معالم الايمان في تفسير القرآن – سورة البقرة – ج 45

المقــدمة
الحمد لله رب العرش العظيم الذي هدانا للحمد له سبحانه ، وجعل حمده وشكره واجباً ، ويسر لنا مقدماته ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين .
الحمد لله ذكّرنا بتوالي النعم باللجوء إلى الشكر لدوامها ومضاعفتها فلا تختص المضاعفة بالأجر على الإنفاق بل تشمل مطلق فعل الحسنة وعمل الإحسان ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
والنسبة بين الإحسان والحسنه عموم وخصوص مطلق ، لأن الإحسان نوع مفاعلة ، وهو للذات واتيان الفرائض والعبادات وللغير ، ومع أن الفعل الحسن واجب فقد جعل الله عليها ثواباً وأجراً عظيماً فله الحمد والشكر.
الحمد لله الذي بيده ملكوت السموات والأرض ، الذي علا فقهر ، وملك فعفا وغفر ، وهو على كل شئ قدير [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
الحمد لله بعدد حبات الرمل ، وذرات الكون ، وما هو أقل من الذرة كما أظهره العلم الحديث .
الحمد لله الرزاق ذي القوة المتين ، الذي تفضل علينا بصدور هذا الجزء وهو الخامس والأربعون من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) ويقع في تفسير الآيات (262-268) من سورة البقرة بعد الإضافات والتوسعة والتنقيح في هذه الأجزاء( ).
والحمد لله الذي جعلني أكتب وأراجع وأصحح مؤلفاتي في التفسير والفقه والأصول وعلم الكلام بمفردي وإلى حين صدورها ، مع اللطف والمدد من عند الله عز وجل ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
وإذ أكتب الآن بالجزء الأربعين بعد المائتين من تفسيري للقرآن واكتب مقدمة هذا الجزء الذي بين أيديكم وهو الخامس والأربعون ويتعلق موضوع آياتها بالإنفاق والجمع بينه وبين الإحسان في تهذيب للنفوس ، وإصلاح للمجتمعات وحرب على الإرهاب والظلم والتعدي ، لأن الإنفاق وإخراج الزكاة والخمس وإيصالها للمستحقين نشر لشآبيب التراحم بين الناس ، ودعوة للصبر ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).

قوله تعالى[الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] الآية 262.
الإعراب واللغة
الذين: مبتدأ، وقيل انها بدل من (الذين) في الآية السابقة وجملة ينفقون فعل مضارع ، وواو الجماعة فاعل ، ولا محل لها من الإعراب لأنها صلة الذين.
في سبيل: جار ومجرور، وسبيل مضاف واسم الجلالة مضاف اليه.
ثم لا يتبعون: ثم: حرف عطف للترتيب والتراخي، لا: نافية، يتبعون: فعل مضارع معطوف على ينفقون.
ما : اسم موصول، مفعول به اول.
مناً: مفعول به ثان.
لهم اجرهم: الجار والمجرورخبر مقدم، اجرهم: مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، والضمير مضاف اليه.
ومن اسماء الله تعالى (المنان) الذي يعطــي ابتــداء وتكون له المنة والإنعــام على الخلائق كافة ، ولم يرد اسم (المنان) في القرآن ولكنه ورد في السنة النبوية ومنه (عن أنس بن مالك قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في الحلقة ورجل قائم يصلي فلما ركع وسجد تشهد ودعا ، فقال في دعائه : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك ، لا شريك لك ، المنان ، بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإِكرام يا حيّ يا قيوم إني أسألك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى)( ).
والمن من الله أمر كريم ونعمة اضــافية فمن لطفه وفضله تعالى ان يمن على العباد بما احسن وانعــم عليهم ولا يطــلب الجــزاء عليه وهــو جود وإحسان من الله تعــالى ، اما المـــن من العبــاد بعضــهم على بعض فهو أمر مذموم ، قال تعالى [يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
ولم يرد لفظ (يمنون) (تمنوا) (اسلامكم) إلا في آية البحث ، أما لفظ (يمن) فقد ورد في هذه الآية وفي قوله تعالى [قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ), لبيان أن الله هو المنان ، إذ جاء الفعل بما يدل على الاسم من الأسماء الحسنى .
و(عن محمد بن جعفر قال : سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة؟ فقال : هي في القرآن ، ففي الفاتحة خمسة أسماء . يا ألله ، يا رب ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا مالك . وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً : يا محيط ، يا قدير ، يا عليم ، يا حكيم ، يا علي ، يا عظيم ، يا تواب ، يا بصير ، يا ولي ، يا واسع ، يا كافي ، يا رؤوف ، يا بديع ، يا شاكر ، يا واحد ، يا سميع ، يا قابض ، يا باسط ، يا حي ، يا قيوم ، يا غني ، يا حميد ، يا غفور ، يا حليم ، يا إله ، يا قريب ، يا مجيب ، يا عزيز ، يا نصير ، يا قوي ، يا شديد ، يا سريع ، يا خبير . وفي آل عمران : يا وهَّاب ، يا قائم ، يا صادق ، يا باعث ، يا منعم ، يا متفضل . وفي النساء : يا رقيب ، يا حسيب ، يا شهيد ، يا مقيت ، يا وكيل ، يا علي ، يا كبير . وفي الأنعام : يا فاطر ، يا قاهر ، يا لطيف ، يا برهان . وفي الأعراف : يا محيي ، يا مميت . وفي الأنفال : يا نعم المولى ، يا نعم النصير . وفي هود : يا حفيظ ، يا مجيد ، يا ودود ، يا فعال لما يريد . وفي الرعد : يا كبير ، يا متعال . وفي إبراهيم : يا منَّان ، يا وارث . وفي الحجر : يا خلاق . وفي مريم : يا فرد . وفي طه : يا غفّار . وفي قد أفلح : يا كريم . وفي النور : يا حق ، يا مبين . وفي الفرقان : يا هادي . وفي سبأ : يا فتَّاح . وفي الزمر : يا عالم . وفي غافر : يا غافر ، يا قابل التوبة ، يا ذا الطول ، يا رفيع . وفي الذاريات : يا رزاق ، يا ذا القوة ، يا متين . وفي الطور : يا بر . وفي اقتربت : يا مليك ، يا مقتدر . وفي الرحمن : يا ذا الجلال والإِكرام ، يا رب المشرقين ، يا رب المغربين ، يا باقي ، يا مهيمن . وفي الحديد : يا أول ، يا آخر ، يا ظاهر ، يا باطن . وفي الحشر : يا ملك ، يا قدوس ، يا سلام ، يا مؤمن ، يا مهيمن ، يا عزيز ، يا جبار ، يا متكبر ، يا خالق ، يا بارىء ، يا مصوّر .
وفي البروج : يا مبدىء ، يا معيد . وفي الفجر : يا وتر . وفي الإِخلاص : يا أحد ، يا صمد)( ).
في سياق الآيات
بعد آيات الإحياء ومجيء الآية الســابقة بالحث علــى العطاء والبــذل في ابــواب الخير ورجاء ثــواب الله تعالى جــاءت هذه الآية في ذكر المنافع الإضــافية للإنفاق وأسباب وسبل الاقتطاف من ثمراته، بجـزيل الثواب، وعلى القول بدلالة المعنــى السياقي للآيات فان امتثال المسلمين بالإنفاق في سبيله تعالى بعد ورود المثل القرآني في الآية الســابقة في الإنفــاق يدل على سرعة استجابة المسلمين وحسن انصياعهم للأوامر الإلهية وان وردت بصيغة المثل.
لقد تكرر قوله تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] في هذه الآية والآية السابقة وهو فرد نادر في القرآن بأن تتكرر ست كلمات في آيتين متعاقبتين للدلالة على موضوعية الإنفاق في سبيل الله في كل زمان ومكان ، ومنه الزكاة والخمس وإعانة الفقراء والمحتاجين ، وفي الزكاة ووجوبها وبيان السهام ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
ويمكن استقراء عدة مسائل وقوانين من الصلة بين آية البحث والآيات المجاورة لها منها :
الأول : بشارة الرزق الكريم للمسلمين .
الثاني : قانون زوال الأذى الذي يأتي من المشركين بحيث يستطيع المسلمون الضرب في الأرض للرزق ، قال تعالى [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثالث : قانون موضوعية قصد القربة في الإنفاق .
الرابع : تقييد الإنفاق بأنه في سبيل الله دعوة للتدبر في كيفية إيصاله للمستحقين .
الخامس : قانون مضاعفة الأجر والثواب على الإنفاق أضعافاً مضاعفة .
السادس : قانون التنزه عن المّن والأذى عند الإنفاق.
السابع : قانون الوعد الإلهي الكريم على الإنفاق.
وهو قوله تعالى في آية البحث [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ), ومثلما تكررت خمس كلمات عدا حرف الجر في الآية السابقة وهذه الآية .
جاء التكرار ثلاث مرات في قوله تعالى [قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا]( ), في ثلاث آيات متعاقبة .
إعجاز الآية
تبين الآية المضامين القدسية في الإنفاق في سبيله وتمنع من الغرور وتحول دون الغي والأضرار الجانبية للإنفاق في باب العقيدة، انها مدرسة اخلاقية للمسلمين كافة، ودليل على غنا الله تعالى عن الناس وبيان كل من :
الأول : قانون الذي ينفــق امــوالــه في ســبيل الله انما هو محتاج الى رحمتــه.
الثاني : قانون وجوب عدم خروج الإنسان عن صيغ العبودية والخشوع لله تعالى.
الثالث : قانون الإنفاق في سبيل الله واقية وحرز في النشأتين.
وتنهــى الآيــة عن اتخــاذ الإنفاق وســيلة للأمــرة والسلطنة او للزهــو وايــذاء المســلمين بســبب الإنفــاق، ليبقى الإيمان والإرتقاء في مراتبه هــو ملاك التفضيل قال تعالى [ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ) نعم الإنفاق في سبيل الله تعالى وجه من وجوه التقوى.
ورد قوله تعالى[لاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] في القرآن إثنتي عشرة مرة ، واحدة منها بصيغة الخطاب [لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ]( )، وفي عالم الآخرة ودخولهم الجنة، فهل تكون مقيدة للآيات الأخرى التي جاءت بلفظ الغائب، ومنها آية البحث وأنها تختص بعالم الآخرة، الجواب لا، وهي أعم من وجوه:
الأول: أصالة الإطلاق.
الثاني: قانون سعة فضل الله وأنه سبحانه يعطي بالأتم والأكمل.
الثالث: قانون حضور الآية القرآنية في عالم الدنيا والآخرة.
الرابع: من إعجاز هذا القانون الذي يتضمنه قوله تعالى أعلاه أن كل فرد منه يكون على أقسام:
الأول: المعنى الخاص بلحاظ موضوع الآية.
الثاني: المعنى الأعم بلحاظ أمور الدين والدنيا.
الثالث: قانون مصاحبة البشارة والسكينة للمؤمنين أحياء وأمواتاً.
الرابع: عصمة المسلمين من الخوف والحزن وآثارهما على الفرد والجماعة.
ومن أفراد المعنى الخاص لقوله تعالى[لاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] في هذه الآية أمور:
الأول: قانون حصانة المسلم من الشح والبخل.
الثاني: تنمية ملكة التوكل على الله عند المسلم.
الثالث: قانون الوعد الكريم بأن الله يخلف الإنفاق خيراً[وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]( ).
الرابع: قانون عدم ترتب الضرر على الإنفاق في سبيل الله.
الخامس: قانون البشارة بالثواب العظيم على الإنفاق ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ) .
وعن عبد الله بن مسعود (أن رجلا تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة)( ).
ومن الإعجاز في هذه الآيات تكرار خمس كلمات مع حرف الجر في هذه الآية والآية السابقة وهو قوله تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
ويمكن تسمية الآية آية (الذين ينفقون)
الآية سلاح
تســاهم الآيــة في الإنتفــاع العــام مــن الإنفـاق في سـبيل الله ، وتمنع من الترفــع من طرف المنفق، والإباء او الذل من طرف المنفق عليه.
وموضوع الإنفاق في آية البحث أعم من أن يكون من الغني إلى الفقير ، إذ أنه يشمل البذل والعطاء في الأمور العامة وبناء المساجد وطبع الكتب الدينية ، وإنشاء المؤسسات الخيرية ، والدفاع في سبيل الله.
نعم صدرت لي ستة وعشرون جزءً بقانون (لم يغز النبي (ص) أحدا) وهي :
الأول : الجزء التاسع والخمسون بعد المائة .
الثاني : الجزء الستون بعد المائة .
الثالث : الجزء الواحد والستون بعد المائة .
الرابع : الجزء الثالث والستون بعد المائة .
الخامس : الجزء الرابع والستون بعد المائة .
السادس : الجزء الخامس والستون بعد المائة .
السابع : الجزء السادس والستون بعد المائة .
الثامن : الجزء السابع والستون بعد المائة .
التاسع : الجزء التاسع والستون بعد المائة .
العاشر : الجزء الواحد والسبعون بعد المائة .
الحادي عشر : الجزء الثاني والسبعون بعد المائة .
الثاني عشر : الجزء الثالث والسبعون بعد المائة .
الثالث عشر : الجزء الخامس والسبعون بعد المائة .
الرابع عشر : الجزء السادس والسبعون بعد المائة .
الخامس عشر : الجزء السابع والسبعون بعد المائة .
السادس عشر : الجزء الثامن والسبعون بعد المائة .
السابع عشر : الجزء الثاني والثمانون بعد المائة .
الثامن عشر : الجزء الخامس والثمانون بعد المائة .
التاسع عشر : الجزء الثامن والثمانون بعد المائة .
العشرون : الجزء الثاني والتسعون بعد المائة .
الواحد والعشرون : الجزء المائتان.
الثاني والعشرون : الجزء الثامن بعد المائتين.
الثالث والعشرون : الجزء الثاني عشر بعد المائتين.
الرابع والعشرون : الجزء الثامن عشر بعد المائتين.
الخامس والعشرون : الجزء السادس والعشرون بعد المائتين.
السادس والعشرون : الجزء الثامن والثلاثون بعد المائتين.

أسباب النزول
ذكر الرازي: ان الآية نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف، اما عثمان فجهز جيش العسرة في كتيبة تبوك بألف بعير باقتابها وألف دينار، واما عبد الرحمن فانه تصدق بنصف ماله اربعة آلاف دينار( ).
و(قال الكلبي: نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، أما عبد الرحمن بن عوف فإنه جاء
إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة، فقال: كان عندي ثمانية آلاف درهم، فأمسكت منها لنفسي ولعيالي أربعة آلاف درهم، وأربعة آلاف أقرضتها ربي، فقال، له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت وأما عثمان رضى الله عنه فقال: علي جهاز من لا جهاز له في غزوة تبوك، فجهز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها، وتصدق برومة ركية كانت له على المسلمين، فنزلت فيهما هذه الآية)( ).
والكلبي محمد بن السائب بن بشر (55-146) هجرية.
ولم يرفع الكلبي الخبر .
و(عن ابن عباس نزلت في علي : ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى)( ).

مفهوم الآية
من القواعد الكلامية في القرآن (الترغيب والترهيب) والترغيب بالعمل الصالح والتخويف والترهيب من السيئات والذنوب، ومن اهم مصــاديقهما الحســاب الأخــروي وهـو ميزان الأعمال والغايــة التي يجب ان يجتهد الناس لبلوغها بالفضل الزاد.
وبما ان المعاد حق وحتم فهو قانون واصل من اصول الدين، وجاء القرآن بالتذكير به ولزوم الإستعداد له بالعمل الصالح، واذ ان الإنسان تتصارع عنده احياناً مفاهيم والخير والشر ويميل تارة الى النفس البهيمية ويشتاق الى اللذات الحسية والنفس الغضبية فيميل الى الحدة والترفع، او النفس الأمارة وما تدعو اليه من الرذائل او بالعكس يتجه نحو النفس المطمئنة التي تتصف بالفضائل والمحاسن.
فجاءت هذه الآية لتكون على وجوه :
الأول : انها عون للمسلم .
الثاني : إصلاح للعمل .
الثالث : ترغيب في الصالحات .
الرابع : البشارة بالثواب العظيم ، قال تعالى [يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
الخامس : الآية وسيلة لغلبة خصائص النفس المطمئنة وظهورها على السلوك العام بالمبادرة الى الإنفاق في سبيل الله تعالى.
ان قيد في سبيل الله مدرسة جامعة للمضامين الجهادية والأخلاقية، فهو دعوة للتدبر والتفكر واختيار افضل وجوه الإنفاق واكــثرهـا نفعاً في تعظــيم شــعائر الله تعالى ، ومنع من التفريط بالمال او تبذيره فالآية تنمي حالة التساؤل والترديد والتخيير الذاتي عند الإنســان بترجيح انفاق هذا المال في سبيل الله ام صرفه على المؤونــة الإضــافية او تبذيــره واسرافه، والنتيجـة التي يحكم بها الشرع والعقل والعرف والوجدان هي جعله في سبيل الله.
كما تمنع الاية في مفهــومهــا من الإنـفــاق في غير مرضـاة الله تعالى قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( )، وتجــعل المؤمــن يتجنـب طــرق الفواحش والذنوب، فاذا همّ بفـعل ســيئة واكثر الســيئات التي تســتلزم انفاقاً مالياً، فان هذه الآية تدعـوه لعدم التفريط بالمال بالسيئات وتحمل وزر اضافي، وتدعــوه لصــرفه في موارد والبر والإحسان، والآية سياحة في عالم الرفعة والصلاح.
وقد شاع القول : حسنات الأبرار سيئات المقربين( ).
ولا أصل لهذا القول موضوعاً وحكماً ، فان حسنات الأبرار في طول حسنات المقربين ، والنسبة بينهما ليس التضاد ، إنما العموم والخصوص المطلق.
وتتعاهــد الآية القيم الأخــلاقية في حالات الزهـو والفخر، وقد يأتي المــن والغـرور من صــيغ المــدح التي يقــوم بهـا المداحون من اهل الحاجــة والفاقــة او الشــعراء، وقد يأتي تحريضـاً او شــكراً وثــناء وبيانـاً لموضــوعية واثــر النفع.
فجــاءت الآية للتحــذير من ســوء توظيــفـه او الخــلل في تلقــيـه، ولتوكيد ان الفضــل كله لله عز وجــل وانما يكون الإنفاق لنفــع العبد نفسـه وما يحتاجــه، وما يعــود عليه من عظيم النفع في الدارين اكــثر باضــعاف مضــاعفــة من المــال الذي انفـقــه في ســبيله تعالى.
وتمنع الآيــة من الغـرور والغي وارجاع الفضل الى غير الله تعالى، ففــي قـوله تعالى [ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ ] ( )، ورد في الخبر عن مالك بن عطية عن الصادق عليه السلام: “قول الرجل: لولا فلان لهلكت، ولولا فلان لما أصــبت كذا وكذا، ولولا فــلان لضاع عيالي; ألا ترى أنه قد جعل لله شــريكا في ملكــه يرزقه ويــدفع عــنه ؟ قلت: فنقول: لولا أن الله منّ عليّ بفلان لهلكت، قال: نعم لا بأس بهذا ونحوه( ).
فمن مفاهيم الآية بعث روح العز عند المؤمنين وان كانوا ذوي فاقة وحاجة، لأن النفع الذي يعود على المنفق اكثر بكثير من الذي يعود على المنفق عليه، فلو اخذ المحتاج ديناراً فان المنفق يأخذ سبعمائة كما تنطق به الآية السابقة الى جانب المضاعفة لهذا العدد.
ثم ان الإعطاء يكون في الدنيا الزائلة الفانية، والعوض والبذل الكريم يأتي في الدنيا الباقية .
ومن فضل الله تعالى ان جعل بين المسلمين من هو محتاج وهيء موارد للإنفاق في سبيله تعالى.
وتفضل على اهل السعة والمال ليبتليهم بالإنفاق وتلطف عليهم ان حثهم ورغبهم بالإنفاق في سبيله.
فالآية وان كانت خطاباً لأهل الأمــوال من المؤمنين ففيها منافع عظيمة منها :
الأول : قانون الآية تأديب للمسلمين.
الثاني : الآية اصلاح لمجتمعاتهم.
الثالث : قانون تعاهد السجايا الحميدة .
الرابع : المنع من تفشــي الأخلاق الذميـمة وتأثيــرها الضـار على الأفراد والأمة ، قال تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ]( )، فمفاهيم الآية تتعدى الأشخاص المنفقين لتشمل :
الأول : إصحاب الأموال مطلقاً من المسلمين وغيرهم في تحريضهم على العمل الصالح.
الثاني : ثبوت شرط في الإنفاق وهو عدم المن او التعدي.
الثالث : نبذ المن والتباهي بالإصطناع سواء بانفاق المال او بذل الوسع او الجهاد في سبيل الله تعالى او اصلاح ذات البين او الإعانة بالقــوة والجــاه والشأن او الصبر على الأذى او الوفاء بقصــد الأخــوة الإيمانية او تحمل الخسارة والعبأ الثقيل في مرضاة الله تعــالى او السعي في قضاء الحوائج ونحوهــا من وجــوه البر والخيــر والأمـر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يكون في مقدور أي انسان استثماره طلباً للثواب.
فهذه الآية وما فيها من التأديب ضرورة اخلاقية وحاجة عقائدية، وقواعد فقهية واحكام تشريعية يحتاجها المجتمع الإسلامي على نحو العموم وكل مسلم ومسلمة على نحو الخصوص في الواقع اليومي والصلات الإجتماعية ، وهي من مصاديق التقوى .
ومن إعجاز القرآن ورود كلمة (يعلمكم) فيه مرتين :
الأولى : تعليم الله للمسلمين والمسلمات بقوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
الثانية : تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين والمسلمات بقوله تعالى [كمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ]( ).
انها مدرســة اجتماعيــة واخلاقيــة متــعــددة الابعاد وتــهـدف الى بنــاء امــة ســـليمة معافاة من الأمراض والدرن، وهذه الســلامة مطــلوبــة بالـذات والعرض اذ انها مقدمة لإنجاز المطــلـوب وتحــقـيق الأغراض العقائدية السامية ونيل اعلى المــراتب في الــدارين واحــراز الأمــن والســلامة في النشأة الآخرة.
واذا كان منطوق الآية خال من الإحباط وضياع العمل الصالح السابق بارتكاب الذنب اللاحق فهل يدل مفهومها عليه، الجواب: لا، والقدر المتيقن منه التحذير والنهي عن اتباع الإنفاق بالمنة والأذى وتوجيه الضرر، والأولى النظر للآية بلحاظ المنطوق وليس من تعارض بينه وبين المفهوم سواء كان مفهوم موافقة او مفهوم مخالفة.
ومن مفاهيم الآية انها وسيلة مباركة لدوام الإنفاق في سبيل الله فهي تحث على الإنفاق في سبيل الله مع تقييده بعدم المن والأذى، وهذا التقييد لا ينفي القاعدة بل يثبتها ويؤكدها.
وهي دعوة متجــددة للإنفاق وللعناية بخصــوصياته، وفيها مواساة للفقراء فمع الحاجة يجب ان لا يتوجه اليهم ما يشعرهم بالذل وفيها عز لمعاشر المؤمنين.
وهذه الآية مما يســاهم في ثبــوت احكام وقواعــد قوله تعالى [ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ) فيبقى المؤمــن الفقــير عـزيزاً وان تلقى العون المادي من الغني، والأخير يسعى في مرضاته تعالى بالمبادرة الى الإنفاق مع الحرص على عدم المن والأذى لأنهـمــا يخــلان بالثــواب ويحــولان دون الإرتقــاء في سلم التقوى.
وتؤكد الآية عدم احراز المنفق الملكية المطلقة على ما ينفقه لأن الله عز وجل منعه من المن والأذى وما يكون من لوازم الملكية المحضة ونهاه عن جعله سبباً لبث الحزن في القلوب المنكسرة او شعور المحتاج بالخوف مما سيصدر من الأذى عند الإنفاق او قبله او بعــده.
فذكــرت الآية صــاحب المــال بالإنفــاق وانــه يحتــاج عدم الخــوف وعدم الحزن عند عرصــات يــوم القيامة وما فيها من اهــوال ، بل ليس من انســان يكـون في حصــانة منهـما في الدنيا ايضاً ، ومن مصاديق قانون الوقاية من الخوف والحزن في النشــأتين هي المبــادرة الى الإنفــاق في ســبيل الله تعــالى من غير منّ او اذى.
وسيأتي بيان وتفسير لقوله تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
لقد ذكرت الآية السابقة الإنفاق وقيدته في سبيل الله ، وأخبرت عن الأجر العظيم عليه ، والذي لايقدر عليه إلا الله عز وجل بأن يكون الأجر سبعمائة ضعف مع زيادة ومضاعفة أخرى.
فبعد أن ذكر الله هذه الأضعاف قال [وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( )، ثم جاءت آية البحث بذات الموضوع وقيد قصد القربة إلا أنها أضافه شرطين :
الأول : قانون عدم اتباع الإنفاق بالمن والرياء والتفاخر .
الثاني : قانون عدم إتباع الإنفاق بالأذى للمنفق عليه أو غيره.
ثم ذكرت الوعد الكريم من عند الله بنجاة أهل هذه الآية من الخوف عما يأتي في المستقبل ، والحزن على مافاتهم ، وهل يختص هذا الوعد الكريم بعالم الآخرة ، الجواب لا ، إنما يشمل الحياة الدنيا.
إذ أن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى ، نعم يتجلى تمام نعمة [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، في الآخرة ومواطن الحساب والجزاء .
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان علم الله عز وجل بما يفعل الناس ، وتوثيق وكتابة أعمالهم لتحضر معهم في الآخرة ، فيكون الناس على قسمين :
الأول : الذين يجعلهم الله عز وجل في مأمن من الخوف والحزن ، وهم المؤمنون الذين عملوا الصالحات ، ومنها أداء الفرائض والإنفاق في سبيل الله ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
الثاني : الذين يبعثون من القبور وهم في حال فزع وخوف ، تطاردهم معاصيهم وتصاحبهم ذنوبهم ، وفي التنزيل [وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِي]( ).
الثانية : بيان أن الدنيا والآخرة ملك طلق لله عز وجل وقانون لا يقدر على الجزاء والثواب في الآخرة إلا الله عز وجل ، وفي التنزيل [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
الثالثة : قانون التنزه عن إقتران الصدقة بالمن والأذى .
الرابعة : جعل المسلم يخاف على فوات الثواب العظيم أو ينتقص منه بسبب المن والأذى .
الخامسة : هل تدل الآية على أن الذي يتبع إنفاقه بالمن أو الأذى لا يحصل على الثواب الذي تذكره الآية كما ذهب بعض المفسرين ، الجواب لا ، ولكنه لاي نال هذا الثواب كاملاً وهو من الإعجاز بالمجاورة بين هذه الآية والآية السابقة التي أخبرت عن الأضعاف المضاعفة لمن ينفق من أمواله في سبيل الله .
وقد يقال يفيد الجمع بين الايتين الإطلاق والتقيد خاصة وأنه سيأتي بعد آيتين قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى]( ).
السادسة : ترغيب الناس بخصال الإيمان ، ومنها الإنفاق وإخراج الحقوق الشرعية ، وإيصالها للمستحقين ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إن الله خلق عبيدا من خلقه لحوائج الناس يرغبون في المعروف ويعدون الجود مجدا والله يحب مكارم الاخلاق)( ).
السابعة : البشارة العظمى للمؤمنين على الإنفاق في سبيل الله.
الثامنة : قانون الملازمة بين خلافة الإنسان في الأرض والإنفاق في سبيل الله .
التاسعة : قانون صرف البلاء عن الناس عامة بانفاق أرباب الأموال في سبيل الله من غير من أو أذى للمنفق عليه أو لغيره بسبب هذا الإنفاق .
العاشرة : بيان قانون أن الناس وما يملكون كلهم ملك لله عز وجل ، فتنتفي أسباب المن والأذى .
و(قال الضحاك : أن لا ينفق الرجل ماله خير من أن ينفقه ثم يتّبعه مناً وأذىً.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال : كان أبي يقول : إذا أعطيت رجلاً شيئاً وظننت أنّ سلامك يثقل عليه ، فكفّ سلامك عنه.
قال ابن زيد : فشيء خير من السلام)( ).
ولا أصل لهذا القول لأن الإنفاق واجب ومستحب ، فالمن وإظهار النفقة والعقبة والتفاخر لا يأتي على الأصل ، ولا يحول دون استمرار حكمه ، وقد أمر الله عز وجل بالسلام وندب إليه.
ولا عبرة بالظن الذي لا أصل له ولا يحصي منافع السلام والتحية بين الناس غلآ الله عز وجل ، ومن خصائص المؤمنين تعاهد الإبتداء بالسلام وحسن الرد عليه ، قال تعالى [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا]( ).
التفسير
قوله تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]
تلتقي البداية الكريمة لهذه الآية مع بداية الآية السابقة في الألفاظ اجمالاً الا انها تختلف عنها من جهات ، فالآية السابقة جاءت بصيغة المثئ والحث على الإنفاق.
أما في هذه الآية فجاءت على نحو الواقع والإمتثال والفعل الحسن ، وليس في الآية السابقة نهي أو إنذار بخلاف هذه الآية التي حذرت المؤمنين من المن والأذى ، والإعتداء والتباهي في انفاقه على فلان أو الأمور العامة ، والله وحده المنان ، الذي في منه إكرام للعباد.
وفيها دلالة على استجابة المسلمين للأوامر الإلهية وان جاءت بصيغة الخبر او المثل وتدل على الإرتقاء الفكري عندهم والتقدم في مراتب الإيمان باتخاذ المثل عنواناً للإندفاع في مرضات الله تعالى كما تبين اعتبار المثل القرآني ومنافعه العظيمة في خلق امة واعية مدركة لمسؤولياتها.
لقد جاءت هذه الآية بلغة الخبر الذي يفيد الوقوع والحصول خارجاً، ولقد مدح الله عز وجل الذين يأخذون بامثلة القرآن ويتخذونها موعظة ومنهاجاً قال تعالى [ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ] ( ).
فحينما يبــادر المســلمون الى الإنفاق في سبيل الله لما تضمنه المثل في الآية السابقة في الحث والدعوة الى ابواب البر والإحسان تعظيماً لشــعائر الله وتثــبيتــاً لقيــم الإسلام فانه تصدق عليهم صــفة الإيمان وانهــم حملة العلم ورواده ، ولو لم يكن في الإنفاق في ســبيل الله الا نيل هذا الوســام والمرتبــة العاليــة في الشــرف لاستحق الأمر التدافع والتباري في الإنفاق ومقاديره وكمه وكيفيـتـــه.
لــذا تــرى بعـض النفـوس تعشــق الإنفاق وتجتــهــد في بذل المال مع ان الحصـول عليه لم يتم بيسر او سهولة.
انها جزء من فلسفة نفخ الروح في آدم وبقاء بركاتها كافاضة سماوية متصلة عند جميع بني آدم بالإضافة الى الأسرار الإلهية في خلق الإنسان ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، ونعمة العقل وعمومات قاعدة اللطف في توجيه العقل والجوارح لإتيان الصالحات.
قانون موضوعية المثل
وهذه الآيــة تؤكــد موضــوعية المثـل القرآني في تأديب المســلمين واصــلاح احــوالهم وبعثــه للفعــل الحســن والتخلي عن زينـة الدنيا خصــوصــاً وان الإنفــاق من الأمــوال الخاصـــة تحد كبــير يواجــه الإنســان يتجلى باستعراض الإنسان لأمور ســابقة ولاحقــة، اما الســابقة فهــي ســعيه وتعبــه وعـنـاءه في جمع المال، واللاحقة الخوف من المســتقبل المجــهول والحـاجة الطارئة والإبتــلاء العرضــي، ومزاحـمة الإنفــاق للآمال والمشاريع الشــخصية بالإضافة الى الوســوسة وحديث النفس اثناء العزم على الإنفاق ومحاولة النفس الشهوية التأخير والتســويف واستحضار حاجــات دنيــوية وكأن لها الأولوية، فهذه الأمــور مجتمـعــة تســتلزم وجـود قوة قاهرة للنفس تحول دون ترددهــا وتقودهــا نحو ســبل الخير، فجاء المثل القرآني والحــث على الإنفــاق لتنـمــية ملكــة البــذل والعطاء في سبيل الله.
قانون الإنفاق سلاح
ان وجود آيات الإنفاق في القرآن سلاح سماوي دائم يهيء المستلزمات المادية لإنتصار الإسلام وتحقيق الغايات العقائدية السامية، ولا تســتطيع قوة في الأرض الحيلولة دون مبادرة المسلمين الى الإنفاق في سبيله .
ومن خصائصها اطلاق استحباب الإنفاق في جميع احوال العبد وسني عمره، فالفقر لا يمنع من الإنفاق وكذا الصغر او الجنس، بمعنى ان عمومات الإنفاق تشمل المرأة ايضاً، قال تعالى [وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
وبذل المال في سبيل الله من أحسن القربات ، إذ يقرب العبد إلى الله عز وجل ، ويكون سبباً للرزق الكريم ، وتوالي فضل الله عليه ، مع قانون الإنفاق في سبيل الله صرف للبلاء وهو من مصاديق قوله تعالى [يمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
ومن إعجاز القرآن الأمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باخبار المسلمين والمسلمات بعدم الوقوف عند النطق بالشهادتين فلابد من أداء الفرائض والإنفاق في سبيل الله ، قال تعالى [قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ]( ).
وهل تتصف صدقة السر يخلوها من المن والأذى ، الجواب لا ، ولكنها هي الأقرب الى السلام منه ومن الرياء وأيهما أكثر نفعاً :
الأول : قانون منافع الإنفاق في الدنيا .
الثاني : قانون منافع الإنفاق في الآخرة .
الجواب هو الثاني ، لذا اختتمت الآية بالوعد من عند الله [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).

ام المؤمنين خديجة
ومن الآيات ان اكــثر الناس اعانــة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بدايات الإسلام هي أم المؤمنــين خديجــة بنت خويــلد وهــي أول امــرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يتزوج عليها الى ان ماتت ، واول النســاء اســلاماً( ).
وقال ابن الأثير (خديجة بِنْت خويلد بن أسد بن عَبْد العُزى بن قصيّ القُرَشِيَّة الأَسَدِيَّة أم المؤمنين، زوج النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم، أول امْرَأَة تزوجها، وأول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجلٌ ولا امْرَأَة.
قال الزبير: كانت تدعى في الجاهلية الطاهرة. وأمها فاطِمَة بِنْت زائدة بن الأصم، واسمه جُندب بن هذم بن رواحة بن حُجْر بن عَبْد بن مَعيص بن عامر بن لؤي. وكانت خديجة قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت أبي هالة بن زرارة بن نبّاش بن عَديّ بن حبيب بن صُرَد بن سلامة بن جِروة أُسيِّد بن عُمر بن تميم التميمي)( ).
وقد ورد النص بعدة طرق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ان خير نساء العالمين مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد( ).
وكانت خديجة قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متزوجة من ابي هالة بن زرارة، وبعده تزوجت عتيق بن عائذ المخزومي ، ومنهم من يذكر زوجاً واحداً لخديجة قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أبو هالة بن زرارة.
ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمرها اربعين سنة وقيل أقل من ذلك، وعمر النبي يومئذ خمس وعشرون سنة وعاشت معه أربعاً وعشرين سنة.
والى جانب شــرفها وعظيم شــأنها عند مــوتها فانها كانت ذات مــال وثروة وتتــاجــر وتضارب بها، فترسل الرجال الى الشام للتجــارة، فلما علمت بما يتصف به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأمانة والصدق والخلق الكريم ارسلت اليه وطلبت منه الخــروج الى الشـام بمالها ورغبته ووعدته باعطائه اكثر مما تعطي غيره من التجار فاستجاب لطلبها وبعثت معه غلامها ميســرة حتى وصـل الشام فجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحــت ظل شــجرة فـرآه بحيرا الراهب في صومعته فسأل ميســرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاخبره بانه رجل من قريش من اهل الحرم، فعرفه الراهب بصفاته انه نبي آخر زمان.
فلما اخبر ميسرة خديجة بقول الراهب الى جانب ما اخبر اتضح لها من صــدق ما شــاع عن النبي مـن حسن الخلق والصدق والأمانة بالبركات التي ظهرت جلية والربح الجزيل الذي عاد به، عرضت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزواج منها، فاخبر اعمــامه وخرج معه ابو طالب وحمزة بن عبد المطــلب وجمــاعــة ودخــلوا على خــويلد بن اســد وخطبوها اليه.
وكان بين خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تجارة خديجة والزواج منها شهران( ).
(وعن قتادة بن دعامة قال: كانت خديجة قبل أن يتزوج بها رسول الله صلى الله عليه وآله عند عتيق ابن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، يقال: ولدت له جارية وهي ام محمد بن صيفي المخزومي، ثم خلف عليها بعد عتيق أبو هالة هند بن زرارة التيمي، فولدت له هند بن هند، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله)( ).
وتزوجت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لتفوز بالسعادة الدائمة في الآخرة والذكر الحسن وجلالة القدر بين المســلمين وتحمل صــفة ام المؤمنــين مــع اعتزاز وافتخار كل مسلم ومسلمة بها، وقامت باعباء المسؤوليات العقائدية بالمبادرة الى اعتناق الإســلام وانفاق جمــيع امــوالها في سبيل نشره وتثبيت احكامه.
والمشــهور والمختار انها كانت متزوجة قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وان النبي تزوجـها ثيباً ولم يتزوج بكراً الا عائشة، وخالف المشهور جمع فقالوا ان خديجة لم تتزوج قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانه تزوجها عذراء، ذهب الى هذا القول احمد البلاذري وابو القاسم الكوفي، والسيد المرتضى في الشافي.
واستدلوا بما هو ثابت تأريخياً باقدام اشراف وسادة قريش للزواج منها وقام كل منهم بخطبـتها ولكنها ردتهم وامتنعت عنهم، ولما تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم غضبت نساء قريش وهجرنها وقاطعنها واظهرن اللوم لها بترك الزواج من سادة قريش والرضا بمحمد يتيم ابي طالب وهو فقير لا مال له، واذا كان هذا حالها بين قومــها فكيف تكــون قــد تزوجت بإعرابي من تميم.
والجواب على ما ذكر بالاضافة الى الشهرة، انها تزوجت من غير القرشي قبل ان تكثر اموالها وترى قريش رجاحة عقلها ويتوجه الأشراف منهم لخطبتها، والزواج من الإعرابي او غير القرشي ليس امراً خلاف العادة او حكم العقــل والشرع والعرف، وابو هالة من تميم وعتيق من بني مخزوم من قريش من اهل النسب ولعل كلاً منهما كان من وجهاء قومه الا ان النسبة تتلاشى في المقام لأنها تزوجت من سيد البشرية وخاتم الأنبياء ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
وقيل انها عذراء من غير تعارض مع كونها تزوجت قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيجوز انها تزوجت باثنين ولم يمسها منهما احد لعنن او حجاب ونحوه، كما في امرأة الملك التي راودت يوسف وتزوجها يوسف وهي عذراء، وهو بعيد بالنسبة لخديجة لحصول الإنجاب لها الا ان يكون بآية منه تعالى.
والأصل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوجها ثيباً.
وما يذكر بانها لم تلد للنبي الا فاطمة عليها السلام وان رقية وزينب ابنتا خديجة من زوجها قبل النبي او انهما ابنتا اختها هالة ضعيف.
وقد ورد في الاخبار وكتب السيرة والتأريخ ان خديجة ولدت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم اربع بنات زينب وام كلثوم وفاطمة ورقية وثلاثة اولاد القاسم والطيب والطاهر، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكنى ابا القاسم، وقيل ولدت له من الذكور ولدين ومات اولاده الذكور قبل الإسلام، واما بناته فادركن الإسلام وآمن برسالته وهاجرن معه.
لقد كانت خديجة وزيراً وعضداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وماتت خديجة وأبو طالب في سنة واحدة هي السنة العاشرة للبعثة فاشتد أذى قريش على النبي ، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها غيرها في حياتها.
قانون الإنفاق من الفطرة
لقد بذلت خديجة مالها في سبيل الله قبل نزول الآية وهي مدنية وكانت آيات القرآن التي تنزل في مكة تتضمن في غالبيتها الوعيد والتخويف والإنذار، وانفاقها رضي الله عنها لأموالها في بدايات البعثة النبوية يدل على ان الإنفاق في سبيل الله امر فطري مصاحب لصدق الإيمان وهو عنوان الإخلاص في العقيدة والأثر الإيجابي لما انفقته في تعضيد النبوة ويدل على موضوعية الإنفاق والحاجة اليه وتعدد وجوه النفع بسببه.
لقد اظهرت الآية اختيار وارادة المكلفين الإنفاق ونسبت الأموال لهم [ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ] ولم تقل ينفقون الأموال، وفي هذه النسبة بالإضافة الى الإختيار دلالات عقائدية تؤكد فتح باب الثواب والأجر بالإنفاق مع ان اصل الرزق والمال منه تعالى وليس بمقدور الإنسان ان يحصل على المال من دون مشيئته واذنه ســـبحانه وهو الرزاق ذو القـوة المتين، يتفضل بالرزق الواسع على الإنسان ويجعل عنده زيادة على مؤونته ثم يختبره بالإنفاق منه في سبيل الله وهذا الإختيار لم يكن محضاً ومجرداً بل جاء بصيغة الترغيب والحث.
والترغيب الإلهي يعني في مفهومه الإعانة والمدد والتوفيق للإمتثــال الأحسن وتيسير مقدماته واسبابه، فقد يعزم المكلف على الإنفاق ولكن يـده خالية وتتعذر عليه مؤونة سنته، فيرزقه الله عز وجل رزقاً كريماً كي يتمكن من الإنفاق ويصدق النية والقول بالعمل، ولا عبرة بالشــاذ النادر الذي يبرز عنده عنصر الطمــع والحرص وينكــص على عقبيه، خصــوصاً وان الآيــة عامة ولا تنحصــر بمن كان فقـيراً واصبح غنياً بل انها خطاب قرآنــي موجــه لكل من عنـده سعة في المال واستطاعة على الإنفاق.
بشارة الآية بسعة الرزق
وفي الآية بشارة عظيمة للمسلمين وهي قدرتهم على الإنفاق ووجود سعة ومندوحة في اموالهم وارزاقهم، فما جاء في الآية الكريمة من الحث على الإنفاق يدل بالدلالة الإلتزامية على الإنفاق ووجـود اعيان ونقود يقوم المسلم باستخراجها وعزلها عن ماله.
كما ان الاية جــاءت بصــيغة الجمــع والتعــدد في الأشخاص (الذين، اموالهم) ولم تقل الذي ينفق ماله او الذين ينفقون مالهم، مما يدل على كثرة الأموال التي تنفق في سبيل الله.
ولم تأت الآية بلغة التبعيض أي بعض اموالهم بل جاءت بصيغة الإطلاق، مما يفيــد الدعـوة الى الإكثار من الإنفاق وقال تعالى [وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا]( )، واستثمار الحياة الدنيا ونعمــة الرزق والســعة في المال لتوظــيفها في سـبيل الله وشراء الآخرة والنجاة من العقاب يوم القيامة بالبذل والعطاء.
وهذا الاطــلاق جزء من فضل الله تعالى وبشارة، بمعنى ان الانسان ينفق جزءً يســيراً من ماله فيكتبه الله عز وجل انه أنفق ماله، لذا يمكــن تأويــل الآية بأن قــوله تعالى (أموالهم) ينحل على نحــو الجمع والتعــدد ايضاً، فكل شخص يصدق عليه انه ينفق أمــواله، فبينما ينحل لفظ (الذين) الى مفردات كل منها بصــيغـة (الذي)، فان اموال تبقى على حالها أي يكون المعنى (كــل ينـفــق من أمواله) للكثرة والتعدد وحســن القبــول من الله تعــالى وبشــارة الجــزاء الحســن، والله يعطــي الكــثير بالقليل.
و(عن ابن عباس يرفعه قال : ما نقصت صدقة من مال ، وما مد عبد يده بصدقة إلا ألقيت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل ، ولا فتح عبد باب مسألة له عنها غنى إلا فتح الله له باب فقر .
وأخرج أحمد والترمذي وصححه وابن ماجة عن أبي كبشة الأنماري ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه : ما نقص مال عبد من صدقة ، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله بها عزاً ، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه : إنما الدنيا لأربعة نفر : عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه ، ويصل فيه رحمه ، ويعلم لله فيه حقاً ، فهذا بأفضل المنازل ، وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول : لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء ، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علم ، ولا يتقي فيه ربه ، ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعلم فيه لله حقّاً ، فهذا باخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول : لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بنيته فوزرهما سواء)( ).
وصحيح ان الآية تفيد حصول الإنفاق في سبيله تعالى وتعين عليه الا انه لو فرضنا ان الناس لم ينفقوا من اموالهم في سبيل الله فهل يؤثر ذلك سلباً على الإسلام وانتشاره والعمل باحكامه، الجواب: لا، لأن الله عز وجل اراد للإسلام الرفعة والعز والدوام وهو الشريعة الباقية الى يــوم القيامة الا ان الأثــر يخرج على الناس انفسهم بفوات نعمة الإنفاق وثوابها العاجل والثمرات الدنيوية التي يحصلون عليها بسبب الإنفاق، كما ان الإنفاق في سبيل الله تعالى لا ينقص مالاً مثلما لا يقرب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اجلاً.

قانون حق الله في المال
لقد جاءت الآية بصيغة الخبر وقد تكون اكثر تأثيراً من صيغة الأمر لموضوعية عنصر المبادرة الى الإنفاق بورود الآية على نحو الخبر والبيان، فقد يكون الثواب للعمل العبادي الذي يأتي بالقرآن بلغة الخبر اكثر من الذي يرد بصيغة الأمر ، الى جانب الثواب الإضافي على الفعل الإختياري.
فالإنفاق على قسمين وهناك آيات خاصة بالإنفاق جاءت بصيغة الأمر كما تقدم قبل آيات معدودات [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ]( )، منه ما هو واجب ومنه ما هو مندوب والآية شاملة للقسمين معاً وكل منهما له ثواب.
ومن اللطف ان يضع سبحانه حقاً شرعياً في كسب الإنسان ويحبب اليه دفعــه ويكتب له الثــواب فيه ومــن الإشارات في صيغــة الجمــع جــواز الإنفاق على نحــو الإنفراد وعلى نحو الإتحــاد والإشــتراك، ســواء كان الإشــتراك بالتبرع بالمال الذي هو شــركة بين اثنــين او اكثر، او انشـاء الجمعيات وجمع التبرعات واعانة الفقراء والمساكين وهو ايضاً من مصاديق في سبيل الله لما فيه من تقوية النفوس ورفع الحيف وسد الذرائع والتوجه العام للتقيد بالفرائض مقارنة بين موضوع هذه الآية والآية السابقة.
وقد ذم الله قوماً بقوله تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ.
الماهية بشرط شئ
وذكر الرازي قولاً لبعض المفسرين “بان الآية المتقدمة مختصة بما انفق على نفسه، وهذه الآية بمن انفق على غيره فبين تعالى ان الإنفاق على الغير انما يوجب الثواب العظيم المذكور في الآية اذا لم يتبعه بمن ولا اذى( ).
ولا دليل على هذا التفصــيل فالموضــوع متحد ومتعلق بالإنفاق في سبيل الله لغة وكلمات ومعنى واشتركت الآيتان بالترغيب بالإنفاق في ســبيله تعالى.
وهذه الآية اشــارت الى قيد عدم اتبــاع الإنفــاق بالمــنّ والأذى، فبين الآيتــين عموم وخصوص مطلق.
لقد جــاءت الآية السابقة ببيان ثواب الإنفاق في سبيل الله على نحو الإطلاق وتعلق الأجر بموضوع الإنفاق ذاته أي الماهية المطلقة لا بشرط وهي المجردة من جميع ما يعرض لها من الإعتبارات ، اما هذه الآية فتتصف بأمرين :
الأول : الحضّ على الإنفاق مع ذكر شرط (في سبيل الله) وهي التي تسمى الماهية بشرط شيء التي تؤخذ بشرط مقارنة العوارض.
الثاني : الإنفاق بشرط لا ، أي مع الإمتناع عن المن والأذى ، سواء قبل أو عند أو بعد الإنفاق والصدقة والبذل.
كما تتحــد الآيتان في حصــول الأجر وترتب الثواب ولكن هذه الآيــة لها خصوصية البشــارة الأكيدة بالجنة باجتماع امرين هما الإنفــاق في سبيل الله تعالى وعدم اتباعه بالمن أوالأذى وهذه الآية متممة للآية السابقة من وجوه :
الأول : اصلاح السلوك.
الثاني : تهذيب النفوس.
الثالث : اتمام المعروف ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
فالآية السابقة تدعــو الى الإنفاق مطلقاً، وهذه تدعــو له وتبـين مقوماته الأخلاقية والتي يترشح عنها ثواب عظيم.
ان هذه الآية تبين صفة كمال للإنفاق وكيفية ايمانية لإحراز اعلى درجات الثــواب ولتحقــق النفع الأتم والأفضل من الإنفاق، مما يدل على ان الإنفاق في سبيل الله تعالى آية في الأرض تجري على ايدي المؤمنين فاراد الله عز وجل لهم استثمارها في الدارين.
قانون الإنفاق جهاد مع النفس
الآية حث على جهاد النفس وصيانتها من الرذائل وقهرها على اتيان الصالحات واعانة المسلمين وترسيخ الإيمان في النفوس وردعها من الشح والبخل، وفي الخبر : افضل الجهاد جهاد النفس.
والعقــل يحكم بفــائدة الإنــفاق لما فــيه من التــدارك والإصلاح وتهذيب المجتمعــات وانتظام الحياة بالرأفة والرحمة والتعاون وطــرد الفقر ومنع تفاقم الخــلل، وهــو ســبيل كــريم لحفــظ النظام والدماء والأعراض ، وفي الإنفاق في سبيل الله تعالى وجوه :
الأول : قانون تنقية النفس من دنــس الحــرام.
الثاني : قانون العزوف عن ملذات وحــب الدنيا.
الثالث : قانون تطــهير الأمــوال مما يعلــق بها من الآثــام بسبــب كيفـيــة كـســبها وطــرق جــمـعـها ، قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الرابع : قانون الإنفاق في سبيل الله تعالى دعوة للرأفة والألفة بين المسلمين والناس عامة .
الخامس : قانون إنفاق المسلمين في سبيل الله قوة لهم في مواجهة المشركين ، كما ينمي ملكة عدم التعدي على حقوق واموال الآخرين.
وهل هذا الإنفاق من مصاديق القوة في قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
الجواب نعم ، لأن الإنفاق مقدمة للعدة والمؤن ، وسيأتي أن الآية أعلاه ضد للإرهاب وإن وردت فيها كلمة (ترهبون) لأن القدر المتيقن منها هو اليقظة والحيطة والإستعداد للدفاع فينزجر المشركون ويمتنعون عن غزو المدينة.
قوله تعالى [ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى]
يقال مَنَّ عليه أي اعتقد انه احســن اليه وحسبه انعاماً واعانة له وبما لا يخــلو من التقريع والإنتقــاص ، وفي المثل (كمَنِّ الغيث على العرفجة) ( )، لأنها سريعة الإنتفاع بالغيث، فانها تخضر وان اصابها يابسة.
وحرف العطف (ثم) يفيد التراخي مما يعني النهي عن المن والأذى بعد الإنفاق على نحو مطلق من جهة الزمان أي بعده مباشرة او عند فوات وقت ليس بالقليل.
وهل يجوز المن والأذى اوان الإنفاق او قبله لأن الآية لم تتعرض لهما.
الجواب لا ، لأنه قبل الإنفاق لا موضوع له، اما اوان الإنفاق فان الآية تشمله وان لم يذكر في الآية لإطلاق النهي والمنع والاكرام حال الإنفاق، ولعدم اجتماع النقيضين ولدلالة الآية على النهي عن المن والأذى حتى مع فرض حصوله قبل الإنفاق لانه مبغوض بالذات وسواء مع الإنفاق او عدمه.
ولكن الآية جاءت لتهذيب الأخلاق وتحصيل النفع العام من الإنفاق واقتناء العبد للصالحات، ونيل الثواب الأتم على الإنفاق وعدم طرو النقص على اجره العاجل والاجل بسبب اظهار المنة وتعريض المحتاج للذلة.
وموضــوع هــذا النهــي لا ينحصر بالقضــية الشــخصية بــل هو من افراد علم الكلام لما فيه من توكيد غنى الله سبحانه ولطفه بالمســلمين وعنايـتــه بالمؤمنين ، ولأن المــال المنفــق من عند الله تعــالى وهــو المالــك في الدنيـا والآخــرة فيكــون المــن والأذى امــراً زائداً ، قال تعالى [مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ]( ).
وتبين الآيــة اضــرار الأذى والأخــلاق الذميمة وانها لا تنحصر بمن يتلقاهــا ويقــع تأثيرهـا عليه بل انها تعود على صاحبها ايضاً بالضرر الفادح، والخســارة التي يتلقاها اكبر مما يتلقاهــا غــيره من الناس، فحيـنما يقــوم المنفــق بتعيير المنــفــق عليه فان الأخير يصاب بانكسار وحرج آنيين ولكن المنفق يتعرض لثلمة في ثوابه ويراه يوم القيامة ناقصاً وهو في اشد الحاجة للمفقود منه.
قانون الإنفاق في سبيل الله من مكارم الأخلاق
(عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : كان فيما أعطى الله موسى في الألواح الأول في أول ما كتب عشرة أبواب : يا موسى لا تشرك بي شيئاً فقد حق القول مني لتلفحن وجوه المشركين النار ، واشكر لي ولوالديك أقك المتالف وانسأ في عمرك وأحييك حياة طيبة وأقلبك إلى خير منها ، ولا تقتل النفس التي حرمت إلا بالحق فتضيق عليك الأرض برحبها والسماء باقطارها وتبوء بسخطي والنار ، ولا تحلف باسمي كذباً ولا آثماً فإني لا أطهر ولا أركي من لم ينزهني ويعظم أسمائي ، ولا تحسد الناس على ما أعطيتهم من فضيلي ، ولا تنفس عليهم نعمتي ورزقي فإن الحاسد عدو نعمتي راد لقضائي ساخط لقسمتي التي أقسم بين عبادي ، ومن لم يكن كذلك فلست منه وليس مني ، ولا تشهد بما لم يع سمعك ويحفظ عقلك وتعقد عليه قلبك ، فإني واقف أهل الشهادات على شهادتهم يوم القيامة ثم سائلهم عنها سؤلاً حثيثاً ، ولا تزن ، ولا تسرق ، ولا تزن بحليلة جارك فأحجب عنك وجهي ، وتغلق عنك أبواب السماء ، وأحبب للناس ما تحب لنفسك ، ولا تذبحن لغيري فإني لا أقبل من القربان إلا ما ذكر عليه اسمي وكان لخالصاً لوجهي ، وتفرغ لي يوم السبت وفرغ لي نفسك وجميع أهل بيتك . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله جعل السبت لموسى عيداً ، واختار لنا الجمعة فجعلها لنا عيداً)( ).
ان الوصف والقيد الملازم للإنفاق بعدم المن او الأذى تأسيس لقواعد اخلاقية تعجز المؤسسات الإنسانية عن تحقيق معشارها، فالعقل يحكم بتقديم الأولى وان الوجود الناقص خير من العدم، بمعنى انه يدرك بان الإنفاق مع المن خير من عدم الإنفاق وان الأهـم هو حصول الإنفاق وتدارك الحال وسد النقص الذي لا يتقــوم الا بالمال.
الا ان القرآن جاء بالسنن المتكامــلة الخالية من النقص والشـوائب ليكون التنافس في الخيرات سـعياً مباركاً لأولي الألباب ومناسبة لقمع النفس الشهوية والغضبية ولمنع الأضرار العرضية التي قد تصاحب المعروف خصوصاً وان الإنفاق اخراج لملك وحق مالي.
وقد تتصارع نزعة الخير وحب الأنا عنـد الإنسان ساعتها فيترجل الثاني الى الخارج بصورة المن او الأذى .
فجاءت الآية لتهذيب القول والعمل عند الإنفاق ، وهل تشمل الآية العبد على الأذى عند الإنفاق ، الجواب نعم ، ومنه الحسد والغيبة ، قال تعالى [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ).
وعن الإمام علي عليه السلام (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلك على خير أخلاق الأوّلين والآخرين؟ قال : قلت يا رسول الله نعم . قال : تعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك.
وأخرج البيهقي عن عقبة بن عامر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة ، تصل من قطعك)( ).
وتساعد الآية على تحصيل المنفـعــة من الإنفاق وادخــال اللذة والســرور على النفوس بالإنفاق.

