معالم الايمان في تفسير القرآن – سورة البقرة – ج 20

مفاهيم قرآنية

المقدمة
الحمد لله الذي جعل القرآن كنزاً للعلوم، يدعو اهل المعرفة لاستخراج لآلئه، والسياحة في فلك خزائنه التي لاتنحصر بعلم التفسير والتأويل ، بل تشمل العلوم التي يتضمنها بين ثناياه وفي طيات آياته وما تبعثه من اشعاعات نورانية،
وهذه العلوم تصلح ان تكون فرداً مستقلاً في الإعجاز الموضوعي ومباني القرآن وعالم الكمالات يرتع في رياضه، ويكرع من حياضه المباركة وتساهم الثورة المعلوماتية في استخراج الكثير من درره وترشد الناس الى العناية به والانتفاع منه، سواء بلحاظ الصلة بين أياته وكلماته وحروفه و مافيها على نحو الاتحاد والتعدد من الدرر التي يمكن ان تنتفع منها الاجيال، وتلك التي تدل على اعجاز القرآن وتؤكد نزوله من عنده تعالى وتبعث الشوق في النفوس لتلاوته وقراءته وتذوق طعم عذوبته.
ان جعل نوع تخصص في علوم القرآن المختلفة وايجاد قواعد كلية وضوابط لموضوعات كل منها من مستلزمات التحقيق والدراسة في آياته وهو عون على كشف الحقائق ودقائق المسائل التي تحتويها آياته، ويساهم في اعانة الباحثين ورجال العلم للغوص في بحاره، ويؤدي الى تسهيل فهم علومه والتحصيل النوعي، وتأليف المصنفات المتنوعة في علومه، وفيه استجابة لرغبات الملايين من المؤمنين الذين يتطلعون الى تثوير علوم القرآن وينجذبون الى مافيه من الافاضات والبركة،كما يطرد اسباب الفرقة، وينفي الفقر العلمي والمادي ويظهر وجوهاً مستحدثة لاعجازه غير فصاحته وبلاغته يشترك في التسليم بها كل المسلمين بغض النظر عن السنتهم وامصارهم .
ولقد اتعب العلماء من المتقدمين والمتأخرين ومتأخري المتأخرين انفسهم في النحقيق باسرار الفاظه وآياته وتاهت مدارك الاوهام في مصابيح بيناته، والفت الكتب الكثيرة في علومه واسراره وما دامت نكته لاتستقصى، ومفاهيمه لاتحصى والدلائل والبراهين التيي اودعها الله فيه لانهاية لها ، وانما يفهم منها بحسب مافتح الله عزوجل وسعى اليه العلماء في رياضه وبديع اشاراته، وصياغته السماوية، لذا يجب ان تعتبر كتب المتقدمين نواة للخوض في عيونه ومرشداً ومفتاحاً وثروة ومصابيح وعوناً ودعوة لاقتفاء اثارهم. وهذا هو الجزء العشرون من معالم الايمان في تفسير القرآن ويتضمن دراسات خاصة في شطر من علوم التلاوة وفواتح وخواتيم السور والآيات وآيات الرؤيا وعلم جمع القرآن وبعض معاني آياته , قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ].

الوقف في القراءة
يعتبر الوقف أثناء القراءة علماً مستقلاً لما له من الأثر في بيان المعنى، والوقف في الإصطلاح حبس الصوت من الكلمة أوالسكون آناً ما للتنفس بقصد إستئناف القراءة لا الإعراض عنها، ويأتي في رؤوس الآيات ووسطها وليس في وسط الكلمة.
ومن خصائص هذا العلم أنه يشمل الضدين مع تباين الموضع فكما يجب الوقف في حالات فإنه لا يجوز في حالات أخرى، وبينهما مراتب متعددة ومتباينة قوة وضعفاً مما يؤكد الحاجة إلى دراسته وضبط قواعده.
وورد في الخبر عن علي في قوله تعالى [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً]( ) قال: الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف( ).
كما أستدل عليه بقول عبد الله بن عمر: لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآن( ).
وقد أكد كبار الحفاظ والقراء على لزوم معرفة أبواب الوقف لكونه طريقاً لمعرفة معاني ومضامين القرآن ووسيلة لفهم آياته وما فيه من المقاصد السامية، كما أنه مناسبة للتنفس والإستراحة أثناء القراءة، فلما كان التنفس حاجة للقارئ فعليه أن يجمع بينه وبين الحرص على تمام المعنى باختيار موضع من القرآن يقف عنده بحيث لا يخل بالمعنى او يلبس على السامع.
وإشترط بعض المتقدمين في إجازة القراءة معرفة الوقف والإبتداء، وقال الشعبي إذا قرأت[ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ] ( ) فلا تسكت حتى تقرأ [وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ] ( ).
ويقسم الوقف إلى عدة أقسام وتعددت الأقوال فيه فقد قسم الى اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة، وثمانية.
وقسم إلى تام وحسن وقبيح.
والتام الذي يكون بين كلامين لا يتعلق التالي بالسابق كما في الوقوف عند خواتيم الآيات.
أما الحسن فهو الذي يحسن الوقوف عليه ولا يحسن الإبتداء بما بعده كقوله تعالى [ الْحَمْدُ لِلَّهِ] لأن رب العالمين صفة لله عز وجل فلا يحسن الوقف بين الصفة والموصوف ونحوها.
ولا يحسن الوقف على [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا] ( ) ويبتدئ [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ] فهذا الوقف يفيد معنى غير لائق إن نظر له على نحو مستقل.
والتام على مراتب فمنه اللازم ومنه شبيه التام، ومنه ما يكون كافياً، والتفسير والقراءة بحسب الإعراب، كما في قوله تعالى [يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ] ( ) فالوقوف عند كلمة السحر كاف اذا أعربت بعده نافية، وحسن إن جعلت إسماً موصولاً وهو الأرجح.
والمدار في الوقف ليس أقوال القراء والنحويين بل ما يفيد المعنى الأتم ويصلح في التلاوة ويساعد في الفهم وإستنباط الدروس والعبر من الآية.
فلا يصح الوقف عند [وَارْحَمْنَا أَنْتَ] ثم الإبتداء [مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا]( ) على معنى النداء، فهذا خلاف المعنى ولغة الآية، الأمر الذي يعني التحقيق وجعل هذا العلم مستقلاً وله متخصصون.
وقد أتعب العلماء المتقدمون فيه أنفسهم وبذلوا جهوداً مضنية وبلغوا مراتب تدل على الإرتقاء والإهتمام بعلوم القرآن، ووجود حلقات للدرس تولي عناية خاصة للوقف وكانوا يجعلون له موضوعية في قراءة القرآن، والإجازة فيها، واليوم هناك تسهيل كبير في هذا الباب من خلال علامات الوقف الموجودة في رسم المصاحف المطبوعة، ولا يضر الإختلاف البسيط فيها.
ويستحب لمن يقرأ القرآن الرجوع الى آخر المصحف لمعرفة رموزها، فلا تكاد تخلو نسخة من المصاحف من بيان علامات الوقف، ومصطلحات الضبط والإشارة إلى لزوم الوقف بحرف الميم، وجواز الوقف، بالجيم، والنهي عنه بـ(لا).
ويكره الوقف الناقص في القراءة مع القدرة على الوقف التام، إلا أن يكون الوقف للبيان والتفصيل في الحكم والدلالة كما في قوله تعالى [وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ]( ) فالوقوف عند الأخت، للتمييز بين التحريم النسبي والتحريم بالرضاعة وهو سببي، وقد يختلف القراء في الوقف في موضعين من آية واحدة، فاذا وقف على أحدهما إمتنع الوقف على الآخر وسمي بالمراقبة في الوقف، إقتباساً من إصطلاح المراقبة في العروض في أبيات الشعر.
وأستدل بالوقف على(لا ريب فيه)( ) ومن أجاز الوقف على لا ريب فانه لا يجيزه على (فيه) وكذا العكس.
وعن أبي يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة أنه ذهب إلى أن تقسيم الموقوف عليه من القرآن بالتام والناقص والحسن والقبيح، وتسميته بذلك بدعة، ومتعمد الوقوف على نحوه مبتدع، قال: لأن القرآن معجز، وهو كالقطعة الواحدة، فكله قرآن وبعضه قرآن، وكله تام حسن، وبعضه تام حسن( ).
وظاهر كلامه ان البدعة في المقام مركبة من:
أولاً: تقسيم الموقوف عليه إلى أقسام منها:
القبيح، لوجوب أن يكون القرآن منزهاً عن هذا النعت.
ثانياً: عدم جواز الوقف على ما لا يصح الوقف عنده، والوقف بكل أحواله لا يغير من المعاني القدسية للقرآن.
ولا إختلاف في ذلك إنما يتعلق لفظ القبيح بالوقف أثناء القراءة فهو أمر إعتباري إضافي خارج موضوع القرآن وكلماته، وفي التقسيم إرشاد إلى القراءة بما يؤدي إلى إفادة المعنى التام للحسن ومنع الإشتباه واللبس لذا وضعت ضوابط خاصة لمن يتولى مسؤولية الوقف والبت فيه، ويجب أن يكون ذا تحصيل في علم التفسير والقراءات والنحو واللغة وقصص القرآن، والسنة النبوية الشريفة والفقه بما يستطيع معه الإستنباط والفرز وفهم لغة القرآن والمواضع التي ينبغي الوقف عندها، والتي يمتنع الوقف فيها.
أما القطع فهو التوقف عن القراءة وقطعها كالذي يريد الإنتهاء والإنتقال إلى فعل آخر غيرها، فهو أعم من الوقف، ويستحب الإستعاذة بعده للقراءة المستأنفة ولا يكون القطع الا على رأس آية، بإعتبار أن رأس الآية عنوان للقطع والوقف.
عن أم سلمة لما سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت كان يقطع قراءته آية آية( ).
وكل ما جاز الوقف عليه فان ما بعده يجوز الإبتداء به لتمام المعنى وإشتراط عدم إخلال الوقف بالمعنى ومفهوم الآية والقواعد اللغوية والنحوية،فالقراءة فرع علوم اللغة والتفسير، وليست هي علماً مستقلاً، والوقف عند علماء القراءة على أقسام أهمها:
الأول : السكون.
الثاني : الروم.
الثالث :الإشمام.
الرابع : الإبدال.
الخامس : النقل.
السادس : الإدغام.
السابع : الحذف.
أما السكون فهو القدر المتيقن من الوقف، والوقف على الكلمة التي ينطق بحركة آخرها عند الوصل، والمشهور أن العرب لا تبتدأ بساكن ولا تقف عند متحرك.
أما الروم، فهو النطق ببعض الحركة سواء بالقصد وقطع الحركة أو بتخفيف الصوت بها، ويختص الروم بالمرفوع والمجزوم والمضموم والمكسور، أما الفتحة فهي في الأصل خفيفة ولا تقبل التجزئة.
أما الإشمام فهو إشارة إلى الحركة من غير تصويت وهو أقل من روم الحركة لأنه لا يسمع وإنما يبين بحركة الشفة ولا تكون حركة معتداً بها لضعفها ويختص بالضمة.
وفائدة الروم والإشمام الدلالة على الحركة التي تثبت في الوصل للحرف الموقوف عليه ليعلم السامع ماهية الحركة الموقوف عليها، وقد ورد عن ابي عمرو بن العلاء البصري (68- 154) هجرية والكوفيين، ولم يذكره القراء الآخرون.
والإبدال هو الوقوف على الألف بدل التنوين، ومثله الإسم المفرد المؤنث بالتاء فانه يوقف عليه بالهاء بدلاً منها، ومثله إذن.
والنقل يتعلق بما كان آخره همزة بعد ساكن فانه يوقف عليه قال به حمزة وتنقل حركتها إليه، مثل جزء.
أما الإدغام فأصله إدخال الشيء في الشيء ومنه إدغام الحروف بعضها ببعض، أما في الوقف فهو الذي يأتي في حال وجود همزة بعد ياء أو واو زائدتين مثل النسيء، وعند حمزة يوقف عليه بالإدغام بعد إبدال الهمز من جنس ما قبله.
ويتعلق الحذف بالياءات الزوائد التي لم ترسم مثل مائة وإحدى وعشرون.
لقد أمر الله عز وجل بتلاوة القرآن قال تعالى[وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً]( )، وصحيح أن الآية جاءت خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي الحث على قيام الليل، إلا أنها خطاب وأمر للمسلمين كافة، وتتضمن البعث على قراءة القرآن على ترسل وتأن بما تتبين معه الحروف، ويظهر إشباع الحركات مع الحرص على إجتناب السرعة والهذرمة(وسئلت عائشة عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها)( ).
والوقف مدرسة ومصداق من مصاديق تلاوة القرآن، وبيان حروفه بما يبعث على التدبر في معاني كلماته، والسياحة في عالم الملكوت، وإدراك وجوه من إعجازه.


المبهمات
يرد في القرآن أحياناً عنوان وقصة أو موضوع يشير إلى واقعة وشخص أو جماعة من غير ان يذكر أسمه، فيسمى إبهاماً.
وللإبهام في القرآن اسباب متعددة افرد له عدد من العلماء مؤلفات خاصة منهم ابو القاسم عبد السهيلي (508- 581) وسماه (التعريف والإعلام لما ابهم في القرآن من الأسماء والأعلام) وابن عساكر محمد بن علي بن الخضر وغيرهما، كما ذكره علماء التفسير، ومنهم من خصص له باباً وذكر الآيات المبهمات، وقال السيوطي ( وكان من السلف من يعتني به كثيراً)( )، وقد ذكروا أسباب الإبهام.
والأولى التحقيق في غايات الإبهام لأنه من غرر وكنوز القرآن ويمكن إستظهار علوم كثيرة منه.
وهو دعوة مفتوحة للعلماء والباحثين للإستنباط والسياحة في المعارف الربانية، والوسائط والعلل المؤثرات الموجبات وتفسير القرآن بالقرآن والرجوع إلى السنة باعتبارها بياناً للقرآن، ويظهر التحقيق التداخل بين أسباب الإبهام وغاياته.
وهو إعجاز آخر للقرآن وسر من أسرار بقاء آياته تنبض بالحياة ويتدفق منها العلم غضاً طرياً ملائماً للأزمنة المختلفة والعلوم الحديثة والوقائع والأحداث الخاصة والعامة وذات الشأن العالمي ولا بأٍس بتأليف كتاب يتعلق بمناسبة آيات القرآن للوقائع والأحداث من أيام التنزيل وما فيها من الإخبار عن وقائع قادمة وتطورات علمية ووقائع سياسية ليكون أعم من أسباب النزول.
وكل فرد من هذه الأقسام المتشعبة دليل على إعجاز القرآن وأهليته للإمامة في كل زمان ومكان وفي ميادين العلم والمجتمع المختلفة.
والأولى فتح باب البحث في غايات الإبهام والظاهر أنها أهم من الأسباب وتطل علينا من ثناياها علوم قرآنية مستحدثة ويوظف فيها إصطلاح الإستصحاب القهقري ليكون مبحث الإبهام إشراقة على علم أسباب النزول والوقائع والطبائع.
وهذا التحقيق يجب أن يكون ملازماً للبحث عن أسبابه بمعنى ان الغوص في غايات الإبهام يجب أن لا يؤدي إلى إهمال العلم بالأسباب وبيان فوائدها وأقسامها بل هي من مقومات الإستقراء العلمي في المقام.
نعم يجب أن يكون التحقيق والإستنباط بدراسة الآيات المبهمات كل آية على نحو مستقل للوصول إلى قواعد كلية وليس بوضع القواعد إبتداء ثم تطبيقها على الآيات والفروع، لا سيما وأن كل آية مدرسة قائمة بذاتها ولها خصوصيتها التي تنفرد بها ومن أهم أسباب وعلل الإبهام وجوه:
الأول :الإكتفاء ببيانه في موضع آخر سواء كان شخصاً ما أو موضوعاً، كما في آيات الصراط وقوله تعالى [اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي]( )، فقد ورد في آيات أخرى ذكر هارون بالإسم سواء بدعوة موسى ليكون نبياً أو بالآيات التي تدل على إستجابة الدعوة وارتقائه الى درجة النبوة، أو آيات الإنفاق فقد ورد الإنفاق في قوله تعالى [ و أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ] ( ) [وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] ( )، ثم جاءت الآيات مبينة ومقيدة له بالنية وقصد القربة، قال تعالى[الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
الثاني : إن الخطاب في الآيات السابقة يأتي مطلقاً من جهة انتماء وهوية المنفق ثم تأتي آية أخرى تقيده بالمسلمين كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ]( ).
الثالث : الإكرام وتنمية ملكة الوقار كما في حواء فقد ورد ذكرها في عدة مواضع من القرآن بصفة الزوجة لآدم ولم يذكر اسمها فيه قال تعالى [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ] ( ).
ومن الغايات في هذا الإبهام إظهار تبعيتها لآدم في الأحكام العقائدية والأمور الأسرية ولأن الإكرام في نفخ الروح وسكن الجنة كان لآدم ابتداءً وآية ورحمة , لقد شاء الله عز وجل ان يكون لنفخ الروح فيه إكرام خاص باستضافته في الجنة مدة من الزمن وعدم مغادرتها إلا بخرق نواميسها وقواعدها , ولم يأت هذا الخرق والأكل من الشجرة أثناء مدة الضيافة في الجنة ، ولكن إجتمع أمران الخرق والأكل في زمان غير زمن الضيافة وإن كان هذا التخصيص أمراً مستحدثاً ويحتاج إلى دليل وإثبات للتفصيل بين أيام الضيافة وغيرها وهو أمر لم يثبت.
وهذا لا يمنع من توجه الخطاب التكليفي لحواء كما أن ذكرها كزوج لآدم هو تشريف عظيم، وإكرامها بهذه الصفة أفضل كثيراً من ذكرها باسمها.
وقد ورد ذكرها في القرآن ثلاث مرات من غير أن يرد إسمها، وجاءها الخطاب والأمر بواسطة آدم [فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ]( )، بينما ورد ذكر مريم بإسمها في القرآن أربعاً وثلاثين مرة، وهو مورد خاص يدل على التفضيل وان عدم زواجها لم ينقص من عظيم منزلتها عند الله تعالى.
إن ذكر نساء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الزواج هو إكرام وخلود لهن وتوكيد على موضوعية الزواج في حياة المرأة قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ]( )، فظاهر الآية ان المراد بعض أزواجه وليس جميعهن ومع هذا فان الآية جاءت بالإبهام ولم تذكر أسماء الجميع أو بعض منهن، نعم وردت إرادة الجميع بقوله تعالى[النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
الرابع : وجود قرينة أو أمارة تدل عليه كما في قوله تعالى [كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً]( )، فالآية تدل على أن الرسول هو موسى وجاء إلى فرعون بالآيات.
ومن آيات الإبهام أنه موضوع عقائدي يتعلق بتوجيه الدعوة الإسلامية والإنذار إلى الجبابرة والطغاة وكيف انهم يصرون على الجحود مع أن الله عز وجل خصهم برسول خاص وقد أقام موسى الحجة على فرعون وأراه الآيات الساطعات والبراهين الدالة على صدق نبوته ولزوم الإيمان بالله عز وجل ولم يدعوه للتخلي عن حكمه.
ولم يقاتله ولم يحصر الأمر بالإيمان او الموت فقط، بل إختار موسى  لنفسه وقومه الخروج من بلادهم كي لا يقال بانهم آووا بني إسرائيل ثم بطشوا بملكهم فرعون، مع ان هذا القول غير تام لأن الأمر يتعلق بواجب الإقرار بالعبودية لله وحرمة الكفر وإدعاء العبد الربوبية.
ولو إختار فرعون الإيمان لكان إيمان أمة كاملة وسبباً بصلاح أجيال متعاقبة من الناس فلذا خصه الله بارسال الرسول له والوقوف في بابه ودعوته للإسلام نعم لم يتوقف صلاح هذه الأجيال على إيمان فرعون، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى)( )، وان كائن إيمان الملأ من قومه لم تنحصر طرقه بواسطة فرعون خصوصاً وان الآيات التي جاء بها موسى حسية يراها كل ذي عينين.
الخامس : فضل الله تعالى بالإحالة على السنة النبوية للبيان والتفسير والتنبيه الى إعتبار السنة النبوية في الحياة اليومية للمسلمين وموضوعية الرجوع اليها ولزوم عدم تركها أو الإعراض عنها لتكون في مفهومها زجراً عن القول بالإكتفاء بالقرآن والإستغناء عن السنة وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه “الا اني اوتيت القرآن ومثله معه، الا يوشك رجل ينثني شبعانا على اريكته، يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم من حلال فاحلوه وما وجدتم من حرام فحرموه… “( ).
ومنه قوله تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِب عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ َ] ( ) وفيه روايات عديدة منها ما ورد في الدر المنثور:
الأول : انهم الخمسة أهل الكساء وأخرج ابن جرير والطبراني، عن أم سلمة انها قالت: “ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في بيتي فاستدعى علياً وفاطمة والحسن والحسين- وجللهم بعباءة خيبرية – ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فانزل الله تعالى قوله- [ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ] ( )، فقالت ام سلمة قلت: يا رسول الله أنا من أهل بيتك؟ فقال: لا، ولكنك على خير( ).
وينقل نحو عشرين طريقاً لهذه الرواية.
الثاني : اخرج ابن سعيد قال: نزلت في نساء النبي خاصة، وقال عكرمة من شاء باهلته.
الثالث : أهل البيت هم آل علي وآل جعفر وآل عقيل على خلاف في دخول النساء معهم.
الرابع : العترة الطاهرة وأزواج النبي وامهات المؤمنين لعمومات الآية.
الخامس : إختصاص الآية بالعترة النبوية الطاهرة ونقل السيوطي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اهل البيت: إنهم علي وفاطمة والحسن والحسين.
وأختلف هل الإرادة هنا تكوينية التي لا تقبل الرد، أو الإرادة التشريعية.
ويمكن ذكر وجه آخر للآية من غير أن يتعارض مع الوجوه الأخرى وموضوع الآية، وهو ان الأمر الإلهي فيها متوجه إلى الرجس ونحوه بالإبتعاد عن أهل البيت وعدم الوصول اليهم وكأن في الآية أمراً وإخباراً، فالأمر مركب من قسمين:
الأول: متوجه إلى الذنوب والفواحش باجتناب أهل البيت وعدم وصولها إلى نفوسهم وأفعالهم.
الثاني: متوجه إلى أهل البيت بالطهارة من الدنس والآثام، والإخبار للرسول ولأهل البيت وللأمة.
السادس : الإبهام للسعة سواء لبيان عظيم فضله تعالى وعدم التعارض بين وجوه التأويل في الغالب، المتحد او المتعدد، كما في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، وهو على وجوه:
الأول: هو آدم.
الثاني: آدم وزوجته حواء.
الثالث: الأنبياء جميعاً.
الرابع: نبي هو خليفة زمانه.
الخامس: تتعلق الآية بالإنسان مطلقاً بلحاظ الجنس فيه وجوه بيناه في تفسير الآية الكريمة اعلاه( ).
السابع : للتواتر التأريخي بين الأمم وأرباب الملل مما يغني عن ذكر الإسم، كما في قوله تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ] ( ) هما قابيل وهابيل.
وجاءت الأخبار بان القاتل هو قابيل والمقتول هو هابيل، ومع هذا فان الإسلام لم تترك الأمر مبهماً أو تكتفي بما ورد في الكتب السماوية السابقة فذكرها القرآن والسنة بالبيان والتفصيل والأصول التي تستنبط منها المسائل، وتقتبس منها الدروس والمواعظ، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
وقوله تعالى [وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ] ( )،وردت الأخبار بانها سارة وهو أمر مشهور بين المسلمين، وإشتهار أسماء النساء من الملل الأخرى وأزواج الأنبياء بين عموم المسلمين وإختيارهم لها أسماء لبناتهم يدل على أهلية المسلمين لوراثة النبوة , وتسليمهم بنبوة جميع الأنبياء على نحو العموم المجموعي.
الثامن : إرادة شخص أو موضوع آخر ملازم للمبهم ومرتبط به كما في قوله تعالى [وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ] ( ) وذكر أن إسمه كنعان وقيل بام، وقوله تعالى [لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ] ( ) ذكر انه بنيامين، وقوله تعالى [هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ] ( ) في بنات لوط من غير ذكر الإسم فموضوع القصة والمقاصد السامية منها تتعلق بجهاد النبي بنفسه وأهله وإنحراف قومه.
التاسع : دعوة المسلمين إلى الجهاد والسعي في دروب مرضاة الله تعالى، وتحمل الأذى في جنبه من غير طلب الشهرة والجاه، فهناك الكثير ممن إختار الشهادة في الدفاع عن بيضة الإسلام لا يعرفه إلا الله عز وجل وفي آية وقصة أصحاب الكهف صورة مشرقة لفتية آمنوا بربهم وإعتزلوا الظالمين وجاء القرآن بخلود قصتهم ومدحهم والثناء عليهم وإمضاء عملهم ولكنه لم يذكر أسماءهم والتفصيل في ذكر الذين وردت أقوالهم في التنزيل، وذكر أن رئيسهم هو تمليخا وأنه هو الذي أمرهم بالدخول الى الكهف [فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ] ( ).
وان القائل [كَمْ لَبِثْتُمْ] هو تكلمينا.
والقائل [فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ] ( ) هو رئيسهم تمليخا.
واسماء الباقين هم مرطوش وبراشق وأبونس وإريسطانس وشلسططيوس كما ورد توثيق أقوالهم في التنزيل إكراماً وتوثيقاً وتشريفاً ودعوة للمؤمنين للصبر والتحمل وإعتزال أهل الضلالة والكفر.
العاشر : دعوة القرآن العلماء والمسلمين عامة إلى البحث والتحقيق في الآية القرآنية ومضامينها القدسية وظهور التباين في التفسير بلحاظ الإختلاف في المباني والقواعد الكلية والمناهج المتبعة في التفسير والتأويل، وكأن الإبهام دعوة لأهل العلم لإجتناب الفرقة والخلاف وتعدد المذاهب في التفسير.
وهذا من الدقائق الخفية في القرآن، فالإبهام يدعو الى ترك التأويل بالرأي وتطبيق القواعد العقلية على الآيات القرآنية خصوصاً التي تتعلق بالوقائع والأحداث، وهو من وجوه إمامة القرآن وإصلاح حال المسلمين وإجتماعهم على أسس ثابتة ومشتركة في التفسير، لأن الموضوع واحد والغايات السامية متحدة.
فقوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا] ( ) موضوع متجدد في كل زمان ومكان، ومنتدى من منتديات المسلمين، وما معنى هم المرأة بيوسف عليه السلام، وهم يوسف بها هل طاوعها بادئ الأمر على المراودة أم أنه منزه ومعصوم، لقد رأى بالبرهان الزاجر من الله عز وجل فلم يشرع بمراودتها، وهو المختار.
الحادي عشر : إصلاح المجتمعات الإسلامية وتهذيب النفوس وعدم إعطاء الأولوية إلى الأسماء ونحوها كما في قوله تعالى [وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ غُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ]( ) في بيان وتوكيد على إكرام اليتيم وتعاهده في نفسه وأمواله.
كما جاءت آيات عديدة في اليتيم ولزوم العناية به ولبيان أن رعاية اليتيم مطلقة فلا تنحصر بشخصه أو ملته، وتوجب حفظه بلحاظ العناوين الإعتبارية كما لو كان أبوه أو جده مؤمناً أو أن أباه أستشهد في سبيل الله. وقيل ان إسمي الغلامين الواردة قصتهم في سورة الكهف أصرم وصَريم.
الثاني عشر : نزول القرآن بلغة إياك أعني وإسمعي يا جارة، فتنزل الآية بذكر قصة أو واقعة والمقاصد السامية لها أكثر من أن تحصى منها الإتعاظ والإعتبار وإستلهام الدروس والعبر والإصلاح وإزالة الغشاوة الظلمانية وغيرها، وقوله تعالى [وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ] ( ) ذكر انه عقبة بن أبي معيط.
والآية تحذير وإنذار لكل ظالم وكافر، وبشارة للمسلمين بلحوق الحسرة والخسارة لعدوهم، وليس من ملازمة بين خصوص السبب والحكم الذي هو أعم.
الثالث عشر : بيان أن القرآن مدرسة الأجيال وفي الإبهام نهي عن الغيبة والنميمة والأخلاق الذميمة الأخرى، وتوجه الى الناس بالحث على السجايا، والأخلاق والطبائع والقرائح الحميدة وعدم وجود موضوعية لذكر الإسم كما في قوله تعالى حكاية عن الظالم[يَاوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً]( ) والكناية بلفظ (فلان) ما زال موجوداً في لغة العرب الى الآن.
الرابع عشر : أثر الإبهام وتعدد دلالاته العقائدية وتحصيل النفع والمعاني القدسية، كما في قوله تعالى [وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ] ( ) فلم يذكر القرآن إسم أم وأخت موسى بل إكتفى ببيان صلة الرحم الوشيجة ودرجة القربة وما تعنيه من الوسائل والعلل في تعاهده ومتابعة أمره والحرص على نجاته وسلامته، وأخت موسى مريم، وقيل كلثوم وأمه يوحانذ بنت يصهر بن لاوي بن يعقوب وقيل يوخا وقيل أباذخت( ).
الخامس عشر : نزول القرآن بصيغة الإيجاز غير المخل، والإحاطة التامة فهو كلمات قدسية متناهية تحيط باللامتناهي.
السادس عشر : إنطباق موضوع الآية على الوقائع المتشابهة مع تعدد آنات الزمان وإختلاف المكان وشمول الآية للمتحد والمتعدد، كما في قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ] ( ) قيل هو النضر بن الحارث، وموضوع الآية أعم وهو متعدد في كل زمان ويدل عليه النقل والعقل والوجدان والوقائع التأريخية، قال تعالى [مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
السابع عشر : الإبهام دعوة للمسلمين لإكرام بيت الرسالة وأزواج وذراري الأنبياء من غير إخلال بالمعنى، كما في قوله تعالى [قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ] ( ) وفيه دعوة للإقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في معاملته لأهله بالتبادر وبلحاظ ذكر الصفة والصلة.
وعن عكرمة: كان تحته يومئذ تسع نسوة: عائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة وصفية وميمونة وزينب بنت جحش وجويرية، وبناته فاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم ( ).
الثامن عشر : إن تعدد صيغ الإبهام توكيد قرآني على إتخاذ سبل الإبهام والكناية نهجاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله ونبذ الأخلاق الرديئة والأفعال القبيحة.
التاسع عشر : تنمية ملكة التقوى والتخلص من أسباب اليأس والقنوط والفزع والخوف من العدو، فقوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) سمي من القائلين نعيم بن مسعود الأشجعي، وهو قول يواجه المؤمنين في كل زمان، فالإبهام في الآية يساعد على جعلها حرزاً وواقية وموعظة ودرساً والاستعداد لتلقي مثل هذا الكلام وعدم الخوف والفزع بسببه, فالآية سلاح للنجاة من الدعايات المغرضة للعدو، وأسباب الشك والريب.
العشرون : النضارة والحياة المستديمة للآية القرآنية، ليخاطب القرآن السامع والقارئ ويجعله يستحضر واقعه اليومي وكأن القرآن يقرأ ويتابع الأحداث.
الواحد والعشرون : دعوة المسلمين لإتباع نهج الصحابة والتفقه في الدين والإحاطة بعلوم الشريعة وسنن وأحكام العبادات والمعاملات، كما في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ] الذي ورد في القرآن خمس عشرة مرة وهذا التعدد والشمول له دلالات عقائدية قال تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ]( )[يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ]( ) [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى]( ) [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ]( ) ونحوها، مع ان كل سؤال ورد ذكر للسائلين بصيغة الجمع ولكن مع إبهام الأسماء، أختلف علماء التفسير في بعضها هل السؤال جاء من المسلمين، أم من اليهود.
الثاني والعشرون :اللطف الإلهي والتستر على الشخص والجماعة وهو من إعجاز القرآن لعلمه تعالى بالصلاح والهداية أو لإكرام ذريته وقومه كما في قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ) ذكر أنه الأخنس بن شريق، وأنه أسلم بعدئذ، بينما ذكر القرآن أبا لهب بالإسم [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ] ( ) وفيه إعجاز قرآني لعلمه تعالى بموته على الكفر.
الثالث والعشرون : الذكر بأوصاف الكمال الإنساني، ومقامات العبودية في الفرد والجماعة ،لأن الملاك هو حث المسلمين على الصفات الحميدة والإرتقاء في سلم المعارف الإلهية كما في قوله تعالى [وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ…] ( ).
الرابع والعشرون : بيان حال الأمم السالفة والإعتبار منهم وإجراء دراسة مقارنة بين ما كانت عليه المجتمعات، وأحوال المسلمين في عصر التنزيل وإلى يومنا هذا خصوصاً وأن القرآن فيه أحسن القصص وجاءت قصصه عبرة وموعظة، ومناسبة للتدبر قال تعالى [فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] ( ).
الخامس والعشرون : الذم والتوبيخ للظالمين والزجر عن الفعل القبيح والتحذير منه ومن اهله قال تعالى [وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
السادس والعشرون : الإبهام في القرآن أعم من أن ينحصر بالأشخاص، فانه يشمل الأمم والجماعات والأمكنة والبلدان والأزمنة لعموم الفائدة والإعتبار وإتصال التحقيق والإستنتاج.


نعم وكلا وبلى في القرآن
نعم حرف يرد للتصديق أو للوعد أو للإعلام فمن التصديق: قولك زالت الشمس فيأتي الجواب نعم،
والوعد بعد الأمر أو النهي أو السؤال كما لو قيل لك بصيغة الأمر أخرج الزكاة من مالك، فتقول نعم، ومن الإعلام بعد الإستفهام لو سألك والدك صليت الصبح أداء في وقتها؟ فتقول نعم.
وقد ورد لفظ (نعم) أربع مرات في القرآن، الأولى في سورة الأعراف [فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ] ( )، وهي للإعلام بعد الإستفهام وكذا الثانية [وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ *قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ] ( )، وكذا الثالثة من سورة الشعراء، والرابعة قوله تعالى [أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ] ( )،
واثنتان منها تتعلق بعالم الدنيا واثنتان بعالم الآخرة، واللتان في الدنيا وثيقة سماوية لصدق إيمان السحرة الذين تابوا إلى الله عز وجل وإهتدوا عندما رأوا الآيات.
وجاء لفظ نعم على لسان فرعون، ولم يف بوعده، ولم يتركهم وشأنهم بعد عجزهم عن مواجهة الآيات وإعلانهم الإسلام، أما اللتان بخصوص الآخرة فأحداهما على لسان أهل النار يوم القيامة، والثانية تتضمن الوعيد والتوبيخ والبشارة بالعذاب الشديد للكفار[قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ]( ) لتملأ الحسرة نفس الكافر وهو في الدنيا.
والوقف عند قراءة نعم في سورة الأعراف [قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ] لأن نعم قول إخبار، والأذان فعل وقول صادر من غيرهم.
ووضعت بعض الضوابط للوقف على نعم، فقيل إذا وقع بعدها (ما) أختير الوقف عليها وإلا فلا، أو إذ وقع بعدها (واو)لم يجز الوقف عليها وإلا أختير الوقف، والأولى ملاحظة اللفظ والمعنى والقرائن وما يناسبها من الوقف أو عدمه أو التخيير.
أما(كلا) فهي حرف ردع وزجر لا محل له، وقد تأتي في أوائل السور للإستفتاح.
ووردت في ثلاثة وثلاثين موضعاً من القرآن، وقد قسمت بحسب ضوابط الوقف عندها إلى ثلاثة أقسام وهي.
الأول: ما يجوز الوقف عليه والإبتداء به بإعتبار معنيين منه [أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا] ( ).
الثاني: ما لا يوقف عليه ولا يبتدأ به، كما في قوله تعالى[إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِي]( ).
الثالث : ما يبتدأ به ولا يجوز الوقف عليه، منها قوله تعالى [كَلاَّ وَالْقَمَرِ]( ) [كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَة]( ).
ومن الآيات ان النصف الأول من القرآن خال من لفظ (كلا) وان الثلاثة والثلاثين كلها جاءت في النصف الثاني منه إبتداء من سورة مريم، وأنشد أحدهم:
وما نزلت كلا بيثرب فاعلمن
ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى( ).
وإتصفت السور المكية بلغة الإنذار والوعيد والتخويف للكفار وتقبيح ما يفعلون، أما الآيات المدنية فجاءت لبيان الأحكام والتشريع.
وقد يختلف الوقف بلحاظ التفسير والمعنى فيحسن الوقف عند (كلا) إذا جاءت بمعنى الرد لما قبلها والإنكار له، وإذا كان معناها حقاً أو إلا، فلايحسن الوقف عليها ولا الإبتداء بها.
بلى
و(بلى) حرف جواب مختص بالنفي، ويفيد إبطاله، كما في قوله تعالى [أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى]( )، ولو قالوا كلا لكذبوا وجحدوا، ونفي النفي اثبات، فقولهم (بلى) يؤكد مجيء النذير وبعثة الأنبياء.
وورد حرف (بلى) في القرآن إثنتين وعشرين مرة، في ست عشرة سورة من القرآن.
أما من جهة القراءة والوقف فهي تقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول : الوقف عليها على المشهور إذا كانت جواباً لما قبلها وغير متعلقة بما بعدها، وجاءت في عشرة مواضع من القرآن : موضعين في البقرة [بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً]( )، [إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ* بَلَى]( )، وموضعين في آل عمران [وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى]( )، [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا]( )، وموضع في الأعراف [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى]( ) وفيه إختلاف، وفي النحل [مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى]( )، وفي يس [أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى]( )، وفي غافر [قَالُوا أَوَ لَمْ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى]( )، وفي الأحقاف [عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى]( )، وفي الإنشقاق [أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى]( )،
الثاني : ما لا يجوز الوقف عليها، لتعلق ما بعدها بها وبما قبلها، وهو في سبع مواضع: [بَلَى وَرَبِّنَا]( )، وفي النحل[لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى]( )، وفي سبأ [قُلْ بَلَى وَرَبِّي]( )، وفي الزمر[ مِنْ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ]( )، وفي الأحقاف [ بَلَى وَرَبِّنَا]( )، وفي التغابن [ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ]( )، وفي القيامة: [أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى]( ).
الثالث : ما أختلف في الوقف عنده، والأرجح عدم الوقف، لأن ما بعدها متصل بها وبما قبلها، وهي في خمسة مواضع: [قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي] ( )،[قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ]( )،[وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا]( )،[ قَالُوا بَلَى]( )، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ.

جمع القرآن
علم جمع القرآن مستقل وله عذوبة وفيه طراوة وتميل اليه النفوس لما فيه من أسرار تاريخية ووثائقية وعقائدية وجهادية، ويدل على فضل الله تعالى بحفظ القرآن والإعجاز الذاتي والغيري للقرآن في حفظ آياته ومنع يد التحريف من الوصول رسماً وتلاوة إلى آيات القرآن قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
والقرآن مائدة السماء الدائمة التي أراد الله عز وجل لها ان تكون في متناول كل إنسان لا يحجبه عنها إلا إختيار الإنسان الضلالة، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
ومع أهمية مباحث جمع القرآن في توثيق آياته وتوكيد نزولها من عند الله فانه لم يحتل منزلة كبيرة في تفكير الناس مسلمين أو غير مسلمين، ولم يجعل أحد هذا الأمر من وجوه الطعن بالقرآن مع كثرة أعداء الإسلام.
لأن المتسالم عند الناس أن جمع القرآن تم بصورة صحيحة وأن يد التحريف والزيادة لم تطرأ عليه وأن المنافقين والكفار عجزوا عن التلاعب بآياته بل إنهم لم يفكروا بالإضافة له أو تغيير بعض آياته وفشلوا حتى في موارد تفسيره ولم يتجرأوا على تفسيره في غير الحق والمناهج القويمة، والموارد التي أنزل فيها، فمن باب الأولوية القطعية عدم الوصول الى آياته.
ثم إنه كان محاطاً بعناية المسلمين من أيام الصحابة فمع تعدد سوره و وآياته فان المسلمين كانوا يحفظونه.
وجاء ذكر جمع القرآن على نحو النص والتعيين في الآيات، قال تعالى[إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ]( )، وفيه وجوه:
الأول : إن علينا جمعه في قلبك لتقرأه بلسانك، قاله ابن عباس.
الثاني : عيلنا حفظه وتأليفه، قاله قتادة.
الثالث : عيلنا أن نجمعه لك حتى تثبته في قلبك، قاله الضحاك)( ).
الرابع : قراءته عليك حتى تعيه( ).
الخامس : نجمعه في صدرك، ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئاً( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة وتضاف لها وجوه:
الأول : جمع آيات وسور القرآن في صحف وبين دفتين، إذ كانت تنزل الآيات على النبي في الليل أو النهار، وفي الحضر والسفر، وفي الشتاء والصيف، وينزل عليه جبرئيل وعنده الواحد والإثنان من الصحابة أو أهل البيت أو الجماعة الكثيرة، وقد تنزل عليه الآية وليس معه أحد وقد يظن أحد المسلمين ضياع عدد من الآيات أو سقوط بعض الكلمات لدفع هذا الظن.
الثاني : بعث السكينة في نفوس المسلمين على سلامة القرآن من الضياع.
الثالث : جمع وحفظ القرآن إلى يوم القيامة بفضل من الله الذي[لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الرابع : الآية شاهد على سلامة القرآن من التحريف والتبديل، بلحاظ أن الآية وعد كريم من عند الله.
ومن إعجاز القرآن الملازمة بين جمع القرآن وتلاوته بقوله تعالى[إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ]( )، ومنه حفظ القرآن بتلاوة المسلمين له في الصلاة على خمس مرات في اليوم.
وسياق وترتيب آياته متواتر ومحفوظ عندهم ولكن هذا لم يمنع من البحث عن أوان جمع القرآن أي أنه مبحث صغروي بعد التسليم بصدق آياته، وعدم سقوط بعض منها، ولا عبرة بالقول النادر، وجمع القرآن من جهة على وجوه:
الأول : جمع في أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : جمع في عهد أبي بكر.
الثالث : جمع في حكم عثمان.
وقد ورد في حديث مسروق عن عائشة عن فاطمة عليها السلام أسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن جبرئيل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر اجلي( ).
يعارضه اي يدارسه، والمعارضة هنا بمعنى المقابلة ومنه عارضته الكتاب أي قابلته، وعارضته بمثل ما صنع أي أتيت له بمثل ما أتى.
وفي الحديث إشارة إلى جمع القرآن إلا أنه لا يدل على وجوده في مصحف مخصوص إلا بقرينة إضافية.
مما يدل على ان ترتيب السور كان توقيفياً ومن أيام الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد روى البخاري عن زيد بن ثابت الانصاري وكان ممن يكتب الوحي قال أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر فقال أبو بكر ان عمر أتانى فقال إن القتل قد إستحر يوم اليمامة بالناس وانى أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه وإنى لأرى أن تجمع القرآن قال أبو بكر قلت لعمر كيف أفعل شيأ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال عمر هو والله خير فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذى رأى عمر.
قال زيد بن ثابت وعمر عنده جالس لا يتكلم فقال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك كنت تكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلان شيئا لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أبو بكر هو والله خير فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذى شرح الله له صدر أبى بكر وعمر فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الانصاري لم أجدهما مع أحد غيره[لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ]( ) إلى آخرها وكانت الصحف التى جمع فيها القرآن عند أبى بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت عمر( ).
ولم يقم زيد بن ثابت بجمع القرآن بمفرده بل إشترك معه الصحابة وكان الجمع بمرأى ومسمع ومشاركة منهم يتدخلون إذا كانت حاجة لتدخلهم فكان عمل زيد يصدر عن الجميع ولم يكن أحد منهم محجوباً عن المشاركة والتدخل وكانوا يستظهرون الآيات إن جاء بها أحدهم ويقرون فعله وشهادته.
وعن خارجة بن زيد أن زيد بن ثابت قال نسخت الصحف في المصاحف ففقدت آية من سورة الاحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بها فلم أجدها إلا مع خزيمة ابن ثابت الانصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهادته شهادة رجلين [مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] ( )
ومدة خلافة عمر بن الخطاب التي إستمرت نحو اثنتي عشرة سنة (11-23) للهجرة، (632- 644) ميلادية ولم ينعدم فيها وجود مشاريع جمع القرآن والإلتفات إليه خصوصاً انه تم فتح الشام والعراق والقدس والمدائن وبعض نواحي الجزيرة، ودونت الدواوين ووضع التأريخ الهجري فيحتمل العمل بخصوص القرآن وجوهاً:
الأول : اعتمد في زمانه على المصحف الذي جمع في ايام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وايام الخليفة ابي بكر.
الثاني : قام بجمع القرآن في ايامه.
الثالث : لم يكن في زمانه مصحف يجتمع عليه المسلمون وإنتظروا حتى زمان عثمان بن عفان.
أما الوجه الثالث فهو بعيد لحاجة المسلمين اليومية للقرآن ولو لم يكن المصحف موجوداً لتساءل وطالب بالقرآن بين دفتين الصحابة والمسلمون القادمون من الأمصار وحديثوا العهد بالإسلام والغزاة والولاة الذين ذهبوا الى الأمصار التي أفتتحت أو أنشئت بصبغة إسلامية.
أما بالنسبة للوجه الثاني فلم يكن هناك ما يدل على إبتداء جمع القرآن في مصحف أيام عمر بن الخطاب بل أن النصوص والأخبار وردت بجمعه قبل أيام خلافته وهناك نصوص وردت بقيامه بجمعه، فقد وأخرج ابن أبي داود من طريق الحسن أن عمر سأل عن آية من كتاب الله، فقيل: كانت مع فلان قتل يوم اليمامة. فقال: إنا لله، وأمر بجمع القرآن، فكان أول من جمعه في المصحف. إسناده منقطع( ).
ان تقدم وسبق زمان جمع القرآن معجزة ورحمة لكل مسلم ومسلمة، وشهادة تأريخية ووثيقة خالدة تؤكد حفظه وتعاهده وانه نزل ليكون مجموعاً بين دفتين، وان كان تأخر جمعه في حال ثبوته لا يضر في هذه الحقيقة لأنه كان مجموعاً محفوظاً في صدور الصحابة لأسباب:
الأول : يتصف العرب بقوة الحافظة وحسن الذاكرة.
الثاني : موضوعية خصال الإيمان والتقوى عند المسلمين وما يترشح عنه من السعي في علوم القرآن ودراسة وفهم آياته والتدبر في معانيها ومضامينها القدسية.
الثالث : شوق الصحابة إلى آيات القرآن ومتابعتهم لنزولها، وكان بعضهم يسأل بعضاً هل نزل اليوم على النبي قرآن، وهذه آية إعجازية غيرية للقرآن أن يجعل الله عز وجل الصحابة يولون عناية خاصة لنزول القرآن بالتتبع والملاحظة، وهذا السؤال ليس مجرداً بل هو مقدمة للعلم بموضوع الآية وبلاغتها وأحكامها ودلالالتها العقائدية ومضامينها.
لقد أيقنوا بأن ما ينزل من القرآن هبة سماوية من عند الله تعالى للناس جميعاً وهم الواسطة بين الرسول وبين الناس في التبليغ والمعرفة فهم حملة القرآن، حملوه بصدورهم ونقلوه بأفواههم، وفهموه بمداركهم وعقولهم.
وكانت صدورهم أناجيل وواعية لسور القرآن يتعاهدون السورة والآية منطوقاً ولفظاً ليأتي رسم الحروف والكلمات مطابقاً للفظ وقد إستمرت كتابة القرآن من غير تنقيط، ولم يضر في كلمات الآيات ونطقه وموضوعه ولم يحصل أي خلط أو اشتباه أو ترديد في كلماته باحتمال أن يقرأ الحرف باء مثلاً ياء أو تاء أو نوناً او ثاء.
أي أن الرسم القرآني يحتمل أحياناً خمسة وجوه فمع تأخير التنقيط نحو مائة سنة فانه لم يؤثر سلباً ولم يؤد إلى الإرباك أو الخلاف والخصومة كل هذا لإتفاق المسلمين على قراءته وحفظهم لآياته.
كما أن الصحابة أيام النزول أكثر حفظاً وإنقطاعاً إلى القرآن وقدرة على الحفظ بالفطرة وكانوا يتصفون بالنباهة والفطنة بدليل أنهم بادروا إلى دخول الإسلام والجهاد في سبيل الله تعالى حينما رأوا الآيات العقلية فادراكهم للأسرار القدسية لآيات القرآن من بين الأسباب التي ساهمت في الحرص النوعي والشخصي على حفظ آيات القرآن.
وهناك نصوص من السنة النبوية الشريفة تبين حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين على حفظ القرآن وقراءته في البيوت وتعاهد الورد اليومي في قراءته.
وعن علي ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: خياركم من تعلم القرآن وعلمه.
عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان قال:قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه( ).
وعن انس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بني لا تغفل عن قراءة القرآن اذ أصبحت وإذا أمسيت، فان القرآن يحيي القلب الميت، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي( ).
وحديث الثقلين المشهور عند جميع فرق المسلمين وبطرقهم المختلفة: عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما( ).
فالحديث يؤكد في ظاهره وجود القرآن بهيئة المصحف والكتاب المجموع بين دفتين , وقد ورد عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم كانوا يأخذون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل ، قال : فتعلمنا العلم والعمل)( )، وهذا التعلم يساعد في ترسيخ اللفظ في الأذهان ويمنع من التحريف ويقلل من إحتمال النسيان من وجوه:
الأول : يأتي الحفظ من قبل الجماعة وليس الفرد.
الثاني : التعلم يمنع من الشك اللاحق بإحتمال إرادة كلمة أخرى بدل اللفظ القرآني، فالتعليم ترسيخ لكلمات القرآن في الصدور.
الثالث : فيه دلالة على إشتراك المسلمين في تدارس القرآن وتعاهده وحفظه ولم يكن هناك إحتمال لضياع بعض آياته أو سقوط عدد من كلماته.
الرابع : تأديب التجار وغيرهم بالجمع بين الإنفاق وبين قراءة القرآن وعن الزهري، عن سالم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا حسد إلا في اثنين رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل وأطراف النهار)( ).
وقيام المسلمين بتعلم ودراسة القرآن لابد وأن يكون مقروناً بالقراءة والكتابة وتدل عليه الأخبار المتواترة التي وردت بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إتخذ جماعة من الصحابة ليكونوا كتاباً للوحي.
وعندما ينزل عليه وحي ولم يكن معه واحد منهم كان يرسل عليهم في الحال ليكتبوا ما نزل عليه، فلم يترك الكتابة إلى حين حضور كتاب الوحي الإختياري، وهذه المسألة تؤكد توثيق الآيات وكتابتها حال نزولها وإن لم تكن السور كلها مجموعة بين دفتين.
وهناك أخبار كثيرة ذكرت بان الصحابة كانوا يكتبون القرآن في العسب وهو جريد النخل اذا نزع عنه خوصه، واللخاف وواحدتها لخفة وهي الحجارة البيضاء العريضة الرقيقة، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحث المسلمين على تعلم القرآن، وتلاوة آياته، وعن إبن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا معشر التجار أيعجز أحدكم إذا رجع من سوقه أن يقرأ عشر آيات، يكتب الله له بكل آية حسنة)( )، وفي الحديث مسائل:
الأولى : لزوم تعاهد المسلم لقراءة القرآن.
الثانية : عدم إكتفاء المسلم بالتلاوة في الصلاة.
الثالثة : قراءة القرآن وسيلة للعفو والمغفرة، ففي كل آية حسنة، كما في الحديث أعلاه، وقال الله تعالى[إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]( ).
الرابعة : بيان قانون وهو أن العمل والمكاسب يجب ألا تحجب المسلم عن ورده في تلاوة القرآن، (القرآن غنى لا فقر بعده ولا غنى دونه)( ).
وشرط الشهادة على كتابة الآيات عند جمع المصحف دليل على التوثيق والتثبت في كتابته، وهي وثيقة متواترة وشهادة تأريخية على سلامة القرآن من التحريف وخلوه مما ليس منه، فهذا الشرط لم يوضع لشطر من الصحابة بل كان شاملاً لكبار الصحابة، ومن يكثر من الحضور عند النبي ساعة نزول الوحي عند إرتقائه المنبر أو حديثه وإستشهاده بآيات القرآن.
واخرج إبن اشته في المصاحف عن الليث بن سعد: (وإن عمر آتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده) ( )، وذكر عمر مضمون المسألة على المنبر أيام خلافته.
وقال الحارث المحاسبي( ) في كتاب فهم السنن: كتابة القرآن ليست بمحدثة فانه صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقاً في الرقاع والأكتاف والعُسُب، فانما أمر الصديق بنسخها من مكان الى مكان مجتمعاًُ، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها القرآن منتشر فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء( ).
وظاهره أن القرآن جمع أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعند وفاته جمع القرآن وربط بخيط وهذا لا يمنع من إعتبار جمعه في أيامه صلى الله عليه وآله وسلم.
ان طلب زيد بن ثابت شاهدين على كل آية لا يعني الحصر بهما فقد يكون أكثر من شاهدين أو أن عدداً من الصحابة يأتون بالآية او السورة الواحدة الى جانب حفظ زيد نفسه للقرآن وتقرير الصحابة فان جميع الصحابة واهل البيت كانوا يراقبون جمع القرآن وحصول الشهادة وأشخاص الشهود، فسكوتهم يعني إمضاء وتوثيقاً للشهادات، وتدخل الأنصار مرة في اضافة (واو) في قوله تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ] ( ).
وقد كتبت إبتداء (الذين) من غير واو فيتغير المعنى ويكون الأنصار تابعين للمهاجرين، وينفرد المهاجرون بالسبق دخول الإسلام فاعترض الأنصار وجاءوا بشهود على نزولها بالواو فكتبت.
وفي قول زيد: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت اسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري فالحقناها في سورتها في المصحف مما يدل على الدقة والضبط وسلامة جمع القرآن وصيرورة مسألة رفع التلاوة أمراً مستبعداً.
وأخرج عن أبي قلابة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أوّل ما يرفع من الأرض العلم فقالوا: يا رسول الله يرفع القرآن؟ قال: لا، ولكن يموت من يعلمه أو قال: من يعلم تأويله. ويبقى قوم يتأولونه على أهوائهم)( ).
فرسم وتلاوة القرآن باقية إلى يوم القيامة، تدعو الناس في كل زمان إلى التدبر في معانيها، ولزوم الرجوع إلى اللغة العربية ومعاني الكلمات لفهم معاني اللفظ القرآني، وعدم الإكتفاء في آخر الزمان على الترجمة الحرفية وتأويل الترجمة.
وفي مغازي موسى بن عقبة، عن إبن شهاب: قال: لما أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر وخاف أن يذهب من القرآن طائفة فاقبل الناس بما كان معهم وعندهم، حتى جمع على عهد أبي بكر في الورق فكان أبو بكر أول من جمع القرآن في المصحف.
وأختلف في عدد المصاحف التي أرسلها عثمان إلى الآفاق:
الأول : إنها أربعة مصاحف، عن حمزة الزيات.
الثاني : إنها خمسة وهو المشهور.
الثالث : سبعة مصاحف الى مكة، والشام، واليمن، والبحرين، والبصرة، والكوفة، وحبس بالمدينة واحداً، عن ابي حاتم السجستاني( ).
وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، اذ شخص ببصره، ثم صوبه، ثم قال: اتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الوضع من هذه السورة [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى]( ) إلى آخرها.
وهناك أحاديث أخرى تبين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بقراءة آيات مخصوصات بلحاظ موضعها من سورة معينة مما يدل على أن ترتيب القرآن توقيفي وأن المسلمين كانوا يعرفون تلك الآيات وموضعها.
وعن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” من حَفظ عَشْرَ آيات من أول سورة الكهف، عُصِم من الدجال”( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ السور كاملة بما في ذلك سورة البقرة وسورة آل عمران والنساء، والأعراف ونحوها وكان يقرأ بعضها في الصلاة.
فالقرآن بترتيبه الحالي بين الدفتين انما تم بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما يتلقاه من الوحي وما ينزل به جبرئيل، ومراحل جمع القرآن لم تكن مناسبة للإجتهاد في نظمه وترتيبه بل ان النوبة لا تصل للإجتهاد، فالقرآن جمع على عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعندما قاموا بجمعه بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى كانوا يتتبعون جمع وترتيب الرسول الأكرم.
وأخرج ابن ابي داود من طريق ابي العالية عن ابي بن كعب أنهم جمعوا القرآن، فلما إنتهوا إلى الآية التي في سورة براءة [ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ]( )، ظنوا أن هذا آخر ما أنزل، فقال أبي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقرأني بعد هذا آيتين[ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ….]( ) الى آخر السورة.
فهذا يعني ان الذين كانوا يكتبون القرآن في المصحف كانوا لا يتعجلون بتثبيت مواضع الآيات بل يبذلون الوسع ويستحضرون قراءة الآيات في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم يجعلون متسعاً من الوقت للصحابة بالتدخل والبيان، وأن الصحابة كانوا يتابعون الكتابة ويساهمون بها، فما يكتب كان يعرض على الصحابة فلا غرابة أن ترد الأخبار بان زيد بن ثابت كان يجلس على باب المسجد أيام جمع القرآن لمنع ضياع بعض آياته أو إضافة كلام زائد على القرآن.
وقال القاضي أبو بكر في الإنتصار بعد أن ذكر أن ترتيب السور ضبطته الأمة عن النبي: يمكن ان يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد رتب سوره، وان يكون قد وكل ذلك إلى الأمة بعده، ولم يتول ذلك بنفسه، قال: وهذا الثاني أقرب( ).
والأقوى أن الترتيب من أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأخبار الواردة بجمعه في أيام النبي ولمعارضة جبرئيل له بالقرآن في كل سنة ومما يدل عليه ما حصل بسبب عدم كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم)في سورة التوبة والتعليل الصحيح له.
وذهب جماعة إلى القول بعد التسليم بان الترتيب بين الآيات من عند الله تعالى بأن الترتيب بين السور من قبل الصحابة وإليه ذهب مالك، ويمكن طرح قول آخر وهو أن بعض السور جاء ترتيبا من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي والتنزيل، وبعضها بترتيب من الصحابة، ولكن هذا القول لم يثبت.
فالأقوى ان الترتيب بين السور من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما نزل به جبرئيل.
