المذكورة عنه في التوراة والإنجيل مطابقة لصفاته صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم وجود تباين أو إختلاف بينها وفيه دعوة لأهل الكتاب وجميع الناس بالتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والآيات التي جاء بها من عند الله.
العاشر : إنقطاع إستفتاح أهل الكتاب على الذين كفروا بحصول البعثة النبوية ونزول القرآن، فقد كان هذا الإستفتاح نوع تخويف ووعيد للكفار بان نبي آخر الزمان سيبعث ويأخذون حقهم من الكفار، فلما بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صاروا أمام خيارين لا ثالث لهما فأما الإسلام، وأما الجحود والكفر ومن ينكر منهم ينال الخزي بين الناس لأنه جحود بالأمر السماوي الذي كان يرجوه ويأمله.
الحادي عشر : توكيد حقيقة وهي أن أهل الكتاب عرفوا صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه النبي الموعود الذي جاءت به أخبار الكتب السماوية السابقة وبشّر به الرسل والأنبياء.
الثاني عشر : من الآيات أن تأتي البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاملة للامرأة والمسمى وعلامة النبوة، ومن فضل الله تعالى أن تكون معجزته عقلية، وهي القرآن الكريم الذي هو معجزة وحجة متجددة إلى يوم القيامة.
الثالث عشر : تتضمن هذه الآية الإعجاز بإقامة الدليل والحجة على الكفار فانهم لم يكفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد أن عرفوا صدقها وموافقتها لما عندهم من ميراث الكتب السماوية السابقة، مما يدل على أن قولهم في الآية السابقة [قُلُوبُنَا غُلْفٌ] لا أصل له، وأنه جاء بعد حصول المعرفة عندهم مما يجعل الحجة عليهم.
الرابع عشر : حلول اللعنة على الكافرين الذين يجحدون بالربوبية، وبالنبوة والآيات التي جاء بها الأنبياء.
وهل اللعنة في المقام خاصة بالذين كانوا يستفتحون على الذين كفروا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم أنكروها عند وقوعها أم هي عامة شاملة للكفار.
الجواب هو الثاني، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا]( )، وصار الناس بحسب هذه الآية على أربعة أقسام:
الأول: قوم كانوا يستفتحون على الذين كفروا فآمنوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: قوم كانوا مع الكفار، ويتوعدهم أهل الكتاب ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحينما طلت طلعته البهية بسلاح المعجزة آمنوا به، وصدّقوا بنبوته.
الثالث: فريق من أهل الكتاب كانوا يستفتحون على الكفار ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعند بعثته كفروا بها، وأصروا على الجحود.
الرابع: قوم من الكفار كانوا يتلقون الوعيد من أهل الكتاب ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن النصر حليف له، ولكنهم أصروا على الإقامة على الكفر والجحود.
أما الذين من القسم الأول والثاني فقد فازوا وتخلصوا من اللعنة، ولم تشملهم اللعنة لأنها خاصة بالكافرين وهم ليسوا منهم، وأما القسمان الثالث والرابع فتشملهم اللعنة الواردة في هذه الآية، وفيه إعجاز بتبدل منازل الأفراد بلحاظ إنتماءاتهم وولائهم، وتصديقهم بالنبوة أو التكذيب بها، وهو جزء من الإبتلاء والإمتحان في الحياة الدنيا.
وجاءت هذه الآية بصيغة اللوم والذم للكافرين، لتكون زاجراً لهم عن الكفر ودعوة إضافية لهم لدخول الإسلام، وفضحاً للتحريف وقول الزور، وإخباراً عن قبح الإصرار على الكفر والجحود.
وتكرر في الآية لفظ “لما جاءهم” وكان الفاعل في الأول كتاب الله، وفي الثاني “ما عرفوا” بقوله تعالى [فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا] وفي المراد من الذي كفروا به وجوه:
الأول: إنه كتاب الله، والمراد منه القرآن.
الثاني: المراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعرفوا صدق نبوته وأنه الذي بشر به الأنبياء السابقون، قال تعالى [يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ]( ).
الثالث: ما كانوا يستفتحون به على الكفار من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحقيق النصر والغلبة على الكفار.
الرابع: تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة.
الخامس: المعجزات التي جاء بها النبي ودلائل نبوته المذكورة في الكتب السماوية السابقة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وفيه دلالة على عظمة تراث النبوة، وأن أخبار الغيب التي جاء بها الأنبياء بوحي من الله عز وجل لم تغادر الأرض وإن غادر الأنبياء إلى الرفيق الأعلى، بل بقيت البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأخبار عن نبوته يتوارثها أهل الكتاب.
وقوله تعالى [فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا] حجة دامغة، وإخبار عن إنتفاء الشك والريب في نفوسهم وتلك آية وفضل إلهي على الناس وأهل الكتاب بحصول المعرفة عند أهل الكتاب بصدق النبوة والتنزيل، وأن الكفر لم يحصل إبتداء بل جاء بعد العلم والمعرفة.
وقيل أن العلم يحصل في الكليات والمعرفة في الجزئيات، ولكن الآية أعم، وتفيد المعرفة هنا معنى العلم.
وهل يمكن أن يكون متعلق المعرفة الأخبار والبشارات وحدها وليس المبشر به، الجواب لا، لقوله تعالى [فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا] فموضوع المعرفة مركب من أمور:
الأول: البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة الأنبياء السابقين للتصديق به وإتباعه ونصرته.
الثاني:موافقة آيات القرآن لما في التوراة والإنجيل من الإخبار عنه.
الثالث: حصول المصداق الواقعي للبشارات، والذي يتجلى بآيات متداخلة هي:
الأول: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: نزول الوحي والتنزيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: المعجزات والبينات التي جاءت على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: إتصاف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالكمالات الأخلاقية، قال تعالى[أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ]( )، وقد عرفوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وصحة نسبه من بني هاشم، وتجلي صدقه وأمانته، ورجحان عقله وإقرار قوله بأنه خير فتيان قريش، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: أنا أفصح العرب بَيْدَ أني من قُريش واستُرضعت في بني سَعْد بن بكر)( ).
الخامس: دخول الناس في الإسلام، وتحقيق المسلمين للنصر والغلبة وعجز المشركين عن الإضرار بالمسلمين.
السادس: إنتشار مبادئ الإسلام، وظهور معاني الإعجاز فيها، وبطلان الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام.
الآية لطف
في الآية لطف من وجوه:
الأول: إنها لطف بالمسلمين وفيه مسائل:
الأولى: معرفة المسلمين بحال أهل الكتاب الذين أصروا على الجحود ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن هذا الجحود ليس عن علم ومعرفة، بل انه مخالف لإدراك العقل والواقع.
الثانية: العلم بأن القرآن كتاب الله، وأنه خطاب سماوي نازل للناس جميعاً.
الثالثة: إقامة الحجة على أهل الكتاب بأنهم كانوا ينتظرون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويرومون التصديق به، وإتباعه لوصية الأنبياء به، وعندما جحدوا بنبوته إستحقوا الذم والتقبيح.
الرابعة: تفقه المسلمين في الدين، وإعانة القرآن لهم لمعرفة أحوال أهل الملل والنحل في الدنيا، وما يترشح عن الجحود والكفر من العذاب في الآخرة، قال تعالى[فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ]( ).
الخامسة: الآية برهان وحجة بيد المسلمين لكشفها عن قيام أهل الكتاب بالبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتخويف الكفار بها، الذي يدل على علمهم بإستئصال الكفر والجحود بنبوته، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
الثاني: الآية لطف بأهل الكتاب من وجوه:
الأول: دعوة أهل الكتاب للإسلام بتوكيد نزول القرآن من عند الله، وتصديقه للتوراة والإنجيل، وما في هذا التصديق من إتحاد السنخية في الكتب السماوية وموافقته لما عند أهل الكتاب من صفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلامة القرآن بكونه مصدقاً للكتب السماوية السابقة.
الثاني: بيان فضل القرآن على الكتب السماوية بنزوله من عند الله وخلوه من التحريف والتغيير، ونسخه للشرائع السابقة، وعصمته من النسخ الغيري فالنسخ في القرآن ذاتي، إذ يتضمن القرآن الناسخ والمنسوخ قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] ( ).
الثالث: مجيء القرآن موافقاً لوصف الكتب السابقة له وإحتجاجهم به على أهل الكتاب.
الرابع: تحذير أهل الكتاب والناس من لعنة الله والطرد من رحمته، ودعوتهم لإنقاذ أنفسهم منها.
الخامس: بيان الملازمة بين التصديق بالنبوة وبين نزول النعمة الإلهية، وإخبار آية البحث عن مجيء الكتب من عند الله نعمة تترشح عنها نعم كثيرة.
الثالث: الآية لطف بالكفار الوثنيين، وهي من مصاديق الرحمة الإلهية في الحياة الدنيا الشاملة للناس جميعاً، وهي على وجوه:
الأول: مجيء الآية بلغة الإنذار والوعيد للكفار.
الثاني: دعوة الناس جميعاً للنجاة من لعنة الله، وتتجلى هذه النجاة بإتباع سبل الهداية والإيمان.
الثالث: توكيد إستفتاح أهل الكتاب على الكفار قبل نزول القرآن، فمن إعجاز القرآن الإخبار عن هذا الإستفتاح، وتطلع اليهود في يثرب وغيرهم من أهل الكتاب إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الإخبار من مصاديق وأفراد أحسن القصص التي جاء بها القرآن فلا ينحصر موضوعها بأحوال الأمم السالفة بل يشمل ما تبينه آيات القرآن من العقائد، وما يترتب على البشارات والإنذارات التي جاءت في الكتب السماوية السابقة، وعلى لسان الأنبياء وترتب الأثر عليها عند الناس جميعاً، قال تعالى[فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
فيظهر أتباع الأنبياء تصديقهم لها، وإنتظارهم للبشارات ويتلقى الكفار الوعيد والإنذار على لسان الأنبياء وأصحابهم وأنصارهم وأتباعهم لتكون قصة الموضوع الواحد متكررة في الأجيال المتعاقبة إلى حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فجاء القرآن بتوثيقها، والإعلان عن بدأ وجه آخر منها يتعلق بالحجة، وتحقيق ذات البشارة التي كان الناس في تلقيها على قسمين:
الأول: الذين يدعون إلى البشارة ويبشرون بها ويتطلعون إلى حصولها، وهم أتباع الأنبياء، على قلة من الناس، وتحمّل شطر منهم الأذى والمشقة بسبب إعلان البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن.
الثاني: الذين يتلقون الدعوة بلغة البشارة والإنذار، فمن الآيات أن يكون القرآن المصداق الواقعي لبشارات الأنبياء، وهو ذاته بشارة، ليكون إعتبار وإتعاظ الناس منه على وجوه:
الأول: بعثة الأنبياء السابقين ومجيؤهم بالبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل هذه البشارة من عمومات قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
الجواب نعم، فالى جانب بشارتهم بالجنة وحسن الثواب لأهل الإيمان فانهم يبشرون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وينتظرون أيامه المباركة، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: كنت نبيا وآدم بين الماء والطين)( ).
الثاني: إستفتاح أهل الكتاب على القوم الكافرين كما تذكره هذه الآية الكريمة.
الثالث: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع حصول المصداق الواقعي لما بشر به الأنبياء السابقون على نحو الحصر والتعيين فليس من نبوة في آخر الزمان غيرها.
وهو من أسرار مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على فترة من الرسل إذ كانت بين نبوة عيسى عليه السلام ونبوته نحو ستمائة سنة بينما كان يبعث أكثر من نبي في زمان واحد، ليكون الإستفتاح بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم حجة وبشارة إضافية بها، ومانعاً من الترديد والشبهة والشك.
ومن الآيات طيلة تلك الفترة والعقود من السنين الطوال عدم وجود أثر لمدع للنبوة، فحتى في حال وجود مدعِ للنبوة فانه سرعان ما يتضح للناس كذبه وزيف دعوته، وتموت تلك الدعوة في مهدها.
ليكون ظهور نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنتشار الإسلام في الآفاق آية إعجازية وشاهداً على صدق نبوته، وموافقة بعثته لما ورد بخصوصها في الكتب السماوية السابقة بإعتبارها النبوة الخاتمة في آخر الزمان، وليكون الإستفتاح الذي ذكرته هذه الآية من أسباب إستحقاق الكفار اللعنة الدائمة، ومن أسرار تكرار اللعنة عليهم في هذه الآية مرتين.
جاءت الآية بصيغة التذكير والذم، ومن إعجاز القرآن مجىء الذم على نحو التوثيق التأريخي، والبينة والشاهد على لزوم عدم التخلف عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وبدأت الآية بلطف مركب من وجوه:
الأول: الإخبار عن نزول القرآن من عند الله، وجاء هذا الإخبار على نحو الموجبة الكلية والعموم المجموعي لآيات القرآن، قال تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ]( ).
وجاء الإخبار على نحو القضية الشخصية، في توكيد نزول بعض آيات القرآن، قال تعالى[وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( ).
الثاني: نعت القرآن بأنه الكتاب،وقد سميت التوراة بالكتاب، لنفي النفرة من القرآن عند بني إسرائيل.
الثالث: إكرام بني إسرائيل بمجئ الكتاب لهم، وهو لا يتعارض مع عمومات خطابات القرآن، ومجيئه للناس جميعاً.
الرابع: تصديق القرآن للتوراة وأحكامها ومضامينها القدسية.
الخامس: الإخبار عن تطلع بني إسرائيل للنصر ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن المصاديق الإعجازية لصدق القرآن أن الذين كفروا إنهزموا أمام المسلمين، فلم تمر سنوات معدودة على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى إنحسر وزال الشرك من الجزيرة، وأخذت راية ودولة الإسلام تتسع يميناً وشمالاً، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ]( ).
إفاضات الآية
تبين الآية عدداً من النعم التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل، وهي على وجوه:
الأول: إخبار بني إسرائيل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: حصول درجة اليقين عندهم ببعثة نبي آخر زمان وقرب زمانها، وفيه تخفيف عنهم، وعون لهم على نصرته عند بعثته.
الثالث: بقاء التوراة عند بني إسرائيل، وتضمنها لأخبار بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: إكرام الآية لبني إسرائيل بأن القرآن جاء لهم على نحو التعيين.
الخامس: تناقل وتوارث بني إسرائيل لأنباء نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد عاش بنو إسرائيل في كنف نعمة التفضيل التي أنعم الله تعالى بها عليهم، ومن فضله وكرمه تعالى أنه لم يسلبها منهم بنزول القرآن، فجاءت هذه الآية لتتضمن في مفهومها الخطاب الإلهي لبني إسرائيل بأن القرآن جاء لهم، من غير أن يمنع هذا المعنى إرادة الناس جميعاً في خطابات وأحكام القرآن.
السادس : مصاحبة نعمة الإستفتاح لهم على الذين كفروا، فإن بني إسرائيل يصبرون ويصابرون بإنتظار بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه شاهد على أن نبوته صلى الله عليه وآله وسلم نعمة على بني إسرائيل قبل حلول زمانها، وآية ودليل على بركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل بعثته وقبل ولادته، وهذه البركة على وجوه:
الأول: النفع العظيم لأهل الكتاب من نبوته قبل بعثته الأمر الذي يستلزم منهم الشكر لله تعالى على هذه النعمة، ويتجلى الشكر في المقام بالتصديق بنبوته عند بعثته ونصرته.
الثاني: هذه الآية مصداق للميثاق، وتفسير لقوله تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
الثالث: الإستفتاح بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة لتعاهد البشارات بنبوته وعدم التفريط بها.
الرابع: إستمرار الأمل في نفوس أهل الكتاب، والصبر على ما يلاقونه من الكفار والمشركين، فما دام الإنسان والجماعة ينتظرون الفرج فإنهم يتحملون الأذى والتعدي.
الخامس: بعث الخوف والفزع في قلوب الكفار من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن أهل الكتاب يبشرون به، وينتظرون طلعته البهية للغلبة على الكفار.
السادس: الإستفتاح مقدمة لدخول الكفار الإسلام، وتلك آية إعجازية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فحينما بعث ونزل عليه القرآن آمن به شطر من الكفار لأنهم كانوا يسمعون أهل الكتاب يبشرون بنبوته , وفي التنزيل[وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ]( ).
السابع: منع الكفار من التمادي والإسراف في إيذاء بني إسرائيل مما يدل على أن نزول القرآن نعمة على بني إسرائيل ومن عمومات قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ] ( ).
ويتجلى ذكر نعمة القرآن بإستحضار البشارة به في التوراة , ولم يلاق بنو إسرائيل في فترة ما قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معشار ما لاقوه من الأذى والعذاب من آل فرعون والفتن والخصومات التي حدثت بينهم، لأن البشارة ببعثته واقية وحرز وأمن.
ليكون التخفيف عنهم قبل بعثته مقدمة للتدبر في معجزاته , وإستحضار البشارات به .
وجاء لفظ(عرفوا) مرتين في القرآن، وكلاهما في أهل الكتاب مع التباين في موضوعهما، فجاء هنا للذم على الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاء الثاني في مدح فريق من أهل الكتاب لإظهارهم معاني التصديق بالقرآن عند سماع آياته وموافقتها للبشارات التي جاءت واضحة في التوراة والأنجيل.
الثامن : دعوة بني إسرائيل إلى التدارك والإنابة بالتذكير بالإستفتاح على الذين كفروا ومجيء خاتمة الآية في توبيخ الكفار، وحث بني إسرائيل على تعاهد التباين بينهم وبين الكفار والمشركين، ويتجلى هذا التعاهد بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله تعالى.
إن الإستفتاح شاهد على تعاهد البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبرزخ دون تحريفها، وإن حصل التحريف فإنه لا يأتي على أصل البشارة ومضامينها.
التاسع : حاجة بني إسرائيل للبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتعاهدها وتوارثها ليس فضلاً من بني إسرائيل، بل إنهم يحتاجون إليها في الصبر والإستفتاح على الذين كفروا ووعيدهم بالنصر والغلبة عليهم.
ترى لماذا سمّت الآية القرآن بالكتاب ولم تذكره بامرأة القرآن، فيه مسائل:
الأولى: المدار على المسمى، وهو الكتاب والإشارة إلى الصلة بين التوراة والقرآن ككتابين من عند الله.
الثانية: الكتاب هو الجامع لمسائل متحدة في الجنس مختلفة في النوع، والباب هو الجامع لمسائل متحدة في النوع ، مختلفة في الصنف، والفصل هو الجامع لمسائل متحدة في الصنف مختلفة في الشخص.
وبينما يفيد الكتاب الكتابة وانه مكتوب، فلا يفيد الدفتر ذلك، لأن الدفتر قد يكون بياضاً لم يكتب فيه شيء.
وبين الكتاب والمصحف عموم وخصوص مطلق، فقد يكون الكتاب ورقة واحدة وقد يكون أوراقاً متعددة، أما المصحف فلا يكون إلا مجموعة من الأوراق جمعت بين دفتين.
وقد يكــون الكتــاب مصــدراً بمعنى الكتـابــة، تقول كتبت كتـاباً وعلمته الكتاب، وفي التنزيل وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ ، وامرأة الكتاب أكثر أسماء القرآن وروداً في القرآن.
الثالثة: ترغيب بني إسرائيل للإنصات للقرآن، لوجه الشبه بينه وبين التوراة إذ أن النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: امرأة الكتاب لكل من التوراة والقرآن.
الثان: التوراة والقرآن نازلان من عند الله.
الثالث: كل منهما نازل على نبي رسول من الرسل الخمسة أولي العزم.
الرابع: كل منها حجة في الدعوة إلى الله.
الخامس: التوراة والقرآن هدى ونعمة، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ]( ).
أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول: الامرأة الخاص لكل منهما.
الثاني: نزلت التوراة على موسى عليه السلام، ونزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: نزلت التوراة دفعة واحدة، ونزل القرآن على نحو النجوم والتدريج.
الرابع: التوراة متقدمة في زمانها، والقرآن لاحق زماناً.
الخامس: جاء كتاب وتنزيل بعد التوراة والإنجيل،ولم ولن يأت بعد القرآن كتاب سماوي.
السادس: التوراة مبشرة ومصدقة للقرآن، والقرآن مصدق للتوراة.
السابع: القرآن ناسخ للشرائع السابقة.
الثامن: في التوراة تبييان من كل شئ، وفي القرآن تبيان لكل شئ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت الآية بتقديم المتأخر وتأخير المتقدم زماناً، لنكتة عقائدية وهي أولوية موضوع وزمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن على صدره، فإبتدأت الآية بذكر أمور:
الأول: نزول القرآن.
الثاني: إنه من عند الله عز وجل.
الثالث: مجيؤه لبني إسرائيل، وتجتمع هذه الأمور الثلاثة بقوله تعالى[وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]، والمراد من الكتاب في الآية هو القرآن، وجاء الإخبار عن مجيئه لبني إسرائيل حجة عليهم وإلا فإنه جاء للناس جميعاً وذكر إختصاصهم في مجئ القرآن في هذه الآية برزخ دون إنصات الناس للشك والريب فيه، ودعوة للإيمان.
ثم ذكرت الآية الكريمة إنتظار بني إسرائيل لنزول القرآن ولو بالصفة العامة للتنزيل وهو الكتاب.
وكان اليهود في مدينة يثرب يتطلعون إلى زمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الكتاب عليه، ويستنصرون به على المشركين والكفار عندما يقوم الأوس والخزرج بالتعدي عليهم وكان هذا الإستفتاح حجة وعوناً لأهل يثرب للتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الشواهد خروج النبي محمد إلى موسم الحج في سني الدعوة الأولى للإتصال بوفود القبائل التي تأتي للحج وحضور الموسم، وكانت قريش تبث رجالها لتحذير الناس من تصديقه وإتباعه، لذا ورد قول في تفسير قوله تعالى[كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ]( )، أن المراد ذم رجال من رؤساء الكفر من قريش .
(وكانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم يقولون لمن أتى مكة لا تغتروا بالخارج منا و المدعي النبوة فأنزل الله بهم عذابا فماتوا شر ميتة ثم وصفهم فقال الذين جعلوا القرآن عضين أي جزءوه أجزاء فقالوا سحر وقالوا أساطير الأولين و قالوا مفترى عن ابن عباس)( ).
ومع هذا فقد آمن به وصدّقه وفد الأوس والخزرج وفيه أمارة على أثر إستفتاح اليهود بنبوته والإخبار عن حلول أوانها وعلامات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان فيما يخبرون عنه أن يثرب مهاجر نبي وليس لأحد من الحكام والسلاطين أن يستوطنها ويقيم فيها.
ومن الإعجاز في حكم وأيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المدينة المنورة لم يكن بها غيره حاكماً وإماماً وأميراً قبله، ولم يدخلها جيش وقوة وعدة، فقام أهل المدينة أنفسهم بنصرته وإعانته مع أنهم كانوا على درجة عالية من التنظيم وتقسيم السلطات .
وقد ورد في الخبر أنهم كانوا يستعدون لتنصيب عبد الله بن أبي بن أبي سلول ملكاً عليهم قبل وصول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمدينة وكان اليهود الذين في المدينة يتطلعون إلى بعثته ويشيرون إلى حلول زمانه ولكنهم قابلوا نبوته بالتكذيب والإنكار والتحريف.
ثم ذكرت الآية لفظ(جاءهم)مرة أخرى بقوله تعالى[فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا] وهو إعجاز للآية بأن ذكر القرآن صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة معرفة به، وإخبار عن بعثته بعلاماته وصفاته.
والتطابق بين البشارة به والمصداق الواقعي لتلك البشارة، ليكون يوم هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عيداً لليهود فيها، ومناسبة للفخر والشأن لهم بدخول الإسلام وبداية الأمن والسلامة من المشركين والكفار.
نعم خشي اليهود خوض الحروب والمعارك مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضد قريش وقوى الكفر , وقالوا إن جبرئيل يأتي بالحرب والقتال، ولكن هذه الخشية لا أصل لها من وجوه:
الأول: إزدياد قوة ومنعة المسلمين بدخول اليهود الإسلام خصوصاً وأن اليهود كانوا أصحاب سلاح وأموال لذا جاءت الآيات بحث بني إسرائيل بتعاهد الميثاق وترغيبهم بالوفاء بالعهود، قال تعالى [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ] ( ).
الثاني: يقتدي كثير من المشركين باليهود لو دخلوا الإسلام، لأنهم كانوا يعلمون أن اليهود أهل كتاب، وعندهم أخبار وبشارات عن صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: إقامة الحجة على قريش وغيرها من المشركين بتصديق اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبعث الفزع والخوف في قلوب المشركين من نبوته ووقوع الفرقة والإختلاف بينهم بخصوص الخروج لقتاله والمسلمين.
الرابع: ضعف المنافقين، وقلة عددهم، وإسقاط ما في أيديهم، فلو آمن يهود المدينة من بني قريظة والنضير وقينقاع، وخرج شطر منهم براياتهم وسلاحهم مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار إلى معركة أحد لما إنخزل عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة من المنافقين، وان قام بالرجوع فلا يرجع بهذا العدد وليس ثمة إعتبار لإنخزاله حينئذ، خصوصاً وان المسلمين من الذين كانوا على دين اليهودية يقومون بإخبار الناس بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما يترشح عن معاني ومفاهيم النبوة من النصر في ميادين الدفاع، وتلك مشيئة الله عز وجل وكانت قلة المسلمين حجة ظاهرة في تجلي نصرة الملائكة لهم.
الخامس: نزول الملائكة مدداً وعوناً للمسلمين في معركة بدر وأحد وغيرها، فمن تكون الملائكة له مدداً يجب ألا يخاف أو يحذر من العدو وان كانت جيوشه وعدته كثيرة في منافع نزول الملائكة لنصرة النبي محمد والمؤمنين، قال تعالى[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ].
وأختتمت الآية بقاعدة كلية في الإرادة التكوينية وهي طرد الكافرين من رحمة الله وحرمانهم من أسباب العفو والمغفرة في الآخرة، وفيه إنذار وتحذير من الكفر بنزول القرآن من عند الله، والجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وورد لفظ(جاءهم) خمساً وأربعين مرة، وتكرر في هذه الآية وفي قوله تعالى[وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا]( )، ونزلت الآية في قريش إذ كانوا يرجون أن يبعث الله نبياً منهم ليتبعوه وينصروه ، ويصدقون بالكتاب الذي يأتي به ، ولما أعلن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوته وتلا آيات القرآن عليهم جحدوا بها، ترى ما هي النسبة بين قوله تعالى(ولما جاءهم كتاب) وقوله تعالى(فلما جاءهم ما عرفوا) في ذات آية البحث، الجواب فيه وجوه:
الأول : بينهما نسبة العموم والخصوص المطلق، فما عرفوا أعم من الكتاب من جهات:
الأولى : موافقة ما عندهم من ذكر لصفات نبي آخر زمان لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : جريان المعجزات الحسية على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي نزول آيات القرآن وكل واحدة منها آية عقلية
الثالثة : إجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسائل التي يأتون بها بما يدل على صدور الإجابة عن الوحي، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية: إن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم زماناً عن أمور من التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوا عنه فيخصمهم ، فلما رأوا ذلك قالوا هذا أعلم بما أنزل علينا منا ، وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به ، فأنزل الله { واتبعوا ما تتلوا الشياطين…} الآية . وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك ، فدفنوه تحت مجلس سليمان ، وكان سليمان لا يعلم الغيب ، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس ، وقالوا : هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه ، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحديث ، فرجعوا من عنده وقد حزنوا وأدحض الله حجتهم( ).
الرابعة : جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإعلاء لواء التوحيد ومحاربة الشرك والضلالة، وهو من خصال الأنبياء، فلا تنحصر صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخلقة والهيئة بل تشمل السنة الجهادية والفناء في مرضاة الله، والإجتهاد في طاعته والتجرد عن الدنيا وزينتها،.
وفي سبب نزول سورة الإخلاص ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقالوا أنسب لنا ربك فمكث ثلاثا لا يجيبهم ثم نزلت السورة , و قريب منه ما ذكره القاضي في تفسيره أن عبد الله بن سلام انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم و هو بمكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أنشدك بالله هل تجدني في التوراة رسول الله فقال أنعت لنا ربك فنزلت هذه السورة فقرأها النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فكانت سبب إسلامه إلا أنه كان يكتم ذلك إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة ثم أظهر الإسلام( ).
وأخرج عن أنس قال: جاءت يهود خيبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القامرأة خلق الله الملائكة من نور الحجاب وآدم من حمإ مسنون وإبليس من لهب النار، والسماء من دخان ، والأرض من زبد الماء، فأخبرنا عن ربك فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتاه جبريل بهذه السورة {قل هو الله أحد} ليس له عروق تتشعب {الله الصمد} ليس بالأجوف لا يأكل ولا يشرب {لم يلد ولم يولد} ليس له والد ولا ولد ينسب إليه {ولم يكن له كفواً أحد} ليس من خلقه شيء يعدل مكانه يمسك السموات إن زالتا.
هذه السورة ليس فيها ذكر جنة ولا نار، ولا دنيا ولا آخرة ولا حلال ولا حرام أنتسب الله إليها فهي له خالصة ، من قرأها ثلاث مرات عدل بقراءة الوحي كله ، ومن قرأها ثلاثين مرة لم يفضله أحد من أهل الدنيا يومئذ إلا من زاد على ما قال ، ومن قرأها مائتي مرة أسكن من الفودوس سكناً يرضاه ، ومن قرأها حين يدخل منزله ثلاث مرات نفت عنه الفقر ونفعت الجار ، وكان رجل يقرأها في كل صلاة فكأنهم هزئوا به وعابوا ذلك عليه فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : وما حملك على ذلك؟ قال يا رسول الله : إني أحبها قال : حبها أدخلك الجنة . قال : وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ويرددها حتى أصبح)( ).
ويبين الحديث المباحث الكلامية العالية وإقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البرهان بما يكون ميراثاً عقائدياً للمسلمين، ومدرسة في التفقه في الدين وزيادة الإيمان، وشاهداً على لغة الإختصاص في السور القرآنية، فمع أن كل آية في القرآن تدل على الوحدانية ووجوب عبادة الله، فقد جاءت هذه السورة خالصة في الثناء على الله عز وجل، وفيها تأكيد للتوحيد وإنتفاء الشريك والند، لتكون بياناً وحجة على تصديق القرآن لما مع بني إسرائيل من التوراة والإنجيل ومضامين التنزيل التي لم تصل إليها يد التحريف.
الخامسة : تجلي المصداق العملي لبشارات التوراة والإنجيل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه نبي آخر الزمان الموعود، ومن الآيات أن أفراد الزمان الطولية شواهد على هذه الحقيقة من وجوه:
الأول : إجتماع الأيام والأشهر والسنين لتأكد بوقائعها وما فيها من الأحداث صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إستقلال كل يوم بذاته ووقائعه للدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويبذل المسلمين الوسع في العبادات والجهاد في سبيل الله، بما يجعل الإنسان يدرك إعجاز القرآن الغيري بترجمة تصديقهم بالنبوة والتنزيل في الواقع اليومي بإخلاص.