أقسام الإنفاق
وأقسام الإنفاق بلحاظ منطوق ومفهوم الآية هي:
الأولى : إنفاق من غير من ولا اذى ، وهو الذي تأمر به آية البحث.
الثانية : إنفاق مع المن.
الثالثة : إنفاق مع الأذى.
الرابعة : إنفاق مع المن والأذى.
الخامسة : عدم الإنفاق ، مع مقدرة عليه ، قال تعالى [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ]( ).
والآية لم تذكر القسم الخامس فهو يخرج بالتخصص لإنعــدام موضــوع الإنــفـاق فيــه ، وتوجهت في مفهومها بالذم الى مــن يقتــرن انفــاقــه بالمــن والأذى بشــقيــهمـا القولي والفعلي.
ولكن ايهما اســوء عــدم الإنفاق او الإنفاق مع المن والأذى، الجواب ان عدم الإنفاق امر بسيط وردت الآيات والنصــوص بــذمــه، والعـقل يحكم بــقــبحــه .
أما الاقسام الثاني والثــالث والــرابع اعــلاه فقـد اخبرت الآية على مرجوحيتها، ومــع هــذا فان كــلاً من الـمـن والأذى من الكـلي المشــكــك الــذي لــه مــراتــب متفــاوتــة قــوة وضــعفاً وكثرة وقلة.
وقد تكون بعض مراتب المن والأذى اشد من عدم الإنفاق خصوصاً بلحاظ قلة مقدار الإنفاق وانعدام الضرورة له في مورده.
ويروى ان سائلاً جاء الى احد القصور فسأل اهله فاعطوه شيئاً قليلاً، فجاء في اليوم الثاني بفأٍس وأخذ يضرب الباب ليكسره، وحينما سألوه قال : اما ان يكون الباب مثل العطية، او العطية مثل الباب.
معنى (ثم) التراخي
وثم في قوله تعالى [ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ] تفيد العطف الذي يقتضي التشريك والترتيب والتراخي وقد تفقد التراخي، كما في قولك: رأيت الهلال ثم اخرجت زكاة الفطر.
ومن الإعجاز في المقام ان الآية تجمع الأمرين معاً، التراخي وعدمه، لإمكان حصول المن او الأذى مقارناً للإنفاق او لاحقاً له، فمــدحت الآية الذين يتجــنبون المـن والأذى مطلقاً وفي الأزمنة الثلاث لموضوع الإنفاق.
ومفهوم الآية الزجر والمنع عن المن والأذى المصاحبين للإنفاق، ويمكن تقسيم الفعل المنهي عنه هنا الى اقسام :
الأول : قيام المنفق بالأذى بعد الإنفاق.
الثاني : صدور المنّ مقارناً للإنفاق وورود امر الإتباع للفرد الغالب والعنوان الموضوعي.
الثالث : اتباع الإنفاق بالمن والأذى معاً.
وكل من المــن والأذى يتفــرع الى فرعين :
الأول : قولـي.
الثاني : فـعــلي .
والى :
الأول : شخصي.
الثاني : نوعي ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
فجاء النهي بجوامع الكلم وصيغة الإطلاق.
وليــس المطــلوب في المـقام الماهية بشرط لا، وهي المجــردة التي لا تصــاحبها العـوارض وتكون عارية من المشــخصات واللواحق، بل انها بشرط لا منّ ولا اذى، اما لو كان معها ود واحسان اضافي فهو نور على نور وأمر مندوب شرعاً وعقلاً.
قانون الشكر لله عند الإنفاق
قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ]( ) وهل تختص الزيادة بأصل المال المنفق منه ، الجواب لا .
ومن الإعجاز في المقام ورود الوعد بالزيادة بصيغة الإطلاق ، فلا يعلم موارد ووجوه الزيادة كماً وكيفاً إلا الله عز وجل ، ولا تختص في الحياة الدنيا بل تشمل عالم البرزخ والآخرة ، وتتعلق بالذرية والأبناء وحسن السمعة .
ولم يرد لفظ [لَأَزِيدَنَّكُمْ] إلا في الآية أعلاه ، وفيه ترغيب وبعث على الشكر لله عز وجل ، وفي التنزيل وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
لذا ورد في الصدقة استحباب تقبيل المتصدق ليده عند الصدقة لأن الله عز وجل يتلقى الصدقة من يده كما في قوله تعالى [ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ] ( )، وهذا الوصف وتفضل الله تعالى بالآخــذ علة اضــافية للنهي عن المن والأذى وســبب للإقبال على الصدقات تقرباً إلى الله تعالى ، والنسبة بين الإنفاق في سبيل الله تعالى والصدقة عموم وخصوص مطلق، فكل صــدقة هــي انفاق في سبيله تعالى وليس كل انفاق هو صدقة.
ومن الإعجاز القرآني ورود ذات النهي في الصدقات وبعد هذه بآيتين اذ قال سبحانه [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى]( ) ونتعرض عند تفسيرها لوجوه الشبه والإفتراق بين الآيتين.
والمن هو ان يظــهر المنفــق فضــلــه بالإنفـاق ويعتــد به ولِعدّه مكـرمــة او ان يظــهر الحاجــة لشخصه وانفاقه وتوقف تحقــق النصر او قضــاء الحوائج وانجــاز المشــروع عليه وعلى انفاقه وصــدقته ، اما الأذى فهـو اشد واكثر ضرراً ومنه توبيخ المعطى له، او استثمار الإنفاق لنيل منافــع خاصة لا تتوافق والقواعد والسنن.
النسبة بين الأذى والمّن
وبــين الأذى والمن عـمــوم وخصــوص مطــلق، فـكــل منّ هــو اذى وليـس العكـس، لأن الأذى اعم وله مراتب متفاوتة شـدة وضعفاً ، وكذا ذات النسبة بين الضرر والأذى ، فالضرر أشد ، وفي التخفيف عن المؤمنين وصرف ضرر المشركين عنهم ، قال تعالى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ.
وكل من المن والأذى يكون متحداً ومتعدداً ومضيقاً وموســعاً، فجـاء النهــي مطلقاً والحث على اجتناب صوره كلها ولــو لمــرة واحــدة، وغــالـبــاً ما يكـون المن بالــقـول وتلحــق به الكـتــابــة بـالـقــلــم، اما الأذى فيكــون بـالــقــول والـيــد.
ان الشرع والعقل والعرف والوجدان يحكم بقبح المن بين الناس وتنفر النفوس من الشخص المنان ولكن الأمر لا يتعلق بالنـفــرة وحــدها، بل انه جـزء من بناء الإسلام على قواعد ســليمة وارادة اســتمرار البــذل والعطـاء في سبيله تعالى، فاذا شــاع المــن بين الأغنيــاء وارباب الحقوق الشرعية امسك المـجــاهدون والســاعــون في سـبل الخير عن مشاريعهم ومبادراتهم فيتعطل انجــاز ما فيــه تعظيم شعائر الله ويسود الخمول ويظهر التقصير وكل يحسب نفسه معذوراً فصاحب المال يقول ليس من مورد للبر والإنفاق، والسعاة لا يطيقون سماع وتلقي ما فيه من الأذى.
فلو كانت المحلة او القرية تحتاج الى بناء مسجد جامع وبادر بعض المؤمنين لجمع التبرعات لإنشائه وواجهه اصحاب الأموال بالإعتداد والتحقيق والتشكيك في الحاجة الى المسجد ووضع الشرائط واظهروا التسويف وقاموا بالتباهي والتفاخر يحصل النكوص وان تم انجاز العمل واكمال البناء فان حالة من القنوط والتراخي تسري في اوصال السعي وعزائم السعاة لأن البناء وتوفير مستلزمات الجهاد أمر مركب من ثلاث مراحل:
الأول : تهيئة المقدمات.
الثاني : الإنفاق والعطاء.
الثالث : توظيف المال والإنجاز الفعلي.

الحاجة إلى الإنفاق
الإنفاق أحد اهم المستلزمات فمتى ما حصل خلل فيه فانه يؤثر على المراحل السابقة واللاحقة له واضرار المن والأذى لا تنحصر بموضوع الإنفاق نفسه بل تنعكس على ما بعده من موارد الإنفاق لما يصيب الآخرين من القنوط والإنكماش ، فيترشح عن المنّ اثر ســلبي يظـهر على المتلقي تمـتد آثــاره بحسب شدته او ضعفه، وقد يتوجه الأذى الى الجماعة والنوع فتكون اثاره فعلية.
و(عن مطرف بن عبد الله قال : قلت لأبي ذر : بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم أن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة . قال : أجل .
قلت : من الثلاثة الذين يحبهم الله؟ قال : رجل غزا في سبيل الله صابراً محتسباً مجاهداً فلقي العدو فقاتل حتى قتل ، وأنتم تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل . ثم قرأ هذه الآية [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ]( ).
ورجل له جار سوء يؤذيه فصبر على آذاه حتى يكفيه الله إياه إما بحياة وإما بموت ، ورجل سافر مع قوم فأدلجوا حتى إذا كانوا من آخر الليل وقع عليهم الكرى فضربوا رؤوسهم ، ثم قام فتطهر رهبة لله ورغبة فيما عنده .
قلت : فمن الثلاثة الذين يبغضهم الله.
قال : المختال الفخور ، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل ثم تلا [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا]( ).
قلت : ومن ، قال : البخيل المنان . قلت : ومن؟ قال : البائع الحلاف)( ).
ولا يصدق على المقام قيد البخل في الحديث، والمنفق في سبيل الله ليس بخيــلاً وان اظــهر المن والأذى، فبالإنفاق يقهر الإنسان النفــس الشــهوية والشــح ويخرج نفسه من وصف البخل موضوعاً وحكماً، والمــن يفســد الصــنيعة وينـقص من ثــوابها ، اما الأذى فـقـد يســبب اضافة الى النقص الإثــم الإضـافي او ترتب الضرر.
تقديم الآية المّن على الأذى
بدأت الآية بتقديم الأقل رتبــة وهو المــن متــدرجة من الأدنى الى الأعـلى، لأن الفــرد الغالب منهما هــو المــن ولأنه على مراتب متعددة منها ما يكون خفياً لا يحس به صاحبه ولكن الآخذ والمتلقي يتحرج منه ويشعر بوطأته، فجاءت الآية للتوكيد عليه ولفت الأنظار اليه والإحتراز منه وجعل الإنفاق خالصاً لوجهه الكريم.
ومن أسرار هذا التقديم أن الإنزجار عن الأدنى من الفعل القبيح يؤدي إلى ترك الأشد منه .
وهل في المن رياء، الجواب: نعم قد يكون احياناً الرياء والســمعة سبباً او مصاحباً او نتيجــة للمن والإعتـداد بالعطاء، وفي الحديث القدســي عن الإمــام الصــادق  قال : قال الله تبارك وتعالى : أنا خير شـريك، من أشــرك بي في عمله لم أقبله إلا ما كان لي خالصا.
وفي رواية اخـرى عنه قال : إن الله يقول : أنا خير شــريك من عمل لي ولغــيري فهــو لمن عمل له دوني( ).
والعرب يستهجنون المن على الصنيعة ويمتدحون المنعم الذي لا يظهر المن، قال الشاعر :
(زاد معروفك عندي عظما … إنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته … وهو عند الناس مشهور خطير( ).
لقد ورد نقص الثواب صريحاً في قوله تعالى [لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى]( ) اما في هذه الآية فلم يرد ذم او اخبار عن نقص الثواب بل تضمنت اموراً:
الأول: الوصف الحسن بالإيمان.
الثاني: المدح بالإنفاق في سبيل الله تعالى.
الثالث: التحذير من اتباع الإنفاق بالمن والأذى ولكن نقص الثواب يستقرأ من الجمع بين الآيتين والنصوص وما يترشح واقعاً عن المن والأذى إلا ان يشاء الله، خصوصاً وان ثواب الإنفاق مستمر ونماءه متصل وقد تقدمت الآية السابقة بمضاعفة الثواب اضعافاً كثيرة، ثم جاءت هذه الآية للنهي عن المن والأذى.
فالإنفاق والمن أمــران منفصلان كل له شــأنه في باب الحساب والميزان فثواب الإنفاق يحرز من ساعة تحققه خارجاً ويتفضل الله سبحانه بالثواب العظيم، اما المن والأذى فانه يسبب نقص الثواب او الإثم ولكنه لا يتسع لأن السيئة بمثلها ، قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).
والقول المشهور والشائع بان المن والأذى يفسد ويبطل النفقة في سبيل الله.
و(عن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب رسول الله نرى أو نقول : أنه ليس شيء من حسناتنا إلاّ وهي مقبولة حتّى نزلت هذه الآية [أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ]( )، فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا.
فقيل لنا : الكبائر والفواحش.
قال : فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها قلنا : قد هلك،
فنزلت هذه الآية ، فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك،
فكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئاً خفنا عليه ، وإن لم يصب منها شيئاً رجونا له. وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر)( ).
وهل يسقط جزء من اصل الإنفاق بســبب المـن والأذى، بمعنى لو انفق مــائة دينار في ســبيل الله ومنّ بهــا فيما بعــد او اظهر الإساءة فهل تحتســب عند الله عز وجل خمسين او سبعين ديناراً للإنتقاص منها بحسب نوع المن او الإساءة، ام ان النقص يقع على مقدار الثــواب، الجواب هو الثاني، لحصول الإنفاق فعلاً بمبلغ مائة دينار بنية القربة الى الله، لذا ورد قوله تعالى [لاَ يُتْبِعُونَ] أي لا يتعاهدون الثواب واتصال الأجر.
الثناء على المنفق من غير منّ
والآيات تقسم الناس الى أقسام هي :
الأول : المؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : أهل الكتاب .
الثالث : المشركون.
وينقسم المسلمون وفق موضوع الإنفاق في الآية الى :
الأولى : الذين ينفقون من غير تقييد بقصد القربة وانه في سبيل الله.
الثانية : الذين لا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يخرجون الحقوق الشرعية قصوراً وجهلاً او أنهم لا يعطون الصدقات المستحبة.
الثالثة : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وطلب مرضاته.
وهؤلاء على شعبتين:
الأولى: الذين لا يتبعون النفقة بالمن والأذى لتدل الآية في مفهومها على الثناء .
الثانية: الذين يتبعون ما انفقوا بالمن والأذى.
ومن الإعجاز واللطف الإلهي ان الآية لم تشــر الى الشــعبة الثانية اعلاه، بل جاءت بمدح الذين لا يظهرون المن والأذى.
ولم تخبر بوجود الفئة الأخرى التي تمن وتسيئ ام عدمها.
حبط الثواب أو عدمه
وقال المعتزلة الآية دالة على ان الكبائر تحبط ثواب فاعلها، وذلك لأن الله تعالى بين ان هذا الثواب يبقى اذا لم يوجد المن والأذى، لأنه لو ثبت مع فقدهما ومع وجودهما لم يكن لهذا الإشتراط فائدة واجاب الأشاعرة بان المراد من الآية ان حصول المن والأذى يخرجان الإنفاق من ان يكون فيه اجر وثواب اصلاً، من حيث يدلان على انه انما ينفق لكي يمن، ولم ينفق لطلب رضوان الله، ولا على وجه القربة والعبادة، فلا جرم بطل الأجر( ).
والإشكال على قول المعتزلة والأشاعرة في أصل المبنى فقد ظنوا ان الآية تدل على بطلان ثواب الإنفاق بسبب المن والإذى ، ولكن لا دليل على افادة هذا المعنى من ظاهر او منطوق الآية، فقد تكلمت عن الشعبة الأولى من القسم الثالث الذي بيناه اعلاه، ولم تتكلم عن الفريق الثاني وهو الذي يتبع ما انفق بالمن والأذى، كما لا يصلح الإستدلال بقوله تعالى [لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى]( )، لأن الإنفاق اعم من الصدقة الواجبة وموضوعها.
والآية محل البحث تحث على الإنفاق لوجه الله تعالى من غير الحاقه بالمن والأذى وتحذر من هذا الإلحاق ولكنها لا تدل على بطلان العمل ، وفي الثناء على المؤمنين ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ]( ).
ثم ان نعت المعتزلة له بالكبيرة لم يثبت موضوعاً وحكماً، خصوصاً وان المن ليس من الكبائر، وربما قالها شخص منهم، والأذى على مراتب منه الكبيرة ومنه الصغيرة ولكنه لا يصل إلى درجة الأذى .
أصالة عدم بطلان الثواب
لو تردد الأمر بين رحمة الله تعالى وغضبه، بين تحصيل الثواب او عدمه، بين ثبوته او بطلانه ، فالأصل هو رحمته تعالى وتحصيل وثبوت الثواب ، كما في ابواب الفقه فاننا نستدل باصالة البراءة لو شك المكلف بين التكليف بالشيء وعدمه، وباصالة الطهارة لو شك بين الطهارة والنجاسة، وباصالة الإباحة والحليــة لو شك في المنع والحرمة ، وفي الأصول بالتمسك باصالة الإطلاق لو دار الأمر بين الأطلاق والتقيد.
ومن الآيات الإعجــازية ان تجد الآية تجمع بين المن والأذى مع الفارق الموضــوعي الكــبير بينهــمـا وكأن هذا الجمع مع التباين اشــارة وتنبيه الى العلمــاء بعدم الذهــاب الى القول ببـطــلان الثــواب من رأس .
والآيــة من الآيـات الجهادية الأخــلاقية التي تنظــم الصــلات الإيمــانيـة بين المســلمين ولا تجــعل للمنفق حقاً على غيره او على الأمة اكثر مما تتيح له الشريعة.
والمشهور والمختار أن السيئات لا تبطل الحسنات ، وقيل في [لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ]( )، أي لا (تقتطعوها قبل تمامها)( )، وهو أحد المعاني للآية وليس الأصل فيها .
الثواب وشرطه
قد اختلــف المتكلــمون في جــواز توقــف الثواب على شــرط، او عدمــه ، واختار العلامــة الحلي القول الأول بدليل عدم اثابة العارف بالله تعالى مع عدم نظره في المعجزة وعدم تصـــديقــه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم( )، وفيه مسائل:
الأول : ما ذكره من الجواز اعم من الوجوب الذي هو ظاهر ذيل كلامه ولابد من بيان في مفهوم المعرفة.
الثاني : من معرفة الله تعالى معرفة انبيائه وانه يبعث الأنبياء بالآيات، فمعرفته تعالى تترشح عنها قهراً بعثة الإنبياء والتسلين بنبوتهم على نحو العموم المجموعي والاستغراقي.
الثالث : النزاع صغروي في الغالب وان كل فعل او شرط بحسبه وقصده، وفي الخبر : انما الأعمال بالنيات.
قانون قبول العمل العبادي
لو شــككنا في قبــول العمل وتحصــيل الثواب او عدمه، فالأصــل في العمل القبــول الا ان يدل دليــل على الإحباط بمعنى انه لا احباط الا بالدليل الشرعي الخاص من الكتاب او السنة، ولا دليل في هذه الآية على احباط ثواب الإنفاق من الأصل.
ولو شككنا في حصول البطلان والإحباط او عدمه، فالإحباط يتصور على وجوه:
الأول : بطلان العمل من اصله.
الثاني : سقوط لثواب بعد حصوله.
الثالث : ان الذنب مبطل لاحق للثواب وكأنه يأتي على الثواب فيبطله.
والأول باطل ويلحق به الثاني، اما الثالث فقد اختلف فيه، وقول ببطلان وعدم حصول احباط الثواب المتقدم بالذنب المتأخر وحتى الكفر اللاحق لعمومات قوله تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه] ( )، وقال جماعة من المعتزلة بالإحباط وان المكلف يسقط ثوابه السابق بالمعصية اللاحقة وجمعوا في الحكم بين مسألتين:
الأولى: الثواب السابق والمعصية اللاحقة.
الثانية: الذنب والمعصـية السابقة والثواب اللاحق، بمعنى ان الذنب اللاحق يحبط الثــواب الســابق، فكذا الثواب اللاحق يمحو ويكفر الذنب السابق وهو المسمى في الإصطلاح بالتكفير.
ولكن هناك تباين بين المسألتين بلحاظ احكام المعرفة الإلهية وضروريات الدين والآيات والنصوص في المقام، فالثواب والعمل الصالح يأتي على الذنب والإثم، ولو اختلف موضوع وزمان كل منهما قال تعالى [ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ]( )، بل انه سبحانه جعل جزاء اجتناب الكبائر غفران السيئات قال سبحانه [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ]( ).
عدم إبطال الذنب اللاحق للثواب
إن ابطال الذنب اللاحق للثواب السابق دليــل عليه، بالإضافة الى اجماع الأصوليـين على عدم الإستصحاب القـهـقــري فلا اثــر رجعي للذنب على غيره، قال تعالى [فَمَنْ يَعْمَـلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( )، ووفاء الله بوعده تعالى حق وهو الواسع الكريم ، ومن صفات الله تعالى العدل.
ومن فضله تعالى عدم تعد الوعيد الى اكثر منه، بل ان الوعيد ذاته يرجع في مصداقه الخارجي الى مشيئته واذنه سبحانه.
وقد ورد موضوع الإنفاق والبشارة بعظيم الثواب عليه من غير تقييد بالمن والأذى قال تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً]( )، وليس من تعارض بين الآيتين والجمع بينهما يكون على وجوه :
الأول : قواعد الإطلاق والتقييد وان الآية محل البحث مقيدة بعدم المن والأذى، وهذه الآية مطلقة، ويؤخذ بالمقيد فلابد ان يكون الإنفاق في سبيل الله تعـالى ، وغير مقرون او متعقب بالمن والأذى.
الثاني : موضوع هذه الآية مستقل ويتعلق بكثرة الإنفاق في الليل والنهار والسر والعلانية وهذا التعدد والكثرة ينفي موضوعية المن والأذى او الرياء والسمعة.
الثالث : هذه الآية خاصة ونزلت في علي ولكن آيات القرآن عامة وان كان لها سبب خاص.
الرابع : يفيد الجمع بينهما سعة رحمة وفضل الله تعالى وان عدم اتباع الإنفاق بالأذى ليس شرطاً محيطاً ومقيداً لكل انفاق، وان الله عز وجـل قد يقــبل الإنفاق بــذاته ومجــرداً من غير النظر الى ما يتبعه، لصدق عنوان الانفاق وحصول الاستجابة الإسمية.
الخامس : هناك حالات خاصة واحكام ضرورة وحاجة شديدة ، وزمان فاقة وابتلاء وهل يكون الإنفاق فيه غير مقيد بعدم المن والأذى ، الجواب لا ، لأصالة الإطلاق ، ولأن النهي عن المنّ متوجه إلى المنفق وليس المنفَق عليه .
قوله تعالى [لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ]
وعد كريم وبشارة الثواب العظيم من الله تعالى على الإنفاق في سبيله تعالى المقرون بشرط سلبي وهو عدم المن او الأذى، والأجر والثواب والعوض والجزاء الحسن على البذل والعطاء الذي يُقصد به وجه الله تعالى.
و(عند) ظرف يفيد الوعد الكريم والضمان الأكيد للثواب وهذه البشارة دعوة سماوية وحث على الإنفاق في سبيله تعالى والتنزه عن المن والأذى، وهل المراد الأجر في الآخرة ام انه مطلق.
الجواب: انه مطــلق فيشــمل الدارين لأصــالة الإطلاق لو تردد الأمر بين الإطلاق والتقييد، ولعدم التعيين والخصــوص ولقواعــد المــن واللطف الإلهي وان الله سبحانه يعطي بالأوفى والأتم.
وفي باب الصيام نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن صوم الوصال وهو صوم يومين مع الليلة التي بينهما او ثلاثة أيام مع الليلتين المتوسطتين بينهما، وكان يواصل فقيل له في ذلك، فقال عليه السلام: إني لست كأحدكم إني أظل عند ربي فيطعمني ويسقيني” وقال الصادق عليه السلام: ” الوصال الذي نهي عنه هو أن يجعل الرجل عشاءه سحوره( ).
مما يعني ان الثواب امر لا ينحصر بالآخرة بل يشمل الحياة الدنيا ايضاً، وليس من دليل على التخصيص واعتبار الثواب مطلقاً من خصوصيات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعم امر المبيت اعلاه ونحوه من المنازل الرفيعة خاص بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لمقامه السامي ولمرتبة النبوة التي هي اشرف المراتب التي بلغتها الخلائق.

قانون التنزه عن قول يجب على الله
احتج المعتزلة بان هذه الآية تدل على ان العمل يوجب الأجر على الله تعالى وقال الأشاعرة: حصول الأجر بسبب الوعد لا بسبب نفس العمل لأن العمل واجب على العبد واداء الواجب لا يوجب الأجر( ).
والنزاع في أصله صغروي لإتفاق الفريقين على حصول الأجر والثواب، ويمكن الرد على القول الأول بان وجوب الأجر على الله تعالى امر بعيد عن صيغ العبودية والاقرار الاجمالي بالتقصير، والأولى تنزيه مصطلحات علم الكلام بلفظ الوجوب على الله تعالى ويجب على الله.
فانه سبحانه هو الذي يوجب الشيء ولا يجب عليه شيء ويفعل ما يريد [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
وعلى القــول الثاني ان الــرد على نفس العمل في حـال اعتباره انما هو باذن وأمر ومشيئة الله فهو الذي تفضل بجعل الثواب على العـمل، ولا تناقــض او تعــارض بين وعــد الله تعالى وبين جعل الثــواب على العمــل كما لو قيل وعد ان يكون الثواب على العمل ، وفي التنزيل [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
نعم أي عمل للإنسان لا يستحق من الثواب الا الجزء اليسير فلولا وعد الله تعالى بالثواب الجزيل لما استطاع انسان ان ينال نصيباً وافراً من الثواب من فضله تعالى كما في الآية السابقة فان الإنفاق في سبيل الله بسبعمائة مرة والله يضاعف هذه الزيادة ، ويأتي الأجر بوعد ولطف واحسان الله تعالى.
لذا جاءت الآية بالتحذير من اتباع الإنفاق بالمن والأذى، وكأنهما يحجبان مضاعفة وتعدد الأجر والنماء المتصل والمستمر لثواب الإنفاق.
صيغة (رب) في القرآن
لقد جاءت الآية بصفة الرب واضافته اليهم فلم تأت الآية باسم الجلالة كما ان القرآن خال من لفظ (الرب) معرفاً بالألف واللام مع كثرة وجوده في الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل.
وهذا من اعجاز القرآن وخصوصياته مع انه ورد بلفظ الإضافة، وبلفظ ربك مائتين واثنتين واربعين مرة وبلفظ (ربكم) مائة وتسع عشرة مرة، وبلفظ (ربنا) مائة واحدى عشرة مرة، وبلفظ (ربي) مائة مرة وواحدة، وبلفظ (ربه) خمس وسبعين مرة، وبلفظ (ربكما) ثلاث وثلاثين مرة.
وفي التنزيل [فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ]( )، وفي قول إبليس (ربكما) شاهد على عجزه عن الوقوف بين الناس وبين الله عز وجل ، فهو لا يقدر أن يمنع الناس من الإقرار بالعبودية التامة لله عز وجل ، وهذا من مختصات الله عز وجل بأنه يمنع أياً من الخلائق من الحيلولة دون الإقرار بربوبيته التامة ، ويعلم إبليس بأنه والجن جميعاً يخلقهم الله عز وجل إلا لعبادته ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
لذا فان فرعون الذي ادعى الربوبية بقوله [أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( )، سأل موسى [قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى]( )، واضطر فرعون للإقرار بالعبودية لله عز وجل .
قانون البعث على الإنفاق
وقال الرازي (احتج اصحابنا بهذه الآية على نفي الإحباط، وذلك لأنها تدل على ان الأجر حاصل لهم على الإطلاق، فوجب ان يكون الأجر حاصلاً لهم بعد فعل الكبائر، وذلك يبطل القول بالإحباط) ( ).
والاية اخبار عن عظيم منزلة من يؤمن بالله وينفق المال من غير ان يتبع الإنفاق بالمن والأذى، اما ان نقول بان المــراد من هــذه الآية هــو الإطلاق أي ما دام لـم يمن بالإنفاق او يؤذي المعطى فانه سينال الأجر وان فعل الكبائر فيما بعد فهذا الموضوع اجنبي عن مضمون الآية وافرادها.
و تتعلق الآية بمن يعمل الصالحات محضاً وفي المقام الحث على الإنفاق في سبيل الله تعالى وعدم انتقاص الثواب بالمن والأذى ثم ان المراد من الأذى اعم من انحصاره بموضوع الإنفاق وزمانه او الشخص المعطى خصوصاً مع النظر لقوله تعالى [لاَ يُتْبِعُونَ]( )، بالمعنى الأعم وارادة الزمان المتأخر على الإنفاق مطـلقاً مع تعدد الموضوع واختلاف جنس الفعل وان المراد منه الذين يتخذون فعل الصالحات سجية ثابتة ولا ينقصون اعمالهم ولا يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيئاً، واذا ورد الإحتمال بطل الإستدلال.
ثم ان القائل بالإحباط والتكفير وهم جماعة من المعتزلة على قولين، قال ابو علي ان المتأخر سواء كان فعلاً محبطاً، او مكفراً يسقط المتقدم المضاد له ويبقى على حاله، أي ان (الصالحات يذهبن السيئات).
وقال ابو هاشــم ان الأقــل ينتفي بالأكـثر اما لو كان هو الأكثر فينتفي منه بالأقل ما سواه ويبقى الزائد مستحقاً وسمي بالموازنة.
ونشكل عليه من وجهين :
الأول : عدم التساوي بين الإحباط والتكفير والتباين بينهما خصوصاً ان الأكثر من علماء المسلمين لا يقول بالإحباط في باب التكفير وتعقب الصالحات للسيئات.
الثاني : عدم ثبوت الموازنة وان رحمة الله تعالى اوسع من ان تحيط بها اوهام البشر ويمحو بالحسن القليل السيئ الكثير، الا ترى ان الاستغفار أعظم كفارة.
ان تقييد الأجر بانه من عند الله تعالى بشارة تفضله سبحانه بالجزاء كما في الحديث القدسي (كل عمل ابن آدم له الا الصوم فانه لي وانا اجزي به)( ).
فالصدقة في سبيل الله وحدها حرز وملاذ وذخيرة عظيمة وكنز يلجأ اليه الإنسان عند الحاجة وينتفع منه ساعة الضيق والشدة ويكون مقدمة حسنة لقبول الدعاء وسبب للمغفرة والرضوان.
قوله تعالى [وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]
الخوف هو الظن لنزول ضرر وفوات نفع عنه في المستقبل وغم لإحتمال او ترجيح مكروه.
اما الحزن فهو غم من فوات نفع او حدوث امر ضار، وبينهما عموم وخصوص من وجه.
مادة الإلتقاء هي الغم وحركة الروح الى الداخل هرباً من المؤذي، والأذى النفسي.
ومادة الإفتراق في الخوف هو توقع حصول امر ضار في المستقبل، وفي الحزن حصول امر ضار ومؤذ.
والواو في الآية الكريمة (ولا خوف) تفيد الغيرية والتعدد، أي ان عدم الخوف امر اضافي آخر غير احراز الأجر فيكون الأجر على الإنفاق في سبيل الله واقترانه بعدم المن والأذى مركب من وجوه وهي :
الأول : الأجر من الله تعالى.
الثاني : قانون تقييد الأجر بانه عند الله تعالى.
الثالث : قانون الله هو وحده القادر على الأجر والثواب العظيم.
الرابع : قانون عدم الخوف على المؤمنين الذين ينفقون في سبيل الله.
الخامس : قانون إنتفاء الحزن عن المؤمنين والمؤمنات.
وذكرت النعم الإلهية في الآية بصيغة الجمع مما يدل على عظيم احسان وفضل الله تعالى وانه سبحانه يهب للجميع من غير ان تنقص خزائنه، كما ان الآية بشارة اتصال الإنفاق وتعاهد المسلمين لمضامينه ومفاهيمه.
وقد تكرر هذا الشطر من الآية في القرآن اربع عشرة مرة منها مرتان بصيغة الخطاب والباقي بصيغة الغائب، وكله بلغة الجمع وان كان سياق الآية يحتمل الافراد كما في قوله تعالى [ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( )، وقوله تعالى[ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
ولم تقل الآية لا خوف عليه ولا هو يحزن.
بل جاءت بصيغة الجمع ليس فقط لوقوع اسم الشرط على المفرد والجمع ولكن لدلالات عقائدية وترشح بركة الفعل الشخصي على الجماعة وورود الثواب على الفاعل ومن اعانه ومن نصره وعلى ذريته واهله ومن يشفع له.
فعدم ورود الآية بصيغة المفرد وكلها بالجمع بشارة الثواب العظيم المستغرق للمحسن ولغيره ممن يتعلق به او يكون طرفاً في فعله.
قانون البشارة بالجنة
اكثر مواضع قوله تعالى [َلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، في القرآن يتعلق بالجنة وبشارة الأمن في الآخرة وعدم الفزع او الخوف في مواطن الحساب والجزاء وهو في اعظم النعم التي يرجوها الإنسان ويسعى لنيلها.
كما جاء في بعض الآيات جزاء لإتباع الهدى ولإظهار الإيمان واقترانه بعمل الصــالحات، وباقامة الصــلاة وايتاء الزكاة مثلما جاء بشارة الإنفاق في سبـيل الله تعالى ، مما يدل على موضوعية الإنفاق في سبيل الله تعالى ولزوم الإنفاق والعطاء واخراج الزكاة والحقوق الشرعية من اصل المال بالاضافة الى منافع الصدقة والإنفاق المستحب.
ومن الإنفاق الحج وما يبذل فيه من مال لذا يكون الحج عبادة بدنية مالية مركبة.
فكل من الصلاة والصوم عبادة بدنية، والزكاة والخمس عبادة مالية.
اما الحج فيجمع الأمرين معاً، فيدخل في مفردات الإيمان والعمل الصالح والإنفاق في سبيل الله تعالى.
وهل يتعلق عدم الخوف والحزن بموضوع الإنفاق وانه لا يخشـى محــوه وزوال اثره وثوابه ام انه اعم .
الجواب هو الثاني وان الإنفاق يكون باباً للأجر والثواب وسبباً لإنعدام الخوف والحزن.
وعن عبد الله بن عمرو (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله قرآنا فهو يقوم به آناء الليل)( ).
وهل يشمل الحياة الدنيا والآخرة ام ينحصر بالآخرة، القدر المتيقن هـو شــموله لعالم الآخــرة، لذا ترى المؤمــن يصاب بالحزن ويتعرض للمصيبة ويتسرب الى نفسه الخــوف في الدنيا وهو جزء من نواميســها وفلســفة الإبتــلاء فيهــا، وقد يكون الخوف او الحزن ســبباً للإنفــاق والمبادرة الى البــذل والعطاء في سبيل الله تعالى.
نعم قد يكون الإنفاق سبباً للتخفيف من موارد الخوف او الحزن في الدنيا بلحاظ ان هذا التخـفيف جزء من الأجر الذي ورد في الآية [لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ]( ).
ومن الجزاء العاجل ترى المؤمن احياناً يخاف ويضطرب ثم يرى انكشاف الغم او عدم استحقاق الأمر للخوف بفضله تعالى، وما يمحى عن المحسنين في الدنيا من الأهوال والشدائد لا يعلمها الا الله وهي من الامور التي يكشف عنها الغطاء في الآخرة، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ]( ).
وخاتمة الآية بشارة كريمة لأهل الإيمان ودعوة لهم لتلمس افضل حالات الإقامة في الدار الباقية واختيار احسن الزاد لسفر الآخرة، ومما تنفرد به نعمة القرآن فلسفة الوعد والوعيد وما لكل منهما من نتائج تفوق ادراك العقول البشرية وتعجز أي دولة او مؤسسة او تشريع او قانون عن احداث معشاره في المجتمعات والنفوس.
فخاتمة الآية وعد كريم واصلاح للنفوس وتهذيب للأخلاق والسنن السائدة ومنع من الأذى وما فيه من الضرر على الأطراف المختلفة، ومن الإعجاز في خاتمة الآية ان تجدها تقويماً لمضامين صدرها وتثبيتاً لما فيها من الأحكام والسنن وعوناً على العمل باحكامها وتشجيعاً للتقيد بما فيها، وهو من مصاديق [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وهي دعوة لإجراء الدراسات والبحوث العملية لمنافع الإنفاق في سبيل الله تعالى وبيــان الأضرار الإجتماعـية والإقتصــادية والعقائــدية باتبــاعه بالمــن والتعيـير والتباهي والرياء وتوجيه الأذى الشــخصي او النوعــي ومحاولة استغلاله للمنافع الشخصية.
وقدم الخوف على الحزن لأن متعلقه القادم من مواطن الحساب واهــوال القيامة اما الحــزن فمتعلقه ما فـات من ايام الدنيا واعلان الملائكة للسيئات وفضح ما ارتكب العبد من الذنوب والأخطاء وفــوات الفرص الكثيرة في الحياة الدنيا كمزرعة للآخرة وتلك التي لم يستثمرها لإكتناز الصالحات وكشف الحقائق واعلان السيئات من متعلقات الخوف ايضاً فالحاجــة الى الإنس وعــدم الخــوف يومـئــذ اكــثر من عدم الحزن.
والآية بشارة دخول الجنة والنجاة من النار قال تعالى [أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ]( ).
وجاء الخوف في الآية على نحو الإستعلاء [ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ] اما الحزن فجاء بعنوان الخبر والوصف العام، مما يعني ان الله عز وجل يمنع طرو الخوف على المؤمنين وهذا يعني انتفاء مقدماته واسبابه، وتحقق حال الأمن والرضا.


قوله تعالى[قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ] الآية 263.
الإعراب واللغة
قول : مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه تنوين الضم الظاهره على آخره ، ترى كيف صارت النكرة مبتدأ ، الجواب لتعقبها بالوصف.
وهو نكرة , فهو موصوف بانه معروف.
معروف : صفة لقول ، مرفوع وعلامة رفعه تنوين الضم الظاهر على آخره.
ومغفرة : الواو : حرف عطف .
مغفرة : معطوف على قول ، مرفوع وعلامة رفعه تنوين الضم.
خير : خبر مرفوع وعلامة رفعه تنوين الضم .
من : حرف جر مبني على السكون لا محل له من الإعراب.
صدقة : اسم مجرور وعلامة جره تنوين الكسر الظاهر على آخره.
يتبعها : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره ، والهاء ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم.
أذى : فاعل مؤخر مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر .
والجملة الفعلية (يتبعها أذى) في محل جر صفة .
والله غني حليم : الواو استئنافية .
اسم الجلالة : مبتدأ.
غني حليم : خبراه.
الصدقة من صدق عليه أما في الإصطلاح فهي ما يعطى للفقير والمحتاج من مال أو طعام أو لباس بقصد القربة ، ورجاء مرضاة الله ، قال تعالى [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
ومن إعجاز القرآن نزوله بوجوب الصدقة والندب إليها ، وجاءت السنة النبوية القولية بالحض على الصدقة ، وكان النبي محمد الإمام في الصدقة فهو كالريح المرسلة في الهبات وتقديم العطايا خصوصاً في شهر رمضان .
و(عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه ، فاتقوا النار ولو بشق تمر)( ).
وفي الصدقة أطراف :
الأول : المتصدق .
الثاني : الصدقة ومقدارها كماً وكيفاً .
الثالث : المتصدق عليه .
الرابع : الأجر والثواب على الصدقة.
في سياق الآيات
بعد آيات الإنفاق في سبيل الله والحث عليه، والزجر عن اقترانه بالأخلاق الذميمة، جاءت هذه الآية لنشر الود بين الغني والفقير، وسيادة الأخلاق الحميدة ، وموضوعية الكلام الحسن في الصلات والمعاملة.
ومن معاني الجمع بين الآيات السابقة وهذه الآية الإخبار عن سعة أبواب الخير والثواب ، وأنها لا تنحصر بالصدقة بل تشمل اللطف والرفق في المعاملة ، والعفو والمغفرة .
وقد صدرت الأجزاء (202-203-204-210-211-231-240-241-242) من هذا السِفر بعنوان (آيات السلم محكمة غير منسوخة) فهل آية البحث منها ، أم أن القدر المتيقن من هذه الآيات تلك التي تتضمن النص الصريح بخصوص موضوع السلم ، الجواب هو الأول ، إذ تحتمل هذه الآية معاني :
الأول : القضية الشخصية والصلة بين الأفراد .
الثاني : القضية النوعية والصلات بين الجماعات والفئات .
الثالث : الصلة بين الدول وأهل الملل والنحل .
لأصالة الإطلاق بالأمر بقول معروف ، وبالعفو والسماحة والمغفرة ، ومع قلة كلمات آية البحث فانها أختتمت بثلاثة أسماء من أسماء الله الحسنى [وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ]( ).
لبيان أن الصدقة والقول المعروف إنما ينفع أصحابه [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]( ).
وابتدأت الآية التالية بنداء التشريف [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]( )، ليتعقبه النهي عن إبطال الصدقات بالمن على المتصدق عليه ، أو على غيره ، قال تعالى [قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
مع ذكر الآية لقانون القبح الذاتي للرياء وضرره ، وصدوره من الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، وهو من قانون زجر المسلمين عن ضروب التشابه مع المشركين في قبيح القول أو الفعل .
ثم جاءت الآية التي بعدها بالثناء على الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله قربة اليه تعالى ، وتأكيداً لايمانهم بقوله تعالى [وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
إعجاز الآية
تدل لغة التفضيل في الآية على أهلية القرآن للإمامة لما فيها من التأديب، وتهذيب النفوس وتعلم حسن الود وطيب المعاملة، ولزوم عدم ايذاء السائل ، او الإساءة للمحتاج.
وتفتح الآية باب الأجر والثواب لكل مسلم وان عجز عن الإنفاق باختياره حسن الإعتذار وطيب الكلام.
وتبين الآية التفضيل بين المتعدد القولي على الصدقة المقرونة بالأذى ، وهي لم تذكر المقارنة أو التفضيل بين كل من :
الأول : القول المعروف والصدقة .
الثاني : المغفرة والصدقة .
الثالث : القول المعروف والصدقة مجتمعين.
لبيان قانون بين الصدقة والقول المعروف في الجملة وليس مطلقاً ، فقد يكون القول المعروف هو الأفضل ، وقانون الأفضل هو الجمع بين أربع وجوه :
الأول : الصدقة سواء الواجبة أو المستحبة .
الثاني : القول المعروف ، قال تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا]( ).
الثالث : العفو والمغفرة .
الرابع : قانون التنزه عن المن والتعيير في العطية والصدقة والهبة.
والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، إذ وردت هذه الوجوه في آية واحدة وهي الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، مع بيان قانون من الإرادة التكوينية يتغشى الحياة الدنيا والآخرة وهو حب الله عز وجل للمحسنين.
ويمكن ان تسمى هذه الآية آية (قول معروف) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا مرتين ، إذ ورد في سورة محمد ولكنه ليس أول كلمة من الآية في قوله تعالى [طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ]( ).
الآية سلاح
تكون السنة النبوية القولية والفعلية على وجوه :
الأول : قانون بيان السنة النبوية للقرآن .
الثاني : قانون السنة النبوية ترجمان حاضر للقرآن ، وهو من أسرار توثيق وعناية أجيال المسلمين بالسنة النبوية ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الثالث : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام في العمل بمضامين آيات القرآن .
فقد وردت النصوص والأحاديث النبوية بالنهي عن المنّ في الصدقة .
و(عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم : المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب .
وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى، أخبرنا عثمان بن محمد الدوري، أخبرنا هشيم بن خارجة ، أخبرنا سليمان بن عقبة، عن يونس بن ميسرة ، عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر)( ).
و(عن عمرو بن دينار قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من صدقة أحب إلى الله من قول ، ألم تسمع قوله [قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى]( ).
وأخرج ابن ماجة عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علماً ، ثم يعلمه أخاه المسلم .
وأخرج المرهبي في فضل العلم والبيهقي في الشعب عن عبدالله بن عمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما أهدى المرء المسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة حكمة ، يزيده الله بها هدى أو يرده عن ردى .
وأخرج الطبراني عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تصدق الناس بصدقة مثل علم ينشر.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم العطية كلمة حق تسمعها ، ثم تحملها إلى أخ لك مسلم فتعلمها إياه.
وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في قوله { قول معروف . . . } الآية . قال : رد جميل . يقول : يرحمك الله يرزقك الله ، ولا ينتهره ولا يغلظ له القول)( ).
وتنهى آية البحث عن المنّ بالصدقة والذي يكون على وجوه منها :
الأول : حديث المتصدق عن صدقته خاصة بذكر المتصدق عليه.
الثاني : التعيير بالصدقة .
الثالث : طلب الشكر على الصدقة.
مع أن الله عز وجل هو الذي يقبض الصدقة وتصل إليه قبل أن تصل إلى الفقير أو السائل .
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصدقوا فإن أحدكم يعطي اللقمة أو الشيء فتقع في يد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل ، ثم تلا هذه الآية [أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ]( )، فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله فيوفيها إياه يوم القيامة)( ).
الرابع : هتك الستر .
الخامس : تقطيب الوجه .
السادس : التكبر على الفقير الذي قبض الصدقة.
وتتعدى منافع الآية الصلة بين الغني والفقير , وأيام الحياة الدنيا لما فيها من مضامين الإصلاح الإجتماعي ونشر المحبة وإعطاء الأولوية لإكرام المسلم وان كان فقيراً، والآية وسيلة لتقوية صفوف المسلمين ومنع النفرة والفرقة بينهم ، لتكون الصدقة بقصد القربة من مصاديق حبل الله في قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
مفهوم الآية
الآية في مفهومها دعوة لتوجه المحتاجين إلى الله تعالى والسؤال من فضله، قال الشاعر :
سَيُغْنيني الذي أَغْنَاكَ عنِّي … فلا فَقْرٌ يَدْوُمُ ولا غِناءُ( ).
وتنمــي الآيـة ملكة العز والتقوى في النفوس، ولا تخرج عن عمومات احكام الصــدقة، وتعطي الأولوية للمفاهيم الأخلاقية، وتساهم في الإرتقاء في سلم الكمالات الإنسانية، وتمنع من ظهور الكدورات وسيطرتها على النفوس وشيوع الأذى والأخلاق والعادات الذميمة، ومنها المن والتعيير وتقبيح بعض فئات المجتمع لأفعال البعض الآخر، وتنهى عن ذم الأغنياء الفقراء لكثرة سؤالهم، وذم الفقراء للأغنياء على سوء تصرفهم وعدم اعطاء الصدقات الا مع الأذى والإساءة.
وجاءت الآية لتهذيب المجتمعات وتنقيتها وتنقيح القرائح واصلاح الطبائع ، وتولي عناية خاصة للعلاقات الإجتماعية بين الطبقات المتفاوتة وتمنع من وجود جفاء بين الأغنياء والفقراء وتلك مسألة لم يستطع قانون وضعي ما معالجتها ولا نظرية اصلاحية اقتصادية او سياسية او اخلاقية الحيلولة دون حدوثها وما يترتب عليها من الآثار الضارة بكل الأطراف ، فتحققت بآية من القرآن وهو من إعجازه المتجدد إلى يوم القيامة.
فجاء القرآن ليمنع من حدوث مثل هذا الجفاء ويدعو الى التقارب ويخبر عن حاجة كل طرف للآخر فالغني ايضاً محتاج الى الفقير لأنه محل تقرب الى الله عز وجل وموضوع ادائه لما عليه من الواجبات الشرعية والأخلاقية.
وتساهم الآية في مناهج التكامل الإجتماعي ودرء الفقر والمنع من الآفات الإجتماعية والشرور العرضية للفقر او الغنى او الزهو وتمنع من ترك الآخرين بهمومهم ومعاناتهم.
لقد زرعت هذه الآيات الرأفة والرحمة في قلوب المسلمين الى يوم القيامــة وســاعدت على بقاء اتحـادهم وشــيوع مضامين الود والمحبة بينهم وما يكــون عوناً على التصــدي لأعــداء الإسلام ومنع التعدي على شعائره وثغوره اي ان لهذه الآيات بعداً جهادياً لم تبلغ كنهه الأوهام بعد.
وقد ادركت الدول الصناعية الكبرى في هذا الزمان حاجتها وما لها من مصلحة في إعانة الدول الفقيرة، والوقائع التأريخية تحكي قصصاً في ثورة الفقراء على الأغنياء سواء على نحو القضية الشخصية او النوعية العامة وجاء القرآن قبل اكثر من الف واربعمائة سنة بقواعد تخفف من البون الشاسع بين الطبقات بما يمنع من تحول الخلاف والفارق بينها الى صراع وفتنة.
وهذا مــن اعجــاز القرآن الغيري وســر من اسرار التشريع لم تفرد له دراســات عقائدية خاصـــة , فتشريع الصدقة واحاطتها بقيود وشــروط ايجـــابية وســلبية مدرســة في الأحكام التكليفية والوضعية، ومن السـلبية خلوها من المن والأذى لتكون جزء من التكامل الإجتماعي الذي تترشح عنه قوة الإسلام والقدرة العامة على اداء الفرائض.
والآيــة مــن مصــاديق قــولــه تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ]( ) خصوصاً وان موارد الإبتلاء تبين حقيقة الإيمان وقدرة الإنسان على اجتياز الإمتحان، والصدقة من افراد الإمتحان للطرفين الدافع والقابـض، فلذا جاءت الآية لتحذر من الأذى , وتدعو الى الصبر والتحمل وعدم حصــول الإســاءة، ولزوم عدم الرد عليها في حال وقوعــها كي لا تنغـلق ابواب المعروف واسباب الإعانة والرحمة بين المسلمين.
وجاءت الآية مطلقة في موضع الصدقة لتشمل:
الأولى : الصدقة على الرحم المحتاج.
الثانية : اعانة القريب الكاشح ” سئل النبي صلى الله عليه وآله عن أي الصدقة أفضل ؟ فقال: على ذي الرحم الكاشح”( ) وهو الذي يضمر لك العداوة ويطوي على غله وحسده ويتعمد الإعراض عنك.
الثالثة : الصدقة على الجار والصديق.
الرابعة : مساعدة الأجنبي المحتاج .
الخامسة : مد يد العون الى المسلم مطلقاً بلحاظ اسلامه.
السادسة : الصدقة على غير المسلم المحتاج، للأخوة في الإنسانية مع عدم استعماله في محرم، ولكي يعرف الناس ما في الإسلام من سنن الرحمة والإعانة.
ومن عمومات الآية المقاصد السـامية التي تتضمنها وهي من مصــاديق قوله تعالى [وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ]( )، والأذى غالباً اشــد من النهر والزجر والزبر، والمن ادنى منه رتبة، وموضوع الآية اعم من الســائل والمســألة، فقد تكون الصدقة واجبة وتعطى من غير سؤال، فالآية جامعــة مانعــة مما هــو دون زجر السائل وما هو اشد منه، وان كان النهــر فرداً من افــراد الأذى القــولي، كما ان لفظ السائل جاء بمعناه المطلــق والماهيــة المجــردة الخالية من القيود كالإسلام والتقوى واداء الفرائــض فقد يكـون الرد قولاً معروفاً ودعاء واعتذاراً واستغفاراً.
ومن مفاهيم الآيــة الدعــوة الى الإسلام وبيان السمو الأخلاقي عند المسلمين، وتهيئة مقدمات اداء العبادات بعدم الإنشغال الجانبي بايـذاء الآخرين او تلقـي الأذى منهم وهي حث على اكتناز الصالحات.
وفي الحديث: ” اهل المعروف في الدنيا هم اهل المعروف في الآخرة” ويحمل على وجوه منها انه يؤذن لهم في الآخرة بالشفاعة وانه يلقى جزاءه في الآخرة، وعن ابن عباس في معناه: يأتي اصحاب المعروف في الدنيا يوم القيامة فيغفر لهم بمعروفهم وتبقى حسناتهم جامّة، فيعطونها لمن زادت سيئاته على حسناته فيغفر له ويدخل الجنة فيجتمع لهم الإحسان الى الناس في الدنيا والآخرة.
والمعروف في الآية حسن القول والإعتذار الجميل والدعاء والإستغفار، وموضوع الآية ليس قول المعروف وحده بل الأولوية لإعطاء الصدقة من غير اذى ولكن جاءت الآية للبيان وللإخبار عن ان القول المعروف ليس فيه نفع مادي للسائل ومع هذا فهو احسن من النفع المقترن بالضرر.

التفسير
قوله تعالى [ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ]
للمعروف معنيان، فيرد بمعنى مفعول للأمر المعروف وقال الأزهري: لم اسمع امر عارف اي معروف لغير الليث، والذي حصلناه للأئمة رجل عارف اي صبور، ويطلق المعروف على الوجه لأن الإنسان يعرف به، والمعرفة ادراك الجزئيات ويقابلها العلم وهو ادراك الكليات، وقيل ان المعرفة والدراية والعلم نظائر.
اما المعنى الثاني فهو ضد المنكر، وقد ورد لفظ المعروف في القرآن اثنتين وثلاثين مرة كلها على المعنى الثاني مما يدل على انحصار معناه الإصطلاحي لتوكيد موضوعية المعروف في الإسلام بينما ورد بالمعنى الأول بصيغة الفعل كما في قوله تعالى [فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ]( ).
والمعروف سور جامع لأعمال الخير والصلاح والإحسان ومصاديقه اعم من ان تحصر بعدد معين ومنها :
الأول : كل فعل عرف فاعله حسنه.
الثاني : كل فعل واجب او مندوب اذا عرفه صاحبه.
الثالث : كل فعل حسن يختص بوصف زائد على حسنه، وهو اما واجب او مندوب.
الرابع : في باب الصلة بين الزوجين يرد بمعنى الكسوة والدثار [وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ]( )، وبحسن الصحبة وعدم التعدي , قال تعالى [وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ]( ).
الخامس : كل ما تعرفه النفس من الخير وتطمئن اليه، فلفظ المعروف مشتق من المعرفة الذاتية للفعل الحسن.
السادس : إسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله واسباب التقرب اليه.
السابع : كل ما ندب اليه الشرع، وما تميل له الفطرة الإنسانية ولا ينكره العقلاء.
الثامن : حسن المعاملة والصحبة مع الأهل والناس جميعاً والإنصاف مطلقاً، وفي الحديث: الإنصاف نصف الدين.
ومن الآيات امكان الجمع بين المعنيين وافادة معرفة الناس للفعل الحسن الذي يختص بحكم زائد على حسنه، وانه الذي تعرفه الناس والخلائق ويكون معروفاً عند الملائكة وسمة مميزة لمن اختاره الله خليفة في الأرض وان الفعل السيء تنكره الملائكة وتنفر منه النفوس.
لقد جاءت الآية بجمـلة خبرية وليس أمرية، لبيان موضوع يترتب عليه حكم وللإشــارة الى المائز بين الفعـل الحسن والقبيح، ولتكون دعوة للمســلمين للمبادرة الى النهــج الحســن الذي ندب اليه الشارع وفيه تحبيب المعروف الى النفوس وحث على جعل القول الحسن سجية وعادة وامراًَ معهوداً على لسان المرء، ليكون مقدمة وواجهة للفعل الحسن ايضاً فغالباً ما يتوافق اللسان والجوارح في الكيفية والنهج والقصد.
فالآية وان وردت في موضع خاص الا ان مضامينها مطلقة وتحمل معاني الإصلاح الشخصي والنوعي وتنقيح الأفعال وقهر النفس الغضبية والشهوية، فهي رياضة اخلاقية لتهذيب النفوس والتوجه الى المطالب الربانية وتوثيق الأخوة الإيمانية.
والآية حرز من السيئات وقول السوء واتباع المنكر، وتنمية للرقيب الذاتي , والواعز الشرعي ولتبقى رادعاً عن قول السوء والفعل البغيض.
وتظهر الآية منافع المبتدأ في الكلام اذا جاء صريحاً واضحاً بيناً، ومن المحكم وليس المتشابه، بلغة مفهومة لدى الجميع لا تقبل التعدد في التأويل.
وابتدأت الآية بـ (قول معروف) ليرسـخ في الأذهان هذا اللفظ لحاجة الإنسان له في ليله ونهاره وفي معاملاته المختلفة مع والديه واهله وفي ميادين الدراسة والعمل والكسب، ان سياق الآية الكريمة ومجئ (قول معروف ) في فاتحة الآية ومن غير ان يسبقه فعل او اسم او مقدمة دعوة للإلتفات الى موضوعه وتوكيد على اهميته وحث على تعلقه بالأوهام، وجعله مرتكزاً ذهنياً حاضراً عند الشروع بالقول، وواعزا نفسياَ لمنع اللسان من التعدي خصــوصاَ وانه يحـتاج في الغالب الى الرقيب , فجاءت الآيات لتحث على ضبط اللسان وهذه الآية لم تأت لضبطه والحيلولة دون نطقه بالمكروه وتلفظه بالقبيح فحسب، بل جاءت لتهديه الى القول الحسن والنطق الكريم الذي يبعث الغبطة والسعادة لدى السامع.
والجمع بين صدر الآية ومتعلقها، والمبتدأ والخبر يفيد ورودها في رد السائل بالقول الحسن وما يجبر قلبه والتحذير من ايذائه، ولكن الآية اعم منطوقاَ ومفهوماَ.