خصوصاً وان القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ الى السماء الدنيا نجوماً ومتفرقاً فلما أثبت في المصاحف جاء بالتأليف والنظم المثبت في اللوح المحفوظ فلابد من تدخل الوحي في مسألة الترتيب، والوحي إنقطع بإنتقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، بمعنى أن الموافقة والتطابق بين الكتاب في اللوح المحفوظ وبين المصحف الذي بين أيدينا من فضل الله تعالى، وفيه إتمام للحجة، وبيان لدلالة سياق الآيات والنسبة والصلة بين فواتح وخواتيم السور.
“وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطيت مكان التوراة السبع الطوّل” يدل على حصول الترتيب من أيامه صلى الله عليه وآله وسلم وأن المسلمين كانوا يعرفون إعتبار وموضوعية الترتيب بين سور القرآن.
وأخرج أحمد وأبو داود عن أوس بن أبي أوس حذيفة الثقفي قال: كنت في الوفد الذين أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسلموا من ثقيف من بنى مالك أنزلنا في قبة له فكان يختلف إلينا بين بيوته وبين المسجد فإذا صلى العشاء الآخرة إنصرف إلينا ولا نبرح حتى يحدثنا ويشتكي قريشا ويشتكي أهل مكة.
ثم يقول لا سواء كنا بمكة مستذلين ومستضعفين فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب علينا ولنا.
فمكث عنا ليلة لم يأتنا حتى طال ذلك علينا بعد العشاء قال قلنا ما أمكثك عنا يا رسول الله قال طرأ عليّ حزب من القرآن فاردت أن لا أخرج حتى أقضيه قال فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أصبحنا.
قلنا كيف تحزبون القرآن قالوا نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة سورة وثلاث عشرة سورة وحزب المفصل من قاف حتى نختم.
قال: فهذا يدل على ان ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( )، كما أجري تقسيم لسور القرآن يدل في ظاهره على الترتيب.
هي السبع الطول: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس، وبه قال سعيد بن جبير، في قوله تعالى[وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي]( ).
المئون: ما جاء بعدها من السور سميت به لأن كل سورة تزيد على مائة آية او تقربها.
المثاني: ما جاء بعد المئين، لأنها ثنتها أي جاءت بعدها وتتصف سوره بكثرة الآيات ايضاً.
وقال الفراء: هي السورة التي آيها أقل من مائة لأنها تثن أكثر مما يثنى الطول والمئون.
والمفصل: ما ولي المثاني من قصار السور، سمي به لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة، وسمي بالمحكم أيضاً لقلة المنسوخ من آياته وينتهي المفصل بآخر سورة من القرآن وهي سورة الناس، ولكن أختلف في أوله على أقوال عديدة أوصلها السيوطي إلى إثني عشر قولاً، منها ان المفصل يبدأ بقاف، الحجرات، محمد، الصافات، الرحمن.
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: اعطيت مكان التوراة السبع الطول، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل.
أي أن التفضيل بالكم والكيف بسور وآيات المفصل بالإضافة إلى أن السور الطول والمئين والمثاني لا تعني التشابه التام مع التوراة والزبور والإنجيل لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مكان) أي بدلاً عن كل منها، لتبقى خصوصيات وإعجاز القرآن أمراً ينفرد به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويبين الحديث أن ترتيب السور كان من أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد إستدل بقوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا]( )، على المفاضلة بين السور والآيات، ولكنها لا تدل على المفاضلة لوجوه:
الأول : للترديد وذكر المثلية.
الثاني : إن خير أفعل تفضيل وهو يتعلق بالناسخ والمنسوخ، والناسخ فيه مضامين إضافية من الرحمة والتخفيف والبيان.
الثالث : إن التفضيل جهتي وهو خاص بالناسخ والمنسوخ وليس مطلقاً.
الرابع : المراد بالآية في قوله تعالى (ماننسخ من آية) أعم من آيات القرآن فإنه يشمل الآيات السماوية والشخصية وآيات الآفاق.
الخامس : الآية جاءت للبشارة وبعث السكينة في نفوس المسلمين، وطرد الخوف والوجل من التشديد في الأحكام أو فرض ما فيه حرج ومشقة زائدة، ولا يعني هذا أن النسخ لم يقع في القرآن أو أن الآية تتعلق بإمكان وقوعه وليس تحققه، والقرآن فيه ناسخ ومنسوخ، والناسخ رحمة إضافية مستحدثة وعلم جديد من علوم القرآن بالإضافة إلى التعبد بتلاوته، ومع أهمية الناسخ وأفضليته فإنه قد يأتي مثل المنسوخ، ومن وجوه المثلية الشرفية وقدسية كلام الله وما فيه من الأجر والثواب سواء عند قراءته أو تعلمه أو العمل به.
وعن إبن عباس أن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يارسول الله قد شبت، قال:شيبتي هود، والواقعة، والمرسلات،[وعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ* إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ]( ).
وفي الحديث إشارة إلى ما فيها من أهوال يوم القيامة وتفاصيل الحساب وعالم الآخرة، وهو مدرسة وعبرة وموعظة، وفيه حث على التدبر في هذه السور، والوقوف عند الآيات التي فيها ذكر الجنة وسؤال دخولها والفوز بالنعيم الخالد فيها، وإذا قرأ آية فيها ذكر النار تعوذ منها وسأل الله النجاة من حرها وعزم على إجتناب أسباب ومقدمات العذاب.
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال:إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس( )، فذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعدة كلية في الكائنات وأنه لابد من قلب يكون مركزاً للمادة ومصدراً للحركة، وأن القرآن كلام الله عز وجل وله قلب نابض بالحياة لا يسكن وهو سورة يس، لما فيها من لغة الإنذار والتحذير والوعيد والتنبيه للإستعداد ليوم القيامة ولزوم الإقرار بالنبوة.
وفيها لغة الإحتجاج على الكفار في موضوع البعث والمعاد.
وهي مرآة للنشأة الآخرة وصورة حية لكيفية البعث و النشور، ولابد من وجود أسرار رسالية في إطلاق صفة قلب القرآن على يس لم تدركها أوهامنا.
وأختلف في قوله صلى الله عليه وآله وسلم (قل هو الله أحد) تعدل الثلث القرآن على وجوه:
الأولى : إنه سمع شخصاًََََََََ يكررها تكرار من يقرأ ثلث القرآن.
الثانية : لأن القرآن يتضمن أموراً:
الأول: صفات الله تعالى.
الثاني: الشرائع.
الثالث: القصص.
وسورة التوحيد تتضمن صفاته تعالى.
الثالثة : انها ثلث القرآن بلحاظ ما لها من الثواب أي ان ثواب قراءتها يعدل ثواب ثلث القرآن، وأشكل عليه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات)( ).
ولكن الإشكال لا يرد على المقام، فتعدل ثلث القرآن اعم من موضوع القراءة ويتعلق بمضاعفة الثواب، ثم يمكن الجمع بين الحديثين وأن قراءة كل حرف من القرآن بعشر حسنات إلا ما خرج بالدليل ومنه سورة الإخلاص فان ثواب قراءتها يعدل ثواب ثلث القرآن.
الرابعة :السكوت في هذه المسألة ورد علمه إلى الله ورسوله.
الخامسة : من قرأها ثلاث مرات كمن قرأ القرآن كله، وقيل هذا لا يستقيم ولو قرأها مائتي مرة، ولكن القياس ليس على عدد الحروف والكلمات بل على الأجر المكتوب لقراءتها.
السادسة : القرآن قسمان خبر وانشاء، والخبر قسمان: خبر عن الخالق وخبر عن المخلوق، فهذه ثلاثة، سورة الأخلاص اخلصت الخبر عن الخالق فهي بهذا الإعتبار ثلث القرآن( ).
السابعة : في الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام: ان في القرآن ما مضى وما يحدث وما هو كائن)، والحديث أجنبي عن موضوع سورة الإخلاص ثلث القرآن، فلا يعني الحديث ان كل تقسيم ثلاثي لعلوم القرآن يكون مصداقاً للحديث.
وعن أبي بن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا محمد أنسب لنا ربك، فأنزل الله{قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد})( )، وعن جابر أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أنسب لنا ربك. فأنزل الله، عز وجل: ” قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ “)( ).
عن الإمام الصادق عليه السلام: ان اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: أنسب لنا ربك؟ فلبث لا يجيبهم ثم نزلت قل هو الله أحد الى آخرها.
عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قرأ { قل هو الله أحد } فكأنهما قرأ ثلث القرآن( ).
وفي إستحقاق سورة الأخلإص لعنوان ثلث القرآن مسائل:
الأولى: ما فيها من بيان لصفات الجلال والتعظيم للباري عز وجل.
الثانية: إنها لسان التوحيد والإقرار بالربوبية.
الثالثة: فيها تقوية لقلوب المؤمنين، وزيادة في التفقه في الدين.
الرابعة: نزل القرآن وسط مجتمع مفاهيم الشرك والضلالة، فجاءت سورة الإخلاص حرب عليها، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الخامسة: بيان وظيفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الله عز وجل إذ إبتدأت بتوجه الخطاب له(قل).
السادسة: في الآية شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه داع إلى الله عز وجل.
السابعة: بيان حاجة الناس إلى التوحيد.
السادس : فضل الله تعالى في جعل الثواب على قراءتها ثوابا على قراءة ثلث القرآن.
وهذا الإخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ثوابها لا يعني الحصر والتقييد بل فيه اشارة الى فضل السور الأخرى وكثرة الثواب في قراءتها فكما يثيب الله عز وجل الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله ويكتب لهم من الأجر اضعافاً مضاعفة كما في قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
فكذا بالنسبة لقراءة القرآن فانها فعل يضاعف فيه الأجر بلحاظ مضاعفة القراءة نفسها في سور القرآن وآياته سواء كانت هذه المضاعفة من الكلي المتواطئ أي أنها متساوية بالنسبة لآيات القرآن، أو أنها من الكلي المشكك أي متفاوتة في الكم والكيف والمقدار، والثاني هو الأرجح لأنه فضل ورحمة إضافية من الله تعالى.
وفيه دعوة لقراءة القرآن والتدبر في آياته وأحكامه وسنته.
وقد روى البيهقي في دلائل النبوة وغيره ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو عند ختم القرآن: (اللهم إرحمني بالقرآن، وإجعله لي أماناً ونوراً وهدى ورحمة، اللهم ذكرني منه ما نسيت، وعلمني منه ما جهلت، وإرزقني تلاوته آناء الليل، واجعله لي حجة يا رب العالمين) مما يعني قراءته بالترتيب وتكرار الختم.
وقد إشتهر بين المسلمين ان عثمان هو أول من جمع المصاحف، وقد قام بجمع المصاحف وتوحيدها ومنع الإختلاف والتعدد في كتابة المصاحف وحصول النزاع والخصومة بسببه.
فقد روى البخاري عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازى أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة إختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب إختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك.
فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام، فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا إختلفتم أنتم وزيد إبن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فانما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف ان يحرق( ).
ويدل هذا الحديث على وجود المصاحف مكتوبة بين الصحابة وغيرهم من التابعين وأنهم أقبلوا على إستنساخها والتدارس فيها وترجيح بعض القراءات أو اللغات على بعضها الآخر مما كان يسبب حرجاً ومقدمات فتنة فادرك حذيفة بما عرف عنه من الصلاح والتقوى الأضرار الفادحة لهذا الإختلاف.
فسارع إلى الخليفة فبادر للعمل برأيه لما فيه من الحكمة والسداد ولأنه لاحظ التباين في القراءة أثناء غزوه مع اهل الشام ثم مع أهل العراق، وهذا الجمع يؤكد أن القرآن كان مجموعاً ولكن إختلافاً بسيطاً ظهر في قراءة بعض الصحابة ممن ذهب إلى العراق أو ذهب إلى الشام وأخذ منه المسلمون هناك.
فكان توحيد المصاحف حاجة وضرورة تمت بدقة وبأيدي الصحابة لإنهاء الخلاف ومنع تشعبه وتفرعه بحسب البلدان والقراءات واللهجات وبالإسناد عن الزهري قال: “قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن القرآن جمع”( ) ولكن اخرج الحاكم بسنده عن زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله نوالف القرآن من الرقاع) (لذا قال الحاكم في المستدرك: جمع القرآن ثلاث مرات، إحداها بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
وفي حديث زيد اعلاه، دليل على جمع القرآن أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن إختيار أبي بكر لزيد بن ثابت لكتابة القرآن بسبب قيامه بجمعه أيام الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
وحينما جمع أبو بكر القرآن قال لعمر وزيد بن ثابت إقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه( )، أخرجه إبن أبي داود وهو منقطع وقال: رجاله ثقات، والمراد من الشاهدين وجوه:
الأول : الذي يأتي بالآية او السورة ومعه شاهد آخر من الصحابة.
الثاني : يأتي بشاهدين بالإضافة الى شخصه باعتبار ان الشاهد غير المدعي.
الثالث : قال ابن حجر: كأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتاب.
والأقوى هو الأول مع الكتابة على الرقاع او العسب بلحاظ أن الذي يأتي بالآية شاهد ايضاً , ويدل عليه قبول زيد لآية [مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ]( ) وقيامه بالحاقها بسورتها لأن خزيمة الأنصاري جاء بها قال زيد: وشهادته بشهادتين.
كما قام الإمام علي بجمع القرآن بعد انتقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى مباشرة
أخرج إبن أبي داود من طريق إبن سيرين قال: قال علي: لما مات رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم آليت آلا آخذ علي ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن فجمعته( ).
وهذا التعدد في جمع القرآن يدل على اهمية موضوعه عند الصحابة وأنهم لم يتركوا جمعه للأيام أو يكتفوا بحفظه في صدورهم فكان ما في الصدور مرآة لما في المصحف.
“وقال مالك فيمن قرأ في صلاة بقراءة إبن مسعود وغيره من الصحابة، مما يخالف المصحف لم يصل وراءه”( ).
وعن البيهقي باسناده عن زيد بن ثابت قال: كنا حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نؤلف القرآن إذ قال طوبى للشام، فقيل له: ولم؟ قال: لأن ملائكة الرحمن باسطة اجنحتها عليه، زاد في الدلائل في قول زيد: نؤلف القرآن في الرقاع( ).
ويدل الحديث: على أن جمع القرآن كان يتم في أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبحضرته وإشرافه وتوجيهه المبارك.
وذكر أن حرف أبي بن كعب هو العرضة الأخيرة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أختلف في الحرف الذي كتب فيه عثمان المصحف هل هو حرف زيد بن ثابت، أو حرف أبي، والأكثر ذهب إلى الأول وهو الأصح.
وقد روى البيهقي في دلائل النبوة وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو عند ختم القرآن: اللهم إرحمني بالقرآن، وإجعله لي أماناً ونوراً وهدى ورحمة، اللهم ذكرني منه ما نسيت، وعلمني منه ما جهلت، وأرزقني تلاوته آناء الليل، وأجعله لي حجة يا رب العالمين)، مما يعني قراءته بالترتيب وتكرار الختم.


قراءة قرآنية في الرؤيا
الــرؤيــا لــغــويــاً
في الرؤيا أربع لغات: الرؤيا بالهمزة. والرويا بالواو من غير همزة ورّيا على الإدغام وريا بكسر الراء. و الرؤيا مصدر كالبشرى والسقيا، إلا انه صار اسماً لهذه الصور والرموز في المنام فجرى مجرى الأسماء وخرج من حكم الأعمال وصارت الرؤيا تدل على ما يُرى في المنام مع وجود القرينة وسياق الكلام، وإختلافها عن الرؤية البصرية.
وإشتقاق إسمها من الرؤية بيان لإقتراب رؤيا المنام من درجة الواقع كما تذهب العرب بالظن إلى منزلة اليقين.
أي الرجل إذا إزدادت رُؤاه وكثرت أحلامه.
وتأتي الأحلام بمعنى الرؤيا وهما من المترادف اللفظي لكن يمكن القول إستقراءً أن بينهما في الإصطلاح عموماً وخصوصاً من وجه فلقد غلب إستعمال الرؤيا في المحبوبة، والحلم في المكروهة.
وورد لفظ الأحلام في القرآن أربع مــرات، ثلاث منهــا على لســان قوم غير موحــدين والرابعــة قولـه تعالى [ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ]( )، أما على لسـان الأنبياء فلم ترد إلا بلغة الرؤيا وكذلك في قولـه تعالى [ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ … ]( ) مما يحمل على الظن أن إصطلاح الرؤيـا هـو أقـرب إلى لغـة الإيمان لمـا يتضمنـه مـن إعتقاد بأهميتها ومحاكاتها لـه وتماسها معه والعـلم عند الله.
والأحلام جمع حُلُم بضمتين وقد يسكن وسطه، وهو في الأصل تصور الإنسان من داخل نفسه. كذلك يسمى العقل حلماً بلحاظ كونه ملاك إستقامة التفكر، ويطلق الحلم على زمان وسن البلوغ قال تعالى [ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ … ]( ) ومنه الحِلم بكسر الحاء ومعناه الأناءة وهو ضبط النفس والطبع عن الغضب وعن التعجل في العقوبة، وإجتناب الطيش والإبتعاد عن السفه.
و(تعبير الرؤيا) هو الإنتقال منها إلى التفسير وما تصير إليه والإخبار عما فيها من موعظة وعبرة، و(التأويل) بيان لما يحتمله اللفظ من المعاني والمضامين أو ترجيح أحد الإحتمالات دون القطع، وآلته العقل.
وبين التفسير والتأويل مطلقاً عموم وخصوص مطلق فالتفسير أعم من التأويل وقد تكون النسبة بينها بلحاظ معين التساوي.
وتفسير الرؤيا بيانها وكشف المراد منها على نحو التقريب والظن بلحاظ القرائن والأمارات، أما تأويلها فهو تدبرها وتقديرها وتحليلها وإستنباط المسائل منها وتلمس غاياتها والمقاصد السامية منها فما دامت الرؤيا الصالحة ليست عبثاً فلابد أن لها غايات.
الــرؤيــا في الــقـــرآن
لقد أنعم الله على أهل الأرض جميعاً والمسلمين خاصة إذ أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فضلاً منه ورحمة لتيسير إختيار الناس لطرق الرشاد والفلاح عبر ما تنيره لهم آياته من دروب الهداية والعلم وما لها من أثر كريم في إغلاق أبواب الحيرة والغفلة والجهالة إذ قال تعالى مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ.. .
لذلك ترى المؤمن يفزع إلى القرآن لإستنباط الأحكام الخاصة بالرؤيا وقوانينها وتأويلها كمسألة يدل بقاؤها حية نابضة بالحياة عشرات القرون على منافع فيها وثمار يقتطفها أهل كل زمان وأفراد كل مجتمع.
كما أظهر العلم الحديث بأن الحرمان من رؤية الأحلام عند الفرد يؤدي إلى إضطراب وخلل في حياته الفكرية.
وقد تكون الأحلام موضوعاً علاجياً لم يستثمر بعد لكثير من الأمراض النفسية والعضوية إلى جانب ما يمكن أن يكتشفه العلم مستقبلاً من فوائد الرؤيا وموضوعية صحة تعبيرها لتشكل كعناصر مجتمعة ومتفرقة، متداخلة أو متعاقبة وعند مختلف الهيئات والدرجات والقوميات والأديان حاجات ملحة للوقوف الحتمي عند القرآن وآياته وما فيه من أحسن القصـص التي قال فيها الله تعالىلَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ...
والآية دعوة واضحة لأهل العلم لينهلوا من القرآن ويعرضوا دراساتهم وبحوثهم ومنهجيتهم في الرؤيا على القرآن والسنة.
لقد ورد في القرآن سبع من الرؤيا. أربع منها في يوسف رؤيا وتعبيراً وواحدة وقعت لإبراهيم الخليل أحد الرسل الخمسة أولي العزم. واثنتان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مما يدل على موضوعية الرؤيا في حياة الأنبياء وهم سادة الأمم وأشرف البشر وأصحاب الكمالات.
والحاجة للرؤيا في تنظيم الحياة وشؤون العبادة ظاهرة، كما تصدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرؤيا درساً وعبرة ورحمة. فكانت الرؤيا الصادقة إتصالاً بالوحــي بين اليقظة والمنام خص الله به النبي صــلى الله عليه وآله وسلم فلا إنقطاع لـه ولا هجر فقال تعالى إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ .
لذا ساهمت الرؤيا في تثبيت أقدام المسلمين وحالت دون الفشل وهو الضعف مع الفزع وكذلك التنازع أي الإختلاف الذي يرقى إلى أحد أشكال الصراع، وكأن أحد الطرفين يسعى إلى قلع الآخر من مكانه، ولأن الكبرى الكلية هي حفظ الإسلام وإيجاد أسباب منعته وقوته فكانت الرؤيا من بين تلك الأسباب جاءت هبة وفضلاً من الله تعالى من غير مجهود وسعي.
والآية تفتح باباً لبيان العامل النفسي وأثره الفعال في مجرى الأحداث وسير المعارك ذلك العنصر الذي إلتفت إليه القادة العسكريون في القرن العشرين فأولوه أهمية وإنفاقاً ونشاطاً.
وإن كان المسلمون ومنذ معارك الدعوة والدفاع الأولى يحسنون توظيفه والإنتفاع منه بما أدّبهم الله في القرآن ورسوله، فمثلاً لما سألوا أمير المؤمنين عن الخضاب أخبرهم بأن المسلمين كانوا يخضبون أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كي يراهم العدو وهم بمظهر القوة والشدة أما الآن وقد كثر المسلمون فالأمر بالخيار.
فالرؤيا تشد العزائم وتبعث الأمل أو تلقي الأضواء على مواطن الخطر وتنبه الى لزوم الحيطة والحذر.
أما سورة يوسف التي أوردها الله سبحانه لسرد قصة أحد الأنبياء فقد تجسدت بها مدلولات الرؤيا وأهميتها كميزان يبين مضامين الحكمة وجانباً من الأسرار الخفية والعلوم المكنونة في خلق الانسان،
فيبدأ موضوع الرؤيا فيها من رؤيا يوسف في صغره وقيام نبي الله يعقوب بمهمة التأويل الأمر الذي يضفي عناية خاصة بعلم الرؤيا ومادتها وما تحتويه وما ترمز إليه من تعبير وإخبار عن أمر مستقبلي يكون إنعطافاً في تأريخ الإنسانية كحلقة بشارة وضوء يساهم في الإهتداء نحو الغايات التي تكون هدفاً روحياً ودنيوياً وأخلاقياً وأخروياً عبر خطوات ثابتة راسخة واثقة مملوءة توكلاً على الله وإيماناً ودلالة على إدراك يوسف لمقام الرؤيا وصدقها.
ويحول عنصر النبوة وشرفها دون الإلتفات إلى صغر سنّه آنذاك خاصة بعد ثبوت تعلقها في ذاكرته ووجود بصماتها في سلوكه إبتداءً من مسارعته من ساعته إلى أبيه ليقص عليه بلا تردد أو إستحياء تلك البشارة إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ،
وقيل إن يوسف كان نائماً ورأسه على فخذ يعقوب الذي يتفكر في وجه إبنه ويقول في نفسه أترى هذا الوجه أحسن من الشمس والقمر فانتبه يوسف عند ذلك فقال: يا أبت ما قدر الشمس والقمر عند صورتي إني رأيتهما يسجدان لي.
وإلى جانب ما تحمله الآية من أمر إلى الأبناء ليبثوا ما يعتريهم وما يحل بساحتهم إلى آبائهم، والأدب في الخطاب، والمحادثة بين الإبن وأبيه، فان قولـه تعالى [إِنِّي رَأَيْتُ] يتضمن إعتقاداً واقعياً بالرؤيا في المنام وإتصالها بعالم الحقيقة وإشعاراً قرآنياً للزوم الإهتمام بالرؤيا وتأويلها.
ويحمل الكلام على رؤيا المنام لأن الكواكب لا تسجد وبقرينة الآيات الأخرى في السورة، وفي الرؤيا بشارة ليوسف وحسن عاقبة لإخوته لما تبعثه الكواكب من ضوء، ففيها درس ليوسف كي يعلم أثناء إلقائهم لـه في غيابت الجب أنه سينجو ويكون أعلى شاناً وأن التوبة ستصيبهم.
وعن إبن عباس ان يوسف عليه السلام رأى في المنام ليلة الجمعة ليلة القدر أحد عشر كوكبا نزلن من السماء فسجدن له ، ورأى الشمس والقمر نزلا من السماء فسجدا له، قال فالشمس والقمر أبواه والكواكب إخوته الأحد عشر وقال وهب: كان يوسف رأى و هو ابن سبع سنين أن أحد عشر عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة و إذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها و غلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال له إياك أن تذكر هذا لإخوتك ثم رأى و هو ابن اثنتي عشرة سنة أن أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر سجدت لها فقصها على أبيه فقال له[لا تقصص رؤياك على إخوتك])( ).
روى جابر أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزل جبريل فأخبره بذلك فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لليهودي: إن أخبرتك هل تسلم؟ قال: نعم، قال: (حريان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووئاب وذو الكتفين رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدت لـه)
فقال اليهودي: أي والله انها لأسمائها( )، مما يدل على دقة تفاصيل الرؤيا والإهتمام بها، ولابد أنها كمسميات وأسماء لها إعتبار في تفسير الرؤيا وتحقق موضوعها.
و قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لما رآها يوسف قَصّها على أبيه يعقوب، فقال له أبوه: هذا أمر متشتت يجمعه الله من بعد؛ قال: والشمس أبوه، والقمر أمه” ( ).
والسجود هنا هو التطامن والإنحناء الذي سببه الإنقياد والخضوع والمبالغة بالتعظيم، وكان من عادات الناس في بعض البلدان ومنها بلاد فلسطين وعند تحية التعظيم ونحوه، وإستعمل في القرآن بمعنى إنقياد كل المخلوقات لإرادة الله سبحانه وتعالى، بما في ذلك سجود الملائكة لآدم عليه السلام قال تعالى[وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( )، والسجود في الاصطلاح هو وضع الجبهة على الأرض وهو ركن لفريضة أو نافلة أو تطوع في هيئة إستسلام وعبادة لله عز وجل.
وجاءت الآية الخامسة من السورة لتضع إطاراً تاريخياً للدائرة التي ينحصر فيها الإعلان عن الرؤيا وبيانها حتى وإن كان من التأويل والتعبير [قَالَ يَابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
إن لسان الحيطة ولغة التحذير هي مضمون الرد الإبتدائي من قبل الأب صاحب النبوة ورائد الحكمة على هذه البشارة، ترى هل يدل ذلك على غياب بعض عناصر الوجوب في حدوث رؤيا البشارات الأمر الذي يحتاج إلى تداركه بالسعي والعمل المناسب والمثمر، الجواب إن الرؤيا تتضمن البشارة والإنذار، ويأتي السعي والدعاء لتعاهد البشارة وجعلها حقيقة، ودفع الإنذار ومحو الضرر.
وفي التوراة حلم يوسف حلماً وأخبره أخوته فقال لهم إسمعوا هذا الحلم الذي حلمت به: نحن حازمون حزماً في الحقل وإذا حزمتي قامت وانتصبت فاحتاطت حزمكم وسجدت لحزمتي، فقال لـه إخوته: لعلك تملك علينا ملكاً أو تتسلط علينا تسلطاً، وازدادوا أيضاً بغضاً لـه من اجل أحلامه).
وقيل إن إخبار يوسف لأبيه برؤياه ما سمعه إلا خالته أم شمعون فأفشته إلى إخوته عندما عادوا من الصحراء فقالت لهم: ويلكم التعب عليكم والأجر ليوسف والإقبال عليه. (لما بلغهم رؤياه قالوا ما رضي أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه) ( ).
ويؤيد ذلك أن الآية تذهب إلى توكيد معرفة يعقوب لإمكانية تأويل أخوة يوسف لرؤياه فيحسدونه ويبغونه الغوائل ذلك أنهم يكرهون علو يوسف عليهم.
ثم أعلن يعقوب إستبشاره بدوام بقاء كلمة التوحيد وميثاق النبوة في عقبه بقولـه تعالى[وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ …]( ).
ويأتي الإجتباء والإختيار من الله عز وجل لهم حيث الإبتلاء والتوقير والإكرام بالتوفيق للأداء والهداية و[اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ]( ).
وإدخال تعبير الرؤيا ضمن تأويل الأحاديث يدل على أهميته وموضوعيته كمدرسة علمية عقلية روحية، ويؤكده بالدلالة الإلتزامية تأويل يوسف لرؤيا السجينين، ورؤيا الملك وما فيهما من الدروس والعبر ووجوه الحكمة).
قال الإمام جعفر الصادق لما حبس يوسف في السجن ألهمه الله علم تأويل الرؤيا فكان يعبر لأهل السجن رؤاهم( ).
وتبين قصة يوسف المرتبة العالية لعلم التأويل وعظيم منافعه وجلالة خطره ومنزلته في حياة الناس بل وشرفه كعلم وهبي، وإن كان ذلك لا يمنع من أن يكون في بعض مصاديقه علماً إكتسابياً مع الإقرار الإتفاقي على التفاوت الكبير بينهما.
إن التحذير الذي صدر من يعقوب النبي ليوسف حرز ودرع لما تحمله رؤياه من بشارات هو فضل من الله تعالى أخذه المسلمون وإنتفعوا منه بحكمة وموعظة.
و تدخل الرؤيا في مدرسة المثل القرآني التي تعتبر مناراً للحكمة وسبيلاً للكمالات وسلاحاً بيد المسلم ومنهاجاً في اعداد شخصيته وتربيته وحافزاً للصبر والمثابرة والجهاد.
ومن الصعوبة بمكان إنكار أثر تلك الرؤيا النسبي في مراحل بطش أخوة يوسف والقائهم إياه في قعر البئر ذي العمق ليغيب عن الأبصار، لتصبح مصاديق الرؤيا في الخارج باباً للإبتلاء ويقضي الله عز وجل أمراً كان مقضياً. ولتكون منافعها قريبة واضحة كأحد الحوافز في هروب يوسف من الفحشاء، وإستعداده لتحمل المسؤوليات الجسام.
وذكر السدي إنه لم يكن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له، إلا أن غابوا عن عين أبيه وتواروا عنه، ثم شرعوا يؤذونه بالقول، من شتم ونحوه، والفعل من ضَرْب ونحوه، ثم جاءوا به إلى ذلك الجب الذي اتفقوا على رميه فيه فربطوه بحبل ودلوه فيه، فجعل إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشَتمه) ( ).
ثم نزعوا قميصه عنه و هو يقول لا تفعلوا ردوا علي القميص أتوارى به فيقولون ادع الشمس و القمر و الأحد عشر كوكبا يؤنسنك( ).
نعم تلك الرؤيا لم تكن علة تامة لحسدهم لـه بل الأهم منها إكرام يعقوب النبي لـه، وإن كان هذا الإكرام بحق لأن يوسف وارث النبوة، ولكن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
وقولـه تعالى[وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ]( ) لم ينح موضوع الرؤيا جانباً إذا ما علمنا أن رؤيا الأنبياء وحي، والوحي على وجوه كثيرة:
الأول: بمعنى الإستخبار.
الثاني: الإلهام.
الثالث: المناجاة.
الرابع :الإرسال.
الخامس :الخبر.
والتداخل بينها أو بين شطر منها في حالة واحدة جزء من آيات الله وبعض من فضله على نفر من خلقه.
ولعل لتلك الرؤيا وما إحتلته في الذهن من أمل وطموح وإنتظار وإستعداد على صعيد العمل والواقع منافع وآثاراً مباركة في هروب وإمتناع يوسف من مراودة إمرأة العزيز لـه، وفي التنزيل: [ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ]( ).
إن يوسف  يطمع في نيل ما بشر به في الرؤيا بدوام الثبات على الإيمان في عبوديته لله وعلى نحو الإخلاص والإنقطاع.
ترى هل في الآية ما يؤكد بأن الظلم والعدوان والفواحش أمور تحجب تحقق البشارات وان الباب من مصاديق قولـه تعالى [ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ]( ).
ولما أخبر الله تعالى عن دخول يوسف السجن بقرينة من دخل معه، ذكر الله سبحانه رؤيا الغلامين وكانا غلامي ملك مصر وأحدهما صاحب شرابه وإسمه بندا، والآخر وهو الخباز وإسمه ملحب، وقد زج بهما في السجن بعد أن نمى إلى الملك أن صاحب شرابه يريد ان يسمه وظن أن الآخر ساعده في ذلك ومالأه. [ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ]( )،
إن إستعمال (أرى) مبنياً للمجهول يأتي بمدلولات خاصة للرؤيا وانها إخبار يزحف دنواً نحو الحقيقة لما تحمله مضامينه من إحتمالات الوقوع والحدوث، وفيه دعوة للعناية بالرؤيا وعدم التفريط بما فيها من الاسرار وعلوم الغيب، وإن كانت من الكليات المشككة التي تتفاوت بالمرتبة، فرؤيا الأنبياء وحي.
لقد أضفى السجن وما فيه من فراغ لأعضاء البدن إهتماماً خاصاً بعالم الرؤيا والإخبار وتحسس شؤون الغد. قال الساقي إني أرى في منامي وكأني قد دخلت كرماً فرأيت في الكرم حبلة حسنة فيها ثلاثة قضبان وعلى القضبان عناقيد العنب فأجتنيت العنب فعصرته وناولته الملك.
وقال الخباز إني أرى فوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة وإذا سباع الطير تنهش منها[نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ]( ) يطلق النبأ على الخبر ذي الفائدة والأهمية، لقد أدركا قيمة الرؤيا ووجوب معرفة تحليل معانيها لتفسير ما تصير اليه وما يكون عليه أمرهم. وإدراكهم هذا يصلح أن يكون محمولاً لا موضوعاً، وهو مقدمة غيرية لنجاة يوسف من السجن،
وللحاجة والأمل وحال الضيق في السجن موضوعية في الإلتفات الى الرؤيا، والإقرار الذاتي باحتمال تلمس طرق النجاة من خلالها، وترى هذا الإقرار حتى عند المشرك في مواطن الحاجة والخطر.
ويدل قولـه تعالى[إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ) على وجوب توفر الأخلاق الفاضلة عند من يعبر الرؤيا وينظر فيما تؤول إليه بعيداً عن الظلم للنفس والآخرين.
وكان يوسف يعود مريضهم ويعزي حزينهم، ويحسن في تعبيره لغيرهم رؤياه، ويخشى الله ويتقه فجاءت سيرته درساً وموعظة لأصحاب السجن، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: كان يوسع في المجلس ويقرض المحتاج.
وتبين الآية أهمية تأويل الرؤيا، فقد جعله الله عز وجل سلاحاً بيد يوسف يوظفه للدعوة إلى الله وللنجاة من السجن، وهي وجه من وجوه الدعوة إلى الله ومناسبة لبثها وإنتشارها في عالم أوسع وجعلها رحمة ينتفع منها الناس وتكون حجة للمؤمن وحجة على الكافر.
لقد أجابهم يوسف بالوعظ والدعوة إلى توحيد الله وعبادته وإخلاص الطاعة عبر البينة وصيغ الإقناع في صيغة جاءت دعوة للإقتداء به في الفتيا ولينهل منه الذي يتوجه لـه الناس في أمور دينهم وأسرارهم الروحية تعظيماً لشــعائر الله، ثم جعـل يوسف ذلك سبباً رزقه الله بواسطته القدرة على تأويل الرؤيا [ ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ]( ). مما يبين أهلية أهل الإيمان والتوحيد للتعبير السليم ذي النفع والإعتبار وقد يكون عند غيرهم ولكن بالواســطة والمحاكــاة والتعلم والانفاق والصدقة في درك التأويل والغاية.
وهذه الآية وفق مضامين قانون التفسير الذاتي للقرآن بيان لعجز الملأ من الوجهاء عن تأويل رؤيا الملك وتعبيرها، وهي السبب وراء إطمئنان وثقة من نجا من السجن وعمل عند الملك وشهادة لحسن تأويل يوسف لهما.
إن قولـه تعالى[يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ]( ) من خير ما قدم لجواب فتيا، وهي درس وموعظة وعلم ومدخل لمصارعة ما رسخ في أذهانهم من الشرك، لأن الآية التي بعدها تتضمن في السياق نفسه ذماً لبدع الضلالة والشرك الذي يربك الفكر الإنساني، ودعوة إلى التوحيد والإسلام والخضوع والطاعــة لله سبحانه لا شـريك لـه لينتقـل إلى تعبير رؤيا كل منهما.
ومن إعجاز الآية إتخاذ تأويل الرؤيا مناسبة للهداية والصلاح وذاك جزء من الشكر الواجب، فحينما ينعم الله عز وجل على العبد برؤيا تتضمن البشارة أو الانذار يدرك أنها لا تكون إلا بفضل من الله تعالى، وهذا الإدراك والظن قد يتحقق حتى عند الكافر خصوصاً إذا كان في شدة وضيق لما يتصف به حينئذ من إمكـان إنقداحه في الذهن بسبب عدم الإنشغال بمتاعب وهموم الحياة اليومية، ولتلمسه في خيال خصب تتلألأ فيه الوجوه المحتملة لنجاته وإن كان يدرك أن إحتمالها ضعيف، [يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ]( ).
قال يوسف للساقي بلغة البشارة ما أحسن ما رأيت أما الكرم فهو العمل الذي كنت فيه.
وأما الحبلة فسلطانك ودائرة عملك وأما حسنها فهو عزك وكرامتك في ذلك العمل.
وأما القضبان الثلاثة على الحبلة فهي ثلاثة أيام تقضيها في السجن لتخرج بعدها عائداً إلى عملك.
وأما العنب الذي عصرت وناولت الملك فهو أن يردك إلى عملك ويحسن اليك.
وأجرى على الملك صفة رب الغلام لأنه يملكه وتوضيحاً بالسنن المتعارفة عندهم كأسلوب في تأويل الرؤيا وتعبيرها ولوجوه فهم العناصر والأحوال البيئية لصاحب الرؤيا وعمله وإنتمائه الديني وما يحمله من إعتقاد.
ثم إلتفت نحو الخباز قائلاً: لبأس ما رأيت. لينذره ويجعله يستعد للموت عسى أن يكون من ضمن إستعداده التوبة والإسلام.
فأضاف شارحاً ومفسراً أما السلال الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تبقى في السجن ثم يخرجك الملك فيصلبك وتأتي الطيــور لتأكل من رأسـك.
ففزع الغلام ولم يستطع إخفاء إرتباكه وما أصابه فقال ما رأيت شيئاً وكنت ألعب. فقال يوسف تلك الوثيقة السمــاوية التاريخية الخالدة [قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ]( ) أي فرغ من أمركما والذي تسألان وتطلبان معرفته ومآله، ونبأتكما بما هو نازل بكما.
لقد كان تأويل يوسف للرؤيا في السجن مدرسة مستقلة في العلوم من وجوه:
الأول : تأكيد منزلة ورفعة مقام يوسف بين أهل السجن.
الثاني : بيان مظلومية يوسف عليه السلام وما لحقه من الضرر بسجنه.
الثالث : الدلالة على براءة يوسف من دعوى إمرأة العزيز، وقد يسجن الإنسان البريء ولكن دخوله السجن وتعاقب الأيام عليه في داخله نوع أمارة على الجناية عند شطر من الناس خصوصاً الذي لا يعلم إلا بوجوده في السجن ونوع التهمة.
الرابع : تأويل يوسف عليه السلام للرؤى من عمومات قوله تعالى[وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ]( ).
الخامس : جذب الذين في السجن إلى منازل الهداية والإيمان.
السادس : حفظ وسلامة شخص يوسف عليه السلام في السجن من الكيد والقتل والبطش، فقد ينوي بعضهم الإضرار به تقرباً للعزيز، أو قد يمكر به العزيز أو إمرأته، وقيل كانت زليخا تأمر السجان بضربه كي تتلذذ حين سماع صوته، فكان السجان يضرب الجدار ويطلب منه الصياح وإظهار الوجع والألم مما يدل على رأفة السجانين به( ).
السادس : تعبير يوسف عليه السلام للرؤيا رأفة من الله عز وجل بالسجناء ومن منافع صحبة النبي وإن كان في السجن لذا ورد حكاية عنه في التنزيل[يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ]( ).
السابع : تعبير الرؤيا بيان لموضوعيتها، وفضح للذين يدّعون تأويلها بغير علم، إذ كانت للمعبرين في مصر أيام الفراعنة مكاتب خاصة لها رواد.
الثامن : التعبير طريق للتصديق بنبوة يوسف.
التاسع : في التعبير للسجناء شاهد ومقدمة لتعبير يوسف لرؤيا الملك، وعمل الناس بتأويله خصوصاً مع حاجتهم لهذا التأويل المبارك.
ومن خصائص المسلمين الإرتقاء في العلم والتفقه في الدين حيث رزقهم الله معرفة سبيل التخلص من الإنذارات كنتائج ورموز للواقع عبر طريق الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل والصدق، وأداء الصلوات المفروضة، قال الإمام الصادق عليه السلام: “ينزل البلاء وقد قُضي قضاء مبرماً فيدعو الإنسان فيمحو الله البلاء ويكتب لـه اجر من أصيب بالبلاء”.
وسمى يوسف الخروج من السجن نجاة ويدل في مفهومه على أن السجن بلاء وسبب للهلاك، ومع هذا ورد حكاية عنه في التنزيل[رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ]( )، لبيان حقيقة وهي لو دار الأمر بالإفتتان والمعصية وبين البلاء بالسجن فالثاني هو الأولى، لأن الأول هلاك وعذاب أليم في الآخرة، وجعل تأويل الرؤيا بمنزلة الظن الذي يبقى في درجة هي دون اليقين كمسألة في صيغ الإعجاز القرآني، قال تعالى [وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ]( ).
ويحمل اللفظ القرآني بل الكلام العربي مطلقاً على ظاهره ولا ينتقل إلى المجاز أو خلاف الظاهر إلا مع القرينة المعتبرة، فنعت تأويله او هذه الحصة منه وهي نجاة أحدهما بالظن، فيه وجوه:
الأول: إنه درس تأديبي للذين يتصدون لتعبير الرؤيا وتأويلها.
الثاني: إنه إحتياط إحترازي.
الثالث: إدراك وإقرار باحتمال وقوع الاحداث بخلاف ظاهر الرؤيا وما أخبرت عنه لعمومات قولـه تعالى [ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ]( ).
الرابع: موضوعية الدعاء والصدقة وعمل الصالحات بصرف البلاء او بتقديم أوان الرزق الكريم.
الخامس: في لغة (الظن) ترغيب بالإيمان والدعاء واللجوء إلى الله عز وجل لتحقيق الرغائب، والبشارات، ومحو مصاديق الإنذارات.
فالقرآن يريد ان يبين لنا ان تأويل الرؤيا لا يرقى الى اليقين ويبقى في مراتب الظن وإن صدر من نبي لا لسبب قصور في التأويل بل لأن رحمة الله تعالى وفضله أعم من الرؤيا وتأويلها فإن باب عفوه تعالى ورحمته مفتوح دائماً وفي كل لحظة، ومقتضى القاعدة ان الظن بذاته لا يصلح للحجية او العمل بمقتضاه او التعويل عليه لدرك الواقع، قال تعالى[وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا]( ).
ولكن المقام مختلف لأن ظن الأنبياء مرتبة في العلم، كما أن رؤاهم وحي لذا ورد قوله تعالى حكاية من يوسف[قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ] ( ).
وورد الدليل باعتبار الظن الخاص والمعتبر طريقاً مجعولاً لـه كاشفية ذاتية وإن كانت ناقصة أمضاه الشارع وكأنه تخصيص للآية أعلاه.
وسأل يوسف الفتى أن يخبر الملك بمصيبة يوسف وعلمه وإحسانه وعفته كسبيل للشكوى وعرض لكفاءاته من أجل الإنتفاع العام مما رزقه الله وآتاه من علم، وفيها توظيف للعلم لقضاء الحوائج في الدنيا أو على الأقل في رفع الظلم وكشف الغم، وما لبث الملك حتى رأى في المنام أمراً أهاله وأحزنه كما ورد في التنزيل[وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ]( ).
وتظهر الآيات الملازمة بين الرؤى المتعددة، وكأن وجود يوسف  في السجن سبب في معرفة الملك بتأويل رؤياه، أي لو لم يكن يوسف  في السجن ويفسر للغلامين رؤياهما لما إستطاع رسول الملك أن يصل إليه.
وهكذا يبتلى النبي لينتفع الناس، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “ما أوذي نبي مثل ما أوذيت”( ) فلابد ان النفع بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعم وأشمل ويدل عليه القرآن، ولم توثق قصة يوسف بالحكمة إلا بالقرآن وإن وردت في التوراة ايضاً.
وأصبح ملك مصر وهو الريان بن الوليد من دولة الرعاة العربية الهكسوس من الأسرة الخامسة عشرة أو السادسة عشرة فأخبر عن رؤياه مخاطباً الرؤساء والوجهاء وأشراف القوم ومقدميهم أنه رأى رؤيا على أقسام:
الأول: سبع بقرات ظهر عليهن النمو السريع والشبع ودلائل الخصب في الأرض.
الثاني: رأى سبع بقرات جفاف كان الهزال وسوء التغذية فيهن يدرك بوضوح.
الثالث: ابتلعت البقرات ذوات الهزال السمان.
الرابع: ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبع غيرهن يابسات.
الخامس : التوت السنبلات اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها.
لقد كان هذا الإعلان من الملك بياناً وثائقياً لكي لا يستخف الناس بالرؤيا ورموزها وفيه وشاهد بأن الأمم السابقة مع ما أصابها من الضعف والجهل في باب العقائد لم يعرضوا عن عالم الرؤيا وما فيه من الأسرار مما يدل بالدلالة الإلزامية على إقرارهم بالغيب.
ثم طلب منهم الفتيا وجواباً عن حكم المعنى ومفهومه، وفيه مسائل:
الأولى: ليكون حجة عليهم.
الثانية: يتضمن السؤال نهياً وتحذيراً للناس من الإسراف في الاستخفاف بالرؤيا.
الثالثة : يدل هذا السؤال طوعاً أو قهراً على إقرار الملك بعلوم الغيب.
الرابعة : لقد خاف الملك على مملكته لأن الرؤيا خاصة بأمور الرياسة والمعاشات والفقر النوعي العام تهديد للسلطان، وضعف له.
والآية حث على الاهتمام بالرؤيا في كل زمان ومكان و مجتمع حيث أخرج الملك طلبه إستفهاماً وأكد حرصه على وجوب الإجتهاد في مدخلية تحليل رموز، وكانت هذه الرؤيا حجة على الملك والملأ من قومه من وجوه:
الأول: الرؤيا وعناصرها موضوع لمستلزمات ادارة شؤون الحكم والبلاد، ولكن حاشيته ووزراءه إتجهوا صوب صرف الملك عن رؤياه وموضوعها لأنها نوع إخبار وصلة بالغيب.
الثاني: إنها دعوة للتفكر بالخلق وأحكام العبودية.
الثالث: فيها بيان لحاجة الممكن إلى واجب الوجود في وجوده إبتداءً وإستدامة.
الرابع: تهدي رؤيا الإنذارات إلى الطرق التي تؤدي إلى الإيمان.
الخامس: تفتح الرؤيا أبواباً من العلم، وتدعو الإنسان إلى التأمل والتدبر.
لقد سعوا في إجاباتهم عن مسألة الرؤيا إلى إبقاء ملازماً للوثنية بعيداً عن التدبر الشخصي أو الجماعي في أسرار الخلق ومعالم التكوين وهل يمكن القول انهم حرصوا على التزلف له وخشوا بطشه وفتكه بهم أو اعراضه عنهم لأن الإقرار بالغيب وعالم التدبر الخفي يتعارض مع ادعاء فرعون بالربوبية وان الاستدراك في الآية التالية يؤيده، لا مانع منه وإن جاءت الآيات بوصفه للملك[قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ]( ).
أي انها أحلام لا تأويل لها ولا خير فيها دخل بعضها في بعض، ولكن يأبى الله إلا ان يتم نوره، فأردفوا مستدركين مقهورين معترفين بعجزهم عن تدبير وتقدير أو تفسير رؤيا المنام لأن ذلك باب من أبواب العلم يحتاج إلى المزاولة وسعة المعرفة والتجربة وطول الملابسة.
وتبين الآية منافع وجود مدارس أو دروس مخصصة لعلم الرؤيا وتعبيرها كما تظهر الآيات وجوب تقريب الملوك لأهل العلم المتخصصين في فروعه ورجحان كفة صاحب الإيمان حيث استثمرها ساقي الملك فرصة [وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ]( ).
عندما شاهد الغلام إهتمام وفزع الملك وحاجته للوقوف على تفسير الرؤيا وفهم معناها وسمع من الوزراء ورؤساء القوم إعلانهم الصريح بإفتقارهم لملكة تأويل الرؤيا وفنونها، تذكر يوسف وما آتاه الله من علم. هذا الشاب المنفرد بدين فيه صلاح وإحسان ومسألته إياه[اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ]( ).
فطلب من الملك مباشرة أو بالواسطة الإذن بالتصرف والإنتقال إلى غير الرؤساء والوجهاء، وضمن واثقاً بيوسف ومصدر إلهامه وما إستنتجه من تأويل يوسف لرؤياه ورؤيا صاحبه التي جاءت كفلق الصبح فقال ان الأمر خطير وعلى جانب من الأهمية كبير وسأحمل لكم ما يفاجئكم من صواب ووضوح وحكمة.
فجاء إلى يوسف وخاطبه باسمه رغم مرور سنوات على مفارقة السجن والنزول في مكان للقــاء غير دائم، وأثنى على يوسف مدحاً وتكريماً [ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ]( )، مما يدل على حصول علم إنطباعي عنده وأقرانه على صدق يوسف ونزاهته وإستقامته.
لقد كان يوسف صادقاً في دينه وأقواله ولا يخالجه في أمر الله شك صدّقت الأحداث أقواله وتعبيره وكان مخلصاً في دعوته إلى التوحيد وعبادة الله. وقد تشم نسمة إيمان في كلام الفتى هذا وفيه ذم للشرك ولما عليه القوم بلغة التعريض، والرؤيا بحاجة إلى أن تدرس كسلاح عقائدي،
إذ لم يكن المؤمنون يومئذ قادرين على القتال أو نشر لواء التوحيد فجاء المدد من الله تعالى برؤيا إحتاج الناس إلى تأويلها وإنفرد النبي به لتصدقه الأيام مما سبب بإسلام الكثيرين بما في ذلك الملك نفسه.
إن الفرصة قد حانت لك أيها الصديق لإظهار علمك ومبدأ التوحيد فان الأمة ملكاً وأعياناً وأهل البلد محتاجون لما آتاك الله من علم في تأويل الأحاديث وتفسير الرؤيا وهم اليوم إذن صاغية لك ولما تحمله من مبادىء آبائك في الإخلاص في العبودية لله عز وجل.
لقد أدرك الفتى منذ أيام السجن أن عليه نقل نص رؤيا الملك فإستحضرها بدقة كاملة ثم قال بلسان رجاء وطمع[لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
وظاهر الآية أن علة مجيئه حاجة الملك والناس إلى تأويلها لا جعلها موضوعاً ومناسبة لذكر الظلم الذي يتعرض لـه يوسف عليه السلام، فليس من دليل على أن هذا الساقي يذكر يوسف  عند الملك لولا رؤياه، كذلك فإنه يأتي إلى يوسف قهراً وإنطباقاً في تأويل تلك الرؤيا، ولو لم يقل لـه قبلها “اذكرني عند ربك” لإنحصار تأويلها به عليه السلام.
والآية تبين جوانب من منافع تعبير الرؤيا لإحتمال أن يعرفوا ما هم عليه من ضلالة وجهالة الشرك بقرينة عجزهم الظاهر في تعبير الرؤيا وتأويلها كما أنه فرصة سانحة للإصغاء ومناسبة كريمة للإعلان ولو بصورة عرضية لوجوه من المفاهيم والقواعد العامة لعقيدة التوحيد. وليعلموا وجوب عبادة الله تعالى وإتباع العالم وليأخذوا مما عنده من العلوم. ولعلهم يخرجون من الحيرة والغفلة فينتبهوا إلى الأحكام التي تستنبط من هذه الرؤيا وتاويلها.
[ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ]:تقدير الآية وموضوع علمهم على وجوه :
الأول : نزاهة وعفة يوسف عليه السلام.
الثاني : ما لحق بك من ظلم وأذى وإني لأرجو أن تكون هذه المسألة باباً لخروجك من السجن وفرصة لما سألتني إياه من ذكرك عند الملك.
الثالث : إنها ساعة التحدي وإمتحان حاسم ومؤثر في طريق النجاة والفوز.
الرابع : إنها مناسبة لبيان العلم وقطف ثماره بإعلاء كلمة التوحيد.
الخامس : لعلهم يعلمون الأسرار الغيبية في الرؤيا.
السادس : الحاجة إلى الإيمان ونبذ الشرك.
أجاب يوسف في الحال كما في التنزيل: [ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ]( ). لم يأت يوسف هذه المرة بمقدمات من الوعظ والنصح وجعل جوابه منحصراً بتأويل رؤيا الملك، وهي مدرسة في لغة مخاطبة الملوك.
والزرع هو نثر الحب في الأرض مع التعاهد لـه بالسقي. وضع يوسف خطة عمل الدولة والأفراد بالزراعة المقرونة بالجد والنشاط والتعب وملازمة الأرض في سبعة من الأعوام متتالية ينزعون فيها رداء التراخي والكسل.
وربما كان من أمره نبذ ترك نصف الأرض بوراً في نظرة متقدمة زماناً على الإستثمار العلمي للأرض في هذه الأزمان ودعوة قرآنية لإعتماده تدل على الإعجاز وشمولـه لمواضيع الحياة اليومية بما يقيّض للمسلمين أسباب الحياة الكريمة التي تكون عوناً لهم على العبادة وأداء الفرائض وفعل الصالحات مطلقاً.
ويلاحظ في التأويل صيغة الأمر والقطع وخلوه من الظن والإحتمال، لعله لمنع ترددهم وإهمالهم للتأويل لأنها ليست قضية شخصية بل نوعية يتهدد فيها الوجود الإنساني، ومن وظائف النبوة بلحاظ الآية الدعوة إلى الله بالذات والواسطة، وتتعاهد الوجود الإنساني وحفظ النسل كموضوع ومادة للعبادة، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وكجزء من تعبير الرؤيا المسؤول، أمره يوسف عليه أن لا يدوسوا ما يقطعون بالمنجل ولا يجزّوا شطراً من الحنطة والشعير والذرة عند أوان الحصاد ليبقى في سنبله كي لا يقع فيه السوس ولتكون فترة إمتناعه عن التلف والفساد مدة أطول، ولكنه لم ينس إستثناء جزء وكمية قليلة منه لمؤونتهم اليومية بإقتصاد وتدبير وتقديم موضوع الإدخار لقاعدة تقديم الأهم على المهم، لأنه أضاف القلة إلى أكلهم ولم يضفها إلى ما يحصدون وذلك أن القلة خلاف الكثرة. ولم تغب عنه حاجتهم إلى الدواب وألبانها ولحومها فنبه إلى ضرورة إدخار العلف لها من قصب البر وسنبله.
إن العمل المتواصل في زراعــة الأرض والتدبير وخزن الطعام في سنوات الخصب والبركة سعي مبارك لطرد شبح المجاعة وأهوال الحروب وصعوبة الزمان ومكاره الدهر وشدة العيش وشظفه في أعوام جدب تلي تلك السنين وما فيها من السعة والخير والربح الوافر , قال تعالى[ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ]( ).
أخبر يوسف عن جدب عام يصيب الأرض ومن عليها حين تمسك السماء بركاتها وتعرض عنهم، ليحذرهم من الإستخفاف والإسراف والظن بإمكان الحصــول على الطعــام من أمــاكن او بلدان أخـــرى. نفعهم ووفّر عليهم المال والجهد حيث نهاهم عن البذار فيهن ونثر الحَب لأنه لا يرجع بشيء.
وأضاف يوسف بما معناه إنكم بمثل هذا النهج والعمل تستطيعون التخلص من أذى المجاعة ومغالبة السنين الشداد القشف القشر بالإحراز لهن والمنع والتبلغ بالقوت، وطمأنهم لإمكانية بقاء نسبة قليلة مما إدخروه ليبذر في زراعة الأرض بعد سنوات الجدب ويبس العيش وليقتاتوا منه حتى موسم الحصاد وإقترنت تلك السنين بإسم يوسف لما فيها لـه من كرامات ومعجزات.
وفي رواية عن ابن مسعود قال: إن قريشا لما إستعصت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبطأوا عن الاسلام، قال: “اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف قال: فأصابتهم سنة حتى حصت( ) كل شيء، حتى أكلوا الجيف والميتة، وحتى أن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان ( ).
ثم أبلغهم يوسف بمجيء الخصب واليسر والرخاء بعد العسر والضيق والشدة[ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ]( ).
سينعم الله على الناس ويرحمهم بماء من السماء مبارك ينقذهم فيه ويذهب عنهم معاناة الجوع والحرمان ويعصرون الزيت والسمسم والعنب لما يكون في الثمار وحاصلها من زيادة.
روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: [وَفِيهِ يَعْصِرُونَ] يُـمطــرون أما ســمعـت قــولـه تعالى[وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا]( ).
وعن إبن عباس[وَفِيهِ يَعْصِرُونَ] يحلبون( ).
لقد إستمع الملك والأعيان إلى هذه الإنذارات المنبعثة من وراء قضبان السجن وجدرانه البالية السميكة وهكذا تحدث إنعطافات كبيرة في مجرى التأريخ وتُعبّد فيها طرق مستحدثة يبرز معها رجال عظام تبقى آثارهم مع السنين كان للأنبياء منها الموقع الأساسي الذي لا يجارى بفضل من الله.
لقد بادر الملك إلى توجيه الدعوى ليوسف وأمر بإحضاره وبدأ معها بناء شأن وجاه ليوسف في البلاد وعند الملك، وبذلك إخبار عن قيمة العلم ومنه التعبير ومنافعه الإجتماعية والدينية والتربوية والإقتصادية والسياسية أيضاً إذ منع يوسف سلطان الملك من الزوال والتصدع، ورعيته من التفرق والفاقة بأن فقهوا ما في الرؤيا من إنذارات وأخذوا بتأويلها وأحسنوا تنفيذ وتطبيق تفاصيل خططه واتبعوا ما فيها من الحكمة، وأنى لهم ذلك إذا استمروا بالاستغناء عن يوسف وما أتاه الله من علم.
لقد رد يوسـف رسـول الملك ومبعوثـه حتى يحـترموا طلبه بإعلان ثبوت براءته ونزاهة عرضه إلى جانب أمانته.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ” لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره -والله يغفر له- حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني. ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربك. ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث ، لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليماً ذا أناة).