الثالث : الملازمة بين توالي الأيام وإزدياد قوة ومنعة الإسلام وإتساع سلطان حكمه في الأمصار، قال تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا]( ).
الرابع : إنشاء وعمارة مدن ودول ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضل الله بإخراج كنوز الأرض للمسلمين.
الخامس : إقرار الأجيال المتعاقبة من الناس بإنقطاع النبوة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : الطلعة البهية للقرآن على الناس في كل يوم بحلل متجددة تتضمن الإعجاز والتحدي وإنعدام المعارضة.
السابع : تجلي مصاديق من إعجاز القرآن مع تعاقب الأجيال، وهذه المصاديق تارة تكون على نحو الأفراد غير الإرتباطية، وأخرى إرتباطية وبذات الأفراد والأعيان، قال تعالى[وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا]( ).
الثامن : مع تقادم الأيام والقرون والأحقاب فإن القرآن لا تصل إليه يد التحريف رسماً وتلاوة وتفسيراً، أما الرسم والتلاوة فهما أمران يتوارثهما المسلمون وتتلقاهما كل طبقة عن طبقة يداً بيد بوجوب القراءة في الصلاة اليومية.
وأما التفسير فإن القرآن عصم نفسه من تفسيره بخلاف معانيه السامية وغايات نزوله الحميدة، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، فلا يختص الحفظ برسم وكلمات القرآن بل يشمل تفسيره وسلامة تأويله من التحريف والتبديل.
السادسة : الملازمة بين تعاقب الأيام وإزدياد إيمان المسلم، فترسخ عنده ملكة الإيمان بتوالي الأيام والسنن، قال تعالى[وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا]( )، ومن من أسرار إستماع المسلمين وغيرهم للتلاوة في الصلاة الجهرية ومن أسرار إتصاف أوان هذه الصلاة في الغالب بالفراغ من العمل وفتنة المعاملات والأسواق.
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية أن التاجر والعامل وغيرهما يتسلحون بالقرآن وتلاوته ليوم عملهم ويفتتحون اليوم بالصلاة، والقراءة والذكر، وجاءت الآية أعلاه بالشهادة للمسلمين بزيادة الإيمان المطردة عند قراءة القرآن وعدم تأثرهم بالدنيا ومباهجها أو الإنشغال بالمكاسب وما فيها من الإبتلاء والإفتتان.
السابعة : الدعوة إلى الإسلام والإقرار بالنبوات على نحو العموم المجموعي، قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ).
وتتضمن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم محاربة الشرك، وإصابة الكفار بالذل والهوان وتضاؤل شأنهم، وضعف أثرهم وتأثيرهم، وهو أمر إجتهد وجاهد الأنبياء وأتباعهم من أجل تحقيقه وكل واحد من الأنبياء ساهم في بناء صرح التوحيد إلى أن جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لينهض وأمته بمسؤوليات إتمامه، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وخروج المسلمين للناس مركب ومتعدد ومنه الشهادة بصدق نزول التوراة والإنجيل، ومحاربة الكفر ومفاهيم الشرك.
التفسير الذاتي
يتعلق موضوع الآية بالذين ذكرتهم الآية وهم فريق من بني إسرائيل، فقد جاءت الآية السابقة بالإخبار عن قولهم عند الإحتجاج عليهم ودعوتهم للإسلام أنهم لايفقهون التنزيل ومضامينه القدسية، وإبتدأت الآية بالحرف (لما) وهو على ثلاثة وجوه:
الأول: يكون بمعنى (لم) فينفي حصول الفعل كما في قوله تعالى [بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ]( ).
الثاني: يأتي بمعنى (إلا) قال الله عز وجل[إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ]( ).
الثالث: مجيؤه جواباً لأمر يقع بوقوع غيره ويكون بمعنى (حين) ويسمى(لمّا الحينية).
وجاءت (لما) في الآية على الوجه الثالث أعلاه، وتقدير الآية (وحين جاءهم).
وتبين الآية نعمة الله عز وجل على بني إسرائيل بنزول القرآن على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله تعالى [جَاءَهُمْ] أي جاء القرآن لبني إسرائيل ويدل عليه قوله تعالى [مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ] وتلك آية إعجازية في بيان حقيقة وهي أن القرآن كتاب نازل للناس جميعاً، وليس للمسلمين فقط.
وفي الفقه مسألة هي حرمة تمكين الكافر من المصحف، وعدم جواز بيعه عليه لعدم قابلية المنقول إليه لحيازته وتملكه، وللمنع من إستيلائه عليه.
وأستدل عليه بأنه هتك لحرمة القرآن، والقياس على حرمة بيع العبد المسلم للكافر، ومنهم من ناقش الدليل فيه، والتفصيل في مباحثنا الفقهية( ).
وتبين الآية أن نزول القرآن رحمة لبني إسرائيل، وتحقيق لما يصبون إليه وإظهارهم الحاجة والشوق لنزول الكتاب السماوي الجامع للأحكام الشرعية، ومنبع هذا الشوق ما توارثوه من البشارات عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن في التوراة، وكانوا يرون فيه سلامة لهم من تعدي الكفار والمشركين في المدينة وما حولها، لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعثه الله حاكماً وإماماً يحكم بين الناس بالعدل وبما أنزل الله عز وجل عليه.
إن إستفتاحهم على المشركين بقرب أوان خروج نبي آخر الزمان ووثيقة وحجة عليهم في النشأتين.
وجاءت الآية للحجة والبرهان، وحجج الله عز وجل على الناس أكثر من أن تحصى ومنها آيات القرآن.
ومن إعجاز القرآن أن مصاديق الإعجاز في الآية الواحدة متعددة وتوليدية تتفرع عنها حجج إضافية بلحاظ مناسبة الموضوع والحكم، ومن وجوه الحجة في هذه الآية أمور:
الأول: توارث بني إسرائيل للبشارة بنزول القرآن من عند الله، أي أن البشارات التي جاءت في التوراة لا تنحصر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل تشمل الكتاب الذي أنزله الله عز وجل عليه.
الثاني: المنزلة الرفيعة والخصوصية التي يختعص بها القرآن من بين الكتب السماوية.
الثالث: نزول القرآن للناس جميعاً لأن ذكر بني إسرائيل من باب البيان والمثال والموعظة، فإخبار الآية بأن القرآن جاء إلى بني إسرائيل يدل على إرادة الناس جميعاً، ولورود آيات عديدة تدل على عموم وعالمية بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الجامع المشترك بينهم على ثلاث جهات:
الأولى: دعوتهم للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : دخول الإسلام.
الثالثة : إتيان الأوامر التي أمر الله عز وجل بها في القرآن وإجتناب ما نهى الله عنه.
الرابع: تسمية القرآن في هذه الآية بصفات هي:
الأولى: كتاب .
الثانية: من عند الله.
الثالثة: مصدق لما مع بني إسرائيل من الكتب السماوية.
الخامس: كشف القرآن لعلوم من الغيب، وإخباره عما كان يقوم به اليهود من التطلع لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والأمن والسلامة معها من كيد الكفار ومكر الأعداء.
السادس: بقاء الإستفتاح ذاته لينتفع منه الذي أسلم من الناس، ومن الآيات أن الذين كانوا يستفتح عليهم اليهود بالقرآن من الأوس والخزرج بادروا إلى دخول الإسلام، وإتخذوا من إنتظار اليهود لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة ودليلاً مؤيداً للبراهين والمعجزات التي جاء بها من عند الله عز وجل.
السابع: تبين الآية موضوعية القرآن في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق برسالته، وفيه مسائل:
الأولى: مجئ الكتب السماوية السابقة بالبشارة بالقرآن.
الثانية: الدلالة على أن القرآن هو الكتاب السماوي المبشر به، ولم يأت القرآن بالبشارة بكتاب غيره إذ لا كتاب سماوي بعده، نعم هو مصدق للكتب السابقة.
الثالثة: إستعداد اليهود للتصديق بالنبي الذي ينزل عليه القرآن، وهذا التصديق واجب على الناس جميعاً، ومن الآيات أن القرآن يمتلك أسباب التصديق به بالذات لأنه معجز في آياته على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والبدلي، ويمكن القول أن القرآن مصدِق من وجوه منها:
الأول: القرآن مصدق لنزول آياته من عند الله عز وجل.
الثاني: يصدّق القرآن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الدليل والشاهد السماوي الدائم عليها.
الثالث: تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة.
الرابع: تصديق القرآن لبعثة الأنبياء السابقين، وتوكيد وظائفهم العبادية والجهادية، قال تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
الرابعة: إدراك بني إسرائيل للمنافع العظيمة للقرآن، وما يأتي به من أسباب المصلحة ودفع المفسدة.
الخامسة: القرآن شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وطريق للتسليم بمجيئه رسولاً من عند الله عز وجل.
إن إستفتاح بني إسرائيل على أهل المدينة من الأوس والخزرج شاهد على أمور:
الأول: قرب زمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإشارة للناس بقرب زمانه وأنه أطلت أيامه.
الثاني: يظهر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه، وينصره على الكفار، ويكون في رسالته نسخ للشرائع السابقة، وسحق للكفر والضلالة.
الثالث: هذا الإستفتاح حجة للمسلمين في إختيارهم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشاهد من أخبار أهل الكتاب بأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابع: لم يأت هذا الإستفتاح إلا عن علم، ولم يصدر إلا من علمائهم وهو آية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن جعل الله عز وجل الناس يتطلعون إلى نبوته لأنهم على قسمين:
الأول: الذين يستفتحون بنبوته وهم أهل الكتاب.
الثاني: الذين يستفتح عليهم وهم الكفار والمشركون وأهل الجاهلية والوثنية.
وكان إستفتاح أهل الكتاب بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نوع مدد وقوة لهم، إذ أنهم يخبرون عن عون سماوي سيأتيهم وينصرهم على القوم الكافرين.
وقد صدّقوا في هذا الإستفتاح، فلم تمر الأيام والسنين حتى بُعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وخرج هو ومن معه من المسلمين لمعركة بدر وأحد لينزل الملائكة مدداً وناصرين لهم، ويخزي الله عز وجل الكافرين، وتلحق بهم الهزيمة وإلى يوم القيامة، مما يدل على أن تلك البشارات التي كانت عند اليهود صحيحة وأن الإستفتاح لا ينحصر بحدود يثرب وأهلها من الأوس والخزرج بل هو عام يشمل أقطار الأرض ببزوغ شمس الإسلام.
وهل هذا الشمول دفعي , بمعنى أنه جاء مرة على الأرض كلها ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أم أنه تدريجي وعلى مراحل، الجواب كلا الوجهين من مصاديق هذا الشمول فما أن بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حتى أنزلت البركات على الأرض، وظهرت الكرامات وأشرقت شمس الإيمان التي يلازمها الخير والفيض , ووجوه لا تحصى من رحمة الله، منها ما جاء في الحال ومنها ما يأتي في أفراد الزمان التالية، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ولم تذكر أسباب الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من إعجاز القرآن إذ ذكرت أنهم يتطلعون إلى زمانه وقربه بما عندهم من البشارات، وهذا التطلع كاف لتلقي نبوته بالتصديق والنصرة، ولكن كفرهم بها أمر مخالف لحكم العقل ومناف للوظائف الشرعية.
لذا ذكرته الآية كوصف للحال ليكون شاهداً على الجهل والحسد والبغي الذي يتصف به الجاحدون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع ما عندهم من البشارات به.
وجاءت خاتمة الآية لبيان الفعل القبيح بالكفر بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن اللعنة والطرد من رحمة الله عز وجل تنزل بالكافرين، وتحتمل الآية أمرين:
الأول: إرادة الكافرين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن.
الثاني: المقصود الكافرون عموماً.
والصحيح هو الثاني لأصالة الإطلاق , وورود الآيات بذم الكفار مطلقاً من يجحد بالربوبية وبنبوة الأنبياء عامة، ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن اللعنة من مصاديق عداوة الله للكفار، قال تعالى[فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ]( ).
وجاءت الآية بالوعيد للكافرين بالنار والعذاب الأليم يوم القيامة , قال تعالى [فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( )، وفيه دعوة للناس جميعاً، بالإحتراز والإبتعاد عن الكفار، وعدم الإنصات لهم أو نصرتهم.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: إبتدأت الآية بالرد على الدعوة إلى الإسلام من فريق من أهل الكتاب، والذي يتضمن الجحود والكفر بالنبوة بذكر علة لا أصل لها، إذ ان الله عز وجل جعل العقل عند الإنسان رسولاً ذاتياً حاضراً، ومصاحباً له، وبرزخاً دون الغفلة، ورزقه التدبر في الآيات فجاء توثيق قولهم فضحاً لهم لأنه مخالف لأصل الخلقة والفطرة، ووظيفة العقل، ويأتي ذكر القلب في مواضع من القرآن لإرادة العقل والتدبر والفهم.
الثانية: من إعجاز القرآن عدم ترك قول الكفار من غير رد سماوي، فجاء ذكر العلة الحقيقية لجحود الكفار وهي إصرارهم على الكفر، ومجيء هذا الإصرار بعد التبليغ وإقامة الحجة عليهم دليل على جلبهم اللعنة على أنفسهم، وطردهم من رحمة الله، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ).
الثالثة: إخبار المسلمين عن قدرة أهل الكتاب قبل الإسلام على تبليغ الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإخبار عنها على نحو القطع واليقين.
الرابعة: دلالة الآية في مفهومها على مدح المسلمين، لتلقيهم نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والرضا وحملهم لواء الدعوة إلى الله، ومن مصاديق الدعوة تلاوة آيات القرآن التي تتضمن توبيخ وتبكيت الكفار.
الخامسة: بيان سوء حال الذي يكفر بآيات الله بنزول اللعنة الإلهية عليه، ودعوة الناس لترك منازل الكفر، رجاء السلامة والأمن في الدنيا والآخرة ومن اللطف الإلهي مصاحبة التوبة للإنسان، فليس من أجل أو سن معين لقبول التوبة.
في الآية مسائل:
الأولى: تثبيت المسلمين في منازل الإيمان، وطرد الشك والريب من نفوسهم.
الثانية: تفقه المسلمين في الدين، وجعلهم يحيطون بأخبار الأمم السالفة لتكون حجة لهم،وبرهاناً على ضلالة من خالفهم ممن إتبع الهوى.
وهو من الشواهد على المنافع العظيمة لقصص القرآن، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، فمن وجوه الحسن في هذه القصص، الصدق وأنها من علوم الغيب، والنفع العظيم والإتعاظ منها، ولا ينحصر الإعتبار منها بالمسلمين وحدهم، بل هو شامل للناس جميعاً، فتأتي قصة عن فريق من أهل الكتاب فيعتبر ويتعظ الكتابي والكافر ويدخل جماعة الإسلام، ويكف آخرون أيديهم عن المسلمين، ويتدبر أناس في آيات القرآن وما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله.
لقد جاءت الآية بخصوص فريق من أهل الكتاب، ولكن منافعها عامة وشاملة للناس جميعاً بما فيهم الذين جاءت الآية في ذمهم.
الثالثة: التوكيد السماوي لنزول القرآن من عند الله تعالى بقوله تعالى [كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ].
الرابعة: قيام الحجة على بني إسرائيل ببلوغ الآيات والدعوة لهم لإبتداء الآية بقوله تعالى [وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ] .
ويمكن تسمية القرآن (البلاغ) فهو بذاته بلاغ، وفيه مصاديق لامتناهية من البلاغ والإخبار , قال تعالى[هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ]( )،(بَلغَ الشيءُ يَبْلُغُ بُلُوغاً وبَلاغاً وصَلَ وانْتَهَى)( )، ويأتي بمعنى البلغة وما يتوصل به إلى الغاية والمطلوب.
والبَلاغُ: الكِفايةُ ومنه قول الزاجر
(تَزَجَّ مِنْ دُنْياكَ بالبَلاغِ وباكِرِ المِعْدةَ بالدِّباغِ) ( ).
فالقرآن واسطة تبليغ الأحكام السماوية للناس، وفيه كفاية لهم عن غيره من الكتب، وحجة قاطعة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهو يغني الناس عن البحث عن أدلة أخرى في إثبات نزوله من عند الله، وتأكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة: بيان الشأن العظيم للقرآن إذ جعلته الآية فاعلاً للمجئ، فمع أنه نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد أخبرت الآية عن مجيئه لبني إسرائيل.
السادسة: دعوة الكفار لدخول الإسلام من وجوه:
الأول: تذكير الناس بإستفتاح بني إسرائيل عليهم.
الثاني: دعوة الناس لعدم الإلتفات إلى جحود بني إسرائيل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنهم سبق وإن بشروا به على لسان الأنبياء وفي الكتب السماوية.
الثالث: إستنباط حكم وقانون من الإستفتاح وفق قاعدة تنقيح المناط، إذ أن إستفتاح بني إسرائيل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتطلعهم إلى النصر ببعثته يدل بالدلالة التضمنية على نصره وظفره بإعدائه، لتجتمع له البشارات والتنزيل والصدق والنصر، فيدرك الإنسان بفطرته أن الفوز والظفر بإتباعه ونصرته.
الرابع: طرد أسباب الشك والريب الذي يأتي من جهة أهل الكتاب بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وأن الآيات تترى على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابعة: دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام بالتذكير بما كان يفعله آباؤهم من القيام بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصره، قال تعالى[لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).
الثامنة: جعل النفوس تنفر من الكفر، لقبحه الذاتي ولمجئ اللعنة الإلهية على الكافرين، وطردهم من رحمة الله.
التاسعة: الإخبار عن غضب الله عز وجل على الكافرين عموماً.
العاشرة: تداخل لغة الإنذار والحجة على الكافرين، ومجئ اللعنة بعد قيام الحجة ليسيرا معاً.
الحادية عشرة: جاءت الآية بصيغة الجمع في الخطاب[مَا عَرَفُوا] وفيه شاهد على تغشي المعرفة لهم جميعاً بتحقق مصداق البشارات بنبي آخر زمان بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والمقصود العموم وليس الرؤساء منهم وحدهم، مما يدل على عدم وجود أثر للتحريف بصفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين بعثته، إذ جاء بالآيات الموافقة للتوراة التي بين أيديهم، ولأن المعجزات التي جاء بها حجة وبرهان على صدق نبوته.
التفسير
قوله تعالى [وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ ]
في الآية إخبار عن أمر عظيم تشترك فيه السماء والأرض، والملائكة والناس، وهو القرآن, وفيه مسائل:
الأول : أشرق نزول القرآن على الأرض مرة واحدة, غير قابلة للتكرار ولكنه باق ومتجدد في نفعه وأثره إلى يوم القيامة.
الثاني : إنه شاهد على الكتب السماوية، وإخبار عن مضامينها, وكاشف عما طرأ عليه من التحريف والتبديل.
الثالث : نزول القرآن إنذار وإرشاد وتذكير وموعظة وعبرة , ومنه الزجر عن الربا مطلقاً.
الرابع : في القرآن ونزوله بيان للأحكام والسنن , ومنها حرمة الربا, والمنع من قبض المال الربوي .
والكتاب بقوله تعالى [وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ] هو القرآن لأن قوله تعالى [مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ] يدل على التعدد والمغايرة للتوراة والإنجيل وانه جاء بعدهما في النزول.
وتفيد الآية التوكيد والإمضاء للتوراة التي في أيدي بني إسرائيل في الجملة من غير أن تتعرض لموضوع التحريف الذي تثبته آيات أخرى كما في قوله تعالى [ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ..]( ).
ومع قلة كلمات هذا الشطر من الآية فإنه يتضمن مسائل وأحكاماً عديدة، منها نزول كتاب من عند لبني إسرائيل، وهذا التنزيل تشريف, وفضل يجب إن يقابل بالشكر لله تعالى.
ويتجلى الشكر بالقبول والتسليم والمبادرة للعمل بأحكام الكتاب، ومنها انه مصدق لما بين أيدي بني اسرائيل من الكتب السماوية، ولا يعني هذا أن إنحصار موضوع الكتاب النازل بانه مصدق لما معهم بل من صفاته ودلائل صدقه غير المتناهية أنه مصدق لما معهم من التنزيل.
وقوله تعالى [لِمَا مَعَهُمْ] أعم من ان ينحصر بأحكام التوراة ونواسخ الإنجيل، بل يشمل البشارات التي جاء بها الأنبياء برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن .
فيكون معنى الآيات مصدقاً لما معهم من البشارات والآيات بنزول القرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مما يعني لزوم الإيمان به لوجود المقتضي وفقد المانع، لأن نزول القرآن ليس مفاجئاً لهم أو أنه أمر مستحدث بل تواترت في نزوله أخبار النبوة وهذا التواتر من عمومات قوله تعالى خطاباً لبني إسرائيل[اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( ).
جاء في الآيات السابقة الإخبار عن تفضيل الله لبني إسرائيل بقوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، من جهات:
الأولى : الإخبار السماوي عن مجيء القرآن لبني إسرائيل، وفيه غاية الإكرام والحجة البالغة.
الثانية : تأكيد عالمية القرآن وإنه لم ينزل لأمة دون أخرى، ولم يستثن أهل الكتاب أو غيرهم من الدعوة السماوية إلى الإسلام.
الثالثة : من إعجاز القرآن أن إخباره عن المجيء لأمة لا يعني عدم مجيئه لغيرهم , وقد آمن أقوام بالقرآن وتلقوا آيات الأحكام بالقبول والإمتثال، وجاء القرآن دعوة وخطاباً للكفار أيضاً فردوا بالصدود والإعراض , قال تعالى[الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ]( ).
الرابعة : بيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الأوائل في سبيل الله وتثبيت إعجاز القرآن وتعاهد آياته.
الخامسة : من فضل الله عز وجل على بني إسرائيل مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم إلى جانب الكتاب وهو القرآن ، قال تعالى[وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ]( ).
السادسة : من فضل الله على بني إسرائيل أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء مصدقاً للتوراة، وتضمن القرآن الدلالة والبرهان على صدق نزول التوراة والإنجيل، ليكون النبي قرآناً ناطقاً يبين في سنته وجوه التصديق هذا على نحو التفصيل والحجة، لذا كان كبراء بنو إسرائيل يأتون إلى النبي فيسألونه في أمور الدين والدنيا والآيات الكونية فيجيبهم بما يكون حجة ودليلاً على صدق نبوته.
بحث بلاغي
من المترادفات (جاء) و(اتى) للدلالة على الوصول في الزمان الماضي، ولكن كلاً منهما لا يستطيع ان يكون بديلاً عن رديفه في القرآن، وذكر ان (جاء) يرد في الجواهر والأعيان، أما (اتى) ففي المعاني والأزمان قال تعالى[هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ]( )، ويقابل جاء وأتى : (ذهب) و(مضى).
وقد جاءت الآية [ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ ] للدلالة على ان الكتاب هو عين، وله استقلال واعتبار خاص وللتفخيم والتضخيم وبيان إعجازه الذاتي بإثبات الآيات صـدق نزولها من الله لما فيها من أسرار التنزيل وفيه شاهد بأن النبي محـمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول ينقل ما ينزل عليه من الله عز وجل ليس له الإضافة والحذف والتغيير , لذا ورد قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ]( ).
ومن الإعجاز في ذكر مجيء الكتاب لبني إسرائيل على نحو التعيين أنهم أصحاب كتاب، ويستطيعون معرفة ماهية وحقيقة التنزيل، وقد أدرك العرب أسرار البلاغة فيه وأعلنوا تسليمهم بنزوله من عند الله، والبلاغة حجة على اليهود أيضاً خصوصاً الذين كانوا في الجزيرة العربية، ويقطنون في يثرب إلى جانب وجوه الحجة والبرهان الأخرى.
فإن قلت إذا كان المجيء للكتاب على نحو الإستقلال فأين هي موضوعية رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والجواب أن الإخبار عن نزول القرآن من عند الله دليل على موضوعية رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحث على التصديق بنبوته، إن نسبة المجيء للقرآن ذاته وتسميته بالكتاب وإرادة الحصر والعهد في الألف واللام من تعريف (الكتاب) إنذار للذين يجحدون بتنزيله، ويصرون على محاربته, قال تعالى[إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
ومن مصاديق شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الناس تصديقهم بالقرآن لما جاءهم , وشهادته على من يكذب به بعد معرفته.
بحث كلامي
لا تنفي الآية التحريف، بل انها تثبته لإخبارها عن نزول الكتاب إلى بني إسرائيل والناس جميعاً، وفيه صفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبالرجوع الى الآيات التي تتعلق بالتحريف وبالنصوص من السنة واخبار الصحابة يتبين المقصود، وتوثيق التحريف في الكتب السابقة.
وهو الأقرب بلحاظ نظم وسياق الآيات وموضوع كل سورة ووحدة المعنى ولزوم الرجوع إلى ذات الآية أولاً، كما يتضح فيها وبجلاء ما معهم من الإخبار عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته ولزوم إتباعه بلغة سماوية تفيد القطع بصدقها ولا تقبل الترديد والشك والوهم , قال تعالى[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ]( ).
لقد كانت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حقاً وصدقاً وتؤيدها الآيات والحجج ومنها القرآن، ولكن في التوراة بصفته وتطلع اليهود لخروجه واقرارهم بأوان بعثته يدل على تضمن رسالته الرحمة والرأفة باليهود وأمثالهم، وفيها إعانة على دخول الاسلام والمبادرة إلى نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أيضاً باب للعقاب المضاعف إن قصّروا وجحدوا رسالته وعمدوا إلى محاربته.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على مدح القرآن لوصفه بالصدق والتصديق، ووحدة الموضوع في تنقيح المناط في اثبات الكتب السماوية جميعها لرسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها دعوة للتسليم بما جاء به القرآن من أنباء الأمم السالفة والكتب المنزلة وعرض الأخبار والسنن المتوارثة على القرآن، قال تعالى[وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً]( )، والقرآن بيان جامع لكل شيء فما صدّقه القرآن فهو الحق.
قوله تعالى [وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ]
تفيد الآية التعدد والغيرية فأهل الكتاب غير الكفار، وبينهما تباين نسبي في المقام موضوعه الإستفتاح ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويعني تحدي الكفار بقرب الإنتقام منهم بحلول زمان بعثته بالدلالة الإستفتاح وما يترشح عنها من الإخبار والبشارات بإنثناء الوسادة وسيادة الحكم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتدل تلك البشارات بالدلالة التضمنية على قيام الدولة الإسلامية.
وتؤكد الآية أن النسبة بينهما أصبحت بعد البعثة النبوية الشريفة عموماً وخصوصاً من وجه , فمادة الإلتقاء الكفر بنبوة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومادة الإفتراق أن أهل الكتاب يؤمنون بالتوراة والإنجيل، والكفار مشركون لا يؤمنون بهما، وفي التنزيل[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ]( ).
وقيل أن اليهود كانوا قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يستفتحون أي يسألون الفتح والنصرة.
وأن أحبارهم ولما عندهم في التوراة من صفاته كانوا يسألون العرب عمن يحمل تلك النعوت ممن ولد فيهم لأن زمانه أطل وحان.
وتدل الآية على معرفتهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفته الإجمالية , وفيه فضل ولطف من الله على بني إسرائيل خاصة،وتقريب إلى منازل الإيمان ودعوة لهم ليكونوا أسوة للناس بالتصديق برسالته.
وجاءت الآية لبيان إصرارهم على الجحود والإنكار، ولتذكيرهم بأن ورود نعت النبي محمد في التوراة إنما كان رحمة بهم وتيسيراً لدخولهم الإسلام وإنتفاعه منهم بأشخاصهم وبما لهم من أثر على غيرهم بما في ذلك كفار مكة لمعرفتهم بأنهم أهل كتاب، أي أن إسلامهم ينفع حتى الذين كانوا يسألون النصرة عليهم بالبعثة النبوية، ولكن جحودهم وكفرهم لم يضر الإسلام إنما أضر بأنفسهم ولحقتهم اللعنة والخزي, قال تعالى[وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] ( ).
ومع قلة كلمات الآية، فقد تكررت بها كلمات مع وجود دلالات لهذا التكرار والكلمات هي:
وهذه هي المرة الأولى التي جاء في بداية الآية قوله تعالى[وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] وفيه وجوه:
الأول: بيان عظيم فضل الله تعالى على بني إسرائيل بنزول القرآن، وبلوغه ووصوله إلى بني إسرائيل وهم في بيوتهم ومنتدياتهم ومجالسهم.
الثاني: توكيد وظيفة حاسة السمع، وتسخيرها لطاعة الله، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بتقريب أن الله عز وجل خلق أعضاء وحواس الإنسان لتكون واسطة لعبادته، وتشيرك فيهاً.
الثالث: الإخبار عن كون القرآن نازلاً من الله، وأنه كلامه يتلقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويقوم بتبليغه، قال تعالى في خطاب للنبي [إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ]( ).
الرابع: تحدي أهل الكتاب بمضامين القرآن، وتوكيد ما فيه من الإعجاز دعوة لهم للزوم التدبر في آياته.
الخامس: نزول لعنة الله بالذين جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يؤمنوا بنزول القرآن من عند الله، ومن إعجاز الآية أنها بدأت ببيان رحمة الله وفضله بنزول آياته، وأختتمت بلعنة الله على الكافرين.
وكـأن الآية مرآة لبيان نعم الله عز وجل على بني إسرائيل وقوله تعالى[أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، ومجيء القرآن لبني إسرائيل أيضاً من مصاديق تفضيلهم والجحود به سبب لإبعادهم عن رحمة الله.
الثانية : ورود لفظ (جاءهم) مرتين :
المرة الأولى : إخبار الآية عن مجيء الكتاب توكيد لموضوعية التنزيل، ولزوم التصديق بالقرآن، وبيان تعدد قصد بني إسرائيل مع نزول كل آية وسورة، لما فيها من تعدد الموضوع والحكم .
وهل تلاوة الآية على بني إسرائيل وسماعهم لها من المجيء المتعدد الجواب نعم , من وجوه :
الأول : ما في الآية من الذكرى والموعظة.
الثاني : في الآية دعوة للإيمان .
الثالث : إخبار الآية بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاءهم بصفة الرسالة والدعوة إلى الله، قال تعالى[وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ]( ).
إن تكرار قوله تعالى (لمّا جاءهم) توكيد للحجة على بني إسرائيل، ودعوة للمسلمين لجدالهم والإحتجاج عليهم، وبما أن القرآن كتاب الإنذار والبشارة، والوعد والوعيد، فإن تكرار المجيء يعني تعدد وكثرة مصاديق الإنذار والبشارة وتجدد كفرهم بالقرآن ومضامينه القدسية مما يؤدي إلى نزول اللعنة بهم .
وتضمن لفظ (جاءكم) في المرة الأولى بيان ماهية الذي جاء من وجوه:
الأول : إنه كتاب سماوي.
الثاني : إنه نازل من عند الله عز وجل.
الثالث : تأكيد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : نزل الكتاب السماوي على نبي.