قوله تعالى [وَمَغْفِرَةٌ]
اصل الغفر التغطية، يقال غفر الله ذنبك , اي ستره وغطاه وصفح عنه، والمغفرة اسم منه
وجاء عطف المغفرة على القول بالمعروف ليكون صيغة من صيغ المعاملة وكيفية اخرى لرد السائل والمحتاج لان الواو تفيد المغايرة والتعدد، وفيه وجوه :
الأول : إن السائل اذ صد بجفاء شق عليه واحس ببؤسه وضعفه.
الثاني : يقال غفر الامر اي اصلحه، فالمغفرة هنا سعي للاصلاح والارشاد والهداية، وهي افضل من الصدقة التي يتبعها اذى وضرر، بل قد تكون خيراً من الصدقة الخالية من الأذى ايضاَ سواء بذاتها او بأثرها كمقدمة للرزق او بالجزاء الأخروي يوم القيامة ولا ينحصر نفعها بالمستغفر له بل تشمل المستغفر.
الثالث : قد يكون رد السائل اواعطاؤه اقل مما يظن ويتوقع سبباَ لبذاءة لسانه فجاءت الآية للعفو عنه والتجاوز عن قوله.
الرابع : طلب المغفرة من الله عز وجل للنفس او السائل عند رده وعدم قضاء حاجته.
الخامس : ستر حال الفقير وكتم مسألته وعدم نشرها.
السادس : التفكيك بين قول المعروف وبين المغفرة، فالاول وظيفة المسوؤل، والثاني وظيفة السائل.
السابع : موضوعية المغفرة والاستغفار في المسألة والحاجة , وعن الصادق كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر غداة كل يوم سبعين مرة، قلت: كيف كان يقول ؟ قال: كان يقول: استغفر الله سبعين مرة، ويقول: اتوب إلى الله اتوب إلى الله سبعين مرة ” في ارشاد وتعليم لاجيال الامة وهو المعصوم من الزلل.
الثامن : الآية انحلالية وان القول المعروف والمغفرة أمران مطلوبان من كل من السائل والمسوؤل باعتبارها وعاء اخلاقياَ ومنهجاَ عقائدياَ يحكم الصلات الشخصية والاجتماعية ويمنع من تفشي النفرة والبغضاء بين الناس عامة، والمسلمين بصورة خاصة.
التاسع : قد لا يكون قول المعروف حاجباَ دون صدور الأذى والشر من الطرف الآخر , كما لوكان يطلب امراَ مادياَ ملموساَ ونفعاَ ذاتياَ وربما مصيراَ او حقاَ له يظنه، فتأتي المغفرة لاتمام الاحسان والمنع من مقابلة الأذى بمثله وزيادة الشر والكدورات، ومفهوم المغفرة هنا الصبر وعدم رد الأذى بمثله.
العاشر : ينقسم الامر الذي جاء في الآية بصيغة الخطاب الى وجوه ثلاث:
أولاَ :قول معروف مقرون المغفرة.
ثانياََ : قول معروف بمفرده.
ثالثاَ : مغفرة وحدها.
وكل من هذه الوجوه امر حسن ذاتا الا ان احسنها واتمها هوالاول , اي الجمع بين الامرين، وهل يشترط المبادرة باتيانها، الجواب لا، الا انه هو الافضل ومن مصاديق المسارعة في الخيرات.
قوله تعالى [ٌخَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى]
خير افعل تفضيل ويقال هذا خير من هذا اي يفضله، وقد يأتي اسم فاعل يقصد اعم من التفضيل، والخير عنوان يفيد الثواب والفضل والنفع الحسن، ولقد جاء في الآية على نحو الاطلاق والشمول فالخير والتفضيل هنا لا ينحصر بالمتلقي للقول المعروف والمغفرة.
بل ان حسنها ونفعها يشمل الذي يصدران منه وغيره ايضاَ، انهما نشـر للــواء المحبة والتســامح ودرء للفتنة والخصــومة وتفاقم الأذى، وفيها راحــة للنفس وبعث للطمأنينة ولو على نحو الموجبة الجزئية، وتبديد لغيوم الكآبة والغشاوة لذا فانه باب لذكره تعالى واخبار عن الاقرار بالمعــاد ولو بالدلالة التضــمنية، ويؤدي الى الصــفاء ويطرد النفرة من القلوب ويكون عوناَ على العبادة والالتقاء في الجماعات والاشتراك في الرباط والتعاون في قضاء الحوائج واصلاح المجتمعات والتصدي لكيد الأعداء.
فمن منافع الآية ايجاد المجتمع الاسلامي المعافى من الدرن الذي يكون قادراَ على العمل باحكام الشريعة حريصاَ على تعاهد علوم القرآن، فحجب الصدقة لا يضر السائل او المحتاج اليها لان الله عز وجل تكفل معيشته، وضمن له قضاء حاجته وسد فاقته، وتوفير ضروريات يومه، وتهيئة اسباب ومستلزمات دوام حياته الى يوم اجله، ولكن الانسان قد يصدر عنه ما فيه غلظة عند رده لوجوه :
الأول : لقصور عنده يظن بان حاجته عند اخيه الانسان.
الثاني : يظن بان الناس اسباب فضله تعالى اذ جعل سبحانه الناس بالناس وهذا صحيح الا ان الخلل في الصغرى وهي عدم حصر الحاجة بطرف ما اوجهة اوشخص معين.
الثالث : قد يقيم السائل نفسه محاسباَ للغير ويرى لزوم اعطائه وعدم تخلفه عن الصدقة وقضاه الحوائج، فترى السائل يكون رقيباَ، فيقبل عطية قليلة او كلام معروف من شخص ليس بغني، بينما تراه يرد اضعاف تلك العطية ممن هو غني ومعروف بالثروة، اوان يقبلها من الاجنبي بعد السؤال والتوسل اليه، ويردها من الرحم والاقارب مع انهم اعطوه ابتداء من غير مسألة.
وتبين الآية موضوعية الاخلاق الحميدة وفي موازين الاعمال واثرها عند الله وعند الناس والاجر العظيم الذي يناله الانسان بالقول الحسن خصوصاَ مع من هو ادنى منه وجاء محتاجاَ اليه، فالآية مدرسة في السمو الاخلاقي ودعوة سماوية للارتقاء في الصلات الاجتماعية ومادة للتهذيب والاستقامة وتنقيح السجايا ومنع الخلل في مزاج الانسان وما يحركه نحو الغضب والشر.
وهو مناسبة للتقوى والاصلاح واستدامة النعم الالهية على الصبر وتذكر بعض الكتب قصة طريفة مختصــرها ان رجلاً غنياَ ذا ثروة واموال اصــابه الإفلاس والفقــر بعد ان جــاءه سائل وهو يتغذى فخرج له ونهره ووبخه وطرده، واضطر الى ان يطلق زوجته لعدم قيامه بنفقتها، فتزوجت شخصاًَ آخراً، فعاشت معه مدة , ثم جاء سائل وهو يتغدى , فقال لها اخرجي له المائدة , فقالت: بعضها، قال:لا، فاخرجتها وهي تبكي، قال مايبكيك , قالت: لقد جاء سائل الى زوجي الأول وهو يتغدى فنهره وطرده، فقال زوجها: والله اني انا السائل الذي طرده زوجك)
فالاية في مفهومها تحذير من طرد وزجر السائل وحرمانه مما جعل الله عز وجل في اموال الاغنياء على نحو الوجوب او الإستحباب.
وصحيح ان ذكر القول المعروف والصدقة جاء بعنوان التفضيل على الصدقة التي يتبعها الاذى ولكن لا يعني انحصار المعنى به بل يؤخذ صدر الآية بذاته وعلى نحو مستقل لامتلاكه مقومات الخير واليه تشير الآية في مفهومها كما في قولك الصلاة خير من النوم، اي ان الصلاة ذات خير ونفع وفلاح وان الحسن العقلي والشرعي متعلق بها بالذات وتبين الآية مرجوحية الصدقه المقرونة بالأذى.
وجاء ذكر الأذى على الاطلاق اي سواء كان :
الأول : موجهاَ للسائل والمحتاج.
الثاني : للجماعة والانتماء.
الثالث : باللسان والكلام الغليظ او التعبير.
الرابع : باليد والاستهزاء بالفعل كالدفع الذي ظاهره المزاح.
وهل يشمل الأذى الخاص للمعطي نفسه كما لوكان يتألم بعد اعطاء الصدقة ويلوم نفسه على اعطائه الكثير أويفكر بحاجته للمال الذي اعطاه، او ان الذي دفع له ليس محتاجاَ، الجواب: لا، لان القدر المتيقن هو الأذى المتعقب للصدقة المتوجه للسائل.
ولا ينحصر موضوع الآية بسؤال الصدقة فمن الصدقة مايأتي ابتداء، وهذا ايضاَ لا يسلم من احتمال طرد الأذى مصاحباَ اومتعقباَ للهبة والاعانة والصدقة، فيشمله عموم الآية.
والآية تأديب وارشاد المسلمين وتجعل في نفس المحسن مقدمات احترازية مما يحمل عنوان الاساءة عندما يهم بالصدقة ويخشى القيام بما يسبب الأذى للفقير والمحتاج، كما انها توجد ضابطة اخلاقية في المجتمعات الاسلامية تفيد الذم النوعي العام لكل من يقوم بايذاء الغير بسبب صدقته واحسانه، فليس في مقدور المجتمع والعرف العام الالتفات الى هذه المسألة.
ولو ترك الناس وشأنهم لذهب شطر منهم الى التغاضي عن هذا الجانب وما يصاحب الصدقة من المن او الأذى وينظرون الى الصدقة بنحو خاص وينعت من يتصدق بالكريم وذي الاخلاق الحميدة وان صدر منه الأذى لانه لا يضر مع الصدقة فالمدار على مبادرته للصدقة، ويوجهون اللوم الى الفقير الذي يأبى اخذ الصدقة المقرونة بالمن والأذى فجاءت هذه الاية لتصنع نواميس ومناهج اخلاقية، لاتستطيع اي مؤسسة او دولة ان تثبتها في المجتمعات خصوصا مع التباين في القرائح والطباع عند الناس، وان حصل التفات الى هذه المسألة وذم لمن يقرن صدقته بالمن او الأذى فهو محدود ونسبي ويتعلق بافراد الأذى الظاهرة والأكثر حدة بين اهل العطاء والبذل والإنفاق.
ومن الإعجاز في الآية انها لم تنص على حرمة الصدقة المقرونة بالأذى او تنهى عنها، او تخبر عن بطلانها او ابطال ثواب الصدقة بالمن، بل انها جعلتها امراً مرجوحاً ولم تغلق الباب امام التفكيك بين الصدقة والأذى من جهة الثواب والعقاب فالسيئة بمثلها، والثواب للصدقة كحسنة ينمو ويزداد خصوصاً وان هذه الآية جاءت بعد آية مضاعفة الثواب والأجر اضعافاً كثيرة ومتعددة.
واذ تعلق موضوع الآيتين السابقتين بالإنفاق في سبيل الله، فان هذه الآية جاءت بصفة الصدقة وهي اعم , وتشمل الإحسان والرفق , للأخوة الإنسانية الى جانب الإنفاق في سبيله تعالى.
ومن الصدقة ما تعطى لغير المسلم وربما يسبب له الأذى المصاحب لها عنده نفرة من الدين وابتعاداً عن الإسلام , ويظن ان هذا من سجايا المسلمين, فجاءت الآية لتحذر المسلمين وتدعوهم للإبتعاد عن اقتران الصدقة بالمن والأذى، ولتخبر الآخرين بان الإسلام ينهى عن ادنى مراتب الأذى او التعيير ويدعو الى ستر الفقير وتحمل الغني لإساءته وما يصدر عنه نتيجة الجوع والفاقة، فاذا ما صدر تقصير ضد السائل غير المسلم, يعتبره خطأ شخصياً مخالفاً لقيم الإسلام ومفاهيم القرآن, ولا يجعله على الاسلام, بل انه يشتاق في نفسه لدخول الإسلام ليكون مرآة للسجايا الحميدة التي يأمر بها ويحث عليها، فالمقاصد السامية للآية تتعدى الجانب الأخلاقي والصلة بين المعطي والسائل، والغني والفقير, فتشمل الجوانب العقائدية وتصدير القيم السامية وبيان دلائل رفعة الإسلام وتكامل شريعته , ووضعها للضوابط الرفيعة للمعاملة وصيغ التفاهم بين الناس.
والآية وسيلة مباركة لتشجيع السائل على المسألة، والتوجه الى ارباب الأموال والحقوق الشرعية لطلب الإعانة ودفع الحاجة، سواء بذاتها ووضعها لقواعد الإعطاء, او لرفعها للحرج والتردد وخشية الذل والصد والنهر , اذ ان المحتاج يكون ضعيفاً مستضعفاً، والمسلم يفضل عزته وحفظ ماء وجهه على الصدقة والإعانة وقد يتعرض بسبب الإمساك عن السؤال الى المرض والحرمان او يقدم على امر فيه شر وضرر, فجاء موضوع الصدقة لتدارك الحال.
فهذه الآية من آيات اصلاح النفوس والمجتمعات والإرتقاء بالسلوك العام والخاص، ومن الإعجاز الغيري للقرآن على نحو مركب من وجوه:
الأول: وضعها لتشريع اخلاقي.
الثاني: صدور الناس من القرآن وربط السلوك العام باحكام القرآن.
الثالث: الدعوة الى الإسلام بهذه الآية وما يتفرع عنها من اعمال البر.
الرابع: الإخبار عن علمه واحاطته تعالى بالأعمال.
الخامس: تقديم قصد القربة وجعل الإحسان خالصاً لوجهه تعالى.
السادس: الأثر الغيري لهذه الآية وفي مواضيع خارجة عنها، لأنها تأسيس لطرد المن والأذى في المعاملات والصلات، فهي تأديب للناس وتحذير من المن والأذى، فمثلاً قد يظن العالي من الناس ان سلامه على الداني نوع فضل واحسان وانه يمن بالسلام او انه لا يبادر به، فالآية جاءت لتحرير المجتمعات من التفاضل على اساس المزايا الشخصية وما ابتلاهم به من الغنى عند بعضهم واصابة الآخر بالفقر.
السابع: الآية مقدمة للإستعداد لعالم الآخرة وحياة البرزخ، فان شــعور الغني بالزهــو واحساس الفقير بالذل والمسكنة للغير كلاهما اشغال عن التفكر بالآخرة والإعداد اليومي لها وعلى نحو السالبة الجزئية.
وتنمي الآية ملكــة العزة عنــد الفقير المحتاج وتدعوه ان يختار الأفضل والأحسن ويتجنب الأسوء الذي لم يكن معلوماً بالخصال المذمومة الا بعد ان بينه القرآن وهو الصدقة المقترنة بالأذى، والآية من وجوه تفسير قوله تعالى [ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ]( )، فمتى ما علم الفقير ان له حقاً في امـوال الغني ولو بالنوع والصفة فانه يشعر بانتفاء الحاجة الى الذل والخضـوع له، بل يدرك لزوم خشوعه وشكره لله عز وجل الذي لم ينساه، وجعل له حقاً في مال الغير، وجعل اعطاء هذا الحق واخذه او حجبه موضوعاً للإبتلاء ومناسبة للأجر والثواب، سواء الأجر للمعطي على مبادرته بالدفع قربة الى الله، او الأجر للفقير على صبره وتحمله.
ولكن الآية لم تحرم اخذ الصدقة التي تقترن بالأذى، لأن الضرر فيها لا يعود الا على طرف واحد هو مصدر الأذى فلا يعني الأمر ان الأذى يسبب الذل له على نحو القطع والسالبة الكلية انما يكشف له معادن الناس وضـعف او قوة ايمانهم , والعطاء ان انعم الله عليه كل هذا ببركة هذه الآية الكريمة في دعوتها للتخلي عن الأذى المصاحب للصدقة.
واختلف في جنس الصدقة المقصودة في هذه الآية وهل هي الصدقة الواجبة كالزكـاة ام انها تتـعلق بالمسـتحب من الصدقة باعتبار ان الواجب لا يجــوز منعه وحجـبه عن اهلـه، ولكن الآية تحمل على اطلاقها وبلحاظ عمومات مفهوم الدقة وشموله للصدقة الواجبة والمستحبة لذا سميت آية الزكاة بآية الصدقات [ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا]( ).
وهل تعتبر الصدقة الواجبة والمندوبة بعرض واحد في هذه الآية، الجواب لا، لتقدم الواجبة رتبة فليس من حق صاحبها حجبها عن مســتحقها وما دام هناك استحقاق ووجوب فلا موضوعية للأذى او عذر على ارتكابه واللجوء اليه لأن الفقير صاحب فضل ايضاً على الغني بان كان موضعاً لإخراج الحق واداء الفريضة وتحصيل الثواب العظيم، فصــاحب الحق الشرعي من الزكاة والخمس يجب ان يكون اكثر حذراً من اســباب المن والأذى والتعيير وجرح الفقير والمحتاج، وكذا بالنســبة للفقير والمحتــاج فانه اكثر عزاً عند طلب الصدقة الواجبة او استلامها.
كما يشمل موضوع الآية الصدقة الجارية وما يكون نفعه للناس كبناء المسجد او طبع كتاب اسلامي او انشاء مستشفى او اقامة قنطرة ونحوها , ومن الأذى وضع القيود والتشديد في الإنتفاع منه , ولو اراد المحسن كتابة اسمه على المشروع الخيري او تسميته باسمه فهل هو من المن والرياء والأذى المنهي عنه، الجواب لا، الا مع وجود القرينة والدلالة الخاصة التي تشير الى وجود المن او الرياء، وكتابة الاسم والاعلان له معان مختلفة بحسب الحال والشأن واللحاظ فمن وجوه حسنه:
الأول : أن يكون تعظيماً لشعائر الله.
الثاني : رجاء دعاء المؤمنين.
الثالث : حث الآخــرين على البذل والعطاء والصلاح والمبادرة الى الخيرات.
الرابع : دفع الظنة والتهمة عن النفس والقول بان فلاناً يحجب الحقوق الشرعية او انه لا يفعل الصالحات.
الخامس : رسالة باقية للأبناء , وتركة للورثة والأعقاب بان الأب تعاهد الواجبات المالية , وفيها دعوة لهم للمحافظة على اخراجها وعدم منعها عن مستحقيها.
السادس : دفع الحقوق الشرعية مصداق وتوكيد لإتيان الفرائض الأخرى كالصلاة والصوم.
السابع : طرد القنوط واليأس وبعث الأمل في نفوس المحتاجين.
الثامن : شيوع مفاهيم البر والإحسان ونشر المحبة والود بين الناس.
التاسع : تشجيع السعاة في الخيرات على بذل الوسع والإتصال بارباب الحقوق الشرعية وانشاء المشاريع الخيرية ومواساة الفقراء ومنع تفشي الفقر والحاجة وما ينجم عنهما من ظهور حالات الفساد وشيوع الجريمة.
العاشر : اظهار الشكر لله عز وجل على تفضله بالهداية الى الإنفاق في سبيله، والإعتزاز بالتوفيق للبذل والعطاء.
نعم الإعلان والتجاهر بالصدقات امر مبغوض اذا كان بقصد الرياء والتباهي او طلب المنازل الإجتماعية الرفيعة والتسلط على الناس والمن عليهم وتحقيق المنافع الدنيوية الزائلة وتحصيل الشهرة , وهذه الآية الكريمة من مصاديق رحمته تعالى بالمسلمين وارشادهم الى النفع التام الخالي من الضرر والإضرار.
وهي مناسبة لإمتلاء النفوس بالبهجة لجريان نهر المعروف وانعدام الأذى والضرر وقد يشمل الأذى ذات الشخص المنفق وعياله كما لو جاءت الصدقة على جميع امواله او رافقها ابتلاء وافلاس وكساد وتجارة , وفي الحديث: “خير الصدقة ما كان عن ظهر غني” اي ما كان عن سعة وفضل عن نفقة العيال، ولا يكون اعطاؤها سبباً للإملاق والحاجة والفقر فانه اذى يلحق النفس والعيال، فالحاجة الشخصية اولى والإنفاق على العيال من احسن مصاديق الصدقة، وهم اولى بالصدقة والكسب الخاص باستثناء الصدقات الواجبة كالزكاة والخمس فانها يجب ان تخرج الى مستحقيها ولا يجوز انفاقها على من وجبت عليك نفقته كالأب والأم والأولاد والزوجة، ومنهم من حمل الحديث على معنى سد حاجة الفقير وجعله غنياً عن المسألة، وهذا الغنى يحتمل وجوهاً ثلاثة:
الأولى : اليوم والليلة.
الثانية : كفاية مؤونة سنة كاملة.
الثالثة : الغنى المطلق, والكفاية وعدم الحاجة على نحو الإطلاق وطيلة ايام العمر كلها.
والأقوى هو الوجه الثاني لأن من يمتلك قوت سنته لا يصدق عليه انه فقير، مع ترجيح المعنى الأول للحديث , وهو ان المراد من ظهر الغنى ابقاء كفاية للعيال ومجيء الصدقة في الزائد عنها لذا ورد الحديث بصيغة اخرى وهي: “خير الصدقة ما ابقت غنى”.
فالقول المعروف والاعتذار والاستغفار للسائل والمحتاج خير من الاعطاء وابقاء العيال في عسر ومشقة وما قد يتفرع عنهما من الابتلاء والأذى الذي لا يحتمل , وهذا من الوجوه المشرقة لعمومات الآية، والاعتذار عن الذين وسع الله عليهم في الرزق حينما يجتمعون عن الاعطاء ودفع الصدقات المستحبة، وقد يأتي الأذى بلحاظ الرتبة والتباين في المعاملات مع المحتاجين، فالاعطاء للفقير الاجنبي قد يسبب انكساراً وغضباً عند الرحم المحتاج لذا ورد في الحديث: (لا صدقة وذي رحم محتاج )، وتفضيل الاجنبي في قضاء الحاجة قد يؤدي الى اذى وقطع رحم وخصومة وفتنة، والصدقة باب فتحه الله عز وجل للالفة والوفاق وبث روح المحبة والمودة بين الناس.
قوله تعالى [وَاللَّهُ غَنِيٌّ]
من اسمائه تعالى (الغني) ويحتاج اليه سبحانه كل احد , ولا يحتاج الى احد لانه واجب الوجود، والاحتياج ملازم للامكان , ولا ينفك عنه، فالممكن هو الذي يحتاج الواجب، ومتى ما كان الشيء محتاجاً فهو ليس بواجب، فالوجوب يعني الاستغناء المطلق عن الغير، والحاجة تكون على قسمين :
الأول : من الممكن الى واجب الوجود اي من طرف واحد، لأن الممكن لا يمكن ان يستغني عن الغير في وجوده واستدامته وحيزه، والجهة التي يكون فيها.
الثاني : بين الممكنات نفسها سواء يكون بعضها محتاجاً للبعض الأخر على نحو الاطلاق كما في حاجة الانسان الى الغذاء، او ايجاد الشيء المصنوع من قبل الانسان او ان الحاجة جهتية كل طرف يحتاج الطرف الآخر في جهة معينة، كما في معاملات الناس وحاجة بعضهم للبعض الآخر.
وفي الدعاء: “اللهم استغنيك عن كل حازم، واستعينك على كل ظالم” والحزم له معنيان الاول ضبط الرجل امره والحذر من فواته، والمعنى الأخر هو سوء الظن بالغير لذا ورد في الحديث: “الحزم مساءة الظن” والدعاء وسؤال الإستغناء من الحازم يراد منه المعنى الثاني للحزم.
فيدخل في مفهوم (الأذى) في الآية الكريمة سوء الظن بالفقير والشك في حاجته، اوفي كيفية انفاقه للصدقة، الا ان هذا الظن والشك لا يصدق عليه انه اذى حتى يترجل في الخارج بصيغة قول اوفعل وهو سبحانه الغني الذي يسد حاجة العباد وينفي الفقر عنهم ويجعلهم في سعة، هو الغني الذي لا تنفذ خزائنه مع كثرة العطاء.
فالغنى عند الناس محدود, وكثرة العطاء تأتي عليه وكم من غني اصبح فقيراً مملقاً، فاطلاق لفظ الغني على بعض الناس على نحو المجاز والاستعارة, ثم ان الانسان لابد وان يفارق ثروته وامواله ان لم يكن بالاسباب المادية وبالانتزاع والإنفصــال عنها فانه يتركـها قهراً بالموت, لذا يســمى الميراث (التركــة) فلا غنى مطــلق الا له سـبحانه وهو مع كثرة العطاء يزداد جوداً وغنى، وورود اسم الغني هنا جاء على نحو الاعجاز ويفيد الاســتيعاب لمضامين الآية الشريفة والرأفة الجامعة الشاملة للجميع للمعطي والآخذ, فمن منافع ورود اسمه “الغني” في خاتمة الآية وجوه :
الأولى : إنه ذكر لله تعالى.
الثانية : دعوة للاغنياء بالانفاق والتطلع الى فضله تعالى بالعوض.
الثالثة : اخبار عن استغنائه تعالى عن الناس.
الرابعة : اشعار الغني بالحاجة له سبحانه , وان المال عنده امتحان.
الخامسة : بعث روح الخشوع والاقرار بالربوبية عند الناس.
السادسة : منع افتتان الفقير بما في ايدي الاغنياء , فمتى ما شعر الفقير ان الغنى المطلق لله تعالى حصراً، وان المال عند الناس وديعة فانه يزداد ايماناً ويتوجه الى الباري عز وجل لقضاء حاجته.
السابعة : اخبار الفقراء بان الله عز وجل هو الذي يسد حاجتهم.
الثامنة : الآية اشارة الى الجنة ومافيها من النعيم الدائم، ومن حرم من اسباب الغنى في الدنيا فانه ينالها بالاخرة ان سعى اليها بالصلاح والهدى.
التاسعة : خاتمة الآيــة تمنــع من حصــول الأذى في باب الصــدقات وهـذا من الاعجاز الغيري للقرآن، فمتى ما ادرك الفقير ان الله هو الغـني فانه يصرف وجهه عن صاحب المال بمجرد الشعور باحتمال الأذى والمشقة ولا يتجه صوب بذاءة اللسان والكلام القبيح.
العاشرة : تمنع الآية من الاساءة في باب الصدقات لان الكل يدرك ان المال وموضوع الصدقة امتحان واختبار وفرع غناه تعالى.
الحادية عشرة : تجعل الآية المسلم يحدث دراسة مقارنة بين غناه تعالى وغنى الناس ويعرف التباين وحقيقة الغنى عنده تعالى، ومجازية واستعارة العنوان عند الناس، بل ان اسم الغني لا يصدق الا عليه سبحانه، فالفارق بين غناه وغنى العباد ليس نسبياً او ان المائز في الرتبة والدرجة، بل ان الغنى ينحصر به سبحانه وكل ما سواه محتاج، والاحتياج بالذات وليس بالعرض.
الثانية عشرة : خاتمة الآيــة تبعــث الرضـا والقنــاعة في نفس الفقير فما دام الله هو الغني ولم يوســع عليّ في الرزق , فلابـد ان المصلحة والنفع في تقــديـر الرزق وعــدم الزيادة والفضــل فيه، وهذا الرضا لا يمنع من الدعاء وسؤال الزيادة ورجاء النماء والبركة ونزول الخيرات.
الثالثة عشرة : الآية عون للمسلم غنياً كان او فقيراً، فما من شخص الا وهو محتاج وحتى ذي السعة والثراء فانه يجتهد في الحصول على المزيد من الثروة والجاه وتوسعة موارده وزيادة املاكه، فجاءت الآية لاخباره بالتوجه الى الله عز وجل رجاء الزيادة والسعة.
الرابعة عشرة : الآية زجر عن منع الحقوق الشرعية، ودعوة لاخراجها كواجب على الانسان، فمتى ما أدرك العبد ان اخراج الصدقة لنفعه هو بالذات وان الله يسد حاجة الفقير، فانه يمتنع عن الأذى المصاحب للصدقة ويقوم بالمبادرة الى اخراجها طوعاً والبحث عن مستحقيها، وتلك المبادرة حاجب عن الأذى لانها تدل على الاستعداد والقبول النفسي بدفع الصدقة.
الخامسة عشرة : وجــود الامــوال بين الناس وحاجــة بعضهم الى البعض الآخر من فضله تعالى وتوكــيد لغناه، وورد لفــظ الغني في القرآن عشرين مرة، سبع عشــرة مرة بصيغــة الرفع وكلها اسماء الله عز وجل, وورد ثلاث مرات في حال النصب خبراً للفعل الماضي الناقص (كان) , وواحدة وصفاً لله واثنتين في الانسان بقوله تعالى [ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ]( ) وقوله تعالى [ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ]( ) كما ورد بصيغة الجمع اربع مرات منها قوله تعالى [ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ]( ).
وورود لفظ (الغني) اسماً له تعالى تسع عشرة مرة في القرآن توكيد لغناه تعالى وعز للمسلمين , ودعوة للتوكل اليه والتطلع الى فضله وجوده واحسانه , وسؤال الرزق والسعة والمدد منه تعالى، كما انها جاءت بصيغة الثناء عليه تعالى والتنزيه لمقام الربوبية والتحذير والتخويف من الكفر , وانه لا يضر الا صاحبه , فجاء عدة مرات بالزجر عن الكفر كما في قوله تعالى [ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ]( ) .
وجاء بالتحــذير من الاعــراض والتولي والصدور لما في قوله تعالى [ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ]( ).
ويأتي احياناً جامعاً للتحذير منهما والاخبار عن ضلالة من يتخذهما او احدهما طريقاً قال تعالى [ فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ] ( ).
فالآية تحذر من غلق باب الصدقة والتولي والاعراض عنه، وصدور الأذى من اسباب سد باب الصدقة او اضعاف موضوعيتها والتقليل من منافعها في المجتمعات , وبلحاظ المقارنة في مواضع اسمه تعالى “الغني” تبدو اهلية المسلمين لخلافة الارض والتزامهم بالاحكام الشرعية فمن الامم السالفة من قالوا ان الله عز وجل فقير كما في قوله تعالى [ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ]( ).
وعن الحسـن ومجاهد في اسباب النزول : لما نزلت [ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ً] ( )، قال حــي بن اخطب ان الله فقير ونحن اغنياء.
ان وصفه تعالى بالغنى المطلق في آية الصدقة والزجر عن اقترانها بالأذى تأديب للمسلمين ودعوة للجوء اليه , ومنع من الغرور والغي، فبعد فضح مدعي الربوبية بالحجج التي ذكرها ابراهيم في الاحياء والاماتة وطلوع الشمس من المشرق، جاءت هذه الآية لتقضي على ما هو ادنى واعم منه، وهو الزهو والغرور بالمال والجاه , وتبين حاجة الانسان الى الناس.
فعندما يشعر الانسان بان الآخرين محتاجون اليه , وهو لا يحتاج الى احد منهم , والجميع يرجون نواله ويفرحون بالقليل الذي لا يكلفه شيئاً فانه قد ينشغل عن ذكر الله , ويجعل عطاءه بشروط وقيود تضر الناس في كرامتهم وعزهم، فجاءت الآية لتنذره وتحذره وتعلمه ان الغنى امر ينفرد به الله عز وجل وحده، وتدعوه الى طلب الحاجة منه تعالى وانه مع ما عنده من ثروة ومال وجاه فانه يبقى محتاجاً للغني الكريم في دوام ثروته ونمائها بل في حياته ومابقي من ايام عمره.
وخاتمة الآية دعوة للفقراء والمحتاجين للتوجه الى طلب الرزق منه تعالى , والتوجه الى سبل الكسب وتحصيل المعاش وعدم الانشغال بما في ايدي الناس، فحينما يخبرنا الله وهو اصدق القائلين بالكتاب النازل من عنده تعالى على صدر نبيه ان الغنى عنده وحده , وانه الكريم فانه يحثنا على عدم الوقوف على ابواب الاغنياء ويدعونا لطلب الرزق من موارد الحلال والكسب.
ان الاخبار عن غناه المطلق سبحانه عز وجل خطاب انشائي ينحل في توجهه الى عدة اطراف منها:
الأول : الاغنياء واصحاب الحقوق الشرعية , وتحذيرهم من الغرور اوحبس الحقوق او الظن بان الاسلام او الناس الاخرين محتاجون لهم ولاموالهم خصوصاً وان الحقوق الشرعية ليست ملكاً طلقاً لاصحابها بل انها حق الفقراء جعله الله في ايديهم لاختبارهم.
الثاني : خطاب للفقراء بالصبر والتحمل وعدم الغضب والرد بالاساءة عند حجب الاغنياء الحقوق الشرعية، وايضاً عدم اظهار الذل والخشوع لهم عند المسألة او عند الاعطاء لان الغنى منه وله تعالى.
الثالث : الخطاب للأمة والناس جميعاً بلزوم شكره تعالى على نعمة الغنى , وتداول الحوائج بين الناس متصلة ومستمرة باعتبار ان هذه الحاجة من افراد الابتلاء في الدنيا ومعرفة حقيقة انفراده سبحانه بالغنى.
قوله تعالى [حَلِيمٌ]
بحث كلامي
من اسمائه تعالى الحليم وهو الصبور الذين لا يعاجل العقوبة ولا يستخفه عصيان المسيئين واقتراف الناس الذنوب وحجبهم لما جعله من حق للفقراء في اموالهم.
وفي علم الكلام يتعرض لصفاته تعالى وانه تعالى قادر مختار حي عالم مريد سميع بصير باق متكلم ونحوها من صفات الجلال والتنزيه، الا ان بعض المتكلمين لم يذكروا صفة الحليم للظن بانها صفة لا تتعلق مباشرة بوجوب الوجود مع انها من اهم الصفات في المقام لانها عنوان حلمه وتأنيه وامهاله للمجرمين والجاحدين.
فاذا قال احدهم لم لا ينتقم واجب الوجود من اعداء الدين الكفار ولم يبتل الذين يمسكون حقوق الفقراء في اموالهم ولا يخرجون الزكاة والصدقات الواجبة والمستحبة , الجواب ان من صفاته تعالى الحليم الذي لا يستفزه الغضب على الجاحدين , بل جعل لكل اجل كتاب , هو منته اليه ولكل شيء مقدار بالغه.
فصفة الحلم ينفرد بها الله سبحانه بلحاظ ان كل ماعند الإنسان منه تعالى بل ان الإنسان نفسه ابتداء وبقاء فضل منه سبحانه , فلا يؤاخذه بما يستحق من البلاء والعقاب بل يمهله الى اجل، والامهال لا يكون مجرداً بل يقترن اتصال الرزق والنماء والصحة والعافية ومقدمات الهداية وعمومات قاعدة اللطف , وهي تقريب العبد الى الطاعة واعانته على اتيان العبادات والفرائض.
فهو سبحانه يحلم ويمهل ويعطي الكثير مع الحلم مما يجعل الصبر يستحي من نفسه في تماديه في الغي , لذا كانت مسألة الرق في الاسلام مناسبة للاعتبار والاتعاظ , والاهتداء الى سبل الصلاح والتقوى للعبد وسيده، فالســيد يرى نفســه لا يصـبر على تقصير العبد ويوبخه ويؤذيه مع انه يفرط أو يقصــر , وســيده ومولاه سبحانه حليم لا يمهله و يزيد عليه من فضله , فيندفع في الصلاح ويتقيد باداء الواجبات وينشر الرحمة فيما حوله.
اما العبد فانه يرى سيده الصغير الذي ابتلى كل واحد منهما بالأخر يراه لا يصبر على تقصيره اوانه يريد منه اكثر مما يستطيع , والله عز وجل يمهل الاثنين معاً في تقصيرهما فيزدادان طاعة لله عز وجل، وتلك فريدة كلامية وعقائدية لم يلتفت اليها في باب الرق ومنافعه في تثبيت معالم التوحيد في النفوس.
وفي الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : ان الله تعالى يقول: اني انا الصبور وانه تعالى اوحى الى داود ياداود تخلق باخلاقي , وان من اخلاقي اني انا الصبور)
ومعنى صفة الصبور قريب من صفة الحليم، الاانه في الصبور لا يأمن من نزول العقوبة مثلما يأمنها في الحليم التي تعني الأناة والامهال.
لقد ورد (حليم) اسماً له تعالى في احد عشر موضعاً من القرآن، وهذه المرة الوحيدة التي يقترن يها مع صفة (غني) ,وجاءت ست مرات مقترنة بصفة (غفور) وثلاث بصفة (عليم) وواحدة بصفة (شكور) لتدل مجتمعة ومتفرقة على موضوعية حكمه تعالى في تهيئة اسباب نجاة الانسان من العقاب واتاحة الفرص المتعاقبة امامه للتدارك والاستغفار والتوبة والانابة، ولم يرد اسمه تعالى (الحليم) منفردا وبمعزل عن الصفات الاخرى في القرآن بل جاء مقترناً مع صفات الرحمة والعفو والكرم والاحسان.
وهذا الاتحاد والاجتماع في صفاته تعالى يفتح لنا آفاقاً جديدة في علم الكلام ويكون عوناً على الارتقاء في علوم التوحيد واصول الدين ويستلزم اعادة تدوين كثير من ابوابه بما يبين عظمة الباري عز وجل واسرارعقيدة التوحيد.
وفي قوله تعالى حكاية عن قوم هود [ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ]( )، قال الازهري: جاء في التفسير انه كناية عن انهم قالوا إنك لانت السفيه الجاهل، وقيل إنهم قالوه على جهة الاستهزاء.
قال ابن عرفة: هذا من أشــهر سباب العرب أن يقول الرجل لصاحبه اذا استجهله يا حليم: اي انت عند نفسك حليم: وعند الناس سفيه.
وهذا بعيد, ويحتاج الى قرينة صارفة ,اذ الاصل في الكلام حمله على ظاهره، والقرائن لا تتعارض مع الظاهر بل تؤيده , فالصلاة امر محمود حتى عند من لم يصل باعتبار انها من اسباب كف الأذى والشر، فالمسلم وغير المسلم يطمئن لمن يصـلي ويتجـاهر بالتقوى والصلاح فكيف بمن كان نبياً معصوماً من الخطأ , والآية هي، [ قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيد ] ( ).
وموضوع الحلم في الآية مركب من امهاله تعالىللاغنياء الذين يحجــبون الصــدقة الواجــبة , ويبخســون بالمنــدوبة ويمهلهم ويديم عليهم المال والثروة والجــاه، ومن ابقائه لحال الفقر لبعض عباده وحاجتهم الى الآخرين وعدم تلقيهم للاذى احياناً مع الصدقة، مع ان موضوع الصـدقة لا يحتمل اذى اضافياً لانه بذاته لا يخلو من الاستضعاف والمسكنة.
فهو سبحانه يتركهم على حالهم هذه ليسمع دعاءهم ويرى صبرهم وتدبرهم بالامر ومقدار لجوئهم اليه تعالى وليكونوا حجة على الاغنياء فالفقر وديعة الله في الارض وامانة متزلزلة عند الفقير والغني على حد سواء ليرى كل واحد منهما كيف يتصرف ازاءها واتصافها بانها متزلزلة بمعنى ان الله عز وجل وضع الاسباب والقواعد والضوابط الشرعية التي تعالجه وتطرده وتخلص العباد منه بحسب الايمان والتقوى والتقيد بالاحكام الشرعية، فلو أخرج الناس ما عليهم من الحقوق واعطوها الى اهلها المستحقين لها لما بقي فقير.
ولو اجريت دراسات حول الحاجة الكلية لمجموع اهل قرية اوبلدة اودولة او امة وبين ماعندها من الخيرات والثروة لوجدت الفائض الكبير، وان مجموع ماعندهم اضعاف مضاعفة لما يحتاجون اليه في يومهم وسنتهم وملبسهم وماكلهم ومسكنهم وسفرهم وامتعتهم ومستلزمات الحياة العصرية الاخرى، ولكن الثروة لم تقسم على التساوي
فجعل الله عزو جل الزكاة والخمس في اموال الاغنياء ليهيىء لهم العيش في الباقي بعد اخراج الحق الشرعي وهذا الحق يكفي لاعانة الفقراء وســد حاجاتهم الضــرورية وادائهم للفرائض والعــبادات البدنية من الصلاة والصوم ,الا ترى أن الحج ركن من اركان الدين ولكنه لا يجب الا على المستطيع والقادر مالياً عليه مما يعني ان الغنى والقدرة المالية معتبرة حتى في عــدد ومقدارالعبادات , تخفيفاً عن المسلمين واعانة للفـقراء وحثاً لهم على السعي في موارد الغنى وبلوغ حد الاستطاعة.
وبينما جــاءت الآية الســابقة بصـفة الانفاق في سبيل الله، جاءت هذه الآية بصــفة الصـدقة التي يتبــعها الأذى، والقرآن يفســر بعضه بعضا قال تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذى]( ).
فما هي وجوه الالتقاء الموضوعي بين الآيات هذا ما نبينه في تفسير الاية التالية .
وتكرار التحذير في هذه الآيات من المن والأذى اخبار سماوي على بغضهما ولزوم النفرة والابتعاد عنهما سواء مع الصدقة او مطلقاً للاولوية القطعية، والمن من الله عز وجل امر محمود وحسن وباب للعبادة والمواظبة على الشكر له تعالى على النعم التي تدل على عظيم صنعه وبديع خلقه وكبير فضله وعجز الخلائق عن درك ما منّ به عليها، فمنّه سبحانه رحمة بالناس ووسيلة لجذبهم الى منازل العبادة واخبار لهم عن وظائفهم ومايجب عليهم , وشكر المنعم واجب، ان منّه سبحانه جزء من تذكير الناس بواجباتهم ودعوة لهدايتهم ومانع من ضلالتهم وغيهم، فمن ضرورات الحياة الدنيا منّه سبحانه ومعرفة الانسان بهذا المن مقدمة لمعرفته لنفسه وضعفه وحاجته الى الله وامتلاء نفسه بالرجاء والخوف منه تعالى.
ومن فلسفة المنّ الالهي انه من مصاديق الامانة الالهية لتقيدهم بقوله تعالى [ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ]( ) فالمنان صفة جاءت لطفاً منه تعالى لحمد الناس على العبادة والاصلاح لذا فمن المبغوض ان يشاركه احد في هذه الصفة، لان هذا الاشتراك لا موضوع او اصل له، فكل النعم من عنده تعالى ابتداء واستدامة، ووفق قوانين العلة والمعلول والسبب والمسبب، فلذا جاء النهي عنه والتحذير من افساد فضيلة الصدقة بالمن باعتبار ان الانسان يدعي ما ليس له ويشارك الله في فضله على العباد فلا يضر الا نفسه بحرمانه من الثواب على الصدقة، اما الانفاق في سبيله تعالى فانه اعلان للعبودية وتسليم بالربوبية واقرار بالرجوع اليه تعالى فلا يضره المن سواء بالذات، او بفضله وعفوه ورحمته ومغفرته تعالى او لان قيد في سبيل الله يأتي على المن فيذهب اثره باعتبار ان ثواب الانفاق في نماء ومضاعفة والله عز وجل يضاعف لمن يشاء.
والأذى : كل ماسبب لك الماً او اساءة، يقال أذاه يؤذيه أذى والاسم الاذية والاذاة وانشد سيبويه :
ولا تشتم المولى وتبلغ أذاته
فانك ان تفعل تسفه وتجهل

فشتم العبد يعده العرف ايذاء له ويكون سبباً للذم والازدراء والحكم بالسفاهة مع ان العبد ملك لسيده.
والأذى عنوان جامع وهو من الكلي المشكك الذي الذي له مراتب متفوته كثرة وقلة وقوة وضعفاً وفي الحديث: “أدناها اماطة الأذى عن الطريق” والمراد من الأذى الشوك والحجر والنجاسة، وما مستحدث منها في هذا الزمان سواء في نوعية الطرق وتفرعها الى ترابية وتبليط او باتساعها وشمولها لطرق المارة وطرق السيارات ومصاديق الأذى في هذا الزمان كلها تدخل في عمومات الحديث الشريف.
وفي الحديث: (كل مؤذ في النار)، وهو انذار وتخويف لكل من يقوم بايذاء الناس مطلقاً بغير حق “وقيل اراد كل مؤذ من السباع والهوام يجعل في النار عقوبة لاهل النار” ولكن الكلام يحمل على ظاهره والمراد والوعيد والانذار بالنار لكل من يؤذي الناس في ارزاقهم واعراضهم وابدانهم وممتلكاتهم، فلذا جاءت الآية للتحذير من شديد العقاب وتمنع من كون الصدفة مقدمة للعقوبة والأذى.
واخرج ابن المنذر والحاكم في صحيحه ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل براء بن عازب فقال: يابراء كيف نفقتك على اهلك؟ وكان موسعاً على اهله، فقال يارسول الله ما احسنها قال فان نفقتك على اهلك وولدك وخادمك صدقة فلا تتبع ذلك منا ولا اذى)( )، وظاهر الحديث ان النبي الاكرم اعتبر النفقة الواجبة من الصدقة وتشملها عمومات الآية.
وفي الخبر عن الامــام الصــادق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من اسدى الى مؤمن معروفاً ثم آذاه بالكلام او منّ عليه فقد ابطل الله صدقته )، والخبر ضعيف سنداً، ويفيد ان المعروف صدقة، وان الكلام القبيح من الأذى، وفيه وفي المن ابطال للصدقة.


 قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] الآية 264.

الإعراب
(لا تبطلوا) لا ناهية، تبطلوا: فعل مضارع مجزوم بحذف النون، الواو: فاعل، صدقاتكم: مفعول به منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة لانه جمع مذكر سالم، والكاف: مضاف اليه.
(كالذي): جار ومجرور في محل حال من فاعل تبطلوا، والتقدير: لا تبطلوا صدقاتكم مشبهين الذي ينفق.
وقال مكي: ان الكاف نــعــت لمصــدر أي لا تبطــلوها ابطــالاً كابطال الذي، (واعتبره السيوطي خطأ وتخريجاً على خلاف الاصل، والظاهر لغير مقتض) ( )، ونسب الى سيبويه بانه حال من ضمير المصدر المقدر.
(ينفق ماله رئاء الناس) ينفق: فعل مضارع والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، ماله: مفعول به وهو مضاف، والهاء مضاف اليه، وجملة ينفق لا محل لها من الاعراب لانها صلة الموصول.
(رئاء الناس) رئاء: مفعــول لاجله وهو مضاف، الناس: مضاف اليه.
(فمثله كمثل صفوان) الفاء: استئنافية، مثل: مبتدأ مرفوع بالضمة وهو مضاف، والهاء مضاف اليه، كمثل: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، وقيل ان الكاف هنا اسم بمعنى مثل فهو أي الكاف خبر ومضاف، ومثل مضاف اليه والاقرب انها حرف جر.
وقد ذهب جماعة من النحويين الى اعتبار الكاف اسماً مبنياً على الفتح ومنهم الاخفش والفارسي، نحو (زيد كحاتم ) فتكون الكاف في محل رفع خبر للمبتدأ، وسيبويه لم يقل بجواز اعتبار الكاف اسماً الا عند الضرورة كقول العجاج:
يضحكن عن كالبرد المنهم.
فسبق الكاف حرف جر مما يعني انه اسم، كما ردهم ابن هشام وقال ان الكاف تكون مجرورة بحروف الجر فلم يسمع مررت بكالأسد، واجيب بان اسماء كثيرة لا تصلح لادخال حرف الجر عليها ومع هذا لم يختلف اثنان في صدق عنوان الاسم عليها.
صفوان: مضاف اليه.
(عليه تراب) عليه: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، تراب مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية في محل جر صفة لصفوان.
(فاصابه وابل) الفاء عاطفة عطفت اصابه على متعلق الجار والمجرور (عليه) ومعناه اصبح عليه تراب فاصابه، الهاء: مفعول به، وابل: فاعل مرفوع بالضمة.
(فتركه صلداً) الفاء: عاطفة، ترك: فعل ماض ينصب مفعولين، الهاء: مفعول به اول، صلدا: مفعول به ثان منصوب بالضمة.
(لا يقدرون) لا: نافية، يقدرون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، الواو: فاعل.
(على شيء): جار ومجرور متعلقان بـ(يقدرون).
(مما كسبوا) مما: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة شيء، وجملة كسبوا لا محل لها من الاعراب لانها صلة الموصول، (ما) وهو بمعنى الذي.
(والله لا يهدي القوم الكافرين) الواو: استئنافية اسم الجلالة: مبتدأ، جملة لا يهدي: خبر، القوم: مفعول به، الكافرين، صفة للقوم منصوب بالياء لانه جمع مذكر سالم.
يقال بطل شيء يبطل وبطلاناً وبطولاً: فسد وضاع وذهب خسراً فهو باطل، والباطل: نقيض الحق، والرئاء يأتي بمعنى التقابل (يقال منازلهم رئاء تقدير رعاء اذا كانت متحاذية وأنشد:
ليالي يلقى سربٌ دهماء سربنا
ولسنا بجيران ونحن رِياء
ويقال: قوم رئاء يقابل بعضهم بعضا ورئاء: مصدر راءى مراءاة ورئاء والمرائي يحرص على عرض اعماله على الناس.
والصفوان: الحجر الكبير الاملس.
والوابل: الوبل، والوابل: المطر الشديد الضخم القطر ويقال سحاب وابل، وارض موبولة: من الوابل وهو المطر الكثير القطر.
وقال ابن شميل: اول المطر رش وطش ثم طل ورذاذ، ثم نضح ونضخ ثم هطل وتهتان، ثم وابل وجود، وصلد املس زال عنه التراب والغبار.

بحث بلاغي
وفي مسائل نافع بن الأزرق انه قال لابن عباس: اخبرني عن قوله تعالى [ صَلْدًا ] قال: املس، اما سمعت قول أبي طالب:
واني لقرم وابن قرم لهاشم
لآباء صدقٍ مجدهم معقِل صَلد
وقال اخبرني عن قوله تعالى [ صَفْوَانٍ ] قال: الحجر الأملس، اما سمعت قول اوس بن حَجَر:
على ظهر صفوان كأن متُونه
عُلِلن بدُهنِ يُزلِقُ التنزلا
في سياق الآيات
بعد آيات الانفاق في سبيله تعالى والأمر بالصدقة والتحذير من اقترانها بالمن والأذى جاءت هذه الاية للاخبار عن امر تشريعي يتضمن التخويف والانذار من فوات ثواب الصدقات بالتعيير والمنة على المحتاج وايذائه.
ومن الاعجاز في سياق الآيات ان التحذير من ضياع اجر الصدقات لم يأت الا بعد بيان عظيم ثوابها والتشويق لها والاخبار عن مضاعفة اجرها اضعافاً يقصر العقل الانساني عن تصورها اوتوقعها كعوض وبدل لولا عظيم فضله واحسانه تعالى.
فبعد البعث الى الصدقة والترغيب بها والحث على اغتنامها ونيل الثواب العظيم بسببها جاء التحذير من ضياع الثواب فتذهب الصدقة سدى بسبب الأذى وهذا التحذير رحمة اضافية منه تعالى لاتمام الثواب والاجر للمؤمنين.
وتلفت الآية الانتباه الى لزوم الايمان بالله عز وجل والاقرار بالمعاد وتفرع الصدقة عن هذا الايمان لان يوم القيامة هو يوم الجزاء ويحتاج فيه كل إنسان الرحمة والعفو، فالفقير يحتاج الصدقة لمؤونة يومه اوليلته اوسنته ليسد بها رمقه، اما المعطي فانه يحتاج الصدقة ليوم الفاقة ليدرء بها عذاب النار عن نفسه، والفقير ان لم ينل بغيته من احد الذين وسع الله عليهم، فان ابواب الرزق والكسب والهبة والعطية والصدقة مفتوحة له، وما خفى عنه منها اكثر بكثير مما عرفه وطلبه.
اما الغني فانه محتاج لها كسبب لدوام النعم وحصول النماء والبركة في رزقه ويحتاج لها في الأخرة اذ لاعوض ولابديل عنها لان الأخرة دار حساب بلا عمل، ولو طلب العودة الى الدنيا ليتصدق بامواله وتوسل الى الفقراء كي يقبلوا منه ولا يؤذونه وقد سئل في الدنيا الزكاة نسبة العشر او نصف العشر او ربعه مما زاد على النصاب بقيد عدم الأذى والمن مقروناً بالايمان.
إعجاز الآية
جاء افتتاح الآية بخطاب الايمان والاكرام للمسلمين مع ان موضوعها النهي والتحــذير مما يفسـد العمل ويضيع الاجر والثواب، وفيه بالدلالة الالتزامية بشارة الرحمة والتخفيف والاعانة على عدم بطلان الثواب والتوفيق الى اجتـناب المن والأذى المصاحبين فهذا الافتتاح الكريم يجعل التحذير الوارد في الآية لطفاً وارشاداً للثواب الاحسن والاجر الجزيل اي ان الآية رحمة اضافية وهداية لسبل النجاة في الآخرة.
ثم جاءت الآية بمثل لبيان قبح تضييع الثواب والجحود والضلالة واتخاذ الانفاق وسـيلة لمراءاة الناس ومحاولة ايجاد صورة حسنة له عندهم على نحــو الحصر والتقييد، وفي المــثل في هذه الآية تشبيه حي لأمر عقلي وتقريب للمعنى بما يجعل المؤمن ينفر من المن ويكف عن الأذى مطلقاً فاذا جاء النهي عن الأذى كقرين للصدقة فمن باب الأولوية القطعية ان يكون الأذى المجرد اكثر قبحاً والمنع عنه يتعلق به بالذات.
ولقد جاءت في الآية افراد ملموسة مدركة في كل زمان ومكان وهي:
الأول : التراب.
الثاني : الحجر الكبير الاملس.
الثالث : المطر الكثير .
وهــذا من اعجــاز المثــل القرآني ان يكون من الواقع الملموس في كل زماــن ومكــان للاعانة على ايصــال المطلوب لكل انسـان وتيسير فهم مضمون الآيات لجميــع الناس سواء الحضري او القــروي، الرجل الذي يكسب ويعمل، او المـرأة التي تلزم بيتـها لتكون تلاوة القرآن او الانصات الى آياته سياحة وسفراً عقلياً واستحضار خصائص المثل.
ومع ان المثل ذم للمنافقين والمرائين فانه جاء باوصاف وافراد كريمة والفاظ عذبة وموضوع مبارك كالتراب والصفوان والمطر بمعنى ان الله عز وجل رزق الانسان العقل ثم وسـع على شطر من عباده في الرزق وجعل حاجة الاخرين عنده ليبتليه ودعاه الى الانفاق في سبيله تعالى، وهو يقوم بالانفاق ولكن يخسره ويضيع اثره الحسن ويفقد ما يترتب عليه من النفع بسبب سوء النية والقصد.
ويمكن ان تسمى الآية (عدم ابطال الصدقات).