وقد ورد مضمون هذا الحديث بطرق متعددة عن أهل البيت عليهم السلام، وكذا ورد في الدر المنثور بعدة طرق عن إبن عباس، وقيل: (وهذا النبوي لا يخلو من شيء فان فيه أحد المحذورين، أما الطعن في حسن تدبير يوسف  وتوصله إلى الخروج من السجن وقد أحسن التدبير… وأما الطعن… ].
أقول: ليس في الحديث موضوع للطعن بالنبوة مطلقاً ولكنه يحتاج الى تأويل باستحضار الكبرى الكلية وهي ان ما عند الانبياء هو عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أكثرهم صبراً، ولكنه أراد البيان للأمة والناس، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنا معاشر الانبياء امرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم)( )، وفي الحديث إظهار للحق وجهاد الانبياء وحلمهم وصبرهم وسعيهم الحثيث وعدم بخلهم بما ينفع الناس ولو كانوا بأشد الأحوال، فتراه أثناء تلقيه الأذى والظلم منهم يتقدم لـه بأعظم نصيحة تأريخية.
وعلى حمل الحديث على ظاهره فأنه يبين معاني الرحمة والتخفيف في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكشف الحق وحذف البلاء بصيغ ووسائل أكثر تخفيفاً، وهو من اللطف الإلهي بالمسلمين.
وأجيب يوسف إلى مسألته إكراماً لعلمه وبحثاً عن برهان لإعتماد تأويله في أمر بالغ الأهمية في شؤون المملكة وتصريف أعمالها ليتفق الجميع على صدقه، وتأتي الأيام لتعزز وتوثق ذلك. وقالوا إن الملك لما إلتقى بيوسف قال لـه: أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي تلك منك فجاء يوسف بالرؤيا على الهيئة التي رآها الملك وأصبح يوسف ذا تمكن في البلاد ووجاهة ومنزلة حصينة ويتولى شؤون وزارة الأرض لقولـه تعالى[قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ]( ).
الآية التي تبعث على الظن والاعتقاد – والعلم عند الله – بأن يوسف هو بشــارة إبراهيم في قولـه تعالى[إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ]( ). وأن ذلك كان عوناً لـه بأن رؤيا ذبح إبنه سوف لن تقطع نسله وذريته في الأرض، وان حصر المفسرون موضوع البشارة اقوالهم وإختلافهم فيمن يكون هو البشارة إسماعيل او إسحاق والله واسع كريم( ).
والآية[وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ]( ) بيان لنعم الله على يوسف ومنافع ما علّمه سبحانه من تأويل الأحاديث وتعبير الرؤيا، وبشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودليل عمل للمسلمين. (عن الإمام الصادق قال: قد كان يوسف بين أبويه مكرما، ثم صار عبدا حتى بيع بأخس وأوكس الثمن، ثم لم يمنع الله أن بلغ به حتى صار ملكا)( ).
وبعد سنوات من إستلام يوسف مقاليد الوزارة في مصر وقيامه بأعبائها خير قيام ومجيء إخوته خلال ســـنوات أمرهم في ختامها بإتيانهم بأبيهم معهم[وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا..]( ).
لقد إتخذوا من يوسف قبلة وفيه إقرار لـه بالأفضلية وإكرام وإقتداء به.
وكان من سنة التعظيم في ذلك الوقت أن يُسجد للمعظم إكباراً وإقتداءً لا سجود عبادة وقيل بل وقع آل يعقوب إلى الأرض ساجدين لله سبحانه شكراً على ما أنعم عليهم وعلى يوسف خاصة من منزلة وعلم، عندها توجه يوسف إلى أبيه ليرجع بذاكرته إلى أيام حداثة يوسف وصباه.
وليؤكد حرصه في السعي لوقوع وحدوث فصول رؤياه وأنه ينتظر هذا اليوم المبارك الذي سبق في علم الله، وتفسير ما صارت إليه رؤياه بمدد من الله عز وجل فثبتها وأحكمها في صرح الواقع واليقظة دون أن ينسي ذلك يوسف ربه أو يشغله عن الدعاء والصلاة والورع والتقوى.
فكانت الرؤيا في سورة يوسف مدرسة ودائرة معارف للعلوم التربوية في التعبير وأحكام تأويل الرؤيا بتفصيل وتصديق ذي منافع في الهدى والحكمة والإيمان وهو نبراس ودليل عمل وموعظة وسبيل رشاد.
قولـه تعالىوَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا.
الفتنة هي الإبتلاء والإمتحان والإختبار، وللمكروه منه خاصة كثر إستعمالها.
وفي الآية دعوة للمؤمنين بالصبر عند الإبتلاء وطرد الجزع اثناءه لما أحدثته الرؤيا من إستعداد نفسي عندهم كوعد ليجزيهم الله عز وجل على صدق الإيمان وثبات الأقدام، (وعن إبن عباس في الآية هي رؤيا عين أريها الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة أسري به)( ).
عن الإمام علي بن الحسين  وعبد الله بن عمرو ويعلي بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أريت بنى أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء)، وإهتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك فانزل الله[وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا..]الآية.
ومثلما يطلق عنوان الشجرة على كل ما لـه ساق وجذور من النباتات المعمرة كذلك يطلق على النسب أو الأتباع، يقال فلان من شجرة مباركة، أي يرجع في نسبه وأصله إلى منبت حسن، وورد هذا المفهوم لمعنى الشجرة: عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يا علي، الناس من شجر شتى، وأنا وأنت يا علي، من شجرة واحدة( ).
وروي ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما استجمع ضاحكاً بعد تلك الرؤيا حتى مات.
والآية الكريمة وثيقة سماوية تجسد ما للرؤيا من منزلة فى الوحي والمغيبات، ولتكون عوناً، وباب تخفيف وسبباً ملكوتياً للإحتراز والصبر والدعاء.
وتطل علينا بإشراقة وضياء قرآني آية في سورة الصافات تدعو من يقرأها للوقوف عندها ملياً رغبة وتأملاً وسعياً في اكتشاف ومعرفة بعض كنوزها وعلومها تلك هي فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ.
وذكر أن إبراهيم الخليل سمع في الرؤيا ليلة التروية قائلاً يقول لـه: إن الله يأمرك بذبح إبنك هذا. وجاء في الرواية بأنه لما اصبح روى في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا الحلم او من الشيطان؟ فمن ثم سمي يوم التروية ولما جن الليل رأى مثل تلك الرؤيا فعرف أنه من الله فسمي يوم عرفة. ثم رأى مثله في الليلة الثالثة وهمّ بنحره وفداه الله بكبش فسمي اليوم بيوم النحر.
لتتجلى حقيقة وهي أن للرؤيا منزلة وشأناً في تأريخ الأديان السماوية الثلاثة والدين الإسلامي منها خاصة. ولا غرابة فان من الأنبياء من ينبئ في منامه.
وقيل أنه قال لما بُشر بغلام حليم هو إذن ذبيح الله. فلما ولد ونشأ وبلغ من العمر مبلغاً يسعى فيه لحوائج الحياة أخبره في موضوع رؤياه والحاجة إلى مساعدته في تنفيذها والإستجابة لما فيها من النداء.
قال بعض المفســـرين إنها تـدل على تكـــرر الرؤيـــا في قولـه تعالى وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى.
وتدل على إمتثال وحضور الرؤيا في الذهن، وشدة تعلقها وتلابسها مع تفكير الإنسان، ورسوخ الإعتقاد بالرؤيا الصادقة. وعرض إبراهيم المسألة على إبنه إسماعيل على وجه المشاورة وإبداء الرأي وبيان ما يحمله من إعتقاد وكطريق إختياري للنجاة مما نزل من بلاء الله، والإستعانة بالصبر والتسلح بالإنقياد والإستسلام. أراد إحاطته بالأمر الخطير علماً كي يوطن إسماعيل نفسه بالمراجعة والإستيعاب من أجل إكتساب الثواب والإستجابة لأمر الله قبل نزوله.
والآية سنة في المشاورة ومقدمة وآلة وسبيل لإستنباط الأحكام من علم الرؤيا وفي المشاورة في تنجيز الفعل (قيل: لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك)( ).
وفي قوله تعالى[ قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ…]( ) بيان لما أضفى إسماعيل على الرؤيا من صبغة الأمر الإلهي وأن الأنقياد لـه والخضوع أمر منجز كبعض من أسباب التوكل على الله وإستحضار الصبر في الإقدام على طلب مرضاته سبحانه، ومن ثم إعانة والده على إتمام ما أمر به وتنفيذ ما رأى لإثبات الدلالة على كون الأنبياء صادقين مصدقين.
ويقال سلم لأمر الله وأسلم وإستسلم بمعنى واحد [ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ]( ) أسلم الأب إبنه ونفسه للإقدام على ذبح قرة عينه وأسلم الإبن أمره أيضاً لله تعالى إخلاصاً وطاعة، إجتمعا على حسن الإمتثال والرضا والإستجابة المقرونة بل المتجسدة بالتضحية بالغالي.
وعن إبن إسحاق أن إبراهيم كان إذا زار إسماعيل وهاجر حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام، حتى إذا بلغ معه السعي رأى في المنام أن يذبحه فقال لـه: يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب (ثبير)، أخبره بما أُمر، كما ذكر الله تعالى، قالوا: فقال له ابنه الذي أراد أن يذبحه: يا أبتِ اشدد رباطي حتى لا أضطرب، وأكفف عنّي ثيابك حتى لا ينضح عليها من دمي شيء، فينقص أجري وتراه أُمّي فتحزن، واشحذ شفريك، وأسرع مرّ السكين على حلقي ليكون أهون للموت عليّ، فإنّ الموت شديد، وإذا أتيت أُمي فاقرأ عليها السلام مني، وإن رأيت أن ترد قميصي على أُمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عنّي)( ).
فقال لـه إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله. وما لبث إبراهيم حتى صرع إبنه على شقه فوق أحد جنبيه على الأرض تواضعاً وتيسيراً لمباشرة التنفيذ بجلد وصبر ينالا رضا الله ويخزيا الشيطان. وروي أن ذلك كان في منى، (وعن الضحاك: في المنحر الذي ينحر فيه اليوم)( ).
ولما إنحنى إبراهيم بالمدية بعد أن ربطه وقبّله وهما يبكيان قلب جبرائيل المدية على قفاها وإجتر الكبش من قبل ثبير وإجتر الغلام من تحته ووضع الكبش ثم وضع السكين على حلقه فلم تعمل لأن الله عز وجل ضرب صفيحة من نحاس على حلقه فقال لـه: كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله. ففعل ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين. وروي أقرب من هذا إنه لما إنحنى إليه بالمدية، قلب جبرائيل المدية على قفاها ووضع الكبش مكان الغلام ونودي من ميسرة الخيف بقولـه تعالى [ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ ]( ).
عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن ابي الحسن قال: يا فتح إن لله إرادتين ومشيئتين إرادة حتم وإرادة عزم ينهى وهو يشاء ذلك ويأمر وهو لا يشاء ذلك؟ ولو لم يشأ لم يأكلا – أي آدم وحواء – ولو أكلا لغلبت شهوتهما مشيئة الله تعالى. وأمر ابراهيم بذبح إبنه إسماعيل وشاء أن لا يذبحه ولو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشيئة إبراهيم قلت: فرجت عني فرج الله عنك.
وأطلق إبراهيم إبنه الذي فدي بوعل( ) أهبط عليه من ثبير. وعن إبن عباس: هو الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه، وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل.
إن شكر الله لإبراهيم تصديقه الرؤيا أداة حث للمسلمين في العمل بما يرزقهم الله من الرؤيا الصالحة والإيمان بها وقبولها بطاعة وخضوع والإلتجاء إليه بالدعاء عند رؤيا الإنذارات رجاء محو متعلقها وما يحتمل تأويلها من الضرر والأذى وهو الواسع الكريم الذي بيده مقاليد الأمور ولا تستعصي عليه مسألة. وكانت درساً في الحيلولة دون الإستخفاف بالرؤيا أو التهاون بأمرها وترسخت بعض من أجزاء تلك الملحمة خالدة في مناسك الحج.
كما روي في التلبية ورمي سبع حصيات وغير ذلك. وأصبحت مدخلاً مباركاً لفعلية التشريع وطاعة وإجتهاداً من إبراهيم وإبنه يعتز بها المسلمون وأهل بيت النبوة خاصة.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أنا إبن الذبيحين)( ) وقال لـه إعرابي يوماً: يا إبن الذبيحين بإضافة نذر عبد المطلب لله يوم حفر بئر زمزم لئن سهل الله لـه أمرها ليذبحن أحد ولده. فخرج السهم على عبد الله والد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمنعه أخواله وقالوا لـه وإتباعاً لسنة إبراهيم: أفد إبنك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل. فلم تختف الحنيفية ومعالمها بعد لاسيما في الذرية.
وفي باب ان الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق إستدل بعضهم بصيرورة مكة مكاناً للواقعة وأن إسماعيل هو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة وإن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى إن إحترق البيت.
وقبل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الحديبية رأى كأنه ومن معه من المسلمين يدخلون مكة. قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني قد رأيت انكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم ومقصرين فلما نزلت بالحديبية ولم يدخل ذلك العام طعن المنافقون في ذلك)( )، وغلب الفرح والسرور على المسلمين ساعة الرواية وإعلان نبأ الرؤيا. وإنتظروا ساعة تحقيقها لأن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحي وحق لا سبيل للظن بأنها أضغاث.
ويدرك المسلمون أن رؤياه رحمة وتخفيف وتتضمن البشارة والإنذار، لذا أخذوا ينظرون لها كوحي ويرتبون عليها الآثار، وكانت كثرة التدقيق وتقصي تتابع الأحداث تصديقاً تأريخياً راسخاً لرؤياه المباركة، حيث أنعم الله على المسلمين بالبشارة والوعد [ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ]( ).
الـوحــي والــرؤيــا
لقد حفظت لنا السنة النبوية سجلاً وثائقياً ومساراً إستقام ليكون درب هدى يقتدي المسلمون بإتخاذه طريقاً ومنهجاً في علم الرؤيا وتعبيرها وأبوابها الواسعة. قال تعالى [ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ]( ). وأول ما بدء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرؤيا الصالحة، وكان كثير الرؤيا، ولا يرى رؤيا إلّا مثل فلق الصبح.
عن الإمام الباقر في البصائر في الفرق بين الرسول والنبي والمحدث: وأما النبي فإنه يرى في منامه على نحو ما رأى إبراهيم عليه السلام، ونحو ما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أسباب النبوة قبل الوحي. حتى أتاه جبرائيل من عند الله بالرسالة إلى أن قال الباقر عليه السلام: من الأنبياء من جمع لـه النبوة ويرى في منامه بأنه الوحي فيكلمه ويحدثه من غير أن يكون رآه في اليقظة.
لذلك لما سمع أحد المسلمين الأمام الباقر يقول بأن النبي لا يعاين ملكاً إنما ينزل عليه الوحي ويرى في منامه، يبادر إلى سؤال الامام مستفهماً ما علمه إذا رأى في منامه إن هذا حق؟ قال مجيباً: يبينه الله حتى يعلم إن ذلك حق. أي أن الله عز وجل يسدده ويرشده بالتوفيق، ليضفي على الرؤيا طابع الصدق مقترناً بالحق والهداية، ولتصبح سلاحاً ذا فاعلية، وتأثير معنوي، وبعضاً مما إنتفع به الأنبياء والمسلمون في تثبيت أقدامهم، ورسوخ الإيمان، وحضـور الإطمئنان ســـاعة الفعل والتوفيق، والقدرة والقابلية[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ]( ).
ولما بلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من العمر سبعاً وثلاثين سنة كان يرى في نومه كأن آتياً يأتيه فيقول: يا رسول الله فينكر ذلك فلما طال عليه الأمر كان يوماً بين الجبال يرعى غنماً لأبي طالب فنظر إلى شخص يقول: يا رسول الله، فقال: من أنت؟ قال: أنا جبرئيل أرسلني الله إليك ليتخذك رسولاً… الخبر).
ويلتقي أغلب المعاصرين مع القدامى في ان للاحلام وظيفة إنسانية وإصلاحية لما لها من إرتباط مع الماضي وما لها من صلة بالحاضر وانها دليل على عمل المستقبل.
ففي خبر تزويج خديجة أن بني عبد المطلب توجهوا إلى دار خويلد وقد عمد أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وألبسه أحسن الثياب وقلده سيفاً وأركبه على جواده ودار حولـه عمومته محدقين به، فلقيهم أبو بكر بن أبي قحافة وقال: إلى اين تريدون يا أولاد عبد المطلب؟
لقد كنت من هذا إليكم في حاجة خطرت ببالي فقال لـه العباس وما هي إذكرها؟ قال رأيت في منامي كأن نجماً قد ظهر في منزل أبي طالب وإرتفع في أفق السماء وأنار وإستنار إلى أن صار كالقمر الزاهر ثم نزل بين الجدران فتبعته فاذا هو قد دخل بيت خديجة ودخل معها تحت الثياب فما تأويله؟ قال لـه أبو طالب: ها نحن لها قاصدون وعلى خطبتها مقبلون( ).
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبر خديجة في المراحل الأولى للوحي عن بعض من مظاهره وأماراته ووجوهه، رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام رؤيا فشق ذلك عليه فذكرها لخديجة وأنه رآى أن بطنه أخرج وطهر وغسل ثم أعيد كما كان، قالت: هذا خير فابشر.
لذلك يذهب بعض أهل الحديث إلى القول بأن الأشهر الستة الأولى من فترة النبوة البالغة ثلاثاً وعشرين سنة هي المقصودة بالجزء في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءً من أجزاء النبوة.
وإذ يتنعم المسلمون اليوم بالإسلام وقوانينه وأحكامه وقضائه ودولته ومعهم كتاب سماوي منزل. فإن الرؤيا الصادقة تبقى صفحة من بناء الإسلام مملوءة بالعلم والأسرار والوحي والإيحاء والمناجاة والهداية، وطريقاً للرفعة والنصر.
كما ساهمت كهبة إلهية في عز المؤمنين وستبقى عندهم ذخيرة من ذخائر الإسلام رسخ قواعد بنائها في صدورهم وكتبهم وحياتهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جانب القرآن. وزاد الله عز وجل عليهم من فضله فأحسوا بالوجدان والتجربة والبرهان عبر أجيالهم المتعاقبة حضور الرؤيا الصادقة وما فيها من البشارة وعموم النفع إلا أن إستثمار الدعاء في دفع رؤيا الإنذار وتقريب وإتمام ما فيها من البشارة لم يكن مناسباً.
إنها تجارة كريمة من غير جهد أو مشقة لما فيها من الدعوة إلى الدعاء وقرب الإستجابة.
لقد بعث الله عز وجل مائة وأربعة وعشرين ألف نبي إحتلت الرؤيا شطراً مباركاً من إشراقات الوحي التي شرّفهم الله عز وجل بها وعموم بني آدم بواسطتهم وقد تبرز تلك الرؤيا بفعل يتعلق بالآخرين، ويأتي لمصالح عامة وغايات أخلاقية وإجتماعية سامية.
وفي قولـه تعالى [ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ.. ]( ) قيل من تقوية ملكه أن رجلاً إستعدى إليه على رجل فادعى عليه أنه أخذ منه بقراً، فأنكر المدعى عليه، فسأل داود البينة، فلم يقمها، فرأى داود في منامه أن الله عز وجل يأمره أن يقتل المدعى عليه، فتثبت داود وقال: هو المنام، فاتاه الوحي بعد ذلك ان يقتله فأحضره ثم أعلمه
ان الله يأمره فقال المدعي عليه: ان الله ما أخذني بهذا الذنب وإني قتلت أبا هذا غيلة، فقتله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام وذلك مما عظم الله به هيبته وشدّد ملكه( )، وللرؤيا حضور وأثر في بعض الوقائع التأريخية، وقد تساهم في تغيير وتحول نحو الحسن أو تأتي بالتحذير لتحول دون وقوع مصيبة او فاجعة.
الـســنـة النبوية والتعبير
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يبقَ من المبشرات الا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى لـه. لذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولمدة مديدة اذا ما انتهى من صلاة الصبح التفت الى اصحابه قائلاً: هل من مبشرات وذلك لترسيخ أهمية الرؤيا والانتفاع بها وبتأويلها.
وكانت تلك التربية والتأديب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم طريقة علاجية نفسية من الاسناد الجماعي مثل تلك التي افرزتها التجارب والدراسات من طرق علاج جماعية حديثة مثل (جماعة التلاقي).
وتمضي أيام يسأل فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه صباح كل يوم منها هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا فيقصوا رؤياهم عليه فيعبرها لهم ثم سألهم أياماً فلم يقص عليه أحد منهم رؤيا، فقال كيف ترون وفي أظفاركم الرفغ( ). وذلك أن أظفارهم قد طالت وتعلق بها درن ووسخ مما يحك من مواضعه في البدن.
كما ان تقليمها من الفطرة لبيان وجوب توفر عناصر ومقدمات الرؤيا التي تبدو سهلة وضرورية عند اجراء دراسة وعرض لمنافع الرؤيا واشاراتها، ان سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاصحابه مدرسة تأديبية وسنة كريمة وتنبيه على أهمية الرؤيا ولزوم العناية بها وتلمس تأويلها، فقد تكون هي أو تأويلها أو هما معاً سبباً للهداية والرشاد.
قالت أم الفضل بنت الحارث زوجة العباس بن عبد المطلب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم رأيت رؤيا أعظمها أن أذكرها لك)( ) ولكنه لم يمض معها في إنكارها والإقلال من شأن الرؤيا كطريق لإستبعاد رموزها عن الإقتراب من واقع الحدوث وجريان الأمور (فقال: إذكريها)( ).
وقولـه هذا عبرة للمسلمين فرب إخفاء لرؤيا يحول دون الدعاء والعمل ويمنع من فتح باب الإحتياط وما فيه من المندوحة والسعة والرحمة وطرق النجاة.
(فقالت رأيت كأن بضعة منك قطعت فوضعت في حجري. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن فاطمة حبلى تلد غلاماً أسميه حسيناً وتضعيه في حجرك)( ).
وكم كان الفرق كبيراً بين ظنها في الرؤيا وتأويل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها بإشراقة نور على الأرض في اليوم الثالث من شعبان في السنة الرابعة للهجرة كتب الله لضيائه وبريق صبره وجهاده أن يُرى ما بين المشرق والمغرب (قالت: فولدت فاطمة حسيناً فكان في حجري أربيه)( ).
ليساهم تأويل الرؤيا في ترسيخ الإيمان وتوكيد صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجمعه وحيازته للعلوم والمعارف والكمالات بقسميها الكسبي والهبة فضلاً من الله ورحمة وحجة ودعوة للايمان.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلم الناس بتأويل الرؤيا وتعبيرها. مثلما كان يوسف ومن قبله يعقوب في رؤيا يوسف وتأويلها، وإبراهيم .
ولقد كان ذلك العلم الذي آتاه الله رسولـه صلى الله عليه وآله وسلم من بين مستلزمات النهوض بأعباء الرسالة وشؤون الاسلام وبناء دولته.
عن إبن عباس قال: ذُكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: بينما أنا نائم أريت أنه وضع في يدي سواران من ذهب فقطعتهما فكرهتهما، فأذن لي فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان.
وفي حديث أبي سعيد الخدري: فأولتهما هذين الكذابين صاحب اليمن وصاحب اليمامة)( ) أي طليحة ومسيلمة وفيه مسائل:
الأولى : أصبحت تلك الرؤيا وما تحمله من إنذارات وعناصر الصدق التي تمسك بعنانها وإقتران تأويل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلانها سلاحاً وحرزا.
الثانية : كانت سداً لمنع الإنخداع بالكذابين.
الثالثة : البشارة للمسلمين في حتمية القضاء عليهما ودحرهما. وربما كانت لتلك الرؤيا أهمية خاصة حين إزداد نشاط مسيلمة الكذاب وهو أحدهما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : الرؤيا مدد روحي وعون للنبوة.
الخامسة : دعوة المسلمين إلى عدم إهمال الرؤيا الصادقة ودلالاتها.
السادسة : بقاء المسلمين في حال حيطة وحذر، وتعاهد لثغور البلاد الإسلامية.
ويروي النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين رؤيا رآها مع قيامه بتاويلها وتعبيرها لتكون نبراساً لهم وبشارة وأملاً ومنعاً للخوف والقنوط من التسلل إلى نفوسهم كجزء من وظائفه الرسالية، فهو صلى الله عليه وآله إذا سُئل أجاب، وإن لم يسئل تكلم إبتداءً اذ يؤدبهم ويعلمهم وفق مناسبة الزمان والمكان والموضوع.
قال عبد الله بن عمر: “إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال رأيت كأن أمرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة وهي الجحفة فأولت ان وباء بالمدينة نقل اليها) ليساهم الامل بشد عضد المسلمين وتقوية النفوس ولبيان بركات وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم في تخلصهم ونجاتهم من الأوبئة.
وفيه آية من عند الله إذ شاء أن يدفع عن أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوباء، ومن الممكن أن يستنبط منها علماء النفس والأطباء الأثر الإيجابي والفعال للطب النفسي في علاج الأمراض العضوية وأساليب منع إنتشارها وربما يقف الباحث متأملاً عند إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه صبيحة يوم أحد قائلاً: (رأيت في سيفي ثلمة)( )، لقد تعرض المسلمون في يوم أحد لخسائر واضرار جسيمة.
وينحصر تأثير هذه الرؤيا في التقليل من قيمة الخسائر لقولـه صلى الله عليه وآله وسلم (في سيفي ثلمة).
وهذا يعني الضرر النسبي والذي يتعلق بالجزء دون الكل والأصل ومن ثم يعود أثر المردود المعنوي والجهادي إيجابياً وكبيراً بعد المعركة بتلقي تلك الخسارة بعزيمة وتحد لوجود أرضية وإستعداد نفسي مما يساعد في إجتماع المسلمين، وحسن تهيئهم للعدو، ولعل قولـه تعالى[ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ]( )، يظهر حالة الرضا بما جرى يوم أحد والثقة بالنصر والفرج واتساع رقعة الإسلام عزيزاً.
لقد أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرؤيا منزلة رفيعة، فلقد كان قولـه وسنته تفسيراً للقرآن وبياناً لأحكامه وآياته وبشاراته قال صلى الله عليه وآله وسلم(أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى أخي عيسى ورؤيا أمي)( ).
وذكر أن آمنة بنت وهب بن عبد مناف من بني زهرة رأت في المنام أنها وضعت نوراً أضاء لها من قصور الشام إلى بصرى. ومع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مبشراً به وبإسمه كما أخبر بذلك القرآن حكاية عن عيسى عليه السلام[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
فان إسمه وتحديده من قبل الله عز وجل جاء برؤيا أيضاً عن الباقر قال رأت آمنة في المنام وهي حامل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تسميه أحمد. وعن ابن اسحاق أن تسميه محمدا.
إن ما يراه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذو شأن ومكانة ليس فيها إلا الصدق والصلاح والعلم، وهذا ما تركه بين المسلمين حين قال: “بينا أنا نائم إذا اتيت بقدح من لبن فشربت منه حتى أني لارى الري يخرج من بين أظافيرى”)( ).
فجاء جواب المسلمين دلالة الإيمان في إرتقائه عن جواب الملأ لملك مصر في سورة يوسف. اذ كان المسلمون يستثمرون رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسماع أقواله لإقتطاف الثمار والمنافع التي هي[لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ]( ) ليأخذوا منه ويتعلموا ويتزودوا ويورثوا أبناءهم والأجيال اللاحقة، ومنها أهل هذا الزمان.
قالوا: بما أوّلت ذلك يا رسول الله.
ويدل سؤالهم على خلفية الإعتقاد الصادق وعلى بذور ونشأة علم مكتسب.
فأجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: العلم.
ومع ذلك فأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يهمل تلك الأضغاث من الاحلام التي قد يتعرض لها بعض المسلمين فحدد معالمها وأشكالها وكيفية إجتناب أضرارها.
بالإسناد عن جابر قال: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ عُنُقِي ضُرِبَتْ فَسَقَطَ رَأْسِي فَاتَّبَعْتُهُ فَأَخَذْتُهُ فَأَعَدْتُهُ مَكَانَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِذَا لَعِبَ الشَّيْطَانُ بِأَحَدِكُمْ فَلَا يُحَدِّثَنَّ بِهِ النَّاسَ)( ).
وهو جواب لم ترق إلى بعض من مستوى تأثيره ونجاحه مدارس التحليل النفسي.
فقد جعل فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلم طبيب نفسه وبيده علاجها الفعال وقد أدرك مسبقاً أن عليه الإعراض عن إيذاء الشيطان ونزوات الإغواء ومواطن الحيرة، وسهل عليه التغلب على كيد الشيطان بكشف حيله وكيفية قهره وطرده.
ومن الرؤيا ما تحتاج رموزها إلى تأويل صحيح لتعطي ثمارها كي لا يكون في خلافه أثر يشبه ضرر الدواء غير المناسب. لذلك كان المسلمون يهرعون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي حقيبة صدورهم قصص رؤاهم. (عن عبد الله بن سلام قال رأيت كأني في روضة ووسط الروضة عمود.
وفي أعلى العمود عروة فقيل لي أرقه فقلت: لا أستطيع فأتاني وصيف فرفع ثيابي فرقيت فاستمسكت بالعروة فانتبهت وأنا مستمسك بها فقصصتها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال تلك الروضة روضة الإسلام وذاك العمود عمود الإسلام وتلك العروة عروة الوثقى. لا تزال مستمسكاً بالعروة الوثقى حتى تموت( ).
ومن الوثائق التاريخية في علم الرؤيا والتي تلح على كل عالم أو باحث في موضوع الرؤيا بوجوب الرجوع إلى الإسلام في جوهر آرائه عن الرؤيا تلك التي ذكر فيها.
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلى الصبح وهو ثان رجله قال سبحان الله وبحمده وأستغفر الله إنه كان تواباً سبعين مرة ثم يقول سبعين بسبعمائة لا خير لمن كان ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة.
ثم يستقبل الناس بوجهه وكان تعجبه الرؤيا فيقول هل رأى أحد منكم شيئاً؟ قال إبن زمل الجهني فقلت أنا يا رسول الله.
قال: خيراً تلقاه شراً توقاه وخير لنا وشر على أعدائنا والحمد لله رب العالمين.
أقصص رؤياك فقلت… الحديث( ).
وتلك المقدمة ليست تفاؤلاً فحسب بل دعاءً ورجاءً أيضاً بضميمة أن الرؤيا الصادقة رحمة من عند الله تعالى.
وفي بعض الأيام يبدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقص رؤياه مع تأويله لها لتكون درساً وبلاغاً وموعظة، تتكرر بمنافعها وفوائدها كل يوم.
فصل
وفي حياة المؤمنين والمؤمنات وفي مختلف الأمصار والأزمان شواهد لرؤى يرون فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المنام وفيها تزف لهم البشارة أو يقرب الأمل والشفاء، وقد يكون فيها إخبار أو حرز، روي ان الخليفة العباسي المهدي رأى في منامه شريكاً القاضي مصروفاً وجهه عنه، فلما إنتبه قص رؤياه على الربيع، فقال: ان شريكاً مخالف لك وأنه فاطمي محضاً، قال المهدي: عليّ بشريك، فأتي به، فلما دخل عليه قال: بلغني أنك فاطمي؟
قال شريك: أعيذك بالله أن تكون غير فاطمي، إلا أن تعني فاطمة بنت كسرى، قال: لا، ولكن أعني فاطمة بنت محمد.
قال: فتلعنها؟ قال: لا، معاذ الله.
قال: فما تقول فيمن يلعنها؟ قال: عليه لعنة الله.
قال: فألعن هذا – يعني الربيع – قال الربيع: لا والله ما العنها يا أمير المؤمنين.
قال له شريك: يا ماجن فما ذكرك لسيدة نساء العالمين وإبنة سيد المرسلين في مجالس الرجال؟
قال المهدي: فما وجه المنام – أي تأويل رؤياه – قال: إن رؤياك ليست برؤيا يوسف عليه السلام، وأن الدماء لا تستحل بالأحلام( ).
رؤيـا الانـبـيــاء
خص الله عز وجل أنبياءه بالذكر والأكرام في القرآن كما وردت فيها رؤى بعض الأنبياء، وحتى رؤيا ملك مصر التي جاء ذكرها في سورة يوسف[إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِج َافٌ…]( )، إستعصى تفكيك رموزها وتعبيرها إلى أن رحمهم الله بنبيه المحبوس. فخصته تعبيراً وآية وحجة عليهم ونجاة لـه من السجن وفيه مسائل:
الأولى: كانت مدخلاً لتقلد يوسف عليه السلام الوزارة.
الثانية: دفع شبح الجوع عن آل يعقوب وعن الناس.
الثالثة: جاء تعبير يوسف عليه السلام للرؤيا بياناً وتوكيداً لعظيم منافع النبوة في الأرض وأنها لا تنحصر بالدعوة إلى التوحيد.
الرابعة: لهذه الرؤيا إفاضات مباركة في ميدان الإجتماع والتربية والأحوال المعاشية.
الخامسة: لا تنحصر منافع رؤيا الملك بالمؤمنين بل تشمل غيرهم رحمة منه تعالى وحجة وعبرة وموعظة لأولي الألباب وتتجلى هذه المعاني بمجيء الرؤيا وتعبير النبي يوسف لها في القرآن، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
ولتصبح تلك الآيات مدرسة تربوية للمسلمين لينهلوا من الرؤيا دروساً وموعظة فلقد تغلغلت في أعماق النفس الإنسانية بسبب تزكية القرآن لها وجعلها تذكرة تنفذ في جوهر المجتمعات والهيئات كبعض من حواري الإيمان وحواشيه وربما من مقدماته وأبوابه وهي تسير بصاحبها نحو شاطىء الهدى والإيمان، ليطل من خلالها على سواحل علم الغيب وتزرع في بصره إمكانية الإختصاص برؤية حروف وكلمات المستقبل فكانت نشأتها مع بدايات وجود الإنسان على سطح الارض.
وذُكر أن أول رؤيا في الأرض كانت لآدم عليه السلام، عن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى آدم إنك قد نظرت في خلقي فهل رأيت لك شبهاً؟ قال: لا يارب وقد كرمتني وفضلتني فأجعل لي زوجاً تشبهني أسكن إليها حتى توحدك وتعبدك معي).
فقال الله تعالى نعم: فألقى عليه النعاس فخلق منه حواء على صورته وأراه في منامه ذلك وهي أول رؤيا كانت في الأرض فأنتبه وهي جالسة عند رأسه فقال لـه ربه يا آدم ما هذه الجالسة عند رأسك؟ فقال آدم الرؤيا التي أريتني في منامي يا إلهي( ).
ولم تذكر جهة صدور الخبر ولا دليل على ثبوته وكان خلق حواء في الجنة إلا على القول بأنها من جنات الأرض.
لقد جعل الله الرؤيا سلاحاً بيد الانبياء باعتبارها جزءاً من كنوز الغيب واحد مفاتحه ولانها من الابواب التي تطلع على جانب من اسرار الخليقة وادراك ضعف الانسان وعجزه ومحدودية ارادته وفعله وتفكيره.
وكثيراً من الأعمال تداركها الناس بالرؤيا التي كانت إشارة وحافزاً لفعل الخيرات ومصارعة الدنيا، وسلاحاً ماضياً في الإبتعاد عن مغرياتها في طريق موحش خال من مزاحمة الذين تفاعلوا مع الدنيا وتعلقوا بسلاسل وقيود زينتها ومباهجها من حب المال والولد والأهل، وشهوة البطن والفرج، ومن صفاتها الذاتية الملازمة وغير المنفكة عنها لهجر الهجر والتخلي عن القرين والمصاحب.
في حديث يحيى  وزهده وخوفه وخروجه إلى الصحراء بعد السماع الواعي للنار وأوصافها وحياة أهلها ومعاشهم في حديث طويل وخروج أمه في طلبه. فلما رأته أمه دنت منه فأخذت برأسه فوضعته بين ثدييها وهي تناشده بالله أن ينطلق معها إلى المنزل.
فإستجاب لطلب والدته حتى أتى المنزل فطلبت منه أن يخلع مدرعة الشعر ويلبس مدرعة الصوف فإنها ألين ففعل وطبخت لـه عدساً فأكل وإستوفى فنام فذهب به النوم فلم يقم لصلاته فنودي في منامه يا يحيى بن زكريا أردت داراً خيراً من داري وجواراً غير جواري فإستيقظ فقام فقال: يارب أقلني عثرتي. إلهي فوعزتك لا أستظل بظل سوى بيت المقدس.
ومما لا شك فيه ان لرؤيا الانبياء فعلاً وأثراً ومنزلة تختلف عن رؤى الناس بمقدار اختلاف الماهية والمنشأ والوظيفة، وأخرج عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأنبياء تنام اعينهم ولا تنام قلوبهم)( ).
وفي المرسل عن عطاء قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: انا معشر الانبياء تنام اعيننا ولا تنام قلوبنا)( )، الا انه لا يمنع من مجيئها تأديباً واصلاحاً وانذاراً للمؤمن.
ومن الأنبياء من ينتظر الوحي أثناء نومه لأن قلبه يكون ساعتها أيضاً مستعداً لتلقي الأوامر والنواهي.
عن الإمام الباقر  قال: الأنبياء على خمسة أنواع منهم من يسمع الصوت مثل صوت السلسلة فيعلم ما عني به ومنهم من ينبأ في منامه مثل يوسف ومنهم من يعاين ومنهم من ينكث في قلبه ويوقر في أذنه وأول ما بدء به من يوسف الرؤيا الصالحة.
وجاء في التوراة في السنة الثالثة من ملك (بيلشاصر) الملك ظهرت لي أنا دانيال رؤيا بعد التي ظهرت لي في الإبتداء. فرأيت في الرؤيا وكان في رؤياي وأنا في شوشن القصر الذي في ولاية عيلام.
ورأيت في الرؤيا وأنا عند نهر أولاي فرفعت عيني وإذا بكبش واقف عند النهر ولـه قرنان، والقرنان عاليان والواحد أعلى من الآخر والأعلى طالع أخيراً رأيت الكبش ينبطح غرباً وشمالاً وجنوباً فلم يقف حيوان قدامه ولا منقذ من يده وفعل كمرضاته وعظم…)الخبر( ).
رؤيـا الصــالحـين
الصلاح ضد الفساد. ومن الناس من هو صالح في نفسه أو من قوم صلحاء ومصلح في أعماله وشؤونه قد أصلحه الله. هؤلاء ينالهم نصيب وافر من الرؤيا الصالحة وهم خير موضع وعبرة في دراسة ميدانية للرؤيا كعينات نموذجية تعكس الرؤيا وتعبيرها وآثارها ومنزلتها اللائقة عندهم إستقبالاً وإستسلاماً ورضاً وإيماناً. ورب فرد نقلته الرؤيا إلى درجة الصلاح التي هو فيها بعد أن كان يقف على الجانب المغاير أو يكاد يشرف على الهاوية.
مما يدل على ما للرؤيا من منزلة في سبل الهداية والصلاح، فلا غرابة أن تتخذ في هذا الزمان أو الأزمان اللاحقة آلة للعلاج النفسي وتوجيه الأشخاص لغايات ومقاصد معينة، ويبقى السبق في ذلك للإسلام لا من خلال إعتبارات وحسابات ذات أبعاد محددة، بل لما للرؤيا من دلالات واقعية وظاهرية بوجوهها الثلاث المطابقية والإلتزامية والتضمنية.
وفي التأريخ شواهد كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر (ما قيل بأن رجلاً من المترفين ممن قد بسط لـه في دنياه وليس لـه من شغل في نهاره إلا تجديد لذاته وإصلاح شهواته وأكل اطيب الطعام وشرب ألذ الشراب وكان لا ينام إلا على سرير معلق في الهواء وسطه قبة لـه مخافة دبيب يعرض لـه أو غبار يصيبه ولم يتزود للآخرة ولم يطلب التفقه في الدين ولم يكن للموت ذاكراً، محتقراً لأمور الناس، مزرياً من دونه معرضاً عن الفقراء، متهاوناً بأمر الدين.
ثم أراد الله ان ينبهه من نوم غفلته ورقدة جهله عبرة لغيره وعظة لمن سواه وبينما هو ليلة نائم على فراشه فوق سريره معانقاً لحبيبته وأبواب داره مغلقة وستوره مسبلة وحول سريره شموع تزهر وعلى أبواب داره وخدمته غلمانه مستيقظين
إذ رأى فيما يرى النائم كأنه في برية مقفرة وحده وهو عريان جائع عطشان وبدنه مسود وشعره طويل وجسده ملوث وعلى ظهره ثقل وإذا هو بأسودين منكرين خلقهما، طويل قامتهما، وعيونهما تبرق، من مناخرهما يخرج الدخان، ومن شدقيهما تلتهب النيران، وبأيديهما حراب حداد وهما يقتربان نحوه ليأخذاه
والقصة ذكرنا أولها( ).
وكان للرؤيا في حياة لقمان ذلك الحكيم الذي لم يكن ملكاً ولا نبياً على الأرجح قال تعالى[وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ]( )وقص الله أمره في القرآن جاء في الخبر ما يدل على أن للرؤيا مكانتها وأثرها في إعداده وإصلاحه لمقامات الحكمة فضلاً ولطفاً من الله تعالى.
وعن الإمام جعفر الصادق قال: إن الله تبارك وتعالى أمر طوائف من الملائكة حين انتصف النهار وهدأت العيون بالقايلة فنادوا لقمان حيث يسمع ولا يراهم فقالوا: يا لقمان هل لك ان يجعلك الله خليفة في الارض تحكم بين الناس؟ فقال لقمان: إن أمرني الله بذلك فالسمع والطاعة لانه ان فعل بي ذلك أعانني عليه وعلمني وعصمني وإن هو خيرني قبلت العافية فقالت الملائكة يا لقمان لم قلت ذلك؟
قال: لان الحكم بين الناس من اشد المنازل من الدين واكثرها فتنا وبلاء ا ما يخذل ولا يعان ويغشاه الظلم من كل مكان وصاحبه فيه بين أمرين ان اصاب فيه الحق فبالحري ان يسلم وان اخطأ اخطأ طريق الجنة ومن يكن في الدنيا ذليلا وضعيفا كان اهون عليه في المعاد ان يكون فيه حكما سريا شريفا، ومن اختار الدنيا على الآخرة يخسرهما كلتيهما تزول هذه ولا تدرك تلك، قال فتعجبت الملائكة من حكمته واستحسن الرحمن منطقه
فلما امسى وأخذ مضجعه من الليل انزل الله عليه الحكمة فغشاه بها من قرنه إلى قدمه وهو نائم وغطاه بالحكمة غطاء ا فاستيقظ وهو أحكم الناس في زمانه)( ).
ومن الرؤيا ما كانت في باب غير متوقع ولوجه بعيد مناله، ومنها ما ترى تحقيقها يتم بسرعة وإنقلاب وإستحالة. (لما أتي بصفية بنت حيي الى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم شاهد النبي صلى الله عليه واله وسلم أثراً في وجهها لم يزل بعد لم يندمل سألها ما هو؟ فأخبرته أنها كانت قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمراً وقع في حجرها وقصت رؤياها على زوجها.
فقال: ما هذا إلا إنك تتمنين ملك الحجاز محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولطم وجهها لطمة أخضرت عينها منها وزفت لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم وهي لم تزل بعد).
لقد أنعم الله عز وجل بالرؤيا كبشارة للإقتران الكريم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي تدل بالدلالة التضمنية على تحقق النصر للمسلمين وأراد الله عز وجل بها إنذاراً لزوجها وقومه، فلو أيقن بها وأسلم لظل على حاله ومنزلته لذا يجب عدم التفريط برؤيا الإنذارات.
ومما أصبح متعارفاً أن الرؤيا كانت وراء إسلام الكثير من الناس. فمنهم من أحسن إلى فقراء أهل البيت مع كفره فرأى ما ناله من ثواب، فبادر لينهل ثواباً وأجراً عظيماً بالإسلام، ومنهم على العكس من ذلك أساء لبعض المؤمنين، فرأى ما أفزعه فكانت تأديباً وتوجيهاً نحو إعتناق الإسلام، وفيها هبة وفضل من الله عليهم.
عن الحسن بن ذكوان وكان رجلاً معمراً قال رأيت علياً في النوم وأنا في بلدي فخرجت إليه إلى المدينة فأسلمت على يده وسماني الحسن وسمعت منه احاديث كثيرة وشهدت معه مشاهده كلها، فقلت لـه يوماً من الأيام: يا أمير المؤمنين أدع الله لي فقال لي يا فارسي إنك ستعمر وتحمل إلى مدينة يبنيها رجل من بني عمي العباس تسمى في ذلك الوقت بغداد ولا تصل اليها وتموت بموضع يقال لـه المدائن)( ).
بشارات النبي صلى الله عليه وآله وسلم
يبدأ تاريخ البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه واله وسلم إلى أيام أبينا آدم عليه السلام وأخذت به الشرائع بالنعت والدلالات العقلية والحسية التي لا تقبل اللبس والترديد كجزء من نظام وسيرة الحياة الإنسانية في الأرض ورأفة من الله تعالى واتماماً للحجة وإعانة للمؤمنين إلى جانب الآيات القرآنية في هذا الباب مما يصلح أن يكون مدرسة عقائدية مستقلة، ولكن الذي يهمنا في المقام هو تعلق الموضـوع بالرؤيا وما كان لها من الأثر والتأثير في هذا الباب.
وعن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال: لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحق محمد ألا غفرت لي.
فاوحى الله إليه ومن محمد؟ قال: تبارك إسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فاذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه ليس أحد عندك أعظم قدراً ممن جعلت إسمه مع إسمك.
فاوحى الله إليه يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك) ( ).
وكانت رؤيا أم النبي صلى الله عليه واله وسلم آمنة بنت وهب بشارة ووعداً، إضافة إلى ما رواه هاني المخزومي وقد أتت لـه خمسون ومائة سنة قال لما كانت ليلة ولد فيها النبي صلى الله عليه واله وسلم إرتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام.وغاضت بحيرة ساوة.
ورأى المؤبذان في النوم إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وإنتشرت في بلادها فلما أصبح كسرى أفزعه ما رأى فصبر تشجعاً ثم رأى ان لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرازبته فلبس تاجه وقعد على سريره وجمعهم وأخبرهم بالذي دعاهم لـه، فبينا هم كذلك إذ ورد كتاب بخمود النار فإزداد غماً إلى غمه.
فقال المؤبذان وأنا رأيت في هذه الليلة وقص عليه الرؤيا في الإبل، فبعث إلى النعمان بن المنذر فوجه إليهم عبد المسيح الغساني فأخبره كسرى بما رأى فعجز عن التأويل.
ورجع إلى خال لـه في مشارف الشام إسمه سطيح وقد أشفى على الموت ولكنه أجاب: عبد المسيح على جمل يسيح( ) إلى سطيح وقد أوفى على الضريح بعثك ملك ساسان لإرتجاس الإيوان، وخمود النيران ورأى المؤبذان إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة، وإنتشرت في بلادها.
يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وبعث صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة وغاضت بحيرة ساوة وخمدت نار فارس فليس الشام لسطيح شاماً. يملك منهم – أي من بني ســاسـان – ملوك وملكات على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت.
فلما قدم عبد المسـيح على كسرى أخبره بقول ســطيح فقال: (إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً قد كانت أمور) فملك منهـم عشــرة في أربــع سنين وملك الباقون إلى ملك عثمان.
وفي أعلام النبوة (فزال ملكهم عن يزدجر الرابع عشر بعد إثنتي عشرة سنة)( ).

في آيات وسور القرآن
من إعجاز القرآن الذاتي تقسيمه إلى سور، وكل سورة إلى آيات متعددة وفيه دلالات عقائدية وهو عون على حفظ القرآن والتدبر في آياته ويفتح باباً من العلم في أسرار التوافق بين فاتحة السورة وخاتمها، وبين خاتمة السورة وفاتحة التي تليها، ويبين علماً خاصاً بفواتح السور وآخر بخواتيمها، كما تقدم وإلى جانب تقسيم القرآن إلى سور وآيات، ولم يرد لفظ سور بصيغة الجمع في القرآن إلا مرة واحدة بقوله تعالى[قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ]( ).
فان القرآن قسم إلى عدة أقسام كل قسم يتضمن عدة سور وهي على التوالي:
الأول : لطوال، ويضم السور البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، وبراءة تتمة الأنفال.
الثاني : المئون، وهي التي تلي السبع الطول.
الثالث : المثاني، وهي التي تأتي بعد المئين في ترتيب سور القرآن في المصحف.
الرابع : المفصل، ما يلي المثاني من قصار السور.
و تسمى السورة لوجوه:
الأول : من إرتفاع القدر وما لكل سورة من سور القرآن من الشأن العظيم .
الثاني: إنها كلام الله تعالى النازل من عند الله تعالى.
الثالث: وفيها أحكام التشريع ومنع من التغيير والتبديل.
الربع: إن أصلها من السور الجامع وجمعها سور بفتح الواو، وجمع سورة البناء سور بسكون الواو إلا أن هذا لا يمنع من إفادة معنى السور لإحاطة السورة لآياتها بكيان تشريفي مستقل فهي كسور المدينة الذي يحيط بيوتها المجتمعة داخله.
والقول بأن السورة غير مهموزة مأخوذة من سور البناء , وبنائه رتبة بعد رتبة وكل منزلة رفيعة فهي سورة، ومنه القول النابغة:( ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ترى كل مُلْك دونها يتذبذب)( ).
ومن أسرار تقسيم القرآن إلى سور ما ورد من التحدي بأي سورة منه من غير تعيين لها قال تعالى[وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ]( ).
ومن الآيات في تقسيم السور أنها لم تأت كلها متشابهة في عدد آياتها أو كلماتها، بل جاءت متباينة ليكون التحدي أظهر والحجة أبلغ.
وعدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، وهو الثابت، وفق نظم وترتيب المصاحف التي في أيدي المسلمين الى يومنا هذا، وهناك أقوال أخرى وهي:
الأول : إنها مائة وثلاث عشرة سورة بجعل الأنفال وبراءة سورة واحدة، أخرج عن أبي روق قال الأنفال وبراءة سورة واحدة، ونسب إلى مجاهد والإجماع سبقه وتأخر عنه، إلى جانب حجية المرسوم في المصاحف، بالإضافة إلى ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من إطلاق تسمية مستقلة لكل سورة من القرآن، ومنها ما كان لها في السنة النبوية أكثر من إسم عن مصحف عبد الله بن مسعود أن البسملة ثابتة لبراءة في مصحفه.
وفي المستدرك عن إبن عباس قال: سألت علي بن أبي طالب لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال: لأنها أمان وبراءة نزلت بالسيف)( ) مما يعني بالدلالة التضمينية أن كلاً منهما سورة مستقلة.
الثاني : إنها مائة وإثنتا عشرة سورة. وهو المروي عن مصحف عبد الله بن مسعود، فهو لم يكتب المعوذتين، وقد تقدم في تفسيرنا باب إسمه (المعوذتان وجزئيتهما من القرآن)( ).
الثالث : مائة وست عشرة سورة، وهو المحكي عن مصحف أبى كعب، فقد ذكر أنه كتب في آخره سورتي الحفد والخلع( ).
وأخرج الطبراني عن عبدالله بن زرير الغافقي قال: قال لي عبد الملك بن مروان: لقد علمت ما حملك على حب ابي تراب، الا انك اعرابي جافِ، فقلت: والله لقد جمعت القرآن من قبل أن يجتمع أبواك، ولقد علمني منه علي بن أبي طالب عليه السلام سورتين علمهما إياه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما علمتهما أنت ولا أبوك: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإياك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك بالكفار ملحق( ).
ولم يثبت هذا الامر عن الإمام علي عليه السلام، ولو كان لبان مع كثرة ما كان يأخذه عنه المسلمون من علوم القرآن وقراءته وكيفية تلاوته وتفسير بعض آياته، ولم يصدر عنه ما يؤكد إن القرآن لم تكتب فيه هاتان السورتان ولم يذكرهما على المنبر في الكوفة فالحديث ضعيف سنداً ودلالة.
وأخرج البيهقي من طريق سفيان الثوري عن إبن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير، أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، بسم الله الرحمن الرحيم اللهم اياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى نقمتك، ان عذابك بالكافرين ملحق( ).
والقراءة في القنوت أعم من القرآن، فقد ورد أن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم دعا في قنوته على جماعة من قريش، ولعل الخبر حجة بإنهما ليسا من القرآن لأن عمر لم يقرأ بهما في الصلاة، ولم يذكر عنه أنهما من القرآن مع انه كان يقول بآية الرجم.
وموضوع السورة وسقوطها أكبر من الآية، فكيف إذا كان الأمر سقوط سورتين معاً.
والشواهد التأريخية تؤكد حضور أبي بن كعب كتابة القرآن وكانت قراءته ممدوحة عند الصحابة وعند أهل البيت ولم يثبت عنه ما يخالف المكتوب في المصاحف.
وأخرج محمد بن قصر المروزي في كتاب الصلاة عن أبي بن كعب أنه كان يقنت بالسورتين فذكرهما، وأنه كان يكتبهما في مصحفه، وما يؤتى به في القنوت اعم من القرآن، وبقرينة القنوت فلعل كتابتهما من أجل حفظهما لسماعهما من رسول الله كدعاء، وذكر ان حرف أبي بن كعب هو العرضة الاخيرة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أختلف في الحرف الذي كتب فيه عثمان المصحف هل هو حرف زيد بن ثابت، او حرف أبي والاكثر ذهب الى الأول.
الرابع : انه مائة وخمس عشرة سورة، ونسب الى مصحف أبي ايضاً، وان سورة الفيل وسورة لايلاف قريش فيه سورة واحدة، ويرد بما أخرجه الحاكم من حديث أم هاني: (ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فضل الله قريشاًًًًً بسبع خصال لم يعطها أحداً قبلهم، ولا يعطيها أحداً بعدهم: إني فيهم وفي لفظ : النبوّة فيهم، والخلافة فيهم، والحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على الفيل، وعبدوا الله سبع سنين، وفي لفظ : عشر سنين لم يعبده أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم{لإِيلاف قريش})( ).
ونقل السخاوي والطبرسي عن الامام جعفر الصادق انهما سورة واحدة، وروي عن طاووس وعمر بن عبد العزيز ان الضحى وألم نشرح سورة واحدة وكانا يقرآنها في ركعة واحدة ، ولا يفصلان بينهما بـ(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ)، وذلك لأنهما رأيا أن أولهما يشبه قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} وليس كذلك، لأن حالة اغتمامه صلى الله عليه وآله وسلم بإيذاء الكفار، فهي حالة محنةٍ وضيق، وهذه حالة انشراح الصدر، وطيب القلبِ فكيف يجتمعان)( ) وهو المروي عن الامام جعفر الصادق أيضاً.
ولكن الاخبار عنه في المقام قاصرة السند بل ورد خبران عن زيد الشحام قال: صلى بنا الامام الصادق نقرأ الضحى وألم نشرح في ركعة وعنه أيضاً: صل بنا الامام الصادق فقرأ في الاولى الضحى وفي الثانية الم نشرح لك صدرك) وأقامني عن يمينه وقرأ في أول ركعة الحمد والضحى وفي الثانية بالحمد وقل هو الله احد .
وجمعهما خلاف ما مرسوم في المصاحف, وقراءة السور والآيات لا ينحصر موضوعها بالأخبار والنصوص بل لابد من موضوعية لما موجود في المصحف الإمام الذي تعاهده المسلمون وتوارثوه يداً بيد وجيلاً عن جيل بما هو أرقى من التواتر، وعليه قرائتهم في صلواتهم وغيرها, والمختار أن كلا من الضحى وألم نشرح سورة مستقلة .
إن تقسيم القرآن إلى سور كثيرة فيه فوائد منها:
الأولى : ان كل سورة علم مستقل.
الثانية : تعلق عدد السور بنوع الثواب والأجر في الآخرة، وقد ورد عن إبن عباس مرفوعاً: درج الجنة على قدر آي القرآن، بكل آية درجة، فتلك ستة الآ آية ومائتا آية وست عشرة آية، بين كل درجتين مقدار ما بين السماء والأرض.
الثالثة : فيه حث على متابعة علم البديع وأسرار البلاغة والتداخل والإلتقاء بين السور، وما تستقل به كل سورة من الأحكام، فسورة المائدة جاء فيها إكمال الشرائع، وهي آخر سور القرآن نزولاً فتكون أحكامها ناسخة.
الرابعة : إن ضبط الآيات والسور إستفتاحاً وخاتمة يستلزم جهوداً عظيمة يشارك فيها المسلمون لإتقانها وتعاهدها في كل جيل بالتوفيق والمعرفة.
الخامسة : التقسيم دعوة دراسة القرآن وفق منهجية وتقسيم سماوي، وهذا التقسيم لم يطلب بذاته فحسب بل إنه يتضمن مطالب عقائدية متعددة.
السادسة : ورد في حديث أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا)( ) مما يعني موضوعية وأثر التقسيم في تسهيل الحفظ والورد والقراءة، وأنه مدار معرفة إيمان الشخص.
السابعة : الآية لغة العلامة وذكروا لها مثلاً قوله تعالى[إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ]( )، ولكن معنى الآية هنا أعم من المعنى اللغوي ويشمل المعنى الإعجازي، وكذا بالنسبة لآيات القرآن فإن كل واحدة منها علامة وشاهد على نزولها من القرآن، فهي تثبت بذاتها إعجازها وعدم قدرة البشر على أن يأتوا بمثلها، وكل آية تصلح للتحدي والبرهان.
الثامنة : يبعث تقسيم القرآن إلى سور وآيات في نفس القارئ الشوق الى التلاوة، ومعرفة كل سورة، ويشعر معه بالفخر والزهو لأنه قرأ أو حفظ سورة من القرآن ويشتاق لختم غيرها.
التاسعة : إنه نوع تخفيف عن المسلمين في جعل كل سورة جزءً مستقلاً من القرآن، بل هي قرآن.
العاشرة : ذكر إن الكتب السماوية مسورة، وأن في الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال، وأخرج إبن أبي حاتم عن قتادة قال: كنا نتحدث أن الزبور مائة وخمسون سورة، كلها مواعظ وثناء ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود.