الصغرى : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزل عليه الكتاب.
النتيجة : محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي.
الرابع : التطابق والتوافق بين صفات النبي في الكتاب الذي يتوارثه بنو إسرائيل وبين نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن.
أما في المرة الثانية فقد ورد بصيغة الإجمال (فلما جاءهم ما عرفوا) وفيه دلالة بأن موضوع الإحتجاج فيما يأتيهم إنما هو من عند الله.
الثالثة: تكرار لفظ (كفروا) وبين اللفظين في هذه الآية عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: مجيء لفظ (كفروا)بصيغة الفعل الماضي، مما يدل على الوقوع والإمضاء والثبوت.
الثاني: مجيء اللفظ بصيغة الجمع لإرادة العموم الإستغراقي وقيام الحجة عليهم.
الثالث: قبح الكفر والصدود عن الحجة والبرهان القاطع من الله بلزوم عبادته، والتصديق بالنبوة والتنزيل.
أما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول: التباين في المراد من الذين كفروا، فالمراد من اللفظ الأول هم المشركون من أهل يثرب قبل وصول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليها، ودخولهم في الإسلام، لقوله تعالى[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا].
أما المراد من اللفظ الثاني فهم فريق من بني إسرائيل الذين كانوا يستنصرون على المشركين بإطلالة زمان بعثته.
الثاني: تقدم كفر المشركين من أهل يثرب زماناً على كفر الذين أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: ورود الإطلاق في معنى الكفر في اللفظ الأول بقوله تعالى(الذين كفروا) بينما جاء اللفظ الثاني بتقييد الكفر بأنه بما عرفوا وهو أخص ويتعلق بالبشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن
ويمكن حمل التصديق هنا على المعنى الأعم فانها من تحقق الوعد وان الله عز وجل أنجز لهم ما يشفي صدورهم وما كانوا يأملون خصوصاً وان الاستفتاح والتطاول على الكفار واهل الجاهلية لم يكن اتفاقياً او ظنياً بل بما عندهم من التوراة وسنن الانبياء والمرسلين، فبالاضافة الى ان التصديق في الآية يتعلق بالنبوة فانه يشمل موضوع استفتاحهم على الكفار تصديقاً وتحقيقاً.
لقد جعل الله عز وجل آمالهم معلقة ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن وهي وسيلة سماوية للإنتظار المبارك والإستعداد للقبول والإستجابة ولكن غشاوة التظليل أصبحت حاجباً دون إيمان كثير منهم، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن البعثة النبوية سلّمت اليهود من بطش الكفار لإنتفاء موضوع الكفر بين أهل المدينة، ولموازين وأحكام الذمة في تعامل المسلمين مع اليهود في المدينة وحولها، أي أن الإستفتاح كان متعددا من وجوه:
الأول : بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وتحقق بشارات التوراة والإنجيل الخاصة به.
الثاني : التطلع إلى بعثة نبي آخر الزمان.
الثالث : الإستفتاح بشآبيب الرحمة التي تتغشى الناس ببركة ببعثته، وتحقق مصداقه بهجرة المسلمين إلى المدينة ثم توالي الغنائم وأسباب الثروة على المدينة من كل الأمصار.
وهل تبديل امرأة المدينة من هذه البركات ومصاديق الإستفتاح الجواب نعم، إذ(كان اسمها يَثْرِبَ والثَّرْبُ الفساد)( )، فنهى رسول الله أن تسمى بيثرب وسماها طَيْبة وطابة بمعنى الطاهرة لتنزهها من الشرك، ولطيب الإيمان في جنباتها، وتبدل الطباع ، وسيادة الأخلاق الحسنة والعادات الفاضلة فيها.
الرابع : نجاة اليهود ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكفار العرب في المدينة.
الخامس : نزول القرآن من عند الله كتاباً جامعاً للأحكام الشرعية.
السادس : مجيء التصديق السماوي لنبوة موسى وعيسى من السماء.
السابع : قيام دولة التوحيد والإسلام وبقاؤها إلى يوم الدين.
الثامن : إصابة الكفار والمشركين بالوهن والضعف، قال تعالى[َاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ).
التاسع : رجاء العز والرفعة التي تحل في المدينة , وإمتناع أرض الحجاز على الملوك ودولة الروم وفارس , قال تعالى.
العاشر : صيرورة المدينة دار أمن للمؤمنين مطلقا ولليهود أيضا ولو بأحكام الذمة.
الحادي عشر : توالي نصر رايات الإسلام في أحوال القوة والضعف, قال تعالى[وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا]( ).
فلما أرسل الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنتفى أذى العرب عن اليهود، وهذه حجة عليهم بصدق نبوته لتحقق موضوع الإستفتاح وما أخبروا به عن سلامتهم، بل إن الديانة اليهودية حفظها الإسلام، مما يدل على أن الإستفتاح أثر من أخبار الكتب السابقة وتحققه واقعاً، وإنقطاع أذى الكفار عن اليهود عند بعثته ترغيب لهم بدخول الإسلام .
بحث اعجازي بلاغي
من إعجاز القرآن إدماج عدة غايات في كلام واحد أو بديع في بديع وإن لم يظهر إلا واحد منهم، ونستطيع أن نطلق على مدرسة القرآن هذه امرأة “العلم المفتوح” فقد جعلها الله خزينة تستخرج منها الكنوز والذخائر في مختلف أبواب العلوم والمعارف.
وتجد في آيات القرآن الحكم والإستبصار والهداية والمدد سواء بما فيها من النص أو ما لها من الظاهر أو ما تحمل عليه من التفسير والتأويل، وما تجلبه من المنافع، وهو من مصاديق البركة في قوله تعالى[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ]( ).
ففي هذه الآية توكيد سماوي لنزول القرآن من عند الله تعالى، وإثبات للتطابق بين القرآن وبين التوراة والإنجيل سواء في الأحكام إجمالاً او في البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إتباعه، وبما أنه الكتاب الحاضر المقطوع بنزوله وعدم تحريفه فان ما يدعونه مما لا يتطابق مع القرآن ليس من الكتب المنزلة وهو نوع تحريف.
وكما تكون الآية حجة عليهم فانها توثق انتظارهم وتطلعهم لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعلها فيصلاً وفاصلاً مستقبلياً بينهم وبين الذين كفروا، وقد حدث فعلاً ما اخبروا عنه , ولكنهم أخرجوا أنفسهم من الإنتفاع منه بالتخصيص بالميل الى الجحود وإظهار الكفر والإنكار.
وفي الآية تنبيه للمسلمين بعدم الأخذ بقولهم والإعراض عن صدودهم وأن لا يؤثر إنكارهم سلباً على إسلامهم.
وتبين الآية ما عاناه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب وما كان يسبب جحودهم، ولا غرابة ان يرد عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله الذي يعتبر شاهداً ومدرسة ووثيقة: “ما أوذي نبي قط مثل ما أوذيت”( ).
فكان باب جهاد ومدح وتثبيت للمسلمين وسبب لعنة وغضب وطرد عن رحمة الله لمن كفر بنبوته كما في قوله تعالى [ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ] أي أنهم إستحقوا اللعنة بسبب جحودهم وكفرهم بنبوته مع أنهم كانوا يتفحصون عن النبي حسب صفاته المذكورة في التوراة.
ويقولون: اللهم افتح علينا وأنصرنا بحق النبي الأمي) ( ).
ومن القواعد الكلية في الفلسفة الإلهية ان اللعنة والطرد من رحمته تعالى تشمل الذين كفروا كصفة للعقوبة ومقدمة للعذاب، وهي وعيد بالعقاب الشديد.
إن موضوع الإستفتاح حجة عليهم، تزداد معالمها إتضاحاً وقوة مع تقادم الأيام وتوالي الآيات والكرامات لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم النبيين، أي لا يمكن ان يتنجز ما يستفتحون به إلا بقضية شخصية هي بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
فكلما تعاقبت السنين وأثبتت صدق نبوته وعدم وجود غيره أبداً يزداد البيان والدعوة في لسان هذه الآية الكريمة ولو تركوا الاستفتاح بعدها فانه أظهر للحجية، وتكون وظيفة هذه الآية مركبة ففيها توثيق لجهرهم بالإستفتاح بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
وتدل الآية على فعلية الخطاب الموجه لهم بالإيمان برسالته وتنجز مصاديق هذا الإيمان، وقدرتهم على الصبر في ذات الله وأنهم بالمعرفة قادرون على الإستجابة والإمتثال إذ أن توجيه الخطاب إلى العاجز غير معقول وإن كان عالماً أي ليس من سبب قهري يحول دون إيمانهم مما يدل على أنهم يتطلعون إلى البعثة النبوية وينتظرونها كما أنه لم يكن تكليفاً بغير المقدور لأنه قبيح، وصدور القبيح من الحكيم محال.
قوله تعالى [فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ]
لقد كان إستفتاح بني إسرائيل على الكفار مناسبة لتجديد وتثبيت المعرفة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول : صدق بعثته وانه رسول من عند .
الثاني : إنتظار أيامه المباركة.
الثالث : إنه رسول يحكم في الأرض ويكون له سلطان يمنع من تعدي الكافرين على المؤمنين وأهل الكتاب، وفعلاً مع جحود بني إسرائيل بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم فان الكفار كفوا أيديهم عن اليهود، وصار أهل المدينة الذين كانوا كفاراً ويحاربون اليهود وهم أهل كتاب مسلمين يخضعون لأحكام القرآن، وما فيه من منع التعدي على اليهود للمواثيق بينهم وبين المسلمين، ولأنهم أهل ذمة أي في ذمة الإسلام .
وقد مدح الله المسلمين وشهد لهم بالوفاء بالعهد، قال تعالى[وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ]( )، فمن وجوه المعرفة ان ما كانوا يستفتحون به قد حصل , وتجلى بأمرين:
الأول: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون سلامة لليهود من تعدي وظلم المشركين من عمومات ورشحات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثاني: وقف تعدي الكفار، وإيذائهم للمسلمين.
الثالث : إنه النبي الذي ورد وصفه بالتوراة.
الرابع : عرفوا أن الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي من عند وأنه صادق في نبوته.
الخامس : لقد أيقنوا بان القرآن معجزة التنزيل.
السادس : علموا من آيات القرآن وقوع التحريف الذي طرأ على الكتب السابقة.
السابع : من فضل الله تعالى ان جعل في الوجود الذهني النوعي مقدمات لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تكون عوناً للناس على تصديقه.
وتنفي هذه الآية انتفاعهم من قلة الإيمان لما تظهره من طغيان النفس الشهوية واعلانهم الكفر والجحود برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع انهم يعرفونها.
وجاء كفرهم على نحو الإطلاق لكل ما عرفوا وعلموا من قبل وكان على نحو السالبة الكلية.
وفي الآية ذم لهم لأن كفرهم جاء متعقباً للمعرفة، ومجيء الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات والبراهين الدالة على صدقه، فلقد أسلم الكثير من الناس ولم تكن عندهم أخبار وبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم رأوا الآيات وايقنوا بنزول القرآن من عند الله تعالى، مما يعني إسلام الذي يتطلعون الى نبوته ويعرفونها من باب الأولوية القطعية، ولكنهم أصروا على الإنكار , قال تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ]( ).
ويتجلى في الآية إتحاد بعض الضمائر، وإختلاف بعضها الآخر، في العائدية , فالضمير الهاء في(جاءهم)متحد وإرادة فريق من بني إسرائيل الذين كانوا في المدينة المنورة، وعاصروا بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعم في موضوعه بلحاظ إتحاد وتشابه الفعل في أجيالهم.
ليكون من إعجاز الآية التذكير والموعظة والإنذار , ويتباين المعنى في الضمير الواو في (كفروا) ويعود الأول في(الذين كفروا) للمشركين، ورد التقييد في الثاني بالجار والمجرور بقوله تعالى(كفروا به) أي كفروا بما عرفوا وكانوا يستنصرون به على الكفار المشركين، ويحتمل الامرأة الموصول في(ما عرفوا) وجوهاً:
الأول: إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكره بصيغة المعرفة، وفيه آية إعجازية فلم تذكر الآية كيفية وطريق المعرفة , ولكنها تدل عليه بقوله تعالى(يستفتحون) فلابد أن الذين يستنصرون ويستفتحون به يعرفونه بصفاته وبشاراته، مما يدل على أن صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الشخصية موجودة عندهم إلى حين بعثته وأنه معروف عندهم بها وبزمان بعثته ومعجزاته، ولم يكن من فارق بينها وبين بعثة النبي سواء زمانها حصولها واقعاً فليس من أسباب جديدة لمعرفته عند بعثته، بل كان معروفاً عندهم بصفات النبوة والرسالة وهي التي خرج بها.
الثاني: من مصاديق قوله تعالى[فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا] آيات القرآن وما فيها من الإعجاز وقد ورد قوله تعالى(عرفوا) مرتين في القرآن، جاءت الثانية بخصوص بعض علماء النصارى، وخشوعهم عند سماع آيات القرآن وإدراكهم بأنه تنزيل من عند الله، قال تعالى[وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ]( ).
الثالث: حصول النصر للمسلمين على الكفار، كما في معركة بدر بآية ظاهر ومدد ملكوتي، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، إذ عرف أهل الكتاب أن نصر المسلمين في المعارك اللاحقة لبدر من باب الأولوية القطعية لإزديادهم عدداً وقوة، ولوجود ذات العلة للنصر وهي المدد الملكوتي.
الرابع: هزيمة المشركين، وكف أيديهم عن اليهود وأموالهم , وجاء الكفر والجحود منهم بعد قيام الحجة عليهم، وتحقق المصداق العملي للبشارات الواردة في التوراة والإنجيل.
قوله تعالى [فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ]
الآية قاعدة كلية تتضمن معنى الإنشاء والخبر من غير تعارض بينهما، فصحيح ان الجملة تقسم الى الجملة الإنشائية والخبرية، ولكن هذا التقسيم استقرائي ، وهذه الآية تؤكد بان علوم القرآن أعم من قواعد النحويين وعلماء البيان و انها تتضمن المعنيين معاً من غير تعارض بينهما، فبلحاظ موضوع الآية يكون المعنى إنشائياً وإرادة من كفر بالآيات بعد معرفتها وبلحاظ العموم فان الجملة خبرية وتدل على قاعدة كلية في الإرادة التكوينية وهي أن غضب الله تعالى يقع على الكافرين والجاحدين.
وفيها تخويف ووعيد لمن يجحد برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ودلالة على ان آيات القرآن على وجوه:
الأول: إنها واقية للنبوة.
الثاني: كل آية عون ومدد في دعوة الناس للإسلام.
الثالث: فيها فضح للكافرين والجاحدين.
الرابع: بيان حسن عاقبة المسلمين، وسوء عاقبة الكافرين، وهذا البيان موعظة وسبب للهدى.
قوله تعالى[ بِئْسَمَا اشترَوْا بِهِ أَنفُسهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ] الآية 90.
الإعراب واللغة
قرأ أهل مكة والبصرة(ينزل) بالتخفيف إلا في موضعين[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ]( )، حَتَّى تُنَزِّلَ( )، وإتفقوا في الحج (ما ننزله) أنه مشدد).
بئسما: بئس فعل ماض، ما: نكرة تامة في محل نصب على التمييز، والجملة خبر مقدم وقيل إنها امرأة موصول في محل فاعل.
إشتروا: فعل وفاعل والجملة صفة لما.
به: جار ومجرور متعلقان بإشتروا.
أنفسهم: مفعول به مضاف، والضمير مضاف إليه.
أن يكفروا: أن وما في حيزها في تأويل مصدر مبتدأ والتقدير كفار، وجملة بئس هي الخبر المقدم.
أن يكفروا: أن والفعل بعدها في تأويل مصدر مبتدأ لتعلق الذم به، أي كفرهم بائس شراؤه.
بما: الباء حرف جر، وما امرأة موصول في محل جر، والجار والمجرور متعلقان بكفروا.
أنزل الله: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول.
بغياً: مفعول لأجله.
أن ينزل الله: ان وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي بغوا لإنزال الله، من فضله: جار ومجرور متعلقان بينزل.
على من: جار ومجرور، يشاء: فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر يعود الى الباري عز وجل.
فباءوا: الفاء: حرف عطف، باءوا: فعل وفاعل.
بغضب: جار ومجرور متعلقان بباؤوا.
على غضب: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لغضب.
وللكافرين: الواو إستئنافية، للكافرين: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، عذاب: مبتدأ مؤخر، مهين: صفة لعذاب.
بئس كلمة ذم كما أن كلمة نعم كلمة مدح، ما: امرأة بئس بمعنى الشيء.
(شَرى الشيءَ يَشْريه شِرىً وشِراءً واشْتَراه سَواءٌ وشَراهُ واشْتَراهُ باعَه)( )، وهو من الأضداد، وامرأة الشراء ينطبق على فعل البائع والمشتري لأن كلاً منهما قد إشترى الثمن أو المثمن، فكل من العوضين يصح ان يكون مشترى من جهة ومباعاً من جهة اخرى.
(أصل البغي في اللّغة قصد الفساد يقال : بغى الجرح يبغي بغياً إذا ترامى إلى الفساد ومنه قيل : للزّنا بغاء) ( )، وسمي الظالم باغياً لانه متعد ومتجاوز للحد قال تعالى[وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( )، وباء بالشيء والوزر أي أقرّ به واحتمله طوعاً وقهراً(يقال: باءَ بذَنْبِه بَوْءاً وبَوَاءً) ( ).
في سياق الآيات
بعد الإخبار عن مقابلة التنزيل بالجحود وحصول البشارة التي ينتظرون بالكفر والإعراض عنها جاءت هذه الآية لبيان السبب والعلة الذاتية لإختيار الكفر، وتعلق التوبيخ والذم في هذه الآية بمقاصد السوء وقبح الطلب الذي سعوا اليه وضحوا من أجله بالغايات السامية، وتبين ما إستحقوه من الغضب الإلهي وتتضمن صيغ الإنذار والوعيد.
بعد الإخبار عن جحودهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم،وحلول اللعنة الإلهية على الكفار، جاءت هذه الآية لتخبر بلغة الحجة واللوم والتوبيخ عن القبح الذاتي للكفر.
وإذ أختتمت الآية السابقة باللعنة على الكافرين إبتدأت هذه الآية بذمهم بقوله تعالى [بِئْسَمَا] وذكرت الآية أن الكفر خسارة للنفس.
وتحتمل هذه الخسارة وجوهاً:
الأول : الخسارة في الحياة الدنيا.
الثاني : الخسارة في الآخرة.
الثالث : العنوان الجامع للخسارة في الدنيا والآخرة، وفيمن يعبد الله على حرف ، أي يعبده في حال السراء دون الضراء ورد قوله تعالى[خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ]( ).
والصحيح هو الأخير.
ترى ما هي النسبة بين الآية قبل السابقة وهذه الآية.
الجواب إن قولهم [قُلُوبُنَا غُلْفٌ] فرع إختيارهم الكفر وشرائهم لأنفسهم بالجحود، لذا جاءت الآية في ذات السياق والإخبار عن إصرارهم على الكفر وخسارتهم للنشأتين إلا من تاب وآمن منهم، لقبح تبعيض الإيمان.
وجاءت الآية بعد التالية لتخبر عن قدم الكفر عندهم بإتخاذهم العجل في أيام موسى عليه السلام.
وإذ جاءت الآية السابقة بخصوص الكفر والجحود بالقرآن فان هذه الآية ذكرت كفرهم وجحودهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، فلذا أخبرت عن الغضب الإلهي المتعدد النازل عليهم بقوله تعالى [فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ].
وأختتمت الآية السابقة باللعنة على الكافرين، أما هذه الآية فأختتمت بالإخبار عن العذاب المهين للكفار، وتحتمل النسبة بين اللعنة والعذاب وجوهاً:
الأول: التساوي، فاللعنة ذاتها هي العذاب المهين.
الثاني: التباين، فاللعنة غير العذاب، وإرادة العقاب الأخروي من العذاب، بينما اللعنة في الدنيا.
الثالث: العموم والخصوص من وجه، بأن تكون هناك مادة للإلتقاء, ومادة للإفتراق بين اللعنة والعذاب المهين.
الرابع : العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين:
الأولى : اللعنة فرع العذاب وجزء منه.
الثانية : العذاب المهين جزء من اللعنة الدائمة النازلة على الكفار، لذا لا ينال العذاب إلا الكفار.
والصحيح هو الثالث والرابع بشعبتيه، لوجود مادة الإلتقاء بين اللعنة والعذاب الأليم، وكل منها من مصاديق الغضب الإلهي، ومادة للإفتراق لأن اللعنة تسبق العذاب، وهذا لا يمنع من التداخل بينهما وتفرع أحدهما عن الآخر، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا]( ).
وتتعلق هذه الآية والتي قبلها والتي بعدها بالذين تلقوا القرآن بالصدود والجحود، وجاءت ضمن ذكر نعم الله عز وجل على بني إسرائيل، إذ تذكر الآية مجيء الكتاب وهو القرآن لهم، وأنه مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل.
وجاءت هذه الآية لتخبر عن كفرهم بالقرآن مع أنه كتاب أنزله الله عز وجل، لأنه نزل على نبي من غيرهم، وجاءت الآية التالية لبيان توجه الدعوة لهم بالتصديق بالقرآن، والإخبار بوجود من يحثهم عليه، ويدعوهم إلى الإيمان به بإعتباره كتاباً نازلاً من عند الله، ولكنهم أجابوا بحصر إيمانهم بما أنزله الله عز وجل عليهم أي التوراة، ويكفرون بما بعده من التنزيل .
ومن مصاديق الإعجاز في القرآن أن آياته تحصر الذين تنزل بهم اللعنة العذاب من الله بلحاظ أعمالهم، ليس أشخاصه , قال تعالى[أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ]( ).
وفي الصلة بين هذه الآية والآية التالية مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا أنؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه بئسما إشتروا به أنفسهم.
الثاني : قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وللكافرين عذاب مهين.
الثالث : أن يكفروا بما أنزل الله وهو الحق مصدقاً لما معهم.
الرابع : أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فلم تقتلون أنبياء الله.
الخامس : فباءوا بغضب على غضب وهو الحق.
السادس : وللكافرين عذاب مهين قل فلم تقتلون أنبياء الله.
السابع : وللكافرين عذاب مهين إن كنتم مؤمنين.
الثانية : أخبرت الآية التالية عن تبعيض فريق من أهل الكتاب الإيمان، وإعلانهم حصر إيمانهم بخصوص ما أنزل الله عليهم وترك ما نزل من بعده، ويدل بالدلالة التضمنية على عدم إيمانهم بنبوة محمد لأنها خاتمة النبوات.
الثالثة : يفيد الجمع بين الآيتين وجوب التصديق بالتنزيل والكتب السماوية على نحو العموم المجموعي.
الرابعة : الجحود بنزول القرآن ظلم للنفس وإضرار بها لقوله تعالى[ِبئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ].
الخامسة : التنزيل حق في ذاته وأثره ومنافعه في النشأتين، والجحود به تفويت للمنفعة عن النفس وسبب لنزول الغضب الإلهي بالجاحد والكافر به، ليفيد الجمع بين الآيتين عظيم منزلة القرآن ولزوم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقانون في الإرادة التكوينية , وهو أن القرآن لا ينزل إلا على نبي.
السادسة : جاء الذم في آية البحث على الكفر بنزول القرآن[بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ]، فكيف يكون العذاب على قتل الأنبياء.
السابعة : قد يقول قائل إن الذين يقتلون الأنبياء يكفرون بالتنزيل من باب الأولوية القطعية فلماذا جاء نزول القرآن بعد قتل الأنبياء , والجواب من وجوه:
الأول : نزول القرآن رحمة من عند الله.
الثاني : من اللطف الإلهي أن الذنب العظيم للفرد والجماعة لا يحجب عنهم البشارات والإنذارات والدعوة إلى الإسلام.
الثالث : من خصائص خلافة الإنسان في الأرض توالي الحجج عليه بلزوم عبادة الله، والتصديق بالأنبياء.
الرابع : الدنيا هي دار التوبة والإنابة , ومن الآيات فيها أن الله عز وجل يهيئ أسباب الإستغفار ويقرب الناس له.
إعجاز الآية
تعتبر الآية مدرسة عقائدية وتأريخية وبلاغية، وتبين سوء سريرة وسيرة الذين جحدوا بالقرآن وتظهر غلبة آفة الحسد والظلم على اختيارهم، وكيف انهم خسروا كل شيء بسبب الظلم والتعدي، وكما جاء موضوع الآية بالذم الشديد لهم فانه يتضمن إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن النبوة فضل عظيم من عند الله تعالى.
وتبين الآية غلبة الهوى والنفس الشهوية عند الكفار.
وفيها إحتجاج لايرقى إليه العقل الإنساني، إذ أنها تنعت إختيار الكفر بأنه تضييع وبيع للنفس بثمن بخس، وإنعدام السيطرة الشخصية عليها، لصيرورتها تتردى في مسالك الضلالة والغواية إلى حيث الإقامة الدائمة في الجحيم.
وجاء لفظ(مهين) صفة متعلقة بالعذاب، ويحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة ذات العذاب وأنه بذاته مهين بكيفيته.
الثاني : تعلق الوصف بالحال وإرادة المحل، فالعذاب مهين لم يقع عليه، لأنه يقع ممن يعقل.
الثالث : المعنى الأعم الجامع للطرفين معاً لذات العذاب والذي يُعذب.
الرابع : ما يترشح عن هذا العذاب من الجدال واللوم والذم بين أهل النار وحصول التبرأ المتبادل بينهم، قال تعالى[إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا….]( )، ومنه الخزي الذي يلحق الكفار بين الخلائق يوم القيامة.
الخامس : من مصاديق العذاب الأخروي الذل والخزي للكفار في الحياة الدنيا.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وتعددها من مصاديق وإطلاق صفة(مهين) لعذاب أهل النار.
وهل آية البحث من أفراد الوجه الخامس أعلاه الجواب نعم، فإنها تتضمن التوبيخ والذم والخزي للكفار الذين يجحدون بالتوحيد، ويصرون على الشرك بالله ومفاهيم الضلالة.
ومن إعجاز الآية أن لغة الذم فيها دعوة للهداية والصلاح من وجوه:
الأول : هداية الكفار وجذبهم للإسلام ببيان قبح الإقامة على الكفر، والأضرار المترشحة عنه.
الثاني : دعوة أهل الكتاب إلى إجتناب نصرة الكفار في محاربتهم للإسلام، كما في زحف جيوش الكفر من قريش على المسلمين في المدينة.
الثالث : دعوة الأتباع والمستضعفين من المشركين للتخلي عن رؤسائهم، قبل الإضرار إلى تبرء كل طرف منهم من الآخر عند رؤية العذاب المهين الذي تذكره الآية أعلاه.
الرابع : تبعث الآية السكينة في نفوس المسلمين لحسن إختيارهم، والأمن على سلامة عاقبتهم.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية (بئسما إشتروا به) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية ، وقد ورد لفظ (بئسما) في القرآن ثلاث مرات إحداها بعد ثلاث آيات، وآية البحث هي الوحيدة في القرآن التي تبدأ بلفظ(بئسما) ( ).
الآية سلاح
في الآية شفاء لصدور المؤمنين وموعظة لهم ببيان الخسارة ما يدفع ثمناً للكفر وانه مع قبحه وما فيه من الاذى فانه يشترى بخسارة الدارين، وتدعو الآية الناس الى الايمان وتجعل المسلمين يشكرون فضل الله تعالى بالنبوة وما في الآية من شدة الوعيد تخفيف مركب عن المؤمنين.
وفي الآية تبكيت سماوي للكافرين ينفذ إلى منتدياتهم ونفوسهم، ويجعلهم يتدبرون في أحوالهم ويدركون سوء ما أقدموا عليه، وهي حجة دائمة تطل عليهم كلما تلاها مسلم أو مسلمة مع ملازمة معانيها لهم في خلواتهم.
وتلك آية من إعجاز القرآن بأن تبقى مضامينه القدسية في النفس الإنسانية لتكون مدرسة مصاحبة وصديقاً دائماً ينصح بالهداية والإيمان ونبذ الكفر والفجور والعصيان، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، وفيه دعوة لتلاوة القرآن، والعمل بأحكامه والسنن التي يتضمنها وتجلي أثر ونفع تلاوة الآية القرآنية أثناء وبعد إنقضاء التلاوة بإستحضارها عند الهم بالفعل، بإتيان الفعل الحسن وإجتناب القبيح.
مفهوم الآية
جاء اللوم في الآية إلى شطر من أهل الكتاب كانوا يجادلون الكفار ويستفتحون عليهم ويتطلعون الى بعثة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنجاة من تعدي وظلم الكفار، ولكنهم اختاروا الضلالة والكفر عندما علموا انه لم يبعث من بينهم ومن قومهم.
لقد إعتاد بنو إسرائيل على توالي النعم ونزولها من عند الله مع تعدد الأنبياء، وإستصحبوا هذه الخصوصية إستصحاباً خاطئاً بالظن أن خاتم الأنبياء لابد وأن يكون منهم.
ولعله من التحريف الذي أقدم عليه بعضهم وأن تغيير صفاته صلى الله عليه وآله وسلم عندهم لم ينحصر بالأوصاف الشخصية بل تعلق بإدعائهم أنه سيكون من بني إسرائيل , بلحاظ كبرى كلية وهي أن بعثته صلى الله عليه وآله وسلم إمتداد لبعثة موسى وعيسى عليهما السلام، وفاتهم ان هذا الإمتداد لا يعني بالضرورة أن يكون نبي آخر الزمان منهم، بل إن الحاجة الإنسانية العامة تقتضي أن يكون من غيرهم وأن يجذبهم طوعاً إلى الإسلام, ويمنعهم من تحريف آخر الكتب السماوية أو تبديل الأحكام, وفي التنزيل[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
وتنهى الآية عن الرد على الأنبياء، وتدعو إلى التسليم بالآيات وإكرام من أكرمه الله عز وجل، والإنقياد للوحي والتنزيل، وإتباع ولاة الأمر الذين يحكمون بما أنزل الله وإجتناب العذاب الشديد الذي ينتظر الكافرين والجاحدين بالنبوات وما تتضمنه من البشارات والأحكام والسنن، قال تعالى[وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
وفي الآية مسائل:
الأولى: بيان مسألة وهي بيع الكافر نفسه وإلقاؤها في التهلكة والضرر بإختياره الكفر والجحود.
الثانية: دعوة الناس للنجاة من العذاب الأخروي , وبيان قبح الكفر وما يجلبه على صاحبه من الأذى , وليس من أذى في الدنيا أشد من مصاحبة اللعنة الإلهية للإنسان، وما يترشح عنها من الخسران المبين في الدنيا والآخرة.
الثالثة: هذه الآية من مصاديق دعوة الناس للتوبة والإنابة والإبتعاد عن أسباب اللعن والطرد من رحمة الله عز وجل.