الآية سلاح
تبعث الآية النفرة في النفس من المن والأذى المصاحبين اوالمتعقبين للصدقة وتساهم في بناء مجتمع اسلامي تسمو فيه الاخلاق الفاضلة ويلتقي افراده على نبذ العادات المزعومة، وتحد الآية من ظهور الرياء والتباهي بين الناس لان الرياء باب للانشغال عن ذكر الله بمعنى انه مذموم بذاته ومذموم بالعرض وبالآثار السلبية والاضرار العامة المترتبة عليه.
فاذا صار همّ الإنسان ارضاء الآخرين والظهور امامهم بصورة حسنة فانه يصبح منقاداً لاهوائهم ورغائبهم ويحرص على كسب ودهم، فلا يلتفت لوظائفه العقائدية وموازين الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من اهم وجوه فلسفة النهي عن الرياء، فالرياء داء وحاجب وغشاوة ظلمانية تمنع من سيادة احكام الشريعة.
مفهوم الآية
الآية فضل عظيم من عنده تعالى وتشريف للمسلمين بدعوتهم لاخراج الزكاة والتبرع بالصدقات المندوبة والمستحبة، كما يدل عليه مفهــوم الآية والنهي عن ابطال الصدقات، ان الله عز وجل يأمر المسلمين بالصالحات ويحثهــم عليها ويهديهم اليها مما يعني انه تعالى يهيء اسباب ومقدمات الصالحات ويمنع من العوائق التي تحول دون فعلها.
ثم انه سبحانه يحذر مما يضر بها موضوعاً وحكماً بالعرض وما يأتي على ثوابها، وتخبر الآية بان لا أحد يستطيع حجب ثواب الصدقات الا اذا قام العبد نفسه وباختياره بما يؤدي الى الابطال، ولم يجعل سبحانه سبب الابطال مبهماً او مجملاً بل بيّنه بما يكون مدرسة اخلاقية وعقائدية وتربوية واصلاحية.
فمن مفاهيم الآية بيان مبغوضية المن وانه يلحق بالاذى وقد يأتي المن في غير مواطن الصدقة لأن قضاء الحاجة أعم من الصدقات او الفقراء، فقد تشمل الاغنياء وذوي الشأن وارباب المنافع لأن الله عز وجل جعل حاجة الناس بالناس.
ومن فلسفة التداخل في الحاجة تثبيت أواصر الصلات بين الناس لتكون مقدمة اجتماعية ومناسبة لمعرفة أحكام التوحيد واقامة الصلاة واداء العبادات، فبناء المسجد مثلاً يستلزم توفير مواد البناء له، وجلب العمال والمهندسين وأهل الصنائع للعمل في مراحله المتعددة، وتجهيزه بالفرش والأثاث، وكلها أمور تذكر بالله، وتدعو الى تعاهد الصلاة، وتلح على الباعة والعمال والمشاهدين والسامعين بالالتفات الى وجوب عبادته تعالى وعمارة المساجد.
وهكذا بالنسبة للصيام فان حلول شهر رمضان مناسبة كريمة للتذكير بالله تعالى والترغيب بالامتثال لأوامره، وما فيه من التحدي للنفس الشهوية، كما ان الاستعداد للشهر الكريم دعوة للصيام وحجة على الناس وموعظة ودرس وذكرى.
وتداخل الحاجات بين الناس ولجوء بعضهم الى بعض في قضاء لحاجة يستلزم قواعد شرعية وعقلية لضبط المعاملات، وجاءت هذه الآية لتعالج مسألة المن والاذى في باب الزكاة والصدقات مما يعني بالاولوية اجتناب المن والاذى في المعاملات المختلفة والصلات ذات الاسباب المتعددة من الرحم، والقربى، والجوار، والنسب، والسبب كالمصاهرة والرضاعة.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أسمى الصلات وأحسنها وبما يساعد على قبول الأعمال وتمام الثواب وما يبعث الرضا والقبول في النفس.
وما جاءت به الآية من المثل وذكر المرائي غاية في التأديب والاصلاح، وهو في مفهومه بشارة للمسلمين للمائز والفوارق الثابتة بين المؤمن والكافر، ومن اللطف والرحمة الإلهية ان الآية لم تذكر المرائي وحده كمثل لابطال قيامه بالصدقة والانفاق بطلبه السمعة فقط بل لأنه لا يؤمن بالله عز وجل ولا بالمعاد.
وتحذر الآية من الرياء وطلب السمعة عند اداء العمل العبادي، وتنهى عن التشبه بالكفار وتظهر سوء فعلهم والخلل الذي يكمن في النية، لتوكيد موضوعيتها وارادة قصد القربة واثبات مخالفة المسلمين للكفار، وهذا التحذير تعاهد منه تعالى لصدقات المسلمين منذ ساعة اعطائها ودفعها للفقير بل وقبلها، فمن المن والاذى ما يكون سابقاً للصدقة ومتقدماً عليها زماناً، فالنهي عن المن والاذى رحمة بصاحب المال وحفظ لصدقته ومنع ارشادي من تضييعها.
ان الصدقة والتمكن منها نعمة وباب رحمة فتحه الله عز وجل للناس للاغتراف من الجزاء والثواب في النشأتين، وليكون وسيلة للعفو والمغفرة فهو كالمطر الشديد الضخم القطر الذي ينزل على الارض، ولكن الصخرة الصلدة لا تنتفع منه لعدم قابليتها للزراعة او النمو، فكذا بالنسبة للكفار فانهم وان قاموا بالتصدق فانه لا ينفعهم لأن الشرك بالله تعالى لا يصلح معه عمل، وتدل عليه خاتمة الآية التي جاءت بلغة الجمع [ لاَ يَقْدِرُونَ] وان الكفار عاجزون عن استثمار أي من أبواب النفع والرحمة في الحياة الدنيا لاختيارهم الكفر والرياء، فجاءت الخاتمة قاعدة كلية وأعم من مسألة الانفاق لبيان موضوعية الانفاق في عالم الاعمال في الدنيا، والثواب في الآخرة.
التفسير
قوله تعالى[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ]
خطاب تشريف واكرام للمسلمين ورد هنا في باب النهي عن ضياع الثواب والاجر ويدل بالدلالة الالتزامية على البشارة والرضا باعطاء المسلمين للصدقات ووجود موضوع فعلي وهو التزامهم باعطاء الصدقات فالنهي والتحذير جاء متعلقاً بابطال الصدقات اوعدمه مما يعني دفعهم للصـدقات، وهل هي الصدقات الواجبة ام المستحبة الجواب كلاهما لان ذكرها جاء على نحو الاطلاق وبصيغة جمع المؤنث السالم، فمتعلق الابطال يحتمل وجوهاً :
الأول : ذات الصدقات.
الثاني : الاجر والثواب.
الثالث : اثرها عند الناس ومنافعها الواقعية وحصول احباط نفسي عند الفقراء.
اما الأول فان الآية تخبر عن وقوع الصدقات وصدق الاسم والموضوع والحكم عليها انها صدقات فلا يتعلق الابطال بها بالذات واما الاثر عند الناس فانه بعيد وان كان له موضوعية واثر.
وذيل الآيــة وما فيها من المثل دليل على عدم تعلق الامر به، فالابطال يتعــلق بالصدقــات من الاجــر والثــواب، وصيغــة الجمع انذار وتنبيــه بان الخطر كبيــر والخسارة فادحة لان الابطال يأتي على الصـدقات وليس على جزء منها وان كان ظاهره يتعلق بما يلازمه ويتعقــبه من منّ واذى، والخطاب في الآيـة انحلالي، فكما جاء الخطاب بصيغ العموم فانه ينحل الى الافراد وكل مسلم على حدة.
ومن البشارة واللطف في الآية الكريمة انها لم ترد بصيغة اللوم والعتاب فلم تقل لماذا تبطلــون صدقاتكـم بالمن والأذى، فجاء التحذير من فعل طارئ مستقبلي ولزوم اجتنابه كحاله غريبة واجنبية عن القيم الاســلامية كما في قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى]( ) وقوله تعالى [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ]( ).
ولا ينحصر موضوع الآية بزمان دون زمان او مكان دون مكان آخر، وهي تحذير من غلبة النفس الشهوية والغضبية والميل الى قيم الحياة الدنيا وما فيها من التباهي والتفاخر، فجاءت الآية قاعدة لتهذيب النفوس واجتناب وجوه الأذى، وفيها دعوة لاخراج الصدقات واجراء الاحسان ودفع الاعانات الى الفقراء والمحتاجين فهي وان كانت تنهي عن الشوائب العرضية للصدقات الا انها تعتبر تحريضاً على المبادرة الى الصدقات وجعلها حقيقة ثابتة في الواقع اليومي للمسلمين كأن الآية تقول: بادروا الى الصدقات ولا تجعلوها تقترن بالمن او الأذى، كما ان ذكر احتمال ابطال الصدقات فيه وجوه :
الأولى : ان المسلمين في ســعة وبامكانهم التصــدق مما هــو زائــد على الموؤنة.
الثانية : الصدقة وان كانت مطلوبة بذاتها الا ان الثواب والأجر قد ينقص او ينعدم بسبب طرو امر عارض.
الثالثة : في الآية تأديب للمسلمين واخبار بلزوم اكمال مقدمات الخيرات وفعل الصالحات وعدم خلط العمل الصالح بآخر سيء.
الرابعة : الالتفات الى مسألة الاجر والثواب وحده سبب في التخلص من الرياء، فالآية تحذر من فقدان الثواب بالمن والأذى، وجاء هنا على نحو المثال الامثل والغالب والا فان الآية تحذر من كل اسباب ضياع الثواب ومنها الرياء.
قوله تعالى [بِالْمَنِّ وَالأذى]
بينما جــاءت الآية قبل الستتابقة ببيان عظيم الثواب والمضاعفة اضعافاً كثيرة للانفاق في سبيل الله، جاءت هذه الآية والآيتان السابقتان بالتوكيد والتنبيه على المن والأذى وبينها تباين فهي على وجوه بحسب الترتيب، ففي الآية السابقة جاء الانفاق في سبيل الله وعدم اتباعه بالمن ولا الأذى.
وفي الآية الســـابقة جــاءت قاعدة كلية عامة تشــمل موضــوع الصــدقة مطــلقاً والصــلات الاجتماعـية العامة وبيان التفاضل والترجيح وان القــول الحســن والمغفــرة خـير من الصدقة التي يحيط بها المن والأذى.
اما هذه الآية فجاءت بالتحذير من ابطال الصدقات بالمن والأذى، فهذه الآيات مجتمعة ومتفرقة جاءت لتنقيح الصدقات وتخليصها من المن والأذى وتهذيب النفوس ومنع حصول القنوط والاحباط في النفوس، ولكنها تتضمن سراً وهو عدم اجتماع الانفاق في سبيل الله مع المن والأذى، اي انهـا لم تقــل (قول معــروف خير من انفاق في سبيل الله يتبعه اذى، او تقول لا تبطلوا انفاقكم في سبيل الله بالمن والأذى) وفيه وجوه محتملة :
الأولى : ان الانفاق في سبيل الله لايبطل ولا يضيع ثوابه، وان رافقه من ولا أذى وتطاول بالإحسان.
الثانية : لا موضوعية للمن والأذى عند الإنفاق في سبيل تعالى لأنه قيد يطرد المن موضوعاً او حكماً.
الثالثة : ان الانفاق في سبيل الله من مصاديق الصدقات فهو ايضاً صدقة واحسان واخراج للمال بغير عوض مادي حاضر، فعمومات الآية محل البحث تشمله.
الرابعة : ان ابطال الصدقات بالمنّ والاذى هو تضييعها وافسادها.
وانها تحذر من الانفاق في سبيل الله الذي يتبعه المن والأذى، والاقوى ان الانفاق في سبيله تعالى لا تشمله عمومات الآية وموضوع وحكم الصدقات على نحو الانطباق والشمول ففيه خصوصية وحرز مبارك وواقية من الاحباط وهو قيد في سبيل الله.
لقد جاءت آيات القرآن بالحث على الانفاق في سبيله تعالى وتضمنت البشــارة بقبــول الانفــاق على نحو الاطلاق ما دام المقصود منه وجهــه تعالى [ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ) وســيأتي مزيد بيـان في الآية الثانية والسبعين بعد المائتين.
فهل تعتبر الاية محل البحث استثناء من الانفاق في سبيله تعالى وانه لا يوفى مما ينفق ما دام يلازم المن والأذى، لقد ورد عدم قبول الصدقات ملازماً للكفر والشرك قال تعالى [ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ]( ) .
والظاهر ان ابطال الصدقات اخف رتبة من منع القبول وانه لا يعني اسقاط الثواب والاجر من رأس بالنسبة للمسلمين الذين آمنوا بالتوحيد والرسالة ونزول الكتب السماوية.
ولكن لو انفق المسلم في سبيل الله واتبعه بالمن اوالأذى او بهما معاً فهل يبطل انفاقه.
الجواب: لا، لان هذه الآيات حرصت بدقة سماوية على التمييز والفصل النســبي بين الانفاق في ســبيله تعـالى وبين مفهوم الصدقة ويمكن ان تكون النسبة بينهما بخصوص الثواب ولحوق المن والأذى عموماً وخصــوصاً من وجه وليس عموماً وخصوصاً مطلقاً كما هو ظاهر العمومات.
وهذا التقسيم الذي نستــقرئه من ظــاهر الآيات يدل على وجود مرتبة مستقلة للانفاق في سـبيل الله يتعاهدها سبحانه فلا يطرأ عليها الضرر القهري الناتج من المن والأذى وان كان هذا الاستقلال لا يمنع من ترتب الاثم على المن والأذى الا انه بمقداره كسيئة، وثواب الانفاق يأتي عليه باذنه ومشيئته سبحانه، فهذه الآيات تحث على الانفاق في سبيله تعالى، وتخبر عن تعاهده سبحانه له، ولصاحبه، ومنع تبعات المن والأذى من الوصول الى حرم ثوابه ومقدار اجره.
هذا مع الاقرار بان قيد في سبيل الله يأتي على المن والأذى من الاصل ليحجب ظهورهما بالقـول والفعل لانه عنوان عشق لوجه الباري، وشــوق لطلب مرضــاته، والانفاق في سبيله تعالى سفر من الخلق الى الحق، ومن يريد السفر يستعد له بما يناسبه ويتأهب لما قد يواجـــهه من أمــر وشــأن، ومنه احتمال صــدور المن والأذى، ولكن هذا لا يمنــع من شــمول التحذير والتنـبيه الوارد في الآية للانفاق في ســبيله تعالى باعتــبار ان الصـــدقات الواجبة انفاق في سبيله تعالى وبقصد القربة.
وقد يقول قائل اذا اخرجنا الانفاق في سبيله تعالى من موضوع الصدقات فماذا يبقى تحت هذا العنوان خصوصاً وان من خصائص الاستثناء ان يكون المستثنى منه اكثر من المستثنى، اي ان الافراد التي تخرج بالاستثناء اقل مما يبقى على اصل الحكم، والانفاق في سبيله تعالى بالنسبة للمسلمين اكثر الصدقات ان لم يشملها كلها.
قلت: هذا صحيح، ولكن المائز يظهر في حكم الابطال فكأن صفة الانفاق في سبيله تعالى حجبت الابطال من الوصول الى هذه الحصة المباركة من الصدقة، وان الآية اشارة وارشاد الى وسيلة عقائدية للتخلص من موضوع ابطال الصدقات بجعلها انفاقاً في سبيله تعالى وبقصد القربة الخالصة لوجهه تعالى، كما ورد في الحديث القدسي: “الصيام لي وانا اجزي به” أي ان رافقه اعلان واخبار للناس وتفاخر وتباهي باداء الصيام فان الله عز وجل يجازي بنفسه عن الصيام لأنه احتسبه خالصاً له.
فكذا الانفاق فحينما يكون تعظيماً لشعائر الله وتثبيتاً للدين واحياء لعلوم الشــريعة واشـاعة لذكره وعبادته تعالى فان الله عز وجل يجعل ثواب الانفاق في حرز وامن الا ان هذا لا يمنع من التوكيد على لزوم الابتعاد عن المن والأذى لما لهما من اضرار على الملة والمجتمع والاشخاص، بمعنى ان افراد الصدقة والانفاق في سبيله تعالى لا تنحصر بمسألة الثواب وابطاله انما تشمل الآثار المترتبة عليه النفسية والاخلاقية والعقائدية والاجتماعية، فجاءت الآية لاصلاح المجتمعات وتهذيب النفوس والاخبار عن تضييع ثواب الصدقات مع المن والأذى من غير ان يتعارض الحكم مع اختصاص الانفاق في سبيله تعالى بعدم الاحباط او نقص الثواب.
وعدم نقص الثواب لا يعني عدم ترتب الاثم على الأذى الصادر مما ينفق في سبيل الله، بمعنى عدم ابطال الثواب لان الانفاق في سبيل الله لا يتعارض مع كتابة الاثم على المن والأذى لذا فان التحذير منها شامل وعام يشمل حتى الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله فكل منها له حكمة الخاص.
فالمــن والأذى مكروهــان بالذات فاذا كانا ســبباً لابطال الصدقات فان الكراهــة تزداد بالعرض وتكــون مصــدراً لاذى يلحق صاحبها اكثر من الأذى الذي يصـدر منه ازاء الغــير، فاجتناب المن والأذى امر يحتاجه المتصدق لنفســه ودنياه وآخرته، فالنهــي والتحـذير الواردان بخصوص المن والأذى انما لاجل المتصدق نفســه ولمنفعته ولزوم اجتناب اضراره بنفسـه، وبذا تتجلى وجوه الرحمة في الاوامر والنواهي الالهية، وان النهـي عن القبيـح انما يكــون لصالح العبد نفسه قبل ان يكون لصالح غيره.
وابطال الصدقة له احتمالان :
الأول : ابطــال الزجــر وحجب المــن والأذى لما يتــرتب عليهــا مــن الثــواب.
الثاني : ابطال ذات الصدقة بمعنى لم تعد صدقة ولا ينطبق عليها موضوع الاحسان.
والاصح هو الوجه الاول أي بتقدير حذف مضاف واقامة المضاف اليه مقامه، كما في قوله تعالى [ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ ]( ) أي اسألوا اهل القرية، وعلى المبنــى الذي قلنــا به وهــو امكان اجتمــاع الحقيقة والمجاز في القــرآن، وقــراءة اللفظ وفــق الظاهــر والتأويل، فان ابطـال الصدقة يعني فقدانها لاسم الصـدقة التي يترتب عليها الثواب ترتب المعلول على علته، والمســبب على السبب، وقد اختــلف في حصول البطلان على قولين:
الأول: الاتيان بالصدقة وبالفعل الصالح باطلاً من رأس بسبب اقترانه بالمن والأذى.
الثاني: الاتيان بالصدقة والبر صحيحاً، ثم ازالته واحباطه بسبب المن والأذى.
والاصح هو الثاني وهو ظاهر الآيات القرآنية لانها جعلت المن والأذى تابعاً ومتعقباً للصدقة، كما في الآية السابقة يتبعها اذى، وقوله تعالى [ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى ]( )، نعم قد يأتي المن او الأذى مقارناً للصدقة، لذا جاءت هذه الآية على نحو الاطلاق وعدم التقييد بلحاظ تعقب المن والأذى للصدقة، ولكنه لايمنع من موضوع الصدقة أي هناك صدقة قد ابطل اجرها بسبب فعل اضافي اعتباري او واقعي مذموم زائد على ماهيتها.
ونسب الى ابن عباس القول: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن على الله بسبب صدقتكم وبالأذى لذلك السائل( )، و لكنه بعيد لوجوه:
الأول : لسياق الآيات.
الثاني : لموضوع المن والتنبيه منه.
الثالث : لانه مناف لصيغ خطابات القرآن مع المسلمين واكرامهم خصوصاً وان هذه الآية افتتحت بقوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الرابع : مجيء الزجر عن المن والأذى في الآية مطلقاً فيشمل التسويف والموعدة ثم مخالفتها وفيه من واذى.
الخامس : ضعف سند الخبر.
ان التعدد والمغايرة بين المن والأذى لا يمنع من اجتماعهما في مصداق عملي واحد يكون سبباً ومصدراً للمن والأذى.
قوله تعالى [ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ]
جاءت الاية للتشبيه وهذا التشبيه له منافع عديدة منها:
بيان صورة قبيحة لوجه من وجوه الانفاق.
اظهار الفارق الكبير بين المؤمن وغيره، فالمؤمن يلازم حال قصد القربة.
للايمان بالله اثر مستديم على الفعل العبادي والاخلاقي للعبد، فانه يحرص على نيل الثواب قبل واثناء وبعد الفعل.
من ينفق امواله رياء يحكم على نفسه ببطلان الثواب والاجر، ولكن هذه الآية لم تجعله مطلقاً بل قيدته بقيد عدم الايمان بالله عز وجل، فهناك برزخ بين الامرين وهو الانفاق رياء مع الايمان بالله عز وجل واليوم الآخر الا ان يقال انهما من الضدين الذين لا يجتمعان وانه لايصح لمن آمن بالله واليوم الأخر ان يكون مرائياً للناس ولكنه لم يثبت.
فالبرزخية موجــودة، والرياء يكون منحصراً لحظة قصده وعند الفعل، وحتى تلك اللحظة فان الرياء لا يستحوذ على ماهية الفعل العبادي بتمامه.
ولكن لا ملازمة بين المن والأذى وبين الرياء بل بينهما تناف، لان المنّ يسـبب النفرة والابتعاد عن صاحبه وان كان منفقاً فلماذا هذا التشبيه؟
انه تحذير وتنبيه ومنع للمسلمين من الالتقاء مع الكافرين في ترتيب الاثر على الفعل، وان المسلم بطبعه يبتعد وينفر عما يخلو من الثواب وينعدم فيه الاجر، فجاءت الآية لتظهر المائز الذي يفصل المسلم عن غيره ويتعلق بذات الفعل ومنافعه في النشأتين.
وفي الآية ذم للكافرين واخبار عن بطلان اعمالهم وان جاءت بقصد الشفقة والانسـانية ما دامت رياء للناس وحرصاَ على السمعة بينهم، ومن مقومات قصد القربة الايمان بالله عز وجل والاقرار له بالربوبية ومتى ما ادرك الانسان وجود عالم آخر للحساب وفيه ثـواب وعقاب فانه يستعد له بفعل الصالحات ومنها الانفاق، ولكن الانفاق لم يطلب بذاته بل انه وسيلة لنيل الآخــرة، فهذا الادراك يجعـل الرياء منعدماً وليس له وجود في فعل العبد.
ولابد من التنبيه وطرد الغفلة والتحذير من الرياء، فاذا ترك الانسان وطبعه فانه يميل الى الناس ويحرص على رضاهم ولا يستطيع الفصل بين الفعل الخالص لوجهه تعالى وبين الفعل الذي يأتي لله عزو جل ونفعه للناس فجاءت هذه الآية للتنبيه والتأديب والإرشاد.
فالتشبيه هنا لا يتعلق بموضوع المن والأذى من جهة تبدد وضياع ثواب فعل الصالحات وابطال الصدقات واعمال البر والاحسان.
والآية لم تخاطب المسلمين بتحذيرهم من فعل الرياء بل نسبت الرياء الى غيرهم.
وبخصــوص قولــه تعالى [ وَلاَ يُؤْمِنُ ] اختــلف في الـواو هل تفيد مطلق الجمع وهو قول الاكثر، أم انها تفيد ايضاً الترتيب والمعية بالاضافة الى الجمع وهو الذي ذهب اليه قطرب والفراء وثعلب وهشام والشافعي
والمختار التفصيل وامكان افادتها مطلق الجمع، او افادتها الترتيب معه بحسب المقالية والحالية.
وفي المقام تشمل الجمع ولا مانع من اجتماع الترتيب معه، وهذا الجمع ســكينة للمســلمين وان ورد كمثل لبيان قبح فعل الكافر والتحذير منه، وهذا المثل والتحذير السماوي منه وســيلة لتحصيل اليقظة والفطنة.
ومن الأدلــة الاعجــازية على ارادة المثل وليس ذم المسلمين، ان الآية وردت بالنهــي عن المــن والاذى بينــما جاء المــثل بالرياء، فالموضــوع متبايــن مع ان صيغة الكلام مطلقاً تقتضي ان يأتي المثل موافقاً للموضـوع، فلابد من آيات واشارات في ورود هذا المثل ومناسبته منها :
الأول : ان الكافر والمرائي تذهب اعماله سدىً، لأن الكفر حاجب دون قبولها ولأنها قصد السمعة واراءة الناس.
الثاني : تعلق المثل بموضوع ابطال الصدقات.
الثالث : تعدد اسباب ابطال الاعمال والصدقات، منها هذا المثل، والمثل لا يفيد الحصر بل فيه اشارة الى التعدد والكثرة، فالآية حث على استقصاء ومعرفة اسباب بطلان الصدقات والنقص في ثوابها.
الرابع : الايمان بالله عز وجل واعز وواعظ ورادع عن المن والاذى ويخلق في النفس الانسانية سجايا حميدة قوامها حسن الخلق واحترام الآخرين وعدم الاساءة لهم حتى لو كانوا أدنى مرتبة واصحاب حاجة، لذا جاء أول الآية بالخطاب القدسي [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ].
وقد ورد النهــي والمنــع من فعـل معين مقترن بخطاب [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في مواضــع عديــدة من القــرآن منهــا [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ]( ) ، [ ٍيَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ]( ) [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُــوا لاَ تَأْكُـلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ]( )، فصــفة الايمان باقية وجاء الخطاب بها مما يعني ان الآيات للتحذير والتنبــيه والتعليم والارشاد، وفيه مصداق لكون القرآن اماماً يهدي للتي هي اقوم، جاء لتثبيت اركان الاسلام وترسيخ القيم والمفاهيم الاخـلاقية الحمــيدة في الارض، ويدعـو الى الاخوة الايمانية التي لا تقوم الا بشيــوع الافعال الحسـنة، واجتناب الاخلاق الذميمة والافعال القبيحة.
فلا يصح اجتماع الصدقة والأذى في موضع واحد، احدهما ينسخ الآخر بما يؤدي الى حصــول ثلمة في الدين واضرار في صرح اتحاد الامة، وهذا الاضرار يؤثر ســلباً في الغايات السامية لنشر الاسلام وتثبيت احكامه في الارض وتوجه الناس جماعات وافراداً لاداء الفرائض وجعلهم قواعــد الشريعة ســـنناً ثابتة وسجايا دائمة وانواراً تشع على جميع الناس لتعكس لهم الوجه المشرق للاسلام فموضوع المن والأذى لا يؤثر على صاحبه فقط بل يوثر على الملة، وليس في اوانه ومكانه بل هو اعم لما يتركه من ندبة سوداء في القلوب، وما يترتب عليه من الاثر.
والتشبيه لم يأت بلحاظ حال الرياء بل جاء مركباً من:
أولاً: الرياء.
ثانياً: الكفر وعدم الايمان.
مما يدل على عدم قبول الصدقة من الكافر، لان الكفر مانع عن الاجر والثواب.
بحث اخلاقي
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء، وهذه الحقيقة يدركها بالفطرة كل انسان لان افرادها تحيط به بلحاظ خلقه ويومه وخاتمة حياته، ويأتي طرو الموت عبرة للاحياء، فكل انسان يرى الموت يتخطف الاحبة من غير ان يكون هناك سن معين يكون فيه الانسان بمأمن عن الموت، فمثلاً ترى الرجل لا يتخوف من الامراض الخاصة بالنساء ومعاناة الحيض والاستحاضة وآلام الطلق والولادة لانه لا يتعرض لها، وكذا بالنسبة للمراة فانها لاتهم بالامراض الخاصة بالرجال، والشاب والشابة لايشعران بالحرج والهم من الشيب وسقوط الاسنان ونحوه.
اما بالنســبة للموت فان كل انســان يدرك انه قــد يتــعرض للموت في كل لحظة وهــو ليس كالمرض والاصــابة الجزئية والحالة الطارئة بل هو اعــدام للحياة ومغـــادرة للاحبة وهدم مؤبد للآمال واقدام على عالم مجهــول ملئ بالاهـــوال، ان الموت لا يصــيب الميت فقط، بل له آثار جانبية عـــديدة على دويــرته واهـله واصدقائه لان الله عز وجل اراد من المــوت العبرة والاتعـــاظ والانتفاع منه كأهم واشد درس لفهم ماهـــية وكنه الحياة الدنيا وكيف انها زائلة، وما المرض والشيب وساعات العسر والضيق الا رســلاً واسباباً للتذكير بالموت، ومن علامات آخر الزمان كثرة موت الفجأة وهو الذي نلاحظه على نحو بمركب بوجوه:
الأول : كثرة الحوادث التي تؤدي الى الموت كحوادث السيارات والطائرات.
الثاني : ظهور امراض مستحدثة لاسباب متعددة.
الثالث : وجود السلاح الشخصي الحديث الذي يسهل أمر القتل، واسباب الهرب.
الرابع : وجود الفضائيات والنقل السريع وزمان العولمة ومعرفة الناس باخبار المعــمورة من الزلازل والفيضانات والحروب في المشرق يراه من في المغرب وكذا العكس لتتجلى الحكمة الالهية والاعجاز في خطابات القرآن بلفظ [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ ] و[ يَابَنِي آدَمَ ] فيكون القرآن هو الرائد والامام والقائد الحاضر في زمن العولمة، ولينبه الى ضرورة الاعتبار من الموت الذي يصيب بعض الافراد ولكنه يدعو كل انسان للتساؤل والاعتبار ويحثه على الايمان والرجوع الى القرآن والكتب السماوية في معرفة ماهية الحياة ولزوم التخلي عن الكفر والجحود، ونبذ الرياء وقصد التباهي امام الناس في الصدقات.
وقد خفف الله عز وجل عن المسلمين وجعل لهم القرآن هادياً ومعلماً فجعلهــم لا يخافون المـوت ولا يخشــى احدهم حلوله بساحته لانه قد استعد له بالصدقة قربة الى الله وعدم اتباع الصدقة بالمن أوالأذى، كما يمتاز المسلم بادراك ما في الصدقة من خصوصيات ومنها ما ورد في الحديث (الصدقة منسئة للاجل)، ولابد انها الصدقة الخالية من الأذى مقارناً او تابعاً، بمعنى ان المسلم يشتري طول العمر وبعد الاجل بأمرين:
الأول : الصدقة.
الثاني : عدم اتباعها بالمن والأذى.
فهذه الآية ارشاد الى طول العمر، وطول العمر ليس مطلوباً بذاته فحسب بل ان الآية تجعل له منافع عديدة منها:
الأولى : اعماره بالتقوى والصلاح لان الانسان يكون على حذر من المن والأذى مع الصدقة التي يخرجها من ماله، ومن باب مفهوم الموافــقة والاولــوية انه يكون اكثر حذراً من الأذى الذي ليس معه صدقة.
الثانية : السعي لتأجيل الأجل ودفع الموت بالصدقة التي يروم بها وجه الله والخالية من الأذى.
الثالثة : مســاهمة العبد في اصلاح المجتمــع ونشـــر قيم الاســلام الحميدة بما يظــهره من الخلــق الحســـن واجتناب التعدي والايذاء ومبادرته الى الصالحات وافشــاء الحسنات والقول الحسن وفعل الخيرات.
ان التشبيه بالكافر في ريائه امر تنفر منه نفوس المسلمين، ويأباه الله عز وجل لهم، وان كان وجه التشبيه جهتياً وبلحاظ القصد والنية وهو ليس انطباقياً في ذات الجهة، لان المؤمن ينفق بما هو مؤمن، والكافر ينفق بما هو كافر، ولكن التشبيه يتعلق ببطلان الاجر والثواب، مما يعني ان الخطاب حرز وتنبيه وواقية تأديبية للمسلمين ليلتفتوا الى الضرر الفادح الذي يسببه المن والأذى.
والخطاب وان جاء متوجهاً للمسلمين وبلحاظ الايمان بالله عز وجل ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه في مفهومه توبيخ للكفار وذم لهم واخبار عن افلاسهم في الآخرة وعدم وجود أي ذخيرة او عمل صالح لهم يوم القيامة.
لذا فمن الاعجــاز ان الآية لم تطلق على اخراج الكفار المال واعطـــائه للغير عنــوان الصدقة مع انهم يساعدون الغير ويبذلون الامــوال لاعــانة الفقــراء وقد يكونون أكثر من المؤمنين انفاقاً وعطاء، كما هــو ظاهر بعنــوان الانسانية الخالي من قصد القربة، والمبادرة بلحاظه في حالات الكوارث العامة، ولكن القبول يقع على القليل مع الايمان وقصــد القربة.
كما تحذر الآية الناس جميعاً والدول والمؤسسات والاحزاب من الاعانة وفق شروط تتضمن الأذى او بحالة وصورة تظهر المن والذل للمحتاج والفقير.
فان قلت: ان زمان العولمة يجعل الاعلان بواسطة اجهزة الاعلام امراً قهرياً يقود الى اطلاع الناس.
قلت: ان المدار على النية والقصد فاذا كانت النية القربة الى الله وطلب مرضاته سبحانه فلا يضر الاعلام والبيان، الاترى ان الله عز وجل مدح الذين يتصدقون باموالهم بالعلانية بعرض واحد مع مدحه للذين ينفقون اموالهم بالسر والخفاء قال تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً]( ).
فالانفاق علانية ليس من الرياء وقد يكون في حالات افضل من صدقة السر لوجوه عديدة سيأتي ذكرها في الجزء القادم.
ان الملازمة بين الرياء والكفر التي تظهرها الآية رسالة اعجازية لغة وعقلاً شرعاً لما فيها من سبر لاغوار الكافر واثار الكفر العملية على الانسان في فعله وسلوكه وانتفاء التدبر وبعد النظر عند الكافر فهو لا ينظر الى ما وراء العالم المنظور والواقع المحسوس، بينما ترى المسلم لا يعمل الا وفق قواعد الحساب وموازين الجزاء يوم القيامة، ولم ينحصر موضوع الصدقة عنده بقضاء حاجة المحتاج وادخال السرور عليه بعيداً عن الرياء بل ان الفرد الاهم والغاية القصوى هي طلب مرضاته سبحانه وادخار الصدقة ليوم الجزاء.
والرياء وجــه من وجــوه المن والأذى لانه يظهر حال العوز عند الفقير ويجعــل الذل يلحقه، كما انه أي الرياء يؤثر ســلباً في مقدار وكيفية ومناســبة الصــدقة، فالمدار عند الـمرائي ليس الحاجة والعوز بل ما فيه ثناء وسمعة وشهرة له، مما يعني احتمال وصول النفقة الى غير المحتاج وحجبهــا عن المحتاج، بالاضافة الى انعدام الراجح الشخصي وهو الايمان.
فالمرائي لا يلتفت الى لزوم سد حاجة المؤمن واولوية قضاء حاجته، بل ان المؤمن المحتاج هو اكثر الناس تضرراً من سيادة عنصر الرياء في الصدقات لانه يتصف بالعزة والنفرة من مواطن الذل قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، فمع الرياء والتباهي يقل او ينعدم السؤال من المؤمن لان موضوع الرياء له اطراف ثلاثة:
الأولى : المرائي الذي يعطي الصدقة.
الثانية : موضوع الرياء وهو الانفاق والاعطاء.
الثالثة : محل وموضـع النفقة كمصداق للموضوع ومصدر لتثبيته وحصوله.
اما المسلم فانه يــروم رضــاه الله تعالى ويقصــد القرض مع الباري عز وجــل ويعلم ان الله عز وجـل هو الذي يتقبل الصدقات، لذا ورد في بعض الاخــبار انه يســتحب للمتصــدق ان يقبل يـده حال اعطاء الصــدقة لانها تقــع بيــد الله عز وجــل، والله عز وجـل منزه من الجـوارح ولكنه تشــريف واكــرام للمتصدق، قال تعالى [ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَــلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ]( ).
بحث قرآني اصولي
ليس كل من يعمل الصالحات ويتصدق بامواله مراء للناس وهو ممن لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فالصدقة على وجوه:
الأولى : الصدقة قربة الى الله، وتأتي خالية من المن والأذى.
الثانية : الصدقة قربة الى الله ولكنها مقرونة بالمن.
الثالثة : الصدقة قربة الى الله يتبعها الأذى.
الرابعة : الصدقة قربة الى الله يتبعها المن والأذى.
الخامسة : الصدقة رياء من الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر.
لذا فان الآية لم تتعرض الى وجوه وهي:
الأولى : انفاق المسلم رياء من غير اذى.
الثانية : انفاق المسلم رياء مع المن او الأذى او كليهما.

وقد وردت مادة رياء في اربع مواضع اخرى من القرآن هي:
الأول : في قوله تعالى [ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ]( ).
الثاني : قوله تعالى [ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ]( ).
الثالث : قــولـه تعــالى [ وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُون
بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّــيْطَانُ لَهُ قَرِينًــا فَسَـاءَ قَرِينًا]( ).
الرابع : قوله تعالى [ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] ( ).
فموضوع الرياء ورد بخصوص الكفار والمنافقين، والقرآن ينزه المسلمين من موضوع الرياء، وفي مباحث الفقه يتناول الفقهاء ابطال الرياء للعبادات.
وقد ورد عن الامام الصادق عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (فاتقوا الله في الرياء فانه الشرك بالله)، ان المرائي يدعى بوم القيامة باربعة اسماء: (يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر, حبط عملك وبطل اجرك فلا خلاص لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له).
واخلاص العبادة ان يكون الباعث له الامتثال لامره تعالى ورجاء طاعته، وليس من ضميمة اخرى غير وجهه الكريم.
وحرمة الرياء عليها الايات القرآنية والسنة النبوية واجماع فقهاء المسلمين، وعد من الكبائر باعتبار انه مما اوعد الله عليه النار.
وذهب السيد المرتضى الى ان الرياء يوجب عدم قبول العبادة وليس عدم صحتها.
اما في غير من العبادات من الواجبات التوصلية فانه صفة مذمومة، كما لو غسل ثوبه رياء الا ان تكون اراءة الناس لغايات راجحة عقلاً او شرعاً، كما لو غسله ليبدو نظيفاً، او يبذل الطعام لنشر الود وحسن المجاملة، وليس من الرياء امتلاء النفس سروراً باداء العبادات، ولا الخطرات التي تخطر على القلب في موضوع الرياء ومع الشك حين العمل في داعيه هل هو محض القربة او مركب منها ومن الرياء، وقيل ان العمل باطل، ولكن اصالة صحة عمل المسلم هي المقدمة في المقام بالاضافة الى اصالة عدم صدور الحرام اما لو شك بعد الفراغ من الفعل العبادي فتضاف اصالة الفراغ.
وقد ورد في الحديث القدسي: (انا خير شريك من عمل لي ولغيري تركته لغيري ).
والآيات القرآنية في موضوع الرياء تلصقه بالكفار والمنافقين اكراماً للمسلم وامضاء لنيته وقصده، ولاينحصر بالعبادات بل يشمل المستحبات لان موضوع الصدقة في هذه الآية جاء مطلقاً يشمل الواجبة كالزكاة، والمستحبة كالصدقة على السائل، واعطاء المبالغ لاغراض انسانية، وفي مشاريع خيرية.
وروى عبد الله بن عباس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (اذا كان يوم القيامة نادى مناد يسمع أهل الجمع اين الذين كانوا يعبدون الناس، قوموا خذوا اجوركم ممن عملتم له فاني لا أقبل عملاًًٍ خالطه شيء من الدنيا وأهلها) ( ).
(وقيل ان قوله تعالى [ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ] صفة للمنافق لان الكافر معلن غير مراء، وكل مراء كافر او منافق)( ).
ولكن الوصــف جـاء مطلقاً بلحاظ عــدم الايمان وهو للكافر اقرب منه للمنافق، وقد تقــدم ذكــر الآيات القرآنية التي تنسب الرياء الى الكافر والى المنافق.
ومفهوم الآية يدل على الاثر الحسن للايمان بالله والاقرار بالمعاد في انتفاء الرياء من الصالح ان الغايات الحميدة تهذب الافعال وتجعل الانسان يسعى نحو هدف سامي، فحينما يجعل الانسان نصب عينيه اهوال الحساب وفقر الآخرة فانه ينشغل عن الرياء، ويجعل الاثر عند الناس لا اعتبار له امام حاجته في الاخرة، فهو يرغب بمدح الناس له وتحسين صورته لديهم، واقراره بالعبودية لله عز وجل يجعل هذه الرغبة تتلاشى وتبدو واهية، ويأتي اعتبار اليوم الآخر في موضوع الصدقات، وفيه وجوه.
الأول : تذكير المسلمين بالمعاد.
الثاني : اخذ الحائطة لليوم الآخر وما فيه من الحساب.
الثالث : الاحتراز من الرياء كي لا يفسد عمل المسلم في الخيرات.
الرابع : جاءت الصدقة من باب المثال وليس الحصر والا فان الاستعداد لليوم الآخر يستلزم التقيد التام بالواجبات والفرائض.
الخامس : الحذر من الرياء مناسبة كريمة لتذكر اليوم الآخر.
ومع بطلان الدور في الفلسفة فانه يبدو هنا نافعاً ومثمراً، فكما يكون الاستعداد لليوم الآخر وسيلة للتوقي من الرياء، فان الحذر والتوقي من الرياء مناسبة لتذكر الآخرة واخذ الحائطة ليوم القيامة، وهذا من اعجاز المعرفة الالهية، ومضامين علوم القرآن التي تتجاوز القواعد العقلية، ليكون هذا التجاوز باباً للرحمة والرأفة والمغفرة.
وهناك فرق بين عمل المسلم والكافر في باب الصدقة والاحسان للآخرين، فالمسلم يعطيها بعنوان الصدقة، والكافر يقصد الرياء والتفاخر وكسب رضا وود الناس.
ومع ورود مادة الصــدقة في نحو تســعة عشــر موضـعاً من القرآن بلغة المفرد والجمع، فانها جاءت خاصة بالمسلمين والمسلمات، قال تعالى [ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ] ( ).
مما يعني ان ما يدفعه الكفار لاعــانة الآخرين لم يصدق عليه قرآنياً انه صــدقة، وان كان اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، ولكن المعنى الاصطلاحي الذي يترتب عليه الثواب جاء خاصاً بالمسلمين.
لقد حذرت الآية محل البحث المسلمين من ابطال صدقاتهم ونعتت ما يدفعه الكفار الى الفقراء وغيرهم بانه انفاق مقيد بمراءاة الناس، ولفظ (الرياء) عنوان جامع يشمل الكفار خاصة واعداء الدين بمعنى ان الكافر قد ينفق ماله ليراءي به اعداء الدين ويبين لهم انه يضعه بما يضر اهل الايمان بقرينة عدم ايمانه بالله واليوم الآخر.
وتبين الآية خطورة وضرر الرياء الاجتماعي والاقتصادي لان الانفاق لا يكون خاضعاً لضوابط الحاجة وصيغ التكافل الاجتماعي وطرد شبح الفقر والارتقاء بالفقراء والمساكين اقتصادياً واخلاقياً بتوفير متطلبات الحياة الضرورية والعرفية التي لا يمكن الاستغناء عنها الا بمشقة زائدة وبعث روح التعاطف والاخاء بين المسلمين والناس جميعاً مع وجود التفاوت في المال والكسب.
وتبين هذه الآيات العناية الخاصة التي يوليها الاسلام للانفاق في سبيله تعالى والصدقة، وجعله وسيلة لصلاح المجتمعات وسعادة الافراد وان الفقير ليس كلاً على الغني او يسبب له الضيق بل هو سبيل رحمة في الآخرة لانه موضوع الصدقة ومادتها فمع عدم وجود الفقير ليس من صدقة على الفقراء، وهو ايضاً السبب في التذكير بالصدقة، فقد لا يكون عند المسلم ما يدفعه صدقة للسائل ولكنه يعتذر له ويشكر الله عز وجل من وجوه :
الأول : ان جعل انساناً يأتيه سائلاً لتقضى حاجته.
الثاني : المسألة مناسبة للدعاء بالرزق والاستغفار والرد الحسن.
الثالث : فيها تذكير بحاجة الانسان مطلقاً الى الله تعالى، فالمسألة استحضار دائم ليوم الفاقة والحشر.
الرابع : دعوة لسؤال الرزق، والمقدرة على اعانة الفقراء.
الخامس : التحلي بالاخلاق الفاضلة وطرد الكبرياء والترفع، واجتناب التنافر والتباغض بين فئات المجتمع.
السادس : الالتفات الى حال الفقراء والتدبر في مساعدتهم بالممكن والميسور الذي لا يسقط بالمعسور، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً لأصحابه: (ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع)( ) فالحديث يؤكد على مساعدة الجار مطلقاً بغض النظر عن صلته وقربه أو بعده أو ملته، ولا يقيد الصدقة بالزائد على المؤونة، بل بالشبع ازاء عوز وفاقة الجار.

قوله تعالى[فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ]
انتقلت الآية الى التمثيل فيما يخص الكافر وتشبيه فعله وانفاقه رياء للناس، وهــذا من الاعجــاز والبلاغــة التي لم تعــرفها اللغة العربية لما فيه من الارتقاء والمطالب السامية التي تتضمن اكرام المسلمين، وعدم التمثيل بما يؤدي الى الاســتهزاء بهم او كســر قلوبــهـم او تغيرهم، بل ان التبكــيت والتقبيح تعــلق بغيرهم وفي فعل مناف لخصاص الايمان بالله وهــو الانفاق بقصــد ارضاء الناس والتباهي امامهم ونيل رضاهم، فهم ذكروا مثلاً اولاً، ثم ذكر مثل لهم ولفعلهم.
ولابد ان هذا المثل ذم لهم ويشير الى سوء صنيعهم ويحذر المسلمين من محاكاتهم، فشبهت الآية الكافر بانه كالصفوان وهو الحجر الكبير الاملس، ويتجمع على هذا الحجر التراب والغبار بتقدم الايام فلما جاء المطر الكثير جعله صلداً لم يبق شيء من التراب او الغبار عليه بسبب المطر.
وهذه الآية وما فيهـا من المثــل لم تســتظهر علــومها ومناســبة المثل في الواقع العملي والعقائــدي والربـط بين اطراف التشبيه التمثيلي، ولابــد من المقارنــة بين تمثيــل انفـاق الكافر الوارد في هذه الآية واثر المطــر عليه، وبين انفــاق المؤمــن وعظيم نفع المطر والجــود عليه الوارد في الآيــة التالية وانــه كالبســتان على ربــوة عالية وينزل عليها المطر ليكون بركة ونماء، وهذه المقارنة تؤكد ان مثل الصفوان هذا خاص بالكفار.
فهذا الكافر كالحجــر الصــلب الذي تقل الفــائدة منه الا بذاته وليس هو جسماً نامياً بل جماداً غير قابل للزراعة، وهذا التشبيه لانه امتنع عن قبول الايمان وما يتفرع عنه من الحركة والنمو والفعل والانفعال.
وفي هذا التشبيه بشارة ضمنية، وهي عدم وقوع الأذى من الكافر ضد المسلمين وان رأيته يمتلك الاموال، وفيه دعوة للمسلمين بعدم استغراب صـدور الجفاء والاعراض من الكافر لانه كصفوان وحجر كبير املس، وطــرد لاحــتمال الخيفة والفـزع من كبره وسمعته وعلو شانه في المجتمع لان كبر الحجم لا اعتبار معه ما دام فاقداًً للحركة والزيادة والنمو.
وعن الاصمعي ان الصفوان والصفا والصفو واحد، وقيل الصفوان جمع صفوانة، كمرجان ومرجانة، والأقرب ان المراد الحجر الاملس المتحد لمناسبة الآية والتمثيل وفي المثل وجوه:
الأولى : المراد عمل المنافق، وذهابه وتبدده يوم القيامة، فالوابل والجود لا يبقى منه شيئاً.
الثانية : ان صدقة المنافق اوجبت الاجر والثواب ولكن المن والأذى ازالا ذلك الاجر، قاله المعتزلة ( ).
الثالثة : العمل الظاهر كالتراب.
الرابعة : وقع التراب على الصفوان يفيد منافع من وجوه احدها:
اولاً: انه اصلح في الاستقرار عليه.
ثانياً: الانتفاع به في التيمم
ثالثًا: الانتفاع به فيما يتصل بالنبات، قاله القاضي.
ولكن الآيــة تبين عظيم فضــله تعالى بالمطــر والجود وانه رحمة للناس جميعا،ً لذا ورد من اسمائه تعالى (الرحمن) وهو خاص في الدنيـا ويشــمل المؤمــن والكافر وما يصيــبهم من الرزق والانعام والفضل والاحســان، فاما المنافــق فيرجعه الى اصل الخلقة ويجعله مجرداً، وما يظن من النقاء فهو حجة على الكافر في اصل خلقه ولزوم شكره تعالى.
والمثال جاء لبيان عدم انتفاعه من الاتفاق الذي يراد منه الرياء وللاخبار عن بطلان عمله من الزوائد الاعتبارية التي جاء بها الانفاق، وتشبيهها بالتراب على الحجر الصلب يؤكد ولادة تلك النفقة باطلة خالية من النفع، فالتراب هو عنوان ومثال الصدقة.
وشبهت الآية الكافر بالحجر لكفره وعدم ايمانه فلا تقبل منه نفقاته، ويكون الانفاق كالتراب الذي يقع على الصخرة لانه رياء ولارضاء الناس فلا اعتبار له، ولا ينتفع منه الصخر والحجر بل يكون في معرض الزوال والتلف والتناثر.
والوابل هو المطر الكثير وهو عنوان الرزق والرحمة والمثل يتعلق بالدنيا، وقيل بانه الاجــر والثواب، ولكن الثواب هو نتيجة وجزاء وليس امراً يأتي على شيء آخر كالتراب والفعل والانفاق فيمحوه، فلابــد ان الوابل والمطــر غير الاجـر والثواب، ولا يمكن اعتبار الوابل هو المــن والأذى كما تقدم ذكره في الفقــرة الثانية عن المعتزلة، لان الوابل عنــوان الخير والبركة والنفع لمن ينتفع منه، ولم يرد ذكره الا ثلاث مــرات في القرآن، مــرة في هذه الآية، ومـرتين في الآية التالية، وهذا من الاعجاز القرآني في كلماته ومواضعها ان يؤتي بكلمة ذات دلالات عقائدية في آيتين متتاليتين احداهما تتعلق بانفاق الكافر، والاخــرى بانفاق المسلم، ثم لا يؤتى بها في نحو ستة الآف آية من القرآن.
قال الرازي: ( المان والأذى والمنافق كالصفوان، ويوم القيامة كالوابل هذا على قولنا، واما على المعتزلة فالمن والأذى كالوابل)( )، والضمير في قولنا يراد به الاشاعرة.
وكما ان مثل المعتزلة بعيد، فان المثل يتعلق بالحياة الدنيا، ولا مانع من ارادة مصــاديق المثل في الحيــاة الدنيا وفي الآخرة، وعنوانه اعم بلحاظ تــرتب الاثر ومناســبة الثواب والاجــر، والمطــر هنا عنوان تثبيت الفعل وكتابته اومحــوه وزواله، وكأنه صــراط للاعمال لابد لها من المرور عليه لتنقيحها وامضائها او ابطالها فلا تثبت بهذا الصراط السماوي، وهذا الصــراط جاء كالــوابل والمطــر الكثير الذي تنتفع منه الارض والنبات ولكن الصخر لا ينتفع منه، ولا يثبت فيه الا العمل الذي يكــون بقصــد القــربة وما فيــه مرضــاة الله عز وجل، فكأن الانفاق مطــلقاً يعرض على موازين السماء وعلى الصراط وتحصيه الملائكــة ولا يصــعــد منه ويكتــب الا ما كان عن ايمان وبعيداً عن الرياء.
وهذا القول منا يظهر صراطاً آخر للاعمال ذاتها بما هي اعمال وليس لاعمال الشخص وحسابه يوم القيامة، وهو دعوة للناس بان يتدبروا في أمر اعمالهم وكيفية تثبيتها وكتابتها والمنع من ضياعها وفوات ثوابها وجاء وصف التراب لتشبيه قيام الكافر بالانفاق واعانة المحتاجين، فلا ينكر انه فعل مترجل الى الخارج وفيه صبغة انسانية ولكنه كالتراب على الحجر الاملس لانه لم يكن عن قصد القربة ولم يصدر عن ايمان بالله عز وجل واقرار باليوم الآخر، لاعتبار النية والقصد وفي الحديث: “انما الاعمال بالنيات”.
لذا فانه لا يصمد في الاختبار والتمحيص، فالتراب جاء لبيان اثره الظاهــر عند الناس، فهــم يرون انه محســن وانه يقضي الحوائج لما يقصده من التباهي والتطاول امامهم وكما ترى التراب يغطي الحجر ولكنه ليس جــزء منه ولا يتلابس معه بل يزول عنه حينما ينزل عليه المطــر، وكذا انفاق الكافر والمنافــق المرائــي فانه لا يبقى معه ولا يرافقه في القبر ولا يلتصــق به في عالم الاعمال بل انه عرض يزول بادنى تأثير خارجي.
وجاء التأثير والزائل بصفة الوابل فما من حجر يصله التراب والغبار الا و يأتيه المطر، بل ان المطر يصل الى احجار لم يصل اليها التراب، والغــبار للاشــارة والارشاد الى كيفية الانتفاع من الانفاق وسبل تثبيته وعــدم زواله، ومثال التراب والوابل مع الحجر الصلد يكون عدم انتفاع الكافر من الانفاق والاحسان للغير، كما لا ينتفع الحــجــر من التراب والمطــر، مــع ان التراب والمطــر اذا اجتمعا في موضع ففيهما البركة والنفع والزراعــة ولكن الكفــر كالحجــر لا ينفع معه شيء.
وهل يمكن القول بان مثل المنافق كصفوان عليه تراب من غير مدخلية للانفاق، ويكون الوابل والمطر هو عنوان الانفاق ولكن لانه رياء فلا يبقى ول اينفع، لأن الكافر بكفره وعدم ايمانه ظل جامداً كالحجر الصلد، لا مانع من اعتباره وجهاً من وجوه تاويل الآية.
قوله تعالى [فَتَرَكَهُ صَلْدًا]
تعود الهاء في [ فَتَرَكَهُ] للصفوان الحجر الاملس الذي جاء في الآية الكريمة مثلاً للكافر والمنافق الذي ينفق ماله مراءاة، ومما وقع بلغة غير لغة الحجاز ذكر ان [صَلْدًا] تعني نقياً بلغة هذيل.
والمطر الكــثير حينما ينزل على التراب الذي تجمـع على الحجر خلال ايام واشــهر كما تجتمع نفقات الكافر وتكون كذرات الغبار فانه يغســل الحجر ويتركــه يابس مجـرداً من أي اضافات عالقة ليس منه، يبقيــه بذاتــه وهــو حجــر لا ينتفع من المطر ولا ينتفع غيره بالمطــر، فلا يصــلح معــه للزراعــة ولا لحفـــظ ماء المطــر ولا يحــتاجــه ليرتوي به، ولا نمـــاء للحجــر كما تنمــو الصــالحات ويضـاعف الله عزو جل أجرها.
فهذا المثل اخبار عن حال الحسرة والحرمان للكافر اذا انه لم يهيئ اسباباً لنمو الصالحات فكانت اعماله هباء منثورا تتبدد بالمطر الذي هو رحــمة ونعمـة، ولكن الكافر لا يستفيد منه بل يكشفه على حقيقته ويجعله صلداً خالياً مما يحجبه عن حر النار ومواجهة الحساب، ويجد عمله مبدداً متناثراً، كما جاء مثله في التنزيل [ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
ولم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تفسير لهذا المثل، وفيه وجوه ثلاثة:
الأولى : ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيّنه وفسره وان المسلمين سألوه عنه ولكنه لم يصل الينا.
الثانية : ان تفسير الآية واضح ومعروف عند العرب والمسلمين ايام التنزيل فلم يسألوا عنه.
الثالثة : له تفسيران احدهما ظاهر، والآخر تركه للعلماء من بعده لتحقيقه وبيانه وفق القرآن والسنة وقواعد اللغة، وليس بالرأي لورود النهي والتحذير عن التفسير بالرأي عنه صلى الله عليه وآله وسلم كما بيناه في الجزء العشرين.
ولا تعارض بين الوجوه الثلاثة وكل منها يصلح في المقام منفرداً ومتحــداً مع غــيره، وهل نحتــمل انه مجــرد مثل وليس من دأب المحصلين النقاش في الامثـــال، الجــواب: لا، لان المثل القرآني مدرسة الاجيال وفيه مــعارف نظــرية ونازل من عند العالم بدقائق العلوم، فهو ثروة وكنز يجــب عدم التفريط به موضوعاً وحكمة وعبرة وموعظة وشاهداً ودليلاً.
ان قوله تعالى [فَتَرَكَهُ صَلْدًا] نوع انذار ووعيد وتبكيت للكافرين لما فيه من الاخبار عن عدم انتفاعهم من الانفاق، وان المطر والصراط وميزان الاعمال تأتي عليها فلا تبقي منها شيئاً لانها لا تملك الاهليه للبقاء، تراب عرضي صار على حجر، بخلاف حال الانفاق في سبيل الله الذي تبينه الآية التالية.
ان ذكر الوابل وما يعنيه من كثرة المطر النازل مناسبة كريمة للاكتناز من الحياة الدنيا، وما جعل الله عز وجل عند الانسان من المال والجاه، وتوظيف ايام العمر في الصالحات واعمال البر بشرط ان تكون بقصد القربة الى الله عز وجل.
ومقتضى المثل القرآني المتعلق بالكفار والمنافقين ان تنفر منه النفوس وتبتعد عما يظهره من النتائج وما يكشفه من الحقائق، والله عز وجل هو العالم بحقائق الاشياء وتلك قاعدة كلية في باب الامثال القرآنية تساعد على فهم المثل القرآني دلالة وغاية، وبهذه القاعدة يرد على شبهة من قال: (ان الوابل اذا اصاب الصفوان جعله طاهراً نقياً نظيفاً عن الغبار والتراب، فكيف يجوز ان يشبه الله به عمل المنافق) ( ).
فالمطر والوابل رحمة منه تعالى الا انه يكون غضباً واذى على الكافرين، قال تعالى [ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ]( )، وقال تعالى [ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ]( )، اما الطــهر والنقــاء الذي ذكــره صاحب الشبهة فانه صحيح ويتعلق الطهر والنقاء باصل الخلقة والفطرة وانه يكون كالبياض الخالي من الصالحات، فهذا حجة على الكافر وكأنه لم يعمل شيئاً، فالمطر اما ان يجــعل الزرع ينمــو ويزداد، واما ان ينفــع التربة ويجعلها صالحة للزراعة، واما انه لا ينفع شيئاً كما في الصخر والحجر، فالمطر يجعل الكفار يأتون يوم القيامة وليس عندهم عمل صالح ولو كان قليلاً كما في التراب العرضي.
قوله تعالى[لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا]
انتقلت الآية الى لغة الجمع والمتعدد مع ان الموضوع واحد وابتدأ بالمفرد وصفاً ومثلاً، ولابد لهذا الانتقال من دلالات منها:
الأولى : ان الكافرين والمنافقين لا يستطيعون النجاة من عذاب يوم القيامة ولو اجتمعوا.
الثانية : انهم عاجزون عن كسب الثواب وكتابة الأجر.
الثالثة : ان وصفهم بالحجر الذي جاء المطر الكثير على ما عليه من التراب جعلهم لا يمتلكون شيئاً ينتفعون به.
وهذا الشطر من الآية بيان للمثل القرآني، وان المطر يجعل الكفار والمنافقين عاجزين عن عمل أي شيء وكانوا يظنون ان نفقتهم واعانتهم للفقراء تنفعهم وتكون لهم حرزاً، واذا هم مجردون لا يملكون ابسط الاشياء وهو التراب القليل.
وهل يمكن ان يكون من افراد الجمع في الآية [ لاَ يَقْدِرُونَ] الفقراء الذين تصدقوا عليهم، وهؤلاء الفقراء على قسمين، منهم المسلمون ومنهم الكافرون، وعلى فرض عدم قدرة الفقير الكافر على فعل شيء، فالفقير المسلم لو دعا للكافر والمنافق الذي اعطاه فهل ينفعه الدعاء ام لا ينفعه.
الجواب: انه لا ينفعه في ثواب الصدقة لان مقومات القبول غير مكتملة فهي فاقدة لقصد القربة وخلوص النية، نعم قد ينفع الدعاء الكافــر بهدايتــه الى الايمان، او ان بركـــاته تتجــلى في صرف بلاء عنه، او تظــهر على بعض اولاده، وهنــاك شـــواهــد كثيرة ان المنافــق او الكافر اذا كان كثير النفقة فان الله ينعم على بعض اولاده بالهداية والصلاح.
او ان الانفاق يكون سبباً في اطالة عمره كفرصة للتوبة، كما ورد في الخبر: انه جيئ بأسرى الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقدمهم للقتل، فنزل جبرئيل واخبر النبي عن شخص منهم انه كان يقضي حاجة المحتاج ويقري الضيف، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم قتله وعفى عنه، وقال له: أمرني ربي بان اعفو عنك لانك تقضي الحوائج وتكرم الضيف، فقال نعم والله، وربك اعلمك بهذا انك نبي حقاً واسلم الرجل من ساعته.
والشيء في الاصطلاح: الثابت الوجود المعلوم ولا يحد اذا جاء على نحو الاطلاق، لان الحد للمتميز، وسواء قيل ان واجب الوجود شيء لا كالاشياء، او ان الشيء لا يتعلق الا بالحادث، فان هذا الآية تشير الى الحادث والمقدور عليه من قبل الناس، لتوكيد عجز الكفار والمنافقين عن فعل امر ما وان اجتمعوا.
وهنا تبدو اهمية لغة الجمع، فلو قالت الآية (لا يقدر على شيء) لقيل ان الجماعة تقدر على ما يقدر عليه الفرد، فجاءت الآية لتخبر ان اتحاد الكفار وتعاونهم ومساهمتهم في المشاريع الجماعية العامة للإعانة لم تنفعهم لفقد شرطي الايمان بالله وقصد القربة، وعائدية وموضع عدم القدرة فيه وجوه :
الأول : في الدنيا.
الثاني : في الآخرة.
الثالث : في الدنيا والآخرة.
وعند دوران الامر بين الاطلاق والتقييد فالاصل الإطلاق الا مع القرينة الصارفة عنه، ولا قرينة في المقام فتحمل عدم المقدرة على الاطلاق الزماني الا بلحاظ جهتي مما تكون فيه المقدرة ممكنة وظاهرة، وعدم المقدرة تشمل المال ورجاء الاجر والثواب والشفاعة، فحتى في الدنيا فانهم عاجزون عن التأثير في مجرى الاحداث وتغيير الاحوال ومحاربة الاسلام.
فالاية بشــارة واخــبار عن ضعف الكفار والمنافقين وعجزهم عن نفع أنفسهم بما فعلوه من الانفاق وانعدام اثر تبرعاتهم واعانتهم للمحــتاجين التي تأتي عن رياء وزهــو وتفاخر، وتؤكــد الآية الاضرار التي يجلبها الريـــاء على الانســـان، ولكن لماذا هذا الاثر السيء كله للرياء مع ان المقام ليس مقام عبادات والانسان بطبعه كائن اجتماعي.
الجواب: ان بطلان العمل يكن بالرياء وحده بل الرياء مصاحباً لعدم الايمان بالله وباليوم الآخر، فمن لم يؤمن بالله جاحد بالربوبية فاقد للامانة والوصية والحق بالمال الذي جعله الله عز وجل وديعة عنده، والأجر والثواب مقرون بخلوص النية.
ومن القواعد الكلامية ان الكفر لا يستقر معه عمل صالح أو اجر، لذا فلابد من التمييز بين الرياء الذي يصدر من المسلم في انفاقه وبين الرياء الذي يصدر من الكافــر لموضوعية الايمان في القبول، واعتبار الكفر في ابطال الفعل ولكن الآية الكريمة تحذر المؤمنين من ابطال الصدقة بالمن والأذى وتضرب لهم مثلاً الكافر الذي ينفق ماله رئاء الناس.
فهل يعني هذا ان الرياء وحده كاف لابطال الاجر والثواب وهو ظاهر الآية، وان حال الكافرين تتعدى موضوع ابطال الصدقات فهو يبدأ من حرمانهم من اطلاق صفة الصدقة على ما ينفقون وانهم لا يقدرون على شيء مما فعلوا، بمعنى عدم ترتب الاثر الحسن، وهذا غاية التوبيخ والانذار والوعيد، والقرآن يفسر بعضه بعضاً وقد ورد في عدم قدرة الكافرين على شيء قوله تعالى [ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ]( ) ، مما يعني ان عدم القدرة مطلقة في العوالم الثلاث:
الأول : الحياة الدنيا.
الثاني : عالم البرزخ.
الثالث : عالم النشور.
فالمائز الكبير وهو من باب التباين والتنافي والتناقض، فالمؤمن يقدر على العمل بقصد القربة ويرجو الثواب وينال شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد يكون نفسه مؤهلاً للشفاعة بفضله واذنه تعالى، والثواب الذي يأتيه لم ينحصر بالصدقات بل يشمل العبادات وهو الفرد الاهم ومنه الصدقات الواجبة، والإيمان كاقرار وعقيدة، وقد تفضل سبحانه وفرض العبادات من الصلاة والصوم والزكاة والحج، ووعد بالإثابة عليها ورغب بها كي يبقى باب مفتوح من الأجر والثواب للمسلم في ادائه لعباداته.
وهل يمكن القــول بان مفهـــوم الآية يشير الى ان المسلمين يقدرون على التخلص من ابطال اجــر وثـواب الصدقات بالدعاء وبالإستغفار وبفضــله تعالى وشفاعة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه فلسفة وبيان مستحدث في المعرفة الإلهية بتتبع الآيات القرآنية بالدراســة المقارنة وبالمفهــوم، الجواب: نعم، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “ثلاث مهلكات: شح مُطاع، وهوى مُتبع، واعجاب المرء بنفسه”.
بحث اصولي
المراد من المفهوم في الإصطلاح على اقسام :
الأول : المعنى المدلول من اللفظ سواء كان على نحو الحقيقة او المجاز.
الثاني : ما يقابل المصداق: فيكون المراد منه المعنى الأعم الذي يفهم منه بالتبادر او بالواسطة سواء كان مدلولاً للفظ او لا.
الثالث : ما يقابل المنطوق وهو يتعلق بالدلالة الإلتزامية مما لا يتضمنه معنى اللفظ ولا يكون مقصوداً له، فمع اتحاد الإرادة والعلم في المصداق فانهما لا يتحدان في المفهوم لأن الطلب يتعلق بالمفهوم باعتبار انه القابل للإيجاد باللفظ وليس الطلب الخارجي، فالطلب الخارجي ليس هو العلم، خصوصاً على القول بالمغايرة بين الإرادة الحقيقية والطلب الإنشائي، فالطلب الخارجي مبرز انشائي.
اما المنطوق فهو المدلول الذي يدل عليه ذات اللفظ سواء كان حقيقة او مجازاً والذي يفهمه السامع من الكلام، فليس للمفهوم معنى ظاهر من اللفظ بل هو لازم لمفاد الجملة بنحو اللزوم البين بالمعنى الأخص.
لذا يعرف المنطوق بانه علم دل عليه اللفظ في محل النطق.
اما المفهوم فليس له حكم مذكور وقد لا ينطبق عليه لفظ الحكم الا على نحو الإستعارة والمجاز، لذا حصل النزاع في حجية المفهوم او عدمها باعتبار انه ليس من مباحث الإلفاظ التي يدل عليها ظاهر الكلام، ومفهوم الكلام لا ظهور له في اللفظ.
فقولك: اذا رأيت هلال رمضان فصم، فمنطوق الجملة ظاهر وهو اذا رأيت الهلال وجب عليك الصوم، ويلحق بالرؤية الأدلة الشرعية الأخرى وهي شــهود البينــة العادلة برؤية الهلال كما بيناه في الجزء الرابع عشر من هذا التفســير، اما مفهوم الجملة على فرض وجود مفهوم لها انك اذا لم تر الهلال ولم يثبت بالدليل الشرعي فلا يجب عليك الصوم.
وقد قسم المفهوم الى قسمين:
الأول: مفهوم الموافقة: وهـــو اذا كان الفــرد الذي يتعــلق بـه المفهوم موافقاً في ماهيته وجنسه للمصداق الذي يدل عليه المنطوق والحكم فيه، وقوله تعالى [ فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ]( ) في الوالدين، فان مفهوم الموافقــة يدل على النهـــي عن شتمهما ااو التعـــدي عليهما لأنه اكثر ايـــذاء واسـاءة من التأفيف، وكما ورد في الحديث “في النصاب زكاة” فانه يــدل على وجــوب الزكــاة فيما زاد على النصــاب بمفهــوم الموافــقة.
ويسمى دلالة الأولوية لشمول الحكم لما هو اولى مما ورد في علته ومنطوقه، كما يسمى (فحوى الخطاب) ولا خلاف في الأولوية وفق مفهوم الموافقة.
الثاني: مفهوم المخالفة: ويتعلق بالفرد المخالف في ماهيته وجنسه للفرد الذي يتعلق به منطوق الحكم وفيه خلاف وله وجوه واقسام متعددة منها مفهوم الشرط ومفهوم الوصف ومفهوم الغاية ومفهوم العدد وغيرها.
فهل من مفهوم الآية وما فيها من المنطوق وتوبيخ الكافرين والإخبار عن عدم قدرتهم على شيء مما كسبوا، ون المسلمين قادرون على جلب النفع لأنفسهم باحتساب الأجر والثواب والتدارك.
قوله تعالى [وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]
انذار ووعيد للكافرين بان الله عز وجل لن يصلح بالهم ويرشدهم الى كيفية قبول العمل الصالح وتحصيل الثواب وعدم اضاعة النفقة سدى من غير عوض دنيوي او اخروي، ولا اعتبار بالرياء وما يؤديه من التطاول بين الناس لأنه امر زائل لا يعدو الألسن بل يجر على صاحبه الويل والسخط الإلهي لأنه اختار اراءة المخلوق بما رزقه ومنحه الخالق وجعله خليفة عليه ليمتحنه ويبتليه ويختبره.
وظاهر الآية ان الكفر هو سبب عدم الهداية بمعنى ان الإنسان ليس مجبراً او مكرهاً على عدم الهداية بل هو الذي ارادها بظلمه لنفسه واختياره الكفر، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار، وتطرد الآية عن نفوس المسلمين التساؤل والإستغراب الذي قد يطرأ بسبب اصرار الكفار على الجحود ومظاهر الرياء وعدم الإيمان، وتمنع من الإفتتان بهم، وتدعو الى الإلتفات الى قصد القربة والحذر الشديد من الرياء في الصدقات.
والهداية ارشاد الله تعالى الخلق الى الإيمان بالحجة والبرهان والآيات الباهرات، وهي الدلالة الموصلة الى المطلوب، والهداية في الإصطلاح على قسمان:
الأول : الهداية التكوينية: وهي افاضة الوجود وايجاد الخلائق وقد تقدمت الاشارة اليها.
الثانية : الهداية التشريعية: وهي هداية الناس الى الطاعات بارسال الرسل وانزال الكتب، ولطف يرشد الناس لأداء الطاعات ومن وجوه الهداية التشريعية تقريب العباد الى الطاعات وتهيئة اسبابها بما يساعده على اداء العبادات كالولادة من ابوين مؤمنين، ومقدمات الإيمان ومنها الطينة وايجاد اسباب الإنذار والتخويف للحذر من السيئات.
وهناك آيات تدل على ارجاع فعل العبد الى مشيئته تعالى كقوله تعالى [ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ]( ) الا انه لابد من تأويلها مع احكام التكليف الواردة في آيات القرآن، وان الهداية والضلالة يتعلقان بالأسباب والمقدمات ايضاً وبقدرته تعالى وابتناء الهداية والضلالة على فعل العبد ونيته وعزمه، واساس التفويض ليس هو تخيل عدم حاجة الممكن في بقائه الى العلة وكفاية علة الحدوث، بل ان الأمر مستقل ومن يقول بالتفويض يقر بالخلق وبارادته.
وخاتمة الآية الكريمة قاعدة كلية لتنمية ملكة النفرة من افعال الكفار في قلوب المسلمين، وللإستخفاف بهم فيما يتبعونه من صيغ الرياء والحرص على مراءاة الناس وتمنع من محاكاتهم في افعالهم لأنها مصبوغة بعدم الهداية، وتبين الآية قبح الرياء لأنه من مظاهر الكفر، وهي حرز للمسلمين من الرياء ومفاهيم الضلالة لأنهم يعيشون بهدى وتوفيق منه تعالى.
ومن اسباب الهداية هذه الآية الكريمة وما فيها من تهذيب للأخلاق واجتناب للمن والتطاول ونبذ الأذى، فمن يحرص على عدم ايذاء المستضعف المحتاج الذي تصدق عليه، فهو يتجنب ايذاء غيره من لم يكن مستضعفاً محتاجاً واسدى له معروفاً، وتظهر الآية نوع ملازمة بين القدرة على كسب الصالحات وبين الهداية والرشاد.