الحادية عشرة : التقسيم إلى سور وآيات عون للمسلمين في صلاتهم وتسهيل وترغيب في الصلاة بجواز إختيار أي سورة من سور القرآن مع التقيد بقراءة الفاتحة، ولابد لهذا الإختلاف من دلالات.
الفاتحة تقرأ في كل ركعة من الصلاة اليومية، وفي الركعتين الأوليتين منها يختار المسلم اي آيات أو سورة معها قصيرة كانت السورة أو متوسطة أو طويلة، وهو مناسبة لإظهار جمال القرآن وبديع آياته وقدرة المصلي على الحفظ والتلاوة الصحيحة.
الثانية عشرة : الإلتفات إلى مناسبة التنزيل وأسباب النزول وكيف أن السور المكية جاءت قصيرة لأنها تتضمن الوعيد والتخويف والإنذار، وتدل على درجة الفهم والإدراك والبلاغة العالية عند قريش والمسلمين عامة للإعتبار بما في الآيات والسور القصار من المعارف الإلهية والحكمة والإعجاز، وكانت سبباً في إسلام الكثيرين.
الثالثة عشرة : من يقرأ سورة البقرة يشعر بانه قرأ اكبر سورة في القرآن، ومن قرأ سورة الكوثر يعلم انه قرأ سورة من القرآن وفيه تخفيف من الله تعالى وباب لنيل الثواب والأجر.
الرابعة عشرة : يدرك من يقرأ السورة القرآنية أنه يتنقل في رياض ناضرة.
الخامسة عشرة : في هذا التقسيم تيسير لحفظ القرآن وهذا التيسير عام وخاص، فاما العام فان التقسيم بذاته تسهيل للحفظ ودعوة لتجزأة القرآن في حفظه، والخاص هو التيسير للناشئة والصبيان في الإبتداء بحفظ السور القصار.
وأطول آية في القرآن هي آية الدين ( )، وعدد كلماتها مائة وثمانية وعشرون كلمة، وتتكون من خمسمائة وأربعين حرفاً، وأقصر آية فيه (والضحى) ثم (والفجر) كل كلمة خمسة أحرف تقديراً ثم لفظاً، وستة رسماً، وقيل أنها آية [مُدْهَامَّتَانِ]( ) ، وليس في القرآن كلمة واحدة إلا آية (مدهامتان) ولاتعارض بينه وبين القول بأن اقصر آية والضحى، بإعتبار أن (والضحى) أقل حروفاً ولكنها تتكون من واو القسم والمقسم به، أما مدهامتان فهي كلمة واحدة.
وأطول كلمة فيه لفظاً وكتابة [فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ] ( ) وعدد حروفها أحد عشر حرفاً، ثم [اقْتَرَفْتُمُوهَا] ( ) و[أَنُلْزِمُكُمُوهَا] ( ).
وأختلف في عدد آيات القرآن إختلافاً كثيراً، ولكنه أختلاف صغروي ولفظي بلحاظ تحديد رؤوس الآية وإتصال الكلمات، فالجميع متفقون على آيات القرآن وأنه محصور بين الدفتين لا يقبل الزيادة أو النقيصة، وهذا من أسرار القرآن أن يختلف على ما أتفق عليه من غير تعارض، وهو إجتهاد وتتبع لسماع الآيات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومواضع وقوفه في القراءة، والظن بان هذا الوقف أو ذاك فاصلة ورأس آية وإشتراك القرائن بلحاظ موضوع الآية وخاتمتها.
فهو إجتهاد مقيد بالتوقيف والسنة زمن الثورة المعلوماتية لابأس من إيجاد قواعد حديثة لبيان أرقام دقيقة وحسابات رياضية لبعض أسرار القرآن ودلالاتها مع التقييد بالنصوص والأخبار والسيرة.
ويقسم القرآن إلى نصفين بحسب اللحاظ:
الأول : بحسب عدد الحروف، فان نصفه يقع بكلمة (نكراً) من سورة الكهف، النون في النصف الأول، والكاف من نصفه الثاني( ) قال تعالى[قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا]( ).
الثاني : بحسب الكلمات (والجلود. ولهم مقامع من حديد) ( )، فكلمة الجلود من نصفه الأول وقوله تعالى (لهم مقامع) من نصفه الثاني.
الثالث : اما في الآيات فان نصف عددها يقع في سورة الشعراء وهي في الجزء التاسع عشر من القرآن، لان آيات النصف الاول منه تتصف بالطول في الجملة، وآيات النصف الثاني خصوصاً المفصل تتصف بالقصر.
فالنصف يقع في قوله تعالى [فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ] ( ). فالآية الأولى آخر النصف الاول، والثانية أول النصف الثاني، أما تعيين نصف القرآن بحسب الآيات فنصفه الأول ينتهي بسورة الحديد، والثاني يبدأ من المجادلة وهي السورة الثامنة والخمسون من سور القرآن بحسب الترتيب، مع انها تقع في الجزء الثامن والعشرين الذي يبدأ بها.
اي سبعة وعشرون جزء يتضمن النصف الأول من السور بلحاظ عددها، وثلاثة أجزاء هي النصف الثاني بلحاظ عدد آيات كل نصف لقصر آيات المفصل.
وتتصف سورة المجادلة ان كل آية منها فيها إسم من أسماء الله تعالى، وسئل الكسائي: كم في القرآن آية أولها شين ؟ فأجاب أربع آيات [شَهْرُ رَمَضَانَ]( )و[شْهِدُ اللَّهَ]( ) [شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ]( )[ شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ]( ).
وسئل: كم آية آخرها شين، فاجاب إثنتان [كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ]( ) [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ] ( )، وفي القرآن آية واحدة تجمع حروف المعجم وهي قوله تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ]( ).
وفي الحج ست آيات متواليات كل واحدة منهى تنتهي باسمين من أسمائه تعالى من الآية التاسعة والخمسين إلى الآية الخامسة والستين وفي القرآن آية فيها ستة عشر ميماً وهي [قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
وسورة يوسف التي جاءت خصيصاً لقصة نبي الله يوسف خالية من ذكر الجنة والنار مع أن عدد آياتها مائة وإحدى عشرة آية.
فضل سور وآيات القرآن
قد وردت النصوص بفضل بعض سور وآيات القرآن وخصت بأحاديث تدل على أهميتها ومنافعها وما فيها من الإعجاز والبركات.
وقد وقع الإختلاف في حصول التفضيل بين آيات وسور القرآن او عدمه، والقائل بعدم التفضيل بينها يشعر بنقص المفضول، وكلام الله كله ماهية واحدة ونازل من عنده تعالى.
أما القائل بالتفضيل فقد إستدل بالأخبار وما تدل عليه من عظيم الثواب لقراءة سورة أو آية مخصوصة، ففي أفضلية سورة معينة أستدل بالنصوص الواردة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في تفضيل سورة الفاتحة منها حديث أبي سعيد المعلى: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: إني لأعلمك سورة هي أعظم السور في القرآن، قال (الحمد الله رب العالمين)( ).
وبالنسبة للآيات ما ورد منها في آية الكرسي كما في حديث أبي بن كعب: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي آية معك في كتاب الله أعظم قال: فقلت: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}( ) قال: فضرب في صدري وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر)( ).
ومنها ما ورد في خصوص السورة والآية معاً منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم لكل شئ سنام، وان سنام القرآن سورة البقرة، فيها آية الكرسي.
ويمكن مناقشة المسألة كتاباً وسنة وإجماعاً وعقلاً، أما بالنسبة للكتاب فليس في القرآن ما يدل على تفضيل سورة دون أخرى، أو آية دون آية، بل جاء الثناء والمدح للقرآن كعنوان جامع لما بين الدفتين، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وفي التنزيل [إِنا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا] ( )” فلم يقل الجن أنهم سمعوا آيات بعينها ولو سمعوا غيرها لإختلف الحكم عندهم ولم ينتظروا غيرها للقطع بأن القرآن كله إعجاز، مما يعني أن آيات القرآن جاءت على نحو التمام والحسن والإعجاز.
ولقد جعله الله عز وجل ملائماً لكل زمان ومكان، ويحتاجه المسلم في جميع أحواله، وحتى الآيات التي أشارت إلى النصر أو الشفاء ونحوه إنما جاءت بإسم القرآن منها في وصفه وبيان علو مرتبته[وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
أما السنة فوردت نصوص كثيرة في فضل القرآن وقراءته والتدبر بآياته وبيان أحكامها ومنافعها.
ووردت نصوص بخصوص بعض السور والآيات وما لها من الفضل والشأن، ولكن هذا التفضيل لا يعني مرجوحية الآيات الآخرى كما ظن بعض العلماء، فالتفضيل ذاتي وغيري لذات السور والآيات، ومن خلالها السور وآيات القرآن الاخرى.
أي أن تفضيل وترجيح لآية من آيات القرآن هو تفضيل لسور وآيات القرآن كلها ولا يعني في مفهومه وجود آيات مفضولة في مقابل الأفضل، فلكل سورة وآية من القرآن خصوصية وأسرار وأعجاز منها ما يظهر بتلاوتها ومنها التدبر فيها، وتفسيرها وتأويلها، ومنها ما يرد على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيكون شهادة نبوية مباركة ودعوة للعناية الخاصة بها.
وهذه العناية إنما هي عناية وإهتمام بالقرآن كله كموضوع وحكم وكتاب نازل من السماء، وإلا فان العقل يحكم بتفضيل سورة الفاتحة لأنها تقرأ في كل ركعة من الصلاة اليومية،
وترى المسلم يقرأ على نحو الفرض والوجوب سورة الفاتحة كل يوم عدة مرات، لتكون هذه القراءة تعاهداً للقرآن بمجموعه ومنعاً من ضياعه وزجراً عن التفريط اليومي به، لذا يطلق لفظ القرآن على الجزء منه والآية كونه إسم جنس وعنواناً جامعاً لآيات القرآن.
إن النصوص الواردة في فضل بعض سور وآيات القرآن ثابتة عند جميع المسلمين، ولا يختلفون في أفضلية كل آية من القرآن فلابد من حمل التفضيل على الذات، و عدم وجود مفهوم له يتعلق بمفضول من الآيات الأخرى، وعدم ذكر فضل بعض السور والآيات لا يدل على عدم إختصاصها بفضل، فعدم الإيجاد أعم من عدم الوجود, و لكل فضل، منه ما أعلن و أخبر عنه، ومنه ما يستقرأ، ومنه ما يعرف في الأزمان اللاحقة, بالإضافة إلى إستغراق ثواب القراءة والتعلم لكل آية من آيات القرآن كما ورد أنه (في قراءة كل حرف من القرآن عشر حسنات) فأفضيلة بعض الآيات جاءت بها النصوص ولا يتعارض مع عدم التفاضل بين سور وآيات القرآن لأنها كلها كلام الله، ولا تصل النوبة إلى القول بأن التفاضل جهتي فحتى على القول بأن الأفضلية بلحاظ جهة مخصوصة، فانها لا تتعارض مع التساوي وعدم الترجيح.
وكره الإمام مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها، والأصل الجواز ولا دليل على الكراهة إلا إرادة مفهوم التفضيل، ولم يثبت خصوصاً وأن كثرة القراءة لا تعني التفضيل بل الإختيار مع الإقرار بالقرآنية، ثم الإعادة يتحصل في الصلاة اليومية بتكرار قراءة سورة الفاتحة فإذا قلنا بان التكرار يعني التفضيل فان القراءة في الصلاة اليومية تدل على وجود التفضيل عرضاً وإنطباقاً لأن الفاتحة تكرر فيها وهناك سور مخصوصة يستحب قراءتها في بعض الصلوات.
إن إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن فضل بعض السور والآيات إشعاع ونور يملأ النفوس العطشى التي تعشق القرآن وهو زاد للقلوب لمعانقة آيات القرآن وإتخاذها حرزاً وذخيرة وواقية، فبيان فضل بعض السور والآيات فضل منه تعالى على نبيه وعلى الأمة بلحاظ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [مَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) لتسهيل لجوء المسلمين إلى القرآن، وزيادة الشوق له وهي دعوة للتحقيق في فضل السور والآيات الأخرى، ولتوكيد عظيم الأجر والثواب للآيات ولتسهيل حفظ اجزاء من القرآن.
فحينما يشعر الإنسان أن سورة الواقعة باب للرزق والبركة فانه يبادر إلى حفظها وقراءتها ويدرك من خلالها سهولة حفظ قصار السور من باب الأولوية فيتجه لحفظها وكذا بالنسبة للآيات كآية الكرسي.
الحقيقة والمجاز
من كنوز القرآن الظاهرة ودرره المتلألئة تضمنه للحقيقة والمجاز والجامع بينهما، أي أن اللفظ ذاته يكون حقيقة ويكون مجازاً من غير تعارض أو تناف بينهما.
فاللفظ القرآني يجمع المتفرق ويفرق المتحد بمفاهيم تعضدها آيات أخرى وتدل عليها السنة النبوية الشريفة وتؤيدها اللغة والعقل والعرف.
والحقيقة كل لفظ وضع أزاء معنى مخصوص في أصل اللغة، أما في عرف المتكلمين فهي نفس الشئ، وتستعمل في التصور الجاري في الفعل مجرى نفس الشئ.
ومن الحقيقة آيات القرآن في إثبات التوحيد، وتنزيه مقام الربوبية وبيان كيفية الخلق وحاجة المخلوقات كافة للباري عز وجل في وجودها من العدم وإستدامتها.
ومن آيات الخلق الإحياء والإماتة والمعاد والبعث والحساب والجزاء بالنعيم في الجنة والعذاب في النار، قال تعالى [أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( )، وقال تعالى[مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ]( )، والمشهور شهرة عظيمة القول بوجود المجاز في القرآن وهو المختار ومنهم من قال بعدم وقوع المجاز في القرآن منهم إبن القاص من الشافعية المتوفي بطرسوس سنة 335، وإبن خويز من المالكية.
وحكي عن داود الظاهري( ) وإبنه وأبي مسلم الأصبهاني( )، وقالوا بان المتكلم لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، والله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة, والحق أن المجاز موجود في القرآن، وهو علم مستقل ويشارك العلوم الأخرى, وللمجاز في القرآن خصوصيات و فيه معارف قدسية و مطالب ربانية لها دلالات عقائدية وأخلاقية وتفتح الباب أمام دراسات متعددة وعلوم منشطرة كما سيأتي بيانه في بعض الامثلة.
والمجاز مشتق من جاز الشئ يجوزه إذا تعداه، وأختير في الإصطلاح للفظ الذي ينقل من معناه الأصلي ليتخذ عنواناً وإسماً لمعنى آخر مع وجود علاقة بين المعنى الحقيقي للفظ، والمعنى المجازي الجديد الذي نقل له وتسمى هذه العلاقة (المناسبة) مع وجود قرينة صارفة عن إرادة المعنى الحقيقي الذي وضع له اللفظ، فاذا قلت تحدثت مع أسد.كانت قرينة الكلام على أن المراد رجل شجاع وليس الأسد الذي وضع له اللفظ وهو الحيوان المفترس الذي ينعدم وجوده بين الناس.
وتكون القرينة على قسمين:
الأول: القرينة اللفظية التي يلفظ بها في سياق الكلام.
الثاني: القرينة الحالية وهي التي تعرف من حال التكلم أو من الواقع.
أما العلاقة فهي على قسمين تكون نوع مشابهة بين المعنى الحقيقي والمجازي وتسمى المشابهة، والمجاز فيها يسمى (استعارة) والا فانه مجاز مرسل، ويقسم المجاز تقسيمات عديدة منها المجاز العقلي والمجاز اللغوي.
وما استحدثناه من تقسيم ثالث للحقيقة والمجاز وهو الجامع لهما يفتح آفاقاً من العلم ويمنع من الإنتقال من رأس الى المجاز في علم التفسير، والمجاز العقلي يسمى الملابسة وهو إسناد الفعل وما في معناه كإسم الفاعل وإسم المفعول والمصدر إلى غير الفاعل أو الذات المقصودة حقيقة العلاقة بين المذكور مجازاً والمقصود حقيقة ولقرينة تمنع من إنصراف اللفظ إلى المعنى الحقيقي وأستدل عليه بقوله تعالى[وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ]( ).
فقد أسند الجري إلى الأنهار ولكنها أوعية للماء والذي يجري الماء وليس وعاؤه، وتذكر كتب البلاغة والتفسير هذا المثل، وعلى المبنى الذي ذكرناه وهو العنوان الجامع لهما، فان هذا الكلام يحمل على الحقيقة وعلى المجاز على الحقيقة في بيان عظيم قدرة وفضل الله تعالى فيجعل الأنهار ذاتها كأوعية متنقلة بين الجنات وقصور المؤمنين فيها، بخلاف نواميس الأرض.
فاذا إشتاق المؤمن وهو في قصره ان يرى نهراً ما من أنهار الجنان فلا يحتاج إلى الذهاب إلى موضعه بل يحضر النهر بذاته عنده وتلك من الآيات والنعم التي تنفرد بها الجنة، كما يحمل الكلام على المعنى المجازي أيضاً بأن المراد جريان الماء وليس الأنهار ولا تعارض بينهما.
والمجاز اللغوي له علاقات عديدة:
الأولى : المسببة: أي ان المنقول عنه سبب واثر لشئ آخر مثل [وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا]( ).
واللفظ هنا يحتمل العنوان الجامع للحقيقة والمجاز فالماء النازل من السماء بذاته رزق كريم وفيه بنفسه مجرداً من غير واسطة نفع عظيم، قال تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ]( ).
والإنسان من الأحياء فالماء رزق له، ولا يستطيع العيش بدون ماء وهناك مواضع فيها أناس ودواب لو لم تمطر السماء لهلكوا.
فالقرية التي بين الجبال وتعيش على المطر لو إنقطع المطر لموسم أو لأكثر من موسم لهلكت الدواب , فالماء تشربه من غير حاجة لقطع الفيافي والإنتقال إلى أماكن أخرى وإن كانت تلك الأماكن أيضاً تعيش على الماء والمطر، فالماء بذاته رزق ويحمل على الحقيقة كما أنه يحمل على المجاز أيضا لأن الماء ينمي المزروعات ويسبب الأرزاق ودوام المعاشات.
الثانية : الكلية: هي ذكر تمام الشئ وارادة الجزء منه كما في قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاًمِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ) واليد عنوان جامع يشمل:
الأول : الأصابع.
الثاني : الكف.
الثالث : الساعد وهو الذراع (قال الأَزهري والساعد ساعد الذراع وهو ما بين الزندين والمرفق سمي ساعداً لمساعدته الكف إِذا بَطَشَت شيئاً أَو تناولته)( ).
الرابع : المرفق وهو ملتقى الذراع والكتف، وقد ذكره الله عز وجل بصيغة الجمع في آية بقوله تعالى[فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ]( ).
الخامس : العضد وهو ما بين المرفق والكتف.
فلا تقطع اليد كلها بل وقع الخلاف بين علماء المسلمين هل تقطع من الاصابع لعمومات قوله تعالى[وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ]( )، وان الكف من المساجد السبعة عند الإنسان والتي يسجد عليها في الصلاة وهي:
الأول : الجبهة.
الثاني : الكفان.
الثالث : الركبتان.
الرابع : الإبهامان.
أو أن القطع من حد الكف من الكوع وهو رأس الزند مما يلي الابهام لصدق إسم اليد على الكف الذي سمي كفاً لأن الإنسان يكف بها عن ساير البدن.
وكما في قوله تعالى [يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ] ( )،أي أناملهم، والقرينة حالية وهي تعذر إدخال الإصبع كله في الأذن، ومن إعجاز القرآن الإتيان باللفظ ولزوم التحري عن دلالاته في منطوق ومفهوم الآية,
فقطع اليد في الآية أعلاه دلالة على التأديب والزجر والتوبيخ وان اليد التي قامت بالتعدي وفعل السرقة وقع عليها العقاب، لقطع وسيلة الإعتداء.
أما جعل الأصابع في الأذان مع أنهم وضعوا أناملهم فالمراد أنهم لم يقصدوا وضع الأنامل بالذات بل قصدوا وضع الأصابع في الأذان، كما أنها تدل على بذلهم الوسع في إجتناب إستماع الآيات.
ثم أن المجاز يتعدى مسألة وضع الأنامل، وفيه مسائل:
الأولى: إنه كناية عن إعراضهم عن الآيات، فحينما يواجههم إعلانها يضعون أصابعهم في آذانهم.
الثانية: إجتناب الكفار للمواطن التي يمكن أن يسمعوا فيها الآيات.
الثالثة: تدل على بلوغها آذانهم وعدم مقدرتهم على الإعراض عنها مما يعني أنها مؤثرة في النفوس وتنفذ إلى الأعماق وتدعو إلى التفكر.
الرابعة: بيان سفاهة ما عليه الكفار والمشركون وفضح فساد أحلامهم.
الخامسة: الإشارة إلى الخلل في مباني ما يعتقدون وضلالة ما هم عليه.
فيظهر الإنفعال والفراغ عليهم بإرادة وضع الاصابع في الاذان إجتهاداً في عدم سماع الآيات.
الثالثة : الجزئية وهي خلاف الكلية، فيذكر الجزء ولكن المراد أعم منه، فالمقصود هو الكل، كما في قوله تعالى [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] ( )، فجاء ذكر الرقبة عنواناً لعتق العبد بكامله.
ولكن ذكر المجاز والجزء هنا لا يخلو من دلالات , وبذا يتصف المجاز القرآني بأسرار عقائدية وتكون له وجوه فلسفية ينفرد بها، فهذا المجاز والإتيان بالجزء دون الكل يؤكد على إستحباب العتق وبيان فضل الله تعالى في حرية الإنسان، وهو تذكير للحر من الناس بلزوم شكره تعالى على نعمة الحرية والعتق وأنه ليس من عبودية في رقيته إلا لله تعالى.
ويجب ان يتجلى الشكر على نعمة الحرية بأداء الفرائض وإتيان الصالحات وإجتناب النواهي وما حرّمه الله تعالى.
ليس من رق في هذا الزمان إلا الشاذ النادر، ولكن الرق والعبودية لله تعالى باقية ومستديمة وهي مصاحبة للإنسان في النشأتين في دار العمل والإختبار، وفي دار الحساب والجزاء.
لتنعدم الواسطة بين المكلفين على نحو العموم الإستغراقي وبين عبادة الله وأداء التكاليف، وحتى نظام الرق في الإسلام فأنه تشريع لإصلاح العبد لعبادة الله وإخلاصه في أداء الوظائف الشرعية، والأمن من شره وتعديه على الإسلام لذا جاءت الآيات والسنة النبوية بالحث على العتق، قال تعالى[وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ]( ).
وتدل الآية على موضوعية الحرية في حياة الإنسان وإستدامتها، لأنه إذا كان عبداً لا يأمن عليه من بطش مولاه، أو أنه يهلك تحت وطأة العمل الشاق وزجه في المخاطر والمهالك وتعريضه للعقوبة والعذاب، ولزوم إكرام العبد المؤمن، ويتجلى هذا الإكرام بأبهى ضروبه بعتقه وتخليصه من نير العبودية لغير الله ، ليفوز بإنحصار عبوديته لله عز وجل وحده.
والآية دعوة للعبيد للتعرض للحرية بالإيمان والصلاح، وحث للمسلمين لحفظ حياة الآخرين وحريتهم وأمنهم , ويدل الواقع وتعاقب الأيام على هذه الحقيقة وتخلص العبيد من الرق والإنقياد لغير الله.
وتبين الآية شرف الرقبة وتدعو الإنسان لإجتناب الذنوب التي يكون القتل والحد عقوبة لها.
الرابعة : المرئية: وهذا القسم من العلاقة إبتداء منا وإستقراء من القرآن موضوعاً وعنواناً وهي رؤية الشئ والموضوع والأثر في جزء من شئ مع أنه أعم وأكبر، ومنه قوله تعالى [َفرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ]( )، فان قرة العين عنوان للفرح والسرور والسكينة التي تملأ النفس.
وقوله تعالى [فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( )، فقرة العين هنا إخبار عن بشارات ونعيم خالد.
الخامسة : الترغبية : وهذا العلاقة إبتداء منا أيضاً , وتتجلى في آيات القرآن وتعني أن الوصف يفيد التحريض والتشجيع والحث على إتيان الفعل كما في قوله تعالى [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ] ( )، فالله عز وجل هو الغني الذي تحتاج الخلائق كله ارحمته وفضله، ولا يحتاج إلى أحد.
وبيّن القرآن موضوع القرض وهو الصدقة على الفقراء والمحتاجين، قال تعالى [إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ]( )، فالقرض لم يكن لله عز وجل لا موضوعاً ولا حكماً ولا فعلاً، ولكن الله عز وجل أراد الترغيب والإخبار عن عظيم الثواب وألأجر.
السادسة : الحالية: وهي العلاقة التي تنبأ عن حلول الشيء في غيره فيذكر الحال، ويراد به المحل، كما في قوله تعالى [يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ]( ).
والمراد من الزينة هنا اللباس لأنه عنوان البهاء والهيئة الحسنة، ففيه مجاز مرسل، ويمكن حمل الكلام أيضاً على المعنى الأعم والمراد به القول الحسن وتلاوة القرآن وإفشاء السلام والذكر عند دخول المسجد وان الصلاة زينة للإنسان.
وفي وصيـــة رســـول الله صلــى الله عليـــــه وآلــــه وسلم لأبي ذر: يا أبا ذر من أجاب داعي الله وأحسن عمارة مساجد الله كان ثوابه من الله الجنة.
فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله كيف يعمر مساجد الله؟ قال: لا ترفع فيها الأصوات ولا يخاض فيها بالباطل ولا يشترى فيها ولا يباع وأترك اللغو ما دمت فيها، فان لم تفعل فلا تلومن يوم القيامة إلا نفسك”.
ومن بركات المسجد أن الغافل عن ذكر الله عز وجل إذا دخله إشتغل بذكر الله، فتكون الزينة واللباس الحسن والنظيف مقدمة تنبه العبد إلى وظيفته في المسجد بإكرامه وتنزيهه وصيانته وإعماره بالذكر وتلاوة القرآن والصلاة، ومنه قوله تعالى [فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
فالمراد من الرحمة الجزاء بالجنة والخلود في النعيم الخالد، ويدل المجاز في مفهوم المخالفة على الشقاء والعذاب الشديد الذي يكون فيه الكفار في النار، وحجبهم عن أنفسهم بإيديهم نيل رحمته تعالى، ومن مفهوم الآية ترغيب للناس برجاء رحمة الله سبحانه وعفوه.
السابعة : العموم: وهو إتيان الشيء بعنوان العام والإطلاق ولكن المراد هو الخاص ويعرف بالقرينة الصارفة عن العام، كما في قوله تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ] ( ).
فالمراد شخص واحد كما في أسباب النزول، ولكن الفاظه ومعاني كلماته لا تنحصر بسبب النزول وزمانه، بل هي أعم فنها تشمل الأزمنة والأماكن المختلفة.
ليكون هناك تقسيم بلحاظ الإيمان إلى مسلم وغير مسلم، والمسلم تزيده أسباب التخويف من الناس إيماناً وتوكلاً على الله، لذا فإن قوله تعالى[قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]( )، ثناء على الأعراب وبشارة لهم لأنهم سيرتقون إلى منازل الإيمان، وفيه دعوة للمسلمين لإعانتهم لبلوغ هذه المرتبة.
فالمجاز في القرآن لم يكن مطلوباً بذاته بل هو مفهوم عقائدي لإفادة معاني متعددة ومطالب متفرعة تساهم في جعل الآية الكريمة تنبض بالحياة، ويكون معنى اللفظ القرآني متعدداً ينطبق على مصاديق متعددة.
الثامنة : التفخيم: وهو إيراد لفظ على الإفادة معنى أقل منه شأناً او عدداً لبيان اهميته ومنزلته، كما في قوله تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ] ( ) فقد وصف إبراهيم بأنه أمة مع أن لفظ أمة يعني الجماعة الكثيرة المتجانسة التي تربطها رابطة معينة.
لبيان عظيم منزلة إبراهيم في الإيمان والتقوى وأنه إستطاع بمفرده ان يواجه نمرود وقومه من أهل الكفر ويحتج عليه ويفضحه في دعواه الباطلة بالربوبية.
فعندما تفشى الكفر وسادت مفاهيم الضلالة وضعف الإيمان جاء إبراهيم بمفرده حاملاً لواء الإسلام ليضعه أمام قصر الملك وبين وزرائه وحاشيته ويصرخ بكلمة التوحيد بالحجة والبرهان العقلي الذي لا يمكن رده، وهو يعلم أن القتل ينتظره والذي يبدو بالدلالة التضمنية ولغة التهديد التي أراد بها نمرود رد إحتجاج إبراهيم [قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ] ( ).
وجاء بشخصين مسجونين أطلق سراح أحدهما وقتل الآخر وهو يعلم أن ما يفعله من المجاز في معنى الحياة والموت، ولكنه أراد مغالطة إبراهيم وبعث الخوف والرعب في نفسه.
فإنتقل إبراهيم إلى دليل آخر لا يستطيع الطاغوت رده فقال [فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ] ( ) فإستحق إبراهيم لقب الأمة بجهاده ومواجهته لأمة الكفر والضلالة، وبذا فإن المعنى المجازي في القرآن أعم وأكبر وأوسع من البعد البلاغي.
التاسعة : الإستقبال: وهو إطلاق اللفظ بلحاظ ما يؤول إليه في المستقبل، وما سيكون عليه مع أن ظاهره الزمن الماضي وأصل الشيء، كما في قوله تعالى [إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا] ( ).
فإن العصر لا يكون للخمر بل يكون للعنب، أو أن لفظ الخمر أطلق على العنب بلحاظ نتيجة عصره والغاية منه والمقصود هو إعصر عنباً، لبيان تفريط الكفار بالنعمة الإلهية وصناعة الطيبات لما هو مكروه وحرام ونجس، ولعل في الآية إشارة إلى استحقاق القوم للبلاء بالقحط والجوع والجفاف لولا أن يمن الله عز وجل عليهم بيوسف نبياً ووزيراً، ليكون وسيلة مباركة ومناسبة للتدبر والإتعاظ.
وإلى جانب المجاز اللغوي هناك المجاز العقلي ويسمى الملابسة.
العاشرة : التعدد : وهو إطلاق صيغة الجمع على المفرد كما في قوله تعالى [فَعَقَرُوا النَّاقَةَ] ( ) والعاقر لها واحد و هو قدار لكن الآية جاء بلغة الجمع و التعدد إشارة إلى رضاهم بالفعل ومشاركتهم به على نحو التحريض فالحقوا بالفاعل المباشر.
الحادية عشرة : الإفراد: و هو الإتيان بالمفرد و المتحد، و المراد الجمع و التعدد كما في قوله تعالى [تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ]( ) و المقصود كلمة الشهادة التوحيد أشهد أن لا إله إلا الله.
الثانية عشرة : إطلاق إسم العام وإرادة الخاص: فيأتي لفظ عام وشامل ولكنه يفيد الخصوص وأفراد من العام، دون سواهم، وأستشهد بقوله تعالى [وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ).
وأستدل على إرادة الخاص بقوله تعالى [وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا]( ) ولكن هذه الآية تتعلق بشطر من الملائكة وليس كلهم قال تعالى[الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا] ( ) والإستدلال حسن إلا أنه ليس تاماً على نحو الإطلاق فان لفظ الملائكة أعم من حملة العرش ودعاء الملائكة من فضله ورحمته تعالى، كما أن حملة العرش يشيرون إلى العموم الذي يفيده دعاء الملائكة كما ورد في الآية [وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا] ( ) وفيه إشارة إلى شمول رحمته لكل أهل الأرض وإن كانت الرحمة أعم من المغفرة.
الثالثة عشرة : إطلاق الجمع وإرادة المثنى: كما لو جاءت صيغة الجمع ولكن المراد هو المثنى قال تعالى [إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا] ( ) فالقلوب جمع وهما إثنان، والآية بخصوص نساء النبي وجاء الجمع لأمرين الأول: أن الإثنين أقل الجمع.
الثاني: إنه نوع إكرام لأزواج النبي وبلحاظ موضوع التوبة وحسن الإصغاء ولأن القرآن نزل بلغة “إياك اعني واسمعي يا جارة” فالآية دعوة لنساء النبي جميعهن للإصغاء والإنصات والإستجابة، وبيان وظائف وسنن بيت النبوة.
الرابعة عشرة : حذف المضاف ونصب المضاف إليه محله فالمقصود هو المضاف ومع هذا يأتي المضاف إليه للدلالة عليه، ومنه قوله تعالى [وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ]( ).
وفيه بيان وتفسير لقوله تعالى [أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا] ( ) وجاء كلامهم للإستشهاد بما هو ثابت وليس فقط المتحرك بمعنى التوكيد والثتبت وصدق المقولة.
كما جعلت هذه الآية [وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ] في باب إطلاق إسم المحل وإرادة الحال، ومنه قوله تعالى [وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ] أي أزواج في الجنة تتصف بالرفعة وعلو المكانة، والعرب تسمي المرأة بالفراش والأزار.
وفي الوصف إكرام لأهل الجنة لأن الأزواج ترفع لهم على نحو التخصيص، يقال: رفعته إلى السلطان ومنه قوله تعالى [نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ]( ) أي أنصار دين الله وأنصار رسوله، وجاء حذف المضاف للحكاية عنهم والإخبار عن صدق إيمانهم وتفانيهم في مرضاة الله، ومنه قوله تعالى [وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً]( ) أي إختار من قومه، وفيه نكتة وهي أن الذين إختارهم موسى يمثلون جميع قومه وأن الإختيار كان جامعاً مانعاً، جامعاً للجماعات والأسباط، ومانعاً من الشك والريب لذا ذكر من وجوه الحذف حصول زيادة مبالغة.
وقال الزركشي (وذهب المحققون إلى أن حذف المضاف ليس من المجاز، لأنه إستعمال اللفظ فيما وضع له، ولأن الكلمة المحذوفة ليست كذلك، وإنما التجوز في أن ينسب إلى المضاف إليه ما كان منسوباً إلى المضاف)( ).
ولكنه من المجاز، وقد يكون من الفرد الجامع للحقيقة والمجاز من غير تعارض بينهما.
الخامسة عشرة : إطلاق معنى الجارحة ونحوها للتشبيه: وإجماع المسلمين على تنزيه الباري عز وجل من الجوارح والشبه والتركيب، فواجب الوجود بسيط وهو بصير من غير آلة باصرة، وسميع من غير آلة للسمع، وجميع الأشياء حاضرة عنده مستجيبة لأمره، لكن وصف الجارحة يأتي عنواناً للأسماء الحسنى، قال تعالى[يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ]( ).
واليد عنوان القدرة والسلطان، وجاءت لتوكيد ضعف الناس وإن إجتمعوا وعجزهم عن تحقيق آية غاية ومطلب إلا بارادته ومشيئته سبحانه ولإقامة الحجة على الناس بلغة التبيان وتقريب المدركات العقلية بأمور حسية.
وفي الحروف المقطعة قال بعضهم: وهذه الحروف التي في أوائل السور، جعلها الله تعالى حفظاً للقرآن من الزيادة والنقصان، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، والآية تفيد ان الله تعالى يحفظ القرآن ولا مانع من أن يكون الحفظ بالأسباب كما في تعاهد المسلمين له، وإذا كانت بعض حروف القرآن تحفظه فإن كل حرف من القرآن يمتلك الأهلية لحفظه لأنه نازل من عند الله تعالى.
ولكل علم مبادئ ومفاهيم وهي:
الأول: المبادئ التصورية: هي التي يتوقف عليها تصور الموضوع وأجزائه وجزئياته وتصور المحمول، والإصطلاحات المتعارفة للعلم وإستحضارها حين الخوض في مسائله.
الثاني :المبادئ التصديقية: وهي التي توجب التصديق بثبوت محمولات المسائل لموضوعاتها التي يشملها العلم، فالمبادئ التصديقية يحصل معها الإقرار بنسبة المحمول إلى الموضوع.
الثالث : المبادئ الإحكامية: وهي التي تتوقف عليها معرفة الأحكام الشرعية من التكليفية والوضعية باقسامهما، سواء على القول بأن الأحكام الوضعية متأصلة في الجعل، أو منتزعة عن التكليف، وجعل المبادئ الإحكامية من علم الأصول لأنه يستنتج منها الحكم الشرعي وتقع في طريق إستنباطه.
والإجماع على إرتباط اللفظ بالمعنى وإختصاصه به، وإنما وقع الخلاف في كيفية هذا الإختصاص والإرتباط ومنشأه وأنه معنى مقول او أمر اعتباري.
وأختلف في دلالة الألفاظ على معانيها على أقوال ثلاثة:
الأول : كون دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية صرفة، ونسب إلى سليمان بن عباد، كدلالة الشعاع على الشمس، والمصباح على التيار الكهربائي أي من غير علة خارجية لهذا التخصيص.
وقد ذكر تُ في هذا السِفر حفظ العربية على وجوه:
الأول: للقرآن موضوعية في حفظ اللغة العربية.
الثانية: اللغة العربية ساعدت على حفظ القرآن .
الثالثة : لكل من القرآن والعربية خصوصية في حفظ الذات.
الرابعة : أن كلاً منهما ساهم في حفظ الآخر.
الخامسة : كل من القرآن والعربية حفظ ذاته وساهم في حفظ غيره.
السادسة : ان القرآن حفظ ذاته وحفظ العربية.
والأقوى هو الأخير وهو من إعجاز القرآن الذاتي والغيري، وإن كانت للعربية خصوصية وأهلية للدوام.
الثاني : كونها جعلية فلابد أن تكون هنا جهة إقتضت نعت المعنى بلفظ خاص كالكتاب بالكتاب، والدار بالدار والسكن، ولابد من جهة خارجية رسمت هذه العلاقة بين اللفظ والمعنى وكانت سبباً في خطور المعنى في الذهن، وهو الجعل والإعتبار لذا سمي بالوضع إذ أن الوضع يدل على واضع، وعليه الإجماع، ولكن أختلف في حقيقة الوضع وكيفيته بعد إختلافهم في الواضع.
الثالث : كونها بالذات والجعل معاً.
الرابع : وجود راجح لمناسبة اللفظ الخاص للمعنى المخصوص وليس بإقتراح صرف أو إتفاق محض.
الخامس : إن دلالة الألفاظ على معانيها بالذات والطبع كدلالة الدخان على النار.
والأولى هو الثاني وأنها بالجعل فلو كانت ذاتية لإشترك البشر جميعاً بمعرفتها وفهمها، كما أنه ليس من لغة عامة ذاتية والبواقي جعلية.
ووقع الخلاف في معنى الوضع هل إنه:
الأول : تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بلا إعتماد عليه.
الثاني : تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه.
الثالث : جعل اللفظ لإرادة المعنى.
الرابع : الهوهوية والإتحاد بين اللفظ والمعنى، أي أن حقيقته الإتحاد الإعتباري بينهما الناشئ عن الجعل أو كثرة الإستعمال.
والهيولي هي الصورة والحياة المشار إليها بالحس، وهي الجوهر عندما يكون محلاً، فاذا كان المحل متقوماً بالحال فهو الهيولي وكأنه المادة.
ومنهم من عرفه بأنه تعهد ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى أي ان اللفظ بذاته سبب لوجود المعنى من غير واسطة أو سبب خارجي، ويستحيل تخلف المعنى كإستحالة تخلف الحرارة عن النار، والشعاع عن الشمس، وكأن المعنى محمول اللفظ ولازم له فكما يستحيل تخلف المعلول عن علته، كذلك يستحيل إستحضار المعنى في الذهن عند إطلاق اللفظ.
وإختلفوا في الواضع على أقوال عدة:
الأول: إنه الله تعالى، وبه قال جماعة منهم أبو الحسن الأشعري، وقيل لا يستطيع شخص معين إيجـاد العلقة بين اللفظ والمعنى، وإحداث العلاقة بين اللفظ والمعنى من شخص واحد مثل يعرب بن قحطان كما قيل فلابد من إنتهاء الوضع الى الله تعالى الذي هو على كل شيء قدير وبه محيط.
وصحيح ان ايجاد الملازمة بين اللفظ والمعنى عمل أكبر وأعظم من أن يتولاه شــخص واحد بعينه أو أنه يتم ويــستقر عند جيل واحد، إلا أن هذا القول لا يعني الحصــر بأن الواضــع هــو الله عز وجل من غير واسطة بشر.
لقد وردت أسماء مخصوصة في القرآن مثل [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ]( ) فشهر رمضان هو الوحيد من بين الشهور الذي ورد إسمه في القرآن وفي هذه الآية دون غيرها، فهل هذه التسمية وامثالها تدل ان الواضع هو الله عز وجل، الجواب: لا يبعد هذا، وأن الناس توارثوا إسم شهر رمضان، والأصل أنه من عند الله، وجاء على لسان الأنبياء وفيه وجهان:
الأول: التسمية هنا على نحو القضية الشخصية.
الثاني: عدم ثبوت الملازمة بين الوضع والتسمية في القرآن خصوصاً مع إستحضار الضابطة الكلية في فلسفة النبوة وهي أن النبي يأتي بلغة قومه والعرف السائد قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِه]( )، نعم لابد أن هناك أسماء وضعت من السماء سواء عند خلق آدم وتعليمه الأسماء أو فيما بعد بواسطة الوحي والكتب السماوية المنزلة، والقرآن هو الجامع لها.
والقول بأن الله عز وجل هو الواضع على وجوه:
الأول : إن الله عز وجل لقن الإنسان اللغات، ويمكن أن يستقرأ هذا القول من قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) وأن اللغات تفرعت من آدم.
الثاني : إن الله تعالى وضع الألفاظ كوضعه للأحكام على متعلقاتها وضعاً تشريعياً، أو كجزء من الإرادة التكوينية وهو بعيد.
الثالث : إن وضع الألفاظ وإظهار البشر لمقاصدهم، ولزوم قيام الحجة عليهم بالنطق والبيان عما في نفوسهم هو فرع حكمته تعالى في الخلق فلابد أن تكون بتوفيق منه سبحانه، وهذا صحيح كونه جزء من فضله تعالى وخلقه للإنسان على أحسن تقويم إلا أنه يجعل كيفية الوضع قضية مهملة ولم تتضح كيفيتها.
الرابع : إن الألفاظ بوحي من الله تعالى إلى أنبيائه.
الخامس : الألفاظ بالهام من الله سبحانه إلى البشر.
السادس : إبداع اللغة في طباع الناس، وجعل الوصول إلى لغة للتفاهم جزء من فطرتهم.
الثاني: وضع اللفظ أزاء معنى شيء مخصوص من البشر كيعرب بن قحطان، وأن الله عز وجل جعل عند الإنسان قدرة على الوضع سواء بأصل النطق أو بالعقل، وطبيعة الإنسان في الأنس بالجماعة والحاجة اليها، فجعلوا الفاظاً لإبراز مقاصدهم لتصبح هناك حيثية دلالة اللفظ على معناه، بحيث يستحضر الإنسان المعنى بمجرد سماعه اللفظ كدلالة العلامة الموضوعة في الطريق لأبعاد المسافة على معانيها، فالإختصاص والإرتباط من مقومات اللفظ وليس هي ذاته.
إن نسبة الوضع إلى شخص معين بمبادرة ذاتية منه أمر مستبعد وخلاف الظاهر.
أما القول بأن الله عز وجل هو الواضع فهو ممكن من جهة قدرته على جميع الأشياء وتســاويها في الممكنات مطلقاً، ولكن القــول بأن وضع اللغات تم بالوحي إلى الأنبياء لا دلالة عليه بل إن النقل بخلاف قوله تعالى
[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ]( ) يدل على وجود اللغة واللسان عند الأمم وبعث الرسل بلغتهم، وأن القول بالإلهام لا دليل عليه سواء كان للفرد أو الجماعة وعلى نحو الخصوص بالنسبة للغة.
والإلهام هو العلم الضروري أو القاء معنى في الروح بطريق الفيض وما يقع في القلب من علم ليكون مقدمة وآلة للعمل، نعم يصدق هذا بالنسبة لآدم ولغته.
اما القول بوجود الراجح وهو من الكلي المشكك فما هي علة الرجحان وجهته وهل يتعلق بالمصالح أم بالأغراض والغايات أم هو فرع تأسيس اللغة، نعم الرجحان موجود أصلاً بإيجاد لفظ معين لمعنى مخصوص.
أما القول بأن دلالة الألفاظ على معانيها بالذات، فالقطع بخلافه لأنه لو كانت الدلالة ذاتية لا تحدث مع تباين الأجيال والأمصار والأعصار، فلابد من توسط الوضع.
ويمكن النظر إلى الوضع بمنظار السعة والشمول وأنه على قسمين :
الأول: ان وضع الألفاظ بفعل الناس أنفسهم وتم بالتدريج والإشتراك في إختيارها وتنقيحها بكثرة الإستعمال بما جعله الله عز وجل عندهم من العقل وقوة التمييز والحاجة إلى إختصاص اللفظ بالمعنى وهو ظاهر بالنسبة لأسماء المخترعات الجديدة وكيف يكون التوصل إلى إختيارها بالمعاني البيانية والإشتقاقية مما وضع للمواضيع المشابهة من الألفاظ المخصوصة.
ويمكن أن يعتمد في الأعلام الشخصية والأجناس الإستصحاب القهقري في كيفية إيجادها بعد عدم الدليل على التعيين المباشر منه تعالى بالوحي والتنزيل، أي أننا نحس بالوجدان أن وضع الألفاظ لمعاني المخترعات يتم من البشر فكذا بالنسبة لما سبق ولكن يشكل عليه بأن الوضع المستحدث ليس إبتداعاً صرفاً للفظ.
الثاني : القسم الآخر فهو أن الله عز وجل علّم آدم الأسماء كلها وأنزله إلى الأرض فاللغة الأم هي لغة سماوية علّمها الله عز وجل أبا البشر بالوحي وفي السماء، فهذه اللغة هل:
الأول : إنقرضت وإنمحت وحل بديلاً عنها الوضع من البشر.
الثاني : بقيت موجودة بين لغات الأمم.
الثالث : إنبثقت وتفرعت عنها اللغات الأخرى.
الرابع : إن الله عز وجل علّم آدم اللغات كلها، ثم أخذت كل أمة واحدة منها.
ولكن الإطلاق في الآية الكريمة[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )جاء بخصوص الأسماء وهي أفراد ومصاديق، وليس اللغات كدعاء وأصول.
الخامس : التفصيل في لغات أهل الأرض، فلغة واحدة منها بالوحي والتعليم، والبواقي بإبتكار من البشر وحسب الحاجة والراجح.
السادس : إن التعليم كان لأعلام شخصية مع القواعد لإشتقاق الأسماء والأجناس الأخرى فتم وضعها على نحو تدريجي وكل أمة بصورة مستقلة وبحسب الحاجة وكثرتها وحسب الفطرة التي فطرهم الله عليها لذا ترى المخترعات يشتق لها إسم مناسب للمعنى ولا يأتي لفظها إبتكاراً.
ومن المعلوم أن الله تعالى إذا أنزل نعمة فإنه إكرم من أن يرفعها فلابد أن تكون باقية في الأرض، فتعليم الأسماء بدء من الله سبحانه تعالى، وأول ما خلق الله آدم وبعث فيه الحياة كان متكلماً وليس صامتاً، فالكلام أمر وجودي ملازم لخلق الإنسان، (وعن ابن عباس قال : لما فرغ الله من خلق آدم وجرى فيه الروح عطس فقال: الحمد لله فقال له ربه: يرحمك ربك)( ).
لقد نزل آدم بلغة متكاملة لقوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ) وأصبحت هذه اللغة نواة ومادة لكل اللغات فيما بعد لعمومات أن الله عز وجل إذا أنزل نعمة فهو أكرم من أن يرفعها ولما فيها من الإفاضات التي يترشح الثبات والبقاء منها.
لذا قيل أن لغة آدم هي العربية وهي لغة أهل الجنة، وقيل انها السريانية، والأرجح الأول.
نظرية التعهد
بعد الإتفاق على الوضع، ووجود علاقة بين اللفظ والمعنى، وعملية إختيار اللفظ المناسب للمعنى بلحاظ قرينة أو أمارة أو علامة لصفة معتبرة في اللفظ يتبادر معها المعنى إلى الذهن، إختلفوا في كيفية حصول هذه الصفة وتفسير العلاقة بين اللفظ والمعنى وتصور المعنى عند إطلاق اللفظ على قولين:
الأول: قال المشهور بأنها عملية إعتبارية ثم إختلفوا في المعتبر.
الثاني: الذي خالف المشهور قال بنظرية التعهد.
وتقوم نظرية التعهد على التباني النفساني عند المتكلم بان اللفظ المخصوص يحدث عند السامع المعنى الذي يريده فلذا سميت بالتعهد أي لحصول تعهد وإلتزام وتباني بين المتكلم والسامع للعلقة والصلة بين اللفظ والمعنى.
وتكون الدلالة الوضعية بحسب هذه النظرية دلالة تصديقية دائماً لأنها تبتني على التعهد والإلتزام وهما أمران إختياريان، والإختيار لا يتقوم إلا بالقصد والإرادة من المتكلم لتفهيم المعنى وما يتبادر اللفظ عند السامع فهو من تداعي المعاني.
والتعهد لا ينحصر بشخص واحد بحسب هذه النظرية فيشمل كل متكلم على نحو العموم الإستغراقي لما فيه من الإختيار والتعهد المتصل من المتكلمين، وعدم إنحصاره بالواضع الأول، فيتلقى كل متكلم الوضع بتعهد وإلتزام ممن قبله وصولاً إلى الواضع الأول ومن بعده وكل متكلم ملتزم به فكأنهم بعرض واحد، ليصــبح كل متكلم واضعاً لأنه يلتزم بالإتيان باللفظ المخصوص لإرادة تفهيم المعنى.
وأشكل على نظرية التعهد بالدور وأن الإلتزام بإبراز اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى يتوقف على العلم بالوضع أي بوضع هذا اللفظ للمعنى، فالإلتزام بإتيان شخص لفظ معين لإرادة معنى لابد أن يتوقف على العلم بوضع هذا اللفظ لذات المعنى فيكون التعهد والإلتزام متوقفاً على الوضع، والوضع نفسه تعهد وإلتزام فيكون كل منهما متوقفاً على الآخر.
وأجيب بأن التعهد إلتزام كل متكلم لطبيعي اللفظ، وطبيعي المعنى على نحو القضية الحقيقية، أي التي يؤخذ موضوعها من حيث هو لا بإعتبار الوجود الخارجي بل بإعتبار ما صدق عليه الموضوع بالفعل والتي يحكم فيها على الأفراد محققة كانت أو مقدرة، والقضية الخارجية التي يؤخذ موضوعها بلحاظ الخارج أي أفراد موضوعها الموجودة والمحققة في الخارج.
ليحصل الإلتزام بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى، فالمتكلم في مقام الإستعمال وتطبيق إلتزامه كلما أراد فرداً من طبيعي اللفظ لغرض تفهيم المعنى فانه لا يظهر إلا بهذا اللفظ.
ثم أن الإلتزام والتعهد أمر مركب من مرحلتين.
الأولى: مرحلة الوضع.
الثانية: مرحلة الإستعمال.
وإشكال الدور لا يبرز إلا في مرحلة الإستعمال والتطبيق وإستعمال فرد من طبيعي اللفظ في المعنى، فالتعهد إلتزام كل متكلم وليس الواضع وحده بابراز لفظ مخصـوص عند إرادة تفهيم المعنى.
ولو تنزلنا وقلنا بالتعهد فكيف وصل إلى باقي أفراد البشر أو الأمة ممن يتكلم ذات اللغة، ثم ما هو لسانهم وصيغ الخطاب بينهم قبل وصولها خصوصاً وأنه يستحيل وصول الألفاظ على نحو دفعي الى الجميع، وتعذر إشتراكهم في مجلس واحد لوضع الألفاظ وإن كانت فكرة هذا المجلس لا تحل الأشكال.
والتعهد على القول به لا يستلزم بالضرورة أن يصدر من شخص واحد بل هو تدريجي لما فيه حفظ معايش الناس وانظمتهم ولا يستلزم مجلساً لوضع الألفاظ إنما يأتي بالتنقيح والتداخل والمزاولة.
نعم يمكن الإشكال على نسبة وضع الألفاظ أزاء معانيها وتأسيس لغة إلى شخص بعينه مثلما قيل بنسبة إحداث العلقة بين اللفظ والمعنى إلى شخص واحد مثل يعرب بن قحطان.
وأن الله واضع الألفاظ لكن بالواسطة بوحي أو بالهام او بإيداع في طبائعهم.
والنظرية مبنية على التعهد والإلتزام والتباني في التقسيم على الإتيان بلفظ مخصوص عند تصديقهم معنى معين، فنشأت عنه علقة وضعية بين اللفظ والمعنى، فالدلالة تصديقية دائماً.
ونظرية التعهد لا تستوفي موضوع الوضع فهي تتعلق بما بعد الوضع، ومرتبة متأخرة عنه زماناً ولاحقة به، فبعد إختيار الألفاظ ووضعها أزاء المعاني يحصل التعهد.
فنظرية التعهد فرع القول بأنها جعلية ولا تصلح أن تكون قسيماً للأقوال المتقدمة، وتكون أحياناً نوع طريقية لتثبيت الوضع.
نظرية الإعتبار
جاءت هذه النظرية لتفسير الإرتباط الواقعي بين اللفظ والمعنى، وتبتنى هذه النظرية على سببية اللفظ لإستحضار المعنى في الذهن حال سماعه، وهو أمر لم يحصل إعتباطاً ولابد من إرتباط ومنشأ لهذه العلاقة والصلة وأن الواضع إعتبر اللفظ للدلالة على المعنى ليحصل نوع صلة بين اللفظ والمعنى أساسه إعتبار الواضع، وهذه النظرية إعتمدها المشهور.
ولكنهم إختلفوا في كيفية الإعتبار وحصوله على أقوال ثلاثة:
الأول: جعل الواضع علامة على المعنى فيكون كاشفاً ودالاً على المعنى، كالعلامة المنصوبة في الطريق للدلالة على موضع او معلم مع الفارق أن الوضع اللغوي إعتباري، ووضع العلامة في الطريق على نحو حقيقي خارجي.
الثاني: تبتنى على إعتبار الواضع اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى، فكأن الملقى للمخاطب هو المعنى على نحو التنزيل والإعتبار، واللفظ ترجمة على اللسان لذات المعنى أي أن اللفظ يفنى بالمعنى كالإسم والمسمى، والعنوان والمعنون.
فصحيح ان ماهية المعنى مباينة لماهية اللفظ إلا ان المعنى له وجود إعتباري في ذات اللفظ ودلالته، ويمكن أن تناقش بان هذا الوجود الإعتباري مترشح عن الوضع، ولا موضوعية له في أصل الوضع، وأنها لا تختلف عن نظرية التعهد ولكنها أقل منها رتبة.
الثالث: يجعل الواضع اللفظ أداة لتفهيم المعنى ويكون اللفظ وسيلة، والمعنى ذا الوسيلة، فالمتكلم يتوسل ويستعين باللفظ لتفهيم السامع المعنى، فكما يجعل زر الكهرباء وسيلة لإنارة المصباح، والمفتاح لفتح الباب فكذا يتوسل باللفظ لإخطار المعنى مع الفارق بأن العلاقة في الوضع إعتبارية وفي زر المصباح حقيقية تكوينية، والأقوى في الإعتبار إجتماع الأول والثالث معاً دون الثاني، ونظرية التعهد فرع الإعتبار وتتداخل معها، فلابد في الإعتبار من قصد وختيار ولا تعارض بينهما.
الوضع التعييني
هو الوضع الذي ينشأ عن سعي الواضع لجعل اللفظ دالاً على المعنى، فيبذل الجهد لإنشاء العلاقة بين اللفظ والمعنى ويتصدى لنشرها وإفشائها في محيطه وعند الجماعة، مثلاً يعتبر الواضع لفظ الدرس للكسب والتحصيل العلمي، والدار للسكن فينشط لتثبيت العلاقة والملازمة بين هذا اللفظ وبين معناه، فالوضع التعييني يفيد الإنشاء اللفظي من الواضع، ليصبح اللفظ مختصاً بالمعنى فانياً فيه، ولا يستلزم إدراك الصلة بينهما إلى قرينة.
ويحصل الوضع التعييني بوجوه:
الأول : وضع لفظ مخصوص من قبل الواضع لمعنى معين مع الربط بينهما.
الثاني : التصريح به وإنشاء العلاقة بين اللفظ والمعنى، كما لو قال الواضع : وضعت هذا اللفظ أزاء المعنى الفلاني.
الثالث : كثرة إستعمال اللفظ في معنى مخصوص على نحو التكرار.
الرابع : الإنتقال باللفظ إلى معنى آخر مع القرينة الصارفة.
ويتعلق الوضع التعييني بالمفاهيم المستحدثة، والأعلام الشخصية، أما الأسماء المتوارثة في اللغة والواردة في التنزيل والأخبار فهي خارج مبحث الوضع التعييني , ويدل عليه قوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الوضع التعيني
وهو نشوء علاقة إتفاقية بين اللفظ والمعنى من غير جهد مخصوص ومقصود من الواضع بحيث يتفق كثرة إستعمال لفظ في معنى معين، وهذه الكثرة في الإستعمال هي علة إختصاص اللفظ بالمعنى، وإنخطاره في الذهن من غير جعل جاعل بل بإستئناس الأذهان به والتبادر.
ويمكن التداخل بين الوضعين فكل لفظ مخصوص لمعنى بدأ بالتعييني لابد وأن يكون تعينياً كما يصعب إيجاد أمثلة محددة لكل منهما إلا على القول بان الله عز وجل هو الواضع، وأن اللغة التي نزل بها آدم موجودة فيكون من التعييني، ولكن المراد بالتعيني هو ما تم على نحو مستقل اي ليس المراد التعيني المتفرع عن التعييني، بل التعيني إبتداء والقول بالوضع التعيني ينفي بالدلالة التضمنية نظرية التعهد فليس فيه قصد وتباني نفساني بل أن إختصاص اللفظ بالمعنى يحصل إنطباقاً وجرياً من كثرة الإستعمال وطول المزاولة، فصار المعنى ينسبق من اللفظ عند الإطلاق.