فجاء ذم الكفار وإخبارهم عما لحقهم من اللعن والطرد من رحمة الله لدعوتهم للصلاح والإصلاح، وجعل نفوسهم تنفر من الإقامة على الجحود، قال تعالى[إِنْ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ]( ).
الرابعة: الثناء والمدح على المسلمين لأنهم إشتروا مرضاة الله تعالى، وفيه دعوة الى الناس جميعاً للإقتداء بهم وإختيار الإيمان، والصبر على الأذى في جنب الله، قال تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
الخامسة: جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية لتكون موعظة وعبرة للناس جميعاً، ومناسبة للتدبر في آيات الله.
السادسة: دعوة الناس للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من عند الله عز وجل.
السابعة: بيان قانون ثابت وهو ان الكفر بغي وظلم وتعدِ , وفي البغي المذكور في الآية وجوه:
الأول: بغي وظلم الكفار على أنفسهم على نحو الخصوص والتعيين.
الثاني: بغي الذي يختار الكفر على نفسه وعياله لأنه يدعوهم الى الكفر والإقامة عليه.
الثالث: ظلم الكافر لذريته بأن يرثون عنه الكفر والضلالة , إلأ أن يهديهم الله.
الرابع: ظلم وبغي الكافر على نفسه وعياله وذريته والناس جميعاً.
والصحيح هو الأخير فان الكفر قبيح ذاتاً وعرضاً، وفيه ظلم للنفس والغير الموجود والمعدوم، وهو من أسباب نزول اللعنة بالكفار، وطردهم عن رحمة الله.
الثامنة: ذم الجاحدين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين كانوا ينتظرون نبوته ويتوعدون الذين كفروا بها، فلما بعث زمان من غيرهم كفروا به، مع أن إختياره للنبوة فضل من الله عز وجل ورحمة به وبالناس جميعاً، قال تعالى[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
التاسعة: بيان قانون ثابت وهو ليس للناس ان يردوا أمر الله عز وجل، بل عليهم التسليم بما أمر به وما تفضل به سبحانه , قال تعالى .
العاشرة: نزول القرآن فضل من عند الله خص به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته المسلمين والناس جميعاً.
الحادية عشرة: ذكر فضل الله بنزول القرآن دعوة للناس لعدم التفريط بنعمة التنزيل .
ويتجلى عدم التفريط بالتصديق بالآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية عشرة: نزول العذاب الإلهي بالكفار على نحو متعدد ومركب من وجهين:
الأول: الغضب الإلهي الذي يأتي بسبب الكفر بآيات التنزيل، وما في القرآن من الدلائل التي تدل على نزوله من عند الله.
الثاني: مجيء الغضب الإلهي على أرباب الجحود والكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن القرآن نزل عليه، ولم ينزل على غيره ممن يهوى ويريد الناس , وفي التنزيل [لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] ( ).
الثالثة عشرة: الدنيا دار إمتحان وبلاء، ومن مصاديق الإمتحان والإختبار فيها لزوم التصديق بالأنبياء والمرسلين , وعدم الجحود بنبوتهم، أو الصدود عن أشخاصهم.
الرابعة عشرة: إختيار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنبوة خير محض، وآية من آيات الله يجب على الناس تلقيها بالشكر، ومن وجوه الشكر التصديق بنبوته.
الخامسة عشرة: لم يقف جزاء وعقوبة الكفار عند اللعنة ونزول الغضب الإلهي المتعدد، بل يشمل خلودهم بالعذاب الأليم، وأيها أشد.
الجواب هو الأخير لذا أختتمت الآية الكريمة به لبيان شدة عقوبة الكفار.
السادسة عشرة: لم تقل الآية “فباءوا بغضب على غضب ولهم عذاب أليم” بل قالت (وللكافرين عذاب أليم)، وفيه وجوه محتملة:
الأول: إرادة الذين كفروا وجحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن بين موضوع أول الآية وموضوع آخرها واحد.
الثاني: إرادة الكفار الوثنيين، وأما خاتمة الآية فتتعلق بموضوع آخر غير موضوع أولها.
الثالث : بين موضوع أول الآية والإطلاق في آخرها، خصوص وعموم مطلق.
والصحيح هو الثالث من وجوه:
الأول : خاتمة الآية أعم في موضوعها من أولها، إذ جاء أول الآية بذم الذين كفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , أما خاتمتها فتتعلق بالكفار جميعاً.
الثاني : العذاب المهين أعم من الغضب الإلهي.
الثالث : يحل الغضب الإلهي بالكفار في الدنيا، أما العذاب المهين فهو في الآخرة , فيشمل دخول الكفار النار وهو أشد ضروب العذاب.
الرابع : كأن نزول الغضب الإلهي مقدمة للعذاب المهين واللبث الدائم في النار، وفيه دعوة للكفار للتخلص من الكفر والضلالة والجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : تتضمن خاتمة الآية صيغة الوعيد والإنذار.
السادس : توكيد الملازمة بين غضب الله واللبث الدائم في العذاب، قال تعالى[وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى]( ).
السابع: من إعجاز القرآن البيان العقائدي وإقامة الحجة على الناس، فجاء الإخبار عن العذاب المهين للكفار بعد بيان جحودهم بالتنزيل وما فيه من المعجزات، وبعد حلول الغضب المتعدد عليهم وعدم إنتفاعهم من هذه الآية الكريمة التي تتضمن التخويف والإنذار , فمع مجيء الآية بصيغة الجملة الخبرية فانها تتضمن صيغة الإنشاء والدعوة الى التوبة والإنابة والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الإسلام وأداء التكاليف الشرعية.
الثامن: بين الكفر بالله العظيم والكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عموم وخصوص مطلق، فجاءت خاتمة الآية إنذاراً ووعيداً للكفار جميعاً وإذ وصفت هذه الآية العذاب بأنه مهين، فإن آيات أخرى أخبرت عن خلود الكفار في النار , قال تعالى[وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ]( ).
وفي الآية مسائل:
الأولى: إبتدأت الآية بذم الكفار، وتوبيخهم على سوء الإختيار.
الثانية : الإخبار عن حقيقة وهي أن الدنيا دار إمتحان وبلاء، والتنبيه للزوم حرص الإنسان فيها على إختيار ما فيه سلامته ونجاته في الدنيا والآخرة.
الثالثة: تعطيل الكفار لوظائف العقل الأساسية التي تتمثل في الإستجابة لما جاء به الأنبياء من عند الله.
الرابعة: صحيح أن الشراء من الأضداد، وقد يراد منه البيع مقابل العوض، أو دفع العوض لأخذ العين، إلا أن شراء النفس أمر خاص، وأن ورد في المتباينين إذ أطلق المؤمن والكافر، ويعرف بالقرينة فالمؤمن يشتري نفسه ويحفظها ويصونها جهاداً وطاعة لله تعالى، قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ]( ).
أما الكافر فانه باع نفسه لقاء متاع قليل في الدنيا، وإتباع الهوى والنفس الشهوية والبغي والتعدي.
الخامسة: بيان قانون ثابت وهو أن الكفر خسارة للنفس.
السادسة : الكفر بغي وتعد، ورمي بالنفس إلى التهلكة.
السابعة : إقامة الحجة على الكفار، لأن الكفر بالتنزيل مخالف لحكم العقل، لذا نعتته الآية بأنه بغي.
الثامنة : نزول القرآن نعمة وفضل من عند الله، فيجب على الناس أن يتلقوه بالتصديق والقبول وعدم الجحود، ليفوزوا بالنعيم الدائم , قال تعالى[وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً]( ).
التاسعة : جاء ذكر القرآن بإنه من فضل الله، مما يدل على أن فضل الله أعم ويشمل الوحي والسنة النبوية بالإضافة إلى الكتب السماوية السابقة لمقام حرف الجر (ينزل الله من فضله) الذي يفيد التبعيض.
وفي الآية دلالة على أن مضامين القرآن من فضل الله، ويستطيع كل إنسان أن يعرف هذه الحقيقة بالرجوع إلى القرآن والتدبر في معانيه وأحكامه ودلالاته.
العاشرة : بيان قانون ثابت في الإرادة التكوينية وهو أن إختيار النبي لا يكون إلا من عند الله وهو الذي أحاط علماً بكل شئ، وعلى الناس الرضا والإنقياد والتسليم، وليس لهم أو لأهوائهم موضوعية في هذا الإختيار، قال تعالى[وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
الحادية عشرة: تتضمن الآية الإشارة إلى نوع ملازمة بين كفرهم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم بعثته من بني إسرائيل،فمنهم من إختار الكفر لأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليس منهم.
الثانية عشرة: الإنذار من نزول الغضب الإلهي المتعدد .
الثالثة عشرة: نزول العذاب الشديد بالكفار , ولبثهم الدائم في النار، وفيه وردت آيات كثيرة، وعلى نحو النص الجلي، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ]( ).
ويدل قوله تعالى[بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ] في مفهومه على الثناء على المؤمنين الذين باعوا أنفسهم في السعي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله.
الآية لطف
تبين الآية الدرجة الرفيعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإكرام الله تعالى له بإختياره لنزول الوحي عليه من بين الناس، وفيه إمتحان وإبتلاء لبني إسرائيل والناس جميعاً، بلزوم إتباعه لأن الله عز وجل إختاره للتنزيل.
فتصديق وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو طاعة لله وإنقياد لأمره، والله تعالى منزه عن العبث، وتفضل وأنزل القرآن عليه نجوماً وأمر بإتباعه فلابد من وجود أمة تنصره وتتبعه، وظهوره على الدين لتكون خسارة الذين يكفرون بنبوته مركبة من الخسارة في الدنيا، والخسارة في الآخرة.
وهذا التعدد من مصاديق وعمومات قوله تعالى [فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ] .
لقد جاءت الآية بصيغة الوعيد الذي يتضمن الإنذار والحث على التدارك والإنابة، فقد جعل الله عز وجل الإنسان حريصاً على دفع الأذى والضرر عنها، لتخبر الآية عن حقيقة وهي أن الكفريؤدي إلى خسارة النفس على نحو السالبة الكلية، وأنه يؤدي بالإنسان إلى العذاب المهين الشامل في ضرره للنفس والبدن مما يعني إرادة المعنى الأعم من النفس في الآية وأن المقصود هو الذات المركبة من الروح والبدن.
وجاءت الآيات الأخرى لتؤكد خلود الكفار في الجحيم، وهذا الخلود لا يكون بالنفس أو الجسد وحده، بل يشملهما معاً بعد أن يبعث الناس من القبور، وتؤكد الآية على أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لطف محض بالناس جميعاً وأنها ليست خاصة بقومية أو أمة دون أخرى.
لقد أنزل الله تعالى القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنجاة الناس من الجهالة والضلالة، ومن يكفر بالقرآن طمعاً في الدنيا وزينتها والجاه والمناصب فقد خسر الدنيا والآخرة .
وجاءت هذه الآية لبيان بخس وقلة وقبح العوض الذي إختاروه بدلاً عن الإيمان سواء كان رياسة أو أموالاً أو جاهاً، وفي هذا البيان لطف بالناس سواء الذين ذكرتهم الآية بالذم والتوبيخ أوغيرهم، لما فيها من العبرة والموعظة والدعوةإلى الصلاح والهداية ونبذ الكفر والضلالة.
إفاضات الآية
تبين الآية لزوم العناية بالنفس، وإكرامها وعدم جعلها عرضة للعذاب، وتنهى عن فعل المقدمات التي تؤدي بها إلى الخلود في الجحيم، وتذكر الآية حال البيع والشراء للنفس وهو من مصاديق الإمتحان والإبتلاء في الحياة الدنيا وإسرار الإختيار والتكليف فيها.
وجاءت هذه الآية عوناً للناس جميعاً، أما الكفار فانها تحذرهم من القاء النفس في المهالك، وأما المسلمون فتدعوهم للثبات على الإيمان.
وتتضمن البشارة لهم بالسلامة من خسارة الدارين، وتوجه الآية إلى الناس جميعاً رسالة وهي لزوم إكرام النفس الذي ينحصر بإجتناب الكفر والضلالة.
وتبين القبح الذاتي لإنكار نبوة محمد وأسباب هذا الإنكار ومنها أن النبي محمداً ليس من بني إسرائيل، وتدل في مفهومها على الثناء على المسلمين من غير العرب الذين لم يتخلفوا عن دخول الإسلام من الفرس والهنود والروس والأفارقة والروم مع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من غيرهم.
ومن الآيات الإعجازية في الإسلام تأسيس تقسيم جديد للأمم على أساس الإنتماء العقائدي، إذ نزل قوله تعالى خطاباً للمسلمين [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) في دلالة على أن الإنتماء للأمة بلحاظ العقيدة والنطق بالشهادتين وليس الإنتماء القومي، في حين جاء القرآن بذم بعض سادات قريش لأنهم أصروا على الكفر والضلالة ومنهم أبو لهب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه دلالة على صدق نزول القرآن من عند الله تعالى.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بلغة الذم، وبينت قانوناً ثابتاً، وهو أن ثمن الكفر ضياع وخسارة النفس وتعرضها للعذاب الأليم.
وتبين الآية أن النفس رهينة وأمانة عند صاحبها في الحياة الدنيا لتلقي الجزاء في الآخرة بحسب ما يختاره من الفعل، فان إختار الإيمان بالله والتصديق بالنبوة والتنزيل مطلقاً فقد حفظها وصانها في النشأتين.
وإن إختار الجحود والكفر فانه أهلك نفسه، لتكون عاقبته النار، والمراد من النفس في المقام الذات ومجمع الروح والبدن، فلا يعني قوله تعالى [بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ] التعدد والمغايرة بين الذين إشتروا وبين أنفسهم، بل جاءت الآية لبيان أثر ووقع الفعل السئ على صاحبه.
لقد جاءت الآية بلفظ (بئس) لبيان قبح الثمن الذي باعوا بهم أنفسهم، وإختيار الكفر بالقرآن، وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحب الدنيا والجاه، والتكاسل عن العبادات والفرائض عناداً وحسداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدل عليه بيان علة كفرهم بقوله تعالى [بَغْيًا] .
ولم ينحصر موضوع شراء الأنفس بالكفر والضلالة، بل جاء على الضد منه في الفعل، والأثر والعاقبة , وجاء القرآن بالثناء على فريق من أهل الكتاب يؤمنون بالله عز وجل وبنزول القرآن , قال تعالى[خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً]( ).
وتدعو الآية الناس إلى الإنقياد إلى أوامر الله عز وجل، وتتضمن الإخبار عن حقيقة وهي أن الخير فيما إختاره الله عز وجل، فليس للناس أو أهل ملة منهم أن يقيدوا إيمانهم بخروج النبي من بينهم.
وجاءت الآية بذكر تعدد وجوه الغضب على الكفار وأنه غضب مركب بسبب سوء فعلهم يأتي ذكرها في التفسير، ومن وجوهها أيضاً بلحاظ نظم الآية أنهم استحقوا الغضب من عند الله لأمور:
الأول: قلة الثمن والعرض الذي باعوا به أنفسهم، وهم مأمورون بحفظها وتعاهدها بالإيمان والتقوى.
الثاني: كفرهم بنزول القرآن من عند الله عز وجل، ويدل توجه الذم والوعيد للذين كفروا بنزول القرآن على الحجة الذاتية له وإمتلاكه أسباب التصديق به من قبل الناس، وعدم إمكان الإعتذار عن الجحود به بعدم وجود الدليل على صدق نزوله، والقرآن بذاته يثبت إعجازه، ويدعو إلى تصديقه.
الثالث: بيان علة الكفر والجحود بنزول القرآن من عند الله، وهي الحسد والظلم والتعدي والبغي، فليس من سبب عقلائي للكفر بنزول القرآن، ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل جاء الكفر لتغلب النفس الشهوية وإتباع الهوى.
الرابع: إمتناع الكفار عن الإقرار بالنعمة التي أنعم الله تعالى بها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإختياره للنبوة، وهي نعمة على الناس جميعاً وإصرارهم على عدم التسليم بمشيئة الله عز وجل فيما يختاره وهو سبحانه أعلم بالمصلحة، وأسباب دفع المفسدة عن الناس، قال تعالى[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وأختتمت الآية السابقة بإنذار الكفار بقوله تعالى [فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ] وجاءت خاتمة هذه الآية في ذمهم وإنذارهم والإخبار عن سوء عاقبتهم وأن مصيرهم إلى النار بقوله تعالى [وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ] لبيان مصداق من مصاديق اللعنة على الكفار.
التفسير الذاتي
بعد أن ذكرت الآية جحودهم بنزول القرآن من عند الله مع أنهم كانوا يتطلعون إلى نزوله، وينتظرون أن تطل عليهم أيام رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لينحسر الكفر وتزول سطوة الكفار والمشركين، ثم جحودهم بنزوله وتبديلهم لصفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المذكورة في التوراة.
وبعد إختتام الآية السابقة باللعنة على الكافرين والجاحدين بالربوبية والنبوة والتنزيل إبتدأت هذه الآية بصيغة الذم وتأتي (بئس) للذم ومجراها مجرى ولكن (نعم) ولكن في الجحد إذ يقال: نعم الرجل الكريم وذكرت الآية موضوع الذم وهو جلبهم الأذى والضرر لأنفسهم.
والتقدير: بئس شيئاً باعوا به أنفسهم، وبلحاظ خاتمة الآية السابقة يكون المراد أنهم بجحودهم بالنبوة إشتروا اللعنة والعذاب لأنفسهم.
وتبين الآية أن الإنسان قد يبيع أو يشتري نفسه، وهما من المتضادين وان جاءا بموضوع متحد وهو الشراء ولكنه من الأضداد ويعرف المراد بالقرائن، قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ]( )، وهو عنوان المدح على التضحية والفداء في سبيل الله، والخروج لميادين القتال دفاعاً عن الإسلام ونشراً للوائه، وهو أيضاً شراء للنفس حقيقة وطلب سلامتها في الآخرة باللبث الدائم في الجنة.
وذكرت الآية السبب في الكفر بالقرآن ونزوله من عند الله بأنه البغي والفساد والتعدي، وفيه آية وحجة من عند الله عز وجل، وشهادة سماوية بأن العلة لهذا الكفر ليس في المقتضي فهو موجود، بل بوجود المانع الذاتي عندهم، ومتعلق البغي في الآية على وجوه:
الأول: إرادة الحسد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: الحسد للمسلمين، لأنهم بادروا إلى التصديق بنزول القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يرجعوا إلى اليهود، وهم أهل كتاب.
الثالث: كانوا يظنون أن نبي آخر الزمان يبعث من بينهم خصوصاً مع كثرة الأنبياء من بني إسرائيل، ولأن البشارات جاءت به في التوراة، وحينما بعثه الله عز وجل من ولد إسماعيل جحدوا به بغياً، لأن الأصل التسليم بالنبوة والتصديق بالأنبياء على نحو العموم الإستغراقي وان كانوا من نسب وقوم آخرين.
الرابع: من معاني البغي أنهم طلبوا شيئاً ليس لهم أن يطلبوه بخصوص التنزيل والأحكام، وحتى الرسول الذي ينزل بالوحي، فمن أسباب عدم إيمانهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن جبرئيل هو الذي يأتيه بالوحي وهو على قولهم ينزل بالحرب والقتال، وأنهم لا يريدون القتال، ولكن جبرئيل عبد داخر لله لا يفعل إلا ما يأمره الله عز وجل.
وقد ورد في التنزيل مدح جبرئيل والثناء عليه كما في قوله تعالى [إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ]( )، ويلاحظ تعدد نعوت الثناء له، وانه مطاع في ملائكة الله المقربين، ويصدرون عن أمره بإذن الله، ويرجعون اليه، وقال جمع من العلماء المراد في الآيات أعلاه هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ووردت آيات أخرى في مدح جبرئيل على نحو التعيين، قال تعالى [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ]( )، مما يدل على أنه أمين على الرسالة، وتشمله عمومات قوله تعالى في الملائكة [وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( )، فليس لجبرئيل الأمر بالقتال.
وقد نزل آلاف من الملائكة في معركة بدر وأحد لنصرة المسلمين، وفيه شاهد على أن القتال لم يكن بأمر ملك واحد، بل آلاف من الملائكة ينزلون للنصرة والمدد من عند الله، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( )، وفيه دلالة على إمضاء الله عز وجل للقتال ورضاه عن المجاهدين، وأنه يدعوهم للصبر في ميادين القتال في مرضاة الله عز وجل .
ترى لماذا جاء الذم على التفريط بالنفوس بالكفر الجواب إن الكفر بالتنزيل سبب لدخول النار في الآخرة.
وفيه شاهد بأن المدار في إكرام النفس أو إهانتها على الآخرة، وبالإستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح يدفع الإنسان عن نفسه أسباب الأذى والضرر في الدنيا، ويتجنب مقدمات المرض والهلكة، وهو أمر حسن، ويسعى إليه الإنسان بالفطرة، لتبين الآية أن العناية بالنفس ونجاتها في الآخرة هو الأهم والأولى.
لذا ورد قوله تعالى[إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( )، ليكون في بناء (الحيوان) مبالغة للزيادة في المعنى، والدلالة على الحركة والدوام وإنعدام الموت فيها، وليس هي مثل الدنيا التي يعقبها السكون والفناء، خصوصاً وأنه جاء بعد وصف الآية أعلاه للدنيا بأنها لهو ولعب، أي كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون كأنهم لم يفعلوا شيئاً.
وجاء قبل أربع آيات قوله تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ]( )، وجاء هذان الشراءان في موضوع واحد،ومتقاربين في نظم الآيات فما هي النسبة بينهما، فيها وجوه:
الأول: شراء الدنيا هو نفسه شراء الأنفس.
الثاني: التعدد في الشراء، فهؤلاء إشتروا الدنيا، وإشتروا أنفسهم.
الثالث: التباين في الموضوع فورد الشراء في الآية أعلاه لإرادة الطلب والإقتناء، أما هذه الآية فالمراد منه البيع والتفريط.
والصحيح هو الثالث، وهذا من إعجاز القرآن، بأن يأتي لفظ متحد ويراد منه معنى متعدد ومتباين، فان قيل لماذا جاءت هذه الآية بلفظ الشراء، ولم ترد بلفظ البيع، فلم تقل الآية بئسما باعوا به أنفسهم، والجواب من وجوه:
الأول: إنهم سعوا إلى هذا البيع، وأصروا على العناد.
الثاني: قد يبيع الإنسان سلعته , وهو كاره أو مضطر أو مكره ويبقى يرغب فيها.
الثالث: إقامة الحجة على الكفار بقبح فعلهم وسوء تدبيرهم.
ولكن إطلاق لفظ الشراء على البيع لا يدل على هذه الأمور، بل يفيد أنهم على الخيار من أمرهم وأنهم رضوا بالكفر والجحود بالنبوة من غير إكراه من أحد ولا يتوّقون ولا يرغبون بأنفسهم.
ومن يحرص على نفسه يجنبها حر النار والعذاب الأليم في الآخرة لإدراك أهل الكتاب الملازمة بين الجحود بالنبوة وبين الخلود في الجحيم، خصوصاً وأن البشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن مجردة عن المعاني العقائدية ولغة الإنذار.
وسيأتي في مباحث التفسير أن البشارة القرآنية في مفهومها إنذار، وكذا كل إنذار قرآني هو بشارة في مفهومه( ).
ولم يرد في القرآن الغضب الإلهي المركب إلا في هذه الآية[فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ] مما يدل على القبح الذاتي للذنب الذي إرتكبوه ، وهو مركب من وجوه:
الأول: بيع نفوسهم بالباطل، والأصل هو إكرام النفس، وشراؤها بمرضاة الله عز وجل.
الثاني: الكفر والجحود بالقرآن وهو كتاب نازل من عند الله.
الثالث: الكفر بالقرآن بغياً وحسداً
الرابع: علة الكفر بالقرآن لأنه نازل على نبي من غيرهم مع أن الفضل بيد الله عز وجل يؤتيه من يشاء، وليس للناس إلا الإيمان والتسليم بأمر الله تعالى.
وجاءت الآيات بالوعيد لمن ينال غضب الله، قال تعالى[وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى] ( ) أي أن غضب الله عز وجل مقدمة لنزول الإلهي، كما جاءت الآيات بتحذير المسلمين من الركون للذين غضب الله عليهم، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ]( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: توكيد نزول القرآن من عند الله تعالى.
الثانية: الإخبار بأن القرآن فضل ونعمة من عند الله، وفيه دعوة للناس لتلقي آيات القرآن بالقبول والتصديق.
الثالثة: إستحقاق الذين كفروا بالتنزيل منهم العقاب الإليم لأنهم عرفوا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بموافقتها لما عندهم من البشارات.
الرابعة: إبتدأت الآية بذكر قلة وبخس الثمن الذي إرتضوه لترك الواجب العقائدي الذي يتجلى بالإيمان بنبوة محمد لتكون كل الأثمان في مقابله قليلة وليست ذات قيمة.
وليس من شئ يصلح أن يكون ثمناً للنفس وسعادتها في النشأتين، فسواء كان الكافر بالتنزيل من الرؤساء أو من العامة فان الآية تتضمن توبيخه وتبكيته وإخباره بإن الكفر ضياع وخسارة للنفس، وأنه إختار الضلالة والهلكة بزينة زائلة وثمن رخيص.
الخامسة: جاءت الآية بصيغة الجمع مع تعدد أفراد الثمن والعروض التي أعرضوا بسببها عن التنزيل والحق، لبيان حقيقة وهي قلة ورخص أي ثمن في مقابل الإيمان، بل أن المنافع لا تأتي إلا مع الإيمان، فمن أراد الثمن والربح والنفع فليبادر إلى التصديق بنزول القرآن من عند الله.
السادسة: جاءت آيات القرآن بمدح الذين يختارون الجهاد في سبيل الله والإخبار عن كونه السبيل للنجاة والفوز، وأنه الشراء الوحيد الذي ينفع النفس ولا يجلب لها الضرر ولا يسبب لها الخسارة سواء في الدنيا أو في الآخرة، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّة] ( ).
لتتضمن الآيات الترغيب بالإيمان وإختيار السعي في مرضاة الله، وإجتناب الكفر والفسوق، واللهث وراء زينة الحياة الدنيا وغرورها، كما يأتي شراء النفس ونيل الجنة بالشهادة فانه يأتي بالمواظبة على العبادات والإمتناع عن المعصية والسيئات، قال تعالى [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]( ).
السابعة: إن نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء بفضل ومشيئة من الله تعالى، وليس للعباد الحيلولة دونه،بل يجب عليهم التسليم والإنقياد والرضا به.
الثامنة: الجحود بالقرآن كفر بالأمر الإلهي بتنزيله، وموضوعه أعم فيشمل الإرادة الإلهية في نزوله ولزوم التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أنزل الله تعالى عليه القرآن، وفيه تأكيد لبيان عظيم منزلته وأنه عبد لله تعالى إختاره لأشرف وظيفة يتولاها الإنسان، وهي النبوة وتلقي وتبليغ كلام الله تعالى , وعن أنس: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا حَزِنُوا، وَأَنَا شَفِيعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا، لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، وَلا فَخْرَ، يَطُوفُ عَلَيَّ أَلْفُ خَادِمٍ كَأَنَّهُنَّ الْبَيْضُ الْمَكْنُونُ، أَوِ اللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ”)( ).
التاسعة: بيان قانون ثابت في الإرادة التكوينية وهو أن الله أعد للكافرين عذاباً أليما، وهذا العذاب لا ينحصر بالكفار أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل هو شامل لكل الذين جحدوا بالتوحيد والنبوة من الأولين والآخرين.
التفسير
قوله تعالى [ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ]
في الآية الكريمة ذم وتوبيخ للكافرين لسوء ما أقدموا عليه من الإضرار بأنفسهم.
وتبين الآية بخس ووضاعة الثمن الذي جعلوه عوضاً لأنفسهم، أي انهم خسروها وضيعوها وعرّضوها الى العقاب الأليم أزاء ثمن هو في ذاته ضار بهم في الحياة الدنيا فضلاً عن الآخرة.
ولقد مدح الله نفراً من المؤمنين بقوله تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ]( ).
وآيات الشراء هنا تظهر ما في الحياة الدنيا من الإبتلاء في إختيار طريق الحق الذي فيه الثواب وحسن المآب، وطريق الشر الذي فيه أليم العذاب والورود إلى النار.
ولغة الشراء والبيع معروفة عند الإنسان وإلى هذا الزمان لتوارثهم الشغف والميل إلى التجارة وما فيها من المكاسب، فخاطبهم الله عز وجل بالصيغ التي يولونها عناية خاصة زيادة في البينة وإيضاحاً للحجة، وان العناية بالنفس يجب أن تكون أكثر من الحرص على ما يمتلكونه من المال والأعيان.
ويحتمل شراء الأنفس في الآية وجوهاً:
الأول : جعل الكفار نفوسهم هي الثمن الذي دفعوه وضحوا به من أجل الكفر.
الثاني : النفوس هي المثمن، إذ رغب الكفار بالكفر , فباعوا أنفسهم من أجل الثمن وهو الكفر وإتباع الهوى والإقامة على المعصية .
لتبين الآية قانونا كليا وهو ليس من ثمن للكفر إلا النفس لشدة قبحه , وما فيه من الظلم [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ]( ).
الثالث : الدنيا إمتحان وإبتلاء، ولا بد أن يشتري أو يبيع الإنسان فيها نفسه وموضوع هذه الصفقة هو العمل , فاما أن يعمل صالحاً فتكون الجنة هي العاقبة وتجارته مربحة , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ]( ).
الرابع : صدق امرأة البيع للنفس في آية البحث للتفريط بها، اما الآية أعلاه فتتضمن المعنى الأعم وهو البيع والشراء، فقد باع المؤمنون أنفسهم طاعة لله وشوقاً للجنة، وإشتروها بالجهاد والعمل الصالح فاحرزوا الأمن والسلامة يوم القيامة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه إذ أنها تبين ما للنفس الإنسانية من الشأن العظيم ولزوم تعاهدها وحفظها والحرص على سلامتها بالتقوى، وكأن قوله تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا] ( )، نوع أمانة عند الإنسان ليقف يوم القيامة بين يدي الله للحساب بخصوص كيفية صيانة هذه الوديعة.
لقد إختاروا الكفر ثمناً لأنفسهم أي أنهم إستبدلوها ولم يكترثوا بما سيصيبها.
وتدل الآية على الحساب وان النفس معرضة للإكرام والإذلال بحسب الإختيار، وهي أسمى شيء عند الإنسان، والمراد من النفس هنا الذات، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ]( )، فالمراد من النفس في الآية أعلاه مجموع الروح والجسد، فان الكافر يعرض نفسه للعقاب الشديد ويكون كمن باع نفسه، وعرّضها للأذى بحب الدنيا الزائلة، وأصر على الجحود والعناد وإستكبر عن التنزيل مع معرفته انه تنزيل من عند عز وجل.