قوله تعالى [وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] الآية 265.
الإعراب واللغة
(ومثل الذين) الواو: عاطفة على (فمثله)، مثل: مبتدأ مرفوع بالضــمة، الذيــن: مضــاف اليه، بتقــدير حــذف مضــاف أي نفـقات الذين.
وجملة ينفقون اموالهم لا محل لها لانها صلة الموصول.
(ابتغاء مرضاة الله) ابتغاء: مفعول لاجله، وهو مضاف، وقيل انه مصدر في موضع حال أي مبتغين. مرضاة: مضاف اليه وهو مضاف، اسم الجلالة مضاف اليه.
(وتثبيتاً من أنفسهم) الواو: عاطفة، تثبيتاً: عطف على ابتغاء.
(اصابها وابل) فعل ومفعول به وفاعل مرفوع.
(فآتت اكلها ضعــفين) الفاء: عاطــفة، آتت: فعل ماض، والفاعل ضــمير مسـتتر يعود للجنة، اكلها: مفــعــول به مضــاف، والهاء: مضاف اليه، ضعفين: حال منصوب بالياء لانه مثنى.
(فان لم يصبها وابل) الفاء:استئنافية، ان شرطية، لم:اداة جزم، يصبها: فعل مضارع مجزوم في محل جزم فعل الشرط، الفاء رابطة لجواب الشرط، وابل فاعل مرفوع.
(فطل) الفاء: رابطة لجواب الشرط، طل: خبر لمبتدأ محذوف.
والجملة في محل جزم جواب الشرط، يقال جن شيء يجنه جنا: ستره، وكل شيء ستر عنك فقد جن عنك.
وفي الحديث: (جن عليه الليل) أي ستره، وبه يسمى الجن لاستتارهم واختفائهم عن الابصار.
والجنة: البستان، وتسمي العرب بستان النخيل جنة، قال زهير:
كان عيني في غربي مقتلةٍ
من النواضح، تسقي جَنَّةً سُحقاً
والجنة: الحديقة ذات الشجر والنخل، وجمعها جنان.
( وقال ابو علي في التذكرة: لا تكون الجنة في كلام العرب الا وفيها نخل وعنب، فان لم يكن فيها ذلك وكانت ذات شجر فهي حديقة، وليست بجنة)( ).
والجنة في الاصطلاح وعلم الكلام هي دار النعيم الخالد في الآخرة سُــميت جنة من الاجتنان، وهو الستر لتعانق اشجارها وتداخل اغصــانها وتظليلها وكثرة ثمارها، واذا قطعت ثمرة حلت أخرى مثلها بدلاً عنها.
والمــراد مــن الجنــة في هــذه الآيــة هــي البســتان، كما في قوله تعــالى[ وَدَخَــلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَـــالِمٌ لِنَفْسِــهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا]( ).
والربوة والرباوة والرابية: كل ما ارتفع من الارض، قال الشاعر:
علون رباوة وهبطن غيباً
فلم يرجعن قائمة لحين

وفي الحديث: الفردوس ربوة الجنة أي ارفعها.
( وقال ابن منظور: والاختيار من اللغات ربوة، برفع الراء، لانها اكثر اللغات، والفتح لغة تميم( )، ويقال: ارض مربية طيبة.
في سياق الآيات
موضوع هذه الآيات الصدقات والانفاق في سبيله تعالى ونية النفقة والصدقة والغاية منها، وتتضمن ارشاداً وتعليماً للانفاق الحسن الذي يؤدي الى المنافع المتعددة في الدنيا والآخرة، ويساهم في اصلاح المجتمعات وقضاء الحوائج.
وبعد تقبيح وذم الانفاق بقصــد المراءاة وكسب رضا الناس والاخـــبار عن ضـياعه وعدم انتفاع صاحبه منه، جاءت هذا الآية الكريمة لتبين الوجـــه المشـرق والنماء المتزايد للانفاق في سبيل الله وبقصد القربة، وبعد التحــذير والنهــي عن المن والأذى اتجهت هذه الآية الى بيان وتثبيت شــرط الانفــاق وهـو ان يكون بقصد طلب مرضاته سبحانه.
إعجاز الآية
من وجوه الإعجاز الدراسة المقارنة بين مواضيع هذه الآيات والتي تبدو ظاهرة لكل ذي سمع.
وتبعث الاية الشوق في النفس للنتائج الحميدة للإنفاق في سبيله فاذا ما علم الإنسان ان فعلاً ما يؤدي الى ربح عظيم، وهذا الفعل لا يتعارض مع القيم والأخلاق والعادات والأعراف فانه يبادر اليه برغبة واندفاع ليقتطف ثماره، وكيف اذا كان هذا الفعل في مرضاة الله وامتثالاً لأمره تعالى، والمنافع لا يمكن احصاؤها وعدها.
وفي الآية اصلاح للنفوس وتهذيب للأخلاق والعادات وجعل الموضوعية في الإنفاق لطلب مرضاته تعالى، وهو يتعدى الصدقة الواجبة او مواطن الحاجة والفقر وأعم منهما، لأن الإنسان اذا طلب مرضاته فلا يبقى منتظراً للفقير حتى يأتي يسأله بل انه يبادر للصالحات ونشر الإحسان واعمال البر.
ولا بأس باطلاق اسم (جنة بربوة) على الآية.
الآية سلاح
تساهم الآية في ايجاد مقومات التكافل الإجتماعي من غير تفريط باسباب العز والإكرام للمحتاجين والفقراء والمستضعفين، وتؤكد الآية الكريمة على ضرورة اتباع القواعد التي تكفل للمسلم الثواب الأخروي، وما فيه الصلاح والإصلاح.
مفهوم الآية
لقد جعل الله عز وجل المال مادة للإبتلاء ووسيلة للخير وقد يستعمل للشر، وهو من أهم الأسباب التي تدخل في المقدمات التي تعين منزل الإنسان في الآخرة، وهل سيكون في الجنة ام في النار، وقد يكون المال نعمة حينما يوظفه صاحبه في الخيرات، وقد يكون نقمة حينما يحبس حقوقه الواجبة ولا يخرج زكاته او يستعمله في غير مرضاة الله فيكون وبالاً على صاحبه في النشأتين.
وقد يتفضل سبحانه على الإنسان فيبقيه فقيراً مع مواظبته على العبادات والطاعات ودعائه بالرزق الوافر الكريم لعلمه تعالى بحقائق الأشياء ودقائق الأمور، فربما يضر المال صاحبه ويجعله في غير مرضاته تعالى، او يشغله عن ذكر الله واداء الصلوات في اوقاتها، او يؤدي الى هلاكه وقتله فيه لأن المال والكسب والتجارة امور تجعله اكثر عرضة للإصابة والهلاك والتلف، وهذا امر ظاهر للعيان فالذي يكثر مزاولة الأعمال والمعاملات وله شأن ومنزلة اشد عرضة للحوادث ممن يقصر عمله على فعل معين محدود وراتب لا يتعداه الى غيره.
فجاءت هذه الآية لتأديب المسلمين كافة من اصحاب الأموال والثروة وغيرهم ممن لم يكن عنده مال، فكم من فقير اصبح غنياً مما يعني ان الخطاب في الآية لا ينحصــر بالإغنياء، وليس للفقير ان يقول هذه الآية تخص ارباب الأموال واهل الإنفاق والإحسان بل انها تتعلق بالفقير من جهات:
الأولى: انه في معرض الغنى والسعة، بل ان اقراره بمضامين هذه الآية وعزمه على التقيد باحكامها سبيل للثراء والسعة.
الثانية: الآية مناسبة لمعرفة منازل الناس خصوصاً الأنبياء وانها لا تكون بكثرة المال بل بالإنفاق المقيد بقيد كونه في سبيل الله تعالى وطلباً لمرضاته وتقرباً اليه، أي تقرباً الى رحمته تعالى لأنه سبحانه ليس في جهة او مكان، ورجاء نيل ثوابه، واقراراً بالربوبية وحصراً لغايات الإنفاق ونفياً للرياء.
الثالثة: تبعث الآية الشوق في قلوب الفقراء ليكون عندهم مال كي يتصدقوا به وينفقوه في سبيل الله وطلباً لمرضاته وتثبيتاً لمناهج التقوى في الأرض.
الرابعة: تبعث الآية السكينة والطمأنينة في نفوس الفقراء والمحتاجين لأنهم ينالون العون من غير ذل او اذى، فالذي يعطيهم لم يقصدهم بالذات ويتفضل عليهم على نحو الخصوص، بل هو نفسه محتاج لأنه يعطيهم وهم موضوع ضروري لنيله الأجر والثواب، فمع عدم الفقر والحاجة لا تكون هناك صدقة، فيبقى الغني المؤمن يطلب موضعاً لصدقته فلم يجده، وهذا من فلسفة التفاوت بين الناس في الغنى والفقر وانتفاع الغني من الفقير وكذا العكس، فكل واحد منهما مورد لإبتلاء الآخر وعون له على امور الدنيا والآخرة وباب لنجاته او خسارته.
وتبين الآية التباين في قصد الإنفاق والأثر الكبير المترتب على هذا التباين، فمن الناس من ينفق ماله رياء ولا يحصد منه الا الشوك، ويكون انفاقه وبالاً عليه لما فيه من الجحود والاستخفاف بواجبات العبودية وعدم الشكر لله عز وجل الذي جعله مالكاً للمال قادراً على الانفاق، ومنهم من ينفق ماله طلباً لرضاه سبحانه وشكراً له على انعامه ورجاء زيادة افضاله، فجاءت هذه الآية بمدحه والثناء عليه ليكون هذا المدح دعوة للانفاق في سبيله تعالى.
ويلاحظ في الآية السابقة ورود ( المال ) بصيغة المفرد وكذا بالنسبة للذي ينفقه، قال تعالى [ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ]، اما هذه الآية فجاءت بصيغة الجمع بالنسبة للمنفقين وبالنسبة للاموال [ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ] مما يــدل على الكـثرة في عـــدد المنفقين وفي الامــوال في تؤكيد لعظيم فضله تعالى على المسلمين في كثرة اعدادهم واموالهم وهدايتهم الى سبل الانفاق الصحيح والاخلاق الفاضـــلة التي تـــؤدي الى افشــاء المحبة والــود بين الناس وزوال الفوارق بينهم.
ومن مفاهيم هذه الآية انها ترغيب في الانفاق طلباً لمرضاته تعالى وترسخ في النفس ضرورة قصد القربة في العبادات وفعل الصالحات، وفيها تحذير من التفريط بالثواب العظيم الذي يناله المنفق في سبيله تعالى، وبشارة الفوز بالربح ومضاعفة الاجر بسبب الانفاق بقصد رضاه واستجابة لامره سبحانه.
إفاضات الآية
الخطاب في الآية الكريمة موجه الى الناس جميعاً، ومن بركات القرآن ان خطاباته كالمطر الذي يصيب البر والفاجر، وتكون ملائمة لجميع المدارك والافهام المتباينة فيصدق عليها انها رحمة دائمة متجددة، وتأتي خالية مما يسبب حجبها عن فئة او طائفة معينة.
وليس من قوة او جهة تستطيع ان تحول دون وصولها الى جميع الناس، ولكن الانسان يحجبها عن نفسه باختياره الكفر، وامتناعه عن العمل بمضامين الخطابات القرآنية.
وجاء المثل في الآية بسيطاً ليس مركباً، وهذا من التخفيف والتيسير وتسهيل وصوله للناس جميعاً موضوعاً وحكماً.
ومن افاضات الآية انها تجعل قارئ القرآن يسيح في حدائق غناء ويتذوق ثمارها، وليس بينه وبينها كأجر وثواب الا المبادرة الى الانفاق فلا يتخلف عنه، وبذا يظــهر الاعجـاز القرآني في ايجاد افاضات وحصول ارادة مستحدثة عند المسلم للانفاق وايصال الصدقات الى مستحقيها من الفقراء.
فمن افاضــاتها انها تخـلق في النفس حب المعروف والانفاق والاندفاع فيه، والتطلع الى مضــاعفة الرزق العاجل، والسعادة الأبدية في الآخرة.

التفسير
قوله تعالى [وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ]
مما اتصفت به آيات الإنفاق هذه انها جاءت بصيغة المثل في تقريب المدركــات العقلية الى الأذهان بلغة المحسوس، والترغيب بمضامين الإيمان وبيان حسنها، والتحذير من موارد الهلكة واظهار قبحها وضررها.
وهذه الآية الكريمة خاصة بالإنفاق الجامع لشرائط الحسن والذي يأتي بالنفع على صاحبه في الدارين، وهذا النفع لا يترشح فقط من العنـــاوين العقائديــة بل انه فـــرع ما ينشــره هذا الإنـفاق من وجوه الرأفة والرحــمة والأخـــلاق واكرام بني الإنسان عامة والمسلمين والفقراء بصورة خاصة لما فيه من اجتناب الرياء ووجوه المن وايذاء المحتاج او قل ان تعيين القصـــد من الإنفاق وجعله في مرضاته تعالى سبب في اكرام الإنسان، لأنه سبحانه نفخ فيه من روحه وابقاه محتاجاً ليختبره هــو والغني في آن واحـــد، فلباس الحاجة الذي يبدو طوعاً وقهراً على الفقير اختبار له، وامتحان للغني الذي يرى سيماء الفقر تنشب اظفارها في اخيه المسلم او اخيه في الإنسانية مما يملي عليه الشكر له تعالى بوجوه :
الأول : ان نجاه الله وخلصه من الفقر وآثاره.
الثاني : التمكن من اعانة الفقير والمساهمة في طرد الفاقة عنه.
الثالث : الدعاء بدوام النعم، وعدم الوقوع فريسة وصيداً للفقر والعوز.
الرابع : اتخاذ المال وسيلة للتقرب اليه تعالى ونيل الثواب في الدنيا والآخرة.
ولم تبدأ الآية الكريمة بذكر الذين آمنوا لأمرين:
الأول: انها لم تأت بلغة الخطاب والإنشاء، بل جاءت بصيغة الجملة الخبرية.
الثاني: ظهور قيد الإيمان ببيان وجه الإنفاق وانه ابتغاء مرضاته تعالى وللثبات على الإيمان.
ومن خصائص الجملة الخبرية في المقام دلالتها على افادة وقوع الإنفاق قربــة الى الله واستدامته، وتعـــدده، وكثرته، ولفظ الجمع في الآية اشـــارة الى الإنفاق المشترك وانشــاء مؤسسات خيرية عامة بشرط ان تكون المســاهمة فيها بقصــد القربة، والمشاريع التي توظف فيها المال لا يبتغى فيها الا تعظيم شعائر الله ورجاء مرضاته تعالى، لأن موضوع هذه الآية لا ينحصـــر بالنية وقصد القربة بل يشمل وجوه الإنفاق وكيفيته وان يحرص المنفق على جعل المال فيما يكون طاعة لله ويؤدي الى الصــلاح والإصلاح وتثبيت دعائم الدين في الأرض، فلا يكفي قصد القربة وحده اذا كان ما ينفق من المال يذهب في النواهي، ويكون مقدمة للحرام وآلة ووسيلة للفسق والفجور ولا يطاع الله عز وجل من حيث يعصى.
ان التقرب بالمبغوض مبغوض، واذا كان الفعل حراماً فان مقدمته حرام ايضاً، ولابد من الإحتراز من تحصيل تلك المقدمات، والإنفاق ارادة وتغلب على الأخلاق الذميمة كالبخل الذي هو في الإصطلاح منع الواجب وتخلف الإنسان عما يلزم عليه فعله، ويشمل حبس الخيرات وهو وجود تصوري يعكس حال الخشية من الفقر والحاجة، ويظهر على الجوارح والأفعال.
والإنفاق سبيل وجهاد لإصلاح النفوس ومنعها من الشطط، ويطرد عنها اليأس والقنوط والكآبة ويفتح امامها آفاقاً من الأمل والبشارات ويدفعها للسعي لمستقبل افضل، مع ادراك الملازمة بينه وبين الإيمان وبذل الوسع لنيل مرضاته تعالى.
والإنفاق في سبيله تعالى علاج للنفس الشهوانية التي تشتاق الى اللذات الحسية ويمنع من سيطرة خصال الأنانية، وورود المثل القرآني بالأمور الحسية ترغيب للنفس الشهوانية نفسها بالإنفاق في سبيله تعالى فهذه النفس تميل لطلب الغذاء وطلب اللذة فيأتي المثل القرآني الحسي ليجذبها هي الأخرى، وهذا من اعجاز القرآن اذ يآلف بين المتفرق ويغير المناهج نحو الأحسن والأتم، ويجعل الذي له وظيفة دنيوية او انه يحرص على الدنيا متوجهاً الى طلب الثواب، الأمر الذي يؤكد بان آيات القرآن عقلية وحسية وليست حسية فقط.
وتبين الآيــة لزوم الســعي لنيل مرضاته تعالى وان رضاه سبحانه على العبد يتعقب افعال الصلاح والاصلاح، ونيله يعني دخول الجنة، ويــرد الرضـــوان احياناً بمعنى الجــزاء بالجنــة والنعيم الدائم قال تعالى [ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ ]( )، وقال تعالى [ أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَــخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَــأْوَاهُ جَــهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِـيرُ ]( ).
والظاهر عدم وجود برزخ بين رضوانه تعالى وسخطه، فالفعل اما ان يكون مما يرضاه الله عز وجل وفيه الأجر والثواب او يكون ذنباً ومعصية وفيه العقاب والعذاب الشديد.
ان اتيان ما فيه رضوانه سبحانه نعمة منه تعالى، وتفضله سبحانه بالإرشاد والأمر بان يكون الإنفاق طلباً لمرضاته، ورحمة وتأديب للمسلمين وحث لهم على استثمار الحياة الدنيا واتخاذها مزرعة للآخرة والإستقرار بالنعيم الخالد.
لقد جــاء مثـــل الإنفاق قبل عــدة آيات ومضــاعفتــه اضــعافاً كثيرة [ مَــثَــلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوــَالَهُمْ فِي سَبـــِيلِ اللَّهِ كَــمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَــبْعَ سَنَابِلَ ]( ) فالإنفاق ذاته زراعة، أي لا تصل النوبـــة الى المثل بل جاء المثل للبيان وتقريب الكــليات الى الأذهان بالمحســـوس، فالإنفاق في سبيل الله ذاته زراعة ونبت كــريم للصـــالحات، ويتصــف بخصوصــية قدســـية وهــي ان نمـــاءه مســـتمر ومتصــل وليس موســـمياً او مــوقــوتــاً بزمــن مـعــين.
ان أمــره تعالى وحثــه على إبتغاء مرضاته وتشريف للمسلم واكرام له ان قيض له اسباب السعي لنيل مرضاته ليراه في المواضع التي يجب ان يرى عبده فيها، ليكون المسلمون مؤهلين لخلافة الأرض.
وانفاق المال طلباً لمرضاته تعالى ينفي الرياء عن صاحبه لعدم اجتماع الضدين، ومن اعجاز القرآن انه يأمر بالحسن ويهدي اليه، وينهى عن القبيح، ويساعد العبد على الإمتناع عنه بقاعدة اللطف وتقريبه الى الطاعة وفعله لها.

قوله تعالى [وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ]
(من) حرف جر اصلي له عدة معان، وبحسب اللحاظ واعتبار معانيه يكون تفسير الآية على وجوه :
الأولى : تأتي (من) لإبتداء الغاية المكانية، كما في قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى]( ).
فالآية تعني انبعاث الإنفاق من ارادة وعزم من داخل النفس شــوقاً وحباً لله عز وجل وطــلباً لمرضـــاته باعانة الفقراء من عبيده، الا ترى انه ســبحانه اوصى بالفقــراء والمســاكين وهـو قادر على سد حاجتهم من غير واسطة بشر، ولكنه تركهم للإبتــلاء والإمتحــان، وربما تــرى يوم القــيامــة الســائل والفقير في الجنة لتقواه، والمسؤول الغني في النار لجحوده وطلب الرياء والزهو.
الثانية : تأتــي (من) للتبعيض وتكون بمعـــنى (بعض) كمـا في قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ]( ) أي تثــبيــتاً لإيمـانهم وانهم يــؤدون ما عليهـــم من الطاعات توكيداً لإيمــانهم، وفي قراءة مجاهد (وتثبيتاً من بعض انفسهم).
الثالثة : تأتي (من) لبيان الجنس، أي منبعثاً من اصل انفسهم التي رسخ الايمان فيها.
الرابعة : (من) تأتي لابتداء الغاية، أي انهم يبادرون طواعية للانفاق في سبيل الله وطاعة له وفيه تثبيت للايمان في نفوسهم على نحو الاختيار.
الخامسة : يمكن ان تقرأ الآية بتقدير محذوف تثبيتاً للعطاء من أنفسهم أي عدم خــروجــه عن شــح او كراهة او قهــر بل انه طوعي، وفعلا فانك تــرى المحسنين يبادرون الى الصدقات والانفاق في سبيله تعالى طواعية وامتثالاً للامر الالهي، ومن فضل الله ان يحتسب الامتثال حسنة وعملاً اختيارياَ يترتب عليه الثواب من عنده ســبحانه، وتقــرأ بتقديــر آخر وهو (وتثبيتــاً للفقراء من انفسهم)، أي ان النفقة في سبيل الله تساهم في تثبيت الفقير على الايمان وعدم انحرافه وخروجه عن احكام الشريعة، وهي عنوان تعاهد من انفسهم للعبودية، او تثبيت من انفسهم لديمومة الانفاق في الارض طاعة لله.
وفي مضامين وتفسير الآية وجوه :
الأولى : في الآية بيان وتوجيه لإصلاح النفس والمنع من زللها بقهرها على فعل الصالحات وحملها على ارادة الإنفاق، والتخلي عن الطمع والحرص وحب الذات.
الثانية : وفق قاعدة القرآن يفسر بعضه بعضاً فهذه الآية تفسير علاجي للشرط الوارد في قوله تعالى [ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي ]( ) فمن رحمته تعالى انه حث المسلمين على الإنفاق لما فيه من صلاح النفس، وللتخلية بينها وبين بعض مصاديقه السوء كالبخل والشح.
الثالثة : في الإنفاق في سبيله تعالى اقرار باليوم الآخر والحساب، وهذا الإقــرار يســاعد في تثبيت مفاهــيم الجــزاء في النفس لتكــون ملكة.
الرابعة : يطرد الإنفاق في سبيله تعالى الغفلة عن النفس ويجعلها يقظة ملتفتة الى وظائفها الشرعية والأخلاقية.
الخامسة : الإنفاق من مصاديق قهر النفس ومجاهدتها وتأديبها وجعلها معتادة على فعل الخيرات.
السادسة : ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم انه قال “ادبني ربي فاحسن تأديبي”، فالأمر الإلهي بالإنفاق من التأديب النوعي لعموم المسلمين.
السابعة : لقد اصبح الإنفاق والصدقة امر ثابت ومتوارث في مجتمعات المســلمين، ومن يقصــر في هذا الباب يتعــرض للوم والــذم، وهذا اللــوم عبارة عن رســوخ مفاهيــم الإنفاق في النفوس وانه جزء من الحيــاة اليومية للمسلمين ومعلـــم مبــارك في حياتهم من حقــهم ان يفتخــروا به، وتتجـلى فيه وجوه الإنصياع لأوامره تعالى وما جاء به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من عنده تعالى.
الثامنة : الإنفاق مناسبة لذكره تعالى، او قل انه من الذكر العملي والفعل الشاهد على الإيمان وثبات النفس على الهداية.
التاسعة : من وجوه تفسير الآية ان الإنسان يسعى عن قصد لترسيخ الإيمان في نفسه باقدامه على افعال فيها هدى ورشاد، ومنها الإنفاق في سبيله تعالى، وما في هذه الآية من الأخبار عن ارادة وسعي المسلم الثبات على الايمان من اعجاز القرآن، بالاضافة لدقائق خصائص النفس الانسانية واعانتها على الصلاح والاصلاح، وان نفس المسلم تجاهد من اجل حمل الذات على الصبر في جنب الله وفعل الخيرات، وانها تميل الى المداومة على الصالحات، وتحب البقاء على الصلاح وحسن الفعل، وتنفر من البخل والشح ونحوه من الاخلاق الذميمة.
العاشرة : جاءت الآية بصيغة التثبيت والتفعيل مما يدل على الاستدامة ودوام الانفاق كسبب لثبات الايمان في النفس، كما في الصدقة الراتبة القــليلة التي يعتـــاد على دفعها العــبد بأوقـــات منتظمة فانها غالــباً تكــون أفضل من الصدقة الكثيرة مرة واحدة، وهي من وجــوه تفســـير تثبيــت النفس على الايمـان، ودوام اعانة الفقراء وتطلعهم للاغنياء لاعانتهم وعدم انقطاع الرجاء من مساعدتهم.
الحادية عشرة : وردت الآيــة بلغـــة الجمع مما يعني الكثرة والتعدد، وان الانفاق في سبيله تعالى ســجية نوعــية عامــة عـنــد المســلمين، وهل في الآية اشـــارة الى الجمعيات والمؤســســـات الخيرية ذات الاهداف الايمانية والمقاصد الربانية في صلاح المجتمعات ودفع الناس الى مسالك الهداية بسد خلة وعوز الفقراء في السكن والملبس والمأكــل، الجواب: نعــم خصـــوصــاً مع تعـدد وجــوه تأويل الآيـة وان لها ظـهراً وبطناً وحداً ومطلعاً، نعم ورود لفظ (انفســهم) بصــيغة جمـع القلة ولم تــرد الآية بلفظ نفوســهم، وفيه وجوه:
الأول: ان لفظ (النفوس) لم يرد في القرآن الا مرتين، مرة في قوله تعالى[ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ]( )، واخرى [رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا]( )، بينما ورد لفظ (انفس) مائة وثلاث وخمسين مرة، وهو كثير بالقياس مع المرتين التي ورد فيهما لفظ (نفوس)، كما انها تضمنت معنى الكثرة والتعدد، ومنه وصف اهل الجنة، قال تعالى [ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ]( )، وجاءت خطاباً للمسلمين، قال تعالى [ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ]( )، الا ان يأول باتجاه القلة دون الكثرة.
الثاني: ان جمع القلة يعني تقارب نفوس المسلمين والتقائها على فعل الخيرات.
الثالث: ان الثبات على الايمان سمة المسلمين بادائهم الصلاة والصيام واقرارهم بالتوحيد.
لقد ذكرت في الآية علتان للانفاق:
الاولى: ابتغاء مرضاة الله.
الثانية: التثبيت من الانفس
وباعتبار الترتيب بان موضوع مرضاته تعالى متقدم على التثبيت، كما انه بذاته باب لتثبيت النفوس على الايمان، وفيه دعوة لجعل مدار الاعمال على مرضاته تعالى، ومناطها على ارادة القربة.
وقــد ورد ( تثبيتـاً) مــرتــين في القـرآن، فـقــد جـاء في بني اســرائيل[ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا]( )، فالامر بالانفاق في ســبيله تعالى يتضــمن الثبات على الايمان وجعل النفس تعتــاد العطـاء والبذل في ســبيله سبحانه، وفيه تخفيف عن المسلمين بان ينالـــوا مراتب التثبيت بانفــاق قليل من المال، وهذا مما أكرم به الله تعالى المسلمين بالقياس مع الأمم السالفة من اهل الملل السماوية.
والانفاق في سبيل الله مناسبة لترسيخ الايمان في النفس لما يغمرها من الرضا والشعور بالقرب من رحمته تعالى والإطمئنان الى منزلها في الآخرة او انها وضعت لها لبنة في صرح الصالحات التي يحتاجها الانسان لتكون صراطاً وطريقاً معبداً يسلكه الى الجنة.
ان الصدقات هوية ايمانية ووثيقة في سلم الدرجات يدونها الملائكة والثبات على الايمان يترشح عنها تلقائياً بفضله تعالى، وما من انسان الا ويحتاج التثبت والثبات، التثبت من امتلاء نفسه بالايمان وهذا التثبت يترجل في الخارج باداء العبادات، والانفاق في سبيله تعالى، خصوصاَ وان الانفاق ابتغاء مرضاته تعالى يتضمن الزكاة والصدقات الواجبة، اما الثبات على الايمان فهو ملكة نفسية مستديمة وفعل وسلوك، ومنه الانفاق في سبيله تعالى.
ومن الآيات الامتحان في الحياة الدنيا، ان الله عز وجل لم يترك للانسان الخيار في جعل الايمان منحصراً بالشعور النفسي، فلابد من عمل يعكس الايمان ومنه الفرائض والعبادات، الا ترى ان الصلاة تؤدى في كل حال في حال الحضر والسفر، والصحة والمرض، وهناك صلاة تؤدى في اقسى الاحوال، كصلاة المطاردة في المعركة وهي عبارة عن تكبير وتهليل من غير ركوع وسجود، وصلاة الغريق والموحل في الوحل والطين.
والانفاق في سبيله تعالى يؤتى به بكل حال، ومع الامكان فهو شاهد على الايمان وطارد للشك واثره السلبي، ولا اعتبار للتردد فيه، فاذا كان المسلم متردداً اتصدق أو لا؟ انفق هذا المال او احبسه خشية العوز والحاجة اليه.
فالآية ترغيب بالانفاق لبيان عظيم منافعه على النفوس العطشى والتي تمتلأ شوقاً وعشقاً الى لقاء الباري عز وجل، فان الانسان ممكن لا يفارقه الاحتياج، وتراه بحاجة الى التوجيه والتشجيع والوعد بنيل المكافاة، فجاء الامر بالانفاق في الآية الكريمة للاعانة على الثبات على الايمان.
أي ان الانفاق مقدمة للعبادات كما انه بذاته عبادة، لتتجلى مضامين التداخل في فلسفة اداء الفرائض وان بعضها يعضد بعضها الآخر ويكون طريقاً ومقدمة له فاذا أدى المسلم الصلاة يسعى لكمالها بالصدقة، واجبة كانت او مستحبة، واذا أدى الزكاة او تصدق صدقة مستحبة يرى من الاولوية القطعية أداء الصلاة وهي عمود الدين، واذا دخل شهر رمضان يحرص على عدم فوات فريضة الصيام الموقوتة والمقيدة به كوعاء زماني لادائها.
وذكرت في الآية وجوه :
الأولى : قال الزمخشري: فان قلت ما معنى التبعيض؟ قلت: معناه ان من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه معاً فهو الذي ثبت كلها واستشهد بقوله تعالى وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ،( ومال اليه الرازي وقال: وهو كلام حسن وتفسير لطيف)( ).
ولكنه بعيد، والآية الكريمة اعلاه تدل على المغايرة والتعدد وان الأموال غير الانفس، وانما يلتقيان بالجهاد، والمراد من الجهاد في الآية هو تعريض النفس للشهادة بخوض غمار الحروب والدفاع في سبيل الله.
ان انفاق المال واخراجه بلاعوض وبدل عيني ظاهر، يحتاج الى درجة من الايمان تحمل النفس على التخلي عن المال لما هو اعظم وافضل واحسن فاذا جاء الانفاق بنية القربة الى الله وطلب مرضاته، فهو شاهد عملي على اختيار العوض من عنده تعالى والثواب الاخروي، لقد جعل الله عز وجل عند الانسان ملكة الملكية وجعل الانسان يهوى التملك ويميل اليه ويبذل الوسع من اجله ولكن التملك لا ينحصر بالمال بل ان سجايا وعقيدة الانسان هي التي تحدد نوع الملكية وكيفيتها وموضوعها، فمع الايمان يدرك الانســان حاجتـــه لامتلاك الثواب واحراز رضاه تعالى فيشتري الاجر بأغلى الاثمان ويجتهد في بناء صرح من الصالحات تكون رصيداً له في الآخرة وتثبت منزلته يوم الحشر وهذا من وجوه التثبيت بالانفاق.
الثانية : المراد من التثبيت انهم ينفقونها جازمين بان الله لا يضيع عملهم، ولا يخيب رجاءهم، لانها مقرونة بالثواب والعقاب والنشور بخلاف المنافق، فانه اذا انفق عدّ ذلك الانفاق ضائعاً، لانه لا يؤمن بالثواب فهذا الجزم هو المراد بالتثبيت، قاله الزجاج، وهو حسن.
الثالثة : ان المنفق يتثبت في اعطاء الصدقة فيضعها في أهل الصلاح والعفاف قاله الحسن ومجاهد وعطاء، (وقال الحسن كان الرجل اذا هم بصدقة تثبت فاذا كان لله اعطى وان خالطه مسك)( ).
وموضوع الآية اعم وفيه مضامين أهم، وسلامة الاختيار في موضع الصدقة تتجلى في قيد ( ابتغاء مرضات الله) فمن مصاديقه بالاضافة الى قصد القربة ان يكون في الاعطاء رضا وطاعة لله عز وجل وعدم توظيف الصدقة في المعصية واقتراف الذنوب.
ومن اعجاز القرآن في قوله تعالى [ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ] .
الأول : تعدد وجوه تفسيره.
الثاني : عدم استظهار وجه منها على نحو الحصر والتقييد.
الثالث : بقاء باب التأويل في دلالالته الى يوم القيامة، وفيه حث للعلماء على التحقيــق والاســتنتاج واســتنباط الدروس من فلسفة الانفاق.
الرابع : تبعث الآية الشوق عند المسلمين للاطلاع والتزود من المعرفة الالهية.
قوله تعالى [كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ]
جاء هذا المثل القرآني للمسلمين الذين يخرجون الزكاة والصدقات وينفقون اموالهم قربة الى الله وطلباً لمرضاته وسعياً للنعيم الدائم، لبيان الكليات المعقولة على الجزئيات المحسوسة، والترغيب بالثواب والاجر باحساس بعض جزئياته.
وبعد ضرب القرآن لمثل مضاعفة الانفاق في سبيله الله بحبة تتولد عنها سبعمائة حبة، جاء مثل الذين ينفقون اموالهم رياء وما فيه من المبغوضية والقبح، ثم جاء المثل الآخر لمن ينفق امواله طلباً لمرضاته تعالى، بمعنــى ان الانفاق في ســـبيل الله جاء به مثـلان كريمان وحصر مثل الذي ينفق من اجل الدنيا بينهما في تضييق لمفاهيمه للنفرة منه واجتنابه.
والمراد من الجنة هنا البستان والحائط وما فيه من نخيل واشجار، وهذا المثل كاف وحده لبيان عظيم الثواب الذي يناله من ينفق في سبيل الله سواء بذاته أو بالمقارنة مع الكافرين الذين ينفقون اموالهم رياء وخسارتهم لها بالاضافة الى ضياعهم وخسارتهم في الآخرة .
ومع كفاية المثل في بيان عظيم فضله تعالى على المؤمنين الذين ينفقــون اموالهم في ســبيل الله ولكنه سبحانه اضاف قيداً تشريفياً وهو ان الجنــة(بربوة) عالية مرتفعــة، وهذا العلو له ثلاث معان:
الأول: العلو الحسي الواقعي التسنيمي او التدريجي.
الثاني: العلو المعنوي للاخبار عن المنزلة العظيمة لمن ينفق امواله في سبيل الله خصوصاً وان الآية مثل قرآني لتقريب حسن الجزاء الاخروي.
وتشمل الآية المعنيين معاً لعظيم فضله تعالى، وهذا القيد عنوان المضاعفة وزيادة الريٍع وانه في مأمن من الهوام والدواب وما تسببه من الضرر.
الثالث: المراد من الربــوة هي مجمــوع الجنة والبســتان بمعنى ان ارضــه كلها عاليــة بلحاظ الارض الباقية المحيطة به، للمائز والتشريف ويكون الشجر فيها ازكى، والربوة اذا كانت فيها جنة تدل على سعتها وكبرها ووجود انهارها معها، وذكر فيه اشكال وهو ان الارض اذا كانت مرتفعة كانت فوق الماء ولا يصل اليها ماء النهر، ولاتضربها الرياح واللقاح بعكس ما اذا كانت في وهدة ومنخفض من الارض، لذا قال الامام الرازي ( بل المراد منه كون الارض طيناً حراً، بحيث اذا نزل المطر عليه انتفخ وربا ونما، فان الارض متى كانت على هذه الصفة يكثر ريعها، وتكمل الاشجار فيها، واستدل بقوله تعالى وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ.
ولكن الآية تحمل على ظاهرها، وفيه دلالات عقائدية واذا كانت خلاف المعتاد وانها لو كانت في منخفض من الارض افضل في الريع، فالربوة اذن اعجاز اضافي وان نمو اشجارها وكثرة ريعها تتصل بفضله تعالى، وهو الذي يتعاهد جنة المؤمن، وتكون في مرتفع من الارض افضل منه في غيره، بمعنى ان الانسان يحرص على اختيار احسن بقاع الارض لمناســبة الزراعة وحســن الناتج بينما جنــة المؤمن تكون في مرتفع فتأتي بالثمــار، وان الســقي يكون بالمطر الكثير لذا جاء في الآية [ أَصَابَهَا وَابِلٌ ].
وفيها نكتــة وهي ان الجــنة موجـودة ويطرأ عليها الوابل ولم تتحدث الآية عن زراعة اشــجار الجنة ونموها والعناية بالارض وخدمتــها، وهــو كقــوله تعــالى [حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ] ( ) فاضافت الآية الانبــات الى الحـبة ذاتها، مما يــدل على ان العــبد بمجرد ان ينفــق في ســـبيله تعالى فان الثـــواب يتضاعف وقد ورد ذكر لفظ(ربوة) مرة ثانيــة في قــولــه تعــالى [ وَجَعَلْنَا ابن مَـرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ]( )، والمــراد الارض المرتـفعــة، وقد وردت فيهــا اقــوال:
الأول : انها إيليا ارض بيت المقدس.
الثاني : كبر الارض .
الثالث : اقرب الارض الى السماء بثمانية عشر ميلاً، عن كعب.
الرابع : دمشق وغوطتها.
الخامس : فلسطين والرملة.
السادس : مصر.
فالآية الكريمة لا تدل على جنة صغيرة بل جنة كبيرة واسعة تجري فيها الانهار أو ينزل عليها المطر الغزير وكثير من الاشجار تكون على الجبال وفي المناطق المرتفعة وتنمو على ماء الامطار وتكون ثمارها كثيرة ولذيذة، فالقيد (بربوة) آيةاعجازية لفظية وعقلية وعرفية، وبيان لعظيم فضله تعالى، وارادة معنى الربوة يتعلق بالحياة الدنيا في هذه الآية ومجيء المثل فيما يخص الانفاق ابتغاء مرضاته تعالى مع المعاني والمضامين السامية لها في الآخرة.
ومن الاعجاز في هذه الآية الوقوف عند الربوة هنا لاستنتاج الدروس والعبر والانتفاع من مضمونها والسعي لاحياء الاراضي المرتفعة، ومع ان الآية اخبرت بنزول المطر لتعاهد نمو الاشجار ونضج الثمار فانها دعوة لاحياء الاراضي المرتفعة وفيها بشارة عن صعود الماء بالآلة والقوة والدفع الى الاراضي المرتفعة كما هو ممكن في هذا الزمان واصبح جزء من العرف الزراعي العام.
وفي ذكرالربوة والارتفاع نكتة وهي عدم وصول يد العبث والتلف والتعدي عليها، ومن مفاهيم الربوة الحث على حجز البستان وحياطته وجعله في مأمن من العبث ولعله اشارة الى عدم ابطال الذنوب والسيئات عليها، فالســيئة تحتســب بمثلها، اما الجنــة فهي ميزان الاعمال، فتأتي الجنة مع نموها وثمارها سليمة محفوظة، اما السيئة فهي على احدى حالات:
الاولى: باقية على حالها لقوله تعالى[ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا]( ).
الثانية: يأتي عليها الاستغفار فيمحوها قال تعالى [ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ]( ).
الثالثة: ان الصدقة والانفاق في سبيل الله سبب للمغفرة والعفو عن السيئات[ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ]( ).
وفي الآية محل البحث تفسير وتوكيد لها، فمن كان عنده جنة في ربوة لايشكو الجوع والفاقة والعوز، ومن الربوة زراعة الاشجار في المناطق الجبلية التي تنمو على الديم، وهي في ثمرها اجود من التي تزرع في المنخفضة.
فالآية بشــارة الامــن والسـكينة يوم العطش الاكبر واخبار عن ادخار كريم ليوم الحساب بالانفاق وانه من افضل السبل للنجاة يوم القيامة.
ان وصف الجنة في ربوة اخبار عن عدم حصول التعدي والتجاوز على ثواب المنفق فليس من سرقة او عبث للدواب، ومن خصائص البستان في الدنيا ان يحرص اهله على عدم وصول الايدي اليه ويقومون بتحويطه، لذا يسمى بالحائط ويضعون العيون وتتصل الحراسة عليه ليلاً ونهاراً ويخشون حتى من الجار احياناً، اما الربوة في المقام فهي اخبار عن الحرز والحفظ الالهي، واذا كان من يمر البستان يحق له ان يأكل منه ما يتزود به من غير ان ينقل ويأخذ معه، فهذه الجنة في ربوة ومنأى عن المارين لانها ثواب للانفاق، ومن نواميس الثواب لا ينقص ولا يأخذ احد شيئاً.
قوله تعالى [أَصَابَهَا وَابِلٌ]
من افراد واقسام هذا المثل القرآني ان الجنة والبستان ينزل عليها المطر الغزير الذي يدل على التعاهد الالهي للصدقات وعدم انحصار ثوابها بكتابتها وتدوين الفعل الصالح، فالثواب متصل ومستمر، ولا يختلف اثنــان بان نــزول المطــر يســاعد في استدامة حياة الاشجار وهو في المقــام عنـــوان النمــو وبقاء ثــواب الصدقات ونفعها في الدنيا والآخرة.
ويعتبر من مصــاديق الغنـى والثروة في الدنيا والآخرة، فمن كان عنده بســتان عامر في مرتفع من الارض فانه لا يخشى الفقر والجوع، فكذا من يتصدق وينفق امواله في سبيل الله، وترى شواهد كثيرة في التأريخ الاسلامي والواقع الذي يحيط بك، ان من ينفق بعض امواله قربة الى الله فان الرزق الكريم يأتيه من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب.
وتبين الآية الفضل الالهي العظيم والرزق الكريم المستمر والمستديم لمن ينفـق في ســبيله تعالى، فحالما تخــرج النفقة من يد المسلم تتولى الملائكة إنماها وتجعلها تربو وتزداد، وفي هذه الآية بيان لعظيم الثواب وبصورة اكثــر واكــبر من الحبــة التي انبتت سـبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، قال تعالى [ مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
وهاهنا يتجلــى الثواب بجنة ونخيل واشجار، ولعله من المضاعفة التي وعد الله عز وجل عليها في الآية اعلاه واذا كانت الجنة من المضاعفة، فماذا يعني نزول الوابل والمطر الغزير هل هو من المضاعفة ايضاَ ام انه أمر اكبر من المضاعفة، الظاهر انه اكبر وهو من فضله ومكنون خزائنه خصوصاَ وان المضاعفة تتعلق بالحبة وزيادة السنبل ومئات الحب.
فان قلت: ان القرآن تبيان لكل شئ، فأين الدليل على مثل هذا الثواب من مكنون خزائنه تعالى.
قلت: هذه الآية نفسها من مصاديق الدليل، فانها تفتح باباَ للدراسات عن عظيم الاجر والثواب وهي مناسبة للترغيب بالانفاق، فمتى ما ادرك الانسان بالصورة المحسوسة مايناله من خير النشأتين بالانفاق فانه يجعله من اولى الامور التي يفكر بها ويبادر اليها ويبحث عن احسن مواضع الانفاق ويحرص على اخراج الحقوق الشرعية وعدم حبس الزكاة لانه يدرك ان الفائدة التي يجنيها اكبر مما يخرج منه واعظم مما يناله الفقير بتلك المساعدة الكريمة.
والتمثيل بالجنة له دلالات واشارات منها:
الأول : انه ذكر كريم ومثال مبارك، وهذا الاسم عزيز على كل مؤمن، ومن الآيات ان الجنة غاية كل مسلم بل كل عاقل، فجاءت هذه الآية للترغيب بالانفاق والحث عليه.
الثاني : يبعث المثال رائحة طيبة ويضفي هيئة وصورة جميلة على الانفاق.
الثالث : تجعل الآية المنفق في سبيله تعالى في سعادة وغبطة وهو يقوم بالانفاق، ويبقى يتذوق طعم الانفاق لانه لا ينظر الى المال وخروجه من يده ومراده الآني ودفع حاجة الفقير، بل انه ينظر الى الافاق الرحبة والحدائق الغناء التي يسببها الانفاق، وعدم زوال اثار هذا الانفاق وان قام الفقير ببذله في ساعته لقضاء حوائجه.
الرابع : اجتماع الجنة والمطر الغزير يبعث في النفس الشوق لتحصيل الثواب، وهذا من مصاديق المعرفة الالهية النظرية، التي لا تدرك الا بالعقل النظري، ليتجلى في الخارج بالعقل العملي، وهو ان المدرك مما ينبغي ان يعمل، فيجتهد المسلم في سبل الانفاق في سبيله تعالى، والمراد الواقعي من المثل على وجوه محتملة منها:
الأولى : ان الجنة هــي النفقــة، والوابل هو الاجر والثواب، والنماء والبركة المتصلة معها من عنده تعالى، فالمطر مستمر في الغالب على الاشجار والبساتين وهو عنوان دوام استمرار النماء والزيادة.
الثانية : الجنة هي المؤمن نفسه، لان الآية تقول مثلهم كمثل جنة، فالمؤمن بنفسه جنة وترعة وروضة من الصالحات وحينما ينفق المال في سبيله تعالى يكون كالمطر النازل عليه فيغسله من درن الذنوب والخطايا.
الثالثة : ان الربوة هي الايمان وما له من مفاهيم العز والامن.
الرابعة : جاءت الآية بصيغة الجمع فكل مؤمن ينفق في سبيل الله يكون عضداَ لاخيه، وهم مجتمعين انوار مضيئة تبعث البهجة في النفوس، فمن ينفق في سبيل الله يدخل السرور في نفس كل من يراه فقيراً كان او غنياً، مسلماَ او غير مسلم.
الخامسة : ان الامثال تضرب للعبرة والبيان والموعظة وان كانت وضعاَ اجمالياَ، وليس كما يقال بانها تضرب ولاتقاس لقد اراد الله عز وجل بالمثل اظهار حال المنفق بما يجعل النفس تميل اليه، وله دلالات دقيقة واشارات بليغة.
السادسة : ان المال الذي يخرج نفقة هو الذي يكون كالجنة بربوة ويصيبها الثواب والاجر.
السابعة : الجنة نفس المنفق، اذ ان قصد القربة وابتغاء مرضاته تعالى يجعل السعادة تغمرها وتتخلص من الغشاوات الظلمانية.
الثامنة : الجنة عنوان البركة في مال المنفق نفسه، فالآية لم تنظر الى المال الخارج فحسب، بل تتعلق بالباقي وبذات المسلم المنفق فحينما ينفق من ماله، فان الله عز وجل يبارك فيما عنده ويرزقه القدرة على العمل، الم تر ان الصدقة الواجبة تسمى زكاة وهي عبارة عن اخراج مال بلا عوض مادي محسوس كما يجري في المعاملات كالبيع والايجار فسميت زكاة لما فيها من البركة والخير وتكاثر الاموال.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وهذا من اعجاز القرآن، ففي المثل الجميل والمناسبة الكريمة تتغشى الافاضات الموضوع والحكم، وهذا شأن الوابل فانه يأتي على الارض فيغمرها ويصيب الاشجار فيسقيها ويغسل الاوراق ويزيح عنها الغبار وتبدو بصورة بهية تجذب النفوس وتسر الخواطر، كذا الصدقة وما يتعقبها من الاجر والثواب والفيض ووجوه المضاعفة.
والمثل الكريم دلالة على نزول البركات بسبب الصدقة، لذا ورد في الخبر: (اذا املقتم فتاجــروا الله في الصـدقة) فهي عون على نزول البركة.
قوله تعالى [فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ]
هذا الشطر من الآية اشراقة قرآنية تساعد في بيان مفاهيم الجنة التي ينزل عليها المطر الغزير ولكن على نحو الاجمال بحيث لا يتعارض مع حملها على عــدة وجــوه ومصاديق مباركة فهو جامع مانع، جامع لوجــوه الحســن، ومانــع مما يأتي بالرأي، وحينما ينزل المطر يزداد الربح.
وقد ورد لفظ الضعف – بكسر الضاد- وفيه اعجاز مركب:
الأول: انه جاء باللغات الثلاث، المفردة، والتثنية والجمع ، مع ان لفظ المفــرد يتضــمن احياناً معنى التثنية والجمع كما في قوله تعالى [ أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ ] ( )، فالزم الضعف صيغة المفرد باعتبار ان المصادر لا تأتي بالتثنية او الجمع.
الثاني: ورد الضعف بلغة المفرد والتثنية في الوعد والوعيد، فمن الاول قوله تعالى [ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ]( )، وفي التثنية الآيــة محـل البحث، اما الثاني وهو الوعيد فمنه في المفرد قوله تعالى [ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
امــا لغــة الجمــع فهي خاصــة بالوعـد اوالبشارة القرآنية قال تعالى [ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] ( )، مما يــدل على عظيــم فضــلـه واحســـانه على المحسنين والمؤمنين الذين يمتثلون للأمر الالهي بالانفاق في سبيله تعالى.
ويقال اضعف الشئ وضعفه وضاعفه: زاد على اصل الشئ وجعله مثليه، والضعف والمضاعفة في الآية متعلقة بالاكل وليس بذات الجنة، فالآية جاءت لمعرفة مقدار وكمية الثمر والحاصل من الجنة، فاذا كان المتعارف مثلاً ان يكون الناتج ثمار البستان التي مثلها الف طن من الفاكهة والتمور، فان هذه الجنة يكون ثمرها بمقدار الفي طن، فكيف يكون خلاف المتعارف، تحتمل وجوه:
الأول : لانها في ربوة.
الثاني : لكثرة الوابل والمطر .
الثالث : ما تمتاز به من خصائص.
الرابع : بفضله تعالى.
الخامس : مجرد مثل وان لم يكن له شبه في الواقع.
السادس : ان الضعف جاء بسبب المطر الغزير
اما بالنسبة للوجه الرابع فنعم بفضله تعالى، ولكن لابد من مناقشة المسألة وفق العقل النظري وان المدرك مما ينبغي ان يعلم.
اما الوجه الخامس فهو بعيد وخلاف لغة القرآن وما فيها من البيان، وكونها في ربوة لا يدل على سبب المضاعفة، لان الأكل بقدره من غير مضاعفة متعلق بالجنة المقيدة في موضعها بوجودها في ربوة، وكذا بالنسبة لكثرة الوابل فانه لا يسبب المضاعفة بلحاظ العطش وقلة الماء في مقابل الوابل والمطر الغزير.
وذكر مضاعفة الأكل والتمر ليخرج المطر الغزير الذي ينزل وقت تساقط الازهار ومافيه الضرر، بل يكون في الوقت المناسب لزيادة النمو والتمر وزيادة الحاصل.
وجاء وصف الثمر بالأكل في الآية، وله دلالات خاصة منها:
الأولى : الأكل: الطعمة، يقال: ما هم الا أَكَلة رأس – بفتح الكاف – أي ان عددهم قليل يشبعهم رأس واحد، فالآية تدل على الطعمة وهي ما يؤكل من ثمار الجنة.
الثانية : الأكل: الرزق، يقال انه لعظيم الأكل في الدنيا، أي عظيم الرزق)( )، فالآية تخبر عن الثمر الكثير واسباب الرزق الكريم بهذه الجنة والبستان، وان صاحبها ينتفع منها، يقال فلان ذو أكل اذا كان ذا حظ من الدنيا.
الثالثة : الأكل: الثمر، وهو ثمر النخل والشجر، (يقال: اكل بستانك دائم)( )، قال تعالى [ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ]( ) ، فالمراد من الاكل هنا الثمر والاشجار التي يرد ذكرها وهي اشجار مثمرة وليست اشجار زينة ونحوها، فان البركة في التمر، والاكل اهم وجوه النفع.
والآية حث على الاجتهاد في زيادة انتاج البساتين وكثرة الثمر والريع ســواء بالسماد والعناية بالتربة او بالســقي بالغمر او بالوسائل والاســباب الحديـثـــة، وهي من الآيــات التي تنفـي شبح المجاعة عن اهل الارض رحـمة منه تعالى، فالآية تخبر عن مكان مضاعفة انتاج الثمار والاشــجار على نحــو متصاعد، والمضــاعفة الواردة في الآية فيها وجوه :
الأولى : الزيادة في الكم والمقدار وعدد الثمار.
الثانية : الزيادة في حجم الثمرة والواحدة من الفاكهة.
الثالثة : المضاعفة في عدد الاشجار وتكاثرها مع كثرة الامطار ووضعها في ربوة.
الرابعة : التعدد الزماني أي انها تنتج في السنة مرتين بدل المرة الواحدة كما في قوله تعالى [ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ]( ) أي كل ستة أشهر، او المضاعفة الموسمية.
الخامسة : المضاعفة في النوع والكيف وتحسين الإنتاج، فالآية وان جاءت مثلاً كريماً الا ان وجود مثلها في الدنيا هو احد مفاهيمها وبذا ينتفع المسلم من علوم القرآن في الدنيا والآخرة، فهي عون على امور الدنيا وحافز كريم على العمل والإبداع واستثمارها لنيل الدرجات العلى في الآخرة، كما تؤكد هذه الآيات على عالمية القرآن وان رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، لما في القرآن من الدعوة الى الإبداع وانتفاع الإنسانية عامة من مضامين الآيات، وهي حجــة في اعجاز القرآن وفق علوم واكتشافات العصر التي تأتي مطابقة له، والأولى استباقها باستظهار مواضيعها من القرآن، وكأن آياته دعــوة للوصــول الى هذه الإكتشــافات واخبار مقدم زماناً عنها.
السادسة : الضعف عنوان جامع للزيادة له حد ادنى، وليس له حد اعلى، وهو على وجوه:
الأول: زيادة مثل الثمر وما كان معهوداً باعتبار ضعف الشيء مثليه، فما يكون ريعاً في سنتين يأتي في سنة واحدة، والجنة لم تضرب مثلاً بالمقارنة معها.
وقال عطاء: حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين، وقال الأصم: ضعف ما يكون في غيرها، الا ان يراد منه البيان، اذ ان المثل القرآني يتصف بالدقة والمعاني القدســية السامية فهذه الجنة ليس لها شبيه لأن موضوعها الإنفاق في سبيل الله فاكلها ذاته يتضاعف ويزداد بسبب الإنفاق، كما لو كان الإيمان في القلب هو الجنة، وورد في خبر الحديث القدسي: (يا عبدي اجعل قلبك بستاني).
الثاني: الإنفاق يضاعف الثمر والثواب، وعن الآمام الصادق عليه السلام: “معناه يتضاعف أجر من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله”، وهو معنى عرفانييدل على موضوعية الأجر والثواب في عالم الربح والخسارة الدنيا وتكون الدنيا مرآة للآخرة وبشارة لما أعد الله عز وجل للمؤمن فيها من النعم.
الثالث: سرعة النماء وتقريب أوان الحاصل، وله مصاديق واقعية في الدنيا لما حصل في هذا الزمان من الارتقاء في عالم الزراعة والأسمدة والاستنساخ.
الرابع: زراعة المحاصيل الصيفية في الشتاء، والمحاصيل الشتوية في الصيف، وتهيئة أسباب مناخية بفضله تعالى.
الخامس: تعاهد المزروعات بعناية إلهية وأسباب مادية لحفظها من الآفات والأمراض ورداءة الجو الضارة بها.
قوله تعالى [فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ]
توكد الآية نزول المطر على الجنة في كل الاحوال وهذا اهم وجوه ومضامين الاعجاز في الآية الكريمة فلابد من اتصال فضله تعالى، فالاية تتضمن الوعد الكريم بتعاهد النعم من عنده تعالى فان لم ينزل المطر الغزير الوابل فان السماء لا تنقطع عن اهل الايمان المنفقين في سبيله تعالى بل تستمر في بركاتها فيأتي المطر اللين والمتقطع وهذا المطر لا يعني النقص بل اتصال العطاء والخير لقد يكون المطر نافعاً اكثر في حال كونه ليناً طرياً .
فقد يتبادر الى الذهن ان الآية تخبر عن كثرة الحاصل وقلته بلحاظ المطر وغزارته او قلته وانه عندما يكون طلاً فهو يعني نقص الثمر وقلته ولكن الآية لا تدل على هذا المعنى وهو من الشبهة البدوية التي تزول بادنى تأمل وتفكير، فالآية لا تتعرض لمقدار الثمر، بحيث اذا كان المطر كثيراً كان الناتج مثله، وكذا العكس أي اذا كان المطر قليلاً فان الناتج مثله.
الجواب: لا ملازمة بين مقدارالمطر والناتج، وقد تكون حاجة البستان للماء القليل وليس الكثير، وقد يسبب لها كثير اذى وضرراً، لذا فمن الاعجاز في الآية الكريمة انها تخبر عن نزول المطر بمقدار الحاجة وما يؤدي الى النفع العظيم.
فتخبر الآية بان المطر ينزل حسب حاجة الشجر والثمر وبما ينفع ويكثر من الحاصل والمدار على الحاصل وليس على المطر وكميته، فلذا لم تتعرض الآية الى تغير مقدارالناتج والضعفين بل انحصر المائز بكمية المطر، ومع التأمل والتدبر في معنى الآية وبلحاظ عظيم فضله واحسانه تعالى تتجلى لك مفاهيم الرحمة الالهية واستدامة النعم على المحسنين بتغير كمية المطر.
وعلى القول بان المراد من المطر هو الثواب فان الآية تدل على استمراره وان تباينت درجته وقد يتعلق هذا التباين بالافعال التي تصاحب الانفاق واداء العبد للفرائض ومواظبته على الصدقة سواء الواجبة منها او المستحبة.
وتؤكد الآية استمرار وبقاء المنافع التي يأتي بها قطر السماء مطلقاً، قليلاً كان او كثيراً، غزيراً او ليناً من بعث الحياة في التربة وغسل الاوراق وازاحة الغبار عنها وتخلص الاشجار من بعض الامراض والآفات ومساعدة الثمار على النضوج الأتم.
وهذا الشطر من الآية حث على الانفاق في سبيله تعالى واخراج الاموال للصدقة بل هو دعوة للانفاق لما فيه من بعث للطمأنينة في النفوس على اتصال فضله تعالى والجزاء الحسن على الانفاق، ومقدار المطر يدور مدار الحسن في الثواب، والتمام في الاجر وهما امران لا ينحصر تحققهما بنزول المطر الغزير، لذا اخبرت الآية عن التعدد والتنوع، نعم جعلت الاولوية والنفع الاعم للمطر الغزير بلحاظ التقديم وجعل الوابل هو الاصل.
ولابد من اسباب تتعلق بالانتفاع الامثل منه فجاء ذكر المطر وكميته للإخبار بان دوام الرزق والعافية منه تعالى ابتداء واستدامة، وتنفي الآية العوز والجوع والفقر عن الذين يبذلون الاموال طلباً لمرضاته تعالى، واسم الجنة لم يأت بمفهومه اللغوي فحسب بل جاء للتذكير بثواب الآخرة وان الاجر العظيم للانفاق يتغشى النشأتين، ويقتطف صاحبه ثماره في كل آن ومكان كما يعود ربح البستان الى صاحبه وان لم يكن قد رآه او غرس فيه شجرة بيده، ولان منافع الجنة والأشجار لا تنحصر بالثمار وموسمها، بل تشمل الاوراق والاغصان والسيقان وتساهم في تظليل النباتات الفصلية وتمنع من انجراف التربة.
قوله تعالى [وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]
خاتمة الآية سر من اسرار القرآن وكنز من كنوز السماء في الأرض سواء بذاتها او موضوعها او بلحاظ مضمون الآية، وهذه هي الخامسة والاخيرة من سورة البقرة التي وردت فيها هذا الخاتمة وفيها دلالات عقائدية:
الأولى : انها عنــوان جامــع لصيغ البشارة والانذار، البشارة للمؤمنين الذين يعملـــون الصــالحات ويعطون الزكاة، وانذار الكافرين والذين يمســـكــون الحقــوق الشــرعيــة ولا يخــرجــونهــا لمستحقيها.
الثانية : ان الله عز وجل عالم بافعال العباد، وجميع الاشـياء حاضرة عنده.
الثالثة : في الآية اخبار عن علمه تعالى بالانفاق في سبيله، وهذا الاخبار باب للحث على الصلاح والتقوى.
الرابعة : جــاءت الآيــة بلغـــة الخطاب وهي تحتمل امرين، اما ان تكون لجميـــع الناس فتكـــون مركبــة من البشــارة والانذار، او انها خاصة بالمسلمين وحينئذ ايضاً تكون مركبة بحسب موضوع الآية، وهو الانفــاق طلبــاً لمرضـاتــه تعالى، فتكون بشــارة لمن حرص على المبادرة على الانفاق في سبيله تعالى، وتدعو المقصرين الى الاقتداء بهم.
الخامسة : الآية ترغيب بالانفاق وحث على عدم التفريط بما فيه من عظيم الاجر والثواب.
السادسة : جاءت الآية بصيغة الجمع وفيه حث على الانفاق المتعدد والجماعي وانشاء المؤسسات الخيرية وانها من مصاديق الانفاق في سبيله تعالى.


