معالم الايمان في تفسير القرآن – سورة البقرة – ج 40


المقدمة

الحمد لله الذي جعل نعمه على الناس أكثر من أن تحصيها الخلائق سواء النعم على الفرد أو الجماعة أو الأمة ، تلك النعم التي ابتدأت بخلق آدم وحواء أبوي البشر في الجنة ، وليكون نفخ الروح في آدم كما في قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) نعمة عظمى ، وصلة بين الله وبين العباد إلى يوم القيامة ، وباباً للرحمة في الدنيا والآخرة .
الحمد لله الذي يضاعف النعم بالشكر له سبحانه ، وهو الذي تفضل على العباد بتلقينهم الشكر وهدايتهم إلى سبيله ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
الحمد لله على آلائه ، ورزقه الكريم ، والنماء والبركة في هذا الرزق ، الحمد لله الذي يرضى بالقليل ، ويعطي عليه الكثير ، ثم الكثير من الخير ، ويحجب له الضرر ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
الحمد لله الذي جعلنا نعيش في كنف الأبوة في الصغر ، والسعادة على نعمة البنوة في الكبر ، وتتغشاهما مجتمعين نعمة الإيمان ، والنطق بالشهادتين.
وهذا الجزء هو الإربعون من (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) ويختص بتفسير الآيات (220- 227) من سورة البقرة .
وقد أعدت بعد عشرين سنة من تأليفه مراجعته وتصحيحه وكتابة إضافات عديدة منها أبواب مستحدثة في التفسير مع حاجتي للوقت في الفتوى والتدريس والتأليف ، وخرج بهذه الحلة الجديدة بفضل ولطف من عند الله عز وجل ، [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ] ( ).

قوله تعالى[فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]الآية 220.
الإعراب واللغة
في الدنيا : جار ومجرور متعلق بـ (تَتَفَكَّرُونَ) وسيأتي مزيد بيان في سياق الآيات .
الآخرة : معطوف على الدنيا مجرور بالكسرة مثله .
يسألونك : يسألون : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة .
الواو : فاعل .
الكاف : ضمير مفعول به , وهو يعود إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والتقدير : يسألك الناس يامحمد أو يسألك المسلمون ، وبين السؤالين عموم وخصوص مطلق.
قل : فعل أمر والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت .
اصلاح : مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
لهم : جار ومجرور صفة لإصلاح.
خير : خبر اصلاح مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
وإن: الواو استئنافية.
إن: حرف شرط جازم .
تخالطوهم : فعل الشرط مجزوم بحذف النون والواو فاعل، هم : ضمير متصل مفعول به.
فاخوانكم : الفاء رابطة لجواب الشرط.
إخوانكم: خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هم) ، أي: فهم اخوانكم.
والله: الواو استئنافية واسمالجلالة مبتدأ مرفوع .
يعلم : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
والفاعل هو الله عز وجل .
والجملة الفعلية خبر المبتدأ .
المفسد: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره .
من المصلح : جار ومجرور , متعلق بمحذوف حال من المفسد , للفصل والتمييز بينهما , قال تعالى [لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ] ( ).
ولو : الواو استئنافية.
لو: حرف امتناع لامتناع , أي امتناع الجواب لامتناع الشرط أي إمتناع الثاني لامتناع الأول لبيان فضل الله عز وجل في سلامة المسلمين من العنت، وهو التعب والمشقة ومقدمات الإثم والضرر .
(عن ابن عباس في الآية قال : إن الله لما أنزل [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا]( )، الآية . كره المسلمون أن يضموا اليتامى وتحرجوا أن يخالطوهم في شيء ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأنزل الله { قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم . . . ولو شاء الله لأعنتكم } يقول : لأحرجكم وضيق عليكم ، ولكنه وسع ويسر .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قرأ { وإن تخالطوهم فاخوانكم في الدين } .
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله { والله يعلم المفسد من المصلح } قال : الله يعلم حين تخلط مالك بماله أتريد أن تصلح ماله أو تفسده فتأكله بغير حق .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ولو شاء الله لأعنتكم } قال لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً .
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة { ولو شاء الله لأعنتكم } قال : لو شاء الله لأعنتكم فلم تؤدوا فريضة ، ولم تقوموا بحق) ( ).
شاء الله: فعل ماض.
الله : لفظ الجلالة فاعل مرفوع .
والمفعول محذوف تقديره اعناتكم.
لأعنتكم : اللام رابطة لجواب الشرط .
أعنت : فعل ماض .
كم : ضمير متصل في محل نصب مفعول به , والفاعل ضمير مستتر تقديره هو.
إن الله : إن حرف مشبه بالفعل يفيد التوكيد .
لفظ الجلالة اسممنصوب بالفتحة .
عزيز حكيم : عزيز خبر إن مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره .
حكيم : خبر ثان مرفوع بالضمة .
المخالطة: الملابسة والتداخل بما يصعب او يتعذر معه التمييز ومنه الخليطان أي الشريكان لتداخل واختلاط اموالهما، والخليط : القوم امرهم واحد مع التباين اصلاً بينهم ولو على نحو جهتي.
(خالطْته خُلطة وهي الخِلّيطَى تُمدّ وتُقْصر وقالوا الخُلَيطاء المد فيها أكثر. أبو زيد: مال القوم خِلّيطَى وخُليْطى وخُليْطى. قال أبو علي: فأما قولهم وقعوا في خُلّيطى فمقصور. أبو زيد: وهو الخَليط والجمع خُلُط. صاحب العين: الخليط – الذين أمرُهم واحد. قال أبو علي: هو واحد وجمع. أبو زيد: الخليط – المفاوض المشارك في المال والجمع خُلَطاء) ( ).
والإعنات : الحمل على مشقة لا تطاق، وعنيت العظم عنتا: اصابه وهن او كسر بعد جبر.
وقيل اصل العنت انكسار العظم بعد جبره ثم استعير لكل مشقة وضرر.
وتعنته تعنتاً: اذا لبس عليه في سؤاله له، وفيه دلالة على المشقة والتضييق.
(العَنَتُ: دخول المشقة على الإنسان ولقاء الشدة.
وقيل: العَنَتُ: الفساد. عَنِتَ عَنَتا.
وأعْنَتهُ وتَعَنَّتَه: سأله عن شيء أراد به اللبس عليه والمشقة.
والعَنَتُ: الهلاك.
وأعْنَتَه: أوْقَعه في الهَلَكَة. وفي التنزيل: (و لوْ شاءَ اللهُ لأَعْنَتكَمْ).
والعَنَتُ: الزنا. وفي التنزيل: (ذلكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ) ( ).

في سياق الآيات
هذا هو السؤال الثالث خلال ثلاث آيات متواليات فموضوع الآية سؤال المسلمين للنبي عن مسألة ابتلائية وحكمها الشرعي، وتفضله سبحانه في نفس الآية من غير تحويل على آية اخرى، فبعد السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن الانفاق، جاءت هذه الآية لتتعلق بمسألة إجتماعية وأخلاقية ، وقال الله تعالى في الثناء على النبي [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم النهار( ).
وفي سياق ونظم آية البحث مع الآيات المجاورة مسائل :
المسألة الأولى : صلة آية البحث بالآية السابقة [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ]( )، وفيه وجوه :
الأول : إبتدأت آية البحث بالجار والمجرور (فِي الدُّنْيَا) مما يدل على إتصال هذه الآية بالآية السابقة , ليكون متعلق الجار والمجرور على وجوه .
أولاً : بيان الآيات الذي يتفضل الله عز وجل بها .
ثانياَ : خاتمة آية السياق قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ] أي تتفكرون في أحوال وأمور الدنيا والآخرة .
ثالثاَ : إرادة حال محذوف بخصوص الآيات التي بينها الله عز وجل في الدنيا والآخرة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وإرادة بعث الناس للتفكر في الدنيا كمزرعة للآخرة .
ويكون معنى (في) في بداية الآية المصاحبة كما يقال يغادر الإنسان الدنيا في أعماله .
الثاني : بعث المسلمين والناس على التدبر بحال الدنيا ، وأهوال الآخرة ، ووجوه التباين بينهما ، والدنيا دار الإمتحان والإختبار وهي زائلة أما الآخرة فهي دار الحساب والجزاء ، قال تعالى [لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
الثالث : بيان قانون وهو أن الآيات الكونية وأحكام التنزيل دعوة للتدبر في الحياة الدنيا ولزوم التحلي بالتقوى وحضور الأعمال في الآخرة ، وعن ابن عباس وقد سئل عن هذه الآية [إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( )، فقال : إن أوّل ما خلق الله القلم ، ثم خلق النون وهي الدواة ، ثم خلق الألواح ، فكتب الدنيا وما يكون فيها حتى تفنى من خلق مخلوق ، وعمل معمول ، من بر أو فاجر ، وما كان من رزق حلال أو حرام ، وما كان من رطب ويابس .
ثم ألزم كل شيء من ذلك شأنه دخوله في الدنيا حي وبقاؤه فيها كم وإلى كم تفنى ، ثم وكل بذلك الكتاب الملائكة ، ووكل بالخلق ملائكة ، فتأتي ملائكة الخلق إلى ملائكة ذلك الكتاب فيستنسخون ما يكون في كل يوم وليلة مقسوم على ما وكلوا به ثم يأتون إلى الناس فيحفظونهم بأمر الله ، ويسوقونهم إلى ما في أيديهم من تلك النسخ . فقام رجل يا ابن عباس . ألستم قوماً عرباً { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب( ).
الرابع : مع أن مجموع لفظ (يسألونك) في القرآن خمس عشرة مرة فان الأربعة منها وردت في آية البحث وآيتين مجاورتين لها وهي :
الأولى : [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
وبعد أن ورد تفسير هذه الآية في الجزء السابق( )، سيأتي مزيد كلام بخصوصها في الجزء الواحد بعد المائتين والذي اختص بقانون (آيات الدفاع سلام دائم).
كما يأتي تحقيق مفصل بخصوصها في الجزء الرابع بعد المائتين من هذا السٍفر في بيان قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وكيف أن مشركي قريش هم الذين يصرون على القتال وأنهم يهددون بالهجوم على المسلمين حتى في الشهر الحرام ويحاولون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما يغيرون على سروح وزروع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار واليهود لإتلافها ولتحريضهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين.
ويدل على ابتداء المشركين بالقتال قوله تعالى في الآية أعلاه [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا]( )، مما يدل على أنهم لن يتركوا المسلمين الا بالإرتداد أو القتل لو لا فضل الله ، والإذن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالدفاع ، ونزول الملائكة لنصرتهم ، ويدل قوله تعالى أعلاه على قصدهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنه قوله تعالى [لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وتقدير الآية : ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان استطاعوا.
الثانية : [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ]( )، ولم يرد لفظ (عن الخمر) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
المسألة الثانية : من إعجاز نظم هذه الآيات تضمن كل من آية البحث والآية السابقة لفظ (يَسأَلُونَكَ) الذي ورد خمس عشرة مرة في القرآن , وبينما جاء في أول السياق ووسطها , فإنه ورد في وسط آية البحث .
ليكون موضوع سؤال الناس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآيتين متعدداً من جهات :
الأولى : السؤال عن الخمر .
الثانية : السؤال عن الميسر والقمار .
الثالثة : السؤال عن موضوع الإنفاق كماً وكيفاً .
الرابعة : السؤال عن اليتامى وكيفية التصرف والتعامل معهم واليتامى جمع يتيم وهو الذي يبلغ الحلم وقد مات أبوه ، سواء مات وهو في بطن أمه أو في الرضاعة أو الحضانة أو الصبا ، أما إذا بلغ سن الرشد فلا يصدق عليه أنه يتيم .
ومن إعجاز القرآن مجئ الجواب من عند الله عز وجل في كل من هذه الأسئلة مع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الجواب قل ، ويتصف هذا الجواب بأنه علني ويتكرر كل يوم إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة خمس مرات في اليوم .
المسألة الثالثة : من معاني إصلاح اليتامى الذي تذكره آية البحث تعاضد المسلمين لمنعهم من الخمر والميسر لما فيهما من الإثم الكبير ، وهذا المنع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وليكون من مصاديق قوله تعالى [قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ] تحمل الوزر عند التخلف عن نهي اليتامى وغيرهم من الشباب عن الخمر والميسر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
المسألة الرابعة : من معاني [وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ]( )، وإن بلحاظ الآية السابقة وجوه :
الأول : وإن تخالطوهم في المساجد .
الثاني : وإن تخالطوهم ، فبينوا لهم أضرار الخمر والميسر .
الثالث : فإن تخالطوهم فخالطوهم بصفة الإيمان والنفور .
الرابع : فإن تخالطوهم فلا تستضعفوهم ، ولا تعتدوا عليهم.
الخامس : وإن تخالطوهم فانفقوا عليهم مما زاد من المؤونة .
السادس : وإن تخالطوهم فاعفوا عنهم .
السابع : وإن تخالطوهم فعلموهم أحكام الشريعة .
وتكون المخالطة بالمال والطعام والولاية والوصاية على اليتيم فلابد من إنصافه والرأفة به.
إعجاز الآية الذاتي
الآية مدرسة اخلاقية لتنظيم المجتمع واصلاح القيم عالمياً وتحبيب الانسـجام الاجتماعـي وازالـة الفوارق والموانــع بين الطبقـات المختلفة وفيها حل متقدم زمانا ًللمشاكل المستعصية في عالم السلوك وتشتت الصبيان واضطهادهم والأدران والكدورات التي تنجم عن ضياعهم.
من إعجاز الآية ابتداؤها بقوله تعالى [فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]( )، لبيان التفكر بالحياة الدنيا وكيف أنها دار زوال فانية ، لا يأخذ منها الإنسان إلا العمل ، وهذا العمل يصاحبه قهراً وإن تباين وتضاد في سنخيته كما يدل عليه قوله تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( ).
ومن يتدبر ويتفكر في الدنيا وكيف أنها مرزعة للآخرة يدرك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : حُفَّت الجنَّة بالمكاره وحُفَّت النَّار بالشهوات( ).

إعجاز الآية الغيري
لقد إبتدأت آية البحث بالجار والمجرور ، الشامل لأفراد الزمان الطولية الموجودة والمعدومة بقوله تعالى [فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ] لبعث المسلمين والناس على التفكر في حقيقة الدنيا وكيف أنها دار اختبار وامتحان ، وأن الناس يبعثون بعد الموت للحساب ثم الخلود في عالم الجزاء الذي يتصف بالتضاد ، وعدم وجود برزخ ، فأما إلى الجنة وأما إلى النار.
الآية سلاح
في الآية مسائل :
الأولى : الإصلاح الإجتماعي وسيلة لترسيخ الدين .
الثانية : آية البحث مناسبة لتعاهد الفرائض .
الثالثة : تبعث الآية على المنع من التفريط في أحكام الشريعة .
الرابعة : تحول الآية دون انتشار الجريمة والإنحراف.
الخامسة : تبعث الآية على الرأفة والإحسان إلى الآيتام ، قال تعالى [وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ]( ).
ابتدأت الآية بذكر الدنيا والآخرة ، ثم توجهها بالخطاب الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في جملة خبرية ، وبيان لقانون وهو أن المسلمين والناس يلجأون إلى النبي في السؤال عن التكاليف والأمور الإجتماعية لبيان قانون وهو أن المعاملة والصلات تدخل في التكاليف وهل يدل قوله تعالى [إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ] على وجوب قيام المسلمين باصلاح اليتامى أم أن ورود اسم التفضيل (خير) يدل على الندب والإستحباب ، المختار هو الثاني نعم الأخوة مع اليتامى في المخالطة واجب لورود الفاء في [فَإِخْوَانُكُمْ] لمنع إلحاق الغبن والحيف باليتامى ، قال تعالى [فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ]( )، وقال تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
أسباب النزول
كان أهل الجاهـلية لا يتحرجـون في امـوال اليتامى، فيتزوجون اليتيمة طمعاً في مالها، او يقـوم من له ســلطان عليها بتزويجها من ابنه كي يستحوذ على مالها، ويتصرفون مع اليتامى وفق القوة الشهوية والمصالح او الإعراض، فنزلت جملة آيات تحذر من التعدي على أموال اليتامى منها [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرً ا ]( )، وقوله تعالى [ وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ ] ( ).
فتنزه المسلمون عن أموال اليتامى وابتعدوا عنهم احتياطاً.
وقيل ان صاحب اليتيم كان يفرد له منزلا وطعاماً فيبقى منه شيء فيتركونه ولا يقربه احد حتى يفسد فتضرر اليتامى انفسهم وتعرضت أموالهم ومصالحهم للتلف وربما كانت مناسبة لاهل النفاق للاستحواذ عليهم .
وروي أن عبد الله بن رواحة قال: ما لكلـنا منازل تسكنها اليتامى ولا كلنا يجد طعاما وشرابا يفردهما لليتيم، فنزلت هذه الآية.
مفهوم الآية
هذه الآية من الآيات النادرة في القرآن التي تبدأ بجار ومجرور متعلقين بالآية التي سبقتها ويعطي فاصل الآية دلالة على عموم المعنى وتعدد مفاهيمه ، وينحل التفكر في الدنيا والآخرة إلى عدة مسائل منها:
الأولى : إمعان النظر في حقيقة الدنيا وسرعة انقضاء أيامها ، قال تعالى [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ) ( ).
الثانية : موضوعية الأعمال ولزوم إتيان الصالحات والإكثار منها.
الثالثة : الصلة والملازمة بين الدنيا والآخرة، وتعلق كل واحدة منهما بالأخرى وفق قوانين العلة والمعلول والسبب والمسبب، وان الدنيا تتأثر بالآخرة ايضاً، فمتى ما ادرك الناس حتمية الحساب والمعاد فانهم يأخذون له أهبة الإستعداد التي تتجلى في عالم الأعمال وفيه مسائل :
الأولى : سيادة العدل .
الثانية : إشاعة سيماء الصلاح .
الثالثة : إنتفاء الظلم .
الرابعة : تغلب روح العفو والتسامح ، قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ).
الخامسة : توظيف العقل لخدمة الإنسان واعمار الأرض بالعبادات وتنبذ اسباب تعطيله ومن اهمها شرب الخمر وشبهه والشح والبخل وعدم العفو.
الرابعة : التفكر في الحياة الدنيا وسيلة للردع والإحتراز والتوقي من السيئات وهذه مدرسة تأديبية ينفرد بها القرآن وان كانت الملل السابقة لم تغفل عنها، ويدفع التأمل في الملازمة بين العمل في الدنيا والحساب في الآخرة الإنسان طوعاً وانطباقاً وقهراً الى التقيد بأحكام الشريعة والسعي الدؤوب للعمل بما جاء في القرآن من الأوامر والنواهي.
فلا تصل النوبة الى العقاب واقامة الحد بل ان وجود الحاكم يأتي تعضيداً لحكم القرآن، وما ذكرته بعض النظريات الغربية من الإستغناء عن الحكومة والدولة ثبت بطلانه عقلاً وواقعاً وعرفاً وانه وهم، وفي القرآن حقيقة ظاهرة بالشواهد والعقل والوجدان، وهي التفكر بالصلة بين الدين والآخرة قانون مادي يتغشى الأفراد والجماعات في ليلهم ونهارهم وجوانب حياتهم المختلفة ، وهي ضابطة أخلاقية مصاحبة للفرد والجماعة.
الخامسة : جاءت الآية بصيغة التفكر لمنع التعدي باسم الدين وظلم الآخرين بذريعة نيل الثواب في الآخرة، فان التفكر يمنع من الضلالة ويزيل الحواجز التي يجعلها أعوان الشيطان لأغواء الناس ، قال تعالى [مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ]( ).
السادسة : التفكر والتأمل في الدنيا والآخرة تنمية للمدارك العقلية وتهذيب للنفوس وتوسعة للعلوم وموضوع يجعل الإنسان يعمل لما هو أعم مما يحيط به.
السابعة : إستحضار الآخرة وجعل اعتبار لها في الوجود الذهني ينعكس على السلوك الشخصي والنوعي ويمنع من حصول الخصومات والنزاعات والحروب ويوفر للناس الأموال ويجنبهم زهوق الأرواح ويكون مناسبة لبث الدعوة إلى الإسلام بمنطق الحجة والبرهان بعيداً عن غلبة النفس الغضبية والشهوية.
الثامنة : من وجوه مجيء الجار والمجرور “في الدنيا” أول الآية إفادة عموم القصد وتحقيق أغراض متعددة أعم مما ورد في الآية السابقة من النهي عن الخمر والأمر بالعفو فالتفكر في الدنيا والآخرة باب للتقوى وأداء العبادات وهو عون على الهداية والرشاد ومادة للإيمان تختلف عن الآيات الكونية وما في الآفاق من بديع صنعه، وعن الآيات النازلة من عنده تعالى وعن الآيات الحسية التي جاء بها الأنبياء ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
إنها آية ظاهرة خفية يدركها العقل واخبرت عنها الكتب السماوية وأكد الأنبياء حتمية البعث والنشور بالإضافة الى الوجدان وآفة الموت التي تأتي على كل انسان.
التاسعة : إستقلال الجار والمجرور في بداية الآية دعوة للتفكر بالدنيا والآخرة على نحو الإطلاق والشمول بغض النظر عن متعلقهما في الآية السابقة ، على وجوه :
الأول : ماهية كل من الدنيا والآخرة .
الثاني : التباين بين الدنيا والآخرة .
الثالث : سرعة زوال الدنيا ، وإستدامة الخلود في الآخرة .
الرابع : من رشحات التفكر في الدنيا والآخرة الزهد بالدنيا ، والإجتهاد بالسعي للآخرة .
و(عن ابن مسعود : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نام على حصير فقام وقد أثر في جنبه ، فقلنا يا رسول الله : لو اتخذنا لك ، فقال : ما لي وللدنيا ، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها)( ).
ويدل الحديث أعلاه على التطابق بين السنة القولية والفعلية وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ما يقول من صيغ التقوى والزهد والصبر ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وكل من زخرف الدنيا وأهوال الآخرة على وجوه :
الأول : كل منهما مدرسة في المعرفة الإلهية .
الثاني : إنهما باب للهداية ، قال تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا]( ).
الثالث : كل منهما آية تدل على عظيم صنع الله سبحانه وبديع خلقه.
فمن الآيات ما تلازم الإنسان او تكون ذات صبغة زمانية وقد لا يلتفت لها مع اهميتها وموضوعيتها في الإستدلال على وجود المانع.
فجاءت هذه الآية للتوكيد على آية الدنيا وآية الآخرة كما إن هاتين الآيتين تتصفان بعناوين ذاتية تحتم على الإنسان جعل موضوعية لهما في سلوكه وعمله ومنهاج حياته، فالتفكر بالآخرة يستلزم من الإنسان عدم مغادرة منازل التقوى، والتفكر في قصر الدنيا وسرعة زوالها يدعوه للزهد فيها، وعدم اللهث وراء زخرفها.
وهذه هي الآية الوحيدة التي يأتي لفظ “يسألونك” بعد آية تأتي فيها ذات الكلمة وان تباين الموضوع وتعدد مما يجعله مدرسة قرآنية تدل على الإحاطة بحاجات المسلمين فلا غرابة أن تبدأ بجار ومجرور متعلقان بالآية السابقة لوحدة موضوع السؤال.
فتارة ينزل القرآن بالحكم إبتداء من عند الله تعالى ، وتارة يأتي عن سؤال المسلمين ولا يعني هذا أن الحكم متوقف على السؤال أو أن السؤال علة تامة لنزوله بل انه سبب للنزول في الوقائع والأحداث مع إضافة تشريفية في مبادرة المسلمين للسؤال ودلالته على حالة الإرتقاء الفكري عند المسلمين واعلانهم الرجوع الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتلقي الأحكام ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
كما إنه يؤكد حالة الصدق والتسليم بان القرآن نازل من عنده تعالى لأنهم يوجهون السؤال الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الجواب يأتي من عند الله تعالى وهو أمر ظاهر في منطوق الآية [َيَسأَلُونَكَ] [قُلْ].
وفيه دلالة على الحاجة الى القرآن والتنزيل وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله عز وجل، شرفه واختاره للرسالة ونزول الوحي .
و(عن أنس بن مالك : أن رجلا قال : محمد يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “يا أيها الناس، عليكم بقولكم، ولا يَسْتَهْويَنَّكُمُ الشيطانُ، أنا محمدُ بنُ عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني اللَّهُ عز وجل)( ).
لينتفع منه الناس جميعاً من آيات القرآن سواء بالأوامر أو النواهي أو مضمون تلك الأوامر كما في هذه الآية إذ أنها تعالج حالة اجتماعية واخلاقية عامة تبتلى بها كل المجتمعات والأمم كما إنها من المسائل التوليدية فمن يسأل عن كيفية التعامل مع اليتامى معرض لأن يصبح أولاده يتامى، وتزداد اهمية هذه المسألة في حالات الحروب والأوبئة.
ولقد كانت أيام التنزيل مناسبة لإتساع ظاهرة اليتامى لكثرة القتل والشهداء في صفوف المسلمين، ومن واسع رحمة الله تعالى إن الآية أطلقت لفظ اليتيم وهو على وجوه بلحاظ موضوع فقد الأب وهويته:
الأول :اليتامى الذين فقدوا آباءهم في ساحات المعركة دفاعاً عن بيضة الإسلام وجهاداً في سبيله تعالى ، فقد سقط سبعون شهيداً في معركة أحد التي جرت في الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة وعلى بعد (5) كم من المسجد النبوي إذ زحفت ثلاثة آلاف من جيش المشركين من مكة للقتال ، مما يدل على أنهم هم الغزاة( ).
الثاني : الشهداء من المؤمنين الذين قتلوا غدراً وغيلة كما في سرية بئر معونة وهي خاصة بتعليم القرآن والتفقه في الدين ، وبناء على طلب من أهل القرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإرسالهم.
وعن اسحاق بن يسار وغيره قالوا (قدم أبو براء عامر بن مالك بن مالك بن جعفر ملاعب الاسنة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعرض عليه الإسلام ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد عن الإسلام وقال يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنى أخشى أهل نجد عليهم قال أبو براء أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنذر بن عمرو أخى بنى ساعدة المعبق ليموت في اربعين وعن غير ابن اسحق في سبعين رجلا من اصحابه من خيار المسلمين فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهى بين ارض بنى عامر وحرة بنى سليم كلا البلدين منها قريب وهى إلى حرة بنى سليم اقرب فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله ثم استصرخ عليهم بنى عامر فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا فاستصرخ عليهم قبائل من سليم عصية ورعلا فأجابوه إلى ذلك ثم خرجوا حتى غشوا
القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا سيوفهم فقاتلوهم حتى قتلوا إلى آخرهم رحمهم الله إلا كعب بن زيد أخا بنى دينار بن النجار فانهم تركوه وبه رمق فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا رحمه الله.
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمرى ورجل آخر من الانصار أحد بنى عمرو ابن عوف.
قال ابن هشام هو المنذر بن محمد بن عقبة بن احيحة بن الجلاح.
قال ابن اسحق فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر فقالا والله ان لهذه الطير لشأنا فأقبلا ينظر ان فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التى أصابتهم واقفة فقال الانصاري لعمرو بن أمية ماذا ترى قال نرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنخبره الخبر فقال الانصاري لكنى ما كنت لارغب بنفسى عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ثم قاتل القوم حتى قتل رحمه الله وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا فلما أخبر هم انه من مضر أخذه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه.
فحرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقوة من صدر قناة أقبل رجلان من بنى عامر حتى نزلا معه في ظل هو فيه فكان مع العامريين عقد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجوار لم يعلم به عمرو بن أمية وقد سألهما حين نزلا ممن أنتما فقالا من بنى عامر فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يرى ان قد أصاب بهما تؤرة من بنى عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره الخبر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقد قتلت قتيلين لادينهما ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا عمل أبى براء قد كنت لهذا كارها متخوفا فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه اخفار عامر إياه
وما أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسببه.
وقال حسان بن ثابت يحرض بنى أبى براء على عامر بن الطفيل:
بَنِي أُمّ الْبَنِينَ أَلَم يَرُعْكُمْ … وَأَنْتُمْ مِنْ ذَوَائِبِ أَهْلِ نَجْدِ
تَهَكّمُ عَامِرٍ بِأَبِي بَرَاءٍ … لِيُخْفِرَهُ وَمَا خَطَأٌ كَعَمْدِ
أَلَا أَبْلِغْ رَبِيعَةَ ذَا الْمَسَاعِي … فَمَا أَحْدَثْتَ فِي الْحَدَثَانِ بَعْدِي
أَبُوك أَبُو الْحُرُوبِ أَبُو بَرَاءٍ … وَخَالُك مَاجِدٌ حَكَمُ بْنُ سَعْدِ)( ).
وكما في سرية الرجيع أو يوم الرجيع ، إذ سألت قبيلة عضل والقارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفراً من المسلمين ليعلموهم أحكام الإسلام ، وقالوا (يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ فِينَا إسْلَامًا ، فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِك يُفَقّهُونَنَا فِي الدّينِ وَيُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ وَيُعَلّمُونَنَا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ . فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَفَرًا سِتّةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ ، حَلِيفُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ؛ وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ اللّيْثِيّ ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ ، وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ ؛ وَخُبَيْبٌ بْنُ عَدِيّ ، أَخُو بَنِي جَحْجَبَى بْنِ كُلْفَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، وَزَيْدُ بْنُ الدّثِنّةِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَخُو بَنِي بَيَاضَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشَمِ بْنِ الْخَزْرَجِ ؛ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ طَارِقٍ حَلِيفُ بَنِي ظَفَرِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ .
وَأَمّرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَلَى الْقَوْمِ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ ، فَخَرَجَ حَتّى إذَا كَانُوا عَلَى الرّجِيعِ ، مَاءٍ لِهُذَيْلٍ بِنَاحِيَةِ الْحِجَازِ ، عَلَى صُدُورِ الْهَدْأَةِ غَدَرُوا بِهِمْ فَاسْتَصْرَخُوا عَلَيْهِمْ هُذَيْلًا ، فَلَمْ يَرُعْ الْقَوْمَ وَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ إلّا الرّجَالُ بِأَيْدِيهِمْ السّيُوفُ قَدْ غَشُوهُمْ فَأَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ لِيُقَاتِلُوهُمْ فَقَالُوا لَهُمْ إنّا وَاَللّهِ مَا نُرِيدُ قَتْلَكُمْ ، وَلَكِنّا نُرِيدُ أَنْ نُصِيبَ بِكُمْ شَيْئًا مِنْ أَهْلِ مَكّةَ وَلَكُمْ عَهْدُ اللّهِ وَمِيثَاقُهُ أَنْ لَا نَقْتُلَكُمْ)( ).
ولكنهم فتكوا بهم وقتلوهم وأخذوا اثنين منهم أسرى لبيعهم في مكة على مشركي قريش وهما :
الأول : زيد بن الدثنة .
الثاني : خبيب بن عَدي.
الثالث : يتامى عموم المسلمين لمن مات على فراشه.
الرابع : يتامى أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
الخامس : يتامى المشركين ممن يخالط المسلمين في مدنهم وقراهم.
السادس : يتامى الكفار الذين حاربوا الإسلام سواء من وقع في الأسر أو من لم يقع فيه.
وهناك تناف واختلاف بين بعض هذه الوجوه وبعضها الآخر، من جهة سبب اليتم .
ولكن الموضوع واحد والآية تفيد العموم والإطلاق وشمول اليتيم بالمعنى اللغوي لمضامين الأوامر الواردة فيها بغض النظر عن موضوع وسبب فقد ابيه لأن المدار على الإنسانية واعداد اجيال المستقبل للإسلام دخولاً او تعاهداً له وللفرائض .
وبذا تتجلى مفاهيم النظرية الأخلاقية الإسلامية وارادة اصلاح الناس والمجتمعات كافة ومد يد العون لكل محتاج في باب العون المادي والتربية والأخلاق بغض النظر عن انتمائه ونسبه خصوصاً وان اليتيم لا يتحمل وزر سوء عمل غيره فابن الكافر لا يتحمل مسؤولية اختيار ابيه الكفر والإسلام رحمة للناس جميعاً.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
ولغة العموم في حسن المعاملة مع اليتامى تتجلى بقوله تعالى [قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ] أي عدم الإعراض عن اليتامى وتركهم يتيهون في الرذيلة ومن يشب وفي صدره غل على الإسلام والمسلمين عامة او على الذي قتل أباه مع انه قتل بالحق، فكما ان موضوع الإسترقاق يأتي بعد اسر الكافر لإصلاحه وتوجيهه وتقريبه من الإسلام حتى اذا أسلم استحب عتقه ليكون بذات الرتبة والحقوق التي لعامة المسلمين كجزء من فلسفة الرق في الإسلام وعظيم نفعها، ومنها أن جعل العتق كفارة لليمين ، قال تعالى [فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، وكان العرب قبل الإسلام يقومون بالإغارة والنهب والسلب والإغارة على القبائل الأخرى وأخذ النساء والصبيان سبايا ، وبيعهم بسوق النخاسة .
وسيأتي الجزء الواحد والعشرين بعد المائتين من هذا التفسير قصة زيد بن حارثة وكيف أن أمه كانت في زيارة إلى أهلها وهم من بني نبهان من قبيلة طي ، فاغارت عليهم خيل من بني فزارة فأخذوه من بين يدي أمه لبياع في سوق حباشة في مكة وعمره نحو ست سنوات فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد التي وهبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما تزوجها .
فكذلك بالنسبة لليتيم فان الإسلام يحتضن يتامى الكافرين لإصلاحهم وارشادهم ودعوتهم العملية الى الإسلام ومنع انحرافهم وانخراطهم في صفوف الكفار، اما يتامى المسلمين فانهم أولى بالعناية والإصلاح ووراثة ابائهم في تعاهد الملة والدين وهؤلاء هم الأكثر عدداً من بين اليتامى .
أما يتامى الشهداء فان رعايتهم امانة وهم تركة الإسلام والتضحية والإخلاص، لقد اراد اباؤهم الإصلاح للناس جميعاً والأمن والعز للمسلمين والحفظ لأموالهم واعراضهم، فمن الوفاء والأخلاص العناية بهم والمبالغة في اكرامهم فهم تركة الجهاد، وفرع اصله في دار الخلد .
فاليتامى ابتلاء للناس قبل ان يكون للصبيان وهذا الإبتلاء مركب من لزوم تعاهدهم والإحسان اليهم والحيلولة دون وقوعهم في الزلل والخطأ، ومن نتائج الإخلال بهذا التعاهد احتمال الضرر النوعي العام ولفظ (خير) وموضوعه في الآية له مصاديق وافراد متعددة خصوصاً وان الآية لم تقل ” خير لهم” بل جاء اللفظ بصيغة التنكير والقضية المهملة ومن المصاديق:
الأول : المسلمون.
الثاني : ذراري المسلمين الذين يخالطون اليتامى في صغرهم وكبرهم.
الثالث : اليتامى انفسهم وأبناءهم.
الرابع : الأموات من آباء اليتامى بما يلحقهم من السكينة على أولادهم، أو من الثواب عندما يتجه أولادهم نحو العمل الصالح.
الخامس : آباء المسلمين بما يلحقهم من الثواب والأجر للعناية باليتامى.
السادس : المجتمعات الإسلامية فان صلاحها من صلاح افرادها خصوصاً وإن العناية تدل على الصلاح على نحو مركب فهي هداية للمسلمين وباب رشاد لليتامى.
السابع : الثواب العظيم المترتب على رعاية اليتامى وتولي شؤونهم وقضاء حاجاتهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من كفل يتيماً له ذو قرابة أو لا قرابة له فأنا وهو في الجنة كهاتين ، وضم أصبعيه . ومن سعى على ثلاث بنات فهو في الجنة وكان له كأجر مجاهد في سبيل الله صائماً قائماً( ).
وتبحث الرأفة والعناية باليتامى على الرحمة بالأبناء وتربيتهم وإصلاحهم من باب الأولوية وإذ كان المشركون يقومون بقتل البنت وهي صغيرة خشية السبي والعار الذي يلحقهم بسببه ، وخشية الإنفاق عليها .
جاءت السنة النبوية بالحض على العناية بالبنت وأنها طريق إلى الجنة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من مسلم له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة( ).
الثامن : نزول الرحمة والإلفة عند العناية باليتامى أي ان مسألة اليتامى باب لإصلاح المجتمعات فالذي يعتني باليتيم يدعو غيره للمحبة والوئام ونبذ الظلم والحيف كما انه باب للتخلي عن الغرور والإستبداد واستضعاف الآخرين.
التاسع : ان الرأفة باليتيم اصلاح للنفوس ومنع من الكبر واحتقار الآخرين، وهي مناسبة كريمة لإظهار معالم التواضع، والتواضع مقدمة للخشوع والخضوع لله سبحانه، أي ان الإنسان يتواضع في معاملته مع الآخرين فينزع رداء الخيلاء فينشرح صدره للإيمان ويهون عليه آداء الفرائض ، قال تعالى [وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ]( )، أي تواضع واجنب الخيلاء والإسراع وما فيه من عدم الإلتفات للناس والسلام عليهم ، أو رد السلام.
العاشر : (خير) افعل تفضيل في المقام لا يعني ترك اصلاحهم ولا يعني التفاوت في الرتبة في العمل والأثر الخاص والعام، بل هو قيد احترازي وليس توضيحياً بمعنى إن الخير في إصلاحهم وان كانت وجوه الإصلاح متعددة .
فاصلاحهم على نحو الواجب الكفائي الذي يتوجه فيه الخطاب للناس جميعاً فان قام به احدهم او بعضهم سقط عن الجميع وان لم يقم به واحد منهم اثم الجميع .
لكن ان قصر الجميع ولم يقوموا بوظائفهم ازاء اليتامى فهل تغيب آلة الإصلاح الجواب لا، [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، وهو القادر على ان يجعل اصلاح اليتامى ذاتياً بمعنى من داخل نفوسهم بتوفيق ولطف منه تعالى، او يسخر لهم الله عز وجل اسباباً غير متوقعة او غير ظاهرة .
لذا ترى الآية ذكرت (اصلاح) على نحو القضية المهملة وبما يجعل تعلق الإصلاح بتلقي اليتامى له وليس بقيام المسلمين به أي لم تقل الآية اصلاحكم لهم، بل قالت اصلاح لهم مع انها بالأصل دعوة وحث للمسلمين على اصلاحهم , قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
الحادي عشر : الدعوة للمسلمين باصلاح اليتامى لا تنحصر بالرجال منهم بل تشمل الرجال والنساء، وقد تكون وظائف النساء في اصلاح اليتامى أكبر وأكثر تأثيراً من الرجال خصوصاً في المواضيع المتعلقة بالاناث من اليتامى اللائي يحتجن الى الرعاية والعناية اكثر من اخوانهن الذكور غالباً وكذا بالنسبة لأحوال الحروب والإنشغال بالدفاع فان وظائف إضافية مستحدثة تفرض نفسها على النساء منها الإهتمام الزائد باليتامى والصبيان مطلقاً والإشراف المباشر على تربيتهم واصلاحهم .
وقد تكون تلك الوظائف اكبر حجماً وأكثر إتساعاً من وظائف الرجال في ذات الباب بلحاظ ان غياب الرجال وانشغالهم في سوح المعارك قد يسبب انفلاتاً ورغبة عند الصبيان مطلقاً واليتامى خاصة للخروج على الأعراف أو العادات والقيم المتعارفة، أو أن كثرة مسؤوليات المرأة تجعلها لا تولي عناية خاصة باليتامى فيكفيها الجهد الإضافي في البيت ومؤونته وحاجات أولادها .
فتأتي هذه الآية لتطرد الغفلة وتنهى عن الكسل وتحث على تحمل المسؤوليات الجسام لأن المدار على الغايات الحميدة والمصالح والمفاسد، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
لقد بينت الآية قاعدة كلية تتغشى حياة كل يتيم وتنبسط على ايام الحياة الدنيا وهي ان الإصلاح لليتامى هو الأفضل والأتم والأكمل .
ومن مفاهيم النهي عن ترك اليتامى التفريط بهم او ميلهم إلى المنكر طوعاً او قهراً .
ثم أمرت الآية بمخالطة اليتامى مع ان وصف اليتيم لا ينطبق الا على من لم يبلغ خمس عشرة من عمره، بالنسبة للذكر .
بينما يتوجه الخطاب الى عموم المسلمين الكبار والصغار والحاكم والمحكوم، والسيد والعبد نعم يحمل الخطاب على طريقه السبر والتقسيم فيما يخص الرجال والنساء، فالنساء تخالط اليتيمات، والرجال والأولاد يخالطون الأيتام الذكور وهذا الإختلاط مقيد بشرائط الشريعة والأخوة الإيمانية، فالآية جاءت لمنع المخالطة على نحو الإطلاق بل مقيدة بالإيمان لمنع الضرر ودفع الأذى.
وفي الآية دعوة لإكرام اليتامى وعدم تجاهلهم أو النظر لهم بمنظار الأدنى، لأن الأخوة تفيد في بعض معانيها المساواة والإحترام كما إن المخالطة جاءت في الآية على نحو التخيير وليس التعيين بدليل اداة الشرط (ان) مما يعني ان المخالطة ليست الطريق الوحيد للإصلاح ولكنها ان اتخذت سبيلاً للإصلاح او جاءت عرضاً بسبب المعاملة والسكن ونحوهما فلابد ان تكون وفق ملاك الأخوة الإيمانية .
فبين الإصلاح والمخالطة في الآية عموم وخصوص مطلق، فكل مخالطة هي إصلاح وليس العكس بمعنى أن افراد المخالطة يجب ان تكون من مصاديق الإصلاح ويكفي ان تكون صيغة المخالطة الإيمان والهدى.
وتجلت بقوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ]( )، عدة مفاهيم فقهية منها :
الأولى : قاعدة نفي الحرج في الدين .
الثانية : قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام .
الثالثة : قاعدة ما على المحسنين من سبيل .
الرابعة : قاعدة إنما الأعمال بالنيات .
وفي الآية تنبيه وتحذير واخبار عن إحاطته تعالى بأفعال العباد، والتذكير بعلمه تعالى في المقام يدل على أهمية الأمر ولحصول ما يغيب عن أبصار الشهود والناس من وقائع يومية داخل البيت أو العمل في الصلة مع اليتامى، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
كما ان الآية حرز وواقية من أهل الظنة وأسباب الريب والشبهة، فقد يقوم إنسان بالإحسان إلى اليتامى ولكن بعض الحساد يفتري عليه أو يستغيبه أو يظن به سوء فينكص عن عمله أو إنه يتردد أصلاً ويتوقف عن الإحسان إليهم خشية الحسد والغيرة فتأتي هذه الآية لتخبر بأن الله عز وجل هو العالم بالسرائر وخفايا الأمور.
وأنه تعالى أجاز للمسلمين مخالطة اليتامي في أموالهم ، وطعامهم ، بالتقوى والإحسان للتقيد الظاهر في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا]( ).
وبعد معركة بدر وأحد أصبح وجود اليتامى في المدينة ظاهرة إذ استشهد من المسلمين في معركة بدر أربعة عشر (ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين) ( )، وهم :
الأول : عبيدة بن الحارث بن المطلب قتله عتبة بن ربيعة.
الثاني : عمير بن أبي وقاص بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة.
الثالث : ذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة.
الرابع : عاقل بن البكير.
الخامس : مهجع مولى عمر بن الخطاب.
السادس : صفوان ابن بيضاء.
ومن الأنصار :
السابع : سعد بن خيثمة.
الثامن : مبشر بن عبد المنذر بن زنبر.
التاسع : يزيد بن الحارث ، وهو الذي يقال له ابن فسحم.
العاشر : عمير بن الحمام.
الحادي عشر : رافع بن المعلى.
الثاني عشر : حارثة بن سراقة بن الحارث.
الثالث عشر : عوف بن الحارث.
الرابع عشر : معوذ بن الحارث.
واستشهد يوم معركة أحد سبعون أربعة من المهاجرين ، والباقي من الأنصار فنزل القرآن برعاية اليتامي وهو من الإعجاز الإجتماعي والأخلاقي للقرآن .
ونزل القرآن بالحضّ على الإنفاق عليهم من الحقوق الشرعية ، والصدقات المستحبة ، والإحسان إليهم .
ولما نزل قوله تعالى [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا]( )، قال ابن الدحداح : يا رسول الله لي حائطان أحداهما بالسافلة والآخر بالعالية وقد أقرضت ربي أحداهما .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قد قبله منك . فأعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم اليتامى الذين في حجره ، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : رب عذق لابن الدحداح مدلى في الجنة)( ).
وخاتمة الآية اخبار عن التخفيف واللطف الإلهي بالمسلمين وتفضله سبحانه باعانتهم واصلاحهم لبناء المجتمع وفق احكام وقواعد الإسلام والحيلولة دون ظهور الآفات الإجتماعية بسبب مسألة اليتامى .
فما في الآية من التكافل الإجتماعي وأسباب الحضانة والرعاية لليتامى إنما هي لإعانة المسلمين على طرد الفتن واسباب البلاء عنهم فالعناية باليتامى وبذل الوسع لإصلاحهم انما لأجل المسلمين عامة وهو باب للثواب والأجر وعون على التخفيف في شؤون الأسرة والمجتمع والسياسة، فمن عظيم قدرته وسلطانه ان هداهم الله لإصلاح اليتامى وتدارك ما لحق بهم من الأذى والحزن بفقد آبائهم.
ومن خصائص الآية نشر شآبيب الرحمة والمودة بين الناس ، وطرد الغضاضة والكآبة والأحقاد .
الصلة بين أول وآخر الآية
ابتدأت الآية بالجار والمجرور بما يفيد الربط والعطف الموضوعي على الآية السابقة ، وتقدير الجمع بين خاتمة الآية السابقة وأول هذه الآية : لعلكم تتفكرون في الحياة الدنيا .
وهل ينحصر التفكر في أمور الدنيا والآخرة ، خاصة وأن الآخرة ليس فيها تفكر إنما هي نعيم دائم ، الجواب الآية أعم ، ومن معانيها وجوه :
الأول : لعلكم تتفكرون في ماهية الحياة الدنيا .
الثاني : لعلكم تتفكرون في جني الصالحات استعداداً للآخرة .
الثالث : لعلكم تتفكرون في سبل النجاة في الدنيا والآخرة ، وإذ أختتمت الآية السابقة بالخطاب إلى المسلمين والمسلمات برجاء التدبر وتوظيف العقل في صلاح الذات والغير ، إنتقلت هذه الآية بالخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [َيَسْأَلُونَكَ] وهل هذا السؤال من التفكر في الدنيا والآخرة ، الجواب نعم .
وصحيح أن أول آية البحث متصل مع الآية السابقة ، لكن ما هي الصلة بينه وبين السؤال عن اليتامى ، في قوله تعالى [فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى]( )، الجواب فيه تذكير للمسلمين بأن الحساب يوم القيامة عن اليتامى وأموالهم شديد مثلما هو الثواب عظيم على الذي يعتني بهم ويقوم بكفالتهم ورعايتهم .
وقد ورد لفظ [فِي بُطُونِهِمْ] ثلاث مرات في القرآن ، كلها إنذار ووعيد وهي :
الأولى : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
الثانية : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا]( ).
الثالثة : قوله تعالى في ذم الكفار وبيان عقوبتهم يوم القيامة [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ *يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ]( ).
ونزل الوعيد في الآية أعلاه للذين طلبوا المبارزة يوم بدر وهم عتبة بن ربيعة وأخوه وابنه الوليد بن عتبة ، لبيان أن قتل الكافرالمحارب لله ورسوله مقدمة لعذابه المستديم في النار .
و(أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : لما التقوا يوم بدر قال لهم عتبة بن ربيعة : لا تقتلوا هذا الرجل ، فإنه إن يكن صادقاً فأنتم أسعد الناس بصدقه ، وإن يكن كاذباً فأنتم أحق من حقن دمه . فقا أبو جهل بن هشام : لقد امتلأت رعباً .
فقال عتبة : ستعلم أينا الجبان المفسد لقومه .
قال : فبرز عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة ، فنادوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فقالوا : ابعث إلينا أكفاءنا نقاتلهم . فوثب غلمة من الأنصار من بني الخزرج .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اجلسوا . . . قوموا يا بني هاشم .
فقام حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث فبرزوا لهم .
فقال عتبة : تكلموا نعرفكم أن تكونوا أكفاءنا قاتلناكم .
قال حمزة : أنا حمزة بن عبد المطلب ، أنا أسد الله وأسد رسوله .
فقال عتبة : كفء كريم .
فقال علي : أنا علي بن أبي طالب .
فقال : كفء كريم .
فقال عبيدة . أنا عبيدة بن الحارث .
فقال عتبة : كفء كريم .
فأخذ حمزة شيبة بن ربيعة ، وأخذ علي بن أبي طالب عتبة بن ربيعة ، وأخذ عبيدة الوليد . فأما حمزة ، فأجاز على شيبة ، وأما علي فاختلفا ضربتين ، فأقام فأجاز على عتبة ، وأما عبيدة فأصيبت رجله .
قال : فرجع هؤلاء وقتل هؤلاء ، فنادى أبو جهل وأصحابه : لنا العزى ولا عزى لكم ، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، فأنزل الله هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ( ).
التفسير
قوله تعالى [فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ]
تتعلق الآية بما سبق ولكن إفرادها في بداية الآية له دلالات عقائدية في عالم الآخرة والحساب والتفكر هنا انحلالي يتفرع الى ثلاث شعب:
الأولى : التفكر في الدنيا.
الثانية : التفكر في الآخرة كلاً على إنفراد.
الثالثة : التفكر في الدنيا والآخرة على نحو الإجتماع ، وكيف أن الدنيا مزرعة الآخرة ، قال تعالى [وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الرابعة : اثر الدنيا في عالم الآخرة والحساب.
الخامسة : اثر الآخرة في عالم الدنيا والأعمال والتفكير والسعي في الدنيا يجب أن لا ينسي الآخرة ولا التفكير في الآخرة والسعي لها ينسي الدنيا وهذه القاعدة مستقرأة من النصوص ، وفي التنزيل [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً]( ).
السادسة : قال الحسن البصري فيه تقديم وتأخير، والتقدير كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا، ففرض التقديم والتأخير على ما قاله الحسن يكون عدولاً عن الظاهر، وقال الرازي انه لا يجوز، وهو الأصح لأن الآية تحمل على الظاهر الا مع القرينة الصارفة عنه, وهي مفقودة في المقام بل ان التفكر في الآخرة يقود قهراً الى التدبر بآياتها واهوالها والجزاء والخلود فيها وكأنها ماثلة امام الأبصار.
وتدل الآية على اتصال الآيات وعدم انقطاعها وان الدنيا طريق وسبيل ومدخل ومقدمة لعالم الآخرة، وتخفف الآية من وقع التكاليف وتهون من أذى الإبتلاء لأن التفكر بالآخرة يجعل الإنسان يتطلع الى الثواب فيكون عنده العناء غبطة, والتعب راحة ,وإجتناب الخمر والميسر بمنظار الآخرة عبادة.
ومن إعجاز الآية الإخبار عن ظهور مفاسد كثيرة واضرار في الأبدان والأقوال والأفعال نتيجة شرب الخمر ولعب الميسر وشدة العقاب على شرب الخمر والميسر، وبالمقابل فان الآخرة دار الجزاء الحسن على إفشاء العفو والتسامح والإحسان إلى الناس والرأفة باليتامى.
بحث كلامي
بدأت الآية بالجار والمجرور وهما متعلقان بـ(تتفكرون) من الآية السابقة أي إن بيـان الآيات للإعتبـار والموعـظة والتدبر بكيفية التصرف في الدنيا وأحوال الإنسان في الآخرة .
باعتبار ان العقل رسول باطن يهدي إلى الصالحات وأداء الفـرائض، والآيـات الباهرات دعوة للشكر له تعالى، والتفكر بالآخـرة وحتمية الحساب والخلود في الجنة او المكث في النـار سبــب وعلة للهداية والإيمـان والآية ليســت من اللف والنشر، إذ أن التفكر في الآية إنحلالي ينقسم الى:
الأول : التفكير بالنشأة الأولى.
الثاني : التفكير والتدبر بمصير الإنسان في النشأة الآخرة.
الثالث : التفكير فيهما على نحو الإجتماع.
الرابع : إن التفكير باحدهما يعود انطباقاً وقهراً الى التفكير بالثانية فالدنيا مزرعة الآخرة.
قوله تعالى [وَيَسْألُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى]
الأول : الظاهر من السؤال إنه يتعلق بكيفية التصرف مع اليتامى خصوصاً وإنهم على مراتب مختلفة من القرب والبعد النسبي وفي الحالة المادية فمنهم من له تركة وأموال، ومنهم من هو فقير ومنهم صغير يحتاج الى الحضانة، ومنهم الذكر والانثى.
وعن (مالك القشيري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من أعتق رقبة مسلمة فهي فداؤه من النار عظم من عظام محرره بعظم من عظامها ، ومن أدرك أحد أبويه فلم يغفر له فأبعده الله تعالى . ومن ضم يتيما بين أبويه مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله تعالى وجبت له الجنة)( ).
الثاني : إن السؤال عن اليتامى وكيفية التعامل معهم حالة من حالات تهذيب النفس والارتقاء الفكري والاجتماعي.
الثالث : يدل السؤال على التفات المسلمين لتنظيم المجتمعات وفق الاحكام الشرعية والنواميس التي جاءت بها السنة.
الرابع : السؤال عن اليتامى يأتي للأسباب المتعارفة من موت الآباء عند حلول آجالهم ويزداد الابتلاء في موضوعه في أوقات الحروب وكثرة المعارك والأوبئة، وقد إزدادت هذه المعارك وتعددت حدتها بين المسلمين ومشركي قريش بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى المدينة، وهذه الآية مدنية.
ومن هذه المعارك معركة بدر, وأحد ، والخندق ، والحنين ، وكلها نشبت بغزو من المشركين ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع واضطرار للقتال ، قال تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ .
وقد صدرت والحمد لله أجزاء عديدة من هذا السِفر المبارك في قانون (لم يغزُ النبي (ص) أحداً) وهي :
الأول : الجزء التاسع والخمسون بعد المائة.
الثاني : الجزء الستون بعد المائة.
الثالث : الجزء الحادي والستون بعد المائة.
الرابع : الجزء الثالث والستون بعد المائة.
الخامس :الجزء الرابع والستون بعد المائة.
السادس : الجزء الخامس والستون بعد المائة.
السابع : الجزء السادس والستون بعد المائة.
الثامن : الجزء السابع والستون بعد المائة.
التاسع : الجزء التاسع والستون بعد المائة.
العاشر : الجزء الحادي والسبعون بعد المائة .
الحادي عشر : الجزء الثاني والسبعون بعد المائة .
الثاني عشر : الجزء الثالث والسبعون بعد المائة .
الثالث عشر : الجزء الخامس والسبعون بعد المائة.
الرابع عشر : الجزء السادس والسبعون بعد المائة.
الخامس عشر : الجزء السابع والسبعون بعد المائة .
السادس عشر : الجزء الثامن والسبعون بعد المائة .
السابع عشر : الجزء الثاني والثمانون بعد المائة .
الثامن عشر : الجزء الخامس والثمانون بعد المائة .
التاسع عشر : الجزء الثامن والثمانون بعد المائة.
العشرون : الجزء الثاني والتسعون بعد المائة .
الواحد والعشرون : الجزء المائتان .
الثاني والعشرون : الجزء الثامن بعد المائتين .
الثالث والعشرون : الجزء الثاني عشر بعد المائتين .
الرابع والعشرون : الجزء الثامن عشر بعد المائتين .
الخامس : يدل السؤال عن اليتامى بالدلالة الإلتزامية على تسليم المسلمين ورضاهم بالشهادة في سبيل الله، ولم يحتسب الاهل والعمومة فقد الشهيد خسارة ولكنهم سألوا عن كيفية معـالجة ما تـرك من بعده من الاولاد الصغار.
السادس : الآية نوع مكافئة للشهيد سواء بالسؤال او الجواب او ببيان احكام اليتامى.
وبين اليتامي الذين تذكرهم الآية وبين ابناء الشهداء عموم وخصوص مطلق ، فاليتامى أعم ، وهل تشمل الآية يتامى أهل الكتاب والمشركين ، أم إنها خاصة بيتامى المسلمين المختار هو الأول ، لأصالة الإطلاق.
السابع : الآية حث على تأسيس جمعيات ومؤســسات خاصـة بشؤون اليتامى وتعاهدهم وتولى اعدادهم.
و (عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من ضم يتيما له أو لغيره حتى يغنيه الله عنه وجبت له الجنة)( ).
الثامن : جاء السؤال على نحو الإطـلاق والقضـية المهملة من غير حصر بأولاد ذوي القربى أو أولاد المسلمين مما يدل على النظرة الإنسانية والرقي الأخلاقي عند المسلمين فينبسط موضوع السؤال على كل يتيم.
التاسع : السؤال عن اليتامى وبصيغة الجمع يدل على الإبتلاء بهذه المسألة موضوعاً وحكماً خصوصاً مع كثرة الشهداء والضحايا الأمر الذي يدل بالدلالة الإلتزامية على ظهور مشكلات إجتماعية واقتصادية واخلاقية طارئة وحصول عبأ إضافي على المسلمين، لو لا تداركها بفضل الله ونزول القرآن.
فجاء السؤال عن إبتلاء، وتفضل سبحانه بالوقاية والعلاج ، ومن الآيات في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يتيماً قال تالى [أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى]( ).
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : سألت الله مسألة وددت أني لم أكن سألته ذكرت رسل ربي فقلت : يا رب ، سخرت لسليمان الريح ، وكلمت موسى فقال تبارك وتعالى : ألم أجدك يتيما فآويتك وضالا فهديتك وعائلا فأغنيتك ، قال : فقلت : نعم . فوددت أن لم أسأله( ).
العاشر : السؤال عن اليتامى دعوة للاهتمام بشـؤون الصغار والصبيان مطلقآ وإن لم يكونوا فاقدين للآباء.
الحادي عشر : اللجوء الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقصد معرفة أحكام اليتامى وكيفية التصرف معهم دلالة على السـمو العقائدي والحرص على عدم الصـدور والفعل الا بالاخذ من مصـدر التشريع ومشكاة النبوة.