الهوهوية
وهي نظرية تتعلق بالعلقة الوضعية بين الطرفين اللفظ والمعنى، ويمكن إعتبارها فرع نظرية الإعتبار لإبتنائها عليها وليس على نظرية التعهد ومفادها هو القسم الثاني المتقدم من الأقوال الثلاثة في نظرية الإعتبار، فحقيقة الوضع عبارة عن إعتبار وجود اللفظ وجوداً للمعنى تنزيلاً، فكأن اللفظ هو المعنى على نحو التنزيل في عالم الإعتبار وليس الحقيقة وظلاً للمعنى وانه لا يوجد في عالم الإعتبار إلا المعنى، وأن يلحظ إبتداء حين إستعمال اللفظ ذات المعنى، وهو المراد من التنزيل وفناء المنزل في المنزل عليه، فلا يبقى في عالم الإعتبار إلا المنزل عليه وهو المعنى، فايجاد اللفظ بلحاظ التنزيل إيجاد للمعنى، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، لذا قيل بأن لحاظ اللفظ دائماً لحاظ آلي باعتبار أنه مقدمة قهرية إنطباقية لإرادة المعنى، وأن المتكلم ينظر أولاً إلى المعنى بذاته.
ومع تعدد النظريات في أصل الوضع وإنشطارها فإنها تتفق على ملاحظة الواضع للصلة والإرتباط بين الطرفين اللفظ والمعنى، ولحاظ المعنى عند إختيار اللفظ ووضعه ازاءه لأن الوضع من الأمور الإنشائية المتقومة بالتصور لذا عدّ بعضهم الإنشاء من التصور لأن الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل للإنشاء بلا نسبة تامة خبرية يذعن لها، والوضع على أقسام، والمشهور هو تقسيم الوضع إلى ثلاثة أقسام على نحو إستقرائي عقلي ومنهم من جعلها أربعة.
والوضع بمعناه المصدري هو فعل الواضع والمتحصل من ملاحظة المعنى عند إختيار اللفظ المناسب له والعلقة بينهما، وينقسم بلحاظ تصور المعنى إلى أقسام:
الأول : الوضع عام والموضوع له عام، أي أن المتصور كلي والموضوع له والمعنى الملحوظ كلي أيضاً، فاللفظ عام والموضوع له أيضاً عام على طبق الملحوظ حال الوضع ومن هذا الوضع أسماء الأجناس وتصور العام يوجب تصور الأفراد والإنتقال إليها فمنه الإنسان، الشجر، الخشب، الحديد.
وهذا القسم عليه الإجماع والعقل والوجدان وهو الوحيد من بين الأقسام لا تجد عليه إشكالاً لأنه بسيط خال من الواسطة.
الثاني : الوضع عام والموضوع له خاص، أي أن اللفظ عام ولكنه موضوع أزاء مصاديق وأفراد ذلك العام المتكثرة والمتصورة إجمالاً بلحاظ ما يعتبر وجهاً وعنواناً لها وهو العام، فالأفراد لا تكون متصورة بخصوصياتها الفردية والملحوظ هو العام بوجهه وعنوانه، فيكون العام كلياً متصوراً منطبقاً على أفراده.
وكأن هذا التصور واسطة وسور جامع لها، فيكون الموضوع له خاصاً، وأشكل عليه بأن هذا الوضع يستلزم وجود واضع وشخص تمكن من جعل اللفظ أزاء الأفراد، أي أن الذي يقول بهذا القسم يقر ضمناً:
أولاً : بنظرية التعهد والتباني النفساني في وضع اللفظ أزاء المعنى والقصد إليه مع لحاظ العلقة والجامع والمناسبة.
ثانياً : إن الواضع للألفاظ أزاء معانيها هو شخص معين كما ذكر في يعرب بن قحطان بأنه واضع العربية فيكون الوضع كلياً مقصوراً منطبقاً على أفراده.
والأقوى عدم وجود ملازمة بين القول بهذا القسم وهذين الإقرارين، لأنه يمكن أن يحصل بالتدريج ووفق نظرية الإعتبار.
ثم أشكل عليه أنه من أقسام المشترك اللفظي، كما لو كان وضع لفظ الشجر بلحاظ أفراد الشجر، وعلى نحو إنحلالي في وقت تتباين فيه أفراد الشجر فمنها المثمر ومنها غير المثمر ومنها دائم الخضرة، أو الفصلية، ومنها النخل وله خصوصية معينة ويتصف بالسعف والكرب.
ولفظ الإمام هو عام ويشمل كل رئيس جماعة وإمام الصلاة، والإمامة في الإصطلاح هي الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا كما في النبي إبراهيم عليه السلام، قال تعالى[وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا]( ).
وذكر أن من هذا القسم وضع الحروف والضمائر والإستفهام مما يتضمن معنى الحروف وما يلحق بها كما سيأتي ومنهم من سلم في إمكان هذا القسم ولكنه إستبعد وقوعه.
ونعت وضعه للحروف بأنه توهم لأن أكثر معاني الحروف كلية قابلة للإنطباق على مصاديق كثيرة ومنهم من جعل الإستعمال مركباً، كما في قولك سرت من البصرة، فهو كلي بالنسبة للإبتداءات المتصورة للخارج من البصرة، وجزئي بالنسبة لمطلق الإبتداء، ولكنها غير متصورة في المعنى إنما هي إنحلالية، والمراد بقولهم إن الموضوع له خاص أي جزئي خارجي، والذي أشكل قال بأن كل نقطة يبدأ بها، وكذا حال (إلى) لإنتهاء الغاية كقوله تعالى [أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] ( ).
الثالث : الوضع الخاص والموضوع له الخاص وهو المعنى الجزئي الإنخطاري في الذهن، والموضوع له نفس ذلك الجزئي فتكون هناك نوع مطابقة بينهما لأن المعنى متصور بنفسه لا بوجهه، ومن هذا القسم أسماء الأعلام نعم لو قال كل دار إشتريها هي وقف، أو كل عبد أمتلكه هو حر، فهو ليس من هذا القسم بل من الوضع العام والموضوع له الخاص لتباين الدور المشتراة أو العبيد المملوكين.
الرابع : الوضع الخاص والموضوع له العام، وهو تصور وضع خاص وقضية شخصية له عام، فيضع اللفظ للمعنى الجامع، وقيل بإستحالته لأن الفرد والشخص لا يصح إنطباقه على المعنى الجامع والشامل الذي هو غير مستحضر بنفسه.
وهذا القسم غير متحقق خارجاً لإعتبار الصلة والترابط بين اللفظ والمعنى سواء على نحو الحقيقة أو الإعتبار أو الوجه، فلابد من ملاحظة الكلي للتباين بينه وبين الأفراد والمصاديق التي يمكن النظر إليها بالعنوان العام والجامع الذي يجمعها وتلتقي عنده متفرقاتها.
فالكلي هو المفهوم الذي لم يمنع نفس تصوره عن وقوع الشركة فيه، وهو يختلف عن لحاظ الأفراد وإن كانت متكثرة إذ أن كلاً منها يصدق على نفسه أما الكلي فإنه يصدق عليها جميعاً.
وقيل أنه لا يكون للوضع إلا قسمين لا ثلاثة ولا اربعة فكما لا يعقل القسم الرابع وهو الوضع الخاص والموضوع له العام، كذلك لا يعقل القسم الثاني أي الوضع العام والموضوع له الخاص بحجة عدم بيان الموضوع له بالتفصيل بل لأن الوضع عام واجمالي وعدم تصور خصوصيات الأفراد الخارجة عن ماهيتها الذاتية، ولكن هذا القول مندفع لأن الموضوع له على نحو الإجمال وتصور الكلي يكون مقترناً بتصور أفراده بالإضافة إلى تصور الجامع المنطبق عليه وعلى غيره، ومن القسم الثالث الأعلام الشخصية مثل زيد، حيدر، ونحوهما.
وأشكل على جعل الحروف من الوضع العام والموضوع له الخاص وعده من التوهم وان لها معنى كلي قابل للإنطباق على كثيرين كما اذا وقع في حيز الأمر والنهي ونحو ذلك، وقد تتعدد المراتب في الأمر وهو أن المستعمل فيه جزئي إضافي، فإبتداء السير من البصرة جزئي بالنسبة إلى مطلق الإبتداء، ولكن تقع تحته عدة ابتداءات متجددة في خروجه من البصرة، او في قوله تعالى[أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ]( ) فان الإتمام يتكرر بعدة نهايات.
وكأن الحرف يحتاج إلى موضوع يتقوم به كذلك الحرفي يتوقف في تحققه ذهناً على موضوع يتقوم به وهو المعنى الإسمي، وورد في الحديث المنسوب إلى الإمام علي عليه السلام: الإسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل)، وهذا لا يعني انعدام المعنى للحرف اصلاً، او أنه محتاج إلى مفهوم آخر ليكون له معنى معين في الذهن، بل انه يحتاج الى مؤونة ونسبة في الخارج، أما في عالم الإعتبار وفي الذهن فانها موجدة لمعانيها، فالحرف له معنى ولكن هذا المعنى الحرفي ليس قائماً بنفسه كما هو حال المعنى الإسمي بنفسه، مثلاً النجاة في الصدق يحكي الظرفية.
نعم الحرف لا يستعمل إلا بمدخول ومتعلق والمعنى الرابط هو مدلول الحروف لأنها أدوات مثل (إلى) (من)، فبينما تحكي المعاني الإسمية نسبة إبتدائية متقررة فإن وضع الحرف جاء لإفادة تلك النسبة والربط في موضع الإستعمال، فالحرف (إلى) في قوله تعالى[أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ]( ) وضع لتحديد الرابطة بين الصيام والليل، وهيئة (الدين النصيحة) لإيجاد النسبة الإصطلاحية بين الدين والنصيحة.
كما أخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الدين نصيحة: قالوا: لمن يا رسول الله، قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم. ( )
ولم يفرق بين الإسم والحرف من حيث ذات المعنى، وجعل الإختلاف بينهما في كيفية الوضع.
ويكون حال الحرف كالعَرَض لا يستقل بنفسه ولا يوجد إلا مع وجود غيره كاللون مع العين، والمشي عند الإنسان، فالمعاني الحرفية في الذهن كحال الأعراض في حاجتها للتلبس بالموضوع في الخارج، وهذا لا ينفي وجود معنى جزئي للحرف.
فهناك فرق بين الإسم والحرف في الوضع لو تعلقا بأمر واحد فلفظ الإبتداء كإسم، والحرف (من) يتعلق كل منهما بذات الموضوع، ولكن الإسم (الإبتداء) وضع لإرادة معناه في نفسه، أما الحرف (من) فلا يراد منه معناه فاستعماله يكون بلحاظ تبعيته لغيره بحسب قانون الوضع، فما وضع له الإسم والحرف واحد كقولك إبتداء سيري البصرة، وقولك سرت من البصرة، أو حد الصيام الليل، أو أكثر الحيض عشرة ايام، والحرف: يستمر الحيض (إلى) عشرة ايام.
وكأنهما من المترادف إلا ان العلقة الوضعية في كل منهما مقصودة على نحو خاص ويبقى هذا الفارق بينهما، وان استعمل احدهما محل الآخر.
وإستعمال لفظ الإبتداء كاسم محل الحرف لا يصح لأن لفظ الإبتداء يلاحظ فيه معنى نفسه، فكيف يستعمل فيما يلاحظ فيه حالة غيره وكذا لا يصح إستعمال كلمة (من) فيما يلاحظ فيه المعنى بنفسه، وإن كان التعدد والتغاير بينهما بسبب أمر خارج عن الموضوع له وهو اللحاظ كما أن هذا التغاير لا يؤدي إلى التباين والإختلاف في المعنى.
فتحصل أن النسبة بين الإسم والحرف في الإستعمال عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء وحدة الموضوع وإتحاد المعنى، ومادة الإفتراق كيفية الوضع وأن المعنى نفسه لوحظ في الإسم، أما الحرف فإنه يستعمل بلحاظ تبعيته لغيره وإختصاص كل واحد منهما بوضع.
وتأخذ أسماء الإشارة كهذا وهؤلاء، والضمائر، هو، هي، هم، ونحوها التي لها معنى إجمالياً في ذاتها، ولكنها تهدف إلى معين مقصود عند الإستعمال بلحاظ العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى.
لذا قال إبن مالك”بذا لمفرد مذكر أشر”( ) أي إن (ذا) إسم إشارة عام ولكنه يستعمل للمفرد المذكر والإشارة عليه بالإستعمال، فاسماء الإشارة والضمائر تكون موضوعة لأمر كلي كما في الحروف، ففي مرحلة الإستعمال يكون التشخص وجزئية المعنى بالمجيء من امر خارج عن ذات المعنى وهو الإشارة، او التخاطب وإرادة شخص معين، فهو تشخص لاحق.
ولكن هذا التقسيم وإن كان خاصاً في مرحلة الإستعمال يتعارض في الجملة مع نفي الوضع العام والموضوع له خاص لا أقل في مرحلة الإستعمال.
فالحروف لها أسماء موازية لها، فالحرف (من) يوازيه (إنتهاء)، والحرف(في) توازيه (ظرفية)، و(إلى) يوازيه إنتهاء، ومع هذا لا يرقى إلى المترادفين الذين يمكن أن يحل أحدهما محل الآخر، فالحرف يدل على النسبة، والإسم يدل على مفهوم إسمي يوازي تلك النسبة.
المعنى الإخطاري والإيجادي
المعاني المرادة من الألفاظ على قسمين:
الأول : معاني إخطارية: أي أن إستعمال ألفاظها في معانيها يوجب إخطار معانيها في ذهن السامع وتصوره لها، مثل معاني الأسماء لأن المفاهيم الإسمية لها ثبوت في عالم الإدراك، وهيئة الفعل وضعت لنسبة الفعل إلى فاعل ما، والفعل الماضي لبيان زمان النسبة الصدورية.
وهذا الإخطار لا يكون دائماً على نحو التفصيل بل يكفي فيه الإجمال، والتفصيل يكون لاحقاً او ليس ضرورياً في نسبة الإخطار , وقد يكون إستعمال إسم الإشارة والضمائر عاماً، ويتجلى التفصيل فيما بعد وبلحاظ القرائن.
الثاني : معاني إيجادية: وهي التي ليس لها ثبوت وتعريف مستقر في عالم التصور والعقل، فكيفية وإستعمال إلفاظها موجب لإيجاد معانيها، فكاف الخطاب لا يوجد له معنى إلا بالإستعمال وما فيه من الضمائم.
والأقوى أن الحروف لها معاني إخطـارية ولكنها لا تكـون تامة إلا مع غيرها، وإستعمالها موجب لإخطار ما وقع في الخارج من نسبة النداء أو الإبتداء أو الإنتهاء، فلا فرق بين إسم الإبتداء وما يدل على معناه في الخارج، وبين نسبة الإبتداء التي يحكيها الحرف(من) كما في قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ]( ).
والحرف إيجادي لأنه أداة للربط بين مفردات الكلام، فليس له معنى سابق رتبة عن مرحلة التلفظ والإستعمال.
والأقوى عدم ثبوت هذا التقسيم فلا فصل بينهما، فكل منهما إخطاري لأن الحرف يوجد في الكلام لدلالته على معنى والنسبة والربط في الصورة الذهنية.
ويتوقف الوضع على تصور المعنى، كما يتوقف على تصور اللفظ فاذا كان بنفسه فيسمى الوضع شخصياً، وأما بعنوان يشير إليه فيسمى نوعياً.
وقيل بالإتحاد في المعنى بين الإسم والحرف، وحصر التمايز بينهما في كيفية الوضع لم يستبعد ذات النسبة في الإتحاد في المعنى والتمايز في كيفية الوضع بين الخبر والإنشاء، فلا فرق في معنى (بعت) إنشائياً وإخبارياً إلا بلحاظ كيفية الوضع والإستعمال المترتب عليه والقصد والعزم.
ففي الإخبار يستعمل اللفظ بعنوان الحكاية والخبر عن ثبوت معناه، بخلاف الإنشاء فانه يستعمل بقصد إيجاد المعنى وإثباته، مع أن اللفظ واحد وينسب (بعت) كما ان الخبر والإنشاء إلى ذات الفاعل مما يعني أنهما مختلفان بحسب الوضع ولكنهما متفقان فيما وضعا له وإستعملا فيه، والتباين في العلقة الوضعية كما حال الإسم والحرف، نعم هذه النسبة بين الإنشاء والإخبار ليست دائمة.
فاللفظ على ثلاثة اقسام:
الأول : قابلية اللفظ أو الجملة للإنشاء والإخبار في آن واحد.
الثاني : اللفظ إنشائي محض كالإيقاع مثل صيغة الأمر والتمني كما في قوله تعالى[مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ]( ).
الثالث : اللفظ إخباري محض لا يحتمل الإيجاد في عالم الإعتبار والقول مثل: الأشهر الحرم، الملائكة أجسام نورانية، فالأمر في مثل هذه الجمل خارجي عيني.
والإتحاد في المعنى والإختلاف في كيفية الوضع لا يتحصل إلا في القسم الأول، ويعرف المراد بلحاظ القرينة أو الأمارة الدالة عليه لإتحاد المعنى والإستعمال.
أما القسمان الثاني والثالث فهما أجنبيان عن الموضوع لإنحصار معناهما في واحد منهما أما الإنشاء أو الإخبار.
علائم الحقيقة والمجاز
الحقيقة هي كل لفظ أفيد به ما وضع له في أصل اللغة ويراد منها في علم الكلام ما يفسر الشيء والتعريف ليس على نحو الحقيقة بل التقريب أي أن تعريف الحقيقة الإصطلاحي هنا لم يثبت أنه حقيقة، ولكن يكفي التسالم بأنه حقيقة، أما المجاز فهو كل كلام أريد به غير ما وضع له في الأصل على جهة التبع للأصل.
وعلامات الحقيقة ثلاثة:
الأولى : التبادر أي تبادر معنى مخصوص إلى الذهن عند سماع لفظ معين.
الثانية : عدم صحة السلب، كما أن صحة السلب تدل على أنه مجاز.
الثالثة : الإطراد: أي ان اللفظ لا تختص صحة إستعماله بالمعنى المشكوك بمقام دون مقام ولا بصورة دون صورة، بل إنه مطرد في كل أحوال الموضوع، فالأسد يطلق حقيقة على الأسد لأنه مفترس في كل أحواله.
أما الشخص الشجاع فيطلق عليه لفظ أسد مجازاً للتباين في الخلق ولأنه في بعض الحالات ينتابه خوف ولا تظهر عليه شجاعة او اقدام مما يعني أن لفظ الأسد في الإنسان الشجاع مجاز، لأنه لم يطرد ويستمر في جميع أحواله. وقيل أن الإطراد لا يختص بالحقيقة.
وهناك فرق بين علامات الحقيقة والمجاز وبين أصالة الحقيقة فلم يثبت تعبد الشارع لنا بأصالة الحقيقة والبناء عليها عند الشك فيما هو الموضوع له اللفظ، ولم يثبت دائماً تباني العقلاء على إستعمال الحقيقة بل قد يكون العكس كما في إطلاق لفظ حاتم على الكريم او اسد على الشجاع.
لذا فان اصالة الحقيقة من الأصول اللفظية التي يعتبرها العقلاء عند الشك فيما هو المراد لإنعقاد الظهور بارادة المعنى الحقيقي لذا قيل ان كل الأصول اللفظية راجعة إلى أصالة الظهور كأصالة الإطلاق وأصالة العموم وأصالة عدم التقدير.
ومورد أصالة الحقيقة الشك في إرادة المتكلم وهو انه قصد المعنى الحقيقي او المعنى المجازي من اللفظ، فاذا كان مراد المتكلم غير مجهول عند المتلقي فلا تصل النوبة الى اصالة الحقيقة ففي استعمال اللفظ في معناه وجوه ثلاث:
الأول : إرادة الحقيقة.
الثاني : إرادة المجاز.
الثالث : الشك في إرادة أحدهما.
فأصألة الحقيقة لا تأتي إلا في الوجه الثالث منها بلحاظ أن الإستعمال أعم من الحقيقة والمجاز.
ومع وجود القرينة على إرادة المعنى المجازي تكون حجة على المتلقي وعلى المتكلم كما سيأتي في الأصول اللفظية، وظهور الكلام في مرحلة المدلول اللفظي يتعلق بالمعنى الموضوع له أصلاً وبقصد الدوام فتستحضر صورته في الذهن حال سماع اللفظ.
والحقيقة هي كل لفظ يفيد معنى موضوع له في أصل اللغة، لنسبة لغوية أو شرعية أو عرفية، وتستعمل في علم الكلام في نفس الشيء، وفي التصور الجاري في الفعل مجرى ذات الشيء.
أما المجاز فمعناه واحد في اللغة والأصول والكلام فهو كلام أريد به غير ما وضع له في الأصل على جهة التبع للأصل بلحاظ وجه للشبه بينهما.
فالتبادر كاشف عن وضع اللفظ للمعنى بشرط أن يكون التبادر خالياً من القرينة الحالية أو المقالية ولا يكون ناتجاً عنهما، وكذا التبادر المترشح عن الشهرة ومقدمات الحكمة الموجبة للإطلاق علامة الحقيقة، ويمكن الإشكال بأن التبادر أعم من الوضع وإن كان من علامات الحقيقة كلفظ الصلاة إذ يتبادر الى الذهن منه هذا المعنى المخصوص مع ان اللفظ لم يوضع لها في الأصل، فقوله تعالى[أَقِيمُوا الصَّلاَةَ]( )يراد منه الفريضة العبادية اليومية بشرائطها من غير حاجة للإنتقال إلى موضوع الحقيقة الشرعية.
فالتبادر الذي يدل على الحقيقة يجب أن يكون مترشحاً عن ذات اللفظ وليس إلى القرينة خصوصاً وأن شهرة وإعتياد المعنى المجازي أيضاً تفيد التبادر، أي لا يشترط بالتبادر إنحصار سببه بالوضع وليس بما بين اللفظ والمعنى من مناسبة.
إن إنسباق معنى خاص منوط بالعلم بالوضع له، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، والإنسباق بلا وجه يلزم الدور لأن التبادر حينئذ يتوقف على العلم بالوضع، والعلم به على التبادر، فالمقصود ترتب العلم بالوضع على التبادر بإعتبار أن التبادر أمارة على الحقيقة ولكن الذي يتوقف على التبادر هو العلم التفصيلي به، أما العلم الذي يتوقف التبادر عليه فهو العلم الإجمالي كلفظ الصعيد في قوله تعالى[فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا]( ).
المجاز
بعد أن يوضع اللفظ لمعنى خاص تكون العلقة الوضعية بينهما ظاهرة وثابتة ومستديمة، ويسمى المعنى الحقيقي لحالة الإقتران الثابت عن اللفظ والمعنى الذي وضع له أصلاً، وقد يستعمل اللفظ لمعنى آخر بسبب وجوه شبه وإلتقاء مع المعنى الحقيقي، ويسمى حينئذ المجازي لعدم لإزاحة المعنى الحقيقي لأصالته وثبوته.
ويختلف المجاز عن الحقيقة في أصل الوضع، فهو لا يحتاج عناية ذاتية في الوضع الخاص، كما هو الحال في الوضع للمعنى الحقيقي، بل إنه مشتق من الحقيقي وطارئ عليه بلحاظ إتحاد الموضوع أو وجود شبه أي إنه وجد لفظاً له وجود ذهني ومعنى إجمالي فأخذه إستعارة وتجوزاً، فالمجاز يمر بمرحلتين:
الأولى : مرحلة الوضع ولابد فيها من شبه مع الحقيقي يمكن معه أن يتجدد ويتكرر وضع اللفظ له بعد إستعماله في المعنى الحقيقي.
الثانية : مرحلة الإستعمال فانه يحتاج إلى قرينة زائدة وإن اللفظ يستعمل في المعنى المجازي بالإضافة إلى الحقيقي، فالطولية باقية بين اللفظين وهما ليسا بعرض واحد، بل يسبق المعنى الحقيقي إلى الذهن دائماً عند سماع اللفظ مجرداً من القرينة، فمع عدم القرينة الصارفة للمعنى لا يستطيع المجاز مزاحمة الحقيقة.
وذكر نوع آخر من المجاز وهو إرادة فرد خاص من المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ: كما لو قلت: غسلت في النهر والمقصود نهر الفرات، بلحاظ كبرى كلية وهي أن لفظ الماء لم يوضع لذات النهر.
والأقوى انه ليس بمجاز ولكن جاء لفرد خاص منه كالألف واللام العهدية، بل هو أبين منها لقرينة(الفرات) التي تفيد التقييد والتعيين فهو تشخص لاحق وإرادة لذات المعنى الذي وضع له اللفظ بالأصل حتى على القول بنظرية التعهد في الوضع لإرادة النوع ويمكن ان نطبق عليه مقدمات الحكمة لوجود قدر متيقن في مقام التخاطب، فلا ينعقد الإطلاق ولا تصل النوبة إلى المجاز حتى على القول بأن المجاز أيضاً فيه مطلق ومقيد.
مثلاً الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب ونحوها من المفطرات ولكنك جئت به لإرادة صيام شهر رمضان دون غيره من وجوه الصوم الأخرى كصوم الكفارة والمستحب وغيرهما، وعدم كونه مجازاً لبقاء ذات الموضوع الحقيقي بقصد أحد أفراده، وعلى فرض القول بأنه مجاز فان هذه المسألة تنطبق على إطلاق إسم الجنس على الفرد منها كإطلاق كلمة الأسد على فرد منه، أو الشجاع على شخص معين وعلى ذات الشيء بافراده المتكثرة الطولية والمتجددة كشهر رمضان وفرض الصيام في قوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، وحينئذ لا يكون فرق في التجوز بإطلاق لفظ أسد على الشجاع وإطلاق شجاع عليه فكله مجاز وهذا لم يقل به أحد، وإلا أين لفظ الحقيقة لهذا الفرد المتشخص في الخارج بخصوصية معينة وهي الشجاعة فاطلاق اسم الماء على ماء الفرات بما انه اسم جنس من افراد الحقيقة وليس المجاز.
ان انطباق المفهوم الكلي على مصاديقه وافراده ينفي الإنتقال الى المجاز بدليل انطباق صفات الحقيقة عليه من التبادر وعدم السلب، وان قيل ان الإطراد لا يدل على الحقيقة ولأن المجاز لغة من التعدي.
انه تطبيق للفظ على مصداقه ومدلوله الخارجي فهو ليس من المجاز العقلي او اللفظي لأن المستعمل فيه ليس مبايناً لما وضع له.
وكون التبادر من علامات الحقيقة عليه الإجماع وهو أظهر علاماتها أي انسباق المعنى إلى الذهن من اللفظ حال النطق به، لأن المجاز يتخلف رتبة عن الحقيقة، فلا يتبادر إلى الذهن إلا بالقرينة او الواسطة بالإضافة إلى الإطراد وهو صحة إستعمال اللفظ في المعنى المشكوك كونه حقيقة بجميع أفراده ومصاديقه الطولية المتكثرة في الخارج، فلو شككنا في فرد من أفراد الصيام هل هو صيام فإذا كان شاملاً للإمساك ساعات النهار من جميع المفطرات فهو صيام، أما إذا أعتبر السكوت عن الكلام أو الصيام إلى الزوال صياماً، فانه فرد مشكوك ولا يصدق على جميع أفراده العرضية والطولية فهو يطلق عليه صيام من باب المجاز.
وقد ورد في مريم إبنة عمران عليها السلام، قوله تعالى[إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا] ( )، وفيه معنيان:
الأول: إرادة الصمت والإمساك عن الكلام.
وفي مصحف عبد الله بن مسعود صمتاً بدل صوماً.
الثاني: المراد الصيام عن الأكل والشرب إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم.
(وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صوم الصمت لأنه نسخ في أمته) ( ).
إن صحة إستعمال اللفظ في موضوع لم يوضع له بالأصل وإنما يكون إستعماله فيه مجازياً، ويكون بمناسبة وعلاقة بينه وبين ما أستعمل له بالأصل، سواء كانت المناسبة عرفية أو عقلائية أو موضوعية أو شرعية ومع الإتفاق على هذه الحقيقة فإنه أختلف في علة الوضع وسببه هل هو بالإذن والترخيص من الواضع، ويسمى الوضع النوعي وكأنه أجاز إستعمال الألفاظ في معاني مجازية لها علقة معينة مع المعنى الحقيقي كالعلائق الخمسة والعشرين التي ذكرها أهل البيان.
فيكون الوضع للمجاز وضعاً فرعياً مترشحاً عن أصل الوضع، وأن اللفظ وضع ليحتمل ويستوعب المجاز، خصوصاً وأن المجاز مشتق من جاز الشيء يجوزه إذ تعداه، لذا سموا به اللفظ المنقول من معناه الأصلي مع مناسبة تدل عليه، والمجاز يستعمل لعلاقة أو قرينة مانعة من إرادة المعنى الوضعي، فالقرينة أمارة على إرادة غير ما وضع له اللفظ، وهذه القرينة قد تكون متحدة أو متعددة، فإطلاق لفظ أسد على شخص شجاع بقرينة وجوده في البلد وهيئته وإنسانيته مع إنعدام وجود الأسد من ذوات الأربع في البلدة.
أما العلاقة فهي المناسبة بين المعنى الحقيقي المنقول منه والمعنى المجازي المنقول إليه فبها ينتقل من الأول إلى الثاني.
اما (الطبع) فهو أن العقلاء لما نظروا إلى اللفظ والعلقة الوضعية بينه وبين المعنى أجازوا وضعه لما يرتبط مع المعنى الحقيقي بقرينة أو مناسبة أي علاقة، ومنهم من رجح القول الثاني أي الإستعمال بالطبع لأن الوجدان شاهد على أن الواضع لم يرخص باستعمال اللفظ في المجاز المناسب للمعنى الحقيقي انما جاء هذا الإستعمال لاحقاً ومتأخراً كثيراً عن الوضع، بإرادة أن الواضع من البشر سواء كان فرداً او جماعة.
أما على القول بأن الواضع للغات الله عز وجل فإن العبارة لا تستقيم لأنه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة، فمع منعه تعالى لا يتم الإستعمال في المجاز لحرمته تكليفاً.
وفي باب دلالة الإلفاظ على معانيها ذكر أنها بالجعل والتخصيص وهو المشهور شهرة عظيمة وليس دلالة ذاتية صرفة، قيل هنا بالطبع وليس بالوضع للتباين الموضوعي بين الوضع الأصلي الحقيقي والاستعمال الثانوي المجازي، فاستعمال لفظ أسد على الإنسان الشجاع، هل هو بالوضع كما في إستعماله في الاسد، أم انه بالطبع لوجوه الشبه بين الأسد والإنسان الشجاع، فالوضع هنا ثانوي ولاحق للوضع الأول على فرض القول به، أي أنه ليس وصفاً إبتدائياً لأن الوضع الأصلي وضع للحيوان المفترس، فهو ليس وصفاً شخصياً كالإسلام يلاحظ فيه مادة وهيئة اللفظ بل هو عبارة عن نقل للوضع الأول، وإذا أطلق عليه لفظ الوضع فإنه وضع مجازي.
ونسب الى الجمهور القول بان هذا هو الاستعمال الثانوي بالوضع ولعله من التسامح في الالفاظ، والا فان تعريف المجاز يدل على انه أعم من الوضع اذ عرف في علم البلاغة بانه: “الكلمة المستعملة في غير ما وضع له، واللفظ الذي نقل من معناه الاصلي، واستعمل ليدل على معنى غيره، مناسب له لعلاقة مع قرينة صارفة عن المعنى الوضعي”، فالعقل واللغة والوجدان تشهد بأن المجاز ليس وضعاً إبتدائياً جديداً، والقول بأن إستعماله بالطبع ليس كافياً، أي أن الطبع وحده ليس علة تامة لاستعمال اللفظ في المجاز بل إن موضوع المجاز بذاته له علاقة أي مناسبة بين المعنى المنقول عنه والمنقول إليه تكون وسيلة وسبباً لإنتقال الذهن من المعنى الاول الى الثاني.
وقيل بان استعماله بالطبع يجعل سبب الإختيار بإرادة الإنسان بينما تكون هناك وجوه مشابهة وقرائن لفظية أو حالية تفهم من حال المتكلم أو من الواقع تصرف الذهن جرياً وإنطباقاً إلى المعنى المجازي وهو مناسب للوجدان والطبع وحكم العقل.
والطبع قوة للنفس في إدراك الدقائق، وسجية الإنسان، وهيئته الفعلية والإنفعالية.
أما عند الحكماء فهو أعم ويشمل الجواهر التي ليس لها شعور ويريدون به خصوصية الشيء، فالنار طبعها الإحراق، والثلج التبريد، والمصباح الإضاءة، وهو مبدأ الحركة كحركة الحيوان، أو حركة الفلك.
وللوضع في علم الكلام تعريف آخر لم يخرج عن المعنى اللغوي، فهو هيئة تعرض للجسم بلحاظ نسبتين:
الأولى: بين أجزائه بعضها للبعض الآخر.
والثانية: نسبته إلى الأمور الخارجة عنها.
الأولى كالجلوس فأنه هيئة الإنسان بحسب قعوده، ومن الثانية الركوب وهي هيئة الإنسان بحسب ركوبه لشيء آخر.
فقولك (ضرب) تفيد معنى وحصول فعل فيأتي اللفظ مطلقاً ولكن يراد منه النوع والإنحلال إلى أفراد فعل الضرب، وتقول (زيد انسان) فتارة تريد شخصاً معيناً فهو لا يدخل ضمن إرادة النوع، وتارة يراد منه كل شخص اسمه زيد، فجاء الإطلاق بوصف انسان ويصح إستعماله للنوع.
أو تقول(صلى) لإفادة وقوع الصلاة وتحقق الإمتثال وسقوط الواجب، وتقول(أقم الصلاة) وتارة تريد فرداً مخصوصاً وفريضة معينة وحتى وقتها، وتارة يراد النوع وتعاهد فريضة الصلاة مع تجدد الخطاب التكليفي بها في اليوم والليلة فيصح إستعماله في النوع.
ويدل عليه الألف واللام التي في(الصلاة) الذي يفيد الإستغراق.
وقيل ان صحة الإطلاق وحسنه بالطبع وليس الوضع، ولكن هذا الاطلاق أعم من الطبع ويتعلق بوصفه للمعنى على نحو العموم والتوسعة في الوضع بالدلالة الوضعية الإستعمالية التفهيمية والــــــــــدلالة التصديقية الجدية إذ أن تقسيم الدلالة إلى هذه الأقسام لا يعني الإستقلال التام لكـــل منها بل أنهــــا قسمة إستقرائية بيانية توضيحية وليست إحترازية، فلا يمنع من تداخلـــها.
وصحيح أنه مما يستحسنه الطبع لكنه لا يعني الحصر به، المشهور ذهب إلى الوضع وكذا لا يفيد الحصر به لموضوعية العلائق بين الحقيقة والمجاز ووجوه النسبة بينهما وتوظيف العقل للتوسعة في بيان اللفظ وحصول الإستعمال الجدي للفظ في الأعم من معناه بلحاظ القرينة.
فقد يراد من اللفظ الإطلاق أو الماهية بشرط لا شيء، وهي المجردة التي لا يقارنها شيء من العوارض وخالية من المشخصات واللواحق والاعتبارات الإضافية، ولا يعني أن هذا الإستعمال بالطبع وليس بالوضع أو وضع المهملات للنوع أو الصنف حصراً.
أي إن الواضع نظر إلى المعاني بإمتيازها وتخصصها بنفسها ولا إعتبار لإرادته جزء أو قيداً، لصحة الحمل في الجملة الإسمية وصحة الإسناد في الجمل الفعلية من غير لجوء إلى تصرف في الفاظ الأطراف أو عزلها عن إرادة المعنى عند اللافظ.
فالمحمول في العدل حسن، وإسناد الفعل إلى الفاعل كما في صام زيد، هو نفس الحسن والصيام بماهيتهما وبما هما كمعاني وحيثيات مترجلة في الخارج على نحو الواقع وليس بما هما مراد للمتكلم.
وهل يمكن القول أن إعتبار إرادة اللافظين الخارجية المتحققة في الخارج لا تعني بالضرورة أنه من الوضع العام والموضوع له خاص، لتعلق طرفي الوضع بالمصداق الخارجي وإن تعددت حيثيات الوضع وعدد الواضعين، وأن إرادة اللفظ لمعنى غير المعنى الموضوع له اللفظ او أن اللافظ لا شعور له، وان المعنى مقيد بإرادة الحقيقة، وهذا الإستدلال لطيف وإن الوضع سابق لقصد وإرادة فرد مخصوص.
ويمكن تقسيم الدلالة بلحاظ الإرادة إلى ثلاثة اقسام:
الدلالة الوضعية: أي دلالة اللفظ على المعنى حين الوضع وإيجاد العلقة الوضعية بين الطرفين اللفظ والمعنى، وتتقوم الدلالة على قصد المتكلم بأن يعرف المتلقي مراده والمعنى من اللفظ، أو أن اللفظ يدل على ذات المعنى مع عدم إرادة المتكلم لذلك، وإن صدر اللفظ من غير عاقل أو غير ذي شعور، فعلى القول الأول الذي نسب إلى إبن سينا تكون الدلالة الوضعية دائماً دلالة تصديقية لأن المعنى المدلول عليه باللفظ عبارة عن المعنى بالإضافة الى مفهوم الإرادة.
وعلى القول الثاني ان الدلالة الوضعية دلالة تصورية تستلزم إنخطار المعنى في الذهن عند إطلاق اللفظ وليس إيجاده سواء كان اللافظ قاصداً المعنى أو لم يكن قاصداً كما لو صدر منه غفلة أو قهراً او عند النوم، أما الإكرام فيلحق بالقصد وليس الغفلة، لأن المقام ليس مقام التكليف وشرط الإختيار فيه، بل هو العلاقة بين اللفظ والمعنى.
الأول : الدلالة الإستعمالية التفهيمية: وهي التي تعني ظهور حال المتكلم وأنه في مقام تفهيم المعنى من اللفظ، والتي تعني بالضرورة والإنطباق إرادة المتكلم للتفهيم، فمجرد ظهور حال المتكلم وإرادته للتفهيم وإنعدام القرينة الصارفة عن ذلك يعني تبعية هذا الشطر من الدلالة للإرادة.
الثاني : الدلالة التصديقية الجدية: أي أن المتكلم يريد إفهام المعنى على نحو القصد والجد، فلو كان اللافظ نائماً وتكلم بكلام فان السامع يدرك أن اللافظ لا يقصد واقعاً هذه الإلفاظ فلا إعتبار لما يتلفظه غفلة أو عند النوم مما يعني ان الدلالة التصديقية الجدية تتوقف على الإرادة والقصد.
وهاتان الدلالتان مترشحتان من الظهور السياقي للمتكلم وأنه يريد تفهيم المعنى من اللفظ ومراده الجدي.
والخلاف في الدلالة الوضعية يتفرع عن القول بالدلالة التصورية أو عدمه، فالذي ينكر الدلالة التصورية في الوضع يقول بأن المراد من التبعية للإرادة هي الدلالة الوضعية وليس الأقسام التالية للإرادة من التفهيمية والإستعمالية الجدية باعتبار أن الدلالة التصورية لاحقة للوضع، وأنس الناس بها لكثرة إستعمال الألفاظ في معانيها وإلا فإن الأصل في الوضع هو الإرادة التصديقية خصوصاً على المبنى في الوضع هو نظرية الإلتزام والتعهد خلافاً للمشهور.
فلابد ان يكون الواضع ملتفتاً ومريداً لتفهيم المعنى من اللفظ، وإعتبار الإرادة والإختيار والقصد حين الوضع وان العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى لا تكون إلا مع القصد وقيل تبعية الدلالة الوضعية للإرادة حتى على نظرية الإعتبار في الوضع، لأن تفهيم السامع لابد وان يكون مع القصد سواء كان بقصده ذاتاً او بحصر المعنى من اللفظ لذا قيل بأن قصد الشيخ الرئيس هي بتبعية الدلالة الوضعية للإرادة لأنها دلالة تصديقية وليس تصورية،وقيل بتأويل إرادتهما.
واللافظ لا موضوعية للفظه في إختيار المعاني بإزاء ألفاظها والمقاصد منها لأن معانيها أخذت طابعاً مستقلاً ومستقراً قبل إرادة اللافظ، وإلا لزم إعتبار المتأخر في الموضوع متقدماً وهو محال، لعدم تقدم الشيء على نفسه، إذ أن قصد المعنى من مستلزمات إختيار اللفظ، فاللفظ وإن نطق به الشخص إلا أنه لا يتقوم في موضوعه إلا بفهم ومعرفة السامع لمعناه مما يؤكد على وجود المعنى قبل نطق اللافظ له في الوجود الذهني عند كل من اللافظ والسامع.
فالمعنى متقدم رتبة وزماناً ووجوداً وإتساعاً، وذكر محذور آخر وهو دخول الإرادة شرطاً او قيداً للمعاني يتنافى مع صحة المحل في الجمل الإسمية مثل (الصيام جنة) (إقامة الصلاة)، من غير التصرف في ألفاظ الأطراف أي موضوع القضية ومحمولها، كما في (الصيام) و(جنة) في المثال أعلاه، فلو كانت هناك مدخلية للإرادة في إختيار الألفاظ لما صح التسالم على حصول الوضع العام والموضوع له العام، كما في أسماء الأجناس.
وقيل لو كانت للإرادة موضوعية في صحة الإسناد والحمل لظهرت الحاجة للتصرف فيها او لأمكن التصرف فيها هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن الإسناد والحمل متعلقان بالذات والصفة وليس بإرادة خارجية عنهما فالحمل في (الصيام جنة)، والإسناد في (إقامة الصلاة) يتعلقان بالماهية والفعل، وليس بإرادة اللافظ التي تعتبر خارجية عنهما، ولأن مدار الإسناد والحمل على الإتحاد الوجودي.
ولا مدخلية لإرادة اللافظ في إستعمال اللفظ للمعنى، لأن حصول القصد وموضوعيته في المعنى يأتي من الإستعمال المتأخر عن المعنى، فيه دلالة على عدم موضوعية الطبع في الوضع، لأن الطبع مقدمة وجزء من القصد، فإذا كانت الألفاظ موضوعة بأزاء معانيها المجردة بما هي مرادة للافظ يحصل التركيب بين المعنى والإرادة، وتكون موضوعية للإرادة كجزء للمعنى، والإرادة التي تستلزم الإستعمال.
وعلى فرض موضوعية القصد الإرادة فان هذه الموضوعية خاص بذات اللافظ، إن مرتبة الدلالة التصورية وخطور المعنى في الذهن عند سماع اللفظ تتوقف على علمه بالوضع والإستعمال مما يدل على سبق الوضع وتقدمه رتبة، وأن الدلالة التصديقية تابعة للإرادة دون التصورية.
ومن أقسام الوضع ما كان المتصور كلياً والموضوع له ذات الكلي، وهو المسمى بالوضع عام والموضوع له عام ومنها ما كان المتصور كلياً والموضوع له مصاديق ذلك الكلي وهو المسمى بالوضع عام والموضوع له خاص.
إن عموم الوضع يجعل إرادة اللافظ أجنبية عن المحل والإسناد كما انهما أي المحل والإسناد صحيحان ولا يحتاجان في تقومهما إلى ارادة اللافظ، بالإضافة الى تبادر المعنى في الذهن من اللفظ من دون حاجة إلى الإرادة ولأن المعنى بسيط لا يحتاج الى التركيب، وإضافة الإرادة له مع المشقة المتجددة في إعتبار الإرادة وإحتمال عدم فهمها لدى السامع من غير واسطة.
إن المعاني من الخارجيات المتسالم على ألفاظها ولا تستلزم التقييد بقيد ذهني وإضافي وهوالإرادة، كما أن الوضع يجعل نوع ملازمة خارجية وذهنية بين اللفظ والمعنى الذي وضع له مما يتعذر معه وجود موضوعية وتأثير للإرادة اللاحقة.
والمراد من الرئيس هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا الملقب برئيس العقلاء وهي تسمية لا أصل لها، لأمور:
الأول : إذا كان أحد يستحق هذه التسمية فهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم الأنبياء وفي الحديث”أدبني ربي فأحسن تأديبي”( ).
الثاني : ليس من دليل على كون شخص لا يأتيه الوحي والتنزيل والتحديث هو رئيس العقلاء، خصوصاً مع الإجماع على عدم عصمته.
الثالث : إذ كان هناك إصطلاح يطلق على الشارع وهو سيد العقلاء فلا يصلح أن تطلق رئاسة العقلاء على واحد من العلماء أو عامة الناس وعلى فرض أن المراد خصوص أهل زمانه فلم يثبت، نعم، وقد يكون مدحاً له في زمانه ولكن هذا المدح إستمر له، وكثير من العلماء كأن يطرى عليهم، ويبالغ في الثناء عليهم، فأبن الأثير مثلاً يصف أحد العلماء بقوله: إمام الدنيا في زمانه)( ).
(ومن وزراء الدولة العباسية بقوله: ما كان يسمى رئيس الرؤساء لكنه ينصرف إلى مراتب الحكم) ( ).
الرابع : لقد قسم الله عز وجل العقل بين الناس وهو من الكلي المشكك عندهم ولا دليل على كون أحدهم فيه رئيساً والآخر مرؤوساً، ولعل التسمية تتعارض مع الحكمة الإلهية في الخلق.
الخامس : ما هو شائع في التسمية هو (الرئيس) على نحو الإطلاق وقد يراد من الرئاسة غير ذلك، وقد سماه صدر الدين الشيرازي شيخ فلاسفة الاسلام( )، وفاضل الفلاسفة( ).
السادس : نسب إلى إبن سينا القول بقدم العالم وتفي المعاد الجسماني، وإثبات المعاد النفساني وأنه كان يقول إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات بعلم جزئي، وإنما يعلمها بعلم كلي)( )، ومن الناس من أثنى عليه ومنهم من قدح به، وتسميته بالرئيس لا أصل أو موضوع لها.
وما نسب الى الشيخ أبي علي بن سينا من القول بأن الدلالة تتبع الإرادة فلم يكن المقصود منه ان الإلفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة للافظ، والوجدان يقضي بأن الألفاظ موضوعة لذات المعاني من غير لحاظ وإعتبار لإرادتها.
والتبادر أمارة على الوضع وهو نافِ للإجمال، وقال السيد المرتضى بأن الإستعمال علامة الحقيقة، ولكنه أعم.
ومنهم من قيد التبادر وإنسباق المعنى إلى الذهن عند سماع اللفظ بقوله (من نفسه) أي من نفس اللفظ ليخرج التبادر الناشيء من كثرة الإستعمال والشهرة ومقدمات الحكمة وإرادة الإطلاق، والتبادر الناشيء عن القرينة الحالية والمقالية.
والتبادر علامة للحقيقة في الجملة لأن الخلاف يحصل أحياناً في الكبرى وهي ثبوت وضع اللفظ أزاء لفظ معين، وأستدل عليه بتنصيص أهل اللغة، ولكن هناك برزخ بين أصل الوضع والتوثيق الذي جاء على لسان أهل اللغة.
فالتبادر في لفظ (الصلاة) هو المعنى الإصطلاحي العبادي لها، وهو غير ما وضع له لفظ الصلاة كما عليه علماء اللغة إلا أن هذا التبادر يستند إلى الإستعمال والإطلاق وتعدد الأفراد وكثرة الإطلاق، ويمكن تقسيم التبادر إلى قسمين:
الأول: التبادر الوضعي وهو علامة الحقيقة.
الثاني: التبادر الإستعمالي المترشح عن القرينة والشهرة وكثرة الإستعمال أو الوجود الساري.
وليس من دور بين التبادر والعلم بالوضع إن العلم الموقوف على التبادر، هو غير العلم الموقوف عليه التبادر، فالتبادر يتوقف على العلم الإجمالي الإرتكازي أما العلم الذي يتوقف على التبادر فهو العلم التفصيلي فلا يلزم الدور.
فلفظ (العين) له معنى إجمالي من معان متعددة منها العين الباكية والعين الجارية، والرابية وغيرها، وبعد مراجعة ذهنية وإستحضار لمعانيه وفق مراتبها وقرائنها أو عدمها ينسبق إلى الذهن المعنى الحقيقي لظهوره فيه لأصالة عدم القرينة وغلبة الإستعمال في الحقيقي والتبادر، ويسمى هذا العلم بالعلم التفصيلي والعلم المركب، وهو من بديع وأسرار خلق الله تعالى للعقل ومراحل التمييز عند الإنسان.
وورد عن الشيخ البهائي قال: قال الشيخ العارف مجد الدين البغدادي: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقلت ما تقول في حق إبن سينا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “هو رجل أراد أن يصل إلى الله بلا وساطتي فحجبته هكذا بيدي، فسقط بالنار) وهذه الرؤيا وخبرها ليس بحجة”.
أصول اللفظ
للفظ أحوال خمسة، وهي:
الأولى : التجوز.
الثانية : الاشتراك.
الثالثة : التخصيص.
الرابعة : النقل.
الخامسة : الاضمار.
وهذه الأحوال أمور طارئة على إستعمال اللفظ، تصرفه عن معناه الحقيقي بالقرينة المقالية أو الحالية بمعنى عدم وجود شك في مراد المتكلم وإحتمال إرادة الحقيقة من اللفظ المستعمل فنعلم أنه لم يرد الحقيقة بذاتها، وكذا لم نشك هل أراد المتكلم المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي وغيره للرجوع حينئذ إلى أصالة الحقيقة وهي من الأصول اللفظية التي عليها سيرة العقلاء لمعرفة المعنى المراد من اللفظ المستعمل، ولتقدم الحقيقة رتبة على المجاز ونحوه.
والتجوز هو استعمال اللفظ في غير الموضوع الذي وضع له بسبب علاقة وشبه بينهما كاستعمال لفظ حاتم في الرجل الكريم.
اما الإشتراك فهو تعدد المعاني مع إتحاد اللفظ مثل القرء والعين، والتخصيص عبارة عن حصر حكم العام على شطر من أفراده بإخراج بعض أفراده بواسطة الإستثناء أو القرينة مثل أكرم العلماء العاملين، او أكرم العلماء إلا الفساق، ومنهم من عرّفه بأنه إخراج بعض أفراد موضوع الحكم العام، ولكن التخصيص يتعلق بالأفراد الباقية ضمن حكم العام.
اما النقل فهو إستعمال اللفظ في معنى مستحدث غير المعنى الذي وضع له أصلاً بحيث تنصرف الأذهان عن المعنى الذي وضع له أصلاً كالصيام أصله الإمساك والترك، ثم أستعمل في المعنى الإصطلاحي والعبادة المعروفة وهي الإمتناع عن الأكل والشرب يومه.
والإضمار هو تقدير أمر يتوقف عليه المعنى، فكأن اللفظ محتاج إلى لفظ آخر يتم معه المعنى، وهذه الوجوه من أقسام المجاز إلا أنها جعلت لها عناوين مستقلة للبيان ولما لها من خصوصية زائدة وما تستلزمه من مؤونة إضافية لإفادة المعنى.
ويمكن إضافة أحوال أخرى لها منها التقييد، وهو حصر الأمر المطلق ببعض مصاديقه، والكناية وهي ذكر اللازم وإرادة الملزوم مع قرينة دالة عليه وغيرها.
فاذا دار الأمر بين إرادة الحقيقة من اللفظ أو ارادة أحد هذه الأحوال تكون أصالة الحقيقة هي المرجع وأن مرام المتكلم من اللفظ المستعمل هو المعنى الحقيقي، ولكن مع وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي لا تبقى موضوعية للشك بل يصار إلى المجاز وأحواله المتعددة لإستظهار إرادة غير المعنى الحقيقي.
ومن الوجوه التي ذكرها الأصوليون لترجيح بعض هذه الأحوال على البعض الآخر ترجيح المجاز على الإشتراك، لكثرة إستعمال المجاز والتوسع فيه لغة ولأن القرائن في الغالب تفكك بين أفراد المشترك، وتفيد إرادة بعضها لأن العقلاء في باب التخاطب وإفهام السامع يتجنبون الإجمال في الغالب ومنهم من قسم وجوه الترجيح هذه إلى قسمين:
الأول : إستحسانية غير إعتبارية لا تفيد إلا الظن ولا تكون حجة وظاهر كلامه أنها الأكثر.
الثاني : إعتبارية تعرف بظهور اللفظ في المعنى المجازي المخصوص بالقرينة المقالية أو الحالية فتصلح لتقديم بعض الأحوال الخمسة الطارئة على اللفظ على بعضها الآخر بالدليل والقرينة الصارفة.
الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له من غير نقل او تجوز كإسم الإنسان والأرض والنبات ونحوها، وأطلق عليها إصطلاح الحقيقة اللغوية أزاء الحقيقة الشرعية والعرفية.
الحقيقة الشرعية
والمراد من الحقيقة الشرعية هي وضع اللفظ لهيئته ومعنى مخصوص في الشريعة بالنص عليها بالذات وبمعنى لم تكن موضوعة في اللغة له، أو انها كانت موضوعة في اللغة للمعنى الأعم، فجاء الشارع ليطلقها تجوزاً على معنى مخصوص ليتبادر إلى الذهن هذا المعنى عند التلفظ، فتصبح حقيقة بمعناها الشرعي بمعنى أنها جاءت بالوضع التعييني الذي ينشأ من تصدي الواضع لجعل لفظ دالاً على معنى.
وأما الوضع التعيني فهو العلاقة بين اللفظ والمعنى الناشئة عرضاً وإشتقاقاً من اللفظ، كما لو إتفق كثرة إستعمال لفظ في معنى مخصوص مما يحصل معه وجود ذهني وتبادر وإنخطار للمعنى حال سماع اللفظ.
والحق أن الحقيقة الشرعية ليست بعرض واحد مع الحقيقة اللغوية، لأن الأصل هو الحقيقة بمعنى وضع اللفظ أزاء المعنى من قبل الواضع، وإذا ورد لفظ الحقيقة على نحو الإطلاق فانه ينصرف الى الحقيقة اللغوية.
أما الحقيقة الشرعية فتتعلق بتصدي الشارع لوضع اللفظ أزاء معنى مخصوص، وغالباً ما يكون المعنى والإصطلاح الشرعي مشتقاً من الحقيقة اللغوية، كما في وضع لفظ الصيام للعبادة المخصوصة التي هي في الأصل الإمساك، وقد ورد لفظ الصوم بمعناه اللغوي كما في قال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة
تحت العجاج وخيل تعلك اللجما( )
ويقال صامت الريح إذا ركدت، وصامت الشمس إذا إستوت في منتصف النهار، والظاهر أن ثمرة البحث ليست ذات اهمية كبيرة للإنسباق الذهني ومعرفة إرادة الشارع من اللفظ وموضوعية القرائن الصارفة للفظ عن معناه الحقيقي.
وقيل في ثمرة النزاع أنه مع ثبوت الحقيقة الشرعية يكون معنى ورود لفظ الصلاة في كلام الشارع وإختراعه هو الصلاة بمعناها الإصطلاحي واركانها المخصوصة، وأما إذا لم تكن هناك حقيقة شرعية فتصرف الصلاة إلى معناها اللغوي وهو الدعاء على القول بأنه أصل معنى الصلاة، ولكن هذا التفصيل شبه منعدم في الخارج، والتبادر من علامات الحقيقة.
وإذا قال الأب لإبنه صل فلا يسأله البيان وهل يؤدي الصلاة المخصوصة أم يكتفي بالدعاء سواء كان عدم السؤال لوجود قرينة صارفة كدخول وقت الصلاة أو للمعرفة بالوجوب والتكليف بفريضة الصلاة او غير ذلك.
وهل يمكن إحتساب الحقيقة الشرعية قسماً من أقسام المجاز أم أنها قسيم له، والمجاز هو إستعمال اللفظ في غير ما وضع له تجوزاً، وينقسم إلى المجاز في الكلمة لوجود علاقة ونوع مشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المستعمل فيه ويسمى إستعارة، وإلا فمجاز مرسل والذي له أقسام متعددة منها تسمية الشي بإسم جزئه كإطلاق الرقبة على الإنسان، كقوله تعالى [ فَكُّ رَقَبَةٍ]( )، أو عكسه كإطلاق الهلال على الشهر كما في قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( )، أو تسمية السبب بإسم مسببه أو تسمية الشيء بإسم محله أو حاله أو آلته وغير ذلك.
وأستدل على ثبوت الحقيقة الشرعية بتبادر المعاني الشرعية من ألفاظها، وهو علامة الحقيقة وقيل بثبوتها بواسطة الوضع التعيني والثاني هو الأرجح من غير تعارض بينهما، لأن التبادر في طول الوضع وفرعه.
وفي الحقيقة الشرعية وجوه:
الأول : ثبوت الحقيقة الشرعية مطلقاً أي في العبادات والمعاملات.
الثاني : عدم ثبوت الحقيقة الشرعية مطلقاً لا في العبادات ولا في المعاملات.
الثالث : التفصيل بين العبادات والمعاملات بالثبوت في العبادات، وعدم ثبوتها في المعاملات.
الرابع : ثبوتها في المعاملات، وعدم ثبوتها في العبادات.
الخامس : التفصيل بلحاظ كثرة الإستعمال، فالالفاظ التي يكثر إستعمالها تثبت في الحقيقة الشرعية كالصلاة والصوم، بل وإن كانت من المعاملات كالنكاح، والتي لا يكثر إستعمالها لا تثبت فيها الحقيقة الشرعية وان كانت عبادة.
السادس : التفصيل بين عصر النبوة وغيره.
السابع : المدار في ثبوت الحقيقة الشرعية على كثرة الدوران في زمان الشارع وما بعده من الأعصار على نحو الإطلاق.
هل يمكن إعتبار الحقيقة الشرعية برزخاً بين الحقيقة والمجاز، الأقوى نعم، إذ أنها تحمل من الحقيقة إسمها، ومن المجاز أنها وضعت بوضع لاحق ولابد من سبب أو قرينة تصرفه الى المعنى الإصطلاحي، ولكن هذا المعنى جاء بالوضع الخاص للحقيقة الشرعية على نحو صريح ومستقل، ولم يرتكز على القرينة وحدها، والمشابهة مع المعنى اللغوي كما هو الحال في المجاز، وهذا لا يمنع من وجوه إلتقاء بين الحقيقة الشرعية وبين المجاز.
ولكن الحقيقة الشرعية قسيم للحقيقة والمجاز وليس قسماً من أحدهما، وإن كانت القرينة موجودة في الحقيقة الشرعية، لأنها خارجية ولتقدم الوضع عليها، خصوصاً وأن بعض المعاني الشرعية لا تناسب لها مع المعاني اللغوية لذا ترى المعنى الشرعي ينسبق إلى الذهن من ألفاظها.
وفرق بين الحقيقة الشرعية وبين المجاز، بلحاظ القرينة وأن المعنى يكون في الحقيقة الشرعية مقصوداً من نفس اللفظ أما في المجاز فان القرينة موضوعة للدلالة على أن اللفظ أختير لغير الموضوع الذي وضع له أصلاً للعلاقة والمشابهة بينهما، أي أنه في الحقيقة الشرعية لم تستند دلالة اللفظ على المعنى إلى مع القرينة.