وتؤكد الآية على وجوب عدم الكفر بالتنزيل أياً كان الثمن، ولزوم الإيمان بالنبوة وجاء قوله تعالى(ما أنزل ) على نحو الإطلاق الشامل للقرآن والكتب السماوية المنزلة باعتبار أن الكفر بالقرآن يعني الجحود بالبشارات به التي جاءت بالتوراة والإنجيل فلذا صدق على الكافر بالقرآن أنه كافر بالكتب الأخرى وإن كان عاملاً بها.
فمن يكفر بالجزء يصدق عليه أنه كافر للزوم التصديق بعموم التنزيل المجموعي وعدم تجزئته، وقد فاز المسلمون بهذا الإيمان لأنهم صدّقوا وآمنوا بالتوراة وألإنجيل والقرآن.
وقيل(من كان كافراً بالأصالة لم يشتر شيئاً)( )، وليس من موضوعية لتقسيم الكافر إلى كافر بالأصالة أو الإلحاق والتبعية في المقام إلا أن يكون الذي هو كافر بالأصالة أشد عذاباً لأنه إبتدأ حياته بشراء الكفر والضلالة مع أن أناس خلقوا على فطرة التوحيد.
قوله تعالى[بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ]
كل شراء لابد له من علة وحاجة وسبب بحيث يقوم فيه الإنسان بدفع الثمن الذي يتناسب مع المثمن، وانه لا يخلو من ربح وقصد المرابحة فيه، ولكن في المقام وبعد ان بين وضاعة المثمن وأنه يجلب عليهم الويل والضياع، ذكرت هنا علة وسبب هذا الشراء وهو الحسد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتدل بالدلالة الالتزامية على أهمية المحافظة على النفس وصونها من العقائد الفاسدة , وسلامتها من السعي ويتوقف إعزاز النفس وإهانتها على الايمان أو الكفر.
والحسد هو تمني زوال النعمة عن صاحبها سواء أرادها الحاسد لنفسه أو لم يردها وهو مذموم وتقابله الغبطة، وهي أن يريد لنفسه من النعمة مثل ما لصاحبها من غير تمني زوالها عنه، قال تعالى [ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( ) .
وفيه تحذير مركب من الحسد وتحذير للناس عموماً منه، ودعوة للمسلمين للإحتراز من آفة الحسد، والتوقي من الحاسدين وجاءت في القرآن للإستعاذة منهم على نحو النص الجلي, قال تعالى[وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ]( ).
وللحسد تأريخ يكشف عن قبح موضوعه، وهو باب لمعرفة عظيم ضرره لأن التاريخ مدخل لمعرفة ذات الشيء وما يترشح عنه من المنافع او الأضرار، وحسد إبليس لآدم عليه السلام هو أول حسد يتعرض له الإنسان وأدى إلى نزول آدم وحواء من الجنة، فكان سبباً في أول خطيئة للإنسان وبه إستحق إبليس اللعنة والطرد من الجنة والوعيد بالعذاب الأليم، وكان وراء قتل قابيل لأخيه هابيل بالوسوسة.
ومن الدلالة التضمنية الواردة في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “دب إليكم داء الأمم قبلكم ، الحسد والبغضاء والبغضة هي الحالقة ، لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين” ( )، لزوم إجتناب الأخلاق المذمومة, ومنها آفة الحسد.
وورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام انه قال: “قال الله عز وجل لموسى عليه السلام: يا ابن عمران لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضلي، ولا تمدن عينيك الى ذلك ولا تتبعه نفسك، فأن الحاسد ساخط لنعمي صاد لقسمي الذي قسمت بين عبادي، ومن يك كذلك فلست منه وليس مني” ( ).
لقد أضاع بنو إسرائيل أنفسهم وضلوا طريقهم بحسدهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لما آتاهم الله من فضله وتأهيلهم لقيادة الأمم في دروب الصلاح والفلاح، وكان حسدهم هذا سخطاً وجحوداً ونكراناً للنعم العظيمة التي خصوا بها، وأخطأوا في المبنى، فلا ملازمة بين النعم والرسالة أي انه ليس بالضرورة أن تكون النبوة عند بني إسرائيل لما آتاهم الله تعالى من فضله.
والظاهر أن البغي الوارد في الآية الكريمة أعم من الحسد، وأن دأب المفسرون على حصره في المقام بالحسد، ومن البغي هنا التعدي على ما رزق الله الغير وعدم الرضا بالقسم وتجاوز الحد برفض كون النبوة عند غيرهم، والله سبحانه [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ]( )، له المشيئة والأمر، قال تعالى [ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ]( ).
بحث اصولي
(أن) حرف جاء تفسيراً لبغيهم، وكأنه مركب من تعديهم على النفس وعلى النبوة , وللتجري الذي يعني في الإصطلاح إتيان فعل أو ترك مع العلم أو الظن بأنه معصية للخالق.
وفي المقام يعلمون أنه مخالف للحكم الواقعي، وهو هنا من أفعال القلب بالعزم على المعصية ومن أفعال الجوارح والأركان بالتلبس به.
فيكون قبحه على الأول عقلياً لسوء السريرة وإرادة البغي، ويطلق عليه القبح الفاعلي.
ويكون قبحه على الثاني أي أفعال الجوارح متعلقاً بفعله وعمله ويسمى القبح الفعلي.
والثاني يكون علة لإستحقاق العقاب، نعم يشمل الأول على القول بعمومات الروايات الواردة في مؤاخذة بني اسرائيل على نية السوء وان لم تترجل إلى فعل في الخارج، ويتضاعف العقاب عند الفعل، ولكن الأصل هو الأول، وبه تقوم الحجة.
إن ورود شرائهم لأنفسهم بلغة الماضي له دلالات منها أنهم كتبوا على أنفسهم الشقاء , وإختاروا طريق الجحود والعناد، أما ورود التنزيل من فضله بلغة المضارع فيعني الإستمرار والدوام وإتصال الفضل الإلهي وتبعيض النزول من المشيئة يعني التجديد في رحمته وتوالي فضله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المسلمين .
ويدل بالدلالة التضمنية على إستمرار النعم الإلهية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإستدامة بقاء أحكام الرسالة والإمامة والإفاضات المتصلة على المسلمين.
قوله تعالى [فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ]
يحتمل الغضب هنا بلحاظ الرتبة وجوهاً:
الأول : الترتيب في حلول الغضب بهم، فالغضب الثاني يأتي تالياً ولاحقاً.
الثاني : الجمع والتركيب، فيأتي فردا الغضب دفعة واحدة , وفيه دلالة على شدة عذابهم.
الثالث : التعدد والتباين، فمرة تأتي مصاديق الغضب على نحو الترتيب، وأخرى تأتي مجتمعة.
الرابع : جاء قوله تعالى[بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ] من باب المثال وإرادة التعدد بضروب الغضب.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وما يلقاه المشركون يوم القيامة.
وردت مادة (غضب) أربعا وعشرين مرة في القرآن، وفي سورة الفاتحة التي يقرأها كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم وعلى نحو الوجوب العيني في الصلاة وسؤال الهداية ووصف الصراط المستقيم بأنه [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ] ( )، مما يدل على أن الذي يغضب عليهم الله لهم نهج وطريق مغاير ومضاد لسبيل الهدى، وهذا التضاد في النية والقصد وماهية الطريق وغايته.
ومع قلة عدد مادة (غضب) في القرآن فقد وردت مرتين في آية البحث، ومرتين في قوله تعالى[وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى]( )، مع التباين , فالغضب في آية البحث متعدد في ذاته وموضوعه، بينما هو متحد في الآية أعلاه .
ويفيد الجمع بين الآيتين أن الجحود بالنبوة من الطغيان في الرزق والنعم التي تفضل الله عز وجل بها على الناس سواء النعمة العامة أو الخاصة، ويدل عليه مجئ آية البحث بصيغة الماضي بينما جاءت الآية أعلاه بلغة المضارع والتعليق مما يدل على تحقق موضوعها وأن الكفر بنعمة التنزيل علة لسلب النعم .
وكأن هناك ملازمة وتداخل بينها وان الكفر بالنعمة التالية سبب للحرمان من إستدامة التنعم بالنعمة السابقة، أو قل أن تعاهد النعمة يكون بالإيمان بالآيات والمعجزات اللاحقة، وان كانت تلك النعمة ثواباًَ عاجلا على الإيمان بالله والأنبياء السابقين، فمن شرائط الإيمان والنعم المترشحة عنه التصديق بالنبوة اللاحقة والبراهين الباهرة المصاحبة لها.
وفي الغضب المركب هنا وجوه وأقوال منها :
الأول : ان كلمة الغضب الأول هو التكذيب بالتنزيل ، والآخر التكذيب بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : المراد إثبات أنواع للغضب مترادفة لتوالي التعدي والجحود.
الثالث : إرادة توكيد الغضب وتكثيره، وبه قال أبو مسلم.
الرابع : نقل القرطبي عن قوم: المراد التأبيد وشدة الحال عليها( ).
ولا ملازمة بين التأبيد وتكرار الغضب، فقد يفيد وروده مرة واحدة معنى التأبيد.
وليس من تعارض بين هذه الوجوه في الجملة، وكل فرد منها يصلح مصداقاً للآية .
وهل يمكن إحتمال وجوه أخرى مثل:
الأول : الرجوع بغضب من الله بعد الغضب من النبي أو الأنبياء.
الثاني : بيان إتصال الغضب بسبب توالي أسبابه وترادف ما يدل على الجحود.
الثالث : تعدد الغضب الإلهي بلحاظ تعدد وجوه الكفر للفعل الواحد، الجواب: ان كلاً من هذه الوجوه مما يحتمل ذكره بحاجة الى تحقيق وان لم يخرج عن ظاهر الآية بل هو أعم منها.
قوله تعالى [وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ]
(قال الرازي: قال قوم ان الآية تدل على انه لا عذاب الا للكافرين)( )، وليس في الآية ما يدل على حصر العذاب بالكافرين، وحدثت شبهة مركبة عند جمع، فقد قال الخوارج بان الفاسق كافر لأنه يعذب ولا عذاب الا للكافرين، وقال المرجئة واستناداً الى هذه الآية على العكس من ذلك بأن الآية تدل على انه لا يعذب الا الكافر فإن الفاسق لا يعذب لأنه ليس بكافر، وقال بعضهم ان العذاب غير المهين يقع على صاحب المرتبة الوسطى وهو الفاسق واللازم باطل وكذا الملزوم .
والعذاب في الآخرة إهانة لمن يقع عليه وان تباينت كيفيته زاد او قلّ لأنه عقاب وجزاء ولأن الآية وعيد وتوبيخ وتحذير اظهرت وجه الشدة لهذا العقاب وما فيه من الأذى على صاحبه في يوم يحتاج فيه إلى العفو والرحمة والتخفيف.
مهين – بضم الميم – وردت في القرآن أربع عشرة مرة كلها صفة لعذاب الكافرين والمنافقين والمكذبين بآيات الله، وهي لا تدل على حصر هذا النوع من العذاب بهم، ونوع عذابه يمكن إستظهاره من آيات أخرى أو من السفه، وإن كان العذاب آنذاك كله مهين في الجملة.
ومهين امرأة فاعل ولا يكون الا ممن يعقل وجاء هنا وصفاً للعذاب وملازماً له، توكيداً لصفته وماهيته وطرداً للوهم والغرور، إذ قد يكون العذاب غير مهين إذا كان ظلماً مثلاً ووجود أنصار للمعذَب الذي يتحمله تحدياً وثباتاً على أمر يراه وأصحابه حقاً، ولكن الكافرين يتلقون العذاب بذل وهوان وبعضهم يذم ويلقي اللوم على البعض الآخر وليس لهم من ناصرين قال تعالى في ذم الكفار، وبيان سوء حالهم يوم القيامة[يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ]( ).
بحث كلامي
في الآية قاعدة كلية تتعلق بصيغ العقاب يوم القيامة وعمومه وشموله لعموم الكافرين والجاحدين من غير استثناء لقوم معينين او اهل ملة ما، وبالإضافة الى ما في الآية من وعيد فانها تحذير لبني اسرائيل ونفي لما يقولونه من الأفضلية وما يترتب عليها من آثار بزعمهم لتخفيف العذاب عنهم او النجاة من الخلود فيه.
غضبه تعالى سخطه وارادة الانتقام ممن عصاه، وهو ليس من صفات الذات وانما هو من الصفات الفعلية، وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: “ان الله خلق الرحمة قبل ان يخلق الغضب”.
لذا يمكن القول بأن الآية الكريمة الى جانب ما تتضمنه من توبيخ فإنها إنذار ووعيد , قال تعالى [ وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ]( ).
والغضب عند الناس حالة نفسانية وعبارة عن غليان دم القلب والنزعة إلى الإنتقام وهو من الأخلاق المذمومة باستثناء ما كان في سبيل الله وتعظيماً لشعائره، قال تعالى فيما لاقاه موسى عليه السلام من الأذى وجهاده في سبيل الله وسعيه لإصلاح قومه[فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا]( ).
والله عز وجل لا يتغير ولا يزول من حال إلى حال فان تغير الماهية وإنفعال المحل والحدوث صفات الممكن، والله واجب الوجود وصفاته صفات كمال، والنقص مستحيل عليه تعالى، أي أن التغير والإنفعال مستحيل عليه فيكون الغضب من الله عز وجل هو عقابه وانتقامه من الكافرين .
ويتوجه كل مسلم ومسلمة عدة مرات كل يوم بالدعاء والمسألة إلى الله في الصلاة بالنجاة من الغضب الإلهي بالهداية إلى الإستقامة ودين الإسلام بقوله تعالى[صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ]( )، وهل يمكن تسمية الدنيا بأنها دار (الغضب الإلهي) الجواب لا، بل هي دار الرحمة والمغفرة، ونزول الغضب منه تعالى بقوم زجر وإصلاح للناس من أجل جذبهم وجلبهم لمنازل التقوى والصلاح والإنتفاع الأمثل من رحمته تعالى.
ومن الآيات أن الغضب الإلهي على فريق من الناس في الدنيا لا يحجب عنهم رحمته وعفوه ولطفه، ومن اللطف الإلهي في المقام آية البحث لما تتضمنه من دعوة الناس جميعاً إلى إكرام النفس بمنعها من التلبس بالكفر ومفاهيم الضلالة.
قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَ هُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] الآية 91.
الإعراب واللغة
وإذا: الواو عاطفة وإستئنافية، قيل: فعل ماضِ مبني للمجهول، وجملة قيل في محل جر بإضافة إذا إليها، لهم: جار ومجرور.
آمنوا: فعل أمر، والواو: فاعل، والجملة في محل رفع نائب فاعل، وقيل في محل نصب مقول القول.
بما أنزل الله: الباء: حرف جر، ما: امرأة موصول في محل جر بالباء.
أنزل الله: فعل ماِض وفاعل، والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول.
قالوا: فعل ماضِ وفاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم.
نؤمن: الجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.
بما أنزل علينا: بما: جار ومجرور متعلقان بنؤمن، أنزل: فعل ماضِ مبني للمجهول.
علينا: جار ومجرور.
ويكفرون: الواو : حالية، يكفرون: فعل مضارع، والواو: فاعل، بما: الجار والمجرور متعلقان بيكفرون.
وراء: ظرف مكان، وهو بمعنى خلف، الهاء: مضاف اليه.
وهو الحق: الواو: حالية، هو: مبتدأ، الحق: خبره، والجملة الإسمية في محل نصب على الحال من(ما).
مصدقاً: حال، لما: جار ومجرور متعلقان بمصدقاً.
معهم: ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة ما، والضمير : مضاف إليه.
قل: فعل أمر.
فلم: الفاء هي الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر، اللام: حرف جر، ما: امرأة إستفهام في محل جر، وحذفت الألف من (ما) للتفريق بينها وبين ما الخبرية , ولأن الألف يحذف من (ما) الإستفهامية إذا جُرت، وتبقى الفتحة للدلالة عليها.
وقد تحذف الفتحة أيضاً في الشعر، او تثبت الألف للضرورة الشعرية كقول حسان:
على ما قام يشتمني لئيمٌ
كخنزير تِمَرَّغ في رمادِ( )
تقتلون: فعل مضارع، الواو: فاعل، انبياء: مفعول به منصوب بالفتحة وهو مضاف، امرأة الجلالة: مضاف إليه، من قبل: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
إن كنتم مؤمنين: إن شرطية، وكنتم: كان: فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، والتاء: إسمها.
وجملة تقتلون: خبرها، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله(لم تقتلون) أي: إن كنتم كذلك فلم تقتلون أنبياء الله.
في سياق الآيات
تبين الآية نوعاً من سوء الفعل وهو تبعيض الإيمان بالكتب السماوية، وبين هذه الآية والآيات القليلة السابقة عموم وخصوص من وجه، فمادة الالتقاء تجاهرهم واصرارهم على الكفر، ومادة الافتراق ان الآيات السابقة تتضمن مجيء الكتب والإنذارات إليهم .
وتبين هذه الآية إقرارهم بما أنزل إليهم على نحو الحصر , من دون الايمان بنزول القرآن.
ولغة الخطاب في الآية إرشاد لأهل الكتاب لدخول الإسلام ولغيرهم أيضاً من باب الأولوية.
وموضوع هذه الآيات هو التوبيخ على الإصرار على الجحود وعدم الإيمان بالرسالة، وما جاء به الأنبياء من البشارات.
وتوكيد حقيقة في الإرادة التكوينية وهي وحدة سنخية النبوة ولزوم الإيمان بالأنبياء على نحو العموم الإستغراقي، خصوصاً وأن النبي السابق يبشر بالرسول اللاحق، وجميع الأنبياء يدعون لتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته.
وهذه الآية هي الرابعة على التوالي التي يذكر فيها الكفر بالنبوة بصيغة الذم لتكون هذه الآيات مدرسة في الزجر عن الكفر ولزوم إجتنابه.
جاءت هذه الآية لذم العناد، والدعوة إلى التخلص والتنزه منه، والتوكيد على لزوم عدم تبعيض الإيمان بالأنبياء إذ أن الإيمان بنبوة موسى عليه السلام أمر حسن، والأحسن منه التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشريعته الناسخة والمنجية من الهلكات , وبهذا التصديق تكون النجاة من تبعيض الإيمان الوارد ذم أهله بقوله تعالى[أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ]( ).
ولأن الآيات تترى على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم،وهو يدعوهم للتصديق بما أنزل الله من القرآن الذي جاء مصدقاً للتوراة، ليكون الإسلام أمناً وسلاماً لهم من الكفار، ومانعاً من إنقضاضهم على اليهود الذين كانوا قلة في المدينة وحولهم أهل الجزيرة من العرب.
فيتضمن قوله تعالى [وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ] الرحمة والرأفة ببني إسرائيل، والإخبار عن نصرة موسى والتوراة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن والإخبار عن تصديق الجماعات والأمم بالقرآن لأنه حق وصدق.
وفي الصلة بين هذه الآية والآية السابقة مسائل :
الأولى : توالي الدعوة إلى أهل الكتاب والناس بدخول الإسلام، فمع أن الآية السابقة أخبرت عن كفرهم وجحودهم بما أنزل الله إبتدأت هذه الآية بالإخبار عن دعوتهم للتصديق بنزول القرآن، لتكون الدنيا دار الدعوة إلى الإسلام لتجدد هذه الدعوة في كل حين، ومن اللطف الإلهي أن هذه الدعوة متعددة في ماهيتها وأفراد كل نوع منها، وهي على وجوه:
الأول : الآيات الكونية سواء التي تظل على الناس كل آن أو التي تتعاقب على الناس ما أطل الجديدان.
الثاني : آيات التنزيل وكل آية برهان قائم بذاته يدعو إلى التوحيد والتصديق بالتنزيل، وهو من إعجاز القرآن الذاتي.
الثالث : دلائل النبوة والمعجزات الحسية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : الآيات التي أودعها الله عز وجل الناس متحدين ومتفرقين , قال تعالى[ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ….]( ).
وكل فرد من الوجوه أعلاه آية في النفوس بذاتها وأثرها المبارك، ومنها قول الناس بعضهم لبعض[آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ] ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض أجابهم الله عز وجل بقوله[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ليكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس من مصاديق علم الله عـز وجل في الآية أعلاه، ومنه دعوة أهل الكتاب والناس للإيمان بالقرآن، بلحاظ أمور:
الأول : تجدد معاني الإيمان بين الناس.
الثاني : وجود أمة مؤمنة لا تكتفي بالإيمان بل تدعوا الناس إليه وتواظب على الموعظة، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : توجه الدعوة إلى الإسلام إلى الناس جميعاً، حتى الذي قال الله فيه[وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا]( ).
الرابع : من مصاديق الخلافة في الأرض أن الكافر تتوجه له الدعوة إلى الإسلام وإن زهد وجحد بها، ولا بد أن يتكرر توجه الدعوة، أما المؤمن فتملأه الغبطة والسعادة لحسن إختياره وما أنعم الله عليه من الهداية، ويتجنب أهل الباطل والريب، قال تعالى في الثناء على المؤمنين[وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ]( ).
الثانية : إقامة الحجة على الناس في لزوم التصديق بالقرآن، فلا يقال بعدم تبليغهم أو أن كفرهم بالقرآن بسبب عدم العلم بنزوله، أو أنهم علموا به، ولكن لم يعلموا أنه تنزيل، فجاءت آية البحث لتخبر عن إقامة الحجة والبرهان عليهم في الدعوة إلى الإسلام بقوله تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ]( ).
الثالثة : إبتدأت الآية بحرف العطف (الواو) للدلالة على إتصال وإرتباط موضوعها مع الآية السابقة، وجاءت بصيغة الضمير (هم) في قوله تعالى(وإذا قيل لهم) لبيان وحدة جهة الخطاب والمقصودين في هذه الآيات، وفيها مجتمعة ومتفرقة بيان لما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى في الجهاد والدعوة إلى الله عز وجل.
وفي الصلة بين هذه الآية والآية التالية مسائل:
الأولى : جاءت هذه الآية بصيغة العطف ولغة الغائب لبيان إتصال موضوعها بالآيات السابقة، وجاءت الآية التالية بصيغة العطف ومعها لغة الخطاب (ولقد جاءكم) مع إتحاد الجهة , وهو من صيغ الإلتفات بأن يتوجه الخطاب للغائب ثم يعدل به إلى الشاهد أو بالعكس، قال تعالى[حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ]( ).
ومن فوائد الإلتفات بمعناه البلاغي جذب الأسماع وطرد الملل، ولكنه في القرآن له دلالات عقائدية أيضاً ولها الأولوية في الإعتبار والإستنباط، فالعدول إلى الخطاب(ولقد جاءكم) شاهد على بقائهم على ملة الآباء والإقرار بنبوة موسى عليه السلام، ومن البينات التي جاء بها البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إعجاز الآية
الآية دعوة للايمان والتصديق بالقرآن، وفيها فضح وذم للتفكيك في مراتب الايمان، وأن الواجب هو الإيمان بالكتب السماوية المنزلة على نحو العموم المجموعي، وعدم التبعيض فيها للإتحاد المجموعي والموضوعي بينها.
وفيها فضح وذم وتوثيق لسوء الفعل بقتل الأنبياء الذين يكرمهم المسلمون ويقرّون أنهم أفضل البشر بما رزقهم الله من الوحي , وفي التنزيل[لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ]( ).
وتبين الآية قوة الإسلام وفيها بالدلالة الإلتزامية إخبار عن دعوة المسلمين غيرهم إلى الإسلام وإيمانهم بالعقيدة عن تصديق ويقين.
ومن إعجازها عدم إنقطاع الدعوة وإتصالها بإتباع النبي والإيمان برسالته، وجاء لفظ (قيل) على البناء للمجهول لبيان الحث على دخول الإسلام من المسلمين ومن غيرهم، [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ولأن الأمر يتعلق باقامة الحجة عليهم بتخلفهم عن نصرة النبي جاء ذكر قتلهم الأنبياء وثيقة سماوية خالدة تبين خصلة قبيحة , وجحوداً وتعدياً وظلماً للنفس والغير من الناس.
وإبتدأت الآية بامرأة الشرط(إذا) لبيان امرأة وجواب الشرط ليكون الإحتجاج مناسبة لتفقه المسلمين في الدين، ودعوتهم للتبليغ والنهوض بوظائف الإيمان من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد كان لأهل الكتاب منزلة عظيمة عند العرب لأنهم أتباع أنبياء وعندما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاءوا إلى أهل الكتاب وسألوهم عن صدق نبوته، وجاءت هذه الآية لتبين حقيقة وهي وجود أمة وأفراد يتوجهون إلى أهل الكتاب بدعوتهم إلى الإسلام وليس سؤالهم عن صدق النبوة، مما يدل على إتساع دائرة الإسلام ودخول أقوام فيه من غير إنصات لأهل الشك والريب، وهو من بشارات وعمومات قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
إن قوله تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ] بيان لحصول عدول وتحول عند الناس، وفي واقع المجتمعات , فبدل سؤال العرب عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أخذوا يدعون الناس لدخول الإسلام بلغة الشهادة والإقرار بأن القرآن كتاب نازل من عند الله، ليتضمن التوثيق السماوي لتأريخ التبدل في العقائد، والتغيير في القلوب نحو الصلاح المصاحب لنزول آياته , ليكون من معاني قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، تجلي معجزات النبوة وظهورها للناس وإزاحة روح الشك والتردد بينهم.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية (مصدقاً لما معهم) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية، مع ورود لفظ (مصدقاً) فيه ثلاث عشرة مرة.
الآية سلاح
تدل الآية على قيام المسلمين بوظيفتهم في إخبار أهل الكتاب بلزوم الايمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما نزل عليه من القرآن.
وتبين الآية أن الإمتناع عن الإيمان بالقرآن إنما يرجع في شطر منه إلى الإصرار والتجاهر بعدم الإيمان بكل كتاب سماوي آخر غير المنزل على موسى عليه السلام مما يجعل تأثير الصدود عنه على المؤمنين منعدماً فبعد معرفة أسبابه لا يبقى إعتبار له، وفيها صيغة من صيغ الإحتجاج والجدال بلغة الموعظة والبرهان.
وفي الآية تخفيف عن المسلمين، وتوفير للجهد والعناء المركب , من وجهين:
الأول: التخفيف بالعلم ببلوغ الدعوة الإسلامية إلى أهل الكتاب وغيرهم.
الثاني: إصرار فريق من أهل الكتاب على عدم الإيمان، ودعوة المسلمين للإنتفاع من الجهد الإضافي في محاولة اقناعهم.
الثالث: أخذ المسلمين الحيطة والحذر من الكيد والأذى , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ]( ).
لقد جاءت الدعوة إلى أهل الكتاب بالتصديق بالقرآن ولم تذكر الكتب السماوية السابقة، ولم يقولوا: آمنوا بما أنزل الله كما آمتنم بما أنزل عليكم، وفيه مسائل:
الأولى : إخبار آيات القرآن عن إيمان المسلمين بالكتب السماوية السابقة.
الثانية : موضوع الدعوة هو وجوب التصديق بنزول القرآن.
الثالثة : الأصل هو أن التصديق بالكتب السماوية السابقة عون ومقدمة للتصديق بالقرآن لوحدة الموضوع في تنقيح المناط , فالجامع المشترك بينها هو التنزيل والوحي للأنبياء من عند الله.
الرابعة : بيان العموم في التصديق بالقرآن من الأمم وأهل الملل بينما كان الإيمان بالتوراة خاصاً ببني إسرائيل , وفي الآية حذف وتقديره: آمنوا بما أنزل الله كما آمنا).
مفهوم الآية
الآية مدرسة في التحدي ببرهان الحق، ونبذ الكفر، وإقامة الحجة على الجاحدين وهي دعوة للإيمان بالرسالات السماوية على نحو العموم المجموعي من غير تمييز بينها أو ترك لبعضها لوحدة الموضوع في تنقيح المناط وتظهر الآية الملازمة بين الإيمان وإكرام الأنبياء عموماً، وتحث المسلمين على الإقتداء بهم.
لقد كان الأنبياء يدعون إلى الله عز وجل ويبلغون رسالاته ويبشرون بالرسول من بعدهم، فوجود الأنبياء وعدم إخترام أعمارهم مناسبة كريمة للإيمان وتلقي أحكام الوحي والإنصات الى لغة العقل ومنطق الشرع.
إن التوبيخ القرآني على قتل الأنبياء في ذات الآية التي تذم تجزئة الإيمان بالأنبياء أمارة وإشارة إلى تبشير هؤلاء الأنبياء ببعثة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونسخ الشريعة الإسلامية للشرائع الأخرى، فجاء القرآن جامعاً لأحكام الحلال والحرام والسنن والمفاهيم العقائدية، ومن مفاهيم الآية أمور:
الأول : عدم التعارض بين الإسلام والأديان السابقة.
الثاني : تثبيت القرآن لمبادئ الشرائع.
الثالث : الإقرار بسماوية التوراة والإنجيل.
الرابع : تزكية وتوثيق الكتب التي نزلت قبل القرآن من عند الله تعالى.
وهذه الآية وإن جاءت بصيغة الذم واللوم فهي رحمة بالمخاطَبين من وجوه:
الأول: إنها مدخل لإنقاذهم.
الثاني: في الآية دعوة للإمتناع عن محاربة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثالث: في الآية حث على الكف عن الإفساد في الأرض , وفي التنزيل[وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا]( ).
وتبين الآية أن الإسلام أصبح بمرتبة من القوة بحيث يكون التبليغ له علنياً، ويأتي بصيغة الدعوة للإسلام لمن إمتنع عن دخوله، كما تدل على إنتشار مبادئه وصدقها.
وفي الآية ذم للذين يتخلفون عن الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وأنها تتضمن التصديق بما عندهم من التوراة والإنجيل، وهذا من عمومات اللطف الإلهي أن يصدّق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأنبياء من قبله، وفيه تخفيف عن أهل الكتاب والمليين وحجة عليهم.
ومن أوليات الإيمان عدم التعدي على الأنبياء، فكيف يدعي الإيمان من يقوم بقتلهم.
وجاءت الآية بصيغة (قل) وفيه آية اعجازية فكما ان النبي محمداًَ صلى الله عليه وآله وسلم حفظ ميراث النبوة، وذب عن الأنبياء، وجاهد من أجل تثبيت براءتهم من الغلو ونزاهتهم وحصانتهم، فانه صلى الله عليه وآله وسلم يدافع عنهم، ويوبخ من قتلهم والذين بقوا على ذات السنخية، ويدعو ذراريهم إلى التوبة والتصديق بالنبوة.
وفي الآية مسائل:
الأولى: إقامة الحجة على أهل الكتاب ببلوغ الدعوة لهم.
الثانية: ليس من برزخ ووسط بين الإيمان والكفر.
الثالثة: إنتفاء المانع من الإيمان، وهذا الإنتفاء من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الرابعة: ذكرت الآية الدعوة إلى الإيمان بالبرهان على نزول القرآن من عند الله، ومن الإعجاز في المقام أن الدعوة إلى الإيمان جاءت بخصوص التنزيل لعدم جواز التخلف عن التصديق بما أنزل الله تعالى من الكتاب.
الخامسة: مجئ الآية بجواب بني إسرائيل على الدعوة إلى الإيمان، وتتضمن عدم قبولها بحصر تصديقهم بما أنزل عليهم أي ما أنزل على موسى عليه السلام من التوراة.