قوله تعالى [قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ]
الأول : في الآية اطلاق في موضوع الاصــلاح فهو لا ينحصـر بمورد دون آخر بل يشمل مختلـف جوانب الحيـاة الأخلاقية والاجتماعية والمعاشية في اليوم والليلة، وكذا شؤون الاخرة وكيفية الاستعداد لها.
وهل فيه ارشاد اليتامى لإجتناب الإرهاب والعنف والتطرف ، الجواب نعم .
الثاني : أفضلية ومنافع اصلاح اليتامى لا تنحصر بهم وبمصالحهم بل تشمل الولي لانه من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولأنه من فعل الخير ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الثالث : في إصلاح اليتامى اصلاح للمجتمع مطلقاً لأنهم جزء منه، ولأن فساد الجزء يؤثر سلباً على الكل.
الرابع : إصلاح وإرشاد وهداية اليتامى حجة على غيرهم آباء وأمهات وابناء والذين يجب ان يكـون صــلاحهم من باب أولى، فينشأ جميع الاولاد على الادب والتقوى والعلم.
الخامس : قد تحتاج الفتاة الى أسباب الإصلاح اكثر من الولد وقد يكون العكس و من وجوه اصلاحها عدم عضلها عن الزواج.
وفي قوله تعالى [وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا]( )، ورد عن الضحاك : نزلت هذه الآية في الرجل تكون في حجره اليتيمة ، فيكره أن يزوجها لأجل مالها ، فتكون تحته العجوز ونفسه تشوق إلى الشابة ، فيكره فراق العجوز بتوقع وفاتها ليرثها مالها وهو معتزل لفراشها( ).
السادس : إصلاح اليتامى لا ينحصر بانفسهم بل يشمل حفظ أموالهم ومنع تلفها أو إنفاقها من غير تدبير، سواء كانت الأموال مقصودة بالذات أو إن حفظها وتعاهدها يؤدي بالواسطة الى صلاح شخص اليتيم وتنظيم شؤونه الشخصية.
السابع : من وجوه الاصلاح توظيف أموال اليتامى بما ينفع في نمائها، فلو انحصر التصرف بها بالمؤونة لجـاءت النفقة عليها ولما بقي منها شيء، واصبح اليتيم كلاً على غيره.
الثامن : السؤال الوارد في الآية مطلـق، بينما أفاد الجواب القرآني التخصيص بالإصلاح مما يعني إن الإصلاح سبيل لمعالجة كل ما يتفرع عن اليتم من وجوه الإبتلاء والإفتتان.
التاسع : هذه الآية من الآيات العلاجية التي تهدف الى تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات.
العاشر : اصلاح اليتامى من التعاون على البر والتقوى ، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( )، وتولي الدول والمؤسسات التربوبية عناية فائقة بالناشئة ، وكيفية اعدادهم ليكونوا بناة المستقبل ليكون من إعجاز القرآن السبق في هذا المضمار ، والتفت إلى ما تعجز عنه المؤسسات بتأكيد على العناية باليتامى ، وإصلاحهم لأداء الفرائض والعبادات والإمتناع عن السيئات وظلم الغير والتعدي .
(وكان عرب اليمن تكتب الحكمة في الحجارة طلباً لبقائها. والناس يقولون: التأديب في الصغر كالنقش على الحجر)( ).
ومع أن القرآن كله حكمة فلم يكتب على الحجر ، إنما تعاهده المسلمون بقلوبهم وتدوينهم على الأدم والورق وجريد النخل ونحوه .
وروي أن الذي يتعلم العلم في صغره كالنقش على الحجر ، ومثل الذي يتعلم العلم في كبره كالذي يكتب على الماء ، وليس هذا القول بتام فقد دخل الصحابة الإسلام ومنهم الشاب والكهل والشيخ وتفقهوا في الدين .
أنما الكبير قد ينشغل عن طلب العلم أو اثناء طلبه بهجوم الدنيا والمعاش فجاءت الآية لإعانة اليتامى في التحصيل والكسب العلمي .
قوله تعالى [وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ]
في الآية وجوه :
الأول : ظاهر أسباب النزول إن المسلمين تجنبوا أموال اليتامى وحرصوا على فصلها عن أموالهم وتورعوا عن المساس بها وجعلوا أموال اليتامى ومؤونتهم مستقلة ومنفصلة عن مؤونتهم، والآية أعم في موضوعها وأحكامها.
الثاني : الآية دعوة للتداخل والتقارب الإجتماعي ونشر الود والمحبة وتــدل بالدلالة التضمنية على فوائد عظيمة في الاختلاط وفق أحكام الشريعة بين الأسر والجماعات.
الثالث : مخالطة اليتامى مقيدة ومشروطة بعناوين الإصلاح والصلاح.
الرابع : الإصلاح على درجات متباينة وجهـاته مختلفة بحسـب الحال ووجــود التركة والمال، لذا تبرز مسألة الوصي والقيم وولاية الحاكم الشرعي.
الخامس : تنفــي الآيــة الحــرج وتمنع من التشديد على النفس وتمييز طعام اليتيم والخشــية الزائدة من احتمال التعدي على حقوقه وأمواله فقد يكون من الإحتياط المخالف للإحتياط.
وسأل رجل ضرير البصر الإمام الصادق عليه السلام فقال : إنا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام، معهم خادم لهم، فنقعد على بساطهم ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم، وربما اطعمنا فيه طعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم، فما ترى أصلحك الله .
فقال : قد قال الله [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( )، فأنتم لا يخفى عليكم وقد قال الله [وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ]( ).
ثم قال : وإن كان دخولكم عليهم فيه منفعة لهم فلا بأس، وإن كان فيه ضرر فلا شى: عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يارسول الله إن أخى هلك وترك أيتاما ولهم ماشية فما يحل لي منها .
فقال رسول الله: إن كنت تليط حوضها، وترد نادتها، وتقوم على رعيتها فاشرب من ألبانها غير مجتهد ولاضار بالولد [وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ]( ).
السادس : الآية خطاب إجتماعي عام، وينحل إلى خطابات الأفراد للنهوض بالمجتمع بحسن الصلات مع اليتامى ، وتربية الأبناء تربية صالحة ، ومن خصائص الأطفال اكتساب العادات من الغير ، فأراد الله عز وجل سيادة عادات التقوى والهداية .
السابع : في الآية اشارة الى إكـرام اليتامى ومعاملتهـم على قــدر من الاحترام ومنع الاستخفاف بهم.
الثامن : تبين الآية العناية الخاصة التي يوليها الإسلام للناشئة والأجيال اللاحقة بالإهتمام بشرائحه وفئاته المختلفة كل بحسب حاله وشأنه.
وقد ورد لفظ (اليتيم) و(اليتامى) في آيات من القرآن :
الأول : [وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ]( ).
الثاني : [وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ]( ).
الثالث : [كَلاَّ بَل لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ]( ).
الرابع : [فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ]( ).
الخامس : [فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ]( ).
السادس : [لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ]( ).
السابع : [وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ]( ).
الثامن : [قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ]( ).
التاسع : [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ]( ).
العاشر : [وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ]( ).
الحادي عشر : [وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ]( ).
الثاني عشر : [وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ]( ).
الثالث عشر : [وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ]( ).
الرابع عشر : [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا]( ).
الخامس عشر : [وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ]( ).
السادس عشر : [قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ]( ).
السابع عشر : [وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ]( ).
الثامن عشر : [فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى]( ).
التاسع عشر : [وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ]( ).
العشرون : [فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ]( ).
الحادي والعشرون : [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]( ).
الثاني والعشرون : [يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ]( ).
الثالث والعشرون : [أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى]( ).
وهل تبعث الآية على الإستثمار والمضاربة في أموال اليتامى ، الجواب نعم ، إذا كان فيها حفظ لأصل الماء ، ونماء وزيادة وعدم الغبن ، قال تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
وسيأتي مزيد كلام في الجزء الواحد والعشرين بعد المائتين من هذا التفسير في قانون (الإضرار الإقتصادية للإرهاب).
قوله تعالى [فَإِخْوَانُكُمْ]
وفيه وجوه :
الأول : أي فاليتامى إخوانكم في الدين والإيمان، وتلك قاعدة كلية تتفرع عنها عدة مسائل تبعث على التعاون والتراحم ، وقال الفراء: ولو نصبته كان صواباً والمعنى فإخوانكم تخالطون.
الثاني : اطلاق صفة الإخوان على اليتامى عز لهم ودعوة للمعاملة معهم كأكفاء ومؤهلين للاختلاط والنكاح والمصاهرة.
الثالث : اليتامى بمنزلة آبائهم الاجتماعية والنسبية، فهم وإن كانوا صغاراً إلا انهم يمثلون كياناً اجتماعياً مستقلاً.
و(عن ابن عباس في الآية قال : إن الله لما أنزل [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا]( )،الآية . كره المسلمون أن يضموا اليتامى وتحرجوا أن يخالطوهم في شيء ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأنزل الله [قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ]( )، يقول : لأحرجكم وضيق عليكم ، ولكنه وسع ويسر)( ).
الرابع : [فَإِخْوَانُكُمْ] لفظ يفيد الإطلاق وينحل إلى وجوه ومصاديق عديدة منها الأخوة في الإيمان والإسلام والمعاملة كطرف مستقل، قال تعالى [فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ]( ).
الخامس : تفيد الآية المعنى الأعم واخوة الانسانية فيشمل يتامى المسلمين وغيرهم، ولكن مع التفصيل فالاختلاط بيتامى المسلمين قد يختلف كماً وكيفاً عن الاختلاط والتعامل مع يتامى غيرهم .
والإصلاح مع يتامى المسلمين يعني تقويمهم أدباً وعلماً وفضلاً وإصلاح غيرهم بهدايتهم إلى الإسلام وأحكامه.
السادس : لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صغره يتيماً، وتكفله عمه أبو طالب وعاش حيـاة كريمة في صغره مما يستلزم تكفل اليتامى ورعايتهم قال تعالى [أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى].
لقد بعث عبد المطلب ابنه عبد الله وهو أبو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليمتار له (تمراً من يثرب فتوفي عبد الله وولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان في حجر جده عبد المطلب)( ).
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته .
قلت : يا ربّ إنك آتيت سليمان بن داود ملكاً عظيماً .
وآتيت فلاناً كذا .
وآتيت فلاناً كذا .
قال : يا محمد ألمْ أجدك يتيماً فآويتك .
قلت : بلى أي رب .
قال : ألمْ أجدك ضالا فهديتك .
قلت : بلى يا رب .
قال : ألمْ أجدك عائلا فأغنيتك .
قلت : بلى أي رب ( ).
وورد لفظ (فاخوانكم) ثلاث مرات في القرآن كلها خطاب للمسلمين وهي :
الأولى : [فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
الثانية : [فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ]( ).
الثالثة : [ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ]
وفيه وجوه :
الأول : آية مشتركة تتضمن الثناء والذم، والوعد والوعيد.
الثاني : إن وجود اليتامى في المجتمع موضوع للابتلاء وحصول الثواب واستحقاق العقاب.
الثالث :الآية دعوة لاظهار نية الإصلاح وقصده كما لو نوى شخص إصلاح وتعاهد مال اليتيم والإمتناع عن نية سلبه واكله، وكذا بالنسبة لحالات النكاح.
الرابع : اليتيم لصغره وضعفه وقلة معارفه وقصور نظره لايدرك وجوه الغبطة والمصلحة ولايعلم مواطن المكـر به والكيد له، فتكفل سبحانه الامر بالانذار والوعيد ، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الخامس : ظاهر الآية الثواب العاجل على الإحسان لليتيم، والإبتلاء لمن يضره ويؤذيه، وهو أمر يدرك بالوجدان والشواهد.
السادس : الآية قاعدة كلية لما فيها من الإطلاق في علم الله تعالى فقد أحاط سبحانه بكل شيء علماً.
السابع : تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على إن التصرف مع اليتامى مترشح عن السجايا النفسية والسيرة العامة للشخص.
الثامن : تدعو الآية الى الإصلاح مطلقاً مع اليتامى وغيرهم، ونبذ الأخلاق الذميمة والأفعال القبيحة.
والعلم من صفات الله الذاتية ، وعلم الله تعالى حضوري وشمولي ، وهو سبحانه يعلم الموجود والمعدوم .
وعن الإمام الكاظم عليه السلام (ليس بين الله وبين علمه حد) ( ).
وحينما سمع الإمام الصادق أحد أصحابه يقول (الحمد الله منتهى علمه فقال: لا تقل ذلك فإنه ليس لعلمه منتهى)( ).
وهل تختص الآية بالصلة والمعاملة مع اليتامة فيكون تقديرها : والله يعلم المفسد من المصلح مع اليتامى ، أم أن الآية مطلقة ، الجواب هو الثاني ، وهو من معاني موضوع النزول الذي هو أعم من أسباب النزول كما سيأتي بيانه في قانون علم موضوع النزول في الجزء الواحد والعشرين بعد المائتين من هذا التفسير( ).
ولاية الأب والجد
(مسألة 1) يجوز للأب والجد للأب وان علا أن يتصرفا في مال الصغير بالبيع والشراء والإجارة وغيرها، وكل منهما مستقل في الولاية، ولا تعتبر العدالة فيهما كما لا تعتبر في نفوذ تصــرفهما مصلحة الصغير بل يكفي عدم المرجوحية والمفسدة، ومع التخيير بين المصلحة وعدم المفسدة تقدم المصلحة.
(مسألة 2) ولايــة الأب والجــد للأب على الصغير اعم من أن تنحصــر بماله بل تشــمل حق اجارته وتزويـجــه ونحوهما، الا الطلاق فلا يملكانه بل ينتظــر بلوغــه، ولا يلحق به فسخ عقد النكاح عند موجبه.
(مسألة 3) الولاية على الصغير لا تخرج عن الأب والجد للأب، فليس لغيرهما ولاية عليه سواء الأم أو الأخ أو العم أو الخال أو الجد للأم.
(مسألة 4) من سبق تصرفه من الأب أو الجد في مال الصغير أو في نفسه ينفذ ولا يبقى موضوع للاحق الا مع ظهور الفساد والبطلان والضرر، وان علم التقارن ينفذ تصرف الأب على الأقوى.
(مسألة 5) لا يجب على الأب أو الجد المباشرة فيما يتولاه، ويجوز الإستنابة أيضا ولو توقف التصرف في مال الصغير على اجرة يجوز اخراجــها من ماله، ولا يجــب على الولي بــذل المال من عــنده ولــو تولى الولي العمل بنفســه يجوز له اخذ اجرة المثل من المال لإحترام عمله.
(مسألة 6) للأب والجد للأب نصب القيّم على الصغير لما بعد وفاتهما، فينفذ منه ما كان ينفذ منهما وعليه الإجماع، ويعتبر فيه الوثاقة والأمانة، كما يعتبر في نفاذ تصرفه الغبطة ومصلحة الصغير ولا يكفي مجرد عدم المفسدة.
(مسألة 7) لو فقد الأب والجد والوصي عنهما ترجع الولاية على الصغير الى الحاكم الشرعي بما يراه من المصلحة او كفاية عدم المفسدة، ومع فقده او تعذر رجوع الأمر اليه يتولى امره عدول المؤمنين فيتصرفون في امواله بما فيه صلاحه.
(مسألة 8) اعتبار العدالة في ولاية المؤمنين طريقي فيكفي الإطمئنان والوثوق بالإتيان بالعمل وفق الوظيفة الشرعية، والأحوط اذن الحاكم في حال التمكن منه، ولو لم يستأذن من الحاكم مع التمكن منه صح عمله المطابق للقواعد والمصلحة وان تجرئ.
(مسألة 9) لو دفع العمل من الفاســق وشك في صــحته وفساده يبنى على الصحة، ولو شك هل اتى باصــل العمل او لا، وادعى الإتيان به لا يسقط عن الغير الا اذا حصل بالقرائن او نحــوها الوثوق والإطمئنان.
(مسألة 10) لو شرع في الإتيان بالعمل يجوز لغيره اذا كان عادلاً مزاحمته، ولو اراد الفقيه في عمـل مما له الولايــة عليه يجــوز للفقيه الآخر مزاحمته مع وجـود الراجح الشرعي الا ان يكون ذلك مخلاً عرفاً.
(مسألة 11) يجب ان يكون الذي يؤتى به موافقاً للموازين الشرعية، ويجزي ان يكون بحسب تكليف الولي.
(مسألة 12) لو لم يتمكن بنفسه من التصدي واستلزم الأمر الى معين او معاون وجب الإعلام، ولو توقف على بذل مال فان وجد باذل او بيت مال معد لذلك يجب.
(مسألة 13) لو جاء الصبي ببعض التصرفات جامعة للشرائط فالظاهر السقوط عن الغير.
لا يجوز نقــل المصحـف الى الكافــر بيعاً واهـداء وارثاً ونحوها( ).
الناظر
(مسألة 2) يجوز للموصي ان يجعـل ناظراً على الوصي وتكون وظيفته بحسب تعيين الموصي لكيفيتها فتارة للإستيثاق على وقوع ما اوصى به بحسب الوصية فتكون اعمال الوصي باطلاع الناظر فيعترض عــما يراه مخالفاً لما قرره الموصي، واخرى من جهة عدم الإطمئنان بانظار الوصي.
(مسألة 3) لا يعمل الوصي شيئاً الا وفق ما يراه الناظر من الصلاح وموافقة قصد الموصي فيكون الوصي غير مستقل في الرأي والنظر وان كان مستقلاً في التصرف.
(مسألة 4) لو تصرف الوصي وفق نظره من دون مراجعة الناظر واطلاعه وكان عمله على طبق ما قرره الموصي فالظاهر صحة عمله ونفوذه اذا كان الناظر للإستيثاق بخلاف ما لو كان رأي الناظر مقوماً لفعل الوصي.
(مسألة 5) الناظر على قسمين:
الأول: للإستيثاق من فعل الوصي.
الثاني: موضــوعيته واعــتبار رأيه في تنفيذ الوصية والظاهر ان اغلب حالات جعل الناظر في الوصايا هو على النحو الأول اي الإستيثاق.
شروط القيم
(مسألة 6) يشترط في القيم على الأطفال ما يشترط في الوصي على المال ويشتد الإحتياط في اعتبار العدالة هنا وان قلنا بكفاية الأمانة ووجود الغبطة والمصلحة وعدم المفسدة.
(مسألة 7) لو عين الموصي للقيم جهة خاصة وتصرفاً معيناً اقتصر عليه كالإشراف على دراسة اطفاله وتعليمهم فليس له الولاية على اموالهم بالبيــع والشــراء والإجارة ونحوها ولو اطلق في خصوص الأولاد وقال: فلان قيم على اولادي كان ولياً على جميع ما يتعلق بهم من تعاهد اموالهم واستنمائها واستيفاء ديونهم والإنفاق عليهم بالمعروف وايفاء ما عليهم واخراج الحقوق المتعلقة باموالهم كالخمس، وليس له الولاية على اموال الموصي بالبيع والإجارة والمزارعة او بالإنفاق ونحوه.
(مسألة 8) يجوز التعدد في الولاية على الأطفال فتكون لإثنين او اكثر بالإستقلال او الإشتراك وجعل الناظر على الوصي كما هو الحال في الوصية على المال.
(مسألة 9) انفاق الوصي على الصبي يكون من مال الصبي بشرط عدم الإسراف ولا التقتير، فيطعمه ويلبسه كامثاله ونظرائه فان اسرف ضمن الزيادة.
(مسألة 10) لو بلغ الصبي فانكر اصل الإنفاق وان الوصي لم ينفق عليه من أمــواله التي عــنده أي عند الوصــي أو ادعى تلفها بالإنفاق على الصبي فالقول قول الوصي مع يمينه لأنه امين الا مع البينة على الخلاف، وكذا لو ادعى عليه الإســراف أو إنه باع ماله من غير حاجة ولا مصلحة.
(مسألة 11) لو اختلف الوصي والصبي في دفع المال إلى الصبي بعد بلوغه فادعاه الوصي وأنكره الصبي الذي بلغ قدم قول الأخير مع يمينه إلا أن تكون عند الوصي بينة على حصول الدفع.
(مسألة 12) يجوز للقيم الذي يتولى امور اليتيم أن يأخذ من ماله اجرة مثل عمله سواء كان القيم غنياً او فقيراً والأحوط للغني التجنب.
(مسألة 13) إذا عين الموصي للوصي على الأموال اجرة على عمله صح واذا لم يعين اجرة فهناك صورتان:
الأولى: تعيين الموصي للمال والمصرف بما تكون فيه زيادة ونقيصة كما إذا اوصى في صرف ثلثه في تعمير مسجد فيجوز ان يأخذ الموصي اجرة المثل الا ان يكون المتعارف في مثلها التبرع.
الثانية: أن يكون المال الموصى به بمقدار مصرفه من غير زيادة كما لو اوصاه بصرف خمسين ديناراً في اطعام خمسين فقيراً او الف دينار لإستئجار عشر سنوات صلاة بحيث لا تبقى زيادة من المال الموصى به، فظاهر الوصية ان عمل الوصي بلا اجرة فلا يستحق شيئاً لأن قبولها يلحق بالتبرع ورجاء الثواب.
(مسألة 14) الوصية جائزة من طرف الموصي، فله ان يرجع عن وصيته جملة وتفصيلاً ما دام فيه الروح وتبديلها من اصلها او اجراء بعض التغيير عليها فله ان يغير مقدار الثلث الى الربع او الخمس او يغير العين التي جعلها ثلثاً او تبديل الوصي والموصى له والموصى به او تبديل القيم على اطفاله والناظر.
(مسألة 15) يتحقق الرجوع عن الوصية بالقول وهو كل لفظ دال عليه بحسب العرف ويصح بأي لغة وان كانت غير العربية واللغة التي كتبت بها الوصية الأولى، ويكفي انه يقول رجعت عن وصيتي او ابطلتها او عدلت عنها او نقضتها.
وكذا يصح بالفعل كالكتاب او اعدام موضوعها ونقلها الى الغير بعقد لازم كالبيع او بعقد جائز كالهبة مع القبض ولو وكل شخصاً ببيع الدار الموصى بها ولكن الموصي مات قبل بيعها فهل تعتبر تلك الوكالة رجوعاً عن الوصية ام لا، الأقوى الأول الا ان يدل دليل او قرينة معتبرة ولو عرفية على الخلاف كما لو كان ابطال الوصية معلقاً على تحقق البيع خارجاً.
(مسألة 16) تبقى الوصية على حالها وإن طال عليها الزمان ما دام الوصي لم يرجع عنها ولو شك في الرجوع يحكم باصالة عدمه نعم لو كانت الوصية مقيدة بسفر او مرض وانه كتبها لإحتمال طرو الهلاك والموت فتبطل الوصية بزوال وانقضاء سببها إلا إذا فهم منها الإطلاق وان السفر أو المرض مناسبة لكتابتها خصوصاً مع القرائن الدالة على ذلك كأن يشير الى تلك الوصية بعد عودته من السفر وشفائه من المرض او يحافظ عليها ويتعاهدها أو يشهد عليها كوصية.
الوصية بالولاية لا تثبت الا بشهادة عدلين من الرجال سواء كانت على المال او على الأطفال ولا تقبل فيها شهادة النساء لا منفردات ولا منضمات للرجال( ).
قوله تعالى [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ]
الأول : (لو) حرف امتناع لإمتناع، أي ان الله عز وجل لم يضيق على المسلمين سواء بخصوص اليتامى او بارادة المعنى الأعم.
الثاني : للعنت معان متعددة منها الشدة والوقوع في الأمر الشاق، أي لو شاء الله لتعبدكم بما هو اشد وما في ادائه مشقة وعسر.
ويدل الأمر إلى المسلمين بالعناية باليتامى على ما لهم من الشأن وامكان التصرف في الأمور العامة من غير وجود سلطان قاهر ، يمنعهم من الإلتفات إلى الأمور الخاصة والعامة ، ليكون الأمر بمداراة وإصلاح اليتامى من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
ويبين القرآن حالات من الإضطهاد تعرض لها المسلمون في أيام الطواغيت ، كما في قصة بني إسرائيل أيام فرعون [وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ]( ).
لقد أمر فرعون بقتل الذي يولد من بني إسرائيل خشية على ملكه وسلطانه ، بينما نزل القرآن بالأمر للمسلمين بالعناية باليتامى للبشارة بأن أيام الإسلام مستديمة .
و(عن جابر بن عبد الله بن رباب قال : مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ]( )، فأتاه أخوه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال : تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ] فقالوا أنت سمعته.
قال : نعم.
فمشى حيي في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : يا محمد ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ] قال : بلى . قالوا : قد جاءك بهذا جبريل من عند الله؟
قال : نعم . قالوا : لقد بعث الله قبلك أنبياء ، ما نعلمه بين لنبي لهم ما مدة ملكه ، وما أجل أمته غيرك فقال حيي بن أخطب : وأقبل على من كان معه الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة .
أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة .
ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمد هل مع هذا غيره .
قال : نعم .
قال : ما ذاك .
قال [المص]( ).
قال : هذه أثقل وأطول . الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه مائة واحدى وستون سنة .
هل مع هذا يا محمد غيره .
قال : نعم . قال : ماذا ، قال [الر]( )، قال : هذه أثقل وأطول . الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة .
فهل مع هذا غيره .
قال : نعم [المر]( )، قال فهذه أثقل وأطول . الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان ثم قال : لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلاً أُعطيت ، أم كثيراً! ثم قاموا فقال أبو ياسر لأخيه حيي ومن معه من الأحبار : ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله . إحدى وسبعون ، وإحدى وستون ، ومائة ، وإحدى وثلاثون ومائتان ، وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون .
فقالوا : لقد تشابه علينا أمره . فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ( ).
الثالث : إن إصلاح اليتامى ومعاملتهم بإحسان طريق للتخفيف والرحمة وحائل دون الصعوبة وظهور الفتن الإجتماعية والأخلاقية، وقد يكون في ترك اليتامى وحالهم نوع اضرار بهم وبالمجتمع وحصول الأذى ومزاولة بعض العادات الذميمة.
الرابع : إن الله عز وجل حكيم منزه عن الظلم لا يكلف بما لا يطاق.
الخامس : التخفيف الوارد في الآية يبين سهولة العناية باليتامى وامكان اصلاحهم، وفيه دعوة للمسلمين جميعاً بالإشتراك في هذا الإصلاح.
السادس : تدل الآية في مفهومها على لزوم العناية باليتامى شكراً لله عز وجل لتفضله بالتخفيف في التكاليف .
قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]
وفيه وجوه :
الأول : الآية قاعدة كلية تشــمل الإرادة التكـوينية والتشــريعية، فالله عز وجل هو الغالب الذي يقهر كل شيء وهو الحكيم الذي اتقن كل شيء.
الثاني : تمجيد الله تعالى في خاتمة الآية ثناء عليه سبحانه وتأديب للمسلمين باستحضار الذكر عــند خــواتيم الأعمال، وعون على الإمتثال لما في الآية من الأوامر والنواهي.
الثالث : حصول اليتم لم يخرج عن الحكمة الإلهية وحسن تقديره سبحانه للأشياء فهو مناسبة للإبتلاء المركب، للأمة، للمكلفين، للأيتام انفســهم، لذويهم وامهاتهم، فلا غـرابة ان ترى بعض الأيتام يظهر في كبره ابداعاً ويرتقي في اختصاصه ومقامه.
الرابع : إن الله عز وجل يتعاهد الناس جميعاً بالرحمة والرأفة ومنهم اليتامى، وهذه الآية من قواعد اللطف العامة بالمسلمين وباليتامى، فاليتم مناسبة لاكتناز الصالحات باظــهار الاخلاق الاسلامية الحميدة في كيفية التصرف مع اليتامى , قال تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ]( ).
قوله تعالى قوله تعالى [ وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياته لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] الآية 221.
الإعراب واللغة
ولا: الواو استئنافية، لا: ناهية جازمة.
تنكحوا : فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة .
الواو : فاعل .
المشركات : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم .
حتى يؤمن، حتى: حرف غاية ونصب ، يؤمــن: فعـل مضارع مبني على السكون لإتصاله بنون النسوة في محل نصب ب(أن) مضمرة بعد حتى.
نون النسوة : ضمير في محل رفع فاعل .
والمصدر المؤول (أن يؤمن) في محل جر ب(حتى) متعلق ب(تنكحوا)
ولأمة مؤمنة خير: الواو استئنافية.
أمة: مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
مؤمنة : صفة لها مرفوعة مثلها وعلامة رفعها الضمة الظاهرة على آخرها.
من مشركة : جار ومجرور متعلق ب(خير).
ولو أعجبتكم : الواو حالية .
لو : حرف شرط غير جازم .
أعجبتكم : أعجب : فعل ماض .
التاء : تاء التأنيث الساكنة .
كم : ضمير في محل مفعول به .
والفاعل ضمير مستتر تقديره هي يعود للمشركة .
ولا تنكحوا : الواو حرف عطف .
لا تُنكحوا : بظم التاء : ويقال أنكحت الرجل أي زوجته وقد تقدم إعرابه .
المشركين : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم.
حتى يؤمنوا : حتى : حرف غاية ونصب .
يؤمنوا : فعل مضارع منصوب وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة .
واو الجماعة : ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل .
ولعبد : الواو : حرف إستئناف .
اللام : حرف إبتداء .
عبد : مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
مؤمن : نعت مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
خير : خبر المبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
من مشرك : من : حرف جر .
مشرك : اسم مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة تحت آخره .
ولو أعجبكم : الواو حالية .
أولئك : اسماشارة مبتدأ.
النكاح اسميقع على الوطـىء بالعقــد، وقيل ان اصله الوطىء ثم كثر حتى قيل للعقد نكاحاً ، يقال، نكح ينكح نكاحاً اذا تزوج، وانكح غيره زوجه.
وهذه الآية الكريمة من آيات الأحكام .
معاني (الواو)
حرف الواو أحد حروف المعاني , وهو الحرف السابع والعشرون من حروف الهجاء العربية ومن خصائصه أن معناه متعدد , فلا ينحصر بمعنى واحد , فتأتي الواو على وجوه :
الأول : العطف : وهو الغالب في استعمالها .
الثاني : الإستئناف , وتسمى واو الإبتداء لأن ما بعدها لا صلة له بما قبلها.
الثالث: واو الحال .
الرابع : واو القسم ، وهي حرف جر تدخل على الاسم الظاهر فلا تجر ضميراً ، ولا يظهر معها فعل القسم ، كما في قوله تعالى [وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ] ( )[وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ] ( ).
الخامس : واو الإبتداء .
السادس : واو المصاحبة , مثل صليت الظهر والشمس عند الزوال .
السابع : واو الإلتصاق .
الثامن : واو المعية , كقولك : صمت والنهار .
التاسع : واو الجزاء وهي الواو التي ينصب الفعل المضارع الذي بعدها جوازاَ مثل : إنصاتك للقرآن وتدبرك بآياته خير لك , قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
أسباب النزول
ذكر ان الآية نزلت في مرثد ابن ابي مرثد الغنوي عندما بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى مكة ليقوم باعانة بعض المسلمين واخراجهم من مكة وانقاذهم من مكر المشركين، وكان مرثد قوياً شجاعــا فدعتــه امرأة يقال لهــا عناق الى نفســـها فأبى، وكــانـت خلته في الجاهلية، فقالت هل لك ان تتزوج بي، فقال: حتى استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رجع استأذن في التزوج منها فنزلت الآية.
مَرْثد بن ابي مرثد واسم أبي مرثد كناز بن حصين بن يربوع الغنوي صحابي من أمراء السرايا آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين أوس بن الصامت، وشهد بدراًَ وأحداً، وقتل يوم الرجيع في شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة وقيل كان أميراً في تلك السرية كما عن إبن اسحاق في السنة الرابعة للهجرة.
وقيل كان أمر السرية عاصم بن ثابت ، وكانت سرية تبليغ ، ولكن رهطاً من عضل والقارة غدروا بهم وأحاطوا بهم ، وقتلوهم ، وأخذوا معهم خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فباعوهما في مكة لتقتلهما قريش ثاراً لقتلاهم في معركة بدر .
ورثاهم حسان بن ثابت :
ألا ليتني فيها شهدت ابن طارقٍ … وزيداً، وما تغني الأماني، ومرثدا
فدافعت عن حيَّي خبيبٍ وعاصمٍ … وكان شفاءً لو تداركت خالدا( ).
والمراد من خالد في الشعر أعلاه هو خالد بن البكير إذ قتل يوم الرجيع وكان قد شهد معركة بدر ، وأحد ، هو وأخوته كل من :
الأول : ياسر بن البكير .
الثاني : عامر بن البكير .
الثالث : عاقل بن البكير .
وكان عمر خالد بن البكير يوم قُتل أربعاً وثلاثين سنة .
وعن ابن عباس قال : نزلت في عبد الله بن رواحة وكانت له أمة سوداء وانه غضب عليها فلطمها، ثم انه فزع فاتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاخبره خبرها .
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما هي يا عبد الله .
فقال: يا رسول الله هي تصوم وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد ان لا اله الا الله وانك رسوله .
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : يا عبد الله هذه مؤمنة، فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق نبياً لأعتقها ولأتزوجها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين .
فقالوا: نكح أمة وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في احسابهم ، فانزل الله تعالى فيهم [لأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ]( ) ( ).
في سياق الآيات
بعد بيان لزوم العناية باليتامى، جاءت هذه الآية لبيان موضوعية عقيدة التوحيد في الزواج وتشمل ايضاً موضوع اليتامى بالدلالة الالتزامية او الاولوية فيما يخص نكاحهم ذكــوراً كانوا أو إناثـاً لتحديد معاني المخالطة وقيودها الشرعية.
لقد أختتمت الآية السابقة بثلاثة من الأسماء الحسنى وهي :
الأول : اسم الجلالة (الله) .
الثاني : عزيز .
الثالث : حكيم .
وقد ورد لفظ [عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ثلاث عشر مرة في القرآن يتقدمها كلها اسم الجلالة كما في آية البحث باستثناء مرة واحدة ، ورد ذكر الله بالضمير [وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ] ( ).
وابتدأت بعدها آية البحث بالواو وحرف النهي (لا) لبيان مسألة عقائدية وهي كفاية الله للمسلمين في باب النكاح والذرية ، إذا امتنعوا عن نكاح المشركات من قريش وحلفائهم ، وفيه دعوة للمسلمين إلى إجتناب الفتنة والمتاعب والإرهاب في باب النكاح أو الإعراض عن زواج المشركات.
ومن معاني مجئ النهي بعد ذكر ثلاث من الأسماء الحسنى إعانة المسلمين على الصبر وهداية المشركات ودخولهن الإسلام .
وعن (ابن مسعود قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) ( ).
وجاءت الآية السابقة بالإخبار عن سؤال المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن اليتامى ، وتفضل الله عز وجل بالإجابة كما في قوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ] ( ).
أما هذه الآية فابتدأت بصدور النهي من عند الله عز وجل ، وأن ورد في أسباب النزول أن المسلمين سألوا عن نكاحهن ، ولكن هناك تباين بين أن يرد في التنزيل السؤال عن موضوع الآية وبين أن يأتي في أسباب النزول ، لبيان قانون ورود السؤال في النص القرآني أسمى بمراتب من وروده في أسباب النزول .
إعجاز الآية الذاتي
ابتدأت الآية بالنهي المطلق في باب النكاح وبيان حرمة زواج المسلم من المشركة والمختار أن المراد المشركات بالله ، وعبدة الأوثان والأصنام ، فلابد من شرط إيمانهن حتى يصح نكاحهن .
ولا تشمل الآية الكتابية من اليهودية والنصرانية .
و(عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية [وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ] فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها [وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، فنكح الناس نساء أهل الكتاب)( ).
ولعله ليس من النسخ إنما من البيان والحصر والتخفيف وتفسير القرآن بعضه لبعض .
وقد جاء الفصل والعطف الذي يدل على التعدد بين أهل الكتاب والمشركين في آيات منها [لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ]( )، وسيأتي مزيد كلام في الجزء الواحد والعشرين بعد المائتين.
وورد لفظ تنكحوا في القرآن أربع مرات كلها بصيغة النهي ، مرتين منها في آية البحث وهما [وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ] بصيغة المبني للمعلوم [وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ]( )، لاسناد زواج المرأة بيد وليها .
وعن أبي موسى الأشعري (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نكاح إلا بوليّ)( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (النكاح بوليّ في كتاب الله ، ثم قرأ وَلاَ تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا( ).
وقد ورد مرة في حرمة نكاح أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بعده لانهن بمنزلة أمهاتهم ، إذ قال تعالى [وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ]( )، وأخرى في النهي عن نكاح أزواج الآباء [وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً]( ).
ومن إعجاز آية البحث أنها لا تحرم نكاح المشركات مؤبداً ، إنما تفيده ببقائهن على الشرك والضلالة ، وفيه ترغيب لهن وللرجال بالإيمان ، ونبذ الشرك الذي يقف عائقاً دون زواجهن .
ثم جعلت الآية موضوعاً مستحدثاً بين الناس للتفاضل لم يطرأ على التصور الذهني ، وهو أفضلية الأمة والعبد مع الإيمان على الحرة والحر اللذين يقيمان على الشرك ، ليكون من أسرار وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات القرآن في الصلاة اليومية إسماع الناس الأحكام المستحدثة ، فيزداد المؤمن والمؤمنة غبطة وسعادة بالهداية إلى الإيمان ، ويشعر الكافر والكافرة بالهوان ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وتنفي الآية موضوعية الإعجاب إذا كان يصاحبه الشرك ، أو أنها تمنع من إتخاذه مرتكزاً وملاكاً في الأختيار .
ولأن الحكم مستحدث في الآية لم تعهده مجتمعات وقبائل العرب أختتمت الآية ببيان علة هذا التفضيل ولزوم إجتناب نكاح المشركين لأنهم رجالاً ونساءً يدعون إلى الضلالة والفسوق ، والمسالك التي تقود إلى النار وأراد الله عز وجل بأحكام النكاح إنقاذ المسلمين والمسلمات في الدنيا والآخرة .
ويمكن تسمية الآية آية (ولا تنكحوا المشركات)
إعجاز الآية الغيري
ومن إعجاز الآية أنها حرب على جيش المشركين ، ومنعهم من تكرار غزو المدينة ، لما فيها من الدعوة إلى الإيمان في باب النكاح ، فحتى ما أدرك الإنسان أن الشرك عائق دون نيله الشأن والمنزلة الإجتماعية فان نفسه تنفر منه ويختار ما فيه العز وهو الإيمان ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
خاصة وأن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية كانت تترى ، وفيها ترغيب للناس بالهدى والإيمان .
ليكون من إعجاز الآية إتخاذ قواعد النكاح والصلات الإجتماعية واقية من الإقتتال وسفك الدماء .

الآية سلاح
تنظم الآية الكريمة الحياة الزوجية تنظيماً دقيقاً وسليماً وتحول دون الخصومات المتصلة كما انها اصلاح قرآني للمجتمعات وتنزيه للإسلام وعصمة للمسلمين ذكوراً واناثاً وابناء وعوائل.
تدل الآية بالدلالة التضمنية على تنظيم التنزيل كحياة الأسرة ، وبما يؤدي إلى صلاح أفرادها والتعاون في جني الصالحات ، وتوارث أداء الفرائض والعبادات .
وتبين الآية قانوناً وهو المدار على الإيمان في إختيار الزوجة ، أو تعيين الزوج ، قال تعالى [أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ]( )، والنسبة بين المشرك والفاسق عموم وخصوص مطلق ، فالشرك أعم وأخبث وأكثر شراً .
وقد ذكرت الآية التفضيل بلحاظ وحدة الجنس فالأمة المؤمنة أفضل من الحرة المشركة ، والعبد الرق المؤمن أفضل وأحسن من الحر المشرك وهناك مسألتان :
الأولى : هل التفضيل بخصوص النكاح .
الثانية : هل يبقى التفضيل مع اختلاف الجنس .
أما المسألة الأولى فالجواب هو أصالة الإطلاق وشمول التفضيل لما هو أعم من النكاح من الصلاة الإجتماعية ، والمعاملات ونحوها .
وأما المسألة الثانية فالجواب أعم ، يبقى التفضيل حتى مع إختلاف الجنس ، فالأمة المؤمنة خير من الحر الذي اختار الشرك وعبادة الأوثان ، وكذا فان العبد المؤمن أفضل من الحرة المشركة بالله التي تنكر نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل يشمل التفضيل الكتابية والمنافقة بخصوص النكاح وغيره ، الجواب لا ، فالقدر المتيقن هم مشركو مكة والمدينة فالآية سلاح وحصانة لمجتمع المسلمين ، لورود الجواز في نكاح الكتابية ، ولأن المنافقة نطقت بالشهادتين ، ووجب عليها أداء الصلاة والصيام والفرائض الأخرى ، وفي قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، يشمل التكليف بالصيام المنافقين أيضاً .
وتدل خاتمة الآية على قانون وهو آية البحث سلاح وسبيل نجاة في الآخرة ، فان التقيد بأحكامها مقدمة وبلغة لدخول الجنة .
مفهوم الآية
الآية تأسيس لبناء عقائدي راسخ الى يوم القيامة، إذ يتدخل القرآن في أحكام الزواج وخصوصياته وقواعد الاختيار فيه.
فالنهي عن نكاح المشركات الا بقيد الإيمان حرز وواقية لسلامة اجيال المسلمين من الشرك والشك والريب والتقصير في العبادات ، أي ان هذا النهي لم يقصد بذاته فحسب بل انه يتعلق بالاولاد والمجتمعات الاسلامية مطلقاً.
وبالدنيا والآخرة لوجوب التصديق بعالم البعث والنشور والحساب والجنة والنار ، قال تعالى [زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ]( )، وقال تعالى [وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
وما في الآية من النهي والزجر دعوة جهادية ووسيلة لدخول الناس الى الاسلام خصوصاً معاشر النساء، وفيها اخبار واعلام لغير المسلمات بوضعهن حجاباً اختيارياً دون دخول السعادة الدنيوية والاخروية بالاقتران والزواج من المسلم ومن مفاهيمها العز للمرأة المسلمة وجعلها تشعر بالفخر والغبطة لاختيارها الإيمان ، وهذا العز والفخر ينعكس باقبالها على العبادات وحسن تربيتها لاولادها واعدادهم اعداداً سليماً يؤهلهم لتلقي الاوامر والنواهي.
وفي الآية بشارة وجود المؤمنات المؤهلات للزواج وقيام شطر من المشركات باختيار الاسلام سواء لغرض الزواج من المسلم او مطلقاً وارادة دخول الاسلام.
كما انها تحث على الزواج من التي تختار الإيمان وتنزع رداء الشرك والكفر، فمن لا يشكر المخلوق لايشكر الخالق، فالمرأة التي تختار الإيمان يقابلها المسلم بالرعاية والعناية، وافضل وجوه الرعاية هذه الزواج منها وهذا الزواج يساهم في تثبيت الإيمان في صدرها ويجعلها تتذوق عملياً طعم الإيمان.
وما في الآية من النهي تأديب للمسلمين في موضوع الزواج لقهر النفس الشهوية ومنع استحواذها على الجوارح ودرء أسباب الافتتان، فقد تكون المشركة جميلة وتتصف بمزايا خاصة كالغنى وحسن الظاهر فجاء النهي مطلقاً ومتعلقاً بوصف الشرك، ولابد ان الله عزوجل يضمن للمسلمين المنافع الدنيوية والمزايا الخاصة الموجودة في المشركة والتي يتركونها طاعة له تعالى.
وهذا الضمان مركب ويشمل الحياة الدنيا والآخرة، وما في الآخرة هو الأولى ومن الضمان فيه الثواب الجزيل والحور العين والزوجة الجامعة لذات الصفات التي اعرض عنها طاعة لله تعالى واجتناباً لنواهيه، لذا جاء الوصف المقارن وبيان الجائز والراجح وهو الإيمان وما عداه من الإعراض إنما هو زينة ظاهرة وباب للافتتان والامتحان.
ومن مفاهيم الآية ارشاد المسلمين إلى الأصلح والأفضل ولزوم عدم ترك الواجب لميل أو هوى او نزوة طارئة او رغبة عاجلة.
ومواضيع الآية تدل على التكامل في الحكم والتشريع، فلم ينحصر النهي بنكاح المشركات فيشمل نكاح المشركين ايضاً بل هو من باب الأولى والأهم، ولكن الخطاب في النهي عن نكاح المشركين جاء بصيغة المذكر ايضاً بينما يتعلق النهي بالمرأة ولزوم امتناعها عن الزواج من المشرك، وفيه دلالة على تنزيه المرأة المسلمة وصرف موضوع هذا النكاح اصلاً وارادة معاشر المسلمين رجالاً ونساء في الخطاب، والرجال باعتبارهم أولياء وحكاماً لذا ترى حكام المسلمين يحرمون مثل هذا النكاح وعليه القوانين في البلاد الإسلامية الى يومنا هذا في الجملة، وقالت الآية [خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ] ( )،
ولم تقل الآية ولو اعجبكن، لإكرام المرأة وعدم التعريض بها وفيه ايضاً نوع زجر ولكن بالمفهوم وهو دعوة للمسلمين أن يتعاهدوا المرأة ويحولوا دون حصول مثل هذا النكاح ومقدماته فالرجال يمنعون من حصول مقدمات مثل هذا النكاح ولا تعني الآية الترغيب بالنكاح من العبد المؤمن إلا إنه جاء من باب التفضيل وبيان أن المدار في الإختيار في النكاح على الإيمان وهو عنصر التكافئ بين الزوجين ولإظهار شرف الإنسان بالإيمان.
وفي إشارة الى مقدمات النكاح، فقد يدني بعض المسلمين الشرك في العمل والتجارة والصناعة لأمانته او لمهارته فيكون سبباً للقرب العائلي وحصول أسباب النكاح والميل النفسي.
ثم تجاوزت الآية مسألة المقارنة وانتقلت إلى ما هو أهم وأكبر إلى العقيدة والمبدأ مما يدل على اهمية النكاح في رسوخ الإسلام وتثبيت احكامه وموضوعيته في منازل الآخرة، وفعلاً فان الزواج من المشرك يؤدي بالمرأة الى تعطيل عباداتها ويحملها على ما فيه غضاضة واساءة الى الإسلام فقد لا يرضى لها ان تصوم شهر رمضان وتمتنع عن مطاوعته أيامه، ويكرهها على تأديب اولاده بغير احكام الإسلام.
أما زواج المسلم من المشركة فهو شر أيضاً ، واذاه يتعدى ايام الحياة الدنيا ليشمل الآخرة في سعي المشركين لإغواء المسلمين ومنعهم من اداء مناسكهم وعباداتهم، ومن الإعجاز في الآية إنها اختصرت على دعوة المشركين الى النار أي انها لم تشر الى استجابة أو تأثر المسلم والمسلمة بهذه الدعوة وفيه أمران:
الأول: عدم حصول مثل هذا النكاح وبقاء الدعوة مجردة وخاوية.
الثاني: ان دعوتهم إلى النار أعم من موضوع النكاح فهي سجية وكيفية ظاهرة على السنتهم وفي قولهم فيكون النكاح في حال حصوله مناسبة لفتح ثغرة وايجاد هوة في المجتمع الإسلامي، وإيذاء المسلمين، وحصول هذه الدعوة بين ظهرانيهم ومن خلال النكاح [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]( ) ( ).
والمراد من البطانة الوليجة والخاصة ، والنسبة بين النكاح والبطانة في المقام العموم والخصوص المطلق ، فالنكاح أكثر أثراً وتأثيراً لأنه واقع ويمي داخل الأسرة يدخل في التربية والإجتماع والإقتصاد ، وكذا فان الشرك أشد من لفظ (من دونكم).
لقد أرادت الآية ذكر علة النهي فجاءت لبيان حال المشركين وعبدة الأوثان والدعوة لإجتنابهم بمعنى ان النكاح من باب الفرد الأمثل ذي التأثير المستديم والمتعدد الجوانب والأبعاد والا فان الآية تحذر في مفهومها من الصلة والمعاملة مع المشركين مطلقاً وتنهى عن الإقتراب منهم خشية الوقوع في الهلكة والتأثر بمفاهيم الضلالة والجحود، ومن مفاهيم الآية قانون الإبتعاد عن المشركين حصانة فكرية وواقية عن عذاب النار.
وتبين الآية ان النهي الوارد فيها طريق الى الجنة وإن المنع من نكاح المشركين سبيل الى السعادة الأخروية وهذا يؤكد لزوم تحصين المجتمعات الإسلامية من الغزو الفكري والعقائدي لمضامين الكفر والشرك، ويتخذ باب النكاح موضوعية خاصة في المقام فبحرمة النكاح من المشركين تخفيف عن المسلمين في هذا الباب وعون على الإحتراز من إنكار الضلالة لأنها ستكون بالعرض وعلى نحو مكشوف وبين, بخلاف تلاقح الكفر مع بعض افراد المسلمين على نحو يومي وتدخل في قراراتها وافعالها وأهمية وموضوعية احكام هذه الآية المباركة في هذا الزمان تتصف بخصوصية وأهمية خاصة فهي عنوان حصانة وحرز للإسلام والمسلمين في عصور العولمة وتداخل الحضارات ، وهي من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
وجاءت خاتمة الآية بشارة وعوناً وحثاً على التقيد بما ورد فيها من أحكام، ونبذ الرجوع الى الكفار والمشركين والإحتراز منهم وعدم مناكحتهم، كما انها وعد كريم بالإكتفاء الذاتي بين المسلمين في باب النكاح فلا غرابة أن يشرع تعدد الزوجات في الإسلام لمنع تطلع المرأة الى الزواج من أي شخص بغض النظر عن الإنتماء العقائدي وحمله على نحو الضرورة والإضطرار ونحوهما.
فمن الإعجاز في الشريعة الإسلامية إنها تتكفل سبل العمل بأحكامها وتمنع من وجود عوائق تحول دون الإلتزام بمضامينها، فلم يحصل ان احتاجت مسلمة النكاح من الكافر او احتاج المسلم النكاح من مشركة، وهذا من اياته سبحانه لذا جاء في الآية[وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ] ( )، ولفظ الناس جاء على نحو العموم وعدم انحصاره بالمسلمين مما يعني إن النهي عن نكاح المشركين آية للعالمين ينتفع منها المسلم ويتجلى له منعة الإسلام وتكامل احكامه ويفزع منها الكافر ويشعر بالأسوار الشرعية والنفسية والأخلاقية التي احاطت بها الشريعة معاشر المسلمين ومجتمعاتهم واسرهم واولادهم، وهي دعوة للناس للهدى والإيمان وجذبهم لمشاركة المسلمين بما عندهم من النعم، بازالة الكافرمن قريش للحواجز والقيود الإختيارية التي تمنعه منها، وتتمثل الإزالة بالنطق بالشهادتين.
وقوله تعالى [لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ] إخبار عن قوة الإسلام ومنعة مجتمعاته والتحصين السماوي لأفراده رجالاً ونساء فكم من مكر وكيد يراد به الإسلام لا ينفذ الا من خلال النكاح والتداخل مع الأسر والعوائل الإسلامية فتأتي هذه الآية لتكون برزخاً وحاجزاً دون تحقيق مآربهم وتبقى دعوة مجردة لا تضر إلا بأصحابها.

الصلة بين أول وآخر الآية
ومن إعجاز الآية جواز الزواج من المشركة إذا اسلمت ، وهو مصداق لقوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] ( ) أي في الآية بشارة توبة المشركات ودخولهن الإسلام .
وفي فتح مكة وبعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيعة الرجال جلس على الصفا وصار يبايع النساء .
ونزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) لبيان وجوب استئصال الشرك من النفوس والواقع اليومي ، وإزاحة عبادة الأصنام إلى يوم القيامة .
وكانت بيعة الرجال بضرب الكف والمصافحة ، أما عند بيعة النساء فقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقدح من الماء والقى فيه شي من الطيب.
والتي تبايع تضع يدها في القدح ثم يضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده .
ليتعدد وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده في القدح مع تعدد النساء المبايعات ، وليس في بيعة النساء جهاد ودفاع ، إنما كانت وفق مضامين الآية أعلاه ، من جهات :
الأولى : لا يشركن بالله شيئاً ، لبيان أهلية المرأة للزواج من المسلم ، وإستدامة النكاح السابق للمرأة من زوجها المسلم إذا كان قد دخل الإسلام قبلها ، وفي أيام العدة .
الثانية : لا يسرقن .
الثالثة : لا يزنين .
الرابعة : لا يقتلن أولادهن .
الخامسة : لا يأتين ببهتان وافتراء .
السادسة : الإمتناع عن معصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معروف وتكليف وإحسان .
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان موضوعية الإيمان بالله والنبوة والتنزيل في النكاح .
الثانية : تأكيد قانون وهو لو تعارض الإيمان مع الحسب والنسب يقدم الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر .
الثالثة : شكر الله عز وجل للمؤمنين والمؤمنات في الحياة الدنيا بتزكيتهم ، وهو بشارة الأجر والثواب لذا قال تعالى في خاتمة الآية [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ]( ).
الرابعة : الترغيب بنكاح العبيد والإماء المؤمنين .
الخامسة : حضّ الناس جميعاً ، والعبيد والإماء خاصة على الإيمان ، وإخلاص النية مع الله عز وجل ، فقد كانوا مستضعفين أذلاء ، فجاء القرآن وجعل للمؤمنين والمؤمنات منهم شأناً عظيماً .
السادسة : ترغيب المسلمين بعتق العبيد والإماء الذين يتحلون بصفة الإيمان ، لذا ورد في قتل المؤمن خطأ وجوب عتق رقبة مؤمنة ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
ولم يرد لفظ (رقبة مؤمنة) في القرآن إلا في الآية أعلاه وتكرر ثلاث مرات ، مع إتحاد الموضوع فيها وهو العتق والتحرير.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : نزلت في رجل قتله أبو الدرداء ، كانوا في سرية فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له ، فوجد رجلاً من القوم في غنم له ، فحمل عليه السيف .
فقال : لا إله إلا الله . فضربه ، ثم جاء بغنمه إلى القوم ، ثم وجد في نفسه شيئاً فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فذكر ذلك له فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إلا شققت عن قلبه .
فقال : ما عسيت أجد . هل هو يا رسول الله إلا دم أو ماء؟!
فقال : فقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه .
قال : كيف بي يا رسول الله .
قال : فكيف بلا إله إلا الله! قال : فكيف بي يا رسول الله .
قال : فكيف بلا إله إلا الله حتى تمنيت أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي .
قال : ونزل القرآن [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً]( )، حتى بلغ [إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا] قال : إلا أن يضعوها ( ).
ومعنى تحرير الرقبة هو عتق العبد أو الأمة المملوكة والمراد من الرقبة المؤمنة من كان على حكم الإسلام .
(وقاس عليه الشافعي كفارة الظهار : فاشترط الإيمان)( ).
ولكن ورد (عن ابن عباس في قوله [فتحرير رقبة مؤمنة] قال : يعني بالمؤمنة من قد عقل الإيمان وصام وصلى ، وكل رقبة في القرآن لم تسم مؤمنة فإنه يجوز المولود فما فوقه ممن ليس به زمانة ، وفي قوله [وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا] ( )، قال : عليه الدية مسلمة إلا أن يتصدق بها عليه)( ).
السابعة : تحبيب الأيمان إلى النفوس ، وتنمية الأخوة الإيمانية بين المسلمين ، وإظهار التعاون بينهم ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثامنة : البعث على التقوى والإجتهاد في طاعة الله عز وجل .
التاسعة : نفي الحرج عن وطئ الإماء المؤمنان وإنجاب الأولاد منهن ، قال تعالى [وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ]( ).
العاشرة : إكرام أم الولد بواسطة إبنها الحر .
الحادية عشرة : عتق الآمة أم الولد عند موت سيدها .