قوله تعالى [أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ] الآية 266.

الإعراب واللغة
(أيود أحدكم) الهمزة للاستفهام، يود: فعل مضارع، أحد: فاعل والكاف: مضاف اليه.
(ان تكون له جنة) ان وما بعدها في تأويل مصدر، له: جار ومجرور في محل خبر متقدم للفعل الناقص، جنة: اسم يكون المتأخر.
(تجري من تحتها الانهار) تجري: فعل مضارع، من تحتها: جار ومجرور، وتحت ظرف مكان مضاف، والهاء: مضاف اليه، الانهار: فاعل.
(له فيها من كل الثمرات) له: جار ومجرور في محل خبر مقدم، فيها: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، من كل الثمرات: الجار والمجرور في محل خبر مقدم، كل مضاف، الثمرات: مضاف اليه مجرور بالكسرة، والجار والمجرور في محل صفة للمبتدأ المؤخر والمحذوف، والتقدير رزقه من جميع الثمرات حال كونه في الجنة، ويلاحظ في الآية ورود ثلاثة من الجار والمجرور متعاقبة.
(واصـابه الكبر) الواو: حالية، اصاب: فعل ماض، الهاء: مفعول به، الكبر: فاعـل مرفوع، والجملة في محل نصب حال أي قد اصابه الكبر.
(وله ذرية ضعفاء) الواو: حالية، له: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ذرية: مبتدأ مؤخر، ضعفاء: صفة لذرية.
(فاصابها اعصار) الفاء: حرف عطف، اصابها: فعل ماض، الهاء: مفعول به، اعصار: فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة.
والود: الحب في موارد الخير، والأمر الحسن شرعاً وعقلاً، ومن اسمائه تعالى الودود، فعول بمعنى مفعول، من الود أي المحبة، أي ان عباده واولياءه يحبونه، ويكون بمعنى فاعل فهو يحب عباده الصالحين ويرضى عنهم.
يقال ودّ الشيء وداً وودادة ومودة أي أحبه، ويأتي بمعنى الأمنية بالنسبة للناس والخلائق لأنه تعالى منزه عن التمني، قال تعالى [ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ]( ) أي يتمنى، ومنه ان افعل كذا.
والجنة البستان، وتسمى النخيل جنة لكثرة السعف وتداخله ولما فيها من البركة وامكان زراعة الفاكهة والخضروات تحتها.
(وعن التذكرة: لا تكــون الجنـة في كلام العرب الا وفيها نخــل وعنب فان لم يكن فيها ذلك، وكانت ذات شجر فهي حديقة وليست بجنة) ( )، ولكنها أعم، قال تعالى [ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ ]( )، سُميت الجنــة جنـة لما فيهـا من الستر الناتج عن تكاثف اشجارها وتظليل اغصانها ومـنه الجنة وهي دار النعيم الخالد في الآخرة.
وتسمى الحبة الواحدة من العنب عنبة، وجمع القلة عنبات – بكسر العين وفتح النون – وجمع الكثرة عنب واعناب.
والكبر هنا التقــدم في الســن وطول العمر، يقال علاه الكبر اذا اســن، (وكبر الرجــل والدابة كــبراً ومكـبراً فهـو كبير: طعن في السن)( ).
والذرية الأبناء سواء كانوا ذكوراً او اناثاً، وذرية الرجل ولده، والجمع الذراري والذريات، قال تعالى [ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ]( ) ، مشتقة من ذر الله الخلق في الأرض أي نشرهم، وقيل اصلها من الذر بمعنى التفريق لانهم يتفرقون في الارض.
والاعصار: الريح الشديدة والتي تثير سحاباً ذات رعد وبرق، وقد يصاحبها غبار كثير اذا هبت من الارض لترتفع الى الاعلى كالعمود، وجمع الاعصار اعاصير.
في سياق الآيات
تتناول هذه الآيات موضوع الانفاق وشرائط قبوله بأنه في سبيل الله، وعظيم ثوابه اذا كان طلباً لمرضاته تعالى، وحذرت الآيات من اتباع الصدقة والانفاق بالمن والاذى، وجاءت هذه الآية بمثل كريم لبيان المنافع العظيمة التي يجلبها الانفاق في سبيله تعالى،والاضرار البالغة التي تنجم عن المن والاذى المصاحبين والمتعقبين للانفاق وانه يسبب ضياع الثواب وفقد الأجر.
إعجاز الآية
جاء الترغيب بفعل الصالحات بالمثال القريب الجامع للأمر الحسن والقبيح، كما وصفت الآية المدركات العقلية بالاشياء الحسية واثبتت المدعى الكلي والجزاء الاخروي بالمحسوس الجزئي الملموس ليكون الانفاق هدفاً وغاية مع الاقرار العام بانه وسيلة للنجاة يوم الحساب وذخيرة للنشأتين.
وفي الآية اخبار عن جواز الأمل وحب الغنى المقرون بالسلامة والامن والانتفاع من الثروة والريع والتدبر في حال الذرية والاولاد وتأمين معيشتهم، واجتناب اسباب تلف اموالهم في حال غيبته، ومغادرته الدنيا مع الامكان.
كما تبين الضرر الفادح من المن والاذى الذي يتعقب الصدقة، وانه يأتي على منافعها اللاحقة التي لا تنحصر بصاحبها بل تشمل غيره من ذريته واهله سواء بالشفاعة او بالواسطة او بترشح نفع وثواب العمل الصالح على فاعله ومن ينتسب اليه.
ومن اعجــاز الآيــة التوكيــد على انها بـيان للآيات وتقريب للمفاهيم والقواعـد الشــرعية بلغة يفهمــها ويدرك مقاصــدها السامية كل انسان عالماً كان او جاهلاً، رجلاً كان او امرأة، كبيراً او صغيراً، ومنه ان كل انسان يدرك انها مناسبة للتفكر والتدبر وسبيل للهداية والصلاح واجتناب المن والاذى عند الصدقة بل مطلقاً من باب الأولوية، بمعنى اذا كان المن والاذى ضاراً بصاحبه مع الصدقة والاحسان فمــن باب الاولويــة القطعيــة انه ضــار به مع عدم اقدامه على الصدقة.
ويمكن ان تسمى هذه الآية (الكبر والذرية الضعفاء).
الآية سلاح
تنمي الآية ملكة الرقابة الذاتية على الافعال والاقوال الشخصية تمنع اللسان من التعدي، والجوارح من ايذاء الآخرين، وتجعل الانسان يتعاهد صدقته باللطف والاحسان.
ومثلما تتضــمن الآية الحـث على الصالحات فانها تدعو الى السعي في أمـــور المعاش والكســب الحــلال واعمار الارض والاشتغال بالزراعة والاكــثار من البســاتين خصـوصاً وان منافعها لا تنحصر بالمالك وذريته بل تشمل المجتمع عامة، وتساهم في توفير الغذاء وطرد الجــوع والفــقر والفــاقة ســواء بحاجتها الى الأيدي العاملة او بكثرة الريع وعرضه في الاسواق وازدهار التجارة، او باخراج الزكاة والصدقات.
إفاضات الآية
تطــرد الآيــة عن المســلمين الحـــرج من التمني في باب الدعاء والمسألة والرغبة فيما يرجون متحدين ومنفردين، والتمني عند الانسان جزء من تفكيره ويترجــل على أقــواله وأفعاله، فهو من خصائص الممكن المحتاج الى غيره.
ومن كرمه تعالى ان المثل الإلهي لموضوع التمني وما يحبه الانسان جاء في القرآن كبيراً واسعاً يملأ النفس غبطة وسعادة ويكون قريباً وكأنه واقع، ومن افافضات الآية ان التمني فيها ليس سراباً او من عالم الرؤيا والمنام بل هو من السماء، فلابد ان له مصاديق واقعية وآثاراً عملية تترشح على قارئ الآية ومن يتدبرها ويرجو فضله تعالى وتتمثل بنعم في الدنيا وفي الآخرة.
ومن افاضات الآية الدعاء لصيانة وحفظ النعم وتعاهد الذرية بحصانة قدسية ووصاية قرآنية.
مفهوم الآية
جاءت الآية بصيغة الســؤال الانكــاري لتنزيه المجتمعات الاسلامية من الاخلاق الذميمة والاخذ بيد المحسنين الى شاطئ النجاة وسبل السلامة في الآخرة، وتدعو الآية الى السعي والعمل وعدم تفويت الفرص في الدنيـا، وكما ان الدنيـا مزرعــة الآخرة فان العــمل والكســب مزرعة الدنيا، وجعل الله عز وجل الارض كنوزاً مدخرة تستخرج بالزراعة والاعمار الذي يبعث على السعادة والطمأنينة وقرة العين، لذا تــرى الاشــجار تظهـر بهاء ورونق الدنيــا، وجاءت الآية دعوة لاتخاذها مناسبة للتذكير بالآخرة والسعي الحثيث لنيل الثواب ودخول الجنة.
وتدعو الآية لتحصين المال وحفظ الثروة واجتناب اسباب تلفها والتعرض للكساد والخســـارة المهلكة، ولعــل فيها اشارة الى أفضلية تعدد وجــوه الثروة وعدم حصــر توظيف المال في عمل او مكان او أعيان مخصوصة، فقد تتعرض الانعام للعطش والضياع، والدنانير والدراهم للسرقة وهبوط القيمة الحاد، وقد تصاب التجارة المحصورة بنوع مخصــوص الى التلــف، اما البســاتين والاشــجار فابعدها عن التلف والضــياع مع عــدم توفـر الماء او كثرة الأمطار، وكأنها مثال مصغر للجنة وما فيها من دوام النعيم كما انها نماءها وثمرها دائم متجدد.
ومع هذا فالآية تحذر من تلف البستان ليس باهماله بل بالتعدي والاذى المسبب لضياع الثروة وما ادخره الانسان، علماً بان حال الكبر والشيخوخة يضعف قدرة الانسان على العمل والتدارك ويجعله بحاجة مركبة الى المال والغذاء لشخصه ولذريته ومن يتعلق به، مما يعني لزوم الاستعداد لسن الشيخوخة والكبر بالادخار الكريم وهو مثال محسوس للتذكير بالاستعداد ليوم الحشر الاكبر بعمل الصالحات وافشاء الصدقات واجتناب المن والاذى.
والآية غاية في التخــويف من اتبــاع الصدقة بالإيذاء والتعيير والتقبيح وهي آية في التأديب لاتمام الاحسان واجراء الصدقات بأحسن حال وعدم رفعها من الارض، سواء بالمن والاذى او باعراض الفقير عن الصدقة فقد يفضل البقاء على الفقر والحاجة والجوع من الشعور بالذلة والمهانة، فهو مع فقره لا يفقد ما ترشح عليه من العز والكرامة بلحاظ الايمان والانتماء للاسلام، قال تعالى [ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ]( )، فهذا العز جاء بصفة الايمان بغض النظر عن حال الغنى او الفقر.
لذا فان المنع عن المن والاذى المتعقب للصدقة والانفاق من مصاديق العز الذي كتبه الله للمؤمنين ومنهم الفقراء، فالله عز وجل هو الذي مكن الغني من المال والثروة وحبب اليه الايمان والانفاق في سبيله تعالى، وجعل بعض عباده فقراء ليكـون الغنى والفقر مادة للابتلاء والامتحان في الدنيا فيجب ان لا يكون سبباً لاذلال المؤمن بما يتعارض مع آية العزة، وما دامت هذه العــزة ثابتة وباقيــة لهم فان الرد او ارتفاع الصدقة هو الارجح للزوال عند التعارض مع العزة والاكرام ولو بالحد الادنى منها.
وتدعــو الآية الى رعـــاية الاطفال الصغار وتأمين معيشتهم بالاسباب المادية الملموسة وبالتقوى والصلاح وعدم الاضرار بالآخرين، وفي الآية اشارة الى رجوع عواقب ايذاء الآخرين على ابناء المتعدي نفسه ورؤيتها قبل مغادرته الدنيا، وهناك شواهد كثيرة على حصول القصاص العفوي غير المقصود ولكنه ظاهر للعيان بلحاظ استحضار الوقائع والحوادث.
ومن مفاهيم الآية انها تدعو الى أخذ الحائطة للدين والدنيا، ومن الأول الانفاق بقصد القربة والاحتراز من اقترانه بالمن والاذى، ومن الثاني أي الحائطة للدنيا تحصين الأموال واجتناب اسباب التلف والضياع.
وتدل الآية على لزوم التدبــر بحال الشـيخوخة والاستعداد المادي لها وتوقع أسوء الاحتمالات في موارد الكسب لتهيئة مستلزمات المعيشة عند الكبر، كما انها تحد من الاتكال على الاولاد وقيامهم بنفقات المعيشة فقد يكونوا ضعفاء وقد يتعذر عليهم العمل وقد يهلكون في الحروب والمعارك او تفتك بهم الامراض او ينشغلون بازواجهم واولادهم.
ومن مفاهيم الآية تعدد موارد الرزق وتوزيع الاموال في وجوه الاستثمار وعدم حصرها بسبب او مكان واحد دون غيره، ومن مفاهيم الآية ان من ينفق في سبيله تعالى يرى الخير والنفع في كبره وعند شيخوخته بصرف البلاء عنه وعن عياله ويقيض له الله اسباباً حفظ رزقه وعيشه حياة كريمة.
التفسير
قوله تعالى [أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ]
الود المحبة يُقال وددت الرجل من باب تعب اذا أحببته، ويأتي الود بمعنى التمني يٌقال وددت لو أنك تفعل كذا أي تمنيت، وهذا المعنى هو الأقرب في المثال خصوصاً وان أكثرية الناس في أغلب الأزمنة يتعذر عليها امتلاك جنة او بستان ولكن التمني باب واسع يطرأ على بال كل انسان، لذا ورد جواز الغبطة وهي ان يتمنى الانسان ما عند غيره من النعم من دون تمني زوالها عن صاحبها.
ومع مجيء الخطاب وموضوع الانفاق في الآيات بصيغة الجمع فان الود والتمني جاء على نحو القضية الشخصية في آية اعجازية تظهر استقلال الشــخص بالتمــني وعــدم اطــلاع الآخــرين على ما في قلبه وما يتمناه من أمور غير واقعية او مفتقرة الى اسبابها ولم تجتمع شـــرائطها، ولكن هذا لا يمنـــع من صـدق عنوان الود والتمني عليها، ان امتـلاك بســتان وحائط يحتـوي على نخيل واشجار مثمرة، ويصل اليه الماء الذي هو عنوان دوام الثروة وبقاء البستان والاشجار مثمرة.
ومن الاعجاز القرآني ان يأتي ذكر لأمنية تطرأ على بال كل انسان رجلاً كان او امرأة وتأخذ حيزاً من تفكيره ويسيح عقله في حلم تحقيقها وامكانها، ليكون موضوع الآية قريباً من الأذهان ويدرك مضامينه العالم والجاهل، والكبير والصغير، والذكر والانثى وبغض النظر عن الزمان والمكان خصوصاً وان هذه الأمنية تراود ساكن المدينة والقرية في الشرق او الغرب، في الارض الصالحة للزراعة او في البيداء والقاحلة، لأن الأمنية لا تقف عند حدود الامكان.
وورود هــذه الأمنية في هذه الآيـــة شـــاهد على نزول القرآن من عنده تعالى، فلقد اعتاد الناس تداول الأمثال السائدة والتي لا تمتلك الامتنــاع عن الاشـــكال عليها طـــرداً وعكساً، اما هذا المثل وكذا الامثال القرآنية فقد جاءت بكراً وجامعة مانعة، ولا يقف المثل القرآني عند حــدود المثل الذي يرد عرفاً للاعتبار والاتعاظ بل هو مدرسة تســتنبط منها الـدروس والحكم والمواعــظ، فما هي تلك الدروس في هذا المثل:
الأول : الدلالة الضمنية على الاذن والجواز في تمني الحلال والخير وان كان خارج حدود الاستطاعة.
الثاني : ان الله عز وجل قادر على ان يرزق العبد هذه النعمة وهي الجنة والبستان وفيه النخيل والثمار وان كان فقيراً حال التمني.
الثالث : فيه بشارة على حصول الغنى والثروة عند المسلم، وفي الآية اخبار عن تحسن الاحوال المعاشية والاقتصادية في المجتمعات الاسلامية وازدهار احوال التجارة وارتقاء اساليب الزراعة.
الرابع : جاءت الآية على نحو القضية الشخصية والتمني الفردي بقرينة لام الملك في [ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ].
الخامس : تحث الآية على الدعاء وهو سلاح الأنبياء ومن أفضل الوسائل لنيل الأماني وبلوغ الغاية والأمل وتذليل الصعاب واجتياز العقبات وحل عقد الشدائد.
السادس : يمكن حمل الاستفهام في الآية [ أَيَوَدُّ ] على الاستفهام التقريري وان الله عز وجل يسأل المسلمين أيريد أحدكم ان تكون له جنة فليعمل صــالحاً ولينفق في ســبيله تعالى فان الله عز وجل يرزقه بغير حســاب، وان أنعــم الله عــز وجل عليه بالجنة والرزق الكريم فليتعاهده بالانفــاق واجتناب المن والاذى أي ينظر الى الآية على نحو التفـكيك بين أولها وأوسطها، وهو ممكن عقلاً وواقعاً وحكماً، فيكون عند الانسان بستان ولكنه يحترز من الاعصار وتأثيره على البسـتان وما فيه من النخيل والاشجار، وهذا الاحــتراز يكــون بالدعاء والعـمل الصالح والانفاق في سبيله تعالى.
السابع : ذكرت في الآية النخيل والاعناب على نحو الخصوص باعتبار انهما أهم الاشجار ومن أكثرها ثمراً بالاضافة الى اتصاف النخيل بطول العمر والاكتفاء بالماء القليل وامتداد الجذور في الارض، كما ان العنب يزرع في أغلب مناطق العالم، والنخلة والعنبة شجرتان معروفتان عند جميع الناس ومن لم تزرع في ارضه وبلاده النخلة فانه يكون اكثر شوقاً للحصول عليها.
الثامن : الاقوى ان الآية تتضمن الاشارة الى امكان زراعة النخيل في مناطق مختلفة من العالم، وانها دعوة لا يجاد الاسباب والمستلزمات لزراعة كل الاشجار في مختلف البلدان والاماكن بغض النظر عن البيئة والمناخ، وجعل النخيل والاشجار مؤهلة للنمو مع تباين المناخ والطقس باجراء تغييرات مختبرية عليها واصلاح فسائلها وبراعمها وبذورها، ونشر زراعتها بواسطة الاستنساخ النباتي ونحوه، لاسيما وان الخطاب في الآية موجه لعموم المسلمين، وهم منتشــرون في اقطــار الارض المختلفة، ويمكن ان تتحقق تلك الأمنية بالتملك في البلاد التي تزرع فيها وان كان صاحبها في بلاد اخرى نائية لا تصلح للزراعة لسرعة النقل والاتصال وانظمة التجارة العالمية.
التاسع : الآية دعوة للمســلمين لاستثمار العلم واتخاذه وسيلة للثروة وتحسين الزراعة واعمار الارض ليكونوا سادة الارض والوارثين لها وليتمكنوا من الانفاق والعـطاء في سبيله تعالى، وتحث الآية على حفــظ الجنـات والمزروعات ووقايتها وتعاهدها بالانفاق اليســير وبعـرض واحد مع العناية بها وتوسعتها وتحسينها، واعــتمــاد الاســباب الماديــة والفـعــليــة والعــرفيــة لزيــادة نمــائهــا.
لقد ورد ذكر (العنب) بصيغة الجمع في القرآن احدى عشرة مرة، مرتين بلفظ (عنب) وتسع بلفظ (اعناب) لافادة الكثرة والزيادة والتعدد، وجاءت واحدة وصفاً للجنة والنعيم في الآخرة [ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا]( ).
وذكر النخيل والاعناب لا يفيد الحصر والتقييد بهما بل هو عنوان الجنة والبستان وكثرة الشجر، فالمثال يشمل الاشجار الاخرى والبلدان التي لا يزرع فيها النخيل، مع السعة في التمني بان يشتهي الانسان بستاناً من نخيل وعنب او يستاناً وجنة من الاشجار الموجودة والمتعارفة في بلاده ومع هذا فان ذكر النخيل والاعناب له دلالات خاصة ويفيد التفضيل والأهمية لهما شجراً وثمراً ولما يتصفان به من الجمال والحسن والتكامل وهما معاً عون على زراعة الخضروات تحت ظلالهما واعمار البستان وكثرة الريع.
وعن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب يوماً لاصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيمن ترون هذه الآية نزلت: [ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ]؟ قــالــوا: الله أعلــم، فغـضــب عمر، فقال: قولوا: نعلم او لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء، فقال يابن أخي، قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضُربت مــثلاً لعمــل، فقال عمـــر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لرجل يعمل بطاعـــة الله، ثم بـعث له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى اغرق أعماله( ).
وفي عائدية الضمير (الكاف) في [ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ] وجوه :
الأول : انه يعود للمسلمين جميعاً.
الثاني : لأهل الثروة والغنى والقادرين على الانفاق من المسلمين.
الثالث : للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله تعالى، لان القدرة على الانفاق أعم من القيام به والتصدي له.
الرابع : يعود للناس جميعاً باعتبار ان الآية وما فيها من المثل حجة عليهم جميعاً.
والاقوى انها للمسلمين جميعاً الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لذا جاء افتتاح الآية التالية بقوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ].
قوله تعالى [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]
الضمير (الهاء) يعود الى الجنة، وجريان الانهار من بين الاشجار وتحت السعف والاغصان غاية في الحسن والوصف الجميل، يتمنى الانسان ان يراها ويجلس فيها يتمتع لساعات بمنظرها وبديع خلقها، فكيف والمثل جاء بتملك هذه الجنة ملكاً طلقاً لا يشارك صاحبها فيها أحد.
قد لا يفكر الانسان بمجرد تمني هذه الجنة لعلمه باستحالة الحصول عليها وتوفر اسبابها ولكنه سبحانه قادر على ان يجعل تلك الأمنية حقيقة واقعية، ولم ترد الآية بصيغة المفرد وانه يجري تحتها نهر واحد وان كان المفرد نعمة عظيمة بل وردت بصيغة الجمع وتعدد الانهار مما يعني كبر تلك الجنة وكثرة الاشجار فيها وسعة مساحتها واهليتها للزراعة والاستثمار.
وقوله تعالى [ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ] جاء وصفاً لدار النعيم في نحو ستة وثلاثين موضعاً من القرآن مع تغيير بسيط في لفظ بعضها مثل قوله تعالى [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ]( )، ووردت بخصوص الدنيا أربع مرات وهي على وجوه :
الأولى : التمني كما في هذه الآية محل البحث.
الثانية : ما هــو استدراج لبعض الأمــم السالفة من الكفار، قال تعالى [ وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ]( ).
الثالثة : بيان قدرته تعالى في التفضل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وامكان الرد العملي لتسائل الكفار واظهار النعم عليه برزقـه جنة وبستان، قال تعالى [ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ]( )، ويلاحظ ان مشيئته تعالى في رزق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا أكثر من أمنية عامة المسلمين بأن يجعل لهم قصوراً الى جانب الجنة التي تجري من تحتها الانهار، مع ان الأمنية أوسع أفقاً اذ يسبح الفكر في عالم الخيال.
الرابعة : بيان لحالة الطغيان والعتو وتوظيف النعم الإلهية لمفاهيم الجحود ومحاربة النبوة والإعراض عن الرسالة، قال تعالى [ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ] ( ).
فالأمنية التي يتمناهاالمسلم موجودة حقيقة عند بعض الناس ممن استغلها للكفر والجحود ولم يرع حرمة النعم ووجوب شكر المنعم، وهي مدخرة للمؤمنين حصراً في الآخرة، وهي معروضة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن خلاله لأفراد الأمة الاسلامية، وهو نوع ابتلاء وامتحان، وقد ادخر الله تلك النعم للمؤمنين في الآخرة.
وقالوا ان جريان الانهار في الآية من باب المجاز العقلي باسناد الجريان الى المكان والوعاء الارضي وهو النهر مع ان الجريان يحصل للماء دون النهر، ولكن الذي نذهب اليه فيما يخص انهار الجنة أعم من المعنى الدنيوي لمفاهيم الالفاظ، خصوصاً وان الاصل في الكلام هو الحقيقة ولا يصرف الى المجاز الا مع القرينة الصارفة.
وفي التخاطب في اطوال انهار الدنيا يعتبر استعمال لفظ الجريان في الانهــار من المجاز، ولكن الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز بالاضافة الى النواميس الخاصة بالنشاة الاخرى، والمراد منه في عالم الآخرة وجوه:
الأولى : الحقيقة.
الثانية : المجاز.
الثالثة : الجامع لهما.
الرابعة : البرزخ بينهما.
فقد تكــون انهار الجنــة ذاتها متحــركة متنقلـة كما بيناه في تفسير الآية الخامســة والعشرين( )، كما يكون المعنى المجازي وان المراد هو جريان الماء في انهار الجنة والجامع لهما، وايضاً البرزخ كما لو امتدت وتفرعت بعض الانهار ووصلت الى جنة اخرى او أماكن اخرى من الجنة.
أما في الآية محل البحث فالأمر ينحصر بالمعنى المجازي باسناد الجريان الى الانهار مع انه يتعلق بالماء ولصدق عنوان النهر على الماء المحصور في جريانه في أخاديد، وجاء الوصف بالتعدد فليس الذي يجري نهراً واحداً مع انه نعمة وفضل عظيم ولكن الأمنية تمتد وتتسع لعدة انهار، مما يعني كثرة النخيل والاعناب والاشجار.
ولابد ان الانهار جزء من الجنة ومتممة لها ومع هذا ذكرت الآية بانها تجري من تحتها لارادة النخيل والاشجار، اما حمل الكلام على حصر مفهوم الجنة بالنخيل والاشجار فبعيد لأن التمني يتعلق بملكية الارض مع النخيل والاشجار.
قوله تعالى [َلهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ]
حصة اضافية في الأمنية ومتممة للرغبات الجميلة التي تراود فكر الانسان، فالجنة من النخيل والاعناب قد لا تثمر ولكن الأمنية أعم من الثمر والعنب، فيود الانسان ان يحصل على كل الثمرات مما يعني ان اشجار الجنة لا تنحصر بالنخيل والعنب بل تشمل الاشجار المختلفة ويقتطف منها مختلف الثمار بحسب رغبته في الأكل والتجارة والبيع، والثمرات أخص من الجنة.
وفيه اخبار عن تحقق أكمل الأماني في هذا المضمار وبيان لمفهوم المثل القرآني ومجيئه وافياً تاماً جامعاً لمستلزمات المثل ومنه باب التمني وما فيه من السعة والخيال، فلذا اخبرت الآية عن وجود كل الثمرات في البستان وهذا المجموع اما ان يشمل جميع الثمرات التي تخطر على باله او بالواقع والمتعارف في بلده او الموضوع الذي يتصوره، والاقوى هو الثاني.
وذكرت الآية العائدية [ لَهُ فِيهَا] أي للمسلم صاحب الأمنية لتوكيد تمام الملكية الشخصية وحقه في التصرف المطلق بها وعدم مشاركة غيره له فيه، ولكن هذا لا يمنع من تعلق الزكاة بالريع والثمر لشمولها بالعمومات، ولأن الحق الشرعي يترشح عن الملكية وعند حصول النصاب.
ان كثرة وتنــوع الثمار يبعــث على الغبطة والسعادة ويجعل الانسان في حال اســتغناء عن الحاجــة الى الآخــرين، ويفتــح أمامه آفاقاً رحبة من الأماني والآمــال، وتجــعل الآيـة التمــني انحـــلالياً وانشـــطارياً ويتفرع الى أمــاني اخـــرى متعـددة، فتعدد الثمار يعني كثرة الريع وزيــادة النفــع كما يضــفي بهاء على حسن الجنة وجمال منظر الاشجار.
قوله تعالى [وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ]
انتقال كريم من التمني والسياحة الذهنية في عالم الرزق والخيرات والتفكر بالتنعم بالمال والريع الوفير الى تصور حالة حتمية الوقوع، وهي بلوغ الشيخوخة والعجز عن الاكتساب والسعي في طلب الرزق، فينحصر رزقه في تلك الجنة او انه يكون بأمس الحاجة الى ما يرد منها من الثمار والريع وهي احتياطي كريم لأيام الشيخوخة وحاجاتها المتعددة وعجز الانسان عندها عن توفير مستلزمات ليله ونهاره وتأمين مصالحه وخدماته الشخصية.
فكيف اذا كان له اولاد وابناء صغار ذكوراً وإناثاُ يحتاجون نفقات اضـافية مضاعفة لتيسير أمور حياتهم اليومية ويحتاجون الى الأموال للزاد واللباس والمسكن، فيتضاعف عليه الهم الى جانب النفقة وينشغل بســد حاجــاتهــم أكثر مما ينشــغل بحاجاته، فيكثر اعتماده على تلك الجنة وما يــرد منها وينتظــر أوان اقتطـاف الثمر ليجعله في حاجات ابنائه، ويزداد تعلقـه وحبه لتلك الجنة لأنها مورد عز وستر له، ويرى فيها الأمل ودوام السؤدد خصوصاً وان ابناءه لا يقوون على العمل والكسب.
وجاء وصفهم بأنهم [ ضُعَفَاءُ] ولم تقل الآية انهم (صغار)، لأن الضعف أعم فالصغير يكبر وقد يعمل ويسعى ويكفي نفسه المؤونة وقد يسدحاجة غيره، ويكون له وصي وقائم بأمره وحفظ مصالحه، أما الضعيف فهو أعم من الصغير فقد يبلغ الانسان الرشد ولكنه يبقى ضعيفاً عاجزاً عن العمل والكسب.
فجاءت الآية بالمعنى الأعم الذي يدل على العجز عن الكسب واستدامة الحاجة الأسرية للجنة والبستان، فيحصل نوع ملازمة بين الريع الوارد من البستان وبين استمرار اسباب المعيشة الكريمة له ولاولاده وأسرته.
وعلى فرض عطف [ َأَصَابَهُ ] على [ أ َيَوَدُّ ُ] فكيف يعطف الماضي على المضارع، يحمل العطف على المعنى أي (أيود أحدكم اذا صارت له جنة وأصابه الكبر)، ولكن الأمــر لا ينحصر بالمفهوم اللغوي ولابد له من دلالات عقائدية منها ان رحاب التمني واسع ولا ينحصر بزمان مخصوص وهو يتغشى أفراد الزمان المختلفة في الماضي والحاضر والمستقبل.
فربما يغيب عن الانسان مثل هذا التصور والتملك الذهني فتأتي الآية لتذكره وتجعله يتصور هذه الأمنية لايصال الحقائق العقائدية له بصيغة المثال وتقريب المفاهيم العقلية بالمحسوس، وليكون للخيال نفع ووجه حسن بتوظيفه في الصلاح والهداية.
وقد لا يتصور الانسان تملك البستان او انه يفكر ويتمنى امتلاك غيره بحسب واقعه وبيئته وظنه في مواطن الربح وتحقيق الرغائب واشباع الشهوة، كما لو كان يتمنى امتلاك عمارة او طائرة او تجارة او زراعة الحبوب او معدات صناعية ومعامل لانتاج مختلف الحاجات واللوازم، فالجنة والبستان جاءت من باب المثال للأمنية والحلم الذي يتصور الانسان اشباع رغائبه وتحقيق بغيته فيه.
وكما يتعرض البستان للاعصار فان التجارة تتعرض للكساد والمصنع يتعرض للحريق والتلف والزراعة تتعرض للفيضان والحريق، ومع السعة في عالم التمني وملازمته للانسان في مراحل حياته المختلفة واحتمال عدم تحقق الأماني في الواقع ونسيان أكثرها وغيابها حتى عن الوهم والخيال، فان الله عز وجل يعلم أفراد تلك الأماني لأنه سبحانه يعلم السر وأخفى.
أما بالنسبة للاصابة بالكبر فهو أمر حتمي يصل اليه كل انسان يبلغ سن الشيخوخة ويعمر طويلاً، وهذا من وجوه التباين بين ورود التمني والود بصيغة المضارع ومجيء الاصابة بالكبر بصيغة الماضي، فالآية تذكير بأيام الشيخوخة ولزوم الاستعداد بالاسباب الواقعية ومقومات الحياة والمعيشة اللائقة وليس بالتمني.
وتكون الذرية في حال كبر وشيخوخة الأب على وجهين:
الوجه الأول: يباشرون العمل والتجارة والكسب وهؤلاء على قسمين:
الأولى : الذين يقومون بسد حاجات ونفقات الأب والأم.
الثانية : الذين لا يقومون بسد حاجات الأب والأم او أحدهما قصوراً او تقصيراً او عقوقاً عن عذر وأسباب اخرى خارجة عن ارادتهم، وهؤلاء ايضاً عل قسمين:
الأول: الذين يعجزون عن توفير الزائد من المؤونة لغيرهم لأن مواردهم لا تكفي الا لسد حاجاتهم، وهم على شعبتين ايضاً:
الأولى: المسرفون الذين تكثر النفقات الاضافية عندهم.
الثانية: الذين لا يردهم الا مقدار الكفاف والحاجة وسد الضروريات للنفس او للنفس والزوجة، لأن الانفاق على الزوجة مقدم على الانفاق على الوالدين.
الثاني: الذين لا يردهم ما يكفي لحاجاتهم الشخصية ويحتاجون الإعانة، وســتأتي الآية التي تشــير الى صنف من الفقراء احصروا في ســبيل الله ولا يســتطيعون الكسب والعمل والضرب في الارض.
الوجه الثاني: الذين لا يباشرون العمل والكسب وهؤلاء ايضاً على أقسام:
الأول : الاطفال الصغار الذين يتطلعون الى الأب لكسب لقمة العيش ولتوفير حاجاتهم واشباع رغباتهم، وكفايتهم في أمنياتهم القريبة والمحدودة.
الثاني : الذين يعجزون عن العثور على فرص العمل ولا يجدون ما يســدون به رمقهم ويمسكون به قوتهم من البالغين المؤهلين للعمل.
الثالث : الضــعفاء والعاجــزون والبنات من الذين لا قدرة لهم على العمل والكسب ويعتمدون على غيرهم لإعاشتهم والانفاق عليهم.
الرابع : الزوجة فمن الاحكام التكليفية في الزواج وجوب النفقة على الزوجة.
ومن هذا التقسيم يظهر لنا ان اعتماد الذرية على الأب أكثر من اعتمادهم على أنفسهم في الجملة وبلحاظ سني الطفولة والصغر التي يمر بها كل ولد ذكراً كان او انثى.
وتبين الآية أشد وأكثر حالات الاعتماد على مورد المعيشة الثابت والمستديم للأسرة، فالأب في سن الشيخوخة والاولاد الضعفاء لا قدرة لهم على العمل واعمار بستان جديد او السعي في الكسب والتجارة، فتشرأب اعناقهم الى ما يردهم من البستان وريعه وثمره لسد حاجتهم من الأكل والشرب والمال، لتكون هذه الجنة ذخيرة وكنزاً مدخراً لأيام الشدة بالاضافة الى ان وجودها مناسبة كريمة للانفاق في سبيله تعالى واخراج الزكاة وإعانة الفقراء، فقد يتمنى الانسان البستان الحاوي على جميع الثمرات للتقرب الى الله ومساعدة المحتاجين وتغطية نفقاته وستر حاله وحفظ كرامته.
وفي الآية اشارة الى استثمار أيام الشباب لتأمين حاجات الكبر والشيخوخة وبذل الوسع لترجمة الأماني الى واقع ملموس وحقيقة عملية مترجلة في الخارج بالسعي والكسب والجهد المتواصل، وكم من شخص أخبر عن أمنيته فقابله الآخرون بالاستخفاف والاستهزاء لانعدام توفر مستلزماتها واسبابها الظاهرية، ولكنه واصل سعيه بهمة ونشاط وانتفع من باب الدعاء والتزم باداء الفرائض فكانت عوناً له واستطاع تحقيق أمنيته والله واسع كريم.
ان ذكر الذرية في موضــوع الانفاق له دلالات عقائدية فمجرد ذكرهم يذكر الانسان بلزوم تأمين حياتهم وتوفير الطيبات لهم واعطاء الأولوية لحاجاتهم خصوصاً وان النصوص وردت بالحث على الانفاق على العيال وانه صدقة، ومع هذا جاءت الآيات التي تدعو للانفاق بذكرهم وضــرب المثل بهــم وبأســوء الاحوال التي قد يتعرضون لها، مما يــستلزم وضــع الضــمانات وشـراء ما يجعلــهم لا يحتاجون الآخرين لا أقل في سن الصبا وقبل البلوغ، بينما تدعو الآيات الى الانفاق من الطيب والجيد.
وقد ورد في الحديث: ( الولد مبخلة مجبنة مجهلة).
وفيه ايضاً في مخاطبة الاولاد: (انكم لتُجهِّلون وتُبخلون وتُجبنون – بضم التاء- أي تحملون الآباء على الجهل والبخل وعدم النظر بعين البصيرة.
قوله تعالى [فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ]
بعد التمني والاحلام الواسعة والسياحة في عالم الأماني وتشييد هيكل الرغبات، يأتي التلف والدمار والخراب الذي يحيط بمصدر المعيشة ومبتنى الآمال ومحط الرغائب وسبب سد الحاجات الشخصية والعائلية وما فيه ستر الحال وكفاية المؤونة ليواجه الانسان المعاناة اليومية المركبة والمتراكمة فلم يكن بنفسه ولم تنحصر حاجاته بالشخصية بل به وبعياله ومستلزمات علاجه وصحته وخدمته.
وهذا الاعصار يأتي مفاجئاً قهرياً من غير علة ولا يصلح معه الاحتراز والحيطة والحذر، ويطرأ في زمان يعجز فيه الانسان عن الكسب والاكتساب واعادة تنظيف وتسوية الارض وجلب الفسائل وزراعة الاشجار وخدمتها وسقيها، والانتظار عدة سنوات لجني الثمار مع انعدام الضمان من تجدد الاعصار ومجيئه على الاشجار قبل ان تكون مثمرة.
ومن الاعجــاز ان تجتمــع الأمنية مـع المصيبة في الوجود الذهني، لأن الأمنية عنـــوان الســعادة وتملأ النفس فرحـاً وغبطة وتجعل الانسان يجتنب التفكير بالســوء والمصــيبة، ولكن الآية الكريمة تجعله يتجه قهراً نحو ضـــياع الأمنية وهــدم العريش وزوال الجنة والثمار ولكن بعد ان امتلأت نفسه بأحلامها وجال فكره بين اشجارها، وكأنه جلس على ضفاف انهارها وأكل ووهب وباع من ثمارها وتعرض لعين الحسد والعـداوة، فيــأتي الاعصــار الوهمــي ليرجــع الانسان الى رشده ويدعـــوه الى ربــه ويبــين له وظــائفه الشــرعيــة ويضــع حداً لعالم الخيال والآمــال القريبة والبعيـدة ويجعـله وجهاً لوجه أمام الحقيقة، وواقع قدراتــه وامكاناتــه والمعوقــات التي تحــول دون تملكــه للبســتان وغيره.
ولم يرد (الاعصار) في القرآن الا في هذه الآية سواء بلغة المفرد او بلغة الجمع، وهو من لطفه تعالى في لغة القرآن ورحمة بالناس خصوصاً وانه جاء هنا على نحو المثال ومتعقباً للأمنية ومتخلفاً عنها حدوثاً وموضوعاً، وهذا التخلف مناسبة للدعاء وصرف الأذى عندما يرزق الله تعالى المسلم جنة وبستاناً كبيراً وفيه اشجارمثمرة.
ومع كثرة وشدة الاضرار الناجمة عن الاعصار والعاصفة والريح الشديدة التي تقلع بعض الاشجار فان هذا الاعصار جاءت معه نار تحرق الأخضر واليابس سواء كانت جزء منه او انها حصلت بسببه ونتيجة له.
وهناك شواهد كثيرة تدل على صدق المثل القرآني، وهو مناسبة للتفكر في قدرة الله تعالى ودرس في الرضا بقسمه وقبول هباته، وذكر الجنة في المثل لم يأت اتفاقاً او صدفة بل هو تذكير بالجنة والنعيم الخالد في الآخرة، فمن تمنى الجنة في الدنيا قد لا يحصل عليها لانها أكبر من قدراته وامكانياته، وان حصل عليها واستطاع تملكها بالكسب والمشقة فقد يأتي لها اعصار وما يعرضها للتلف والهلاك، فالانسان يحتاج اسباب الحفظ المادية والغيبية ابتداءً واستدامة.
أما من تمنى الجنة في الآخرة فانها قريبة المنال ولا يأتي عليها سبب للدمار بل هي دائمة باقية، وليس بين العبد وبينها الا الايمان واداء الفرائض وعمل الصالحات، وهذا الاستنباط من اعجاز القرآن بمعنى ان المثل القرآني له غايات اخلاقية وتأديبية وتعليمية تفوق موضوعه وحكمه مما يستلزم الارتقاء في سلم التحقيق لبلوغ شطر من هذه الغايات السامية والمقاصد الرفيعة.
فهذا المثل يخاطب الســمع والبصر، والقوة الوهمية التي تدرك المعاني الجزئية الخاصة بالصور المحسوسة كالميل النفسي والصداقة، وعالم الخيال الذي لا يتــوقــف موضــوعه على وجــوده في الخارج، وبذا يكون المثل القـــرآني حـافزاً ووســيلة مباركة لاصلاح النفس وتخلصها من أحـــلام اليقظة وتوجهها نحـــو النفع والكمال واتخاذ الاسباب الواقعيـــة أســـاساً للتفكير والتخـطيط للمستقبل وبذل الجهد لتوفير وتهيــئة المقـــدمات اللازمــة لتحقيـق المنى والغايات، والالتجاء الى الباري عز وجــل في تحقيق الأمنيات وهو سبحانه لا تستعصي عليه مسألة فيجعلها ممكنة مع انها بعيدة المنال ويتعذر تحققها بالاسباب المتوفرة.
لقد جاء المثل بـ[إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ] لتوكيد تعرض افراد الأمنية الى التلف، ولزوم عدم الانشغال بتلك الأمنية بل الانتقال الى تدارك ما بعدها، ولم تأت الآية بما يمكن معالجته واصلاحه ولو على نحو نظري وخيالي، فلم تقل (ان الثمر تعطل سنة) او (ان ماء الانهار قد نقص) بل جاءت بما يفيد تلاشي تلك الأمنية وتعرضها للاعصار والنار اللذين لهما وجود ذهني ايضاً، وهما جزء من التصور ولفراغ البال للواقع ومواجهة الحقيقة والتدبر بأمور الدنيا والآخرة.
قوله تعالى [فَاحْتَرَقَتْ]
أي ان الجنة التي ودّ الانسان تملكها والعيش بسببها في بحبوحة من العيش الكريم ومواجهة مشاق الحياة، وأمله في تأمين حياته وحياة ابنائه في الكبر والشيخوخة، وترك إرث كريم وأموال للاولاد لاعانتهم على تقلبات الزمان والحاجات المتعارفة من الأكل والشرب الطارئة، فان النار جاءت على أمانيه وموضوعها فأحرقتها وان كانت بالأصل غير موجودة ولا تتعدى الخيال والوهم والتمني.
ولكن المثل جاء لوصف حال الغم والحزن التي تصيب الانسان عند فقد المال وتعرضه للتلف القهري الغالب واليأس من إعانة الآخرين، لأن الاعصار المقترن بالنار يكون غالباً عاماً وشاملاً فتنقطع سبل المدد والمساعدة من خارج الاسرة، وهي مقطوعة اصلاً من داخل الاسرة لضعف العيال عن القيام بتغطية نفقاتهم، فيبقى مشغولاً بنفقة عياله واولاده ويتعذر عليه تلبية حاجاتهم خصوصاً وانهم اعتادوا على حال لائقة بشأنهم.
وهل يمكن القول بان الحريق والتلف جاء على الاشجار والنخيل وان الارض والانهار باقية على حالها وهي ذات ثمن وتعتبر ثروة مستقلة ومادة لاحياء الارض وارجاع اعمار الجنة.
الجواب: لا، لأن المثل جاء للاعتبار والاتعاظ، وان احتراق النخيل والاشجار يجعل الانسان في فقر وعوز، ومع هذا يمكن اتخاذ هذه المسألة كجزء من المثل القرآني مادة للاحتجاج بعدم ابطال الصدقة من رأس مع المن والاذى، وان الذي يتعرض للزوال والمحو هو نماء الثواب وشطر منه مع الحاجة الشديدة له وعدم الاستغناء عنه، وفعلاً ترى العبد يوم القيامة يحتاج أدنى عمل من الصالحات لما يرى من عظيم نفعه في موازين الاعمال.
فالمتبادر من قوله تعالى [ فَاحْتَرَقَتْ ] مجيء الاعصار على جميع ما يوده الانسان وما حلم به، ولكن التأمل والتدبر يفتح آفاقاً ويظهر كنوزاً من اسرار المثل القرآني.
وقد يُقال باحتمال ان المثل ورد بخصوص النخيل والاشجار وان الارض والانهار ليست ملكاً للشخص، في اخبار عن نوع قوانين تحصل في استثمار الارض كما لو كانت الارض اجارة ومن مستلزمات الاجارة قيام الدولة او المؤسسة بإجراء الانهار، وان تلك الانهار ليست بالضرورة كبيرة ومتسعة بل تكفي لجريان الماء الذي يسقي الاشجار والمزروعات، فيصدق عليها مسمى الانهار ولو كانت عبارة عن أنابيب مكشوفة يجري فيها الماء بانتظام.
وهذا أمر ممكن الا ان المثل أعم منه بلحاظ مفاهيم الملكية واستثمار الارض وعمومات قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “الارض لمن أحياها”، ومع هذا يمكن استقراء قاعدة في المقام وهي: ان المن والاذى يأتي على الصدقة والنفقة فيمنع من نمائها كما تأتي النار على الجنة فتحرق نخيلها واشجارها وما زرع فيها ويبقى لصاحبها اصل النفقة كما يبقى من الجنة أرضها وانهارها وهو الأمر الغالب في باب الانفاق وتعرضه للمن والاذى الصادر من صاحبه.
وقد يأتي المن والاذى على الصدقة من الاصل سواء لموضوعها او لجكمها، ومن الأول مجيء الصدقة والنفقة رياءً وتفاخراً بين الناس، ومن الثاني شدة الاذى وتواليه وجلبه للضرر على المنفق عليه وبما لا يحتمل.
ان الانسان يوم القيامة يحتاج عمله ويتبرأ منه أقرب الناس اليه، قال تعالى [ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ]( ) وليس له الا عمله ويومئذ يزهر العمل الصالح ويكون بأبهى صورة، تسكن اليه النفس وتسعد بكثرته ولا يأتيه سبب التلف الا مما اقترفه الشخص نفسه من السيئات والذنوب وظلمه للآخرين.
ومن اسباب نقص ثواب الانفاق المن والاذى، فجاءت الآية لتعاهد الصدقة والمحافظة على ثوابها، وتعليم المسلمين اسباب الانتفاع من الصالحات في الدار التي فيها حساب بلا عمل، فهي من اللطف الإلهي في تقريب العبد الى الطاعة وابعاده عن المعصية او معرفته لها، وعدم تركه ينغمس فيها.
ومن مضامين الآية التحذير من المعصية والفساد في الارض وما يأتي على الحسنات فيأكلها، وما فيها من المثل دعوة لاتيان الطاعات وعدم التفريط بالواجبات العبادية، والاستعداد للآخرة وأهوال الحساب وفقدان الناصر والمعين.
وتحذر الآية من الحسرة مطلقاً في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبالاحتراز في جمع الاموال من الحلال مع الاجتهاد في توظيفها بما فيه الربح الوفير والمال الجزيل، مع توقع الويلات والتعرض للمصائب واجتناب ضــررهــا قــدر الامكان ولــو على نحو الموجبة الجزئية، وقد ذكـــر ان الزبير بن العـــوام حينما كثــرت أمواله بسبب الفتوحات استشار بعض اصحابه في كيفية استثمارها فأشاروا عليه بشراء العقارات ففعل.

قوله تعالى [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ]
ان هذا التشبيه وضرب الامثال مناسبة كريمة لبيان الآيات وكيفية التصرف والهداية الى سبل الرشاد، واجتناب طرق الضلالة وما فيها من تضييع لثواب الصالحات، وتعطي الآية موضوعية للمثل القرآني باعتباره مادة للبيان ووسيلة للاعلام، والاخبار عن الآيات الإلهية وموضوعاً للتشبيه، وهو يحتمل في المقام وجوهاً:
الأول : اختصاص التشبيه بهذه الآية وما فيها من المثل.
الثاني : تعلقه بالانفاق في سبيله تعالى واضرار اتباعه بالمن والاذى.
الثالث : شموله لقصة الذي مرّ على القرية الخاوية على عروشها، وقصة ابراهيم وسؤاله إحياء الموتى.
الرابع : جميع آيات سورة البقرة التي تقدمت.
الاقوى هو الوجه الثاني وان الآية بيان لقواعد الانفاق في سبيله تعالى وكيفية عدم ابطال الصدقات، واتخاذ الاستغفار والعفو صيغة لمقابلة الاســاءة، وقد تقدم في الآية التاسعة عشر بعد المائتين قوله تعالى [ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ ]( ).
والآية مــن مصاديق فضله تعالى على المسلمين وقواعد اللطف الإلهي في تقريب المفاهيم الكلية بأمثلة حسية قريبة الى الاذهان على اختلاف المستويات والمدارك لتكون الحجة على الناس بالغة، ولإعانة المسلمين الى سبل الرشاد خصوصاً وان منافع اجتناب المن والاذى لا تنحصر بصاحبها او بعالم الآخرة وحده مع انه الأهم في المراعاة والملاحظة عند الفعل، فتشمل أيام الدنيا والمنفق عليه والحالة العامة للمجتمع الاســلامي، بل ان صــاحب الصــدقة ينتفع منها أكثر كماً وكيفاً عندما تكون خالية من المن والاذى لزيادتها واستمرار تدفق المحتاجين وعرض المشاريع الخيرية عليه، بالاضافة الى ما يترشح عليه من محاسن الاخلاق بسبب ابتعاده عن الاخلاق الذميمة كالمن والاذى والتعيير والرياء.
ان هذه الآيات يحتاجها المسلمون جميعاً، فكذا جاءت في القرآن ووصفها بانها بيان للآيات وهي ذاتها آيات، بمعنى نبين لكم هذه الآيات مع آيات اخرى بواسطتها، والآيات المبينة اعم من القرآنية فتشمل آيات الآفاق، والسمو الاخلاقي، وقوة ومنعة الاسلام، وعز المؤمنين، وتنظيم الحياة اليومية للمجتمع الاسلامي، واصلاح النفوس وطرد الشك وسوء الظن، واعانة المسلم على معرفة ما يجب وما يحرم عليه، وما ينفعه في النشأتين وما يضره فيهما.
ومن مضامين مدرسة القرآن نشر الآداب الحميدة وتهذيب النفوس، وايجاد قواعد سليمة للتعامل بين الناس، ومنع ظهور العداء واسباب النفرة بين الغني والفقير، فلذا تراهما يشتركان في الفرائض احدهما يقف الى جانب الآخر خمس مرات في الصلاة اليومية، واحدهما يطوف بجنب الآخر حول الكعبة وبلباس واحد خال من مظاهر الغنى وفيه تذكرة بيوم الحشر.
وتظهر الآية ما للمثل القرآني من موضوعية في المعارف الربانية وانه يختلف موضــوعاً وماهية وحكماً عن الامثال السائدة والمتعارفة عند الأمم المختلفة، فهو آية قرآنية وحكمة سماوية ورسالة للتبليغ والفهم، ووسيلة لايصال الحقائق والاحكام الشرعية بلغة تتصف باللطف والرأفة، وتدنو من النفوس لتخالطها وتاخذ بناصيتها نحو سلم الهدى ودروب النجاح والتوفيق.
ولا ينحصر بيان الآيات بالامثال القرآنية بل هي احدى مصاديق وافــراد المعــــرفــة، وكل آية من القرآن تتضمن دلالات يحتاج اليها المسلمون على نحــو الاتحاد والانفــراد، وهــي ايضــاح كريم لها ولغيرها، فالآيــة تدل على عظيم فضله تعالى بالقرآن وان كل آية منه حجـة ودليل وعين ونبراس وضياء يضيء سبل الهداية ويهدي علانية الى الجنة.
قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ]
(لعل) تفيد التمني والترجي، وهما أمران ينزه عنهما مقام الربوبية، فلابد من معنى لهما مناسب للإرادة والمشيئة الإلهية، كما في فعل الامر (افعل) فانه عندما يصدر الطلب خطاباً من العبد الى الله عز وجل فلابد من تسميته باصطلاح مناسب للحال والمقام مثل فعل السؤال او الطلب لأنه صادر من الأدنى الى الأعلى.
فموضوع (لعل) في المقام ليس الترجي بل الاخبار عن كون الآيات والتشبيه مناسبة للتفكر، ولكن هذا التفكر ليس مطلقاً، فمن الناس من لم يطلع على آيات القرآن، ومنهم من اطلع ولكنه لم يتخذ آيات الانفاق وما فيها من النهي عن المن والاذى مناسبة للتفكر والتدبر، ولم ينتفع من عظمة واحاطة المثل القرآني الوارد في هذه الآية وما فيها من بديع الحكمة بالتفكر والتدبر.
وبين التفكر في الآيات والتقيد باحكامها عموم وخصوص من وجه، فمادة الالتقاء تفكر الانسان في هذه الآيات وما فيها من الحث على الانفاق في سبيله تعالى والنهي عن اقترانه او تعقبه بالمن والاذى، ويتقيد باحكامها ويحترس من مخالفتها، ويقوم بالمبادرة الى الانفاق طلباً لمرضاته تعالى ويجتنب المن والاذى.
اما مادة الافتراق فقد يتفكر بهذه الآيات ولكنه لا يتقيد باحكامها بسبب غلبة النفس الغضبية والشهوية، وطغيان الكدورات الظلمانية واستحواذ روح البخل والشح عليه.
وقد لا يتفكر بها ولكنه يلتزم باحكامها بالفطرة وحسن الخلق والسجية والعادات الحميدة، وشيوع العادات الكريمة وطيب المنبت والاصل.
فلعل جاءت هنا للاخبار عن تفضله تعالى ببيان الآيات وهداية الناس لها، ولكنهم على مشارب شتى منهم من يتخذها مادة لتفكر والعقل النظري وينطلق منها لوظائف العقل العملي، وتكون له سراجاً في عالم الانفاق في سبيله تعالى، ويدرك الخسارة العظيمة في الدارين التي تترتب على المن والاذى، وانهما يأتيان على الصدقة وثوابها ويحرمان الانسان من كثير من ثواب اعماله.
ويتفكر الانسان في اعجاز القرآن بذكر المثل القرآني واصلاح المجتمعات بتشريع الزكاة والانفاق والصدقة مطلقاً، وكيف انه يقضي على أهم حاجز دون انتشار العقيدة وهو المال، فكثير من الافكار والمعتقدات لم تستطع ان ترى النور بسبب الفقر والعجز عن توفير المال الكافي، وكم من أفكار ضلالة سادت مدة مديدة بسبب المال، فجاء القرآن للحث على توظيف المال في سبيل الله واصلاح النفوس، ومقاومة الضلالة والطاغوت، والمنع من جعل نعمة المال وسيلة لازدياد الهوة بين الأغنياء والفقراء.
وقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ] فيه وجوه:
الأولى : لعلكم تتفكرون في آيات القرآن وانها نازلة من عنده تعالى.
الثانية : لعلكم تتفكرون في المثل القرآني والاعتبار منه.
الثالثة : في شؤون الحياة وقسمة الاموال بين الناس وحاجة بعضهم الى بعض.
الرابعة : تتفكرون في منافع الانفاق في سبيله تعالى واتخاذه وسيلة للقرب الى ساحة القدس.
الخامسة : الآية دعوة لاتخاذ الانفاق سلاحاً لقضاء الحوائج، فمن يقضي حاجة أخيه المحتاج يقيض الله عز وجل له اسباباً ووسائل لقضاء حوائجه.
السادسة : تتفكرون في رأفته تعالى بعباده، وان القرآن ناصح أمين.
السابعة : الحــث على اجــراء الدراســات الخاصة بمنافع الانفاق طلباً لمرضاته تعالى، واضرار المن والاذى الاجتماعية والاخلاقية والعقائدية.
ان فقدان الأجر والثواب لم يكن بسبب المن والاذى وحدهما وبعنوانهما المجرد بل بما يتفرع عنهما من شيوع الاخلاق الذميمة، وبث روح العداوة وازدياد معاناة الفقير والمحتاج سواء بتلقي المن والاذى او بامتناعه عن قبول الصدقات او سؤالها مع انه مستحق لها وهي احياناً واجبة على الغني كما في زكاة الانعام والغلات والنقدين، بالنص القرآني قال تعالى [ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ] ( ).
فمع وجود المقتضي وفقد المانع ترتفع غائلة الفقر عن المسكين ويسد رمقه الى حين، ولكن المن والاذى مانع عرضي طارئ يحول دون تحقيق الغايات السامية للكتاب السماوي وما جاء به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في باب الانفاق والصدقات، ولزوم العناية بالفقير واعانته على اداء وظائفه ازاء الاسلام وازاء نفسه وعباداته، من هذا يبدو الضرر الفادح للمن والاذى والآثار السبية المترتبة عليهما بما يفوق انتفاع الفقير منها، وتبين الآيات اعطاء الأولوية لتهذيب الاخلاق ونشر الود والمحبة بين الناس.


قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]الآية 267.
الإعراب واللغة
(انفقــوا من طــيبات ما كســبتم) انفقــوا: فعــل أمــر مبني على حذف النون، الـواو: فاعل، من طيبات: جار ومجرور متعلقان بـ(انفقوا)، مــا: اسم موصــول في محل جر بالاضافة، جملة كسبتم: صلة الموصول.
(ومما أخرجنا لكم من الارض) مما: عطف على (من طيبات)، جملة اخرجنا لا محل لها لأنها صلة الموصول، لكم: جار ومجرور متعلقان بـ(اخرجنا).
(ولا تيمموا الخبيث) الواو: عاطفة، لا: ناهية، تيمموا: فعل مضارع مجزوم بـ(لا) وعلامة جزمه حذف النون، الخبيث: مفعول به.
(ولســتم بآخذيه) الــواو: حــالية، ليس: فعل ماض ناقص، والضمير اسمها، بآخذيه: الباء: حرف جر زائد، آخذيه: مجرور لفظاً منصوب محلاً على انه خبر ليس، وحذفت نون (آخذين) للاضافة، والضمير (الهاء): مضاف اليه، والجملة حال من الفاعل وهو الواو في (تنفقون).
(الا ان تغمضوا فيه) الا: اداة حصر، ان وما في حيزها: مصدر منصوب بنزع الخافض.
(واعلموا ان الله غني حميد) اعلموا: فعل أمر، الواو: فاعل، ان: حرف مشبه بالفعل، واسم الجلالة اسمها، غني حميد: خبراها.
والخبيث: ضد الطيب ويشمل الرزق والطعام والفعل والولد والطعم، وكما ان الخبيث متعدد في موضوعه فانه من الكلي المشكك الذي فيه افراد متباينة في القوة والضعف، فمنه المكروه كما في الشتم من القول، والردئ، ومنه الحرام سواء كان من الطعام، او من الفعل كالزنا، او العمل كالربا.
وفي وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ]( ).
تغميض العين: اغلاقها، ويُقال اغمض طرفه عني وغمضه: أي أغلاقه، والاغماض: النوم، والاغماض: المسامحة والمساهلة، (وغمضت عن فلان اذا تساهلت عليه في بيع او شراء)( ).
في سياق الآيات
بعد الترغيب في الانفاق والنهي عن اقترانه بالمن والأذى في الآيات السابقة والتحذير من التفريط بالثواب، والحث على الالتفات الى النية والقصد وارادة القربة في ذات الانفاق، جاءت هذه الآية لبيان ماهية موضوع ومادة الانفاق وانه من الطيب والجيد وليس من الردئ او الخبيث.
إعجاز الآية
تعتبر الآية قانوناً في تنظيم الصدقات من جهة وصفها ونوعها وصنفها، وتحول دون الاستهانة بامرها او ضياعها وهي مدرسة تأديبية في حمل المسلمين على اكرام الفقير والاعتبار بما يتصدق به، وهذه الآية لاتحارب المن والأذى فقط، بل تصلح الذات للعمل على احترام الصدقة بالعناية بنوعها وجنسها.
وفيها بشارة الرزق الكريم والطيبات من النعم التي تتعدى الزراعة لتشمل الصناعات وغيرها، لعطف ما يخرج من الارض على الكسب، والعطف يفيد المغايرة والتعدد، وعائدية الاخراج له تعالى يدل على عدم خروج الغلات والثمار الا باذنه تعالى.
واختيــار التيمــم والقصــد في الآيـة له دلالات عــديدة منها النهي عن تثبيت النــية بالانفاق مــن الخبيث فيما اذا أراد الانسان ان يتصدق او تعلقت بذمته الزكاة، لأن الاعمال بالنيات وقد لا يوفق لاعطاء الصدقة، ولو نــوى الانفــاق من الطيبات فتكــتب له حسـنة وان عجز عن التصدق.
فالآية اصلاح للنفس الانسانية بمرحلة النية، والمنع من استيلاء نية انفاق الخبيث ونحوها على النفس قبل الشروع في الفعل، وكان الآية دعوة لتنقيح النوايا وطرد المقاصد السيئة من النفس كي لا يبتلى الانسان ليمتحن فيما نواه.
ويمكن ان تسمى هذه الآية (الاغماض عن الخبيث).

الآية سلاح
تساهم الآية في التخلص من الفقر وتطرد شبح الفاقة، وهي بناء اخلاقي ودرس ارشادي لايجاد تكافل اجتماعي في المجتمع الاسلامي، مع تهذيب السلوك.
أسباب النزول
ذكرت في اسباب نزول الآية وجوه:
الأول: ما روي عن الامام علي انهم كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم وردئ اموالهم فانزل الله هذه الآية.
الثاني: ورد عن ابن عباس: جاء رجل ذات يوم بعذق حشف( )، فوضعه في الصدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بئس ما صنع صاحب هذا فانزل الله هذه الآية.
الثالث: عن الامام الصادق انها نزلت في اقوام لهم اموال من ربا الجاهلية، وكانوا يتصدقون منها، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك وامر بالصدقة من الطيب.
إفاضات الآية
تجعل الآية الانفاق قانوناً وعرفاً ثابتاً بين الناس، وتبعث الرضا في قلوب الفقراء بما فيهم الذين لا ينالون من الصدقات، او الذين لا يصل اليهم الا الردئ من المأكل والملبس ونحوهما، لأن الآية مواساة لهم واخبار بان الله عز وجل ذكرهم وأمر بالاحسان اليهم، ولكن اصحاب الاموال قصروا معهم مما يجعلهم يتلحفون برداء الصبر، ويتوجهون الى الله تعالى بالسؤال والدعاء لأنه (غني حميد).
وتدفع الآية المسلمين الى انفاق الطيب وعدم التردد فيه، وتجعله موضوعاً للتباري، وتدخل بين ثنايا النفس الانسانية لتحثها على اختيار الطيب دون الردئ، والاستعداد لتقديمه، ولا يقصدون الخبيث سواء قبل الاختيار او بعده.
مفهوم الآية
من مفاهيم الآية تفضله تعالى بتأديب المسلمين وارشادهم الى مكارم الاخلاق، وهو دعوة لغير المسلمين للتدبر في هذه المنزلة الرفيعة ولزوم الانتفاع منها بدخول الاسلام.
والآية تبعث السكينة والطمأنينة بين صفوف المسلمين وفي أنفسهم لأن الطيبات من الرزق ستكون قريبة منهم وفي ميسورهم، وان لم يكن على نحو العمــوم الاســتغراقي، أي ليس بمقدور كل واحد منهم الحصول على الطيبات، لذا سيأتي بعد بضع آيات تعيين للمستحقين بانهم [ لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ ]( ).
مما يجعل المسلمين يحصلون على الطيبات على نحو العموم المجموعي بالصدقات واخراج الزكاة، فهذه الآيات تفيد في مفهومها ان المسلمين ينالون الطيبات ومنهم الذين أخلصوا في سعيهم ولاقوا المكاره في جنب الله.
وتحث الآية المسلمين على الدعاء لتحصيل الخيرات والحبوب والخضروات وجني الثمار واستخراج كنوز الارض، ولعل في الآية بشارة خروج ثروة النفط في البلاد الاسلامية على نحو متميز ومخصوص، وفي قصة نبي الله يوسف ورد في التنزيل [ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ]( ).
وفي الآية تشريف للمسلمين ان أخرج الله لهم الطيبات، وجعلهم أولياء عليه، ويتملكونه، ولهم حق التصرف فيه بدليل انه سبحانه أمرهم بالانفاق منه، فلو لم تكن عندهم القدرة الشرعية بالتصرف فيه لما أمرهم الله سبحانه بالانفاق منه، مما يكون مصداقاً لوراثة المسلمين الارض وما يخرج منها.
واذ وعد سبحانه بمضاعفة الأجر على الانفاق، فان الآية تدل على دوام الطيبات بالانفاق منها، وتحذر من عدم الانفاق منها لأنه قد يؤدي الى كسب الخبيث والاغماض فيه.
ومن مفاهيم النهي عن الحرام والخبيث مطلقاً ان اجتناب النواهي سبب لاتيان الواجبات وعلة لعدم خلط الحلال بالحرام، ومقدمة عقلية للنجاة من النار.
وخاتمة الآية تنزيه لمقام الربوبية، وانه تعالى غني عن العالمين وعن النفقات، ولكن الناس هم الذين يحتاجون صدقاتهم وانفاقهم في سبيل الله تعالى.

التفسير
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ]
بعد ان جاء الخطاب التشريفي بصفة الايمان (يا أيها الذين امنوا) قبل ثلاث آيات بالتحذير من ابطال الصدقات بالمن والأذى، جاءت هذه الآية بذات الوصف وما يدل عليه من الاكرام والاهلية لتلقي الاوامر الالهية لتضمن صيغة الامر والدعوة الى الانفاق المقيد بصفة من الصفات الحسن والطيب، وفي الامر بالانفاق وجوه:
الأول: ارادة الزكاة الواجبة.
الثاني: الصدقات المستحبة.
الثالث: الزكاة الواجبة والصدقة المستحبة.
وهذا الوجوه متفرعة من مفاهيم صيغة الامر التي تفيد وجوهاً:
الأول: الوجوب، لاصالة الاطلاق باعتبار ان الندب يحتاج الى مؤونة زائدة لما فيه من حصة اضافية وهي الاذن في الترك.
الثاني: الندب، الا مع القرينة الصدقة الى الوجوب، ولان آية الصدقات جاءت بالامر بالزكاة المفروضة.
الثالث: المعنى الاعم للوجوب والاستحباب لاشتراكهما في طلب الفعل ولحمل الطلب على الاعم وانه من الكلي المشكك الذي تتفاوت درجته بين القوة والضعف وان الاطلاق لا يدل على الوجوب على نحو الحصر.
والامر الالهي الوارد في الآية يحتمل وجهين:
الأول: المستحقون كافة.
الثاني: القــادرون منهم علــى الانفاق واخـراج الزائد عن المؤونة.
الاقوى هو الثاني ولكن الخطاب متوجه للجميع في آية اعجازية للاشارة الى ان الذي ليس عنده شيء سيكون عنده ما يستطيع انفاقه والتصدق به.
وقال الرازي: “ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان، فيدخل فيه زكاة التجارة، وزكاة الذهب والفضة، وزكاة النعم، لأن ذلك مما يوصف بانه مكتسب، ويدل على وجوب الزكاة في كل ما تنبت الأرض، على ما هو قول ابي حنيفة رحمه الله، واستدلاله بهذه الآية ظاهر جداً، الا ان مخالفيه خصصوا هذا العموم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم “ليس في الخضروات صدقة”، وايضاً مذهــب ابي حنيفة ان اخراج الزكاة من كل ما انبتته الأرض واجب قليلاً كان او كثيراً، وظاهر الآية يدل على قوله الا ان مخالفيه خصصوا هذا العموم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم “ليس فيما دون خمسة اوسق صدقة”( ).
ومما عليه اجماع المسلمين ان السنة النبوية تخصص القرآن، وموضوع الآية لا ينحصر بالزكاة ولابد من الوقوف عند موضوع هذه الآيات وصلتها بالزكاة الواجبة، والالتفات الى لطيفة قرآنية دقيقة في المقام وهي ان هذه الآيات جاءت بعنوان الانفاق [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا][مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ] بينما جاءت الآية التي فيها احكام الزكاة وتفصيلها بقوله تعالى [ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
فالانفاق اعم وفيه موضوعية للارادة في اخراج المال وهواعم من الصدقة موضوعاً وحكماً فالصدقة يتعلق موضوعها بالاعانة والمساعدة واحكام الانفاق والاعطاء، اما الانفاق فيتعلق بصاحبه والمال ذاته، ووجود نوع ارادة واختيار لصاحب المال.
فموضوع الآية لا ينحصر بالصدقة والزكاة، بل يتعلق بالانفاق ويمكن ان نضع قاعدة من القياس الاقتراني وهي: بين الانفاق والزكاة عموم وخصوص مطلق، كل زكاة انفاق وليس العكس.
وكذا النســبة بين الانفاق والصــدقة، وبين الصدقة ذاتها وبين الزكــاة، بمعنــى ان الصــدقة اخــص من الانفــاق ولكنــها اعم من الزكاة.
وهذا التفصيل والمائز بين الانفاق والصدقة والزكاة يفتح افاقاً في علوم التفسير ويمنع من تعدد وتباين الحكم على الموضوع الواحد مع حاجتنا الى استنباط الدروس نعم التعدد هو الانسب والأفضل في استظهار معاني الآية الكريمة اذا كان هناك ما يدل على التعدد من ظاهر الآية او القرينة او تفسير الآيات الاخرى لها وبيان السنة النبوية الشريفة لمضمونها، وحمل الانفاق على المعنى الاعم للزكاة المفروضة والتطوع من وجود تعدد المعنى والمفهوم وهو انحــلالي بحسب الحكم والموضوع فيه الواجـب والمندوب ولكنهما يلتقيان بكونها من طيب الكسب والرزق الحلال.
وحرف الجر(من) الوارد في الآية يفيد التبعيض والتقيد بمقدار كلي مشكك مما يرد للانســان من الرزق والكسب، فالآية تتضمن قيوداً متعددة هي:
الأولى : ان الانفاق لبعض المال وليس جميعه.
الثانية : انه من الطيبات.
الثالثة : الانفاق مما كسب المسلم من الرزق.
واختلف في الطيب على وجوه:
الأول: انه الجيد من المال دون الخبيث وقليل النفع، بلحاظ اسباب النزول وانهم كانوا يتصدقون بالخبيث وشرار الأموال فنزلت الآية.
الثاني: الانفاق من خيار المال.
الثالث: المراد من الطيب هو الحلال، والخبيث هو الحرام، ونسب الى ابن مسعود ومجاهد.
لقد ورد لفظ (طيبات) في عشرين موضعاً من القرآن كلها تتعلق بالرزق والكســب والحـلال الا اثنتين جــاءتا بخصــوص الانســان ومكارم الاخلاق والهداية وهما [ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ]( ).
ويمكن استقراء مسألة من التوافق اللفظي وهي ان الرزق الحلال والاكل منه يساهم في ايجاد السجايا الحميدة والاخلاق الفاضلة وتنمية ملكة التقوى والصلاح ومانع من تعدد جهات ومفاهيم الطيبات، والمراد في الآية بحسب مصاديق الطيب وفق ماجاء في القرآن الكريم وهو على وجوه:
الأول : الكسب.
الثاني : الرزق من عنده تعالى.
الثالث : النعم والخيرات.
الرابع : الحلال.
وقد قيدت الآية الطيبات بانها من الكسب الذاتي والشخصي مما يدل على ارادة الطيب الحلال، والحسن اللذيذ وليس الخبيث، فالكسب على مراتب متفاوتة لان انواع الطعام على درجات متباينة كما يظهر في الجنس واصناف التمر، وانواع الرز واللحوم، والطيبات بلحاظ هذا التفاوت على قسمين:
الأول: الطيبات في ذات النوع.
الثاني: في اقسامه فالتمر من الطيبات، ولكنه ينقسم الى الجيد والوسط والردئ، فالآية تتعلق بانفاق التمر الجيد او الوسط الذي يناله الإنسان بسعيه وكسبه الحلال ولإخراج الكسب الحرام كما في قوله تعالى [ فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ]( ).
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال لمعاذ بن جبل حين بعثه الى اليمن: اعلمهم ان عليهم صدقة تؤخذ من اغنيائهم وترد الى فقرائهم، واياك وكرائم اموالهم.
ولكن مضمون هذه الآية اعم من وجوه:
الأولى : ان الإنفاق اوسع موضوعاً واعم من الصدقة.
الثانية : المراد من الصدقة في الحديث هي الزكاة الواجبة.
الثالثة : التحذير والنهي الوارد عن كرائم الأموال خطاب خاص بالحاكم والجابي والعامل على الزكاة وليس صاحب المال نفسه، الذي يجوز له ان ينفق من كرائم امواله، خصوصاً وان الآية الكريمة خطاب موجه للمؤمنين، وفيه اشارة الى الإطلاق وعدم الحصر بالزكاة، نعم فيه تنبيه الى عدم انفاق جميع الأموال وابقاء الشطر الأكبر منها في اليد والملكية الخاصة.
وموضوع الآية يتعلق بالإنفاق ودعوة ارباب الأموال الى البذل والعطاء في سبيله تعالى ومنه الزكاة وليس الصدقة الواجبة التي هي احد مصاديق الإنفاق، فلا ملازمة بين هذه الآية ووجوب الزكاة في كل ما يكسبه الإنسان او انحصاره في شطر منه وهو زكاة الأنعام والحبوب والذهب والفضة.
وقول شائع بأن السنة النبوية خصصت الإنفاق في آية البحث بخمسة أوسق أو أكثر ، لما ورد عن حديث (أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ، وليس فيما دون خمس ذود من الإِبل صدقة . وفي لفظ لمسلم : ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق)( ).
ولكن الآية ذكرت الإنفاق مطلقاً ، ليشمل الصدقة الواجبة كالزكاة ، والصدقة المستحبة ، وما زاد على الزكاة قربة إلى الله .
والإنفاق من القليل رجاء نماء المال ولإعانة المحتاجين فيشمل المال والثمر بدليل حرف العطف في [وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ]( )، وقال تعالى [لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ).
فمما تحبون نكرة في سياق النفي ليفيد العموم ، وقال تعالى [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ]( ).
وسيأتي مزيد كلام في الجزء الرابع والخمسين بعد المائتين من هذا السِفر.
قوله تعالى [وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ]
في الآية حذف وهو يحتمل على وجهين:
الأول: وانفقوا مما اخرجنا لكم.
الثاني: وانفقوا من طيبات ما اخرجنا لكم.
والوجه الثاني هو الصحيح لوحـدة الموضوع في تنقيح المناط، وحصل هذا الحذف لظهوره على الكسب واتضاح ارادة الطيبات على نحو الخصوص.
وما يخرج من الأرض من الغلات كالحنطة والشعير، والثمار والفاكهة يدخل ضمن الكسب والسعي لما يبذله الإنسان في الحصول عليها مــن الجهــد وخدمة الأرض والعناية بالشجرة والسقي، ولكن الآيــة جــاءت بذكره على نحــو الخصوص وبصــيغة العــطف بالــواو التي تفــيد المغــايــرة بــين الكســب وما يخــرج من الأرض، وفيــه مسائل:
الأول : لقد اضافت الآية الإخراج له تعالى وانه من عنده ومن فضله سبحانه، وهذه النسبة تجعل الإنسان كالآلة والسبب والوسيلة لإنتاج التمر وانه ليس علة تامة لنيله فلو لم يأذن الله عز وجل لما خرجت الغلات والحبوب والسنابل من الأرض ولا حمل النخيل والشجر.
الثاني : جاءت الآية بصيغة الماضي وهو اكثر توكيداً على الحصول والإستمرار والدوام.
الثالث : لغة الخطاب جاءت بصيغة الجمع (اخرجنا لكم) والمراد من الضمير هنا وجوه:
الأولى : الناس كافة.
الثانية : جميع المسلمين.
الثالثة : الذين يقومون بالإنفاق.
والاصح هو الوجه الثاني لأن الآية ابتدأت بالخطاب [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] وهذا لا يمنع من عائدية اخراج الثمار والحبوب للكفار والناس جميعاً منه سبحانه، ولكن هناك فارق بين الأمرين، وهو ان الإخراج للكافرين من صفة (الرحمن) والإخراج والرزق للمسلمين من صفة الرحمن والرحيم.
والرحمن اسم خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة أي ان الرحمن صفة لله ينتفع بها الناس من الفيض الإلهي في الدنيا فيما يخص حوائجهم وارزاقهم، برهم وفاجرهم، اما الرحيم فصفة ينتفع منها اهل الإيمان خاصة وفي الدنيا والآخرة، قال تعالى [ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَتَفَكَّهُونَ]( ).
والآية اشارة الى الزكاة الواجبة والمستحبة في الغلات، فالإنفاق فيها على وجوه:
الأول : اخراج الزكاة من الغلات اذا كانت بمقدار النصاب وهو خمسة اوسق، ويكون نحو ثمانمائة وخمسين كيلو غراماً.
الثاني : دفع الصدقة المندوبة مما فيه النصاب بالإضافة الى الزكاة الواجبة.
الثالث : التصدق من الغلات التي ليس فيها نصاب تطوعاً وقربة الى الله ورجاء الثواب قال تعالى [ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ]( ).
والعطف الوارد في الآية وذكر المكاسب والغلات يفيد عموم الآية وشمول الأمر فيها لجميع المسلمين على اختلاف اعمالهم ومواردهم، كما ان ما يخرج الأرض لا ينحصر بالفلاحين والزراع فيتعلق بغيرهم، ويجعل الإنفاق من الحبوب والثمار ونحوها بشرائها واقتنائها ثم التصدق بها سواء كان الإقتناء مقدمة للإنفاق ام انه بقصد التملك والحيازة ثم الإخراج منه للصدقة.
ولكن لماذا هذا التخصيص، لاسيما وان الغلات والثمار من مصاديق الكسب، فيه مسائل:
الأولى : انه من عطف الخاص على العام.
الثانية : اعطاء موضوعية واعتبار لإنفاق الغلات والثمار.
الثالثة : بالحبوب كالحنطة والشــعير دفع لشــبح الفقر عن الفقـراء والمساكين.
الرابعة : بيان حقيقة وهــي ان الإنتفاع من الـغلات مباشر وبلا واسطة فالفقير الذي يأخذ المال قد لا يوفق لشراء الحبوب او انه يوظف المال في حاجات اخرى، بينما الحبوب تسد حاجته الضرورية للغذاء.
الخامسة : ان الله عز وجــل يحـب اطعام الطعام واعانة عباده بالأعيان النافعة.
وفي الآية اشارة الى ما في الأرض من البركات والرزق الكريم فكما خلق الله الإنسان منها فانه جعلها مادة ل رزقه، وآتاه القدرة على الإنتفاع منها وزراعتها.
وما يخرج من الأرض لا ينحصر بالغلات والثمار، بل يشمل المعادن ومنها النفط الذي يعتبر اهم واكبر ثروة في هذا الزمان، ويستخرج اكثره في الدول الإسلامية، مع قلته بالنسبة للدول الاخرى بلحاظ سعة الأراضي وعدد البلدان، وتلك آية اعجازية تدل على اختصاص المسلمين بافاضات منه تعالى.
وهذه الآية بشارة استخراج النفط والثروات المعدنية الأخرى، ولجوء الإنسان الى الثروات الأرضية والبحث في باطنها على كنوز المعادن وما ينتفع منه في الصناعات الحديثة، وهي دعوة متقدمة لإستخراج حق الفقراء والمساكين من تلك المعادن.
ومن الآيات والرزق الكريم ما تدخره الأرض في باطنها من كنوز للأجيال القادمة لتأتي التقنية المتطورة في التنقيب والحفر وسيلة للوصول اليها واستخراجها، وكانها علامة على اوان الانتفاع من تلك الكنوز مع ملاحظة التنظيم والتخطيط وعدم الاسراف والتبذير.
وجاء التذكير باعطاء حق الفقراء والمساكين كمقدمة عبادية وعون على الإســتعداد النفســي للبذل والعطاء، بالإضافة الى اخراج الصــدقات من الغلات والثمار التي تخرجها الأرض في كل زمان، وليس من حــائل بين الإنســان وانتفاعـه من الأرض، فغالباً ما يكون هذا الإنتفاع بعيداً عن ســلطة الظالمين والقــوانين الجائرة، بل ان السلطان نفسه يحتاج هو وحكومته اقدام الناس على استثمار الأرض وجني الثمار.
وفي الآية اشارة الى ان ما يأخذه الظالم والسلطان مطلقاً من الضرائب لا يكون بديلاً عن الإنفاق في سبيله تعالى، وفعلاً فانك ترى ان السلطان لا يلتفت الى الفقراء والمساكين ولزوم توفير حاجاتهم الضرورية، بل ان الناس يطلع بعضهم على حال البعض الآخر ويحتاج الفقير منهم المدد والعون الشخصي من دون انتظار القوانين وشموله بالأنظمة الخاصة باعانة الفقراء خصوصاً وان التكليف جاء بلحاظ الافراد، فكل بالغ عاقل مكلف على نحو مستقل.
فالآية دعوة لمعالجة الحاجات الآنية للفقراء بوسائل وطرق مباشرة وآنية وقريبة، منعاً للقنوط واليأس والإنحراف وارتكاب الفقير لما فيه ظلم وتجاوز، وهذا الإنفاق مناسبة كريمة لتحصيل الثواب العظيم، ومن فضله تعالى ان يتضمن القرآن شرائط حسن الإنفاق، ويضع ضوابط كلية له تعكس الإعجاز القرآني ونزوله من عنده تعالى، وقدرته تعالى على توفير حاجات الفقراء، واسباب تعظيم شعائره سواء بواسطة المنفقين او بالكاف والنون أي (كن فيكون).
قوله تعالى [وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ]
قرأ القراء كلهم بتخفيف التاء الا ابن كثير في تيمموا واخواتها مثل تفرقوا، تعاونوا، تنازعوا، تجسسوا، تنابزوا، ونحوها، والأصل تاءان، تاء المخاطبة، وتاء الفعل نفسه، فادغمت احداهما في الاخرى، وقيل ان التاء الأولى هي المحذوفة، وقال سيبويه انها الثانية، اما الفراء فقال: ايهما اسقطت جاز لنيابة الباقية عنها.
والتيمم: التعمد وارادة الشيء، لقد جاءت الآية بالنهي عن قصد، وارادة الخبيث من المال والثمر، وجعله موضوع الإنفاق، وفي الخبيث هنا وجوه:
الأول : الردئ وغير الجيد الذي لا تميل النفس له أكلاً او شراباً او ملبساً ونحوه.
الثاني : الحرام وما يكون مستحقاً للغير.
الثالث : مال الشبهات.
والأصح هو الوجه الأول وتدخل الوجوه الاخرى من باب الأولوية القطعية ولم تذكر تنزيهاً للمسلمين، الخبيث من الكلي المشكك وله مراتب متفاوتة، قال تعالى [ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ]( ).
وقد يأتي الخبيث وصفاً لكلمة وقول مبغوض، وفي التنزيل [وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ]( )، او وصفاً لذات كما في قوله تعالى [ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ]( ).
وقد يكــون الخبيــث وصــفاً لمحــرم قــال تعالى [ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ ]( )، وقد يكون صفة لفعل قبيح ومحرم، قال تعالى [ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ ]( ).
والمراد من الخبيث في الآية ليس الأمر المذموم والشيء او الفعل القبيح، بل هو المرتبة الأدنى من النوع المنفق فهو يدخل ضمن المنفق والعطاء في سبيله تعالى الا انه في مقابل الطيبات والأعيان الحسنة التي اوصت الآية بالإنفاق منها، لذا فان ظاهر النهي هو الكراهة وليس الحرمة بقرينة ما ورد في الآية [ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ]، وفي هذا النهي مسائل :
الأولى : بما ان الإنفاق في سبيله تعالى يحتاج الى قصد القربة، فيجب ان تكون مادة الإنفاق لائقة بالتقرب الى المعشوق وطلب رضاه ورجاء رحمته.
الثانية : الهدية تدل على الـمُهدي وسجاياه وفيها دلالة على مضامين العبودية.
الثالثة : تمنع الآية من قصد وطلب الخبيث عند العزم على اعطاء الصدقة والإنفاق، فمن الناس من يبادر ذهنه الى الردئ من الثمر والمال عندما يهم بالإنفاق وكأن هناك ملازمة بين الإنفاق وبين النوع الردئ والتالف وغير المرغوب به من الطعام والشراب واللباس، فجــاءت هذه الآية لتمنــع من هذه اللازمة التصورية او التصديقية، وتدعو الى النظر الى الصدقة باعتبارها تجارة دنيوية واخروية، دنيوية لما فيها من حسن الصلات والسمعة الطيبة ومواساة الأخوان، واخروية لأنها باب للثواب ومناسبة للأجر الجزيل.
الرابعة : تخبر الآية عن تقسيم المال والأعيان الى قسمين الطيب والخبيث، وكل منهما له مراتب متفاوتة وهل يحتمل وجود قسيم ثالث بينهما وهو الذي ليس بالطيب ولا بالخبيث بل الوسط بينهما، فنقول ان ادناها طيباً لا يقترب من اقلها خبثاً.
الجواب: هنــاك برزخ بينهما وجاءت الآية باخــراج الخبيث فقط من الانــفاق، وهــذا لا يمنع من عدم التقارب والتداخل بينهما لأن الخبــث صـــفة زائـــدة جعلت الآيــة حداً له وعلامة نوعية عامة يعرفها المنفق بنفسه ومن نفسه وهي عدم اخذه له الا ان يغمــض فيه ويقبله على مضض، وفيه تخفيف عن المسلمين وليصبح اهل الإنفاق والإحسان انفسهم حكاماً في معرفة نوع العطية.
فالآية حصرت النهي بالخبيث دون الطيب والوسط بينهما، وان كان الوسط بالمعنى الأعم يلحق بالطيب كما في قوله تعالى [مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ]( ).
الخامسة : تبعث الآية على المساواة بين المسلمين في دخول السرور على انفسهم، فمثلاً في الصيام يتساوى المسلمون في الفرح والرضا باداء الفريضة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (للصائم فرحتان فرحة عند الإفطار، وفرحه عند لقاء ربه)، فكذا بالنسبة للإنفاق فهو مناسبة لدخول الفرح والسرور لقلب المنفق والمنفق عليه، اما الأول فبما بذله في سبيله تعالى مركب من أمرين:
الأول: حصول اصل الإنفاق وتحقق الصدقة.
الثاني: التقيد بنوع الإنفاق وشرائط حسنه، فمن فضله تعالى ان تتضمن الآية تأديب المسسلمين وارشادهم الى الخلق الكريم في الإنفاق بضبط قواعده وآدابه.
أما الثاني وهو المنفق عليه فان الغبطة والسعادة تملأ نفسه ويتجدد عنده عناوين الشكر لله تعالى، وللمنفق ويتمثل الشطر الثاني من الشكر بالدعاء للمنفق.
وتمنع الآية من المن والأذى ومصاحبتهما للإنفاق من وجوه:
الأولى : انها تجعل المنفق يفكر باختيار النوع الجيد للإنفاق، فيترسخ في ذهنه التكليف ولزوم اداء وظيفته.
الثانية : ان اعطــاء الخبيث فيه اذى للفقير ســواء لما يطمع فيه او ما يشتهيه او مـا يتــوقــعــه من الحســن، كما انه يحس بانه أدنى درجة في سلم المجتمعات حتى في الأكل والشرب وقد يؤدى هذا الشعور الى بعث روح الكراهية عنده وغلبة النفس الغضبية والشهوية والميل للإنتقام.
الثالثة : انفاق الطيبات يؤدي الى بعث مفاهيم الود بين المسلمين وسعي الفقير الى الدعاء للغني والمنفق والعزم على اعانته ومساعدته ضمن قدرته وجهده الشخصي.
الرابعة : الإنفاق وتقييده بالطيبات اعم من ان ينحصر باعانة الفقير والمسكين فيشمل موارد الجهاد وبناء المساجد ونشر علوم الشريعة وتعظيم شعائر الله، وهو امر يستلزم حسن الإنفاق وتغطية النفقات وتوفير المؤن الكافية وانجاز المشاريع وهي امور لا تتحقق بالخبيث والردئ من الأعيان، فجاء التقييد في الآية عن حاجة وضرورة للإنجاز واتمام عمل الخير.
الخامسة : من الطيبات الكثرة والزيادة والتعدد في الإنفاق، فالمال اهم مصاديق الإنفاق في هذا الزمان، ولابد ان التقسيم الى الطيب والخبيث يشــمله ويتجلى بالكــثرة والقلــة فما كان وافياً كافــيـاً فهــو من الطـيب وما كان قليــلاً لا يســد الحاجــة فـهـو من الخبيث.
وقوله تعالى تعالى [ مِنْهُ تُنفِقُونَ ] اشارة الى تعدد الخبيث والردئ وان تكرر الإنفاق لا يكون الا منه وفيه لأن النية والقصد تسبق اليه، فكأن الآية تقول لا تجعلوا ملازمة بين الإنفاق والخبيث وتبادروا الى الخبيث عند الإنفاق مع العزم على عدم الإنفاق الا منه، بل يجب ان لا يكون الإنفاق الا من الطيبات، وبذا يتجلى الإرتقاء الأخلاقي في مفاهيم الإسلام ومضامين السعي في طلب مرضاته تعالى، فمن يجتهد في ابتغاء مرضاة تعالى والعمل رجاء الثواب عليه ان ينفق من ماله، وان يكون هذا الإنفاق من جيد المال.
فقولـه تعالى [ مِنْهُ تُنفِقُونَ ] تحــذير من المواظبــة على الإنفاق من الخبيث، وجاءت الآية بصيغة الجمع فاذا كان الجميع لا ينفقون الا من الخبيث فيحصل تخلف عن اداء الوظائف العامة والمشاريع التي لا تتقــوم الا بالإنفـاق والبــذل وتوفــر الأمـوال الكافية خصــوصاً مع اعتبار قلة المال المنفق من الخبيث، وهذه القلة من الكلي المشكك بحسب المقام والحاجـة واللحاظ، فقد يكون مقدار من المال كافياًً لفقير ولكنه ليس كافياًً لفقير آخـر من ذوي الشـأن والمقام الإجتماعي ممن يستحق الصدقة.
ولا ينحصر النهي في الآية على الإنفاق من الخبيث بل يشمل جعله نصب العين وكأنه مدخر للصدقة، وخاص بها، ومادة لدفع السائل واداء وظائف الإنفاق، لذا فان الآية تخبر بان الإمتثال للأوامر الإلهية في الإنفاق لا يكون باعطاء الخبيث وتحث على اجتناب المبادرة اليه عند الإنفاق، مما يساهم بالدلالة الإلتزامية في التصرف بالخبيث في موارد اخرى او اجتناب ابقائه في ذات اليد كاحتياطي للصدقة، أي ان الآية تساعد على تنقيح الأموال الشخصية عند عامة الناس وتزكيتها وجعلها من النوع الطيب والجيد والحسن.
ان المبادرة الى الخبيث في الصدقة تجعل الإنسان يميل الى زراعة النوع الردئ ولو على نحو الساالبة الجزئية والقيام بشرائه خصيصاً للصدقات، فاذا علم ان القرآن ينهى عن انفاق الخبيث فان موضوعه ينتفي ويكون غير مرغوب فيه ولا ترتفع قيمته، وبذا قد يكون شراء الطيب بذات السعر الذي يشترى به الخبيث.
وهذه رحمة اضافية ومن بركات تقييد القرآن للإنفاق بانه من الطيب، فبمجرد تغيير العزم والنية، واجتناب ارادة الخبيث والإنفاق منه فان الله عز وجل يعين المسلمين ويجعل الطيب بمنزلة الخبيث سعراً وكلفة مع نيل عظيم الأجر والثواب وسيادة حسن الخلق والود والرأفة بين الإغنياء والفقراء وشيوع لغة الإيثار عند المسلمين وهي حاجة اخلاقية لها منافع عقائدية في باب العبادات والمعاملات وتثبيت دعائم الدين، وهي دعوة كريمة للآخرين لدخول الإسلام وفيها تحبيب لمبادئه والنظر اليه باجلال لعجز العقول الإنسانية عما في هذا التشريع من الدقة والحكمة والتكامل.
ومن منافــع الإنفاق في ســبيله تعـالى الرزق العاجل الكريم بان يكون الحصــول على الطــيب بذات القيمة تقريباً التي يشترى فيها الخبيث باستثناء بعض حالات الجماعة ونحوها، واذا كان الخبيث لا يؤكل الا مع الإغماض فيه ولا يعطى للفقراء والمساكين تنزهاً فان الطلب عليه ينعدم، ويهبط ثمنه ولا يكثر الطلب على الطيب ويزيد سعره، بل ان الناس يجتهدون في الحصول على الطيب والإكثار من زراعته وتصنيعه واقتنائه، كما ان الإنفاق من الطيبات يجعل ما عند الإنسان هو الأحسن والأجود والأكمل سواء لأنه لا يقتني الا الطيبات او لأنه يجعل لنفسه الأطيب والأحسن، او لإرتفاع درجة الإستهلاك والإنتفاع العام في المجتمع.
فالنهـي عن التصــدق بالخبيـث ارتقاء اقتصادي واخلاقي واجتماعي في المجتمعات الإسلامية وتهذيب للنفوس، وكأن فيه وعداً بالرزق الكريم والمن الجزيل ونزول الرحمة الإلهية على المسلمين برأفتهم بالفقراء والمحتاجين وصدق امتثالهم باحكام الإنفاق والإحسان.

قوله تعالى [وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ]
الضمير في (آخذيه) يعود للخبيث ليكون قاعدة كلية لتحديد موضوع الخبيث تؤكد الآية ان الخبيث هنا ليس الحرام وانما هو الردئ الذي يأخذه الإنسان مع غضاضة وعدم رضا، والخطاب موجه للمسلمين وهم لا يأخذون الحرام ولا يقبلونه كمسلمين.
والآية اعجاز قرآني بان جعلت مدار تعيين الخبيث راجع للمكلفين يعرفونه بانفسهم وبالذات وليس من خلال غيرهم، كما ان هذا التعيين ثابت الى يوم القيامة كضابطة كلية ولكنه متحرك ومتغير في مقداره ومستوى ونوع الخبيث، وهذا التغير لا ينحصر بالزمان بل يشمل الزمان والمكان والكم والكيف بحسب العرف والشأن.
فقد يكون بعض انواع التمر او الرز او الحنطة من الخبيث في بلد ولكنه ليس بخبيث في بلد آخر بحسب مستوى المعيشة فيهما، ووجود زراعــة انتــاج تلك الحبــوب والثمار، فالبلد الذي ليس فيه زراعة النخيل والمســتوى المعاشــي لأهــله مترد، ليس فيه نــوع خبيث للتمور بل كل نــوع منه يعتبــر جيداً ومقبولاً، وكذا العكس فالبلد الذي فيه انتاج وافر للتمر ولا يصدر للخارج فيكون فيه تقسيم للتمر الى انواع ومراتب.
وتعتبر الآية تذكيراً بفضله تعالى لارباب الأموال وانه تعالى قادر على سلب النعم، وانما تدوم برحمته واحسانه تعالى واعانة الفقراء بما يرضيهم ويسكن لوعتهم ويطفئ شوقهم الى الطيبات، اذ ان الرغبة بتناول وحيازة الطيبات موجودة عند الإنسان مطلقاً، فمن خصائص النفس الإنسانية الميل الى كل ما هو جميل وطيب وحسن بالإضافة الى حب الملكية والإقتناء ومساواة الآخرين.
وفي الآية ومعنى الإغماض الوارد فيها ذكرت اقوال:
الأولى : لا تتصدقوا بما لا تأخذونه من غرمائكم، الا بالمسامحة والمساهلة، عن البراء بن عازب.
الثانية : لا تأخذونه الاان تحطوا من الثمن فيه، عن ابن عباس والحسن وقتادة.
الثالثة : (لستم بآخذيه الا بوكس( )، فكيف تعطونه في الصدقة، عن الزجاج)( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية، الا انها اعم وتتضمن مفاهيم دقيقة في تحليل النفس الإنسانية وتحديد موازين الصدقة والصفات الإجمالية للخبيث منها بما يمنع من اللبس والتداخل والإشتباه، لذا ترى المسلمين لا يختلفون في هذه الآية او في تعيين الصدقة المكروهة لردائة جنسها مع تباين الأزمنة والأمكنة واختلاف العرف، لأن المدار جعل على الإغماض في الخبيث، وعدم الإغماض في غيره عند عكس الأمر ويكون المعطي هو الآخذ، بمعنى لابد من فرضية وتقدير فعلي مفاده انك ايها المتصدق لو كنت تأخذ هذا النوع والجنس من الثمر والحبوب واللباس وغيره فهل تقبله او تغمض فيه وتأخذه على مضض، وهذا الفرض على احتمالات:
الأول: ان الغني يغمض فيه بما هو غني.
الثاني: انه يغمض فيه تقدير انه اصبح فقيراً.
الثالث: بتقدير انه فقير في الأصل، اولا اقل انه في حال كحال الفقير والمحتاج الذي يأخذ الصدقة لأن الغني الذي يتصورنفسه فقيراً يمتاز درجــة عن الفقــير من الأصل في النظر للأمور والأشياء.
ولا تصل النوبة الى الإحتمال الثاني والثالث لقاعدة نفي الحرج في الدين، ولأن الله عز وجل اذا انعم على العبد بنعمة الغنى والقدرة على التصدق والإنفاق في سبيله، فلا يطالبه بتصور حال الفقر وعيشه الكفاف ونوال الآخرين لأنه سبحانه يعطي بالأوفى ويجعل الغني يشعر ويتصرف ويفكر بما انه غني.
فانحصر الأمر بالإحتمال الأول وهو الأغماض في مال الصدقة في حال الغنى وهو الأصل بمعنى لو شككنا بين ارادة حاله في الغنى او انه يغمض فيه بتقدير انه فقير، فالأصل هو ارادة حاله في الغنى، وبذا يتجلى اكرام القرآن للفقير والمساواة بين المعطي والآخذ في تعيين جنس وماهية الصدقة، وشرط تضمنها الإكرام للفقير واعانته من دون التفريط بمنزلته ومقامه الإجتماعي خصوصاً وانه من الذين يتغشاهم العز المترشح عن عزته تعالى لما ورد في التنزيل [ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
ومن العــزة اجتناب الذلة والمهانة في اخذ الخبيث من المال والثمر بعد تلقي الصدقات التي تكون من طرف المعطي قربة الى الله، وليس اذلالاً للفقير، فالإغماض هو قبول الشيء على استحياء ومساهلة مع ادراك ما فيه من الغضاضة، كما انه يدل على عدم دخول السرور في القلب.
لقد أراد الله عز وجل في الانفاق ادخال السرور على قلب الفقير وبعث الأمل في نفسه وزرع المودة للآخرين، يتصدق عليه شخص فيحبه ويحب غيره لأن الصدقة سفير الأخوة الانسانية، وانفاق الخبيث يحول دون هذه المفاهيم الاخلاقية للصدقات.
لقد ارادت الآية المساواة بين الغني والفقير في المأكل والملبس وجعلت حــداً أدنى لماهية الصدقة منعت من تجاوزه الى الردئ والخسيس لتحول دون تردي الحالة النفسية لبعض افراد المجتمع الإسلامي وهم الفقراء، ووفق قاعدة القرآن يفسر بعضه بعضاً فان الصــدقة الأمثل في المقام هـي التي تكون بمستوى متوسط ما تأكل الأسرة قال تعالى [ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ]( ) مع الإقــرار بوجـود برزخ بين ادنى ما يطعــم الأهـل وبين الخبيث، بمعنى انه لو تصدق المسلم بما هو أدنى ما يطعــم اهله وليس اوســطه فلا يعتبر من الخبيث الذي يغمض فيه.
وتعالج الآية مســألة اجتماعية واخلاقية وتمنع من الجريمة والإنحراف، بما تتضمنه من التقارب بين الفئات الإجتماعية في المأكل والمشرب، والخبيث الذي يغمض فيه على مراتب متفاوتة بحسب حال الغنى، فما يغمض فيه بعضــهم لا يغمض فيه الآخر بحسب العادة والثراء مما يجعــل الفقير يتلقــى اعانات متفاوتة في الكيف والكم ولكنها لا تصل الى الخبيث، فربما يطعـم غني الفقراء ما لا يأكله غني آخر، فيحصل التقارب والتداخل الظاهري الذي يخفف من حدة الفوارق واضرارها العامة.
وعائدية الضمير في تغضموا على وجوه:
الأولى : الأغنياء والقادرون على الإنفاق.
الثانية : الفقراء والمحتاجون.
الثالثة : عموم المسلمين لأن الآية افتتحت بلفظ [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا].
والأصح هو الوجه الثالث مع قيد وهي قدرتهم على الإنفاق بحيث يكون الأغماض حال القدرة والتمكن من الإنفاق، لأن السعة والمال يجعل الإنسان في شأن يختلف عما في حال الفقر والمسكنة، وفيه استعارة تصريحية للتشبيه باغماض العين كناية عن عدم الرضا عند القبول واخذ الشيء عن مضض، وكأن الإنسان يتجنب رؤية ما اخذ مع ان الأصل الفرح والإستبشار به لأنه عطية وتمليك.
قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ]
بيان لعز المؤمنين الذين اصبحوا في حاجة الى الصدقات والإعانة بالإخــبار عــن غنــاه تعالى والله عــز وجل غير محتاج لأحد لأن الإحتياج من علامات الإمكان وهو سبحانه واجب الوجود، فهو سبحانه غني عن الصدقات وقادر ان يرزق الفقراء من عباده من خزائنه، وكنوز السماوات والأرض التي لا تنفذ ولكنه سبحانه اراد لأصحاب الأموال الأجر والثواب باقدامهم على الإنفاق والصدقة، بمعنى انها لهم ولنفعهم في النشأتين.
وكما تحمل الآية معنى التنبيه والتحذير فانها تحمل مضامين الوعد الكريم وان الله عز وجــل يخــلف المنفــق خيراً فلا يتردد في اعطاء الطيب والحسن واجتناب التصدق بالخبيث والردئ، وكل من يدرك وجود العـوض والبدل فانه يحسن العطية ويولي نوع ما يعطيه عناية خاصة، فالآيــة تجعــل النفس تميل الى اعطــاء الجيد والمسارعة في الخيرات وتنقيح الصــدقات واكــرام الفقـراء لأن الإنسان يشعر بانه يعطي لنفسه ويحرص على اجتناب ضياع الاجر ونقصان الثواب بالإعطاء من الخبيث.
ولا تعارض بين مضامين التحذير، والوعد الكريم في الآية بل انهما يسيران بعرض واحد وكل منهما من مصاديق الآية.
وهذا من اعجاز القرآن ان تأتي ذات الآية لتحذر من شيء وترغب في ضده والأحسن منه في ذات الكلمة التي تنحل الى معاني متعددة تؤدي مجتمعة ومتفرقة الى تهذيب الأفعال وترسيخ مفاهيم الهداية والرشاد.
والآية وان جاءت بصيغة الخبر الا انها خطاب للفقراء مثلما هي خطاب وتوجــيه وتــأديب للأغنياء، انها دعـوة للفقراء للتوجه الى الباري عز وجل وسؤاله الغنى والعطاء فهو سبحانه يعطي بالأوفى والأتم والأحسن ولا ينحصر عطاؤه بالمال بل يشمل الصحة والعمر المديد والأبناء والذرية الصــالحة واسـباب الهداية والرشاد، وكم من فقير توجه الى الله عز وجل واجتهد بالدعاء فاعطاه الله عز وجل ما اغناه عن سؤال الآخرين، مع اخراج الحقوق الشرعية والتصدق على الفقراء والمساكين.
وهو الغني الذي يخلف الصدقة باضعافها وهذا الجزاء حث للأغنياء على التصدق بالجيد واجتناب اعطاء الردئ.
والخطاب في الآية (واعلموا) موجه لجميع المسلمين وفيه مواساة للفقــراء وســكينة لهم وتذكير بالآخرة والجزاء عنده تعالى بان يخلف على المنفـق خيراً ويواسي الفقير على صبره وتقيده بالفرائض والعبادات.

قوله تعالى [حَمِيدٌ]
من اسمائه الحسنى سبحانه الحميد وهو فعيل بمعنى محمود، والحمد اعم من الشكر لأنه سبحانه يحمد على صفاته الذاتية وعلى انعامه واحسانه، وفي الحديث: “الحمد رأس الشكر”.
والله عز وجل يحمد على احسانه ورحمته ورأفته بالناس وهو الذي يرزقهم وينعم عليهم ويجعلهم قادرين على الإنفاق، وهو الشاكر العليم الذي يثيب المحسنين على احسانهم وطاعتهم وحسن امتثالهم بالإنفاق من الجيد والحسن وكرائم الأموال.
ومع ان الخطــاب في الآيــة (واعلموا) للمسلمين كافة فان خاتمة الآية قاعدة كلية واخبار عن غناه تعالى ولزوم توجه الشكر والحمد له تعالى على الهداية الى انفاق الطيبات لعظيم النفع والأجر والثواب المتصل.
وهل النهي عن الإنفاق من الخبيث مولوي وواجب ام انه ارشادي تنزيهي، الأقوى هو الثاني وسيأتي قوله تعالى [وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ] ( ) ليبين ان منافــع التقيد بهذا النهــي تعود للمنفق نفسه وللأمة والجماعة والمنفق عليه، وان الإنفاق من الجيد والحسن نعمة وباب للأجر والثواب العظيم، فالنهي عن الخبيث رحمة اضافية بالمسلمين وباب للخير والصلاح واذا كان الله قد نهى عن انفاق الخبيث وامر بانفاق الحسن والجيد فلابد انه يضمن العوض والبدل والخلف العاجل كما وعد بالوفاء والأجر في النشأة الآخرة.


قوله تعالى[الشَّيْطَان يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] الآية 268.
الإعراب واللغة
(الشيطان يعدكم بالفقر) الشيطان: مبتدأ مرفوع بالضمة، يعدكم: يعد: فعل مضارع، الفاعل ضمير مستتر يعود للشيطان، والكاف في محل مفعول به اول، الفقر: مفعول به ثان منصوب.
(والله يعدكم) الواو: حرف عطف، اسم الجلالة: مبتدأ مرفوع، يعدكم: فعل وفاعل ومفعول به.
(والله واسع عليم) الواو: استئنافية، اسم الجلالة: مبتدأ، واسع عليم: خبران مرفوعان.
والفقر: الحاجة ونقص المال وعدم كفاية ما في اليد للمؤونة ونفقة العيال، وهو ضد الغنى، ويقرأ بفتح الفاء او ضمها وسكون القاف، والارجح بفتح الفاء وعليه رسم القرآن.
في سياق الآيات
بعد الامــر بالانفاق في سبيله تعالى والنهي والتحذير عن المن والاذى والتحذير من التصدق بالخبيث والردئ على اعطاء الطيبات، جاءت هذه الآية لتبين جانب الشر والسوء الذي يحاول مزاحمة البذل والعطــاء واندفاع النفس نحــو الخـيرات ومسارعتها في المعروف وسعيها في دروب الخير والانفاق، ليعلم الانسان مواطن نفعه ومنازل ضرره، ومن يقــف عــدواَ له ويحــاول ثنيه عن رفعـته في الدنيا، ونجاته في الآخرة، ليكون يقظــاً حـذراً من كيد ومكر الشيطان، وليقبل على الانفاق طاعة لله تعالى.
وفي سياق الآيات واجتماعها اعجاز خاص لأن هذه الآية تساعد في ازالة اسباب التردد والامتناع عن الانفاق، وتكون جزء من مقدمات الانفاق.
إعجاز الآية
تطرد الآية عن الانسان الهم برزق الغد وتدفع عنه الوهم بالفقر والحاجة، وهذا الوهم مانع عن الانفاق وبرزخ دون المبادرة الى الصدقات خصوصاًً المندوبة والمستحبة منها، وفيها فضح لما يأمر به الشــيطان من الاخلاق الذميمة وارتكاب الذنوب، ليدرك الانسان وجــود ملازمة بين عدوه وبين الفحشاء والشح، ومن اعجاز الآية وجود البشارة، والتصدي لكيد الشيطان بما فتحه الله من ابواب التوبة والمغفرة.
وستبقى الآية امدرسة في اعداد وتهيئة النفوس للصالحات وفيها تبصرة وارشاد وتعليم.
ان ذكر الشيطان والتحذير منه في آيات الانفاق هذه تنبيه للمسلمين من الموانع الظلمانية ووسوسة الشيطان وتأثير النفس الشهوية والغضبية في باب الانفاق والصدقات.
ومن لطفه تعالى ان يهيء اسباب الانفاق ويدفع ما يكون مانعاً منها، وجاء التخويف من الشيطان بالاخبار عن وعده، مع توكيد زيف وبطلان ما يعد به سواء بالذات او بذكر وعده تعالى الناسخ والماحي لوعد الشيطان من الأذهان وعالم الأفعال.
ويمكن ان تسمى هذه آية (الوعد وضده) باعتبار ان وعد الشيطان في حقيقته لا وعد.
الآية سلاح
تعتبر الآية حرزاً وواقية تعطي قوة في مواجهة اسباب الغي والضلالة، وهذه القوة مركبة من الحذر من وساوس الشيطان، ومن الامل وعظيم الرجاء بفضله تعالى ليكونا مقدمة كريمة للانفاق والمبادرة الى اعانة الفقراء والمحتاجين واخراج الزكاة المفروضة واداء الفرائض المالية ومنها الحج الذي هو فريضة مالية بدنية.
مفهوم الآية
تمنع الآية الانســياق وراء الشيطان والتمادي في الغنى واختيار البخل والتمسك بالزائد من المال بخلاًً وشحاًً من الفقر والفاقة، وتدعو الآية الى عدم الشــعور بالخوف من الفقر والخشية من المستقبل المظلم لان الله عزوجــل هو الواســع الكريم وقـد وعد سبحانه بالعوض والبدل والاجر.
ومن مفاهيم الآية انها مدخل للاستقامة والصلاح واجتناب السوء، وتبين الآية ان الشيطان ليس له تأثير على الانسان سواء بانحصار تأثيره بالوعد وكذبه ولان الله عزوجل يمنع من وجود سلطان له على المسلمين، ومن المنع مجــئ هذه الآيـة بالتحذير من كيد الشيطان وأتباعه في اغوائه ومحاولاته ثني الانســان عن الانفاق في سبيله تعالى، وتزيل الآية الحواجز التي تحول دون شيوع الانفاق في سبيله تعالى، ليصبح عادة مستديمة عند المسلمين مع تعاقب طبقاتهم واجيالهم وهو دعوة للثقة برحمته.
وتمنع الآية من القنوط او اليأس من فضله تعالى لما تتضمنه من الوعد الكريم بالمغفرة والفضل الالهي، ومن مفاهيمها انها تظهر بشاعة ولؤم الشــيطان بســوء ما يعــد به من الفقر وما يدعـو اليه من الفحشاء ومحاربته للجود والكرم وهما خصلتان محمودتان، وسعيه للصد عن سبيله تعالى.
والآية دعوة للتعوذ بالله من الشيطان الرجيــم واتخاذ الاستعاذة سلاحاََ وحــرزاً وعدم الغفلة عنها حتى عند القيام بالانفاق واخراج الحق الشرعي، لان وعــد الشيطان بالفقــر جاء مطلقاًً بلحاظ افراد الزمان الطولية، فتستمر وسوسته وتصويره للفقر والفاقة حتى بعد الانفــاق، ويحــاول نقل الانســان الى حال الندم لتتسرب الحسرة الى نفسه وليكون مقدمة لغشاوة ظلمانية تظهر عند عزمه على الانفاق مجــدداَ، وتكـــرار الاســتعاذة واللجــوء اليها بــاب للتخــلص من شروره.
افاضات الآية
الآية دليل وحرز من الشيطان، وشاهد متجدد يفضح عدو الانسان، ويخبره به على نحو التعيين ,ويبين له مواضيع العداوة , والاسلحة التي يتخذها , من دون ان تترك اقامة البرهان على وهن العدو وضعف أسلحته وعجزه عن التأثير، فالآية وما بها من الاخبار عن الشيطان وحسده للانسان انما هو منعة مكتسبة.
والآية سياحة في عالم الرجاء، اذ ان مغفرة الذنوب لا يقدر عليها الا الله عز وجل، فالذنب مركب من ترك الامتثال وعدم اجتناب النواهي، والاتيان بالفعل القبيح، فيأتي الوعد بالمغفرة ليكون أملاً ويمحو الخوف في النفس من الذنب او يخفف من وطأته، لأن رجاء مغفرته تعالى والتصديق بوعده سبحانه يقهر الشيطان ووعده وما أمر به وما كان سبباً لحدوثه، وتدعو الآية الى اجتناب الاستماع للشيطان من الأصل، وتستبقه في التأثير على قلب الانسان.
والوعد بفضله تعالى مناسبة لتلقي الافاضات التي تأتي ابتداءًَ من عنده سبحانه.
التفسير
قوله تعالى [الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ]
بدأت الآيــة بذكر الشــيطان زيــادة في التحذير منــه والتنبيه على سوء فعله ووسوسته ولزوم الإلتفات الى ما يجلبه الإنقياد له من الأضرار والشــرور العامة، فضرر الإنقياد للشيطان مركب وعلى وجوه وهي:
الأول : اضراره بالشخص نفسه وحرمانه من عظيم الثواب بالإنفاق.
الثاني : لحوق الحيف بالفقراء والمحتاجين بسبب الشح وامساك ارباب الأموال خوفاً من الفقر والفاقة.
الثالث : شــيوع الأخــلاق الذميمة وتفشــي البخل في المجتمع فاذا امسك الغــني عن الإنفــاق خشــية الإمـلاق امسك من هو مثله او أدنى منه.
الرابع : انتشار الرذيلة والسقم والأمراض البدنية والنفسية وظهور البغضاء على اللسان وفي الأفعال.
وجاءت الآية بصيغة الجمع (يعدكم) مما يدل على اتساع دائرة وسوسة الشيطان وتسلطه في الغواية على عموم الناس الا من عصم ولأن لغة التحذير عامة ومطلقة ليتخذ الجميع الحيطة من وسوسته وشره ويجتنبون البخل والشح والتقصير في باب الإنفاق.
وتدل الآية على موضوعية الإنفاق في سبيله تعالى ولزوم قيام الأمة بتحدي الشيطان والمبادرة الى الإنفاق خصوصاً وان كيده ضعيف والوعد يأتي عادة في الخير ومع هذا فان الشيطان لا يعد الا بالشر والفاقة، والشيطان يحمل على وجوه:
الأول : ابليس كما في قوله تعالى [ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ]( ).
الثاني : اسم جنس والمراد منه عموم الشياطين قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ] ( ).
وقد ورد لفظ (الشيطان) في القرآن ثمان عشرة مرة.
الثالث : شياطين الجنس والإنس، وان وسوسة الشيطان تصدر على لسان بعض الناس من داخل الأسرة او من خارجها، او في ميادين العمل والتجارة، فيقول قائل: ان انفقت من طيب مالك فانك ستحتاج اليه، وما بقي في يدك لا يصلح للبيع، نعم قد تلجأ اليه لتأكله مضطراً، ونفسك واسرتك اولى بالإنفاق والإدخار فمصلحتك تقتضي عدم الإنفاق او الإنفاق من الخبيث ويصدق عليه مسمى الإنفاق، وربما يأتي من يقول له ان انفاقك من الخبيث افضل واحسن من انفاق فلان الغني من الطيب، لأنه عنده فضل وزيادة في الطيبات وانت ليس عندك زيادة وستحتاج للمال اذ اصبحت فقيراً وربما كان الانفاق سبباً لفقرك، وقد يأتي مثل هذا القول على نحو وسوسة من الشيطان وحديث النفس الشهوية والأمارة بالسوء، والأقوى مناسبة الوجوه الثلاثة كلها لصدق اسم الشيطان عليها ولحمل اللفظ على الإطلاق.
ومن منافع الآية انها تجعل النفوس تنفر من الشيطان لأنها تظهره على حقيقته وتبين حقارة فعله ووسوسته وكيف انه عدو للإنسان مطلقاً قال تعالى [ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، يظهر ان للشيطان وظائف متباينة مع الناس كل حسب منزلته وحاله فمنهم من يرغبهم في الإستمرار على عملهم كما في أهل الضلالة والكفر ليمنعهم من الإســتبصار، قال تعالى [ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ]( )، اما بالنسبة للمسلمين فانه يحاول ان يصدهم عن اعمالهم في البر والصلاح ويحول دون كثرة الإنفاق وما تؤدي اليه من تثبيت دعائم الإسلام في الأرض.
ومن الإعجاز ان يأتي لفظ الشيطان مبتدأ للإنذار منه وبيان قبح فعله ولتبدو حقيقته بسيطة لا تعدو الموعدة والأغواء ومخالفة الواقع لعل بعض النفوس تستجيب وتنصت له، لذا حذر القرآن منه، وجعل الله عز وجل نوع تعادل بين الخوف والأمل في الجملة، وتأتي هذه الآية للاعانة والتخفيف واعتبار واستحضار الأمل لأن وعده تعالى بالمغفرة والفضل حق وصدق.
وتجعل الآية التفكير باحتمال الفقر امر مبغوض للنفس الإنسانية خصوصاً عند المؤمن، وبذا يمتاز المؤمن عن غيره بانه لا يخشى طرو الفقر عليه في مستقبل ايامه لأن هذه الآية تخبره عن منشأ هذا الإحتمال وانه من زيغ ووسوسة الشيطان، ولا يعني هذا الميل الى مضمون المثل القائل “اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب” فالمقام يختلف عن الصرف والإسراف، بل انه يتعلق بالإنفاق طلباً لمرضاته تعالى وهو سبيل لنماء المال وزيادة الرزق، واذا اختلف الموضوع اختلف الحكم لأن الأخير تابع للأول أي للموضوع.
وتظهر الآيات السابقة كذب الشيطان في وعده وزيف ادعائه وجهله وحماقة من يصدق به، لأنه يعد بما يخالف الواقع اذ ان الله عز وجل يرزق عباده ويوسع على من ينفق في سبيله تعالى فالآيات السابقة والتي جاءت بتعويض الإنفاق في سبيله تعالى ومضاعفته اضعافاً كثيرة تفضح الشيطان وتبطل اثره عند قارئ القرآن واهل الإيمان مطلقاً، وتجعل الإنسان محتاجاً لتلقي دروس الهدى من القرآن بتلاوته من غير ان تصل النـــوبة الى مراجــعة كتـب التفسير، فالآية حصانة من الشيطان ومن الظن بالفقر.
وموعدة الشيطان بالفقر يحتمل أمرين:
الأول : الوعد بالفقر عند الإنفاق في سبيل الله او العزم والهم به.
الثاني : الإطلاق في الوعد بالفقر، وانه من خصائص الشيطان وافراد وسوسته لبني آدم والوعد بالفقر.
الأقوى هو الثاني وانه يدعو الى الأخلاق الذميمة والى ضعف الأمل ويسعى لمحاربة بذل المال في الخيرات ووجوه البر والصلاح، والتنعم بالطيبات التي تستلزم دفع العوض سواء في المأكل أوالمشرب او الملبس او المسكن، كما انه يعد الإنسان بالفقر حتى من دون صرف او بذل مال ليجعل الإنسان يحتفظ بماله ويهم بالمستقبل لينشغل عن طاعة الله ولا يلتفت الى واجباته العبادية.
ان وجود سلطان للشيطان على الإنسان يجعله يقصر في واجباته المالية فيأتي موسم الحج ولا يؤدي الفريضة مع كونه مستطيعاً خشية الإنفاق وترك اعماله التجارية وفوات بعض المصالح، والشعور بالخشية من الفقر يدفعه الى ايلاء عناية فائقة بالكسب والعمل فلا يؤدي الصلاة في اول وقتها ويسهو عنها لأن الشيطان يشغله بهموم الغد ويجعله يفكر بكيفية التغلب على الفقر المحتمل مع انه لو رجع الى نفسه وعاد الى حساب نفقات يومه وليلته وما رزقه الله لأدرك ان الخشية من الفقر وهم لا اصل له فضلاً عما ينتظره من الرزق الكريم، قال تعالى [ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ]( )، فاذن الوعد بالفقر لا ينحصر بموضوعه بل هو مادة للأشغال وحاجب عن اداء الفرائض وسبب للبخل والشح، ويحاول الشيطان ان يمنع العبد من اخراج الزكاة والصـدقات المستحبة ليتمادى في الغي ويبتعد عن منازل الهداية والإيمان.
ويرد اشكال على اطلاق الموعدة بالفقر فيما يخص الإسراف والتبذير فالشيطان يريد للإنسان ان يكون مسرفاً يصرف امواله في الفجـــور ويقضـــي اوقــاتــه في الحرام، والوعــد بالفقــر يجعــله يمسك عن الإسراف ويتجنب الحرام وما فيه تضييع الأموال والجواب من وجوه:
الأول: ما ورد في هذه الآية، ونسخ وعد الشيطان بالفقر بموعدته تعالى بالمغفرة والفضل العظيم.
الثاني: ان الإسراف يخرج بالتخصيص من الإطلاق وانه جزء من الأمر بالفحشاء الوارد في هذه الآية، فهو يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء وكأنه يصور الفحشاء ذات انفاق لازم مقدم على الخشية من الفقر.
الثالث: ذم القرآن للتبذير والإسراف قال تعالى [ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ] ( )، وتبدو نظرية الوسط الأخلاقي الإسلامية فلابخل ولا اسراف بل كرم وانفاق طاعة لله عز وجل ورجاء مثوبته.
وعائدية الضمير في (يعدكم) فيها وجوه:
الأولى : المسلمون القادر منهم على الإنفاق وغيره.
الثانية : المسلمون الذين ينوون الإنفاق في سبيله تعالى ويبادرون الى الخيرات.
الثالثة : الذين يحبون القيام بالإحسان الى الآخرين واعانتهم بالمال من المسلمين وغيرهم من الملل الأخرى.
الرابعة : الناس جميعاً.
والأصح هو الوجــه الأخير لإصالة عداوة الشيطان لبني آدم عامة الا من عصم الله عز وجل، قال تعالى [ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ]( )، فهو يعد المســلمين بما هــم من بني آدم، وهو جزء من الإبتلاء في الحياة الدنيا وللمبنـى الذي نطــرحه وهــو وعده بالفقــر الى رحــمته تعالى، فمــا من انســان الا وهـو فقيــر ومحتاج لرحمته ســبحانه قــال تعالى [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ]( ).
وهذا العموم لا يمنع من ارادة المسلمين في قوله تعالى [ يَعِدُكُمْ ] تحذيراً وتنبيهاً لهم لأن النسبة بين الناس والمسلمين عموم وخصوص مطلقاً، فكل مسلم هو انسان وليس العكس، بمعنى ان الآية تقول للمسلمين ان الشيطان يعدكم ويعد غيركم بالفقر فاحذروه، ليكون من قواعد الإسلام الإحتراز من الشيطان ومما يخوف منه وجاء الخطاب في الآية بلغة جمع المذكر السالم والمراد عموم المسلمين من الذكور والاناث والتذكير للغالب.
ان الوعد بالفقر والخشية منه يجعل الإنسان متردداً في حياته، ضعيفاً في مواجهة الباطل، يخشى الفقر واحتمال اضطراره للإستعانة بالآخرين من ارباب المال والجاه، ويلهث وراء المال لجمعه وحيازته حتى يكون الشح عنده سجية ثابتة.
وقد جــاء الوعــد بالفقــر مطــلقاً من جــهـة مـراتب الغــنى والسعة او الفقـر، فالشــيطان يخوف الأغنياء بالفقر وكساد التجارات وتعرض الثــروة للتلــف، ويخــوف ارباب المهـن بتعطيل مهنهــم واصـابتهم بالعجز عن مواصــلة العمل، ويوسوس للذي يريد الإنفاق واعانة الفقراء ويومــئ له بالحاجة الى ما يخــرج من يده وان الذي ينفقه لا يرجع اليه ولا يمكن تعويضــه لأن الدينار الجديد الذي يأتي ليس عوضاً او بديــلاً للــذي فقــده، ومن ينفـق يقول له لو لــم تنفــق لأصبحت عندك امــوال كثــيرة تكــون عوناً لك ولعيالك على الفقر الذي ينتظرك في الغد.
وروي عن عبد الله بن مسعود: “ان للشيطان لمة وهي الايعاد بالشر، وللملك لمة وهي الوعد بالخير، فمن وجد ذلك فليعلم انه من الله، ومن وجد الأول فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم”( ).
وفي الخبر ان هارون بن خارجة سأل الإمام صادق قال: “إني أفرح من غير فرح أراه في نفسي، ولا في مالي ولا في صديقي، وأحزن من غير حزن أراه في نفسي ولا في مالي ولا في صديقي؟ قال: نعم إن الشيطان يلم بالقلب فيقول: لو كان لك عند الله خير ما أدال عليك عدوك، ولا جعل بك إليه حاجة، هل تنتظر إلا مثل الذي انتظر الذين من قبلك؟ فهل قالوا شيئاً، فذاك الذي يحزن من غير حزن، وأما الفرح فان الملك يلم بالقلب فيقول: إن كان الله أدال عليك عدوك، وجعل بك إليه حاجة، فانما هي أيام قلائل أبشر بمغفرة من الله وفضل وهو قول الله: [ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً ]” ( ).
والوعد التعهد بانجاز شيء او ايجاده، وله معان ثلاث:
الأول: ارادة الخير والمعروف بالوعد.
الثاني: التفصيل، فيستعمل الوعد في الخير والبشارة ،والوعيد في الشر والإنذار، قال ابن سيده: في الخير الوعد والعدة، وفي الشر الإيعاد والوعيد.
الثالث: الإطلاق وارادة الخير والشر بالوعد، انما يعرف المراد وهل هو خير أم شر بالقرائن والموضوع.
والاصطلاح على المعنى الثاني حتى صار الخير هو المتبادر من اطلاق لفظ الوعد، والمعنى اللغوي على الثالث.
(قال الأزهري: كلام العرب وعدت الرجل خيراً ووعدته شراً)( ).
والشيطان لا يعد الا بالشــر ولكن ليس له قدرة على انجاز وامضاء ما يعـد به لا على سبيل القضيــة الشخصيــة ولا النوعيــة، وقــد ورد وعد الشــيطان للإنسان ببضع آيات تدل على كذبه وعجزه وضعفه وهي:
الاولى : [ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ]( ).
الثانية : [ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ]( ).
الثالثة : [ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ]( ).
وتدل هذه الآية مجتمعة على الإعجاز القرآني وعدم وجود تناقض او تباين في موضوعاته وقواعده واحكامه مع التباين في مواضع الآيات الأربعة ومنها الآية محل البحث، فالشيطان لا يعد الا بالغرور ولا يقدر على الإيفاء بوعده، ولا يعد الا بالباطل.
وهل من تعارض بين الآية محل البحث وقوله تعالى [إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ]( )، الجواب: ليس من تعارض بينهما لأن الوعد لا يعني السلطان والقدرة على الأمر والتوجيه الى الفعل، بل ان احداهــما تفســر الأخــرى، فشـهادة الآية بانتفاء سلطان الشيطان على العــباد يبين ماهيــة الوعد وانه كالسراب او الوهــم والزيف الذي لا موضوع له، كما انه سبحانه يعد بالغنى والعوض العاجل والآجل على الإنفاق.
وفي الحديث: “اذا املقتم تاجروا الله بالصدقة”( )، ووعده سبحانه حق وحتم، ويلاحظ في الآية ان الشيطان لم يأمر بالبخل وعدم التصدق لعجزه وعدم اهليته للأمر في هذا الباب ولكن اغواءه ينحصر بالموعدة التي يدرك كل انسان انها كاذبة لا موضوع لها.
قوله تعالى [وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ]
انذار وتحذير من كيد ومكر الشيطان وبيان لما يأمر به جاء بمناسبة الحث الإلهي على الإنفاق في سبيله تعالى.
واتباع الإعطاء بالمن والأذى هل هو:
الأول : من الوعد بالفقر.
الثاني : من الأمر بالفحشاء.
الثالث : منهماً معاًً على نحو الإجتماع والتعدد.
الرابع : ليس منهما بشــيء، وان الشيطان لا يـأمـر بالمن والأذى عند الصدقة.
الجواب: انه من الأمر بالفحشاء بالقول لأن البخل من مصاديقها، ووسوسة الشيطان والخشية من الفقر وطروه على الإنسان يترجل في الخارج بالمن والأذى، كما يوبخ السائل ويحاسبه على عدم توجهه للعمل والكسب وهو يعلم بندرة فرص العمل.
والفاحشة لها معان عديدة متقاربة اهمها:
الأولى : القبيح من القول والفعل، والخصال المذمومة، ويقال الفحشاء، والجمع الفواحش، ورجل فاحش: ذو فحش، وفي الحديث: “ان الله يبغض الفاحش المتفحش”
الثانية : الفاحشة الذنب والمعصية.
الثالثة : الزنا ( قال ابن الأثير وكثيراً ما ترد الفاحشة بمعنى الزنا ويسمى الزنا فاحشة) ( )، وقال الكعبي: كل فحشاء في القرآن فالمراد به الزنا الا هذا الموضع.
الرابعة : الفحشاء هو البخل قال ابن منظور (والعرب تسمي البخيل فاحشاً)( ). وقال طرفة:
ارى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
أي انه شديد البخل، وقال ابن برى: الفاحش السيء الخلق المتشدد البخيل.
والامر الوارد في الآية أعم من الوجوب او الندب، كما هو في مباحث علم الاصول في الاوامر، ولما ثبت نقلاَ وعقلاً بعدم وجود تأثير او ســلطان للشيطان على الانســان، ولكن امـره يكون على نحو الوسوسة والدعوة الزائفة الكاذبة التي تضمحل بمجرد اختيار الانسان الايمان.
والفاحشة الواردة في الآية تحتمل وجهين:
الأولى : البخل والشح اذ يأمر الشيطان بعدم المبادرة الى الانفاق في سبيله تعالى.
الثانية : ان الفحشاء اعم، وان أمر الشيطان بالبخل والشح دل عليه قوله تعالى [ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ ].
وهذا المعنى هو الارجح والاصح، ويدخل البخل فيه، والشح هو البخــل المقــرون بالحـرص قال تعالى[ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ]( )، ولم يرد لفظ اشـــحة في القرآن الا مرتين، وفي آيــة واحدة من سورة الاحزاب ذماً للكفار، ويدل هذا الذم في مفهومه على اكرام وتنزيه المسلمين.
وهناك شواهد قرآنية عديدة تبين سوء ما يعد به الشيطان سواء تلك التي ترد بخصوص المتحد من الفاحشة او المتعدد بلام الجنس او بالجمع الفواحش، قال تعالى[ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ]( )، وقد يقال انه لم يرد امر الشيطان بالفواحش بصيغة الجمع في القرآن، بل ورد امره بصيغة المفرد والجواب على وجهين:
الأول : المراد لام الجنس.
الثاني : لبيان حقيقــة في المعرفة الإلهيــة وهي ان الشــيطان اقل واعجز من ان يأمــر بعدد من الفواحش، وهذا الوجه قد يرد بعمومات قوله تعالى [إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فالأقوى ان الأمر بالفحشاء الوارد في الآية اعم من البخل لإصالة الإطلاق لو دار الأمر بين الإطلاق والتقييد، ولإستثمار القرآن لمسألة الإنفاق للتحذير من الشيطان فقد يلتفت الإنسان الى وسوسة الشيطان في باب الإنفاق ويتجنب البخل والشح ولكنه يقع فريسة للشيطان في جانب آخر خصوصاً وان الشيطان لا ينفك يضمر العداوة للإنسان، ومن الفحشاء في المقام:
الأول : الإنفاق رياءً.
الثاني : اتباع الإنفاق بالمن والأذى.
الثالث : عدم الإنفاق خشية الإملاق.
الرابع : القــول والفعــل القبيح بـدل الإنفاق، بمعــنى ان الأمرين معاً يجتمعان خشــيــة الفقر لوســوســة الشيطان، وفعل الفحشــاء فبدل ان يعطي الفقير ويســاعده على قضــاء حاجته ينهره ويشتمه او يوبخه.
الخامس : الأمر بعدم التصدق ليس للخوف من الفقر وحده بل لغلبة النفس الشهوية والغضبية وعدم الميل الى محبة اعانة الآخرين، لان الله عزوجل اذا اراد بالعبد خيراَ جعله يحب مساعدة الناس، والسعي في حوائجهم، وبذل المال وتيسير امورهم، والتخفيف عنهم رجاء التخفيف عنه في النشأتين.
فالعبد لا يحتاج الانفاق في الآخرة فحسب بل يحتاجه في الدنيا لزيادة رزقه والنماء في ماله ودفع البلاء عنه. فبالانفاق يشتري سلامته ودوام ثراه.
وتبعث الآية النفرة من الشيطان في النفس الانسانية وتجعل الانسان يبتعد عن مواطن اغواء الشيطان وما فيه رضاه وحسده، ليبقى في حرب وتحد مستمر مع قوى الغي والضلالة، ويتضاعف الاجر والثواب بقهر النفس الشهوية والاعراض عن وسوسة الشيطان، وهذا الاعراض دليل على الثقة بفضله واحسانه تعالى والشوق للقائه.
والآيــة من العلاج النفسي واصلاح الذات الانسانية للانفاق في سبيله تعالى وفيها بيان كتأويب القرآن للمسلمين ومضامين اللطف الالهي في رفع الحواجز النفســية وصـد الشيطان عن التأثير على المسلم في انفاقه، والقاء اللوم في القصور الشخصي على الشيطان وارجاع اسباب البخل الى مكره وكيده ووسوسته، وكما في اكل آدم وحواء من الشجرة وكيف ان القرآن وضع اللوم على إبليس لانه وسوس وزين لهما الاكل من الشجرة قال تعالى [ فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ]( ).
ومع ان موضوع الآية خاص وهو الانفاق طلباََ لمرضاته تعالى فان التحذير من الشيطان جاء مطلقاََ بفضحه فيما يأمر به من السوء والفحشاء، والانفاق في سبيله تعالى مقدمة وسبب للاحتراز من الشيطان ومكره، لذا ورد قوله تعالى في الآية السابقة [وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ] بمعنى ان الشيطان في بينونة عزلة، والانفاق يطارده ويختصه من التأثير على الانسان في قوله وسلوكه العام.
ففي الآية اشارة واخبار عن شطر من منافع الانفاق العاجلة وكونه برزخاَ دون اقتران الفواحش ومانعاَ من سلطان الشيطان على المنفق، فعندما يقوم المسلم بالانفاق في سبيله تعالى يدرك الشيطان انه خسر الحرب معه وليس معركة الانفاق وحدها، واصبح المسلم متحصناََ من شره ووسوسته، وكأن الآية تقول ان كنتم تريدون التخلص من الفواحش وما يأمر به الشيطان فعليكم بالانفاق.
وفعل الشيطان هنا يتعلق بوعده وامره على وجوه:
الأول : انه يعد بالفقـر ويأمر بالفحشاء في زمان واحد وموضوع واحد كما لو اخاف الانسان و الانفاق وان يسبب له الفقر وأمره بالقبح من القول والفعل او استغلال السؤال واحتمال العطية لاغراض محرمة كالزنا.
الثاني : يعد بالفقر عند الهم بالانفاق وطرو موضوعه كما لو حل أوان دفع الزكاة من غير أمر بالفحشاء.
الثالث : يأمر بالفحشاء عند الشبهات وفي مواردها، دون موارد الانفاق التي لا يأمر بها بل يكتفي بالوعد بالفقر.
والأصح هو الوجه الأول فانه يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء معاً في مواطن الإنفاق وغيرها الا ما ورد فيه دليل خاص او خرج بالنص او تعذر عليه مزاولة الأمرين معاً ونحوه، والوعد بالفقر من مقدمات الأمر بالفحشاء.
ومع النظرية الجديدة التي نطرحها بقصد الشيطان الفقر الى رحمته تعالى في النشأتين، يمكن ان نضيف اطروحة ووجهاً آخراً وهو: ان الشيطان يعد الفقر عند اتباعه وطاعته باتيان الفواحش، فالإقبال على الفواحش يؤدي الى الفقر وتضييع المال وخسارة الدنيا والآخرة، بمعنى انه يعد من يتبعه الفقر، فهو يأمر بالفحشاء وارتكاب المعاصي ويعد عليها الفقر ومع هذا هناك من الناس من يمتثل لأغوائه، اما من يتبع احكام القرآن وينفق في سبيله تعالى فان الله عز وجل يعده المغفرة والرضوان والزيادة والنماء في المال.
وجاء الوعــد بالفقــر مطلقاً من جهــة الأسباب بمعنى انه لم يعد الفقر بسبب الإنفاق والبذل في سبيله تعالى فقط، بل يخوف الإنسان ويرسم له صورة قاتمة مفزعة عما ينتظره بالغد في حرب منه على الإنسان.
قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ]
يتجلى الإعجاز هنا بوجوه:
الأول : بتعقب ما يأمر به الله عز وجل ما يأمر الشيطان.
الثاني : بالتباين والتناقض في موضوع الوعد، فالشيطان يعد بالبخل وهو مبغوض عقلاً وشرعاً وعرفاً فلا احد يحب البخيل ويميل اليه.
الثالث : جاء فعل الشيطان في الآية مركباً من الوعد بالفقر والأمر بالفحشاء، ويقابله الوعد منه تعالى بالمغفرة والفضل.
الرابع : وعد الشيطان وهم وكذب، ووعده تعالى حق وصدق، فالحق يطرد الكذب ويزيح الباطل.
الخامس : لم يترك الله عزوجل الإنسان في حيرة عند مواجهة الشيطان ولم يجعله ينفرد به وسوسة ووعداً باطلاً ودعوة للبخل والقول والفعل القبيح بل جعل عنده سلاح العقل، فالآية بشارة ولطف ورأفة واخبار عن اتصال عنايته بعباده، فجعل الشيطان يأمر ليأتي نقض الأمر متعقباً له وملازماً له بل ومتقدماً عليه كما في حال برزخية الإنفاق وحيلولته دون ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولو على نحو الموجبة الجزئية.
السادس : الوعد بالمغفرة منه تعالى مطلق، بمعنى انه لم ينحصر في نقض وصد مكر الشيطان ووعده بالفقر وامره بالفحشاء بل ان وعده تعالى دائم لكل مسلم ارتكب السيئات او لم يرتكبها، استمع لوسوسة ابليس او لم يستمع، فوعد ابليس الكاذب صار مناسبة للإخبار عن عظيم فضله تعالى ولبعث السكينة في النفوس ومنعها من الخوف والوجل من ابليس وجنوده من الإنس والجن من غير غفلة، او نسيان لأمره وشأنه.
السابع : ظاهر الفقر الذي يعد به الشيطان يتعلق بالدنيا، وفي حال الإنفاق مع كذبه وافتضاح أمره بأدنى التفات لضعف كيده وانتفاء سلطانه وعدم وجود حقيقة ومصداق واقعي لما يدعيه، اما المغفرة التي يعد بها الله تعالى فهي في الدنيا والآخرة وتعني حسن العاقبة، ويتخلى الشيطان عن وعده يوم القيامة، ويدعي غير المفهوم دلالة الالفاظ والمتبادر من الوعد منه، وربما قال انه قصد فقر الآخرة والحاجة الى الإنفاق لأنه غنى يوم القيامة.
الثامن : لم يخبر الشيطان عن الإنتفاع بالمال المبخول به، بل وعد بالفقر والحاجة ويحــاول تخــويف الإنسان ويجعــله يخشى من الغد، وما يأتي مـعــه من الحاجــة لأنــه لا يــعد الا بمـا هــو قبيح ويحــاول تصوير الأمــور بغشتاوة ظلمانية تؤثر سلباًً على سلوك الإنسان لو استمع له.
فجاءت الآية الكريمة بالوعد الإلهي بالمغفرة لدحض وابطال ما يبثه الشيطان من الخوف الذي يكون مقدمة للبخل والشح، وليبقى الخوف عند الإنسان منه تعالى ومن معصيته ليجتمع مع الرجاء والأمل، فيقهر الإنسان الشيطان ويتوجه صوب الإنفاق طلباً لمغفرته تعالى وتكفير الذنوب.
وجــاء لفــظ (المغفرة) على على نحو التنكير والإطلاق ومن غير تقيـيد بذنب مخصــوص لأنه تعالى اذا وعد وعد بالأوفى والأتم والأكمل.
ان مجيء المغفــرة في باب الإنفاق يدل على موضوعيته في محو الذنوب اذا جاء بقصد القربة اليه تعالى، وهذه المسألة عرفانية فطرية اذ تطلب المغفــرة باخــراج الحقــوق الشــرعيــة، واعانــة المحتاجين لما فيها من الإقــرار بالعبوديــة ويوم الحســاب، والرأفة بالعباد فمن يرأف بالناس ويعطـــف عليهم ويبذل ماله لإعانتهــم ويدخــل البهجــة في نفوسهم، فان الله عز وجــل يثيــبه بادخال الســرور في نفســه بان يعفو عنه ويغفر له.
لذا جاءت نسبة المغفرة له تعالى [مَغْفِرَةً مِنْهُ] أي انها ليست باستحقاق من العبد ولا بطلبه الإستغفار وصدق توبته كمقدمة واجبة للمغفرة، بل ان المغفرة تفضل منه تعالى لإقدام المسلم على الإنفاق في سبيله، لذا ترى المنفقين يصلح اللهم احوالهم في التقيد بالفرائض ومعــرفة طرق الهداية والرشـاد، مع التباين بين ماهية المعصية، والانفاق، ولأن الانفاق مطلوب بذاته، والمعصية تعد وتجاوز ومخالفة للأوامــر الإلهية، ولكــن الله عز وجــل يجعل للامتثال منافع عظيمة ويأتي على الذنوب فيمحـوها، او يكون مقدمة لامتثال واستجابة اخرى.
وبينما يكون وعد الشيطان كذباً وجزء من عداوته للإنسان ولأنه ليس عنده ما يعطيه ويهبه وفاقد الشيء لا يعطيه، فان المغفرة جاءت وعداً من عند الله والوعد يكون بالإحسان ابتداء، وجاء لفظ (منه) لتكون المغفرة على اقسام منها:
الأولى : ما تأتي بسبب الإستغفار.
الثانية : اختيار التوبة والإنابة.
الثالثة : ابتداء منه تعالى.
الرابعة : الثواب على الأفعال العبادية كالإنفاق في سبيله تعالى، والآية بشارة المغفرة وعدم انحصارها بالأسباب الذاتية وافعال العبد والمقدمات اللازمة بل هي وعد كريم ومنحة وهبة يتفضل بها سبحانه على عباده ابتداء منه، لذا جاء الوعــد بها بالآيــة الكريمة لتتجلى سنن من المعرفة الإلهية وكيف ان كيد الشيطان على الإنسان لا اعتبار ولا موضوع لها.
الخامسة : مجيء المغفرة بالتنكير والاطلاق يدل على احتمال شمولها لأسباب المن والأذى المتعقب للإنفاق، فيمكن التفكيك بين الإنفاق وبين المن والأذى وتدارك الأخير بالإستغفار والإنابة، وارضاء الفقير المحتاج الذي وقع عليه الأذى، والله واسع كريم.

قوله تعالى [ وَفَضْلاً]
الفضل هو الزيادة والمراد بها الزيادة في الاحسان والعطاء والنماء في المال، وجاءت الزيادة هنا جزء من الوعد الكريم بمعنى انها غير الثواب والاستحقاق ومضافة اليه، ليدرك الانسان عظيم احسانه سبحانه وانه لم يخل بين العبد وبين الشيطان بل ان وعد الشيطان في الحقيقة سبب للهداية والايمان، وهذا جزء من فلسفة الابتلاء في الدنيا بان تكون وسوسة الشيطان عوناَ على العبادة وسبباََ للهداية ومقدمة سلبية للمعرفة الالهية كالمضاد الذي يرزق في البدن لتنشيطه ضد ذات المرض لجعله ممتنعاً عن الاصابة به.
فوعد الشيطان في الاصل اختبار للعقل الانساني للنظر في ماهية الحياة الدنيا كدار ابتلاء، ودعـوة للجوء الى وعده الكريم وطلب مرضاته وعدم اتباع الانفاق بالمن او الاذى، لان الملاك هو نيل الثواب واحراز الاجر ولايتمان الا بالتخلص من الوهم الذي يحاول ابليس وجنوده بثه في نفس الانسان والمتمثل بالوعد بالفقر والفاقة، فتأتي البشارة من عنده تعالى بالفضل والاحسان ليكون الرجاء والامل بالجزاء ملازماًً للانسان.
وفي الحديث: (اعوذ بك من الذنوب التي تقطع الرجاء)، وقد فسرت الذنوب هنا بانها اليأس من روح الله، والقنوط من رحمته، والثقة بغيره، والتكذيب بوعده، فالوعد الكريم بالفضل يبعث في النفس السكينة ويزيدها املاَ ورجاءً، ويزيح الحواجز التي يضعها الشيطان والنفس الشهوية دون الانفاق، وقد يفكر الانسان بنفسه وحاجته في المستقبل ويخشى المجهول ونوائب الدهر، فتأتي هذه الآية لتخبره عن أمور منها:
الأول: ان الانفاق في سبيله تعالى اجنبي عن هذا التفكير وان البخل لا يحول دون النوائب، فقد يبتلى الانسان بما يفوق مقدرته وسعته وماله ويصاب بالجزع والعجز ويضطر الى اللجوء الى الله تعالى، فجاءت الآية لتخبر عن فضله تعالى بصرف البلاء الكثير بالصدقة القليلة، خصوصاًً وان المرض والضيق وتلف الاموال لا يميز بين شخص وآخر، وليس من احد عنده حصانه من هذه الابتلاءات وغيرها، ولكن الفضل الالهي وحده هو العصمة وسبيل النجاة، والانفاق والصدقة باب لصرف الكثير منها.
الثاني: الدعوة الى الاتجار مع الله عزوجل ورجاء فضله والتطلع الى احسانه فلا يستطيع كل مسلم الانفاق والبذل ولكن فضله تعالى يتغشاه ويشمله كعبد ومسلم وفرد من المسلمين.
الثالث: ان الفضل الالهي جاء بصيغة التنكير، أي فضلاَ واي فضل، لا تدرك العقول سعته وعظمته وكثرته وتواليه كما وكيفاَ، والله بيده خزائن السماوات والارض، التي لا تنفذ ولا يتسرب النقص لها، كما يدل التنكير على تعدد مواضيع الفضل وعدم انحصارها بالثواب بل تشمل محو البلاء ودفع الفقر، فقد يلتقي وعد الشيطان مع ما كتب الله عزوجل لشخص من الفقر والحاجة، فلا يعني هذا حصول الوعد الشيطاني، كما ان الفضل الالهي يأتي ليمحو ما كتب من الفقر والحاجة فيقهر الشيطان، ليكون الفضل الالهي سبباََ للنجاة مما كتب من البلاء والفقر بالرزق من غير احتساب وخلافاََ للاسباب المادية.
ومن جوده وكرمه سبحانه ان جعل الفضل والاجر الذي وعد به مطلقاََ مما يعني انه سبحانه لا يعد بالقليل او الناقص او الجزاء الذي يقابل ويعادل الفعل من المقدار والكم، بل يعد بالاتم والأكمل الذي تعجز العقول عن تصوره وبما يناسب مقام الربوبية والرحمة الالهية، لذا جاء الفضل بالتنكير.
ومن وجوه الفضل الرزق الكريم والقدرة على الانفاق في سبيله تعالى، فقد يكون الانسان فقيراً ولكنه يرجو ان يصبح غنياَ كي ينفق طلباًً لمرضاته تعالى ويجعل المال وسيلة للتقرب اليه سبحانه فيرزقه الله الغنى والثروة ليحقق بغيته ويكتنز الثواب والاجر، او ليبتليه فيرى صدقه من كذبه، او يهتدي به غيره.
وقد يقوم المسلم بالانفاق من ماله فيرزقه الله بدلاَ عنه في الدنيا غير ما كتب له من الرزق وهذا من وجوه الفضل الالهي، بمعنى ان الرزق نوعان، رزق مكتوب للعبد، ورزق يأتيه فضلاً منه تعالى وهو الذي جاءت هذه الآية على نحو الوعد الكريم به، وهذا الرزق معلق على الصدقة والانفاق في سبيله تعالى وعلى الدعاء، او يأتي ابتداء منه سبحانه.
ومن فضله تعالى طرد الهم والحزن الذي يحاول الشيطان بثه في النفس الانسانية، ومنه اعانتها على الارتقاء في سلم الكمالات وجعل المال وسيلة لاصلاح النفس واجتناب الانشغال باللهث لمحاربة الفقر الموهوم.
وتعتبر الحياة الدنيا نعمة منه تعالى ومزرعة للآخرة، فيأتي الوعد الالهي لاتمام هذه النعمة بالصلاح والعبادة، ولمنع عدو الانسان من التأثير عليه بسلطان الكدورة والخوف من الفقر، ولا تعني الآية طرد الخوف نهائياََ عن نفس الانسان، فمن وجوه الخوف ما هو صحيح، وهو الخوف منه تعالى، والخوف من عقاب السيئات كمقدمة لاجتنابها، والخوف من الفقر والفاقة يطرد بالصدقة والانفاق في سبيله تعالى، لذا جاء الوعد بالفضل الالهي للاخبار عن تعطيل حسابات المقدار والكم في باب الجزاء الالهي لانه يفوق الحسابات ولغة احصاء الربح وتعيين الحد الاعلى له، قال تعالى [ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
ولا ينحصر الفضل الالهي بالحياة الدنيا بل يشمل عالم الآخرة حيث يكون الانسان اكثر حاجــة للمن الالهي ويكون في فاقة حقيقة، وكأن الشيطان يعد بالفقر في الآخرة وليس الفقر الناتج من الانفاق، لانه يدرك ان الانفاق لا يسبب فقراً ليذكر الانسان بان لا سبيل الى تداركه الابالانفاق، وربما يكون هذا الامر من وجوه نكوص الشيطان، فهو يخبر عن فقر الآخرة ولكنه يوهم على العبد ليجعله ينصرف الى البخل والشح.
ولم يرد لفظ(الفقر) في القرآن الا في هذه الآية، مع ورود لفظ الفقير فيه خمس مـرات، وبصــيغة الجمع (الفقراء) سبع مرات، وانحصار مجيء الفقر على نحو الدعوة الوهمية الزائفة من الشيطان يدل على انتفائه بالذات، فصــفة العـبودية ونفخ الروح في الانسان ينفيان عنوان الفقر عن الانسان، وان الاصل عدم الفقر، نعم يأتي الفقر والحاجة عرضاًً ويكون متزلـزلاََ يرفعه الفضـل الالهي وليس البخل والشح، قال تعالى[ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ ]( ).
والى جانب كون الآية بشارة ورحمة فانها تبعث عند المسلم الهمة والامل وتجعله يبادر الى الخيرات ويتاجر بالصدقة للإنفاق طلباًً لمرضاته تعالى ونيل فضله.

قوله تعالى [وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]
أي ان مغفرته تسع الذنوب ورحمته تتغشى الناس كافة، وسلطانه وسع كل شئ وفي التنزيل [رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا]( ).
وقد ورد اسم (واسع) اسماً لله عزوجل في القرآن ثمان مرات، نصفها في سورة البقرة، مما يدل على تضمنها لمفاهيم الامل والرجاء، وان آياتها دعوة ا لى الله وحث على الدعاء والتطلع الى اياديه الكريمة ورزقه الواسع.
ان الفضل كله بيــده تعالى يهب ابتــداء ويرزق ما يزيــد على المؤونة ويجعــل الانفاق مدخلاَ للرزق الكريم، قال تعالى [ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ]( )، ومن دلالات هــذا الاسم انه اشارة الى بطــلان موعــدة إبليس بالفـقــر والفاقــة ودعــوة الى التوجــه الى الله عزوجل رجاء الفضل، ومن وجوه التوجه اليه تعالى الانفاق في ســبيله واعانة الفقـراء والمحتاجـين رجاء مغفرته وعفوه.
وخاتمة الآية بشارة تبعث في النفس الامل والرجاء بالغنى والثروة، وهي توكيد لوعده تعالى واخبار عن اخلاف النفقة وتعويض الصدقة، وفيها تكذيب لما يزعمه الشيطان وما يحاول بثه من الحزن وتعكير صفو الاخوة الايمانية، ومحاولة نشر مفاهيم البخل والشح.
ان الله تعالى يحول دون اسباب الغواية ويهيئ سبل ومقدمات العبادات ومنها التفضل بالاخبار عن صفاته الحسنى وعظيم قدرته وسعة خزائنه، ليتيه طلاب المعرفة في ساحة القدس وتبرز على السلوك العامة معالم السخاوة والكرم والمودة.
وهو سبحانه العالم بما ظهر وما بطن من الامور، والذي يعلم خفايا النفس الانسانية وسبل اصلاحها، وكيفية اعانة المسلمين على اداء الواجبات والاقبال على الصالحات، وبلحاظ سياق الآية فانه تعالى يعلم وهم ادعاء الشيطان، وطرق منعه من اغواء بني آدم وسلطانه عليهم، هو سبحانه يعلم ان وعد الشيطان بالفقر لن يضر في دوام اخراج الزكاة ودفع المسلمين لها، وتلقي الفقراء للاعانات وقيام المحسنين بالبذل والانفاق في سبيله تعالى.
فمن مقومات دوام كلمة التوحيد الانفاق في سبيله تعالى ببناء المساجد، واعانة اهل التقوى، ونشر الكتب والمطبوعات الاسلامية، واقامة الشعائر، وتوحيد الصفوف، واصلاح ذات البين، ودرأ الفتن، والدفاع عن الثغور، مما يقتضي تهيئة النفوس للبذل والعطاء، ومحاربة الشيطان وقهره وازاحة اسباب البخل والشح.
ومن علمه تعالى انه جعل تأثير الشيطان على الناس محدوداَ ولا يحول دون تفشي معاني الاحسان واحراز الثواب ونيل الدرجات بالانفاق في سبيله تعالى، ولو كانت لوعد الشيطان موضوعية واثر سلبي في باب الانفاق والاحسان لمنعه الله عن هذا الوعد وحال بينه وبين الناس بالفقر وهو سبحانه ينسخ هذا الوعد ويظهر كذبه وزيف ادعائه ومحاولة ايهامه بخصوص نتائج الانفاق، ومن فضحه انه يقصد الفقر الآخرة، بل الفقر مطلقاَ الى رحمته وعفوه وفضله تعالى وتهدف الآية الى تخليص الانسان من الغواشي الظلمانية لتنفتح أمامه ابواب الصلاح.


مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn

مواضيع ﺫات صلة