السادسة: لم يقولوا (ونكفر بما وراءه) بل أخبرت الآية عن كفرهم هذا لأنهم لو قالوا (نكفر بما وراء ما أنزل علينا) لكان حجة عليهم وإقراراً بنزول القرآن من عند الله.
وكانوا يوصي بعضهم بعضاً بعدم إخبار المسلمين بما يكون حجة عليهم, وفي التنزيل حكاية عنهم [أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( )، وفيه حجة بإن كفرهم لم يختص بالقرآن بل أنهم وقفوا عند التوراة، وأعلنوا ترك ما بعدها.
السابعة: في الآية تحد وبعث لإستقراء آيات وإعجاز القرآن، ودعوة لدراسة وجوه الإلتقاء بين التوراة والقرآن كتنزيل من عند الله تعالى، وظاهر الآية أنهم لم ينكروا نزول القرآن من عند الله، ولكنهم أصروا على الوقوف على التوراة، والإكتفاء بها.
الثامنة: من إعجاز الآية أن جاء الإحتجاج متعقباً للإخبار عن كفرهم بالقرآن، وهذا الإحتجاج متعدد من وجوه:
الأول: القرآن هو الحق من عند الله، وفيه إشارة إلى كونه جامعاً للأحكام والسنن، ومهيمناً على الكتاب كله.
الثاني: تصديق القرآن للتوراة والإنجيل، وتتفرع عن هذا التصديق منافع عظيمة أكثر من أن تحصى منها حفظ التوراة والإنجيل وإختصاص اليهود والنصارى بعدم إكراههم على الإسلام، والإكتفاء بقبول الجزية منهم في بلاد المسلمين لقاء حفظهم وأموالهم، ومنع التعدي عليهم.
الثالث: الإشارة إلى أن القرآن آخر الكتب السماوية نزولاً لمجئ الآية بصيغة المفرد [وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا] بينما تكرر في الآية ذكر التوراة والإنجيل بالامرأة الموصول (ما) بقوله تعالى [بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا] و[لِمَا مَعَهُمْ]، وإذا كان ما معهم مركباً من أمرين:
الأول: التنزيل.
الثاني: التحريف الطارئ على نحو السالبة الجزئية.
فان المراد من التصديق في الآية هو الأول أي التنزيل، وخروج التحريف بالتخصص من موضوع التصديق، ولأن التنزيل لا يكون مصدقاً إلا للتنزيل.
أما التحريف فان التنزيل جاء لفضحه، ولأن سياق الآية هو الإحتجاج وقد قالوا بالإيمان بما أنزل عليهم، فجاء الرد بإن القرآن هو الآخر تنزيل من عند الله وحق وصدق، ومصدق لما معهم من التوراة والإنجيل , ويتصف القرآن بواقية وحفظ من الله، وفي التنزيل[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ]( ).
وكأن في الآية حذفاً والتقدير (ومصدقاً لما معهم من التنزيل) أي ليس التحريف معه.
الرابع: إقامة الحجة عليهم وفق ما يقولون، لأن الإيمان ولو بنزول كتاب واحد من عند الله كاف لإكرام الأنبياء وعدم قتلهم، فالكتاب لا ينزل إلا على نبي كما في نزول التوراة على موسى عليه السلام، والإنجيل على عيسى عليه السلام.
وجاء الأنبياء السابقون ما بين موسى وعيسى بالتصديق بالتوراة ورسالة موسى ، وليس عندهم تنزيل وكتاب يكفر به الذين يؤمنون بالتوراة دون ما وراءه.
التاسعة: دعوة أهل الكتاب إلى معرفة وجوه تصديق القرآن للتوراة والإنجيل ودلالاتها.
العاشرة: أخبرت الآية عن قولين:
الأول: إبتدأت الآية بقوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] بإرادة المبني للمجهول وتعيين طرف الذين يقال لهم من غير ذكر طرف القائل.
الثاني: توجه الأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [قُلْ] في خطاب تكليفي للمسلمين عموماً في الإحتجاج وهو واجب كفائي وليس عينياً.
قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ]( )، وهو مدرسة في المعرفة الإلهية لكل المسلمين، ومناسبة للتفقه والعلم بأحوال الأمم السالفة، وليكون من المضامين القدسية للآية أعلاه من سورة آل عمران تعاون المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنتفاعهم جميعاً من دعوة فريق منهم إلى الصلاح والإصلاح.
وهل من صلة بين القولين في الآية أي (قيل) و(قل) الجواب نعم، فالأول دعوة للإسلام، والثاني إحتجاج وذم لتخلف فريق من الناس عن الإسلام وتذكير بما فعلوه مع الأنبياء الآخرين للإشارة بأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة للتوبة والإنابة.
الحادية عشرة: بيان حقيقة وهي أن الإيمان مانع من التعدي على الأنبياء وظلمهم، وأن المدار في الإيمان ليس بالتصديق ببعض الكتب السماوية المنزلة،بل بالتحلي بآداب وسنن الإيمان , ومنها التصديق بالأنبياء وعدم التعدي عليهم.
إفاضات الآية
تبين الآية وجهاً من وجوه حفظ التنزيل بوجود أمة تدعو للتصديق به، وفيه بالدلالة التضمنية حث على الإيمان به، وهو مقدمة للجهاد في سبيل الله، وتثبيت معالم كلامه في الأرض، وليس في الدعوة إلى الإيمان إلا الخير المحض، والنفع العام للناس في النشأتين , وتترشح عن إيمان أي فرد من الناس بركات خاصة وعامة، فجاءت دعوة المسلمين للإيمان لقطف هذه البركات وجلب المصلحة ودفع المفسدة.
وتدل الآية على وجود تنزيل قبل القرآن وأن العلقة والصلة بينهما هي التصديق الذاتي، إذ يصدق القرآن نفسه بأنه تنزيل من الله، ويشهد بسماوية آياته وأحكامه بوجود تنزيل سابق له , ومنه على نحو التعيين التوراة التي أنزلت على موسى، والإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام.
وتدل الآية والدعوة إلى الإيمان على صدق إيمان المسلمين من وجوه:
الأول : التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن عليه.
الثاني : الدعوة إلى الإيمان بالتنزيل مطلقاً، إذ أن قوله تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ] يحتمل مسألتين:
الأولى : لزوم التصديق بالقرآن.
الثانية : إرادة التصديق بالكتب السماوية على نحو العموم المجموعي، ولا تعارض بين هذين الأمرين.
ومن أسراره أن القول (آمنوا بما أنزل الله) متوجه إلى الناس جميعاً ليكون بين مصاديقه عموم وخصوص مطلق، فهو متوجه إلى أهل الكتاب للتصديق بالقرآن، وإلى عموم الناس للتصديق بنزول القرآن والتوراة والإنجيل، وتلك آية في اللفظ القرآني وما له من السعة والمندوحة في المعنى والمقاصد السامية.
الثالث : المسلمون جنود لله عز وجل، إذ أن دعوتهم للتصديق بالقرآن إمتثال لأمر الله، ولأمره للناس بالإيمان، قال تعالى[وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]( ).
الرابع : حب المسلمين لأهل الكتاب، وإرادة تغشي الإيمان للناس والتعاضد بين المسلمين وأهل الكتاب لإجتثاث الكفر من الأرض، قال تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ]( ).
الآية لطف
تبين الآية موضوعية الإيمان في حياة الناس وأثره في المجتمعات والحاجة له في الدنيا والآخرة، وظاهر الآية عدم إنحصار الحث على الإيمان بأهل الكتاب بل يتوجه إلى الكفار أيضاً من باب الأولوية.
ويكون إسلام جماعات من الكفار حجة لأن أهل الكتاب أقرب إلى الإيمان والتصديق بالقرآن لما بين أيديهم من التوراة والإنجيل، وعندما يردون على الدعوة إلى الإيمان بالإكتفاء بالإيمان بالتوراة يأتي الإحتجاج عليهم من عند الله تعالى ومن نبيه الكريم لدفع الجهالة والغرر، ومنع الإصرار على الباطل والإعراض عن الحق.
وهذا الإحتجاج لطف بأهل الكتاب والناس جميعاً،وهو مدرسة في المعرفة والهداية لذا جاء بصيغة الضمير الغائب بفردي الخطاب (وإذا قيل لهم) لتكون على وجوه:
الأول: إنه عبرة وموعظة للناس جميعاً، في أجيالهم المتعاقبة.
الثاني: إنه مدرسة لإقتباس الدروس والمسائل الكلامية بما ينفع في تثبيت دعائم الإسلام.
الثالث: فيه توكيد حقيقة نزول القرآن من عند الله تعالى.
الرابع: بعث الناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن مصاديق قوله تعالى لبني إسرائيل[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، توجه الدعوة لهم بالإيمان، ولا تختص هذه الدعوة بالزمن الماضي بل تشمل الزمن المضارع والمستقبل , وفيه تجديد للدعوة إلى الإسلام، وبرزخ دون غلبة مفاهيم الكفر على الناس وفي المجتمعات.
ومن منافع هذه البرزخية أنها مقدمة لتلقي الناس المعجزات بالقبول، وعدم الإعراض عنها، ومن خصائص المعجزة أنها تجذب الحواس وتطرد الغفلة والجهالة عن الناس، فتفضل الله عز وجل بتقريب الناس إليها، وجعلهم يتدبرون في معانيها ودلالاتها.
الصلة بين أول وآخر الآية
لقد تكررت في الآية السابقة مادة (كفر) في ذم للذين جحدوا بنزول القرآن من عند الله، وتكررت في هذه الآية مادة (آمن) في حجة عليهم لتخلفهم عن الإيمان، وإعراضهم عن الدعوة التي تأتيهم من المسلمين بالإيمان، مع أن القرآن، نفسه يدعوهم إلى الإيمان بآياته وتلاوتها والإستماع إليها.
ومن منافع قراءة المسلمين لآيات القرآن أنها تجديد للإنذار الموجه للكفار، وتنبيه لوظائفهم العبادية، وإخبار بإن القرآن جاء للناس جميعاً وليس لفريق منهم الظن بإستثنائه من الدعوة إلى الإسلام , قال تعالى[إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ]( ).
وفي الآية حذف والتقدير (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله على محمد من القرآن والأحكام والسنن) لقد قيد إيمانهم بما أنزل عليهم في إشارة الى عدم إقرارهم بما أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه ليس منهم، وهذا التقييد من العناد، فليس للعباد الإختيار على نحو التفصيل والتبعيض في الإيمان.
ومن إعجاز الآية أنها لم تقف عند إنكارهم التنزيل، بل أخبرت عن إتحاد المضامين القدسية للكتب السماوية وأن الكتاب اللاحق مصدق للسابق ليكون هذا التصديق مناسبة للتصديق بالسابق واللاحق، وقد فاز المسلمون بهذه المرتبة العالية من الفقاهة والإيمان، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وإنتقلت الآية إلى توجيه اللوم والذم للذين أصروا على الجحود بالنبوة، لأنهم قاموا بقتل شطر من الأنبياء مع أن الإيمان بالله واقية من التعدي على الأنبياء مطلقاً لذا أختتمت الآية بقوله تعالى (إن كنتم مؤمنين).
فالإيمان بالتوراة يعني الإيمان بالله عز وجل مما يملي إكرام الأنبياء الذين بعثهم الله عز وجل لدعوة الناس لعبادته، والتوراة لا تأمر الا بعبادة الله وتصديق الأنبياء.
التفسير الذاتي
بعد أن جاءت الآية السابقة بذم الذين يجحدون بالقرآن مع أنه كتاب نازل من عند الله، وبيان علة هذا الجحود،وهو إمتناعهم عن التصديق بما ينزل على غيرهم، وإستحقاقهم لغضب الله عز وجل بسبب هذا الجحود ولأن فضل الله عز وجل بيده سبحانه ويؤتيه من يشاء، وهو أعلم بالمصالح والمفاسد، تضمنت هذه الآية الشواهد على توجه الدعوة لهم من جديد للتصديق بالقرآن، ليكون من منافعها وغاياتها التدبر وإمكان التدارك والإنابة.
وليس من أمة بعث فيها الله عدداً كثيراً من الأنبياء مثل بني إسرائيل،وأراد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يصدقه قومه والناس، ويكون في أمن وسلامة على حياته بينهم، ويخرج المؤمنون للجهاد تحت لواء الإسلام ويتخذوا من الصبر سلاحاً وعوناً في أداء العبادات وتحمل الشدائد، وتلقي المصائب، قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
وتتعلق الآية بذات الموضوع الذي جاءت به الآيتان السابقتان، وفيها ذم للجحود بنزول القرآن مع إقامة الحجة على نزوله من عند الله، وجاءت ضمن سياق تعداد النعم الإلهية على بني إسرائيل، ولزوم مقابلتها بالشكر.
ومن مصاديق الشكر لله على نعمة التنزيل الإيمان به، خصوصاً القرآن والذي يتصف بأمور:
الأول: هو الكتاب الناسخ للشرائع.
الثاني: إنه الكتاب الجامع للأحكام والسنن.
الثالث: عصمة القرآن من التحريف، وعجز يد التغيير عن الوصول إليه قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، والذكر من أسماء القرآن.
الرابع: القرآن هو الكتاب السماوي الباقي إلى يوم القيامة.
الخامس: في القرآن ما يحتاجه بنو إسرائيل والناس جميعاً، فهم يصدون عنه مع أنه رحمة بهم، وفيه ما يحتاجون في أمور الدين والدنيا.
السادس: القرآن كلام الله، نزل به جبرائيل وحياً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا بد من التصديق به.
السابع: الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن.
الثامن: تضمن القرآن لأمهات العلوم، وأهليته لإستنباط أحكام المسائل الإبتلائية المستحدثة.
ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجود من يدعو للتصديق بالقرآن، وهذه الدعوة من مصاديق قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( )، ومن الإعجاز أن الفعل الإيماني المتحد ينطبق على أفراد هذه الآية، فأمر المسلم لغيره بالتصديق بالقرآن مصداق من:
الأول: الدعوة إلى الخير، لأن الإيمان بنزول القرآن خير محض، وهو مقدمة ووسيلة لفعل الخيرات والعبادات، ونيل المنزلة الرفيعة في الآخرة.
الثاني: إنه من الأمر بالمعروف والصلاح، وحث على الهداية والرشاد، خصوصاً وأن التصديق بالتنزيل واجب نفسي وغيري، فلابد من أداء العبادات التي جاء بها القرآن وبقصد القربة.
الثالث: حث المسلم لغير المسلم على التصديق بنزول القرآن من عند الله والنهي عن البقاء على الكفر والجحود، ووسيلة لنجاة الناس في النشأتين، لأن التصديق بالقرآن برزخ من فعل السيئات والمعاصي.
وجاءت مادة(قول) في هذه على أربعة وجوه:
الأول: توجه القول إلى بني إسرائيل بالتصديق بالقرآن، وجاء بصيغة المبني للمجهول[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ].
ومن الإعجاز في هذه الصيغة العموم والتعدد في الذين يقولون هذا القول، مع إتحاد الجهة الموضوعي والتعدد في الأفراد لقوله تعالى[لَهُمْ].
ولا يعني هذا التقييد حصر هذا القول والخطاب بهم، فإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، بدليل أن جماعات وطوائف من الناس آمنوا عند تلقيهم الدعوة إلى الإسلام والتصديق بالقرآن.
فمن إعجاز القرآن أنه لم يقل(قالوا نؤمن بما أنزل علينا إذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله) بل قدمت الآية القول والدعوة لهم للإسلام، وفيه شاهد على بلوغ الدعوة لهم وإكرامهم، وعدم الإعراض عنهم، وأن الدعوة للإسلام لم تكن بالسيف والإكراه، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
فمن الحكمة والموعظة الدعوة للتصديق بالقرآن تنزيلاً من عند الله، والذي يؤمن بالله لابد وأن يصدّق بكلامه.
الثاني : قول فريق من بني إسرائيل، وردهم على دعوتهم للإيمان من التصديق بآيات القرآن والوحي النازل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولكن حينما أنزل الله عليهم المن والسلوى طعاماً سماوياً يومياً لم يكتفوا به وسألوا نبات الأرض فقالوا لموسى عليه السلام [لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ]( )، فإستجاب الله عز وجل لسؤالهم مع تركهم الأولى.
وجاء نزول القرآن نعمة وحاجة للناس جميعاً، فأراد هؤلاء البقاء على ما عندهم من الخصوصية والنعمة مع أن القرآن أعظم النعم في باب التنزيل، والتصديق به واجب على كل المكلفين.
ومن إعجاز الآية أنها لم تقل (ونكفر بما وراءه) بل ذكرت كفرهم وجحودهم بالقرآن على نحو الجملة الخبرية فيقبلون من التنزيل ما نزل على موسى عليه السلام، ولم يرد لفظ (وراءه)والكفر به إلا في هذه الآية الكريمة، والمراد من وراء في المقام (بعد) الزمانية.
الثالث: الأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة فعل الأمر(قل لم) والتقدير: قل يا محمد.
الرابع : قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسؤاله لهم عن قتل الأنبياء الذين بعثهم الله عز وجل ، مع أنهم على شريعة التوراة ويتفرع عن الإيمان بالتوراة عدم التعدي على الأنبياء وعدم إيذائهم والإضرار بهم.
ومن إعجاز الآية أنها كما ذكرت أربع أقوال فأنه ذكرت ذات العدد أسماءً للقرآن وهي:
الأول: ما أنزل الله.
الثاني: الكتاب الذي نزل وراء التوراة.
الثالث: هو الحق.
الرابع: مصدّق لما مع بني إسرائيل من الكتاب.
وجاءت الآية بإرشاد المسلمين إلى كيفية الإحتجاج على اليهود في إصرارهم على عدم الإيمان بما جاء بعد التوراة بأنهم لم يتقيدوا بالأوامر والنواهي التي في التوراة، وأنهم قاموا بقتل الأنبياء الذين دعوهم بجد وإجتهاد إلى إتباع التوراة والعمل بأحكامها.
وفيه شاهد على حاجتهم لبعثة النبي من غيرهم، وما فيه من النفع والمصلحة لهم وللناس وإلى يوم القيامة.
وورد لفظ (تقتلون) خمس مرات في القرآن، مع التباين في موضوعها على أقسام:
الأول: إثنان في قتل للأنبياء، وقد تقدم قوله تعالى[فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ]( ).
الثاني: توجيه اللوم على شيوع القتل بينهم بعد أخذ الميثاق عليهم وحصول القتل الذاتي , قال تعالى[ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ]( ).
الثالث: ما جاء خطاباً للمسلمين في قوله تعالى[فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا]( ).
فبعد أن إنهزم الأحزاب في معركة الخندق، جاء جبرائيل وأمر النبي محمداً بالمسير إلى بني قريظة لأنهم ظاهروا وأعانوا المشركين , وزينوا لهم الهجوم على المسلمين، فقتل عدداً من كبرائهم وإستولى المسلمون على دورهم قال تعالى[وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ] ( ).
(وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقالت الأنصار في ذلك، فقال: إنكم في منازلكم. وقال عمر: أما تخمس كما خمست يوم بدر.؟
قال لا إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس، قال: رضينا بما صنع الله ورسوله) ( )، وهل فيه إنتقام منهم لقتل الأنبياء كما في الآية محل البحث، الجواب لا، من جهات:
الأولى: جاءت الآية فضلاً على بني إسرائيل، ودعوة لهم للتصديق بنزول القرآن من عند الله.
الثانية: الإسلام يجّب ما قبله.
الثالثة: الآية إنتقام ورد على التعدي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام.
الرابعة: جاء قتل الأنبياء في أجيال سابقة ، لذا جاءت الآية بقيد (من قبل).
وتوجيه الخطاب للموجود منهم أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يعني تحمل آثام الذين إرتكبوا ذات القتل، قال تعالى[وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] .
ولكن الخطاب زجر عن إتباع النهج الخاطئ الذي إرتكبه بعض الأسلاف، ودعوة لذمه ليكون هذا الذم مقدمة للتدبر في المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولبيان إكرام الله عز وجل لأنبيائه وتوثيق ما لاقوه من الأذى في سبيل الله.
وجاءت الآية للإخبار عما يستحقه الذين قتلوا الأنبياء من العذاب الأليم يوم القيامة.
الرابع: إحتجاج مؤمن آل فرعون على إرادة فرعون والملأ من قومه قتل موسى عليه السلام , وفي التنزيل[أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ]( ).
وقيل أن القائل من بني إسرائيل، والأول أقرب بلحاظ القرائن المقالية، وإسمه سمعان أو حبيب، فلقد سخّر الله عز وجل من آل فرعون من ينتصر لموسى، ويدافع عنه ويخّوف آل فرعون من بطش الله مع ذكر الحجة والإقرار ضمناً بنبوته وما جاء به من عند الله، وكان الأنبياء والنبوة السبب في نجاة بني إسرائيل من فرعون، وعبورهم في الأرض اليابسة وسط البحر، ونزول المن والسلوى عليهم من السماء، قال تعالى[وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى]( ).
وجاءت قصة البقرة في القرآن( ) شاهداً على زجرهم عن قتل بعضهم بعضاً، فكيف بمن يتجرأ ويتعدى ويقوم بقتل الأنبياء، مع صدور التسبيب وفعل القتل عن المتعدد والجماعة منهم، لظاهر صيغة الجمع في الآية الكريمة.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: الآيةوثيقة تؤكد تبليغ الدعوة الإسلامية إلى أهل الكتاب على نحو القضية الشخصية، بأن يطلب منهم جماعات وأفراداً دخول الإسلام ويقال لهم آمنوا بنزول القرآن من عند الله، ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيأتي ردهم حجة عليهم.
إذ أنهم لا ينكرون نزول القرآن من عند الله، وإنما لهم إنكاره وهو الذي يتضمن الإعجاز الذاتي والغيري، والشواهد التي تدل على صدق التنزيل من ذات ومضامين الآيات، ومن المصاديق الخارجية لها.
ولم يقولوا في ردهم نؤمن بما أنزل علينا أو (ينزل علينا) بل ذكروا النزول بالفعل المبني للمجهول للدلالة بإن نزول التوراة من عند الله، وللإخبار عن عدم مجئ نبي بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين بني إسرائيل أو من غيرهم لأن الفعل (أنزل) يدل على حصول النزول في الزمن الماضي.
الثانية: جاءت الآية بصيغة الشرط والبناء للمجهول [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] مما يدل على إستدامة توجه هذا القول والدعوة لهم، وعدم إنحصار مضامينه بأيام التنزيل والبعثة النبوية الشريفة.
وهل يحتمل عدم صدور القول بالكفر بما نزل من بعده من عندهم، ومجئ الآية على نحو الجملة الخبرية [وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ] رجوعهم عن هذا الكفر، وإقرارهم بنزول القرآن من عند الله، ووجود برزخ بين الكفر والإيمان، وهو التصديق بنزول القرآن من عند الله مع بقائهم على ملتهم وعدم دخولهم الإسلام، الجواب أنه لا برزخ بين الإيمان والكفر، ولم يجعل القرآن مثل هذا البرزخ بينهما.
الثالثة: جاءت الآية بصيغة الجمع في الدعوة والرد الصادر منهم بقوله تعالى [قَالُوا نُؤْمِنُ] ويحتمل القائل هنا وجوهاً:
الأول: الرؤساء.
الثاني: العامة منهم.
الثالث: تفويض العامة للرؤساء بالإجابة نيابة عنهم.
الرابع: الإطلاق والعموم.
الخامس : إنه قول شائع وغالب عندهم
وتتداخل هذه الوجوه، لأصالة الإطلاق وعموم التكليف، وفيه حجة إضافية، وشاهد على بلوغ الدعوة الإسلامية لهم جميعاً، وعدم إنحصارها بفريق دون آخر.
الرابعة: لم تقف الآية عند(ويكفرون بما وراءه) بل قالت(وهو الحق) لإتمام الحجة عليهم , ولأنه شاهد على نزول القرآن من عند الله بعد التوراة والإنجيل، ولكن الآية جاءت بحجتين إضافيتين هما:
الأولى: جاء الألف واللام في (الحق) لبيان حقيقة وهي أن القرآن هو الحق والخالي من التحريف والذي يتضمن الأحكام والسنن الشرعية إلى يوم القيامة والإخبار عن صدق نزول التوراة والإنجيل من عند الله.
الثانية: لو قالت الآية (هو الحق) ولم تضف صفة أخرى للقرآن لقال بعضهم أن غيره من التنزيل ليس بحق , ولكن جاءت الصفة الثانية للقرآن، وهي تصديقه لنزول التوراة والإنجيل من عند الله.
الخامسة: جاءت الآية بأربع صفات للقرآن هي:
الأول: ما أنزل الله.
الثاني: ماوراء التوراة والإنجيل، بارادة زمان نزول القرآن وأنه متأخر زماناً على نزولها، وهذا التأخر حجة عليهم، لأن الإيمان بهما توطئة ومقدمة للإيمان والتصديق بنزول القرآن من عند الله.
الثالث: القرآن هو الحق، وأن ما يخبر به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي , إنما هو تنزيل من عند الله , قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الرابع: تصديق القرآن للتوراة والإنجيل.
السادسة: إنتقال الآية إلى موضوع آخر في الإحتجاج وهو قتل الأنبياء، وفيه توكيد على عظيم منزلتهم بين الناس، ولزوم إكرامهم، وجاء القرآن لإكرامهم وذكر جهادهم وما لاقوه في سبيل الله ممن يقول بالإيمان والتصديق بالتنزيل، وفيه شاهد على وجوب الملازمة بين الإيمان بالتنزيل وإكرام الأنبياء عامة، أي أن التصديق بنزول الكتاب على أحد الأنبياء يقتضي إكرام الأنبياء جميعاً، وعدم التعدي عليهم.
السابعة: الآية شاهد بإن قتل الأنبياء لم يكن لأمور شخصية أو دنيوية، لأنهم قتلوا بما هم أنبياء يوحى اليهم من عند الله.
الثامنة: في الآية دعوة للمسلمين للحذر والحيطة من باب الأولوية القطعية، فان الذي يقتل الأنبياء قد يسبب الضرر للمسلمين , قال تعالى[إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
التاسعة: جاءت الآية بصيغة الجمع في القاتل والمقتول , أما من طرق القاتل فان الآية تحتمل وجوهاً:
الأول: كل نبي قتله شخص واحد منهم، فتصدق صيغة الجمع بلحاظ تعدد الذين قاموا بالقتل.
الثاني: إشتراك جماعة في قتل كل نبي.
الثالث : من الأنبياء من قتله شخص واحد، ومنهم من قتله جماعة.
الرابع : إجتماع التسبيب والمباشرة، فمن الناس من حرّض على قتل النبي أو أغرى القاتل بالفعل.
والصحيح هو الثاني، إذ أن قتل النبي يأتي على مراتب من تكذيبه وإيذائه والتعاون على التخلص منه وتحريض بعضهم بعضاً على قتله، ورضا اللاحق بفعل السابق.
العاشرة: التنافي والتعارض بين الإيمان وبين قتل الأنبياء، فالأمة المؤمنة لا تتعدى على الأنبياء، وفيه دعوة إلى بني إسرائيل والناس جميعاً إلى إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى.
التفسير
قوله تعالى [ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ]
الضمير في [لَهُمْ] يعود الى أهل الجحود، أي ان الآية الكريمة تبين وجهاً آخر من الإنحراف العقائدي الذي كانوا عليه وهو هنا ليس بسيطاً، فهو مركب من الاقرار بأن الكتب السماوية جميعاً من عند الله تعالى وارادة تبعيض الإيمان بها.
والآية في موضوعها أعم من أن تنحصر بملة مخصوصة تشمل كل الملل التي تخلفت وتتخلف عن الإسلام إستكباراً أو تقصيراً، خصوصاً وأن موضوع الآية بما يأتي من الزمان بدلالة (إذا) وهو ظرف لما يستقبل من الزمان، بخلاف (إذ) وهو ظرف لما مضى.
وقد تستعمل (إذا) لما مضي من الزمان بحسب القرينة الصارفة.
وقد تأتي للحال وتستعمل للإستمرار وهو الظاهر في المقام، أي أن حالهم وردهم دائماً هو الإعراض والجفاء وتبعيض الإيمان.
فإستعمال (إذا) هنا إخبار عن سجية ثابتة عندهم كي يتصرف معهم المسلمون وفق ما يناسب الحال وأحكام الشريعة مع الإحتراز واليقظة من المكر والكيد.
ومن إعجاز القرآن ورود (اذا) في المقام فهو تحد لهم لما يدل عليه من الإستمرار والتجدد والتكرار، أي أن القرآن يخبر بانهم لن يغيروا هذا الجواب والقول، كما انه مناسبة للإيمان.
و(ما) في قوله تعالى [ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ] إسمية وهي معرفة أي يصح مجيء الامرأة الموصول (الذي) محلها، وهي هنا تفيد العموم المجموعي والإستغراقي أي آمنوا بكل ما انزل الله سواء كان بالنسبة للكتب أو بالنسبة لآيات وموضوعات الكتاب الواحد، فالإيمان بلحاظ الكتب يعني الإيمان بالتوراة والإنجيل والقرآن، وبكل ما جاء به كل كتاب منها اذ لا دليل على الحصر والتقييد , فالأصل الإطلاق وهو المتبادر والظاهر، ليكون هذا الإيمان حجة وإرشاداً فهذا القول والدعوة للإيمان رحمة لهم.
وتقترن بهذه الدعوة الحجة والدليل، ففيها إخبار لهم ولغيرهم بان التنزيل أعم من أن ينحصر بالذي عندهم، وانه من الكلي المركب الذي لا يمكن تفكيكه وأخذ بعضه دون بعض لصدق امرأة التنزيل على كل كتاب منزل وكل آية منه، قال تعالى في الثناء على المسلمين[الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ]( ).
وهل القائل هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو المسلمون أو غيرهم، الجواب : هو المعنى الأعم للإبهام وعدم التقييد في (قيل)، فهذه الدعوة جزء من رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والآية بالنسبة للمسلمين من أهم مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الجدال بالحكمة والموعظة الحسنة والإحتجاج وإقامة البينة، وفيها هداية لغير المسلمين لما يرون من الحق، وهي عون لهم على إدراك سبب تخلفهم عن الإسلام، إذ تتوجه لهم أسباب الهداية كأفراد مكلفين وفيه بعث لعامتهم للسؤال عن علة التخلف عن الإيمان بالقرآن مع ما فيه من الإعجاز والآيات البينات.
وفي الآية مسائل:
الأولى: لغة العموم في (قيل) وعدم إنحصارها بجماعة مخصوصة.
الثانية : صيغة المستقبل في الآية التي تتضمن تجدد القول والدعوة الى الإسلام وما فيها من الحجة.
الثالثة: جاء القول بصيغة القطع ولغة الأمر(آمنوا) الذي يحمل على الوجوب لمدلول ذات الصيغة ومناسبة الموضوع والحكم.