التفسير
قوله تعالى [ وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ ]
الأول : الآية امر مولوي وحكم قرآني تضمن النهي عن الزواج من المشركات.
الثاني : فيها إخبار بأن المدار في جواز النكاح على الإيمان والاعتبار العقائدي.
الثالث : هذا النكاح في مفهومه ودلالته النوعية طلاق وفصل تاريخي بين المسلمين وغيرهم الى يوم القيامـة في اهم وجوه الصلات الإجتماعية وهو الزواج، فمهمـا يحصـل من تقارب واختلاط فانه لا يرقى الى التداخل الى عدم الزواج مانع من التقارب النفسي واليومي التفصيلي.
الرابع : الآية حصانة نفسية واحتراز عقائدي يجعل نفوس المسلمين والمسلمات تميل بعضها الى البعض الآخر قال تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ]( ).
الخامس : إختلف في شمول لفــظ المشــركة للكتابيــة أو عــدمه، ولكـنه اختلاف صغروي لا يضر بأصل الحكم، ووردت أقوال في المقام هي :
الأولى : إن موضوع الآية المشركة الوثنية من غـير أهل الكتاب ، وبه قال قتادة وسعيد بن جبير.
الثانية : حملها على الظاهر وتحريمها لنكاح الكتابية والمشركة، وبه قال ابن عمر وبعض الزيدية، وقال الطبرسي: وهو مذهبنا وان المراد من الشرك ما هو اعم من القول بالانداد فيشمل الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وان انكار الرسالة شرك، لان المعجز من عند الله عز وجل واضافته لغيره شرك( ).
الثالثة : إن الآية منسوخة بالآية التي في المائدة [ وَالْمُحْصَنَاتُ منْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ … ]( ) عن ابن عباس والحسن ومجاهد.
والمختار أن المراد من المشركة الوثنية ، ولا يشمل الحكم الكتابية .
وربما يمكن الاستدلال على القول الثاني بتتمة الموضوع في الآية وهي قوله تعالى [ حَتَّى يُؤْمِنَّ ] فلو إنتقلت الوثنية الى إحدى ملل أهل الكتاب واصبحت يهودية أو نصرانية فهل يبقى نكاحها على المنع والنهي ، الجواب لا ، لتغير الموضوع وتبعية الحكم له ، والآية اعم وللنسخ في المقام موضوعية.
لقد جاء النهي عن نكاح المشركات مطلقاً سواء كن ذوات قربى أو جمال أو مال ، وسواء تزوج المسلم حرة مؤمنة أم أمة مؤمنة ، أو تملك أمة مؤمنة .
وعن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له : إن المرأة تنكح على دينها ، ومالها ، وجمالها ، فعليك بذات الدين تربت يداك .
وأخرج أحمد والبزار وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تنكح المرأة على إحدى خصال : لجمالها ، ومالها ، ودينها ، فعليك بذات الدين والخلق تربت يمينك .
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من تزوّج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلاً ، ومن تزوجها لمالها لم يزده إلا فقراً ، ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلاَّ دناءة ، ومن تزوج امرأة لم يرد بها إلا أن يغض بصره ويحصن فرجه أو يصل رحمه بارك الله له فيها وبارك لها فيه .
وأخرج البزار عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عودوا المريض ، واتبعوا الجنازة ، ولا عليكم أن تأتوا العرس ، ولا عليكم أن لا تنكحوا المرأة من أجل حسنها فعل أن لا يأتي بخير ، ولا عليكم أن لا تنكحوا المرأة لكثرة مالها فعل مالها أن لا يأتي بخير ، ولكن ذوات الدين والأمانة( ).
وتدل هذه الآيات على صحة زواج المرأة لكثرة مالها أو لجمالها أو لدينها ، وتفضيل ذات الدين أي التي تتحلى بالتقوى فانها مجلبة للرزق والصلاح والسعادة واستدل الإمام الصادق عليه السلام بقوله تعالى [وَلاَ تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا]( )، على كون النكاح بولي في كتاب الله .
وعن ابي موسى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا نكاح إلا بولي( ).
وهو لا يتعارض مع إختيار ورضا الزوجة .
وقد ورد لفظ (المشركات) ثلاث مرات في القرآن :
الأولى : آية البحث .
الثانية : [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
الثالثة : [وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( ).
قوله تعالى [ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ]
الآية مدرسة قرآنية ذات فصول متعددة تشمل الأخلاق والمجتمع وكيفية وأُسس الإختيار، كما انها تـدل في مفهومـها على أهمية الزوجة في البناء العقائدي ولزوم عدم التهاون في هذا الباب.
والبيان الوارد في الآية من خلال المقارنة بين الأمة المؤمنة والمشركة يظهر شرف الإسلام وإضفاءه الأهلية والكفاءة على الناطق بالشهادتين وإن كان وضيعاً ومملوكاً، وأسباب ترجيح الآمة بالاسلام وان كانت المشركة ذات ثروة طائلة وجمال وحسب وشهادة جامعية عالية وإنها تظهر التدبير وحسن الادب.
فالمدار في الزواج ليس على اللذة أو الحاجة الآنية الملحة بل مطلقاً، مما يكون حاجة شخصية كالانتفاع من مالها ومن مقامها الاجتماعي والوظيفي ونحوه، بل المدار والملاك على الاسلام، لأن اغراض الزواج وغاياته تتعدى الرغبة الشخصية ولا تنحصر بحاجات الزوجين ومصالحهما فحسب بل انها تشمل حاجات الابناء والمبدأ والعقيدة، فالزواج يجب ان يكون ضمن الهيكل العام للامة وما يجب على الأفراد والجماعات من حفظ الإسلام وأعداد الأبناء لحمل مسـؤوليات الرسالة بالتقيد التام باداء الفرائض وإجتناب المعاصي.
وفي الآيــة ثواب للامــاء والعبيـــد الذيــن إخـتاروا الإســـلام ومواســاة لهم، وحــث لمن ابطــأ منهم وتخلـــف عن الإيمـان بلزوم دخول الإسلام كي يكون مؤهــلاً للزواج مــن اشرف البيوتات المسلمة اذ ان الآية تمنع المرجحات العقلية او انها تجعلها تبتني على أساس الهداية والإيمان.
والعجب هنا الرضا والاستعظام والاستحسان وليس من التعجب، وفي الآية حل كريم لحالات الغرام والميل النفسي التي تحصل بين الإماء وأسيادهن، أو بين بعض الصبية وبنات اسيادهن .
فالمراد من الإيمان في الآية المعنى الاصطلاحي الاعم والذي يعني النطق بالشهادتين والتســليم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ) فان الآية تشمل المنافقين والضلال.
وأصبح الزواج من الكتابية أي النصرانية واليهودية بعد الهجرة موضوعاً ابتلائياً، لذا تعرض له القــرآن بالذات وبالعرض وبالمقارنة والتفاضل، وأولاه الفقهاء أهمية خاصة
والسـبب في تعدد الاقوال الاخبار الخاصة بالمقام إلا إنه يمكن رد بعضها إلى بعض والسنة مبينة للقرآن.
والمختار الجواز , ويستدل بقوله تعالى في سورة المائدة [ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ]( ) .
وسورة المائدة آخر سور القرآن نزولاً، وفي الصحيح إنها نزلت قبل أن يقبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشهرين أو ثلاثة. وكان تحت طلحة بن عبد الله يهودية

قوله تعالى [وَلاَ تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا]
وفي الآية مسائل :
الأولى : أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك الا ان يعلن اسلامه.
الثانية : الخطاب موجه للمسلمين وهل يمكن ان يستقرأ منه ان امر زواج المرأة بيد وليها، الجواب: إنما ورد الخطاب للمذكر على الغالب والا فمما هــو ثابت في الشــريعة إن أمـر الثيب غير الباكر بيدها فهي التي تختار وترضـى بالزوج وهو لا يتعارض مع موضوعية الولي في النكاح ، والآيــة محــل البحـث مطلقة شاملة للباكــر والثيــب، نعم عموم لغة الخطاب في الآية يشمل الأولياء كما إنه يتوجه لاهــل الحل والعـقد من المسلمين وإن لا يترك النهي عن الزواج من المشــرك إلى المرأة وحدها فقد تغلب عليها عواطفها أو يقع تدليس من طرفه ، ولأن حــث المشرك على الإيمان وإفهامه عدم أهليته الزواج من المســلمة امر يقوم به الذكور من المسلمين على نحو الغالب.
الثالثة : في الآية ازدراء للمشركين عبدة الأوثان واخبار دائم وذم لهم بصفتهم، وعدم اهليتهم للاقتران بالمسلمة.
الرابعة : الآية دليل على موضوعية الإيمان في الزواج.
الخامسة : يشعر الكافر من خلال هذه الآية بالاضرار الجسيمة التي سببها له بقاؤه على الكفر، ويدرك ان اعـلانه الشهادتين يؤهله لدخول الحياة الاجتماعية على نحو متكافىء مع غيره من الاشراف والوجهاء في الاسلام.
السادسة : يأتي الشرف والعز دفعة واحدة باختيار الاســلام واعلان الشهادتين ويصبح به الإنسان مؤهلاً للزواج من المؤمنة العفيفة ان تم الرضا والاتفاق.
السابعة : تترشح افضلية المرأة المؤمنة لان اختيارها يترتب على دينها وعقيدتها.
الثامنة : الآية ضابطة كلية في اللحاظ وما يكون أساساً لمعرفة منازل الإيمان، فالعبد المؤمن مقدم الكافر وإن كان حراً ذا نسب وحسب.
من الإعجاز في هذه الآية إرادة منع الإقتتال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين المشركين ، فان إختيارهم الإيمان لبقاء نكاحهم من أزواجهم اللائي دخلن الإسلام ، أو للرغبة في نكاح المسلمات طريق لهدايتهم ، وإصابة جمع المشركين بالنقص ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) ( ).
وتبين الآية أن القضاء على الشرك بالإصلاح والهداية ، وتهذيب النفوس وآيات الوعد والوعيد ، وفيه شاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم (لم يغزُ النبي “ص” أحداً).
وستأتي أجزاء من التفسير بهذا العنوان وبيان التفصيل والدلائل لهذا القانون .
قوله تعالى [ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ]
أولاً : في الآيــة بيــان لأســس التفضــيل ولابــد ان لــه اسـباباً تتعلق بالحال والماضــي والمســتقبل، فالعبــد اختار الإيمان مما يدل على صــفــاء نفســـه ورجحــان عقلــه، والحـــال ان الإيمــان شـــرط قـــرآني في الــزواج ويفيض على صــاحبه الاهلـية للزواج، والمستقبل متعدد الجــوانب يتعلــق بالــزوج والزوجــة والاولاد واهل الاســلام عــامــة، فيجــب ان لا يكــون الــزواج بـابــاً للافتــتــان واحــراج المؤمنـــة ومنعــها عن اداء فرائضــهــا وما عليهــا من الصـــلاة والصــوم ونحـــوهمــا، لــذا جــاءت [ وَلَوْ ] في قــوله تعالى [ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ] لان (لو) للماضي و(ان) للمستقبل.
وفيه نكتــة وهــي ان الاعجاب والاستعظام للمشرك يكون في البداية وقــبل الــزواج، اما فيمــا بعد وعنــدما تكــون المخالطة يومية متصلـــة وتتعلق بشـــؤون الحيـــاة المختلفــة، فلا يبقى اعجاب، وتظهر الأمور على حقيقتها ويحصل ترتيب جديد للأولويات، اما بالنســبة للايمـان فالزواج يبدأ بالاقتران ولا يلبث ان تترشح منه أسباب الاعجاب والرضا ولا اقل الطمأنينة والسكينة وعدم ملاقاة الأذى المتوقع من الكافر بعد الإعجــاب به، أي ان الاعـجاب السابق بالكافر ينقلب فيما بعد الى أذى وافتتان.
والزواج مــن العبد المؤمــن أو الآمــة المؤمنة يؤدي إلى نتائج حميدة ومنافع عظيمة تجعل الرق امراً ثانوياً يسيراً، وربما كان نافــعاً من وجوه، وفي هــذا الزمان ينعــدم أمــر الرق في الجملــة فتكــون افضليــة الزواج من المسلمة الحرة من باب الأولوية.
لتكون هذه الآية مقيدة لقوله تعالى [فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ]( )، أي من النساء المؤمنات غير المشركات بالله والنبوة واليوم الآخر .
ثانيا : أهلية العبد المؤمن للإقتران والزواج من الحرة المسلمة يدل على عدم اضطهاد الإسلام للعبيد ، وأن القرآن نزل بإكرامهم بلحاظ الإيمان، و[خَيْرٌ] فعل تفضيل ولم يرد على نحو الاحتمال أو الفرد الغالــب بـل ورد مطــلقــاً، أي إن كــل عبـد مؤمــن أفضـــل وأحسن من أي مشرك وان ظهرت امارات الحسن عليه والمال والحرية، ولفظ (مؤمن) هنا ورد على نحو الإطلاق وليس الحصر بخصوص موضوع النكاح.
وهل تتعلق (اللام) ببعض العبيد.
لا مانع من ذلك فيكون كالتخصيص والاختيار، بلحاظ مجيء لام الإبتداء مع النكرة وما تدل عليه من التقييد فليس كل عبد أو أمة مؤمنة كفــواً للزواج والنكاح والاختيار لأن الترجيح جهتي جاء بلحاظ المقارنة مع المشرك، أما الحيثيات الاخرى فهي على حالها.
لبيان قانون وهو تزويج العبد المؤمن مقدمة لعتقه بل وإكرامه قبل وأثناء التزويج( ).
ولم يرد لفظ (لعبد) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
قوله تعالى [أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ]
تعليل للنهي والمنع من نكاح المشركين وبيــان لأســباب نبــذ أهـل الكفر والشرك، والآية تؤكد المخاطــر الجسيمة والاضرار الفادحة، والهلاك المحتمل الذي يسببه التقرب والالتقاء مع الكافرين وفيها اعجاز مركب من وجوه:
الأول: إن الكافرين ذاتاً وسيرة داعية إلى الضلالة والإغواء.
الثاني: إن السوء متأصل في ماهيتهم وتركيبة مجتمعهم وسيرتهم.
الثالث: الآية تحذير من الاقتراب منهم وفيها دعوة لعدم الالتفات الى ما يقترحون وما يصدر عنهم ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ]( ).
الرابع: الآيــة قاعــدة كليــة ومفهـوم عام لا ينحصر موضوعه بالنكاح وفيها سبر لاغوار نفوس الكفار والمشركين وكشف لسوء نواياهم والمشركين.
الخامس: في الآية توبيخ للكفار وفضح لهم وذم لسوء فعلهم.
السادس: في الآية إخبار عن سوء عاقبة المشركين وما ينتظرهم من العقاب الاليم ، الذي لا يتعلق بقبح أفعالهم فقط بل يترشح عن إغرائهم لغيرهم ، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ]( ).
السابع: [أُوْلَئِكَ] اسماشــارة للدلالــة البعيــدة أي ان الآيــة تخــبر بالدلالــة التضمنـية وبلحاظ مضـــامـين اسمالاشارة عن ازدراء الكفـــار وبــُعدهــم، وفيها بشارة تقيد المسلمين باحكامها واتفاقهم فتوى وعملاً وسيرة على عدم جواز تزويج المشرك .
الثامن: دعوة المشركين الى النار تتمثل بالترغيب بالمعاصي ، والتحريض على ترك الفرائض.
التاسع: من الدعوة إلى النار تعطيل الفرائض العبادية ودعوتهم لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الامر الذي يؤدي الى الخذلان والخسران واستحقاق العقاب ودخول النار.
العاشر: إن الكافر يسعى لجعل إبنه على نفس ملته ، وهي دعوة الى النار.
ومن يدعو إلى النار لابد أن يكون من أهلها وجاءت الآية بصيغة الخبر مما يعني الإستدامة ودعوة المشركين الى النار لا تتعلق بموضوع الزواج وحده بل انها منهج وسجية ثابتة عندهم تظهر على افعالهم واقوالهم مطلقاً فلذا يكون الإمتناع عن نكاح المشرك واجباً شرعياً وحاجة وضرورة.
ومع ان النكاح يكون على نحو القضية الشخصية إلا ان الإخبار عن دعوتهم الى النار جاء بصيغة الجمع مما يعني ان الضرر في نكاح المشركين ياتي بصورة دفعية ولا ينحصر مصدره بالزوج او الزوجة المشركة بل انه جزء من فلسفة وثنية، كما الآية تحذر وتنهى عن تعدد حالات الزواج من المشركة .
إن موضوع الدعوة الى النار، تحذير من نار الآخرة وكأن الدنيا مثال مصغر من عالم الآخرة وان الزواج من المسلمة طريق ومقدمة لدخول الجنة ولجوء الى رحمى الله ورجاء لمغفرته تعالى .
كما ان الآية تبين التنافي والتنافر المطلق بين الإيمان والكفر الذي يتجلى بصورة واضحة في باب النكاح بمعنى انه لا يمكن اجتماع الإيمان والكفر في الزواج.
إذ ان الآية تبين قدسية الزواج كعقد ورابطة يومية متصلة بين الزوج والزوجة لا ينحصر موضوعها بالوطئ بل يشمل التأُير المتبادل في باب العقيدة والمبادئ والعادات والأخلاق والسجايا والملكات واثرها الكبير على الذرية والأولاد وامتداد هذا التأثير قال تعالى [وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( )،ومما ثبت في الفلسفة عدم اجتماع الضدين لذا لا يمكن ان يجتمع المسلم والكافر في باب النكاح والزوا ويلتقيان في الصلة المادية لتكون الولد.
كما تظهر الآية عدم أهلية الكافر للإقتران بالمسلمة وعدم اهلية المشركة للإقتران بالمسلم.
وتدل الآية في مفهومها بان النكاح باب للدعوة إلى النار او الدعوة الى الجنة وهذا امر ظاهر بالوجدان فكل من الزوجين يؤثر بالآخر سلباً أو إيجاباً وإن تباين كم ومقدار وكيف هذا التأثير.
ولكنه في موضوع العقيدة يكون نوعياً ويعتمد اثره الى الآخرة ويتلقى المسلم الذي يقترن بالمشركة اذى في النشأتين فجاءت هذه الآية لتخليص ونجاته وهدايته الى سوء السبيل.
والزواج أمر مستحب وقد تنطبق على بعض افراده الأحكام التكليفية الأخرى من الواجب أو المباح والمكروه أو المحرم، ومن المحرم الزواج من المشركة واذ يحصل تخيير بين افراد المسلمين المؤهلين للزواج فلا يحق التخيير فيما يتعلق بالعقيدة فلابد من الإيمان تعييناً ، قال تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
تبين الآية علة النهي عن نكاح المشركين بأنه قد يقرب العبد إلى النار ، وحتى إذا لم يقربه إلى النار فان صحبة المشرك ضرر وأذى ، وجدال وخصومة متصلة .
لقد أراد الله عز وجل للمهاجرين والأنصار الخروج إلى سوح الدفاع والذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وأراد لعوائلهم كتمان أخبار كتائب وسرايا النبوة ، بينما المشرك والمشركة يسربون الأخبار إلى الكفار ، ويدلون على الثغرات التي عند المسلمين ، ويساعدون في خطط إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ترى كيف تكون دعوة المشركين إلى النار ، الجواب من جهات :
الأولى : الجحود بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
الثانية : إنكار نزول القرآن من عند الله عز وجل .
الثالثة : الإفتراء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم الإقرار بنبوته .
الرابعة : نشر مفاهيم الفسوق والفجور .
الخامسة : عدم الإحتراز من الباطل والحرام .
السادسة : المشرك والمشركة لا يؤمنان باليوم الآخر والمعاد الذي هو أصل من أصول الدين ، ويلزم إصلاح الناشئة للإقرار به ، قال تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ]( ).
السابعة : محاربة الإسلام والصحابة .
الثامنة : قانون مصاحب الحسد للشرك .
التاسعة : تعليم الأبناء العادات المذمومة ومحاولة نقض تأديبهم وإصلاحهم لسبل التقوى .
وقد ورد لفظ (يدعون إلى النار) مرتين في القرآن إحداهما في آية البحث ، والأخرى في وصف وذم فرعون وجنوده ، قال تعالى [وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ]( ).
وتحذر الآية من نشأة الفساد داخل الأسرة بمفاهيم الشرك والضلالة فيها ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ]( ).
بحث أصولي
صحيح إن النكاح مطلوب بذاته، وغاية اجتماعية ونفسية إلا إنه مقدمة غيرية، وهذه المقدمة تحمل صفة الإستحباب تارة الوجوب تارة اخرى بحسب ما يترشح عليها من ذيها ، واحتسابه واعتباره واجباً او مستحباً، والزواج من المسلم واجب كمقدمة لذي المقدمة الواجب، وانجاب الأبناء المسلمين واجب على المسلم والمسلمة، فبالنسبة للمسلمة ينحصر الأمر بزوج واحد فلا يصح زواجها الا من مسلم وبذا تتجلى مفاهيم فلسفة نكاح المسلمة وحرمة زواجها من غير المسلم بلحاظ ان انجاب الأولاد ضرورة لإستدامة الحياة الإنسانية وخصوص المؤمنين لتعاهد ذكر الله ، الى جانب شرف الإسلام وعدم حصول سبيل للكافر على المسلم، اما بالنسبة للمسلم الذكر فان أولاده ينتسبون اليه شرعاً وعقلاً وعرفاً اياً كانت ملة الزوجة، فلذا ترى الإختلاف في الزواج من الكتابية جوازاً وحرمة، كما ان الشريعة تبيح له الزواج من أكثر من زوجة.
وفي علم الأصول قسمت المقدمة الخارجية الى عدة اقسام بحسب اللحاظ وقد قسمت الى :
الأولى : المقدمة الشرعية .
الثانية : العقلية .
الثالثة : المقدمة العادية .
والنكاح من المسلم والمسلمة مقدمة شرعية وعقلية وعادية لتعاهد مبادئ الإسلام، والواجب الذي يكون النكاح له مقدمة هو واجب عقائدي واخلاقي واجتماعي وسياسي ذو صبغة عالمية كما ان المقدمة بحسب الدخل والأثر تنقسم الى السبب والشرط، والمانع والمعد.
وعن سعيد بن هلال ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : تناكحوا تكثروا ، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة( ).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : مَن أحبّ فطرتي فليستنَّ بسنّتي وهي النكاح ، وقال : إنَّ الرجل ليُرفع بدعاء ولده من بعده( ).
وهوية النكاح الإسلامية سبب الإستمرار الوجود الإسلامي بمصاديقه البشرية والدعاة اليه والمحافظين على شعائره، وهو شرط في ديمومة الإسلام والولادات الكريمة واستمرار العبادة والصلاح والنطق بالشهادتين الذي يكون شرطاً في الزواج .
والظاهر أن النكاح علة لبقاء النطق بالشهادتين في الأرض كما إن هوية النكاح مانع من شيوع الضلالة وتسرب مفاهيم الكفر الى المجتمعات الإسلامية كما إن حصر النكاح بالمسلم اعداد وتهيئة للأجيال التالية، وكما ان مضامين الآية القرآنية لا تنحصر باسباب النزول أو مدة النبوة كذلك مسألة هوية النكاح فانها لا تنحصر بالصلة الشخصية بين الزوجين واولادهم الصلبيين بل ان كل زواج بين مسلم ومسلمة قاعدة كلية تمتد آثارها وعظيم نفعها الى يوم القيامة فلا غرابة أن تأتي البشارة بالجنة في هذه الآية بقوله تعالى [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ] ويمكن استقراء هذه البشارة من تعاقب الذرية المؤمنة ، قال تعالى [ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
ويمكن تلمس الأضرار الفادحة لشيوع الخلافات الجانبية التي تحصل بين الزوجين اذا كانا من جماعتين يحصل بينهما خلاف او صراع مع التقائهما في جهات ، وتأثير ذلك على الأولاد وميل شطر منهم الى جهة الأم والشطر الآخر الى الأب، وظهار اسباب الحب او النفرة او اعتزال الطرفين معاً، وهذه المسألة صغروية والخلاف ثانوي فكيف لو حصل الإنقسام بين الأولاد بلحاظ العقيدة والدين .
ولقد خفف القرآن عن المسلمين الى يوم القيامة بايجاد الموانع الشرعية التي تحول دون اسباب هذا الخلاف ولتتجلى مصاديق موافقة حكم العقل لحكم الشرع.
و(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها ، كلكم لآدم وحواء كطف الصاع بالصاع ، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم ، فمن أتاكم ترضون دينه وأمانته فزوجوه)( ).
قوله تعالى [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ]
إن الإمتناع عن نكــاح المشــركين طــريق الى الجنة وسبيــل للنجــاة من النــار، فالالتزام باحكـــام النكاح والتقيد بالنكاح من المسلـــم والمسلـمة وان كان من العبيد خطوة الى الجنة من وجوه:
الأولى : لأنه امتثال لأحكام هذه الآية الكريمة والتزام عملي باحكام الشريعة الاسلامية.
الثانية : تعاهد أحكام الاسلام والالتفات إلى أوامره ونواهيه في المسائل الحياتية.
الثالثة : الإلتزام بالنصوص والأوامــر الإســلاميــة في الأمــور الإبتلائيــة أي ان العمـــل بالقرآن والسنة في النكاح دليل الامتثال بسنن وآداب الشريعة واستحضار الاحكام عند الاقدام على عمل ذي اهمية.
الرابعة : التقيد باحكام النكاح باب للثواب العظيم، فالمسلمون متسالمون على عدم النكاح ممن لم يتصف بالإقرار بالتوحيد والنبوة ، والمسلمة لا ترضى بالزواج من غير المسلم، وهذا الالتزام المبارك وحده سبيل للاجر والثواب من غير ان نعلم بخصائصه بالدقة، فقد يكون طريقاً إلى الجنة وباباً إلى العفو والمغفرة بالإضافة إلى الإصلاح العام في الدنيا.
الخامسة : تبين الآية عظيم فضله تعالى على المسلمين والمسلمات، فالتقيد النوعي العام بآداب وشرائط وأحكام إختيار الزوج مدخل كريم للعفو ونيل الثواب، هذا على فرض ان عمومات الآية تدل على هذا المعنى وهو الظاهر من سياق الآية ومضمونها، ولا أقل تكون شرطية الهويـة الاســلامية للزوج مقدمة مباركة لإتيان الأفعال التي تؤدي الى الجنة.
السادسة : الزواج الاسلامي يتولد منه اولاد صالحون يذكرون الله عز وجل فيأتي ثواب اجتماعي للوالدين ويكون ســبيلاً لنيلهــم العفو والمغفرة وان كانا ميتين.
السابعة : يمكن النظر لقوله تعالى [وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى]( )، على المعنى الاعم وان الولد الصالح من سعي الانسان بتقريب ان اختيار الزوج والزوجة المسلمة طريق لتجديد العمل الصالح بعد الوفاة، وكأن الزواج زرع مبــارك واستثمار لاحق تأتي ثماره الإيمانية فيما بعد.
الثامنة : ثواب ومنافع الإختيار الحسن الزواج لا تنحصر بالإختيار والذرية الصلبية بل يتعدى الى الأجيال اللاحقة.
التاسعة : يمكــن القــول بــأن مــن وجــــوه تفــســير الآيــة تجلي الســـعي الى الجنة بحســن الإختيــار في الـزواج، وإن المغفـرة تتعلــق بالولــد الصــالح، وكــأن عملــه بالنســبة للاب لا يتضــمن الا المغـفــرة والعــفــو إذ ليــس من عمــل للأب بعــد موتــه يعـارض أو ينقص من أســباب المغفـــرة الــواردة عليــه في قــبره مــن عمــل ابنائــه الصــالحين الصلبيــين وغــيرهم .
و(قال النبي صلى الله عليه واله إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)( ).
بينمــا لا يـــرد عليه ما يترتــب على ذنــوبهم مــن الآثام لعمـومات قوله تعالى [ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُــمْ مَرْجِعُكُــمْ فَيُنَبِّئُكُــمْ بِمَا كُنــتُمْ فِيــهِ تَخْتَلِفُونَ ]( ) ما دام لم يكن سبباً فيها ولم يهيء مقدماتها في حياته.
العاشرة : في الآية دعوة لتأديب الأولاد على التنزه عن الظلم وعلى إجتناب الإرهاب واشاعة الخوف بين الناس .
الحادي عشرة : الآية نبذ للفرقة والخلافات العقائدية والخصومات العقائدية وهي وسيلة لمحاربتها والقضاء عليها.
وفي الآية تخفيف عن المسلمين وعون ومدد لهم إذ جعل الله تعالى دعوته الى الجنة في مقابل دعوة الكفار الى النار ولابد ان يكون النصر والغلبة لدعوته تعالى والآية وان جاءت قاعدة كلية ولكن مضامينها ظاهرة في باب النكاح بالبشارة الدنيوية والأخروية .
أما الأولى فهي إستمرار تقيد المسلمين باحكام هذه الآية الى يوم القيامة.
وأما الأخروية فهي الثواب الجزيل الذي يترشح من النكاح الجامع للشرائع ويلحق ثواب آخر الأبناء المتعاقبين من هذه النكاح في آخر الزمان بالآباء الأوائل في بداية الإسلام وتأريخ الإنتساب المبارك له.
ومن مضامينها انها حرز وواقية من دعوات المخالطة في النكاح والتي قد تواجه المسلمين في زمان العولمة والتقارب والتداخل بين المجتمعات والدول والأنظمة.
الثانية عشرة : الواو في [ وَالْمَغْفِرَةِ ] واو عاطفة ولا مانع من ان تكون إستئنافية أيضاً، أي أن الدعوة إلى الجنة مطلقة بواسطة الأنبياء والكتب، والمغفرة فضل اضافي منه تعالى.
الثالثة عشرة : من وجوه الدعوة الى الجنة ما ورد في هذه الآية من وضع ضابطة كلية في النكاح وحصره في المسلم والمسلمة.
الرابعة عشرة : تؤكد الآية على لزوم المحافظة الفقهــيــة والقضــائيــة والفتــوائيــة والاجتماعيــة على التقــيــد بهــذه القــواعـد وشرائط النكاح لأنها طريق الى الجنة.
تبين الآية التعارض والتضاد بين اللطف الإلهي في جذب الناس إلى اللبث الدائم في الجنة ، وبين الغايات الخبيثة للمشركين.
وتبين الآية قانوناً وهو زواج المؤمن مؤمنة طريق إلى الجنة ، وبرزخ دون أسباب دعوة إلى الفسوق والفجور ، وهذه الآية حرب على الشرك ومفاهيم الضلالة ، قال تعالى [وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ]( ).
قوله تعالى [بِإِذْنِهِ]
في الآية وجوه :
الأول : فسر الإذن بأمره تعالى وأنــه يأمــر ويـأذن بـالشرائع والاحكام، عن الحسن البصري والجبائي، ونسب الطبرسي الى القيل باعلامه.
الثاني : بما ان الكلام العربي يحمل على ظاهره إلا مع القرينة على الخلاف، فيمكن ان يحمل على حقيقته لا أقل في وجه من وجوه تفسيره مما يؤكد ضمناً الحاق عمل الإبن بالأب من جهة الثواب والعفو والمغفرة.
الثالث : يمكن تأسيس قاعده كلية في المقام ونسميها (قاعدة الاعقاب) وهي أن الثواب يرد إلى الانسان بأعقابه وذريته وما يأتون به من العمل الصالح، اذ يكون اختيار الزوجة البذرة المباركـة الاولى والتي جاءت عن قصد وعلم وادراك بأنها مسلمـة ولو كان القصد اجمالياً ومحرزاً، وكذا بالنـسبة للزوجة وثوابها من اولادها وذراريها الذكور والاناث وان كانوا ابناء لبنتــها او بنـت بنتها وذلك باختيارها الزوج المسلم الذي يتعاهد بنطقه الشهادتين الشعائر الاسلامية.
الرابع : لا مانع من اجتماع المعنـيـين الحقيقــي والمجــازي في قــوله تعالى [بِإِذْنِهِ] فيحمل ايضاً على أمره وفضله تعالى.
الخامس : الاذن الالهي هنا إشارة الى إسـتجابة المسلمين وتقيدهم بهذا الشــرط الإبتــدائي في الزواج وحصــره بالهويــة الاسلامية، وإنه لم يــتم على نحــو مســتقل بــل جاء بفضل الله ومنّه ولطفه واذنه تعالى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ]( ).
السادس : مع صدور الافعال من العباد بإعانة وتوفيق منه تعالى فان العاقبة والثواب عليها يكون الجنة.
السابع : الكفار وأهل الضلالة يدعون الى النار، والله عز وجل يدعو الى الجنة، فلابد أن الغلبة للحق وأن دعوة الهداية و الإيمان هي المنجية والنافذة، لذا ترى المسلمين يحافظون على شرطية الاسلام في الزواج إلا ما خرج بالدليل، ويمكن أن نطلق على شرطية الاسلام في الزواج (هوية النكاح).
الثامن : مع دعوته تعالى الى الجنة فأنه سبحانه يدعو الى المغفرة والتوبة، والعفو طريقاً للجنة.
التاسع : ميل المسلم الى المسلمة وبالعكس وإن كان عند غير المسلم صفات شخصية أحسن لأن الرجحان بصبغة الاسلام.
وهل هو من عمومات قوله تعالى [[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، أم أن القدر المتيقن من الآية الأخوة بين الرجال المؤمنين ومنه مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار قبل معركة بدر ، الجواب هو الأول .
العاشر : إباحة النكاح بالنطق بالشهادتين وإعلان الإسلام عون على تفسير الآية ووجه من وجوهه.
الحادي عشر : إن النكاح من المسلمة حسنة وفيه أجر وثواب وسعي نحو الجنة وإن تم بصورة تلقائية فانه التزام بحكم سماوي وترسيخ لقواعد الإسلام، وتهيئة ايمانية ومقدمة مباركة لحفظ أجيال المسلمين من التيه والغواية.
وهذه الحسنة لا ينالها المسلم الذكر وحده بل تنالها الزوجة ايضاً لأنها لم تختر الا المسلم وما في هذا الإختيار من العز للذات وحفظ العقيدة وايجاد واسباب صلاح اولادها ونشأتهم على المبادئ الإسلامية، كما ينالها الأهل والأولياء لأنهم يتعاهدون أمر النكاح من المسلم.
ولعل هذه الحسنة والثواب ليست بمرتبة ودرجة واحدة فانه يزداد بلحاظ مواجهة تحدي التداخل الحضاري واسباب التأثير النفسي والفكري الذاتي او المترشح عن أسباب أخرى قهرية أو إنطباقية.
وهذا الأمر مناسبة لأن يشكر الأبناء اباءهم على بادئ النعم وحرصهم على انجاب الأولاد من أبوين مسلمين.
وتظهر الآيات ان القرآن وسيلة مباركة لحفظ الإسلام وتعاهد الأمة في اجيالها وعقائدها ومناسكها فلا غرابة تشتد هجمة الكفار على القرآن ويعدّه المشركون عدوهم الأول ويسخرون لمحاربته مختلف الوسائل والطرق الأمر الذي يملي على المسلمين تعاهده والعناية به مصحفاً مرسوماً وقراءة وحفظاً وأحكاماً.
و(عن السدي قال : اجتمعت قريش فقالوا : إن محمداً رجل حلو اللسان ، إذا كلمه الرجل ذهب بعقله ، فانظروا أناساً من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم ، فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس كل ليلة أو ليلتين ، فمن جاء يريده فردوه عنه . فخرج ناس منهم في كل طريق ، فكان إذا أقبل الرجل وافداً لقومه ينظر ما يقول محمد فينزل بهم . قالوا له : أنا فلان ابن فلان . فيعرفه بنسبه ويقول : أنا أخبرك عن محمد ، فلا يريد أن يعني إليه ، هو رجل كذاب ، لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه . وأما شيوخ قومه وخيارهم ، فمفارقون له فيرجع أحدهم . فذلك قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ( ).
بحث إعجازي
من إعجاز القرآن ان الآية القرآنية تنطق بمضمون او مفهوم الآية الأخرى وتكون شاهداً عليها وتفسيراً لها، وتكون ايضاً عضداً لها وعوناً على العمل باحكامها، فتأتي آية بالأمر بشيء او نهي عن فعل، فتأتي آية اخرى لتوكيد هذا الأمر والنهي، وآية اخرى عوناً ومقدمة او حرزاً ومناسبة في مقابل الناسخ والمنسوخ، ويفتح لنا آفاقاً من العلم والمعرفة وهو دعوة للغوص في كنوز القرآن واعادة صياغة علم التفسير واظهار منافع القرآن في النشأتين وكيف انه يساهم في العمل بآياته .
ولم ينحصر موضوع آياته بالتلاوة والعمل باحكامها بل ان بعضها يساعد في العمل بما جاءت به الآية الأخرى، فهذه الآية عون سماوي كريم للعمل باحكام تكليفية ووضعية جاءت بها آيات اخرى كثيرة منها الآيتان السابقتان في حرمة الخمر والميسر والدعوة الى الإنفاق في سبيل الله تعالى والعناية باليتامى بلحاظ ان موضوع هذه الآية أس كريم وقاعدة اجتماعية واخلاقية ومقدمة شرعية لتوجيه افعال المسلمين.
وقد صدرت أجزاء متعدد من هذا السٍفر منها ما يخص الصلة بين آيتين متجاورتين ومنها مايتعلق بالصلة بين شطري آيتين من القرآن ، وهذه الأجزاء هي :
أولاً : الجزء الرابع والثمانون ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 101-109 من سورة آل عمران .
ثانياً : الجزء الخامس والثمانون ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 94-102 من سورة آل عمران .
ثالثاً : الجزء السادس والثمانون ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 85-93 من سورة آل عمران.
رابعاً : الجزء السابع والثمانون ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 78-84 من سورة آل عمران.
خامساً : الجزء الثامن والثمانون ويختص بصلة الآية 110 بالآيات70-77 من سورة آل عمران.
سادساً : الجزء الثالث والتسعون ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 64-69 من سورة آل عمران.
سابعاً : الجزء العشرون بعد المائة ويختص بصلة الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران.
ثامناً : الجزء الثاني والعشرون بعد المائة وهو القسم الأول من تفسير الآية153 ,ويختص بصلة شطر من الآية 153 بشطرمن الآية 151 من سورة آل عمران.
تاسعاً : الجزء الخامس والعشرون بعد المائة , وهو القسم الأول من تفسير الآية 154 , ويختص بصلة شطر من الآية بشطر من الآية 153 من سورة آل عمران.
عاشراً : الجزء الرابع والأربعون بعد المائة ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بشطر من 164 من سورة آل عمران .
الحادي عشر : الجزء السادس والثمانون بعد المائة , ويختص بالصلة بين الآية 180 والآية 181 من آل عمران .
قوله تعالى [وَيُبَيِّنُ آياته لِلنَّاسِ]
في الآيات المبينة وجوه :
الأولى : البراهين والحجج من عند الله عز وجل لعمومات قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
الثانية : الآيات المتجددة والمستحدثة وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة الفعل المضارع (ويبين).
الثالثة : مايحظره أو يبيحه الله للناس .
الرابعة : من الآيات في النفس القيود الشرعية والعقائدية، بل ان الزواج ورد في اصل خلق المرأة كما في قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِـدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَـاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ]( ).
الخامسة : بديع صنع سبحانه والآيات الكونية الثابتة والمتحركة والطارئة بأحكام وسنن التنزيل ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، لبيان الرفعة والأجر والثواب للعمل بالتنزيل .
السادسة : المنافع والفوائد العظيمة بالتقيد بأحكامه وسننه.
السابعة : الإعجاز في الأوامر والنواهي الإلهية.
الثامنة : الإعانة والتوفيق على الإلتزام بأوامر الله تعالى وما جاء به القرآن والسنة، فترى المسـلم يتزوج امرأة فقيرة ليست ذات جمال او حسب وهو فرح بهــا، وتنـفر نفسه من غير المسلمة وان كانت ثرية وذات جمال.
التاسعة : بيان الأضرار السلبية والاثار المؤلمة التي تنجم عن الزيجة المخالفة لقاعدة (هوية النكاح) الا ان يشاء الله.
العاشرة : من آياته تعالى أن يبتنى النكاح على الإيمان دون زوائد مذهبية او اعتبارية، وكيف يحصل الانسجام والوئام وتطرح الخصومات جانباً، وفيه دليل على أن الإنتماء المذهبي أمر ثانوي والخلاف صغروي ، ولا اعتبار له في الكليات والمفاهيم العقائدية، كما انه يدل على موضوعية وأولوية النكاح ولزوم طرح الخلافات جانباً في اختيار الزوجة المسلمة.
الحادية عشرة : ما يحدث بالزواج المبني على هوية النكاح السليم من المودة والرفق والتعاون والتجاذب، فلو لم تكن هناك موضوعية واعتبار للاسلام لما بلغ الوفــاق والمحـبة الى هذه الدرجة والعلقة والاولوية في الصحبة اليومية والعيش سوية.
الثانية عشرة : لعلهم يتذكرون وجوب عبادة الله وحده واللجوء الى التوبة والإستغفار .
وعن الإمام الباقر عليه السلام (لما أصاب آدم الخطيئة عظم كربه ، واشتد ندمه . فجاءه جبريل فقال : يا آدم هل أدلك على باب توبتك الذي يتوب الله عليك منه ، قال بلى يا جبريل .
قال : قم في مقامك الذي تناجي فيه ربّك فمجده وامدح ، فليس شيء أحب إلى الله من المدح .
قال : فأقول ماذا يا جبريل ، قال : فقل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت ، بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير . ثم تبوء بخطيئتك فتقول : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت . رب إني ظلمت نفسي وعملت السوء فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . اللهم إني أسألك بجاه محمد عبدك وكرامته عليك أن تغفر لي خطيئتي . قال : ففعل آدم فقال الله : يا آدم من علمك هذا .
فقال : يا رب إنك لما نفخت فيّ الروح فقمت بشراً سوياً أسمع وأبصر وأعقل وأنظر رأيت على ساق عرشك مكتوباً : بسم الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد رسول الله فلما لم أر على أثر اسمك اسم ملك مقرب ، ولا نبي مرسل غير اسمه علمت أنه أكرم خلقك عليك . قال : صدقت .
وقد تبت عليك وغفرت لك خطيئتك قال : فحمد آدم ربه وشكره وانصرف بأعظم سرور ، لم ينصرف به عبد من عند ربه . وكان لباس آدم النور قال الله [يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا]( )، ثياب النور قال : فجاءته الملائكة أفواجاً تهنئه يقولون : لتهنك توبة الله يا أبا محمد) ( )( ).
الثالثة عشرة : يمكن استظهار جملة من آياته تعالى باجراء دراسة مقارنة في الحياة الزوجية بين المسلمين وغيرهم واظهار الجوانب الايجابية والسجايا الحميدة في الزواج بين المسلمين وحياة الاسرة المسلمة روحياً واخلاقياً واجتماعياً وجنسياً.
لقد أختتمت الآية بقوله تعالى [وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( )، وجاءت الآية بصيغة المضارع لبيان نكتة عقائدية وإعجازية في القرآن ، وهي إتصال بيان الله للآيات إلى يوم القيامة .
ولو دار الأمر بين إرادة مطلق الآيات والبراهين الدالة على الربوبية المطلقة لله عز وجل ، وقدرته على كل شئ ، وبين إرادة آيات القرآن ، فالصحيح هو الأول ، خاصة وأن الخطاب في آية البحث للمسلمين والمسلمات (ولاتنكحوا) (ولو اعجبتكم).
والمختار أن النسبة بين لفظ (آياته) في آية البحث وبين آيات القرآن هو العموم والخصوص المطلق وكل آية من عند الله تذكير بوجوب عبادة الله ، والتنزه عن الشرك ، والظلم والجور .
ولم تقف الآية عند بيان الله للآيات إنما أخبرت عن بيانها للناس ، مما يدل على بلوغها للناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
بحث تأريخي
لقد كان العرب قبل الإسلام أهل غزو وغارات فكل قبيلة تهجم على غيرها وتباغتها لتقتل رجالها وتسبي نساءها وقد يتباهون بذلك، وان كانت هذه الحالة ليست مستديمة بل تحدث في الأزمات والثأر والإنتقام اذ ان العهود والمعاهدات كانت معروفة بينهم.
ولما جاء الإسلام نبذ الغزو وحرمه وحصر أمره على العقيدة والإسلام ووضع له قواعد وشرائط لا يمكن الإعراض عنها، وبذا منع من الإنقياد للقوى الشهــوية والغضـبية وتحكم العادات القبلية والعشائرية، وجاء بقيم سامية فيها اكرام للمرأة بمنع سبـيها، وحفظها وصيانتها باعتناقها الإسلام او بقائها على الديانـة الكتابية مع عدم الإعتداء على المسلمين.
إن تفضيل الأمة المسلمة على الحرة والعربية الكافرة امر لم ترق اليه أي حضارة ولم يحصل في أي تغيير سياسي واجتماعي وانفرد به الإسلام مما يدل على قوة سلطانه على القلوب المترشح عن صدق الدعوة ونزول الأحكام من عنده تعالى.
أما الوثنية والتي تكون جزء من مجتمع يعتدون على المسلمين او مطلقاً فتعرض نفسها للرق وهو النظام الذي اوجده الإسلام وظهر من خلال التطبيق والعمل انه نظام مؤقت زماناً مثلما هو محصور مكاناً واشخاصاً وعقيدة، وقد قام المسلمون باستثماره احسن استثمار، وفيه اكرام للإماء بما لم يتحقق لأكثرهن مثله عند الأهل وما قبل الرق، بالإضافة الى التشريعات الخاصة بالعبيد والإماء واستحباب العتق والندب اليه في القرآن والسنة والتسابق بين المسلمين في الإمتثال الأحسن لقواعد العتق، واحكام ام الولد وكيف انها تعتق من نصيب ابنها اذا مات عنها زوجها.
وقد تصدى الإسلام لوأد البنات وحرم واستأصل قتلهن خشية الفقر والعار حال الغزو على القبيلة .
وتبدو الحاجة لمنع الوأد والترغيب بالإحتفاظ بالبنت لما في الآية من اكرام المؤمنة وطلب نكاحها ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( ).
والموءودة : المدفونة حية .
ومن الإعجاز في السنة النبوية جعل التكفير عن الوأد في الجاهلية بعتق العبيد .
و(جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله، إني وأدت بنات لي في الجاهلية .
فقال : أعتق عن كل واحدة منهن رقبة.
قال: يا رسول الله، إني صاحب إبل .
قال: “فانحر عن كل واحدة منهن بدنة)( ).

قوله تعالى [لَعَلَّهُمْ يَتَذَكرُونَ]
الأول : يتذكرون ما في النكاح والاختيار من الآيات والمنافع.
الثاني : حضور الشريعة في امور الحياة المختلفة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثالث : ما للنكاح من الأهمية الخاصة في دوام العبادة في الارض.
الرابع : (لعل) تفيد الترجي والتمني، أي ان هذه الآيات مدخل كريم للتدبر في شؤون الخلق وكيفية التصرف والاعمال.
الخامس : إن شمول الأوامر والنواهي لباب النكاح وغيره على نحو التفصيل يجعل المسلم يستحضر القرآن وأحكام الشريعة في كل ميادين الحياة ويتذكر في كل موضوع الحكم المناسب له.
السادس : الضمير (هم) في [لَعَلَّهُمْ] عام فيشـمل المسلمين وغيرهم وان تباين موضوع التذكر وأسبابه وغاياته ونتائجه، فالمشركون الذين يحجب عنهم الزواج من المسلمة، والكافرات اللائي يحرمن من الزواج من المسلمين، يتذكرون بمناسبة وموضوع الزواج والأولاد عظمة الإسلام وعلة المنع والحجب.
السابع : (هوية النكاح) قاعدة وشرط وواقع وجداني يبعث الخوف والفزع في قلوب الكفار والمشركين من الاسلام ويحول دون تأثيرهم بالمجتمعات الاسلامية.
الثامن : الضوابط الكلية في الزواج دعــوة للمشركين لدخول الاسلام، سواء كان على نحو القضية الشخصية أي انه يريد الزواج من مسلمة ويتعذر عليه ذلك الا بازالـة المانع الاختياري الذي حال دون الزواج، او على نحو النوع.
ودخل في الإسلام بعد صلح الحديبية في سنتين بين شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة وحتى فتح مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة أكثر مما دخله مدة سني البعثة السابقة وهي ثماني عشرة سنة ثلاث عشرة سنة في مكة قبل الهجرة ، وخمس سنوات بعد الهجرة .
وبينما خرج ألف من المسلمين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة وانخزل منهم ثلاثمائة في الطريق بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، أما في فتح مكة فقد خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشرة ألاف ، ليخرج معه من مكة بعد آيام اثنا عشرة ألف أي بزيادة ألفين ، وسيأتي مزيد كلام في الجزء 221 وهو بعنوان (النزاع المسلم بين القرآن والإرهاب).
التاسع : وفق قاعـدة الإمتـناع بالإختيار لا ينافي الإختيار، فان الآية تذم الكفر وتوجه اللوم والتوبيخ لمن يختار الكفر والضلالة بما تبينه من الاثار الوضعية والسلبية العاجلة والاجلة بمنعه وحجبه عن المسلمات.
العاشر : الآية واحكام الزواج مناسبة لتذكر الاخرة واهوالها وما فيها من مواطن الحساب وبذا نستقرأ قاعدة كلية وهي إن الخطابات الشرعية لم تطلب لذاتها فقط بل انها كاشفة عن الأحكام الشرعية ، وهي وسيلة لدخول الجنة وباب للهداية والتدبر في شؤون الخلق والوصول منها الى سبل الهداية والاسلام.
عن البراء : أن أعرابياً قال لرسول الله علمني عملاً يدخلني الجنة ، قال : أعتق النسمة وفك الرقبة . قال : أوليستا بواحدة؟ قال : لا إن عتق الرقبة أن تفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في عتقها ، والمنحة الركوب والفيء على ذي الرحم ، فإن لم تطق ذلك فاطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير( ).
بحث بلاغي
في علم المتشابه يكون قوله تعالى [لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] مما جاء متشابهاً بلحاظ الأفراد على سـبعة حروف، أي تكرر ذات اللفظ في سبعة مواضع من القرآن، وهذا التكرر والتشابه اعم من الجانب البلاغي واعجازه، وكل له دلالة بلحاظ الموضوع وسياق الآية.
إذ ورد هذا اللفظ في آية البحث وفي الآيات التالية :
الأولى : قوله تعالى [تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [فَأَذَاقَهُمْ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (الزمر/26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( ).
السادسة : قوله تعالى [فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( ).
والمتشابة اللفظي مركب من كلمتين ، والتشابه هو التماثل وما يقرب من التساوي وقيد باللفظي لفصله عن المتشابه المعنوي الذي هو في مقابل المحكم ، قال تعالى [مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( )، فيأتي اللفظ متشابهاً ولكن المعنى متعدد بلحاظ نظم الآيات والدلالة والغايات الحميدة ، وقد يراد من المتشابه الإختلاف في اللفظ والحروف مع إتحاد الموضوع كما في قصة آدم واغواء الشيطان له ولحواء ، وفي قصة موسى وفرعون ، وكما في قول بني اسرائيل له [قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ]( )، إذ تكرر هذا الطلب مرتين ، فمع نزول الجواب من عند الله في المرة الأولى ، على سؤالهم كما في قوله [قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ]( )، عادوا وسألوا عن لونها ، أعادوا السؤال الأول عن ماهية هذه البقرة ولكن هذا السؤال جاء مقروناً بالإعتذار كثير فيشق علينا تعيين البقرة المطلوبه [قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ]( ).
ويظهر العموم والخصوص والعموم والخصوص من وجه في لفظ [لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( )، بلحاظ أمور :
الأول : موضوع الآية .
الثاني : نظم السياق الآيات .
الثالث : الغايات الحميدة للأحكام الواردة في الآية .
ولو دار الأمر بين العموم والخصوص في المقصود في كل من :
الأول : الحرف (لعل) وإفادته الترجي أو الوجوب .
الثاني : الضمير( هم) وهل المراد العطف على المذكورين في الآية أم الآيات السابقة ، أم ما هو أكثر وأعم ، والمراد منه في آية البحث عامة الناس من المسلمين وأهل الكتاب والمشركين لأن الألف واللام في (الناس) تفيد إرادة الجنس .
الثالث : موضوع وأوان التذكر .
الرابع : ما يترشح عن التذكر من أسباب الهداية والصلاح ، قال تعالى [وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).