الوضع للحقيقة الشرعية ليس إبتدائياً مستقلاً بل هو مستقرأ من الوضع للحقيقة، ولكن لا يصدق عليه بأنه مجاز لعدم إنطباق قواعد إشتقاق المجاز على الحقيقة الشرعية، والتقسيم الى الحقيقة والمجاز تقسيم إستقرائي، والإستعمال أعم منهما، وكذا بالنسبة للطبع وقبوله للأعم وعدم وقوفه على حدين فقط، وهما الحقيقة والمجاز.
ولا ملازمة بين قبول الطبع له وعدم إستنكاره له، فالطبع لا يعرف تقسيم الحقيقة والمجاز والبرزخ بينهما انما هو أمر إستقرائي تحقيقي في الغالب.
والكبرى هي إثبات أن الأمر حقيقة او مجاز بدليل خارجي، لأن التقسيم إستقرائي بلحاظ وضع اللفظ بينما يتبع الطبع ما تعارف إستعماله وكثر تداوله بين الناس من إرادة معنى معين من لفظ مخصوص لأن ملاك الطبع هو الفهم والتفهيم.
وصحيح أن التبادر علامة الحقيقة، ولكنه في مقابل المعنى المجازي إذا كانا في عرض واحد في لسان المحاورات، أما إذا كان أحدهما هو السائد في المحاورات بحيث لا يعرف هل هو حقيقة أو مجاز لعدم معرفة أصل الوضع وموضوعه فيكون هو المتبادر خصوصاً بلحاظ موضوعه كما في حال العبادات كالصلاة والصوم.
وقال الزجاج: الأصل في الصلاة اللزوم يقال: قد صلي وأصطلى إذا لزم، وفي لسان العرب: وقال أهل اللغة في الصلاة أنها من الصلوين وهما مكتنفا الذنب من الناقة وغيرها، وأول موصل الفخذين من الإنسان فكأنهما في الحقيقة مكتنفا العُصعُص، وقال الأزهري: والقول عندي هو الأول إنما الصلاة لزوم ما فرض الله تعالى( ).
ولو تنزلنا وقلنا أن أصل لفظ الصلاة يفيد معنى الدعاء فانه يصلح أن يطلق إسم الجزء على الكل من باب المجاز المرسل، وهو معروف كما في إطلاق العين على الربيئة وقمة الجبل.
وأغلب الإصطلاحات الشرعية مستقرأة من المعاني اللغوية ومستنبطة بلحاظ وجوه شبه وصلة بينها، فالحج أصله الزيارة والقصد.
والصوم الإمساك، والنكاح الوطئ لذا قيل بأنه حقيقة في الوطئ، ومجاز في العقد، والمجاز عند المشهور خير من الإشتراك اللفظي.
ومن وجوه العلاقة بين الجزء والكل إنتفاء الكل بإنتفاء الجزء، وأن هذا الأمر لا يصدق على الصلاة والدعاء، ولكنها ليس حجة كافية لنفي العلاقة بينهما، والصلاة في ماهيتها دعاء وتضرع وخشوع.
وكما أن التشبيه من صيغ البلاغة فإنه من العلوم العقلية لذا ترى مصاديقه في كل لغة من لغات العالم، لما فيه من ملائمة لحال العقلاء وسيرتهم وسنن التخاطب والحوار بينهم، وفيه تحريض للنفس على إستحضار وجوه المقارنة والإلتقاء بين المشبه والمشبه به سواء كان القصد من التشبيه المدح والثناء أو الذم والتوبيخ.
وفيه حث على التدبر والتفكر كما أنه يقرب المعنى بلحاظ مادة الإشتراك والإلتقاء بين أمرين سواء كان إستعارة أو تشبيهاً بورود أداة التشبيه وقد يحذف المشبه به ويستغنى عنه مع وجود القرينة كما في قولك: أنا ضيف حاتم، كناية عن مضيف كريم، وقد يرد الإصطلاح الشرعي من باب التشبيه وحذف المشبه به للتبادر والتخاطر ووضوح المعنى بلحاظ القرينة الحالية والموضوعية.
والميل إلى الوضع التعييني للإصطلاحات الشرعية ينحصر بما إذا كانت مخترعة في زمان الإسلام وبعد البعثة النبوية المباركة فهناك مرحلتان:
الأولى: مرحلة الشرائع السابقة للإسلام.
الثانية: مرحلة الإسلام ونزول القرآن.
فاذا كانت الألفاظ موجودة في مرحلة الشرائع السابقة للإسلام فان الإصطلاحات تعتبر لغوية لثبوت سبق زمان التعيين، ويشكل عليه من وجهين:
الأول: إن ثبوتها في تلك الشرائع كفرائض وأفعال وسنن ومسميات وليس أسماء للإختلاف في اللغات، فأسماء الصلاة والصوم ونحوهما بالسريانية والعبرانية غيرها في العربية، بدليل قوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( ) أي أن موضوع الإلتقاء هو الفعل الواجب وليس الإسم.
ونوقش الإختلاف في أجزاء وشرائط العبادات وأنه لا يضر بأصل الإسم كما أن الإختلاف في المصاديق والأحوال لا يضر في وحدة الموضوع وإنطباق العنوان، فالصلاة قصراً في السفر أو صلاة المريض عن جلوس أو إضطجاع تكون أيضاً صلاة.
فلو كانت الفرائض والعبادات بأسماء أخرى في تلك اللغات فهل حصلت ترجمتها إلى العربية في حينه وقبل الإسلام كي يضعف الإشكال، بلحاظ أن الشريعة جاءت بألفاظ معروفة لغة لذات الأفعال العبادية في الجملة، وأن العرب كانوا يتحاورون بينهم بنعت تلك الفرائض بألفاظها الحالية، لم تثبت تلك الترجمة خصوصاً مع إختلاف اللغويين في أصل كلمة الصلاة، ومنهم من قال أنها من الصلويين كناية عن حال الركوع وهو أمر لم يكن معروفاً في صلاة الملل الأخرى.
الثاني : ثبوت وضع تلك الإلفاظ لمعانيها الشرعية المخصوصة في الشرائع السابقة والظاهر أنه مفقود، إنما جاء القرآن بالإشارة إليها بلغة العرب وللبيان، والإستعمال أعم من الحقيقة والمجاز.
وقيل لا فرق في حجية أصالة عدم النقل سواء كان الشك في أصل النقل، والأقوى هو القول بالحقيقة الشرعية ولكن ليس على نحو الإطلاق فتارة تكون الألفاظ مخترعة للمعاني الشرعية وتتبادر إلى الذهن عند النطق باللفظ بالوضع وليس بالقرينة، وأن الواضع لم يحصر الوضع للمعاني اللغوية فحسب خصوصاً وأن الله تفضل بالأسماء وتعليمها، وأسس قواعد الوضع لعمومات قوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ).
وهذا لا يمنع من وجود إصطلاحات شرعية أستقرئت وأخذت من المعنى اللغوي، والتي تعرف بالقرينة الصارفة، أما التي كانت بالوضع التعييني فتعرف بالوضع ومن غير حاجة إلى قرينة، ثم أن الخلاف صغروي، فحتى التي أستقرئت من الوضع اللغوي حدث لها نقل وهو أخص من المجاز بل أن إستقراءها بالذات لم يصدق عليه أنه مجاز بالمعنى الإصطلاحي وأنه من إستعمال اللفظ في غير ما وضع له.
فالإصطلاحات الشرعية في الغالب وضعت لمعانيها الشرعية بالذات وليس بالتجوز.
وألفاظ العبادات للصحيح لا للأعم منه
أي نقسم الإصطلاحات الشرعية إلى قسمين:
الأول: ما حصل بالوضع وأن الشارع تفضل بجزء من الوضع.
الثاني: ما أستقرء من اللغة ولكنه كالبرزخية بين الحقيقة والمجاز او الجامع بينهما.
يتعلق الخلاف في المقام بالفاظ العبادات خاصة دون ماهيتها وأحكامها، فالنزاع في الأسماء وليس المسميات للفرق بينهما والمدار في الأحكام على المسميات وليس الأسماء، أي أن الخلاف لا يتعارض مع السعي لإتيان الصحيحة منها، وإنما جرى النزاع في خصوص ألفاظها كالصلاة والصوم والزكاة، وكذا ألفاظ المعاملات كالبيع والرهن والطلاق وهناك قولان:
الأول: ان الشارع وضع الفاظ العبادات لخصوص الصحيحة والجامعة للأجزاء والشرائط منها، ولا يشمل الفاسدة والناقصة والمفتقرة لبعض الأجزاء والشرائط ويسمى الصحيحي وهو بالمشهور.
الثاني: أن ألفاظ العبادات وضعت للأعم فتشمل الصحيح الجامع للأجزاء والشرائط منها، وتشمل الفاسد الذي جاء ناقصاً غير تام.
وهذا المبحث أجنبي عن معنى الصحة والفساد وأنهما حكمان وضعيان أو ليسا كذلك، فقد أختلف في الصحيح والفاسد.
والخلاف بين الصحيحي والأعمي لا يكون إلا بناء على القول بثبوت الحقيقة الشرعية بلحاظ أن الشارع وضع ألفاظ العبادات والمعاملات لمعان مخصوصة، الأمر الذي يتفرع عنه نزاع، وهل وضعت للصحيحة فقط دون الأعم فتحتاج حينئذ إلى قرينة لإستعمالها في الأعم، ويكون الأصل مع عدم وجود قرينة على وضعها لما هو مطلوب شرعاً.
وقيل بالإشكال في جريان النزاع عند من يقول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية باعتبار إن إستعمال اللفظ في العبادات الصحيحة أوالناقصة يتوقف على القرينة، فالصحيحي يعترف بان إستعمال هذه الألفاظ في الأعم يحتاج إلى قرينة، وكذا الأعمي فانه يعترف بأن إستعمالها في الصحيح منها لابد له من قرينة، لإنحصار الحقيقة عندهما بالحقيقة اللغوية دون الشرعية.
ولكن يمكن تصور النزاع أيضاً حتى على القول بعدم الحقيقة الشرعية بلحاظ المناسبة مع المعاني اللغوية وسبقها، أي هل المناسب للمعنون اللغوي هو الصحيح من العبادات فيكون إستعمال اللفظ في الأعم نوع مجاز وتجاوز، ويفتقر إلى قرينة عند الإستعمال فيه.
أم أن المعنى الأعم هو الأنسب والأقرب للمعنى اللغوي للفظ فيحتاج إستعماله في الصحيح خاصة إلى قرينة، وكأنه يحتاج الى واسطة في القرينة أحداهما تنقل اللفظ إلى الأعم وأخرى تنقله إلى الصحيح منها ولا يخلو من تشديد.
ويجري النزاع بلحاظ ثمرة البحث لأن القائل بالأعم يتمسك بالإطلاقات، والقائل بالصحيح يقول بعدم التمسك بالإطلاقات وهو أعم من أن تنحصر بثبوت الحقيقة الشرعية للتباين الموضوعي بين مسألة الإطلاق ومسألة الحقيقة الشرعية.
ولا تعارض بينهما في أصل الوضع، فالإطلاق قد يكون معتبراً مع الحقيقة الشرعية أو في حال عدمها، مع عدم تصور النزاع في التسمية في حال التسليم بعدم الحقيقة، لأن التسمية تتعلق بالحقيقة وليس المجاز الذي إنتقل إليه لمناسبة وعلاقة بينه وبين ما أستعمل له بالأصل.
وتظهر ثمرتان بين القولين:
الأولى: إذا ورد اللفظ لمعناه الشرعي بصيغة الإطلاق لحكم شرعي فهل تحتسب كافة الأجزاء والشرائط أم لا، فلو شككنا هل السورة جزء من الصلاة أم لا، فعلى القول بإرادة المعنى الصحيح يرجع إلى قاعدة الإشتغال فالشك في إنطباق لفظ الصلاة على الصلاة بلا سورة فلا يصح التمسك بالإطلاق.
أما على القول بالأعم فيصح التمسك بالإطلاق وهو حكم وثمرة من ثمرات المسائل الأصولية، ويستدل به على رفع جزئية المشكوك بجزئيته أو شرطيته، والشك بتقييد الصلاة بقيد زائد على حقيقتها، والإطلاق لنفي إعتبار ما شك في جزئيته أو شرطيته والأخذ بمسمى الوجود وذات الطبيعة التي يحكم عليها ومنع الخصوصية والقيد.
الثانية: مع الشك في الأجزاء والشرائط يرجع إلى أصالة البراءة عند الأعمي، باعتبار أن متعلق التكليف ذات الأجزاء، وعلى القول بالصحيحي يرجع إلى عدم جريان البراءة.
وأشكل بأن الثمرة تختص بالرجوع إلى الأصول وليس التمسك بالإطلاق هذا في العبادات، أما في المعاملات فنفي ما شك إعتباره كالعربية وصيغة الماضوية.
الإطلاق وحدة الذات مع التعدد والإرسال في الخصوصيات، لذا فان الإطلاق يتعلق بنفي جزئية ما يشك بجزئيته أو شرطيته أما ما يتقوم به الذات فلا يرفع بالإطلاق لذا فان من يجعل الأجزاء والشرائط جزء من أصل الذات لا يتمسك بالإطلاق.
أما القائل بالأعم فانه يجعلها من الخصوصيات، ويغرق بين الخطابات التكليفية وتضمنها للأجزاء والشرائط، وبين ماهية الأشياء عند العرف وفي المحاورة.
وقيل لا ثمرة للخلاف بين الصحيح والأعم لأن الشارع بين الأجزاء والشرائط ودلنا على الصحيح منها، ولم تعد مجملة أو مهملة وكأن الخلاف في الأسماء وليس المسميات، والعناوين وليس المعنونات، ولأن الأولوية للحكم الشرعي عند التعارض مع السائد عند أهل العرف والمحاورة.
إن الإنتقال من المعاني اللغوية إلى المعاني الشرعية يكون على مرحلتين وقسمين ما دام إستعمالها في الصحيحي والأعمي من المجاز.
الأول: إستعماله مجازاً في خصوص العبادات والمعاملات الصحيحة للعلاقة بينها وبين المعاني اللغوية التي وضعت لها، ثم أستعمل في الأعم والفاسدة بالتبعية والتنزيل والإلحاق.
الثاني: إستعماله مجازاً في الأعم من الصحيحة والفاسدة، للعلاقة بينها وللسعة في المجاز ووجوه الشبه، ثم أستعملت حصراً في الصحيحة منها.
وأشكل عليه بصعوبة تصور إستحضار الشارع لقرينة إضافية وثانية تنقله من المعنى المجازي أو المعنى الشرعي المنقول من الحقيقة إلى المعنى الآخر الإضافي إلا في حال ثبوت إستعمال الشارع لقرينة إضافية للمعنى الأعم، إذا أستعمل اللفظ للصحيح من العبادات، أو إستعماله لقرينة إضافية للصحيح إذا كان قد أستعمل اللفظ بالقرينة الأولى للمعنى الأعم.
فاذا كان أصل الصلاة هو الدعاء وإستعملها الشارع في هذا الفعل العبادي المخصوص، ولا ينصرف اللفظ إليه إلا مع القرينة على القول بعدم الحقيقة الشرعية، فهل يتصور أن الشارع إستعملها في أحد معنيين، أما الصحيحة الجامعة للشرائط والأجزاء أو الأعم والفاسدة فلا ينتقل الى الآخر إلا مع قرينة أخرى إضافية، وهو أمر يتعذر ثبوته ظاهراً ولا يخلو من تكلف.
ومع القول بعدم الحقيقة الشرعية، فالأمر لا ينحصر بطريق واحد هو الواسطة والتعدد في القرينة، ويمكن أن يكون إستعمال الصحيح والأعم بان كل واحد منهما له قرينته المستقلة التي لها علاقة ووجه شبه مع المعنى اللغوي، ولكن كل واحد من الصحيح أو الأعم يعرف بذاته وبحيثياته الخاصة، فالقرينة تنقل المعنى من اللغة إلى الشريعة من دون أن تكون واسطة للأخرى أو أن تستعين بها.
والقرينة التي تنقل اللفظ الى المعنى الشرعي من اللغوي، وهي واحدة تتعلق بالجامع لهما والماهية المجملة والوجود الساري وشاملة للأفراد الصحيحة والفاسدة، ولكن الإختلاف في الذات فليس من تشابه تام او سنخية بين الصحيحة والفاسدة من العبادات، وان جاءت الفاسدة شبيهة للصحيحة شكلاً وهيئة، فالرضاع بشرائطه ينشر الحرمة دون ما كان فاقداً للشرائط، قال تعالى[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ]( ).
فحينما نرى مكلفاً قائماً في الصلاة نحسبها صلاة تامة إلا إذا علمنا أنها فاقدة لجزء أو ركن.
فالسنخية والماهية واحدة بلحاظ الإشتقاق اللغوي، ولكن السنخية تختلف في وجودها الخارجي.
وقد ذكرت وجوه لتصوير الجامع بين الأعم من الصحيح والفاسد، منها بانه الأركان، وأن ما عداها من الأجزاء والشرائط يتعلق بالإمتثال وليس في مسمى الصلاة الذي لا يستلزم صدق كافة الأجزاء والشرائط، وقد لا يضر فقد بعض الأجزاء والشرائط بالصحيحة كما لو ترك سجدة واحدة، خصوصاً وأن أسم الجنس يوضع للماهية إلا بشرط، ولكن استعماله بخصوص فرد معين يستلزم مؤونة زائدة.
لقد ذهب القاضي الباقلاني إلى أن الألفاظ مستعملة في المعاني الحقيقية اللغوية، وأن الشارع إستعمل ذات المعنى اللغوي أيضاً إلا أنه إعتبر عنده أشياء أخر زائدة على أصل الطبيعة لخصوصية أرادها ودلالة معينة عنده تتعلق بذات الأفعال العبادية، وكأنها أفراد مخصوصة من مصاديق المعنى اللغوية، وهذه الخصوصية تترشح بلحاظ القرينة المحدودة والمضبوطة التي تتعلق بأجزاء وشرائط المأمور به فيبقى الإشكال على حاله لأن الخصوصيات سواء كانت تمام الأجزاء والشرائط أو بعضها تبقى على حالها لأن كلاً من الصحيحة أو الأعم تحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي فإذا كان المطلوب بيان تمام الأجزاء والشرائط فلا يصح التمسك بالإطلاق، وإذا كان المراد هو المعنى الأعم فلا لزوم للإطلاق.
ولكن كلام الباقلاني لا يتعلق بالقرينة المتعددة والواسطة فيها، ومفاده أن لكل من الصحيح والأعم قرينة مستقلة ينصرف الكلام إليها من أصل المعنى اللغوي، وظاهره عدم القول بالحقيقة الشرعية، بل مراده إستقلال كل منهما بقرينة مخصوصة ومؤونة زائدة مستقلة.
والمراد من الصحة أو التمامية حسن الإمتثال وما له دخل في ترتب الغرض مما كان جزء أو شرطاً من ذات الفعل وكمال الشيء بمقتضى أصل الجعل الشرعي أو الإرادة التكوينية وليس مطلق ما يدخل في الغرض كقصد القربة وأحكام المكان ونحوها أي أن إستعمالها في الفاسد من باب التنزيل وقريب من باب الإستعارة، ويمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام:
الأول: صحيح حقيقي تام جامع للشرائط والأجزاء للمختار.
الثاني: صحيح حقيقي إدعائي منزل منزلة الصحيح لضرورة أو حرج كصلاة المريض والمضطر.
الثالث: قسم فاسد لفاقدة الأجزاء والشرائط، كالصلاة الناقصة لركن، أو عقد الفضولي.
فبالنسبة للأول يكون الفعل بحسب الجعل الشرعي، وبالنسبة للثاني بواسطة تنزيل الشارع لها منزلة الصحيحة وإن لم يوافقه العرف، أما الثالث فقد ينزله العرف منزلة الفعل في تسميته للمشابهة والإستعارة.
ومما هو متعارف أن الصحة والفساد متقابلان تقابل العدم والملكة، والمراد من العدم والملكة هما العرضان أحدهما وجودي والآخر عدمي مع كون المحل المتصف فعلاً بالعدمي من شأنه أن يتصف بالوجودي، كالمصباح الذي يبعث الضياء بالتيار الكهربائي وينطفئ بإنقطاعه.
ولم يثبت في الفقه جعل تفسير التمامية باسقاط القضاء بل إنه من لوازم التمامية وقد يفسر ايضاً بالفراغ والإمتثال والمبرء للذمة والا فان القضاء امر اضافي ولاحق مستقل لا يؤدى إلا عند التخلف عن الأداء، أي أن الأداء أمر مستقل بذاته لا صلة للقضاء به بينما تكون صلة للأداء في موضوع القضاء سواء على القول بأن القضاء بأمر جديد أم بذات أمر الأداء، فالقضاء لم يطلب من رأس كي يكون الأداء إسقاطاً له، ولا موضوعية له في الأداء.
وما ذكر عن المتكلمين يمكن أن يناقش لأن الموافق للشريعة ما هو أعم ويشمل الصحيح الحقيقي والصحيح الإدعائي، وإختلاف الأنظار هنا غير إختلاف الحالات، فالمقصود من إختلاف الانظار هو تعدد التفسير والتعريف مع ان الموضوع واحد من جهة إشتراط إحرازه للشرائط والأجزاء، فالفقيه ينظر بلحاظ صحة الفعل وإمتثال المكلف للخطاب الإلهي المتوجه له، أما المتكلمون فينظرون اليه بحسن الإمتثال.
وإختلاف أقوال أرباب العلوم بالنسبة لمفهوم الصحة والتمام لا يعني تعدد المعنى، لأن الإختلاف بحسب لحاظ الحيثية وليس في الموضوع لأنه واحد، مثلما لا يوجب إختلاف المعنى إختلاف الكيفية بحسب الحال كما في الحضر الموجب للتمام، والسفر الشرعي الموجب للقصر، والصحة والإختيار اللذان يوجبان الإتيان بجميع الأجزاء والشرائط وحالة الإضطرار أو المرض الموجبة للتخفيف وإسقاط بعض الأجزاء، ولكنه قياس مع الفارق، فإختلاف التعريف في العلوم على الجامع والمعنى الشامل للجميع بينما الحالات متباينة تتغير فيها الكيفية.
إن الصحة والفساد لا يتعلقان إلا بالمركب وإجتماع أجزائه أو فقد بعضها وتمامية الصحيح ونقص الفاسد، وهل الفاظ المعاملات موضوعة للأسباب أم للمسببات، الجواب: هو الأخير فالبيع والنكاح ونحوها عناوين قائمة بذاتها عند العرف، فاذا قال زوجتي طالق فانه فعل وايقاع حاصل، وكذا إذا قال رهنت داري فانه نوع مبادلة وإن تباينت الأسباب في الأثر والوجود والعدم، لذا قالوا أنه لا يبقى مجال للنزاع في ألفاظ المعاملات إلا على القول بأن الألفاظ قد وضعت للأسباب، والجواب انه لا ملازمة بين القول بالصحيح والأعم وإنحصاره بالمسببات، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الألفاظ توضع لذات المعاني وليس لأسبابها.
كما نوقش في النزاع في العبادات وانها مبينة من الشارع بأجزائها وشرائطها فلا يقع النزاع حينئذ، ولكن بحث المسألة والخلاف بين الصحيحي والأعمي يتعلق بالألفاظ ووضعها وإلا فإن الفريقين متفقان على شرائط الصحة وأسباب الفساد، ويتعلق الخلاف بتقسيم تلك الألفاظ إلى الصحيح والفاسد وليس في ذات الأفعال، فالخلاف لم يقع على فساد صلاة فاقدة لركن كالركوع سهواً أو عمداً، بل هل يصدق عليها لفظ صلاة
أم لا يصدق.
وسواء على القول بالحقيقة الشرعية أو عدمها فلابد من جامع يقول به الصحيحي ويقول به الأعمي، وأستدل على وضع الإلفاظ للصحيح دون الأعم بوحدة الأثر، وأنه طريق إني للإستدلال من المعلول إلى العلة.
أن ترتب أثر واحد للوجود الساري لجميع الأفراد يدل على صدق كونها مسميات للفظ، ولا تلتقي الأفراد الصحيحة مع الفاسدة بالأثر، فهناك تباين بين أثرهما، سواء من جهة الإجزاء والفراغ أو من جهة الوصف والماهية فلفظ الصلاة معراج المؤمن، وركن الدين، وقربان كل تقي، وقوله تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ) لا يصدق على الصلاة الفاسدة، بل ان الفاسدة لا تلتقي أصلاً بأثر واحد سواء كان من المقولات الحقيقية أم في العنوان فقط، فالأفراد الفاسدة لا يجمعها أثر واحد ولا تلتقي بالصحيحة في الأثر، ولا تنطبق عليها الأوصاف والنعوت للمسمى والمعنون.
وأشكل عليه:
الأول : بأن وحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثر إذا كان واحداً شخصياً كما يقال بخصوص قاعدة الواحد لا يصدر إلا عن الواحد بخلاف ما إذا كان الأثر كلياً له أفراد متباينة في الشدة والضعف، وأستدل عليه بمثل وهو الحرارة فإنها واحدة بالنوع ولكن عللها متعددة ومتباينة، منها الشمس ومنها النار ومنها الحركة لذا فان مقولة الواحد لا يصدر منه إلا الواحد لا ينعكس في الوحدة النوعية.
وهناك فرق بين البرهان وقاعدة الواحد لا يصدر إلا عن الواحد التي قال بها جماعة من الفلاسفة وليست بتامة، والإشكال الذي ذكروه ضعيف إذ أن وحدة الأثر لا تعني بالضرورة أنه من الكلي المتواطئ فلا يضر به ان يكون من الكلي المشكك وصدق اللفظ حينئذ عليه، وحتى على القول بان الواحد لا يصدر إلا عن واحد فان إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره بمعنى أنه لا يمنع من تعدد الصادر.
الثاني : إن الأثر عنوان ينتزع من عدة علل فضلاً عن دخوله تحت عدة وجوه.
لذا قالوا ومنها (شرب الخمر وقتل النفس وأكل مال الغير بدون رضاه، فليس النهي عن الفحشاء واحداً بالحقيقة ومترتباً على أفراد الصلاة ليستكشف بذلك وجود جامع حقيقي بين أفرادها)
ولكن الصلاة تنهى عن هذه الوجوه المتعددة للفحشاء، وكأن أثر الصلاة عنوان جامع وليس أمراً شخصياً واحداً مما لا ينافي إنطباق اللفظ على المسمى، وصلاحيته للإستدلال على عدم شموله للفاسدة من المعاني.
قيل إن وحدة الأثر بالأفراد الصحيحة، فكل اثر من الآثار يكون شاملاً للأفراد الصحيحة والفاسدة، فاي رتبة من الوجود الساري تنطبق على الإثنين لعمومات الماهية المجملة في وجودها الشامل للأفراد أو في تضمنها للأجزاء والشرائط.
ولكن السنخية متباينة في الذات وإن إتفقت في الشكل والهيئة، وقد تشترك بعض الأجزاء في تركيب الإثنين معاً، فترى الركوع في الصلاة الصحيحة والفاسدة، ولكن الثانية باطلة لفقدها شرط القربة مثلاً أو ترك سجدة عن عمد.
وقد تجد بعض الأجزاء في الصناعات تدخل في تركيب الخل والخمر، ولكن الأول حلال، والآخر حرام لتغير الموضوع وتبعية الحكم له.
إن الجامع هو أجزاء مخصوصة من الفعل والمعنى الذي يصدق عليه الإسم.
الثالث : التفريق بين المأمور به والمسمى فقد يؤمر بجزء، ولا يخل عدم الإتيان به بصدق إنطباق اللفظ على المسمى، فالصلاة التي تتضمن التكبيرة والركوع والسجود يصدق عليها صلاة وإن جاءت فاقدة لبعض الأجزاء، فلو أخل بسجدة سهواً يصدق عليه أنه صلاة، وإن كان مقصودهم أعم أي إن الصلاة وإن كانت فاسدة كما لو نقصت سجدة عمداً، ولكنها يصدق عليها لفظ صلاة مع الإقرار بأنها فاسدة.
فلفظ الصلاة يصدق عليها إذا تضمنت تكبيرة الإحرام والركوع والسجود والقيام، أما إذا فاتت سجدة واحدة عمداً مثلاً فانه لا يضر في المسمى وإن كان مخلاً بالمأمور به والإمتثال بمعنى أن الأعمي يفصل بين المأمور به وبين مسمى الفعل العبادي، فقد يحصل مسمى الفعل وصرف الطبيعة, ولكنه لا يصح الإمتثال وتبقى الذمة مشغولة لأن إطلاق اللفظ لا يدور مدار الإمتثال وقاعدة الفراغ، بل يدور على العرف الذي لا يتقيد بالدقة العقلية بل يكتفي باعتبار معظم الأجزاء.
فالأعمي يقول أيضاً بفساد الصلاة الفاقدة لأحد الأركان ولكن نزاعه لفظي بمعنى أنه يقول أن اللفظ يشمل الصحيح والفاسد، وأن اللفظ يصدق على كلي طبيعي شامل لهما، والجامع هو وجود جملة من الأجزاء والأركان وليس كل الأجزاء المأمور بها، فهذا الإشكال أجنبي عن مبنى الأعمي، الأعمي يقول بإنطباق اللفظ على المعنى ولا يعني انه من إستعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، لأن الأعمي فرق بين المأمور به والفعل المأتي به إلا على القول بإنحصار اللفظ بالمأمور به، كما أن قوله هذا من كفاية بعض الأجزاء في تحقيق صدق المسمى خارجاً.
والقول بخروج الأجزاء عن المسمى في حال وجودها يجعل إطلاق لفظ الصلاة على التامة الأجزاء من باب المجاز، ومع القول بأن الأجزاء داخلة في المسمى إذا كانت موجودة، وغير داخلة إذا كانت غير موجودة يتجدد الإشكال إذ كيف يكون شيء واحد داخلاً في الماهية مرة، وغير داخل في الماهية مرة أخرى.
ويمكن رد هذا الإشكال بأن الصلاة مثلاً من الكلي المشكك ومما أجيب على هذا الرد بأن التشكيك يقع في البسيط المتحد الحقيقة كالبياض ليس في محله، لأن الصلاة ليست مختلفة الحقيقة بل إنها مركبة من أجزاء وأركان متعددة، والألفاظ موضوعة للحقائق وليس للمفاهيم التي موطنها العقل ووجودها ذهني.
والحقائق جعلها الشارع تشكيكية بحسب حال المكلفين مما ينفي مجازية إطلاق اللفظ على الكل بلحاظ علاقة الكل والجزء ولصدق إطلاق اللفظ على الفاقدة لبعض الأجزاء، بل إنه من باب الأولوية.
ويمكن الإشكال على ما ذهب إليه الأعمي أنها موضوعة لمعظم الأجزاء بذات الدليل، أي أن الدليل يفيد خلاف قول الأعمي لأن التي تتضمن معظم الأجزاء تنقسم إلى قسمين:
الأول: الصحيحة.
الثانية: الفاسدة.
والثانية لا يشملها اللفظ إلا بمؤونة زائدة أو أنها تكون خارجة بالتخصيص من صدق إنطباق اللفظ على المسمى، فلو جاءت الصلاة فاقدة للركوع فهي فاسدة لكبرى كلية وهي أن الصلاة عبادة مركبة، ولو جاء الطلاق وهو من المعاملات وليس العبادات فاقداً للإختيار من طرف الزوج المطلق فلا يقال أنه طلاق فضلاً عن عدم ترتب الأثر، أي وإن نفى الأعمي كون الأثر هو الجامع بين الأفراد التي ينطبق عليها اللفظ، فان الطلاق الفاقد لبعض الأجزاء يكون لغواً، ولا يسمى طلاقاً إلا مع القرينة التي تفيد بطلانه، كما لو قيل طلّق طلاقاً باطلاً.
ولو جاءت الصلاة ناقصة للسجدة فان كان عن سهو فهي صحيحة بخلاف العمد، وما دام الأمر مردداً بين الصحيح والفاسد فان الإحتمال يبطل الإستدلال وقد يكون هذا الأمر أجنبياً عن المقام .
فكون صلاة المريض مثلاً فاقدة للقيام والركوع, وصلاة المتيمم فاقدة للطهارة المائية تخرج بالتخصص عن أصل إطلاق التسمية ولا تدخل في باب النزاع والإستدلال بين الصحيح والأعمي ومتسالم الطرفين على ورود دليل خاص بإنطباق إسم الصلاة على صلاة المريض الفاقدة لبعض الأجزاء، ولكن الخلاف وقع فيما إذا صلى الصحيح صلاة فاقدة لبعض الأجزاء.
وقال الأعمي بأن ألفاظ العبادات وضعت لمعانيها كما يوضع إسم زيد وحسن ونحوه، فاختلاف السن والطول، والسمن والضعف، وحال الجهل والعلم، والفقر والغنى بالنسبة للشخص لا يضر في صدق تسميته وإحتفاظه بذات الإسم مع حصول الزيادة والنقيصة والعناوين الإعتبارية والإضافية الطارئة كذلك لا يضر في العبادات تبادل الهيئات وإختلاف الحالات، وكذا فإن النقص الطارئ عليها لا يضر في إطلاق الإسم عليها خصوصاً على القول بأن الإسم غير المسمى.
فان التغيير الحاصل في المسمى لا يقيد ذات الإسم لأن الإسم موضوع للأعم وهو الأنسب للعرف بالإضافة إلى قاعدة نفي الحرج ولأن المدار في وظيفة الإسم إرادة المسمى وتفهيم السامع المقصود الذي يتحصل بمطابقة الإسم للمسمى ولو على نحو الإجمال بالإضافة إلى حصول التخاطب والتبادل بأن المراد منه عين المسمى، فحينما يكبر زيد أو ينال المال والثروة فان ذات الإسم يبقى على حاله ويكفي في إفهام السامع إرادة ذات الشخص بعينه مع تبدل حالته.
وفيه: إنه قياس مع الفارق لأن الأعلام الشخصية يلحظ في أصل وضعها الإتحاد والتشخص وعدم قابلية المسمى للتعدد، فالأعلام الشخصية يكون اللفظ فيها موضوعاً لجزئي ويسمى الوضع خاص والموضوع له خاص، أما أسماء العبادات فانها من المتصور الكلي أزاء موضوع كلي متصور بنفسه ويسمى الوضع عام والموضوع له عام مما يعني أن التشبيه من قبل الأعمي غير تام للتباين الموضوعي بينهما.
وللعرف إعتبار في إتساع رقعة المسميات وما تنطبق عليه الألفاظ والأسماء، ويعترف الأعمي بأنها وضعت أصلاً للأفراد الصحيحة دون الفاسدة الا ان التسامح العرفي في إطلاق الألفاظ مطلقاً في الحقائق والأعراض والجواهر والشرعيات يتعدى من المركب الصحيح التام الجامع للأجزاء والشرائط إلى المركب الفاقد لبعضها تنزيلاً له منزلة التام الصحيح من غير أن يكون مجازا في الإستعمال على ما ذهب إليه السكاكي في الإستعارة لأن التصرف فيه الأمر العقلي، فلا يستلزم هذا الإستعمال المجازية للإنس بوجوه المشابهة بين الواجدة للشرائط والفاقدة لبعضها، فحينما تطلق لفظ أسد على الإنسان الشجاع إستعارة تثبت له خصائص جنس المشبه به.
فقولك: ذهبنا إلى حاتم) أصلها ذهبنا إلى رجل كريم كحاتم، فحذف المشبه وهو لفظ رجل، وحذفت الأداة (الكاف)، وحذف وجه التشبيه وهو الكريم، والحق بقرينة ذهبنا للإشارة إلى أن المقصود هو رجل جواد مضياف بلحاظ إن حاتماً وصف يصح إعتباره كلياً لتضمنه الجود والكرم، ودخول المشبه في جنس الكرم، وإن كان حاتم علماً شخصياً، فالمجاز يبنى على التشبيه لأن فيه طرفين:
الأول: مستعار منه وهو المشبه به.
الثاني: مستعار له، وهو المشبه، والمجاز العقلي يعني إثبات الشيء لغير ما هو له.
وعند السكاكي: أن الإستعارة وإطلاق إسم الكامل على الناقص لا يعني المجازية وكأنه حقيقة للتشابه في الصورة والأثر، ولأن الناقص والفاقد بعض الأجزاء ينسبق للذهن كإنسباق الواجد، فالمراد من قول الشاعر:
وإذا المنيَّةُ أنشبت أظفارَها ألفيتَ كُلّ تَميمةٍ لا تَنْفَعُ( ).
وتشبيه نزول الموت بالسبع لأنها وصفت حال السبع، وأن السبع فردان أحدهما متعارف وهو السبع الحقيقي المفترس، والآخر غير متعارف وهو الموت، أما الإستعارة التخيلية فهي صورة وهمية لا يتحقق معناها حساً أو عقلاً.
ويجب أن يكون العرف تابعاً للشارع، وليس الشارع تابعاً للعرف، أما بالنسبة للشطر الثاني فهو قاعدة كلية ثابتة لأن التشريع منبثق من الكتاب والسنة، فلا يستطيع العرف أن يبلغ ويرقى إليهما.
ولكن نبحث هل جعل الشارع للعرف متسعاً من العمل أو الأثر في الإسم وفي المسمى.
كيف نمضي الأمر العرفي إذا ثبت تعارضه مع أصل الشرع بمعنى أن الشريعة إذا لم تتضمن في ذاتها إمكان التوسعة فلا يصح الرجوع إلى العرف سواء على نحو التنزيل أو التسامح.
وأشكل على مثال المعاجين بأنها وضعت لمركب خاص ولا يصح في العبادات، لأنها تختلف بحسب الحالات، والصحيح يكون مخصوصاً ونرد على هذا الإشكال بأن إختلاف الحالات والمشكك يجعل إنطباق حكم المتواطئ عليه من باب الأولوية الإنحلالية، بمعنى إذا كان المركب الخاص يصدق عليه تنزيل الفاقد للبعض منزلة الواجد، فمن باب أولى أن تنطبق الصورة على العبادات التي تكون صحيحة أحياناً بحسب بعض الحالات، كصحة صلاة القصر بالنسبة للمسافر والصلاة عن جلوس بالنسبة للمريض وكذا بالنسبة لأحكام النساء خاصة، بالإضافة إلى ما ذكرناه سابقاً بأن أفراد صلاة المضطر تخرج من حريم النزاع بالتخصص.
نعم يمكن الإشكال على ما ذهب إليه الأعمي بأن درجة المسامحة تختلف من شيء إلى آخر بحسب الموضوع والحكم واللحاظ والحيثية والأثر وجهة الصدور، بل ترى ذلك واضحاً في صيغة التصغير للأسماء، فبعض الأسماء يقوم العرف بتصغيرها تحبباً أو إنتقاصاً لها وإستهزاءً، وبعضها ولما لها من الشأن والأهمية لا يميل الناس إلى تصغيرها.
وذهب الصحيحي إلى قاعدة الإشتغال عند إجمال الطلب لأن الشك في المكلف به كما في قوله تعالى[اقيموا الصلاة]( ) وأن المطلوب الماهية الجامعة للأجزاء والشرائط وليس الفاقدة للأجزاء والشرائط، وثمرة المسألة الأصولية ما يقع كبرى لقياس إستنباط الحكم الفرعي الكلي، وقيل ما ذكر ليس بثمرة.
والإجمال في الإصطلاح هو ما لم تتضح دلالته، وما يجهل فيه مراد المتكلم كما إذا كان اللفظ مشتركاً لفظياً وليس من قرينة على التعيين ويحتاج إلى تبيين، لذا قيل بإحتمال دخوله في المسمى، ويمكن الإستدلال على خلافه باحتمال الوجه الآخر أيضاً لرفع جزئية شيء عند الشك.
والظاهر أن الصحيحي لم يقل بإجمال الخطاب والأصل هو البيان وليس الإجمال ولا يرجع إلى إطلاق دليل الواجب لأن دخول المشكوك في المسمى نوع إحتمال، أما الأعمي فإنه يرجع إلى الإطلاق في رفع الشك فيما إذا أحتمل دخول شيء في موضوع الخطاب جزءً أو شرطاً فيشمل الفاقد لبعض الأجزاء.
ومقدمات الحكمة جملة أمور تصلح لأن تكون قرينة تفيد إطلاق اللفظ وسريان الحكم إلى جميع الأفراد والمصاديق بما في ذلك المشكوك الجزئية، وتوفر مقدمات الحكمة يدل على أن المتكلم أراد من إسم الجنس الإطلاق.
وهي ثلاثة:
الأولى: أهلية متعلق الحكم للإطلاق والتقييد، إذ أنه إذا تعذر أحدهما يتعذر الآخر.
والإطلاق والتقييد خارجان عن الموضوع الذي له إسم الجنس لأن الألفاظ موضوعة لذات المعاني لا للمعاني بما هي مطلقة، وقيل أنهما متقابلان تقابل الملكة وعدمها، فإذا لم يكن متعلق الحكم قابلاً للقسمة قبل فرض متعلق الحكم به فلا يصح فيه الإطلاق والتقييد كما في شهر رمضان.
الثانية: عدم نصب المتكلم قرينة على التقييد لا متصلة ولا منفصلة، وتفيد القرينة المتصلة إرادة التقييد.
وأختلف في القرينة المنفصلة، والمشهور ذهب إلى منع القرينة المنفصلة أيضاً عن الإطلاق لأنها تكشف عن عدم الإرادة الجدية للإطلاق وكأن ظهوره بدوي، وقيل بعدم منع القرينة المنفصلة للظهور في الإطلاق ولعل المنع على نحو الجزئية، والأصح ما ذهب اليه المشهور.
الثالثة: أن يكون المتكلم في مقام البيان وليس في مقام الإهمال والإجمال بل قصد تمام مراده بخصوص الموضوع الذي أراد بيانه أو الأمر به والبعث إليه، ويحرز ظهور البيان بواسطة الأصل العقلائي وهو أن كل متكلم متصد لبيان مراده وغايته إلا مع القرينة أو الدليل على الخلاف.
وقد ذُكرت مقدمة رابعة وهي عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب، فمع هذا القدر لا يتحقق ظهور في الإطلاق فاذا قال الأب لإبنه إذهب
إلى المسجد وصل، وكان المسجد معلوماً ومحدداً عندهما وكذا فرض الصلاة بلحاظ أوانها، فلا يتحقق إطلاق لا في المسجد ولا في لفظ الصلاة.
والأقل والأكثر في الإصطلاح فعلان أحدهما أقل من الآخر في المقدار أو الكمية أو الأجزاء، فاذا علمنا ببعث أو زجر ثم شككنا هل تعلق بالأقل أم الأكثر تحقق عنوان دوران الأمر بين الأقل والأكثر.
وهو ينقسم إلى قسمين.
الأول: الإستقلاليان.
الثاني: الإرتباطيان.
وفي الإستقلاليين يكفي إتيان الأقل وإن كان متعلق الحكم واقعاً بالأكثر في الشبهة الوجوبية، والمخالفة بمقداره في الشبهة التحريمية بخلاف الإرتباطيين، فانه لو كان التكليف واقعاً متعلقاً بالأكثر لكان إتيان الأقل ناقصاً وفاسداً، لأن التكليف فيهما واحد لا يقبل التجزئة فيكون الشك فيه شكاً في المكلف به الذي تعمل فيه أصالة الإشتغال بخلاف المستقلين فان الأصل فيهما البراءة لأن مرجع الشك إلى التكليف.
ومن الإستقلالي ما لو علم بفوات صلوات وشك في عددها، وهل هي إثنتان أو ثلاث، فبعد العلم بالوجوب شك في العدد، وهو من الشبهة الوجوبية فيجزي إتيان الأقل وإجراء أصالة البراءة عن الأكثر، وهو المختار والذي ذهب إليه مشهور الأصوليين، وكذا لو علم أن عليه ديناً لزيد وشك هل هو ألف دينار أو ألفان.
أما بالنسبة للإستقلاليين في الشبهة التحريمية فكما لو شك في حرمة صيام اليوم الأول من العيد أو جميع أيام العيد بعد أن علم بحرمة الصوم فيه، فتجري في الأقل وهو حرمة صيام اليوم الأول منه لأن التكليف به معلوم وما زاد عليه يكون الحكم فيه مشكوكاً فتجري فيه أصالة البراءة.
أما بالنسبة للإرتباطيين في الشبهة الوجوبية فهو الأهم في هذا الباب ويسمى بالأقل والأكثر الإرتباطيين وقد يسمى بالشك في جزئية او شرطية شيء للمأمور به، كما لو علم بشرطية قراءة السورة في النافلة، او علم بوجوب حضور خمسة لصلاة الجمعة وشك في السبعة.
فالتكليف بالفاتحة للنافلة معلوم وما زاد عليها مشكوك، وكذا التكليف بالخمسة والشك في الإثنين من السبعة في الجمعة فيرجع إلى أصالة البراءة في الزائد سواء البراءة العقلية أو النقلية للتكليف بالأكثر، برفع الجزئية والشرطية بأدلة البراءة الشرعية وليس العقلية، نعم ذهب جمع من المتأخرين إلى القول بالإحتياط وإتيان الأكثر، بإعتبار أن حكم العقل يقتضي بالإحتياط.
ونطلق هنا إصطلاح (الدوران الإرتباطي) على الأقل والأكثر الإرتباطيين، و(الدوران الإستقلالي) على الأقل والأكثر الإستقلاليين.
وليس من ملازمة بين الرجوع إلى البراءة بناء على الأعم، والرجوع إلى الإشتغال بناء على الصحيح، ثم أن النقاش في الكبرى وهي إجمال وإهمال الخطاب، وأن الخطابات التكليفية لم ترد على نحو الإجمال لما في الإجمال من الحرج ولعمومات قبح العقاب بلا بيان، نعم مع إطلاق الدليل يرجع إليه في مقام البيان، وهذا أمر لا خلاف فيه لكنه لا يعني بالضرورة القول بالأعم.
ومن ثمرة الخلاف إنه لو نذر إعطاء دينار للمصلي فهل تبرأ الذمة ويحصل الإمتثال بإعطاء من كانت صلاته باطلة على القول بأن الألفاظ وضعت على نحو الإطلاق وتشمل الأعم، أم لابد من إعطاء الدينار إلى من كانت صلاته صحيحة لعدم صدق لفظ الصلاة على الفاقدة للأجزاء والشرائط.
ونوقشت مسألة النذر من جانب آخر وهو رجحان متعلقه كشرط لصحته، الأمر الذي لا يتحقق بإعطائه لمن يصلي الصلاة الباطلة.
والتبادر لغة هو التسارع والسعي الفوري، أما في الإصطلاح فهو إنسباق تصور المعنى من اللفظ عند إطلاقه، إذ يتبادر إلى الذهن معنى معين، وهذا المعنى هو الذي وضع له اللفظ بلحاظ أن العلقة بين اللفظ والمعنى جعلية، وليست ذاتية كما تقدم بيانه، ويتصور التبادر على وجهين:
الأول: إستدامته وشموله لزمان الوضع.
الثاني: إنه حقيقة في المعنى المتبادر زمان التخاطب به.
والثاني هو الأرجح لعدم القول بالإستصحاب القهقري، وإن قيل بأصالة الثبات في اللغة للدلالة على أن اللفظ حقيقة في المعنى المتبادر، نعم ينفرد القرآن بميزة وهي إتحاد زمان نزوله مع كل الأفراد الطولية للأزمنة اللاحقة في نفاذ الحكم.
فالتبادر يعني إنسباق معنى معين إلى الذهن وهو يدل على عدم وجود الإجمال والجهل بمراد المتكلم، بل أن قصده مفهوم، وأستدل على إنتفاء المنافاة بأنها مبينة من جهة معينة دون تمام الجهات، ولكن هذا لا يدفع الإشكال لأن المتبادر من لفظ الإجمال هو ما لم تتضح دلالته في ذات الموضوع.
أما الإجمال الجهتي فهو أمر ينطبق على كثير من المفاهيم ولا عبرة به، ولا يتنافى مع التبادر والحقيقة لأنه أجنبي عنها، ولكن لا يطلق على اللفظ أنه مجمل، والمراد من المجمل هو ما كان مجملاً من كل الجهات أو من الجهة ذات الغرض.
لقد ثبت أن عدم سلب اللفظ عن المصداق الصحيح يدل على أنه حقيقة، ويصح سلب اللفظ عن الفاسد مما يعني أن إطلاق اللفظ عليه من باب المجاز والمسامحة.
فمن صلى بغير طهور تستطيع سلب إسم الصلاة عما جاء به لأنها باطلة، وإطلاق لفظ الصلاة عليها يكون بالتسامح والعناية، إذ أن الإستعمال أعم من الحقيقة والمجاز، وان المدار على الدقة العرفية وليس الدقة العقلية لما فيها من الحرج والتشديد، فـ(الصلاة معراج المؤمن) لا يطلق على الفاسدة ولو بعناية خصوصاً وأن الوصف مركب من الصلاة ومن معراج المؤمن، ولا يتقرب إلى الله عز وجل بالفاسد والمبغوض.
وإستدل الأعمي بقوله صلى الله عليه وآله وسلم “دعي الصلاة أيام إقرائك”( ) وتقريب الإستدلال تعلق الأمر بغير المقدور.
ولفظ الصلاة ينطبق قهراً على الصلاة أيام الحيض وهي فاسدة قطعاً، فجاء لفظ الصلاة لإرادة الفاسدة منها مما يعني عدم حصر اللفظ بارادة الصلاة الصحيحة، ويمكن الإشكال على قول الأعمي هذا، إذ لا يعني إنطباق لفظ الصلاة على أفرادها أثناء الحيض لأنها سالبة بإنتفاء الموضوع فلا صلاة أيام الحيض بل المقصود هو عدم أداء الصلاة أثناء الحيض.
ولفظ الصلاة هنا مركب من معنى الصلاة وإرادة الشارع أفرادها الصحيحة، ومن عدم أهلية حال الحائض لإتيانها وجاء اللفظ للبيان، ولو كان اللفظ خاصاً بالصحيحة فما هي اللغة التي يرد فيها الحديث، بل للصحيحي أن يستدل به فانه لم يقل (دعي صلاتكِ أيام اقرائكِ).
والجمع بين النصوص وعدم ترك الصلاة بحال يفيد عدم وجود صلاة أيام الحيض وأن أيامه خارجة عن التكليف بالصلاة تخصيصاً.
وقد وردت الآيات القرآنية بأحكام الطلاق مثلاً كما في قوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ]( )، [الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ]( )، [فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ]( ) ولم يقل أحد بإرادة المعنى الأعم للطلاق وأنه يشمل الفاسد، بل إجتهد الفقهاء في بيان شرائط الطلاق الصحيح وأسباب البطلان ليكون متعلق الآيات والنصوص الأفراد الصحيحة منه دون الفاسدة( )، وإذا قيل أن فلاناً طلق زوجته يتبادر إلى الأذهان الطلاق الصحيح الجامع للشرائط ولا يأتي أحد يسأله: هل طلقت طلاق صحيحاً أم طلاقاً فاسداً.
كذلك بالنسبة لنهي الحائض عن الصلاة، فالمراد ماهية وموضوع الصلاة، وربما لا يدخل هذا الحديث في حريم النزاع فهو أجنبي عن الصلاة الصحيحة والفاسدة، فالقدر المتيقن من النهي هو ترك الصلاة في أيام الحيض، فلا تصل النوبة إلى مسألة الجامع بينهما وليس هناك تلبس للمبدأ في الحال، بل أن الحديث يدل بالدلالة الإلتزامية على المنع من الصلاة الفاسدة الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط كما في إنعدام الطهارة عند الحائض، و(دعي الصلاة) المراد ليس أفراد الصلاة أثناء أيام الحيض وقد علمنا عدم إتيانها، ولكن المراد إسم الجنس الذي ينطبق على أفراد متعددة ومتعلقة هنا بنسبة الصلاة إلى المرأة وليس المراد العهد والشامل للواجب والمستحب.
ومع هذا فان إستعمال اللفظ في الفاسدة موجود في الأخبار ولا يفيد الدلالة على الوضع للأعم للقرائن التي تحف بالخبر والموضوع، وللثابت شرعاً وعقلاً ووجداناً أن الألفاظ لم توضع إلا للصحيح منها وكذا الشارع لا يريد إلا المعنى الصحيح.
مقدمات بعثة النبي(ص)
لقد بعث الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة في مكة وسط مجتمع قبلي مشرك وسرعان ما مال إليه الناس ، ولم يكن هذا الميل بالعاطفة والإستحسان والرأفة بل هو إيمان ينفذ إلى شغاف القلوب وتسليم بمعجزات وبينات لم يعهدها أهل مكة مع أنها بلدة يتوافد عليها رجال القبائل كل عام في موسم الحج ، وتقام الأسواق التجارية والعروض الشعرية التي يلقي فيها فحول الشعراء قصائدهم ، ويسافر رجال قريش للتجارة في الشتاء إلى بلاد الشام حيث الروم والديانة النصرانية . وفي الصيف إلى اليمن ونفر على دين المجوسية مما يدل على إطلاعهم على المذاهب والملل ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْش* إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
ونشرع هنا علما جديدا في بابه إسمه مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي بدأت من الأيام الأولى لخلق آدم وهو بعد في الجنة , وقبل أن يهبط إلى الأرض، لتتوارث ذريته العلم بمقامه وتتطلع إلى بعثته وتصدق بنبوته.
وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه ، رفع رأسه إلى السماء فقال : أسألك بحق محمد إلا غفرت لي؟ فأوحى الله إليه : ومن محمد؟ فقال : تبارك اسمك . لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه ليس أحد أعظم عندك قدراً ممن جعلت اسمه مع اسمك . فأوحى الله إليه : يا آدم انه آخر النبين من ذريتك ، ولولا هو ما خلقتك( ).

وقصة إبرهة خليفة النجاشي على اليمن في عزمه على هدم الكعبة معروفة وموثقة من السماء بقوله تعالى[أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ]( ) إذ أن إبرهة بنى بصنعاء كنيسة، لم يُر مثلها في زمانه في أرض الروم، ولا في أرض الشام ثم كتب إلى النجاشي الأكبر، ملك الحبشة، أني قد بنيت لك كنيسة، لم يكن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب، فلما علمت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي، خرج رجل من بني كنانة من الحمس، حتى قدم اليمن، فدخل الكنيسة، فنظر فيها، ثم خرى فيها فدخلها أبرهة، فوجد تلك العذرة فيها فقال: من اجترأ عليّ بهذا، فقال له أصحابه: أيها الملك، رجل من أهل ذلك البيت الذي يحجه العرب فقال: أعليّ اجْتَرأ بهذا ثم قال بالنصرانية: لأهْدِمَنَّ ذلك البيت ولأُخَرِّبنه، حتى لا يحجه حاج أبداً فدعا بالفيل وأذن قومه بالخروج.
وروي في رواية أُخرى أن فئة من قريش، خرجوا إلى أرض النجاشي، فأوقدوا ناراً، فلما رجعوا، تركوا النار في يوم ريح عاصف، حتى وقعت النار في الكنيسة، فأحرقتها فعزم أبرهة، وهو خليفة النجاشي أن يخرج إلى مكة فيهدم الكعبة، وينقل أحجارها إلى اليمن، فيبني هناك بيتاً ليحج الناس إليه وروي في رواية أُخرى، أن رجلاً من أهل مكة، خرج إلى اليمن، فأخذ جزعة من القصب ذات ليلة، وأضرم النار في الكنيسة فأحرقها ثم هرب فبناها أبرهة مرة أخرى، فحلف بعيسى ابن مريم بأن يهدم الكعبة، لكي يتحول الحج إلى كنيسته، فتجهز فخرج معه حتى إذا كان في بعض طريقه ، بعث رجلاً من بني سليم، ليدعو الناس في حج بيته الذي بناه، فتلقاه رجل من اليمن من بني كنانة، فقتله.
فازداد أبرهة بذلك غضباً، وحث على المسير والانطلاق، حتى إذا كان بأرض جعم فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم، يقال له ذو يفن فدعا القوم، وأحبابه من سائر العرب، إلى حرب أبرهة، وصده عن بيت الله، فقاتله فهرب ذو يفن وأصحابه، وأخذوا ذا يفن، وأتى به أسيراً فلما أراد قتله قال: أيها الملك، لا تقتلني، فإنه عسى أن أكون معك خير لك من قتلي، فتركه وحبسه عنده في وثاقه ثم مضى على وجهه ذلك، حتى إذا كان بأرض خشعم، عرض له نفيل بن حبيب الخشعي، فقاتله فهزمه، وأخذ أسيراً)( ).
لذا فمن المتعذر أن يخرج بينهم من يدعي النبوة من غير معجزة ودليل قاطع عقلياً كان أو نقلياً ، فصحيح أن القوم مشركون إلا أنه لا يعني إنعدام التمييز والفصل عندهم بل إن إختلاطهم مع أهل الملل الأخرى يجعلهم ينفرون من عبادة الأوثان التي هم عليها ويدركون حاجتهم إلى ديانة التوحيد وإلى الإرتقاء إلى مراتب الأمم التي تمتلك شطراً من العلم بتلاوة الكتاب وهو مما سبق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويمكن تأسيس علم جديد إسمه مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يختلف عن البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن مواضيعه متعددة ومتشعبة منها :
الأول : حاجة أهل مكة والناس إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم,[ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الثاني : الإنحراف والتبديل والتشويه الذي طرأ على الحنيفية الإبراهمية.
الثالث : إمتناع وعزوف العرب عن الديانة اليهودية والنصرانية خصوصاً وأنهما جاءا في بني إسرائيل .
الرابع : طرو التحريف من قبل المشركين على مناسك الحج التي جاء بها إبراهيم عليه السلام ، وقد أبى الله عز وجل الا أن تبقى سالمة إلى يوم القيامة وشاء الله أن تنحصر هذه السلامة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وترشح صيرورة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، من رسالته المباركة.
الخامس : منع سلطان الإختلاف بين أهل الملل والنحل على النفوس ، كما في قوله تعالى [وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ]( ).
السادس : ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينجو الناس من الحروب التي تسبب الفناء على نحو السالبة الكلية أو الجزئية وقد كانت المعارك مستمرة بين الدولتين الكبيرتين آنذاك دولة الروم ودولة الفرس، وفي التنزيل[غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]( ).
السابع : إنشغال الدول العظمى آنذاك بعضها ببعض كما تدل عليه الآية أعلاه من سورة الروم مناسبة لنشر الدعوة الإسلامية في الحجاز، ومن الإعجاز في قوله تعالى[وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]( ).