الرابعة: جاءت الآية بلغة الجمع (آمنوا) أي أن الخطاب موجه لأهل الكتاب وللمتحد والمتعدد منهم.
الخامسة: تعدد القول، وتوكيد موضوعيته لأنه جاء بصيغة المجهول (قيل) وموضوعه يبين تمام حجيته، إذ أنه يتكون من أمرين:
الأول: الإيمان.
الثاني: التصديق بما أنزل الله.
فالأمر لايحتاج إلى البحث والإستقصاء في مصدر القول لأنه حق وصدق ومع هذا فان الرسول الأكرم والمؤمنين في دعوة دائبة لهم للإسلام، كما ان القرآن يدعوهم، والفرائض تجذبهم.
وتدل الآية على وجود أمة مؤمنة تدعوا إلى الله عز وجل لما في القول من الإقرار بنزول القرآن من عند الله، وتعيين موضوع الإيمان وهو التنزيل أي نزول القرآن، لتكون الدعوة إلى الإيمان متعددة بلحاظ عموم الناس وتشمل:
الأول : الدعوة إلى الإيمان بالله عز وجل.
الثاني : الإقرار بأن الله عز وجل أنزل الكتاب السماوي.
الثالث : تعيين التنزيل والكتاب الذي أنزل الله عز وجل.
الرابع : الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه النبي الذي أنزل الله عليه القرآن.
وفي الآية حذف وتقديره بلحاظ الآيتين السابقتين على وجوه:
الأول : وإ ذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله مصدقاً لما معكم.
الثاني : آمنوا بما أنزل الله الذي كنتم تستفتحون به.
الثالث : وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
الرابع : آمنوا بما أنزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
الخامس : آمنوا بما أنزل الله وللكافرين عذاب مهين.
السادس : وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله بئسما إشتروا به أنفسهم.
السابع : جاءهم ما عرفوا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله.
الثامن : آمنوا بما أنزل الله فلعنة الله على الكافرين.
وتقدير الحذف بلحاظ الآيات الثلاثة التالية من وجوه:
الأول : وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله ولقد جاءكم موسى بالبينات.
الثاني : ولقد جاءكم موسى بالبينات آمنوا بما أنزل الله.
الثالث : آمنوا بما أنزل الله أتخذتم العجل.
الرابع : وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله وأنتم ظالمون) بلحاظ أن الإيمان توبة وإقلاع عن ظلم النفس.
الخامس : وإذا أخذنا ميثاقكم آمنوا بما أنزل الله.
السادس : ورفعنا فوقكم الطور آمنوا بما أنزل الله.
السابع : خذوا ما آتيناكم بقوة آمنوا بما أنزل الله.
الثامن : إسمعوا آمنوا بما أنزل الله
التاسع : وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا سمعنا وعصينا.
العاشر : آمنوا بما أنزل الله إن كنتم مؤمنين.
قوله تعالى [قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا]
أي إعترفوا بما دعوا للإيمان به وهو القرآن، ولم يكذبوه ولم ينكروه ولكنهم أصروا على حصر وتقييد الإيمان بما أنزل على أنبيائهم، وما جاء به الأنبياء من بعد التوراة مما يثبت شريعة موسى عليه السلام ويعمل بها قبل نسخها، وفي الآية إقرار ضمني بأن الكتب المنزلة أعم مما في أيديهم، وأن ملاك الإيمان عندهم هو محل النزول وموضعه، فما نزل عليهم قالوا بتصديقه والإيمان به .
وتبين الآية رفعة المسلمين وعلو شأنهم لإيمانهم بجميع ما أنزل الله وعدم تكذيب بعضه، وإقرارهم بنبوة الأنبياء كافة، ولو كانوا يؤمنون بما أنزل عليهم فانه تضمن البشارة بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم التصديق به، قال تعالى [ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
وجاء جوابهم بصيغة الجمع مما يدل على تواطئهم عليه.
ولم تنزل التوراة إلا على موسى عليه السلام، وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال : كان عمر آدم ألف سنة . قال ابن عباس: وبين آدم وبين نوح ألف سنة، وبين نوح وإبراهيم ألف سنة، وبين إبراهيم وبين موسى سبعمائة سنة، وبين موسى وعيسى ألف وخمسمائة سنة، وبين عيسى ونبينا ستمائة سنة)( ).
وورد عن قتادة: كَانَ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ)( ).
ومع هذا قالوا أنها أنزلت عليهم، وفيه آية في نسبة أتباع الأنبياء التنزيل وكأنه نزل عليهم، وقد ورد ذات المعنى بخصوص المسلمين ونزول القرآن، قال تعالى[قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ]( )، ومن إعجاز القرآن أنه تصدى لهذا القول في الآية قبل السابقة بالإخبار عن مجيء القرآن لبني إسرائيل أيضاً بقوله تعالى[وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( ).
لطرد النفرة من نفوسهم من نزول كتاب غير التوراة، ولبعث الغبطة في نفوسهم بأنهم عاصروا تنزيل كتاب سماوي جديد يدل في ذاته وآياته على صدق نزوله من عند الله.
وفي جوابهم [قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا] وجوه:
الأول : التمييز والفصل بينهم وبين المشركين.
الثاني : إعلان حقيقة وهي نيلهم مرتبة الإيمان بالتنزيل.
الثالث : الشهادة على صدق نزول التوراة من عند الله.
الرابع : ترك موضوع التحريف وطروه على الكتب السماوية السابقة.
الخامس : الثبات على التصديق بالتوراة والعمل بأحكامها وسننها لمجيء الآية بصيغة الفعل المضارع (نؤمن) وكأنهم يعلنون عدم الإستعداد لقبول أحكام تتعارض معها، ليكون الخطاب الإلهي لبني إسرائيل[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، مجئ القرآن بما يوافق التوراة وعدم حملهم على ما يخالف العمل بمضاينها.
وتدل الآية ولغة الجدل والمحاورة فيها على عدم إرادة بني إسرائيل محاربة الإسلام، وقتال المسلمين ولم يغضبوا من دعوتهم إلى الإيمان، بل تكلموا بلغة إعتذار وأظهروا التمسك بما إنزل الله عليهم دون غيره، فجاء الإحتجاج والرد باللوم من الله .
بلحاظ أن الإيمان بالتوراة أو أي كتاب سماوي نزل من الله دعوة للتصديق بالأنبياء وعدم التعدي عليهم.
قوله تعالى [ وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَ هُ ]
الجحود هنا خاص بالتنزيل اللاحق الذي هو مصدق للتوراة وأن الإيمان به لا يحتاج إلى مؤونة زائدة، فالآية تفضح التناقض الذي عليه بعض الأمم السابقة، إذ أن الإيمان بالأنبياء والكتب السماوية على مرتبة واحدة ولا يقبل التجزئة والتبعيض لوحدة الحكم في شموله للجميع في باب الإعتقاد، ويسمى في الاصطلاح بالعموم المجموعي، أي أن الايمان بهم مع تعددهم بسيط غير مركبٍ.
والآية تكّذب إدعاء بأن شريعتهم غير منسوخة، ومع عدم تعرض الآية للنسخ بين الشرائع فانها تنفي التعارض في موضوع الإيمان بها مجتمعة.
وتدل بالدلالة الالتزامية على عظيم ثواب المسلمين لإستجابتهم لأمر الله وإعلانهم الإيمان بالرسالة والعمل بأحكام القرآن.
فقد إنتقلت الآية من كلامهم وجوابهم إلى إخبار الباري عز وجل عن صفتهم بصيغة الذم والإحتجاج والتأديب العام.
وفي قوله تعالى[وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ] وجهان:
الأول : إنه من الإلتفات وفق المصطلح البلاغي وتقدير الآية: ونكفر بما وراءه).
الثاني : إنه وصف من الله لهم بصيغة الذم.
والصحيح هو الثاني، وإن كان الأول في طوله , وفيه آية إعجازية فهم لم يعلنوا كفرهم بالقرآن ، ولكنهم إكتفوا بالإخبار عن حصر إيمانهم بالتوراة وهذا الإيمان طريق للتصديق بنزول القرآن.
ومعنى (وراء) خلف، الا انه قد يأتي بمعنى أمام وهو من الأضداد، ولكن المعنى الثاني وهو (أمام) يعرف بالقرائن، فهل الآية جاءت على نحو الإطلاق لتشمل الكتب السماوية التي نزلت قبل التوراة، مما لم ينزل عليهم، أم انها تتعلق بما أنزل بعد التوراة وهو القرآن ومن قبله الإنجيل، أم تنحصر بالقرآن لأن الإنجيل ايضاً نزل على بني اسرائيل، والقرآن هو موضوع الدعوة وعليه مدار الايمان.
الأقوى هو الأخير لقرينة نعته بأنه مصدق لما معهم، وان كلمة وراء تعني خلف وبعد، بلحاظ التقدم الزماني لنزول التوراة ولم ينحصر موضوع الآية ببني اسرائيل وبذكر التوراة فيشمل غيرهم كالنصارى، ووقوفهم عند الإنجيل وعدم الإيمان بالقرآن الذي جاء بعده ومصدقاً له إلا أنه لا يمنع من التفصيل في الخطاب .
فيكون المراد من الذي يكفرون به على وجهين:
الأول: الإحتجاج على الذين جحِدوا بنزول الإنجيل والقرآن.
الثاني: الإحتجاج على عدم التصديق بالقرآن وهذا التفصيل نوع إعجاز لما فيه من الشمول وأصالة الإطلاق وتعدد مصاديق الحجة في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : الذم للذين يكفرون بالتوراة والإنجيل والقرآن,
وتبين الآية أن قوانين العبودية تقتضي التصديق بكل ما أنزل الله.
وتصديق القرآن للتوراة يحتمل وجوهاً:
الأول : إنه جاء بذات الآيات والأحكام التي جاءت بها التوراة.
الثاني : الإخبار بان التوراة نازلة من عند الله تعالى وأنها صدق وحق، قال تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ]( ).
الثالث : التصديق الإجمالي والضمني بالتوراة والإنجيل.
الرابع : التصديق العملي بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار أن التوراة بشّرت بها ودعت لها.
والمراد من الآية هو الوجه الثاني والثالث والرابع منها، ويدل عليه وصفه بأنه الحق وأن تصديقه لما في أيديهم صفة ثابتة له، ومن تجليات الحق.
وإذا كانت نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصدقة لما قبلها فانها مصدَّقة بالقرآن وللقرآن، لذا ترى القرآن حجة عقلية أي انه مصداق لنبوته صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الدوام والإستدامة والتجدد، بالإضافة إلى الآيات الحسية التي ظهرت على يدي الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم .
قوله تعالى [وهُوَ الْحَقُّ ]
المراد منه القرآن وهو كلام الله والعدل والحكم والقول الفصل، ولا يمنع من العموم وشمول الآية للإنجيل في الإحتجاج على بني اسرائيل بخصوص نزول كتاب بعد التوراة.
وفي الآية توبيخ وإستنكار لكفرانهم وصدودهم عن القرآن لاسيما وان الباطل والتحريف لم يطرأ عليه، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
والآية دعوة لهم للايمان ورفع للوهم وطرد للشك، فهي تخفيف ورحمة وترغيب وحجة.
وفيها تحد لهم فالإخبار بان القرآن حق يعني تخلفهم عن الإيمان بالحق، وان الآية لم تكتف بالإحتجاج بل تدل بالدلالة الإلتزامية على ذمهم وكأنها تقول لهم لا عبرة بايمانكم ما دمتم لا تؤمنون بالحق.
ونعت القرآن بالحق آية من الله تعالى وتشريف للقرآن، وله عناوين إعتبارية إضافية بلحاظ المقام، أي أنه تعالى وصفه ب(الحق) عند التحدي والإحتجاج وصد أهل الكتاب عنه والقرآن ينزل من الحق، وهو حق، وموضوعه حق، والتصديق به حق، وسلامته من التحريف حق.
والآية شهادة سماوية على نزول القرآن من عند الله، وانه صدق وعدل، وفيها ترغيب بالإيمان به، وضرورة العمل بأحكامه، كما أنها تدل بالدلالة التضمنية على عصمة القرآن عن التغيير والتبديل، لأن صبغة الحق صفة لجميع سوره وآياته.
والضمير (هو) عائد للقرآن والألف واللام في (الحق) على وجوه إعجازية منها:
الأول: توكيد نزول القرآن من عند الله.
الثاني: الإشارة إلى إجتماع الأحكام الشرعية فيه.
الثالث: القرآن كاف للناس في عباداتهم ومعاملاتهم.
الرابع: إنقطاع التحريف بنزول القرآن، ومجئ الدعوة لعرض ما في أيدي أهل الكتاب من الكتب السابقة على القرآن وما يخالفه لا يؤخذ به، مع إدراك فلسفة النسخ بين الكتب السماوية , وأن النسخ في الأحكام ليس من الإختلاف والتحريف .
قال تعالى في الثناء على القرآن[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ]( )، أي أن القرآن أمين على الكتب السماوية السابقة، وشاهد على نزولها من عند الله، والفيصل في معرفة التنزيل وتمييزه عما طرأ عليها من التحريف , وهو طريق السلامة والنجاة في النشأتين.
قوله تعالى [مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ]
تنفي الآية إحتمال التعارض أو التباين بين التوراة والقرآن، وتقطع بأن الإيمان بالتوراة وبالكتب المنزلة على الأنبياء متحدة أو متعددة يؤدي بالضرورة إلى التسليم بنزول القرآن والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن مواضيع تصديق القرآن للتوراة والكتب السماوية الاخرى مبادئ التوحيد، والنبوة وحتمية عالم الآخرة وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فكان القرآن تصديقاً لما ورد في التوراة والإنجيل من بشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومنها وجوب الصلاة والصوم والزكاة , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، ومنها سنن القضاء وما فيها من الرجم وقود القاتل عن عمد .
والآية موعظة ودعوة للتدبر بالقرآن , وفضح لمن يجحد به , وبيان لكذب دعواهم بالإيمان بما أنزل عليهم لاستحالة التفكيك بين الإيمان بما أنزل عليهم وبين الإيمان بالقرآن.
وفي الآية توكيد على حقيقة عقائدية، وهي عدم التعارض بين القرآن والتوراة والإنجيل وأنه مصدق لهما ويمتاز بأنه الحق الذي يجب أن يتبع، وهذا التصديق ليس الصفة الوحيدة للقرآن , فمن صفات القرآن انه مصدق للتوراة والإنجيل كما تدل عليه آياته ولكن موضوعاته وأحكامه أعم.
وتتضمن الآية التحدي بحقيقة يجب أن تتجلى لأهل الكتاب والناس جميعاً وهي تصديق القرآن للتوراة والإنجيل، ولا بد أن هذا التصديق يتعلق بمضامين التنزيل القدسية وأسراره والخصائص التي تصاحبه في كل زمان وتنبأ على أن كل فرد منها تنزيل من عند الله.
ومن معاني إشتقاق النبي أنه أنبأ وأخبر عن الله عز وجل، وهـو فعـيل بمــعنى فاعـل، وجــاء النبي محمــد صـلى الله عليه وآله وســلم بكـلام الله عـز وجل الذي جعله الله[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
قوله تعالى [ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ ]
في الآية إحتجاج ومجادلة فيما يقولون من إتصافهم بالإيمان , إذ أن المؤمن بالتوراة ونزولها من عند الله لا يقتل الأنبياء، والإيمان بها وحدها يكفي لمعرفة عظيم منزلة الأنبياء وضرورة إكرامهم وعدم إيذائهم، وممن قُتل من الأنبياء يحيى وزكريا عليهما السلام، والخطاب لمن موجود منهم أيام التنزيل مع أن القتل والتعدي حصل من بعض ألإسلاف.
والآية إنذار وبيان للإحتجاج على اللاحق بما فعل السابق بلحاظ عدم ذمه , ودعوة للمخاطبين للتبرأ من الفعل المذموم بالتعدي على الأنبياء مطلقاً.
وورود الفعل [ تَقْتُلُونَ ] بصيغة المضارع والإستقبال يدل على ان المقصود به الزمن الماضي بلحاظ القرينة الزمانية الظاهرة قوله تعالى [ مِنْ قَبْلُ ]، ومن أسرار صيغة المضارع الدلالة على حضور المصيبة وبقاء الجناية لهولها وعظمها.
ولعل فيها إشارة إلى محاولاتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خلال النظر لجنس ووحدة الموضوع في الفاعل والقابل، إذ أن قتل الأنبياء في الزمن الماضي وليس من نبي زمان نزول القرآن إلا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وبينه وبين عيسى عليه السلام فترة من الرسل وزمان إمتد نحو ستمائة سنة .
وفي الآية بعث للنفرة في نفوس الناس جميعاً وتحذير من التعدي على الأنبياء سواء كان سجية ذات منهجية أو العرض الملازم أو الزائل ليكون من خصائص(عصر القرآن) تهذيب الأقوال والأفعال وإجتناب التعدي على الأنبياء مطلقاً، وتتلجى في القرآن أبهى معاني إكرامهم والثناء عليهم، ومنه ذكر صفحات مشرقة من جهادهم، قال تعالى[أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
لذا يمكن القول بأن الآية الكريمة إعجاز وإنذار وتحذير من السعي لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقد حدث في السنة الرابعة من الهجرة إذ همّ نفر بالغدر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما جاء إلى بني النضير يستعينهم في دية قتيلين، قالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت.
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من أصحابه فجاءه الوحي بما ارادوا فقام وخرج راجعاً الى المدينة( ).
فالآية تحذير وتنبيه للمسلمين ودعوة لحفظ شخص النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وإخبار عن جهاده وما يتعرض له من المخاطر والأذى ويمكن النظر إليه من باب الأولوية .
وفي السنة السابعة وبعد معركة خيبر اهدت امرأة اسمها زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم شاة مصلية وسألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل لها الذراع فاكثرت فيه السم بالإضافة الى سم الشاة كلها.
واختلف في أكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الله عليه وآله وسلم منها، فمنهم من قال انه لاك منها مضغة ولم يسغها، ومنهم من قال انه لم يأكل منها وقال لأصحابه امسكوا فانها مسمومة، ودعا المرأة واعترفت بما فعلت .
(عن ابن عباس أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة، فأرسل إليها فقال: “ما حملك على ما صنعت” قالت: أحببت أو أردت إن كنت نبيا فإن الله سيطلعك عليه، وإن لم تكن نبيا أريح الناس منك)( ).
وقال المسلمون : ألا تقتلها؟ قال : لا.
وسواء لاك منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضغة أو لا فان الخبر شاهد فعلي على فضل الله في سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونجاته من الكيد للعصمة والحصانة الإلهية، وليس لإمتناعهم وكفهم عن المكر , قال تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
ذُكرت هذه الآية مثلاً في البديع في باب التعبير عن الماضي بالمستقبل وأنه مجاز لفظي، ومعناه (فلم قتلتم)، ولكن مجيء الفعل مضارعاً يدل على الحدوث والتجدد، وفيه تحذير إضافي للمسلمين، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ]( ).
وفي الآية تذكير بقانون ثابت وهو إذا كان الإيمان ملكة وحالاً سابقة فإنه برزخ دون التعدي والظلم مطلقاً، وقتل الأنبياء أشد وجوه الظلم، وموضوع الآية وصيغة زمان الفعل أعم من البلاغة لتعدد دلالات اللفظ القرآني.
قوله تعالى [إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ]
تبين الآية الكريمة ان التصديق بالتوراة يعني بظنهم إستحقاق صفة الإيمان وإنكار ما جاء بعدها من الكتب السماوية وإكتفوا بالتوراة وأن بها بلغوا بالتسليم والإقرار مرتبة الإيمان، وهذه كبرى ترتبت عليها دعاوى كثيرة منها عدم الخلود في النار، وانهم لن يعذبوا الا أياما قليلة، وان الدار الآخرة خالصة لهم، وأنهم أحباء الله، وبالتوراة وما فيها من الأحكام قالوا بإلإستغناء عن الكتب السماوية الأخرى .
وفي التنزيل [وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا]( ).
ولم يقف القرآن في بيان الحجة عند الحكم بعدم جواز تبعيض الإيمان والكفر ببعض الكتب السماوية، فجاء بالدعوة إلى الإسلام وإلى الجامع وهو كلمة التوحيد، قال تعالى[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا]( ).
ودلت الآية في مفهومها على أن المؤمنين لا يقتلون أنبياء الله لأنهم رأس الإيمان وقادة الأمم إلى سبيل الهداية والصلاح، والكفر وعدم الإيمان أعم من قتل الأنبياء , وبينهما عموم وخصوص مطلق فكل من قتل نبياً ليس بمؤمن دون العكس، وتدل الآية على أن موسى عاش بين بني إسرائيل وتلقوا منه الآيات وأنهم لم يقتلوه , وكذا الأخبار في هارون وحب بني إسرائيل له .
لقد جاءت الآية الكريمة بلغة في الإحتجاج تتضمن قضايا لا يمكن إنكارها وتسمى في علم المنطق بالمشهورات الحقيقية المطلقة، وهي بديهيات لا يستطيع أحد التشكيك بها.
ومن إعجاز القرآن أن خطابه انحلالي موضوعاً وحكماً، فهذه الآية دعوة للتبرأ من قتل الأنبياء، والأشخاص الذين قاموا به.
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “اشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبياً أو رجلا أمر بمعروف أو نهى عن منكر”( ).
والآية لا تطمس حق الذين أنكروا قتل الأنبياء، وبقوا على إيمانهم قال تعالى[وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ]( ).
قوله تعالى [ وَلَقَدْ جَاءَ كُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ] الآية 92.
الإعراب
ولقد: الواو إستئنافية، وقيل ان اللام جواب قسم محذوف وتقدم القول فيه، والظاهر أنها لام الإبتداء والتي تسمى لام التوكيد لأنه معناها، و كما تدخل على المبتدأ فإنها تدخل على الماضي المقترن بحرف التحقيق (قد).
جاءكم: فعل ماضِ، والضمير مفعول به مقدم، موسى: فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
بالبينات: جار ومجرور.
ثم إتخذتم: ثم: حرف عطف يفيد الترتيب والتراخي.
إتخذتم: فعل وفاعل، العجل: مفعول به منصوب بالفتحة.
من بعده: من: حرف جر، بعد: امرأة مجرور بالكسرة، وهو مضاف والضمير “الهاء” مضاف إليه.
وأنتم ظالمون: الواو حالية، أنتم مبتدأ، ظالمون : خبره، والجملة في محل نصب على الحال.
والبينات: جمع بينة: وهي الدلالة الجلية الواضحة سواء كان الوضوح عقليا أو حسيا، (وقال بعضهم البينة: الدلالة الفاصلة بين القضية الصادقة والكاذبة وقال بعضهم البينة ما ظهر برهانه في الطبع والعلم والعقل بحيث لا مندوحة عن شهود وجوده( ).
في سياق الآيات
تبين الآيات قبائح الذين جحدوا بالنبوة لتذكر التوحيد وبعثة موسى بالمعجزات الباهرات.
وتبين الآية النعمة العظيمة على بني إسرائيل ببعثة موسى عليه السلام ومجيئه بالآيات البينات التي تدل على صدق نبوته، ولزوم إتباعه، ويتجلى إتباع الأنبياء بالإقرار بالتوحيد وطاعة الله تعالى ورسوله.
وجاءت هذه الآيات بذكر نبوة موسى ومجيئها بالآيات لبني إسرائيل، قال تعالى [وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( )، وقال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ]( )،بالإضافة إلى ذكر موسى عليه السلام فيما تقدم من سورة البقرة وفي مواضيع المواعدة والإستسقاء، وحث موسى عليه السلام قومه على لزوم الإيمان، وموضوع ذبح البقرة.
وورد ذكر موسى في القرآن مائة وستاً وثلاثين مرة ليكون أكثر الأنبياء ذكراً فيه، وهو آية أخرى وحجة على بني إسرائيل، وشاهد على تصديق القرآن للتوراة خصوصاً وأن هذه الكثرة تتضمن كثرة الموضوعات والدلالات لكل مرة يذكر فيها موسى في القرآن.
وإبتدأت الآية السابقة بصيغة الغائب [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] ثم أختتمت الآية بصيغة المخاطب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) وبواسطة المسلمين جميعاً ، لمخاطبة الذين جحدوا بنبوته.
وجاءت هذه الآية بصيغة الخطاب أيضاً , وتحتمل وجهين:
الأول: إنها من الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يخاطب بني إسرائيل، بقرينة حرف العطف الواو في أول الآية.
الثاني: إنها خطاب من عند الله لبني إسرائيل، ولا تعارض بين الوجهين، وفيه تعدد للحجة على بني إسرائيل، والعطف الموجود فيها إشارة إلى تعدد النعم الإلهية على بني إسرائيل.
ومن إعجاز الآية إنعدام التعارض بين الوجهين، وكون الآية خطاباً من الله لبني إسرائيل لا يمنع من إتخاذ المسلمين له برهاناً وخطاباً أيضاً، بالإضافة إلى تلاوتهم للآية التي تتضمن مقاصد سامية وهي:
الأول : حكاية الخطاب الإلهي.
الثاني : إقامة الحجة وتنمية ملكة الإحتجاج.
الثالث : تجديد الدعوة إلى التوحيد والنبوة، قال تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا]( ).
الرابع : توكيد تصديق القرآن لنزول التوراة من عند الله.
وجاءت الآية التالية بذكر الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل ورفع الطور فوقهم، وجاء عطف الآية بصيغة الخطاب (وإذ أخذنا) مما يدل على عطفها على الآية السابقة، التي هي أيضاً خطاب من الله تعالى لبني إسرائيل.
وهذه الآية من مصاديق تصديق القرآن للتوراة , كما ورد وصفه في الآية السابقة [مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ] ويدل الجمع بين الآيتين على توارث بني إسرائيل لأخبار الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام من عند الله، وجاءت آيات أخرى من القرآن بذكر وبيان تلك الآيات.
وفي الصلة بين هذه الآية والآية التالية مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : ولقد جاءكم موسى بالبينات إذا أخذنا ميثاقكم.
الثاني : ولقد جاءكم موسى بالبينات ورفعنا فوقكم الطور.
الثالث : ولقد جاءكم موسى بالبينات خذوا ما آتيناكم بقوة.
الرابع : ولقد جاءكم موسى بالبينات قل بئسما يأمركم به إيمانكم.
الثانية : ورد إسم(العجل) عشر مرات في القرآن منها أربعة في سورة البقرة في موضوع واحد، منها هذه الآية والآية التالية.
وذكر القرآن قصة ضيافة إبراهيم للملائكة في آيتين، قال تعالى[فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ]( )، أي أنه لم يتأخر ولم يبطئ في تقديم الطعام عجلاً مشوياً ناضجاً وإكرام الضيف، لظنه بأنهم من البشر.
الثالثة : بينما أختتمت آية البحث(وأنتم ظالمون) أختتمت الآية التالية بالجملة الشرطية(إن كنتم مؤمنين) ويفيد الجمع بينهما بيان التنافي بين الظلم والإيمان، وهذا البيان دعوة للصلاح والهداية، وتثبيت لمعالم الإيمان التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إعجاز الآية
جاء القرآن بتذكير بني إسرائيل بالبينات والنعم التي رزقهم الله فإن موسى عليه السلام دعاهم لإستحضار ذكرها، قال تعالى[وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ]( ).
ومن منافع ذكر نعم الله الإقرار بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وكأن قول موسى عليه السلام أعلاه توطئة ومقدمة لتلقي نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق.
ونسبت الآية مجئ الآيات إلى موسى عليه السلام، لكون التسليم بمجيئها من عند الله أمراً ثابتاً عند المليين والناس جميعاً وأن الآيات البينات لا يقدر عليها إلا الله تعالى وأن النبي واسطة لنقلها إلى الناس ليؤمنوا بالله تعالى .
ولم يفتتن بنو إسرائيل بموسى عليه السلام مع أنه جاء بالآيات البينات لعلمهم بأنها من عند الله كما ورد في موضوع البقرة [ادْعُ لَنَا رَبَّكَ]( ) بينما إفتتن بنو إسرائيل بالعجل، وهو ليس بآية، لذا جاءت هذه الآية في ذمهم خصوصاً وأن مجئ موسى عليه السلام بالآيات البينات مناسبة للإحتراز من الإفتتان وعبادة الأوثان، وأسباب الإغواء.
ولم تبين الآية جهة مجئ هذه البينات، مما يدل على لغة التسليم عند اليهود والمسلمين بقانون في الإرادة التكوينية وهو أن البينات لاتأتي إلا من الله عز وجل، وفيه حرب على فرعون وقومه الذين نسبوا موسى عليه السلام إلى السحر، وحرب على المشركين من قريش، لنسبتهم السحر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي التنزيل[إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل القرآن حجة ملازمة للوجود الإنساني ، قال تعالى[َلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، ومنه في المقام الإخبار عن قانون كلي وهو أن موسى عليه السلام نبي رسول جاء لبني إسرائيل بالبينات والبراهين القاطعة، وهو من عمومات قوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
وتدل صيغة الخطاب (جاءكم موسى بالبينات) بأن البينات والدلالات الباهرة التي جاء بها موسى عليه السلام لا تزال عند بني إسرائيل سواء كانت آيات التنزيل بذاتها أو الآيات الحسية بأخبارها، ومنها البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , لتكون آية البحث على وجوه:
الأول : التذكير بأن موسى نبي رسول.
الثاني : مجيء موسى عليه السلام بالمعجزات الباهرات.
الثالث : إستدامة وجود بني إسرائيل وإتصال زمانهم إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضل الله في نبوة موسى ومعجزاته كما في نجاتهم من فرعون بعبور البحر، ونجاتهم من الهلاك بالمفازة بنزول المن والسلوى وهو من عمومات قوله تعالى[اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( ).
الرابع : الدلالة والهداية إلى معجزات موسى عليه السلام لتوثيقها, والقرآن هو الإمام في هذا الباب، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الخامس : حث المسلمين لإستقراء المسائل والمواعظ من قصص القرآن.
السادس : سيرة ومنهاج الأنبياء وما رزقهم الله من الفيوضات موضوع ومدرسة لتفقه المسلمين في الدين.
السابع : معرفة وسائط وسبل الصلة بين المسلمين وأهل الكتاب.
الثامن : طرد مفاهيم الضلالة من النفوس , وترغيب الناس بسنن النبوة، قال تعالى[وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ]( ).
وتتجلى في القرآن مدرسة التذكير بالنعم والوقائع والشواهد , وهو أعم من إستحضار الموضوع أو الحكم , ففيه الموعظة والبشارة والإنذار، وتضمنت الآية أموراً:
الأول : الإخبار عن نبوة موسى عليه السلام، ولزوم التصديق بها.
الثاني : التذكير بالمعجزات التي جاء بها موسى لبني إسرائيل وبيان عظيم منزلته , قال تعالى[يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي]( ).
الثالث : الدعوة إلى التوحيد، والتدبر في الآيات.
الرابع : نصرة النبي موسى عليه السلام، والذب عنه، إذ لاقى الأذى من فرعون وقومه وفي التنزيل[ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا]( ).