قوله تعالىقوله تعالى [ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيـضِ وَلاَ تَقْرَبُـوهُنَّ حَتَّى يَطْـهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] الآية 222.
الإعراب واللغة
ويسألونك : الواو: حرف عطف.
يسألون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون: لأنه من الأفعال الخمسة.
واو الجماعة : ضمير متصل مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، عن: حرف جر، المحيض: اسم مجرور، وعلامة جره الكسرة.
قل: فعل أمر مبني على السكون، والفاعل ضمير مستتر تقديره “أنت” يعود إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . والآية من آيات الأحكام .
هو: ضمير منفصل مبني على الفتح مبتدأ.
أذى: خبر المبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة، لأنه اسم مقصور.
فأعتزلوا : الفاء: حرف إستئناف، إعتزلوا: فعل أمر مبني على حذف النون.
النساء: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة،
في: حرف جر، المحيض: اسم مجرور وعلامة جره الكسرة.
ولا: الواو: حرف عطف، لا: حرف نهي وجزم، تقربوهن: فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف النون: لأنه من الأفعال الخمسة.
واو الجماعة: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، هن: ضمير متصل مبني على الفتح في محل نصب مفعول به.
حتى : حرف نصب وغاية .
يطهرن : فعل مضارع مبني على السكون لإتصاله بنون النسوة في محل نصب، ونون النسوة: ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع فاعل.
والمصدر المؤول من (ان) المضمرة بعدها ، ومن جملة المضارع (أن يطهرن ) في محل مجرور بالحرف (حتى ) .
والأصل في مجرور (حتى) انه داخل في حكم ما قبلها الا مع القرينة التي تدل على الخلاف، فاذا قلت صمت شهر رمضان حتى اليوم الأخير، فانه يدل على صـيامك لليوم الأخير منه ايضـاً، بخلاف (الى) فان مجرورها قد لا يدخل فيما قبلها الا مع القرينة الدالة على الخلاف، ومنه قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ]( )، مع ان (حتى) تكون مرادفة الى احد معنيين :
الأول : الحرف إلى كما في قوله تعالى [حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى] ( ).
وقوله تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ] ( ).
الثاني : المعنى الآخر لها انها مرادفة (كي) التعليلية وفي المقام يكون مجرور حتى خارجاً عن حكم ما قبلها، لأنه ليس من جنسه بالإضافة الى النصوص وحكم العقل.
فإذا: الفاء:حرف إستئناف، إذا: ظرف شرطي لما يستقبل من الزمن مبني على السكون في محل نصب .
تطهّرن : فعل مضارع مبني على السكون لإتصاله بنون النسوة في محل نصب، ونون النسوة: ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع فاعل.
فأتوهن: الفاء: رابطة لجواب الشرط .
وأئتوهن: فعل أمر مبني على حذف النون، واو الجماعة: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، هن: ضمير متصل مبني على الفتح في محل نصب مفعول به .
من : حرف جر، حيث : ظرف مبني على الضم في محل جر.
أمركم: أمر: فعل ماض مبني على الفتح، كم: ضمير متصل مبني على السكون المقدر في محل نصب مفعول به.
الله: اسم الجلالة فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة، والجملة في محل جر مضاف إليه.
إن: حرف توكيد ونصب، الله: اسم الجلالة : اسم إن منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.
يحب: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة، والفاعل ضمير مستتر تقديره “هو” والجملة في محل رفع خبر “إن”.
التوابين: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم.
ويحب: الواو: حرف عطف.
يحب فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة، والفاعل ضمير مستتر تقديره”هو”، المتطهرين: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم.
والحيض لغة السيل وفي الإصطلاح هو ســيلان الـدم الذي يقذفه رحم المرأة دورياً في كل شهر تقريباً فيما بين حال البلوغ او بعده بمدة قليلة وبين سن اليأس، أي المراد من الحيض سيلان دم الحائض وليس الحيض نفسه، وارادة الدم منه نوع مسامحة او للبيان والإصطلاح، نعم هناك اخبار عديدة تبين اطلاق لفظ الحيض على ذات الدم.
وصفة دم الحيض في الغالب مائل الى السواد أو أحمر غليظ طري حار يخرج بقوة وحرقة، أما دم الإستحاضة فبخلافه أي لا يمتلك تلك الصفات.
لقد خلق الله دم الحيض في المرأة لحكم عديدة منها تغذية الولد اذا حملت المرأة وعند الوضع يحمل صفة اللبن ليكون غذاءً للطفل مدة الرضاعة، أما اذا كانت المرأة خالية من الحمل والرضاعة فان الدم يخرج وفق دورة منتظمة في الغالب.
يحصل بلوغ الفتاة عند اتمام تسع سنين هلالية وقيل عند الحيض أو الحمل ، ومن الفقهاء من جعل بلوغ الفتاة كالغلام عند سن الخامسة عشر ، ويتوجه التكليف عند البلوغ بالفرائض والعبادات فتكون واقية من هيجان الشهوة في الأكل والميل للجنس الأخر .
والسنة الهلالية هي القمرية ومجموع أيامها 354 او 355 يوماً، أي أقل من السنة الميلادية باحد عشر يوماً تقريباً، ولكن لا ملازمة بين البلوغ والحيض فغالباً ما يتأخر الحيض عن أوأن البلوغ ، وقد تدخل أسباب خاصة في التبكير أو التأخر في سن بلوغ الفتاة فقد يقدم سن البلوغ مثل حسن التغذية ، والوزن الزائد والمناخ ، وعامل الوراثة من الأمهات .
بحث في القراءة
تذكر هذه الآية في باب اختلاف الأحكام باختلاف القراءات، للتباين في الحكم بين قراءة (يطهرن) بالتخفيف و(يطهّرن) بالتشديد، وقد حكى ابو ليث السمرقندي قولين :
الأول: إن الله قال بهما جميعاً.
الثاني: إن الله قال بقراءة واحــدة إلا إنه أذن أن تقرأ بقراءتين .
ولكن ما في المصاحف هي لغة قريش والواردة عن اهل البيت عليهم السلام.
في سياق الآيات
لقد جاء لفظ [يَسْأَلُونَكَ ] خمس عشرة في القرآن، سـبعة منها تقع في الآيات (189-222) من سورة البقرة وهذا الإجتماع يستحق إجراء دراسة قرانية والبحث عن المسائل المستقرأة منه خصوصاً وإن مواضيع السؤال تتعلق بميادين مختلفة، وجاء السؤال في الثلاثة الأخيرة بإضافة واو [وَيَسْأَلُونَكَ] مما يدل على تعاقب الاسئلة والتفات المسلمين الى الاحكام الشرعية والمسائل الفقهية.
إعجاز الآية الذاتي
تبين الآية الحكم الشرعي لمسألة إبتلائية نوعية عامة، وتحدد كيفية التنزه والتقيد بالحكم الشرعي مدة الحيض، والآية تأسيس لعلم خاص يتعلق بحال الحيض عند المرأة.
وقد ورد لفظ (المحيض) في القرآن ثلاث مرات مرتين في آية البحث بما يشمل عموم النساء ، أما المرة الثالثة فهي قوله تعالى [وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا]( ) .
ولم يرد لفظ (الحيض) أو (الحائض) في القرآن لبيان اللطف الإلهي بذكر موضوع الحيض كهيئة وصفة تكوينية عند النساء تتعلق بها أحكام شرعية .
وتبين الآية علو مرتبة الفقاهة عند المسلمين والمسلمات ، وسعيهم لمعرفة أحكام الشريعة ومقدمات وشرائط العبادات وأداء الفرائض وسؤالهم عن شؤون الأسرة والنكاح ، ولم يسأل المسلمون عن غزو أو هجوم على الكفار .
فتفضل الله عز وجل وأخبر عن لزوم إجتناب وطئ المسلم لزوجته أثناء مدة الحيض والعادة الشهرية إلى أن تطهر من الحيض ، ثم يأتيها للجماع وطلب الولد والإنجاب ، وأختتمت الآية بالإخبار عن الفضل الإلهي من وجوه :
الأول : قانون حب الله للتوابين ، الذين يكفون عن المعصية طاعة لله عز وجل رجالاً ونساءً ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
الثاني : قانون حب الله للمتطهرين ذكوراً وأناثاً .
الثالث : قانون حب الله عز وجل للتوابين المتطهرين ، لإفادة واو العطف في (ويحب) معنيين :
الأول : العطف بين الأفراد فيكون المتطهرون غير التوابين .
الثاني : العطف في الصفات ، فتكون صفة التوبة والتطهر لذات الأفراد ، وهذا التعدد من إعجاز القرآن .
لبيان عدم الوقوف عند التوبة فلابد من الإنتقال إلى الطهارة بالعمل الصالح.
ويمكن تسمية آية البحث آية (ويسألونك عن المحيض) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث.
إعجاز الآية الغيري
تتضمن الآية دعوة الصحابة من أهل البيت والمهاجرين والأنصار إلى التوجه لسؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور الدين والدنيا ، فوجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم نعمة عظمى متعددة ومتفرعة ، وهل هذه النعمة خاصة بالصحابة الجواب لا ، إنما هي للناس كافة ، فوجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعمة على أهل زمانه من المسلمين وأهل الكتاب والكفار ، وهو نعمة على الأجيال اللاحقة ، وهو من مصاديق قوله تعالى يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ.
وتتضمن آية البحث الترغيب بالتوبة ، وتبين عظيم نفعها للإنسان فهي طريق ووسيلة للفوز بحب الله عز وجل ليأتي مع الحب الإلهي الفضل العظيم وصرف البلاء ، والداء .
ولا يختص موضوع الآية بالرجال إنما يشمل النساء ، إذ تمتنع المرأة عن وطئ الزوج لها في الحيض ، وتسعى لتكون من التائبات المتطهرات ، قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
وهل هذا الإمتناع عن الوطئ مدة الحيض من حفظ الفروج الوارد في قوله تعالى [وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ]( ) .
الجواب لا ، إذ أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو العفة وحفظ الفروج عن الفواحش والزنا ، بدليل قوله تعالى [وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ]( ).
وفي المرسل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من عرضت له فاحشة أو شهوة فاجتنبها من مخافة الله عز وجل حرم الله عليه النار وآمنه من الفزع الاكبر، وأنجز له ما وعده في كتابه في قوله وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ( ).
أسباب النزول
عن انس: ان اليهود كانت اذا حاضت منهم امرأة اخرجوها من البيت فلم يواكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيت، فسئل رسول الله صــلى الله عليه وآله وســلم عن ذلك فانــزل الله عــز وجل [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ].
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جامعــوهن في البيـوت واصنعوا كل شيء الا النكاح، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل ان يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن خضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله ان اليهود قالت كذا وكـذا افلا نجامعــهن؟
فتغير وجه رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ظنــنا ان قد وجد عليهما فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فارسل في اثرهما فسقاهما فعرفنا انه لم يجد عليهما.
وفي الخبر عن الإمام الصادق  قال: كانوا يستنجون بثلاثة احجار لأنهم كانوا يأكلون البسر( ).
وكانوا يبعرون بعراً، فأكل رجل من الأنصار الدبا( ) فلان بطنه واستنجى بالماء، فبعث اليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال فجاء الرجل وهو خائف ان يكون قد نزل فيه امر يسوء في استنجائه بالماء.
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل عملت في يومك هذا شيئاً ، فقال نعم يا رسول الله اني والله ما حملني على الإستنجاء بالماء الا اني أكلت طعاماً فلان بطني فلم تغنني الحجارة فاستنجيت بالماء .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هنيئاً لك فان الله عز وجل قد انزل فيك آية [ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ] فكنت أول من صنع ذا وأول التوابين وأول المتطهرين.
والخبر ضعيف سنداً، ولابد ان المراد بالأول أي في ارادة الطهارة واحرازها باستعمال الماء لإزالة النجاسة والا فان التطهير بالماء امر متعارف ومصاحب للوجود الإنساني .
والآية اعم في موضوعها وفي علم الأصول المورد لا يخصص الوارد أي ان الوارد وهو الآية أعم من سبب النزول.
مفهوم الآية
الحمد لله الذي جعل الزواج حاجة لجنس الإنسان وقد جاءت الآيات القرآنية، والنصوص من السنة النبوية الشريفة بالحضّ عليه والترغيب فيه ، والنكاح في حد ذاته مستحب استحباباً مؤكداً وقد يترشح عليه الوجوب من الطوارئ والعوارض كالحاجة النوعية العامة أو الشخصية إليه أو إلى الذرية وكخشية الوقوع في المعصية والزنا ، قال تعالى [وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ].
والمراد من الأيم : من لا زوج له ذكراً كان او انثى، وقيد (منكم) في الآية يفيد الحصر النهي عن نكاح المشركات ، قال تعالى [وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ]( ).
وقد ورد في الخبر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال : من سنتي التزويج، فمن رغب عن سنتي فليس مني( ).
وقد ورد عنه أيضاً وان الله عز وجل قال : اذا أردت أن أجمع للمسلم خير الدنيا، وخير الآخرة جعلت له قلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وجسداً على البلاء صابراً، وزوجة مؤمنة تسره اذا نظر اليها، وتحفظه اذا غاب عنها في نفسها وماله.
وللسؤال عن الحيض دلالات عقائدية واخلاقية واجتماعية، تبين معالم الفقه الإسلامي وغوره في أعماق الحياة الشخصية والصلات اليومية بين الزوج وزوجته، والتركيبة التكوينية للمرأة مطلقاً اذ جعل الله عز وجل عندها الحيض يأتيها على نحو دوري وتكون له موضوعية في عباداتها على نحو التخفيف .
وجاء السؤال عن المحيض مطلقاً فكان الجواب إنه أذى بمعنى للمرأة ذات البعل وغير ذات البعل وظاهر الأذى انه ذاتي من جهة نزول الدم وحصول الألم والإرباك وخلاف الحياة الإعتيادية.
وهو عرض قهري طارئ يسبب عدم إتيان العبادات مدة الحيض وتعطيل بعض الشؤون الخاصة .
وجاء ذكر الأذى في الآية على نحو القضية المهملة والنكرة في سياق الإثبات التي تفيد العموم ومنه [هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ]( )، ومنه لفظ (علماً) في قوله تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا]( ).
وقد لا ينحصر أذى الحيض بالمرأة بل يتعدى الى غيرها كما في حكم امتناع الزوج عن وطئها ولابد لهذا الإمتناع الشرعي من منافع عقلية على الحياة الزوجية والمجتمع وهو تذكير قهري بالولد والإنجاب وحث للمرأة على الحمل .
وصيغة الإطلاق في السؤال عن (المحيض) من من غير تقييد بحال معينة كالوطئ يدل على إرادة التزود من علوم النبوة والأخذ منها على نحو عام ومتعدد الجوانب والوجوه من غير تقييد .
لذا جاء الجواب عاماً ومتعلقاً بماهية وموضوع الحيض كحالة بدنية طارئة .
ثم جاء النهي عن وطئ المرأة في ايام الحيض مما يدل على ان الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد وان عدم الوطئ مدة الحيض نفع وفائدة وفيه اجتناب للأذى ومضاعفاته .
منافع الحيض
كما تبين الآية قانون موضوعية الوطئ في الحياة الإجتماعية والعلاقة الزوجية وكأن الوطئ كل شيء في الزواج، فمع ان الزوج يؤاكل زوجته الحائض وينام معها بفراش واحد ويقوم بتقبيلها ونحوه إلا أن القرآن أطلق لفظ الإعتزال وعدم الإقتراب على عدم الوطئ، أي ان الآية في مفهومها حث للمسلمين على وطئ ازواجهم في غير أيام الحيض وعدم تعطيل الفروج كوعاء للحمل .
وكأن الحيض دعوة للإنجاب وعدم تضييع الفرصة، وواعز تكويني يحث على اجتناب الفواحش والإمتناع عن الزنا , وهو مقدمة علمية لطهارة المولد وتكون الولد بصورة شرعية.
هذه الفرصة التي تتجدد في كل شهر لكل زوج ، وتتعدد إذا كان متزوجاً باكثر من زوجة، ولا يضر بهذه القاعدة الفرد القليل النادر وهو الزوجة او الزوج العقيم وقد يكون الحيض مناسبة لتحديد النسل لمن يرغب به بالعزل في أيام الخصوبة.
ومن الإعجاز ان النهي عن الإقتراب ورد مطلقاً بغض النظر عن الأهلية للإنجاب او عدمها لأن الأذى متعلق بذات الحيض.
وفي باب المكنى بالأب يكنى الفرج بأبي دارس من الدرس وهو الحيض( )”.
وتبين الآية أموراً :
الأول : قانون تنزه المسلمين عن القذارات وعن الأذى .
الثاني : قانون إكرام الشريعة للمرأة بتقديم منفعتها وصحتها .
الثالث : قانون عدم وطئ الزوجة إلى أن تتخلص من الأذى وتطهر من الدم .
الرابع : قانون الحرص على القواعد الصحية والأخلاقية للوطئ.
وبينما وصفت الآية الحيض بانه أذى فانها قيدت الإقتراب والوطئ بالطهر، فهل من ملازمة بين ذهاب الأذى وبين الطهر وهل الأذى يصاحبه عدم الطهر الجواب ان الأذى حكم لموضوع الحيض البدني .
ولبيان المشقة والعناء الذي تتحمله المرأة من اجل الولد وانه لا ينحصر بايام الحمل وساعات الوضع ومدة الرضاع والحضانة وما بعدها بل انه يشمل مقدمات الحمل واسبابه وهذه المقدمات لا تختص بالحمل المتحقق وجوده وصيرورته في الخارج بل انه يتكرر كل شهر بصورة تلقائية متكررة سواء انعقدت نطفة أو لا .
كما إن الحيض حضّ للمرأة على الزواج وتذكير لها بالإنتفاع من الحيض فمع ما به من الأذى فهو نعمة للمرأة وللرجل وللوالدين وللأمة، أي ان الأذى محدود ، ولكن النعم في نظام الحيض وفلسفته كثيرة ومتشعبة.
والجمع بين المنع من الوطئ مع الأذى والجواز والإباحة مع الطهر تخفيف عن المرأة وإكرام لها ويدل في مفهومه على التقيد بأحكام الطهارة مطلقاً في باب الجماع وعلى الإستعداد للولد واجتناب تكون النطفة في حال الحيض، وان الإسلام يتعاهد المسلم قبل ولادته.
ويهيء أسباب الصحة والسلامة والنقاء والطهارة لنطفته قبل انعقادها، ولا بأس باجراء الدراسات الطبية الخاصة بحال الحيض والأضرار المحتملة من الجماع اثناءه وتكون الجنين مدة الحيض وان كان نادراً.
قانون الملازمة بين الطهر والوطئ
لقد قيدت الآية الوطئ بالتطهر على لغة اسم الفاعل وهو دعوة للمرأة للإهتمام بالحيض ومدته والتخلص من النجاسات مطلقاً والإستعداد للوطئ بالطهارة والتنزه، لما فيه من احتمال نشوء الولد وموضوعيته في بناء الإسلام .
وفي مدة الحيض جاء النهي عن الإقتراب [وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ]( )، أما في أيام الطهر وبعد الحيض فجاء الأمر بالإتيان (فأتوهن)فليس من برزخ بينهما .
ولو جاءت بلفظ فاقربوهن لما كان من التكرار او الإعادة، فهذا الإختلاف في اللفظ له دلالات وان كانت الكلمتان من المشترك اللفظي، والإتيان المجئ يقال اتى الأمر من مأتاه أي من جهته ووجهه الذي يؤتى منه وفي الحديث خير النساء المؤاتية زوجها .
و(عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خيار الرجال من أمتي خيرهم لنسائهم، وخير النساء من أمتي خيرهنّ لأزواجهنّ، يرفع لكل امرأة منهنّ كل يوم وليلة أجر ألف شهيد قتلوا في سبيل الله صابرين محتسبين، ولفضل إحداهنّ على الحور العين كفضل محمّد على أدنى رجل منكم، وخير النساء من أمتي من تأتي مسيرة زوجها في كل شيء يهواه ما خلا معصية الله عزّ وجلّ، وخير الرجال من أُمتي من يلطف بأهله لطف الوالدة بولدها، يُكتب لكل رجل منهم في كل يوم وليلة أجر مائة شهيد قتلوا في سبيل الله محتسبين صابرين)( ).
وقوله تعالى [فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ] ينحل الى أمرين:
الأول: إتيان النساء.
الثاني: تعيين الجهة أو الزمان ، فالأمر بالإتيان ينظر له بقراءتين :
الأولى : على نحو الإستقلال .
الثانية : التقييد الجهتي او الزماني .
فالأمر بالإتيان وحده له مقاصد سامية تتعلق بعالم العقيدة والإجتماع والأخلاق وتنظيم شؤون الأسرة ومنع حصول النزاع فيها.
كما إنه حق للزوجة وعدم تفريط بموضوع الحيض كمقدمة للإنجاب وما يتضمنه من الإشارات، إذ أنه يبدد الحال الراتبة وفيه تغيير ودعوة مستحدثة للوطئ .
فالآية تجعل نوع ملازمة بين انقطاع الحيض وبين الوطئ كما انها حث على غسل الحيض الذي يعني انتهاء مدة الحيض والمقدمة العلمية للوطئ بمعنى إن منافع غسل الحيض الذي هو عنوان التطهر لا تنحصر بما سبقها والتنزه عن القذارات بل يشمل الإستعداد والتهيئ للوطئ، وهو مادة للإنجذاب والتقارب بين الزوجين.
قانون الترغيب بالزواج
مفاهيم خاتمة الآية أعم من موضوعها، وذات أبعاد متعددة مما يعني ان وطئ الزوجة وفق الصيغ الشرعية باب للثواب وطلب مرضاته تعالى.
و(عن يحيى بن يعمر ، عن أبي الأسود الديلي ، عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : في بضع أحدكم صدقة قالوا : يا رسول أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيه أجر فقال : أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه فيه وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)( ).
لبيان الأجر والثواب في المباح الذي يتضمن الصلاح سواء كان مع نية القربة أو لا ، ما دام في وطئ الزوجة حسن معاشرة ، وطلب للولد أو قضاء حاجة والحرص على العفاف.
فالآية تبين اهمية المباحث في أحكام الشريعة بلحاظ ما يترتب عليها من المنافع العظيمة، ومع ان صدر الآية جاء على نحو السؤال والخطاب فيه موجه الى المسلمين الذكور إلا انه يشمل النساء في جميع فصوله، وبعضها يتعلق بالمرأة اكثر من تعلقه بالرجل .
فالحيض والطهر وغسل الحيض أمور خاصة بالمرأة بالإضافة الى ما يترتب عليه في باب العبادات والمبطلات كبطلان صلاة الحائض، ولزوم احترازها من الدم وعدم تفشيه او انتشاره خصوصاً وانه من الدماء الغليظة المشدد فيها الحكم كذلك فان تطهر المرأة ورد على نحو القطع لبيان انه من المسلمات بقوله تعالى [فَإِذَا تَطَهَّرْنَ]( ).
ومن وظيفة المرأة قانون الإمتناع عن مطاوعة الزوج أيام الحيض ان أراد ان يغشاها.
وقانون عرض نفسها عليه بحال وهيئة مناسبة عندما تطهر.
وخاتمة الآية حث للزوجة على الطهر وترغيب الزوج بالوطئ لأن امر الوطئ يخص الأمة والعقيدة في كل حالة زواج مع كراهة العقيم لما فيه من تضييع لحق الإسلام في تلك الحصة والفرد إلا مع وجود الراجح فلا كراهة.
وقد جاء النص بالترغيب بالزواج مطلقاً من غير تقييد بالولود ، كما ورد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف دينه ، فليتق الله في النصف الباقي( ).
ويستقرأ هذا الإطلاق من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الدُّنْيَا مَتَاع، وخَيْرُ مَتَاعِهَا المرْأةُ الصَّالحةُ، إنْ نَظَرَ إلَيْها سَرَّتْهُ، وإنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْه، وإنْ غَابَ عَنْها حَفِظْتُه في نَفْسهَا وَمَالِهِ وقوله في الحديث الآخر : حُبِّبَ إلَيَّ النِّسَاءُ والطِّيبُ وجُعلَتْ قُرة عَيْني فِي الصَّلاةِ)( ).
وورد الحضّ والترغيب بنكاح المرأة الولود عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا بالباءة ، وينهانا عن التبتل نهياً شديداً ، ويقول : تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة( ).
وهل هو من المطلق والمقيد ، بحيث يكون هناك نوع نهي عن نكاح العاقر ذكراً أو أنثى ، الجواب لا ، إنما يفيد تفضيل الولود وما فيه إنجاب الولد ، قال تعالى [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ).
إن إخبار الآية عن حب الله تعالى للتوابين والمتطهرين ، ومجيئه بعد الأمر باتيان النساء من حيث امر سبحانه، يجعل مسألة نكاح المرأة ابتلائية وليست ثانوية مهملة، لذا ترى الفقهاء يولون اهمية لموضوعه , وبذا تضع الشريعة الضوابط في صلة الرجل بزوجته وتحدد الإذن والرخصة.
وهو في مفهومه نهي عن الزنا والصلات الجنسية المحرمة وفيه توكيد لحقوق المرأة حتى في باب الوطئ فان امتلاك الرجل لبضع المرأة بالمهر مقيد بما اذن له الشارع به مع عدم التقصير في هذا الباب أي ان الآية تنهى عن الإفراط والتفريط في الصلات الجنسية بين الزوجين .
ليكون هذا النهي مادة حياة وديمومة للمجتمعات الإسلامية سواء بما يترشح عن العلاقات الزوجية الناجحة من القيم وسلامة الذهن وتهذيب النفس والأخلاق الحميدة او بكثرة النسل وحسن تربية الأولاد وتعاهد العبادات ، قال تعالى [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
وفي كل آية دلالات عديدة ومعرفتنا لها على وجوه:
الأول : نحيط بها علماً على نحو الموجبة الكلية.
الثاني : نعرفها على نحو الموجبة الجزئية.
الثالث : نجهلها ولا نعرفها، والوجه الثاني هو الأنسب لعجزنا عن الإحاطة الكلية بدلالات القرآن، كما ان معرفتنا بدلالات الآية تتسع وتضيق والبحث والإستقراء والعلوم الظاهرة ، قال تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
الآية سلاح
ابتدأت الآية بقوله تعالى [ويَسْأَلُونَكَ] وهي كلمة مركبة مؤلفة من :
الأول : حرف عطف .
الثاني : فعل مضارع .
الثالث : فاعل .
الرابع : مفعول به .
وهو من الإعجاز في اللغة العربية وبلاغتها ودلالات آيات القرآن ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
وهل كلمة (يسألونك) سلاح ، الجواب نعم ، وهي سلاح متجدد الى يوم القيامة ففيها دعوة للمسلم للجوء الى القرآن والسنة والصدور عنهما واستنباط المسائل والأحكام من التنزيل والوحي.
والنسبة بين الوحي والسنة النبوية عموم وخصوص مطلق ، إذ أن الوحي أعم فيشمل القرآن والتنزيل وصحيح أن السنة تلتقي مع القرآن بصفة الوحي إلا أن القرآن أعلى مرتبة وهو قطعي الثبوت والصدور ، وقيل أنه ظني الدلالة ، والمختار أنه قطعي الدلالة ، ولا ينخرم هذا القانون السماوي ورود بعض الكلمات تحتمل معنيين مثل كلمة (قروء) بقوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
وسيأتي الكلام مفصلاً في قانون (السنة لا تنسخ القرآن) في الجزء الثاني والعشرين بعد المائتين( )، من هذا السِفر المبارك .
وهل يصح تقدير لفظ (يسألونك) (أسالوا) بفعل أمر موجه إلى المسلمين وأهل الأرض في كل زمان ، الجواب نعم ، سواء كان السؤال بخصوص المسائل التي ورد السؤال بخصوصها في القرآن أو غيرها.
وفي قوله تعالى [هُوَ أَذًى]مواساة للنساء والأزواج ، وتخفيف عنهن ، وبيان الأجر والثواب في الصبر على الحيض وأحكامه ، والإمتناع عن الوطئ فيه.
وتبين الآية أن الطهارة مادة وسلاح ومقدمة لأداء الفرائض والعبادات.
واختتمت الآية بالإخبار عن حب الله عز وجل للذين تابوا وحبه تعالى (للمتطهرين) وفيه ترغيب بالتوبة والطهارة مجتمعين ومتفرقين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
ابتدأت الآية بحرف العطف الواو ، لبيان صلتها بالآية السابقة إذ أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( )، ومن الآيات أن الحيض والوطئ فيه مسألة تتكرر كل شهر تقريباً عند المرأة ، ولكن الإبتلاء لا يختص بها بل يشمل الزوج ، وحتى بالنسبة للآتي ليس لهن أزواج فان الحيض تذكير بالولد والإنجاب والزواج ، وهو مناسبة للدعاء وسؤال الزوج الصالح.
فمع وصف الآية بأن الحيض أذى فانه مناسبة للتذكر والرخصة في العبادة وإصلاح الحال.
ثم بينت الآية حكماً شرعياً باجتناب وطئ المرأة في حيضها ، وجاء لفظ [وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ] كناية واشارة بعدم جواز وطئ المرأة أيام حيضها.
ومن أسرار هذه الكناية التنبيه والتحذير من مداعبة الحائض كيلا يكون مقدمة للوطئ مع أن هذه المداعبة ليست محرمة.
ثم تضمنت الآية الحضّ على وطئ الزوجة عندما تطهر وتغتسل من الحيض رجاء الولد ، ولتنمية صلة المودة بين الزوجين .
ثم جاء التقييد المكاني من جهة الوطئ طلباً للولد من المأتي الذي يتعلق به غرض الإنجاب وضرورة النسل ، وأختتمت الآية بالإخبار عن أمر من الإرادة التكوينية وهو قانون حب الله للتوابين ، وقانون حب الله للمتطهرين.
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية.
الثانية : قانون إجتهاد المسلمين والمسلمات في أداء العبادات بمقدماتها الواجبة.
الثالثة : قانون نفاذ أحكام الشريعة إلى حال الزوجين .
الرابعة : قانون حب الله عز وجل للمسلمة بمنع الزوج عن وطئها مدة الحيض.
بحث طبي
آية البحث قانون التخفيف عن النساء بسقوط الصلاة والصيام عنهن ، خاصة وأن الركوع والسجود يزيد في اندفاع الدم بكثرة إلى الرحم ، ونزوله بكثافة في دم الحيض.
وفيه ضعف لجهاز المناعة لفقدان كريات الدم البيضاء مع دم الحيض واحتمال التعرض للمرض خاصة في الكبد أو الطحال أو الغدة اللمفاوية.
لذا ينصح الإطباء الحائض بالإستراحة وإجتناب الإلعاب الرياضية والعمل الشاق.
وقد اسقط الله عنها الصلاة وتحتاج الحائض لتناول الطعام والوجبات الغذائية للحفاظ على الأملاح وتعويض الدم.
وهو من الإعجاز في اسقاط فريضة الصيام عن الحائض ثم قضاءه بعد الطهر، وهل قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( )، دعوة لقضاء الحائض الصيام ، الجواب نعم ، وفيه دعوة لها لغسل الحيض وللحرص على طهارة ثيابها من دم الحيض والإستحاضة ونحوه.
التفسير
قوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى]
الأولى : ذكر ان اليهود كانوا يتجنبون النساء ويبالغــون في الابتعاد عنهن ايام المحيض (و اذا اضطجع رجل مع امراة طامث و كشف عورتها عرى ينبوعها و كشفت هي ينبوع دمها يقطعان كلاهما من شعبهما)( ).
وفي دم النفاس ورد (12: 2 كلم بني اسرائيل قائلا اذا حبلت امراة و ولدت ذكرا تكون نجسة سبعة ايام كما في ايام طمث علتها تكون نجسة
12:3 و في اليوم الثامن يختن لحم غرلته
12:4 ثم تقيم ثلاثة و ثلاثين يوما في دم تطهيرها كل شيء مقدس لا تمس و الى المقدس لا تجيء حتى تكمل ايام تطهيرها
12:5 و ان ولدت انثى تكون نجسة اسبوعين كما في طمثها ثم تقيم ستة و ستين يوما في دم تطهيرها
12:6 و متى كملت ايام تطهيرها لاجل ابن او ابنة تاتي بخروف حولي محرقة و فرخ حمامة او يمامة ذبيحة خطية الى باب خيمة الاجتماع الى الكاهن
12:7 فيقدمهما امام الرب و يكفر عنها فتطهر من ينبوع دمها هذه شريعة التي تلد ذكرا او انثى
12:8 و ان لم تنل يدها كفاية لشاة تأخذ يمامتين او فرخي حمام الواحد محرقة و الاخر ذبيحة خطية فيكفر عنها الكاهن فتطهر)( ).
وان اهل الجاهلية كانوا لايؤاكلون الحائض ولا يشاربونها ولم يساكنوها في بيت، ولما نزلت هذه الآية حملها جماعة من الأعراب على الظاهر واخرجوا الحائض من بيتها، وشعروا بحرج شديد فجاءوا الى النبي صلى الله عليه وآله سلم وقالوا: يا رسول الله ان البرد شديد والثياب قليلة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: انما امرتكم ان تعتزلوا مجامعتهن اذا جاءهن الحيض لا اخراجهن من بيوتهن .
وعن مجاهد : كانوا يستجيزون إتيان النساء في ادبارهن ايام الحيض، فلما سألوا عنه بين لهم تحريمه.
وتبين الآية فلسفة الوسط في الإسلام وانه لا افراط ولا تفريط بل التزام بالحكم الشرعي بصيغة التخفيف والتيسير.
الثانية : الخطاب في [ يَسْأَلُونَكَ ] موجه الى النـبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيل ان السائل هو ثابت بن الدحداح، والمراد من المحيض هو الحيض وسيلان الدم وأوان الدورة الشهرية للمرأة وقيل المراد منه موضع الحيض.
الثالثة : الســؤال عن الحيض في الآية مطلق ويدل عليه ظاهر الاجابة القرآنية وموضوع اعتزالهن، الامر الذي يستلزم معرفة الحيض موضوعاً ومــدة وكيفــية وابتــداء وانتهاء وما يخـرج عنه بالتخصيص كالاستحاضة لاسيما وان النساء مختلفات في مدة الحيض وأوانه.
بحث كلامي
من معاني تصدر السؤال بالواو إتحــاد وقـت السؤال وانه عطف بالواو وتعدد الأسئلة في آن واحد وقيل إذا اتحدت الأزمنـة في السؤال فان الكلام يأتي مجرداً من الواو ويبدأ بـ[ يَسْأَلُونَكَ ] وهو استقراء لطيف، ولكن لا دليل عليه مع الإقرار بان القرآن ليس فيه اتفاق وصدفة ولابد من حكمة وعلة في وجود الواو.
فالواو وردت ست مرات من مجموع خمس عشرة مرة ورد قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ]، ومجيء الواو هنا يحتمل وجوهاً اخرى منها:
الأول : يأتي السؤال فيها يأتي في طيات الكلام واثناء المحادثة.
الثاني : يأتي الســؤال بعد الإبتــلاء [يَسْـــأَلُونَــكَ مَاذَا يُنــفِقـــونَ]( )، [وَيَسْــأَلُــونَــكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُـــلْ هُـــوَ أَذًى][وَيَسْـأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ]( ).
الثالث : فيها اخبار عن تكرار السؤال وكثرته ، وهو من الإعجاز في مجئ الآية بصيغة المضارع (يسألونك).
الرابع : مجيء الواو أمارة وإخبار عن كثرة الداخلين في الإسلام ، وتعدد السؤال منهم، أي ان ذكر السؤال الواحد إخبار عن وجود أسئلة أخرى كثيرة وجهها المسلمون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنها لم تذكر في القرآن وان الإجابة الإلهية على بعضها كما في الآية يعني صدق اجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي عن البواقي.
الخامس : فيها دلالة على كثرة السؤال فما ذكر في القرآن ليس كل الأسئلة ومنها ما يأتي جوابها من السنة النبوية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
السادس : الآية دعوة للأئمة والفقهاء بحصول هذه الأسئلة وشبهها وتهيئة اسباب الإستعداد لها.
السابع : اثبات صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستعداده لتلقي الأسئلة المتعددة والمتباينة في موضوعاتها مع مجيء الإجابة من عند الله عز وجل.
الثامن : انه وجه اعجاز في الشريعة الإسلامية لما يتضمنه من التحدي والبيان والحكم الملائم للعقل والطب.
التاسع : انها من التأديب الإلهي للنـبي صلى الله عليه وآله وسلم، واللطف في شرح صدره لما تتضمنه على الظاهر من تعدد ذات السؤال فكل امة وجماعة تأتي لتسأل مثل هذا السؤال، فلا يكون الرد اننا قد اجبنا عليه بل يتكرر السؤال ويتعدد الجواب في ذات الموضوع او غيره.
العاشر : جواب السؤال الموجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويحتمل وجوهاً ثلاثة:
أولاَ : إنه من عند الله عز وجل بالتنزيل.
ثانياَ : إنه من الوحي وإخبار الملك.
ثالثاَ : إنه من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
والثالث ممتنع لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) وان كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقدر عليه ولا تصل النوبة اليه لوجود الوحي ولأن الجواب باق واقعاً وحكماً الى يوم القيامة.
فالآية انحلالية أي كلما سأل المسلمون في مستقبل الأيام ، فالجواب والحكم الشرعي حاضر، وفيه نوع اكرام للمسلمين واعانة لهم على اداء العبادات.
قوله تعالى [قُلْ هُوَ أَذًى]
في الآية اعجاز يفتح باب الدراسات عن الحيض وما فيه من الاذى وانه حالة شبه مرضية قهرية تصيب المرأة وهذا لا يمنع من تعداد منافعه التكوينية والبدنية والاضرار الناجمة عن عدم نزوله.
من الاذى القذارة، وان دم الحيض له رائحة كريهة لإحتباسه ولأنه فضلة.
ويشمل الأذى المرأة مطلقاً ، الباكر والثيب.
ودم الحيض احمر قان، وقيل سمي بحرانياً لما تحصل فيه من كدورة تشبيهاً له بماء البحر.
وتشير الآية إلى قذارة ونجاسة دم الحيض ولزوم التنزه عنه.
في الآية تخفيف ورحمة للمرأة، سواء في اجتناب وطئها مدة الحيض، او في الدلالات التضمنية والإلتزامية لمفهوم الأذى وما فيه من دعوة الزوج والأهل الى إعانتها وعدم إرهاقها، فظاهر الآية يدل على وجود مشقة وعناء للمرأة مدة الحيض وساعات نزول الدم.
وأذى الحيض لا ينحصر بموضعه بل يتعدى في موضوعه الى باب الطهارة والنجاسة ولزوم عدم القيام بوطىء المرأة في الحيض، للحرمة التكليفية وللآثار الوضعية الضارة التي تترتب عليه.
ونعت الحيض بالاذى مقدمة وتوطـئة تدفع المسلمين للبحث والتحقيق عن وجوه الاذى وفق منظار قرآني وفقهي، وفيها حث على التفصيل والبيان من القرآن، وبعث للنفرة من الوطئ مدة الحيض.
جاء وصف (الأذى) على نحو الإطلاق وانه لا ينحصر بالحائض بل له معنى أعم، والآية دعوة لتأليف لجان من متخصصين في العلوم المختلفة لدراسة الحيض وما فيه من الاذى وسبيل السلامة في الميادين الطبية والإجتماعية والأخلاقية والإقتصادية، وما يؤكد الإعجاز القرآني.

قوله تعالى [ فاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ]
في الآية مسائل :
الأولى : أي اجتنبوا وطئ النساء في حال الحيض.
الثانية : الفاء فيها تدل على النهي المولوي والتحريم والسنة تؤكده.
الثالثة : وردت مادة (عزل) ومشتقاتها في القرآن عشر مرات، وكلها تحمل على المعنى الحقيقي والتنحي الا هذه الآية فتحمل على المعنى المجازي وان المراد منها اجتناب وطئ المرأة الحائض، أي اجتناب المحل بلحاظ التلبس بحال مخصـوص، واختلف في طرفي مدة الحيض على اقوال :
الأول : اقله ثلاثة ايام بلياليها واكثره عشرة ايام، واستدل عليه بنصوص منها ماورد عن ابي امامـة عن النبي صـلى الله عليه وآله وسلم انه قال : اقل الحيض ثلاثة ايام واكثره عشرة ايام، وفي صحيحة معاوية بن عمار عن الامام الصادق عليه السلام : اقل ما يكون الحيض ثلاثة ايام واكثر ما يكون عشرة ايام ، وعليه اجماع الامامية وبه قال ابو حنيفة والثوري ، وهو المختار ، وقد ذكرته في رسالتي العملية (الحجة)( )، وستأتي مسائل بخصوصه في الجزء الثاني والعشرين بعد المائتين من هذا التفسير .
الثاني : قال الشافعي: اقل الحيض يوم وليلة، واكثره خمسة عشر يوماً، وبه قال احمد والاوزاعي وعطـاء، وذكر الرازي ان ابا حنيفة قال به ثم تركه.
الثالث : لا تقدير لمدته فقد تكون مدته ساعة وقد تكون اياماً، وبه قال مالك، واحتج ابو بكر الرازي في احكام القرآن على فساد قول مالك فقال: لو كان المقدار ساقطاً في القليل والكثير لوجب ان يكون الحيض هو الدم الموجود من المرأة فكان يلزم ان لا يوجد في الدنيا مستحاضة، لان كل ذلك الدم يكون حيضاً على هذا المذهب وذلك باطل باجماع الامة .
ولانه روي ان فاطمة بنت حبيش قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: اني استحاض فلا اطهر، وايضاً روي ان حمنة بنت جحش استحاضت سبع سنين ولم يقل النبي صلى الله وآله وسلم لها إن جميع ذلك حيض، بل اخبرها ان منه ما هو حيض ومنه ما هو استحاضة فبطل هذا القول والله اعلم( ).
ومن الانصاف القول بان كلام الامام مالك يصرف الى الدم الحامل لصفات الحيض للتسالم بين الفقهاء على التمييز بين دم الحيض والاستحاضة بنصوص ثابتة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما تعرفه النساء وبالحس والوجدان، لذا فان الخلاف صغروي بعد الاتفاق على ما بين ثلاثة ايام الى عشرة، أي ان ثبوت دم الحيض لا ينحصر بمدته فمن شرائطه صفاته من جهة لونه وخروجه بقوة وحرقة، واختلف في الأقل من الثلاثة والأكثر من العشرة.
وقيل لاحد للحيض من طرف القلة ولا الكثرة وليس من حد لأقل الطهر بين الحيضتين ولا أكثره وهذا القول خلاف المشهور ولعله يتعلق بالمضطربة.
وبعد الاجماع على حرمة الوطئ مدة الحيض وجواز الاستمتاع منها مما فوق السرة ودون الركبة بالإضافة الى جواز تقبيلها، اختلف في الاسـتمتاع فيما دونه مما بين السرة والركبة على اقوال:
الأول : حصر الحرمة بالجماع في الفرج، حكي عن ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة ومجاهد، وهو قول محمد بن الحسن الشيباني، وقال الطبرسي : ويوافق مذهبنا انه لا يحرم منها غير موضع الدم فقط” ولكنه المشهور.
الثاني : حرمة ما دون الازار والسرة، وحليـة ما فوقه، عن شريح وسعيد ابن المسيب وبه قال ابو حنيفة والشافعي.
و(عن زيد بن أسلم : أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ماذا يحل لي من امرأتي وهي حائض ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لتشد عليها إزارها ، ثم شأنك بأعلاها)( ).
الثالث : حرمة الإستمتاع فيما بين السرة والركبة .
و(عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا كان دما أحمر فدينار وإن كان دما أصفر فنصف دينار)( ).
وقيل هذا الحديث مرسل أو موقوف على ابن عباس.
وعن مالك وأبي حنيفة ليس على الذي يأتي امرأته وهي حائض شئ إنما يستغفر الله .
وهل يجزي التيمم بالطهر ، أم لابد من الماء ، الجواب هو الثاني ، إلا مع تعذر الماء لقاعدة نفي الحرج في الدين ، وكل ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر.
وقال بالكفارة أحمد بن حنبل وقتادة وإسحاق ، كما قال بها الشافعي في القديم.
وفي المرسل عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (في كفارة الطمث ، أنه يتصدق إذا كان في أوله بدينار ، وفي وسطه نصف دينار ، وفي آخره ربع دينار ، قلت : فإن لم يكن عنده ما يكفر ، قال : فليتصدق على مسكين واحد ، وإلا استغفر الله ولا يعود ، فإن الاستغفار توبة وكفارة لكل من لم يجد السبيل إلى شيء من الكفارة)( ).
وعن الحلبي عنه عليه السلام (في الرجل يقع على امرأته وهي حائض ما عليه ، قال : يتصدق على مسكين بقدر شبعه)( ).
قوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ]
تحديد لأوان الوطئ عند تغير الموضوع والانتقال من حال الحيض الى الطهارة والنقاء وهو يدل في مفهومه على القطع بحرمة الوطىء مدة الحيض، وفي قراءة (يطهرن) اختلاف يترتب عليه الأثر والتباين في الموضوع والحكم على قولين:
الأولى : يطهرن بسكون الطاء والتخفيف من الطهارة، وبه قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وعبد الله بن عامر، وابو بكر عن عاصم.
الثانية : يطهرن بالتشــديد، وبــه قــرأ حمـزة والكسائي وكذا عن حفص عن عاصم، وقال به مجاهد وطاووس،
وقال الطبرسي وهو مذهبنا( )، والظاهر خلافه والقراءة بالتخفيف هي المشهورة بين المسلمين والمرسومة في المصاحف الا ان يكون الضمير في (مذهبنا) لارادة نفسه، والفرق بين القراءتين ان الأولى تعني طهارة المرأة بمجرد زوال الدم ونقاء المحل وقبوله الطهارة، اما الثانية أي التشديد فتعني عدم جواز الوطئ الا بعد ان تغتسل المرأة.
وفي الصحيح عن الإمام الباقر عليه السلام : المرأة ينقطع عنها دم الحيض في آخر ايامها، قال اذا اصاب زوجها شبق فليأمرها فلتغسل فرجها ثم يمسها ان شاء قبل ان تغتسل.
وفيه شائبة الضرورة وعمومات التخفيف ونفي الحرج والاطلاق، نعم ورد قوله في رواية : والغسل احب الى الله”، وهو يدل على استحباب سبق الغسل على الوطئ.
بحث بلاغي
من أهم علوم البلاغة الكناية وهي الاتيان بكلام وارادة غير ظاهره امتناعاً عن التصريح به للمبالغة او التعريض، او لزيادة الأثر والدلالة والتأثير، او لمنــع الفتنة والخصومة والبلاء، او للتنزه والترفع سواء من المتكلم ومقامــه او بالنسبة للسامع واحترامه بتحاشي الافصاح، فيقال (فلان كثير الرماد) كعنوان للكرم واستقبال الضيوف، وهن (نقيات الثياب) دلالة العفة والطهارة، و(فلان طويل الذيل) كناية عن الغنى وسعة الحال، و(فلان دنس الثياب) اذا كان خبيث المذهب والفعل.
ويكون المعنى الاصــلي في الكنايــة مقصوداً في الغالب او ان معناه بيّن وظاهــر وان كان المعنــى المقصـود والمكنى عنه مرادفاً للمعنى الحقيقي للفظ، ويكون المعنى الحقيقي الذي وضع له اللفظ وجملة الكلام ظاهراً في المجاز في الغالب، لذا اختلف في الكناية هل هي حقيقة او مجاز.
والقائل بأنها ليست من المجاز لما فيها من استعمال اللفظ فيما وضع له وارادة الدلالة عــلى غيره، فلم تخـرجه الكناية عن استعماله فيما وضع له.
ولكن هذه الخصوصية للكناية لا تمنع من جعلها من المجاز ولو بلحاظ الحصة الخاصة بارادة المعنى غير الحقيقي، نعم يمكن احتسابها في بعض الصور من مصاديق الجامع للحقيقة والمجاز ، وهو القسيم الثالث الذي ذكرناه للحقيقة والمجاز.
ولا تنحصر الكناية بلغــة دون اخرى لأنها الى جانب كونها من علوم اللغة فهي من العلوم العقلية اذ ان العقل يوظف لاستحضار الوسائط واللوازم ويجمع بين المتفرق وبين المعنى الحقيقي والمجازي، وهي من أدق صــيغ البلاغة وتتضمن مفاهيم الجمال والفصاحة والفطنة .
ولكن اللغة العربية اتصفت بالرقي واعتماد الكناية في صيغ الخطاب وما تدل عليه من صفاء القريحة وسلامة المزاج ولطف الطبع، فلابد ان يأتي القرآن بالاعجاز في هذا الباب فكانت كنايات القرآن مدرسة بلاغية وعقلية وشرعية، كما تدل الكناية في القرآن على قوة ضبط المسلمين ومعرفتهم الدقيقـة بأحكام القرآن والتمييز بين وضع اللفظ للحقيقة او للمجاز، فالمراد من القرب [وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ]( )، في الآية هو الوطىء وعليه النصوص والاجماع.
وبلحاظ الوسائط واللوازم بين المعنى الحقيقي والمجازي تنقسم الكناية الى أربعة أقسام وهي :
الأول : التعريض .
الثاني : التلويح .
الثالث : الرمز .
الرابع : الايماء.
والنهي عن الاقتراب منهن جاء هنا بالايماء والاشارة لقلة الوسائط، وظهور المعنى، فمن لطف الله تعالى ان تكون الكناية في القرآن ظاهرة بينة للمسلمين على اختلاف مداركهم ومشاربهم، ولا ينحصر العلم بها بالعلماء واهل الاختصاص، ولتأتي السنة النبوية الشريفة لبيان المعنى المراد من الكناية.
كما ساعدت في ثبوت الكبرى الكلية وهي وجـود الكناية في الاحكام الشرعية، فقد قال النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم لامرأة رفاعة القرظي (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) ( )، لارادة الجماع بتشبيهه بذوق العسل، وجاءت (عسيلة) بصفة التأنيث والتصغير، والتأنيث لارادة قطعة من العسل او لأن العسل يذكر ويؤنث، والتصغير لارادة كفاية المرة الواحدة وصرف الطبيعة، وتحقق النكاح بحصول الوطىء وليس بالعقد وحده.
وفي حديث البراء بن مالك: وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم النساء بالقوارير من الزجاج كناية عن اسراع الافتتان الى نفوسهن كالزجاج الذي يسرع اليه الكسر، ومناسبة الحديث ان انجشة كان يحدو وينشد القريض والرجز فأمر صلى الله عليه وآله وسلم بعدم الاكثار منه.
إذ ورد عن أنس بن مالك أَنَّ حَادِيًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانَ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ قَالَ وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ لَا تَكْسِرْ الْقَوَارِيرَ قَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي ضَعَفَةَ النِّسَاءِ( ).
ومن مفاهيم النهي عن وطئ المرأة أيام الحيض استحباب إتيانها عند انقطاع الدم وطهرها منه ، فلا يصح العزوف عن وطئ الزوجة.
بحث بلاغي آخر
(ذكر في باب علم التفسير ان اللفظ قد يحتمل معنيين يكون في احدهما اظهر فيسمى الراجح ظاهراً، والمرجوح مأولاً واستشهد بهذه الآية وانه يقال للإنقطاع طهر)( )، ولكن النسبة بين الطهر والإنقطاع عموم وخصوص مطلق فكل انقطاع لدم الحيض طهر، وليس العكس هذا من جهة ومن جهة اخرى فان الإنقطـاع دليل على الطهر وامارة عليه وليس هو ذاته الطهر الا على نحو المجاز.
ومن اعجاز القرآن انه اعطى للمسألة وصفاً شرعياً وليس بدنياً تكوينيــاً، وجعـل مدار الأحكام والأعمال على الطهر وصدق التلبس به.
بحث كلامي
منهم من جعل تعارض القــراءتين في آيـة واحدة كتعارض الآيتين مع اتفاق الجميع بعدم التعارض بين آيات القرآن ولكن المراد من التعارض هنا هو مناسبة البحث عن المرجحات لأحدهما كالناسخ والمنسوخ ، والخاص والعام ، والمطلق والمقـيد، واستدل على تعارض القراءة في (ارجلكم) بالنصب والجر، والقراءة في هذه الآية (يطهْرن) ويطهّرن.
ولكن القراءة غير القرآن فهما مفهومان متغايران، والإختلاف في القراءة يكون مــن القراء الا ان يثبــت رفــع القراءتين الى المعصوم فحينئذ يجوز الجمع او التخيير بينهما، كما في (مالك) و(ملك) في قوله تعالى [ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ]( ).
ونسب الى الحنفية حمل احدى القراءتين ويطهرن على ما دون العشرة، والثانية على العشرة.
قوله تعالى [فَإِذَا تَطَهَّرْنَ]
الأولى : اذا: أداة شــرط وتعـني تعلقه بالشرط وانتفاء المشروط بانتفاء شرطه.
الثانية : التطهر فيه اقوال:
الأول : غسل الحيض واراقة الماء على البدن كله، وبالاغتسال قال الشافعي ومالك والاوزاعي.
الثاني : غسل موضع الفرج واستحباب غسل البدن، وبكفايته ورد الصحيح عن الإمام الباقر عليه السلام، لأغراض الوطئ عند الحاجة وليس مطلقاً.
الثالث : الوضوء.
الرابع : غسل الموضع مع الوضوء، وبه قال عطاء وطاووس.
وغسل الحيض واجب الا ان هذه الاقوال تتعلق بالإذن بالوطئ، فعلى القول بكفاية غسل الوضع فان غسل الحيض يتداخل مع غسل الجنابة.
وفي الآية ثناء على المرأة ونعتها بأنها طاهر عندما ينقطع الدم ، وأنه ليس بينها وبين الطهر الا أياماً قليلة تتعلق بقذف الرحم الدم ، وليس عن قصور في العقيدة والدين وفيه دعوة لإكرام المرأة.

قوله تعالى [فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ]
ظاهر الآية الامر والمراد منه الاباحة والجواز، ولا يمنع من حمله على الامر ولو على نحو الارشاد وطلب الولد واداء الوظائف الزوجية.
وفي الاتيان الوارد في الآية اقوال:
الأول : فأتوهن في المأتي أي في الفـرج، وبه قال ابن عباس ومجاهد وابراهيم وقتادة، و(من) هنا تفيد الظرفية بمعنى في.
الثاني : من قبل الطهر دون حال الحيض، عن السدي والضحاك، أي ان الطهر علامة الاباحة والاذن.
الثالث : من قبل النكاح دون الفجور، عن محمد بن علي بن ابي طالب.
الرابع : من الجهات التي يحل فيها غشيان المرأة بان لا تكون صائمة ولا معتكفة، ولا محرمة، ورجح الفــراء هذا القول بانه لو اراد الفرج لــقال في حيث، فلمـا قال من حيث علمنا انه يراد من الجهة التي امركم الله بها.
والمتبادر من الجهة هو موضع الاتيان الا ان يصرف الى المجاز بقرينة او اعتبار زائد، وحيث ظرف مكان وهو الغالب والمتعارف لها، ومع انها ظرفية وتأتــي في طيات الكلام فلم ترد في القرآن الا احدى وثلاثين مرة منها اربع عشرة مرة (من حيث) وظاهر أغلبها ارادة المكان مثل [أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ]( ) [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ]( )، [وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ]( ).
الخامس : في التهذيب ورد عن الامام الصادق في حديث في قوله تعالى [فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ ] الآية قال الامام عليه السلام: “هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث امركم الله.
وهذا القول لا يتعارض مع القول الاول الذي رجحه الاكثر بل ويؤكده بدلالته التضمنية والمفهوم وفيه اضافة بان الآية تحث على الانجاب وتدعو الى اتيان المرأة بعد الغسل ، ولكنه لا يدل على الحصر الا بلحاظ الغاية والقصد وهو الاهم.
قوله تعالى [ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ]
في الآية مسائل :
الأولى : الآية حث وتشجيع على التوبة قانون والمبادرة إلى التوبة كطريق للمغفرة والعفو الالهي.
الثانية : تخبر الآية عن قانون جواز وصحة تكرار التوبة وكثرتها.
الثالثة : قد تكون التوبة عن الذنب وقد تكون تكراراً وتوكيداً للأعراض والكف عن المعاصي والذنوب.
الرابعة : كثرة التوبة ترد أحياناً بمعنى اللجــوء إليها مـرة أخرى بعد العودة الى الذنب كما لو تاب من ذنب ثم عاد اليه ثم ندم وتاب، والآية الكريمة تشمل هذا الوجه ايضاً بل هو من اهم الوجوه لأن الله تعالى هو التواب أي يكثر من قبول التوبة ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
الخامسة : في صحيحة سلام بن المستنير قال: كنت عند الإمام الباقر  فدخل عليه حُمران بن أعين وسأله عن أشياء فلما هم حمران بالقيام قال لابي جعفر عليه السلام : اخبرك أطال الله بقاءك لنا وأمتعنا بك – أنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا وتسلوا أنفسنا الدنيا ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الاموال، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا ؟ قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: إنما هي القلوب مرة تصعب ومرة تسهل.
ثم قال أبو جعفر : أما إن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا رسول الله نخاف علينا النفاق، فقال: ولم تخافون ذلك ؟ قالوا: إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كأنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الاولاد ورأينا العيال والاهل يكاد أن نحول عن الحال التي كنا عليها عندك وحتى كأنا لم نكن على شئ ، أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء، ولو لا أنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقا حتى يذنبوا، ثم يستغفروا الله فيغفر الله لهم، إن المؤمن مفتن تواب، أما سمعت قول الله عز وجل [ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ]، وقال: [ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ]( ).
السادسة : ترى ما هي الصلة بين موضوع الآية والتوبة الجواب من وجوه.
الأول : ان قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ] ( )، قاعدة كلية وحقيقة ثابتة وجزء من الارادة التكوينية والتشريعية ومن اصل خلق الانسان، فيجب ان لا نقف عند موضوع الآية ومسألة الحيض واتيان النساء مع أهميته ، بل يكون معه اللجوء إلى التوبة .
ومن التوبة والطهارة وطئ الزوجة والتنزه عن الزنا ، قال تعالى [وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا]( ).
الثاني : الآية بشارة ورحمة وهبة سيالة تشمل جميع ميادين الحياة والاحكام والشرعية.
الثالث : هذا العموم في مضامين الآية لا يمنع من وجود اهمية خاصة لها تتعلق بموضوع الحيض واتيان النساء مما يدل على لزوم التقيد باحكام الشريعة فيه.
الرابع : الآية دعــوة للمبادرة الى التوبة واعلان الندم عند حصول المخالفة الشرعية في وطئ المرأة ايام الحيض وقبل الطهر، خصوصاً على القول بان ظاهر الامر الوجوب.
السابعة : قيل ان تفسير التوابين: التوابون من الكبائر، ولكن الآية اعم.
الثامنة : في الآية إشـارة الى أحكام الكفارة ، قال الحسن البصري: يلزمه بدنة او رقبة او عشرون صاعاً ، وقد تقدم الكلام فيه.
بحث بلاغي
تقديم التوبة على الطهارة فيه وجوه:
الأولى : ان التوبة مقدمة وسبب للطهارة ، قال تعالى [إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثانية : قانون موضوعية التوبة ومنفعتها في الأعمال السابقة والأعمال اللاحقة بينما الطهارة تعلق بالقادم من الأفعال.
الثالثة : الطهارة فرع التوبة لأن الإنسان اذا تاب توبة نصوحاً التفت الى وظائفه الشرعية واعتنى بالطهارة.
الرابعة : الطهارة مطلوبة بالذات كفعل عبادي كما في الوضوء والتيمم وغسل الجنابة، وقد تكون مستحبة او توصـلية كما في تطهير الثياب، اما التوبة فانها فعل وارادة وعزم وعقيدة.
الخامسة : التوبة تأتي بالطهارة ، قانون ترشح الطهارة عن التوبة وتكون من مصاديقها الخارجية.
السادسة : قانون مصاديق ووجوه وموضوعات التوبة اكثر من الطهارة.
بحث فقهي
الأول : يستحب استحباباً مؤكداً لمن وطئ زوجته الحائض الكفارة وهي دينار ذهب في اول الحيض ونصف دينار في وسطه وربع دينار في آخره.
الثاني : من لم يكن عنده ما يكفر به فليستغفر الله فان الإستغفار توبة وليتصدق على عشرة مسـاكين لكل مســكين مد، وان لم يقدر فعلى مسكين واحد.
وفي صحيحة الحلبي عن الصادق ”في الرجل يقع على امرأته وهي حائض ما عليه؟ قال: يتصدق على مسكين بقدر شبعه( ).
الثالث : لا كفارة على المرأة وان كانت مطاوعة الا ان تكون قد اجبرت الزوج او اخفت عليه الحال مع علمها بالحيض فتستحب لها الكفارة لقاعدة التسبيب.
فالصور بالنسبة للزوجة أربعة :
الأولى : الوطئ قهراً عليها.
الثانية : مطاوعة الزوجة .
الثالثة : إخفاء الحيض على الزوج عند الوطئ .
الرابعة : إجبار الزوجة لزوجها بالوطئ وهي حائض.
ففي الصورتان الأوليتان لا شئ عليها وتجب الكفارة على الزوج ، وفي الثالثة والرابعة يستحب لها الكفارة ولا شئ على الزوج.
الرابع : تسقط الكفارة المستحبة عن الناسي والجاهل بالموضوع اي بكونها حائضاً بل والجاهل القاصر بالحكم دون الجاهل المقصر.
الخامس : المراد بأول الحيض ثلثه الزماني الأول، وبوسطه ثلثه الثاني وبآخره الثلث الأخير منه، فلو كانت مدة الحيض ستة ايام فالمراد باوله اليومان الأولان والمراد باوسطه الثالث والرابع وآخره اليومان الخامس والسادس وان كان اربعة ايام فكل جزء من الأجزاء الثلاثة يكون يوماً وثلث يوم وهكذا.
السادس : لا تتعلق الكفارة الا بوطىء القبل ولو بادخال الحشفة.
السابع : المراد بالدينار هو المثقال الذهبي الشرعي وهو 3,66 غراماً تقريباً ويكون ثلاثــة اربــاع المثقـال الصيرفي الذي يبلغ 4,88 غراماً تقريباً، ويجوز اعطاء ما يعادل قيمته وقت الأداء بعملة البلد او بغيرها.
الثامن : تلحق النفساء بالحائض في حرمة وطئها، والأقوى شمولها باحكام الكفارة واستحبابها.
التاسع : من تعذر عليه دفع الكفارة يجوز له أن يكتفي بالإستغفار.
قوله تعالى [وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]
الأولى : تظهر الآية نوع ملازمـة بين التوبة الطهارة، فالتوبة رجوع الى الباري عز وجـل ولابد ان يتلبس العبد الأواب بالتنزه عن المعاصي.
الثانية : تحث الآية على الطهارة وتبين اهميتها.
الثالثة : تؤكد الآية الطهارة المعنوية بالاضافة الى الطهارة المائية الخارجية.
الرابعة : التلبس بالطهارة والحرص عليها موضوع يقرب العبد الى بارئه.
الخامسة : ورد في قوله تعالى [ وَاللَّهُ يُحِبُّ المطهرين ] انها نزلت في أهل مسجد قبا لانهم يتطهرون ويستنجون بالماء كما سيأتي تفسيره في الآية الثامنة بعد المائة من سورة التوبة.
السادسة : [ الْمُتَطَهِّرِينَ ] دلالة كثرة التطهر والتأكد منه، لذا ورد في احكام الحائض ما يفيد احراز الطهارة والتحقق منها بالإستبراء.
السابعة : جاءت الآية بصيغة المذكرالا انها تشـمل المرأة ايضاً لقاعدة الاشتراك ولأن تذكير صيغة الخطاب للتغليب خصوصاً وان موضوع الحيض تنفرد به المرأة، والوطئ تشترك به المرأة مع الرجل.
الثامنة : التطهر في الآية اعم من الماء فهو يشمل التيمم للحائض التي يتعذر عليها الماء كما انه يشمل الوضوء والاحتراز من تفشي الدم وخروجه عن موضعه، ويشمل اتيان المستحبات كجلوس الحائض في مصلاها، في الخبر عن الصادق: “كان الناس يستنجون بالحجارة والكرسف ثم احدث الوضوء وهو خلق حسن فامر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصنعه وانزل الله في كتابه [ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ]
بحث بلاغي
في باب التقديم والتأخير ذكرت هذه الآية كمصداق للتقديم بالعلة والسببية وقيل: ان التوبة سبب الطهارة( )، ولكن ظاهر الآية يدل على التعدد، ووجود (واو العطف) يفيد المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه وقد تتعلق التوبة باوان الإنابة والرجوع عن الذنب بينما تكون الطهارة والتطهر امراً مستديماً.
بحث فقهي حرمة وطئ الحائض
الأولى : يحرم وطء الحائض حتى بادخال الحشفة من غير انزال، ويكره الإستمتاع بما بين السرة والركبة منها بالمباشرة، اما لو كان الاستمتاع بالضم ونحوه من فوق اللباس بغير الوطء فلا بأس به.
الثانية : يحرم على الحائض تمكين الزوج من الوطىء حتى تطهر سواء ثبتت الحيضية بالعلم او بقاعدة الامكان ونحوها من الطرق المعتبرة لمعـرفة الحيض، والاحوط الحاق الاستظهار بالحيض في حرمة الوطء.
الثالثة : الحكم بحرمة وطئ الحائض مطلقة، أي سواء كانت الزوجة، حرة او أمـة، وسواء كان الحيض قطعياً او حاصلاً بالتمييز.
الرابعة : يجوز وطء المرأة التي مست ميتاً قبل ان تغتسل غسل المس.