وكانت في فارس امرأة لا تلد إلاّ الملوك والأبطال بسم الله الرحمن الرحيم( )، فدعاها كسرى فقال : إنّي أُريد أن أبعث إلى الروم جيشاً وأستعمل عليهم رجلاً من بنيكِ فأشيري عليَّ أيّهم أستعمل؟ فقالت : هذا فلان، أروغ من ثعلب، وأحذر من صقر، وهذا فرخان أنفذ من سنان، وهذا شهريراز هو أحلم من كذا، فاستعمل أيّهم شئت. قال : فإنّي استعملتُ الحليم، فاستعمل شهريراز، فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم فقتلهم وخرّب مدائنهم وقطع زيتونهم، وكان قيصر بعث رجلاً يدعى يحنس وبعث كسرى شهريراذ فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فَغَلَبت فارسُ الرومَ، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وأصحابه بمكّة فشقّ عليهم، وكان النبيّ صلّى الله عليه يكره أنْ يظهر الأمّيّون من المجوس على أهل الكتاب من الروم.
وفرح كفّار مكّة وشمتوا ولقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إنّكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أُمّيون , وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم. فإنّكم إنْ قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم فأنزل الله عزّ وجلّ:{الم غُلِبتْ الرُّومُ…} فخرج الصّدّيق إلى الكفّار فقال : فرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ولا يقرّنَ الله أعينكم، فوالله ليظهرنّ الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبيُّنا، فقام إليه أُبيّ بن خلف الجمحي فقال : كذبت يا أبا فضيل، فقال له أبو بكر: أنتَ أكذب يا عدوّ الله، فقال: اجعل بيننا أجلاً أُناحبُكَ عليه، والمناحبة: المراهنة على عشر قلائص منّي وعشر قلائص منك، فإنْ ظهرت الروم على فارس غرمتُ، وإنْ ظهرت فارس غرمتَ، ففعل ذلك وجعلوا الأجل ثلاث سنين.
فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره وذلك قبل تحريم القمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما هكذا ذكرتُ، إنّما البضع ما بين ثلاث إلى التسع فزايدهُ في الخطر ومادّه في الأجل، فخرج أبو بكر فلقي أُبيّاً فقال: لعلَّك ندمت قال: لا، قال : فتعال أزايدك في الخطر وأُمادّك في الأجل فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت فلمّا خشي أُبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه فقال: إنّي أُخاف أن تخرج من مكّة فأقم لي كفيلاً، فكفل له ابنه عبد الله إبن أبي بكر.
فلمّا أراد أُبي بن خلف أن يخرج إلى أحُد أتاه عبدالله بن أبي بكر فلزمه قال : والله لا أدعك حتّى تعطيني كفيلاً فأعطاه كفيلاً ثمّ خرج إلى أحُد، ثمّ رجع أُبيّ بن خلف فمات بمكّة من جُراحتِهِ التي جرحه رسول الله صلّى الله عليه حين بارزه وظهرت الروم على فارس يوم الحُديبيّة وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم. هذا قول أكثر المفسِّرين.
وقال أبو سعيد الخدري ومقاتل : لمّا كان يوم بدر غلب المسلمون كفّار مكّة وأتاهم الخبر أنّ الروم قد غلبوا فارس ففرح المؤمنون بذلك. قال الشعبي : لم تمضِ تلك المدّة التي عقدوا المناحبة بينهم، أهل مكّة وصاحب قمارهم أبيّ بن خلف، والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر، وذلك قبل تحريم القمار حتّى غلَبت الرومُ فارسَ وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية فَقَمَر أبو بكر أُبيّاً، وأخذ مال الخطر من ورثته وجاء به يحمله إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: تصدّق به)( ).
وتتبين بلحاظ المقام مسائل:
الأولى : إستمرار الحرب بين الروم والفرس.
الثانية : الحرب بينهما كر وفر.
الثالثة : كل فريق منهما يستعد للقاء الآخر، ويجعل همّه نحوه.
الرابعة : كانت الغلبة في النهاية لأهل الكتاب، وهذه الغلبة مقدمة أخرى لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته.
الخامسة : إنذار كفار قريش وقرب مجيء العذاب لهم، وقيل إن يوم نصر المسلمين وهزيمة الكفار في بدر هو نفسه اليوم الذي إنتصرت به الروم على كسرى، قد تقدم في الصفحة السابقة بأن عبد الله بن أبي بكر منع أبي بن خلف من الخروج إلى أحد حتى أعطاه كفيلاً مما يدل على أن خبر غلبة الروم لم يأت يوم بدر، إنما كان متأخراً عن معركة أحد.
الثامن : زهد الملوك والسلاطين بأرض الحجاز الجرداء، وخشيتهم العرب وفروسيتهم وغدرهم، وهذه الخشية من جهات:
الأولى : كراهية العربي في الصحراء السكن في مدن وعمارة تكون أسيرة لسلطان معين، لذا يكون تمصير مكة مدينة معجزة للبيت الحرام، ومن أسرار تسميتها (أم القرى) أي أن ما حولها لم ترق بعضها إلى مدينة، فان قلت قد صارت تلك القرى وغيرها مدناً عامرة , والجواب من وجوه :
الأول : إنه بفضل الله ونعمة الإسلام وسيادة أحكامه وإطمئنان الناس وتقيد السلطان بأحكام الشريعة، ونظرهم لما يعمل وفق سنن الشريعة، وإستهجانهم وإنكارهم لما يخالفها، قال تعالى[وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( )، وفي هذه الآية حجة بان الأحكام الشرعية مبينة وجلية للحاكم وعامة الناس.
الثاني : إنه من مصاديق البركة في قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )، فتشمل الهداية الحاكم والمحكوم.
الثالث : في هذه المدن منعة وقوة للإسلام.
الرابع : تجلي البركات في كثرة عدد المسلمين ومدنهم وقراهم، وصيرورة هذه المدن كالثغور التي تحيط بالبيت الحرام.
الثانية : طبيعة حياة العرب في تتبع الكلأ والماء.
الثالثة : إنتشار ظاهرة الغزو بين العرب، لذا كانوا يؤادون البنات خشية أن يأخذها الغازي فتكون عليه عاراً، قال تعالى[وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ..]( ).
التاسع : إقامة ذرية إبراهيم وإسماعيل المتعاقبة في مكة، وعدم مغادرتهم لها، مع أن العرب كانوا ينتقلون بحسب الحال وطلب الماء والكلام وكانوا يهجرون أماكنهم وقراهم خشية غزو وإنتقام القبائل الأخرى، وهروباً من التعرض للثأر.
العاشر : توارث أهل الكتاب البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتعيينهم لزمان بعثته كما في أخبار ولادته صلى الله عليه وآله وسلم.
الحادي عشر : كان يهود المدينة يرجون بعثته للإنتقام لهم ممت يؤذيهم من مشركي العرب، وعن إبن عباس قوله تعالى[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، يقول : يستنصرون بخروج محمد على مشركي العرب يعني بذلك أهل الكتاب ، فلما بعث الله محمداً ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه ( ).
الثاني عشر : تعاهد العرب لمناسك الحج، وتوارث وتسابق رجال قريش لرفادة( )، وسقاية( ) الحاج.
الثالث عشر : ترغيب الناس باتباع ملة إبراهيم الذي يدعو لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذم وتوبيخ الذي يعزف عنها، قال تعالى[وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ]( )، فان قلت جاءت الآية أعلاه في القرآن، وموضوعها هو مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والجواب هذه الآية إخبار وبيان عن أحوال الناس منذ أيام إبراهيم، فقد أقام الله عز وجل البرهان بلزوم إتباعه بجهاده في محاربة الطواغيت والأصنام ونجاته بآية ومعجزة من النار التي القوه فيها، قال تعالى[قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( )، وكان لعبد المطلب ابل كثيرة يجمعها في الموسم، ويخلط اللبن بالعسل في حوض عند زمزم يسقي به الحجاج، ويشتري الزبيب فيخلطه بماء زمزم يكسر به غلظه فيشرب الحاج، وكذا يفعل أهل مكة باسقية خاصة بهم.
ولما توفى عبد المطلب قام العباس بسقاية الحاج، وكان له كرم بالطائف فيحمل زبيبه إلى مكة، ويداين أهل الطائف ويستوفي منهم الزبيب إلى يوم الفتح فقال العباس:يارسول الله بابي أنت وأمي، أجمع لنا الحجابة والسقاية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:اعطيكم ما ترزء ون فيه ولا ترزءون منه، ثم قام بين عضادتي باب الكعبة (فقال: ألا إن كل مأثرة في الجاهلية ودم ومال تحت قدمي هاتين إلا ما كان من سدانة البيت وسقاية الحاج فقد أمضيتها لأهلها)( ).
وبقيت بأيدي ذرياتهم في الأجيال اللاحقة مع تعاقب الدول، وفي إطعام هاشم بن عبد مناف ورفادته للحاج أن الناس أصابهم جدب شديد فخرج إلى الشام واشترى بما عنده من المال دقيقاً وكعكاً، فدخل مكة في موسم الحج، فهشم الكوك وطبخ الجزور وجعله ثريداً فاكل الناس حتى شبعوا، فسمي هاشما، وكان اسمه عمر .
فقال: شَاعِرُهُمْ فِيهِ وَهُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى:
كَانَتْ قُرَيْشٌ بَيْضَةً فَتَفَقّأَتْ … فَالْمُحّ خَالِصُهُ لِعَبْدِ مَنَافِ
الْخَالِطِينَ فَقِيرَهُمْ بِغَنِيّهِمْ … وَالطّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ الْأَضْيَافِ
وَالرّائِشِينَ وَلَيْسَ يُوجَدُ رَائِشٌ… وَالْقَائِلِينَ هَلُمّ لِلْأَضْيَافِ ( ).
ولم يكن الناس آنذاك بأعداد المليارات من البشر كما هو اليوم وان كانت الحروب المدمرة تحرق الأخضر اليابس في كل زمان، كما لم تكن أكثر مناطق الأرض معمورة بالسكن ، فاراد الله عز وجل أن تصاحب النماء في السكان شآبيب الرحمة التي تتفرع عن نزول القرآن ووجود أمة عظيمة وهم المسلمون يعملون بأحكامه الخالية من الظلم والتعدي، وصيرورة أصل تقسيم الناس الإنتماء إلى الملل.
ومن أسرار هذا التقسيم رجوع كل أهل ملة إلى مبادئ الشريعة وما جاء به الأنبياء بخلاف الولاء والإجتماع بلحاظ القبيلة والقومية وما فيه من أسباب الحمية وطغيان الغضب, قال تعالى[إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى]( ).
الثامن : لزوم أداء الناس للوظائف العبادية لأنه ضرورة وحاجة لإستدامة الحياة , قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
لقد أراد الله عز وجل ثبوت وإستدامة عبادته في الأرض إلى يوم القيامة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع : فضل الله عز وجل على الناس بتقريبهم إلى منازل الطاعة وأسباب فعل الصالحات وإكتناز الحسنات.
العاشر : جعل الناس يتسابقون في الخيرات ويسعون إلى دخول الجنة بمسالك للتقوى جلية، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( ).
الحادي عشر : مجيء إبراهيم عليه السلام بإسماعيل وأمه للسكن عند البيت الحرام، وصيرورة مكة بلداً عامراً، وفي التنزيل حكاية عن إبراهيم[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ]( ).
وصحيح أن علم مقدمات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يختلف عن علم البشارات به الذي هو معروف وفيه بحوث عديدة إلا أن هذا لا يمنع من التداخل والتأثير المتبادل بينهما، فالنسبة بينهما ليست هي التباين بل هي العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
وقد تكون البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الماهية والأثر وتسخير الأسباب لنصرة النبوة، ومن لطف الله عز وجل في باب مقدمات النبوة أمور:
الأول : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين ولادته وحضانته في أيام قحط وجدب حيث إزدهرت ربوع بني سعد حينما حلّ رضيعاَ بين ظهرانيهم.
الثاني : سلامة النسب ، وشرف ورفعة البيت الذي ينتمي إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين العرب عامة وقريش خاصة.
الثالث : بداية نزول الوحي بجوار البيت الحرام الذي قال فيه تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )، لتكون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بركة ونماء لأهل الأرض وأموالهم وحسن سمتهم وسبباً للهداية، ونزول شآبيب الرحمة عليهم.
الرابع : إصغاء الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله ولو على نحو الموجبة الجزئية لما فيها من التدبر في ماهية الدعوة وما يعضدها من المعجزات.
الخامس : موضوعية مجئ القبائل للحج والتجارة إلى مكة المكرمة في إنتشار الإسلام، وتجلت هذه الآية في بيعة العقبة الأولى والثانية، وبايعه في الأولى أثنا عشر رجلاً من أهل مدينة يثرب وسموا في التنزيل الأنصار وسميت يثرب بالمدينة.
وليس في البيعة ذكر للحرب والقتال إنما كانت تتقوم بالتوحيد وعدم الشرك بالله، والتنزه عن السرقة أو الزنا أو قتل الأولاد، ثم كانت بيعة العقبة الثانية ليلة الثاني عشر من شهر ذي الحجة قبل سنة الهجرة، وكان عدد الأنصار ثلاثة وسبعون رجلاً وإمرأتان وسيأتي بيانه وذكر أسماء أصحاب كل من البيعتين والنسبة بينهما تفصيلاً إن شاء الله.
وبعد هذه البيعة أذن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة ليخرج بعدهم هو وأبو بكر، ويبقى الإمام علي عليه السلام(بأمره ليؤدي ما كان عنده عليه السلام من الودائع، ثم لحقهم بقباء، فقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين قريبا من الزوال وقد اشتد الضحاء قال الواقدي وغيره: وذلك لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول)( ).
ومنهم من جعل بيعات العقبة ثلاثة وحصول الأولى في رجب، ولم تكن بيعة الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة الأولى بنت ساعتها بل كان النبي يدعو الناس في الموسم كل عام حتى إستجاب له نفر من أهل المدينة، وعن جابر(لَبِثَ بِمَكّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتّبِعُ النّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الْمَوَاسِمِ وَمَجَنّةَ وَعُكَاظَ يَقُولُ مَنْ يُؤْوِينِي ؟ مَنْ يَنْصُرُنِي ؟ حَتَى أُبَلّغَ رِسَالَاتِ رَبّي وَلَهُ الْجَنّةُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلَا يُؤْوِيهِ حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَرْحَلُ مِنْ مُضَرَ أَوْ الْيَمَنِ إلَى ذِي رَحِمِهِ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ فَيَقُولُونَ لَهُ احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنْك وَيَمْشِي بَيْنَ رِجَالِهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَهُمْ يُشِيرُونَ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ حَتّى بَعَثَنَا اللّهُ مِنْ يَثْرِبَ فَيَأْتِيهِ الرّجُلُ مِنّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ حَتّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ
وَبَعَثَنَا اللّهُ إلَيْهِ فَائْتَمَرْنَا وَاجْتَمَعْنَا وَقُلْنَا : حَتّى مَتَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يُطَرّدُ فِي جِبَالِ مَكّةَ وَيَخَافُ فَرَحَلْنَا حَتّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ فَوَاعَدَنَا بَيْعَةَ الْعُقْبَةِ فَقَالَ لَهُ عَمّهُ الْعَبّاسُ يَا ابْنَ أَخِي مَا أَدْرِي مَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الّذِينَ جَاءُوك إنّي ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ فَاجْتَمَعْنَا عَنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ فَلَمّا نَظَرَ الْعَبّاسُ فِي وُجُوهِنَا قَالَ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا نَعْرِفُهُمْ هَؤُلَاءِ أَحْدَاثٌ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَامَ نُبَايِعُكَ ؟ قَالَ ” تُبَايِعُونِي عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ فِي النّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَعَلَى النّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللّهِ لَا تَأْخُذْكُمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَتَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ
وَلَكُمْ الْجَنّةُ فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ أَصْغَرُ السّبْعِينَ فَقَالَ رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ إنّا لَمْ نَضْرِبْ إلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيّ إلّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ وَإِنّ إخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ وَأَنْ تَعَضّكُمْ السّيُوفُ فَإِمّا أَنْتُمْ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللّهِ وَإِمّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُمْ عِنْدَ اللّهِ فَقَالُوا : يَا أَسْعَدُ أَمِطْ عَنّا يَدَك فَوَاَللّهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَا نَسْتَقِيلُهَا فَقُمْنَا إلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا فَأَخَذَ عَلَيْنَا وَشَرَطَ يُعْطِينَا بِذَلِكَ الْجَنّةَ
ثُمّ انْصَرَفُوا إلَى الْمَدِينَةِ وَبَعَثَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَمْرَو بْنَ أُمّ مَكْتُومٍ وَمُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ يُعَلّمَانِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ الْقُرْآنَ وَيَدْعُوَانِ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَنَزَلَا عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَة َ وَكَانَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يَؤُمّهُمْ وَجَمَعَ بِهِمْ لَمّا بَلَغُوا أَرْبَعِينَ فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِمَا بَشَرٌ كَثِيرٌ)( ).
السادس : حصول حالة الإستعداد عند الناس لدخول الإسلام، وطرد النفرة في نفوسهم من الإنتقال إلى الدين الجديد، وما في هذا الإنتقال من الموانع الذاتية والتردد، لذا كانت العرب تسمي الذي يترك الشرك ويدخل الإسلام في أيام البعثة النبوية(صابئاً) وفي حديث إسلام أبي ذر قال: قال لي أخي انيس، ان لي حاجة بمكة، فانطلق فراث، فقلت: ما حبسك فقال: لقيت رجلا على دينك، يزعم أن الله جل وعز أرسله قلت فما يقول الناس
قال: يقولون ساحر شاعر كاهن قال أبو ذر، وكان أنيس أحد الشعراء، فقال والله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلا يلتئم على لسان أحد ولقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، والله انه لصادق، وانهم لكاذبون
قال أبو ذر: فقلت أكفني حتى أنظر، قال: نعم، وكن من أهل مكة على حذر، فانهم قد شنفوا له وتجهموا، فانطلقت فتضعفت رجلا من أهل مكة، فقلت: اين هذا الرجل الذي تدعونه الصابئ قال: فمال علي أهل الوادي بكل مدره وعظم وحجر، فخررت مغشيا علي، فارتفعت حين ارتفعت، كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم فغسلت عني الدم وشربت من مائها، ثم دخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت بها ثلاثين من بين يوم وليلة، ومالي بها طعام الا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع)( ).
ومن مقدمات البعثة النبوية ما يتعلق بعالم الرؤيا التي جعلها في الوقائع والأحداث صلة بينه وبين روح العبد، وقد تأتي الرؤيا بشارة أو إنذاراً، وقد تكون بعثاً لفعل مخصوص وهذا الفعل متعدد في الموضوع والمحمول، ومن وجوهه:
الأول : تعلق الرؤيا بصاحبها وكأنها إيماء ونوع أمر.
الثاني : موضوع الرؤيا شخص آخر ، لتأتيه بالواسطة، مع تعدد أسباب وجود واسطة في المقام منها:
الأول : إعلان الأمر.
الثاني : الموعظة والإعتبار للرائي.
الثالث : الحجة على الذي تتعلق الرؤيا به.
الرابع : دفع وحث الشخص متعلق الرؤيا على العمل بمضامينها.
الخامس : تعلق أمر الواسطة في الرؤيا بطرف ثالث غير صاحب الرؤيا والشخص الذي تتعلق به، أو أنها تشمل الجميع.
السادس : رؤيا الواسطة دعوة للهداية والتصديق بعلوم الغيب قال تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] ( ).
السابع : صيرورة الرؤيا موضوعاَ للشهادة.
الثامن : دعوة الناس للعناية بعالم الرؤيا وتأويلها.
التاسع : تنمية الصلات الإجتماعية التي تتقوم بالإعتبار والإتعاظ.
العاشر : حث الناس على التعاون في أمور الدين والدنيا.
الحادي عشر: جذب الناس إلى منازل الإيمان.
الثاني عشر : تعاون الناس في الدعاء والمسألة لتحقيق الرؤيا الصادقة والإشتراك بصرف الرؤيا المكروهة بالدعاء والصدقة والحيطة والحذر وأخذ الحائطة ولزوم إجتناب الظلم والتعدي قال تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( )، وليس من حصر للرؤيا التي كان لها أثر في مجريات الأمور ومنها ما كانت مقدمة وإخباراً عن تغيير لأنظمة حكم وسلاطين، أو سبباً في الصلاح والفلاح، أو مادة لجلب الأموال والفلاح في التجارات والسلامة من الهلاك وتلف الأموال، وإن كان الدعاء حاجة في المقام بتقريب الرؤيا الصالحة، ومحو موضوع الرؤيا المكروهة، وهو من عمومات قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
قال المفسِّرون : كانت في فارس امرأة لا تلد إلاّ الملوك والأبطال بسم الله الرحمن الرحيم( )، فدعاها كسرى فقال : إنّي أُريد أن أبعث إلى الروم جيشاً وأستعمل عليهم رجلاً من بنيكِ فأشيري عليَّ أيّهم أستعمل؟
فقالت : هذا فلان، أروغ من ثعلب، وأحذر من صقر، وهذا فرخان أنفذ من سنان، وهذا شهريراز هو أحلم من كذا، فاستعمل أيّهم شئت. قال : فإنّي استعملتُ الحليم، فاستعمل شهريراز، فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم فقتلهم وخرّب مدائنهم وقطع زيتونهم، وكان قيصر بعث رجلاً يدعى يحنس وبعث كسرى شهريراذ فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فَغَلَبت فارسُ الرومَ، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وأصحابه بمكّة فشقّ عليهم، وكان النبيّ صلّى الله عليه يكره أنْ يظهر الأمّيّون من المجوس على أهل الكتاب من الروم. وفرح كفّار مكّة وشمتوا ولقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : إنّكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أُمّيون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم. فإنّكم إنْ قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم. فأنزل الله عزّ وجلّ[الم * غُلِبَتْ الرُّومُ] ( )، إلى آخر الآيات.
فخرج الصّدّيق إلى الكفّار فقال : فرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ولا يقرّنَ الله أعينكم، فوالله ليظهرنّ الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبيُّنا، فقام إليه أُبيّ بن خلف الجمحي فقال : كذبت يا أبا فضيل، فقال له أبو بكر : أنتَ أكذب يا عدوّ الله،
فقال : اجعل بيننا أجلاً أُناحبُكَ عليه، والمناحبة : المراهنة على عشر قلائص منّي وعشر قلائص منك، فإنْ ظهرت الروم على فارس غرمتُ، وإنْ ظهرت فارس غرمتَ، ففعل ذلك وجعلوا الأجل ثلاث سنين.
فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره وذلك قبل تحريم القمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما هكذا ذكرتُ، إنّما البضع ما بين ثلاث إلى التسع فزايدهُ في الخطر ومادّه في الأجل، فخرج أبو بكر فلقي أُبيّاً فقال : لعلَّك ندمت قال : لا،
قال : فتعال أزايدك في الخطر وأُمادّك في الأجل فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين، قال : قد فعلت فلمّا خشي أُبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه فقال : إنّي أُخاف أن تخرج من مكّة فأقم لي كفيلاً، فكفل له ابنه عبد الله بن أبي بكر.
فلمّا أراد أُبي بن خلف أن يخرج إلى أحُد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه قال : والله لا أدعك حتّى تعطيني كفيلاً فأعطاه كفيلاً ثمّ خرج إلى أحُد، ثمّ رجع أُبيّ بن خلف فمات بمكّة من جُراحتِهِ التي جرحه رسول الله صلّى الله عليه وآله حين بارزه.
وظهرت الروم على فارس يوم الحُديبيّة وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم. هذا قول أكثر المفسِّرين.
وقال أبو سعيد الخدري ومقاتل : لمّا كان يوم بدر غلب المسلمون كفّار مكّة وأتاهم الخبر أنّ الروم قد غلبوا فارس ففرح المؤمنون بذلك. قال الشعبي : لم تمضِ تلك المدّة التي عقدوا المناحبة بينهم، أهل مكّة وصاحب قمارهم أبيّ بن خلف، والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر، وذلك قبل تحريم القمار حتّى غلَبت الرومُ فارسَ وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية فَقَمَر أبو بكر أُبيّاً، وأخذ مال الخطر من ورثته وجاء به يحمله إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تصدّق به.
وكان سبب غلبة الروم فارسَ على ما قال عكرمة وغيره أنّ شهريراز بعدما غلب الروم لم يزل يطأهم ويخرّب مدائنهم حتّى بلغ الخليج، فبينا أخوه فرخان جالس ذات يوم يشرب فقال لأصحابه : لقد رأيت كأنّي جالس على سرير كسرى، فبلغت كلمته كسرى فكتب إلى شهريراز : إذا أتاك كتابي فابعث إليّ برأس فرخان.
فكتب إليه : أيّها الملك إنّك لم تجد مثل فرخان، إنّ له نكاية وصوتاً في العدوّ فلا تفعل،
فكتب إليه : إنَّ في رجال فارس خَلَفاً منه فعجّل إليّ برأسهِ، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريداً إلى أهل فارس إنّي قد نزعت عنكم شهريراز واستعملت عليكم فرخان. ثمّ دفع إلى البريد صحيفة صغيرة وأمره فيها بقتل شهريراز وقال : إذا وليَ فرخان الملك وانقاد له أخوه فأعطهِ، فلمّا قرأ شهريراز الكتاب قال : سمعاً وطاعة ونزل عن سريره وجلس فرخان فدفع إليه الصحيفة فقال : ائتوني بشهريراز فقدَّمه ليضرب عنقه. قال : لا تعجل حتّى أكتب وصيّتي، قال : نعم، قال : فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف، وقال : كلّ هذا راجعت فيه كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد، فَردَّ المُلْكَ إلى أخيه. فكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم : إنّ لي إليك حاجة لا يحملها البريد ولا تبلغها الصحف فألقني ولا تلقني إلاّ في خمسين روميّاً فأنّي ألقاك في خمسين فارسيّاً.
فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق وخاف أن يكون قد مُكرَ بهِ حتّى أتاه عيونه أنّه ليس معه إلاّ خمسون رجلاً ثمّ بسط لهما والتقيا في قبّة ديباج ضربت لهما ومع كلّ واحد منهما سكين، فدعيا بترجمان بينهما فقال شهريراز : إنّ الذين خرّبوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا ومكرنا وشجاعتنا، وإنّ كسرى حسدنا وأراد أنْ أقتل أخي فأَبيت.
ثمّ أمر أخي أن يقتلني. فقد خلعناه جميعاً فنحن نقاتله معك، قال : قد أصبتما ثمّ أشار أحدهما إلى صاحبه أنّ السرّ بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا، فقتلا الترجمان جميعاً بسكّينيهما (فأُديلت) الروم على فارس عند ذلك فأتبعوهم يقتلونهم ومات كسرى.
وجاء الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه يوم الحديبية ففرح ومن معه( ).
ومعلوم أن فرح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة لايختص بذات الواقعة بالذات بل لأنها أيضاَ مقدم وطريق لسطوع فجر الإسلام وإنتشاره في بلاد فارس والروم قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
في أسرار الفواتح والسور
العلم هو الإعتقاد الصحيح والمطابقة الذهنية لواقع الشيء وبما تسكن النفس إليه، ويطلق العلم على نوع علم يختص بمسائل او موضوعات يكون بينها جامع وعنوان خاص، كعلم المنطق والذي يعرف بأنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الفكر من الوقوع في الخطأ، وهذه العصمة تتعلق بكيفية العمل وإعتماد الإستنتاج والقياس، وعلم الفقه الذي يختص بأفعال المكلفين وأحكامها الخمسة الوجوب والإستحباب والإباحة والكراهة والحرمة، وعلم أصول الفقه هو العلم بالقواعد الكلية التي تقع في طريق إستنباط الحكم الشرعي.
وموضوع علم النحو هو الكلمة بناء وإعراباً، وعلم البلاغة هو التعبير والمعنى والبيان والتباين بين العلوم بتمايز المواضيع، وهو المشهور والمختار.
(فالصلاة) بلحاظ أدائها وكيفيتها من علم الفقه، ومن جهة أدلتها من الكتاب والسنة من علم أصول الفقه، وبإعتبار منافعها الذاتية والعرضية من علم الأبدان لما فيها من الصحة.
ومن مصاديق علم الإجتماع لما فيها من الأخوة الإيمانية وتهذيب النفس والزجر عن الفواحش.
وبلحاظ إعرابها وتبدل حركتها بحسب موقعها في الكلام وفق قواعد علم النحو، ووزنها وصحة النطق وإعتلال اللفظ، بحسب علم الصرف وأصل إشتقاقها بعلم اللغة، وقد يشترك أكثر من علم في فرد واحد على ذات الموضوع كما في إحتسابها من الحقيقة أو المجاز.
ويمكن القول أن موضوعات العلوم قد تقع على الجزئيات والحيثيات أي أن الموضوعات المتعارفة تنحل بلحاظ العلم إلى عدة موضوعات وإن كانت عرفاً واحدة، فالكلية بلحاظ تقسيم العلوم لم تكن موضوعاً واحداً، فموضوع النحو بناء وإعراب الكلمة وليس ذاتها، وعلم المعاني حلاوة وجمال اللفظ وفصاحته، وليس ذات الكلمة.
فالكلمة مثلاً تنحل إلى عدة جزئيات وحيثيات كل فرد منها يتعلق به علم خاص من غير أن يكون بين هذه العلوم تداخل وإن قيل به فإنه لا يمنع من إستحقاق صفة العلم للإستقلال بالموضوع.
فعلم النحو يتعلق بحالة الإعراب والبناء للكلمة، وعلم المعاني يتعلق بها من جهة الفصاحة والبلاغة، والتمايز بين العلوم بلحاظ الموضوعات، وليس الأغراض هو الأنسب ولا يمنع من التقاء الأمرين معاً أي التمايز بسبب التباين في الموضوع تارة، واخرى بالغرض واخرى بهما معاً ان وصلت النوبة لهذا الإشتراك، وقيل بين العلوم إن التمايز بلحاظ الأغراض وليس موضوعات العلوم وإشتراكها في الدخل في الغرض الذي لأجله دون هذا العلم.
فالغرض من علم الفقه أنه أحكام ومبادئ ليأتي العبد بالفرائض والطاعات وفق المأمور به، وكذا في تدوين مسائل النحو في تقسيم الكلام إلى إسم وفعل وحرف، ورفع الفاعل ونصب المفعول به ونحوه فهي وسائل لحفظ اللسان من الخطأ واللبس وعدم إفهام المعنى، وهذا هو الغرض من علوم العربية.
فلذا قد تتداخل عدة علوم في بعض المسائل مما كان له دخل في مهمين لأجل كل منهما دون علم على حدة، فيصير من مسائل العلمين.
ومجموع سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة مباركة، أي أن علم الفواتح له هذا العدد من المصاديق مع أن عدد أجزاء القرآن ثلاثون جزء، والسور منها الطويلة ومنها القصيرة , ويمكن دراسة كل جزء وكل حزب من القرآن على نحو مستقل دراسة موضوعية.
ويقال لغزاً: اي شيء اذا عددته زاد على المائة، واذا عددت نصفه كان دون العشرين، فإعداد السور أكثر من مائة، أما نصفه الأول فأقل من عشرين سورة وموضوع إفتتاح السور له شأن في مفاهيم القرآن، وهو مادة ومناسبة لإستنباط الدروس والمعارف القرآنية النظرية والعملية، ومن وجوه إستفتاح السور:
الوجه الأول : الحمد لله، ورد في خمس سور من القرآن، في سورة الفاتحة وهي أم الكتاب إذ تبدأ بعد البسملة بقوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) والتي يقرأها المسلمون في الصلوات الخمس من كل يوم، وقراءتها من الأمور التي إتفقت عليها كلمة المسلمين على إختلاف أجيالهم وأزمنتهم ومشاربهم، وفي سورة الأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر.
وأفتتحت بعض السور بالتنزيه لمقام الربوبية كما في سورة الإسراء [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ] والمصدر تسبيح، وسبحان إسم يقوم مقام المصدر، وهي كلمة تنزيه وتقديس لله عز وجل، ودعوة للناس للمعارف النظرية، والإقرار بالعبودية، وفيها ثناء على مقام الربوبية.
وقد وردت بعضها بلغة الأمر [سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى] ( ) وبعضها بصيغة الماضي، [سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )، وبصيغة المضارع [يُسَبِّحُ لِلَّهِ] ( ).
ومجموع السور التي أفتتحت بالتسبيح سبع سور من القرآن ومن الإعجاز أن كل صيغة منها تفيد الإستدامة بمعنى أنها تتعدى المعنى اللغوي للكلمة كما أنها بمجموعها تتوزع على الأزمنة الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل مع الأمر بالتسبيح لتكون الخلائق كلها وفي جميع الأزمنة مشغولة بالتسبيح والتهليل وذكر الله تعالى.
والحمد عنوان الثبوت والإقرار بالربوبية لجبار السماوات والأرض ومدح للباري عز وجل، فلا يأتي الحمد إلا بعد التسليم والإيمان.
أما التنزيه فهو صفة كمال وتعظيم لله عز وجل، وسلب ونفي لصفات النقص،
كما ورد الإستفتاح بصيغ الإجلال والتقديس في سورتين [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ] ( )،[تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ]( )، من مجموع تسع مواضع من القرآن ورد فيها لفظ تبارك كلها تقديس لله عز وجل.
ومن السور ما أفتتحت بالحروف المقطعة وتسمى حروف التهجي والأحرف النورانية نحو، ألم، المص، المر، كهيعص، طه، وعدد السور التي ابتدأت بها تسع وعشرون سورة، وعدد الحروف التي جاءت بها أربعة عشر حرفاً، ويجمعها قولك نص حكيمِ قاطع له سر) ومنهم من ضبطه بقوله طرق سمعك النصيحة و صن سرا يقطعك حمله و على صراط حق يمسكه وقيل من حرص على بطه كاسر وقيل سر حصين قطع كلامه)( ).
أما عدد الحروف فهو ثمانية وسبعون حرفاً.
الحرف عدد المرات
الكاف والنون: 1
العين، الياء، الهاء، القاف، 2
الصاد 3
الطاء 4
السين 5
الراء 6
الحاء 7
الألف واللام 13
الميم 17
وقد جمعها الشاعر في بيتين:
كن واحد عيهق إثنان ثلاثة صاد الطاء أربعة والسين خمس علا
والراء ست وسبع الحاء ال ودج وميمها سبع عشر تم واكتملا( )
وقد تعددت الأقوال بالحروف المقطعة، ولكن الإختلاف صغروي إذ أجمع العلماء والمفسرون على أنها تتضمن معاني قدسية وإشارات ودقائق علمية وقد ذكرنا لها أربعين وجهاً مباركاً في مبحث تفصيلي خاص بها( )،
وهي من الحكمة المدخرة والخزائن القرآنية التي لم يخرج للملأ إلا جزء يسير من نورها وفيض قرآني يدعو إلى الإستنباط.
وبلحاظ عدد الحروف في كل بداية سورة تقسم إلى:
حرف واحد: ص، ق، ن.
حرفان: طه،طس، يس، حم.
ثلاثة حروف: ألم، ألر، طسم.
أربعة حروف: المص، المر.
خمسة حروف: كهيعص، حمعسق.
وقد وردت بعض النصوص تفيد أن إسم الله الأعظم في الحروف المقطعة لو أحسن الناس تأليفها، وهو المروي عن الإمام علي وإبن عباس.
وقيد حسن التأليف والجمع بينها دعوة للتحقيق والإستنتاج ومواصلة إستنطاق كنوز الحروف وما فيها من المضامين القدسية، وعن السدي والشعبي أن الحروف المقطعة هي إسم الله الأعظم.
ومنهم من جعل الحرف الواحد منها إسماً مثل، نون، و(ص) عين تنبع من تحت العرش.
وقد ورد عن إبن عباس أن الحروف المقطعة من أسماء الله تعالى وأقسام أقسم الله بها، لشرفها الذاتي ودلالتهاالمعنوية الدالة على عظيم قدرته، أو أن القسم جاء بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها وأن الكتب السماوية نزلت بها.
ولابد من التحقيق والتفضيل على ضوء ما لكل حرف من الحروف المقطعة من الخصوصية فقوله تعالى (ألم) ذكر أن الإلف إشارة إلى الله، واللام الى جبرئيل، والميم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
كما جاءت لتبكيت الكفار وإسكاتهم وإخبارهم بعجزهم عن الفهم والتحليل والإدراك، ويترشح على الحروف المقطعة ما في آيات القرآن من الإعجاز، فلقد كان العرب أهل فصاحة وبلاغة ووقفوا متحيرين مع آيات القرآن وبلاغتها فحينما يأتي بعضها على نحو الحروف المقطعة فان الجمع بين الأمرين يجعل الناس أكثر حيرة وذهولاً ولا ينظر إليها على نحو مستقل وبمعزل عن آيات القرآن الأخرى، وإن النظرة الشمولية الجامعة والقرائن المقالية والحالية جعلت العرب يتيهون في دهشة من هذه الحروف ويعلمون أنها تتضمن إشارات خفية ودلالات عقائدية وأسراراً غيبية بلحاظ ما يصاحبها من الآيات الإعجازية الأخرى.
ومن إعجاز القرآن الغايات المتداخلة والمتحدة في موضوعها المتباينة في جهة الخطاب.
لقد تواصى المشركون فيما بينهم بإثارة الصخب عند تلاوة النبي للقرآن وهو من الأذى الذي كان يلاقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأراد الله عز وجل إسكاتهم، وبث الحيرة في نفوسهم والإرباك في صفوفهم، بإنزال الحروف المقطعة.
هم يظنون أنهم بالصفير والتصفيق أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتوقف عن التلاوة، والناس يمتنعون من الإنصات له والتدبر بآيات القرآن والدلالات والعبر والأسرار القدسية التي تتضمنها، فشغل القرآن الكفار بأنفسهم وعجزوا عن تأويل نزول الحروف المقطعة، وخفف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليبقى القرآن عوناً وسلاحاً ومدداً لذاته وللنبوة وللمؤمنين وآياته إنذاراً وتحذيراً وتوبيخاً للكافرين والمشركين.
والحروف المقطعة من وجوه الفرق بين القرآن وغيره من الكتب السماوية السابقة، وتدل على الإرتقاء الفكري عند المسلمين بالتسليم بنزولها من عند الله تعالى، وبالتحقيق في أسرارها مع الإقرار الضمني بالعجز عن درك كنهها وإعتبارها كنزاً من كنوز التنزيل وسراً من أسرار القرآن، وعلماً مستقلاً بحاجة إلى تحليل رموزه وإكتشاف أنواره.
ومع مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة على نزول القرآن فلم يغلق المسلمون علم الحروف المقطعة ويقفوا عند العجز عن تأويلها، بل إن التحقيق والإستنتاج بخصوصها باق ومستمر وفي الوجوه التي ذكرت لها ثروة علمية ولعل الذي يأتي منها اكبر وأعظم.
وقال الشعبي ان الحروف المقطعة سر الله فلا تطلبوه)، ويرد قوله هذا بعمومات تبيان القرآن لكل شيء.
أما ما ورد عن أبي بكر أنه قال في كل كتاب سر وسر القرآن اوائل السور)( ) فانه لا يعني غلق باب العلم والعلمي في طلب ما فيها من العلوم والأسرار، ولكنه يدل بالدلالة التضمنية على عدم الوصول في التحقيق فيها الى حقيقتها وما فيها من العلوم الغيبية والمطالب الإلهية.
بسبب كونها سراً من أسرار الله تعالى، وقال إبن فارس في القول (ان لكل كتاب سراً، وسر القرآن فواتح السور : وأظن قائل ذلك أراد أنه من السر الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم وإختاره جماعة، ومنهم أبو حاتم بن حبان) ( ).
نعم لابد من جعل موضوعية للقواعد الشرعية والصيغ العلمية للتحقيق والإستنباط في الحروف المقطعة، وهي من المصاديق التي تثبت بطلان التفسير بالرأي، فلابد من دليل لتفسيرها وتأويلها، وقد تكون مستحدثات علمية ووقائع وأحداث مستقبلية تفسيراً وتأويلاً لهذه الحروف في أحوال الناس وتقلبات الزمان، وكما وردت آية ليس فيها إلا كلمة واحدة مثل [الرَّحْمَنُ]( )، [مُدْهَامَّتَانِ]( )، فإن البصريين عدوا الحروف المقطعة آيات من القرآن.
أما الكوفيون فعدوا بعضها آيات دون البعض الآخر، وإعتبر الواحدي (طه) وحدها آية دون غيرها من فواتح السور، مستدلاً بما تمتاز به وهو أنها تشاكل ما بعدها من رؤوس الآي بخلاف الحروف المقطعة الأخرى فانها لا تشاكل غيرها.
وأختلف في جعل الحروف المقطعة آيات من القرآن أو عدمه على أقوال:
الأول : عدم إعتبارها آيات مستقلة، وبه قال البصريون.
الثاني : التفصيل منها ما يكون آية ومنها ما لا يكون آية، وبه قال الكوفيون بإعتبار أن تقسيم الآي وتعيين رؤوسها علم توقيفي نتعبد به لا يصح القياس به، فتكون (الم) آية في السور ألست التي أفتتحت بها، البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة.
أما (المر) فليس بآية وكذا (الر) في السور الخمس التي تفتتح بها وهي سورة إبراهيم، الحجر، يونس، هود، يوسف و(حم) آية في سورها الخمس الدخان، غافر، فصلت، الزخرف، الجاثية.
و(حم، عسق) ، آيتان من سورة الشورى، وكهيعص آية واحدة من سورة مريم.
و(ق) في سورة ق و(ن) من سورة القلم لا تعتبر كل منهما آية( ) وكأنهم جعلوا ما كان كلمة واحدة آية، وليس الحرف الواحد.
وذكر(أن البصريين لم يعدوا شيئاً منها آية) ( ).
الثالث : أما الوقف فالأولى الوقوف عند كل من الحروف المقطعة وقف تمام لحملها على معنى مستقل ولموضوعيتها ولعدم ثبوت حاجتها إلى ما بعدها.
والحروف المقطعة وردت كلها في السور المدنية إلا إفتتاح سورة البقرة وآل عمران فانهما مدنيتان، وتتصف الآيات المكية بلغة الإنذار والوعيد في الغالب لتحذير الكفار مما يتفق مع القول بأن الحروف المقطعة جاءت للتحدي ومفاجئة أهل الفصاحة والبلاغة وتكبيتهم ومنعهم من الصفير والتصفيق والمكابرة ولزيادة الإلتفات، فيدرك الناس بعدها أن آيات القرآن قريبة من الطباع، ومقبولة عند الأسماع، وفيها إشارات ودلالات تنبه الأذهان.
وفي التلاوة تقرأ أسماء تلك الحروف وليس التلفظ والتهجي بها، وإعتبرت أسماء معربة وسكنت للوقف وليس للبناء مثل وقف أين وكيف.
قال سيبويه: سأل الخليل يوماً أصحابه: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا الكاف التي في لك، والباء التي في ضرب؟ فقيل: نقول يا كاف، فقال: إنما جئتم بالإسم ولم تلفظوا بالحرف، وقال أقول: كه به)( ) أي سألهم كيف ينطقون، وإستشهد الزمخشري على جواز الإعراب في بعض منها مما يجز اعرابه وحكايته قول الشاعر:
يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم( ).
ولكنه أجنبي عن المقام بلحاظ الواقعة والشاهد.
فهذا البيت قاله شريح بن أوفى العنسي عندما قتل محمد بن طلحة بن عبيدالله القرشي في يوم الجمل،وكان أبوه قد أمره أن يتقدم إلى القتال فنثل درعه بين رجليه، وكلما حمل عليه رجل من أصحاب الإمام علي قال له أنشتدك بحاميم، فحمل عليه شريح فقتله وأنشأ:
وأشعث قوام بآيات ربه قلـــــــيل الكرى فيما ترى العين مسلم
شككت له بالرمح جيب قميصه فخـــر صريعاً لليدين وللفم
على غير شئ غير أن ليس تابعـــاً علياً ومن لايتبع الحق يظلم
يذكرني حاميم والرمح شــــاجر فهلا تلا حاميم قبل التقــــدم
وكان محمد بن طلحة يسمى السجاد، والظاهر انه كان يذكرهم بقوله تعالى[قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى]( )،ويحتمل التذكير أمورا:
الأول: أنه من قرابة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأن أباه طلحة بن عبيد الله يلتقى مع النبي بالجد السابع، وأن محمداً بن طلحة يعتبر نفسه من القرابة الذين أمر الله بمودتهم مما يعني بالأولوية القطعية عدم التعدي عليهم وقتلهم.
ولذوي القربى منزلة وإكرام وشأن خاص.
الثاني: كان شعار حزب الحق في يوم الجمل (حم) لآية المودة، وأن محمداً بن طلحة أراد التوكيد بأنه ليس من المخالفين وأنه يتوسل بأهل البيت أن يتجنبه المقاتلون.
الثالث: الأمران معاً، أنه من ذوي القربى وأنه ليس محارباً لعلي وأهل بيت النبوة.
ويروى أن علياً لما راه بين القتلى إسترجع وقال: إن كان لشاباً صالحاً، وذكر الشاعر (حاميم) أعم من إرادة فاتحة السورة ويحتمل إرادته إسم سورة الشورى وكان متعارفاً أن السورة تسمى بأولها والمراد هو آية المودة وإفادة المعنى.
وإلى جانب إستفتاح السور القرآنية بالثناء على الله وبالتنزيه لمقام الربوبية وبالحروف المقطعة جاء إستفتاح السور القرآنية بوجوه أخرى وهي:
الوجه الثاني : الإستفتاح بالنداء، وهو إستفتاح مبارك فيه دعوة وحث على الإلتفات والإنصات، كما أنه يطرق الأسماع ويمنع من ضلالة الأفهام، والنداء فى بدايات السور على جهات:
الأول: الخطاب الموجه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نحو خاص، وهو إنحلالي موجه إلى أفراد الأمة على مختلف أجيالها وهو أكثرها مما يدل على عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسؤوليات الجسام التي يقوم بها في تبليغ الأمة وصيغ الإنذار والبشارة ومواصلة الجهاد في سبيل الله تعالى. فسورة المدثر مثلاً من أوائل السور التي أنزلت على النبي محمد وفاتحتها [يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ] بالإضافة إلى إشتراك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المؤمنين والمسلمين في عموم الخطابات الموجهة لهم.
وعدد السور التي أفتتحت بالنداء عشرة، خمسة منها خطابات موجهة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما ورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ] في بداية ثلاث سور هي الأحزاب[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا]( )، والطلاق [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ] ( )، والتحريم [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ]( ) وتتعلق بالجهاد، وفي سبيل الله تعالى، وفي بيان أحكام التشريع، وورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
الثانية : الخطاب بلغة الإيمان وهو خاص بالمسلمين الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويشمل الضلال والفساق والمقصرين في أداء الفرائض لأن المراد بالإيمان هنا المعنى الأعم الذي يميز المسلم عن غيره بالنطق بالشهادتين، وليس المعنى الإصطلاحي للإيمان وهو الإقرار بالجنان والتصديق بالقلب وإن كان يشمله ضمناً، وأفتتحت سورة المائدة بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]( )، وسورة الحجرات [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ]( )، وسورة الممتحنة[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ]( )، ومع ورود [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في القرآن تسعاً وثمانين مرة فان ثلاثة منها في إفتتاح السور وهي نسبة ليست قليلة، ويتكرر النداء في بداية ثلاث سور من أصل مائة وأربع عشرة سورة مجموع سور القرآن، مع أن آيات القرآن تبلغ 6236 آية.
وكذا يمكن ملاحظة هذه النسبة بالأولوية بالنسبة للخطابات الموجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : ورود لفظ الخطاب بصفة الناس وهو يفيد العموم، وقد ورد مرتين [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( )، وقوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ]( ).
وفي قوله تعالى [خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( )، إشارة إلى عموم الخلق والإلتقاء العام لبني آدم في إتحاد الأبوة والأمومة وهو دعوة لنبذ الإقتتال وحصول القتل في ذرية آدم الصلبية،وقتل قابيل هابيل لم يمنع القرآن من الوصية والدعوة إلى لحاظ موضوعية وحدة الناس بين عموم بني آدم، لأن ذلك القتل مناسبة للإتعاظ والإعتبار.
الثالث : الإستفتاح بالخبر : المعروف في اللغة أن الجملة تنقسم إلى قسمين جملة خبرية وجملة إنشائية، والجملة الخبرية أمر يستوعب الوقائع ولأحداث, و خطاب لأولي الألباب و تقرير مقبول عند الأسماع تدركه العقول للتحليل و الإستنباط و يفتح للذهن آفاقاً بحسب الحال.
وقد تأتي الجملة الخبرية لتؤدي وظائف الإنشاء وقيل أنها أبلغ من الإنشائية, وربما يكون هذا القول صحيحاً في بعض المواضع, وإلا فإن الإنشائية أكثر بياناًًًَ وأكثر سور القرآن جاءت مفتتحة بالخبر مثل قوله تعالى [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ] ( )، و[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
الرابع : بدء السورة بالقسم : القسم هو اليمين يقال قسم أي حلفت ويتم القسم بجملتين , الاولى جملة الشرط, و الثانية جواب القسم و كما في قولك أقسم بالله لأحجن، و يجوز حذف فعل القسم إذا كان المقسم به مسبوقاًَ بحروف القسم الباء و التاء والواو كقوله تعالى [قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا] ( ).
وهو علم شريف عند المسلمين ولهذه الآيات موقع ومنزلة في قلب كل مسلم و مسلمة لما يدل عليه القسم من الإقرار بجلالة المقسم به وأهمية الموضوع.
وتفضل الله تعالى بالقسم و مجموع السور التي افتتحت بالقسم خمس عشرة سورة مكية لإتصاف لغة السور المكية بالإنذار والوعيد وهي:
الأول : الذاريات
الثاني : البروج
الثالث : العاديات
الرابع : الفجر .
الخامس : الشمس .
السادس : الليل .
السابع : النجم .
الثامن : الطور.
التاسع : التين .
العاشر : المرسلات .
الحادي عشر : الصافات .
الثاني عشر : الضحى.
الثالث عشر : الطارق .
الرابع عشر : النازعات .
الخامس عشر : العصر.
فلغة القسم في الآيات لغة تخويف وتحذير للكافرين، وهي في مفهومها دعوة لدخول الإسلام، وإخبار عن تمادي الكفار في الضلالة وضرورة الكف عن الغي والتدارك والرجوع إلى الرشد والهداية بدخول الإسلام وأداء الفرائض.
لقد واجه الكفار والمشركون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام بالصدود والكيد.
وتحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة أشد أنواع البلاء وهم صابرون محتسبون ولم يتعد عددهم بضع عشرات الأمر الذي يدل على الجفاء الذي أظهره المشركون، فجاء هذا العدد المبارك من السور مفتتحاً بالقسم تخويفاً وإشارة إلى إحاطته تعالى علماً بما يعانيه المسلمون وأن الله عز وجل لا تخفى عليه خافية، ومتى ما أدرك الإنسان مطلقاً مسلماً أو كافراً أن الله يعلم ما يفعل فإن النفس اللوامة تنشط عنده بإتجاه ردعه عن فعل السيئات، لذا قال تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] ( )
الخامس : بدء السورة بالشرط: الشرط في الإصطلاح النحوي ما يقتضي وجود جملتين، لا يتم المعنى إلا بهما وتتعلق الثانية بالأولى معنى ودلالة لذا تسمى الأولى جملة الشرط والثانية جواب الشرط أو جزاءه، لأن الرابطة بينهما السببية أو عدمها.
بمعنى أن الصلة بين الجملتين تارة تكون السببية” مثل صم إذا رأيت الهلال” وأخرى تقوم بنفي السببية بينهما مثل “إذا لم تغب الشمس لا تصل” وأخرى بغير رابطة السببية، وقد تحذف جملة الشرط والجواب معاً مع وجود القرائن المقالية الدالة عليهما كما في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من إستجمر فليوتر، من فعل فقد احسن، ومن لا فلا حرج)( ) أي ومن لا يفعل فلا حسن منه.
وكقول رؤبة:
قالت بنات العم: يا سلمى وان كان فقيراً معدماً قالت وان( ).
التقدير: وان كان فقيراً اتزوجه.
وإذ يحتاج كل من الشرط والقسم إلى جواب فإنهما إذا إجتمعا في كلام فلا يكون لكل واحد منهما جواب مستقل بل يأتي جواب واحد أما للشرط أو القسم أو بلحاظ السابق منهما.
السادس : الإستفتاح بالأمر: وهو لغة قرآنية كريمة يتفضل سبحانه فيأمر النبي ومن خلاله الأمة على مختلف أجيالها، وقد ورد الأمر بقل في خمس سور، “قل أوحي”( ) “قل يا ايها الكافرون”( )، “قل هو الله”( )، “قل اعوذ”( ) في سورتين وورد الأمر في اول سورة العلق اقرأ باسم ربك الذي خلق.
السابع : الإستفتاح بالإستفهام: وهو صيغة قرآنية إنشائية للبعث على التساؤل والإستفهام والحث على التحقيق والإلتفات إلى موضوع السؤال والإنشغال به، وإسم الإستفهام في الإصطلاح إسم مبهم يستعلم به عن شيء، وجاء الإستفهام في أول السور في ست سور منها مرتان بلفظ (هل)، وهو حرف موضوع لطلب التصديق الإيجابي دون التصور والتصديق السلبي.
والتصور هو السؤال عن الشيءبلحاظ المكان أو الزمان أو الذات، أما التصديق فهو السؤال عن الحدث، وأدوات الإستفهام كلها للتصور [اَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا] ( ) [مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] ( ) [وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ] ( ) أما التصديق فتختص به(هل) مثل هل قرأت القرآن، وقد تستعمل الهمزة للتصديق أيضاً.
فلا يقال: هل اليوم صمت، لأنه حينئذ سؤال عن موضوع الصيام وليس عن ذات الصيام بل يقال هل صمت اليوم، ولا تدخل على الشرط ولا على إن ولا على إسم بعده فعل.
فيقال: هل هلَّ الهلال.
ولا يقال: هل الهلال هلَّ , أو هل ان الهلال هلَّ.
وقد تأتي بمعنى حرف التحقيق (قد) وبه فسر بعضهم ما افتتحت به سورة الدهر[هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْر]، وجاء الإستفتاح بهل مرة أخرى وهي [هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ]( )، وجاء الإستفهام بالهمزة ثلاث مرات [أَلَمْ نَشْرَحْ] ( )[أَلَمْ تَرَى]( ) [أَرَأَيْتَ]( )
وجاءت الهمزة في الإنشراح للتعجب وبعث الشوق إلى معرفة حديث الغاشية أي يوم القيامة لأنها تتغشى الخلائق، ومنهم من جعلها بمنزلة قد أي قد أتاك حديث الغاشية وجعلها إبن خالويه مطردة في كل مورد في القرآن ذكر فيه (قد أتاك).
والمعنى الأول أعم ويتضمن الوعد والوعيد، والبشارة والإنذار، الوعد والبشارة للمؤمنين، والوعيد والإنذار للكافرين والمشركين.
أما في الإنشراح فجاءت الهمزة للإستفهام التقريري وفيها إخبار عن شرح صدر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالإيمان ومفاهيم النبوة وفضل الله تعالى على الأمة ودعوة الناس للتصديق برسالته.
وجاءت (ما) للإستفهام الحقيقي وتفخيم الشأن.
وعما مركب من حرف الجر (عن) وإسم الإستفهام (ما) وهو مجرور بعن، وحذف ألف ما لدخول حرف الجر عليها وقد يثبت عند الضرورة او في الشعر كما في قول حسان بن ثابت:
على ما قامَ يشتمني لئيمٌ كخنزيرٍ تمرغَ في رمادِ( )
الإستفتاح بالدعاء: الدعاء جعل وصلة بين العبد وخالقه فتنعدم فيه الواسطة طوعاً وقهراً، وهو من إفاضات الروح التي نفخها الله عز جل في آدم فأصبح الإنسان يلجأ إلى الباري عز وجل في حالات الرخاء والشدة للإدراك الفطري بأن الدعاء سلاح الأنبياء.
وقد أفتتحت ثلاث سور بالدعاء ولغة الإنذار وهي [ ويل للمطففين] ( ) و[ويل لكل همزة لمزة] ( ) [ تبت يدا ابي لهب] ( ) وفي الصناعة النحوية، (بل) جاء مبتدأ لأنه دعاء .وللمطففين: خبر، وفي كل كلمة وموضوع من مواضيع علوم القرآن آية ومدرسة ومدخل لعلم مستنبط وإشراقة عقائدية مباركة.
الأوراق البالية في المصحف
قد تتعرض أوراق المصحف الذي تمر على كتابته وطبعه السنون الكثيرة إلى التلف ويصبح غير صالح للتداول والقراءة، وقد يؤتى بنسخة جديدة في إستعمالها تسهيلاً وتيسيراً للقراءة وضبط لأحكامها، ففي هذه الحالة لا يلحق المصحف الأول بالبالي، بل ينظر للإنتفاع منه بإهدائه إلى شخص آخر يقرأ فيه أو يرسل به الى المسجد.
وما أصبح بالياً من المصاحف لا يجوز تمزيقه أو إهماله ولا يجوز حرقه، وما روي أن عثمان بن عفان حرق المصاحف لا يصلح ان يكون دليلاً للحرق لأنه قضية في واقعة وللتباين الموضوعي.
فالمطلوب هنا ليس التغييب والإخفاء والمنع من ظهور المصحف بل هو المنع من إبقاء أوراق المصحف عرضة للسقوط في الأرض والوطأ لذا فان تعطيل ورقه يكون على وجوه:
الأول : غسل الأوراق ومحو الكتابة عنها، ومنهم من إحترز من الغسل بسبب وقوع الغسالة على الأرض، وهو لا يمنع من صحة الغسل مع الإحتراز في موضوع الغسالة، كما أن الأفعال لا تؤخذ بالدقة العقلية.
الثاني : دفن الأوراق البالية من المصحف، وهو أمر حسن لما فيه من الإحترام والحفظ والمنع من التلوث والوطأ بالأقدام.
الثالث : وضعه في شق من الجدار ونحوه ولا بأس به اذا كان رقعة او قصاصة واوراقاً قليلة ويأمن من سرعة سقوطها او سقوط الجدار.
الرابع : القاؤه في النهر والماء الجاري.