لتبين الآية قانوناً ووجهاً من وجوه تصديق القرآن للكتب السابقة وهو لغة التأكيد لما تضمنته، فجاء القرآن ببيان جهاد موسى عليه السلام في نفي صبغة السحر عنه، وجاء القرآن لتأكيد مجيئه بالمعجزات الباهرات، وفيه نكتة وهي أن زمان فرعون إنتشر فيه السحر وخداع الناس به كما في قوله تعالى[يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى]( )، أما زمان القرآن فليس فيه كبير إفتتان بالسحر.
فجاءت الآية بذكر دلالات نبوة موسى عليه السلام وفيه نكتة وهي أن زمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زمان المعجزات، وأن الناس جعلوا المدار في معرفة الحقائق ومنازل الأنبياء بالمعجزات لأنها تترى على رسول الله، وصارت تتناقله الركبان، وأصبح حديث ربات الحجال، وهو من الشواهد على كون القرآن معجزة عقلية جاءت حجة ورحمة لأهل زمانها.
ويمكن أن نسمي هذه الآية الكريمة آية (جاءكم موسى) وورد لفظ(جاءكم) ستاً وعشرين مرة في القرآن، وهي مدرسة في الإنذار والتبليغ وجهاد الأنبياء، وهذه هي الآية الوحيدة بلفظ(جاءكم موسى).
الآية سلاح
في الآية توثيق لتوالي الآيات والدلالات القاهرة على بني إسرائيل، وفيها بالدلالة الإلتزامية مدح للمسلمين لعدم خروجهم عن أحكام القرآن وسنن التوحيد، وفيها ذم وخزي لمن يعبد غير الله أو يشرك به, وهي سلاح بيد المسلمين وباب تحريض وترغيب لإنقاذ الناس ودعوتهم إلى الإسلام .
وتبعث الآية على التوبة والتدارك والإنابة , وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من الآيات مناسبة لجعل نعمة القرآن آية متجددة.
لقد جعل الله عز وجل كل آية من القرآن مادة للإحتجاج وبياناً للأحكام، وفضحاً للباطل وزاجراً للتعدي , والآية من الشواهد القرآنية على تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة، ومعجزات الأنبياء السابقين .
وتدعو الآية بني إسرائيل إلى إستحضار معجزات موسى عليه السلام القاهرة كالعصا، وفلق البحر، واليد البيضاء، وتظليل الغمام، ونزول المن والسلوى، وفتق الجبل، وتكليم الله عز وجل موسى من السحاب، قال تعالى[سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ]( ).
والآية أعلاه خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفي السؤال الأمور به دلالات وغايات منها:
الأولى : تأكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : التذكير بإخبار موسى عليه السلام عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحققها بإشراقة البعثة النبوية على الأرض ونزول القرآن.
الثالثة : إزدياد إيمان المسلمين، وتجلي آيات الطمأنينة واليقين.
الرابعة : لزوم إعانة يهود المدينة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوصية بعضهم بعضاً بإجتناب نصرة المشركين في قتالهم للمسلمين، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يستلف ويستعير من يهود المدينة المال والسلاح.
الخامسة : دعوة بني إسرائيل لتعاهد السنن التي جاء بها موسى عليه السلام.
السادسة : بيان الإتحاد الموضوعي بين البينات التي التي جاء بها موسى عليه السلام والتي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, مع التباين الرتبي في الزمان والجهة التي تتوجه لها الرسالة إذ أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عامة ومطلقة زمانياً ومكانياً، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
السابعة : تسخير البينات التي جاء بها موسى عليه السلام لإثبات صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يمكن أن نسميه نصرة البينات السابقة للبينات اللاحقة وكذا العكس.
لقد كان المسلمون الأوائل في حال خوف في مكة ممن يحيط بهم من المشركين وأرباب الكفر، فكانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأهل بيته إلى المدينة المنورة، ولم تنفك منهم حال الإستضعاف حال وصولهم لها، ولكن الله عز وجل أنعم عليهم بالتحول إلى مراتب الغلبة والمنعة في السنة الثانية من الهجرة في معركة بدر بقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
فجاءت آية البحث مصداقاً لحال المنعة والعز التي بلغها المسلمون بأن إنتقلت الآيات إلى الإحتجاج والجدال مع أهل الكتاب، وفيه نكتة من وجوه:
الأول : تجاوز حال الخوف من المشركين.
الثاني : خيبة وهزيمة الكفار في ميادين القتال، قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الثالث : التباين بين أهل الكتاب من اليهود والنصارى وبين الكفار في صيغ المعاملة وكيفية المواجهة، إذ تتقوم المعاملة مع أهل الكتاب بالإحتجاج والتذكير بنعمة الرسالة، والجامع المشترك بينهم وبين المسلمين هو معجزات النبوة، وإتباع النبي والتصديق به.
مفهوم الآية
الآية بيان لعظيم فضل الله تعالى ببعثة الأنبياء، ومناسبة لإستحضار الآيات التي جاء بها موسى كرسول نبي من عند الله تعالى، وفيها منع من إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي دليل على سماوية القرآن وتوثيقه للنبوات السابقة.
والتوبيخ الوارد في القرآن باتخاذ العجل تنبيه للمسلمين بالإحتراز من الشرك والضلالة واتباع الهوى، وتحذير من الظلم في باب العقيدة.
وفي الآية مسائل:
الأولى: مجئ الآيات البينات لبني إسرائيل وإطلاعهم عليها ومعرفتهم بها على نحو القطع واليقين.
الثانية: عدم إنحصار العلم بالآيات بفريق من بني إسرائيل دون فريق آخر منهم.
الثالثة: ماجاء لبني إسرائيل من الآيات متعدد قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ] ( )، ومن الآيات أن الآية الواحدة قد تتكرر في وقوعها كما في آية العصا وجريان الماء من الحجر، بالإضافة إلى نعمة السحاب ونزول المن والسلوى من السماء كل يوم، قال تعالى[وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى]( ).
والمن ثمر كالشهد والعسل في طعمه، وكالصمغ في هيئته، والسلوى طائر أبيض كالسماني.
الرابعة: من إعجاز القرآن تذكيره بني إسرائيل بنبوة موسى عليه السلام، وما رزقه الله من الآيات لتكون شاهداً ودليلاً على الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة: توجيه اللوم لإتخاذ شطر منهم العجل بعد مجئ موسى بالآيات والبراهين الدالة على لزوم عبادة الله تعالى.
السادسة: النعت بالظلم لإتخاذهم العجل من وجوه:
الأول: قيام الحجة عليهم بالآيات البينات التي جاء بها موسى عليه السلام.
الثاني: إتخاذ العجل فعل قبيح شرعاً وعقلاً.
الثالث: صحيح أن (ثم) تفيد التراخي إلا أن الآيات والنصوص تدل على إتخاذ العجل مع وجود هارون بين ظهرانيهم، وغياب موسى للمواعدة.
السابعة: أختتمت الآية بالإخبار عن الظلم, وفيه وجهان:
الأول: أنهم ظالمون بإتخاذ العجل.
الثاني: المعنى الأعم وأنهم كانوا ظالمين قبل إتخاذ العجل، فالظلم منهم سابق في أوانه وموضوعه لإتخاذهم العجل.
والصحيح هو الأول فالمراد أنهم ظالمون حال تلبس الذات بالمبدأ حال النسبة كما في باب المشتق في علم الأصول.
الثامنة: الظلم في إتخاذ العجل على وجوه:
الأول: ظلمهم لأنفسهم وهو على شعبتين:
الأولى: في الدنيا بالجحود بالنعم.
الثانية: في الآخرة بإستحقاق العذاب الأليم.
الثاني: ظلمهم بإيذائهم موسى وهارون عليهما السلام، وفي التنزيل حكاية عن هارون حينما لاقى موسى عليه السلام على إتخاذهم العجل [إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي]( ).
الثالث: ظلمهم للأجيال المتعاقبة من بعدهم.
الرابع: من خصائص مجئ (ثم) في الآية بعد ذكر مجئ موسى عليه السلام بالآيات البينات الإشارة إلى صيرورة إتخاذهم العجل سبباً في حجب آيات ونعم عديدة عنهم.
الآية لطف
من أسماء الله تعالى (المنّان) وهو الذي يذّكر عباده بالنعم التي أنعم بها عليهم، ليكون التذكير مناسبة لشكرهم لله تعالى عليها، والتوجه له تعالى بالدعاء والمسألة لنيل النعم الإضافية.
وجاءت الآية بالتذكير بنبوة موسى عليه السلام،وهي نعمة وخير محض، فالنبي يدعو الناس إلى عبادة الله، قال تعالى[خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
ومن خصائص نبوة موسى أنه جاء بالآيات البينات والمعجزات التي إنتفع منها بنو إسرائيل في حياتهم اليومية، وبقائهم كأمة، ونجاتهم من آل فرعون وما كانوا يلاقونه منهم من العذاب الأليم.
فجاءت هذه الآية للتذكير باللطف الإلهي ببني إسرائيل، وهذا التذكير لطف أيضاً جاء بواسطة آيات القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان عظيم النفع لنبوته على بني إسرائيل والناس جميعاً, وفيها.
وتدعو الآية بالدلالة الإلتزامية إلى عدم كتمان الآيات قال تعالى[إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنْ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ]( ).
وتتضمن الآية ذم الذين إتخذوا العجل, ولزوم التبرأ من فعلهم, وتحث على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت لتوكيد الآيات البينات التي جاء بها الأنبياء ولمحاربة الكفر والجحود والشرك الظاهر والخفي.
لم تقل الآية(وإتخذتم العجل) بل جاءت بحرف العطف(ثم) الذي يفيد لتراخي وأنهم أثناء تعاقب المعجزات على يد موسى عليه السلام وهم بين ظهرانيهم لم يتخذوا العجل، لذا فإن فتنة العجل لم تستمر طويلاً بل سرعان ما تلاشت، وشعر أصحابها بالندامة، ودعاهم موسى عليه السلام للإستغفار والتوبة.
لقد الله البينات والآيات مصاحبة لكل نبي , وهو من أعظم النعم على أهل الأرض , قال تعالى[لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ]( ).
إفاضات الآية
يريد الله عز وجل من عباده الشكر على النعم التي تفضل بها عليهم أوان الإنتفاع منها، وبعد إنقضاء أيامها، والجيل الذي صاحب تلك النعم وبداياتها.
وجاءت هذه الآية للإخبار عن حقيقة وهي أن آيات موسى عليه السلام كانت نعمة وفضلاً على جميع أجيال بني إسرائيل المتعاقبة وإن كان أوانها أيام بعثته عليه السلام، لتكون هذه الآيات مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبشارة بها، وتوكيداً لحقيقة النبوة وبعث الله تعالى الأنبياء للناس.
وفي الآية دعوة إلى بني إسرائيل والناس للتدبر فيما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات البينات الحسية والعقلية، إذ أن نعمة القرآن نعمة عقلية لا ينحصر الإنتفاع منها بزمان أو جيل أو أمة دون أخرى، وهو نعمة حاضرة في كل زمان، قال تعالى في وصف القرآن[اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ]( ).
وهذه الآية عون للناس لدخول الإسلام بالتذكير بالنعم الإلهية في آخر الكتب السماوية ليكون شاهداً على جهاد المسلمين، وصبرهم في مرضاة الله ومحاربتهم لأفكار الضلالة والكفر.
وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، إذ أنهم يقومون بوظائف جهادية منها:
الأول: التذكير بالنعم الإلهية.
الثاني: الحث على الصلاح والإستقامة.
الثالث: الدعوة إلى بذل الوسع في طاعة الله إستعداداً لعالم الحساب يوم القيامة.
الرابع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس: مجيء القرآن بدعوة بني إسرائيل لتعاهد الميثاق الذي أخذه الله عليهم , قال تعالى[وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بذكر عظيم فضل الله عز وجل على بني إسرائيل بإن أرسل لهم موسى عليه السلام بالبينات، ولم تذكر الآية الكريمة الآيات الباهرات التي جاء بها موسى عليه السلام على نحو التفصيل، بل ذكرتها إجمالاً [ِبالْبَيِّنَاتِ] وقد جاءت آيات أخرى بتعدادها، ويمكن تقسيم الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام تقسيماً إستقرائياً إلى قسمين:
القسم الأول: الآيات والمعجزات التي جاءته وهو في مصر وقبل عبور البحر ومنها:
الأول: آية العصا وأخذها لعصي السحرة، وفضحهم وإبطال كيدهم ومكر فرعون , وما فيه من دعوتهم للإسلام.
الثاني: إستجابة الله عز وجل لموسى عليه السلام بجعل هارون نبياً , قال تعالى[وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي]( ).
الثالث: الإبتلاء والقحط الذي أصاب آل فرعون عسى أن يعتبروا ويتعظوا ويؤمنوا بالله ويصدقوا بنبوة موسى عليه السلام , قال تعالى [وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ ] ( ).
الرابع: حلول البركات على عموم أهل مصر بوجود موسى عليه السلام، ولتكون آية وحجة في نبوته , قال تعالى [فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ]( ).
الخامس: إصابة آل فرعون بالإبتلاءات المتتالية كما في قوله تعالى [ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ] ( ).
السادس: توجه آل فرعون إلى موسى عليه السلام وسؤاله أن يدعو الله ليكشف عنهم , وعاهدوه على الإيمان بنبوته وإستجابة الله عز وجل له، قال تعالى [فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ]( ).
القسم الثاني: المعجزات عند عبور البحر وما بعده، وفيه وجوه:
الأول: خروج بني إسرائيل من مصر، ومن الآيات أن خروجهم لم يكن عن إجتهاد من موسى أو منهم بل هو آية من عند الله، قال تعالى[وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي]( )، وفيه تأكيد لنجاة بني إسرائيل بالعبور سالمين.
الثاني: غرق آل فرعون عند إصرارهم على اللحوق ببني إسرائيل.
الثالث: إستسقاء موسى عليه السلام، وتدفق الماء من الحجر بضرب موسى عليه السلام به بعصاه.
الرابع: تلقي موسى التوراة من عند الله.
الخامس: هداية بني إسرائيل بنبوة موسى عليه السلام وهارون ونزول التوراة.
السادس: نزول المن والسلوى على بني إسرائيل، وهو نعمة يومية متجددة.
السابع: كثرة الآيات والمعجزات التي جاءت لموسى عليه السلام، ومنها آيات الحكم والفصل بين الناس بالمعجزة كأحياء مقتول بجزء من بقرة ليخبر عن قاتله , قال تعالى[فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا]( ).
ويمكن تقسيم الآيات والمعجزات التي جاء بها موسى عليه السلام تقسيماً إستقرائياً آخر الى قسمين:
الأول: المعجزات التي جاء بها موسى عليه السلام إلى فرعون , قال تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ] ( ).
الثاني: الآيات الباهرات والمعجزات التي جاء بها موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل، ويؤكدها أول هذه الآية [وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ].
ومن إعجاز النبوة وتمام الحجة على الناس التداخل بين هذه الآيات في ترتب الأثر، فالآيات التي جاء بها موسى عليه السلام لآل فرعون حجة على بني إسرائيل أيضاً، وشاهد على صدق نبوته، وبينات تدعوهم لتقوى الله، وتلقي نبوة محمد وما جاء به من المعجزات بالتصديق والقبول.
وتبين الآية إتخاذ العجل بعد الإقرار بتلك البينات، ورؤية الآيات، ودعوة للتدارك.
ترى لماذا جاء النعت في الآية بالظلم، الجواب من وجوه:
الأول: لزوم إتباع موسى عليه السلام، وعدم إتخاذ العجل من بعده.
الثاني: البينات التي جاء بها موسى عليه السلام كافية لبقائهم على دين التوحيد حتى في حال غيابه، وذهابه إلى الطور.
الثالث: حث هارون النبي لهم للبقاء على عهد موسى عليه السلام، وعدم الإلتفات إلى فتنة السامري، قال تعالى[وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ]( ).
الرابع: ذم إتباع السامري بالباطل، وبما يخالف ما جاء به موسى من البينات.
وجاءت الآية للذكرى والإعتبار من فعل وخطأ من قوم من السلف، وهي دعوة للمبادرة بتصديق نبوة محمد صـلى الله عليه وآله وسلم، وإتباعه بعبادة الله عـز وجل وعـدم إتخاذ الشــريك، وهذه المبادرة من الشــكر لله عز وجل على نعمة بعثته , وهي خير محض وفضل من الله, قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
التفسير الذاتي
هذه هي الآية الثالثة في نظم آيات البقرة التي تذكر قصة العجل، وفيه مسائل:
الأولى: يفيد التكرار التهويل والتعظيم، ففي تكرار قصة العجل بيان لأهميتها، وما لها من الدلالات وما فيها من المواعظ والعبر، وتوكيد الحاجة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن.
الثانية: التباين والتعدد في مضامين الآيات بلحاظ الجهتية، من وجوه:
الأول: آية تذكر أوان المعصية.
الثاني: آية تتضمن العفو الإلهي.
الثالث: آية تؤكد قبح المعصية وفعلها.
الثالثة: إقتباس الدروس، وإستنباط المسائل من نظم الآيات، والتذكير بآيات الله، ومقابلتها بالجحود، إذ أن إتيان موسى البينات نعمة عظيمة على بني إسرائيل يجب تلقيها بالشكر لله بالثبات في منازل التوحيد، وإجتناب الشرك، ليكون تفضيلهم على الأمم الأخرى مناسبة لدعوة الناس للإقتداء بهم في العبادة ونبذ الشرك والضلالة.
وقيل المراد من الذلة ما أصاب أبناءهم وهم بنو قريظة والنضير من القتل والجلاء من ديارهم، ولكن الوعيد جاء لخصوص الذي عبدوا العجل، ومجئ (السين) في سينالهم لإفادة قرب نزول العذاب بمن إتخذ العجل دون غيرهم، قال تعالى[وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( )، فلم تقل الآية (سوف ينالهم) لما تدل عليه سوف من الأجل البعيد.
وقد يكون قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ]( )، موجه إلى موسى عليه السلام ووعيده لبني إسرائيل، وأنه متقدم زماناً على أوان توبة بني إسرائيل، وأمر موسى عليه السلام لهم بالتوبة بقتل أنفسهم وقوله تعالى [ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ]( ).
وبعد لغة الذم بصيغة الغائب في الآيات الأربعة السابقة، عادت هذه الآية إلى لغة الخطاب لبني إسرائيل، وتضمنت أموراً:
الأول: نعمة نزول البينات على موسى عليه السلام، ومن إعجاز الآية أنها وردت بلفظ (جاءكم) وفيه مسائل:
الأولى: المقصود بالبينات ما خص الله به بني إسرائيل بواسطة رسوله موسى عليه السلام.
الثانية: أن موسى عليه السلام رسول من عند الله عز وجل.
الثالثة: جاء موسى عليه السلام بالمعجزات والدلالات الباهرات من عند الله عز وجل.
الرابعة: إقامة الحجة على بني إسرائيل ببعثة موسى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الخامسة: دعوة اليهود إلى الإنتفاع الأمثل من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من المعجزات، وعدم التفريط بالدعوة إلى الإسلام وما فيها من أسباب النجاة في الدنيا والآخرة.
الثاني: إتخاذ بني إسرائيل العجل بعد غياب موسى عليه السلام، وذهابه إلى الطور لتلقي التوراة .
ويفيد الجمع بين الأمرين أعلاه الإثم الذي تتضمنه عبادة العجل لم تأت من حال ضياع وجهل أو عن إكراه أو غرر، بل جاءت في زمان تتعاقب فيه البراهين والحجج التي تدل على وجوب عبادة الله وعدم الشرك به.
فمن فضل الله عز وجل على بني إسرائيل وتفضيلهم على أهل زمانهم أنهم لم يتركوا وشأنهم في إختيار العقيدة، بل جاءهم رسول من الخمسة أولي العزم، ومعه البينات والمعجزات لتكون برزخاً دون الشرك والضلالة, قال تعالى[وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ]( ).
الثالث : النعت بالظلم خاص بتلبس الذات بالمبدأ حال النسبة أي خصوص أوان إتخاذ العجل، وإفتتانهم به، وما يدل عليه مفهومه من الإعراض عن البينات والمعجزات التي جاء بها مع أنها من فضل الله عليهم، وجاءت لهم ولهدايتهم وصلاحهم.
وفي الآية ذم للظلم والظالمين، ودعوة للتنزه من الظلم، وهو من خصائص القرآن وما فيه من معاني الرحمة ببني إسرائيل وغيرهم بأن يدعوهم للرشاد والصلاح , ويحثهم على التدبر بالآيات والبينات التي جاء بها جلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من وجوه تفضيله على الأنبياء السابقين، بأن تتخذ قصص الأنبياء والأمم السابقة موعظة وعبرة.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: بيان النعم العظيمة التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل.
الثانية: بعثة موسى عليه السلام نعمة تفرعت عنها نعم عديدة على بني إسرائيل.
الثالثة: الدعوة إلى التدبر في الآيات والبينات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة: هذه الآية حجة على بني إسرائيل لمخاطبتهم في القرآن وهو الكتاب السماوي الباقي إلى يوم القيامة.
الخامسة: إقامة الحجة عليهم بعجزهم عن الرد عن مضامين هذه الآية.
السادسة: إكرام نبي الله موسى عليه السلام، وإحياء ذكره بين المسلمين، وتلاوة الآية في الصلاة وغيرها.
السابعة:بيان قبح الجحود وإتخاذ العجل بعد رؤية الآيات.
لقد بعث الله تعالى موسى عليه بالآيات لتكون سبباً ووسيلة للهداية والرشاد وليس للجحود والصدود، ومن يكفر يستحق العذاب الإليم، فجاءت هذه الآية للنجاة من العذاب ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته إلى الإسلام بالحجة والبرهان، قال تعالى[وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ]( ).
الثامنة: الدعوة إلى نبذ الظلم والتخلص منه، سواء ظلم النفس أو الغير.
التفسير
قوله تعالى [وَلَقَدْ جَاءَ كُمْ مُوسَى ]
ورد مضمون هذه الآية في قوله تعالى [ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ] وهي الآية الحادية والخمسون من سورة البقرة ولكنه لا يعنى تكراراً للآية كما قال الرازي، مثلاً (اعلم ان تكرير هذه الآية يغني عن تفسيرها)( ).
ومع قولنا بان التكرار له معان مختلفة ومقاصد متغايرة لكل فرد من افراده فان هذه الآية ليست مكررة بتمامها حروفاً وكلمات، إذ أن أولها يتعلق بموضوع مختلف، ففي الآية الحادية والخمسين ذم للذين إفتتنوا العجل لمّا تركهم موسى عليه السلام عند ذهابه للقاء الله عز وجل، قال تعالى[وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا]( ).
وفي هذه الآية حجة قائمة بما أنزل الله عز وجل في التوراة وما يجب أن ينتج عن الإيمان بها بالدلالة المطابقية والتضمنية والإلتزامية.
وقد ورد موضوع إتخاذ العجل سبع مرات في القرآن ستة منها بلفظ الإتخاذ ومرة بقوله تعالى[وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ]( )، مع توالي الآيات الباهرات التي جاء بها موسى عليه السلام ومنها إنفلاق البحر ونجاتهم من آل فرعون والآيات اليومية والبراهين الساطعات التي كانت تتوالى بعصا موسى عليه السلام بالإضافة إلى التوراة.
قوله تعالى [بِالْبَيِّنَاتِ ]
قيل هي التوراة , ولكنها أعم لأنها تشمل الآيات الحسية التي جاء بها موسى عليه السلام والتي تناسب تتضمن الإجابة بالبرهان على أسئلتهم وطلب رؤية الآيات، لذا يمكن أن تفسر بمصداق من مصاديقه بقوله تعالى[وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ]( ) وهي العصا، والسنون، واليد، والدم، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، وفلق البحر.
والآية أعم من أن تنحصر بالآيات التسع هذه، خصوصاً وان التوراة التي جاء بها موسى عليه السلام من عند الله عز وجل تنحل إلى آيات عديدة، ومنها الآيات البشارة بالنبي محمدصلى الله عليه وآله وسلم.
وبعثته تصديق للتوراة ولنبوة موسى عليه السلام لأنها المصداق العملي اللاحق والشاهد على صدق نزول التوراة من عند الله ، لذا فإن قوله تعالى [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ]( ) لا ينحصر بدعوته صلى الله عليه وآله وسلم بل بما ترشح عنها من تثبيت لنبوة من قبله بالآيات الباهرات.
فالبشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم تعتبر من البينات من وجوه:
الأول : إنها من علم الغيب الذي أخبر الله عز وجل به بواسطة أنبيائه.
الثاني : ما لنبوته صلى الله عليه وآله وسلم من عظيم الشأن والتأثير بإعتبار أنها خاتمة للرسالات.
الثالث : ظهور الحجة والمصداق العملي عند نزول جبرئيل عليه السلام بالقرآن عليه، فأوان البعثة إثبات عملي لبشارة التوراة وتصديق لها، وتوكيد سماوي بأن موسى عليه السلام جاء بالآيات البينات، وأن ما أخبر عنه قد حصل فعلاً، والوعد والبشارة ببعثته، وحدوث البعثة ونزول القرآن أمران لا يمكن ان يكونا الا بإرادة الله ومشيئته سبحانه.
فإن قيل: ان قوله تعالى [ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ ]( ) أمارة على ان المراد من البينات والآيات ما تم على يده وحصل فعلاً في زمانه.
قلت: إنه أعم لأن البشارة تستلزم الإنتظار خصوصاً وأنها لم تأت منفردة، بل جاءت جزءً من البينات والآيات العديدة التي جاء بها والتصديق بها، حينئذ يكون على نحو العموم المجموعي.
الرابع : إن الآيات الحسية للموجودين أيام موسى عليه السلام، أما آيات البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي لكل الأجيال منهم، فالسابق للبعثة النبوية الشريفة يكون منتظراً مترقباً لها، لذا كانت أخبارها عند كبرائهم وكانوا يتطلعون إلى بعثته من بينهم، كما أن بعض المقدمات الكونية تدل على قرب بعثته صلى الله عليه وآله وسلم وأصبحوا يتناقلون خبر الآيات الحسية كالعصا وفلق البحر والمن والسلوى، ويتربصون بعثة نبي آخر الزمان، ولابد انهم كانوا ينتظرون آيات أكبر وأكثر عنده، فكان القرآن معجزة النبوة والزمان , وتفضل الله وجعله[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
أما الموجودون في أيام نزول القرآن فقد شاهدوا المعجزات وحصول البشارة والبينة التي جاء بها موسى عليه السلام، وفيهم تلتقي صيغة الخطاب [وَلَقَدْ جَاءَ كُمْ]، مع إعتبار النبوة هي الآية البينة.
وإن هذا الخطاب أعم وإنحلالي يشمل كل بني إسرائيل الموجودين أيام النبي موسى عليه السلام وإلى أيام البعثة النبوية الشريفة.
قوله تعالى [ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ]
إخبار عن فعل قبيح نقيض سنن الإيمان، ولكن الآية وما فيها من التوبيخ والفضح لا تغلق باب التوبة، بل انها دعوة للهداية وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان تعلق الظلم بعبادة العجل وإتيان أفعال الكفر والجحود في السابق، وجاء عصر التوحيد وتوالي المعجزات وكل آية من القرآن معجزة بذاتها.
لقد جاءت الآية حثاً للتدبر في سبل التخلص من الظلم وتنبيهاً وتحريضاً على نبذه، وإرشاداً لعدم إتباع نهج الصدود.
والظاهر أن الخطاب في الآية تذكير للموجود من بني اسرائيل ايام نزول القرآن، مع أن مجيء موسى عليه السلام بالتوراة سابق ومتقدم على زمانهم وكذا عبادة فريق منهم العجل، فكيف يؤاخذ الموجود بما إكتسبه المعدوم.
الجواب:ليس من مؤاخذة للمعاصرين منهم، بل الآية تذكير وإحتجاج.
فهذه الآيات جاءت لطفاً من الله تعالى لمنع الغرور بالإعتداد بالسيرة الخاطئة وتؤكد الآية لزوم عدم إتحاد السنخية في وجوه الشبه بين الذين إتخذوا العجل، والموجودين.
والظاهر أن إنكار رسالته صلى الله عليه وآله وسلم أشد ظلماً من إتخاذ العجل والميل اليه، لأن الاقرار بالنبوة إيمان بالتوحيد وتسليم بمقام الربوبية , قال تعالى[مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( )، وفيه ثناء على المسلمين والدعوة للتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وبيان الثواب العظيم في طاعته.
بحث منطقي
ينقسم اللفظ الى مفرد ومركب، والمفرد عند اهل المنطق ما لا جزء له من الالفاظ مثل اللام والباء كحرفي جر، وكذا اللفظ الذي له جزء الا ان جزء اللفظ لا يدل على جزء المعنى مثل محمد، فالحرف (ميم) جزء من اللفظ ولكنك لو أخذته بمفرده فأنه لا يدل على جزء المعنى، وكذا لفظ كمال الدين فهو امرأة لشخص فحين تأخذ امرأة الدين وحده فلا يدل على معنى بالنسبة لذات الشخص، فالمنطقي يلاحظ المعنى وحده بخلاف النحوي الذي يلحظ البناء والإعراب فعبد الله وكمال الدين ونحوها من الاسماء أسماء مركبة عند أهل الصناعة النحوية.
ويمكن تعريف اللفظ عند المنطقي بأنه اللفظ الذي ليس له جزء يدل على جزء معناه إذا أخذ على نحو الإستقلال والفصل عن كامل اللفظ.
أما المركب فهو اللفظ الذي له جزء يدل على جزء معناه مثل (العلم نور) فالعلم جزء ونور جزء .
وكل جزء له معنى وقد يتضمن المركب ذاته أكثر من مركب مثل قوله تعالى [ جَاءَ كُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ].
والمركب ينقسم الى مركب ناقص وهو ما لا يصح السكوت عليه كما لو قلت: إذا صمت…) ولم تتم , والسامع ينتظر تمام الكلام وجواب الشرط، والمركب التام وهو ما يفيد تمام المعنى ولا يرى فيه السامع نقصاً لابد من تداركه.
والتام ينقسم بلحاظ النسبة بين أجزائه إلى خبر وإنشاء، فالخبر هو القضية أو المركب التام الذي يصح أن يوصف بالصدق أو الكذب فيبحث المنطقي عنه وعن متعلقه.
وقد لا يكون للمركب التام حقيقة ثابتة يطابقها الكلام فمع ان معناها تام باللفظ فأنه لا يصدق وصفه بالصدق او الكذب وهو الذي يسمى (الانشاء) مثل صيغة الأمر والنهي والتمني وعقود البيع والإجارة ونحوها، فقوله تعالى [ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ] مركب تام.
وهل يفيد الخبر أم الإنشاء، الجواب: يفيد الخبر والتصديق ويكون متعلقه المعدوم الذي عبد العجل، وهو مركب مستقل في لفظه ومعناه سواء كانت الواو في [وَأَنْتُمْ] واو عطف أم إستئناف، والمتعارف والسياق يدل على انها للعطف.