قوله تعالى [ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ ] الآية 223
الاعراب واللغة
نساؤكم: مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة، كم: ضمير متصل مبني على السكون في محل جر مضاف إليه.
حرث: خبر المبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة.
لكم: جار ومجرور.
فأتوا: الفاء رابطة لجواب الشرط، أئتوا: فعل أمر مبني على حذف النون.
واو الجماعة: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، حرثكم : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة وهو مضاف.
كم : ضمير متصل مبني على السكون في محل جر مضاف إليه.
أّنى : ظرف زمان بمعنى متى مبني على السكون في محل نصب وقيل ظرف زمان ، شئتم: فعل ماض مبني على السكون، لإتصاله بتاء الفاعل ، تم: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل.
وقدموا: الواو: حرف عطف، قدموا: فعل أمر مبني على حذف النون.
واو الجماعة: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، لأنفسكم، اللام: حرف جر، أنفس: اسم مجرور، وعلامة جره الكسرة الظاهرة، وأنفس مضاف، كم: ضمير متصل مبني على السكون في محل جر مضاف إليه.
وإتقوا : الواو: حرف عطف، إتقوا: فعل أمر مبني على حذف النون، واو الجماعة: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل.
الله: اسم الجلالة مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة، وأعلموا: الواو: حرف عطف.
واعلموا انكم ملاقوه : الواو: حرف عطف، اعلموا: فعل أمر والواو فاعل،
انكم: ان حرف مشبه بالفعل، وهي وما في حيزها في محل مفعول اعلموا.
ملاقوه: خبر أن ، مرفوع وعلامة رفعه الواو، لأنه جمع مذكر سالم.
وبشر المؤمنين: الواو: حرف عطف، بشر: فعل أمر مبني على الكسر لإلتقاء ساكنين، والأصل فيه السكون كما في قوله تعالى [فَبَشِّرْ عِبَادِي]( ).
والفاعل ضمير مستتر تقديره انت.
المؤمنين: مفعول به منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم.
في سياق الآيات
بعد سؤال المسلمين عن الحيض وتفضل الله تعالى بذكر احكامه جاءت هذه الآية لدفع وهم ومنع طرفي الافراط والتفريط، لتحول دون الاحتياط الزائد الذي هو خلاف الاحتياط، وتمنع من التهاون وعدم الاحتراز في موضوع الحيض.
لقد اختتمت الآية السابقة ببيان قانون من وجهين :
الأول : قانون حب الله عز وجل للتوابين الذين ينقطعون عن فعل المعصية .
الثاني : قانون حب الله عز وجل للمتطهرين .
ومنه الطهارة للزوج والزوجة عدم وقوع الجماع إلا بعد الغسل من
الحيض لقوله تعالى [فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ]( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين التباين في الحكم بين أيام الحيض وأيام الخلو منه الذي هو طهارة , وهل يصح تقدير الآية السابقة : (إن الله يحب التوابات ويحب المتطهرات) الجواب نعم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط بلحاظ اشتراك الرجل والمرأة في هذا الحكم والأحكام التكليفية الأخرى إلا ما خرج بالدليل , ولأن التذكير في الآية للغائب .
إعجاز الآية الذاتي
يظهر في الآية الكريمة التداخل بين الارادة التكوينية والارادة التشريعية، ومن الاعجاز الوصف البلاغي للنساء بانهن حرث، وتظهر الآية الاتحاد والتماثل والتشابه بين اعمال المكلفين بما في ذلك المباح وكيف ان الدنيا مزرعة الآخرة وتظهر اسرار التنزيل بتنظيم أدق وجوه العلاقة بين الزوجين واكثرها ستراً وحجباً عن الآخرين.
لقد أكرم الله عز وجل الإنسان بأن خلق آدم في الجنة مع أن وظيفته عمارة الأرض بالعبادة , وهذه العمارة من أهم أركان الخلافة في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) .
ومن الآيات خلق حواء أيضاَ في الجنة ورؤيتها للملائكة وحديثهم معها , وأكلها من ثمار الجنة إلا أن أزلها وآدم إبليس فهبطا إلى الأرض بذات صفة الزوجية التي كانا عليها في الجنة , وهل كانت حواء تحيض في الجنة الجواب لا , كما انهما لم يلبثا كثيراَ فيها.
ليكون الحيض مصاحباً للمرأة في الحياة الدنيا وذكرت اساطير عديدة عند الشعوب عن الحيض فمثلاَ يضع بعض الرومان نقطة من حيض زوجته في طعامها لتكون وفية له , أو أن ملامسة دماء الحيض قد تسبب الجذام , وتعتزل النساء المجتمع أيام الحيض عند بعض الشعوب , ومنهن لا تغتسل أيام الحيض خشية النزف الحاد أو يسبب حبس دماء الحيض , ومنهم من يظن أن دماء الحيض سامة لذا تمنع المرأة من مس الطعام أو الماء مدة الحيض .
فنزل القرآن ببيان حكم الحيض بعدم الوطئ فيه , وبسقوط فرض الصلاة عن المرأة أيام الدورة الشهرية وهي الحيض تخفيفاَ من عند الله عز وجل , ولنجاسة الدم .
والمراد أن لفظ نساؤكم أي زوجاتكم وإرادة المعنى الأعم ليشمل الإماء , ولبيان المندوحة والسعة في كيفية الجماع من صمام واحد .
و (عن أم سلمة قالت : لما قدم المهاجرون المدينة أرادوا أن يأتوا النساء من أدبارهن في فروجهن فأنكرن ذلك ، فجئن إلى أم سلمة فذكرن ذلك لها ، فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم }( ) صماماً واحداً)( ).
ومن إعجاز آية البحث التحذير والزجر عن وطئ المرأة أيام الحيض .
ويمكن تسمية آية البحث (نساؤكم) ولم يرد لفظ (نساؤكم) و(حرث لكم) في القرآن إلا في آية البحث.
إعجاز الآية الغيري
كما أن الإسلام دين شرائع عبادية فإنه دين القوانين والأحكام الوضعية , وفيه تنظيم دقيق لشؤون الناس .
لقد جعل الله عز وجل الأكوان تجري بانتظام دقيق , قال تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ), ( ).
وهو سبحانه ينظم حياة الأسرة والمجتمع بما يحقق الغايات الحميدة من خلق الإنسان ويقرب الناس إلى علة خلقهم , وما فيه نجاتهم , قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وتتضمن الآية الأمر بتقوى الله , وهل هو خاص بأحكام هذه الآية الجواب لا , فهو مطلق في العبادات والمعاملات والأحكام , لذا جاء بعد الإخبار عن المعاد وأنه حق وأن المؤمنين يفوزون يوم القيامة , قال تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ), ( ).
الآية سلاح
تبين الآية أحكام النكاح وإباحة الوطئ الا ما خرج بالدليل كأيام الحيض، وتحـث على التقيد باحكامه وانه سبيل الى الفوز في الآخرة، لذا فان المباح احد الأحكام التكليفية الخمسة، والآية تدل على نيل الثواب باتيان المباح مع انه ليس مستحباً ولا واجباً.
نعم قد يكون وطئ الزوجة مستحباً بل قد يكون واجباً للعفاف وإحصان الفرج وللحاجة من الطرفين أو أحدهما ، لذا يجب على المرأة أن تمكن زوجها لمعاشرتها في أي وقت إلا أن يزاحمه وقت فريضة أو شغل أو ما فيه ضرر .
ومن حق الزوجة على الزوج أن يطأها ، والواجب في كل أربعة أشهر مرة أو بقدر حاجتها للتباين بين النساء والحال ، وطاقته لعمومات قوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( ).
والآية انحلالية وليس لجمع النساء مفرد ، وتقدير الآية بصيغة المفرد (امرأتك حرث لك فأتي حرثك أنى شئت).
ومن معاني الآية سلاح في المقام تنظيم هذه الآية للحياة اليومية للأسرة المسلمة ومنع الإفتتان والوقوع في الحرام .
لقد نهى الله عز وجل عن الزنا وأخبر بأنه أثم عظيم ، قال تعالى [وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا]( ).
وقد أذن الله عز وجل بالنكاح من واحدة والتعدد من اثنتين أو ثلاثة أو أربعة لتنزيه المجتمعات من الزنا وضرره العالم والخاص ، قال تعالى [فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا]( ).
لبيان حرمة الزيادة على الأربعة باستثناء ماخصّ الله عز وجل به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم( )، وقال تعالى بخصوص الملائكة [جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ]( )، أي أن الملك الواحد إما عنده جناحان أو ثلاثة أجنحة أو أربعة أجنحة.
ومن وجوه التعدد في الزوجة أن المرأة تحيض ، فلا يصح وطؤها ، وتمرض ، وتكون نفساء ، ولا تعطل منافع النكاح وزيادة النسل ، كما أن الآية تنفع في حال الحروب والنقص العام في الرجال ، أو الخاص عند بعض الأسر والعوائل.
وآية البحث سلاح من الخصومة داخل الأسرة ، وهي واقية من فعل الفحشاء والمنكر .
وفي العمل بمضامينها أجر وثواب في الآخرة لذا أختتمت بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقانون البشارة للمؤمنين .
أسباب النزول
ذكرت في أسباب النزول وجوه :
الأولى : روي ان اليهود قالوا: من جامع امرأته في قبلها من دبرها كان ولدها احول مخبلاً، وزعـموا انه مكتوب في التوراة، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كذبت اليهود، ونزلت هذه الآية.
الثانية : في الدر المنثور عن الدار قطني في غرائب مالك مسنداً عن نافع قال : قال لى ابن عمر امسك علي المصحف يا نافع فقرأ حتى أتى على [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ] قال لى : تدري يا نافع فيم نزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت في رجل من الانصار أصاب امرأته في دبرها فاعظم الناس ذلك، فانزل الله [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ] الآية، قلت له: من دبرها في قبلها؟ قال: لا، الا في دبرها.
الثالثة : في الدر المنثور عن ابي سعيد الخدري قال “ان رجلاً اصاب امرأته في دبرها، فانكر الناس عليه ذلك، فانزلت [ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ]”.
الرابعة : في تفسير العياشي عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن الرضا انه قال: أي شئ يقولون في اتيان النساء في اعجازهن؟ قلت: بلغني ان أهل المدينة لا يرون به بأسا، قال: ان اليهود كانت تقول: إذا اتى الرجل المرأة من خلفها خرج ولده أحول، فانزل الله [ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ]، يعنى من خلف أو قدام خلافا لقول اليهود، و لم يعن في أدبارهن.
الخامسة : روي عن ابن عباس ان عمر جاء الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يا رسول الله هلكت، وحكي وقوع ذلك منه فانزل الله تعالى هذه الآية.
السادسة : اخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال كانت الانصار تأتى نساءها مضاجعة وكانت قريش تشرح شرحا كثيرا، فتزوج رجل من قريش امرأة من الانصار فاراد أن يأتيها فقالت لا الا كما يفعل.
فاخبر بذلك رسول الله فانزل الله [فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ] أي قائما وقاعدا ومضطجعا بعد ان يكون في صمام واحد( )، بمعنى ان الآية تتعلق بإتيان المرأة عن قيام وقعود واضطجاع واستلقاء في الفرج دون الدبر بجواز تعدد الكيفية مع لزوم اتحاد موضع الإدخال.
السابعة : تمنع الآية من هجران النساء في المضاجع، وتدل على حصول الذنب بالإبتعاد عن الزوجة وعدم وطئها من غير ضرورة، وتحـذر المؤمنـين من ظلم النساء وايذائهن، والآية تنهى عن الزنا والفجور، لذا ورد ان اتيان الرجل لزوجته حسنة وفيه ثواب.
الثامنة : اخرج البخاري عن ابن عمر ان الآية نزلت في إتيان النساء في أدبارهن( )، وقال السيوطي بأنه استنباط منه.
وقول الصحابي نزلت هذه الآية في كذا أعم من سبب النزول الذي أنزلت الآية لأجله، وقد يُراد به سبب النزول وقد يراد به التفسير والتأويل، أو مصاديق الآية وشمولها بالحكم ، والنصوص الواردة بهذا الخصوص أعم من أن تنحصر بخبر الواحد.
و(الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ إبَاحَةُ ذَلِكَ وَأَصْحَابُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِقُبْحِهَا وَشَنَاعَتِهَا ، وَهِيَ عَنْهُ أَشْهُرُ مِنْ أَنْ يَنْدَفِعَ بِنَفْيِهِمْ عَنْهُ)( ).
و(عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ قَالَ : كُنْت عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، فَسُئِلَ عَنْ النِّكَاحِ فِي الدُّبُرِ ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ إلَى رَأْسِهِ وَقَالَ : السَّاعَةُ اغْتَسَلْت مِنْهُ)( ).
مفهوم الآية
تظهر الآية عظيم فضل الله تعالى على الرجال مطلقاً، وعلى المسلمين خاصة بالنساء فهن مادة الحياة وسبب ديمومة البقاء، وحاجة المسلمين لهن مركبة بلحاظ الإنسانية وما جعل الله فيهن من تمام الإثنينية التي هي من مقومات الحياة في الأرض ولم يهبط آدم إلى الأرض إلا بعد أن خلق الله حواء وسكنت معه في الجنة ، قال تعالى [اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( )، ولحاجة الإسلام الى الرجال، والعدد ، والخلف الذي يحفظ العقيدة والمبدأ.
ولتوارث عبادة الله في الأرض ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
والحرث لغة اثارة الأرض للزراعة وقد يطلق الحرث على الزرع، وعن الأزهري: حرث الرجل اذا جمع بين اربع نسوة، وقال ابن الإعرابي: الحرث الجماع الكثير، وحرث الرجل: امرأته، وانشد المبَّرد:
إذا أكل الجراد حروث قوم …. فحرثي همٌّه اكلُ الجرادِ( )
كما يأتي الحرث بمعنى الكسب يقال احترث المال: كسبه( )، فالإنتفاع من المرأة كزوجة من كسب الرجل وسعيه بما يقدمه لها من المهر وما ينفقه عليها بالإضافة الى افادة الحرث لمعنى الإنجاب.
وتفتح الآية الكريمة آفاقاً علمية تتعلق بقانون اكرام المرأة وعظيم منزلتها في القرآن ولزوم النظر اليها بعين الإحترام والعناية الخاصة وانها منبع الفوائد.
وموضوع الذرية والنسل ضرورة للإسلام والمسلمين لذا وردت الآية بصيغة الجمع “نساؤكم” وهو لا يمنع من ارادة القضية الشخصية فكل امرأة هي حرث زوجها .
ومن خصائص صيغة الجمع في المقام الحث على الزواج وعدم تعطيل الفروج كما ان الآية دعوة لكثرة الإنجاب خصوصاً وان الله قد تكفل الرزق وبشر به [نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ]( ).
وفي الخبر عن الصادق عليه السلام: جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله ان لي ابنة عم قد رضيت جمالها وحسنها ودينها ولكنها عاقر، فقال: لا تتزوجها ان يوسف بن يعقوب لقي اخاه فقال: يا اخي كيف استطعت ان تتزوج النساء بعدي ، فقال: ان أبي امرني.
فقال: ان استطعت ان تكون لك ذرية يثقل الأرض بالتسبيح فافعل قال: وجاء رجل من الغد الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له مثل ذلك فقال له: تزوج سوداء ولوداً، فاني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، فقلت: لأبي عبد الله ما السوداء قال: القبيحة( ).
وبعد ان بينت الآية مقام المرأة السامي وشأنها في حياة المسلمين النوعية والشخصية جاء الأمر الإلهي باتيان النساء بوصف الحرث وهو ترغيب وبيان لمنافع الجماع، وانه لم يطلب عند المسلمين بذاته او كشهوة مجردة، بل هو وسيلة للزرع والعطاء والجود والهبات، انه نعمة متعددة الجوانب، فلذا جاءت النصوص بالثواب لمن يطأ زوجته لما في الوطئ من الإحسان ومضامين الإلفة والرحمة، ولأنه سبب للتكاثر وزيادة عدد المسلمين في الأرض.
واختيار لفظ الحرث إعجاز قرآني لأن الحرث أعم من مقدمة للزراعة ومن ظهور الحاصل فقد يحرث الإنسان ولا يبذر البدر، وقد ينثر البدر ولكن الزرع لا يخرج، الا ان الحرث في الغالب يؤدي الى الزرع وجني الحاصل ويفيد معنى العزم والإرادة.
ومن مفاهيم الآية أمور :
الأول : قانون بشارة الإعانة على الإنجاب.
الثاني : قانون تيسير الحمل والولادة.
الثالث : قانون ضمان الرزق ، لأن الله تعالى حينما أمر باتيان الحرث تكفل ملحقاته وما يتفرع عنه.
نعم الآية دعوة للسعي والكسب وتهيئة مستلزمات الزواج واسباب الرزق، لذا فان الزواج وان كان حكماً وضعياً ولكن احكاماً تكليفية تترتب عليه مثل قانون وجوب نفقة واطعام وكسوة الزوجة.
وجرى البحث في (أنى) هل هي زمانية او مكانية أي هل المراد اتيان المرأة من قبلها في أي وقت ومن القبل , والأهم هو بيان عظيم فضل الله تعالى بتهيئة الحرث في كل زمان وأوان وان المرأة تبذل نفسها للزوج وتهيء له اسباب الإستمتاع والإنتفاع منها للإنجاب.
وتمنع الآية من التفريط في حق المرأة وترك الوطئ كما انها تدل على تفضل الله تعالى باعانة المسلمين على كثرة الباه بدليل قوله تعالى [أَنَّى شِئْتُمْ] ومن مصاديقه تعدد الزوجات ، نعم الآية مقيدة بالإمكان، والميسور، والقسمة بين الزوجات، ومقيدة باجتناب المرأة مدة الحيض.
وتنهى الآية عن الخصومة والنفرة بين الزوجين لذا ورد في أحكام الزوجية عدم ترك وطئ الزوجة اكثر من اربعة أشهر ومنهم من قيده بالشابة والمعتبر في الوجوب مسماه وما يوجب الغسل وان لم يحصل الإنزال، وان كانت هذه الآية دعوة للإنزال لما في الولد من المنافع في النشأتين.
ومن الإعجاز في الآية الحث على التقديم للنفس سواء للذات الشخصية او للإسلام، لما فيه من الدلالة على تعدد معاني الحرث وان اتيان المرأة اعم من موضوع ولذة الوطئ فما يترتب عليه ينفع الإنسان في كبره سواء في الأبناء وقيامهم بوظائف الآباء او بعنايتهم بهم وتحمل نفقتهم .
ومن التقديم ما يتعلق بالنشأة الآخرة بما يأتي من الثواب في العناية بالمرأة واكرامها وفي تربية الأولاد وتكفل معيشتهم ، وفي تعاهدهم للشعائر ، وادائهم للفرائض وما يلزم منها قضاء عن الأب ان كان ميتاً بلحاظ انهم فرع منه وامتداد لفعله وحياته.
إنها مدرسة الثواب في الإسلام التي تتشعب لتشمل القريب والبعيد، والفعل المباشر او الذي يأتي بالواسطة، ومتى ما أدرك الإنسان ان فعله ينفعه في المستقبل فانه يقبل عليه ويتحمل ما فيه ويصبر عليه كما في حال الفلاح وحراثته للأرض .
أما الحرث في موضوع النساء فانه لذة ورحمة وسكينة والفة ومحبة ومع هذا ففيه احتياط وتوفير وسعي للغد القريب والبعيد، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
وترى هذه الآيات يتكرر فيها الأمر بالتقوى، ففي اربعين آية متتالية من سورة البقرة يتكرر ست مرات بين ثنايا الأوامر والأحكام الشرعية، وبيان النظم الإجتماعية والكيفيات الأخلاقية لأنها مادة بناء الدولة الإسلامية، ولابد من احراز التقوى لديمومة الزواج واستمرار منافعه وفوائده وثماره المتصلة والمنفصلة، ومن المتصلة الصحة والعافية، ومن المنفصلة الولد الصالح ومنع حصول التداعي في كيانه.
ثم جاء قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ] ( )، للإخبار عن حتمية المعاد والحساب ولزوم الإستعداد له بالتقديم الأمثل للنفس والإسلام وللنساء فمن أجمل الأشياء عند المرأة ان تنجب اولاداً وترى فيهم امتداد حياتها وخدمتها للإسلام وادائها لوظائفها العقائدية في الجهاد، أي ان المرأة تساهم في بناء المجتمع والأخلاق الفاضلة بواسطة الأولاد.
وورد عن الإمام علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنما تكون الصنيعة إلى ذي دين أو حسب ، وجهاد الضعفاء الحج ، وجهاد المرأة حسن التبعل لزوجها ، والتودد نصف الإِيمان ، وما عال امرؤ على اقتصاد ، واستنزلوا الرزق بالصدقة ، وأبى الله أن يجعل أرزاق عباده المؤمنين إلا من حيث لا يحتسبون( ).
لقد أراد الله عز وجل بقانون حسن مداراة الزوجة لزوجها وحفظها له في غيبته إقامة صلات أسرية حسنة تمنع من غلبة النفس الغضبية ، ومن الحسد ، والبغض ، وتحول دون نشر الكراهية ، بين الناس ، قال تعالى [لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
فالمرأة مصنع الرجال ، ومؤدب الصبيان ، تعطي ثمرة فؤادها واعز شيء في حياتها ومن وظفت أيامها وسهرت لياليها لإعداده ونشأته لخدمة الإسلام والتفاني في إعلاء كلمة التوحيد.
وتبين خاتمة الآية الغاية من الإخبار عن حتمية اللقاء بانه بشارة للمؤمنين الذين يأتون حرثهم ويقدمون لأنفسهم ويطيعون أمر الله تعالى ويتجنبون نواهيه، ويؤمنون بما نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات.
الآية لطف
توجه الخطاب من الله عز وجل إلى المسلمين إكرام ولطف وعناية وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا نساؤكم حرث لكم.
وتبين الآية أن [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ]( )، إذ يكون الفعل واختياره وأوانه للحارث وليس للحرث لكنه ليس من طرف واحد فقط ، على نحو الإطلاق إنما وردت الآية للتشبيه.
و(عن ابن عباس قال : إن ابن عمر – والله يغفر له – أوهم إنما كان هذا الحي من الأنصار ، وهم أهل وثن مع هذا الحي من اليهود ، وهم أهل كتاب كانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، فكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف وذلك استر ما تكون المرأة ، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوّج رجل منهم امرأة من الأنصار ، فذهب يصنع بها ذلك ، فأنكرته عليه وقالت : إنما كنا نؤتى على حرف واحد فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني.
فسرى أمرهما فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ]( )] يقول : مقبلات ومدبرات بعد أن يكون في الفرج ، وإنما كانت من قبل دبرها في قبلها . زاد الطبراني قال ابن عباس : قال ابن عمرو : في دبرها فأوهم ابن عمر : والله يغفر له – وإنما كان الحديث على هذا)( ).
ويحتمل المراد من لفظ (حرث لكم) في الآية وجوهاً :
الأول : إرادة خصوص الوطئ .
الثاني : طلب الولد .
الثالث : المتعة واللذة .
الرابع : الألفة والمحبة والكلام الفاحش بين الزوجين .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، فهي من مصاديق الحرث في الآية وتضمنت آية البحث الأمر [وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ] وهل يختص الخطاب والأمر فيها بالرجال ، الجواب لا ، إنما يشمل المسلمين والمسلمات ويمكن أن يكون من الإلتفات من إرادة جهة إلى ارادة جهات.
وسيأتي في الجزء السادس والثلاثين بعد المائتين تفصيل في إرادة المعنى الأعم للإلتفات.
فقد ابتدأت الآية بقوله تعالى [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ] ثم جاءت بالمعنى الأعم ، ثم انتقلت بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ].
ولا يختص التقرب إلى الله عز وجل بأمور النكاح والوطئ ، إنما لبيان عدم الإنشغال به عن السعي في سبيل الله وإقامة الفرائض ، والإمتناع عن المعاصي.
لبيان أن الله عز وجل جعل نعمة الزوجية والنكاح مقدمة ونوع طريق لأداء الواجبات والوظائف العبادية لذا ذكرت الآية التقوى والخشية من الله على نحو الوجوب [وَاتَّقُوا اللَّهَ] وهو خطاب شامل للمسلمين والمسلمات ومن خطاب العموم قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ) ( ).
ولم تقيد الآية البشارة بعالم الآخرة وإن جاءت أكثر آيات البشارة بخصوصها ، إذ تشمل الآية طيب الحياة الزوجية والنعم التي تترشح عن الزواج والوطئ وإنجاب الولد ، وهل منه المودة والإحسان والرحمة والمصاهرة كما في قوله تعالى [وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( )، الجواب نعم.
وسيأتي في باب تفسير الآية : الظاهر أن البشارة تشمل الحياة الدنيا أيضاً.
الصلة بين أول وأخر الآية
ابتدأت الآية بالخطاب إلى المسلمين وأن النساء حرث لهم , ولا يعني هذا انحصار الخطاب بالرجال إنما يشمل النساء من جهات :
الأولى : التفقه في الدين .
الثانية : معرفة المرأة وظائفها الزوجية .
الثالثة : استعداد الزوجة لإنجاب الولد .
وهذا الإستعداد من الفطرة وأسرار خلافة الإنسان في الأرض , قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) فمن الخلافة شوق المرأة للزواج
كي تنجب الولد وسعيها بعد الزواج للإنجاب , وسعادتها وبغطتها بصيرورتها أماَ .
ثم جاء الأمر في الآية [فَأْتُوا حَرْثَكُمْ]( ) وهو من اللطف الإلهي بأن يأتي الأمر للإنتفاع الأمثل من النعمة الإلهية وهو من عمومات قوله تعالى [وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ]( ).
وتستلزم كل كلمة من هذه الآية الشكر لله عز وجل من جهات :
الأولى : (نساؤكم) وأن جعل الله عز وجل للمسلمين نساء منهم من جهة الإنسانية والإيمان , وهو من أسرار إضافة نساء إليهم ، قال تعالى [خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
الثانية : (حرث لكم) لبيان الفائدة والنفع من الزوجية وتعيين كل إنسان لحرثه وزوجه , ومنع التعدي والزنا , وهل تدل الآية في مفهومها على حرمة اللواط , الجواب نعم .
الثالثة : (فأتوا حرثكم) ترغيب بالوطئ ومنع من الزنا وفعل الفاحشة .
الرابعة : قضاء وقت الفراغ مع العيال .
الخامسة : بيان الإباحة في وطئ الزوجة من جهة الوقت والأوان سواء في الليل أو النهار , ليتفقه المسلم والمسلمة بهذا الموضوع , ولأن وطئ الزوجة في أي وقت نعمة عظمى , جاء الأمر من الله عز وجل (وقدموا لأنفسكم) ليكون من باب الشكر لله عز وجل على نعمة الزوجية بطاعة الله عز وجل والمبادرة إلى الواجبات العبادية .
ليكون الأمر شاملاً للفرد والجماعة من المسلمين والمسلمات , ويشمل الأسرة الواحدة , من جهات :
الأولى : الزوج يقدم لنفسه .
الثانية : الزوجة تقدم لنفسها .
الثالثة : الزوجان معاَ يقدمان لنفسيهما بالصلاح والمناجاة بالخير ويأمر أحدهما الأخر بالمعروف , باجتناب الغيبة داخل الأسرة , وبإمكان الوطئ في أي وقت فإنه حسنة لأنه نوع إمتثال لله عز وجل بدليل قوله تعالى [فَأْتُوا حَرْثَكُمْ]( ) وقال تعالى [وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
الرابعة : تقديم الأولاد ذكوراَ وإناثاَ لأنفسهم بطاعة الله عز وجل , والبر بالوالدين , قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا]( ).
الخامسة : تقديم الأسرة مجتمعة لأنفسهم , بأن يقدم الأبوان والأولاد معاَ لأنفسهم .
وهل قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ) خاص بمضامين آية البحث الجواب لا , إنما هو مطلق في أمور الدين والدنيا .
وبعدها جاء التذكير والوعد والوعيد [وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ]( ) وفيه ترغيب لعمل الصالحات داخل الأسرة وخارجها , فيقف الزوج بين يدي الله عز وجل , ويسأل عن معاملته للزوجة , وتقف الزوجة أيضاَ بين يدي الله عز وجل وتسأل عن أدائها لوظائف الزوجية وحسن التبعل , ولا ينحصر الأمر بالسؤال , فقد قال تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
ومن إعجاز الآية اختتامها مع الخطاب والأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبلغ المؤمنين البشارة من عند الله عز وجل , وقد ورد هذا اللفظ ست مرات في القرآن احداهما آية البحث والآيات الأخرى , هي :
الأولى : قال تعالى [التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثانية : قال تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
وهل الخطاب في الآية لموسى عليه السلام أم أنه موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن نظم هذه الآية إبتدأت الخطاب بصيغة المثنى , ثم الجمع [وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً] ثم انتقلت إلى صيغة المفرد , لأن الخطاب في خاتمة الآية موجه إلى موسى عليه السلام بحفظ بني إسرائيل ونجاتهم من فرعون , وهو موجه في مفهومه أيضاَ إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسلامة والنجاة من المشركين وغزوهم المتعدد إلى المدينة وإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : قال تعالى [قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا]( ).
الرابعة : قال تعالى [وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا]( ).
الخامسة : قال تعالى [وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاَ في النكاح والوطئ الذي هو فرع النكاح .
الثانية : من الإعجاز في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) أن كل أمة تتقيد بأحكام الزوجية ونكاح المرأة من قبل زوج واحد ولا عبرة بالقليل النادر , الذي انتفى ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومع أن قوم فرعون مشركون فقد أظهرت النسوة النفرة من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام مع أنه غلام عندها في البيت , وفي التنزيل [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ) .
الثالثة : تنظيم وضبط الحياة اليومية للأسرة المسلمة في الأجيال المتعاقبة .
الرابعة : منع الخلاف والخصومة بين الزوجين بخصوص الوطئ فقد يؤدي امتناع الزوجة من تمكين نفسها إلى الفتنة والضرر .
الخامسة : المندوحة والسعة في الحياة الزوجية وهل يختص حكم اتيان الزوجة في أي وقت بالمسلمين أم أنه عام في الحياة الزوجية عند الناس , المختار هو الثاني ، وهو من مصاديق النعمة العامة على الناس ، والخلافة في الأرض وقوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا]( ).
ليكون من رد الله عز وجل على الملائكة حينما احتجوا على خلافة الإنسان في الأرض لأنه يفسد بها ويسفك الدماء بأن أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
وقانون إتيان الزوج لزوجته في أي وقت مانع من الفساد , وأسباب للقتل وسفك الدماء , وقد فاز المسلمون بأمر الله عز وجل لهم بإتيان الزوج زوجته في أي وقت .
السادسة : قانون الترغيب بدخول الإسلام لضبط أحكام الأسرة والمجتمع فيه , بآيات قرآنية .
السابعة : يتلو كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) ومن هذا الصراط حسن العشرة الزوجية وفق الكتاب والسنة , ومنه آية البحث وتأكيد السنة النبوية لمضامينها القدسية .
وورد (عن طلق بن علي . سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا دعا الرجل امرأته لحاجته فلتجبه وإن كانت على التنور)( ).
ويدل قوله صلى الله عليه وآله وسلم (كانت على التنور) على قيام الزوجة بشؤون المنزل ، ولكنه على نحو الإستحباب.
وطلق بن علي بن طلق بن عمرو المنفي من اليمامة (ويقال طلق بن ثمامة) ( ).
وقال : (قدمت على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يبني مسجده والمسلمون يعملون فيه معه. وكنت صاحب علاج وخلط طين فأخذت المسحاة أخلط الطين ورسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ينظر إلي ويقول: إن هذا الحنفي لصاحب طين.) ( ).
الثامنة : قانون الشكر لله عز وجل على نعمة الوطئ والنكاح , وعلى بعث آية البحث المرأة على تمكين الزوج من نفسها وإن كانت في ساعة تبغض الوطئ أو تبغض ذات الزوج ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
ومن الزيادة في المقام الألفة وزيادة المودة وتيسير الوطئ للزوجين ومنع الخصومة والشقاق والنشوز من الطرفين.
التاسعة : الوصية خيرا بالنساء واللطف معهن وعدم الإضرار بهن , وقد تعددت وصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنساء في حجة الوداع مما يدل على أهمية الأمر في النشأتين , إذ ورد (عن عمرو بن الأحوص .
أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ، ثم قال : أي يوم أحرم ، أي يوم أحرم ، أي يوم أحرم .
فقال الناس : يوم الحج الأكبر يا رسول الله .
قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ، ألا لا يجني جان إلا على نفسه ، ألا ولا يجني والد على ولده ولا ولد على والده.
إلا إن المسلم أخو المسلم فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه.
ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع ، لكم رؤوس أموالكم لا تظِلمون ولا تُظلمون غير ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ، وإن كل دم في الجاهلية موضوع وأول دم أضع من دم الجاهلية دم الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل.
ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك ، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً }( ) ألا وإن لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً . فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ، وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)( ).
العاشرة : قانون تنمية ملكة مكارم الأخلاق عند المسلمين داخل البيت وخارجه .
الحادية عشرة : قانون بعث المسلمين على الخشية من الله عز وجل وقانون جعل السكينة تتغشى صلاتهم والمعاملة داخل البيت وخارجه , قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا]( ).
الثانية عشرة : بيان قانون وهو القرآن كتاب البشارة , وتأتي البشارة بآيات القرآن , وعلى لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيما يخص عالم الآخرة أو يشمل الحياة الدنيا أيضاَ .
الثالثة عشرة : من البشارة الولد الصالح بالوطئ والإنجاب , وحسن السمت ونشأت الولد وسط الصلات الحسنة بين الأبوين .
و(عن أبي شريح الخزاعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللهم إني أحرج حق الضعيفين حق اليتيم وحق المرأة)( ).
و(عن معاوية عن حيدة قال : اتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما دفعت إليه قلت بالله الذي أرسلك أهو أرسلك بما تقول قال
نعم قال وهو أمرك بما تأمرنا به قال نعم قال فما تقول في نسائنا قال هو حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وأطعموهن مما تأكلون واكسوهن مما تلبسون ولا تضربوهن ولا تقبحوهن)( ).
إفاضات الآية
تجتهد الحكومات في تشريع القوانين التي تضبط حياة الأسرة ، والصلة بين الزوجين وأحكام النكاح والطلاق ، ولكن من إعجاز القرآن مجئ آية لتحديد نظام الأسرة في المجتمعات الإسلامية في الأجيال المتعاقبة.
وهو من إعجاز الآية القرآنية الغيري ، وترى الحكومات حاجتها إلى التغيير والإضافة أو الحذف في الأنظمة والقوانين ولكن الآية القرآنية مع قصرها تكون كافية ووافية في بناء المجتمع ، ونشر ألوية السلم والأمن في البيت والسوق والمنتدى والشارع وتشبه آية البحث المرأة كالحرث المبارك صالح للإزدراع وقضاء الشهوة وإنجاب الولد.
ولبيان أن نعمة الزوجية من أعظم النعم على الناس ذكوراً وإناثاً.
لذا تفضل الله عز وجل وخلق حواء مع آدم في الجنة ، ولو خلقها في الأرض وهو قادر عليه لتباهى الرجال على النساء بميزة وفضل الخلق والسكن في الجنة برهة من الزمن ، ومصاحبة الملائكة هناك ، ولكثرت الأقاويل ، ولكن الله عز وجل أكرم المرأة بأن جعلها تصاحب آدم في الجنة ، وحينما أكلا من الشجرة التي نهاهم الله عز وجل عنها نسب الله عز وجل هذا الظلم والتعدي إلى الشيطان إذ قال سبحانه [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( ).
وهل كانت حواء حرثاً لآدم عليه السلام ، الجواب نعم ، ولم يتزوج عليها غيرها ، وهذا الزواج من الممتنع وليس من الممكن إذ ليس من امرأة أخرى غيرها ، ولو خلفها آدم فهي لا تستطيع الزواج من غيره وهو أمر ممتنع أيضاً .
(وماتت حواء قبل آدم بعامين وعمرها سبعمائة سنة وتسع وعشرون سنة، وقيل: ماتت بعده بعامين، وقيل: بست سنين)( ).
ومن إفاضات آية البحث الإذن والجوار بوطئ الزوجة في أي وقت من الليل والنهار ، ولم تذكر الآية استثناء نهار الصيام في شهر رمضان ، قال تعالى [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( ).
ولو تعارض الصيام المستحب للزوجة مع رغبة الزوج بالوطئ يقوم الثاني لوجوب تمكينه من نفسها ، ولو كان هذا التعارض بين صيام المستحب ورغبة وحاجة الزوجة للوطئ ، فالمختار يقدم الثاني لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
فالآية وإن نزلت خطاباً للرجال من المسلمين إنما تشمل في مفهومها الخطاب للنساء أيضاً وتقديرالآية (انتن حرث لازواجكن يأتون أنى شاءوا وقدمنّ لانفسكن واتقين الله واعلمن أنكن تلاقين الله وبشر المؤمنات).
التفسير
قوله تعالى [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لكم]
ذكرت في تفسير الآية أقوال :
الأولى : انهن مزدرع لكم، ومحترث لكم، عن ابن عباس والسدي.
الثانية : معناه ذوات حرث لكم، منهن تحرثون الولد، واللذة بحذف المضاف، عن الزجاج.
الثالثة : الحرث كناية عن الجماع، قاله ابو عبيدة.
ويمكن ان نضيف الى هذه الاقوال مسائل:
الرابعة : المرأة عون في التدبير وحسن النفقه.
الخامسة : إرادة الإنتفاع الأمثل من المرأة من غير الإضرار.
في الآية اكرام للمرأة وبيان لعظيم منزلتها في المجتمع وفي دوام الحياة على الارض.
السادسة : الزوجة حرث ، والزوج حارث لبيان المسؤولية الشرعية للزوج وأن الله عزو جل يحاسبه يوم القيامة في سيرته مع عياله ، لذا تضمنت الآية الإنذار والتذكير بعالم الجزاء [وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ]( )، وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ، وأنا خَيْرُكُم لأهْلي)( ).
وتدل الآية على اهمية الولد في حياة الانسان وانه من اهم الأمور في سعي الانسان.
السابعة : لزوم حسن العشرة مع الزوجة ، قال تعالى [وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ]( ).
تحث الآية على استثمار الزواج بالانجاب وعدم التفريط بالنطفة ونزولها في غير موضع الولد.
لقد جعل الله عز وجل النكاح باعثاً للسكينة في النفوس ، وهذه السكينة مقدمة لذكر الله والإجتهاد في طاعته.
وفي التنزيل [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً] ( ) وهل الخطاب في الآية أعلاه موجه إلى الرجال أم إلى الرجال والنساء ، الجواب هو الأول .
لأن الله عز وجل خلق من أنفس الرجال نساء وليس العكس ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا] ( ) وتدل الآية على إستحباب النكاح وعدم تعطيل الأرحام خاصة وقد وعد الله عز وجل بالرزق الكريم مع الزواج مطلقاً ، قال تعالى [وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
ومن أدلة استحباب النكاح قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (النكاح سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني ).
شمول خطاب الآية للمرأة
وهل يشمل الخطاب النساء ، الجواب نعم ، وتقدير الآية : أنتن حرث لأزواجكن ، فلا تمنع المرأة زوجها عندما يطلب منها الوطئ والمعاشرة من غير عذر كالحيض ، وقد وردت أحاديث نبوية عديدة في حضّ المرأة على طاعة زوجها .
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا صلت المرأة خمسها ، وصامت شهرها ، وحفظت فرجها ، وأطاعت زوجها ، دخلت الجنة.
وأخرج ابن أبي شيبة والبزار عن ابن عباس : أن امرأة من خثعم أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : يا رسول الله أخبرني ما حق الزوج على الزوجة ، فإني امرأة أيم ، فإن استطعت وإلا جلست أيما؟
قال : فإن حق الزوج على زوجته إن سألها نفسها وهي على ظهر بعير أن لا تمنعه نفسها ، ومن حق الزوج على زوجته أن لا تصوم تطوعاً إلا بإذنه ، فإن فعلت جاعت وعطشت ولا يقبل منها ، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه ، فإن فعلت لعنتها ملائكة السماء ، وملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب حتى ترجع .
وأخرج البزار والطبراني في الأوسط عن عائشة قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أعظم حقاً على المرأة ، قال : زوجها . قلت : فأي الناس أعظم حقاً على الرجل؟
قال : أمه .
وأخرج البزار عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا معشر النساء اتقين الله والتمسن مرضاة أزواجكن ، فإن المرأة لو تعلم ما حق زوجها لم تزل قائمة ما حضر غداؤه وعشاؤه.
وأخرج البزار عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو تعلم المرأة حق الزوج ما قعدت ، ما حضر غداؤه وعشاؤه حتى يفرغ .
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو كنت آمراً بشراً يَسجدُ لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاثة لا تقبل لهم صلاة ولا تصعد لهم حسنة : العبد الآبق حتى يرجع إلى مواليه ، والمرأة الساخط عليها زوجها ، والسكران حتى يصحو .
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة : النبي في الجنة ، والصديق في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، ورجل زار أخاه في ناحية المصر يزوره في الله في الجنة ، ونساؤكم من أهل الجنة الودود العدود على زوجها ، التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يده ، ثم تقول : لا أذوق غمضاً حتى ترضى)( ).
جهة الخطاب في الآية
ترى من المخاطب بقوله تعالى [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ] فيه وجوه :
الأول : إرادة المسلمين الرجال .
الثاني :إرادة المسلمين والمسلمات .
الثالث : عامة الناس لأن النكاح سنة في الأرض , منذ أن هبط آدم وحواء إلى الأرض.
ومن الآيات إنهما لم يهبطا إلا بصفة زوجين مع إتصاف آدم عليه السلام بمرتبة النبوة والرسالة كما ورد النص , عن أبي ذر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويأتي ذكره في الجزء السابع والثلاثين بعد المائتين من هذا السِفر وكيف أن الله عز وجل أنزل عليه عشر صحف لبيان أنه سبحانه لم يتركه وشأنه عندما هبط إلى الأرض.
وقد أثنى الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقال تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( ).
والمختار هو الأول أعلاه , ويلحق به الثاني , وتقدير الآية في الخطاب للمسلمات (أنتن حرث لأزواجكن) .
وفيه بيان للطف الإلهي في إكرام الله عز وجل الناس عامة والمؤمنين خاصة بتعاهد التناسل والتكاثر عندهم لحفظ القرآن وأحكام الشريعة إلى يوم القيامة .
بحث بلاغي
الكناية من فنــون البلاغـة، ولما كان نزول القرآن تحدياً للفصحاء والبلغاء في بلاغتهم فان مدرسة الكناية فيه تفوق القدرة البشـرية وصياغة رواد الفن وما وصلوا اليه من دقة المعنى ولطف التعبير.
لقد جاء القرآن بالمدركات العقلية في صـورة المحسوسات ليكون حجة على الناس جميعاً، وفيه دعوة للتفكر والتـدبر فبلاغة القرآن لاينظر لها على نحو مجرد بل هي جزء من الإعجاز وتترشح عنها وجوه اعجازية عديدة كما ساهمت بلاغة القرآن في تثبيت وارتقاء بلاغة اللغة العربية وتوظيفها في ميادين العلم والمعرفة.
لقد وصف القرآن النساء بانهن حرث للرجال وهو من باب الكناية التي قد تكون احياناً ابلغ من التصريح، ولم تأت هنا فقط للتنزه ولإجتناب ما يفحش ذكره بل لما في الحرث من دلالات عقائدية واستنباط لأحكام شرعية سواء كانت تكليفية او وضعية تتعلق باصل النكاح كحكم وضعي او ما يترتب عليه من احكام تكليفية مثل وجوب النفقة، ان هذا الوصف يبين نعمة الله تعالى على الرجال في النساء، وما على المرأة من الوظائف في الأسرة والنفس ، قال تعالى [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ]( ).
قوله تعالى [فَأْتُوا حَرْثَكُمْ]
في الآية مسائل :
الأولى : ظاهر الإتيان هنا هو الوطىء والجماع ، ويحتمل أمرين :
الأول : قانون وجوب وطئ الزوجة وعدم تركها كالمعلقة.
الثاني : قانون وجوب اتيان الزوجة من الفرج وهو الموضع الذي أمر الله به.
الثانية : ولا مانع من اجتماع الامرين معاً الا مع القرينة الصارفة الى احدهما دون الآخر.
الثالثة : الآية دعوة لزيادة النسل وكثرة الانجاب ليزداد ويتضاعف عدد المسلمين.
الرابعة : تحث الآية على الشكر لله عز وجل في تهيئة أسباب الزواج وحسن اختيار الزوجة ، والانجاب وتهيئة موارد الرزق ومعيشة الاولاد.
الخامسة : تبين الآية للمرأة المسلمة وظيفة مهمة واساسية من وظائفها في الحياة، فعليها ان تعد نفسها للزواج واذا تزوجت تصلح حالها للزوج على نحو متجدد كل ليلة وبه وردت نصوص عديدة.
السادسة : انشغل بعض المفسرين في مسألة عدم شمول الآية للوطئ من الدبر , وحصره بالفرج وهو الصواب , وأمر ذو أهمية ويدل على معالجة القرآن لأدق الأحوال الخاصة للزوجين وفق قواعد شرعية.
ولكن الاهم هو استخلاص الدروس ووجوه الموعظة والاعتبار من الآية الكريمة .
فهي مدرسة للرجال والنساء وتتفرع عنها عدة قواعد كلية تشــمل جوانب متعددة من امور الدين والدنيا وتتعلق بالحياة اليومية وتنظيم المجتمعات منها:
الأول : قانون أحوال الاسرة المسلمة.
الثاني : قانون تنمية ملكة الأخلاق الحسنة .
الثالث : قانون قيام الأم بتأديب الأبناء ، وحضهم ودعوتهم للتنزه عن الإرهاب.
الرابع : قانون لزوم إجتناب الإضرار بعامة الناس.
و(عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : الخلق السوء يفسد الإيمان كما يفسد الصبر الطعام ، قال أنس : وكان يقال : إن المؤمن أحسن شيء خلقاً)( ).
السابعة : جاء الحرث في الآية صفة للنساء مما يدل على عدم انحصاره بموضع الوطئ وموضوعه، لأصالة الإطلاق ولغة العموم، فالآية تنحل الى امور منها:
الأول: وصف المرأة بانها حرث، وهذا الوصف يشمل موضوعيتها في نواحي الحياة المختلفة.
الثاني: اتيان المرأة ووطؤها بلحاظ الزمان المتعدد.
الثالث: الإنتفاع من المرأة وعدم ايذائها والتعدي عليها لما فيه من تعطيل وتضييع للمصلحة وانشغال بالمفسدة.
الثامنة : جاءت الآية بصيغة الجمع دون المفرد، مما يدل على وجود شأن خاص لإتيان الأزواج لزوجاتهم في اصلاح المجتمعات ، واجتناب رذائل الأخلاق ومقدمات الذنوب.
قوله تعالى [أَنَّى شِئْتُمْ]
يأتي (أّنى) ظرف زمــان بمعنــى متــى وهــو الغالب، وقــد يأتي بمعنـى حيث أو أين، وفي التنزيل [ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ]( )، أي من اين لك هذا.
وفي الآية الكريمة وجوه:
الأول : اتيان الزوجة في قبلها من قبلها.
الثاني : اتيانها في قبلها من دبرها أي من الخلف.
الثالث : الاطلاق الزماني في وطىء الزوجة أي وقت من اوقات الحل ما دامت زوجة محللة بالعقد.
الرابع : ان لا تكون صائمة او محرمة اوحائضاً عند الوطئ لخروج هذه الحالات بالتخصيص.
ومن الإعجاز مجئ آية البحث بعد آية المحيض وقوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيـضِ وَلاَ تَقْرَبُـوهُنَّ حَتَّى يَطْـهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( )، لبيان تقييد الوطئ بالقواعد الشرعية.
الخامس : يجوز للرجل ان ينكحها قائمة او مضطجعة ونحوه لان مدار صدق الدخول هو الفرج.
السادس : أنى شئتم من أوقات الليل أو النهار.
السابع : على فرض ورود (أنى) للمكان فانه لا ينحصر بوطىء قبلا من الدبر بل يرد بمعنى اينما شئتم من الامكنة المباحة والجائزة كالبيت والمخبأ.
الثامن : هذا التعدد الزماني والمكاني بيان لعظيم فضل الله تعالى، ومانع من الفواحش والمعاصي.
بحث بلاغي
(أنى) اسم على ثلاثة وجوه:
الأولى : الإستفهام بمعنى كيف.
الثانية : الشرط.
الثالثة : بمعنى (متى)
وفي معنى (أنى) في هذه الآية، نســب إلى ابن عباس الوجه الأول أي الإستفهام كما اخرجه ابن جرير، واخـرج الثاني أي الشرط عن الربيع بن انس، والثالث عن الضحاك.
الرابعة : وهو انها بمعنى “حيث شئتم”، عن عبد الله بن عمر.
والظاهر ان الجهات الأربع كلها من مفاهيم الآية وهو نوع اعجاز لغوي وفقهي واصولي، الا ان يرد دليل على خروج احد هذه الوجوه بالتخصيص او التخصص .
قوله تعالى [وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ]
وفي الآية بعث للعمل الصالح والمسارعة فيه ، والأمر بالمعروف ومنه الحضّ على الإنفاق في سبيل الله ، والنهي عن المنكر والفعل القبيح رجاء الأجر والثواب .
(عن ابن عباس {وقدموا لأنفسكم } قال : التسمية عند الجماع يقول : بسم الله) ( ).
ولكن موضوع الآية أعم ويشمل فعل الخير لوجوه :
الأول : القرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ] ( ) والآية وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تدل على الأمر والبعث للفعل الصالح ، ومن أهم ما يقدمه المسلم لنفسه أداء الصلوات والفرائض العبادية الأخرى ، وتلاوة القرآن ، والصبر في طاعة الله عز وجل ، والتنزه عن المعاصي والسيئات.
وبعد إبتداء الآية بالخطاب للرجال من المسلمين ، ومجئ وسطها بالخطاب العام للمسلمين والمسلمات أختتمت بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( )، وهو من مصاديق قوله تعالى وسيأتي في الجزء (224) من هذا التفسير قانون (تفضيل النبي (ص) بتعدد كل من البشارة والإنذار) نفسه مبشراً ونذيرا ، وكذا آيات القرآن ، قال تعالى [كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ]( ).
الثاني : قدموا لأنفسكم بالإحسان للزوجة والرأفة بها .
وعن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال (إن عيال الرجل اسراؤه فمن أنعم الله عليه نعمة فليوسع على اسرائه، فان لم يفعل أو شك أن تزول النعمة)( ).
الثالث : من معاني الخطاب توجهه إلى النساء بتقدير (وقدمن لأنفسكن) بحسن التبعل .
الرابع : يجب ألا تكون أحكام الزوجية وشؤون الأسرة برزخاً دون فعل الخيرات ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ). ( )
نعم ورد الأمر من الله [وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ] في آية البحث ، وله دلالات وكأنه من الخاص والعام.
وعن عبد الله بن مسعود قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الخلق عيال الله ، فأحب الناس إلى الله من أحسن إلى عياله)( ).
والمراد من عيال الله أي الفقراء إلى رحمة الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( )، ويعود الضمير الهاء في عياله إلى الله عز وجل ، والحديث ضعيف السند بيوسف بن عطية ، نعم ورد بطرق أخرى بأن الخلق عيال الله.
وسيأتي مزيد كلام بخصوص هذا الحديث في الجزء السابع والثلاثين بعد المائتين من هذا السِفر.
وفي الآية مسائل :
الأولى : الآية حث على الخيرات واتيان الصالحات.
الثانية : قانون الدنيا مزرعة الآخرة ودار الاعمال التي تكون توطئة وسلاحاً لدخول الجنة.
الثالثة : قانون الالتزام باحكام الوطئ الصحيح واجتناب اتيان المرأة ايام الحيض طريق الى الجنة ونيل الثواب.
الرابعة : جاءت الآية لتجديد وتوكيد الأوامر الالهية.
الخامسة : من التقديم طلب الولد وعدم التفريط بالنطفة سواء بالوطئ في الدبر او غيره، فانه تضييع لفرصة من فرص التناسل والتكاثر.
السادسة : قانون جعل الآخرة هدفاً وغاية ، قال تعالى [ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ]( ).
السابعة : تحذر الآية من الحسرة والندم يوم القيامة ، قال تعالى [ يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ]( ).
الثامنة : نقل عن ابن عباس وعطاء في الآية: معناه التسمية عند الجماع، وقال الرازي: “وهو في غاية البعد”، ولكنه قد يكون مصداقاً من مصاديق الآية.
كما تقدم أن الآية أعم في موضوعها.
التاسعة : تحمل الآية في مفهومها صيغة التهديد والوعيد من الزنا وارتكاب الفواحش.
العاشرة : الزواج في الاصل مستحب كما أن الأصل فيه الإفراد وليس التعدد الا ان الأحكــام التكليفية الاربعة الاخرى تنطبق عليه، وهو مع اباحتـه ففيه الثواب، ومدرسة في الوسط الاخلاقي لاحكام الشريعة.
وفي خبر عبد الله بن ميمون القداح عن الإمام الصادق قال: “جاءت امرأة عثمان بن مظعون الى النبي صـلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله ان عثمان يصوم النهار ويقوم الليل.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغضباً يحمل نعليه حتى جاء الى عثمان فوجده يصلي، فانصرف عثمان حينما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عثمان لم يرسلني الله بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحاء، أصوم وأصلي وأمسّ أهلي، فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح( ).
ومن الفقهاء من قيد استحباب الزواج لمن تاقت نفسه إليه ، وفي رسالتي العملية (الحجة) (النكاح مستحب وعليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل وهو ملازم لوجود الإنسان في الأرض كما هو معروف عند الناس جميعاً فالحياة لم تبدأ على سطح الأرض الا بآدم عليه السلام وزوجته أمنا حواء، على نحو الإقتران ابتداء واستدامة قال تعالى [أَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ..]( )، وقد وردت في الحث عليه نصوص مستفيضة منها ما ورد (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِى فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِسُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى وَتَزَوَّجُوا فَإِنِّى مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ وَمَنْ كَانَ ذَا طَوْلٍ فَلْيَنْكِحْ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ بِالصِّيَامِ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ)( ).
وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم اما واجبة او مندوبة ولا تطلق على المباح والمكروه نعم النكاح بلحاظ العوارض اللاحقة والطارئة عليه ينقسم الى الأحكام الخمسة فقد يكون واجباً كما في صورة الخوف مما في حال العزوبة.
والزواج مقدمة لولادة الإبناء المسلمين وكثرة من يقول لا إله إلا الله .
ويحرم اذا ادى الى الإخلال بواجب ومن غير راجح كما يحرم عند الزيادة على الأربع، ويكره في بعض الزوجات كنكاح القابلة والمربية، وهو مباح فيما اذا تعارض مع مصلحة اخرى كحفظ مال معتد به يخشى تلفه بسبب الزواج.
واستحباب النكاح للمرأة اكثر منه أهمية للرجل و قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً]( )، يبين ان خلق المرأة وبالإرادة التكوينية كان للزواج وحفظ وتعاهد النسل الذي هو مقدمة عقلية وشرعية لدوام ذكر الله تعالى في الأرض وهو علة الخلق ونشأة الإنسان قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وهناك مسائل في المقام :
(مسألة 1) حب النساء مندوب وهو من اخلاق الأنبياء بل انه مدخل للإيمان، وفي الخبر عن الصادق عليه السلام: “ما اظن رجلاً يزداد في هذا الأمر خيراً الا ازداد حباً للنساء”، ولا يختص استحباب النكاح بمن اشتاقت نفسه له بل يشمل الجنس ابتداءً، أي الميل الى الاقتران بالزوجة المناسبة وان لم يتعين الاختيار.
(مسألة 2) بالزواج يطلب الرزق وتقضى الحاجة وتنتشــر الرأفة والسكينة في المجتمع.
وذكر الخطيب البغدادي في إسناده عن (سعيد بن محمد مولى بني هاشم قال نبأنا محمد بن المنكدر عن جابر قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه الفاقة فأمره أن يتزوج)( ).
والحديث ضعيف سنداً بسبب سعيد بن محمد ، قال أبو حاتم (لايجوز أن يحتج به) ( )، وكناه الذهبي : سعيد بن محمد المدني.
(مسألة 3) تكره العزوبة لما يترتب عليها من الآثار في الدنيا بل وفي الآخرة، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : رذال موتاكم العزاب ، وإن شراركم عزابكم ، وذكر أن الحديث ضعيف سنداً لأنه يروى عن رجل مبهم عن أبي ذر ، فمن شروط الحديث الصحيح أن يكون رواته عدولاً ، وأن يكون السند متصلاً غير منقطع ، وليس فيه شذوذ أو علة قادحة ، وذكر (عن رجل) مبهم علة ضعف في الحديث ، ولكنه روي بطرق أخرى .
و(عن عكاف بن وداعة الهلالي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا عكاف ابن وداعة ألك امرأة ؟ قال : لا ، قال : فجارية ، قال : لا ، قال : وأنت موسر صحيح غني ؟ قال : نعم ، قال : فأنت إذن من إخوان الشياطين ، وإن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم ، وإن كنت منا فمن سنتنا النكاح ، يا ابن وداعة إن شراركم عزابكم ، وإن أراذل موتاكم عزابكم ، يا ابن وداعة إن المتزوجين المبرءون منكم من الخنا ، والذي نفسي بيده ما للشيطان سلاح أبلغ في الصالحين من النساء يا ابن وداعة إنهن صواحب أيوب ويوسف وكرسف : قال يا رسول الله وما كرسف ؟ قال : رجل عبد الله ثلاث مائة سنة على ساحل البحر يصوم النهار ويقوم الليل فمرت به امرأة فعشقها وترك عبادة ربه وكفر بالله فتداركه الله لما سلف فتاب عليه ، قال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي فزوجني قال : قد زوجتك بسم الله زينب بنت كلثوم الحميرية)( ).
(مسألة 4) قد يكون وجوب اختيار الزوجة على نحو القضية الشخصية كما لو ابتلى شاب وشابة بالضرر والحرج ان لم يتزوجا او باحتمال وقوع الزنا بينهما فيجب الزواج والمبادرة له الا مع وجود حل شرعي آخر اكثر رجحاناً.
وهل من معاني إختيار الزوجة والزوج المناسب , بأن تختار الزوجة ذات الدين التي تطيع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم , وتعمل بمضامين هذه الآية , وتحسن تربية الأبناء ، الجواب نعم ، لأن قوله تعالى [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ]( ) دعوة للإنجاب , ومنه إصلاح الولد بامتناعه الجحود والعقوق ومفاهيم الضلالة , و(عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا و ألطفهم بأهله)( ).
اختيار الزوجة
(مسألة 5) يستحب للرجل ان يختار المرأة ذات الصفات الحميدة وان تكون:
الأولى : مؤمنة.
الثانية : ودوداً.
الثالثة : عفيفة.
الرابعة : بكراً وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيح: “تزوجوا بكراً ولوداً”.
الخامسة : كريمة الأصل من طرف الأب والأم، وفي خبر السكوني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “اختاروا لنطفكم فان الخال احد الضجيعين”.
السادسة : ان لا تكون من شــبهة او حيض او ممن تنال الألسن آباءها وامهاتها.
السابعة : ان تكون سمراء عيناء.
الثامنة : عجزاء مربوعة طيبة الريح، ورمة الكعب أي فيه نتوء وانتفاخ، جميلة، ذات الشعر.
النظر للتي يريد الزواج منها
(مسألة 6) يجوز لمن اراد الزواج من امرأة ان ينظر الى وجهها وكفيها وشعرها ومحاسنها بشروط :
الأول : ان لا يديم النظر ويكرره الا اذا لم يحصل الغرض بالنظر الأول.
الثاني : ان لا يكون مسبوقاً بحالها بما لا يحتمل معه حصول تغيير له اعتبار وتترتب عليه بعض الآثار.
الثالث : ان لا يكون النظر بقصد التلذذ، ولا يضر حصوله قهراً او علمه بحصوله.
الرابع : ان يكون قاصداً التزويج سواء تزوجها بالخصوص ام انه قاصد التزويج مطلقاً وتعيين الزوجة بهذا الإختبار.
(مسألة 7) يجوز نظره لها وان كان بالإمكان تحصيل معرفة حالها بالواسطة كما في الصورة الجامدة او المتحركة او بواسطة امرأةاخرى تخبره بحالها.
(مسألة 8) يجوز ان تنظر المرأة الى من يريد الزواج منها، وهل يجوز ان تنظر الى من تريد الزواج منه واختياره الجواب نعم اذا كان اختيار الزوج بيدها او لها اعتبار في تعيينه ومقدمات اختياره)( ).
الحادية عشرة : تبين الآية ان الولد الصالح اتصال لعمل الانسان في الدنيا وباب ثواب لاحق للأب بعد موته، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : اذ مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث (صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)( ).
الثانية عشرة : عن مجاهد هو الدعاء عند الجماع، ويصلح ان يكون من مصاديق الآية.
الثالثة عشرة : من التقديم المرأة الصالحة ليســاهم هذا الاختيار في اعداد الولد الصالح.
قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ]
الأولى : بيان لأهمية التقوى في احكام النكاح واستحضار مفاهيمها عند الوطئ.
الثانية : الزواج وان كان حكماً وضــعياً الا ان له احكاماً تكليفية عديدة منها ما يتعلق بكيفية معاملة الزوجة وتقويم الاسرة وتعاهد الشعائر الاسلامية داخل الاسرة وخارجها وغيرها من اسباب الصلاح و الهداية والرشاد، قال تعالى [وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ]( ).
الثالثة : الأمر بتقوى الله رحمة بالمكلف لحاجته اليها في كل موارد الحياة و التقوى سلاح جامع مانع، جامع للخـيرات والاجر والثواب، ومانع من التفريط والاسراف والمعصية.
الرابعة : تبين الآية في مفهومها النهي عن المعصية والزنـا والفحشاء، واجتناب الزنا في ذاته من مصاديق التقوى، ومقدمة للمعارف الإلهية واحراز رضا الباري عز وجل.
الخامسة : أحكام الحياة الزوجية اعم من ان تتعلق باختيار الزوجة او ساعة الجماع وكيفيته، فقد يتم اختيار زوجــة ملائمة ولكن اسباب عرضية طارئة تؤدي الى الزلل او الانشــغال عن ذكـر الله تعالى.
وهذه الآية وصية سماوية تظهر اهمية التقوى في الحياة اليومية والإجتماعية وما يترتب على الحياة الزوجية، وتحول دون الإعراض عن مضامين التقوى في الحياة الزوجية واركانها.
قانون من التقوى بناء الأسرة على الأخلاق الحميدة ونبذ الظلم والتعدي والإرهاب.
النسبة بين قدموا واتقوا وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله , وإذا كان الخطاب أول الآية للرجال من المسلمين فإن قوله تعالى [وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ]( ) للرجال والنساء المسلمين , بل وردت آية بالخطاب للناس جميعاَ , بلزوم التقوى والخشية من الله عز وجل , وإذ ورد [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ] ثلاث مرات في :
الأولى : قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا]( ).
الثانية : قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ]( ).
الثالثة : قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ]( ).
ولم يرد في القرآن (يا أيها الناس اتقوا الله) إنما ورد لفظ (اتقوا الله) خطاباَ خاصاَ للمسلمين للدلالة على أنهم عرفوا الله عز وجل وأقروا بالتوحيد وسلّموا بأن لا إله إلا الله , وأن محمداَ رسول الله .
أما عامة الناس فجاءت الآيتان أعلاه وهو بتقوى الله عز وجل بصفة الربوبية المطلقة .
ترى ما هي النسبة بين وقدموا لأنفسكم واتقوا الله فيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي , وإن أفادت واو العطف في (وأتقوا) المغايرة بينهما .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق , وهو على شعبتين :
الأولى : اتقوا الله أعم من قدموا لأنفسكم .
الثانية : قدموا لأنفسكم هي الأعم .
الثالث : النسبة العموم والخصوص من وجه , فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه .
فتقوى الله عز وجل حاجة للمسلم في أمور الدين والدنيا وفيه تقديم لنفسه ولغيره , في الصالحات وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر , ليكون العطف في الآية (وقدموا لأنفسكم واتقوا الله) من عطف العام على الخاص.
قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ]
الأولى : قانون بشارة الثواب الجزيل على الإلتزام باحكام التقوى مطلقاً.
الثانية : تدعو الآية الى التقيد بالقواعد الشرعية في باب النكاح.
الثالثة : الآية وعد كريم للمؤمنين و الذين عملوا الصالحات.
الرابعة : انها انذار ووعيد ومنع من التعــدي والتفـريط في باب النكاح والحياة الزوجية.
الخامسة : الآية قاعدة كلية تؤكد الرجوع الى الله عز وجل للحساب.
السادسة : كما ان الحياة الدنيا موطن العمل والاســتعداد للاخـرة، فان التذكير بالاخرة وسيلة مباركة للنفوس والصـلاح في الحياة الدنيا ، وما فيها من اعمال.
السابعة : الآية وقاية وحرز وتنبيه.
الثامنة : الآية سلاح وعون على الإمتثال لأحكـام الشريعة، وردع عن الملذات التي تعرض الانسان للحساب والعقاب الشديد.
التاسعة : تذّكر الآية بالنشور والحساب وحتمية يوم القيامة.
قوله تعالى [وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ]
الأول : خاتمة كريمة لآية من آيات الأحكام ، وبيان لنواميس أخلاقية واجتماعية.
الثاني : جاءت الآية بصيغة قرآنية تجمع الوعد الوعيد ، والإعتبار والإتعاظ من الآخرين والتقديم للنفس، والإخبار الكريم عن السعادة الدائمة في الاخرة .
الثالث : جاءت البشارة في الآية مطلقة و متعددة الجوانب فتشمل المغفرة والثواب في الاخرة.
الرابع : الظاهر ان البشارة تشمل الحياة الدنيا ايضاً فلا دليل على حصرها بالآخرة لسعة كرم الله سبحانه ولأصالة الإطلاق، فالوعد بالبشارة يتغشى جميع العوالم، الدنيا ، وعالم البرزخ ، ويوم القيامة، كما يشمل سكان الجنان.
الخامس : من البشارة تيسير اسباب الطاعة والإمتثال وهو المسمى بقاعدة اللطف، أي ان اسباب البشارة لا تنحصر بفعل الإنسان واتيانه للصالحات بل باعانة الله سبحانه للمؤمنين بصفة الإيمان وتلبسهم بها.
السادس : في الآية اشارة الى منافع التقيد باحكام النكاح والثواب العظيم في اتيان الزوجة سواء المترتب على ذات الفعل، او لأنه مقدمة ونوع طريق لإنجاب الولد وللإحتراز من الحرام.


قوله تعالىقوله تعالى [وَلاَ تَجْعَلوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]الآية 224.
الإعراب واللغة
ولا: الواو: حرف إستئناف، لا: حرف نهي وجزم.
تجعلوا: فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف النون , لأنه من الأفعال الخمسة.
واو الجماعة: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل.
الله: اسم الجلالة مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة .
عرضة: مفعول به ثان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة،
لإيمانكم : اللام: حرف جر .
إيمان: اسم مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة .
وكم: ضمير متصل مبني على السكون في محل جر مضاف إليه.
أن: حرف مصدري ونصب، تبروا: فعل مضارع منصوب وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة.
واو الجماعة: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، والمصدر المؤول “إن تبروا” في محل جر بدل من إيمان.
وتتقوا، الواو: حرف عطف، تتقوا: فعل مضارع معطوف منصوب وعلامة نصبه حذف النون: لأنه من الأفعال الخمسة، واو الجماعة: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل.
وتصلحوا: الواو: حرف عطف، تصلحوا : فعل مضارع معطوف , منصوب وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة.
واو الجماعة: ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل.
بين: ظرف مكان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة، وهو مضاف، الناس: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة.
والله سميع عليم: الواو استئنافية، اسم الجلالة مبتدأ.
سميع : خبر مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
عليم : خبر ثان مرفوع ، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
والمعترض بين الشيئين: الذي يكون مانعاً من وصـول أحدهما إلى الآخر، والعرضة- بضم العين- الشيء الذي ينصب ويعرض، وجعلته عرضة كذا أي نصبته , (أما العرضة في كلام العرب ، فهي القوة والشدة)( ).
في سياق الآيات
بعد آيات المحيض والوطئ والحث على التقوى، جاءت هذه الآية لبيان التقوى في باب اليمين والحلف والاصلاح الاجتماعي، وفيها مقدمة للآية التالية التي تتعلق باللغو باليمين وبالتي بعدها واليمين التي تحرم وطأ الزوجة.
لقد ابتدأت الآية السابقة بالخطاب إلى المسلمين بقوله تعالى [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ] ( ) أما هذه الآية فقد جاء الخطاب فيها عاماً للمسلمين رجالاً ونساءً ، فان قلت قد وردت الآية بصيغة جمع المذكر [وَلاَ تَجْعَلُوا]والجواب ورد التذكير للغالب، وهو شامل للرجال والنساء ، كما في أول وآخر قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ).
ومن الإعجاز التضاد بين النداء في أول الآية أعلاه فهو نداء تشريف وإكرام وبعث على العمل الصالح ، والإنفاق في سبيل الله ، أما آخر الآية فقد وردت ذماً وإنذاراً للذين كفروا بقانون إتصاف الكافرين بالظلم والتعدي على الذات والغير , وبيان الملازمة بين الكفر والظلم للذات والغير , وفي التنزيل [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ] ( ) .
لقد بينت الآية السابقة فضل الله عز وجل على الناس بجعلهم ذكراَ وأنثى , ويكون الزواج سبباَ للتكاثر بالصيغ الشرعية التي تضفي البركة على المولود وعمله , كما ذكرت الآية نعمة الوطئ والجماع والإذن فيه زماناَ ومكاناَ من صمام واحد , وأمر الله عز وجل أن تكون هذه النعمة نوع مقدمة وطريقاَ للإجتهاد في طاعة الله عز وجل وعمل الصالحات لقوله تعالى [وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ]( ) .
ثم أمرت الآية المسلمين والمسلمات بالخشية من الله عز وجل , والتقريب إليه بطاعته واجتناب معصيته .
ومن إعجاز القرآن ورود قوله تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ] ثلاث مرات في القرآن في آيات متجاورة من سورة واحدة وهي :
الأولى : قال تعالى [فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] ( ) .
الثانية : قال تعالى [وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا] ( ) .
الثالثة : قال تعالى [ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا]( ) .
إعجاز الآية الذاتي
يتناول موضوع الآية مسائل ابتلائية في اليمين وتحصين النفس الانسانية بالزجر عن التجرأ على احكام اليمين وما يترتب عليه من الاضرار الشخصية والعامة، وتؤكد على نبذ الفرقة والخصومة والمنع منها حدوثاً واستدامة، وتعالج الآية آفة تترتب عليها آثار شرعية واجتماعية وأخلاقية.
و(عرضة) أي كالنصبة والهدف الذي ترمى نحوه السهام ليكون هذا الوصف من الإعجاز في الآية بالنهي عن المبادرة إلى اللجوء إلى اليمين بالله لاثبات أو نفي أمر وإن يسيراً وسهلاً ، والدنيا كلها دار متاع ودار زائلة ، ليقف الناس للحساب يوم القيامة بالختم على أفواههم التي تنطق باليمين لتشهد الجوارح على موضوع وحكم كل فرد من أفراد اليمين وبما يقول معه الحساب وسط أهوال يوم القيامة ، قال تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
ولم يرد كلة (نحتم) في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان الشدة والضبط في الحساب.
ومن إعجاز الآية تنزيه مقام الباري عز وجل ، وعدم التعجل باليمين به خاصة وأن السامع يتلقى اليمين بقبول الموضوع والحكم وقد يكون العكس بأن يعلم أو يرجح السامع أن القول خلاف الواقع فيكون اليمين سبباً لجعل اسم الله عرضة.
وأختتمت الآية بثلاثة اسماء من الأسماء الحسنى [وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] لبيان أن الله عز وجل يسمع اليمين وكثرته ، ويعلم الصدق فيه أو عدمه .
ولو امتنع الإنسان عن كثرة اليمين امتثالاً لأمر الله عز وجل فهل يشمل قوله تعالى [وَاللَّهُ سَمِيعٌ] أم أن السمع هنا يختص بالنطق باليمين ، الجواب هو الأول لأن هذا الإمتناع أمر وجودي .
وقد يكون في الحق واليمين في قضية معينة متأكدة وتتميم ، ولكن الأمتثال لأمر الله عز وجل بترك اليمين الذي لا حاجة له هو الأول ، وهل يشمل قوله تعالى [وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ]( )، موضوع آية البحث ، الجواب لا.
للتباين الموضوعي إذ وردت آية البحث خطاباً للمسلمين بينما وردت الآية أعلاه بخصوص الكفار وتضمنت ذمهم وذكر بعض قبائحهم ، ومنها كثرة الحلف مع ضعف القلب.
و(عن ابن عباس [وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ] قال : يعني الأسود بن عبد يغوث .
وأخرج عبد بن حميد عن عامر الشعبي [وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ] الآية قال : هو رجل من ثقيف يقال له : الأخنس بن شريق)( ).
ووردت الآية بصيغة الجمع (كل حلاف) مما يدل على أنها من الأصل وأسباب النزول أعم من القضية الشخصية أو مسألة عين ، نعم تكون الواقعة المعينة وبعض الأفراد من المصاديق.
وتتضمن الآية الزجر عن المبادرة إلى اليمين لأنه قد يؤدي إلى الحلف على الحق والباطل , وتدعو الآية إلى عدم اللجوء إلى اليمين في كل حال فلابد من تنزيه مقام الربوبية في المقام إنما يستحب ذكر الله عز وجل في أداء الفرائض العبادية والمستحبات والنطق بالبسملة عند الإبتداء في كل أمر ذي بال , و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : “لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جَنِّبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدًا)( ).
وتمنع الآية من جعل اليمين سبباَ للإمتناع عن فعل الخير أو للإستمرار بقطع الرحم بأن يعتل بأنه حلف أن لا يكلم فلاناَ أو يساعده , لفائدة تقديم الأهم على المهم .
ويمكن تسمية الآية آية (عرضة) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا مرة واحدة في آية البحث.
إعجاز الآية الغيري
هل تحرم آية البحث اليمين ، الجواب لا ، قال تعالى [وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ]( )، ولكنها تمنع من كثرة اليمين ، واللجوء المستمر إليه ، والمنع لذات الكثرة ، ولما يترشح عنها من الأذى والضرر ، ومنه تفعيل الإحسان وسنن التقوى بسبب كثرة اليمين ، لذا جاءت السنة النبوية بدفع الكفارة عند ورود أمر راجح خلاف اليمين.
ونزلت الآية التالية بالتخفيف عن المسلمين بقوله تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( ).
وتبعث الآية المسلمين إلى عمل الصالحات ، وعدم جعل اليمين قليلاً كان أو كثيراً برزخاً دون فعل الخير وصلة الرحم والإحسان للناس جميعاً ، ونبذ الظلم والإرهاب .
وعن زيد بن أسلم قال قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (تبكي السماء من عبد أصح الله جسمه وأرحب جوفه وأعطاه من الدنيا ، فكان للناس ظلوماً ، فذلك العتل الزنيم)( ).
وسيأتي مزيد من الكلام بخصوص هذا الحديث في الجزء السابع والثلاثين بعد المائتين وهو خاص بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب).
الآية سلاح
تساهم الآية في تهذيب النفوس وتأديب الناس ووضع قواعد تجعل اليمين موضع إكرام وإجلال عند المسلمين، وتحثهم على الهداية والصلاح والرشاد.
أسباب النزول
نزلت الآية في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يكلم خَتَنه بشر بن النعمان ولا يصلح بينه وبين امرأته، فكان يقول اني حلفت بهذا فلا يحل لي ان افعله فنزلت الآية , (وقيل في أبي بكرحين حلف أن لا يُنفِقَ على مِسْطَحٍ) ( ) .
مفهوم الآية
تولي الآية عناية خاصة باليمين الشرعية وتدعو الى تنزيه مقام الربوبية من كثرة اليمين واتخاذها مادة في التعامل اليومي، ووسيلة لتوكيد القول وامضاء الفعل والنقض والإبرام.
وهذا التنزيه حاجة عقائدية واخلاقية للمسلمين والناس جميعاً، لأنه مانع من التمادي في الخطأ والإصرار على الزلل والعناد، ومناسبة لمعرفة الواجبات وحسن الصلة بين المخلوق والخالق، لما فيه من ادب العبودية والخشية من الله تعالى وعدم ذكره تعالى الا بصيغ الثناء والحمد والتمجيد لذا وردت النصوص بالتحذير من اليمين حتى في حال الصدق، اما في الخصومات فلا تؤدى اليمين الا بأمر من الحاكم وبحضرته مما يدل على التغليظ والاحتياط , وعدم وصول النوبة الى ادائها الا عند الحاجة وتوقف الحكم عليها كما في عمومات قوله صلى الله عليه وآله وسلم: البينة على من ادعى واليمين على من انكر( ) .
ومن مفاهيم الآية بيان المندوحة والسعة في اقامة الشعائر واحقاق الحق، والإصلاح بين الناس من غير ان تصل النوبة الى اليمين، بمعنى ان اليمين مرتبة وحالة عرضية كريمة يجب ان لا نلجأ اليها من غير مسوغ شرعي.
والمسوغ في بعض حيثياته اعتباري تنزيهي متقوم باجلاله تعالى وعدم المبادرة الى الحلف به، وهذه الرتبة ارتقاء في السلوك اليه تعالى بحيث لا نذكره الا في موارد التعظيم والثناء.
فالآية تبعث الهيبة في النفوس من اليمين ونوع تغليظ نوعي , وحاجز دون المبادرة الى اليمين في كل صغيرة وكبيرة، فهذه المبادرة تخلق التجرأ في الحلف وهو مذموم وربما تشجيع التعدي على حقوق الآخرين او قول الزور او الإصرار على الخطأ وقول الكذب لأن اليمين تصبح جزء من التعامل اليومي وعلى طرف اللسان.
ولم تنه الآية إلا عن كثرة اليمين بالله عز وجل، فلم تتعرض لليمين بالمقدسات والأرواح والأنبياء، لأن اليمين الشرعية لا تكون الا بالله عز وجل ولأن الموضوع تنزيه واجلال مقام الربوبية ومع هذا فانها تنهى عن الإنقطاع الى اليمين مطلقاً خصوصاً وان كثرة اليمين بغير الله لإمضاء فعل او تثبيت قول ونحوهما يجعل السامع ينتبه ويطلب اليمين بالله كما تدل اليمين بالدلالة الالتزامية على التعظيم والاجلال له تعالى , وفي التنزيل [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ] ( ) .
ولا ينحصر النهي في الآية بالحالف بل يشمل المحلوف له بان تمنعه من طلب اليمين بالله سواء لقيام الطرف الآخر بالحلف بغير الله او ابتداء، كما لو قال الشخص اشتريت هذه السلعة بدينارين فيقول له الآخر احلف وعندما يحلف بغير الله لا يرضى منه ويطلب منه ان تكون اليمين بالله، خصوصاً وان اليمين الشرعية لا تنعقد الا بالحلف بالله.
ومن اعجاز القرآن ان الحكم فيه يأتي بجوامع الكلم الا انه مستوعب لوجوه المسألة ويتضمن القواعد الكلية سواء في منطوقه او مفهومه الى جانب التأثير النفسي الذي انفرد به القرآن.
فعندما تسمع الناس الحكم في الآية فان مفاهيمها وما فيها من الامر او النهي تنقر في الآذان, وترسخ في القلوب، وتكون لمضامينها موضوعية القول والفعل الشخصي والنوعي، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) .
فمثلاً قد يلتفت الإنسان للنهي الوارد في الآية ويبادر الى اليمين فيقول له الآخر لا تحلف رضينا منك بالقول المجرد من غير يمين، فيكون هذا القول عوناً على استدامة الحكم بما جاء في الآية الكريمة، ولا يختلف اثنان من المسلمين في مبغوضية اليمين ان كانت صادقة، اما لو كانت كاذبة فهي محرمة بالإجماع.
وهذه الآية تمنع من اللجوء الى المحرمة، فقد يكون الإنسان كاذباً وحينما يطلب منه اليمين يخشى الإمتناع ولكنه يكون محرجاً وتأخذه العزة بالإثم ويستمر بعناده فتأتي هذه الآية لتكون له وقاء وعذراً، وبرزخاً دون الإستجابة لطلب اليمين، وسبيلاً للتخلص وعدم ترتب الأثر على القول والنجاة من اليمين الغموس وما فيها من الإثم فيمتنع عن اليمين العرضي في المعاملات اليومية خصوصاً وان ليس في مقام اليمين الشرعية وما يترتب من النكوص عنها، لأن اليمين عند الحاكم قد تخرج عن موضوع هذه الاية بالتخصيص بمعنى ان الآية لا تنهى عن اليمين الشرعية عند اجتماع شرائطها والحاجة اليها.
ولا تعني الآية جواز جعل غير الله عرضة للإيمان سواء كان الأنبياء او الملائكة او الأولياء لإنحصار اليمين الشرعية بالله عز وجل.
وعندما يمتنع الإنسان عن كثرة اليمين فللطرف الآخر ان يرضى بالقول والفعل او يرجع الى القرائن والإمارات الأخرى التي تثبت الصحة من الخطأ، والصدق من الكذب، خصوصاً وانه ليس في مقام اليمين الشرعية وما يترتب على النكوص عنها لأن اليمين عند الحاكم يخرج من موضوع هذه الآية بالتخصيص.
بمعنى ان الآية لا تنهى عن اليمين الشرعية عند اجتماع شرائطها والحاجة اليها، ومع الحث على عدم المبادرة والمسارعة الى اليمين فان الآية تأمر بالبر والتقوى والصدق والأخلاص من غير حاجة الى اليمين فان العمل باحكام الشريعة في المعاملات وحسن السمت والسيرة والأخلاق الحميدة لا يستلزم التعضيد باليمين، لأن التقوى هي الوقاء والحرز والسلاح المانع من التعدي والظلم فمتى ما كان الإنسان متقياً خائفاً من الله تعالى مطيعاًُ لأوامره مجتنباً لمعاصيه ونواهيه فانه لا يحتاج اليمين بل ان الناس يرضون منه بمجرد القول من غير يمين أو شاهد أو دليل ، لذا تضمنت آية البحث الأمر بالتقوى .
فالأمر بالبر والصلاح سلاح لإجتناب اليمين وهذا من إعجاز القرآن اذ ينهى عن شيء ويهيء مقدمات النهي ومستلزمات العمل به والإعانة على الإمتثال الأحسن مع التقوى لكي يطرد الشك ويزول الريب ولا يطلب شخص من آخر اليمين ولا يجادله ويماكسه ويختصم معه ويدفعه الى اليمين اثناء الكلام والجدال، وكأن اليمين برهان ذاتي يؤيد ويعضد به قوله او فعله من اليمين بمعنى القوة.
مع ان التقوى والصلاح طريق للإصلاح بين الناس ونبذ الفرقة والخصومة بمعنى ان غياب خشية الله من ظاهر الأقوال والأفعال باب للفتنة وحاجز دون الصلاح والوئام، لتكون النتيجة الإستغناء عن اليمين وعدم اللجوء اليه في حال السعة والضيق.
وخاتمة الآية تحذير من التمادي في اليمين واللغو فيه واخبار عن الإمتحان والإبتلاء في موضوعه فان قلة اليمين تدل على التقوى والصلاح وهي مقدمة وسبيل للصلاح والرشاد والفلاح.

إفاضات الآية
في الآية تعظيم لمقام الربوبية ، ولزوم أخذ الحيطة والحذر من كثرة اليمين ، بينما جاءت الآيات بالحضّ على الإكثار من ذكر الله ، قال تعالى [اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا]( )، كما أمرت بالتسبيح المستمر ، لكن كثرة اليمين مزلة للأقدام ، وقد اثنى الله عز وجل على الذين يواظبون على الذكر ، قال تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ) ( ).
وقد يقال أن كثرة اليمين أيضاً ذكر لله عز وجل ، فجاءت آية البحث للنهي من كثرة اليمين ، ليخرج بالتخصص من آيات الثناء الذاكرين لله ، ولبيان الذكر الممدوح هو الخالي من الأذى والضرر واللبس على طرف آخر.
ومن إفاضات الآية بعثها المسلمين مجتمعين ومتفرقين على فعل الخير ، وابداء المعروف ، والمسارعة في الصالحات فنزلت بازاحة الموانع العرضية دونها.
وتنهى الآية عن كثرة اليمين سواء في الأمور العظيمة أو الحقيرة ، ولا يدخل بالنهي اليمين عند أداء الشهادة والفصل بين الناس في الحكم ، وإن كان اليمين ليس شرطاً في أداء الشهادة.

الآية لطف
في الآية تخفيف عن المسلمين ، ومنع للحرج بسبب اليمين لوجوب تركه عند وجود الأحسن والأنفع والأولى كصلة الرحم ، وكالصدقة والإنفاق في سبيل الله ، وأداء الواجب أو المستحب .
و(عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرها خيراً منها ، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه)( ).
وفيه لطف فقد يتشدد المسلم ويتقيد بيمينه وإن كان فيه ضرر فجاءت الرخصة من الكتاب والسنة لبيان أن الدنيا دار اللطف وتخفيف من عند الله عز وجل ، وجاء التخفيف بالنبوة والتنزيل ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فمن الرحمة الواردة في الآية أعلاه حنث اليمين رجوحة الموضوع والأثر .
وأبتدأت الآية بحرف العطف الواو لبيان صلتها مع الآية السابقة وأن من البشارات للمؤمنين اسقاط اليمين الخالية من النفع والتي تحول دون فعل الخير ، وتقدير الجمع بين آخر الآية السابقة وأول هذه الآية ( وبشر المؤمنين الذين لا يجعلون الله عرضة لإيمانهم).
لقد فتحت الآية باب البر والإحسان وعمل الصالحات بازاحة عقبة وحاجز وهو اليمين عند الإعتياد عليها وإتخاذها مادة وتوثيقاً لكل قول وفعل.
وتتضمن الآية إكرام اليمين والحلف بالله عز وجل وعدم الإتيان به إلا في حال الحاجة إليه.
و(عن عدي بن بحيرة قال : كان بين امرئ القيس ورجل من حضرموت خصومة فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال للحضرمي : بينتك وإلا فيمينة قال : يا رسول الله إن حلف ذهب بأرضي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حق أخيه لقي الله وهو عليه غضبان . فقال امرؤ القيس : يا رسول الله فما لمن تركها وهو يعلم أنها حق؟
قال : الجنة . . . فقال : أشهدك إني قد تركتها . فنزلت هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً( ).
ومن اللطف الإلهي في باب اليمين أمور :
الأول : اليمين وثيقة بين العبد والخالق عز وجل .
الثاني : كراهية الإكثار من اليمين.
الثالث : عدم جعل اليمين مانعاً لفعل الخير إذا كان بينهما تعارض.
الرابع : عدم المؤاخذة على اللغو في اليمين .
وفي مرسلة الحسن البصري قال (مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوم ينتضلون ، ومع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل من أصحابه ، فرمى رجل من القوم فقال : أصبت والله ، أخطأت والله ، فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم : حنث الرجل يا رسول الله . فقال : كلا ، أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة)( ).
الخامس : تشريع كفارة اليمين على الحنث فيه كما في الآية التالية ، وهي كفارة تخيير وترتيب إذ يخير الذي يكفر عن يمينه ويحنث فيه أمور :
الأول : إطعام عشرة مساكين ، كل مسكين مدّ من الطعام أي كيلو إلا ربعاً.
الثاني : كسوة عشرة مساكين .
الثالث : عتق رقبة.
فان لم يجد أحد ينتقل إلى الترتيب بصيام ثلاثة أيام.
ومن لم يجد فرداً واحداً من أفراد الكفارة ولا يستطيع الصيام كالمريض بمرض مستديم يعجز معه عن الصيام فلا تسقط الكفارة إلى أن يجد أحدها أو يشفى من مرضه وإلا فانه يوصي بقضائها ، فهي دين واجب وجوباً عرضيا ، قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ( دين الله أحق أن يقضى)( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بالنهي مع بيان موضوعه بلزوم تقديس مقام الربوبية ، وعدم الحلف بالله عز وجل في كل موضوع ومسألة وبيع وشراء واحتجاج وجدال وإخبار ونفي واثبات.
وتبين الآية تعدد الأيمان وأن منها اليمين والحلف بالله عز وجل وبعدها انتقلت الآية إلى موضوع وهو عدم صيرورة اليمين بالله سبباً للإمتناع عن فعل الخير ، فحينما يعتاد الإنسان اليمين قد يحلف على قطيعة الرحم أو الإمتناع عن العمل الصالح ونحوه .
فجاءت الآية بتقديم البر والصلاح وفعل الخير للفوز بمرتبة الصلاح ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ]( ).
وذكرت الآية لزوم عدم جعل اليمين والحلف مانعاً دون كل من :
الأول : البر والإحسان ، قال تعالى [وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( )، والتقيد باليمين الكثير قد يكون حاجباً دون الفوز بحب الله عز وجل ، فجاءت آية البحث رحمة ولطفاً.
الثاني : وجوب التقوى والخشية من الله عز وجل ، ويتقوم الأيمان بالتقوى ، ولا يصح أن تكون كثرة الأيمان والحلف سبباً دون التقوى ، أو عذراً للإمتناع عن مصاديقها.
الثالث : الإصلاح بين الناس ، ونشر مفاهيم الألفة والمودة والموادعة بين الناس ، ولم تقل الآية (وتصلحوا بين المؤمنين) مع ورود آيات بهذا المعنى ، إنما وردت بلزوم تصدي المسلمين الإصلاح بين الناس كافة ، وإن اختلفت مذاهبهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
ولا يصح جعل اليمين سبباً للإمتناع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لوجوب كل منهما ، فما من فروع الدين وإن كان تقسيم أحكام الشريعة إلى أصول وفروع لم يرد في القرآن ولا في السنة ، إنما هو تقسيم استقرائي من بعض العلماء وهو تقسيم حسن ، ليدخل الإصلاح بين الناس بهذه الآية الكريمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي طرح اليمين التي تحول دونه ، سواء بدفع الكفارة أو بعدم دفعها لوجود الراجح أو لكثرة اليمين الذي قد يصل إلى درجة اللغو فيه.
وأختتمت الآية بذكر ثلاثة أسماء من أسماء الله عز وجل وهي :
الأول : اسم الجلالة .
الثاني : اسم (سميع).
الثالث : اسم (عليم).
للترغيب بالعمل الصالح والتقوى والمسارعة في الخيرات ، وعدم جعل اليمين برزخاً دونها وأن الله عز وجل يعلم بكل ما يفعل الناس ليكون التقيد بمضامين آية البحث طريق إلى الثواب العظيم ، ودخول الجنة.
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : التحذير من كثرة اليمين .
الثانية : تقديس مقام الربوبية.
الثالثة : لزوم البر والإحسان للذات والغير .
الرابعة : تقوم الحياة الدنيا بالتقوى والخشية من الله عز وجل .
الخامسة : بيان قانون عدم جعل اليمين والحلف برزخاً دون فعل الصالحات .
السادسة : التخفيف عن المسلمين في إزاحة موانع فعل الخير والإحسان ، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا]( ).
السابعة : من غايات الآية بعث المسلمين والمسلمات لفعل الخير والمسارعة في الصالحات ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ) ( ).
التفسير
تتضمن صيغة الخطاب في الآية وجوهاً:
الأول: انها جاءت بلغة النهي والزجر، مما يدل على أهمية الأمر، خصوصاً وان اليمين تنطبق عليها الأحكام التكليفية فقد تكون واجباً عند انحصار بيان الحق ومنع الضرر بها اليمين على الحق من غير حاجة اليها، وقد تكون محرمة كما في شهادة الزور.
الثاني: جاءت الآية بصيغة الجمع (تجعلوا) فكل مسلم تشمله الآية وتقول له على نحو مركب لا تجعل الله عرضة لإيمانك، ولا تكن فرداً ممن يجعلون الله عرضة لإيمانهم.
الثالث : الدعوة الى تنزيه مقام الربوبية، وملازمة الحرص على عدم الإكثار من اليمين والقسم.
ولا تشمل الآية اليمين الشرعية التي تؤدى في فك الخصومة وهي خارجة بالتخصص من موضوع الآية لأنها تأتي لإظهار وتثبيت الحق وبأمر من الحاكم وبحضوره.
قوله تعالى [وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ]
في الآية وجوه:
تقـديم يد المساعدة له، ومعنى عرضة حجة، فلا تكون اليمين بالله حجة في المنع من البر والتقوى ، ومن معاني [وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ]( ).
لا تجعلوا اليمين بالله سبباً لمنع البر والتقوى، وبه قال الحسن وطاووس وقتادة، كما لو حلف شخص على عدم مساعدة ذي رحم، فحينما يحث على اعانته او يجد اسباباً مسوغة للمساعدة والاعانة يقول: اني حلفت على عــدم إعانته .
أي لا يكون البين الذي تحلفون برزخاَ من فعل الخير وحاجباً من مصاديق التقوى والصلاح وهناك اليمين بالدين على الميت ويسمى اليمين الاستظهاري.
فقد يحلف الإنسان على ما فيه قطع الرحم , ثم يندب إلى صلة الرحم فيقول إني حلفت وأقسمت بقطع الصلة , إنما يجب عليه ترك هذه اليمين وليس فيها كفارة , قال تعالى [قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ] ( ), وقد يحلف الإنسان على تحريم الطيبات أو فعل الصالحات , فيتقيد باليمين والبر بها , فجاءت الآية للنهي من هذا التقيد لأولوية فعل الصالحات .
و(عن ابن عباس قال : كان الرجل يحلف على الشيء من البر والتقوى لا يفعله ، فنهى الله عن ذلك)( ).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ), وعندما إحتجت الملائكة على هذه الخلافة بأن الإنسان [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ), جاء الجواب من عند الله عز وجل [أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ),فخرّ الملائكة ساجدين لله عز وجل , ومن علم الله عز وجل مبادرة الذين آمنوا إلى أمور:
الأول : حب الخير .
الثاني : عمل الصالحات .
الثالث : حسن التوكل على الله عز وجل ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ).
الرابع : اللجوء إلى الإستغفار والتوبة.
وتفضل الله عز وجل وهدى المؤمنين إلى قانون وهو عدم صيرورة الحلف واليمين مانعاً من فعل الخير وبر الوالدين وصلة الرحم , والإحسان إلى الفقراء واليتامى فحتى لو حلف المسلم على فعل أو ترك مخصوص ثم تبين الخير بخلافه فيجب أن يبادر إلى فعل ما فيه الخير والصلاح .
وتبين الآية أولوية البر والإحسان , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
ولم تعين أو تخصص آية البحث الجهات التي يتوجه إليها البر والإحسان لتكون أصالة الإطلاق حاكمة في المقام والملاك فيه هو التقوى والخشية من الله عز وجل , وعمومات الرحمة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن معاني الرحمة في المقام أن البر بالوالدين والأرحام والإحسان إلى الناس أمور مقدمة على الحلف باليمين إذا تعارض معها , وهو من مراتب تفقه المسلمين في الدين , والرفعة والأخلاق الحميدة التي يتحلون بها , وهو من عمومات قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
و(عن أبي أمامة مرفوعاً : أن التاجر إذا كان فيه أربع خصال طاب كسبه : إذا اشترى لم يذم ، وإذا باع لم يمدح ، ولم يدلس في البيع ، ولم يحلف فيما بين ذلك .
وأخرج الحاكم وصححه عن رفاعة بن رافع : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله ، وبرَّ ، وصدق .
وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن شبل قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن التجار هم الفجار . قالوا : يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع؟ قال : بلى . ولكنهم يحلفون فيأثمون ، ويحدثون فيكذبون) ( ).
لبيان الحاجة إلى البر والتقوى في المعاملة والكسب والتجارة , وإجتناب الحلف والبين , وهو مع الصدق مكروه , ومع الكذب والتدليس حرام .
تنهى الآية عن كثرة اليمين بالله عز وجل وما فيها من الجــرأة، وتمنع من اتخاذ اليمين بالله عادة في الحق والباطل، وقد ورد عن الامام جعفر الصادق عليه السلام : لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين، فانه سبحانه يقول [ وَلاَ تَجْعَلُوا] الآية تأديب للمسلمين وارشاد ومنع من الاقدام على اليمين في الصدق وغيره.
وتبين الآية إمكان جريان الامور والتعامل بين الناس من غير اللجوء الى اليمين والحلف.
تأتي العرضة بمعنى المانع كما لو اراد الشخص فعل شىء فعرض له عارض، فيمكن ان تحمل الآية معنى آخر وهو عدم التردد باليمين بالحق لانه يمين بالله، فقد يخاف الانسان من اليمين مع انه حق وصدق.
اليمين وظيفة قد يقوم بها المدعى عليه لعمومات قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “البينة على من ادعى واليمين على من انكر”، او يقوم به الشاهد وهو الشائع ويكون سبباً في فصل الدعوى، وقد يقوم به .
وفي الآية تخفيف ورحمة وتنزيه لمقام الربوبية واستحضار للخشية منه تعالى في الوقائع والاحداث والمعاملات اليومية.
بحث بلاغي
في البلاغة قالوا بان الآية من اطلاق اسم اليمين على المحلوف به، وان المراد لا تجعلوا يمين الله او قسم الله مانعاً لما تحلفون عليه من البر والتقوى بين الناس.
ويمكــن حمــل الكلام عـلى حقيقته فلا تصل النوبة فيه الى المجاز لعدم وجــود القرينــة الصارفة عن الحقيقة بل ان القرينة تدل عليها.
تفسير قوله تعالى [أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا]
لم يرد لفظ (أَنْ تَبَرُّوا) في القرآن إلا في آية البحث , من خصائص الخليفة في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) البر والإحسان واللطف والرأفة .
ونزل القرآن لتأكيد الخصال الحميدة التي يجب أن يتصف بها المسلمون والمسلمات , ومنها عدم جعل اليمين مانعاَ من البر والإحسان مع القريب والبعيد .
ونزلت الآية بصيغة المذكر (أَنْ تَبَرُّوا) والمقصود عامة المسلمين والمسلمات ذكوراَ وإناثاَ لوحدة الموضوع في تنقيح المناط وعموم التكليف .
وهل تنهى آية البحث عن الإرهاب , الجواب نعم , فحتى لو حلف الإنسان على إتيان فعل إرهابي أو مقدمة أو تعضيد بالقول أو الفعل فإن الآية تمنعه من إتيانه لأنه ضد البر وضد الإحسان والصلاح .
ولو حلف شخص بعدم السلام على فلان فهل ينعقد اليمين أم أنه خلاف البر , الجواب هو الثاني لأن إفشاء السلام من البر والإحسان للذات والغير , وهو من أسباب نشر الرحمة والتراحم بين الناس , فلا موضوعية للمانع دونه وإن كان يميناَ وحلفاَ .
وهل تجب الكفارة المختار لا , وعطفت الآية التقوى على البر للزوم خشية الله عز وجل بالغيب , وتقديم سنن التقوى في القول والفعل على اليمين .
وسيأتي في الآية التالية عدم المؤاخذة على اللغو في اليمين , بقوله تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( ).
وتبين الآية تقديم التقوى والخشية من الله عز وجل على البقاء على يمين في موضوع مرجوح سواء صد اليمين في حال غضب وسخط أو عن ترو وهدوء .
وهل تتضمن آية البحث النهي واليمين التي هي خلاف الواجب والمندوب وبر الوالدين وصلة الرحم وفعل المعروف والإحسان الجواب نعم , وهو من الإعجاز في مفهوم الوصف في الآية بتأديب المسلمين وإصلاحهم لأمور الدين والدنيا , لوجود الراجح , ومضامين هذه الآية , نعم تستحب.
تفسير قوله تعالى [وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ]
وكثرة اليمين قد تؤدي الى الإبتعاد عن مسالك التقوى، فاعتياد اليمين في الحق والصـدق قد يقــود الى التلبس بها في حالات الكذب والباطل كما في حالات البيع والمماكسة في الأسواق، او الحرج والإضطرار الى الإن.
الأولى : تؤكد الآية أهمية اصلاح ذات البين وطرد الخصومة والفرقة والتشتت.
الثانية : ورود موضوع الاصلاح على نحو مطلق يعم الناس وليس بين المسلمين فقط، مما يدل على السعة والشـمول فيما يتصف به الاسلام من الرأفة، وفيها دعوة لمنع الفتنة والخصومات والخلاف ، وزجر عن الإرهاب مطلقاً.
الثالثة : ظاهر الآية ان اليمين سلاح ذو حدين ويستعمل بالحق وقد يستعمل بالباطل وهو نادر ، ومن موارد استعمال اليمين في الحق الاصلاح بين الناس وذلك باظهار الحق وتوكيده باليمين والحلف.
الرابعة : الاصلاح بين الناس الوارد في هذه الآيـة اعم مـن ان ينحصر باليمين بل يشمل مختلف نواحي الحياة .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أفضل الصدقة صدقة اللسان، قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وما صدقة اللسان ؟
قال: الشفاعة تفك بها الاسير، وتحقن بها الدم، وتجر بها المعروف إلى أخيك، وتدفع بها الكريهة)( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال (لأن أصلح بين اثنين أحب إلي من أن أتصدق بدينارين) ( ).
، والمراد الدينار الذهبي وهو مثقال ذهب عيار (18) حبة وعدم الإصرار على اليمين والحلف لإحتمال الضرر أو فوات المنفعة بسببه.
الخامسة : تعطي الآية الأولوية للبر والاصلاح بين الناس على اليمين والحلف واحتمال الخلاف وحصول الخصومة باليمين، كما لو حلف الشاهد وسبب انزعاج وخصومة المدعي نعم لا اعتبار لإنزعاج وعدم رضا أحد الأطراف عنه ما يستدعي احقاق الحق اليمين.
السادسة : تنهى الآية عن جعل اليمين سبباً لعدم الاصلاح بين الناس وعدم البر، كما لو امتنع عن الاصلاح بين المتخاصمين بحجة انه اقسم ان لا يتدخل في خصومة.
السابعة : وجود الراجح الشـرعي يجعل الحنث باليمين جائزاً ومن غير كفارة.
الثامنة : في الآية استثناء من لزوم التقيد باليمين حال وجود الراجح ،قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
التاسعة : الآية تهذيب للنفس ومنع للسان من تجاوز الحد والتعدي الى ما لا يجوز له شرعاً .
وتدعو للوقوف عند الشبهات لتأديب المسلم ومنعه من الإسـتدراج والوقوع في المهالك بالعناد والإصرار على الصغائر، فمن اعتاد لغو اليمـين والإكثار من لا والله، بلى والله، قد يصبح في حال يشق عليه التراجع عن يمينه حينما يتلبس بصبغة وجودية لها اثر وتأثير خارجي.
العاشرة : تمنع الآية من ترتيب الأثر على اليمين المرجــوحة، وتدعـو الى اعتبار الراجح شرعاً وان كان خلاف اليمين، فاليمين امر شخصي عرضي، والراجح امر شرعي نوعي فهو مقدم على الشخصي ولا يستلزم الكفارة حينئذ، وفي المرسل اذا استعاذ رجل برجل على صلح بينه وبين رجل فلا يقــولن ان عليّ يمــيناً ان لا افــعل وهو قول الله [ وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ].
الحادية عشرة : الآية تحذير مطلق من الإكثار من اليمين لتكون واقية وحرزاً وتأديباً .
وفي الخبر عن أبي سلام المتعبد أنه سمع الإمام الصادق يقول لسدير: يا سدير من حلف بالله كاذباً كفر، ومن حلف بالله صادقاً اثم ان الله عز وجل يقول [ وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ ] ( ) ورواه الشيخ المفيد في الإختصاص عن الرضا عليه السلام.
الثانية عشرة : تدل الآية على اهمية اصلاح ذات البين ونبـذ الخصــومة والفرقة ولو بترك اليمين وحلها لأن الإصـلاح والوئام محبوب عند الله وباب للهــداية والرشــاد والتوجه الإستغراقي العام للعبادة والذكر ، وفي التنزيل [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
الثالثة عشرة : في الآية بشارة سيادة الإسلام وعز المسلمين لأنهم سيصحبون السادة والقادة باعتبار ان المصلح من سادات القوم، والإصلاح عنوان الزعامة والرفعة.
الرابعة عشرة : لقد جاء لفظ الناس على نحو الإطلاق والإستغراق وفيه نكتة ان الآية تدعو المسلمين للإصلاح بين أهل الكتاب وغيرهم مع ان الإصلاح بينهم يؤدي الى تقويتهم ويدل بالأولوية القطعية على حرمة الإضرار بالناس وممتلكاتهم الخاصة والعامة ، وهذه الحرمة من خصائص خلافة الإنسان في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الأمر الذي يدل على قوة الإسلام وصحة مبادئه وعدم الخشية من قوى الضلالة وان أجتمعت.
الخامسة عشرة : الآية من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
السادسة عشرة : تحدث الآية تجاذباً تاماً بين الإسلام والملل والأمم المختلفة، وجذبة الإسلام للتقريب الى طاعة  والإخبار عن كمال لطفه لأنه تعالى هو الذي أمر المسلمين بالإصلاح بين الناس.
السابعة عشرة : في الآية تطهير للمجتمعات وتهذيب للنفوس وطرد للنفرة ومنع من الإقتتال، وهو مناسبة كريمة لشيوع العقائد الحقة، فلأن الإسلام هو الرسالة السماوية والقرآن كتاب نازل من عند الله تعالى والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالآيات والوفاق وما يساهم في زحزحة الباطل وبروز الحق والصدق.
التاسعة عشرة : الإصلاح بين الناس وسيلة لطرد الشيطان ومنعه من التأثير على النفوس واثارة الضغائن .
العشرون : الآية تدعو الى الإصلاح بين الناس مع حصول البين بصدق، فمن باب الأولوية المبادرة الى الإصلاح مع عدم وجود يمين.
الواحدة والعشرون : ترفع الآية الحرج عن المسلمين الذين يقومون بالإصلاح ودرء المفاسد، فلولا هذه الآية لقام بعضهم بمؤاخذة المؤمنين الذين يسعون بالإصلاح بين الناس.
الثانية والعشرون : تحث الآية على الإنفاق في باب الإصلاح بين الناس لأن الإصلاح له كيفيات وصيغ متعددة ولابد ان يكون مقيداً بعد الإضرار بالإسلام والمسلمين لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
الثالثة والعشرون : تدعو الآية الى تأسيس مؤسسات خاصة بالإصلاح بين الناس على مستوى كل دولة ومحافظة ولابد من استحداث هيئة في الأمم المتحدة للإصلاح بين الدول والجماعات تقوم بوظائفها وتساهم في منع الفتن والحروب وتتدخل قبل عرض الخلافات على القضاء للدولي، ولابد ان يكون أعضاء هذه المؤسسات والهيئات على درجة من التحصيل الفقهي والقانوني، بحيث يحولون دون الجهالة والغرر والضرر ويمنعون من وقوع الحيف على بعض الأطراف لأنه سبب لعودة الفتنة مرة أخرى .
ويجب ان تتضمن مناهج دراسة كليات السياسة والقانون مناهج مستقلة تتعلق بالصلح بين الناس افراداً وجماعات وحكومات، وقد افردت ولأول مرة باباً مستقلاً للصلح في الجزء الثالث من رسالتي العملية(الحجة).
ورد لفظ (تُصْلِحُو) مرتين في القرآن , إذ ورد في خصوص الصلة بين الزوجين والحياة الأسرية بقوله تعالى [وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ) .
ومن وجوه الشبه الموضوعي بين الآيتين منع الخصومة والخلاف والنسبة في الإصلاح بين الآيتين العموم والخصوص من وجه , فهناك مادة للإلتقاء تخص اليمين ولزوم عدم صيرورته حاجزاَ أو عقبة دون فعل البر والإحسان والإصلاح .
وكذلك ذكرت الآيتان الحضّ على التقوى (وَتَتَّقُوا) ولو دار الأمر بين الوفاء باليمين وبين الإصلاح بين الناس يقدم الثاني .
ومن إعجاز الآية ذكرها الناس على نحو العموم , وتفيد الألف واللام في (الناس) الإستغراق لبيان استحباب الصلح بين الناس على اختلاف من مشاربهم ومذاهبهم عن اليمين والقطيعة فيه , وعدم إنحصار هذا الإصلاح بالمسلمين , قال تعالى [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ) .
والقرآن يفسّر بعضه بعضاَ , قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ) ليشمل العام والخاص , ويأتي في الجزء الرابع والثلاثين بعد المائتين كل من قوانين الصلح والنصر :
الأول : قانون تعدد صيغ النصر . ص84
الثاني : قانون (نصرت بالرعب) حرب على الإرهاب . ص191
الثالث : نصر النبي (ص) سلم . ص235
الرابع : قانون النصر بالسلم . ص 289
الخامس : قانون الوحي نصر . ص290
السادس : قانون النصر بالصلح والموادعة . ص293
ويأتي في الجزء الخامس والثلاثين بعد المائتين كل من قوانين الصلح والنصر :
الأول : قانون معجزة النصر خلاف الأسباب . ص245
الثاني : حمل المشركين على صلح الحديبية . ص254
الثالث : هل يعلم المشركون أن صلح الحديبية فتح . ص256
كما سيأتي المزيد من القوانين بهذا الخصوص في الجزء السابع والثلاثين بعد المائتين وغيره إن شاء الله .
وورد بخصوص الحديبية كيف أن الله عز وجل أخبر بأنه فتح عظيم , و(أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي ، وكان إذا أتاه اشتد عليه فسرّي عنه وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبرنا أنه أنزل عليه { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً }( ).
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن مردويه والبيهقي عن أنس قوله : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } قال : الحديبية) ( ) .
ولا يقدر على تسمية الصلح فتحاَ إلا الله عز وجل , وفيه شاهد على أن الصلح مطلقاَ بفتح آفاقاَ من الخير والبركة وحسن الصلات والسلم والأمن المجتمعي العام .
وهل يدل قوله تعالى[وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ]( ) على حرمة الإرهاب والتفجيرات العشوائية , وعلى نبذ العنف والتطرف الجواب نعم .
وتمنع الآية من توجيه اللوم للذي يقوم بالإصلاح , وبذل المال والجهد في سبل المعروف بين عامة الناس .
ومن معاني الإصلاح بين الناس الإنصاف والعدل وعدم الميل لطرف دون آخر , والعدل في المقام من خصائص الإصلاح , والتأهيل الذاتي للنفس للقيام بالإصلاح .
كتاب الصلح
وهو التراضي والوفاق على أمر، وعلى مشروعيته الكتاب والسنة والاجماع والعقل، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “الصلح جائز بين المسلمين الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا”، كما يحكم العقل بحسنه لأنه مبعث للوئام وباب للصلاح ودرء الفساد.
ويشمل الصلح العقود من تمليك عين أو منفعة أو اسقاط دين أو حق ونحوه، ولا يشترط كونه مسبوقاً بالنزاع والخلاف.
(مسألة 1) لا يصح الصلح على تحريم الحلال أو تحليل الحرام.
(مسألة 2) الأقوى أن الصلح عقد مستقل بنفسه وليس تابعاً للعقود الأخرى وان تفرع عنها فيفيد فائدة البيع إذا كان عن عين بعوض، وفائدة الهبة إذا كان بلا عوض، وفائدة الاجارة إذا كان عن منفعة بعوض، وباستقلاله لا تلحقه الأحكام والشروط الخاصة بالبيع كخيار المجلس والحيوان وحق الشفعة.
(مسألة 3) الصلح الملحق بالهبة لا يعتبر فيه قبض العين كما هو الحال في الهبة.
(مسألة 4) يحتاج الصلح كعقد إلى الايجاب والقبول مطلقا حتى لو افاد فائدة الابراء وإسقاط الحق على الأقوى، لتغير العنوان وتقوّم الصلح بطرفين وإن كان الأصل عدم احتياج اسقاط الحق وإبراء الدين إلى القبول.
(مسألة 5) يقع الصلح في أي لفظ يفيد معناه عرفاً ولغة وشرعاً ويدل على التراضي والتسالم من غير جهالة أو غرر لأحد المتصالحين، إذ لا يعتبر فيه صيغة خاصة فيقال مثلاً صالحتك على كذا فيقول المصالح الآخر قبلت المصالحة وهكذا.
(مسألة 6) عقد الصلح لازم من الطرفين لا يفسخ الا بإقالة المتصالحين أو بخيار، والظاهر جريان جميع الخيارات فيه الا خيار المجلس والحيوان، والأقوى عدم ثبوت الأرش فيه ولكن فيه حق الخيار، والأحوط التصالح والتراضي في موضوع الأرش.
(مسألة 7) يصح الصلح سواء كان متعلقه عين بعين، وعين بمنفعة أو دين او حق، ومنفعة بمنفعة أو حق أو بلا عوض وهكذا.
(مسألة 8) إذا تعلق الصلح بعين أو منفعة فإنه يفيد انتقالها إلى المصالح الآخر سواء كان بعوض أو بغير عوض، ويصح الصلح على المنفعة كسكن دار مدة معينة.
(مسألة 9) يصح الصلح عن الحقوق التي تسقط بالاسقاط كحق الشفعة والخيار ونحوهما، وأما مالا تسقط بالاسقاط ولا تقبل النقل والانتقال فلا يصح الصلح عنها مثل حق العزل الثابت للموكل في الوكالة، وحق الرجوع بالزوجة الثابت للزوج مدة عدة الطلاق الرجعي، وحق الرجوع في بذل الخلع الثابت للزوجة.
(مسألة 10) يشترط في المتصالحين ما يشترط في المتبايعين من البلوغ والعقل والقصد والاختيار.
(مسألة 11) صحيح أن الفضولية لا تجري في الايقاعات واسقاط الدين وإبراء الذمة، ولكن لو جاء الإبراء واسقاط الدين بقصد الصلح صح بإجازة المالك.
(مسألة 12) يجب أن لا يكون الصلح باباً للاحتيال في تخريج ما هو محرم في عقود البيع وما فيه الضرر بحجة أن الجهالة مغتفرة في الصلح، ولكنه يحول دون حصول الضرر واقعاً، فيقال مثلاً بجواز الصلح عن الثمار والخضر قبل وجودها، فلا يجوز ان تجري الصلح وحق الاختصاص في كل ما لا يجوز بيعه، إنما وضع الصلح لفك الخصومة أو اجتناب وقوعها أو للتدارك وللتراضي ولرفع الاشكال والحرج فيما يتعلق بحقوق الآخرين غير المعلومة.
(مسألة 13) تغتفر في الصلح الجهالة عند تعذر معرفة مقدار الحصة والمال ونحوه كما إذا اختلط مال أحدهما بالآخر ولم يعلما مقدار كل منهما فاصــطلحا على أن يشـتركا فيه بالتساوي أو الاختلاف بنسبة معينة، أو تعذر عليهما معرفته في الحال لتعذر الميزان والمكيال على الأظهر.
(مسألة 14) لو كان لك على زيد دين ونحوه ويعلم مقداره ولكنك تجهله فاوقعتما الصلح بأقل من حقك المعلوم عنده فلا يحل له الزائد ما دمت لا تعلمه ولم ترض به، بل لا يجوز إجراء مثل هذا الصلح حتى مع ورثة الكتابي كما في النص الصحيح سنداً.
(مسألة 15) لا يجوز إجراء الصلح في الربا المعاملي فيجب اجتناب التفاضل في الجنس الواحد باسم الصلح، نعم لو كان شخصان كل منهما له عنــد صــاحبه مقدار من ذات الجنس كالحنطة ولا يعلم كل منهــما ما له عند صــاحبه فلهــما أن يوقــعا الصلح وان احتمل التفاضل.
(مسألة 16) يجوز أن يصطلح الشريكان بأن يكون الربح والخسارة على أحدهما وللآخر رأس ماله.
(مسألة 17) يجوز للمتداعيين في دين أو عين أو منفعة أن يتصالحا بشيء من المدعى به أو بشيء آخر حتى مع انكار المدعي عليه، ولكن لو ظهر وتبين ما يفيد الغبن والضرر بسبب هذا الصلح فمن حق المدعي تجديد الدعوى، كما لو تصالحا على دين بأن دفع المديون مائة دينار ثم دلت البينة على أن الدين كان ألف دينار، لأن الصلح فصل ظاهري والأصل بقاء الحق.
(مسألة 18) إذا دعا المدعي عليه إلى المصالحة مع المدعي لا تعتبر هذه الدعوة إقراراً بالحق إذ لا ملازمة بين الصلح والإقرار، فهو يصح حتى مع الإنكار، نعم لو قال للمدعي بعني أو ملكني كان اقراراً منه، إلا إذا كان يقصد الاستدراج بالموافقة الظاهرية مع دعوى المدعي.
(مسألة 19) إذا اشتبه شيئان لشخصين فإذا كانا مختلفي القيمة تخير صاحب الأغلى، كما لو كانت عبائتين قيمة واحدة مائة دينار والأخرى خمسين ديناراً، وإن كانا معدين للبيع ولم يرض صاحب الأغلى بالاختيار أو تعذر الاختيار، تباع العباءتان ويقسم المال سهمين للأول وســهم للثاني، وإن كانا متساويين فالتراضي او البيع والا فالقرعة بينهما.
(مسألة 20) لو أتلف على شخص متاعا ونحوه قيمته دينار فصالحه على دينارين أو أكثر أو أقل جاز.
(مسألة 21) يجوز أحداث الروشن وما يطلع من سقف البيت توسعة للطابق الثاني على الشارع وما يسمى بالبلكون بالمقدار المناسب عرفاً بحيث لا يضر بالمارة ولا يضر بالبيوت المقابلة، وقد يكون من الضرر منع ضياء الشمس عنها لما له من اعتبار في هذا الزمان، لأن حيازة المباحات يجب أن لا يكون فيها ضرر بالآخرين، واعتبار فضاء الطريق من المباحات لا يخلو من تأمل فليس له استيعاب عرض الطريق لما فيه من تفويت حق الجار الذي يقابله من استحداث روشن ومنع الضياء والنور ونحوهما عن الطريق والمارة، بل ليس لصاحبي البيتين المتقابلين أن يتقاسما الطريق في الروشن وما يطلع من بيتيهما فلابد من ترك مقدار مناسب عرفا وان كان الروشن عالياً، ولا يجوز أن يسبب هذا الروشن اشرافاً على دار الجار.
(مسألة 22) يجوز فتح الأبواب المستجدة على الجادة سواء كان للدار باب آخر أم لا، وكذا فتح الشباك ونصب الميزاب عليها.
(مسألة 23) الطرق الصغيرة غير النافذة المسماة بالرافعة والمرفوعة والدريبة مشتركة بين أربابها ولا يجوز أحداث شيء فيها مثل نصب ميزاب أو فتح باب أو روشن أو جناح الا بإذنهم، ولا تكفي مصالحة بعضهم عليه.
(مسألة 24) لا يجوز وضع البناء أو أعمدة السقف على جدار الجار الا بإذنه ورضاه، ويستحب للجار إجابته ويجوز له الرجوع عن الاذن قبل البناء الا إذا كان بعنوان الشرط في ضمن عقد لازم ونحوه مما لا يجوز الرجوع فيه الا لضرورة أو ضرر.
(مسألة 25) لا يجوز للشريك في الحائط التصرف فيه ببناء ولا تسقيف ونحــوه إلا بإذن شــريكه وإحراز رضــاه بشاهد الحال، أما إذا صرح بالمنع وأظهــر الكراهــة فلا يجــوز الا بحق شرعي بعد الاشتراك في الملكية.
(مسألة 26) لو انهدم الجدار المشترك وأراد أحد الشريكين تعميره لم يجبر شريكه على المشاركة في عمارته، وهل له التعمير من ماله الخاص من غير اذن شريكه، الأقوى لا، إذا كانت الأرض التي أنشأ عليها الجدار مشتركة بينهما، فان امتنع الشريك يبني في حصته المفروزة، وان تعذر ذلك كما لو لم تكن ثمة مساحة خاصة لبنائه أو كان فيه مشقة لأن الأساس مشترك بينهما فعليهما بالتصالح والتراضي، والا يرجع إلى الحاكم الشرعي ليخيره بين عدة أمور من بيع أو إجارة أو مشاركة في العمارة أو الأذن بتعميره أو وجوه أخرى مناسبة يراها الحاكم، وكذا لو كانت الشركة في بئر أو نهر أو قناة أو آلة للسقي، ولو أراد الشريك تعميرها وتنقيتها من ماله تبرعا ومجانا فله ذلك لأنه من الاحسان المحض وليس للشريك منعه الا لضرر ظاهر في البين، ولو منعه وثبت عدم الضرر المعتد به يكون هذا الشريك ضامناً، ولو انفق أحد الشريكين في تعميرها فنبع الماء أو زاد ليس له منع الشريك الآخر الذي لم ينفق عليها من نصيبه من الماء لأنه من فروع الملكية، نعم له أن يطالبه بنصيبه مما أنفق او التصالح والتراضي، ومع تعذره يلجأ الى الحاكم الشرعي من غير أن يمنع الشريك من أخذ حصته.
(مسألة 27) لو كانت جذوع واعمدة سقف داره موضوعة على حائط جاره ولم يعلم أصل وضعها حكم على الظاهر بصحة هذا الوضع وليس للجــار المطالبة برفــعها، وكذا لو وجــد مجرى ماء أو ميزاباً منصوباً ولم يعلم سببه فإنه يحكم أنه نصب بحق واذن الا أن يثبت خلافه.
(مسألة 28) إذا خــرجت أغصان شــجرة إلى فضــاء ملك الجار، للجار أن يطالب مالكها بعطــف الأغصــان أو قطعها من حد ملكه وعليه الاجماع ولقاعدة السلطنة ولا ضرر، وان امتنع صاحبها يجوز للجار عطــفها والا فيقطــعها، الادنى فالادنــى مما يتدلى على داره وملكه.
فصل
(مسألة 29) يعتبر في أطراف المصالحة عدم الحجر لسفه أو فلس أو رق الا إذا كانت المصالحة أجنبية عن متعلقات الحجر.
(مسألة 30) يجــوز للولي أن يصـــالح عن الموّلى عليه مع المصــلحة ودفع المفســـدة وإن كانت محتملة، كما يجوز له قبول الصلح له وقد يجب.
(مسألة 31) لو آجر شخصاً يرعى غنمه لمدة سنة مثلا على ان يستفيد الراعي من لبن الانعام ويدفع للمالك مقدارا معينا من الدهن صحت الاجارة، ولو جرت على نحو المصالحة فتصح ايضاً.
(مسألة 32) يشــترط في مورد الصلح أن لا يكـون من المحرمات الشرعية كالخمر والخنزير، والمنافع والأعمال المحرمة كايجار مطعم والعمل به في أيام شهر رمضان لتقديم الطعام لخصوص غير المعذورين من الصيام.
(مسألة 33) لو بان أحد العوضين مســتحقا للغير بطل الصلح في المعين ويصح في الكلي، فاذا تصالحا على كتاب وظهر أنه مغصوب أو تعود ملكيته لشخص آخر غير المتصــالحين يبطل الصلح فيه ويصح في فرد آخر من الكلي ونســخة أخرى مشابهة غير مستحقة، وإن تعذر ينتقل إلى المثل أو القيمة الا أن لا يرضى المصالح الآخر فيرجع إلى الحاكم الشرعي.
(مسألة 34) الأقوى أن الفضاء المجاور لكل ملك يبقى على اباحته والمالك أولى به، كما لا يجوز لغيره التصرف فيه بما يضر المالك مثلما لا يجوز للمالك التصرف فيه بما يضر المارة والجيران الآخرين وغيرهم، أما من فوق ملكه فلا يجوز لأحد غيره حيازته بالبناء مثلاً لأنه تابع لأصل الملك بالمقدار الذي يمكن أن يصل اليه البناء وفق المتعارف والمحتمل، وكذا المنافع الأخرى غير البناء.
يستحب بذل المال اذا توقف عليه الصلح بين اثنين أو أكثر من المؤمنين، ويجوز صرف الزكاة من سهم سبيل الله إذا توقفت المصالحة عليه، والأولى التقييد بالانحصار به، فإذا أمكن التبرع له أو التنازل أو التقسيط نجوماً ونحوه يقدم.
في القرعة
وعن (ابن عباس قال : لما دعا يونس قومه أوحى الله إليه أن العذاب يصبحهم ، فقال لهم فقالوا : ما كذب يونس وليصبحنا العذاب ، فتعالوا حتى نخرج سخال كل شيء فنجعلها من أولادنا لعل الله أن يرحمهم . فأخرجوا النساء مع الولدان وأخرجوا الإبل مع فصلانها ، وأخرجوا البقر مع عجاجيلها وأخرجوا الغنم مع سخالها فجعلوه أمامهم ، وأقبل العذاب . . . فلما رأوه جأروا إلى الله ودعوا ، وبكى النساء والولدان ورغت الإبل وفصلانها وخارت البقر وعجاجيلها وثغت الغنم وسخالها فرحمهم الله فصرف ذلك العذاب عنهم ، وغضب يونس فقال : كذبت ، فهو قوله : {إذ ذهب مغاضباً } فمضى إلى البحر ، وقوم رست سفينتهم فقال : احملوني معكم فحملوه ، فأخرج الجعل فأبوا أن يقبلوه منه فقال : إذاً أخرج عنكم . فقبلوه ، فلما لجت السفينة في البحر أخذهم البحر والأمواج ، فقال لهم يونس : اطرحوني تنجوا .
قالوا : بل نمسكك ننجوا . قال : فساهموني – يعني قارعوني – فساهموه ثلاثاً فوقعت عليه القرعة ، فأوحى إلى سمكة يقال لها النجم من البحر الأخضر ، أن : شقي البحار حتى تأخذي يونس ، فليس يونس لك رزقاً ولكن بطنك له سجن ، فلا تخدشي له جلداً ولا تكسري له عظماً فجاءت حتى استقبلت السفينة ، فقارعوه الثالثة فوقعت عليه القرعة فاقتحم الماء ، فالتقمته السمكة فشقت به البحار حتى انتهت به إلى البحر الأخضر)( ).
و(عن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ثلاثاً ، فمن أصابته القرعة خرج بها معه)( ).
وفي قرعة عبد المطلب لذبح أحد أولاده ووقوعها على عبد الله أبي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
أخرج عن الزهري قال (أول ما ذكر من عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أن قريشاً خرجت من الحرم فارّة من أصحاب الفيل وهو غلام شاب فقال : والله لا أخرج من حرم الله أبتغي العز في غيره . فجلس عند البيت وأجلت عنه قريش فقال :
اللهم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك … لا يغلبن صليبهم وضلالهم عدواً محالك
فلم يزل ثابتاً في الحرم حتى أهلك الله الفيل وأصحابه ، فرجعت قريش وقد عظم فيها لصبره وتعظيمه محارم الله ، فبينما هو في ذلك وقد ولد له أكبر بنيه ، فأدرك – وهو الحارث بن عبد المطلب – فأتي عبد المطلب في المنام فقيل له : احفر زمزم خبيئة الشيخ الأعظم ، فاستيقظ فقال : اللهمَّ بيِّن لي . فأتي في النام مرة أخرى فقيل : احفرتكم بين الفرث والدم في مبحث الغراب في قرية النمل مستقبل الأنصاب الحمر . فقام عبد المطلب فمشى حتى جلس في المسجد الحرام ينتظر ما سمي له من الآيات ، فنحرت بقرة بالجزورة فانفلتت من جازرها تحمي نفسها حتى غلب عليها الموت في المسجد في موضع زمزم ، فجزرت تلك البقرة من مكانها حتى احتمل لحمها فأقبل غراب يهوي حتى وقع في الفرث ، فبحث عن قرية النمل فقام عبد المطلب فحفر هناك ، فجاءته قريش فقالت لعبد المطلب : ما هذا الصنيع إنما لم نكن نرميك بالجهل لم تحفر في مسجدنا؟!
فقال عبد المطلب : إني لحافر هذا البئر ومجاهد من صدني عنها . فطفق هو وولده الحارث وليس له ولد يومئذ غيره ، فسفه عليهما يومئذ ناس من قريش فنازعوها وقاتلوهما ، وتناهى عنه ناس من قريش لما يعلمون من عتق نسبه وصدقه واجتهاده في دينهم .
حتى إذا أمكن الحفر واشتد عليه الأذى ، نذر أن وفي له عشرة من الولدان ينحر أحدهم ، ثم حفر حتى أدرك سيوفاً دفنت في زمزم حين دفنت ، فلما رأت قريش أنه قد أدرك السيوف قالوا : يا عبد المطلب أجدنا مما وجدت . فقال عبد المطلب : هذه السيوف لبيت الله . فحفر حتى انبط الماء في التراب وفجرها حتى لا تنزف وبنى عليها حوضاً ، فطفق هو وابنه ينزعان فيملآن ذلك الحوض فيشربه الحاج ، فيكسره أناس حسدة من قريش فيصلحه عبد المطلب حين يصبح .
فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب ربه ، فأريَ في المنام فقيل له : قل اللهمَّ لا أحلها المغتسل ولكن هي للشاربين حل وبل ثم كفيتهم . فقام عبد المطلب حين اختلفت قريش في المسجد ، فنادى بالذي أرى ثم انصرف فلم يكن يفسد حوضه ذلك عليه أحد من قريش إلا رمى في جسده بداء حتى تركوا حوضه وسقايته ، ثم تزوّج عبد المطلب النساء فولد له عشرة رهط .
فقال : اللهمَّ إني كنت نذرت لك نحر أحدهم وإني أقرع بينهم فأصيب بذلك من شئت . فأقرع بينهم فطارت القرعة على عبد الله ، وكان أحب ولده إليه فقال عبد المطلب : اللهم هو أحب إليك أم مائة من الابل؟ ثم أقرع بينه وبين المائة من الإِبل فطارت القرعة على المائة من الإِبل ، فنحرها عبد المطلب)( ).
من صيغ الصلح اجراء القرعة وعليها الكتاب والسنة الشريفة والإجماع.
مصنف عن الصلح
يستحب تأليف مصنف أو مصنفات خاصة عن الصلح وعلى أبواب مستقلة منها:
الأولى : الصلح في القرآن.
الثانية : الصلح في قصص الأنبياء.
الثالثة : السنة النبوية الشريفة والصلح.
الرابعة : الصلة والتداخل بين الجهاد والصلح.
الخامسة : أولويات الصلح ،ومنها ما ورد في آية البحث بتقديم الصلح بين الناس على اليمين.
السادسة : غايات الصلح.
السابعة : الآثار والمنافع المترتبة على الصلح.
الثامنة : الأضرار الإجتماعية والمالية والبشرية وغيرها التي يدفعها الصلح ويمنع من حصولها.
التاسعة : الإسلام والصلح ، قال تعالى [وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ]( )، ليكون النسبة بين قوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( )، وهذه الآية عموم وخصوص مطلق ، ولم يرد لفظ (الصلح) في القرآن إلا في الآية أعلاه مع كثرة مشتقات الصلح فيه ، كالنسبة بين الناس والمسلمين ، وكذا ذات النسبة بين آية (والصلح خير) وقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
العاشرة : الصلح عند الأمم الأخرى.
الحادية عشرة : الصلح في القوانين الدولية قديماً وحديثاً.
الثانية عشرة : حاجة الإنسان والمجتمعات للصلح.
الثالثة عشرة : تدعو الآية المسلمين لتكون لهم الريادة في الإصلاح، فمن فلسفة الخطاب في المقام انه موجه للمسلمين بينما ورد الإصلاح (بين الناس) وهو مطلق يشمل :
الأول : بين المسلم واخيه المسلم.
الثاني : بين المسلم والكتابي.
الثالث : بين الكتابي والكتابي.
الرابع : هل يشمل الإصلاح والصلح والسعي فيه غير الكتابي مع عدم ورود تقييد؟ الجواب: نعم وهذا الإصلاح رحمة عامة ونوع هداية ودعوة للإيمان او مقدمة للرشاد ودرء الفتن.
الرابعة عشرة : الصلح من مصاديق خلافة الإنسان ، قال تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الخامسة عشرة : الإصلاح في الآية اعم من فك الخصومة وتبديد النزاعات فيشمل نشر مبادئ الإسلام وتنقية القلوب وتوجيهها نحو افعال البر والصلاح، واليمين بالله لا يقف دون هذه الوجوه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، انه في هذه الصورة قيد شخصي يفرضه المكلف على نفسه، وتأتي الآية الكريمة كترخيص منه تعالى لحل اليمين وفك قيده وجعـل المكلف يعمل بالعمـومات الموجهة اليه والى غيره من المكلفين جميعاً.
السادسة عشرة : من اعجاز الآية ان الله عز وجل يصلح الفرد ليبقى يعمل ضمن التكاليف النوعية العامة، وان القــرآن والإنصات له قد ينقـض ما ابرمه الشخص وان كان يظن صوابه فتأتي الآية لتخبره بالحـجة والبرهان بعدم لزوم تعاهد المرجوح وبقائه على ما اتخذ من موقف شرعي واقامته عليه، وتدعوه للأهم والأنفع والأصلح، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]( ).
السابعة عشرة : تظهر الآية نوع التعارض بين اليمين الشخصية والمصلحة النوعية العامة واتباع المرجح الشرعي عند التعارض.
تفسير قوله تعالى[وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]
الأولى : قاعدة كلية وخاتمة كريمة للآية الشريفة.
الثانية : ان الله عز وجل يسمع الأيمان والمواثيق ويعلم مواضيعها والتقيد باحكامها او عدمه ، قال تعالى [وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الثالثة : يدل آخر الآية على لزوم التقيد بما فيها من الاحكـام الا ان يرد دليل على الخلاف.
الرابعة : خاتمة الآية بشارة الأجر والثواب لمن يتقيد بأحكامها ، وتنزيه مقام الربوبية من كثرة الحلف من الخير ، وكذا بالنسبة للبر وعمل الصالحات والسعي في الإصلاح بين الناس ، ودرء الفتنة ، لتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على حرمة الإرهاب وما فيه من الشر والضرر ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الخامسة : الآية وعد ووعيد، وبشارة وانذار فقد احاط سبحانه بكل شىء علما.
السادسة : خاتمة الآية تذكير بصدرها وحث على لزوم التقيد بما جاء فيه.
عدم جعل اليمين المرجوحة حائلاً دون اعمال البر والتقوى.
السابعة : لو دار الأمر بين التقيد باليمين وبين الإتيان بالراجح من الأفعال، فالآية تحث على الراجح منه.
الثامنة : قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الرحمن بن سمرة : اذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فإت الذي هو خير وكفر عن يمينك”، وهو من مصاديق الآية الكريمة فالأولوية ليست لليمين اذا كانت الغبطة والمصلحة فيما هو خلافها.
التاسعة : تعطي الآية الأولوية للهدى والرشــاد والبر ولكن هذا لا يعني اباحة كثرة اليمين ، فالآية ذات مضامين متعددة وتنهى عن كثرة اليمين ، وتمنع من اتخاذه في حال حصوله برزخاً دون اتيان الخيرات، وهذا المنع لا يتعلق بكثرة اليمين وحدها بل يشمل كل يمين.
العاشرة : لو كانت اليمين راجحة حين عقدها ولكنها اصبحت مرجوحة فيما بعد فالآية الكريمة تشملها ويجوز حلها من غير كفارة وقد يجب.
الحادية عشرة : خاتمة الآية توكيد لحقيقة ثابتة وهي ان جميع الأشياء حاضرة عند الله تعالى فهو يسمع الأيمان التي يأتي بها كل مكلف، ويعلم رجحانها او عدمه.
الثانية عشرة : الآية تنبيه للإلتفات الى النفس وتحصين اللسان مطلقاً والسيطرة عليه وفيها دعوة لإتيان الصالحات ونشر أحكام الدين وافشاء المعروف والنهي عن المنكر والتقيد باحكـام الآيـة وعدم الوقوف عند اليمين كحاجز عن افعال البر والتقوى.
بحث فقهي
اليمين في اللغة يطلق على الجارحة والجانب والجهة المخصوصة واطلق على الحلف لأنه عنوان القدرة والإمضاء ولأنهم كانوا يتصافقون باليد اليمنى اذا تحالفوا وهو في الإصطلاح الحلف والقسم بالله عز وجل والجمع ايمن وايمان، واللفظ مؤنث.
ويمكن تقسيم اليمين تقسيماً استقرائياً الى:
الأول: يمين العقد: وهي التي تقع تأكيداً وتحقيقاً لما بنى عليه والتزم به من ايقاع امر او تركه في المستقبل كقولك: والله لأحجن، او لأتركن المزاح وهذا القسم هو العمدة في المقام فهو الذي ينعقد عند اجتماع الشرائط ويجب بره والوفاء به.
وحنثه لا يجوز فان الكفارة تقع فيه عند تحققه.
والحنث -بالكسر- في اليمين: نقضها والنكث فيها وعدم الوفاء بموجبها ، قال تعالى [فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثاني: يمين المناشدة: وهي المتوجهة الى الغير لحثه على انجاح المقصود كما لو قلت لأخيك اسألك بالله ان تصل رحمك، وقد يكون سؤال الترك في المستقبل كما لو قلت له: اسألك بالله ان تترك التدخين .
ويسمى السائل هنا الحالف والمقسم اما الذي يسئل فيسمى المحلوف عليه، وهذه اليمين لا تنعقد ولا يترتب على عدم الإمتثال والإلتزام بها اثم ، ولا كفارة على الحالف في احلافه ولا على المحلوف عليه في عدم انجاح مسؤوله وعليه الإجماع وبعض الأخبار.
يكره رد السائل والحالف مع القدرة ولو على نحو الموجبة الجزئية والشيء اليسير خصوصاً ان كان متوسلاً بالله عز وجل واسمائه الحسنى وبما هو مقدس في الشريعة، وكتب الأدعية مملوءة بهذا القسم من اليمين كصيغة مباركة من صيغ الدعاء ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]( ).
الثالث: يمين اللغو: وهي التي ليس معها قصد وغاية، منه سبق اللسان الى اليمين وجريان العادة مما لا يكون طريقاً لتثبيت امر أو نفيه كقول المرء اثناء كلامه لا والله، وهل يدخل فيه يمين الصبيان .
الأقوى لا، لخروجه بالتخصيص، للأحكام الخاصة بالصبيان من حيث التكليف وعدمه، وهذا لا يمنع من لزوم تأديب الصبيان وحثهم على عدم اللجوء الى اليمين ولو في حال الصدق ومطابقة الواقع.
ولا يجوز أخذ الأجرة عليها ، قال تعالى [وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى]( )، وقال تعالى [وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ]( ).
الرابع: اليمين الصادقة: وهي الحلف على الماضي والحال بصدق وحق سواء كان على نحو الإقرار او الشهادة او لفك خصومة ونحوها وليس فيها كفارة لموافقتها الواقع والحق.
الخامس : اليمين الغموس : وهي الحلف على الماضي او الحال مع تعمد الكذب وتضييع حق امرئ مسلم، سُميت بالغموس لأنها تغمس صاحبها في النار وفي بعض الأخــبار انها من الكبائر، وانها تدع الديار بلاقع.
السادس : لا تنعقد اليمين الا باللفظ او ما يقوم مقامه كاشارة الأخرس، والأقوى عدم انعقادها بالكتابة، وادعي الإجماع على عدم كفاية الكتابة في الإنشائيات، ويمكن ان يناقش هذاالإطلاق خصوصاً مع ما للكتابة من اعتبار في هذا الزمان.
السابع : تصح اليمين في اية لغة كانت خصوصاً في متعلقها وموضوعها.
الثامن : لا تنعقد اليمين الا اذا كان المقسم به هو الله عز وجل سواء بذكر اسمالجلالة او الأسماء الحسنى او الأوصاف الخاصة به التي لا يشاركه سبحانه فيها غيره، كقول الحالف ورب السماوات والأرض، والذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وتصدق ايضاً بالأفعال المشـتركة التي تطلق في حقه تعالى في الغالب وان صحت في حق غيره من مخلوقاته ولكن اطلاقها ينصرف اليه سبحانه بالتبادر والعرف كالرب والرحيم اذ ان استعمالها في غيره يحتاج الى قرينة ومؤونة زائدة، ولو حلف بالمشترك مثل: الموجود الحي السميع فان نوى ذاته المقدسة انعقد اليمين اذا كان في يمين العقد خصوصاً مع القرينة المعتبرة على .
التاسع : اليمين الشرعية اعم مما ذهب اليه اهل اللغة باختصاص التاء الإختصاص اما لو كانت اليمين متعلقة بحق الغير فالأولى اجتنابها.من حروف القسم في (تالله)، بالدخول على لفظ الجلالة والواو على الأسماء الظاهرة جميعها، والباء وهي الأصل فتدخل على الظاهر والمضمر، ولو أنشأ اليمين بصيغة القسم والحلف أقسمت بالله او حلفت بالله صح، نعم لا يكفي لفظ أقسمت او حلفت بدون لفظ الجلالة وما هو بمنزلته.
العاشر : يعتبر في اليمين القربة اي ان المراد بها وجه الله وهو ظاهر في الصيغة لأن الحلف به تعالى، والقربة ليست غاية لليمين او النذر، والأقوى ان الرياء لا يفسدها.
الحادي عشر : لا ينعقد اليمين الشرعي بالحلف بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام وسائر النفوس المقدسة المعظمة ولا بالقرآن الكريم والكعبة المشرفة وغيرها من المواضع والأزمنة الشريفة المباركة وعليه النص والإجماع.
الثاني عشر : لا ينعقد اليمين بالطلاق والعتاق بان يقول: زوجتي طالق إن فعلت كذا فلا يحصل الطلاق بحنث هذا اليمين ولا تترتب عليه كفارة ، وهو كاللغو في اليمين.



قوله تعالىقوله تعالى [ لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ] الآية 225.
الإعراب واللغة
لا: نافية
يؤاخذكم:
يؤاخذ : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
كم : ضمير في محل نصب مفعول به .
الله: لفظ الجلالة فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
باللغو :
الباء : حرف جر .
اللغو : اسم مجرور وعلامة جره الكسرة متعلق (بيؤاخذ),
في أيمانكم : في حرف جر .
أيمانكم : اسم مجرور وعلامة جره الكسره وهو مضاف ,
الضمير (كم) مضاف إليه .
ولكن: الواو عاطفة.
لكن: مهملة للإستدراك.
يؤاخذكم :
يؤاخذ : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
والفاعل : ضمير مستتر تقديره (هو) يعود لله عز وجل .
بما: الباء حــرف جــر، ما: اسم موصول في محل جر، ويجوز ان تكون مصدرية.
كسبت : فعل ماض مبني على الفتح ,والتاء للتأنيث حرف مبني على السكون .
قلوبكم : فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره .
كم : ضمير متصل مبني على السكون في محل جر بالإضافة ,
وجملة كسبت قلوبكم لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الاسم الموصول (ما) .
والله غفور رحــيم :
الواو اسـتئنافية.
الله: لفظ الجلالة مبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره .
غفور : خبر مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره .
حليم : خبر مرفوع بالضمة الظاهرة .
وجملة ( الله غفورحليم ) لا محل لها من الإعراب .
والأخذ: خلاف العطاء، وآخــذه بذنبه مؤاخذة: عاقبه، وفي الحديث: “من اصاب من ذلك شيئاً أُخذ به”، ويقال أُخذ فلان بذنبه: عوقب به.
واللغو: السقط من الكلام (وما لا يعتد به من كلام وغيره) ( )، واللفظ الخالي من الفائدة والنفع قال تعالى [وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا]( )، لا تسمع فيها لغواً ولا تأثيماً [لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً]( )، وقال الشافعي: اللغو في لسان العرب الكلام غير المعقود عليه.
في سياق الآيات
بعد النهي والتحذير من المسارعة والمبادرة الى اليمين، وبعد الحضّ على التقوى والصلاح، جاءت هذه الآية لتتضمن استثناء وتثبيتاً، وطرداً وعكساً، وتبين الفرد من الأفعال الذي لا تترتب عليه العقــوبة والإثم، ومصاديق اليمين الشرعية التي يترتب عليها الأثر.
وعند جمع هذه الآية مع الآية التالية لوحــدة السياق والموضوع والملاك يظهر انحلال النهي الى امرين، الى نهي تنـزيهي ونهي تحريمي، فما كان من اليمين لغواً فالنهي عنه تنزيه وارشاد.
و(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بعثت بالحنيفية السمحة) ( ).
وآية البحث من الحنيفية , ومن الإعجاز فيها جميعاَ للتخفيف والعفو , والمؤاخذة في ذات الموضوع الواحد مع التباين في الرتبة , فلا مؤاخذة على اللغو في اليمين وكثرته مثل بل والله , لا والله , ولكن المؤاخذة على اليمين التي تكون توثيقاَ لقول أو فعل أو اليمين التي تكون على الشهادة كما في هذا الزمان حيث تقترن الشهادة في القضاء باليمين الشرعية التي لا تنعقد إلا بالحلف بالله عز وجل , ومن التغليظ وضع اليد على القرآن عند الحلف , أو على الكتاب المقدس بالنسبة لأهل الكتاب .
وهل تبيح الآية اللغو في اليمين الجواب لا , للنهي في القرآن والسنة عن اللغو مطلقاَ , وللدلالة على وجوب تنزه المؤمنين عن اللغو وعن الإنصات له والإنشغال به , إذ ورد لفظ اللغو خمس مرات في القرآن مرتين بخصوص اليمين والحلف كما في آية البحث والآية من سورة المائدة , وورد ثلاث مرات في الآيات :
الأولى : قال تعالى [وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ] ( ).
الثانية : قال تعالى [وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا]( ).
الثالثة : قال تعالى [وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ] ( ).
والنسبة بين اللغو المذكور في الآيات أعلاه وبين يمين اللغو عموم وخصوص مطلق , وفيه بشارة تنزه مجتمعات المسلمين عن اللغو في اليمين .
ومن الإعجاز مجئ آيات الحج بالنهي عن الجدال ومنه اللغو في اليمين , قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
ومن معاني الجدال في الآية أعلاه ذات الجدال بين شخصين أو أكثر والسباب والإختلاف المذهبي , والمراد والإختلاف على يوم هلال ذي الحجة , ويوم الحج وإرادة الإنشغال بالتلبية وأداء المناسك والتقدير : لا يشغلكم الجدال عن اتيان المناسك وأداء الصلاة في أوقاتها , والإستغفار .
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج }( ) قال : الرفث الاعرابة والتعريض للنساء بالجماع ، والفسوق المعاصي كلها ، والجدال جدال الرجل لصاحبه)( ).
لبيان أن الحج وأشهر الحج مناسبة لتنمية ملكة الصدق عند المسلمين والمسلمات وإعراضهم عن اليمين الكذب وعن اللغو في اليمين وجاءت الآية التالية بخصوص اليمين في الحياة الزوجية بقوله تعالى [لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
أي لحلف أحدهم بالله عز وجل لإمرأته بأنه لا يتركها ولا يغشاها أو يقول : والله لا يجتمع رأسي ورأسك إذا حلف .
وكان الجاهلية يعدون الإيلاء طلاقا .
(عن ابن عباس في قوله { للذين يؤلون من نسائهم }( ) قال : هو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها فيتربص أربعة أشهر فإن هو نكحها كفر يمينه ، فإن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها خيره السلطان إما أن يفيء فيراجع ، وإما أن يعزم فيطلق ، كما قال الله سبحانه وتعالى .
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والطبراني والبيهقي والخطيب في تالي التلخيص عن ابن عباس قال : كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك فوقت الله أربعة أشهر ، فإن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء) ( ).
ومن معاني الجمع بين آية البحث والآية التالية عدم ترتب الأثر على يمين الإيلاء , ويحق للرجل الرجوع إلى زوجته ووطأها .
وقد اختتمت آية البحث بقوله تعالى [سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) فهو سبحانه يسمع الأيمان وكثرتها , ويثاب الذي يمتنع عن اللغو في اليمين , وعن اليمين الغموس التي هي الكذب في اليمين , وبخلاف الحق وسميت غموساَ لأنها تغمس صاحبها في النار .
وكل من الآية السابقة وآية البحث والآيات القليلة التالية خطاب للمسلمين , وتنظيم لشؤون الأسرة وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بضبط أحوال الأسرة المسلمة إلى يوم القيامة , ومنع كثرة الخصومة فيها وأراد الله عز وجل أن يخفف عن القضاة والمحاكم الوضعية بان يكون القرآن فيصلاَ وحكماَ , وهذه الآيات مع قلة كلماتها فقد اختتمت كل واحدة منها بثلاثة أسماء من الأسماء الحسنى وهي لبيان سعة رحمة الله عز وجل بالمؤمنين والمؤمنات في بيوتهم , واللطف في أولادهم , ولزوم العناية بتربيتهم واصلاحهم , وكانت خاتمة الآيات كالآيتين , وكل خاتمة لها دلالة في المقام .
اختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) , واختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( ) , واختتمت الآية التالية [فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) , وخاتمة الآية بعد التالية [فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) , وخاتمة الآية [وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ) .
وقد ورد اسم الجلالة في كل آية منها اسم الجلالة في الخاتمة , نعم ورد في الآية (228) ثلاث مرات منها اسم الجلالة في خاتمة الآية , ولم يرد في الآية (227) إلا في خاتمة الآية .
إعجاز الآية
تظهر الآية الكريمة عظيم فضل الله تعالى في عدم عموم حكم اليمين وشموله لما يصدق عليه انه لغو، والإنذار والتخويف والتحذير من السوء ليكون هذا الانذار عوناً ومقدمة لتهذيب النفوس وتخليصها من الأدران.
وفي الآية اخبار بان الله عز وجــل يعلم ما تخفي الصدور، ومن اعجازها انها تفكك النهي المركب الوارد في الآية السابقة وتظهر رفع العقاب في بعض وجوهه تخفيفاً ورحمة وكأنها بيان وتفصيل للآية السابقة.
وهذا من اعجاز القرآن وما فيه من مجمل ومبين، وجاء الأمران هنا احدهما يتعقب الآخر.
ومن اعجاز الآية المصاديق العملية لها، في خلق مجتمعات اسلامية تتصف باجتناب اللغو وكثرة اليمين، والى الآن ترى المسلمين يحرصون على عدم الإكثار من اليمين حتى في حال الصدق وارادة حسم الأمر او تصديق او نفي خبر.
وهو من مصاديق استدامة العمل وإلى يوم القيامة بقوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
ومن الإعجاز في آيات اليمين التوكيد من عند الله عز وجل على وجوب تعاهد اليمين والوفاء بها لأنها وثيقة وعهد وتوثيق , وإلزام للنفس على فعل أو ترك .
فمن إعجاز القرآن مجئ الأمر من عند الله عز وجل بحفظ اليمين , وجاء هذا الأمر الذي يفيد الوجوب بعد الإذن بكفارة اليمين وفي ذات الآية بقوله تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
ويمكن تسمية هذه الآية آية (ُ يؤَاخِذُكُمْ) وقد ورد هذا اللفظ أربع مرات في القرآن اثنين في هذه الآية , واثنين في آية من سورة المائدة بذات الموضوع مع ذكر كفارة حنث اليمين بقوله تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
تبعث الآية المسلمين على استحضار علم الله عز وجل بما يقولون والغاية من القول والفعل , قال تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ]( ).
وهل عدم المؤاخذة في الآية باللغو مطلقاَ أم خصوص اللغو في الأيمان والحلف , الجواب هو الثاني للقبح الذاتي للغو , ولمجئ الآيات باعراض المؤمنين عنه .
ويمكن تسمية آية البحث آية (لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) وقد ورد هذا اللفظ في القرآن بمعنى جمع اليمين والحلف في كل مرة .
الأولى : الآية السابقة .
الثانية : آية البحث .
الثالثة : قوله تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ أيمانكم في هذه الآية ثلاث مرات , لذا يمكن تسمية هذه الآية آية (أيمانكم) .
الرابعة : قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ] ( ).
الخامسة : قوله تعالى [قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( ).
وورد لفظ (أيمانكم) عدة مرات في القرآن ويراد منه ملك اليمين , وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى [وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ]( ).
الآية سلاح
في الآية تخفيف ورحمة ودفع للخوف والوجل من كثرة الأيمان واللغو فيها وسبق اللسان اليها، وتأديب وارشاد الى مراقبة النفس ومنعها من اضمار الغل والحقد والعزم على الشر ، ومن الكلام الفارغ وما دام الإنسان في النشأة الدنيوية فان التكليف مصاحب له ابتلاء واختباراً وامتحاناً، فجاءت الآية عوناً وسلاحا.
تريد الآية للمسلم الإحتراز من اليمين وآثاره وان لا يصدر الا عن نية وقصد، والخطأ والزلل في اليمين يؤدي الى الجهالة والغرر لأنه شاهد توثيق على القول والفعل.
فجاءت الآية لمنع الضرر وضبط اللسان وترك الإصرار والعناد فاذا حلف إنسان على شيء ثم يتبين خلافه فقد يبقى مصراً ويصعب عليه التدارك مع وجوبه .
فجاءت الآية عونا ًعلى التدارك واختيار الراجح والأولى.
وجاءت آية قرآنية أخرى تشبه بدايتها بداية آية البحث ، ولكنها تتضمنت التخفيف والكفارة وقاعدة منع الحرج إذ قال تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ .
ليأخذ المسلم الحيطة والحذر ويحسن سريرته , ولا ينوي إلا ما هو خير وفلاح , وتبعث آية البحث المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , الأمر بقول الحق والصدق والنهي عن يمين اللغو , والإمتناع عن اليمين عند الغضب , قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
مفهوم الآية
الآية رحمة وبيان لفلسفة الحساب والعقاب، فمع ان الآية السابقة تنهى عن كثرة اليمين والمسارعة اليها، وتحث على تنزيه مقام الربوبية فان هذه الآية جاءت لذكر موارد العفو والرحمة الإلهية وعظيم رأفته بالمسلمين بالعفو عن اللغو في الأيمان، ان عدم المؤاخذة هذا لا يعني التعارض مع ما في الآية السابقة من الأوامر التي جاءت بصيغة الخبر والتأديب بل انها تؤكد على وجود منزلة وبرزخ بين النهي المولوي الذي يدل على استحقاق المخالف للعقاب، وبين النهي الإرشادي والتعليمي.
وهذه الآية رحمة ومن موارد التخفيف وعدم ترتب الأثر على سبق اللسان اذا لم يكن في محرم، وقد يكون من مفاهيم هذه اليمين التعلق بذكر الذات المقدسة والمبادرة الى ذكر الله تعالى، فجاء النهي التنزيهي عن اللغو فيها وعدم المؤاخذة فيه بين ثنايا المنع عنه، والدعوة للكف عنه.
وفي التنزيل [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ) ومن التقوى التقيد بقواعد وسنن اليمين والحلف .
وهذه الآية سلاح بيد المؤمنين للتأديب وترك كثرة اليمين مع الميل الى التعامل بصدق من غير اللجوء الى الحلف والمسارعة اليه في حالات اللعب والمزاح والأمور البسيطة وافراد التعامل اليومي في البيت والعمل والشارع والسوق.
ومن الإعجاز ان التخفيف وعدم المؤاخذة لم يترك بمفرده في الآية لما في هذا الترك من ميل الناس الى الخمول والسكون الى العفو بل جاءت لتتضمن موارد الحساب وأسباب اللوم والمؤاخذة وهي أعمال القلوب ونوايا السوء وما يبتنى عليها من الأفعال والأعمال.
فالآية الكريمة ذكرت باباً من أبواب العفو والتخفيف ، وجاءت باصلاح السرائر وتهذيب النفوس وحثت على ترك الضغائن واجتناب نوايا السوء وارادة الشر والعزم على الإيذاء.
ومن الإعجاز في الآية ان الإثم يترتب على كسب القلوب ونوايا السوء بالإضافة الى ترجمة النية الى فعل في الخارج للعمومات الواردة بعدم المؤاخذة على النية ما لم تصبح فعلاً خارجياً حاصلاً والقرآن يفسر بعضه بعضاً فيتجلى تأويل كسب القلوب بانعقاد اليمين وصدورها عن ادراك، وفي حال الإختيار وعدم الغضب.
و(عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يروي عن ربه : من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة ، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله ، ولا يهلك على الله إلا هالك.
وأخرج أحمد ومسلم وابن ماجة وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يقول الله عز وجل : من عمل حسنة فله عشر أمثالها وأزيد ، ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو اغفر ، ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئاً جعلت له مثلها مغفرة ، ومن اقترب إليَّ شبراً اقتربت إليه ذراعاً ، ومن اقترب إلى ذراعاً اقتربت إليه باعاً ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)( ).
والله تعالى واسع المغفرة ويمهل العباد ويتجاوز عن سيئاتهم، واجتماع صفة المغفرة والحلم في خاتمة آية البحث فضل واحسان على المسلمين.
ففي هذا الإجتماع مندوحة وسعة ومناسبة للتذكرة والإعتبار والتدارك لذا جعل الله عز وجل مدة الحياة الدنيا كلها مناسبة للإستغفار ومحو الذنوب ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
ولم تنحصر مدة المغفرة بسن معينة او فعل مخصوص .
بحث كلامي
من حلم الله تعالى عدم المؤاخذة على اللغو في الأيمان مع ان الآية السابقة نهت عن جعل الله سبحانه عرضة للأيمان فعدم المؤاخذة جاء من موارد صفة المغفرة والحلم، أي ان ترك الأيمان في حال اللغو هو الأولى والأنسب والأجدر بالمسلمين.
ومن حلم وسعة الله عز وجل قوله تعالى في وصف يوم القيامة والحشر [وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ]( ) ولم تقل الآية للعزيز أو للجبار لبعث السكينة في النفوس , وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وقد ورد ذكر اللغو في القرآن مطابقاً للمعنى اللغوي كما في قوله تعالى [لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا]( )، [وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا]( )، مما يعني عدم ترتب الأثر على اللغو الا ان يراد من اللغو في الآية محل البحث معنى اخص.
و(عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَيْتَ) ( )، ان اللغو مذموم شرعاً وعقلاً وعرفاً.
وجاءت الآية للإخبار عن عدم ترتب أثر شرعي عليه، وهي في مفهومها ذم له ودعوة لإجتنابه .
وتدل الآية ايضاً على عظيم لطف الله عز وجل واحسانه بالتجاوز عنه وفيه مسألة كلامية وهي ان التجاوز الإلهي لا ينحصر بالذنوب ومغفرتها بالتوبة والإستفهام او بفضل من الله تعالى فقد يرد التجاوز ابتداء من كرم الله عز وجل.
ومنهم من حصر يمين اللغو بما اذا حلف على ترك طاعة او فعل معصية، وهو التفات لطيف ولكنه تقييد لسعة رحمة الله تعالى، او ان مفهوم اللغو في الآية يحمل على المعنى الأعم ولا يخصص من غير مخصص ودليل معتبر، فما ذكر يمكن ان يكون أحد أهم مصاديق اللغو.
وتجد تعارض بين اللغو والمعنى اللغوي لليمين واشتقاقه من القوة كأن اليمين تقوى وتوثق القول وتمنع من الحنث.
ولكن أصالة الإطلاق ظاهرة في المقام سواء بخصوص الحاضر والمستقبل أو الماضي , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ) ومن وجوه البيان أحياناَ اليمين .
وقال الرازي: (اما اذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التقوية البتة) ( ).
واللغو الكلام الذي لا يدل على معنى مخصوص ذي نفع وهو على أقسام :
الأول : ما لا يعتد به من الكلام بحيث لا يلتفت اليه ولا يبقى في الحافظة، وغالباً لا يترتب عليه أثر.
الثاني : الكلام الباطل.
الثالث : الفحش من الكلام.
وقالوا يطلق اللغو على :
الأولى : الكذب، ولكن الكذب أخص لترتب الأثر عليه ولأنه فعل مقصود بنية وغاية.
الثانية : اللهو والغناء، ولكن بينهما وبين اللغو عموم وخصوص مطلق، فاللهو والغناء لغو، وليس اللغو غناء ولهواً.
لقد ورد موضوع اللغو في الآية كالحال والمحمول اذ ان الموضوع هو اليمين، وأحكام الآيات تتعلق به، ولأنه مسألة شرعية وعقائدية تترتب عليها آثار واقعية وتشملها الأحكام التكليفية الخمسة من الوجوب والحرمة والإستحباب والكراهة والإباحة.
وجاء البيان والتفصيل في أحكامه، وتنقيحه من الشوائب اللسانية والعادات الذميمة .
وفيه دلالة على ارتقاء الشريعة الإسلامية، وما تتضمنه من الدقة والضبط في الأحكام والشرائط التي تمنع اللبس والجهالة والغرر.
تبين الآية وجود مؤاخذة وعقاب، وان الذي يعاقب هو ، وقد جاءت الآية بصيغة الخطاب ولغة الجمع مما يدل على ان المسلمين معرضون للحساب.
وذكر ان المؤاخذة هي العقاب، وعندي انها في المقام أخف وأدنى من العقاب بمراتب عديدة، في دلالة على اكرامه تعالى للمسلمين في باب اليمين وان صيغة الخطاب معهم مباينة ومغايرة لصيغ الوعيد والتخويف مع الكافرين والظالمين، هذا بالإضافة الى التخفيف في اسقاط المؤاخذة على اللغو في اليمين.
ولماذا ورد الخطاب خاصاً بالمسلمين، الجواب كي يخرج الكفار مما فيه من الرحمة والتخفيف بالتخصص اذ انهم غير مشمولين بالكيفية الخاصة بهم.
الصلة بين أول وآخر الآية
بعد أن اختتمت الآية السابقة بثلاثة من الأسماء الحسنى لتكون مدداَ وعوناَ للمسلمين للعمل بمضامين الآية السابقة وهذه الآية ابتدأت آية البحث بحرف النفي (لا) لتتضمن الرأفة والعفو من عند الله عز وجل على اللغو في اليمين , ويمين اللغو , وهل هو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) أم أن عدم المؤاخذة من الأصل وليس من المحو , المختار هو الأول فهو من فضل الله عز وجل , ومن محو ما يستحقه العبد على اللغو في اليمين من الإثم والعقوبة لتكون آية البحث نعمة وبشارة للمسلمين مع مجئ الآية السابقة بلزوم التنزه عن كثرة اليمين , والنسبة بين جعل الله عز وجل عرضة للأيمان كما في الآية السابقة بين اللغو في اليمين عموم وخصوص مطلق , فموضوع الآية السابقة أعم , لذا فهي حجة في المقام ولكن الله عز وجل تفضل على المؤمنين ومحى عنهم عقوبة اللغو في اليمين , وهل مؤاخذة بها غيرهم الجواب نعم .
والتحقيق في آية البحث من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ) , ومن اللطف والإحسان الإلهي للمسلمين مجئ هذه الآيات بصيغة الجمع من أطراف :
الأول : صيغة الجمع في الخطاب (لا يؤاخذكم).
الثاني : اللغو في اليمين .
الثالث : كثرة الأيمان التي تصدر عن لغو وغضب وجدال ومزاح ونحوه.
ولم تكتب الآية بالإخبار والبشارة على عدم المؤاخذة , إنما تضمنت المؤاخذة والحساب على النوايا والقصد في اليمين سواء كانت في حق أو باطل , فيثاب الذي يحلف على الحق عند الحاجة إلى اليمين , ويؤثم الذي يحلف على الباطل .
وموضوع خاتمة الآية وكسب القلوب أعم من اليمين والحلف , لذا اختتمت الآية بقوله تعالى [وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( ) لبيان إمهال الله عز وجل للعباد في الحياة الدنيا وأن مغفرة الله عز وجل تشمل اللغو في اليمين وغيره , ليكون معاني خاتمة الآية دعوة المسلمين والمسلمات إلى الإكثار من الإستغفار .
من غايات الآية
ابتدأت الآية السابقة بصيغة النهي ولا تجعلوا , وابتدأت هذه الآية بصيغة النفي التي لم تبدأ بحرف عطف , وكل من الآيتين خطاب إلى المسلمين والمسلمات في باب المعاملات وأحكام الحلف واليمين لبيان معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع تعدد غزو المشركين للمدينة وإرادتهم قتله كما في معركة بدر , وأحد , والخندق , فإن آيات القرآن تنزل ببيان الأحكام وبما فيه إصلاح المجتمعات خاصة وأن الزجر عن اليمين الكاذبة وعن اللغو في اليمين لا ينحصر موضوعه ومنافعه بالمسلمين بل ينتفع الناس جميعاَ من تقيد المسلمين بأحكام اليمين وضوابطه , ليدرك الناس معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص آية البحث من جهات :
الأولى : مجئ القرآن بتهذيب المنطق .
الثانية : إصلاح المجتمعات .
الثالثة : منع الإسلام للغش ونهيه عن الكذب , وقد جمع القرآن بين قبح عبادة الأوثان وقول الزور , قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ] ( ).
الرابعة : تنشيط الإسلام للأسواق وفق ضوابط أخلاقية وشرعية .
الخامسة : حسن المعاملة بين الناس , والآية من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) لبيان الأخلاق الحميدة في المجتمعات .
السادسة : تنزيه المسلمين من المعاملات الباطلة ومن اللغو لتفرغهم للعبادة واخلاص الطاعة لله عز وجل , قال تعالى وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
السابعة : إرادة شيوع الصلاح وحسن المعاشرة في البيوت والأسواق وعامة المجتمعات .
الثامنة : بيان خصلة يمتاز بها المسلمون عن المشركين بالإمتناع عن اليمين الغموس , وعن اللغو في اليمين .
التاسعة : التذكير بالحساب يوم القيامة , وأن الله عز وجل يؤاخذ المسلمين وغيرهم على النوايا والأعمال التي تترشح عنها , قال تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ] ( ).
لبيان التباين بين اللغو وبين اليمين عن قصد وترتب الكفارة عليه .
وورد (عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} : نيّة المؤمن خير من عمله ، وعمل المنافق خير من نيته ، وكل يعمل على نيته ، وليس من مؤمن يعمل عملاً إلاّ صار في قلبه صورتان) ( ).
وورد الحديث في صيغ أخرى متقاربة , وطرق أخرى كلها ضعيفة السند , وكذا ورد (عن النوفلي، عن السكوني،عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : نية المؤمن خير من عمله، ونية الكافر شر من عمله، وكل عامل يعمل على نيته) ( ).
ويمكن القول أن بعضها ينوب بعضاَ مع توجيه الحديث بأن الأعمال بالنيات , وأن نية العمل الصالح تصاحب العبد وتصلح سريرته بينما ينتهي العمل في حينه , كما يعمل لفظ النية على معنى الإيمان والهداية .
(وقال ابن عباس اللغو الحلف حين الغضب وقيل اللغو اليمين على المعصية)( ).

التفسير
تطل علينا آية قرآنية تتضمن الرحمة والغضب، والتخفيف وعدم المؤاخذة وتدفع النفوس للسعي والكسـب والإجتهاد، ففي الوقت الذي تقسم الآية اليمين تقســيماً استقرائياً فانها تنفي البرزخية والواسطة بين طرفيه اذ انها تتحدث عن نوعين أو أمرين في اليمين.
الأول: اللغو في الأيمان.
الثاني: ما كسبت القلوب.
والظاهــر ان الثــاني لا ينحصــر بالأيمــان فهــو مطـلق وهــذا من اعجاز القــرآن، فالموضـــوع الخاص يكـون مناسبة لقاعدة كليــة لأن القـرآن مدرسة الأجيال ومصدر التهذيب والصلاح والإرشاد، واليمين نوع عمل وقصد وتترتب عليها آثار خارجية تتعلق بالأفراد والممتلكــات والأعــراض والمجتمعات لــذا جـاء التوكيد والتغليظ فيها.
فان قلت : كيف صارت اليمين من كسب القلوب؟ قلت: ان اليمين تارة تنبأ عن مشاهدة او سماع لحــادثة او واقعة تتعلق بالآخرين، واخرى تتضمن عهداً وميثاقاً لله عز وجل بفعل شيء او تركه، وفي الصورتين لا يعلم كنه حقيقة ما في قلب الإنسان وما رسخ في ذاكرته وحافظته الا الله عز وجل .
فجاءت الآية للتحـذير والإخبار بترتب الحكم على النوايا والمقاصد ومطابقة القول والفعل للواقع والإدراك، فقد يحكم الحاكم على ضوء الشهادة واليمين، فان كانت شهادة زور او لم تثبت على الصــدق والقول بالحق فان مفاســد عديدة تترتب على هذه اليمين فيستحق العبد العقاب والمؤاخذة.
و(عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : انما انا بشر وانه يأتيني الخصم ولعل بعضهم ان يكون ابلغ من بعض فأقضى له بذلك واحسب انه صادق فمن قضيت له بحق مسلم فانما هو قطعة من النار) ( ).
وهل اليمين من اللحن في المقام , الجواب نعم .
قوله تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ]
موضوع هذه الآية مسألة ابتلائية في كثير من المجتمعات والأزمنة، ولكن نفعها شامل ويتغشى كل المجتمعات والأمم والأشخاص بما فيهم الذين يتجنبون اليمين حتى في حال الصدق والحق، لأنها زجر للذي يتهاون في أحكام اليمين وتأديب وثناء على الذي يحرص على تنزيه مقام الربوبية ويجتنب كثرة اليمين.
لقد جاءت هذه الآية بالنهي عن اللغو بقيدين:
الأول : اللغو المتعلق باليمين.
الثاني : لغة الخطاب وارادة المسلمين.
أما الآية من سورة الفرقان [وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا]( ).
ومن معاني هذه الآية الصبر على أذى المشركين والصفح عن شتمهم للمسلمين , و (عن أبي بَكْرَة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : “ألا أنبئكم بأكْبر الكبائر” ثلاثا، قلنا: بلى، يا رسول الله،
قال: “الشرك بالله، وعقوق الوالدين”. وكان متكئًا فجلس، فقال: “ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور [ألا وقول الزور وشهادة الزور].
فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت) ( ).
فانها جاءت بذكر اللغو مطلقاً، وان في مصدره وجهته ، في دعوة للمسلمين للتنزه من مواطن اللغو.
وكأنها مقدمة للآية محل البحث، فمتى ما أعرض المسلم عن قصد عن أهل اللغو واللهو، فانه يمتلك الملكة والأهلية لإجتناب اللغو في اليمين.
والآية رخصة وتخفيف ورحمة ورفع لإضـطراب النفس والفزع من اللغو في اليمين الذي يحتمل وجوهاً:
الأولى : اعتياد الناس على قول لا والله، بلى والله من غــير عقد النية والعزم بارادة اليمين.
الثانية : اقدام الإنسان على الحلــف مع ظنه انه صادق في قوله ويمينه ثم يتبين انه كاذب او ان يمينه بخلاف الواقع والصدق فلا اثم ولا كفارة، وبه قال الحسن ومجاهد وقتادة وغيرهم، وهو قول ابي حنيفة , ولكن لابد من التدارك خاصة في حقوق الناس .
الثالثة : يمين الغضبان، عن ابن عباس وطاووس( ) ولعله لفقد الإنسان ساعة الغضب السيطرة عــلى لسانه ولو على نحو السالبة الجزئية.
الرابعة : كل يمين ليس له وفاء، عن مسروق، وقال لا يجب فيه كفارة( ).
ويمكن ان نضيف لها:
الأول : سبق اللسان الى اليمين في الحديث والوعـد والتوكيد سواء كان هذا السبق لتعلق اللسان بذكر الله عز وجل او للمـيل الى التوثيق او للجوء اليه تعالى او للعادة.
الثاني : اللغو اعم من القول (لا والله) فيشمل كثرة الكلام عن اليمين مثل: انا مستعد ان احلف، وقد لا يكون على استعداد لليمين، او يقول للآخر هل تحلف وكيف تحلف ومن يحلف وهكذا، خصوصاً وان اليمين الشرعية لا تصح الا بأمر الحاكم وامامه.
الثالث : قد ورد ذكر اللغو في القرآن مطابقاً للمعنى اللغوي، كما هو ظاهر قوله تعالى [وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ اَعْرَضُوا عَنْهُ]( ) ، أي ان مضمون الآية أعم من بلى والله.
الرابع : الآية تخفيف عن المسلمين , ومن مصاديق نفي الحرج في الدين وقاعدة لا ضرر ولا ضرار , بحيث لا يتقيد الإنسان بيمين اللغو وكثرة اليمين في أمور دنياه ومعاشه .
(عن رجل قال: امرأته طالق أو مماليكه أحرار إن شربت حراما ولا حلالا .
فقال: أما الحرام فلا يقربه حلف أو لم يحلف، وأما الحلال فلا يتركه فإنه ليس له أن يحرم ما أحل الله لان الله تعالى يقول: ” يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم “( ) فليس عليه شئ في يمينه من الحلال)( ).
فعدم المؤاخذة بشرط الإسلام، وحجب المشركون حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
وهل تشمل أحكام عدم المؤاخذة اللغو في غير اليمين من باب الأولوية، الجواب نعم الا مع سوء النية او ترتب الأثر على اللغو وتعلق الأحكام بالمصالح والمفاسد وفق الكتاب والسنة النبوية .
وتبين الآية أهمية اللسان في مواضيع الحساب والثواب والعقاب , وفي الآية وجوه :
الأولى : اللغو في الأيمان.
الثانية : عدم اللغو في الأيمان.
الثالثة : اجتناب اللغو مطلقاً.
فالآية وان كانت تخبر عن عدم المؤاخذة في اللغو في الأيمان الا انها تدل بالدلالة التضمنية على ذمه بالذات والعرض فاللغو بذاته مكروه، وتزداد كراهته بتعلق في موضوع اليمين والحق وما له من القدسية والحكم الشرعي.
الرابع : في الآية اعجاز في المضامين المتعددة للتخفيف والإعتذار، فقد يأتي الإنسان باللغو في اليمين ويسارع على نحو العادة او غيرها الى قول لا والله، او بلى والله منكــراً او مثبتاً امــراً تورية او تعجلاً او تسرعاً او مع عدم التأكد.
الخامس : نعته باللغو فيه توبيخ وتـعريض، فاللغـو مذموم شرعاً وعقلاً وعرفاً.
السادس : قد وردت نصوص عديدة في الآية مما يدل على اهميتها وموضوعيتها وكثرة السؤال عنها، وغالباً ما يكون السؤال فرع الإبتلاء ففي و(عن الإمام الصادق في قول الله عز وجل [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ]( ) يقول : اللغو قول الرجل: لا والله، بلى والله، ولا يعقد قلبه على شيء)( )، ومثله في تفسير العياشي.
والآية تستوعب وتشمل هذه المصاديق، والإحتمالات والنظائر المتعددة للآية من اعجاز القرآن لوجوه:
الأولى : اتساع التخفيف القرآني فانه يأتي بسيطاً ولكنه ينحل ويتعدد ويتسع ليشمل وقائع وحوادث وحالات متعددة.
الثانية : علم الله تعالى بضعف الإنسان وقصوره، فاراد سبحانه التيسير والتخفيف والإخبار عما تفضل به من بيان الأمور التي لا يترتب عليها أثر شرعي.
الثالثة : الرخصة والتيسير في مورد التخفيف فهو متعدد مع العزيمة والتكليف الذي يقابله فتراه في الـغالــب متحداً، كما في قوله تعالى [ َإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ]( )، فقد ورد ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج يوماَ مسروراَ فرحاَ يضحك عند نزولها ويقول : لن يغلب العسر يســرين”( )، لأن العرب اذا ذكرت نكرة ثم اعادتها نكرة مثلها صارتا اثنتين , وأعيد العسر معرفاَ فكان واحداَ , وورد مثله عن ابن عباس( ).
و عن الحسن البصري (قال : كانوا يقولون : لا يغلب عسرٌ واحد يُسْرَين ، فقال ابن مسعود : لو كان العسر في حُجر ، جاء اليسر حتى يدخل عليه ، لأنه قال تعالى { إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً }( ) ويقال : إن مع العسر وهو إخراج أهل مكة النبي صلى الله عليه وآله وسلم { يُسْراً } ، وهو دخوله يوم فتح مكة ، مع عشرة آلاف رجل في عز وشرف) ( ).
وسيأتي مزيد كلام في الجزء الثامن والثلاثين بعد المائتين وهو في قانون (لم يغزُ النبي “ص” أحداَ).
و(عن جابر بن عبد الله قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن ثلثمائة أو يزيدون ، علينا أبو عبيدة بن الجراح ، ليس معنا من الحمولة إلا ما نركب فزوّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جرابين من تمر ، فقال بعضنا لبعض : قد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أين تريدون وقد علمتم ما معكم من الزاد ، فلو رجعتم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فسألتموه أن يزوّدكم ، فرجعنا إليه ،
فقال : إني قد عرفت الذي جئتم له ، ولو كان عندي غير الذي زوّدتكم لزوّدتكموه . فانصرفنا ، ونزلت [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]( ).
فأرسل نبي الله إلى بعضنا ، فدعاه ، فقال : أبشروا فإن الله قد أوحى إليّ [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]( )، وإن يغلب عسر يسرين)( ).
السابع : لليمين مراتب وجودية متعددة لكل منها لوازم اعتقادية وشرعية واحكام تكليفية ووضعية، ومع وحدة الاسم فان المسمى متعدد ، والحكم تابع للمسمى.
الثامن : الآيــة لا تحــث علــى اللغــو في الأيمــان او انهــــا اذن خــاص به، بل انــها من الفضــل الإلهــي ولذا فــان الآية السابقة تنهى عن كثرة اليمين وتحــذر منــه، وبذا يظهر الجمع بين النهي والرخصة في آية حكمية وموضوعية ذات اعجاز، فبخصــوص اللغو في اليمين يكون النهي تنزيهياً، ليس فيه كفارة ولا يترتب عليه اثم وعقاب.
التاسع : لولا هذا التخفيف لرأيت الإنســان يشــعر بالخوف والوجل من كثرة يمينه وربما اثـر هذا الخــوف على حالته النفســية وافعاله ويصيبه الإضطراب والإرباك فيحرم من الأداء الأتم لبعض العبادات وينشغل عن المندوبات ويختل تعامله مع الآخرين وتفوت عليه فرص ومناسبات كريمة ، قال تعالى [فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( )، فاراد الله عــز وجل ان يجعـله يهتم بالآتي من التكاليف وما يحيط به عقلاً وحواساً ومعرفة خصــوصاً وان الإنسـان قاصر يعلم الله عز وجل ضعفه قال تعالى [خُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( )، والآية من جهة الحكم التكليفي تحتمل وجوهاً:
الأول: ان هذا التخفيف استحداث لعفو أي ان اللغو في الأيمان تقصير ولكن الله عز وجل اسقط عقوبته فضلاً منه تعالى ولولا الاسقاط في هذه الآية لترتب عليه عقاب من وجوه :
الأول : عمومات عدم تخلف المعلول عن علته .
الثاني : قواعد التكليف .
الثالث : لزوم الكفارة ولو الإستغفار وهو من أحسن وجوه الكفارة.
الثاني: اللغو في الأيمان اصلاً ليس بذنب، وجاءت الآية الكريمة للإخبار عن هذه الحقيقة الوجودية وليس للإسقاط.
الثالث: انه برزخ بين الحرمة وعدمها أي انه مكروه ويمكن استقراؤه من نعته باللغو وفي مقام اليمين.
الرابع: انه من الكلي المشكك وهو على مراتب وأقسام ولكن الحكم متحد وهو عدم المؤاخذة فيه والمختار هو الأول , لقوله تعالى في الآية السابقة [وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
والمختار هو الأول .

قوله تعالى [وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ] في الآية مسائل :
الأولى : ان المؤاخذة وترتب الأثر والحكم الشرعي لا يكون الا على الفعل والقول الصادر عن عزم وقصد ونية.
الثانية : موضوعية القصد الجهتي والتوظيف الهادف للألفاظ في التكاليف.
الثالثة : الآيــة رحمــة وتخفيــف، وتيســير في قواعــد اليمين يؤدي في مفهومـــه الى الإلتفـات الى اهمية اليمين والإحتراز من الإقدام عليها.
الرابعة : كما ان منطوق الآية تحذيـر وتنبيه فان مفهومهـا العفـو والتجاوز عن اللغــو في اليمــين كرمــاً من الله تعالى، وهــل هو من صغائر الذنوب أم ادنى ام اعلى رتبة؟ الأقـوى انه ذنب , والعفو عنه ثابت اصلاً بنص هذه الآية وان كانت الآية السابقة تحذر منه اجمالاً.
الخامسة : تحث الآية على مطابقة الفعل والقول للنية والعزيمة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ]( ).
السادسة : تخبر الآية عن علم الله عز وجل سبحانه بما في القلوب والنوايا , قال تعالى [مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ] ( ).
السابعة : اليمين الشــرعية مركبــة من النية والقصد زائداً التلفظ بها، وهذا خاص بما يقطعه الإنسان على نفســه وليس في باب الشهادة في الخصومة والمنازعة بين الناس التي يؤخذ بها اللفظ مطلقاً ويترتب عليه الأثر، وان كان قيد العدالة في الشاهد يطرد احتمال التعارض بين النية وبين ظاهر الكلام من غير مسوغ شرعي كالتورية ونحوها.
الثامنة : موضوعية النية في اليمين خصــوصــاً وانها شـرط تتقوم به العبادات , و(عن عمر بن الخطاب قال : سمعت النبي {صلى الله عليه وآله وسلم} يقول : الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) ( ).
وفي خبر ابي حمزة الثمالي عن الإمام علي بن الحسين لا عمل الا بنية، وفي آخر: انما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى”.
التاسعة : الآيــة ليســت في مقــام الإنذار والوعيد، بل مسوقة لبيان الحكم الشـــرعــي ومسـتلزماتــه فقــد يترتــب على اليمـين ثـواب واجـر كما في درء مفســـدة او اثبـات حق او كشف حقيقة او نصرة مظلوم.
العاشرة : تحث الآية على استحضار النية والقصد عند ارادة اليمين مطلقاً، وتنزيه المجالس الخاصة والمنتديات عن اللغو واجتناب كثرة اليمين.
بحث كلامي
القلب هو هذا العضو الصنوبري المودع في الجانب الأيسر من الصدر ويدرك كل انسان اهميته للبدن فهو يقوم باهم وظائف قوام الجسم ، والمشهور انه أمير الجوارح وانها لا تصدر الا عنه، ولعل القدر المتيقن هو المعنى الأعم فالمراد من القلــب في الأخــبار اعم من ان ينحصر بهذا العضو الصنوبري وما فيه من التجاويف بل انه قد يرد بمعنى :
الأول : العقل.
الثاني : النفس.
الثالث : مبدأ الحياة.
الرابع : المائز بين الإنسان وغيره، مع ان البهائم لها قلوب تقوم بوظائفها البهيمية.
الخامس : المدرك العالم العارف.
السادس : المخاطب بالأحكام والأوامر والنواهي.
السابع : مستــودع المعــارف والعلوم وفي حديث ما فرض الله على الجوارح ، واما فرض الله على القلب من الإيمان فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتســليم.
وتــرى المسؤوليات الجسام الملقاة على القلب مما يستلزم اشتراك اركان البدن وحواسه وجوارحه بالإضافة الى الــروح لبلوغ أعلى المراتب السامية بالإقرار والمعرفة والنطق بالشهـادتين واتيان العبادات وعمل النوافل والمستحبات، لذا جاءت الآية لتبين اهمية وموضوعية ما تكسبه القلوب وأن أفعال الجوارح تابعة لها مترشحة عن اعتقادها وما تؤمن به.
الثامن : تحث الآية على الدعاء لصلاح القلب والإحتراز من شططه واغوائه وما يترتب عليه من الأضرار ، قال تعالى [فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ]( ).
قوله تعالى [وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ]
الأولى : قاعدة كلية منبسطة على جميع نواحي الحياة ، وسيالة في أبواب الفقه العامة.
الثانية : ورود صفة الغفور في موضوع اليمين يدل على عفو الله تعالى، وفيه دعوة للمبادرة الى الكفارة والإستغفار في حال النكث او الخلل في اليمين وعدم اليأس من رحمته ، قال تعالى [لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
الثالثة : الآية ترغيـب في الندم والإســتغفار ونهي عن القنوط.
الرابعة : ان العفو الإلهي شامل ومطلق ولكنه بلحاظ الفعل المعفو عنه من الكليات المشــككة فما كــان من اليمين لغـواً ساقط اصلاً بفضل الله تعالى، وما تعدى الإنسان فيه فان الله عز وجل يمحو الذنب ويغفر الزلة والخطيئة.
الخامسة : الآية حرب على الشــيطان ومـنع من استيلائه على النفس الإنسانية ، قال تعالى [إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
السادسة : من اسماء الله تعالى “الحليم” وجاء في القرآن احدى عشرة مرة كل واحدة منها مدرسـة في المعرفة الإلهية سواء على نحو مجرد او بلحاظ موضوع الآية، وهذه الآية هي اول آية في نظم القرآن ترد فيها صفة الحليم اسماً لله تعالى.
السابعة : الحليم الذي لا يعاجل العقوبة ويمهل الإنسان لتوبة يستحدثها او كفارة يؤديها او اقلاع عن ذنب او شفاعة ينالها او فضل من الله تعالى يأتي ابتداء من فضله لا عن استحقاق.
الثامنة : الحلم عند الإنسان فضيلة للنفس ترتقي بها عن صفات السبعية وتحجبها عن الغضب السريع، وجاء صفة للإنسان في القرآن اربع مرات كلها في الأنبياء، مرتين في ابراهيم , وهو قوله تعالى [فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) قال تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ]( )، وواحدة في هود كما في قوله تعالى [إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ]( ) وواحدة في شعيب ، واخرى في في إسماعيل وفي التنزيل [فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ]( )، مما يدل على انها من أخلاق الأنبياء ومحاسن الأفعال.
التاسعة : ما يترتب على اليمين من الفعـل او الترك او الأثــر الأعـم لا ينحصــر بــأوان عقــده بــل يشــمل الزمــان اللاحـــق، فجــاءت هــذه الآيــة لتخبر عن بقاء باب التوبة والتدارك مفتوحاً بلطف من الله تعالى.
العاشرة : من اليمين ما هي يمين زور وتسمى اليمين الغموس ، تغنس صاحبها في النار ، وقد تقدم تعريفها .
وهل الآية دعوة للتدارك؟ الجواب: نعم فالله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة، وباب التوبة والندم مفتوح ما دام الإنسان في دار الدنيا وهي دار عمل بلا حساب، او قل الحساب التام والا فان الجـزاء الدنـيوي ليس معـلقاً او منفياً على نحو السالبة الكلية.
وجاءت صفة الغفور للبشارة وبعث السكينة في نفوس المسلمين، وان عدم المؤاخذة ينقسم الى قسمين:
الأول: ما يأتي بالذات والأصل وهو الخاص باللغو في اليمين.
الثاني: ما يأتي بالعرض ويتعلق بما كسبت القلوب فمع انه أمر يؤاخِذ عليه  عزوجل بنص هذه الآية الا ان خاتمتها تذكر بشموله بالمغفرة والعفو، كي لا يبقى من حلف يميناً وعلم خطأه خائفاً وجلاً بل ان المغفرة تدركه .
ومن الشواهد الشرعية والقضائية عليه هو باب الكفارة وأحكامها التفصيلية وشمولها لليمين بالقيام باطعام عشرة مساكين، ومع العجز يتجه المسلم الى الإستغفار، فهو أكبر كفارة، ولكن هذا لا يعني بدلية الإستغفار عن الكفارة ، لأن الكفارة حكم شرعي وتكليف بالعرض، كما ان الإستغفار لا يتعارض معها بل يكون عضداً ومؤازراً وسبباً لأبدال السيئة وجعلها حسنة.
ومن الآيات ان يجعل   صفة يشترك معها غيره من عباده مع عظمته وقدرته (حليم) ولكن الإشتراك لفظي اذ يتباين المعنى والدلالة والله سبحانه منزه عن الإنفعال والتفكر والتدبر، انما أمره اذا أراد شيئاً [كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
وتعد خاتمة الاية بشارة ورحمة وعوناَ للمسلمين بجعل الحياة مملوءة بالبهجة والغبطة لما يتغشاهم من أسباب المغفرة واللطف الإلهي.
مسائل فقهية
الأولى : لا يجــوز الحــلف بالــبراءة من الإســلام او مــن النبي صلى الله عليه وآله وســـلم كما لــو قال: برئت من ديــن الإسـلام ان فعلت كذا او ان لم افعـــل كذا، وصاحبه يؤثم سواء كان صادقاً او كاذباً حنث او لم يحنث وان لم تكن في حنثه كفارة لأنه حرام في نفســه، نعم عليه الإسـتغفار وتستحب الكفارة إطعام عشرة مساكين.
الثانية : لو علق اليمين على مشــيئة الله بان قــال: والله لأفعــلن كذا ان شاء الله، لا تنعـقد اليمين ولا حنـث الا ان يكون ذكر المشيئة للتبرك.
الثالثة : لو قرن انعقاد يمينه بامضاء غيره كما لو قال والله لأعتمرن هذا الشهر ان رضي ابي فان رضي ابوه انعقد يمينه وتحقق الحنث بترك العمرة في ذلك الشـهر، وان قـال الأب لا ارضى لم تنعقد يمينه وكذا لو لم يعلم برضا الأب أو عدمه حتى انقضى الشهر، ولا ينتقل متعلق اليمين الى الشهر اللاحق، ولو كان متعلق اليمين واجباً فهل يبقى اعتبار للإمضاء في انعقاد اليمين كما لو قال: لله علي الحج الواجب هذه السنة ان رضي أبي، الجواب فيه تفصيل:
الأول : وجوب الحج وان لم يرض أبوه للوجوب الذاتي للحج، ولأن شرط  هو الأولى والمقدم ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
الثاني : ان رضي أبوه ولم يحج، وجبت الكفارة مع الإثم لعدم الإتيان بالواجب.
الرابعة : يشرط في الحالــف البلــوغ والعقــل والإختيــار والقصد فلا تنعقد يمين الصغــير والمجــنــون مطبقـاً او ادواراً في دور جنــونه، ولا المكــره ولا السكران بل ولا الغضبان في شدة الغضـب الســالب للقصــد وســـلامة النيــة، وكذا لا يصح من المحجور فيما حجر عليه.
الخامسة : لا تنعقــد يمين الولــد مــع منع الوالد، ولا يمين الزوجة مع منع الزوج، ولا يمين المملوك مع منع المالك، ولو حــلوا اليمـين فلا حنث ولا كفارة، وهل يشترط اذنهم ورضـاهم في انعـقاد اليمين حتى انه لو لم يطلعــوا على حلفــهم ويأذنوا بــه لم ينعـقد اصـلاً، ام للابن والزوجــة والمملوك الحــلف واليمين ، ولكـن للأب والـزوج والســيد المنـع من انعقادها واستمرارها، الأقوى هو الثاني.
السادسة : لو كان المحلوف عليه فعل واجب او ترك حرام فلا موضوعية لمنع الأب والزوج والسيد لخروجه بالتخصص عن المقام اذ ان نفس الوجوب او الترك ثابت في اصل الشـرع ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
السابعة : تنعقد اليمين اذا تعلقت بفعـل واجـب او مسـتحب او بترك حرام او مكروه، كما انها لا تنعقـد اذا تعلقـت بترك واجب او مستحب او بفعل حرام او فعل مكروه.
الثامنة : المباح الذي يتساوى طرفاه في الشريعة ونظر العقلاء تنعقد فيه اليمين اذا تعلقت بطرفه الراجح ولا تنعقد اذا تعلقت بطرفه المرجوح كما لو اقسم ان لا يشـرب الماء اما لو تسـاوى طرفاه بحسب الدنيا وليس من راجح، فالأقوى انها تنعقد.
التاسعة : لا تنعقد اليمين الا على المقدور ولو كان مقدوراً ثم طرأ العجز عنه واصبح غير مقدور عليه انحلت اليمين الا ان يكون اليمين مقيداً بمدة معينة وان العجز طـرأ بعد انتهائها، ويلحق بالعجز العسر والحرج اللذان يرفعان التكليف.
العاشرة : اذا انعقــدت اليمــين وجــب الوفــاء بها واتيــان متعلقها وحرم عليه مخالفتــها عمــداً وحنثــها وتجـب معه الكفارة فلو كانت مخالفتهــا جهـلاً او نسياناً او اضطراراً او اكراهاً فلا حنث ولا كفارة.
الحادية عشرة : اذا كان متعلق اليمين فعلاً يأتي به الحالف كالصلاة والصوم المستحبين فان قيّد اليمين بوقـت معين كما لو قال والله لأصومن يوم الخميس القادم لزم الوفاء به.
فان لم يأت به ويصوم ذلك اليوم وتحقق الحنث لزمت الكفارة وان صـام يوماً آخر بدلاً عنه .
اما لو اطلق ولم يعين اليوم كما لو قال والله لأصومن يوماً صح الوفاء به في اي وقت عدا الأيام التي لا يجوز صيامها كيوم العيد، ولا يجب الفور والبدار فيجوز التأخير ولو بالإختيار الا ان يظن الفوت وظهور امارات العجز عن الوفاء.
الثانية عشرة : لو كان متعلق اليمين الترك فان قيده بزمن معين عليه الوفاء والإلتزام تلك المدة باليمين كما لو حلف ان لا يسافر سفراً شرعياً اثناء شهر رمضان في تلك السنة فان حنث وخالف عمداً وسافر وجبت الكفارة .
اما لو اطلق ولم يقيـد اليمين بزمان محدد كما لو قال والله لا ادخن، فلو اتى به ولو مرة في العمر في اي زمان تحقق الحنث ولزمت الكفارة، وتصير اليمين منحلة اي لو اتى بالفعل مرة اخرى لا تتكرر الكفارة على الأقوى.
الثالثة عشرة : لو كان متعلق يمينه متعدداً من المتواطيء كما لو قال والله لاصلي صلاة الليل كل ليلة ما دمت حياً فهل يتكرر الحنث والكفارة كل مرة يترك فيها صــلاة الليل لأن اليمــين تنبسط على كل ليلة على نحو العموم الإستغراقي ام انها تنحل بالمخالفة الأولى على نحو العموم المجموعي فلا حنث بعدها، نسب الثاني الى الأشهر وهو الاقوى لقاعدة نفي الحرج وتحقق مسمى الحنث وصدق اسم الكفارة بعد اتحاد النذر وصيغته.
الرابعة عشرة : كفارة اليمين عتق رقبة او اطعام عشـرة مساكين او كسوتهم، فان لم يقدر فصيام ثلاثة ايام وعليه الكتاب والسنة والإجماع قال تعالى [فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الخامسة عشرة : اليمين الصادقة مكروهة سواء تعلقت بالماضي او المستقبل، والكراهة فيما يتعلق بالماضي اشد، نعم لو قصد رفع مظلمة عن نفسه او عن غيره جاز بلا كراهة.
السادسة عشرة : تجــوز اليمــين الإضطرارية غير الصحيحة لدفــع الظلــم والأذى عــن النفس والغير مع وجــود الراجــح شـــرعاً اذا لم يحســـن التورية او لم يقدر عليها وهي ان يقصد من اللفظ خلاف ظاهره من دون قرينة مفهمة.
السابعة عشرة : لا يجوز الحلف بغير الله في الماضي والمستقبل وان يقصد غير وجهه ولا يترتب على مخالفتها اثم ولا كفارة كما انه ليس قسماً شرعياً فاصلاً في الدعاوى والمرافعات.
الثامنة عشرة : لو نذر ان لا يحلف ابداً فحلف على فعل شيء او تركه فالأقوى تحقق الحلف.
التاسعة عشرة : لو انشأ الحلف بغير العربية اجتهاداً او تقليداً ثم تبدل رأيه الى القول بموضوعية العربية في انعقاد اليمين او قلد من يقول بموضوعيتها تبقى يمينه صحيحة لأنها حين الإنشاء جامعة للشرائط( ).

قوله تعالى قوله تعالى [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] الآية 226.
القراءة والإعراب واللغة
في قراءة أبي (فان فاءوا فيهن) ( ).
أي بزيادة فيهن ولعل هذه الزيادة للبيان.
للذين :
اللام : حرف جر مبني على الكسر .
الذين : اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بحرف الجر .
والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم .
يؤلون : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة .
الواو : ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل .
من : حرف جر مبني على السكون .
نسائهم :
نساء : اسم مجرور بالكسرة الظاهرة تحت آخره .
والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من (يؤلون).
تربص مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره.
أربعة : مضاف وجاء بصيغة المؤنث لأن شهراََ مذكر وهو مفرد (أشهر) الذي هو جمع قلة وهو مضاف.
فان فاءوا : الفاء استئنافية. ان شرطية، فاءوا ، فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط.
فان الله غفور: الفاء رابطة لجواب الشرط.
إن : حرف مشبه بالفعل , وهو حرف توكيد ونصب .
الله : لفظ الجلالة اسم(إن) منصوب بالفتحة .
غفور رحيم : خبر (إن) مرفوعان بالضمة .
وجملة (إن الله غفور رحيم ) جواب شرط جازم مقترن بالفاء في محل جزم .
وآلى الرجل من امرأته يؤلي ايلاء: حلف يميناً أن لا يقربها سواء لمدة أربعة أشهر أو أكثر أو على نحو التأبيد , وكان الإيلاء يعد في أيام الجاهلية طلاقاَ.
والتربص: الإنتظار والتأني والإمهال .
وتربصت الأمر تربصاً: انتظرته وصبرت عليه.
والفيء: الرجوع يقال فاء الى الأمر فيئاً وفيوءاً: رجع اليه، والفيء: الظل الحادث بعد الـزوال أي كان مشمسـاً فنســخه الظل، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل.
في سياق الآيات
بعد احكام اليمين عامة في الآيتين السابقتين جاءت هذه الآية مصداقاً شرعياً خاصاً باليمين و من باب المثال الإبتلائي، وبدأت الآية بجار ومجرور [ لِلَّذِينَ ] مما يدل على وحدة الموضوع بين هذه الآيات.
والنسبة بين موضوع الآية السابقة وآية البحث العموم والخصوص من وجه إذ وردت الآية السابقة في اليمين واللغو فيه ، بينما جاءت آية البحث بخصوص يمين الإيلاء ، كما في قول الزوج : والله لا أطأك أو لا أقترب منك ، ومادة الإلتقاء الإقدام على اليمين والحلف ، واللجوء إليه ، أما من جهة الخطاب فالنسبة بين الآيتين هي العموم والخصوص المطلق ، إذ توجهت الآية السابقة إلى كل المسلمين والمسلمات.
وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لايؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم.
أما آية البحث فموضوعها الإيلاء ، والحلف على ترك وطئ الزوجة مع الترغيب بالعودة عن الإيلاء لقوله تعالى [فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
لبيان لطف من عند الله بازالة أسباب الإيلاء من الكدورة والنفرة ونحوها .
وجاءت الآية التالية لتبين أن مدار الحكم على الطلاق أو عدمه ، وليس الإيلاء.
لإفادة الجمع بين الآيتين بيان حكم شرعي ، ومنع الخلاف والخصومة فيه وإن الإيلاء ليس بطلاق.
وأختتمت كل من الآيتين السابقتين وهذه الآية والآيتين التاليتين بثلاثة من الأسماء الحسنى( ) ، وهي كالتالي :
أولاً : تكرر اسم الجلالة في الآيات الخمس جميعاً لبيان موضوعية في الأسماء الحسنى ، وفي الدعاء وأمور الدين والدنيا.
ثانياً : ورد مرتين كل من غفور ، رحيم ، سميع ، عليم .
ثالثاً : ورد مرة واحدة كل من : عزيز ، حكيم .
فيكون المجموع خمسة عشر اسماً من الأسماء الحسنى في آيات اليمين والطلاق الخمسة هذه ، ولابد له من دلالات منها :
الأولى : اجتناب اللجوء إلى اليمين .
الثانية : حفظ وتعاهد اليمين والوفاء به قدر الإمكان ، ومن غير حرج أو ضرر ، قال تعالى [وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ]( ).
الثالثة : تقديم استدامة الحياة الزوجية على الإيلاء وما يترتب عليه من الطلاق .
الرابعة : استحضار ذكر الله عز وجل والخشية منه في الحياة الزوجية ، وفي الطلاق ، قال تعالى [وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا] ( ).
الخامسة : نقض الإسلام لما كان عليه أهل الجاهلية ، فاذا أراد الرجل منهم الإضرار بالزوجة ولا يجعلها تتزوج غيره ، يحلف ألا يقربها أبداً واستمر بعضهم على ذات النهج في الإسلام فنزلت الآية للزجر عنه.
فأخبر الله عز وجل بأن الإيلاء ليس طلاقاً ، وأن مدته لا تزيد على أربعة أشهر ، ثم على الزوج أن يختار إما الفيئ والرجوع إلى الزوجة وفيه مغفرة وعفو من عند الله على ذات الإيلاء وفتح باب من لطفه تعالى على الزوجين ، أو الطلاق ، وتكون الزوجة حينئذ حرة في الزواج من غيره.
وهو من الشواهد على إكرام الإسلام للمرأة ، وضمان حقوقها ، والمنع من استئثار الزوج بالقرار داخل الأسرة ، إنما وراءه العلماء والحكام والقضاة.
إعجاز الآية
تتناول الآية موضـوع اليمين في الإيـلاء لتشــريع حكم، ولمنــع التهاون في الإيلاء او جعله من اللغو، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ويصون نفسه، وفيه احتراز ذاتي من التحريف والخلل في التأويل.
وقد بدأت الآية بالجار والمجرور (للذين) متعلقين بخبر محذوف، بينما جاء المبتدأ متأخراً، ولابد له من دلالات عقائدية منها:
الآية خاصة بالذين يؤلون من نسائهم.
بيان الحكم لمن يقوم بالإيلاء.
لم تذكر الزوجة في الآية سوى وقوع الإيلاء عليها، مما يدل على اختصاص الرجل بالإيلاء ولزوم تداركه باختيار احد أمرين اما الفيء وأما الطلاق.
الآية سلاح
مع ما في الآية من احكام الإيلاء وتثبيته فانها بالدلالة التضمنية والإلتزاميــة تخفيــف ورحمــة ســواء كان بمــدة الإمهـال او بدفع الكفارة.
تطرد آية البحث الجهالة في الموضوع أو الحكم ، وإذ تثبت الإيلاء شرعاً فانها تمدد مدته وتبين حكمه ، وتمنع الزوج من التعدي فيه وتحض العلماء والحكام على الحكم فيه وعدم ترك الزوج وشأنه ، لما في إستدامة الإيلاء من الضرر على الزوجة والأولاد والمجتمع .
فاذا رجع الزوج من الإيلاء فليس لأحد سلطان عليه ، أما إذا امتنع عن أحد أمرين :
الأول : وطئ الزوجة .
الثاني : الطلاق .
فلابد من تدخل الحاكم ، وأختتمت الآية بثلاثة من أسماء الله تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
مفهوم الآية
من اعجاز القرآن ان تأتي الآية بقاعدة كلية ثم تأتي آية اخرى لبيان مصاديق عملية لتلك القاعدة، وفيه تثبيت للحكم القرآني وترسيخ للمعارف الإلهية وتأديب وتعليم للناس على مختلف مستوياتهم ومداركهم العقلية.
فمن الناس من يتعلم ويتعظ بقراءة الآية التي تتضمن القاعدة الكلية.
ومن الناس من يحتاج الى التذكير والبيان.
ومنهم من يريد الإطلاع على مصاديق وافراد من الحكم كما ان المصاديق الحكمية تخفيف وايضاح وتشريع للحكم في موضوع خاص .
وفيه منع من الإجتهاد في مقابل النص وعون على تطبيق الحكم على مصاديقه وتيسير لفتاوى الفقهاء ودرس للمتعلمين على سبيل النجاة وحضّ على الغوص في بحار علوم القرآن واستخراج الدرر من خزائنه والسعي للبحث في كنوزه واستخراج القواعد الكلية ومصاديقها في آياته وهو حرز من الزيغ ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( ).
ومع قانون كل آية قرآنية تبيان فلم يرد لفظ (تبيان) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وبخصوص القرآن على نحو العموم المجموعي والإستغراقي أما لفظ البيان فقد ورد القرآن :
الأولى : معنى عام بقوله تعالى [خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ]( )، ومنه تعليم الله عز وجل لآدم الأسماء بقوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، وقال الثعلبي (وكان آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية)( )، وهو بعيد ، والمختار أن المراد من الألف واللام في (الناس) أعلاه هو الجنس وليس الحصر بآدم عليه السلام , فمن معنى البيان تعلم اللغة والخطاب وأحكام الحلال والحرام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , والإقرار بالمعاد .
وحسن الإنصات بلحاظ أنه أمر وجودي وليس عدمياَ .
وتبين هذه الآية أضرار اللغو في الأيمان فعدم المؤاخذة اخص من الضرر، فقد يترتب على الفعل الحرج والأذى وان لم تكن فيه مؤاخذة وعقوبة لذا جاء التحذير من كثرة اليمين والإعتياد عليها.
فاليمين على اتيان فعل او ترك امر انما هو تشديد على النفس والزام لها من غير ضرورة، وتعطيل لباب من ابواب فضل الله تعالى والسعة التي جعلها للمسلم والإنسان مطلقاً في العمل والإنتفاع من النعم.
وتبين الآية قدسية العلاقة الزوجية في الإسلام باحاطتها بهالة من الإكرام ومجموعة من الأحكام الشرعية والضوابط العقائدية لمنع التداعي فيها وتفكيكها وظهور الخلافات والخصومات بين الزوجين وداخل الأسرة مطلقاً , قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] ( ).
وتؤكد الآية موضوعية اليمين وترتب الأحكام التكليفية عليه ولزوم الإلتفات اليه وعدم اللجوء اليه إلا حاجة .
فالمعروف ان اليمين وسيلة لإثبات حق او نفيه، ولكنه جاء هنا عنواناً لحكم تكليفي عرضي باختيار الزوج مما يعني ان الإيلاء ليس من افراد اللغو في اليمين وجاء على سبيل المثال ولبيان ترتب الأثر على اليمين.
فليس من حق الإنسان ان يحلف ثم يقول انه يمزح او ان اليمين من اللغو،.
وهذه الآية حصر ودفع لموضوع اللغو في الأيمان ومنع من التمادي فيه ونهي عن سوء التأويل والتساهل في الأحكام الشرعية بالإضافة الى الآيات التي تبين احكام اليمين وكفارة الحنث والنصوص الواردة في السنة النبوية الشريفة بخصوص اليمين والتغليظ فيها والحذر من اتيانها تعدياً وتجرأ وتسامحاً.
قال تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
ولم يرد لفظ كفارته في القرآن إلا في الآية أعلاه
ومع ما في هذه الآية من التأديب والتحذير من اللجوء الى اليمين فانها لم تغلق الباب في المقام ولم تجعل اليمين حكماً قاطعاً بل ان التدارك يشمله والرجوع عنه ممكن مع الكفارة بالإضافة الى حصره بمدة اربعة اشهر لمنع الحيف على المرأة وايذائها.
وتبين الآية الحكمة والإتقان والتكامل في الشريعة الإسلامية وانعدام الخلل فيها وان التدارك باب فتحه الله عز وجل للمسلمين في باب الأعمال مثلما جعل الإستغفار سبيلاً لمحو الذنوب وقد يجتمعان معاً بفضل الله تعالى كما في المقام، فالتدارك بالكفارة والرجوع وحسم مسألة اليمين وما يترتب عليه، والمغفرة والعفو على الإيلاء واسبابه ونتائجه فضل ورحمة من عند الله عز وجل , وهو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم
و(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بعثت بالحنيفية السمحة) ( ) .
و(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما لا يحب أن تؤتى معصيته) ( ) .
وفي آية البحث نكتة أصولية، وهي تقسيم اليمين الى اقسام ومنه (الإيلاء) فهو حلف في موضوع خاص وهو ترك وطئ الزوجة مما يعني اهمية اليمين وتعدد اقسامه كما سيأتي في تفسير الآية.
ومن احكام الإيلاء اشتراط صدوره من الزوج البالغ العاقل المختار القاصد للإيلاء، وهذا الشرط ليس من التشديد بل من الرحمة والمندوحة في الشريعة ومنع الحرج وفيه توكيد على تنظيم قواعد الحياة الزوجية وموضوعية الوطئ فيها، وتنزيه اليمين.
وتحذير من اللجوء اليها الا مع وجود المسوغ العقلي او الشرعي، وعند انعقادها، تنفتح ابواب الكفارة والعفو الإلهي من غير تفريط بها والله واسع كريم , إلا بخصوص اليمين الغموس فلا كفارة فيها .
التفسير
تفسير قوله تعالى [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ]
يتعلق موضوع الآية بمن يحلف على ترك وطئ الزوجة الدائمة المدخول بها للإضــرار بها ســواء جــاء اليمين على عدم الدخول بها ابداً او مدة تزيد على اربعة اشــهر، فلا يتحــقق الإيـلاء بغير المدخول بها، ولا بترك الوطئ مدة اقل من اربعة اشهر، ويشترط ان لا تكــون اليمين بعـدم الوطئ لملاحظة مصلحة كاصلاح لبنها او كونها مريضــة او غيره، فاذا انعقد يمين الإيلاء بشروطه تترتب عليه آثاره.
وجاءت الآية بصيغة الجمع [ لِلَّذِينَ ] وهي صيغة بلاغية قرآنية ولكن لابد لها من دلالات، ولعل الإيلاء كان معروفاً وشائعاً وان تراه قليلاً ونادراً في هذا الزمان بفضل الله تعالى وبركة آية البحث ، ولعدم معرفة الناس لأحكامه وموضوعه موضوعية ولإنحصار التفريق بين الزوجين في الغالب في هذا الزمان بالطلاق.
تفسير قوله تعالى [ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ]
الأول : تدل الآية بالدلالة التضمنية على جواز الإيلاء ومشروعيته , والمختار أنه مكروه .
الثاني : الإمهال والإنتظار لطف إلهي بالزوجين معاً وفرصة للصلح والوفاق.
الثالث : مدة اربعة اشهر اكثر من عدة المطلقة الرجعية بشهر، ودون عدة المتوفي عنها زوجها بعشرة ايام , وفي الآية إكرام للمرأة , وبيان لحق من حقوقها , وهي مناسبة للتفقه في الدين , ومنع للخصومة بين الزوجين لأن الآية من بيان أحكام الحلال والحرام .
وهل الأشهر الأربعة قمرية أو شمسية , الجواب هو الأول .
بحث فقهي
لا ينعقد الإيلاء كمطلق اليمين الا باسم الله تعالى المختص به او الغالب اطلاقه عليه.
ولا يعتبر في الإيلاء العربية بل يصح باللغة المتعارفة، ولا اللفظ الصريح في كون المحلوف عليه ترك الجماع في القبل تكفي الكفاية مع ظهور القصد كما لو قال لا اطأك، ولا جمع رأسي ورأسك وسادة مع اليمين وارادة ترك الجماع.
واذا تم الإيــلاء بشـــرائطـــه فان صــبرت المرأة مـع امتناعه عن المواقعــة فلا كلام، والا فلها المرافعــة الى الحاكــم فيحضــره وينظـره اربعة اشهـــر فان رجــع وواقعهــا في هـذه المدة فهـو، والا اجبر على احـد الأمـــرين اما الرجــوع او الطلاق، فان فعل احدهما والا ضيق عليه ويحجــزه الحاكم حتى يخــتار احدهــما ولا يجبره على احدهما معيناً.
والإيلاء لا يمنع من وطئ الزوج لها ولكن تلزمه الكفارة سواء كان في مدة التربص او قبلها او بعدها لأنه حنث يمين، فالكفارة لازمة وان وجب الحنث.
ولو كان هناك عــذر في اليمين من الوطأ بعد انقضاء مدة التربص فان كان من قبل الزوجة كـالمرض والحيض ونحوهـما فالاقوى ان لها حق المطالبة بفئة وعودة العاجز وهي باللسـان والتقبيل ونحــوهما، لقاعدة الميسور ولرفع الضرر.
اما كفارة الإيلاء فهي مثل كفارة اليمين اجتـمع فيها التخيير والترتيب وهي عتق رقبة او اطعام عشرة مساكين او كسوتهم فان عجز صام ثلاثة ايام متواليات.
ولو ادعى الوطئ وانكرت يقبل قوله مع يمينه، اما لو اختار الزوج الطلاق بعد المرافعة كان الطلاق رجعياً ما لم يفتقد شرائط الرجعي ويكون بائناً , كالطلاق للمرة الثالثة , قال تعالى [الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ) .
أما لو كانت يائساَ فالمختار عليها عند الطلاق عدة , وهو مشهور الإسلام , وبه قال السيد المرتضى وابن زهرة .
ولا تتكرر الكفارة بتكرر اليمين ان كان المحلوف عليه واحداً والزمان واحداً، ويجوز الجمع بين الظهار والإيلاء ولا تستباح الكفارتان.
قوله تعالى [فَإِنْ فَاءُوا]
الأولى : ان رجعوا عن الإيلاء والحلف على عدم الوطئ.
الثانية : تبين الآية الكريمة حق الزوج بالرجوع عن ايلائه ولعل فيها حثاُ على الرجوع والفيء , قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ).
الثالثة : استحضار مضامين الآية السابقة يفيد رفع الحرج من الرجوع ويدفع الإصرار على البقاء على الإيلاء، ويظهر لزوم اكرام اليمين وتقديسه فإن الله سبحانه يأذن بحله ومن وجوه الإذن وضع الكفارة عمن يفيء.
الرابعة : تبين الآية الرحمة الإلهية وامكان التدارك الذي جعلته الشريعة للزوج بل للزوجين معاً.
الخامسة : تــدل الآيـــة على خــلو احكــام الإســـلام مـن التشديد على النفس , وموضوع آية البحث من عمومات قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ).
السادسة : المغفرة والرحمة في الآية انحلاليتان، فتتعلقان بالزوج والزوجة وعموم المسلمين.
وتنمي الآية ملكة الأخلاق الحميدة عند الإنسان باجتناب الغضب والإنفعال ، وباختيار التروي والتأني، والإنصاف، وتبين أحكام هذه الآيات جهاد النفس ومصارعة الهوى، وأهلية المسلم للقيادة ومعالجة الأمور الشخصية في بيته وداخل أسرته، وفي الآية دعوة للمرأة للإصلاح واجتناب أسباب الفتنة والفرقة.
قوله تعالى [ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ]
الأول : قاعدة كلية تتغشى الناس في النشأة الدنيوية والحياة الأخروية وباب للأمل مستديم الفتح وهي من خزائنه التي لا تنفد.
الثاني : تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على الوعد الكريم بنزول شآبيب الرحمة على الزوجين بالرجوع الى الزوجية.
الثالث : الآية تشجيع على هجران الإيلاء وعدم الإقامة عليه.
الرابع : دعوة الزوجة لإبتداء حياة واصطفاء بعد الإيلاء أو من دونه .
والآية قانون مركب من الإرادة التكوينية لا يختص بموضوع الآية .

قوله تعالى[وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] الآية227
الإعراب واللغة
وان: الواو عاطفة، ان: حرف شرط جازم، ومجزومها الثاني جملة الجواب لأنه اقترن بالفاء وقيل ان جواب الشرط محذوف تقديره فليوقعوه.
عزموا: فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط،.
الطلاق : مفعول به، وقيل منصوب بحذف الخافض لأن الفعل عزم يتعدى بـ(على) والأول اظهر.
وفي لسان العرب: والعرب تقول عزمت الأمر وعزمت عليه ( ).
والعزمُ: الجد، يقال: عزم على الأمر يعزم عزماً ومعزماً واعتزم عليه: همّ بالفعل واراد اتيانه، و يقال اطلقه وطلقّه أي تركه.
والطلاق حل عقدة النكاح وازالة عصمة الزوجية عن المرأة بصيغة الطلاق فيقال هي طالق وان كان النعت خاصاً بالأنثى فلا يؤتى بالهاء ولا يقال هي طالقة او حائضة او طامثة الا على سبيل التأويل والبيان الزائد.
قوله تعالى(وإن عزموا الطلاق) أي على الطلاق، فلما حذف الحرف نصب، ويجوز أن يكون حمل عزم على نوى، فعداه بغير حرف، والطلاق: إسم للمصدر والمصدر التطليق.

في سياق الآيات
بعد بيان حكم الإيـلاء وتعلق القطع بحكمه لمدة اربعة اشهر تأتي هذه الآية لبيان الشطر الثاني من حكمه وهو ارادة الطلاق وعدم اختيار الرجوع، فموضوع هذه الآية متفرع عن الآية السابقة.
إعجاز الآية
تدل الآية على جواز تعقب الإيلاء بالطلاق، وان حصوله خاتمة للإيلاء وهو احد خيارين، مع لزوم الإجهار به واعلانه ويتأتى اعجاز الآية من حصر الحكم بامرين لا ثالث لهما فاما الفيء واما الطلاق، وعدم ترك الزوجة كالمعلقة بعد انقضاء مدة اربعة اشهر، ولأن الطلاق ابغض الحـلال الى الله عز وجـل جـاء خيار الطلاق في الترتيب بعد الفيء والعودة من الإيلاء , قال تعالى [وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
وفي الآية نوع تحد للزوج وعز للمرأة، واشارة بان أضرار الطلاق لا تنحصر بالزوجة وحدها، بل تشمل الزوج ايضاً والأولاد ان وجدوا فتقدير جواب الشرط في الآية متعدد ولا ينحصر بمعنى واحد وهو على وجوه :
الأول : وان عزموا الطلاق فليوثقوه.
الثاني : وان عزموا الطلاق فأرادوا الإصلاح.
الثالث : وان عزموا الطلاق ثم أعرضوا عنه.
الرابع : وان عزموا الطلاق فتوسط المحسنون، فمن إعجاز الآية حذف جواب الشرط , وفيه اشارة لدعوة المؤمنين وأهل الحل والعقد للتدخل ودفع الطلاق، وحل الخلافات التي أدت الى الإيلاء.
ان نسبة الطلاق تزداد في العالم، وتصل طلبات الطلاق في احدى الدول الغربية الى سبعة ملايين وترى النسبة أقل بكثير في المجتمعات الإسلامية، لأن قواعد الشريعة تحكم العلاقات الزوجية وان بلغ الأمر العزم على الطلاق، تكون هناك مندوحة وسعة ليتدخل أهل المعروف والإحسان للتدارك، وان حصل الطلاق فهو قابل للنقض خلال مدة ثلاثة قروء، قال تعالى [ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ]( ) وهذا النقض لا يستلزم امر الحاكم او اذن الزوجة ولا تحقق الوطئ بل يكفي فيه اعلان الزوج الرجوع بزوجته.
وفيه وجوه :
الأول : ان عزموا الطلاق فازيلت اسبابه، سواء كانت الأسباب والنقص من الزوجة او الزوج.
الثاني : ان عزموا الطلاق فتفضل الله سبحانه ومنع من وقوعه رحمة منه تعالى بالزوجة او الزوج او بهما معاً، او ان   كتب ولادة مولود منهما يعمل صالحاً , و(عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ( ).
الثالث : في حذف جواب الشرط دعوة للأزواج بالدعاء واجتناب الطلاق، او تفويض الأمر إلى الله سبحانه وهو أعلم بالمصالح والمفاسد فقد يكون الطلاق باباً للرحمة قال تعالى [وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ].
الرابع : يبين الحذف ان العزم أعم من وقوع الفعل، فليس كل ما عزم عليه الإنسان فعله وان اجتمعت شرائطه.
الخامس : الآية من الحواجز والقوانين الوضعية التي تمنع الزوج من حقه في الطلاق او الرجوع عنه بعد العزم عليه .
ويمكن تسمية هذه الآية آية (وَإِنْ عَزَمُوا) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث .
الآية سلاح
في الآية تأسيس لقواعد فقهية في اهم مسائل العلاقات الإجتماعية والحياة الزوجية التي هي عصب المجتمع وركنه ومنها تتفرع مسائل عديدة في مختلف نواحي الحياة، فجاءت الآية إذناً بالطلاق بعد الإيلاء، والتخفيف عن الزوجين.
مفهوم الآية
في الآية عدة مفاهيم منها:
الأول : موضوع الإيلاء وما يترتب على ترك وطئ الزوجة.
الثاني : تدارك الأمر وانتهاء الإيلاء بالوطئ والكفارة.
الثالث : الإقدام على الطلاق وافتراق الزوجين.
مع قدسية اليمين واهميتها فانها لا تكون سبباً للتفريق بين الزوجين وهذا الأمر يدل على تقدم الصلة الزوجية في الأهمية والإعتبار وان الله عز وجل يوليها عناية خاصة وان الإنفصال وانقطاع عصمة الزوجية لا يحصل الا بالطلاق فاثر اليمين والإيلاء محدود زماناً وقابل للحنث في أي وقت منذ عقده الى انتهاء مدته وهي اربعة اشهر كما مر في الآية السابقة.
وحددت هاتان الآيتان حكم الإيلاء بامرين لا ثالث لهما، فاما الفيء والرجوع والتدارك واما الطلاق.
والطلاق حق للزوج من غير ان يطرأ الإيلاء بمعنى ان حكمه مستقل ولكنه احد طريقين للخروج من حكم الإيلاء والآثار المترتبة على اليمين بعدم وطئ الزوجة، فيأتي الطلاق ليكون حداً يمنع من استمرار الإضرار بالزوجة بالإيلاء والحلف على ترك وطئها، لأن الإيلاء يبقي المرأة كالمعلقة ويحجب عنها فرداً من اهم حقوقها في الحياة الزوجية، وفيه تعطيل للإنجاب والولد وايذاء للمرأة، فكان الطلاق احد خيارين للحسم ومنع الإيذاء والله واسع كريم.
التفسير
قوله تعالى [وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ ] وفيه وجوه :
الأول : لقد جاءت هذه الآية والتي ســبقتها بصـيغة الجمع وليس فيه تشجيع على الإيلاء او الطلاق، بل بالعكس قد يكون الإيلاء مقدمة علمية يرى الزوجان من خلالها اضرار الطلاق.
الثاني : تبين الآية سعة رحمة الله تعالى وانفتاح أبواب الحكم الشرعي وتعدد وجوهه.
الثالث : الآية تيسير للبت والقطع وحسـم الأمر، فما دام الطلاق جائزاً وهو حق لمن أخذ بالساق سواء سبقه الإيلاء ام لم يسبقه جاءت الآية بالإذن به , وكانوا في الجاهلية يعدونه طلاقاَ , لبيان ارتقاء أحكام الشريعة الإسلامية وما فيها من الرحمة العامة للناس , وتنظيم المجتمعات , ومنع الشقاق في البيوت وما يترتب عليه عند ذوي القربى من طرفي الزوج والزوجة.
الرابع : المتبادر والمتعارف ان الآية تتعلق بحصول الطلاق ولكنها اعم فان العزم: ارادة الفعل وعقد الفعل على اتيانه، قال الكميت( ):
يرمي بها فيصيب النبل حاجته

طوراً، ويخطئ احياناً فيعتزم

أي يعزم على اتيان الصواب ودرك الهدف.
الخامس : في الآية اعجاز، وهو احتمال التدارك والتراجع عن الطلاق لأسباب خاصة او خارجية.
السادس : صيغة الآية وورود العزم مقدمة علمية وعقلية واختيارية لحصول الطلاق فعلاً , وفيه دعوة للمحسنين وذوي القربى ان يتدخلوا لإصلاح ذات البين والتدارك , قال تعالى [وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ]( ).
السابع : الآية صريحة باستقلال حكم الطلاق وعدم تبعيته للإيلاء أي ان المرأة لا تبين عن الرجل وان انقضت الأشهر الأربعة، نعم لها ان ترفع امرها للحاكم الشرعي.
وقال ابو حنيفة: اذا مضت اربعة اشهر ولم يفيء بانت منه بتطليقة ولا رجعة له عليها وعليها العدة وله ان يخطبها في العدة دون غيره.
ومع ان الآية السابقة ذكرت الفيء ورجوع الزوج الى زوجته على نحو بسيط غير مركب، فان هذه الآية لم تذكر الطلاق ذاتاً ووقوعاً بل أشارت اليه على نحو العزم والعزم والنية عموم وخصوص مطلق، فكل نية هي عزم، أما العزم فهو أعم من النية، فقد تنحصر النية بالخاطر والقلب، أما العزم فيظهر بالجد والسعي لإتيان مقدمات الفعل، ومع هذا فان الآية لا تشير الى حصول الطلاق، فقد يعزم الإنسان على فعل ثم يتركه اذا كان الراجح غيره او يطرأ عليه ما يمنعه منن الإستمرار في عزمه , قال تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).

 قوله تعالى [ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ] وفيه وجوه : 

الأول : تحث الآية على بيان صيغة الطلاق واعلانها والتمييز والفصل بينها كحالة وبين الإيلاء.
الثاني : من شروط الطلاق سمـاع شـاهدين عدلين لصيغة الطلاق، ولم يقل بشرطيته مشهور علماء الإسلام.
الثالث : في الآية تحذير وتخويف من المضارة وتعمد الأضرار.
الرابع : تحث الآية على عدم بقاء الأمر معلقاَ.
الخامس : تنفي الآية البأس في الطلاق كخاتمة للإيلاء.
السادس : على قاعدة القــرآن يفسـر بعضه بعضاً فقد يكون الطلاق مفتاحاً لحال احسن للطرفين قال تعالى[وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ]( )، وان كان إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره فاذا كان  يتفضل عن الزوجين اللذين يفترقان باغناء كل منهما، فانه سبحانه يتفضل عليهما وهما في عصمة الزوجية بالرزق الكريم والله واسع كريم.
السابع : ان الله سميع للدعاء وما يحصل بين الزوجين لعمومات قوله تعالى [ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ]( ).
الثامن : يعلم الله سبحانه حال المجتمعات واثر الطلاق في تركيبتها وضرره والمفاسـد العرضية له اذا شاع وتفشى بين المؤمنين وأسرهم، ونتائجه السلبية على إعداد الأبناء غير خافية على أحد.
التاسع : الآية دعوة للتدبر في الآثار المترتبة على الطلاق واختياره فهو وان كان في الأصل مكروهاً الا انه قد يرد عليه حكم آخر كالإستحباب بالعنوان الثانوي.
العاشر : الله سبحانه سميع من غير آلة للسمع كالتي في الإنسان ولكن جميع المسموعات يعلم بها لإمتناع الإدراك بالآلة عنه تعالى، وهو تعالى حي مجرد فهو عالم بالضرورة بذاته وبغيره، وذاته علة للموجودات والممكنات.
الحادي عشر : إن الله سبحانه يعلم أحوالنا والإقدام على الطلاق ومقدماته ويحول بين المرء ونفسـه، وبالمعنى الأعم للعزم الذي نذهب اليه كما تقدم يمكن القول ان الآية حضّ على التأني والتدبر واجتناب ابغض الحلال والعمل بدله على اصلاح ذات البين وتحقيق الوفاق والرجـوع الى الأصل في الصلة بين الزوجين وهو المودة والمحبة والرحمة والشفقة.
والآية وان جاءت بصيغة الخبر الا انها انشائية في مضمونها، والخطاب فيها انحلالي والمراد أن الله تعالى سميع للزوجة في حاجاتها ومسائلها والضرر اللاحق بها أي فليخش الزوج ايذاءها والإضرار بها خصوصاً وان النصوص وردت بالعناية بها.
وتحذر خاتمة الآية من ترك المرأة كالمعلقة، وان  تعالى سميع لإيلاء الزوج وما يتخذه من قرار الفيء او ايقاع الطلاق، وهو عليم بحال الزوجين كما انه سبحانه عليم بالأحكام ومتعلقها من الأغراض والمصالح والمفاسد وان سنن الإيلاء وانهائه بالفيء او الطلاق من علمه وفضله تعالى على المسلمين.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

مواضيع ﺫات صلة