الخامس : تزداد نسخ المصحف في هذا الزمان باعداد كثيرة والتلف يصيب بعضها بلحاظ القراءة والإستعمال، والدفن لا يخلو من مشقة وحرج خصوصاً بالنسبة لأهل المدن والأمصار، كما ان الإلقاء في الماء الجاري قد لا يتيسر لشطر من الناس، فكثير من المدن لا تقع على نهر، وكثرة الإلقاء في النهر قد تواجه بقواعد حفظ البيئة وصلاحية الماء للشرب ونحوه، ولا يؤدي الدفن والإلقاء في الماء الا الى تلف الورق بصيغة الإحترام.
وفي هذا الزمان زمن المصانع واعادة التصنيع يمكن تنظيم كيفية لجمع الأوراق البالية من المصاحف والكتب الخاصة بالقرآن ومنها الكتب المدرسية ونحوها لإرجاعها الى المعامل واعادة تصنيع الورق وجعله ورقاً للمصاحف الجديدة، فيجمع بين احترام اوراق المصحف وعدم تضييع الأموال واعادة الطبع والنشر والنفع.
ويلزم طهارة ورق المصحف ولابد ان يكون ورقه طاهراً ولا يجوز كتابة الكلمات بنجس او متنجس , وفيه مسائل:
الأولى: تجب ازالة النجاسة عن ورق المصحف وخطه وجلده وغلافه ويحرم مس خطه او ورقه بالعضو المتنجس.
الثانية: لا يجوز تمكين الكافر من القرآن، وان كان في يده يجب اخذه منه مع الامكان وصدق عنوان الهتك او التنجيس.
الثالثة: وجوب تطهير المصحف لا ينحصر بمن نجسه او بمالكه الذي نجسه، وكذا المال الذي يتوقف عليه تطهيره.
الرابعة: من نجس مصحف الغير فهو ضامن لنقصه وما استلزم من صرف المال لتطهيره.
الخامسة: يجوز تطهير القرآن الذي يعود للغير وان لم يأذن صاحبه او تعذر اذنه لما في تركه من الهتك ولعدم انحصار وجوب التطهير بالمالك.
السادسة: لا فرق في حكم القرآن سواء كان كله او بعضه ولو آية منه، مكتوباً على الورق او الحجر او الخشب ونحوه.
السابعة: ترجمة القرآن لا يلحقها حكم وجوب التطهير ولكنه الأحوط إستحباباً( ).
القراءة في المصحف
قراءة القرآن من الوظائف العامة للمسلمين ومن اشرف الأعمال وهي صلة اختيارية بين العبد وخالقه وسياحة في عالم الملكوت وجلاء وإنارة للمسالك، وكشف لظلمات الشك والتردد بمصباح الإستبصار، ونزهة في رياض الجنان وهروب من عذاب النيران، وفيه سكينة للنفس، وإذا كان إبراهيم  سأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى [قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي]( ).
فان   أنعم على المسلمين وجعل قراءة القرآن طمأنينة للقلوب، وسكينة للنفوس، قال تعالى [ وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
فالقرآن مائدة السماء في الأرض، ومن خصائص هذه المائدة أنها معروضة بالليل والنهار، وللكبير والصغير أن ينهل ويأخذ منها ويتزود من علومها ويدخر منها للنشأة الآخرة وعالم الحساب.
وقراءة القرآن مطلوبة بذاتها لما فيها من الأجر والفعل العبادي، ومطلوبة لغيرها لأنها وسيلة التدبر والإعتبار وفيها تعظيم لشعائر ، وقد ورد قوله تعالى [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ]( ) في إشارة ودلالة على أمور:
الأول : التأني في قراءة القرآن.
الثاني : التدبر في معاني كلماته.
الثالث : إبانة حروف كلمات القرآن وتفخيم ألفاظه.
الرابع : الإفصاح عن كلماته , قال تعالى[وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ]( ).
الخامس : بيان مقاصد الكلمات والآيات بصورة تكون واضحة عند السامع وبما يؤدي إلى الفهم العام للقارئ والمستمع.
والترتيل وحسن قراءة القرآن دعوة للإنصات ووسيلة لإختراق آيات القرآن لشغاف القلوب.
والترتيل ليس على رتبة واحدة ولكن له حدان بحيث لا يخرج إلى التمديد والتمطيط من جهة المد.
وإدغام حرف في حرف وعدم السكوت والوقوف في مواضعه، ويمكن أن يبين ألفاظ التعظيم بصيغة التفخيم، وإظهار حال الإستبشار والفرح عند المرور بآية فيها رحمة وذكر للجنة، وإظهار حال الخوف والخشوع والخشية عند المرور بآية فيها ذكر للنار أو إخبار عن العذاب.
والترتيل مقدمة ومناسبة للتفكر في معاني القرآن والإنقطاع إلى مفاهيمه القدسية وكأنه دراسة مختصرة لمضامينه وهو وسيلة لرسوخ ألفاظ الآيات في الذهن، بالإضافة إلى كونه مادة للإنصراف عن الدنيا وهمومها وتنقية للنفس.
وفيه عز ورفعة للقارئ ويبعث الهيبة في نفوس الآخرين لما للقرآن من خصوصية بإفاضة البركة والوقار على قارئه، وقد يتلكأ الإنسان بالقراءة او لا يتقن قراءة بعض كلمات القرآن وحركتها فيلجأ إلى السؤال والتعلم وإحراز القراءة الصحيحة، الأقرب فالأقرب من جهة الوقت والمناسبة، وسيدرك أن تعلم قراءة كلمة يكون عوناً له على معرفة وإتقان كلمات كثيرة في القرآن مشابهة لها أو قريبة منها، وسيخلصه السؤال بعد القراءة من الحرج والأذى ويكون فرصة لنيل تمام ثواب القراءة وتعاهد التلاوة الصحيحة، فالمطلوب ليس التلاوة فقط، بل صحة وسلامة التلاوة ونطق الحروف والكلمات.
قال تعالى[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ]( )، لبيان أن التدبر في معاني القرآن من غايات نزوله، وفيه دعوة للمسلمين والناس جميعاً للتفكر في آياته، والتأمل فيها بما يؤدي إلى إدراك مضامينها، ومعرفة التأويل الصحيح والمعنى الحسن له، ووصف القرآن في المقام بأنه مبارك شاهد بأن القرآن ذاته عون في التدبر بآياته، ويسهل للطالب بلوغ مقاصده في الغوص في خزائن كنوزه.
وفي التلاوة مسائل:
الأولى : إنها التلاوة مناسبة لإستحضار القارئ الظلامات والغيبة وما فعله الآخرين وما لحقهم منه من الضرر للتدارك والإستغفار وإعادة الحقوق إلى أهلها.
الثانية: التلاوة واقية من التعدي على الناس وإنشغال عن مثل هذا التعدي فلا يجد له مكاناً فيما يهم بفعله ويقصد إتيانه.
الثالثة: التلاوة ملكة الخوف والرجاء في النفس.
الرابعة: تعمل على إيجاد التساوي الحسن بينهما.
الخامسة: سواء التلاوة كانت في المصحف أو عن ظهر قلب فهي مناجاة للباري  وإمتلاء للجوانح والأركان بكلامه.
السادسة: عروج في عالم السماوات، وقصص الأمم السالفة.
السابعة: فيها إنتقال كريم للروح في عالم الآخرة بسلاح وحرز آيات القرآن.
الثامنة: التلاوة مقدمة لنيل شفاعة القرآن يوم القيامة، وعن الإمام الصادق : “لقد تجلى  لخلقه بكلامه” ولكنهم لا يبصرون( ).
وتفتح التلاوة آفاق الأخوة بين المسلمين وتقوي الصلات بينهم أفراداً وجماعات وشعوباً، لتبقى منهجاً وحصناً ودرساً وتركة يتوارثونها في مساجدهم ودورهم ومدارسهم.
وتكره قراءة القرآن من غير تدبر، لما فيه من تفويت لأعظم منافع القراءة الخاصة والعامة.
وفي حديث أبي وائل قال ” جاء رجل إلي ابن مسعود فقال قرأت المفصل الليلة في ركعة فقال ابن مسعود: هذي كهذي الشعر”( ) أي أنك تسرع به كما تسرع في الشعر، ولكن قراءة المفصل في ليلة واحدة لا تتعارض مع قواعد التلاوة خصوصاً وانه وردت بعض الأخبار بختم القرآن في ثلاث.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “لاَ يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ”( ).
ولعل قول إبن عباس راجع إلى خصوصية عند الرجل أو أنه لم يقرأه إلا بوقت قصير من الليلة، وأستدل بما روي عن أبي العالية قال: تعلموا القرآن خمس آيات، خمس آيات، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأخذه من جبرئيل  خمساً خمساً)( ).
لكن التعلم غير التلاوة وان كانت بتدبر إذ يحتاج التعلم البيان والتفسير.
وتعلم القرآن واجب وجوباً كفائياً بمعنى أن قيام بعضهم بتعليمه وتعلمه يسقطه عن الآخرين، وكذا بالنسبة لحفظ القرآن فهو واجب كفائي على الأمة فيجب أن يقوم نفر بحفظه وإلا فإن الجميع يؤثمون.
وحفظ القرآن من وسائل تعاهده ومنع طرو التحريف والتبديل عليه، وفي هذا الزمان وإنتشار ملايين النسخ من المصحف الشريف، وتعدد وسائل الحفظ بسبب الثورة المعلوماتية وأجهزة الحاسوب هل يسقط وجوب الحفظ الكفائي عن الأمة، الجواب لا لوجوه:
الأول: إنه من أضمن الوسائل للحفظ والتوثيق وللسنة.
الثاني: إنه شاهد على إكرام المسلمين للقرآن.
الثالث: ما في الحفظ عن ظهر قلب من الثواب العظيم للحافظ ووالديه ومعلمه.
الرابع: إن كثرة حفاظ القرآن في البلدة او القرية أمارة على الصلاح والعلم والفطنة والتقوى والعناية العامة بالقرآن وآياته.
الخامس: حفظ القرآن واقية للنفس من الكدورات الظلمانية، وأسباب الحسد ونخوة من الأخلاق المذمومة.
السادس: ورود النصوص والأخبار التي تحث على حفظ القرآن منه، قيل(من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه، غير أنه لا يوحى إليه)( ).
السابع : حفظ الآيات والسور عون للمسلم في الصلاة، وإختيار المناسب في القراءة.
الثامن: الثواب العظيم في الآخرة على حفظ القرآن.
ومن مقومات تلاوة القرآن الإدمان عليها وتعاهد القراءة على نحو يومي بتخصيص تلاوة ورد وعدد من الآيات أو حزب ومقدار مخصوص كل يوم للمحافظة على الصلة مع القرآن ومحاربة النسيان كموضوع يحل بساحة الإنسان وإجتناب تفصي الآيات وغيابها عن الحافظة.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: تعاهدوا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقالها( ).
وسواء كانت القراءة في المصحف أم على ظهر قلب فانها باب للثواب والأجر ويصدق على كل منهما أنها قراءة للقرآن، ولكن أيهما أفضل، فيه وجوه:
الأول:القراءة في المصحف هي الأفضل، خصوصاً أن النظر في المصحف عبادة.
الثاني: القراءة على ظهر قلب.
الثالث: كلاهما بمرتبة واحدة.
الرابع: بحسب شأن القارئ من جهة حفظه وتدبره وتفكره أيهما أصلح وأنفع له في المصحف او بدونه.
الخامس: الأفضلية بحسب الحال والمناسبة، فمثلاً ساعة العمل تكون القراءة على ظهر قلب هي الأفضل لنفي الحرج وقاعدة لا ضرر ولا ضرار وللجمع بين العمل والقراءة حسب الإمكان، وفي المسجد في المصحف هي الأفضل.
ومن العلماء من جعل المدار في الأفضلية على الخشوع، فأي من الحالتين يصاحبها الخشوع فهي الأفضل.
ومع التساوي في مرتبة الخشوع فالقراءة في المصحف هي الأفضل، ومنهم من قال أن الرجوع إلى المصحف أثبت من أفواه الرجال.
والقراءة خير محض، وفي كل منهما منافع عظيمة، والوجه الأول أعلاه هو الأفضل والأكثر أجراً أي القراءة في المصحف لوجوه:
الأول: للجمع بين القراءة والنظر الى المصحف، وفي بعض النصوص روى ابو داود بسنده عن عائشة مرفوعاً: النظر الى الكعبة عبادة، والنظر الى وجه الوالدين عبادة، والنظر الى المصحف عبادة( ).
الثاني: إنه وسيلة لتعاهد المصحف وعدم تركه مهجوراً، ووردت نصوص تفيد ان المصحف المهجور يشكو إلى   فمفهومها ان المصحف الذي يقرأ به يدعو لصاحبه ويكون سبباً لنزول الخير والبركة.
الثالث: وردت الأخبار عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بإستحباب القراءة في المصحف ومضاعفة الثواب فيها، وقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: قراءة الرجل في غير المصحف ألف درجة، وقراءته في المصحف تضاعف على ذلك إلى الفي درجة، وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم في فضائل القرآن: فضل القرآن نظراً على من قرأ ظاهراً كفضل الفريضة على النافلة( ).
وهذه النصوص دليل كافِ لرجحان القراءة في المصحف مع الإقرار بإستنباط المسائل الخاصة بمنافع ورجحان القراءة في المصحف من جهة:
أولاً : التدبر والتفكر.
ثانياً : الحفظ.
ثالثاً : الإلتفات وعدم شرود الذهن.
رابعاً : الإنقطاع إلى القرآن وعدم إنشغال البال بما حوله وبما يؤثر على توجهه.
خامساً : تعاهد الآيات القرآنية في الذاكرة وعدم طرو النسيان عليها لأن القراءة في المصحف تجديد للدراسة والحفظ وتوثيق لما في الحافظة ومنع من الغفلة والسهو عن بعض الكلمات.
الرابع: القراءة في المصحف جلاء للبصر ومناسبة لمضاعفة الأجر وإمتلاء للنفس بالفخر والإعتزاز بدوام صلة الحواس مع كلام   بالنظر إلى القرآن وآياته.
الخامس: فيه تعظيم لشعائر  ودعوة للآخرين للعناية بالقرآن قراءة وعملاً ومنهاجاً، فقد تقرأ القرآن فيلتفت غيرك إلى وظيفته في قراءة القرآن وتتحبب إلى نفسه القراءة، أو يمتلأ قلبه بالإيمان ويتجه صوب فعل الخيرات، ويحرص على إجتناب السيئات.
وكم من مسلم دخل المسجد للصلاة، فرأى نفراً يجلسون يتدارسون القرآن فيجلس في حلقتهم، أو يراهم يقرأون القرآن فراداً فيأخذ مصحفاً ليقرأ هو الآخر، أو يتجه إلى قراءته على ظهر قلب محاكاة وتقليداً لهم، وحرصاً على عدم تضييع الأجر والثواب العظيم.
السادس: القراءة في المصحف وسيلة مباركة لزيادة وكثرة المصاحف وإنتشارها بمئات الملايين في أنحاء العالم، وهو نوع تشريف وتوثيق وحفظ لكتاب  ورواج وإنتشار لكلام  عز وجل.
السابع: إنه وسيلة للتعلم وإتقان العربية والإلتفات إلى علامات الوقف اللازم والجائز، والتدبر بتقسيم القرآن إلى سور وآيات، والتدبر وإستنباط المسائل عند فواتح ورؤوس الآيات.
الثامن: في القراءة في المصحف في البيت تأديب للعيال وإرشاد لهم ودعوة لتوارث هذه العادة المباركة والفعل العبادي وتعاهد المحافظة على الصلة مع المصحف بقراءته في البيت، هذا مع ملاحظة الحال والمناسبة فقد يكون المسلم في حال تكون القراءة فيه على ظهر قلب هي الأفضل كمن يكون في السوق وهو في معرض البيع والشراء والحاجة إلى المعاملة.
إشارات في عالم التفسير
التفسير هو الكشف والإبانة، وتفسير القرآن لا ينحصر بالمعنى اللغوي للكلمة بل هو أعم فيشمل المعنى والقصد والمراد والتأويل وإستنباط الدروس والعبر وإستخراج الكنوز والدرر المنثورة في ظاهر آيات القرآن وبين طياتها وفي كلماتها وحروفها مما يكون دليلها معها ولا يحتاج إلا إلى كشف الغطاء وإزالة الموانع والجمع بين القرائن ودراسة السياق، وأسباب النزول والتفصيل إلى المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد، والعام والخاص.
ومن علوم التفسير إظهار بديع القرآن وما فيه من وجوه البلاغة والنحو والصرف وذخائر العلوم، ونحتاج علم التفسير في زمن الثورة المعلوماتية والصناعية للدراسات المقارنة بينها وبين علوم القرآن ولبيان أمرين:
الأول: الربط بين الإكتشافات العلمية الحديثة وما موجود من الآيات والدلائل العلمية في القرآن بعدة مصاديق وأفراد علمية كما في الصعود إلى الفضاء والإخبار الضمني في قوله تعالى [يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ]( ).
وجاءت الآية بالخطاب لمعاشر الجن والإنس وكأن فيه إشارة إلى التعاون العلمي والتقني الدولي في الصعود إلى الفضاء وأن الإنسان وحده لا يستطيعه كما ان الآية خاطبت الناس بلفظ الإنس، وهذه الآية هي الوحيدة التي جاء فيها الخطاب بلفظ (الإنس) ولم يأت بمفرده بل جاء بالإشتراك مع الجن، ولم يأت بلفظ الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو]أو الناس[يَاأَيُّهَا النَّاسُ].
ومع هذا فقد تحدى القرآن معاشر الجن والإنس بأن يأتوا بمثل القرآن، قال تعالى [فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ]( ) مما يعني رفعة علم التفسير ومستلزماته وضرورة إشتراك مؤسسات متخصصة لعلوم التفسير والعناية به، وبالمصنفات والرسائل الخاصة به، وقد مرّ على نزول القرآن أكثر من ألف وأربعمائة سنة وعلم التفسير لا يزال في بداياته ومراحله الأولى لم يكشف عن معشار علوم القرآن الذي جعل الله عز وجل فيه تبيان كل شيء.
الثاني: إستخراج الآيات القرآنية التي فيها إشارات إلى إكتشافات علمية ومنافع للناس في ميادين الطب والزراعة والصناعة والإقتصاد وتدبير شؤون السياسة والقضاء وغيرها، والإخبار عن إمكان الإرتقاء في هذه الميادين بتوظيف العلوم الحديثة لتحقيق ما يشير إليه القرآن لتثبيت الجانب الغيبي للقرآن وإخباره عن علوم الغيب، وفيه تصديق للمغيبات التي أخبر عنها القرآن من قصص الأمم السالفة ومما لازم التنزيل وما سيأتي في المستقبل.
فحينما يرد قوله تعالى [وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ]( ) ورد أن عمر إبراهيم كان نحو مائة سنة , وعن إبن عباس في قوله تعالى[فَضَحِكَتْ] قال : فحاضت وهي بنت ثمان وتسعين سنة)( )، وهذه البشارة جاءت بآية إعجازية إلا أنها إشارة للعلم الحديث والإنجاب عن كبر وتقدم في السن خصوصاً وأن الله عز وجل إذا أنعم نعمة على أهل الأرض فانه أكرم من أن يرفعها، وبالنعمة الخاصة قد تبقى معلقة بإنتظار وجود أهل أو مستحق له أو الوصول إليها بالعلم وإكتشاف الأسباب لتكون مناسبة للدعاء والنفع العام والشكر لله تعالى وكذا بالنسبة لمريم وقوله تعالى [كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا]( ) فإنه إشارة وبشارة للزراعة المغطاة ووسائل الحفظ ونقل المواد الغذائية بين أقطار العالم والبلدان المتباعدة، وغيره من أسباب تصنيع وتعليب المواد الغذائية ووسائل القضاء على المجاعة والأزمات والفقر، وهو من عمومات قوله تعالى[نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ]( ).
ولا ينحصر الأمر بالتفسير ورجاله ومؤسساته بل إنه يقتضي العناية النوعية العامة من الأمة بعلوم القرآن وما يستحدث منها وطرح الشاذ والمخالف لظاهر الكتاب العزيز وما جاءت به السنة النبوية الشريفة.
ولم يرد لفظ التفسير في القرآن إلا مرة واحدة بقوله تعالى [وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا]( )، وعن إبن عباس أي تفصيلاً وتفسير القرآن علم متشعب وتوليدي تتفرع عنه علوم كثيرة، وكل علم ينشطر إلى علوم متعددة بحسب اللحاظ والجهة والموضوع، وقد تقدم في الجزء السادس بيان النهي عن التفسير بالرأي.
وفيه التفسير بيان لوجوه الإلتقاء والإفتراق بين الألفاظ.
والوجوه والنظائر وتعدد معاني اللفظ القرآني، وهو من أهم كنوز القرآن وما في نظمه من إعجاز وقواعد الإستنباط وضوابط التفسير ومضامين المعرفة الإلهية، ولابد من الرجوع إلى كتب التفسير هذا التراث الخالد الذي ساهم فيه جهابذة العلماء شكر الله صنعهم، وزاد في أجرهم مع الحرص على إقتفاء آثارهم وجعلهم أساتذة وقادة، وعدم التعجل في الإشكال عليهم وإجتناب مخالفتهم، والإبتعاد عن الظن بوجود خلاف أو تناقض في أقوالهم، فقد تختلف العبارات ولكن المعنى متحد والمراد واحد.
عباراتنا شتى وحسْنُك واحد وكُلٌّ إلى ذاك الجَمَالِ يُشير ( )
مع أولوية الإستنباط والإستقراء من آيات القرآن، والغوص في بحوره التي لم يظهر من كنوزها إلا كالقطرة من البحر كما قصة موسى عليه السلام والخضر وقوله الخضر بعد تعدد السؤال من موسى[أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا]( )، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر)( ).
وكذا إمهات العلوم والمسائل التي إستقرئت من القرآن في علم التفسير والتأويل في قلتها ونقصها، ليبقى القرآن في كل زمان يدعو العلماء للنهل منه وإنتفاع المسلمين والناس من ذخائره، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ولزوم الحذر من إستحداث قول لا أصل له يستنبط من القرآن أو السنة أو اللغة أو العقل , ففي كتاب الله بحور من العلم متداخلة ومتشابكة تتعانق أمواجها وهي مملوءة بالدر والياقوت كلما غاص فريق لإخراج قسم منها إزدادت أضعافاً مضاعفة تتلألأ للأبصار وتجذب العقول وتدعو الناس جميعاً للإنتفاع منها من غير أن ينتقص منها شيء، عباراته يتذوق حسنها كل إنسان مسلماً كان أو غير مسلم، وإشاراته يدركها كل عاقل ذي لب، ولطائفه يتيه في فلكها الأولياء.
وفي الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” أيها الناس إنكم في زمان هدنة، وأنتم على ظهر السفر والسير بكم سريع، فقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كل جديد ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، فأعدوا الجهاز لبعد المفاز. فقام المقداد فقال: يا رسول الله ما دار الهدنة؟ قال: دار بلاء وانقطاع، فإذا البست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فانه شافع مشفع وما حل مصدق من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب
تفصيل، وبيان تحصيل وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكمة، وباطنه علم، ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له نجوم، وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، ومنازل الحكمة ودليل على المعروف لمن عرفه”( ).
قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم اعرفوا القرآن والتمسوا غرائبه وغرائبه فروضه وحدوده فإن القرآن على خمسة حلال وحرام ومحكم وأمثال ومتشابه فخذوا الحلال ودعوا الحرام واعملوا بالمحكم وآمنوا بالمتشابه واعتبروا بالأمثال.
وقال ابن مسعود من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن”( ) أي ليفكر في معانيه ويتدبر آياته ويستخرج كنوزه، (وقال بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فهم، وما بقي من فهمها اكثر)( ).
ومما يختلف به كلام الخالق عن المخلوقين عدم الوقوف على ظاهره فلابد من تدبر معانيه وأسراره وحقائقه.
وعن الإمام علي عليه السلام: القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه، ولا يكشف الظلمات الا به( ).
وعن أبي الدرداء: لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوهاً( )، وهي دعوة من صحابي جليل إلى عدم الوقوف عند الظاهر وإلى فهم المتعدد من معاني القرآن وإظهار علومه، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم “أنزل القرآن على سبعة احرف ، لكل حرف منها ظهر وبطن ، ولكل حرف حد ومطلع”) ( )، فظاهره التلاوة وباطنه فهم حقائقه والغوص في كنوزه، والإطلاع على جانب من أسراره.
والحد أحكام الحلال والحرام وإحاطته بالأحداث والوقائع فما من شيء إلا في كتاب الله.
والمطلع إستيعاب الوعد والوعيد ومعرفة آيات الإنذار وقد بينا الوجوه المحتملة للأحرف السبعة في الجزء السادس من تفسيرنا( ).
ولابد أن يكون السعي إلى معرفة أسرار القرآن عن طريق معرفة الظاهر وفهم معانيه لغة وإعراباً ومفاهيم الإلفاظ، وإحراز درجة من الإيمان والصدق وعدم الميل إلى الهوى أو الإجتهاد في توجيه الآية نحو مذهب معين وولاءات خاصة، والتخلص من الآراء التي تبعث على الجدال والخصومة.
والحرص على معرفة مضامين القدرة واللطف الإلهي ووجوه الرحمة في حياة الإنسان مطلقاً، وإدراك عصمة الأنبياء والإنتفاع الأمثل من قصصهم وفي قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ) إثبات للرمي ثم نفيه من جهة ترتب الأثر ونسبته إلى الله عز وجل لبيان فضل الله تعالى وحتمية الإصابة والنصر.
ومن مقدمات علم التفسير الرجوع إلى المأثور والأخذ من تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن وإن كان ضعيفاً في سنده بشروط:
الأول : الإشارة إلى ضعف السند.
الثاني : أن يكون الضعيف في المواعظ والقصص والمندوبات ونحوها.
الثالث : عدم معارضته مع آيات القرآن.
فمن خصائص القرآن أن آياته تفسر بعضها بعضاً، وتعضد الآية الواحدة آيات كثيرة ويأتيها التعضيد من ذات الآيات أو من آيات أخرى متصلة بها أو قريبة منها أو في نفس السورة أو في سور أخرى، مكية كانت أو مدنية، لذا فان حفظ القرآن وعدم طرو التغيير والتحريف والنقص أو الزيادة فيه أمر ضروري لذات القرآن وإستخراج علومه والكشف عن أسراره، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
وضعف الحديث يؤخذ بأخس طبقاته فإذا كان أحد رجال السند ضعيفاً او مجهولاً أو أن الحديث مرسلاً ومنقطعاً فيعتبر ضعيفاً مع وثاقة رجال سنده الآخرين والمنقطع في إصطلاح اللفظ القرآني يختلف عنه في مصطلح الحديث.
ففي خطبة للإمام علي عليه السلام في بيان خصائص القرآن: وفيه منقطع ومنه معطوف)، والمنقطع هو آيات نزلت في موضوع أو قصة ثم إنقطعت قبل تمامها، وجاءت آيات في موضوع أو مواضيع أخرى وبعدها عطف على الموضوع الأول، كما في قصة لقمان [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] ( )، وإنقطعت وصية لقمان بآيات [وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ…..] ( ).
ثم عطف على خبر لقمان فجاء في التنزيل [يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ] ( ).
ومثله ما ورد في خصوص قصة إبراهيم كما في قوله تعالى [وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ) ثم إنتقلت الآيات إلى لغة الغائب والعموم وهو الذي يطلق عليه في علم البلاغة بالإلتفات وحمله بعضهم على أنه كلام لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان أعم، ثم رجعت الآيات لتتحدث عن قوم إبراهيم وجوابهم على دعوته للتوحيد، [فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ).
أما الحديث الموضوع فلا يجوز الرجوع إليه أو إعتباره، وبذل الرجاليون من العلماء الوسع لإسقاط الحديث الموضوع وقاموا بتنقيح كتب الحديث والتفسير من أفراده، فهناك فرق موضوعي بين الحديث الضعيف والموضوع وضرورة إجتناب الحديث الموضوع لا تعني الحذر والتوقي من الضعيف، للتباين بينهما في الموضوع والحكم لأن الحديث إجمالاً ثروة علمية لا يمكن التفريط به، وقد يكون علة الضعف أن راويه مجهول من الرجاليين.
أما النعت بالضعف بسبب الإنتماء إلى فرقة أخرى من فرق المسلمين فهذا أمر ليس بصحيح، وقد يحول دون الإحاطة العلمية بكنوز الإسلام والثمرات المباركة للسنةالنبوية.
ولم تنو أو تقصد فرقة من فرق المسلمين تحريف القرآن أو تشويه معانيه ومضامينه أو تغيير الفرائض والعبادات وليس هذا من الصدفة إذ لا تصل النوبة إليها، ولكنه من الثابت الإستغراقي والمجموعي بإكرام القرآن والحرص على صيانته من التغيير والتبديل ولو بكلمة واحدة منه.
فترى كل مسلم يصلي الصلوات اليومية الخمسة ويتخذ من هلال شهر رمضان أواناً لبدء فريضة الصيام، وهلال شوال أواناً لإفطاره، وليس عند المسلمين جميعاً إلا هذا القرآن الذي هو بين الدفتين وفي هذا عز الإسلام وبشارة ودوام وحدة المسلمين وقوتهم ومنعتهم، وليس لأحد أن يطعن بأخيه بخصوص هذه الحقيقة، فلم يتهم بعضهم البعض الآخر بأن عنده قرآناً غير القرآن الذي أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والموجود عند المسلمين لأن هذا الإتهام لا أصل له وقد يكون فيه إضعاف للإسلام وإساءة للقرآن، ولم تتعدد نسخ القرآن ولم يكتب بلهجات مختلفة ولم تسقط عنه سورة أو آية ولم تضاف له آية أو سورة وليس بالإمكان تبديل كلمة من التنزيل بأخرى غيرها، إذن لإختلف المعنى وإن كانت مرادفة لها.
لقد فوّت المسلمون على عدوهم فرصة إختراق صفوفهم بالتوقي من ظهور الخلاف بينهم في القرآن سوراً وآيات، فيجب أن يحرص الجميع على عدم حصول إختلاف في التفسير والتأويل وإن كان موضوعه أسهل بكثير من وجوه:
الأول : إن علوم القرآن لا يمكن تأويلها لغير ما جاءت به، وهذا من إعجاز القرآن الذاتي والغيري فانه يمتلك القدرة على حفظ نفسه والحيطة من التأويل الخاطئ، ويمنع من مقدمات الضلالة أو حصول شبهات بسبب الخلل في تفسيره، فهو يفضح مواطن الخلل، ويهدي إلى سلامة التفسير.
الثاني : لقد بقي أثر النزول غضاً طرياً حينما يقرأ المسلم القرآن يشعر وكأن القرآن نزل في ساعته وأنه خص بالخطاب من بين الناس لأن القرآن يخترق شغاف قلبه، ويعالج خفايا نفسه، ويشفي ماعنده من الدرن، ويطرد عنه الشك والريب، ونقل الزركشي قولاً لبعض أهل الذوق وهو: للقرآن نزول وتنزل، فالنزول قد مضى، والتنزل باق الى قيام الساعة( ).
الثالث : من فضل الله على المسلمين والناس بقاء القرآن برسمه وخطه إلى يوم القيامة، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الرابع : تدور الحجة مدار التنزيل والحرف القرآني.
الخامس : عند التعارض في وجوه التفسير يرجع إلى المرجحات وهي على وجوه:
الأول : فقه اللغة لقوله تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الثاني : التفسير الذاتي للقرآن، ولحاظ أن مضامين الآية منه تتجلى في الآيات الأخرى.
الثالث : السنة النبوية الشريفة لأنها بيان للقرآن والمصدر الثاني للتشريع.
الرابع : الإجماع وأصالة التبادر والقدر المتيقن من اللفظ.
الفواصل ورؤوس الآية
المراد من الفاصلة الكلمة التي تختتم بها الآية سواء كانت الآية طويلة كآية الدين من سورة البقرة، أو آية قصيرة تتكون من كلمة واحدة كآية[مُدْهَامَّتَانِ].
(وقالوا أنها كقافية الشعر وقرينة السجع، وقال الداني: كلمة آخر الجملة)( )، ولكنه قياس مع الفارق سواء كان المراد المعنى اللغوي أو الصناعي لأن آيات القرآن كلام الله، ونازلة من عنده تعالى على الإعجاز والتحدي، إلا أن يراد تقريب المعنى، لذا ترى لفظ رؤوس الآي عنواناً إصطلاحياً خاصاً.
وأختلف في النسبة بين رؤوس الآيات والفواصل وهل هي التساوي أم لا، والأصح أن بينهما عموماَ وخصوصاً مطلقاَ، فكل رأس آية فاصلة وليس العكس.
فالفاصلة ما يكون عند الإستراحة في القراءة مع إستقلال المعنى وتأتي لغرض تحسين الكلام، وسميت فاصلة لأن الكلام ينفصل عندها، على نحو إختياري ووفق قواعد التلاوة والمحسنات اللفظية.
وهناك أبواب من العلوم سواء في المعاني القدسية للقرآن أو المفاهيم والمعرفة الإلهية أو في التلاوة والإنتفاع منها وأختلف في إطلاق إصطلاح السجع على بعض فواصل أو رؤوس الآيات ذات النسق.
والسجع هو الكلام المقفى، ومنه سجع الرجل كلامه أي نظمه، وجعل فواصله كقوا في الشعر ومنهم من عرفه بموالاة الكلام على وزن واحد.
ويقال سجعت الحمامة سجعاً أي هدرت وصوتت .
إن إطلاق إسم السجع على فواصل القرآن التي يناسب معنى هذا المصطلح لبيان إجادة النظم والمشابهة مع القافية بإعتبار أن السجع من وجوه البيان والبلاغة، ومن الأجناس التي يقع فيها التفاضل، وإستدلوا على السجع بتقديم هارون على موسى بقوله تعالى [هَارُونَ وَمُوسَى]( )، أما الفواصل في موضع آخر وحسب السياق بالواو والنون، قال تعالى [مُوسَى وَهَارُونَ]( ).
ولكن تقديم هارون على موسى لا يعني أنه من السجع، وقد ورد ذكر موسى في القرآن 136 مرة وذكر هارون عشرين مرة، وورد ذكر إسميهما متعاقبين ثمان مرات، سبعة منها بتقديم إسم موسى [مُوسَى وَهَارُونَ].
وواحدة بتقديم إسم هارون [هَارُونَ وَمُوسَى] وهي في الآية السبعين من سورة طه، ولا يعني أنه من السجع وفيه وجوه:
الأول : إنه من الإعجاز القرآني.
الثاني : إن موسى عليه السلام نبي رسول وهارون نبي جاءته النبوة بعد دعاء موسى عليه السلام وإن التقديم هنا لا يعني الترتيب والتفضيل.
الثالث : إنه دعوة لإكرام الأنبياء بلحاظ النبوة وإن كان هناك تباين في الرسالة والدرجة.
الرابع : الإيمان بالأنبياء على نحو العموم المجموعي والإستغراقي.
الخامس : جاءت الآية التي فيها تقديم هارون على لسان السحرة في إحتجاجهم على فرعون بعد إيمانهم، مع أنهم رأوا الآيات تجري على يد موسى وليس هارون، فلابد أنهم إختاروا تقديم إسم هارون لخصوصية وهو من النكات العقائدية، والتقديم لم يأت لشخص هارون بل بالإضافة وأن إيمانهم كان لرب العالمين، ولفظ رب العالمين جامع للثقلين، ولم يجعل لهذا التقديم أثراً في الموضوع والحكم فقال [آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ]( ).
والضمير الهاء في الآية أعلاه يعود لموسى لأنه هو الذي أبطل سحرهم بآية منه تعالى، والآيات القرآنية ليست من السجع، لأن كل آية تختلف عن الأخرى في موضوعها وما تحكيه من جهة الصدور.
ففاتحة الآية السابقة تبين قاعدة كلية في الإرادة التكوينية بقوله تعالى [وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى]( ).
والآية اللاحقة التي فيها تقديم إسم هارون على موسى جاءت حكاية عن لسان السحرة بعد أن رأوا آية العصا والتي ألقاها موسى[قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى]( ).
السادس : من الدقائق اللطيفة في القرآن رصد لغة التحدي التي أظهرها فرعون [أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى] ( )، ومراده هو إظهار المقارنة الفعلية بينه وبين موسى، ومن مفاهيمها هل أبقى أنا بسلطاني أم يبقى موسى الذي أخفيتم ذكره، أي أراد أن يبين لهم بإن تقديمهم لهارون تستر مفضوح على موسى ولن ينجيه من العقاب.
السابع : أراد السحرة توكيد حقيقة، بأن ما عند موسى عليه السلام ليس مسألة شخصية وأنها فرع النبوة وإذا قضى على موسى فإن النبوة باقية بشخص هارون ومتجددة بغيره وأن المسألة ليست صراعاَ بيننا وبينك بل بين الإيمان والكفر ، وبين النبوة والطاغوت.
الثامن : بيان السحر لعظيم منزلة موسى عليه السلام، وأنه يكفي للإيمان الإقرار بالآيات التي عند هارون بإعتباره نبياً، أما الآيات التي عند موسى عليه السلام فهي أكبر وأعظم.
التاسع : حرص السحرة على سلامة موسى عليه السلام، وإجلال قدره والتورية على فرعون وملئه.
العاشر : لقد كان موسى عليه السلام رسولاً نبياً، وهارون صار نبياً بدعاء موسى وفي التنزيل[وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي]( )، فأراد السحرة أنهم يؤمنون بالنبوة ويصدقون بالنبي قبل أن تصل التوبة إلى الرسول الذي يتصف بمجيئه بالمعجزة المتعددة والشريعة الجديدة.
(وروي أن السحرة: يعني رؤوسهم كانوا إثنين وسبعين، الإثنان من القبط والسائر من بني إسرائيل) ( ).
وذكر أن السحرة سألوا فرعون أن يريهم موسى نائماً، فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا ما هذا بسحر الساحر لأن الساحرإذا نام بطل سحره، ولكن فرعون أكرههم على معارضة موسى عليه السلام.
مما يدل على إدراك السحرة لتقدم موسى رتبة على هارون، وأراد السحرة اللبس على فرعون، ودفع الكيد والمكر عنه.
ومن شرائط السجع في الشعر أن يكون مقصوداَ إليه في الخطاب وأن المتكلم يختار لفظاَ في آخر الجملة السابقة والله عز وجل لاتستعصي عليه مسألة ولا يتوقف إختيار رأس الآية على ما سبقها أو لحقها، وعلى فرض مجئ أمر مشابه في القرآن للسجع فإنه ليس منه للتباين الموضوعي ولزوم تنزيه كلام الله، لأن نظمه جزء من الإعجاز لغة وفصاحة وبلاغة ومضموناَ ودلالة ونظماً فلابد من إختيار إصطلاح وعنوان مستحدث.
وقد ذم القرآن أهل الشرك والضلالة لنعتهم القرآن بأنه من الشعر، قال تعالى [وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ]( ).
لقد أصر الكفار على الشرك، وأعلنوا عدم تخليهم عن الأوثان، وأطلقوا عليها إسم الآلهة، ولم يدعهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه كي يتعدوا ويفتروا عليه , ويقولوا (شاعر مجنون) بل دعاهم إلى حكمة التوحيد وأداء وظائفهم العبادية لذا تضمنت الآية التالية الدفاع عنه، قال تعالى[بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ]( ).
فمن فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يتولى سبحانه الذب عن النبي، وبيان رسالته وأنه مبعوث من عند الله عز وجل، وأن القرآن ليس شعراً أو سجعاً بل هو حق في معانيه ودلالاته وغاياته وقال تعالى[وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ]( ).
وقد جاء القرآن بنفي الصلة بين النبوة والشعر، قال تعالى[وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ]( )، وهذه الآية دعوة لإختيار عناوين وإصطلاحات لمفاهيم القرآن البلاغية غير المستعملة في الشعر دفعاَ للوهم وجرياَ على لغة القرآن.
وفيها تأديب للمسلمين بالفصل بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وهذا الفصل مناسبة كريمة لإستظهار الآيات والدروس من نظم القرآن وسوره وكلماته، خصوصاَ وأن السجع علامة مميزة للكلام مثل قافية الشعر، والقول بأن بعض الفواصل القرآنية من السجع شاهد على الآيات الباهرات، واللطائف والخصوصيات في نظم الآيات.
ومجئ الفواصل أو رؤوس الآيات على وزن السجع آية تدل على موافقة القرآن لعرف أهل الفصاحة والبلاغة، وفيه نفي للعجز عن وجه من وجوه البلاغة، وهؤلاء الذين قالوا [أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ]( )، لو لم يآت القرآن بوزن السجع لقالوا إذا كان القرآن إمام البلاغة فلم لم يأت فيه مع كثرة كلماته من السجع وهو عنوان الإرتقاء في البيان والقدرة على صياغة الكلام والجمع بين عذوبة اللفظ وتمام المعنى.
فمجئ بعض آيات القرآن على وزن السجع حجة ودليل على تضمن القرآن لوجوه البلاغة وفنون الأدب مع إنفراده بعلوم وصيغ في المعاني، والبيان لم ولن تصل إليها لغة التفاهم والتدوين.
ولكن النظم القرآني الذي يشبه السجع لا يسمى سجعاَ بل يجب أن يكون له عنوان قرآني مستقل أدق وأبهى من السجع، ويكون شاهداَ على إعجاز السياق لأنه يتضمن أسراراً بلاغية ودلائل عقائدية بذاته أو بلحاظ ضمه إلى غيره من ضروب البلاغة والفصاحة وحسن النسق في آيات القرآن.
ولم يطلب بذاته وهو آية إعجازية إضافية تترشح منها أنوار سماوية لتتعاهد قواعد البلاغة والذوق السليم وتجعل النفس تنجذب لحروف وكلمات القرآن.
إن نفي صفة الشعر عن القرآن يعني بالضرورة منع إطلاق المصطلحات الدالة عليه على آيات القرآن كالقافية والسجع، ويسمى مثلاَ (التماثل) ليكون إصطلاحاً قرآنياً خاصاً.
لقد أراد الله بالقرآن الوقوف على منثور ومنظوم كلام العرب وبيان الفارق الكبير بين القرآن وبينهما فلابد أن يأتي بصيغة ليكون حجة عليهم تجلي جودة السبك وتعدد المعاني القدسية وبراعة الوصف، وتظهر الإيجاز غير المخل وعذوبة النظم، ويبقى مدرسة للعلماء والأدباء والشعراء من المؤمنين لتعاهد علم المعاني والأصول والقواعد التي تؤدي الغرض وتفيد التعبير باللفظ عما يتصوره الذهن وبما يطرد الملل، ويناسب كلام العرب بعيداَ عن النمط الواحد، وقد ترى في السجع تكلفاَ، وهو أمر غير موجود في القرآن.
وتقسم الفواصل إلى قسمين:
الأول : ما تماثلت حروفه.
الثاني : ما لم تتماثل حروفه مع تقاربها.
ويتعلق موضوع السجع بالقسم الأول منهما، والذي يعتبر الأعلى في الفصاحة، ومنه قوله تعالى [وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ *فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ]( )، وقوله تعالى [وَالْفَجْرِ *وَلَيَالٍ عَشْرٍ *وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ].
ولمعرفة موضع الفواصل القرآنية طريقان.
الأول: توقيفي: وهو الذي ثبت وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنده على نحو متكرر.
وروى أبو داود عن ام سلمة: لما سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت: كان يقطع قراءته آية آية( )، قرأت (بسم الله الرحمن الرحيم) الى (الذين) تقف على كل آية، أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقف عند رؤوس الآيات.
ونقل الزركشي قول الجعبري ووهم فيه من سماه وقف السنة، لأن فعله عليه السلام إن كان تعبداَ فهو مشروع لنا، وإن كان لغيره فلا)( ).
وإشكال الجعبري على نحو الموجبة الجزئية بمعنى لا يشكل على إطلاق إسم وقف السنة على ما كان تعبداَ، إختار التفصيل، وهو حسن، ولكن قول أم سلمة يفيد في ظاهره الإطلاق وإ وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند رأس كل آية كان تعبدياَ وهو الأصل، ويصدق عليه أنه وقف السنة.
ومن الإعجاز وحضور السنة النبوية في تلاوة القرآن أن تخبر بأن الوقوف عند رأس كل آية أمر عام عند جميع المسلمين في مختلف أمصارهم وأزمنتهم، ورسم القرآن عون على ذلك.
الثاني:القياسي: وهوالوقف الذي لا يتعارض مع المعنى، والمفهوم يوهم معنى آخر فهو لا يأتي بحرف إضافي، ولايسبب نقص حرف، نعم لا ينطق معه بحركة الحرف الذي يقف عنده على القول المشهور بأن العرب لا تقف عند متحرك.
وأكثر ما يكون الوقف عند حروف المد ونحوها ليكون الوقف عذباَ وسبباَ لإتصال الشوق للإستمتاع بالقرآن وتسهيل القراءة من غير إخلال بالنظم والمعنى.
ذكر بعض العلماء نزول بعض الآيات أو السور مكرراً، خصوصاً في سورة الفاتحة فقال جمع بأنها نزلت مرتين مرة في مكة ومرة في المدينة وقد أفرد الزركشي باباً سماه “فيما نزل مكرراً”( ).
والتكرار أعم من المرتين باعتبار المرتين أقل التكرار ويناقش الموضوع كبرى وصغرى، أما الكبرى فهي عدم وجود دليل يثبت هذه الحقيقة القرآنية وأما الصغرى فمتابعة الأقوال في الآيات التي قيل أن نزولها مكرراً وفيه وجوه:
الأول : نزول بعض الآيات مرتين.
الثاني : نزول بعض منها أكثر من مرتين، لإمكان التعدد.
الثالث : عدم نزول كل آية إلا مرة واحدة.
الرابع : النزول مرة واحدة، والثاني لا يصدق عليه نزول على نحو الحقيقة بل هو مجاز وإستعارة وتشبيه.
الخامس : ليس من نزول إلا لمرة واحدة، وما عداه يصير تحصيلاً لما هو حاصل.
والأقوى أن نزول الآية يكون لمرة واحدة، وقد يكون تداركاً وعرضاً للآية بين جبرئيل والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يصدق عليه أنه تنزيل.
ويمكن أن تشرع قاعدة أصولية في المقام وهي أن الأصل في النزول هو مرة واحدة، وما زاد على الأصل يحتاج إلى دليل من الكتاب أو السنة وهو مفقود في المقام.
ومن قال بالنزول مرتين مخالف للمشهور، والسكوت عن الأمر وعدم بحثه يدل على عدم القول به، ولم يكن معروفاً عند الصحابة بل المتعارف خلافه حتى في أيام التابعين ما عدا أقوال نادرة، فقد ورد عن الإمام علي قال: نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش)( ) واخرج ابن الأنباري في المصاحف عن عبادة قال: فاتحة الكتاب: نزلت بمكة.
وقد ذكر موضوع نزول الفاتحة مرتين السيوطي المتوفي سنة 911 هجرية بقوله: وذهب بعضهم إلى انها نزلت مرتين بمكة ومرة بالمدينة( )، وظاهر السيوطي تضعيف هذا القول من جهتين:
الأولى : نسبته إلى القيل.
الثانية : إضافة القول إلى بعضهم مما يعني عدم وجود قائل به من الصحابة أو من العلماء الأعلام الذي يستلزم ذكر اسمه، او ان ورود إسمه يكون شاهداً على إعتبار القول.
ونسبة الرازي إلى بعض العلماء بقوله: قال بعض العلماء هذه السورة نزلت بمكة والمدينة مرة اخرى( ).
أما الزركشي فنسبه إلى القيل: كما قيل في الفاتحة نزلت مرتين( )، وذكروا في سبب تعدد النزول وجوهاً:
الأول : تعظيم شأن الآية.
الثاني : تعدد أسباب النزول.
الثالث : منع نسيان الآية.
الرابع : المبالغة في إكرام الآية القرآنية ككنز نزل من السماء.
الخامس : نزول الآية في المرة الأولى على حرف واحد، ونزولها في الثانية ببقية وجوه القراءة نحو ملك، ومالك يوم الدين.
وكلها لا تصلح دليلاً على ثبوت تعدد نزول الآية الواحدة إنما هي من المحسنات العقلية، وقد يكون الحسن بخلافها، إذ أن النزول بصرف الطبيعة هو غاية التشريف، ونزول الآية من السماء هو تعظيم وبهاء ملكوتي، وقد نزلت سورة الأنعام تحف بها الملائكة.
وأستدل بما ثبت في الصحيحين عن أبي عثمان النهدي عن إبن مسعود: إن رجلاً أصاب من إمرأة قبلة فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له فأنزلت عليه [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] ( ) قال الرجل ألي هذه قال: لمن عمل بها من أمتي( ).
وسبب القول بانها نزلت مرتين أن الآية من سورة هود وهي مكية وذكر الترمذي أنه أبو البسر الذي قال أتتني إمرأة تبتاع تمراً فقلت إن في البيت تمراً أطيب منه فدخلت معي في البيت فاهويت إليها فقبلتها فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له قال:أستر على نفسك وتب ولاتخبر أحداً، فلم أصبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له، فقال أخلفت غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظن أنه من أهل النار.
قال: وأطرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طويلاً حتى أوحى الله إليه الآية أعلاه قال أبو البسر فاتيته فقرأها علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أصحابه: يا رسول الله ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال: بل للناس عامة( ).
فحصل إشكال كيف يكون نزول الآية مكياً، وسبب النزول حصل في المدينة فأرادوا دفع هذا الإشكال بالقول أنها نزلت مرة بعد مرة ولكن هذا القول لم يثبت وموضوعه هو قول أبن مسعود (فانزل الله تعالى) وهو يحتمل وجوهاً:
الأول : إن هذه الآية بالذات مدنية وليس من مانع ان تكون السورة مكية ولكن آية أو أكثر منها تكون مدنية.
الثاني : أراد إبن مسعود البيان والإيضاح ولم يقصد النزول الإبتدائي وترد احياناً عن إبن مسعود قراءة بيانية لتقريب المعنى كما في قول تعالى[طعام الأثيم]( ).
وذكر أن أبا الدرداء كان يُقرأ رجلاً، فكان يقول (طعام اليتيم) فقال ابو الدراء: قل طعام الفاجر ياهذا)( ) فأراد البيان والإيضاح وفهم المعنى وعليه حملة القاضي أبو بكر في كتاب الإنتصار.
الثالث : تعدد اسم ابي البسر او انه كان في المدينة باسم، وفي مكة باسم، او بكنية اخرى، وهو بعيد.
وقد وردت نصوص تفيد موضوعية هذه الآية وتوكيد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على موضوعيتها في غفران الذنوب وانها اعم من ان تكون نازلة في شخص معين، ويدل عليه موضوعها وما فيها من الأمر بالصلاة وبيان اوقاتها ومنافعها في الدارين، وذكر الواحدي باسناده عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان، قال : كنت مع سلمان تحت شجرة، فأخذ غصنا يابسا منها، فهزه حتى تحات ورقه، ثم قال: يا أبا عثمان ! ألا تسألني لم أفعل هذا ؟
قلت: ولم تفعله ؟ قال: هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا معه تحت شجرة، فأخذ منها غصنا يابسا، فهزه حتى تحات ورقه، ثم قال: ألا تسألني يا سلمان لم أفعل هذا ؟ قلت: ولم فعلته ؟ قال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى الصلوات الخمس، تحاتت خطاياه كما يتحات هذا الورق ثم قرأ هذه الآية(وأقم الصلاة) إلى آخرها( ).
وبالإسناد عن أبي أمامة قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد ونحن قعود معه اذ جاءه رجل فقال يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي، ولم يسمه قال وحضرت الصلوة فصلى مع النبي صلى الله عليه وآله.
فلما قضي الصلوة، قام إليه الرجل: فقال يا رسول الله أصبت حداً فأقم علي ما في كتاب الله.
قال ليس قد صليت معنا: قال : نعم.
قال فان الله قد غفر لك ذنبك أو حدك( ).
وفي الخبر أن الإمام علي عليه السلام: أقبل على الناس فقال: آية آية في كتاب الله أرجى عندكم ؟ فقال بعضهم [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ]( ) الآية. فقال : حسنة، وليست إياها.
وقال بعضهم : [وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ]( ) قال : حسنة وليست إياها.
وقال بعضهم :[ قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ]( ) قال : حسنة وليست إياها.
وقال بعضهم. [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً] ( ) الآية. قال : حسنة وليست إياها. قيل : ثم أحجم الناس.
فقال : ما لكم يا معشر المسلمين ؟
فقالوا : لا والله ما عندنا شئ.
قال : سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أرجى آية في كتاب الله:[وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ]( ) وقرأ الآية كلها( ).
وأستدل على نزول الآية مكرراً بما ورد في الصحيحين عن إبن مسعود قال: بينما أنا أمشى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خرب المدينة وهو يتوكأ على عسيب معه فمر بنفر من اليهود.
فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح وقال بعضهم لا تسألوه لا يجئ فيه بشئ تكرهونه.
فقال بعضهم لنسألنه فقام رجل منهم فقال يا أبا القاسم ما الروح.
فسكت فقلت إنه يوحى إليه فقمت فلما إنجلى عنه فقال [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
ورد لفظ [وَيَسْأَلُونَكَ]في القرآن خمس عشرة مرة سبعة منها في سورة البقرة وهي مدنية، وقد تعرضنا لبحثه في تفسير الآيات.
وفي سبب نزول الآية أعلاه أقوال:
الأول : سؤال اليهود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الروح، ان الآية نزلت في المدينة فيأتي الإشكال بأن سورة الأسراء مكية فيكون الأمر مردداً بين وجوه:
الأول: نزلت الآية مرتين، مرة مع تمام السورة في مكة ومرة في المدينة عند سؤال اليهود.
الثاني: الآية نزلت في المدينة ثم وضعت مع سورة بني إسرائيل.
الثالث: أن الوحي عند سؤال اليهود كان للتأكيد والتذكير والإخبار بأن الجواب المناسب هو هذه الآية.
الرابع: لم يكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال تلقي الوحي القرآني، ولكنه من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) فقد يكون النبي منتظراً لجبرئيل ليخبره بالجواب.
الثاني: من أسباب النزول( ان اليهود قالت لكفار القريش سلوا محمداً عن الروح فإن أجابكم فليس بنبي وان لم يجيبكم فهو نبي فإنا نجد في كتبنا ذلك فأمر الله سبحانه بالعدول عن جوابهم وان يكلهم في معرفة الروح إلى ما في عقولهم ليكون شاهداً على صدقه ودلالة لنبوته).
وكانت قريش تسأل اليهود عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أنهم أهل كتاب ويعرفون معالم النبوة.
الثالث: (ان المشركين سألوا عن الروح الذي هو القرآن كيف يلقاك به الملك او كيف صار معجزاً أو كيف صار نظمه وترتيبه مخالفاً لأنواع كلامنا من الخطب والأشعار، وقد سمى الله تعالى القرآن روحا في قوله[وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا]( ) فقال سبحانه: قل يا محمد إن الروح الذي هو القرآن من أمر ربي أنزله دلالة علي دلالة نبوتي وليس من فعل المخلوقين ولا مما يدخل في إمكانهم)( )، ذكره الطبرسي في مجمع البيان، وهذا الحديث الذي أستدل به على نزول الآية مكرراً)( ) هو نفسه يدل على عدم نزول الآية مرتين وأن النزول لمرة واحدة، فلو كانت الآية نازلة بمكة لكانت معروفة عند المسلمين خصوصاً وأنهم إعتادوا أن يسمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرآناً نازلاً لم يعلموا به من قبل وكان إذا جاءه الوحي تغشاه الملك وسبح في عالم الملكوت، وظهر عناء التلقي عليه وبدت معانيه بتصببه عرقاً ولو في الشتاء القارص.
والأقوى هو الثاني أي أن الآية نزلت في المدينة ثم وضعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعها من سورة الإسراء.
وقال الزركشي: قد يحدث سبب من سؤال أو حادثة تقتضي نزول آية، وقد نزل قبل ذلك ما يتضمنها، فتودى تلك الآية بعينها الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تذكيراً لهم بها) ( ).
ومن خصائص القرآن ان يحيط باللا محدود من الحوادث والوقائع، واكثر الآيات تكون موافقة في موضوعها وحكمها للحوادث المتكررة والمتجددة سواء كما تقدم اعلاه ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستشهد بالآيات القرآنية لتوكيد الحكم بالعفو او غيره ولم يقل احد من الصحابة انه نزول مستحدث.
والصحابة والفقهاء والعلماء ورجال القانون وغيرهم يستشهدون بالآيات القرآنية في الوقائع والأحداث ويجعلونها فيصلاً ولم ينسوها ولم يحتاجوا الى من يذكرهم، فمن باب الاولوية القطعية ان يكون الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو الرائد في هذا المقام ولا يحتاج الى تكرار الوحي .
وفيه تعليم وإرشاد إلى الإستدلال بالآيات، وحثهم على الرجوع إلى القرآن وتنمية ملكة الهجرة إلى القرآن عند ملتبسات الأمور فإذا كان العلماء يرجعون إلى آيات القرآن وتتبادر إلى أذهانهم الآية المناسبة للواقعة والحادثة فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحق بالأمر من غير أن تصل النوبة إلى إعادة الوحي .
وقال الزركشي: وما يذكره المفسرون من أسباب متعددة لنزول الآية قد يكون من هذا الباب لاسيما وقد عرف من عادة الصحابة والتابعين ان احدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا فانه يريد بذلك ان هذه الآية تتضمن هذا الحكم لا ان هذا كان السبب في نزولها) ( ) .
وذكره عن ابن مسعود بقوله فانزل الله تعالى [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ]( )، لا يقصد النزول حقيقة كي يستدل به على نزول الآية مرتين وأنه من الإستدلال على الحكم ولا يريد وقوع النزول فعلاً.
فهناك تسامح في إصطلاح النزول وتكراره وهذا التسامح يعرف بالقرينة وهل المراد منه النزول حقيقة ام مجازاً، فاذا كان نزول القرآن لأول مرة بالشواهد والوقائع وتأتي بحال الوحي وثقله والمسلمون يسمعونها لأول مرة فهذا النزول حقيقة ، اما اذا كانت معروفة عند المسلمين وجاءت الحادثة موافقة للآية وقيل ان الآية نزلت فيعني ان النزول مجازي.
ويبقى مبحث نزول الآية مكرراً علماً مستقلاً وفيه نكات لطيفة يبحث عنها اثباتاً ونفياً، ونقضاً وابراماً، والاقوى ان الآية تنزل مرة واحدة، ولا يمنع ان يكون جبرئيل يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في توكيد آية والاستدلال بها في حكم معين.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn