معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 138

المقدمة
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره ، وعلة غائية لخلق الناس لأنه مصداق جلي لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) والحمد لله الذي فرض قراءة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) على كل مسلم ومسلمة في ركعات الصلوات اليومية الخمسة ، ليكون من معاني قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى]( ).
أي حافظوا على الحمد لله فان فيه قوام الحياة الدنيا وصرف البلايا عن المؤمنين والناس ، لبيان أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لهم جميعاً لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فتتغشى معالم الرحمة ببعثته أهل الأرض كلهم مع أن فريقاً منهم حاربه ، وأضمر له وللإسلام العداوة .
الحمد لله الذي إنفرد بالربوبية المطلقة وجعل الخلائق منقادة لمشيئته في آيات من الإرادة التكوينية تتجدد مصاديق غير متناهية منها كل طرفة عين لسعة ملك الله في السموات والأرض , وما بينهما .
الحمد لله الذي أنعم على الإنسان بالخلافة في الأرض فرزقه الحمد لله والشكر له سبحانه لذا ورد في التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ).
الحمد لله بعدد آيات وكلمات وحروف القرآن ، الحمد لله بعدد المسلمين الذين تلوا ويتلون آيات القرآن ، وعدد مرات تلاوة كل واحد منهم للقرآن وآياته .
الحمد لله الذي بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على حين فترة من الرسل بشيراً ونذيراً للناس جميعاً ، لتأتي البشارة والإنذار بنبوته من جهات :
الأولى : كل آية قرآنية بشارة للمؤمنين وضياء ينير لهم دروب الهداية والرشاد ، ومنه آيات البحث التي يتضمنها هذا الجزء من معالم الإيمان في تفسير القرآن , وهو الجزء الثامن والثلاثون بعد المائة .
الثانية : كل آية قرآنية إنذار وتخويف للذين كفروا سواء في منطوقها أو مفهومها الموافق أو المخالف .
ومن الآيات أن معاني الإنذار في الآية القرآنية لا تستلزم توسط سواء في تصوره ، لأنها من البديهيات والمحسوسات والوجدانيات والتجريبيات مجتمعة ومتفرقة .
الثالثة : كل فريضة وعمل عبادي للمسلم هو بشارة لأنه صراط مستقيم ، وذخيرة ليوم المعاد .
الرابعة : كل فرد من السنة النبوية بشارة للمسلمين ، والمعروف أن السنة النبوية على أقسام :
الأول : السنة القولية .
الثاني : السنة الفعلية .
الثالث : السنة التقريرية .
وقد أضفت لها في هذا التفسير أقساماً أخرى وهي :
الرابع : السنة التدوينية ، ومنها رسائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملوك زمانه التي يدعوهم فيها للإسلام ، وعهوده وأوامره إلى أمراء السرايا والأمصار وإجابته على مسائل الولاة ، والمواثيق التي كتبها للأفراد والقبائل ونحوها .
وهل تدخل كتابة آيات القرآن من قبل كتابة الوحي في هذا القسم من السنة , الجواب لا ، إنما هو أكبر لأنه كتابة لآيات التنزيل , وليس للسنة النبوية ومضامينها .
الخامس : السنة الدفاعية ، وهي سيرة وأقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معارك القتال دفاعاً عن الإسلام وأحكامه وعن المسلمين وذراريهم ، وهل تنتفع أجيال المسلمين في هذه الأزمنة من سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر مثلاً , أم أن القدر المتيقن هو نفعها بخصوص أيام النبوة .
الجواب هو الأول ، وهو الذي يتجلى للوجدان ،لذا فان المراد من المخاطبين بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) هو جميع المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وهو من الإعجاز في نسبة النصر في معركة بدر لله عز وجل وحده ، ففي كل زمان تطل هذه الآية على المسلمين وتخاطبهم : ولقد نصركم الله أنتم وآباءكم وأبناءكم في معركة بدر ) فان قلت ورد التقييد بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] والجواب من جهات :
الأولى : إرادة حال المسلمين أيام النصر في معركة بدر وهو الضعف وقلة السلاح والمؤون .
الثانية : جواز التفكيك بأن تكون الآية من عطف الخاص العام ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا في كل زمان لقد نصركم الله ببدر وكان الصحابة في حال ضعف وذلة .
الثالثة : نعت الذلة لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين جميعاً في معركة بدر ، وفيه زجر عن نسبة النصر لهم .
الرابعة : دعوة المسلمين للجوء إلى الدعاء والإستغفار والتوكل على الله لسؤال النصر والظفر ودفع البلاء والضرر ، وهل الإكثار من الحمد والشكر لله من مصاديق هذا الدعاء والرجاء بتقريب النصر وقضاء الحاجات ومحو الأذى .
الجواب نعم ، لذا تفضل الله عز وجل بتلاوة كل مسلم ومسلمة لآيات القرآن على نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية ، وبالإجهار في بعض الفرائض والإخفات ببعضها ، وهذه التلاوة مناسبة كريمة لتجديد المسلمين للحمد لله على الهداية إليها .
لتكون الصلاة وأداؤها مناسبة لتعلم وحفظ وتدارس آيات القرآن ، والعمل بمضامينها بلحاظ رسوخها في الذهن , وحضورها في عالم الإختيار والفعل .
السادس : السنة النبوية في الحكم .
الحمد لله عدد الرمل والحصى ، وعدد ذرات مياه الأنهار والبحار ويعلم الناس سعة البحار وتغشيها لأكثر بقاع الأرض لكن لم نكن نعلم أن أعماق بعضها يصل إلى عشرة آلاف متر ، وأنه لو غطس جبل إفرست في الماء فلا يصل طوله في الماء إلا نحو 1700 م .
وكان العلماء يظنون إنعدام الحياة في أعماق البحار المظلمة ، ولكن الإكتشافات أثبتت خلافه لبيان عظيم قدرة الله عز وجل , وأنه سبحانه جعل ملكه من السموات والأرض يزهو بالحياة ويعمر بالحركة والتسبيح من الخلائق ، ولتكون هذا المخلوقات مسخرة للإنسان ، بما فيه التسخير لإدراكه وجوب عبادة الله , قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ).
وقد وردت النصوص والأخبار بما يفيد الحياة في أعماق البحار , وتلقاها المسلمون بالتصديق والثناء على الله عز وجل , والحمد له سبحانه ، وذكر أن سليمان عليه السلام (كان جالسا على شاطئ بحر فبصر بنملة تحمل حبة قمح تذهب بها نحو البحر، فجعل سليمان ينظر إليها حتى بلغت الماء فإذا بضفدعة قد أخرجت رأسها من الماء , وفتحت فاها فدخلت النملة فاها وغاصت الضفدعة في البحر ساعة طويلة، وسليمان يتفكر في ذلك متعجبا .
ثم إنها خرجت من الماء وفتحت فاها فخرجت النملة من فيها، ولم تكن معها الحبة فدعاها سليمان وسألها عن حالها وشأنها وأين
كانت، فقالت: يا نبي الله في قعر هذا البحر الذي تراه صخرة مجوفة وفي جوفها دودة عمياء وقد خلقها الله تعالى هنالك فلا تقدر أن تخرج منها لطلب معاشها وقد وكلني الله برزقها، فأنا أحمل رزقها وسخر الله هذه الضفدعة لتحملني فلا يضرني الماء في فيها، وتضع فاها على ثقب الصخرة وأدخلها، ثم إذا أوصلت رزقها إليها خرجت من ثقب
الصخرة إلى فيها فتخرجني من البحر، قال سليمان: وهل سمعت لها من تسبيحة ؟
قالت: نعم، تقول: يا من لا تنساني في جوف هذه الصخرة تحت هذه اللجة برزقك لا تنس
عبادك المؤمنين برحمتك) ( ).
وليس لهذا الخبر إسناد , وقيل إنه من الإسرائيليات .
ويمكن القول أن الدودة العمياء كناية عن الظلمة الحالكة في قعر البحر وورد قريباً منه خبر عن نبي الله موسى عليه السلام ،وهو لا يخرج عن مصاديق عظمة خلق الله التي هي مقدمة للتدبر في بديع صنعه والتسليم بالعبودية له سبحانه ، كما أنها مصداق عملي لما علّمه الله عز وجل لسليمان , قال تعالى [وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا] ( ).
الحمد لله الذي بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فأنعم على أهل الأرض بسلاح الحمد إلى يوم ما دامت السموات والأرض من غير إنقطاع .
وعن أنس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ما أنعم الله على عبد نعمة , فقال : الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ” . وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: “لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال: الحمد لله، لكان الحمد لله أفضل من ذلك” .
قال الله تعالى : { المال وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا }( ) وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدثهم: “أن عبدًا من عباد الله قال: يا رب، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء فقالا يا رب، إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها .
قال الله -وهو أعلم بما قال عبده-: ماذا قال عبدي؟ قالا يا رب إنه قد قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي) ( ).
الحمد لله الذي جعل علم التفسير بحراً زاخراً لا تنفد ينابيعه وأصوله وسبله مع أنه لا يخرج عن تفسير ذات كلمات القرآن البالغة وهي سبعة وسبعون ألف وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة تقريباً ، ليكون هذا العلم من رشحات القرآن وإعجازه البهي الذي لا ينقطع ، فقد جاءت تفاسير عديدة في تفسير الآية القرآنية بسطرين أو ثلاثة ونالت هذه التفاسير المنزلة والشأن بين المسلمين لأنها جهد مبارك وسياحة في رياض الآية القرآنية ، فتفضل الله عز وجل علينا بأصدار جزء كامل أو جزئين أو ثلاثة في تفسير ذات الآية القرآنية ، ومن غير خروج عن فيوضاتها ومعانيها ودلالاتها في آية علمية مبهرة تستلزم منا الحمد لله له سبحانه .
الحمد لله الذي [عَلَّمَ بِالْقَلَمِ] ( ) ليكون هذا التعليم مقدمة لتفسير القرآن والتدارس فيه بين المسلمين ، وصيرورة تعليم الناس الكتابة مقدمة لضبط وتلاوة آيات القرآن بما يمنع من تحريفه .
ليفوز المؤمنون في كل زمان بتسخير الكتابة في مرضاة الله ، وجعلها نوع سبيل للهداية والثبات في منازل الإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) صراط كتابة القرآن وتوثيق الأحكام ، وتدوين أمور الحلال والحرام .
ويترشح عن التدوين القراءة والتدبر والسماع والحفظ ، ومنع الزلل والتحريف عن عمد أو من غير قصد ، ومن منافع الكتابة التدوين إستنساخ كتب التفسير ونشرها ووصولها إلى أيدي المسلمين وغيرهم ، وصيرورتها نوراً وبرزخاً دون الغفلة والشك ، ومانعاً من الفرقة والشقاق ، فمن خصائص علم التفسير أنه حصن للوحدة بين المسلمين ، ودعوة قرآنية يومية تحث على نبذ الإختلاف بينهم .
لقد جعل الله القرآن حكماً وحكماً وفيصلاً بين الناس ، ومن إعجازه أن كل آية منه مرآة للأخوة الإيمانية بين المسلمين ، ليكون هناك قانون من جهات :
الأولى : كل آية قرآنية تجذب المسلمين للتآخي والتآلف بينهم .
الثانية : الصلة بين كل آيتين من القرآن ضابطة وقاعدة كلية للوحدة بين المسلمين .
الثالثة : تأكيد آيات القرآن في منطوقها على وحدة المسلمين ، ومن إعجاز القرآن أن هذه الوحدة ليست مطلوبة بذاتها فحسب بل لابد من أن تكون بصيغة الإيمان والهداية والعمل بأحكام القرآن ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
الرابعة : مجئ أسباب نزول آيات القرآن ، والسنة النبوية بتأكيد أخوة المسلمين في مرضاة الله .
ومن عداوة الذين كفروا للإسلام سعيهم لبعث الخلاف والفرقة بين المسلمين ، فأنعم الله عز وجل على المسلمين بالقرآن إماماً للوحدة بينهم وصراطاً لهدايتهم ، وكل آية منه تحذرهم من سوء نوايا الذين كفروا ، ومقاصدهم الخبيثة في الإضرار بالمسلمين .
ومنها آية البطانة التي يتضمن هذا الجزء جانباً من تفسيرها ، قال تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً..] ( ).
وتفضل الله عز وجل على المسلمين خاصة وأهل الأرض عامة بنداء الإيمان ، إذ ورد لفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تسعاً وثمانين مرة في القرآن ، وهو متحد لفظاً أما من جهة المعنى فهو على وجوه منها :
الأول : موضوعية موضوع آية النداء في معانيه .
الثاني : نداء الإيمان باعث للعمل بمضامين آية النداء .
الثالث : أثر وموضوعية نداء الإيمان في أول ووسط وآخر الآية، كما في آية الدَين على طولها ، وقد تقدم بيانه( ) .
وكما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا أتقوا الله لعلكم تفلحون ) .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا ابتغوا إلى الله الوسيلة لعلكم تفلحون .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا جاهدوا في سبيل الله لعلكم تفلحون .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وجاهدوا في سبيله .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا لعلكم تفلحون .
وكما تضمن هذا الجزء تتمة آية البطانة , فانه تضمن تتمة آية النهي عن الربا بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
وتضمن هذا الجزء بياناً مختصراً لأربع آيات ذكر بعض علماء النسخ أنها نسخت بآية السيف ، ومن قال أنها غير منسوخة ، وعلم النسخ من بديع وإعجاز القرآن طرداً وعكساً ونقضاً وإبراماً ، خاصة وأنه لم يرد نص وحديث يفيد النسخ بخصوص تلك الآيات.
لقد أخبر الله عز وجل بأن الناس جميعاً من أب وأم ، وهما آدم وحواء .
قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ) ثم تضمن هذا الجزء بياناً وتفسيراً لبعض من آيات النداء وهي :
الأولى : قوله تعالى[وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ).
الثانية : قوله تعالى[فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى[فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( ).
وبيان مسألة النسخ في هذه الآيات .
وتضمن هذا الجزء تفسيراً لآيتين من آيات نداء الإيمان من سورة آل عمران أي التي تبدأ بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وهي:
الآية الأولى : قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الآية الثانية : قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( ).
بعد أن جاء جزء كامل في تفسير آية البطانة يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاًجاء هذا الجزء المبارك ببيان موضوعية نداء الإيمان في منطوق ومفهوم الآية ونفعه العظيم في عمل المسلمين وإمتثالهم لمضامين الآية ، ومناجاتهم بالإحتراز من البطانة الفاسدة وبما يبعث الخوف واليأس في قلوب الذين كفروا من النفاذ إلى منازل الخاصة عند المسلمين .
وقد أنعم الله عز وجل علينا باصدار أربعة أجزاء خاصة في تفسير هذه الآية المباركة( ) لتأتي مباحث الآية الكريمة في هذا الجزء خاصة باختصاصها بنداء الإيمان وموضوعيته من جهات :
الأولى : إكرام المسلمين بهذا النداء مع أن الآية في مقام النهي والزجر.
الثانية : إتصاف الآية التي يأتي فيها نداء الإيمان بخلوها من التهديد والوعيد .
الثالثة : نداء الإيمان مدد وعون للمسلمين كما في آية حرمة الربا للتنزه عنه ، ومع مجئ الآية بحرمة أكل مال الربا فانها تدل بالدلالة التضمنية على أمور :
أولاً : وجود معاملات باطلة مما يستلزم تفقه المسلمين في الدين .
ثانياً : تعدد وجوه الحرمة في الربا , فتشمل :
الأول : إعطاء القرض بفائدة ربوية .
الثاني : الإقتراض بالربا ، ودفع فائدة على القرض .
الثالث : كتابة القرض الربوي وذكر مقداره ونوع الفائدة .
الرابع : الشهادة على القرض الربوي .
الخامس : تهيئة مقدمات القرض الربوي مع العلم أنه ربا وأنه محرم .
وقد ورد عن (عبد الله بن مسعود قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده.) ( ) .
ومن خصائص نداء الإيمان أنه برزخ وواقية من كل فرد تتم به عملية الربا ، ترى لماذا نزلت الآية بالتأكيد على خصوص أكل المال الربوي , الجواب من جهات :
الأولى : الأصل في المعاملة الربوية هو القرض ذو الفائدة , فاذا كان صاحب المال يقرض ماله من غير ربح ربوي محرم لا يتم الربا .
الثانية : تبين الآية حقيقة وهي أن الربا نوع مفاعلة , بين آكل للربا وموكل له .
الثالثة : من تمام المعاملة بين الأفراد في الأموال كتابة العقد والشهادة عليه .
الرابعة : بيان الظلم الذي يقدم عليه آكل الربا بالإستحواذ على أموال الناس بغير حق .
الخامسة : تجلي الضرر الفادح على الذي يقترض بالربا والفائدة والربح المحرم بخسارة ماله بدفعه أرباحاً ، والتفريط بجهده وكسبه لصاحب الربا .
السادسة : نفرة النفوس من الإقتراض بالربا أو كتابته أو الشهادة عليه ، خاصة بعد نزول تحريمه .
ليكون من معاني وتقدير الآية وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تقترضوا المال بالربا أضعافاً مضاعفة ) ومن الإعجاز مجئ القرآن والسنة بالترغيب بالتداين بين المسلمين ومنه آية الدَين التي تبدأ بنداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ] ( ).
الثاني : يا أيها الذين آمنوا تداينوا بينكم للوقاية من الربا , وفي التداين الأجر والثواب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ) فمن البر والتقوى التداين وقضاء حاجة المحتاج ، ومن الإثم والعدوان الربا وأكله بالباطل .
ولمقرض المال الأجر من جهات :
الأولى : إبتداء الإقراض .
الثانية : مدة القرض وإلى حين الأجل ، ففي كل يوم له صدقة بمقدار الدَين .
الثالثة : الصبر على المديون وإمهاله إن كان معسراً ، وفيه مضاعفة للأجر والثواب .
وجاء البيان والتفصيل بما ورد بالإسناد عن بريدة قال (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ . قَالَ ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ : مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ .
قُلْتُ سَمِعْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَقُولُ : مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ . ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُولُ : مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ .
قَالَ : لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ) ( ).
الثالث : يا أيها الذين آمنوا أمروا بالمعروف بافشاء التداين بينكم وأنهوا عن المنكر والمعاملات الربوية ، ولا يختص هذا النهي بأكل مال الربا بل يشمل نهي غير المسلم من الإقتراض الربوي , ونهيه عن كتابة العقد الربوي أو الشهادة عليه ، وهل للذي يستدين أجر وثواب .
الجواب نعم إذا كان القرض في مرضاة الله ، ومن العزم على الإمتناع عن اللجوء إلى الربا .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كتّاباً للقرض الربوي ، فيطلب طرفا الربا كاتباً فلا يجدانه ، وعدم الإيجاد هذا نوع موعظة وزجر عن السعي في طريق الربا .
فمن خصائص آية حرمة الربا أنها تزجر في مفهومها عن تجدد وإستدامة المعاملات الربوية ، لقوله تعالى [لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] ( ) وتقديره على وجوه :
أولاً : لا تأكلوا الربا مرة بعد أخرى .
ثانياً : لا تقرضوا المال الربوي بالربح والفائدة ، أي يبدأ القرض بمال جمع من غير طريق الربا ، وحينما تأتي الفائدة يقوم صاحب المال باقراضها بالربح والفائدة أيضاَ .
ثالثاً : كفوا عن أكل الربا أجلاً بعد آخر وسنة بعد سنة ، وكانوا في الجاهلية يقرضون المال فاذا حان الأجل وليس عند المديون المال ضاعفوه وزيد في مدة الأجل , ويجري في هذه الأزمنة ما هو أشد أذى إذ تستقطع الفائدة من أصل القرض عند العقد عليه وتسليمه ، ليكون من الإعجاز الغيري للآية القرآنية منع إشاعة وطغيان الحرام , وضروب بالإضرار بالناس .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الحاجة ، وهي ملازمة لعالم الإمكان ، ومنه الحاجة إلى المال والتوسعة .
لتكون ذات الحاجة والرغبة والطمع وإرادة المندوحة في الدنيا من مصاديق الإبتلاء فيها ، وهل هو من السوء وعمومات قوله تعالى [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] ( ) .
الجواب لا ، فقد يكون حب التوسعة في مرضاة الله ، ويتخذها المسلم طريقاً لإخراج الزكاة والحقوق الشرعية ، والمبادرة إلى فعل الخيرات والصدقات المستحبة ، وتصبح مناسبة للشكر لله عز وجل في الليل والنهار ، وعند عمل الصالحات .
وعن ابن عباس (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تصدقوا فإن أحدكم يعطي اللقمة أو الشيء فتقع في يد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل ، ثم تلا هذه الآية { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات }( ) فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله فيوفيها إياه يوم القيامة) ( ).
ترى لماذا نهى الله عز وجل المسلمين عن المعاملات الربوية ، الجواب من جهات :
الأولى : إرادة الرزق والكسب الحلال الطيب للمسلمين .
(عن عبد الرحمن بن البيلماني ، قال : رأيت شيخا بالإسكندرية يقال له سرق ، فأتيته وسألته فقال لي : سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أكن لأدع ذلك أبدا فقلت : لم سماك ؟ قال : قدم رجل من أهل البادية ببعيرين فابتعتهما منه ثم دخلت بيتي وخرجت من خلف فبعتهما فقضيت بهما حاجتي وغبت حتى ظننت أن العراقي قد خرج فإذا العراقي مقيم فأخذني فذهب بي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره الخبر .
فقال : ما حملك على ما صنعت ؟ قلت : قضيت بثمنهما حاجتي يا رسول الله .
قال : اقضه , قلت : ليس عندي . قال : أنت سرق اذهب يا عراقي فبعه , حتى تستوفي حقك قال : فجعل الناس يسومونه بي , ويلتفت إليهم فيقول : ماذا تريدون ؟ فيقولون : نريد أن نفديه منك . فقال : والله إني منكم أحق وأحوج إلى الله عز وجل اذهب فقد أعتقتك) ( ).
الثانية : لقد ضمن الله عز وجل للإنسان رزقه ، وتفضل ونهاه عن أكل الحرام لبيان أن التنزه والإمتناع عنه لا ينقص من الرزق شيئاً .
(عن المطلب بن حنطب ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ، ولا تركت شيئا مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه ، وإن الروح الأمين قد نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها ، فأجملوا في الطلب) ( ).
الثالثة : بيان برهان للملائكة على أهلية الإنسان للخلافة في الأرض يتجلى بامتناع المسلمين عن الكسب الحرام ، فعندما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن الإنسان [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) تفضل الله ورد عليهم بالحجة والدليل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ومن علم الله عز وجل تنزه المسلمين عن الربا مع أنه كسب سهل ويؤدي إلى مضاعفة الأموال أضعافاً كثيرة ، خاصة وأن الربا مضمون الربح ليس فيه خسارة مثل التجارة التي قد تتعرض للخسارة أو الكساد ، أو لا يخرج التاجر إلا برأس المال مع العناء والتعب في الكسب .
الرابعة : تأكيد حب الله عز وجل للناس ، ومنعهم من الضرر والإضرار بالذات والغير ، فذات الربا قبيح موضوعاً وأثراً ، وفيه الإثم والعقاب لذا تفضل الله عز وجل ، ونهى الناس جميعاً عنه .
وهل يدخل الربا في النسخ في الشرائع ، بمعنى أنه كان مباحاً في الشرائع السابقة ، وجاء تحريمه في الإسلام ، الجواب لا ، ويحتمل تحريمه وجوهاً :
الأول : إختصاص تحريم الربا بالمسلمين .
الثاني : حرمة الربا مطلقاً ، وما من نبي إلا وجاء بحرمته .
الثالث : الربا محرم على الناس من حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والصحيح هو الثاني أعلاه ، وهو من معاني ودلالات قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ).
الخامسة :إزاحة الموانع التي تحول دون الإيمان وأداء الفرائض ، إذ أن وطأة الربا ثقيلة على الإنسان ، وقد يجتنب الإنسان الاقتراض بالربا فيرزقه الله الكفاية والإستغناء عن القرض والدَين .
وكذا يمتنع الإنسان عن إعطاء ماله بالربا تنزهاً وتقيداً بالأوامر والنواهي الإلهية فيرزقه الله عز وجل ربحاً وفيراً من المكاسب والتجارة أو الزراعة أو غيرها من الأسباب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( ).
السادسة : بعث الناس عامة والمسلمين خاصة على السعي والكسب والبناء والحراثة ، وعدم الميل إلى الكسل وجمع المال بالغيلة .
السابعة : المنع من ميل طائفة من الناس للإقتراض حتى مع الفائدة .
وحرمة الربا مطلقة سواء مع الضرورة أو عدمها ، ولكن هل تصل النوبة إلى الإقتراض بالربا عن ضرورة ، الجواب لا ، فما من شيء حرّمه الله عز وجل وجعل الناس تحتاج إليه ، نعم قد تكون حالات خاصة نادرة بخصوص سد الرمق ، وعندها تقدر الضرورات بقدرها ، وليس لصاحب المال إلا المبلغ الذي قرّضه ، قال تعالى [وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ] ( ).
وقد تقدم أن ( الأكل يستعمل في الطعام، يقال أكلت الطعام أكلاً ومأكلاً، ويأتي للقمة الواحدة والمتعدد من الأكل، وفي حديث الشاة المسمومة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(مازالت أكلة خيبر تعادني) ( ). أي اللقمة التي أكل النبي من تلك الشاة المسمومة .
وتستعمل مادة (أكل) مجازاً في موارد كثيرة تزيد اللغة العربية جمالاً كما يقال (أكلت النار الحطب) أي صار طعماً لها، قال الزهري: سمعت بعض العرب يقول: جلدي يأكلني إذا وجد حكة) ( ).
والأكل: الرزق، يقال إنه لعظيم الأكل في الدنيا، أي كثير الرزق، ويقال للميت: إنقطع أكله، أي رزقه) .
وفي آية حرمة الربا حذف ، وتقديره على وجوه :
الأول : لا تأكلوا أموال الربا .
الثاني : لا تقتنوا أموال الربا .
الثالث : لا تجمعوا وتكنزوا أموال الربا ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ) وهل الذين يأكلون الربا من الذين تذكرهم الآية أعلاه ، الجواب نعم ، ليترتب الإثم على أمور :
أولاً : إقراض المال بالفائدة .
ثانياً : الإمتناع عن التقييد والنهي الوارد بآية حرمة الربا .
ثالثاً : قبض الفائدة الربوية الزائدة على القرض .
رابعاً : الإضرار بالمدَين بأخذ المال الربوي منه .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لا تأخذوا فائدة على القرض ، فمن معاني الأكل في المقام الأخذ والحيازة ، وهل تختص الحرمة بالمسلمين ، أي لا يكون تقدير الآية : لا تأكلوا الربا من إخوانكم المسلمين .
الجواب لا ، لأصالة الإطلاق ، إذ تحرم الآية على المسلم أخذ الفائدة الربوية على القرض من المسلم وغيره ، وفيه دعوة للناس لدخول الإسلام ، لما فيه من الأخلاق الحميدة ، والتقيد بأحكام الشريعة ، وإن كان برزخاً دون جني الأرباح من معاملات باطلة ، وفي الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
كما يأتي الربا بمعنى الزيادة والنماء ، ولكن القدر المتيقن من الآية إرادة حرمة الزيادة الربوية المحرمة ، ومن أسرار آية حرمة الربا أنها تبعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا ، إذ أنها نزلت والمسلمون في حال ضعف وفقر وقلة أموال لتدل بالدلالة الإلتزامية على أمور :
الأول : كثرة أموال المسلمين ، والتي تأتي من الفتوحات وعمارة الأرض .
الثاني : بشارة تولي المسلمين شؤون التجارة بين الشام واليمن ، وبين بلاد الروم وفارس ، لذا نزل قوله تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ] ( ).
الثالث : صيرورة المسلمين في حال إستقرار ، بحيث تنشط الأسواق ، ويقومون بالإقراض والمعاملات التجارية من غير خشية من مداهمة العدو الكافر .
الرابع : تولي المسلمين الحكم بين الناس وإتخاذهم آيات القرآن قوانين في العمل والفصل بين الناس ، وليس من أمة تكتفي بالتنزيل في باب الحكم مثل المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس : عصمة المسلمين من الإرتداد والنكوص فاذا كانوا ممتنعين عن أكل المال الربوي طاعة لله عز وجل ، فمن باب الأولوية القطعية ثباتهم على الإيمان ، وإمتناعهم عن الإرتداد ، وهو من أسرار مجئ آية نداء الإيمان التالية بالنهي عن طاعة الذين كفروا ، وما يترتب عليها من الإرتداد ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان مركباً من عقل وشهوة يتصارع فيه الخير والطمع والحرص ، فجاء القرآن لغلبة جانب الخير وصيرورة الدنيا بلغة لنيل المراتب العالية في دار السلام ، فتضمنت آية حرمة الربا كبت النفس الشهوية ومنع الطمع وحب الدنيا من الإستحواذ على الرغائب والأفعال .
وعن عبد الله بن عمرو قال : (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن وراء حجرته قوم يتجادلون في القرآن . فخرج محمرة وجنتاه كأنما تقطران دماً .
فقال : يا قوم لا تجادلوا بالقرآن ، فإنما ضَلَّ من كان قبلكم بجدالهم ، إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ولكن نزل ليصدق بعضه بعضاً ، فما كان من محكمه فاعملوا به ، وما كان من متشابهه فآمنوا به .
وأخرج نصر في الحجة عن أبي هريرة قال : كنا عند عمر بن الخطاب إذ جاءه رجل يسأله عن القرآن أمخلوق هو أو غير مخلوق؟ فقام عمر فأخذ بمجامع ثوبه حتى قاده إلى علي بن أبي طالب فقال : يا أبا الحسن أما تسمع ما يقول هذا؟ .
قال : وما يقول؟! قال : جاءني يسألني عن القرآن أمخلوق هو أو غير مخلوق . فقال علي : هذه كلمة وسيكون لها ثمرة ، لو وَليتُ من الأمر ما وَلِيتَ ضربت عُنقَه) ( ).
لبيان أن الثمرة الفتنة التي وقعت عند المسلمين والتي تتعلق بمسألة خلق القرآن والتي ظهرت بجلاء في أيام المأمون العباسي( ) ،وقيل أول من أظهرها بشر بن غياث المريسي وكان مستتراً متخفياً قبل حكم المأمون وإستمرت هذه الفتنة إلى أيام الواثق ( ).
وعن محمد بن الواثق قال (كان أبي إذا أراد ان يقتل رجلا احضرنا ذلك المجلس فاتى بشيخ مخضوب مقيد فقال أبي ائذنوا لأبى عبد الله وأصحابه يعنى بن أبى دؤاد .
قال فادخل الشيخ والواثق في مصلاه فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال له لا سلم الله عليك .
فقال يا أمير المؤمنين بئس ما أدبك مؤدبك , قال الله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها والله ما حييتنى بها ولا بأحسن منها فقال بن أبى دؤاد يا أمير المؤمنين الرجل متكلم .
فقال له كلمه فقال يا شيخ ما تقول في القرآن قال الشيخ لم تنصفنى يعني لي السؤال .
فقال له : سل , فقال له الشيخ : ما تقول في القرآن , فقال أي ابن أبي دؤاد مخلوق .
فقال هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون أم شيء لم يعلموه , فقال شيء لم يعلموه فقال سبحان الله شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه و سلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون علمته أنت قال فخجل .
فقال : أقلنى والمسألة بحالها .
قال : نعم قال ما تقول في القرآن فقال مخلوق فقال هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون أم لم يعلموه .
فقال : علموه ولم يدعوا الناس إليه , قال : أفلا وسعك ما وسعهم .
قال ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه ووضع إحدى رجليه على الأخرى , وهو يقول هذا شيء لم يعلمه النبي ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون علمته أنت سبحان الله شيء علمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون , ولم يدعوا الناس إليه أفلا وسعك ما وسعهم ثم دعا عمارا الحاجب .
فأمر ان يرفع عنه القيود ويعطيه أربعمائة دينار ويأذن له في الرجوع وسقط من عينه بن أبي دؤاد , ولم يمتحن بعد ذلك أحدا) ( ) .
وكان السبب في منع هذه الفتنة الضجر العام عند المسلمين من فتنة خلق القرآن ، والنفرة من عناية النخبة بها وترتب الأحكام عليها ، وصيرورتها فيصلاً في تقريب أو إبعاد الذوات على القول بخلق القرآن أو عدمه .
والأصل أن القرآن كلام الله عز وجل ، وفيه آية في تعاهد عامة المسلمين للقرآن وان حفظه ورسمه ومضامينه وعلومه لا يختص بها العلماء أو الحكام إنما يتصدى لها كل مسلم ومسلمة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
الحمد لله الذي ليس لفضله حد ومنتهى ، والذي جعل عطاءه وإحسانه عن إبتداء منه أكثر وأعظم من عطائه عن سؤال ، وكل فرد منهما عظيم لا تقدر عليه الخلائق وإن إجتمعت ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي] ( ) .
وهل نداء الإيمان من مصاديق قوله تعالى[أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا]( )، الجواب نعم، لتعدد وكثرة وتجدد مصاديق الإعجاز الذاتي والغيري لنداء الإيمان.
وجاء هذا الجزء في بيان جانب من علوم وفيوضات نداء الإيمان، والقوانين المستنبطة منه بالذات أو بلحاظ موضوعيته في دلالات مضامين آيات النداء التي تضمنها هذا الجزء .
ومن لطف وإحسان الله عز وجل توالي أجزاء هذا التفسير ، ليكون نعمة ومائدة قرآنية دائمة [وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ] ( ) ليصدر هذا السِفر المبارك بما يعادل كل ما كتب في علم التفسير , ويعطي الله بالأتم الأوفى .
ومن فضل الله أني أقوم بكتابة أجزائه ومراجعتها وتصحيحها والإشراف على طبعها بمفردي ليس معي إلا المدد واللطف منه سبحانه .
وكذا بالنسبة للكتب الفقهية والأصولية والكلامية ، قال تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] ( ).

حرر في 24/7/2016
19 شوال 1437

الآية الأولى : قوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] ( )
هناك آيات قال بعض علماء النسخ أنها منسوخة منها الآية أعلاه ، ونبين جانباً من تفسيرها على نحو الإيجاز .
تتضمن هذه الآية معنى المهادنة مع كفار العرب ، لذا قيل أنها منسوخة بآية السيف ، ويمكن القول أن القدر المتيقن من النسخ هو بخصوص المشركين من العرب في الجزيرة , وإستدامة الحكم والجنح للسلم أي الميل إليه ، ومنه جنحت السفينة أي مالت إلى أحد جانبيها , والمراد إذا مال الكفار إلى الصلح والمهادنة , فتلزم المماثلة والمحاكاة لهم لأن الصلح خير محض , ولأن معجزات التنزيل والنبوة قاهرة , وجاذبة للناس للإسلام .
وفي النسخ بخصوص هذه الآية أقوال :
الأول : ما ورد عن ابن عباس ومجاهد أن الناسخ هو قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وبه قال ابن حزم( ).
الثاني : الآية منسوخة بآية السيف ، وبه قال قتادة ( ) ، وقال : كانت قبل براءة ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوادع الناس إلى أجل ، فإما أن يسلموا وإما أن يقاتلهم ، ثم نسخ ذلك في براءة فقال { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }( ) وقال : { قاتلوا المشركين كافة }( ) نبذ إلى كل ذي عهد عهده ، وأمره أن يقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويسلموا ، وأن لا يقبلوا منهم إلا ذلك ، وكل عهد كان في هذه السورة وغيرها وكل صلح يصالح به المسلمون المشركين يتواعدون به ، فإن براءة جاءت بنسخ ذلك ، فأمر بقتالهم قبلها على كل حال حتى يقولوا لا إله إلا الله) ( ).
والظاهر هو خصوص المشركين من قريش , ولا دليل على الإطلاق في النسخ .
الثالث : الناسخ للآية هو [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ] ( ) إذ صارت يد المسلمين هي الأعلى على المشركين , فلا يميل المسلمون إلى السلم ، ولكن يمكن الجمع بين الآيتين للتباين في الدعوة إلى السلم .
ففي آية البحث يبدأ المشركون وأهل الكتاب بطلب الصلح، ويظهرون الميل إليه فيجيبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
أما بخصوص الآية أعلاه فأنها تمنع من الجمع بين الوهن والضعف والدعوة إلى السلم ، لأن الجمع بينهما قد يحول دون إملاء المسلمين شروطهم التي هي حق وعدل .
وفي الآية أقوال أخرى :
الأول : الآية غير منسوخة ، قال ابن عربي (أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } فَدَعْوَى ، فَإِنَّ شُرُوطَ النُّسَخِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ ) ( ).
الثاني : ذهب ابن إسحاق إلى معنى آخر للجنح في الآية وهو : (إنْ جَنَحُوا إلَى الْإِسْلَامِ فَاجْنَحْ لَهَا) ( ) مما يدل على عدم صيرورة الآية منسوخة.
الثالث : إن دعوك إلى الصلح فاجبهم ، قاله السدي وابن زيد.
الرابع : الآية محكمة وغير منسوخة ، ونزلت بخصوص موادعة أهل الكتاب وترك حربهم على قولين :
الأول : مع دفع الجزية والقيام بشرائط الذمة .
الثاني : مهادنة وموادعة أهل الكتاب من غير أن يدفعوا الجزية، ثم نزلت آية الجزية بقوله تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( ).
الخامس : (وإن توقفوا عن الحرب مسالمة لك فتوقف عنهم مسالمة لهم)( ).
والمختار أن الآية غير منسوخة ومضامينها باقية إلى يوم القيامة مع موضوعية حفظ بيضة الإسلام ، وفرض شروط الأمن والسلامة للمسلمين خاصة في حال المنعة , وكون المسلمين في عز وعلو ، فلا تتعارض الآية مع قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) وتدل السنة النبوية الدفاعية على عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمضامين آية البحث ، وأن تخيير مشركي العرب بين الإسلام والسيف إنما هو بدليل وحكم آية أخرى من غير أن يصل الأمر إلى النسخ .
ومن الإعجاز في المقام أن الدعوة إلى الجنح والميل إلى الإسلام جاءت خطاباً خاصاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أيضاً يتوجه إلى الأمة بالإلحاق مع دعوتهم للإقتباس من سنته الشريفة .
وورد قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) خطاباً للمسلمين لبيان البشارة بظهور وعلو الإسلام ، ورفعة وعز وكثرة المسلمين وأسلحتهم وصيرورتهم في حال عز وقوة .
الآية الثانية : قوله تعالى [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ..]( ) مع أن العفو جميل ، وهو محبوب مطلقاً ، قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ) .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على وجود ميثاق سابق , وهو الذي يتجلى بقوله تعالى[فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ]( )، ومن خصائص خلافة الإنسان في الأرض أخذ الله عز وجل الميثاق على الأنبياء وعلى أتباعهم , قال تعالى[وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا]( )، وهذا الميثاق حجة على الناس، ومادة للحساب والجزاء، وفي بني إسرائيل ورد قوله تعالى[وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ]( )، أي بسبب الميثاق الذي أخذه الله عليهم، ولزوم عملهم بأحكام التوراة، وعدم الغفلة والإعراض عنها ويمثل الميثاق في المقام وجوهاً:
الأول : أخذ الميثاق عند خلق آدم عليه السلام، وعن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه ، ثم أجلسه فمسح ظهره بيده اليمنى فأخرج ذراً ، فقال : ذرء ذرأتهم للجنة ، ثم مسح ظهره بيده الأخرى – وكلتا يديه يمين – فقال : ذرء ذرأتهم للنار يعملون فيما شئت من عمل ، ثم اختم لهم بأسوأ أعمالهم فأدخلهم النار( ).
وعن أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خلق الله الخلق وقضى القضية ، وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء ، فأخذ أهل اليمين بيمينه , وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى – وكلتا يدي الرحمن يمين – فقال : يا أصحاب اليمين . فاستجابوا له ، فقالوا : لبيك ربنا وسعديك . قال { ألست بربكم قالوا بلى }( ) قال : يا أصحاب الشمال . فاستجابوا له ، فقالوا : لبيك ربنا وسعديك . قال { ألست بربكم قالوا بلى } فخلط بعضهم ببعض .
فقال قائل منهم : رب لم خلطت بيننا؟! قال { ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون }( ) { أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } ( )ثم ردهم في صلب آدم ، فأهل الجنة أهلها ، وأهل النار أهلها ، فقال قائل : يا رسول الله فما الأعمال؟ قال : يعمل كل قوم لمنازلهم( ).
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سألت ربي فأعطاني أولاد المشركين خدماً لأهل الجنة ، وذلك أنهم لم يدركوا ما أدرك آباؤهم من الشرك ، وهم في الميثاق الأوّل ( ).
الثاني : إرادة الميثاق في عالم الذر و(عن ابن عباس في قوله { وإذ أخذ ربك من بني آدم . . . }( ) الآية . قال : لما خلق الله آدم أخذ ذريته من ظهره كهيئة الذر ، ثم سماهم بأسمائهم , فقال : هذا فلان بن فلان يعمل كذا وكذا ، وهذا فلان بن فلان يعمل كذا وكذا ، ثم أخذ بيده قبضتين ، فقال : هؤلاء في الجنة , وهؤلاء في النار.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وإذ أخذ ربك } الآية . قال : إن الله خلق آدم ثم أخرج ذريته من صلبه مثل الذر ، فقال لهم : من ربكم ؟ فقالوا : الله ربنا .
ثم أعادهم في صلبه حتى يولد كل من أخذ ميثاقه لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم إلى أن تقوم الساعة( ).
وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال : أخرج الله من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة، فخرجوا كالذر، فعرفهم نفسه، وأراهم نفسه، ولولا ذلك ما عرف أحد ربه، وذلك قوله: ” ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله ( ).
الثالث : أخذ الله عز وجل الميثاق من الناس عند إخراج آدم من الجنة وقبل أن يهبط إلى الأرض ، وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } قالوا : لما أخرج الله آدم من الجنة قبل تهبيطه من السماء ، مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر ، فقال لهم : ادخلوا الجنة برحمتي . ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر ، فقال : ادخلوا النار ولا أبالي . فذلك قوله : [َأَصْحَابُ الْيَمِينِ] ( )و[َأَصْحَابُ الشِّمَالِ ] ( )، ثم أخذ منهم الميثاق فقال { ألست بربكم قالوا بلى } فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية ، فقال : هو والملائكة { شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنَّا كنا عن هذا غافلين ، أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } ( )قالوا : فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنه ربه ، وذلك قوله عز وجل { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً }( )، وذلك قوله { فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين }( ) يعني يوم أخذ الميثاق ( ).
الرابع : أوان أخذ الميثاق عند هبوط آدم إلى الأرض، ورد عن ابن عباس قال : لما أهبط آدم عليه السلام حين أهبط بدحناء ، فمسح الله ظهره فأخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ، ثم قال : ألست بربكم؟ قالوا : بلى . فيومئذ جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة( ).
الخامس : إرادة أخذ الميثاق من الناس وهم في عالم الأرواح، وأخرج عن أبي بن كعب في قوله ({ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } إلى قوله { بما فعل المبطلون } جميعاً فجعلهم أرواحاً في صورهم ، ثم استنطقهم فتكلموا ، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } قال : فإني أشهد عليكم السموات السبع ، وأشهد عليكم أباكم آدم { أن تقولوا يوم القيامة } انَّا لم نعلم بهذا ، اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئاً ، إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي ، وأنزل عليكم كتبي قالوا : شهدنا بأنك ربنا وإلهنا ، لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك ، فأقروا ورفع عليهم آدم ينظر إليهم ، فرأى الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك ، فقال : يا رب لولا سوّيت بين عبادك؟ قال : إني أحببت أن أُشكر .
ورأى الأنبياء فيهم مثل السرج عليهم النور ، وخصوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة أن يبلغوا وهو قوله { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم }( ) الآية وهو قوله { فطرة الله التي فطر الناس عليها }( ) وفي ذلك قال { وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين }( ) [وفي ذلك قال { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل}( ).
قال : فكان في علم الله يومئذ من يكذب به ومن يصدق به ، فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عهدها وميثاقها في زمن آدم ، فأرسله الله إلى مريم في صورة بشر فتمثل لها بشراً سوياً. قال أبي : فدخل من فيها ( ).
السادس : إرادة أخذ الميثاق بواسطة الأنبياء والرسل.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم عن أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال : لو أن الماء الذي يكون منه الولد صب على صخرة لأخرج الله منها ما قدر ، ليخلق الله نفساً هو خالقها( ).
وهل في الحديث أعلاه إخبار عن أطفال الأنابيب ونحوه من العلوم الحديثة في الولادة , الجواب نعم.
ويتعلق النسخ في هذه الآية بقوله تعالى[فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ] ( )، ولكن الآية تبين أن الإطلاع على خائنة من معاني الخبث وإثارة أسباب الشك والريب، ومناجاة المنافقين لا يؤدي إلى البطش والإنتقام، إنما يكون العفو والصفح والإعراض حجة على الذين كفروا ودعوة للناس للتوبة، وجاءت هذه الآية لبيان حقيقة بأن إعراض النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عن أسباب الأذى التي يثيرها فريق من أهل الكتاب عن أمر من عند الله عز وجل، وليس عن ضعف أو وهن أو غفلة.
ويكون تقدير الآية والأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعفو فيها على وجوه :
أولاً : فاعف عن الذين يضمرون العداوة للإسلام , وأصفح عن الخائنة التي تظهر منهم.
ثانياً : فاعف عن أهل الكتاب وأصفح عنهم لما يصدر منهم من معاني الجدال والريب.
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا أعفوا عن أهل الكتاب الذين تصدر منهم الإشارة بالتأييد للمنافقين .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا أعفوا عن أهل الكتاب الذين يغمزونكم في دينكم.
العفو عن ابن أبي سرح يوم فتح مكة
وفي يوم فتح مكة أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أماناً عاما للناس واستثنى نفراً أذن بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة لأن الله عز وجل أحل مكة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ساعة من نهار , وكان من هؤلاء عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري الذي كان أسلم من قبل وهاجر إلى المدينة، وكان من كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم إرتد مشركاً، وأخذ يتقول على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي يوم الفتح فرّ إلى عثمان، وكان أخاه من الرضاعة إذ أرضعت أمه عثمان فأخفاه عنده إلى أن إستقرت الأمور في مكة، وعادت الحياة اليومية إلى سابق عهدها مع الغبطة والسعادة بين أهل مكة بالفتح وسيادة أحكام الإسلام .
فجاء عثمان به وسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمان له فصمت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يحبه، ثم قال : نعم، (فلما إنصرف عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن حوله ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه فقال رجل من الانصار فهلا أومأت إلي يا رسول الله , فقال إن النبي لا ينبغى أن يكون له خائنة أعين( ).
ومع شدة إيذاء عبد الله بن سعد بن أبي سرح للإسلام والقرآن ولشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد عفى عنه صلى الله عليه وآله وآله وسلم .
لقد كان بن أبي سرح يحرض الناس ضد الإسلام، ويشد عضد رؤساء الكفر باستهزائه بالتنزيل وإدعائه أنه يستطيع أن يكتب مثله.
وكان أخو عبد الله وهو وهب بن سعد بن أبي سرح العامري من المؤمنين , وقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين سويد بن عمرو .
وفي سنة خمس وعشرين للهجرة ثارت الإسكندرية وكان الوالي على مصر عمرو بن العاص، فغزاهم وقتل المقاتلة وسبى الذرية، ولكن عثمان أمر برد السبي من أهل القرى إلى قراهم ومحل سكناهم لأن لهم عهداً، وقام بعزل عمرو بن العاص وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخاه من الرضاعة .
(وكان ذلك بدء الشر بين عثمان وعمرو بن العاص( ).
وقام عمرو بن العاص بالتأليب والتحريض على عثمان وأفتتح عبد الله بن أبي سرح وجيش المسلمين في مصر عدة أمصار، ثم جاء إلى المدينة المنورة سنة أربع وثلاثين وإلتقى بعثمان، واستخلف على مصر السائب بن هشام بن عمرو العامري فثار عليه محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة،
ومحمد هذا ولد في الحبشة عندما كان والداه مهاجرين إليها، إذ أسلم أبو حذيفة قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم، ثم هاجر مع إمرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو إلى أرض الحبشة، ووالد كل منهما من أشد رؤساء الكفار من قريش على الإسلام وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهو من الإعجاز الحسي في نبوته صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الأبناء في الإسلام إيماناً وتصديقاً بالمعجزات العقلية والحسية مع شدة حرص الأبناء على إتباع الآباء في تلك الأزمنة.
لذا قُتل أخوه الوليد بن عتبة مع أبيه عتبة بن ربيعة في معركة بدر قتله الإمام علي عليه السلام وشهد حذيفة بدراً وأحداً والمشاهد كلها(وكان رجلاً طوالاً حسن الوجه أحول أثعل , والأثعل الذي له سن زائدة تدخلها من صلبها الأخرى)( ).
ومن الآيات في المقام أن أبا حذيفة دعا أباه عتبة يوم بدر إلى البراز، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منعه , وإستشهد أبو حذيفة يوم اليمامة وعمره ثلاث وخمسون سنة وقتل معه مولاه سالم، ولم يسلم أخوه أبو هاشم بن عتبة إلا يوم الفتح، وجاهد وسكن الشام.
وعن سمرة بن سهم قال: قدمت على أبي هاشم بن عتبة، وهو طعين، فدخل عليه معاوية يعوده، فبكى، فقال: ما يبكيك يا خال ؟ أوجع أو حرص على الدنيا ؟ قال : كلا لا، ولكن عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا لم آخذ به.
قال لي: يا أبا هاشم ! لعلك أن تدرك أموالا تقسم بين أقوام، وإنما يكفيك من جمع الدنيا خادم، ومركب في سبيل الله.
وقد وجدت وجمعت وفي رواية مرسلة: فيا ليتها بعرا محيلا)( ) أي أنه ندم على جمع المال , أراد الموعظة والتحذير والإنذار من الإقبال على الدنيا وزينتها.
وقالت هند بن عتبة أخت أبي حذيفة تهجوه:
(الأحول الأبلق القلوب كليته … أبو حذيفة شر الناس في الدين)
(ماذا جزيت أبا رباك من صغر … ثمت غذاك غذاء غير محجون)( ).
ولقد كان من أفضل الناس وشخصه الكريم من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند إنتهاء معركة بدر على القليب وهو البئر الذي جف ماؤه بعد أن ألقي فيه قتلى المشركين وخاطب بعضهم بالإسم(يا عتبة، ويا شيبة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل – يعدد كل من في القليب – هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً ” ؟ .
قال ابن إسحاق : فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر عند مقالته هذه في وجه أبي حذيفة بن عتبة فرآه كئيباً قد تغير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لعلك دخلت من شأن أبيك شيء ” ؟ قال: لا، والله ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً، فكنت أرجو أن يقربه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه ذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له، حزنني ذلك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي حذيفة بخير )( ).
ولما رجع عبد الله بن سعد بن أبي سرح من المدينة إلى مصر منعه محمد ابن أبي حذيفة من الدخول إليها , فذهب إلى عسقلان ومات هناك سنة سبع وثلاثين للهجرة.
وولى الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام محمد بن أبي حذيفة على مصر ثم عزله، وولى قيس بن سعد بن عبادة، وقال ابن عبد الله فلما قتل عثمان هرب أي محمد بن حذيفة إلى الشام فوجده رشدين مولى معاوية فقتله)( ).
لتتصف الإمارة في أيام النبوة والخلافة الراشدة بأن الأمير حينما يعزل عن الحكم لا يخرج بأموال وعقارات وأراض، ويبقى واحداً من عامة المسلمين ليس له إمتيازات ويكون عرضة للقتل والإجهاز عليه، والثأر منه، وفيه شواهد كثيرة، وغالباً ما كان الأمير يغادر المصر الذي تولى الحكم فيه معتزلاً زاهداً.
الآية الثالثة : قوله تعالى [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ]( ).
قال ابن سلامة( ) والكرمي( ) بأنها منسوخة بآية السيف .
ونفى ابن الجوزي وقوع النسخ فيها ، وقال (زعم بعضهم نسخها بآية السيف) ( ) لإرادة صيغة الأمر والمضارع ، أي أتركهم وشأنهم ، والمراد من النسخ في المقام أي أجهز عليهم بالسيف ولا تتركهم يخوضوا ويلعبوا في الحياة الدنيا .
ومع قولنا بعدم نسخ الآية ، فهل يكون القول بالنسخ من معاني الآية الخطاب للمسلمين أجهزوا عليهم بالسيف , ولا تتركوهم وشأنهم ، الجواب هذا مما لا يصلح ، وهو من الدلائل بأن الآية لم تنسخ إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار , وتكون محلاً للصراع بين الحق والباطل ، وبين الإيمان والكفر , مع رجحان لكفة الإيمان , وهذا الرجحان لطف من الله بالمسلمين والناس .
وإعراب قوله تعالى [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا..] ( ).
الفاء : رابطة لجواب شرط مقدر .
ذرهم : فعل أمر وجملة جواب الشرط المقدر، وتقدير الآية إذا ثبت أن الملائكة لديهم يكتبون أعمالهم فذرهم يخوضوا .
يخوضوا : فعل مضارع مجزوم جواب الأمر .
ويلعبوا : الواو حرف عطف .
يلعبوا : فعل مضارع مجزوم بحذف النون معطوف على يخوضوا.
لقد جاءت هذه الآية في نظم آيات تبين قانوناً من الإرادة التكوينية ، وهو أن الله عز وجل يحصي على الناس أعمالهم وأنه أعد للمجرمين عذاباً أليماً بالخلود في الجحيم , وجاءت بعد قوله تعالى [سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ] ( ).
ثم جاءت الآية التي بعدها خاصة بذكر الإلوهية المطلقة لله عز وجل في السماء والأرض .
لبيان حقيقة وهي أن إتخاذ الذين كفروا الدنيا داراً للهو واللعب لن يضر الله عز وجل وان موعدهم يوم القيامة وساعة الحساب .
وقد ورد ذات نص الآية في سورة المعارج [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ] ( ).
كما ورد ذكر خوضهم ولعبهم في قوله تعالى [قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ] ( ).
وورد قريباً منه في قوله تعالى [ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ] ( ) وقوله تعالى [فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ]( )، وجاء في ذم الكفار وتوبيخهم على إعراضهم عن الآيات الكونية والجحود بها ، مثلما جحدوا بمعجزات النبوة والتنزيل ، قال تعالى [فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ] ( ).
وعلى فرض القول بالنسخ في المقام فقد تكون هذه الآيات كلها عرضة للنسخ لأنها آيات تخويف ووعيد وتهديد ، ولا دليل عليه , إنما هذه الآيات محكمة وغير منسوخة , وكل واحدة منها من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
إذ تفيد الإنذار في منطوقها ، والبشارة في مفهومها ، وتنمي عند المسلمين ملكة التقوى ، وتجعلهم يشكرون الله عز وجل على نعمه من جهات :
الأولى : نعمة الهداية والفوز بمراتب الإيمان ، لذا خصهم الله عز وجل بنداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] وهو من مصاديق قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ) لتأتي الزيادة في الإيمان والرزق وطول العمر ومضاعفة الحسنات ، قال تعالى [وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا] ( ).
الثانية : قيام أجيال المسلمين بانذار الذين كفروا ووعيدهم ويأتي هذا الإنذار من وجوه :
أولاً : تلاوة المسلم آيات القرآن ، وما فيها من البشارة والإنذار.
فان قلت كيف تكون آيات البشارة على الإيمان تهديداً ووعيداً للذين كفروا ، الجواب دلالة هذه الآيات في مفهومها على إنذار وتبكيت الذين كفروا على تفويتهم نعمة الإيمان على أنفسهم ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ) .
ليكون من مصاديق الآية أعلاه وجوه :
الأول : وما ظلمناهم أو تركناهم من غير حجة لله ظاهرة ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بالإعراض عن الحجة والبرهان من عند الله .
الثاني : وما ظلمناهم بل بعثنا لهم محمداً رسولاً من عندنا ولكنهم ظلموا أنفسهم بالجحود بنبوته .
الثالث : وما ظلمناهم بل أرسلنا محمداً رسولاً مبشراً ونذيراً ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بالصدود عن التنزيل .
الرابع : وما ظلمناهم بل أنزلنا آيات البشارة والإنذار ، ولكن كان الذين كفروا أنفسهم يظلمون بتكذيبهم بآيات البشارة ، وعدم الإتعاظ من آيات الإنذار.
ثانياً : طاعة المسلم لله عز وجل ، وقيامه بأداء العبادات وتنزهه عن فعل السيئات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بتقريب أن المسلمين يخرجون للناس .
بأن يخرج المسلم للناس بالتقوى والصلاح ، لتفيد آية البحث [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا ..] ( ) عدم ترك الذين كفروا وشأنهم إذ تأتيهم الإنذارات بحسن سمت المسلمين وسيرتهم .
ثالثاً : إقتداء المسلمين بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القول والعمل ، وفيه تخويف وإنذار للذين كفروا ، وترغيب لهم بمحاكاة المسلمين ، فمع أدنى تدبر يدرك الإنسان مطلقاً صبغة الإعجاز في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأنها شعبة من الوحي ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
رابعاً : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويحتمل الإنذار في المقام وجوهاً :
الأول : إنذار المسلمين للذين كفروا من الأمر بالمعروف .
الثاني : إنذار المسلمين للذين كفروا من النهي عن المنكر .
الثالث : إرادة المعنى الأعم الجامع للوجهين أعلاه .
والصحيح هو الثالث ، فهذا الإنذار أمر بالمعروف لأنه في دلالته ومفهوم المخالفة دعوة للهداية والإيمان ، وفيه تبكيت للذين كفروا ، وهو شاهد على عدم تركهم وشأنهم .
وعن (الأوزاعي قال : حدثني أبو كثير الزبيدي عن أبيه وكان يجالس أبا ذر قال : فجمع حديثا فلقي أبا ذر و هو عند الجمرة الوسطى وحوله الناس قال : فجلست إليه حتى مست ركبتي ركبتيه فنسيت ذلك الحديث وتفلت مني كل شيء أردت أن أسأله عنه , فرفعت رأسي إلى السماء فجعلت أتذكر .
فقلت : يا أبا ذر دلني على عمل إذا عمل به العبد دخل الجنة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم : تؤمن بالله قلت : يا رسول الله إن مع الإيمان عملا .
قال : يرضخ مما رزقه الله قلت : يا رسول الله فإن معدما لا شيء له ؟ قال : يقول معروفا بلسانه قلت : فإن كان عيبا لا يبلغ عنه لسانه ؟ قال : فليعن مغلوبا .
قلت : فإن كان ضعيفا لا قوة له ؟ قال : فليصنع لأخرق قلت : فإن كان أخرق فالتفت إلي .
فقال : ما تريد أن تدع في صاحبك خيرا , قال : يدع الناس من أذاه قلت : يا رسول الله إن هذا ليسير كله .
قال : و الذي نفس محمد بيده ما منهن خصلة يعمل بها عبد يبتغي بها وجه الله إلا أخذتْ بيده يوم القيامة فلم تفارقه حتى تدخله الجنة ) ( ).
الثالثة : يشكر المسلمون الله عز وجل على نعمة الإيمان والنجاة من الذم والتوبيخ الذي تذكره آيات الإنذار .
الرابعة : نيل المسلمين الأجر والثواب من جهات :
الأولى : السلامة من التخويف والوعيد الذي تتضمنه آيات الإنذار والوعيد .
الثانية : فوز المسلمين بالسلامة والأمن من إنذارات القرآن , ومنها قوله تعالى [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا]إذ أن هذه السلامة أمر وجودي وجاءت بحسن إختيار وسمت المسلمين .
الثالثة : إرتقاء المسلمين إلى مراتب الإيمان ، وتلاوتهم الآيات التي تذم الذين كفروا .
الرابعة : نيل المسلمين الأجر والثواب باخبار الذين كفروا بآيات الإنذار.
ومن معاني قوله تعالى [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا ..] أمور :
الأول :دعوة المسلمين لبناء صرح دولة الإيمان والهدى مع إنشغال الذين كفروا باللهو واللعب .
الثاني : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بالتخفيف عنهم بانصراف الذين كفروا عنهم .
الثالث : دلالة الآية على قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ وإصرار الذين كفروا على الجدال والخصومة واللهو , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ) .
وتقدير آية البحث : بعد أن بلغت وأنذرت فذرهم يخوضوا ويلعبوا ).
الرابع : مثلما الآية وعيد للذين كفروا فهي بشارة للمسلمين وأنهم لم يخوضوا بما لا يعنيهم , ولم يختاروا الجدال والخصومة وهم منزهون عن اللهو واللعب ، قال تعالى [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ) .
الخامس : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإصلاح حال المسلمين وبذل الوسع معهم للتفقه في الدين , والإرتقاء في سلم المعرفة الإلهية .
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : فذر الذين كفروا يخوضوا في الخصومة وأسباب الشك .
الثاني : فذر الذين كفروا يخوضوا في الباطل .
الثالث : فذر الذين كفروا والمنافقين يخوضوا في مفاهيم الضلالة ومنازل الردى .
الرابع : فاترك الذين كفروا يخوضوا فان الله عز وجل يبتليهم في الدنيا إلى جانب ما ينتظرهم يوم القيامة من شدة العذاب .
الخامس : فاترك الذين كفروا وخوضهم بالباطل فأنهم [ لَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا] ( ).
السادس : من خصائص النبوة ترك الذين كفروا ينشغلون في الباطل بعد إقامة الحجة عليهم .
الآية الرابعة : قوله تعالى [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( ).
قيل أنها منسوخة والناسخ لها آية السيف( ) والآية أعلاه هي التاسعة والثمانون والأخيرة من سورة الزخرف ، ويوجه الخطاب فيها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويحتمل الضمير [هم] في قوله [عنهم] وجوهاً :
الأول : إرادة الذي لا يؤمنون بالله .
الثاني : المقصود الذين يؤمنون بأن الله عز وجل هو خالقهم وخالق كل شيء , ولكنهم يمتنعون عن التصديق بالنبوة والتنزيل .
الثالث : أهل الإفتراء والكذب وأرباب التحريض .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث والشواهد على أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عامة للناس جميعاً على إختلاف مشاربهم ومذاهبهم ، وهو من الشواهد على صدق نبوته لأنه يقيم الحجة والبرهان على كل طائفة بأنه رسول الله ، وكل آية قرآنية مدد له ، وكذا السيف في معركة بدر وأحد والخندق وحنين عون من عند الله .
وإذ جاء القرآن معجزة مستقلة تدعو بذاتها الناس إلى الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) فان السيف في معارك الإسلام الأولى لم يكن وحده مستقلاً , بل كان قبله ومعه وبعده مدد وعون من عند الله من جهات :
الأولى : كل آية قرآنية مدد وعون للمسلمين .
الثانية : تنزل الآية القرآنية فتكون على وجوه :
الأول : تؤدي الآية القرآنية إلى زيادة إيمان المسلمين .
الثاني : الآية القرآنية دعوة للناس لدخول الإسلام، ومع نزول كل آية قرآنية يدخل عدد من الناس الإسلام، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً]( )، وفيه بيان لأمور :
أولاً : دخول الناس أفواجاً في الإسلام غير النصر والفتح للعطف بحرف الواو بينهما .
ثانياً : لا دليل في الآية على أن النصر والفتح علة تامة لدخول الناس الإسلام، فمن مصاديق دخولهم الإسلام توالي نزول آيات القرآن .
ثالثاً : نزول آيات القرآن مقدمة لتحقق النصر والغلبة للمسلمين، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن، لذا خافت قريش من توالي نزول آيات القرآن من حين بدايات النزول في مكة المكرمة لما كان لها من سلطان على القلوب، وجذب للنفوس والأشخاص للإسلام فعزموا على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ]( ).
الثالث : تبعث الآية القرآنية الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا خاصة وأن الآية القرآنية بشارة للذين آمنوا وإنذار للذين كفروا، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ]( ).
الثالثة : تصاحب السكينة الإيمان، وهي مدد وعون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في ساحات الوغى وخارجها، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ]( ).
الرابعة : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، قال تعالى [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
وأصل الصفح الجانب (الصَّفْحُ: الجَنْبُ. وصَفْحا كلِّ شَيْءٍ: جانِباه. وصَفْحَتا السَّيْفِ: وَجْهاه) ( ) والصفح ترك عقوبة المسئ والجاني ، وقال الزبيدي (الصفح ترك التأنيب وهو أبلغ من العفو فقد يعفو ولا يصفح , وأما العفو فهو القصد لتناول الشئ) ( ).
والمختار أن النسبة بين العفو والصفح هو العموم والخصوص المطلق ، والعفو هو الأعم ، فقد يكون الصفح مؤقتاً أو يكون إعراضاً وحلماً ، ومن مصاديق ما ورد في آية البحث ، وكأن الآية تقول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : أعرض عن الذين كفروا ولا تقبل عليهم بوجهك .
وليس من حصر للآيات والمعجزات التي تتجلى للناس في عالم الأكوان والذوات ، والتي تدعوهم للإيمان في كل ساعة ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ..] ( ) فحينما يصفح ويعرض المسلمون عن الذين يصرون على الجحود لا يعني الأمر أنهم في خلوة مع أنفسهم بل تهاجمهم البينات والدلالات , وتكون حجة عليهم ، لذا لا تدل الآية على اليأس في دعوة الناس إلى الإسلام ، وحتى ذات الصفح هو دعوة بالإعراض عن الذين كفروا وما فيه من الإنذار والتخويف .
وتتضمن الآية التخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وتدعوهم إلى الإكثار من ذكر الله والتسبيح , وتثبيت أركان الدين وشعائر الله , وأحكام الشريعة , وتحثهم على الصبر ، قال تعالى [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى] ( ) وقال تعالى [وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ] ( ) .
ولم تذكر الآية أعلاه الصفح والإعراض بالوجه عن الذين كفروا , إنما تضمنت أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتسبيح لإرادة الجمع بينها وبين مضامين آية البحث .
(وقل سلام) والأصل في سلام هو النصب ، ولكنه جاء مرفوعاً لبيان وجود حذف لمبتدأ ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان قانون وهو ثبات السلام والأمن بالإسلام .
الثانية : إخبار الذين كفروا والمنافقين بأنهم لن يضروا أهل الأرض والمسلمين في سعيهم في ركوب فتنة الكفر والضلالة .
ولقد إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ومن علمه تعالى إشاعة السلام في الأرض ببعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية ، وتقوى الصالحين , وتجلي معالم الإيمان في الأرض ، ومن علم الله عز وجل آية البحث بسعي خاتم النبيين للسلام بالقول والعمل في سبيل الله , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ] ( ).
الثالثة : إن قوله تعالى [وَقُلْ سَلاَمٌ]شاهد على لزوم إشاعة السلام والإستقرار في المجتمعات ويتفرع عنها طوعاً وإنطباقاً الأمن والإزدهار الإقتصادي ، وتحسين حال الأسواق والمعاشات .
الرابعة : الإعجاز في الحذف ، وتعدد ضروب تقدير المبتدأ ، والكلمة أو الكلمات المحذوفة .
وكل مسألة من هذه المسائل الأربعة شاهد على أن مضامين الآية محكمة وليست منسوخة , وتحتمل ماهية الحذف في المقام وجوهاً :
الأول :إرادة حذف كلمة مخصوصة .
الثاني : حذف كلمات متعددة في موضوع معين .
الثالث : المدار على نظم الآية , وسياق الآيات المجاورة .
الرابع : تجدد معاني ومصاديق الحذف , ومجئ أفراد جديدة منه في علم التفسير وبلحاظ الوقائع والأحداث .
الخامس : ذات الحذف دعوة لإستنباط السنن , وتعلم الأحكام من الآية القرآنية .
وباستثناء الوجه الأول والثاني أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق آية البحث , وهناك مسألتان :
الأولى : هل تدخل معاني النسخ في الحذف والتقدير في آية البحث حيناً ما .
الثانية : هل يشمل التقدير حمل لفظ [سَلاَمٌ] على الظاهر في الصناعة النحوية وهو النصب ويكون تقديره [ وَقُلْ سَلاَماً ] أم لابد من الجمود على النص والرسم القرآني لأنه هو الأصل .
الجواب لا مانع منه للسعة والمندوحة في التقدير ، ويكون تقدير الآية على وجوه منها :
الأول : وقل الإسلام سلام ) وفيه شاهد على أن الإسلام دين الرحمة، وهو سبب لنشر الأمن والسلام في الأرض .
الثاني : فأصفح عنهم وقل الصفح سلام ) لتأكيد قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يغدر ، وأن الإسلام منزه عن الغدر والمكر السئ .
الثالث : فأصفح عنهم وقل الدنيا متاع وسلام ) لتأكيد أن الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار ، والكافر الذي ينجو من العقاب في الدنيا فانه ملاقيه في الآخرة ، قال تعالى [قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمْ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ] ( ).
وقال ابن جزي (فاصفح عنهم منسوخ بالسيف , وقل سلام تقديره أمري سلام أي مسالمة وقيل سلام عليكم على جهة الموادعة وهو منسوخ على الوجهين , فسوف تعلمون تهديد) ( ) .
وفيه مسألتان :
الأولى : لا دليل على النسخ المتعدد في الآية .
الثانية : وردت الآية بصيغة الغائب : (فسوف يعلمون) ولعله ورد في التفسير أعلاه خطأ من الناسخ .
الرابع : تقدير قوله تعالى [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ]فأصفح عن الذين كفروا وقل للمسلمين : الإيمان سلام .
الخامس : وقل للمسلمين فأصفحوا وقل الإسلام سلام ، وفيه دعوة للمسلمين للصبر والتحمل ،وعدم المناجاة بالإجهاز على الذين كفروا ، إنما المناجاة بطاعة الله وأداء الفرائض .
السادس : فأصفح عن المنافقين , وإن تناجوا بالإثم والعدوان , وقل نصر الإسلام سلام للناس جميعاً .
وعن ابن عباس (قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث سرية وأغزاها التقى المنافقون فانغضوا رؤوسهم إلى المسلمين ، ويقولون : قتل القوم ، وإذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تناجوا وأظهروا الحزن فبلغ ذلك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن المسلمين ، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإِثم والعدوان }( ) الآية ) ( ).
السابع :فأصفح عن الذين كفروا وقل للذين آمنوا سلام ، وفي التنزيل [وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ]( ).
الثامن : فأصفح عن الذين آمنوا ومن يفعل السوء منهم بجهالة للأولوية القطعية ، فلما أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالصفح عن الذين كفروا مع جحودهم فمن باب الأولوية أن يصفح ويستغفر للذين آمنوا لبيان أن الصفح لا يصل إلى مرتبة الإستغفار التي خصّ الله عز وجل بها المؤمنين .
لقد أكرم الله عز وجل المسلمين بأن أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمور :
الأول : العفو عن المسلمين .
الثاني : الإستغفار للمسلمين .
الثالث : مشاورة المسلمين بقوله تعالى [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( ) .
وإذا كان المؤمنون يفوزون بهذه النعم الثلاثة فهل تشمل المنافقين ، الجواب يخرج المنافقون بالتخصيص من المشاورة في الأمر لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( ).
ومن الشواهد على عدم نسخ الآية أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً ، فيفوز المسلمون بالعز والفخر وعفو وتجاوز النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تقصيرهم في حال الحرب والسلم ويجتهد بالإستغفار لهم ، أما الذين كفروا فيصفح عنهم ليروا النعم المتتالية على المسلمين .
التاسع : ليس من حرج في الدين فاصفح عنهم وقل سلام )، وقد يتطلع نفر من المسلمين إلى البطش بالذين كفروا مع القدرة ، وعلو يد المسلمين ، كما في معركة أحد ، فهناك عدد من المسلمين لم يحضروا معركة بدر فأشتاقوا للقاء الذين كفروا في معركة أحد كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ) وجاءت آية البحث لمنع تمني البطش والإلحاح بالفتك ، ولكن الآية لا تنهى المسلمين عن أمور :
الأول : الإحتراز من الذين كفروا .
الثاني : أداء الفرائض والعبادات .
الثالث : دعوة الناس إلى الإسلام .
الرابع : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامس : الجهاد في سبيل الله ، وزجر الذين كفروا عن التعدي على ثغور المسلمين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) .
فمن إعجاز القرآن أنه تأديب وتعليم للمسلمين , وتخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنع للمسلمين من الإجتهاد في مقابل النص .
وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعه في شهر رمضان سنة سبع من الهجرة ، وشهر رمضان ليس من الأشهر الحرم ، وبين المدينة والميفعه ثمانية برد ، ومقدار طول البريد الواحد وأصل كلمة البريد كلمة فارسية ومعناها البغل(تعريب: بريد دم أي مقطوع الذنب( )، لأن بغال ودواب البريد مقطوعة الذنب كعلامة تعرف بها، ومسافة البريد هو أربع فراسخ والفرسخ نحو ثمانية كيلو مترات ونصف فيكون المجموع نحو 44 كم، وعند الحنفية والمالكية أنه فرسخان من الأرض أي نحو 22كم، وسمي الرسول البريد، ثم أطلق على المسافة بين طرفي البريد، فكانت المسافة مثلاً بين الكوفة والمدينة تقسم إلى أقسام كل قسم مسافة بريد، وتبين غرفة خاصة في رأس الفراسخ الثمانية، فيخرج البريد من الكوفة ليسلم إلى أقرب بريد لها ويعود إلى الكوفة بما جاء من المدينة من البريد فكل جماعة بريد من ذات المنطقة والعشيرة أو أنهم يعرفون أهلها وطرقها، وكانت وظيفة خاصة تسمى صاحب البريد ويكتب للخليفة عن أحوال الرعية والأسعار وأخبار الحكام، وأول من جعل صاحب البريد يكاتب الخليفة عن أخبار القضاة أبو جعفر المنصور العباسي، فيكتب صاحب البريد عن أحوال القضاة وكيف يحكمون بين الناس، ويرد على الحكم بالخطأ أو الظلم وهو باعث على عدم خروج عن الكتاب والسنة، ومن أسباب توثيق الكثير من أخبار القضاة.
وكان أفراد السرية مائة وثلاثين رجلاً وصار يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دليلهم ، فهجموا على القوم ووصلوا إلى وسط محالهم ، وقتلوا رجلاً منهم وأستاقوا نعماً وشياه ولم يأسروا منهم أحداً .
وكان سهم كل واحد منهم من الغنائم (عَشَرَةَ أَبْعِرَةٍ لِكُلّ رَجُلٍ أَوْ عِدْلَهَا مِنْ النّعَمِ) ( ).
ولحق أسامة بن زيد رجلاً حليفاً لهم إسمه مرداس بن نهيك من جهينة ، فلما أدركه قال الرجل : لا إله إلا الله ، فقتله أسامة وقيل اشترك في قتله مع أسامة رجل من الأنصار ، فلما رجعوا إلى المدينة ، وكان المسلمون يترددون في إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما فعل أسامة لعلمهم بحب رسول الله له ، مما يدل بالدلالة التضمنية على التسالم بينهم بعدم جواز قتل الذي ينطق بالشهادتين ، وهذا التسليم من رشحات آيات القرآن ، ومن تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ، وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( ).
ولما أخبروا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أظهر الأسى والحزن على قتل مرداس الذي نطق بشهادة التوحيد مع أنه لم يتم الشهادتين ، وقال لأسامة :
(أَقَتَلْته بَعْدَ مَا قَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ؟ فَقَالَ إنّمَا قَالَهَا مُتَعَوّذًا قَالَ فَهَلّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ ” ثُمّ قَالَ مَنْ لَكَ بِلَا إلَهَ إلّا اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَا زَالَ يُكَرّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتّى تَمَنّى أَنْ يَكُونَ أَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ) ( ).
العاشر : فأصفح عنهم فأنهم عباد الله .
الحادي عشر : فأصفح عنهم فان الله عز وجل يحب الصفح والعفو (عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من عفا عند قدرة عفا الله عنه يوم العسر) ( ).
والعفو هو التجاوز عن الإساءة وترك العقاب عن الذنب والمراد من يوم العسر هو يوم القيامة ليدل هذا الحديث على كون يوم العسر من أسماء يوم القيامة .
الثاني عشر : فأصفح عنهم لأن من دلائل وخصائص النبوة الصفح والمراد من الصفح هو الإعراض مع التسامح .
الثالث عشر : فاصفح عنهم وقل التوبة سلام في النشأتين .
الرابع عشر : فأصفح عنهم فأنهم لن يضروكم ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الخامس عشر : فأصفح عنهم فقد نصحت في التبليغ .
السادس عشر : فأصفح عنهم وقل آيات القرآن سلام.
السابع عشر : فاصفح عنهم وقل سلام [وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ]( ).
الثامن عشر : فاصفح عنهم [الصَّفْحَ الْجَمِيلَ] ( ) لأن الأنبياء يعطون بالأتم والأوفى .
التاسع عشر : فأصفح عنهم وقل الصفح سلام )، وهل هذا السلام خاص بالذين كفروا ، الجواب لا ، فالأصل فيه أنه سلام للمسلمين ، وتقدير الآية : وقل الصفح سلام للمؤمنين في النشأتين ، ليتأتى السلام من ذات الصفح وما يترشح عنه من مسارعة المسلمين في العمل الصالح وتنافسهم في عمل الخيرات ، قال تعالى في الثناء على المؤمنين [أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ] ( ).
العشرون : فاصفح عنهم وقل معجزاتي سلام .
وجاءت الآية بصيغة الأمر والخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون على وجوه :
الأول : ليكون من خصائصه مسائل :
الأولى : بقاء أمر الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غضاً طرياً في كل زمان .
الثانية : إمتثال المسلمين للأمر الوارد في الآية وتقديرها (فأصفحوا عنهم وقولوا سلام).
الثالثة : قيام المسلمين بنقل أمر الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فليس من أمة تقوم بنقل ما أمر الله عز وجل نبيها إلى الناس مثل المسلمين .
ومن الإعجاز في المقام أن المسلمات يتولين ذات الفعل والنقل المبارك بعرض واحد مع الرجال ، ومن الإعجاز الغيري للقرآن عدم إنحصار نقل المسلمات لآيات القرآن لخصوص النساء إنما يشمل وجوهاً :
أولاً : نقل المسلمات أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ]إلى أخواتهن من المسلمات .
ثانياً : إنذار المسلمات للمنافقات بتلاوة آية البحث وما فيها من الأمر المتعدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى : قوله تعالى[فَاصْفَحْ عَنْهُمْ]، إذ أن الصفح والإعراض والعفو أمر مستل قائم بذاته، ولا يختص الصفح بالكيفية النفسانية، إنما يشمل الصفح القول والفعل عن الطرف الآخر، ليكون فيه الأجر والثواب لإنه إمتثال لأمر الله عز وجل.
الثانية : قوله تعالى[وَقُلْ سَلاَمٌ] فلا يقف الأمر عند الصفح فلابد من بيان سنخية الإسلام بإعلان السلام، ولم تقل الآية: وقل سلام عليكم، لأن السلام يتوجه إلى أهل الإيمان , قال سبحانه[وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى]( ).
الثالثة : مجيء الآية بالتخويف للذين كفروا ووعيدهم بقوله تعالى[فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ].
ومن إعجاز القرآن ذكر المنافقون على نحو التعيين وعدم الإكتفاء بذكر المنافقين، وإرادة المعنى العام منه والشامل للرجال والنساء من المنافقين قال تعالى[وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ]( ).
ثالثا : قيام المسلمات بوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعرض واحد مع المسلمين من الرجال إذ أن لفظ الأمة في قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( )، عام ويشمل النساء أيضاً ويكون على أقسام:
الأول : أمة من المسلمين الرجال.
الثاني : أمة من المسلمات.
الثالث : أمة من المسلمين والمسلمات.
وورد لفظ المسلمين في آيات عديدة من القرآن , وبالرفع والنصب والجر , منها قوله تعالى[إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ…]( ) .
وذكرت الآية أعلاه المسلمين بثناء عظيم إذ إنفردت ببيان بخصال حميدة متتالية لا تختلف فيها المرأة عن الرجل وهي:
الأولى : الإسلام، وهو الإقرار بالشهادتين.
الثانية : الإيمان، وهو التصديق بالجنان وإنتفاء النفاق عن القلب ، لقوله تعالى[وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ]( )، فحينما يرد لفظ المؤمنات يدل بالدلالة التضمنية على السلامة من زيغ النفاق للتضاد بينهما .
الثالثة : قنوت وطاعة المؤمنات لله عز وجل فيما أمرهن , ونهاهن عنه.
الرابعة : الثناء على المسلمات بنعتهن بالصدق والسلامة من درن الكذب والرياء، بقوله تعالى[وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ]( ).
الخامسة : الشهادة من عند الله عز وجل للمسلمات بالصبر والتحمل، وأداء الفرائض والعبادات، ومنها صيام شهر رمضان , وهل الإمتثال لهذا الأمر المتعدد من الصفح وقول سلام يلزم الصبر.
الجواب نعم، وهو من الشواهد على أن الآية غير منسوخة، فمع علو يد المسلمين والتمكن من الذين كفروا فأنهم يلاقونهم بالصبر والحلم لأن الله عز وجل أمرهم بالصفح.
السادسة : تفضل الله عز وجل على المسلمات بارتقائهن إلى مراتب الخشوع ، بقوله تعالى [وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ]( ) لبيان خضوع المسلمات لله عز وجل ، وإنشغالهن بالتسبيح والتهليل والتحميد ، وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات جميعاً لإكرام المسلمة والثناء عليها لعفتها .
السابعة : شهادة الله عز وجل بأن المسلمات يقمن بأداء الزكاة، وينفقن في سبيل الله ، ويتصدقن من أموالهن الصدقة الواجبة والمستحبة .
الثامنة : الثناء على المسلمات لأدائهن صيام شهر رمضان ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( )وتوجه الخطاب في الآية أعلاه للمسلمين والمسلمات لوحدة التكليف في تنقيح المناط ، ويكون تقدير آية البحث في المقام على وجوه :
الأول : فأصفحن عنهم وقلن الإسلام سلام ) لإرادة صفح المسلمات عن المنافقين والكافرين لأن الإسلام في نصر متصل ، فمع مرور الأيام يزداد علو شأن الإسلام ، وتتوالى معالم النصر للمسلمين ، قال تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ) بتقريب أن الناس في هذا التداول ليسوا بعرض واحد بل يكون الرجحان للذين آمنوا .
الثاني : فأصفحن عنهن وقلن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ) في دلالة على جهاد المؤمنات وزجرهن للمنافقات والكافرات في المنتديات والمجالس ، ومنعهن من إظهار النفاق ومعاني الجحود إلى أن يتحقق النصر والغلبة للإسلام ، قال تعالى [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثالث : فأصفحي عنهم وقولي القرآن سلام ) لبيان إنحلال الخطاب القرآني وتوجهه للمنفرد والمتعدد من المسلمين ودعوتهم للعمل بمضامين الآية القرآنية .
الرابع :فأصفحي عنها وقولي سلام ) وفيه دعوة للمسلمة من جهات :
الأولى : التفقه في الدين .
الثانية : التأسي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : عمل المسلمة بمضامين الآية القرآنية .
وفي صفح المسلمين وصبرهم وإعراضهم عن الذين كفروا ثواب وأجر عظيم ، وهو نوع طريق ومقدمة لمنع تآلف وإجتماع الذين كفروا على محاربة الإسلام ، وفي التنزيل [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ] ( ) .
ومن الإعجاز في آية البحث مجيؤها بعد آية تبين مناجاة وبيان ودعاء وشكوى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل بالآية [وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ] ( ) لتكون آية البحث جواباً من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعثاً للسكينة في نفوس المسلمين , ومنعاً من الإلحاح بالقتال وتتابع المعارك .
ليكون من معاني الآية رجحان توبة فريق من الذين كفروا ، وهو من معاني قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ]( ).
ونزل قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) بخصوص معركة أحد ، وكيف أن الذين كفروا أرادوا الإجهاز على الإسلام والنبوة ، ولكن المسلمين تصدوا لهم وأجبروهم على الفرار والهزيمة والرجوع إلى مكة بذل وهوان ، فلم تمر إلا خمس سنوات حتى تم فتح مكة .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه من سورة النصر أنها لم تنعت الذين يدخلون الإسلام بما كانوا متلبسين به من الضلالة والصدود ، إنما وصفتهم جميعاً بصفة الإنسانية وسنخية الخلق ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان حقيقة وهي أن الذين كفروا إنسلخوا عن الكفر وإختاروا الإسلام بصفتهم أناساً يمتازون بالعقل .
والنسبة بين الناس في سورة النصر , وفي الآية أعلاه من سورة آل عمران هي عموم والخصوص المطلق ، فالمراد من الناس في سورة النصر والذين دخلوا الإسلام أعم فيشمل أهل مكة والقبائل ممن حارب الإسلام أو لم يحارب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , فيكونوا على وجوه :
الأول : الذين حاربوا الإسلام في معركة بدر وأحد والخندق .
الثاني : الذين أعانوا الذين حاربوا الإسلام .
الثالث : الناس الذين ذكرتهم الآية أعلاه من سورة آل عمران [قَالَ لَهُمْ النَّاسُ] ( )بلحاظ أن الآية أعلاه تذكر ثلاثة أصناف من الناس هم :
أولاً : الذين أخبروا المسلمين عن تحشيد قريش ضدهم ، وعزمهم على الإغارة على المدينة .
ثانياً : الذين كفروا ممن يجمعون الجيوش ويعدون العدة ضد المسلمين .
ثالثاً : المسلمون الذين تذكرهم الآية أعلاه بالضمير (هم)في قوله تعالى [قَالَ لَهُمْ].
الثانية : إكرام الذين يدخلون الإسلام ، فحالما ينطقون بالشهادتين يتفضل الله عز وجل عليهم بالثناء والمدح ومحو الصفة القبيحة عنهم .
الثالثة : تأديب المسلمين في كيفية صيغ النعت والنداء ولغة الخطاب ، فيكون الذي يدخل الإسلام إنساناً مسلماً إختار الحق والهدى ودخل في دين الله الذي أراده للناس جميعاً .
الرابعة : البشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بدفع الضرر عنهم بعد صبرهم وجهادهم .
وجاء لفظ الناس في سورة النصر لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين ، وكيف أن الصفح عن الناس يأتي بعرض واحد مع الجهاد والقتال في سبيل الله، ليسمى يوم فتح مكة على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يوم المرحمة , وقد ورد هذا الوصف بقوله تعالى [ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ] ( ) وهو من رشحات توالي المعجزات مع الإجهاد والصبر ، فمن مصاديق تقدير آية البحث أمور :
الأول : فأصفح عنهم فان الله عز وجل ينزل الآيات والبراهين التي تجذبهم إلى منازل التوبة والإنابة .
الثاني : فاصفح عنهم لإقامة الحجة عليهم .
الثالث : فأصفح عنهم ف(إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ.) ( ) .
الرابع : فأصفح عنهم فان الفتح قريب ، قال تعالى [فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا] ( ).
الخامس : فاصفح عنهم وأبذل الوسع في تعليم المسلمين أحكام الفرائض ومسائل الشريعة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ).
السادس : فاصفح عنهم فقد أنذرت وأوعظت وبشّرت .
السابع : فأصفح عنهم وقل للمؤمنين سلام عليكم ) أي أن الإسلام رحمة وأمن للمسلمين لقوله تعالى [وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] ( ) ولن تقيد الآية أعلاه رحمة الله لخصوص المؤمنين أو أنها للمؤمنين خاصة ، إنما هي تتغشى الخلائق كلهم ومنها مضامين آية البحث ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : كتب ربكم على نفسه الرحمة فاصفح عنهم .
الثاني : فأصفح عنهم فان ربك كتب على نفسه الرحمة .
الثالث : وقل سلام كتب ربكم على نفسه الرحمة .
الرابع : فأصفحوا عنهم فقد كتب ربكم على نفسه الرحمة .
فان قلت يدل نظم الآية أعلاه من سورة الأنعام على الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة الرأفة بالمؤمنين , وفتح باب التوبة لهم ، الجواب ، هذا صحيح ، ولكن الآية تبين قانوناً من الإرادة التكوينية ، وهو تفضل الله عز وجل بكتابة وتثبيت الرحمة فضلاً منه سبحانه.
ويأتي لفظ كتب بمعنى فرض كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) وإلى الآن يقال في اليمن كتب القاضي بالنفقة , ولكن هذا المعنى لا يصلح في قوله تعالى [كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] ( ) فهو سبحانه واحد أحد لا يملي أو يفرض على نفسه ، إنما تفضل الله عز وجل باستدامة رحمته على المؤمنين والناس جميعاً .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام ، فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ، ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان ) ( ).
ومن الإعجاز في آية الصفح هذه مجيؤها خاتمة لسورة الزخرف لتأتي بعدها سورة الدخان وإبتداؤها بالبسملة وما فيها من معاني الرحمة بالمؤمنين والناس جميعاً .
ثم بدأت بقوله تعالى [حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ] ( ).لتكون كل آية من آيات سورة الدخان مصداقاً لقوله تعالى [فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( ) خاصة وأن الآية أعلاه لم تأت بحرف العطف الواو ( وسوف يعلمون) إنما قالت [فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ] لبيان التعقيب والفورية وعدم الإبطاء بين الصفح وقول سلام وبين علم الذين كفروا والناس بالآيات .
ومن الإعجاز في نظم الآيات إمكان الصلة والجمع ذي الدلالة بين آخر آية الزخرف وآيات سورة الدخان ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : فسوف يعلمون حم والكتاب المبين .
الثاني : فسوف يعلمون إنا أنزلنا القرآن فتقوم عليهم الحجة , وتتبين خسارتهم في النشأتين .
الثالث : فسوف يعلمون إنا أنزلناه في ليلة مباركة ، لينهل المؤمنون من فيوضات ليلة القدر .
الرابع : فسوف يعلمون إنا كنا منذرين ) ومن الإنذار قوله تعالى [فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]لذا تقدم قبل سورة الدخان بلفظ الفعل الماضي [كُنَّا مُنذِرِينَ] ولبيان أن أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصفح عن الذين كفروا إنذار لهم وكذا قوله سبحانه [وَقُلْ سَلاَمٌ] فتتوالى الإنذارات عليهم في ذات الوقت الذي تتعدد وتتضاعف البشارات للمسلمين .
الخامس : فسوف يعلمون فيها يفرق كل أمر حكيم ليعلم الذين كفروا بركات ليلة القدر ، وإجتهاد المسلمين في سبل الطاعة فيها ، وقضاء نهارها بالصيام .
وعن الإمام الباقر عليه السلام في قوله (عن قول الله عزّ وجلّ : ( إنا انزلناه في ليلة مباركة ) ( )؟ قال : نعم ، ليلة القدر ، وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الاواخر ، فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر ، قال الله عزّ وجلّ : ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) قال : يقدر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل من خير وشر وطاعة ومعصية ومولود وأجل ورزق ، فما قُدر في تلك السنة وقضي فهو المحتوم). (أنا أنزلناه في ليلة مباركة)( ).
(عن ابن عباس قال : إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى ، ثم قرأ { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين } { فيها يفرق كل أمر حكيم }( ) يعني ( ليلة القدر ) .
قال : ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل موت أو حياة أو رزق كل أمر الدنيا يفرق تلك الليلة إلى مثلها من قابل )( ).
ليعلم الذين كفروا أن بقاءهم في الدنيا بمشيئة ورحمة من عند الله ، مما يستلزم إجتناب محاربة النبوة والتنزيل .
السادس : فسوف يعلمون أمراً من عندنا ) والله عز وجل بيده مقاليد الأمور ، وهو الذي يهب ويرزق ويمنع .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إن الرجل يتزوج ويعرس وقد خرج اسمه في الموتى ، لأن الآجال تقطع في شعبان) ( ).
لقد ورد قوله تعالى [فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ] على وجوه :
الأول : إنه وعيد وتخويف للذين كفروا بخصوص البلاء الذي يلاقون في الحياة الدنيا .
الثاني : إنه إنذار للذين كفروا بنصر الإسلام ، وظهور المسلمين عليهم ، قال تعالى في الوعد الكريم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين [لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] ( ).
الثالث : في الآية دعوة للمسلمين للترقب والرصد لما يصيب الذين كفروا من البلاء والمصائب بسبب ضلالتهم وجحودهم .
الرابع : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل للنجاة من الوعيد الوارد في آية البحث ، وهو من إعجاز القرآن وبركات الإيمان في السلامة من التخويف الوارد في القرآن وليصبح الأمن منه بدخول الإسلام وأداء الفرائض عزاً فخراً للمسلمين .
الخامس : إتخاذ المسلمين قوله تعالى [فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ] للبلاغ والإنذار والوعيد للذين كفروا ، وينال المسلم الثواب من جهات :
الأولى : تلاوة آية البحث ، وما تدل عليه هذه التلاوة من التبليغ ، فيقرأ المسلم الآية في الصلاة على نحو الوجوب فيكتب له تبليغاً وإنذاراً للذين كفروا .
وتحتمل هذه القراءة وجهين :
الأول : القراءة الإخفاتية في صلاة الظهر والعصر .
الثاني : القراءة الجهرية في صلاة المغرب والعشاء والصبح ، وفيها مسألتان :
الأولى : سماع الكافر والمنافق للقراءة .
الثانية : عدم سماع الكافر والمنافق لها .
وقد يقال أن القدر المتيقن من التبليغ بخصوص القراءة في الصلاة هي المسألة الثانية من الوجه الثاني أعلاه ، ولكن موضوع التبليغ أعم ، ووقوف المسلم بين يدي الله في الصلاة تبليغ , وكل قراءة للآية القرآنية على وجوه :
أولاً : إنها وعيد وتخويف للذين كفروا .
ثانياً : الآية موعظة للمسلمين .
ثالثاً : في قراءة المسلم للآية القرآنية بعث له للعمل بمضامينها .
رابعاً : قراءة المسلم للآية القرآنية برزخ دون نسيانه لها ، وعدم النسيان مقدمة لتلاوتها خارج الصلاة، وصيرورتها فرداً مباركاً من أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثانية : تعاهد المسلم لآية القرآن ومنعه من تحريفها وضياعها ، وجعل الذين كفروا عاجزين عن الوصول إليها منطوقاً ومضموناً وتفسيراً .
ومن الإعجاز الذاتي والغيري أن لغة الإنذار في القرآن جلية وواضحة ولا تحتمل الترديد وتعدد التأويل .
الثالثة : عمل المسلم بمضامين آية البحث ، وقيامه بالتخويف من الكفر والضلالة .
ومن إعجاز آية البحث الغيري أنها واقية من الإرتداد ، فيقرأ المسلم قوله تعالى[فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]فيتمسك بعرى الإيمان، ويستوثق من عصمته من الزلل والزيغ، قال تعالى[وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
وتمسك المسلم بسنن الهدى ثواب للمسلم لأن الإيمان مطلوب إبتداءً وإستدامة , وكل ساعة تمر على المسلم يرزقه الله فيها الأجر والثواب على أمور :
الأول : إختيار الإسلام , فصحيح أن الإختيار حدث بالنطق بالشهادتين ، ولكن الله عز وجل [ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ) فهو الذي يحتسب إختيار الإيمان أمراً متجدداً .
الثاني : ثبات المسلم في منازل الإيمان في كل ساعة من ساعات الدنيا التي تأتي عليه .
الثالث : أداء المسلم الواجبات العبادية بقصد القربة إلى الله عز وجل .
الرابع : حرص المسلم على إختتام أيام حياته في الدنيا بالإيمان ، وعدم مغادرته لها وللأحبة إلا بالشهادتين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
ليكون من مصاديق قوله تعالى [فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]إمتلاء نفس الكافر بالحسرة بالمقارنة في الوجود الذهني بين موت المسلم على الهدى والإسلام ، وبين موت الكافر على الجحود ، ليبدأ تجلي المائز والفارق والتباين بينهما في عالم الآخرة .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها لم تكتف بالأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصفح وبالقول سلام ، إذ أختتمت بالتخويف والوعيد للذين يصرون على الكفر مع جهاد المسلمين وصبرهم وصفحهم وعفوهم عنهم .
وقد وردت الآية بالأمر [وَقُلْ سَلاَمٌ]وجاءت بصيغة الرفع للفظ السلام لتقدير وجود حذف مع السعة والمندوحة من جهات :
الأولى : السعة في دلالات الرفع ووجوه الإحتمال فيه ، وهل هو مبتدأ لخبر محذوف ، أو خبر لمبتدأ محذوف أو فاعل أو صفة أو خبر إن أو أحد أخواتها , لا مانع من تعدد هذه الوجوه .
الثانية : السعة والتعدد في معاني السلام ، وكثرة المفاهيم التي تتفرع عنه .
الثالثة : المصاديق الواقعية المترشحة عن لفظ السلام في القرآن .
الرابعة : منافع علم المناسبة بالجمع بين ألفاظ السلام الواردة في القرآن ، ومن الآيات أن السلام اسم من أسماء الله الحسنى ، وفي التنزيل [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ]( ).
ويرى الناس تعاقب وتوالي نزول آيات القرآن نجوماً وبلحاظ الأسباب والمواضيع ليتدبروا في مضامينها القدسية طوعاً وقهراً من جهات :
الأولى : التدبر بمعاني كل آية على نحو مستقل .
الثانية : السعي في الجمع بين آيات القرآن ، وإدراك وجوه الإعجاز فيها مجتمعة ومتفرقة .
الثالثة : التفكر ببديع صنع الله وفضله العظيم بنزول القرآن .
ويتبين للذين كفروا النصر العظيم للنبوة والإسلام في معركة بدر وأحد والخندق , وهو من مصاديق قوله تعالى[فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا]( ).
لقد كان نصر المسلمين في معارك الإسلام الأولى خلاف حساب نتائج المعارك وفق عدد الجنود والأسلحة والمؤون عند كل من طرفي القتال ، إذ كان الرجحان فيها للذين كفروا في كل معركة منها ، ولم يكن هذا الرجحان بسيطاً بل كان الفارق بينهم وبين جيش المسلمين جلياً وكبيراً ، ففي كل معركة منها يكون جيش المشركين أكثر من ثلاثة أضعاف جيش المسلمين ، أما الخيل والأسلحة والمؤن فالفارق فيها أكثر من هذه النسبة , وكأنه ترغيب للمسلمين بالقتال بلحاظ أنها تكون غنائم لهم .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يبشر المسلمين بالنصر قبل كل معركة مع معرفته والمسلمين بالفارق بين الجيشين بالوحي وبيان رؤيا رآها أو تأويله لرؤيا أو إخباره عن كيفية إنتهاء المعركة وذكره لمصارع كبار جيش المشركين .
ولما جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبيل معركة بدر خبر سير قريش ليمنعوا عير وقافلة أبي سفيان ، أدرك وقوع المعركة لما علّمه الله ، وما يتجلى بوضوح من حنق وغيظ قريش عليه وعلى المسلمين ، وإلا فان القافلة إجتازت في طريقها إلى مكة ، وكتب أبو سفيان لقريش يطلب منهم الرجوع لأن القافلة سلمت ولم تتعرض إلى أذى ، ولكنهم أبوا إلى المضي نحو بدر فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باستشارة أصحابه ، وكان يريد الأنصار ليس على نحو التعيين , ولكن أولاهم العناية الخاصة ، وسعى إلى سماع قولهم بصيغ البيان والوضوح ، وهل هم يرغبون بملاقاة قريش أم يمتنعون عنها لأمور :
أولاً : الأنصار أكثر الصحابة عدداً .
ثانياً : إنه من مصاديق قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] ( ) .
ثالثاً : تقييد الأنصار بيعتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يمنعوه إذا وصل إلى ديارهم ، إذ قال ليلة العقبة (يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا بُرَاءٌ مِنْ ذِمَامِك حَتّى تَصِلَ إلَى دِيَارِنَا ، فَإِذَا وَصَلْتَ إلَيْنَا ، فَأَنْتَ فِي ذِمّتِنَا نَمْنَعُك مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا . فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَتَخَوّفُ أَلّا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نَصْرَهُ إلّا مِمّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوّهِ وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إلَى عَدُوّ مِنْ بِلَادِهِمْ ) ( ).
أي أن بيعة العقبة تضمنت أموراً :
الأول : عدم ترتب المسؤولية على الأنصار قبل وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، فلا يتحملون شيئاً مما يلقاه في مكة ، وكأنهم يحثون النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الهجرة والخروج إليهم لأن فيها سلامته وإستدامة التنزيل وتغشي البركة المدينة إسماً ومسمى ، لذا حالما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها بدّل إسمها ، إذ كانت تسمى يثرب من التثريب ، وهو التغيير ، والثرب هو الفساد ، وقيل أول من سكنها هو يثرب بن قاينة أحد العمالقة .
وهل كان تغيير اسم يثرب من عند الله عز وجل أم أنه إجتهاد من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب هو الأول ، قال تعالى [مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ] ( ).
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ) ( ).
الثاني : إخبار الأنصار النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وكأنهم يقولون إن الله عز وجل يحميك ويحفظك في الطريق بأنهم لا يأمنون له الطريق من مكة إلى المدينة وما فيه من الأخطار .
الثالث : لم يرد الأوس والخزرج الدخول في خصومة ونزاع مع قريش الذي يتصفون بالسطوة بين القبائل ولا مع بني هاشم ، فلم يأخذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ولم يواعدوه في أطرافها ، فلا حجة عليهم إذا دخل عليهم المدينة وقاموا حينئذ بالذب عنه .
الرابع : تعهد الأنصار بالدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما يصل إلى المدينة ، ويبذلون الوسع في سلامته ويمنعونه كما يمنعون أبناءهم ونسائهم .
وحينما تقابل الفريقان في معركة بدر إجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء والمسألة وأخبر عن مصارع رؤساء الكفر , وعن عبد الله بن مسعود قال (لما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المشركين يوم بدر قال كأنكم بأعداء الله بهذه الضلع الحمراء من الجبل يقتلون .
وأخرج البيهقي عن ابن مسعود : قال ما سمعت مناشدا ينشد حقا له أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر , وجعل يقول اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك , اللهم ان تهلك هذه العصابة لا تعبد ثم التفت كأن شق وجهه القمر فقال كأنما أنظر إلى مصارع القوم عشية) ( ) .
لتكون هذه الآيات دعوة للكافرين للتوبة والإنابة ، وهو من معاني [ فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا] ( ).
فأمهل الكافرين ليلقوا الإبتلاء والضرر من عند الله بما يكف أيديهم عن المسلمين ، ليتعلق موضوع الآية بذات مدة الإمهال لتطلب الآية من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التخلية بين الكافرين وما يأتيهم من أمر الله .
إن إمهال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بأمر من عند الله , وهو باعث للخوف والفزع في قلوبهم ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]( ).
ومن معاني ومنافع النهي الوارد في آية البحث [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ) قيام الوليجة الفاسدة بصرف المسلم عن الدعاء وسؤال الرزق من عند الله ، إذ تجعل هذه الوليجة والبطانة همّ الإنسان في الدنيا وكيفية كسب المال حلالاً أو حراماً ، ومن الخبال ترك الدعاء لطلب الرزق ورجائه من عند الله , والإمتناع عن الشكر لله عز وجل على نعمة الرزق ، مع أن هذا الشكر طريق للزيادة في المكاسب ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
وتبين الآيات عدم جلب البطانة السيئة الرزق إنما هو من عند الله عز وجل ، قال سبحانه [فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ] ( ).
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان ورزقه منزلة عظيمة بين الخلائق من الملائكة والجن وغيرهم ، فقال تعالى عند خلق آدم [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ولو تردد الأمر في الخلافة بين جهات :
الأولى : العموم المكاني وأن خلافة الإنسان في كل مصر وموضع من الأرض .
الثانية : الإطلاق الزماني ، بأن تتغشى خلافة الإنسان في الأرض أفراد الزمان الطولية وإلى يوم القيامة ، وهل ينتفي تقسيم الزمان إلى ماض وحاضر ومستقبل في هذه الخلافة المباركة ، الجواب فيه تفصيل , فاصل الخلافة مطلق في أفراد الزمان لأن إخبار الله عز وجل الملائكة عن جعل الإنسان خليفة في الأرض سابق لوجود الإنسان في الأرض .
أما بالنسبة لمصداق الخلافة فيقع فيه التقسيم الزماني إلى أفراد وأجزاء متباينة في حدوثها أو تأخرها .
فبإستثناء أول آنات هبوط آدم للأرض إذ ليس فيها زمن ماض للخلافة ، فان كل أزمنة وجود الإنسان في الأرض ينطبق على الخلافة فيه التقسيم الزماني الإستقرائي ، ويقع أيضاً في مصداق وشخص الخليفة ، كما في قوله تعالى [يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ] ( ) .
الثالثة : إرادة التقيد والحصر في خلافة الإنسان في الأرض، كما إذا كانت خاصة بأشخاص الأنبياء ، قال تعالى[يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] ( )، لبيان إعجاز ذاتي لآيات القرآن بتجدد إخبار الله عز وجل للملائكة بخلافة الإنسان في الأرض بنزول ذات القانون كأمر وبشارة وتنصيب إلى النبي داود عليه السلام، وقال الماوردي في الآية : فيه وجهان :
أحدهما : خليفة لله تعالى وتكون الخلافة هي النبوة .
الثاني : خليفة لمن تقدمك لأن الباقي خليفة الماضي وتكون الخلافة هي الملك ( ).
ولا دليل على الوجه الثاني ، إذ المراد ذات الخلافة التي أخبر الله عز وجل عنها الملائكة ولبيان قانون وهو عدم إنحصار الخلافة بشخص آدم عليه السلام .
والمختار الجهة الأولى والثانية أعلاه , وإرادة الإطلاق لأصالته .
ومن الإعجاز في المقام تكرر ذات اللفظ [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، في إخبار الله سبحانه للملائكة , وفي ندائه إلى داود عليه السلام , لبيان أن من خصائص الخلافة خطاب الله عز وجل للخليفة وإخباره بالولاية والخلافة ، فان قلت لم يخبر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بنص الخلافة , الجواب لقد تفضل بإخباره والمسلمين بها من جهات :
الأولى : تعدد الآيات التي تبين رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس جميعاً، قال سبحانه [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الثانية : نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتفضل الله عز وجل بجعله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ].
الثالثة : إخبار القرآن بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ينطق ويفعل بالوحي من عند الله، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الرابعة : كما أمر الله عز وجل داود عليه السلام بالحكم بين الناس بالحق فقد أمر الله عز وجل الرسول محمداً بالحكم بالحق , قال تعالى[فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ]( )، ومن إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يحذره من إتباع هواه إنما حذره من إتباع أهوائهم أهل الضلالة والفسوق .
وعن أبي سعيد الخدري (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِي وَلا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَة إلا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخيرِ وتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَم اللهُ “)( ).
لتبين آية البطانة حقيقة وهي رجحان كفة البطانة الصالحة ببركة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من معاني وتقدير قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) وجوه ومصاديق ليس لطرف الكثرة فيها حصر منها على سبيل المثال والبيان والشاهد :
أولاً : وما أرسلناك بالنهي عن البطانة السيئة إلا رحمة للعالمين .
ثانياً : وما أرسلناك باقامة الصلاة إلا رحمة للعالمين .
ثالثاً : وما أرسلناك بأداء الزكاة إلا رحمة للعالمين ، قال تعالى [وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ] ( ).
رابعاً : وما أرسلناك بفريضة صيام شهر رمضان إلا رحمة للعالمين وأخرج أحمد والطبراني والبيهقي عن أبي أمامة (إن لله عند كل فطر عتقاء من النار) ( ).
خامساً : وما أرسلناك بفريضة الحج إلا رحمة للعالمين .
سادساً : وما أرسلناك بآية الصدقات إلا رحمة للعالمين .
سابعاً : وما أرسلناك بآية الخمس إلا رحمة للعالمين .
ثامناً : وما أرسلناك بالدعوة إلى التوحيد إلى رحمة للعالمين .
تاسعاً : وما أرسلناك بنبذ الشرك إلا رحمة للعالمين .
عاشراً : وما أرسلناك بالقرآن إلا رحمة للعالمين .
الحادي عشر : وما أرسلناك بالوحي والتنزيل إلا رحمة للعالمين.
الثاني عشر : وما أرسلناك بالعفو والإستغفار إلا رحمة للعالمين.
الثالث عشر : وما أرسلناك بالدعاء إلا رحمة للعالمين , قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
الرابع عشر : وما أرسلناك بالصبر والإستعانة به إلا رحمة للعالمين .
الخامس عشر : وما أرسلناك بالبشارة والإنذار إلا رحمة للعالمين ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ) .
السادس عشر : وما أرسلناك إلا بالبيان والتبيان .
السابع عشر : وما أرسلناك إلا بقانون الله ولي وناصر الذين آمنوا .
الثامن عشر : وما أرسلناك إلا بقانون أن الكافرين لا ولي لهم ، قال تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ] ( ).
التاسع عشر : وما أرسلناك إلا بالنصر في معركة بدر وإن كنتم مستضعفين ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
العشرون : وما أرسلناك إلا بزيادة هدى للذين إهتدوا .
الحادي والعشرون : وما أرسلناك إلا بلا إله إلا الله ).
الثاني والعشرون : وما أرسلناك إلا بصلة الأرحام .
الثالث والعشرون : وما أرسلناك إلا بالتقوى والخشية من الله ، قال تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الرابع والعشرون : وما أرسلناك إلا بالمناجاة بالبر والتقوى .
الخامس والعشرون : وما أرسلناك إلا بالقطع بحشر الناس جميعاً يوم القيامة .
وتتضمن كل آية من القرآن تقديراً متعدداً لمتعلق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومضامينها القدسية ، مع إمكان البيان والتفسير ومنه مثلاً : وما أرسلناك إلا بنداء يا أيها الذين آمنوا) لبيان وجود أمة مستجيبة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى أفرادها في كل زمان أحكام الشريعة بالإمتثال .
لقد إدخر الله عز وجل نداء الإيمان للمسلمين ليبقى مصاحباً للناس في الحياة الدنيا إلى يوم القيامة ، وله موضوعية في الوقائع والأحداث .
إن كل كلمة من القرآن هي مما أرسله الله به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا كل شطر من آية ، وما فيه من الحكم والأمر والنهي والموعظة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
ومن إعجاز آية البطانة بلحاظ ترتيب كلمات الآية وجوه :
الأول : إبتداء الآية بصيغة النداء وفيه جذب للإسماع ، ودعوة للإنتباه والإلتفات ، وطرد للسأم والغفلة .
ومن خصائص نداء الإيمان أنه نوع وعد وعهد من عند الله عز وجل للمسلمين بسلامتهم وحفظهم، ودفع الأذى والضرر عنهم، وهل فيه بشارة الأمن يوم القيامة , الجواب نعم، لقوله تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ] ( ).
ويتوجه الخطاب في الآية أعلاه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهل يشمل النداء (يا أيها الذين آمنوا) النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه رسول الله وإمام الذين آمنوا، ومن مصاديق الإيمان هو التصديق بنبوته .
الجواب لا تعارض بين الأمرين، فيشمل النداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الإمام في الإمتثال لمضامين آيات النداء , وتبين الآية أعلاه شرف مرتبة النبوة، ووجوب الإيمان بها.
ويقتبس المسلمون المواعظ والدروس من نداء الإيمان، ويستحضرونه في العمل بمضامين كل آية من القرآن وإن لم تكن تبدأ بهذا النداء التشريفي وليست معطوفة على آية من آيات النداء .
الثاني : مجئ النداء بصيغة الخصوص ، فلم يكن النداء للناس كافة ، إنما جاء لفريق منهم , وهم المسلمون والمسلمات , وفيه شاهد على أمور :
أولاً : إختصاص المسلمين بالتكاليف في أمور ومسائل منها عدم إتخاذ بطانة ووليجة من غيرهم تضمر لهم العداوة ، وتسعى خفية للإضرار بهم .
ولا يتعارض هذا المعنى مع القول بتكليف الكفار بالفروع كتكليفهم بالأصول .
ثانياً : ترغيب المسلمين بالعمل بمضامين الآية القرآنية .
ثالثاً : دعوة الناس للتأسي والإقتداء بالمسلمين .
رابعاً : بيان حب الله عز وجل للمسلمين ، وتفضله بالأمر والنهي فيما يخص عملهم في اليوم والليلة وفي باب الحكم والفتوى والتجارة والمكاسب والصلاة الإجتماعية والأخلاق .
خامساً : تأكيد بغض الله عز وجل للذين كفروا ، ومنعهم من الإضرار بالمسلمين ، فلم يكن أحد يعلم بأنه مع الإيمان تأتي الوقاية من عند الله عز وجل بالأمر والنهي للمسلمين بما يبعث الخوف والفزع والحسرة في قلوب الذين كفروا والمنافقين إذ أنهم يحرصون على تبوأ منزلة وشأن عند أئمة المسلمين والملأ منهم ، فتأتي الآية القرآنية لتقطع هذا الطمع والتجرأ , وتدعوهم إلى نبذ الهمّ بالمكر والكيد .
الثالث : بقاء نداء الإيمان في الأرض وجريانه على ألسنة المسلمين والمسلمات ، وعدم مغادرته أذهان الناس ، وهو من أسرار تلاوة آيات القرآن في الصلاة .
ولقد أراد الله تعالى للآية القرآنية أن تكون منهاجاً دائماً للمسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) وكل آية من القرآن هي صراط مستقيم ، ودعوة للصراط المستقيم ، وزجر عن العدول أو العزوف عنه .
الرابع : مجئ النهي عن بطانة السوء بعد نداء الإيمان من غير فاصلة لفظية بينهما ، مع تجلي التقدير للآية الكريمة من جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله .
الثانية : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله وملائكته واليوم الآخر.
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا بأن القرآن حق وصدق نازل من عند الله .
الرابعة : يا أيها الذين آمنوا بأن كل أمر أو نهي في القرآن هو خير محض ودعوة للصلاح .
الخامسة :يا أيها الذين آمنوا بوجوب العمل بمضامين آيات القرآن .
السادسة : يا أيها الذين آمنوا بأن الذين كفروا يضمرون لكم العداوة .
السابعة : يا أيها الذين آمنوا بلزوم إتخاذ البطانة الصالحة .
الثامنة : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله في مسألة البطانة والوليجة .
التاسعة : يا أيها الذين آمنوا بأن في بطانة السوء ضرر خاص وعام على الإسلام ، وهل فيها ضرر على ذات البطانة ، الجواب نعم ، لما فيها من زيادة في الإثم لصدور المكر والكيد منها , وإرادتها الإضرار بالمسلمين من منازل القرب والمشورة والإمتناع عن النصيحة .
العاشرة : يا أيها الذين آمنوا إجعلوا الإمتناع عن إختيار البطانة الفاسدة طريقاً للإمتثال الأمثل للأوامر الإلهية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ومنها مضامين آيات نداء الإيمان ، إذ جاءت الآية التالية بالنهي عن أكل مال الربا ، وبيان قبحه الذاتي مما يدل على الإستثناء وعدم الإطلاق في قوله [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ) فليس كل مال هو زينة لأن مال الربا سحت وحرام ، وفيه الإثم ، فان قلت قيدت الآية أعلاه مورد الزينة بأنه خاص بالحياة الدنيا .
والجواب هذا صحيح ولكن هناك تباين وتضاد بين القبيح والزينة وإن كانت في أمور يتزين بها ، وفي التنزيل [قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى]( ).
وموضوع الآية أعلاه هو إحتجاج موسى عليه السلام على فرعون ودعوته للإقرار بالعبودية لله عز وجل، ولزوم نبذه إدعاء الربوبية .
فطلب فرعون من موسى أن يجعل بينهم وبينه أجلاً وموعداً لبيان الحجة والبرهان.
وعن وهب بن منبه : قال موسى: لم أومر بهذا، إنما أمرت بمناجزتك، إن أنت لم تخرج دخلت إليك. فأوحى الله إلى موسى أن اجعل بينك وبينه أجلا , وقل له أن يجعل هو .
قال فرعون: اجعله إلى أربعين يومًا. ففعل( ).
فاختار موسى عليه السلام يوم الزينة موعداً بينهم، وهو يوم عيد يجتمعون فيه ليكون شاهداً على صدق رسالة موسى عليه السلام وأنه لايخشى إجتماع الناس بل يتخذه مناسبة كريمة لبيان معجزته، وترغيب الناس بالإسلام، ونبذ ما يدّعيه فرعون من الربوبية.
وهل من صلة بين إختيار موسى عليه السلام ليوم عيد عند آل فرعون لبيان معجزته وبين غرق آل فرعون , الجواب نعم ، فقد أراد موسى تخلي الملأ وعامة الناس عن فرعون أو لا أقل الإمتناع عن طاعته في المنكر والصدّ عن سبيل الله.
لقد أراد موسى عليه السلام نجاة آل فرعون من الغرق باجتناب مطاردة وملاحقة بني إسرائيل عند خروجهم مع موسى عليه السلام من مصر للنجاة بأنفسهم، وهو من الشواهد بأن بعثة كل نبي رحمة وخير محض للناس جميعاً [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، وأراد فرعون من الأجل جمع السحرة من أرجاء مصر، وكانت صناعة السحر رائجة في زمانهم.
ومع عتو وطغيان فرعون في سلطانه فانه رضي بموعد للإحتجاج بينه وبين موسى عليه السلام ، وهو من الآيات في نصرة الله عز وجل لأنبيائه ، وجعل الطواغيت يأذنون لهم لبيان معجزاتهم ، وقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتقيد الكفار من قريش وغيرهم بوضع السلاح في الأشهر الحرم وعدم القتال فيها وهي شهر رجب ، وشهر ذو القعدة وذو الحجة ومحرم من كل سنة ، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يتلو القرآن على الناس ، ويدعو القبائل إلى دخول الإسلام في الموسم ، مما ترشح عنه إيمان الأنصار ، وجهادهم في سبيل الله ، فانشغلوا والمهاجرون في الدفاع عن النبوة والتنزيل وخاضوا غمار الحرب والقتال في معركة بدر وأحد والخندق وحنين مع التهيئة لتلك المعارك وتلقي أضرارها وآثارها مما قد يسبب الغفلة عن مسألة البطانة وإختيار الأصلح منها ، خاصة وأن المنافقين بين ظهرانيهم، لذا فان آية البطانة معجزة عقلية من جهات :
الأولى : إبتداء الآية بنداء الإيمان ، ومن معانيه أنه يستصرخ المسلمين والمسلمات للعمل بمضامين الآية الكريمة ، ويندبهم للسعي في طاعة الله عز وجل ، ليكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا إعملوا بما أراكم الله .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا إجتنبوا ما نهاكم الله عنه ومنه البطانة الفاسدة.
ثالثاً : يا ايها الذين آمنوا يجب إقتران العمل بالإيمان .
رابعاً : يا ايها الذين آمنوا إحذروا من صيرورة عدوكم وليجة وبطانة لكم .
خامساً : يا أيها الذين آمنوا أشكروا الله عز وجل بأن جعل أمر إختيار البطانة بأيديكم ثم تفضل ونهاكم عن البطانة التي تجلب الأذى والضرر لكم .
سادساً : يا أيها الذين آمنوا إن الله عز وجل يشكر لكم إيمانكم بأن ينهاكم عن البطانة السيئة .
سابعاً : يا أيها الذين آمنوا إن الله عز وجل يحب ثباتكم في منازل الإيمان ، لذا منعكم من إختيار البطانة التي تنوي الإيقاع بكم.
الثانية : حضور آية البطانة في حال قيام المسلمين بالجهاد في سبيل الله الذي هو الأهم لحاجتهم للنصر وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي نزول آيات القرآن وإستدامة دولة الإسلام فتفضل الله عز وجل ودعاهم للإلتفات إلى أمور ذات شأن وأهمية أخرى ، تكون تعضيداً لهم في ميادين القتال .
الثالثة : من إعجاز آية البطانة عدم بلوغ المنافقين والكافرين منازل الخاصة والبطانة للمؤمنين فيستطيعون طعن الإسلام من الظهر والإيقاع بهم ، ونشر الإشاعات الكاذبة وبث روح القنوط بين صفوفهم ، فجاءت الآية نصاً سماوياً صريحاً بالمنع والتخويف من جعلهم وليجة خاصة ليكون من معاني الآية الكريمة دعوة للمسلمين لحفظ الأخوة والتكافل بينهم .
وتحتمل الصلة بين آية البطانة وآية [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ ..] ( ) وجوهاً :
الأول : آية البطانة تفسير للآية [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ..].
الثاني : آية [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ ..] تفسير لآية البطانة .
الثالث : كل آية من الآيتين أعلاه تفسير للأخرى وبعث للعمل بمضامينها .
الرابع : كل من آية البطانة وآية [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ ..] مستقلة في موضوعها .
وباستثناء الوجه الأخير أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق آية البحث .
ولم يبطش فرعون بموسى عليه السلام لما رأى من الآيات ، ولكنه دعا إلى موعد للإحتجاج وإقامة البرهان من غير سفك للدماء ، بينما إختار كفار قريش إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعذيب أهل البيت والصحابة الأوائل ، ثم سعوا إلى إغتياله وقتله وهو في فراشه ، لتكون هجرته في تلك الليلة معجزة حسية يملأ ضياوها الآفاق في كل زمان وإلى يوم القيامة .
فان قلت لماذا مات فرعون وجنوده في بحر القلزم (البحر الأحمر ) غرقاً قبل أن يتمكن من موسى وبني إسرائيل بينما بقي كفار قريش يقاتلون المسلمين في معارك الإسلام الأولى بدر وأحد والخندق ، والجواب من وجوه :
أولاً : تجري الأمور والوقائع بحكمة من عند الله ، وهو سبحانه [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ).
ثانياً : لقد طغى فرعون في الأرض ، وأدعى الربوبية ، كما ورد في التنزيل حكاية عنه [أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى] ( ).
ثالثاً : لم يمتلك موسى وبنو إسرائيل السلاح عند خروجهم ، فقد هاجروا طلباً للعافية والسلامة في الدين بعد شدة قهر وإضطهاد فرعون وقومه لهم .
رابعاً : لقد قتلت طائفة من كفار قريش في معارك الإسلام فقد خسروا سبعين من قادتهم ورجالهم في معركة بدر ، وخابت آمالهم في معركة أحد ، فلم يحققوا أي غاية من الغايات الخبيثة التي جاءوا من أجلها وخسروا أثنين وعشرين رجلاً قتلى .
وأصابهم الخزي في معركة الخندق إذ بقوا حائرين حول المدينة ، وقتل أبرز فرسانهم ، وهو عمر بن ود العامري قتله الإمام علي عليه السلام ، وبما جعل وقائع المعركة تتغير بأن تمتلأ قلوب الذين كفروا بالخوف من إقتحام الخندق ، ولكن أبى الله إلا ليبين للناس بأن المسلمين لم ينصروا بالخندق إنما نصروا بصبرهم وجهادهم في سبيل الله وعزمهم على ملاقاة الحتوف ، فلم يركنوا إلى حفر الخندق ويتركوا مواضعهم ، ولم يكتفوا بالبقاء في تلك المواضع بل إختاروا اللقاء عندما طلبه العدو .
وفي أحد أيام المعركة خرج نفر من فرسان قريش منهم :
الأول : عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدّ بْنِ أَبِي قَيْسٍ ، أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ . – قَالَ ابن هِشَامٍ : وَيُقَال : عَمْرُو بْنُ عَبْدِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ .
وقَالَ ابن إسْحَاقَ : وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ . وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيِّ .
وضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ الشّاعِرُ ابن مِرْدَاسٍ , أَخُو بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْر)( ).
قال ابن إسحاق (إنّ عَمْرَو بْنَ وُدّ خَرَجَ فَنَادَى : هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ فَقَامَ عَلِيّ عليه السلام وَهُوَ مُقَنّعٌ بِالْحَدِيدِ , فَقَالَ أَنَا لَهُ يَا نَبِيّ اللّهِ , فَقَالَ ” إنّهُ عَمْرٌو اجْلِسْ ” .
وَنَادَى عَمْرٌو أَلَا رَجُلٌ يُؤَنّبُهُمْ وَيَقُولُ أَيْنَ جَنّتُكُمْ الّتِي تَزْعُمُونَ أَنّهُ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ دَخَلَهَا ، أَفَلَا تُبْرِزُونَ لِي رَجُلًا .
فَقَامَ عَلِيّ ، فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ ” اجْلِسْ إنّهُ عَمْرٌو ” .
ثُمّ نَادَى الثّالِثَةَ , وَقَالَ :
وَلَقَدْ بَحِحْت مِنْ النّدَا … ءِ بِجَمْعِكُمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ ؟
وَوَقَفْت إذْ جَبُنَ الْمُشَ … جّعُ مَوْقِفَ الْقِرْنِ الْمُنَاجِزْ
وَكَذَاك إنّي لَمْ أَزَلْ … مُتَسَرّعًا قَبْلَ الْهَزَاهِزْ
إنّ الشّجَاعَةَ فِي الْفَتَى … وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزْ
فَقَامَ عَلِيّ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا لَهُ فَقَالَ ” إنّهُ عَمْرٌو ” ، فَقَالَ وَإِنْ كَانَ عَمْرًا ، فَأَذِنَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَمَشَى إلَيْهِ عَلِيّ ، حَتّى أَتَاهُ وَهُوَ يَقُولُ
لَا تَعْجَلَنّ فَقَدْ أَتَا … ك مُجِيبُ صَوْتِك غَيْرَ عَاجِزْ
ذُو نِيّةٍ وَبَصِيرَةٍ … وَالصّدْقُ مُنْجِي كُلّ فَائِزْ
إنّي لَأَرْجُو أَنْ أُقِ … يمَ عَلَيْك نَائِحَةَ الْجَنَائِزْ
مِنْ ضَرْبَةٍ نَجْلَاءَ يَبْ … قَى ذِكْرُهَا عِنْدَ الْهَزَاهِزْ
فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ أَنَا عَلِيّ ، قَالَ ابن عَبْدِ مَنَافٍ ؟ قَالَ أَنَا ابن أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ غَيْرَك يَا ابن أَخِي مِنْ أَعْمَامِك مَنْ هُوَ أَسَنّ مِنْك ، فَإِنّي أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيقَ دَمَك .
فَقَالَ لَهُ عَلِيّ عليه السلام وَلَكِنّي وَاَللّهِ لَا أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيقَ دَمَك ، فَغَضِبَ وَنَزَلَ فَسَلّ سَيْفَهُ كَأَنّهُ شُعْلَةُ نَارٍ ثُمّ أَقْبَلَ نَحْوَ عَلِيّ مُغْضَبًا ، وَذَكَرَ أَنّهُ كَانَ عَلَى فَرَسِهِ , فَقَالَ لَهُ عَلِيّ : كَيْفَ أُقَاتِلُك وَأَنْتَ عَلَى فَرَسِك ، وَلَكِنْ انْزِلْ مَعِي ، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ ثُمّ أَقْبَلَ نَحْوَ عَلِيّ وَاسْتَقْبَلَهُ عَلِيّ عليه السلام بِدَرَقَتِهِ فَضَرَبَهُ عَمْرٌو فِيهَا فَقَدّهَا وَأَثْبَتَ فِيهَا السّيْفَ وَأَصَابَ رَأْسَهُ فَشَجّهُ وَضَرَبَهُ عَلِيّ عَلَى حَبْلِ الْعَاتِقِ فَسَقَطَ وَثَارَ الْعَجَاجُ .
وَسَمِعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله َسَلّمَ التّكْبِيرَ فَعَرَفَ أَنّ عَلِيّا عليه السلام قَدْ قَتَلَهُ فَثَمّ يَقُولُ عَلِيّ عليه السلام .
أَعَلَيّ تَقْتَحِمُ الْفَوَارِسُ هَكَذَا … عَنّي وَعَنْهُ أَخّرُوا أَصْحَابِي
فَالْيَوْمَ تَمْنَعُنِي الْفِرَارَ حَفِيظَتِي … وَمُصَمّمٌ فِي الرّأْسِ لَيْسَ بِنَابِي
أَدّى عُمَيْرٌ حِينَ أُخْلِصَ صَقْلُهُ … صَافِي الْحَدِيدَةِ يَسْتَفِيضُ ثَوَابِي
فَغَدَوْت أَلْتَمِسُ الْقِرَاعَ بِمُرْهَفِ … عَضْبٍ مَعَ الْبَثْرَاءِ فِي أَقْرَابِ
قَالَ ابن عَبْدٍ حِينَ شَدّ أَلِيّةً … وَحَلَفْت فَاسْتَمِعُوا مِنْ الْكَذّابِ
أَلّا يَفِرّ وَلَا يُهَلّلَ فَالْتَقَى … رَجُلَانِ يَلْتَقِيَانِ كُلّ ضِرَابِ) ( ).
فخرجت خيل المشركين منهزمة وعبرت الخندق هرباً وفزعاً ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
وأراد المشركون شراء جثة عمرو بن ود وعرضوا ثمناً لها عشرة آلاف درهم ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (هو لكم لا نأكل ثمن الموتى) ( ) وفيه آية من السنة النبوية الدفاعية , وسيرة المسلمين عن أكل المال بالباطل .
ولبيان حاجة المسلمين للبطانة الصالحة التي لا تأمر بأكل المال الحرام ، ولا تزين الباطل .
إذ تبين آية البطانة أن المسلمين مقبلون على أيام حكم وسلطنة وسعي إلى بلوغ أسمى المراتب في الآخرة .
لقد دخل المهاجرون والأنصار الإسلام ، ولهم ذوو قربى بقوا في منازل الكفر والجحود ، وكانت طائفة من الأنصار تود أفراداً من أهل الكتاب ويحالفونهم قبل الإسلام ، وهناك الأعراب والمنافقون الذين أظهروا الإسلام بألسنتهم , ولكنهم كانوا يضمرون الكفر والجحود .
فجاءت آية البطانة معجزة في ألفاظها ودلالاتها ، إذ إبتدأت بنداء الإيمان الذي يميز المسلمين عن غيرهم , لتدل الآية بالدلالة التضمنية على جواز إتخاذ المؤمنين بطانة وخلة من بينهم ، لتكون هذه الخلة عوناً لهم في أمور الدين والدنيا .
وعن سعد بن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام ، وقلت الأنساب ، وذهبت الأخوّة ، إلا الأخوة في الله , وذلك قوله : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } ) ( ).
وعن قتادة قال (وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : « الأخلاء أربعة مؤمنان وكافران ، فمات أحد المؤمنين ، فسُئِل عن خليله فقال : اللهم لم أر خليلاً آمر بمعروف ولا أنهى عن منكر منه ، اللهم اهده كما هديتني ، وأمته على ما أمتني عليه .
ومات أحد الكافرين ، فسُئِل عن خليله؟ فقال : اللهم لم أر خليلاً آمَرَ بمنكر منه ولا أنهى عن معروف منه ، اللهم أضله كما أضللتني وأمته على ما أمتني عليه .
قال : ثم يبعثون يوم القيامة ، فقال : ليثن بعضكم على بعض ، فاما المؤمنان ، فاثنى كل واحد منهما على صاحبه كأحسن الثناء ، وأما الكافران ، فأثنى كل واحد منهما على صاحبه كأقبح الثناء)( ).
ثم توجه النهي للمسلمين بقوله تعالى [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً] ( ) وتقدير الآية على وجوه :
الأول : لا تتخذوا بطانة لكم من غيركم .
الثاني : لا يتخذ أحدكم بطانة لهم من دونكم .
الثالث : لا يتخذ أمراء المسلمين بطانة لهم من دونكم .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا آمروا بالمعروف باتخاذ بطانة ووليجة صالحة ، وإنهوا عن إتخاذ بطانة ووليجة فاسدة .
الخامس : لا تجعلوا بطانة لأحدكم من دونكم ، فقد يتولى أهل الحل والعقد من المسلمين إختيار الأمين والخاصة وحافظ السر للأمراء والأفراد منهم ، فجاءت الآية مطلقة ، فهي لا تختص بالقضية الشخصية ، وإتحاد موضوع البطانة والذي يتخذها .
ومن إعجاز الآية ورودها بلفظ [دونكم] وهو عام يشمل وجوهاً :
الأول : إرادة ظرف المكان ، ممن حول المسلمين ويحيطون بالمدينة ، قال تعالى [وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ] ( ) .
فمن علم الله عز وجل أن حذّر المسلمين من إتخاذهم بطانة فان قلت لابد أن يعلمهم المسلمون كي يحذروهم ، ويمتنعوا عن إتخاذهم بطانة ، والجواب لا تصل النوبة إلى العلم التفصيلي لأن التحذير ورد مطلقاً بإجتناب إستبطان الذين معهم ومن حولهم من أهل النفاق .
كما تفضل الله عز وجل بإخبار رسوله بالوحي عنهم للتخفيف عن المؤمنين .
وأخرج عن ابن مسعود قال (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال في خطبته ( أيها الناس إن منكم منافقين فمن سميت فليقم قم يا فلان قم يا فلان حتى عدّ ستا وثلاثين ) ( ).
الثاني : يأتي لفظ (دون) بمعنى الأقل والأسفل ، وهو نقيض فوق ، لبيان زجر المسلمين عن إتخاذ بطانة تتصف بالوهن والضعف ، وتكون من صنف العبيد والإماء ، والإنصات إلى رأي النساء في شؤون ملاقاة العدو من كفار قريش في ميادين الوغى .
الثالث : من معاني (دون) أنه تقصير عن الغاية ، إذ تحذر آية البحث المسلمين من إتخاذ وليجة من الذين يقصرون عن الغايات الحميدة التي جاء بها القرآن والسنة .
لقد تضمن القرآن الأوامر والنواهي ، وجاء بالأحكام التكليفية الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة ، فأراد الله عز وجل لأجيال المسلمين الإمتثال التام ، فتفضل بحصانتهم من الوليجة والخاصة التي تحول دون هذا الإمتثال .
الرابع : تأتي كلمة (دون) بمعنى (غير) كما في قوله تعالى (وَامرأة مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ( ).
لتفيد الآية نهي المسلمين عن إستبطان وإتخاذ وليجة من غيرهم ممن يتصف بأخلاق رذيلة بينتها الآية ، فمن إعجاز الآية أنها لا تنهى عن البطانة من الغير على نحو الإطلاق , إنما ذكرت خصالاً في الذين تنهى الآية عن إتخاذ المسلمين لهم بطانة ، ومن الآيات أن هذه الخصال ليست متحدة بل هي متعددة من جهات :
الأولى : عدم التقصير في إفساد أمور المسلمين , ومنعهم من التدبر والتدبير , والحيلولة دون إتخاذهم الحكمة لباساً ووعاء للقول والفعل .
الثانية : إرادة بعث الفتنة والفرقة بين المسلمين .
وهل يمكن القول بقانون وهو أن أي فرقة وشقاق يحدث بين المسلمين لابد أن تكمن وراءه وليجة من غيرهم ، تريد لهم الخبال والأذى والوهن ، الجواب لا دليل على هذا الإطلاق ، كما أن آية البحث لا تربط في منطوقها بين البطانة والسيئة , وبين حدوث الفرقة بين المسلمين .
الثالثة : تمني الذين تحذر الآية من إستبطانهم المشقة للمسلمين ، ووقوعهم في عناء وشدة ، وإذا إتخذ المسلمون هؤلاء بطانة ووليجة فمعناه كلما تغلب المسلمون على مشقة وعناء فتحت لهم تلك الوليجة أسباباً وسبلاً أخرى لهذا العنت والمشقة ، إذ أن الرغبة في إيذاء المسلمين متأصلة في نفوسهم والحسد غالب عليهم .
لم يكونوا يتوقعون النصر السريع للإسلام ، وظهور نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دخول الناس جماعات في الإسلام ، قال سبحانه [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ] ( ).
الرابعة : ظهور الكراهية والبغض في نفوس الذين تحذر آية البحث المسلمين من إتخاذهم أخلاء وخاصة ، لقوله تعالى [قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ] ( ).
وهذه البغضاء على وجوه :
أولاً : النفرة من الإنقياد لأحكام التوحيد ، بعد أن توارثوا عبادة الأصنام .
ثانياً : البغض للنبوة ، وما يترشح عنها من لزوم الإمامة .
ثالثاً : الإمتناع عن التسليم بمعجزات التنزيل والنبوة مع تجليها للعقل والحواس ، وهناك شواهد عديدة في بدايات التنزيل في مكة ، وكذا في المدينة , وإحتجاج عدد من أهل الكتاب وغيرهم ، ويقابله تسليم وتصديق أفواج من الناس بالتنزيل ودخولهم الإسلام ، مما يجعل الذين إمتنعوا عن التصديق به من القليل النادر.
وعن ابن عباس قال (لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع الوليد بن المغيرة قريشاً فقال : ما تقولون في هذا الرجل ، فقال بعضهم : هو شاعر ، وقال بعضهم : هو كاهن ، فقال الوليد : سمعت قول شاعر وسمعت قول الكهنة ، فما هو مثله . قالوا : فما تقول أنت؟ قال : فنظر ساعة { ثم فكر وقدر * فقتل كيف قدر }( ) إلى قوله : { سحر يؤثر }) ( ).
رابعاً : لسان الشك والريب الذي ينطق به المنافقون .
خامساً : البغض لنصر المسلمين في معارك الإسلام ، إذ يرجو الذين تحذر الآية من إتخاذهم وليجة , وخاصة لحوق الضرر بالمسلمين في المعارك، لتدل الآية بالدلالة التضمنية على زجر المسلمين عن إتخاذ الذين يحاربونهم خاصة , ووليجة من باب الأولوية القطعية ومفهوم الموافقة .
وتحذر الآية المسلمين من الذين يخالطون الذين كفروا لأن هذه المخالطة نوع طريق لنقل أخبار المسلمين وإفشاء أسرارهم للعدو .
الرابعة : تحذر الآية المسلمين من إتخاذ الذين تضمر قلوبهم للإسلام العداوة الشديدة ، والبغض الدفين ، ممن وصفهم الله عز وجل بقوله [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ( ).
ومن أسرار نداء الإيمان في آية البطانة أنها لم تكشف حال المنافقين وخصال الذين كفروا وحسدهم وبغضهم للإسلام إلا بعد أن بلغ المسلمون مراتب سامية من الإيمان ، وظهرت علامات وأمارات التقوى في سيرتهم وأعمالهم ، ومنها تعاهد الصلاة اليومية ، والإقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القول والعمل .
وآية البطانة مدنية أي أنها نزلت بعد الهجرة النبوية المباركة حيث إشتد الأذى والضرر على المسلمين ، وزحف الذين كفروا بالجيوش الكبيرة للإجهاز على الإسلام ، ليكون الذين يخفون في صدورهم الكره والبغضاء للمسلمين على وجوه :
أولاً : الذين كفروا من قريش وما حول مكة من القرى .
ثانياً : الذين قتل المسلمون ذويهم وأحبائهم في معارك الإسلام الأولى دفاعاً عن الإسلام .
ثالثاً : الذين بذلوا الأموال فداء للأسرى من قريش في معركة بدر .
رابعاً : المنافقون الذين أظهروا الإسلام كذباً وزوراً .
خامساً : الذين لحقهم الضرر أيام البعثة النبوية ، ليس بسبب البعثة بل بسبب حرب قريش والذين كفروا على الإسلام والنبوة والتنزيل ، فمثلاً حينما عادت قافلة أبي سفيان أيام معركة بدر ساعة إلى مكة ، وكان عدد العير المحملة بالبضائع فيها ألف بعير لم توزع البضائع والتجارات على أهلها ، بل إتخذتها قريش مؤونة للإنفاق على الجيش الذي يقاتل المسلمين في المعركة اللاحقة وهي معركة أحد .
وهل يغيض نداء الإيمان الذين كفروا , الجواب نعم ، وفيه مسائل :
الأولى : دلالة نداء الإيمان في مفهومه على ذم وتوبيخ الذين كفروا .
الثانية : كل مؤمن ومؤمنة حجة على الذين كفروا .
الثالثة : ترغيب الناس ومنهم الذين كفروا بدخول الإسلام .
الرابعة : زجر الذين كفروا عن التعدي على الإسلام والمسلمين.
الخامسة : بيان عذوبة الإيمان والفوز بالمرتبة السامية ، والإكرام من عند الله عز وجل .
السادسة : نداء الإيمان من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) إذ يخرجون للناس بنداء الإيمان وما فيه من الدعوة إلى الهدى ، ومن إعجاز القرآن أن ذات نداء الإيمان [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] ترغيب للناس بالإسلام ، وشاهد على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف ، إنما إنتشر بإعجاز القرآن وكلماته ومعانيه التي تزيح الحواجز التي يجعلها الطواغيت والذين كفروا بين الناس والإيمان بالله والنبوة والتنزيل .
السابعة : نداء الإيمان واقية من البطانة الفاسدة من وجوه :
أولاً : دلالة نداء الإيمان على الفصل والتمييز بين الذين آمنوا وغيرهم .
ثانياً : في نداء الإيمان تنمية اسبل الهداية والرشاد .
ثالثاً : نداء الإيمان دعوة للمسلمين للوقاية والإحتراز من الذين كفروا والمنافقين في باب الوليجة وما هو أعم منها .
رابعاً : يبعث نداء الإيمان الفزع واليأس في قلوب الذين كفروا من القرب والدنو من عزائم المسلمين أو الإحاطة بمقاصدهم السامية .
خامساً : في نداء الإيمان عن للمسلمين عن الذين كفروا الفاسقين وأهل الضلالة ، لدلالته بالدلالة التضمنية على كون المسلمين أمة تعمل بالأوامر التي نزلت من عند الله ، وتجتنب ما نهى عنه سبحانه ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ).
وفي آية البطانة ترغيب للمسلمين بالمشورة فيما بينهم ، وتنمية ملكة التشاور والتدارس في أمورهم الخاصة والعامة ، قال تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] ( ) .
وفي التشاور بين المسلمين غنى عن إتخاذ الذين كفروا وليجة وتذكير بلزوم إجتناب إستبطانهم وإتخاذهم خاصة ، فمن مواضيع التشاور بين المسلمين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمناجاة بلزوم السلامة والتوقي من البطانة الفاسدة .
وتقدير الآية أعلاه بخصوص مسألة البطانة على وجوه :
أولاً : وأمر المسلمين شورى بينهم في إختيار البطانة .
ثانياً : وأمرهم شورى بينهم للتعاون في إجتناب البطانة التي تضمر الشر والعداوة لهم .
ثالثاً : وأمر المسلمين شورى بينهم للإستغناء عن الوليجة والخاصة ممن هم أدنى منهم ، ولا يرقون إلى منزلتهم وغاياتهم الحميدة .
رابعاً : وأمر المسلمين شورى بينهم للتذكير والتدارس في آية البطانة .
خامساً : وأمر المسلمين شورى بينهم في الإمتثال لأمر الله عز وجل بخصوص البطانة والوليجة .
سادساً : وأمر المسلمين شورى بينهم ، فيعجز الذين كفروا والمنافقون عن فتنتهم وإن كانوا وليجة وبطانة لهم ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن ، فعندما تأتي آية تأمر بشيء تأتي آيات أخرى مدداً للمسلمين للإمتثال لهذا الأمر ، وهومن مصاديق اللطف في آيات القرآن ،وعندما تنزل آية بالنهي عن فعل مخصوص تأتي آيات أخرى تشد عضد المسلمين في العصمة من إتيان الفعل المنهي عنه ، إلى جانب موضوعية السنة النبوية في المقام بلحاظ أنها فرع الوحي ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
سابعاً : أنزل الله سبحانه آية البطانة ليكون أمر المسلمين شورى بينهم .
ثامناً : يشكر المسلمون الله عز وجل على نزول آية البطانة ، ولا يستطيع الناس إحصاء النعم العظيمة التي ترشحت على المسلمين والناس بنزول آية البطانة .
ولا يختص هذا العجز بالمصاديق والمنافع التي تأتي للأجيال اللاحقة من آية البطانة بل يعجزون في بيان منافعها في هذا الزمان ، وتحتمل هذه المنافع بلحاظ قوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا] ( ) وجوهاً:
الأول : منافع آية البطانة من كلمات الله التي لا تنفد ، لأن هذه المنافع متصلة ومتجددة .
الثاني : آية البطانة من كلمات الله ، أما منافع آية البطانة فهو من رشحات وفيوضات كلمات الله .
الثالث : موضوع منافع البطانة أمر مستقل ، وهو نعمة خاصة .
والصحيح هو الثاني ، فمنافع آية البطانة من رشحات وفيوضات كلام الله ، ليكون من الإعجاز في الآية أعلاه أن كلمات الله من اللامتناهي ، وكذا ما يترشح عن كل كلمة منها يكون من اللامتناهي ، فاذا كانت ذات الكلمات لا تسعها مياه البحار مدداً وحبراً والتي هي نحو ثلاثة أرباع الكرة الأرضية فكيف بالمنافع الدنيوية العظيمة لكل كلمة وآية منها بالإضافة إلى قانون وهو أن المنافع الآخروية للآية القرآنية وأثرها أضعاف مضاعفة بالقياس إلى المنافع الدنيوية .
ومن إعجاز القرآن مجئ البشارة في ثنايا النهي والزجر عن فعل مخصوص .
لقد جعل الله عز جل للمسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ومن معاني الخروج في المقام عجز الذين كفروا عن الحيلولة دون خروج المسلمين للناس بالكيفية الإيمانية التي يريدها الله عز وجل لهم وللناس، فجاء النهي عن إتخاذ وليجة كيلا تكون هناك موانع في خروج المسلمين المبارك للناس بما فيه تعظيم شعائر الله .
وفي الآية رحمة بالمسلمين والناس من جهات :
الأولى : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب البطانة ومقدمات إختيارها .
الثانية : دعوة المسلمين للزجر عن البطانة السيئة ، ولفضح المنافقين الذين يسعون إلى بث روح الشك والقنوط في نفوس المسلمين .
الثالثة : بعث اليأس في نفوس المنافقين من الوصول إلى مرتبة المستشار والبطانة عند المسلمين .
الرابعة : دعوة المسلمين إلى الفصل والتمييز بين الناس بلحاظ الإيمان وعدمه ، فصحيح أن الآية جاءت بخصوص البطانة إلا أنها تحذر المسلمين من الظالمين والفاسقين .
الخامسة : حث المسلمين على الإستعانة في أمورهم بالكتمان والإحتراز والتوكل على الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
السادسة : بشارة المسلمين بتولي شؤون الحكم والرياسة والولاية وأمور التجارة مما يستلزم الإستشارة والوليجة .
السابعة : تنمية ملكة النصح عند المسلمين ، لأن ذم البطانة السيئة في آية البحث بسبب سريرتهم وقبح أفعالهم .
الثامنة : البشارة بالإعانة والمدد من عند الله في مواطن المشورة والرأي السديد ، وهل يمكن القول أن كل آية من القرآن بطانة سماوية للمسلمين ، الجواب نعم ، لقد أنعم الله عز وجل على موسى بهارون وزيراً، قال تعالى [سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ] ( ) .
وقد أنعم الله على المسلمين بأن جعل كل آية من القرآن تشد عضدهم وتنير لهم دروب الهداية والصلاح ، وهو من مصاديق فضل الله عز وجل بتلاوتهم مجتمعين ومتفرقين كل يوم لقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) ومن وجوه هذا الصراط التنزه عن إتخاذ البطانة السيئة .
وكما تفضل الله عز وجل وأخبر الملائكة عن إتخاذ الإنسان خليفة في الأرض وأجابهم على إستفهامهم وإن ورد بصيغة الإنكار ، فان الله عز وجل يجيب على أسئلة المسلمين وغيرهم التي تتوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ…] ( ).
لبيان مصاديق اللطف بالعباد ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ جعل الله عز وجل المسلمين يرتقون إلى مرتبة السؤال عن أمور دينهم ، ويتفضل الله عز وجل ويجيبهم بما يكون نعمة على أهل الأرض جميعاً وإلى يوم القيامة ، ليكون ذات السؤال ونزول الجواب من عند الله عز وجل من أسباب إستئصال الفساد من الأرض .
وهل تنحصر أسئلة المسلمين بآيات السؤال هذه , الجواب لا ، فمن الآيات ما كان سبب لنزولها سؤالاً من المسلمين أو إحتجاجاً أو جدلاً ، سواء ورد ذكر هذه السبب في علوم التفسير , أو أخبار السنة النبوية .
وجاءت آية البحث لتحول دون حدوث فتنة بين المسلمين ، وتمنع من السؤال المترشح عن الخلاف , ومن دلالات آية البحث أمور :
الأول : تذكير المسلمين بارتقائهم إلى مراتب الإيمان ، وتفضل الله عز وجل بالثناء والجزاء على نيلهم هذه المرتبة بتوجه الأوامر والنواهي لهم جميعاً وبسنخية الإيمان .
الثاني : بعث السكينة في نفوس المسلمين بأنهم حتى لو إتخذوا بطانة ووليجة تضمر الحسد والبغضاء لهم فأنهم لن يغادروا مراتب الإيمان لأن الآية تشهد لهم بنيل صيغة الإيمان ، ولأن آيات القرآن باقية غضة طرية إلى يوم القيامة فان حكم الإيمان يتغشى المسلمين والمسلمات أمة وأفراداً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ] ( ) .
الثالث : مصاحبة الحذر والحيطة للمسلمين في حياتهم العامة وأمور الدفاع والسياسة والإقتصاد .
الرابع : البشارة للمسلمين بنيل المراتب العالية في سلم التقوى , بالتقيد بالنهي الوارد في الآية بإجتناب إتخاذ الذين كفروا والمنافقين وليجة وبطانة وخاصة .
لقد تفضل الله عز وجل بالأمر والنهي للناس عامة ، فمثلاً ورد قوله تعالى في الأمر والوجوب [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ] ( ) لبيان قانون وهو كما أن أصل الناس من نفس واحدة جاءت بالنفخ من روح الله عز وجل في آدم فكذا لابد وان يتحد ويتشابه الناس في العبودية لله عز وجل .
كما تفضل الله عز وجل بتوجيه الأمر والنهي إلى المسلمين والمسلمات على نحو الخصوص ليكون بينهم وبين الناس في باب تلقي الأمر والنهي من عند الله عموم وخصوص مطلق ، فما يتلقاه المسلمون هو الأعم ، فيشملهم ما يأتي للناس جميعاً ، ثم يختصون بأوامر ونواهي خاصة .
والله عز وجل هو [الَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ) وغير محتاج للخلائق مطلقاً , ولكنه سبحانه ينزل الأمر والنهي رحمة بالناس والخلائق كلها .
فيعمل الناس عامة والمسلمون خاصة بما يأمر به الله عز وجل فتستديم الحياة ، حياة الناس والكائنات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ولم يرد لفظ البطانة في القرآن إلا في هذه الآية ونعت البطانة عون للمسلمين على إستحضار النهي في كل مناسبة لأن معانيها على وجوه :
الأول : إباحة السر للبطانة .
الثاني : الإطلاع على الأمور الخاصة .
الثالث : كشف الأسرار للبطانة .
الرابع : حتى إذا لم يتم إخبار البطانة والخاصة بالأسرار والنوايا فانها تستطيع الوصول إليها ،لعدم وجود حاجز أو برزخ يفصل بينهما وبين جهة القرار ، وهل تكتشف البطانة أسرار غير الذي إتخذهم وليجة من المؤمنين الجواب نعم ، لذا فان النهي عن جعل الذين كفروا والمنافقين خاصة ووليجة رحمة بالمسلمين ودعوة لهم للألفة , والتعاون , وقد قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين الصحابة , ليكون من منافع هذه المؤاخاة التوقي من بطانة السوء.
لذا ذكرت الآية الضرر العام الذي يتعقب إختيار الكفار والذين في قلوبهم مرض بطانة ووليجة بقوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ) وتقدير الآية بلحاظ التخصيص على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألون إخوانكم إلا خبالاً.
الثاني : لا تتخذوا بطانة من دونكم ودوا ما عنت وشقي إخوانكم من المؤمنين .
الثالث : لا تتخذوا بطانة من دونكم قد بدت البغضاء للإسلام من أفواههم .
الرابع : لا تتخذوا بطانة من دونكم قد بدت البغضاء من أفواههم لإخوانكم .
الخامس : لاتتخذوا بطانة من دونكم ما تخفي صدورهم من المكر والكيد أكبر من البغضاء .
كما تتوجه الآية الكريمة إلى المسلم بصيغة الإنفراد ، ويكون تقديرها مثل الوجوه أعلاه مثل : يا أيها الذي أمن لا تتخذ بطانة من دونكم لا يألوا أخوانك إلا خبلاً .
وجاء ذكر الآيات في آية البطانة بصيغة الجمع [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ]( ) وفيه وجوه :
الأول : المراد آيات القرآن .
الثاني : إرادة الآيات الكونية وآيات القرآن .
الثالث : المقصود مضامين آية البطانة نفسها من جهات :
الأولى : نداء الإيمان آية .
الثانية : النهي عن إتخاذ المسلمين بطانة أدنى منهم آية , ولا يقدر على هذا النهي إلا الله عز وجل ، ولا يستطيع المسلمون التقيد بأحكامه إلا عندما ينزل من عند الله .
الثالثة : من الآيات ما يترشح عن العمل بمضامين آية البحث من المنافع ، وما تجلبه الغفلة عنها من الضرر .
الرابعة : كشف قبح سريرة الذين كفروا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل ، فتفضل باخبار المسلمين عنه .
الخامسة : فضح الكفار والمنافقين الذين قد يتخذهم المسلمون وليجة بصدور البغضاء والكره للمسلمين على ألسنتهم ، قال تعالى [وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ].
وعن الإمام علي عليه السلام (المرء مخبوء تحت لسانه) ( ).
ويدل النهي عن إتخاذ بطانة من غير المسلمين ممن يتمنون الأذى والضرر للمسلمين ، وفق مفهوم المخالفة على أمور :
الأول : وجوب إتخاذ بطانة من الذين آمنوا .
الثاني : إباحة إتخاذ بطانة ممن يرجون الخير والصلاح للمسلمين.
الثالث : القدر المتيقن هو نهي المسلمين عن إتخاذ بطانة تضمر العداوة لهم ، وقال الجمهور بأن مفهوم المخالفة أو فحوى الخطاب دليل شرعي وخالف الأحناف ، ولكنه ليس قاعدة كلية ، فكل مسألة لها حكمها الخاص ، فيمكن أن يقال بالتفصيل .
وهل من موضوعية لنداء الإيمان في المقام ، الجواب نعم ، لأن صيغة الإيمان برزخ دون الإمتناع عن الإمتثال للنهي عن إتخاذ بطانة ضلالة الوارد في آية البحث ، وكأن الآية تقول : يا أيها الذين آمنوا لن تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ، خاصة وأن صفة الإيمان تنفي حال الخبال والفساد عند المسلمين ، فيكون إختيار الوليجة الضالة وأثرها وضررها سالبة بانتفاء الموضوع .
وتبين الآية بالدلالة التضمنية شدة عداوة الذين كفروا للمسلمين.
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
بين موضوع آية النداء السابقة[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً …..] ( )وآية البحث عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : توجه النداء لعموم المسلمين والمسلمات ، فليس من إستثناء في المقام , وفيه دلالة على أن علوم القرآن فوق وأعم من القواعد الفلسفية مثل : ما من عام إلا وقد خصّ ، فليس من إستثناء في نداء الإيمان ، فان قلت يقع هذا الإستثناء على نحو الإنطباق لوجود شطر من المسلمين فقراء وعاجزين عن الإقراض ، والجواب من وجوه :
أولاً : المدار على عموم النداء في الآية القرآنية .
ثانياً : تشريف المسلمين بنداء الإيمان في كل آية من الآيات التي ذكر فيها، وترشح تجليات عمومات النداء على الآيات التي بعد هذا النداء سواء بلغة العطف أو بظاهر الموضوع والحكم .
ثالثاً : من يكون فقيراً من المسلمين قد يصبح غنياً في أيام أخرى من حياته ، وهو الذي يدل عليه مضمون النداء والحكم في آية البحث ، وفي التنزيل [إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ..] ( ).
رابعاً : إرادة معرفة المسلم للحكم التكليفي الذي يجب عليه .
خامساً : عزم المسلم الفقير على إجتناب أكل الربا إذا صار ذا مال ، وفي هذا العزم أجر وثواب ، لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين بأن يأتي الثواب للمسلم على النية والعزم في موضوع غير قادر عليه .
الثانية : مجئ صيغة النهي في كل من الآيتين إذ تنهى آية الإيمان السابقة المسلمين عن إتخاذ وليجة وبطانة ممن هم أدنى منهم مرتبة ولا يرجو لهم الخير ، وتنهى آية البحث عن أخذ الفائدة الربوية على القرض , لبيان قانون وهو شدّ الآية القرآنية ونداء الإيمان عضد المسلمين للعمل بأحكام وسنن القرآن .
الثالثة : إبتداء كل من الآيتين بنداء الإيمان ، وفيه دعوة للمسلمين للتدبر في وجوه الإلتقاء بينهما .
لقد حذرت آية الإيمان السابقة المسلمين عن إتخاذ بطانة ووليجة من دونهم يسعون للإضرار بالمسلمين ، ولا يقصرون في إدخال الفتنة بين المسلمين أو جعلهم يفعلون غير الملائم مما يسبب الأذى والضيق عندهم .
والألؤ : التقصير أي أن هذه البطانة لا تقصر في جعل أمور المسلمين في حال إختلال ليظهر على المسلمين الإجهاد والتعب الشديد ، وهو معنى العنت ، وقيل أن معنى (الخبال الفساد) ( ) ولكن ظاهر الآية إرادة الأعم من الفساد .
فيشمل إنقباض النفس ، والميل عن القول السديد والفعل الصحيح، مع كثرة الجدال والخلاف سواء في العزم على الفعل أو عند إستحضار ما مضى منه ، وهل من معاني الخبال الذي يأتي بسبب البطانة الفاسدة السعي لميل المسلم لأكل المال الربوي .
الجواب نعم , إذ تقوم هذه البطانة بالترغيب بالربا كونه ربحاً سهلاً مضموناً ، ولم يتم إلا بالتراضي ، وتزيينه وإدعاء أن فيه قضاءً لحاجة المحتاج كما في القرض الربوي .
وقد يؤدي أكل مال الربا إلى الخبال ، ومن معاني الخبال (الوهن قاله أبو عبيدة ، والخبال : داء يصيب الإنسان تسترخي معه مفاصله ) ( ) .
ووقعت لأحد علماء التفسير زلة قلم في آية النداء السابقة , بتقديم [من دونكم] إذ قال : (قال سيبويه : إنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وههنا ليس المقصود اتخاذ البطانة إنما المقصود أن يتخذ منهم بطانة فكان قوله : لا تتخذوا من دونكم بطانة أقوى في إفادة المقصود) ( ). والظاهر أنه من النساخ .
الرابعة : تدل كل من الآيتين على حال العز والمنعة والسعة التي يبلغها المسلمون بحيث يصيرون في حال إتخاذ المشورة في العمل ، والوليجة التي يختصون بها لإباحة النوايا والعزائم ، وإستقراء الحال ، وكذا بالنسبة لآية حرمة الربا فهي بشارة السعة والغنى عند المسلمين بحيث يصبحون قادرين على الإقراض فيما بينهم وإقراض غيرهم.
وأما مادة الإفتراق بين آية البحث وآية نداء الإيمان السابقة , فمن جهات :
الأولى : تحذر الآية السابقة المسلمين من إختيار المنافق والفاسق والكافر وليجة لهم ، بينما تتضمن آية البحث حرمة الربا في المعاملات .
الثانية : تبين آية البحث صفات الذين يضمرون للمسلمين العداوة الخفية ، وتنهى عن صيرورتهم بطانة ووليجة ، أما آية البحث فإنها تمنع المسلمين من أكل المال الحرام .
الثالثة : بين الآيتين عموم وخصوص مطلق في الأمر المنهي عنه ، إذ أن البطانة الفاسدة ترّغب بالحرام والقبيح ، وتدعو إلى المكروه ، أما آية البحث فإنها تتضمن حرمة الربا الذي هو من الحرام الذي لا تمتنع البطانة الفاسدة من الدعوة إليه .
الرابعة : يتعلق موضوع آية البحث بالمال والمكاسب , وبيان ما هو حرام منها ، لتدل الآية بالدلالة التضمنية على تقسيم المعاملات والمكاسب إلى ما هو حلال وما هو حرام.
الخامسة : تضمنت آية البحث إلى جانب النهي الأمر بتقوى الله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ] وهل يشمل الأمر بالتقوى الآية السابقة أم أن موضوعه خاص بآية البحث ، الجواب هو الأول .
ليكون تقدير الآية السابقة على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا أتقوا الله .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم وأتقوا الله ) ليكون من معاني التقوى في المقام إتخاذ المؤمنين أولياء .
الثالث : لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً فأتقوا الله.
الرابع : لا تتخذوا بطانة من دونكم ودوا ما عنتم فاتقوا الله .
الخامس : لا تتخذوا بطانة من دونكم قد بدت البغضاء من أفواههم .
السادسة : لا تتخذوا بطانة من دونكم ما تخفي صدوركم أكبر من البغضاء لكم والتي تظهر من أفواههم فاتقوا الله .
السابعة : قد بينا لكم الآيات فاتقوا الله ) لبيان قانون من جهات:
الأولى : تجلي وتأكيد فضل الله عز وجل على المسلمين ببيان الآيات لهم .
الثانية : الملازمة بين بلوغ مرتبة التقوى وتلقي بيان الآيات ، وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : ينزل بيان الآيات للمتقين .
الصغرى : المسلمون متقون .
النتيجة : ينزل بيان الآيات للمسلمين .
الثالثة : من بيان الآيات الأمر بتقوى الله والخشية منه,[ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الثامنة : اتقوا الله إن كنتم تعقلون ) لبيان أن التقوى مصاحبة للعقل، وثمرة من ثماره ، لذا حينما أخبر الله عز وجل الملائكة بأنه يجعل آدم خليفة في الأرض إحتجوا وإستفهموا عن موضوع الخلافة مع أن الإنسان [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) .
ويتعارض هذا الفساد مع معاني الخلافة ، ويتناقض معها ، فخشي الملائكة أن تنقطع هذه الخلافة بالفساد ، وأن لا تصل إلى أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونشر مفاهيم الإيمان ، والقضاء على عبادة الأوثان ، ووجود ودعوى الطواغيت ، ليكون من معاني قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) رجاء الملائكة إستدامة الحياة وعدم مؤاخذة الله الناس على فسادهم إلى حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن .
وفي التنزيل [وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى] ( ) ومن الإعجاز أن الله عز وجل أجاب الملائكة وردّ عليهم بما فيه إقامة الحجة عليهم بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ومن علمه تعالى أن فساد الفاسقين في الأرض وعتو الكافرين ليس علة تامة لنزول العذاب بأهل الأرض جميعاً ، إذ تدخر الأصلاب وتحفظ الأرحام بذور التقوى .
وتتعاهد أمة من الناس في كل زمان سنن التقوى إلى أن يمنّ الله عز وجل على الناس برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن جامعاً للأحكام الشرعية ، ونزل بنداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]وهو النداء الذي طال إنتظار الملائكة له ، ونزلوا به مستبشرين ، لتتجدد غبطتهم إلى يوم القيامة برؤية شواهد وأفراد من المؤمنين يسيحون في الأرض بتلاوة القرآن والعمل بمضامينه في العبادات والمعاملات .
إذ تبين آية البحث موضوعية التنزه عن أكل المال الحرام في حياة المسلمين ، وتخبر عن قانون الملازمة بين الإيمان وطلب الرزق الحلال , وهو وفق القياس الإقتراني على شعبتين :
الأولى : الكبرى : الذين يطلبون الرزق الحلال هم أهل الإيمان.
الصغرى : المسلمون يطلبون الرزق الحلال .
النتيجة : المسلمون هم أهل الإيمان .
الثانية : الكبرى : المؤمنون لا يطلبون إلا الرزق الحلال .
الصغرى : المسلمون يطلبون الرزق الحلال.
النتيجة : المسلمون هم المؤمنون .
ولقد أجمع المسلمون على أن الرزق من عند الله عز وجل ، ولا يقدر عليه غيره سبحانه , وعليه الكتاب والسنة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ] ( ) ،وتبين الآية أعلاه تفضل الله عز وجل برزق الناس جميعاً .
وأخبرت عن إقتران الرزق بالخلق ، وان الله عز وجل حينما خلق الناس كفل لهم رزقهم ، وفيه دعوة لهم جميعاً للإيمان للفوز بالرزق الوافر الكريم ، وإختلف الأشاعرة والمعتزلة بمسألة الكسب الحرام ، وهل يدخل في الرزق أم لا .
إذ قال الأشاعرة بالإطلاق في الرزق وأنه يشمل الحلال والحرام لأن الرزق هو كل ما ساقه الله للحيوان فانتفع به سواء يشمل المشروب والملبوس أو يختص بالمطعوم .
وحصر المعتزلة الرزق بالحلال ، وما ينتفع به الإنسان وليس للغير منعه ، وإستدلوا بقوله تعالى [قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ]( ).
وجاء الرد عليهم من ذات الآية أعلاه بأنها تقسم الرزق إلى حلال وحرام .
وأستدل بالآيات التي تبيح الرزق الحلال ، وتثني على الذين ينفقون منه ، وهو ممنوع في الحرام ، وأن الغصب ليس رزقاً للمنع من التصرف فيه.
وهناك قول ثالث برزخ بين القولين ، وفيه تفصيل بأن الرزق ما يكون عاماً ومجملاً يشمل الحلال والحرام ، ومنه يكون خاصاً بالحلال ويخرج منه الحرام تخصيصاً .
والخلاف صغروي ، إذ تدعو آيات الرزق في القرآن إلى الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، وتتضمن الإخبار بأن الرزق كله بيده سبحانه ، وهو العالم بكل شيء ، ومن الآيات أن الله عز وجل يرزق العباد ليكون هذا الرزق في مقداره وكمه وكيفيته وأوانه من أسباب تعاهد عبادته في الأرض لعمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ومن حب الله عز وجل للناس جعل أرزاقهم بيده ليتوجهوا له بالدعاء والمسألة ، ويمتنعوا عن مفاهيم الشرك والضلالة ، ويتنزهوا عن الإنقياد للطواغيت وإتباع الذين ظلموا .
وتتجلى العداوة والحسد للإسلام عند إتخاذ المؤمنين للذين كفروا والمنافقين خاصة وبطانة بخصوص مسألة الربا من جهات :
الأولى : تزيين الذين كفروا المعاملة الربوية للمسلم ، فان كان من أصحاب الأموال أغروه بالقرض ذي الفائدة , وإن كان محتاجاً أو ينوي التجارة والزراعة أو الصناعة سعوا لبحث الرغبة في نفسه للإقتراض الربوي ، لذا فمن الإعجاز القرآني إبتداء كل من آية البطانة وآية النهي عن الربا بنداء الإيمان لبيان موضوعية كل فرد منهما ، والتداخل بينهما ، ولزوم الإستعانة بالنهي عن البطانة في إجتناب الربا وكذا العكس .
الثانية : سعي الذين كفروا والمنافقين لغفلة المسلم عن آية البحث , وما فيها من النهي عن أكل الربا .
الثالثة : ما تنشد البطانة الفاسدة من أكل الربا أعم موضوعاً لأنه مرآة للإنصات لهم ومقدمة لإرتكاب آثام أخرى ، فتفضل الله عز وجل وندب المسلمين بنداء الإيمان إلى الإمتناع عن إتخاذهم وليجة ، وعن أكل المال الربوي .
وإن إتخاذ المسلم البطانة السيئة فان آية حرمة الربا تبعثه على نحو مستمر ومتجدد لطرد هذه البطانة ومنعها من النفاذ إلى أمور الخاصة.
لبيان قانون وهو أن آيات نداء الإيمان أي التي تبدأ بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]تبعث كل واحدة منها على العمل بمضامين الأخرى .
لتكون مجتمعة عوناً للعمل بأحكام أي آية منها ، إنما ذكرنا أثر آية البطانة في لزوم تنزه المسلمين عن الربا من باب المثال .
ولو أكل المسلم الربا فقد يميل إلى البطانة السيئة لأنها تزين له هذا الأكل بينما تقوم البطانة الصالحة بتذكره بحرمة هذا الأكل وتبادر التلاوة الآيات التي تحرم الربا وتبين ضرره ، وتذكر الأحاديث النبوية التي تبعث النفرة منه.
ومن الإعجاز مجئ آيات النهي عن الربا بنداء الإيمان لتأكيد لزوم تنزه المسلمين عنه ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ] ( ) .
ومن معاني الثواب في آية البحث أن المسلمين لا يصدرون إلا عن الكتاب والسنة ، ولو جاءت قوانين وضعية مغايرة لأحكام القرآن وتبيح الربا فأنهم لا يعلمون بمضامينها ، وهل تشمل أحكام التقية مسألة الربا لقوله تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( )، أم أن حرمته مطلقة حتى في موارد التقية .
الجواب هو الأول ، فالأصل في التقية الإطلاق إلا ما ورد به الدليل ، والأصل بحرمة الربا الإطلاق إلا ما جاء الدليل على خلافه ومنه دليل التقية ، نعم في هذه الحال والإضطرار لا يأكل المسلم المال الربوي بل يكتفي برأس ماله أي أصل مال القرض وإن إستلم الربح والفائدة تقية يتصدق بها , على الموكل أو غيره .
ومن الآيات ومصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) أن التقية في باب أكل الربا أمر نادر وإن حدث فانه ممتنع عن الدوام والإستدامة .
ومن مصاديق الخلافة في الأرض أنه ليس من إنسان لا يرضى على صاحب المال إن أقرضه من غير فائدة ، وإن أمهل المعسر وزاد في الأجل ، قال تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] ( ) ليدرك الناس حقيقة وهي أن المسلمين يتنزهون عن الأرباح التي لا تحلها الشريعة ، ويتركون ضروب الكسب المحرمة مثل الربا ، وما كان مقدمة للوقوع في الحرام ، وكذا صناعة وبيع الخمر ولحم الخنزير والميتة .
وعن ابن عباس (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أتاني جبريل فقال : يا محمد إن الله لعن الخمر ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وبائعها ، وساقيها ، ومسقيها) ( ).
لقد نزلت آية حرمة الربا والمسلمون في حال إنتقال من العوز والفقر إلى السعة والغنى ، لورود الغنائم إلى المدينة ، لتكون آية حرمة الربا ضابطة كلية تحكم المعاملات بينهم وتطرد الغفلة عنهم ، وتبين لهم قانوناً من الإرادة التكوينية وهو أن الإسلام ليس عبادات فحسب بل هو تقيد وطاعة الله عز وجل ورسوله في المعاملات والمكاسب التجارية والزراعية .
وهل تكون حرمة الربا سبباً لإمتناع طائفة من الناس عن دخول الإسلام ، الجواب لا ، وهو من إعجاز القرآن الغيري ، بأن أوامره ونواهيه لا تحول دون دخول الإسلام ، بل إنهم يجدون عذوبة في الأمتثال لأمر الله ، وهو من مصاديق نفخ الله عز وجل في آدم وعمومات الخلافة في الأرض ، وقوله تعالى في الرد على الملائكة ببيان أهلية الإنسان للخلافة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
فمن علم الله تعالى رغبة الناس في التحلي بسنن الإيمان وإن كانت تكاليف في العبادات والمعاملات والأحكام .
وورد بخصوص أعشى قيس، وهو أعمى وإسمه ميمون بن قيس وينعت أبوه قيس بأنه قتيل الجوع ، إذ دخل غاراً في جبل فوقعت صخرة من الجبل فسدت فم الغار ، فمات فيه من الجوع والعطش ، وأدرك الأعشى الإسلام في آخر أيام حياته ، فتوجه إلى المدينة المنورة ليسلم على يد النبي محمد صلى اله عليه وآله وسلم أيام صلح الحديبية ، وكان كفار قريش يضعون الرجال والعيون حول المدينة ليصدوا الناس عن دخول الإسلام .
وعندما علموا بنيته وعزمه دخول الإسلام ، قال أبو سفيان أنه يحرم عليك الخمر والزنا والقمار ، فقال : أما الزنا فقد تركني ولم أتركه أي أنه صار عاجزاً عن الوطئ قهراً بتقدمه في العمر.
وأما الخمر فقد قضيت منها وطراً ) أي يكفيني منها ما أخذت ، ولا ضير في إمتناعي عنها ، عند دخول الإسلام ، وقال : وأما القمار فلعلي أصيب منه خلفاً ، أي أجد في الإسلام ما هو أفضل وأحسن منه .
وعندما رأى أبو سفيان أن الأعشى عازم على دخول الإسلام وليس من مانع أو حاجب يمنعه ، قال له : فهل لك إلى الخير ؟ قال: وما هو .
قال أبو سفيان : بيننا وبين محمد هدنة ، ولا نعلم ما يحدث بعد إنقضاء الهدنة ، وهل تكون الغلبة لنا أم له (فترجع عامك هذا وتأخذ مائة ناقةٍ حمراء، فإن ظهر بعد ذلك أتيته، وإن ظفرنا به كنت قد أصبت عوضاً من رحلتك، فقال: لا أبالي، فانطلق به أبو سفيان إلى منزله، وجمع إليه أصحابه، وقال: يا معشر قريش! هذا أعشى قيس، وقد علمتم شعره، ولئن وصل إلى محمد ليضربن عليكم العرب قاطبةً بشعره، فجمعوا له مائة ناقة حمراء، فانصرف فلما صار بناحية اليمامة ألقاه بعيره فقتله)( ).
وفيه شاهد على أن قريشاً لم يكفوا عن الإضرار بالإسلام أيام الهدنة والصلح ، كما يدل الحديث على منزلة الشاعر عند العرب ، وأثر الشعر في النفوس ، وقد واجه الإسلام شعر الذين كفروا بآيات القرآن فحينما تخلف الأعشى ونحوه عن نصرة الإسلام لم يمتنع الناس عن دخول الإسلام إذ أقروا متفرقين ومجتمعين بأن القرآن في بلاغته أعظم مرتبة من الشعر ، قال تعالى [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا] ( ).
وهل هذه المائة ناقة التي دفعتها قريش لشخص يريد دخول الإسلام من العير التي كانوا يستعملونها في التجارة بين الشام واليمن ، الجواب نعم ، لبيان إبتلاء الذين كفروا بالخسارة والإسراف في بذل الأموال في عداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام حتى في أيام الهدنة وصلح الحديبية .
ومن الآيات أن الأعشى لم ينتفع من هذه الإبل وخسر الدنيا والآخرة إذ مات على الكفر في ذات السنة التي أخذ تلك الإبل رشوة على أقبح ضروب الباطل .
وقيل حينما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبره , قال : دخل النار ) لأنه ولم ينتفع من نعمة الأيام للتوبة والإنابة ، وهذا النفع العظيم من مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
وتقدير الآية نداولها بينهم ليتوبوا ، ونجعلهم يتقلبون فيها ليستغفروا الله ويتخذوا الهدى نهجاً وسبيلاً .
وهل الإمتناع عن أكل الربا جهاد في سبيل الله أم أن القدر المتيقن منه التنزه بخصوص المعاملات ، الجواب هو الأول ، فلقد بعث الله عز وجل الأنبياء وأنزل الكتب السماوية عليهم ببيان أمور:
الأول : وجوب الإيمان بالله عز وجل والتصديق بالنبوة والتنزيل .
الثاني : ضرورة الإقرار باليوم الآخر ، والتقديم له بالصالحات والمسألة في الخيرات .
الثالث : التقيد بالأوامر والنواهي الإلهية ، ومن الإعجاز في القرآن ما نعته الله عز وجل به من اسم [كَلاَمَ اللَّهِ] قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ] ( ).
الرابع : لزوم تعاهد التنزيل بالتلاوة والعمل بمضامينه ، ومن الإعجاز في مسألة الربا تكرار موضوعها وبيان حكمها بجلاء إذ وردت آيات متعددة بخصوصها .
كما بيّن القرآن حرب الذين كفروا على أحكام القرآن ومحاولتهم تحريف الحقائق ،من أجل أكل المال بالباطل ، والإستمرار بتعاطي المعاملات الربوية ، كما ورد في التنزيل [قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ).
وبعد النهي عن الربا تضمنت الآية الأمر للمسلمين بالخشية من الله بقوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( )وبين التقوى وإجتناب الربا عموم وخصوص مطلق ، إذ أن التقوى هي الأعم موضوعاً وحكماً .
ترى ما هي مصاديق التقوى بخصوص آية البحث , آية النهي عن الربا الجواب من وجوه :
الوجه الأول : تأكيد الملازمة بين الإيمان والتقوى ، وهل يصدق القول: يا أيها الذين اتقوا) الجواب نعم , ولكن نداء الإيمان أعم من النداء التقديري أعلاه إذ أنه يشمل أصنافاً :
الصنف الأول : المؤمنون بالقلب واللسان , ومن صفات المؤمنين التسليم بالغيب وإنحصار الإحاطة به بالله عز وجل وحده، ومنه علوم وأهوال الآخرة، والقدر والمحو والإثبات، قال تعالى في الثناء على المتقين [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ) .
وبين الإسلام والإيمان عموم وخصوص مطلق، فالإسلام مرتبة سامية، ودرجة رفيعة، والإيمان أسمى وأعلى منه، قال تعالى في بيان صفات المؤمنين[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ]( ).
وعن أبي جمعة الأنصاري قال : قلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً؟ آمنا بك ، واتبعناك . قال : ما يمنعكم من ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم ، يأتيكم الوحي من السماء! بل قوم يأتون من بعدي ، يأتيهم كتاب بين لوحين ، فيؤمنون به ، ويعملون بما فيه ، أولئك أعظم أجراً ( ).
ومن أظهر وأهم خصائص المؤمنين إقامة الصلاة , قال تعالى[وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ]( )، وتحتمل إقامة الصلاة في مصداقها وجوهاً :
الأول : أداء الصلاة اليومية الواجبة.
الثاني : إسباغ وإتمام الوضوء .
الثالث : الإتيان بأركان وأجزاء الصلاة الواجبة فالركوع مثلاً ركن، والقراءة واجب .
الرابع : تعاهد أوقات الصلاة اليومية الخمسة، وعن أبي بردة الأسلمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت هذه الآية {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}( ): الله أكبر هذه خير لكم من أن لو أعطى كل رجل منكم مثل جميع الدنيا هو الذي إن صلى لم يرج خير صلواته وأن تركها لم يخف ربه)( ).
الخامس : إتقان أفعال الصلاة.
السادس : إستحباب أداء الصلاة جماعة لأنها من أبهى مصاديق إجتماع المؤمنين.
السابع : تلاوة القرآن في الصلاة.
الثامن : أداء الصلاة بذات الكيفية التي أداها بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي قال(صلوا كما رأيتموني أصلي)( ).
التاسع : الخشوع والخضوع في الصلاة والسكون وحسن الهيئة، وترك حركة اليد بالعبث بالملابس أو الجسد , ولزوم إقبال القلب والجوانح على الله رجاء وخشية وحباً، قال تعالى[وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال: أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال أما هذا فلو خشع قلبه لخشعت جوارحه)( ).
العاشر : الإخلاص في الصلاة، والإحتراز من الرياء.
الحادي عشر : الطمأنينة في الصلاة، وذكر الله في القلب، وإجتناب العجلة في الصلاة التي تكون كنقر الغراب .
وعن أبي قتادة قال: قال رسول الله عليه وآله وسلم: أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِى يَسْرِقُ صَلاَتَهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْرِقُ صَلاَتَهُ؟ قَالَ: لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلاَ سُجُودَهَا)( ).
الصنف الثاني : المسلمون باللسان , وتدخل فيهم طائفة من الأعراب ، قال تعالى[قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ) .
ويخرج من العموم الوارد أعلاه بلفظ الأعراب قوله تعالى [وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ] ( ) ، وقوله تعالى [وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ..] ( ) .
وفي الآية أعلاه قولان :
الأول : إرادة أهل العذر من الأعراب ، ممن لا يستطيعون النفير والغزو ، وهو الوارد عن ابن عباس ، قال (في قوله { وجاء المعذرون من الأعراب } يعني أهل العذر منهم ليؤذن لهم)( ).
وعن الضحاك (قال: كان ابن عباس يقرأ:( وَجَاءَ الْمُعْذِرُونَ )، مخففةً، ويقول: هم أهل العذر) ( ).
الثاني : المقصود أنهم إعتذروا بشئ ليس بحق , ولاذوا بما هو كذب ، ورد هذا المعنى عن الحسن البصري , بإرادة قراءة [الْمُعْذِرُونَ]بالتشديد( ).
والمختار هو الأول من جهات :
الأولى : أصالة الصحة في عمل المسلم ، وتقدير الآية : وجاء المسلمون المعذرون من الأعراب) .
الثانية : لو تردد الأمر بين القراءة بالتخفيف وإرادة الإعتذار وبين القراءة بالتشديد وإرادة الكذب ، فالظاهر هو الأول .
الثالثة : مع التعارض بين قول ابن عباس والحسن البصري أو السدي يؤخذ بقول ابن عباس على فرض صحة السند لأنه صحابي عاش أيام التنزيل ، وهو من أهل البيت .
الرابعة : نظم الآية أعلاه وما فيها من الإخبار , وإتصاف الأعراب في المقام بأمور :
أولاً : مجي الأعراب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : سؤال الأعراب الأذن بالقعود ،إذ نزلت الآية بخصوص معركة تبوك التي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنفير العام لها ، وندب جميع من كانت له قدرة على الشخوص وأستثنى الذين يأذن لهم أو يأمرهم بالبقاء، فكان الناس على وجوه :
1- الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، وهم الغالبية العظمى من المسلمين ، وكان عددهم ثلاثين ألفاً .
2- الذين أذن لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورخّص لهم البقاء.
3- الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء ، وقد جعل الإمام علي عليه السلام على المدينة ، فقد ورد عن ( عمرو بن ميمون قال إني لجالس إلى بن عباس إذ أتاه تسعة رهط فقالوا إما أن تقوم معنا وإما أن تخلونا يا هؤلاء وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى قال أنا أقوم معكم فتحدثوا فلا أدري ما قالوا فجاء وهو ينفض ثوبه وهو يقول أف وتف يقعون في رجل له عشر وقعوا في رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابعثن رجلا يحب الله ورسوله لا يخزيه الله أبدا فأشرف من استشرف فقال أين علي هو في الرحا يطحن وما كان أحدكم ليطحن .
فدعاه وهو أرمد ما يكاد أن يبصر فنفث في عينيه ثم هز الراية ثلاثا فدفعها إليه فجاء بصفية بنت حيي .
وبعث أبا بكر بسورة التوبة وبعث عليا عليه السلام خلفه
فأخذها منه فقال لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين وعليا وفاطمة فمد عليهم ثوبا فقال اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وكان أول من أسلم من الناس بعد خديجة ولبس ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونام فجعل المشركون يرمون كما يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يحسبون أنه نبي الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر فقال يا نبي الله فقال علي إن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قد ذهب نحو بئر ميمون فاتبعه فدخل معه الغار وكان المشركون يرمون عليا حتى أصبح .
وخرج بالناس في معركة تبوك فقال علي عليه السلام أخرج معك فقال لا فبكى فقال أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست بنبي ثم قال أنت خليفتي ..الحديث) ( ).
4- الذين أظهروا النفاق وتخلفوا وهم يبثون الأراجيف بأن جيش المسلمين سيهلك في ملاقاة جيوش الروم ، خاصة وأن الأخبار تصل بأن الروم جهزوا جيشاً يتكون من أربعين ألف مقاتل من القبائل العربية التي تدين بالنصرانية للهجوم على المدينة المنورة ، وأن الجيش بدأ بالزحف ووصل إلى البلقاء من أطراف الأردن ، وكان المنافقون يقولون ستقعون أسرى مقيدين بالسلاسل عند الروم ، وتحسبن شدة قتال بني الأصفر كقتال العرب بعضهم مع بعض ، فنزل قوله تعالى [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (التوبة/47) لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ]( ).
ونسوا أن الله عز وجل أنزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر وأحد والخندق ، وما معركة حنين ببعيدة عنهم من جهة أوان وقوعها ونتائجها ونصر المسلمين فيها ، إذ وقعت في شهر شوال من السنة الثامنة .
وكانت معركة تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة , أي ليس بينهما إلا ثمانية أشهر .
ثالثاً : بعد ذكر مجئ الأعراب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أخبرت الآية عن قعود الذين كفروا لقوله تعالى [وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) فالذين كفروا لم يستأذنوا ولم يحضروا عند النبي ليسألوا القعود ولو عن عذر واه أو كاذب .
الخامسة : مجئ الآية التالية بالإذن بالقعود للضعفاء والمرضى ، والذين ليس لهم رواحل .
السادسة : إفادة آيات القرآن تكليف الأعراب بمثل ما يكلف به أهل المدينة ، قال تعالى [مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ]( ) .
وأختلف في سبب نزول قوله تعالى [الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ] ( ) .
(فقيل نزلت في
أولاً : عرباض بن سارية .
ثانياً : عبد الله بن مغفل .
ثالثاً : عائذ بن عمرو .
رابعاً : أبو موسى الأشعري ورهطه .
خامساً : بنو مقرن , وهو المشهور , وهم البكاؤون وبنو مقرن سبعة كلهم وقيل ستة صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم( )، وليس من الصحابة أخوة بهذا العدد وهم النعمان بن مقرن، وأخوته بويد ومعقل وسنان وعقيل وعبد الرحمن، ولم يسمى السابع ويروى أنهم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أربعمائة من مزينة( ).
سادساً : سبعة نفر من بطون شتى ، فهم البكاؤون وهم سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف ، وحرمي بن عمرو من بني واقف ، وأبو ليلى عبد الرحمن من بني مازن بن النجار ، وسليمان بن صخر من بني المعلى ، وأبو رعياة عبد الرحمن بن زيد من بني حارثة وهو الذي تصدق بعرضه فقبل الله منه ، وعمرو بن غنمة من بني سلمة ، وعائد بن عمرو المزني ، وقيل عبد الله بن عمرو المزني) ( ) .
الصنف الثالث : المنافقون الذين أظهروا الإسلام وأعلنوا النطق بالشهادتين ، وصاروا يحضرون صلاة الجماعة خلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويخرجون مع المسلمين في الغزو مع التردد والشك ، وبث أسباب الخوف بين المسلمين ، وبالنكوص عند دنو الأذى والضرر.
ومن الإعجاز في السنة الدفاعية أنه في كل معركة من معارك الإسلام الأولى تظهر علامات وأخلاق النفاق من أصحابها باستثناء معركة بدر ، إلا أن يقال حتى في معركة بدر تخلف المنافقون عن الخروج إليها ، ففي معركة أحد إنسحب رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول بثلث جيش المسلمين في الطريق إلى المعركة ، وهو أمر نادر الحدوث في تأريخ المعارك والقتال بين الجيوش .
الوجه الثاني : لقد جعل الله عز وجل القرآن صراطاً وطريقاً للبث الدائم في الجنة ، قال سبحانه [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( )ومن معاني الآية أعلاه بخصوص النهي عن الربا مسائل :
الأولى : تفضل الله عز وجل بقيامه بنفسه بأخبار الناس جميعاً عن القبح الذاتي والعرضي للربا وأكل الفائدة الربوية .
الثانية : من إعجاز القرآن التحدي في آياته ومضامينه القدسية وعلومه وأحكامه ،ومنه قانون عجز الناس عن تزيين ما حرم الله ، فلا يقدر أحد أو جهة أو طائفة تحسين صورة الربا ، فان قلت هناك من يرغب بالربا ، ويميل إليه إعطاءاً أو أخذاً أو أكلاً أو تأكيلاً .
ومن مصاديق التقوى الإقرار بحرمة الربا وعد إنكارها لورود آيات القرآن والسنة النبوية والإجماع بحرمته والتغليظ فيها ، فهي أمر معلوم بالضرورة من الدين.
ولم تنحصر حرمة أكل الربا بخصوص ما كان شائع في أيام الجاهلية ، وإسقاط النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأرباح الربا على القروض ، إنما وردت آيات حرمته بصيغة المضارع ، قال تعالى [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ]( ).
ومن مصاديق التقوى الإيمان ، وقد ورد العدد إثنان وسبعون في حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمرين متضادين :
الأول : صبغة الإيمان ، إذ ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (الإيمان بضع وستون شعبة ، أو بضع وسبعون شعبة ، فأرفعها لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان) ( ).
الثاني : ورد ذات العدد في ذم الربا وشدة الضرر الذي يترشح عنه.
(عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم الربا اثنان وسبعون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه وأربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه) ( ). وقد ورد في العهد القديم ذم الربا ومنها : تأخذ منه ربا ولا مرابحة بل أخش الهك فيعيش أخوك معك( ) .
قضتك لا تعطه بالربا وطعامك لا تعط بالمرابحة ( ) .
(المكثر ماله بالربا والمرابحة فلن يرحم الفقراء ) ( ).
الوجه الثالث : من منافع ومعاني الإمتناع عن المعاملة الربوية ، وإجتناب المسلم على أن يكون طرفاً فيها مسائل :
الأولى : التنزه عن الربا مقدمة لإتيان الفرائض والواجبات العبادية ، وأدائها على الوجه الأحسن ، قال تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى] ( ) ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية أن ذات أداء الفرائض حصانة من الربا ونحوه من المحرمات .
الثانية : إجتناب الربا شاهد على التقوى ومصداق للإيمان في باب المعاملات .
وهل يمكن القول يعرف المؤمن بالتنزه عن المعاملة الربوية الجواب نعم .
الثالثة : التوقي من الربا حرز من القيام بالتعدي والظلم إذ أن هذا التوقي حكمة وتثبيت لها في القلب ، وعالم الإختيار .
الرابعة : الإمتناع عن الربا نوع طريق ومناسبة للأمر بالمعروف والحث على إقراض المحتاج من غير فائدة وبيان ثواب هذا الإقراض .
وفيه نهي عن المنكر والظلم والمناجاة في الربا .

قانون الصلة بين آيات النداء
ورد نداء الإيمان في سورة آل عمران سبع مرات ، ومن الإعجاز العددي في المقام أنها بدأت بالآية المائة منها بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ] ( )، وإنتهت بالآية المائتين منها , وهي الأخيرة من آيات سورة آل عمران بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
وجاءت آية البحث من جهة نظم آيات نداء الإيمان بعد نهي وتحذير المسلمين من أكل الربا ، ومضاعفة هذا الأكل بالباطل .
لقد تضمن هذا السِفر علماً جديداً وهو الصلة بين آيات القرآن الذي ليس لطرف الكثرة في علومه والأجزاء والمجلدات التي تؤلف وتصدر بخصوصه حدّ ومنتهى .
ونؤسس في هذا القانون علماً جديداً ، وهو علم الصلة بين آيات نداء الإيمان والتي تبلغ تسعاً وثمانين آية .
وصحيح أن هذا العلم فرع وقسم من علم الصلة بين الآيات إلا أن له خصوصية وهي موضوعية نداء الإيمان في تفسيرها ومضامينها القدسية فتكون قراءة خاصة لأثر نداء الإيمان ، للعمل بأحكام ذات الآية التي إبتدأت به ، وموضوعية ومنافع نداء الإيمان الوارد في أي آية من القرآن بخصوص مضامين آيات من القرآن أفتتحت بنداء الإيمان ، أو تلك الآية الوحيدة التي جاء نداء الإيمان في وسطها بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( ) لبيان إعجاز في نظم ذات نداء الإيمان وأن مجيئه في القرآن لا يختص بأول الآية القرآنية ، ولبيان حقيقة وهي تقدير نداء الإيمان في كل أمر أو نهي يرد وسط أو آخر الآية القرآنية ، وكذا بالنسبة لخواتيم الآيات من جهة الثناء على المسلمين وإكرامهم ، أو من جهة ذم وتبكيت الذين كفروا .
لقد أراد الله عز وجل حضور نداء الإيمان في الحياة اليومية للمسلمين والناس جميعاً .
فقد إنقطعت النبوة بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى لتبقى فيوضات رسالته متصلة ، فكل آية قرآنية هي رسول من عند الله ، ويشهد له أن الله عز وجل سمّى القرآن كلام الله ، وقد ورد هذا اللفظ ثلاث مرات في القرآن .
(أخرج عبد بن حميد عن جويبر في قوله { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا }( ) قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين انصرف من الحديبية وسار إلى خيبر تخلف عنه أناس من الأعراب فلحقوا بأهاليهم ، فلما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد افتتح خيبر ساروا إليه ، وقد كان الله أمره أن لا يعطي أحداً تخلف عنه من مغنم خيبر ، ويقسم مغنمها من شهد الفتح ، وذلك قوله : { يريدون أن يبدلوا كلام الله}( )، يعني ما أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يعطي أحداً تخلف عنه من مغنم خيبر شيئاً ) ( ).
وكذا قال الواحدي ({ يريدون أن يبدلوا كلام الله } يغيّروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية ، وذلك أنَّ الله تعالى حكم لهم بغنائم خيبر دون غيرهم . { قل لن تتبعونا }( ) إلى خيبر { كذلكم قال الله من قبل } ( ) [ أَيْ : من قبل ] مرجعنا إليكم ، إنَّ غنيمة خيبر لمّنْ شهد الحديبية دون غيرهم) ( ).
والمختار أن المراد من كلام الله عز وجل في الآية أعلاه هو نص الآية القرآنية ، وأن التبديل يقع في التفسير والتأويل والحكم , وإلا فان كلام الله هو ذاته ممتنع عن التبديل وتمام الآية هو [سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ), وكأن في الآية حذفاً , وتقديره يريدون أن يبدلوا حكم كلام الله .
فبعد تخلف المنافقين من الأعراب وأهل المدينة عن النفير والجهاد ، وعن الخروج إلى الحديبية خاصة بعد أن رأوا شدة بطش الذين كفروا في معركة أحد وكثرة عددهم في معركة الخندق إذ زحفوا عشرة آلاف رجل .
وحينما أراد النبي وأصحابه الخروج إلى خيبر مع وعد من عند الله عز وجل بالنصر وجلب المغانم وكان أهل المدينة يعلمون ضعف يهود خيبر وعجزهم عن الإستمرار بالقتال طلبوا الخروج معهم إلى خيبر , ووعدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر .
ولكن الله عز وجل أراد أن تكون غنائم خيبر خاصة بمن شهد الحديبية الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير سلاح يريدون العمرة ويعرضون أنفسهم للإبادة والقتل الجماعي العام , إذا أراد كفار قريش الإجهاز عليهم ، وكان عددهم ألفاً وأربعمائة .
وعن أنس قال (لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح من قبل جبل التنعيم، يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم فنزلت هذه الآية وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) ( ).
جبل التنعيم وهو جبل يقع في الحل في أطراف الحرم , ومنه يحرم أهل مكة إن أرادوا العمرة وهو أقرب الحل إلى مكة وفيه مسجد عائشة ، والمسافة بينه وبين البيت الحرام 6100 متراً .
والحرم هو الموضع المبارك الذي يحيط بمكة من جهاتها الأربعة ، وهو الذي لا يصاد فيه ولا يعضد شجره ، وكانت حدوده من أيام آدم إذ أنارت الخيمة التي نصبت على البيت أرجاءه , وجددها إبراهيم عليه السلام ونصب لها أنصاباً ، وجدد حدودها قصي جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي عام فتح مكة بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم تميماً بن أسد الخزاعي فحددها .
وسمي التنعيم لأن الجبل الذي عن يمينه يسمى نُعيم والذي عن يساره يُسمى ناعم ويقال للوادي نعُمان .
ويتقوم منهاج علم الصلة بين آيات نداء الإيمان بأمور :
الأول : وجوه الإلتقاء بين مضامين آيات النداء .
الثاني : العلة والسبب في هذه الآيات إفتتاح هذه الآيات بنداء الإيمان ، صحيح أن وجوه العلة هذه لا يعلمها إلا الله عز وجل ، ولكنه لا يتعارض مع التحقيق والإستقراء والإستنباط في المقام .
الثالث : معاني ودلالات الجمع بين آيات النداء ومضامينها القدسية .
الرابع : لو لم يأت نداء الإيمان في بداية الآية أي أن التحقيق في مفهوم المخالفة لوجود نداء الإيمان ، وفق مباحث علم الأصول .
الخامس : موضوعية آية النداء في الآيات المحصورة بين آيتي النداء سواء جاءت بصيغة العطف على آية النداء أو لا , وجاء النداء في آخر آية من سورة آل عمران.
السادس : لغة العطف بين آيات النداء نفسها وإن لم تبدأ بحرف من حروف العطف .
نداء الإيمان نصرة للنبي محمد (ص)
من معاني نداء الإيمان نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : تفضل الله عز وجل بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : نزول القرآن بنعت الذين يؤمنون بنبوته بصفة الإيمان .
الثانية : ثناء الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن أمة عظيمة آمنت بنبوته .
الثالثة : الشكر من عند الله عز وجل لرسوله الكريم على جهاده في سبيل الله , وبذل الوسع في دعوة الناس للإسلام وصبره في ثباتهم على الإيمان .
الرابعة : حفظ الله عز وجل للقرآن نزولاً ورسماً وألفاظاً ومعاني .
الثاني : نصرة الأنبياء السابقين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (أنا دعوة أبى إبراهيم وبشرى عيسى عليهما السلام، ورأت أمي حين حملت بى أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام) ( ).
الثانية :ومن الآيات أن إسلام بعض الصحابة والتابعين جاء بسبب هذه البشارات السماوية ، وفيه شواهد تأريخية عديدة منها ما ورد في قصة إسلام سلمان المحمدي ، إذ أوصاه راهب عمورية عندما حضره الموت ، حين قال له سلمان (فإلى من توصي بي؟ قال: أي بني، والله ما أعلم أحدا من الناس على ما نحن عليه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم فإن استطعت أن تلحق به فالحق .
قال سلمان : فلما توفي لحقت بصاحب عمورية فأخبرته خبري وخبر من أوصى بي حتى انتهيت إليه , فقال: أقم، فأقمت عنده فوجدته على مثل ما كان عليه أصحابه، فمكثت عنده ما شاء الله أن أمكث وثاب لي شيء حتى اتخذت بقرات وغنيمة، ثم حضرته الوفاة فقلت له: إلى من توصي بي؟ فقال لي: أي بني، والله ما أعلم أنه أصبح في الأرض أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم الحنفية يخرج من أرض مهاجره وقراره ذات نخل بين حرتين، فإن استطعت أن تخلص إليه فاخلص وإن به آيات لا تخفى
إنه لا يأكل الصدقة وهو يأكل الهدية وإن بين كتفيه خاتم النبوة إذا رأيته عرفته) ( ).
الثالثة : حث الأنبياء السابقين أتباعهم على التصديق بنبوة محمد ونصرته .
الرابعة : إخبار الأنبياء السابقين بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين وأنه لا نبي من بعده .
الخامسة : توارث أتباع الأنبياء نبأ بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلامات زمانه ، وصفات شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : نصرة الكتب السماوية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ جاءت التوراة والإنجيل بالبشارة بنبوته , والدعوة إلى تصديقه وأنه نبي آخر زمان ، قال تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ]( )ليكون التطلع إلى النبوة الخاتمة من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )إذ يتوارث المسلمون من الأمم السابقة خبر نبوته وأنها حق وواجب .
ومن الإعجاز بقاء موضوع هذه البشارات إلى يوم القيامة بورودها في القرآن والسنة ، لتكون حجة للمسلمين , وبرهاناً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وحجة على الذين يجحدون بنبوته ، وهي من مصاديق إكرام المسلمين بنداء الإيمان في آية البحث ، وتقديره على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا بالبشارات التي جاءت بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا بصدق نزول البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا بلزوم إتباع البشارات التي جاءت بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا بأن البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق وصدق لابد من تحققها وظهوره على الدين كله .
خامساً : يا أيها الذين آمنوا بأن في التصديق بالبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثواب عظيم .
سادساً : يا أيها الذين آمنوا بأن البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه حرب على النفاق .
سابعاً: يا أيها آمنوا ودخلوا الإسلام بسبب بشارات الأنبياء السابقين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قانون لو لم تنزل أي آية من آيات القرآن
من معاني (لو) أنه حرف إمتناع لإمتناع فقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً بنزول القرآن ، وتحتمل النعمة في المقام وجوهاً :
الأول : القرآن نعمة .
الثاني : كل سورة من القرآن نعمة .
الثالث : كل آية من القرآن نعمة من عند الله .
الرابع : كل شطر من آية من القرآن نعمة .
الخامس : كل حرف وكلمة من القرآن نعمة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من آيات الله في ذات القرآن نزولاً وألفاظاً ورسماً وتلاوة ومعنى ودلالة وتأويلاً ، قال تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان محتاجاً ، ولا تنفك عنه الحاجة في الدنيا والآخرة ، وأيهما يكون الإنسان فيها أكثر حاجة الدنيا أم الآخرة ، الجواب هو الثاني .
ومع أن حاجة الإنسان في الدنيا شديدة ومتصلة فانها أقل وأدنى بكثير من حاجته في الآخرة ، لذا يتفضل الله عز وجل وينشر شآبيب ومصاديق أخرى من رحمته في الآخرة ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن للّه تعالى مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فاهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا فيها يتراحم الإنس والجان وطير السماء وحيتان الماء وما بين الهواء والحيوان وذوات الأرض وعنده مائة وسبعين رحمة فإذا كان يوم القيامة أضاف تلك الرحمة إلى ما عنده) ( ).
وتحتمل حاجة الإنسان للقرآن في الآخرة وجهين :
الأول : يحتاج الإنسان القرآن في الآخرة .
الثاني : حاجة الإنسان للقرآن في الدنيا لأنه في القول والعمل .
الثالث : يحتاج الإنسان القرآن في الدنيا والآخرة .
والصحيح هو الأخير ، فلما جعل الله عز وجل الإنسان محتاجاً فانه سبحانه تفضل وسد له حاجته من الرزق والأمن والعافية والعلم , وبيان أحكام الحلال والحرام التي تجلت في الكتب السماوية وخاتمتها والمهيمن عليها القرآن .
لقد جعل الله عز وجل الآية القرآنية ينير دروب السالكين ، ويتلوا كل مسلم ومسلمة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) عدة مرات في اليوم ، بلحاظ الصلاة اليومية الخمسة ووجوب التلاوة فيها، ليكون من مصاديق الصراط المستقيم العمل بمضامين الآية القرآنية ، وإتخاذها إماماً ومنهاجاً ، لتكون حرزاً في الدنيا والاخرة .
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالآية القرآنية سواء كانت من آيات الأحكام فيعمل بما فيها من الأمر ، أو النهي او من آيات المواعظ فيعتبر ويتعظ منها المسلمون ، ويقتبس منهم الناس المعارف، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بأن يتلو المسلمون آيات القرآن ويعملون بمضامينها ، وما فيها من السنن .
ومن إعجاز آيات القرآن أن كل آية لها موضوع وحكم خاص كما أنها تأتي تفسيراً لآيات أخرى , وتتضمن الإخبار عن المغيبات .
(عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وأجملها وترك فيها موضع هذه اللبنة لم يضعها ، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ، ويقولون : لو تم موضع هذه اللبنة ، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة) ( ).
وكذا بالنسبة لآيات القرآن فكل آية من القرآن لبنة في صرح التنزيل لا يمكن الإستغناء عنها ، وهي كنز وذخيرة للأجيال المتعاقبة من المسلمين , لذا كان جبرئيل هو الذي يعين موضع الآية من السورة , وفيه حث للعلماء بتثوير علم سياق الآيات .
وتتجلى موضوعية الآية القرآنية من جهات :
الأولى : تلاوة الآيات القرآنية .
الثانية : التدبر في الآية القرآنية وإدراك مضامينها القدسية .
الثالثة : حاجة المسلمين لكل آية من القرآن .
الرابعة : الصلة بين كل آية وآيات القرآن الأخرى ، وقد تجلت شذرات من هذا العلم في أجزاء تفسيرنا هذا.
الخامسة : بيان أسباب نزول الآية القرآنية ، ومصاحبة هذه الأسباب للآية القرآنية وتجددها في كل زمان .
السادسة : موضوعية المجاورة في الآية القرآنية ، بصلتها بما قبلها وما بعدها ، وكان جبرئيل ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقول ضع هذه الآية بعد الآية الفلانية .
كما كان يعارض ويدارس النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة بالقرآن كل سنة و(عن فاطمة عليها السلام: أسر إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي) ( ) أي أمارة على قرب أجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وكل آية قرآنية خزينة وكنز تنهل منه الأجيال علم الله عز وجل أن فيها نفعاً للمسلمين والناس .
لقد إستفهم الملائكة عن جعل الإنسان خليفة في الأرض فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فخروا سجداً له سبحانه ، وعلموا أن خلافة الإنسان في الأرض حكمة من عند الله ، وأن الأمور بخواتيمها ومثلما خاطب الله الملائكة بأنه يحيط علماً بما لا يعلمون، فكذا خاطب الناس بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ومن علم الله عز وجل تقسيم القرآن إلى سور , والسور إلى آيات ، وكل آية لها خصوصية وموضوعية في الحياة الدنيا ، ويمكن بيان مضامين هذا القانون بذكر كل آية من القرآن , وكيف أنها حاجة للناس ، أو أن يستحدث باب خاص في التفسير إسمه موضوعية الآية أو الحاجة إلى الآية .
قانون إشتراك المسلمين بحد أدنى من التفسير
من إعجاز القرآن أنه بذاته بيان , وتفسير لآياته قبل أن تصل النوبة لعلم التفسير .
الذي هو الأصل في هذا السفر إذ يتناول تفسير الآية القرآنية بكلماتها ومعانيها ودلالاتها , ويدخل التأويل مع التفسير ، وقد تأتي ثلاثة أو أربعة أجزاء من هذا السفر في تفسير آية واحدة من القرآن كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً..] ( ) .
وتتفرع عن علوم التفسير قوانين عديدة في بيان بعض علوم وذخائر الآية القرآنية بما يؤكد كونها صراطاً مستقيماً في ذاتها ومضمونها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )بلحاظ أن كل آية من القرآن هي صراط مستقيم وضياء يملأ الآفاق ، ونور هدى ينفذ إلى شغاف القلوب ، فيأتي التفسير سياحة في رياض التنزيل ، ومرآة لبلوغ المراتب السامية في الآخرة بالثواب العظيم من جهات :
الأولى : تلاوة آيات القرآن .
الثانية : تعاهد الآية القرآنية تلاوة وتدويناً وحفظاً .
الثالثة : التسليم بقراءة الآية القرآنية في الصلاة على نحو الوجوب العيني.
الرابعة : عمل المسلمين مجتمعين ومتفرقين بمضامين الآية القرآنية.
الخامسة : تلقي المسلمين لنداء الإيمان بالشكر لله والفخر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
فقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ندب للمسلمين للعمل بمضامين آيات النداء ، وترغيب للناس بالإيمان , وكأن آية النداء تقول للمسلمين : يا أيها الذين آمنوا إن الله يعلم أنكم تمتثلون لأوامره ونواهيه التي تتضمنها الآية , وفي عملكم حجة على الذين يصرون على الكفر والجحود .
ومن إعجاز القرآن في باب تفسيره ترشح التفسير عن ذات قراءة أو سماع ذات الآية القرآنية وإن كان هذا التفسير على نحو الموجبة الجزئية ، فان قلت إن مدارك الناس متباينة من جهة التعلم والفهم والفقاهة .
والجواب لقد أكرم الله عز وجل المسلمين وأثنى عليهم بقوله [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ليتفضل بجعل حد أدنى من التفسير يلتقي عنده كل المسلمين والمسلمات ، ويكون هذا الحد طريقاً مستقيماً للعمل بالأوامر والنواهي القرآنية , وسبيلاً للبث الدائم في جنات الخلد .
ومن إعجاز القرآن الغيري في المقام أمور:
الأول : إفاضة الآية القرآنية لشذرات من تفسيرها من غير واسطة أو تدبر وتفكير ، فمثلاً يبدأ القرآن بعد البسملة بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) فيدرك كل مسلم ومسلمة بتلاوة هذه الآية مسائل :
الأولى : وجوب شكر الخلائق لله عز وجل .
الثانية : بيان صفة من صفات الله عز وجل .
الثالثة : صيرورة تلاوة المسلم للآية القرآنية من مصاديق شكره لله عز وجل .
الرابعة : التلاوة حرب على الشرك والضلالة لما فيها من الإجهار بالتوحيد ونبذ الشريك .
الخامسة : الآية حجة وبرهان في الإحتجاج على الذين كفروا .
السادسة : آية الحمد هذه واقية للمسلمين من الإرتداد .
السابعة : إدراك المسلمين بلزوم الحمد والشكر لله عز وجل على كل نعمة ظاهرة أو خفية .
و(كان رسول الله صلى الله عليه واله إذا أتاه أمر يسره قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أتاه أمر يكرهه قال: الحمد لله على كل حال) ( ).
و(كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى ما يحب قال : الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وإذا رأى ما يكره قال : الحمد لله على كل حال ) ( ).
وقد يرد أمر جامع للنعمة وللأذى فتتجلى مصاديق الحمد والشكر لله عز وجل ، ورجاء ثبات ودوام وإتساع النعمة ، ومحو المكروه والأذى ،وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثامنة : نطق المسلم والمسلمة بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) حرز من إرتكاب المعاصي والسيئات .
الثاني : صيرورة تلاوة المسلم للآية القرآنية مناسبة لتفسيرها والسؤال عن معاني كلماتها ، والصلة فيما بينها ، ودلالات هذه الصلة .
الثالث : تلاوة الآية القرآنية إرتقاء في المعارف الإلهية , وتفقه في الدين .
الرابع : القيام بقراءة الآية القرآنية أو الإستماع لها نوع طريق وعلة للتدبر في معانيها وما يترشح عنها من العلوم .
وتقدير آية البحث بلحاظ توجه الخطاب للمسلمين : يا أيها الذين آمنوا ذروا الذين كفروا يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ) وفيه مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين للعناية بأنفسهم بالتقيد بالأحكام الشرعية , وأداء الفرائض والواجبات .
الثانية : بعث السكينة في نفوس المسلمين بأنهم لا يلهون أو يلعبون .
الثالثة : الدلالة على قانون وهو أن الدنيا دار عمل وإجتهاد وسعي إلى مرضاة الله سبحانه.
الرابعة : في الآية حذف ، وتقدير قوله تعالى [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا] ( ) أي أتركهم يخوضوا في الباطل والإستهزاء بالمعجزات ويلعبوا في أيامهم في الدنيا .
وقد ورد لفظ يخوضوا في آية أخرى بقوله تعالى [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا] ( ).
(عن السدي في الآية قال : كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن فسبوه واستهزأوا به ، فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) ( ).
كما ورد قوله تعالى [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا]( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال ( إن أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات الله) ( ).
وعن سعيد بن جبير في قوله { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } قال : الذين يكذبون بآياتنا يعني المشركين { وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى }( ) بعد ما تذكر . قال : إن نسيت فذكرت فلا تجلس معهم { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء }( ) قال : ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك { ولكن ذكرى لعلهم يتقون } ( ) ذكروهم ذلك وأخبروهم أنه يشق عليكم مساءتكم ، ثم أنزل الله { وقد نزل عليكم في الكتاب }) ( ).
ويدل هذا الخبر ونحوه على أن التابعين يتلقون هذه الآيات بأنها محكمة غير منسوخة .
من أبواب هذا التفسير
لقد أسسنا في هذا التفسير أبواباً من العلم منها :
الأول : الإعراب واللغة : يبدأ تفسير الآية القرآنية في هذا السفر المبارك بعلم الإعراب والنحو واللغة وشذرات من البلاغة ،لبيان تعدد معاني اللفظ القرآني وإمكان حمله على عدة وجوه من غير أن يتعارض مع آيات القرآن الأخرى .
والإعراب أصل ومقدمة لفهم معاني الكلمات ، لذا فمن شرائط بلوغ مراتب العلم والتحصيل والإجتهاد الإحاطة بعلوم اللغة العربية وإن على نحو الإجمال .
ومن علوم هذا الباب معاني الكلمات في قواميس اللغة
والمدار في تفسير الآية القرآنية على عموم المعنى ، وليس سبب النزول وحده ، إنما يفيد سبب النزول الحجة والتذكير وتقريب المدركات العقلية بشواهد حسية مع إستشهاد بآيات القرآن وذكر قليل لأبيات من الشعر العربي .
ومن إعجاز القرآن الغيري حفظ اللغة العربية وضبط قواعدها بتلاوة المسلمين للقرآن وعناية علمائهم عرباً وعجماً بإعرابه .
الثاني : علم سياق الآيات
ويتضمن بيان العلوم المستقرأة من صلة الآية القرآنية المراد تفسيرها بالآيات الأخرى , ولسعة بحور هذا العلم نكتفي بصلة الآية مع بضع آيات من الآيات المجاورة ، لتستنبط من هذا العلم ذخائر ودرر من العلوم المتعددة التي لا حصر لها .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).الجواب نعم , فمن مصاديق التنزيل تضمن الآية القرآنية للكنوز والذخائر , ومن الحفظ توالي تجلي علوم القرآن في الأزمنة المتتالية .
وقد بدأت بهذا العلم من التفسير وكان يتألف من عدة سطور بخصوص الآيات الأولى من سورة البقرة ، ولكن الله عز وجل [يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ) وحينما يكون الرزق والفضل من عنده تعالى في علوم القرآن تأتي الفيوضات الظاهرة والجلية ليصبح علم سياق الآيات شاهداً على الشأن الخاص لكل آية قرآنية وأن نزولها نعمة عظمى تتجدد كل يوم , لأصدر الجزء الكامل بصلة شطر من آية بشطر من آية مجاورة لها .
لقد إنقطعت النبوة بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم فليس من تنزيل بعده فانزل الله عز وجل آيات القرآن لتكون كل آية عهداً ووثيقة سماوية إلى يوم القيامة ، يلجأ إليها العلماء والمسلمون خاصة والناس عامة ، ويتلون فيها المواعظ والحكم ، ومنها المواعظ المستقرأة من الصلة بين آيات القرآن .
ويدل على سياق الآيات أن أي آية قرآنية لو لم تنزل لفات الناس علم من علوم سياق الآيات , وما يتضمنه من الحقائق والأسرار .
الثالث : علم إعجاز الآية ، وهو باب مستحدث في هذا السفر، لقد بذل العلماء الوسع في تأليف مجلدات في إعجاز القرآن ، وحينما شرعت بإفراد باب لإعجاز الآية كنت أدون فيه بضعة سطور , وأسأل الله عز وجل أن يأتي من يتبحر في هذا العلم ويوسع فيه ، وقد أنعم الله عز وجل علينا وعليكم وصار إعجاز الآية يستغرق صفحات ، بعلوم مستحدثة ، فعدت إلى بداية التفسير، وقمت بتوسعة هذا الباب بإستخراج درر من ذات الآية .
وقد قسّمت علم إعجاز الآية إلى قسمين :
الأول : الإعجاز الذاتي للآية ، وهو الذي يختص بكلمات ونظم وبلاغة وأسرار الآية القرآنية ومفاتيح العلوم والأحكام فيها .
الثاني : الإعجاز الغيري للآية ، ويتعلق بمنافع الآية والعلة الغائية لكل كلمة فيها ، وأسباب النزول وإمتثال المسلمين لمضامين الآية القرآنية ، وما يترشح على الناس جميعاً من فيوضات الآية القرآنية ، والتي ليس لها إنقطاع ، فما يتجلى منها يبقى مصاحباً للناس ، وفي كل زمان تستقرأ مفاهيم جديدة من إعجاز الآية .
وهناك مسائل عديدة في ثنايا تفسير كل آية في هذا السِفر تبين وجوهاً أخرى من إعجاز الآية , ومنها ما أذكره على نحو الخصوص بالقول : (ومن إعجاز الآية ).
وفيه تأكيد بأنه لو لم تنزل أي آية من القرآن لفات المسلمين والناس علم كثير وسبل للهداية والصلاح ، ولكل آية إعجاز خاص وفيها ذخائر من العلم منها ما أستخرج وإستبان ومنها ما يبقى كنزاً يدعو العلماء لبيانه .
الرابع : علم : الآية سلاح ، لقد شاء الله عز وجل أن تكون كل آية قرآنية سلاحاً ومدداً وعوناً من جهات :
الأولى : الآية سلاح بيد المسلم في عباداته ومعاملاته ، وهي حرز وعون له ، وليس من صاحب خير وأحسن من الآية القرآنية ، ولقد أكرم الله عز وجل المسلمين وأثنى عليهم بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
و[خَيْرُ] اسم تفضيل ، ومن معانيه في المقام أن الإيمان أفضل وأحسن لأن الآية القرآنية دعوة له ومصاحبة لأهله , ويلجأ إليها المسلم كواقية وسبيل تدارك .
الثانية : لقد جعل الله عز وجل الآية القرآنية سلاحاً بيد المسلمين تدعوهم إلى التوحيد , وبذل الوسع في طاعة الله , وإلى نبذ الفرقة ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا.]( ).
الثالثة : يتخذ المسلمون الآية القرآنية برهاناً في الجدال والإحتجاج ودفع المغالطة والشك .
(وأخرج ابن مردويه عن عليّ عليه السلام قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أتاني جبريل فقال يا محمد : إن أمتك مختلفة بعدك . قلت فأين المخرج يا جبريل؟ فقال : كتاب الله به يقصم كل جبار ، من اعتصم به نجا ، ومن تركه هلك ، قول فصل ليس بالهزل ) ( ).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { أنه لقول فصل } قال : حق { وما هو بالهزل }( )، قال : بالباطل ، وفي قوله : { أمهلهم رويداً }( )، قال : قريباً .
وأخرج ابن المنذر عن السدي في قوله : { فمهل الكافرين أمهلهم رويداً } قال : أمهلهم حتى آمر بالقتال , والآية أعم في موضوعها , ومنه التوبة .
وأخرج ابن أبي شيبة والدارمي والترمذي ومحمد بن نصر وابن الأنباري في المصاحف عن الحارث الأعور قال : دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث ، فأتيت عليّاً فأخبرته ، فقال : أوقد فعلوها؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنها ستكون فتنة ، قلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله .
وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا تلتبس منه الألسن ، ولا يخلق من الرد ، ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : { إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد }( ) .
من قال به صدق ، ومن حكم به عدل , ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم .
الرابعة : لقد أراد الله عز وجل أن تكون الآية القرآنية سلاحاً عند الناس جميعاً ، وينتفعون منها طوعاً وإنطباقاً وقهراً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
لقد أنشأنا في هذا التفسير باب الآية سلاح ليعلم المسلم أنه محتاج للآية القرآنية ، وأنها تدعوه ليتخذها عضداً ، وفي موسى عليه السلام قال تعالى [سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ] ( ) وما كان عند الأمم السابقة من النعم فانها عند المسلمين ، فهل يصح القول أن الآية القرآنية تشد عضد كل مسلم ومسلمة , الجواب نعم ، لذا فأي قرآنية لو لم تنزل لحجب عن المسلمين خير كثير لا يمكن تداركه إلا أن يشاء الله عز وجل .
ومن الآيات في المقام أن الآية القرآنية سلاح للمسلم في كل يوم يمر عليه ، وهو من الإعجاز في الصلاة اليومية , ووجوب تلاوة آيات القرآن فيها .
ليكون من الإعجاز في قراءة آيات القرآن في الصلاة تقريب النفع والمدد من الآية القرآنية للمسلم , ولكي لا يغفل عن هذا السلاح ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
ومن مصاديق عدم الإستغناء عن الآية القرآنية أن كل آية تطرد الغفلة عن المسلمين مجتمعين ومتفرقين فاذا كان هذا السلاح الطارد للغفلة يتكرر خمس مرات في اليوم بوجوب قراءة سورة أو آيات في كل ركعة من الصلاة فلا يبقى المسلم في حيرة عند مداهمة معضلات الأمور له .
ومن إعجاز القرآن ما من إبتلاء في الحياة الدنيا إلا وتكون عدة آيات سلاحاً للسلامة منه كل آية بذاتها سلاح ، وهي في إجتماعها مع الآيات الأخرى سلاح ومدد آخر ، مما يلزم توجه المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة هذا السلاح السماوي الذي ينفردون به من بين الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
فان قلت ألم يقل الله عز وجل [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فكيف يصطلح على الآية سلاح , والجواب إنها سلاح وواقية من الفتنة والإرتداد والوهن والفقر في النشأتين .
وفي علم ( الآية سلاح ) شواهد متعددة عن فقدان الناس نعمة عظيمة لو لم تنزل أي آية من القرآن ، ويفتح هذا العلم باب الدراسات والتحقيق للعلماء في الأزمنة اللاحقة ، وتتفرع عنه علوم متعددة ، من جهات :
الأولى : الآية سلاح في أداء الفرائض والعبادات .
الثانية : الآية سلاح في المعاملات , والتنزه عن الظلم وغبن حق الغير ، قال تعالى [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ] ( ).
الثالثة : يحتاج كل إنسان الآية القرآنية في بيان أحكام الحلال والحرام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابعة :الآية سلاح في الحياة الدنيا .
الخامسة : الآية القرآنية سلاح في تأديب الأولاد ووراثة الذرية فعل الصالحات .
السادسة : الآية سلاح وعون وشافع في الآخرة ، كما أنها تشهد للمسلم من وجوه :
أولاً : إقرار المسلم بنزول الآية القرآنية من عند الله عز وجل .
ثانياً : تلاوة المسلم للآية القرآنية .
ثالثاً : إجتهاد المسلم بالعمل بالآية القرآنية .
رابعاً : تعاهد المسلم للآية القرآنية وجعله لها تركة لذريته وأولاده .
خامساً : إتخاذ المسلم الآية القرآنية واقية وحرزاً .
سادساً : دفاع المسلم عن الآية القرآنية رسماً ونصاً وكلمات , وهو من الدلائل على سلامة القرآن من التحريف ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
السابعة : الآية سلاح للعمل بأحكام آيات القرآن .
فمن إعجاز القرآن أن كل آية منه تهدي المسلمين والناس جميعاً إلى آيات القرآن الأخرى ، والعمل بمضامينها , ومن إعجازها الغيري أنها زاجر عن النسيان والغفلة .
لقد حجب الكفار عن أنفسهم هذه النعمة بالجحود بها وإنكار نزول القرآن , وقد يقرون بنزول القرآن من عند الله , ولكنهم يريدون نزوله على غير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد توثيقه في قوله تعالى [وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] ( ).

الخامس : مفهوم الآية : وهو علم جديد شرعناه في هذا التفسير بفضل ولطف من عند الله عز وجل .
ونبين في هذا العلم المعنى المستقرأ مما يخالف منطوق الآية القرآنية سواء من جهة النداء أو الأمر أو النهي أو الدلالة والأثر والعاقبة ، بما يفيد الحجة والبرهان في صدق نزول آيات القرآن من عند الله عز وجل ، ويشمل هذا العلم أموراً :
الأول : مفهوم الكلمة واللفظ القرآني .
الثاني : المعنى المستقرأ من عكس منطوق كل شطر من الآية القرآنية .
الثالث : دلالات الآية القرآنية , فيما يخالف المعنى الظاهر للمنطوق .
علم مفهوم الصلة بين الآيات
نسأل الله عز وجل أن نؤسس علم (مفهوم الصلة بين آيات القرآن )لتتجلى منه ذخائر وعلوم متصلة ومتجددة إلى يوم القيامة ، ويتناول هذا العلم الكنوز التي تستنبط من الجمع بين كل آيتين من آيات القرآن ، ودلالات هذا الجمع وكيفية الإنتفاع منه ، وليس من حصر للدروس التي يمكن إستظهارها منه , وفيه وجوه :
الأول : مفهوم الجمع بين كل آيتين من القرآن .
الثاني : دلالة الجمع بين مفهومي آيتين من القرآن .
الثالث : معاني ودلالات الجمع بين منطوق آية ومفهوم أخرى .
الرابع : أسرار وجواهر الجمع بين منطوق آيتين من القرآن متجاورتين أو غير متجاورتين ، ومتحدتين أو متغايرتين في الموضوع والدلالة .
الخامس : المفاهيم البلاغية المستقرأ من مفهوم الآية ومن الجمع بين مفهومي آيتين من القرآن سواء من سورة واحدة أو من سورتين.
لقد أسسنا في هذا السفر علم الصلة بين الآيات ، ولا يعني أنه علم مبتدأ ، ولكن كانت ترد منه شذرات في كتب التفسير ، بينما جاءت أجزاء مستقلة في هذا الجزء , كل جزء خاص بالصلة بين آيتين من القرآن ، وفيه مصداق وبيان لتأسيس وإنشاء قواعد هذا العلم ، لتدعو علماء الإسلام في هذا الزمان والأزمنة اللاحقة لبذل الوسع في بناء هذا الصرح , وإقتباس المواعظ في رسمه ، وتلاوته ومنطوقه ومفهومه وأحكامه .
بحث أصولي
يكون المفهوم على وجوه :
الأول : المعنى والمراد من اللفظ وما يفهمه منه السامع ، سواء كان حقيقة أو مجازاً ، قال تعالى [فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ] ( ) ولم يرد لفظ [فَفَهَّمْنَاهَا] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، لبيان موضوعية ونفع الوحي للأنبياء .
ويقال (فَهِمْتُ الشَّيء فَهَماً وفَهْماً عَرَفْتُه وعَقَلْتُه، وفهّمتُ فلانا وأَفْهَمْتُه: عَرَّفْته) ( ) والمفهوم اسم مفعول ، وهو من صفات المدلول لا الدلالة .
الثاني : ما يقابل المنطوق ، ودلالات اللفظ على معنى مخصوص خارج عن محل النطق ، وقد قسم إلى قسمين :
أولاً : مفهوم الموافقة ويسمى فحوى الخطاب ويشمل المسكوت عنه مما يكون موافقاً لحكم المنطوق به ، كما في قوله تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ] ( ) ومفهوم الآية الموافقة أن الله قريب من العباد وإن لم يسألوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , والغاية منه ثبوت حكم المنطوق للمسكوت عنه .
ويقسم علم الموافقة إلى شعبتين :
الأولى : مفهوم الموافقة القطعي ، وهو تجلي الحكم بالنص الذي لا يقبل الإجمال أو الترديد كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ).
الثانية : مفهوم الموافقة الظني وظاهر معنى الكلام ، والمقصود منه الرجحان خاصة عند مجئ الكلام بصيغة الإطلاق فاذا قال : تصدق على ذوي القربى المحتاجين ) وليس من إستثناء فهل يشمل الفاسق منهم .
ثانياً : مفهوم المخالفة ويسمى دليل الخطاب ، ومنهم من جعله دليلاً شرعياً لأن تقييد الحكم بوصف أو شرط يدل على إثبات الحكم له وإنتفائه عن غيره ، ولكن المعنى أعم ، وقد لا يصل هذا المفهوم إلى مرتبة الدليل الشرعي ، وفي قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) أي الذي لا يرى الهلال لا يصوم ، وقد يثبت الحكم برؤية غير المكلف نفسه أو بتمام العدة .
الثالث : إرادة الصورة الذهنية المنتزعة من ماهية الذات والشئ، فالصورة الذهنية للصلاة هي ما مرسوم في الذهن لها كفعل عبادي يتقوم بالقيام والركوع والسجود
الرابع :لحاظ المفهوم من جهة إتحاد أو تعدد المصداق إذ ينقسم إلى قسمين :
الأول : المفهوم الكلي ، وهو الذي ينطبق على مصاديق متعددة مثل النهر ، الشجر .
الثاني : المفهوم الجزئي ، وهو الذي يمتنع إنطباقه على أكثر من مصداق واحد مثل الشمس ، والقمر ، والبيت الحرام وينقسم إلى شعبتين :
الأولى : الجزئي الحقيقي .
الثانية : الجزئي الإضافي الذي يكون أعم وأوسع من الحقيقي .
والمراد في هذا العلم من التفسير هو الثاني والرابع , فحينما يقال أن فلاناً فقير فانه يدل على أنه ليس بغني وليس عنده نصاب للزكاة وغير مستطيع لأداء الحج الواجب في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) .
وفي هذا العلم ذخائر تستقرأ من دلالات الآية وما فيها من الأوامر والنواهي والمنافع التي تستنبط من مفهومها ، فمثلاً قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً] ( ).
هناك وجوه وأقسام لمفهوم المخالفة منها :
أولاً : مفهوم الصفة ودلالتها على عدم العمل بما يخالفها ، كما في قوله تعالى في قصة بقرة بني اسرائيل ، قال تعالى [قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا] ( ) فلا تقبل البقرة التي لونها أحمر أو أبيض ونحوه ، وكما في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا) ( ).
أي إذا كان مقدار قيمة المسروق أقل من ربع دينار فلا قطع ليد السارق ، والدينار مثقال ذهب عيار ثمان عشرة حبة .
ثانياً : مفهوم الشرط , فاذا تخلف الشرط لا يتحقق المطلوب ولا ينجز الحكم لإنتفاء المشروط بانتفاء شرطه ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] ( ) أي لابد من شرط الوضوء للدخول في الصلاة , وعن ابن عمر قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يقول : لا تقبل صلاة إلا بطهور ، ولا صدقة من غلول( )( ).
ثالثاً : مفهوم العدد : وهو جعل موضوعية للعدد في الحكم من جهات :
الأولى : مفهوم المخالفة : الحد الأدنى للحكم كما في قوله تعالى [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ] ( ) بلزوم أن لا يقل عدد الشهود عن إثنين عند إجراء معاملة الدين والقرض ، فان قلت يجوز قبول شهادة واحد مع يمين المدعي في الدين , والجواب إنه عند القضاء وإقامة الدعوى ، مع موضوعية اليمين والحلف , أما عند إجراء وإمضاء المعاملة , فلابد من شاهدين لتمام البينة ، ومنع الجهالة والغرر ، وحتى في البديل في الشهادة فلابد من شهادة رجل وإمرأتين بقوله تعالى فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ.
الثانية : مفهوم العدد من بان لا يزيد عليه من طرف الكثرة كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ] ( ).
الثالثة : مفهوم العدد من جهة القلة والكثرة مجتمعين كما في صيام شهر رمضان ، وحصره بتمام الشهر لقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ] ( ) .
ومنه قوله تعالى [فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً] ( )وفيه تعليق للحكم بالجلد بعدد معين لا تصح الزيادة أو النقيصة فيه ، نعم إذا تم الجلد بسوط ذي شعبتين فتجزي أربعون كما في شارب الخمر .
وقد يكون للعدد مفهوم مخالفة كما في قوله تعالى [إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ] ( ) وجاء عدد السبعين في الآية أعلاه لبيان كثرة عدد مرات الإستغفار , وليس للحصر الموضوعي.
رابعاً : مفهوم الزمان ، لبيان عدم صحة وقوع الفعل أو الحكم في غير الزمان المعين بالنص ، كما في قوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ]( )، وكما في قوله تعالى [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ) لبيان حصر صلاة الفجر بما بين الطلوعين ، طلوع الفجر وطلوع الشمس .
فان قلت لا تدل الآية أعلاه على مفهوم الزمان لجواز قضاء صلاة الفجر في أي وقت عندما يفوت وقتها الأصلي .
والجواب هذا صحيح ،إلا أن تعيين زمان الصلاة يدل على حصر الخطاب التكليفي من جهة الزمان , أما القضاء فهو موضوع آخر يتقوم بالتدارك بفضل من عند الله عز وجل .
خامساً : مفهوم المكان ، ويدل على عدم صحة الفعل عند إتخاذ مكان آخر ، كما في قوله تعالى [وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ]( )، فيستقرأ منه عدم صحة الإعتكاف في غير المسجد .
وقد تكون السنة النبوية تعضيداً في مفهوم المخالفة ، وهل يصح القول أن من مفهوم المخالفة بلحاظ ظرف المكان عدم صحة الصلاة باستقبال البيت الحرام ، بلحاظ أنه موضع مطهر من الأرض ، الجواب نعم , قال تعالى [وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]( ).
سادساً : مفهوم الحصر كما في قوله تعالى [إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ] ( ) لبيان لزوم صدق التوبة وعدم تسويفها والإستخفاف بأمرها ، لذا جاء بعد الآية أعلاه البيان والتأكيد [وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ] ( ).
سابعاً : مفهوم العلة : لبيان أن ما لا تتحقق ذات العلة فيه فلا يصح له ذات الحكم ، كما في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ).
ولكن مفهوم العلة ليس عاماً ، فقد يصح الحكم وإن لن تتحقق العلة كما في قوله تعالى [وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا] ( ) فان الإحسان لا يختص بالوالدين ، وهو محبوب ذاتاً ، وفيه الأجر والثواب ، وقد تتعدد العلة كما في الأمر بعموم الإحسان كما في قوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
أقسام جديدة من مفهوم المخالفة نؤسس هنا لعلوم مستحدثة في علم المخالفة , منها :
أولاً : مفهوم الترجيح : وهذا الوجه تأسيس منا في هذا الباب فاذا كان الأمر يدل على لزوم الراجح ، فلا يصح المرجوح ، كما في قوله تعالى [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا] ( )إذ يدل على عدم جواز رد التحية بالأدنى والأقل منها .
ثانياً : مفهوم التفضيل والفاضل ، وفيه دلالة على عدم الأخذ بالمفضول ، كما في قوله تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) لبيان النهي عن المغالطة أو الجدال من غير حجة أو برهان .
ثالثاً : مفهوم الإستثناء ، ويدل مفهوم المخالفة على عدم شمول الأذن والترخيص لغير المستثنى ، كما في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً] ( ) .
فالمستثنى أعلاه لا يؤثم عند الصبر على الظلم , ومصاحبة الكفار وعدم إظهاره دين التوحيد , ولم يهاجر , ويكون من لم يستثن آثماً .
ويمكن القول أن هذا الباب الذي يذكر هنا لأول مرة في علم مفهوم المخالفة هو من أكثر وجوه وأقسام مفهوم المخالفة في القرآن ، وحتى في المعاملات ، لذا صار تأسيسه هنا حاجة علمية وذخيرة وباباً لإكتساب المعارف ، وهو وحده يصلح لتأليف مجلدات خاصة ورسائل أكاديمية متعددة ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا] ( ) لبيان حقيقة وهي أن الذي لم تدركه التوبة من المنافقين ينال الخزي والخلود في النار يوم القيامة .
رابعاً : مفهوم الأجل : بأن يكون هناك أجل وعدد في البين ، ويكون مفهومه الحكم بخلافه خارج الأجل ، كما في قوله تعالى [وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ]( ).
خامساً : مفهوم النداء الخاص لبيان إرادة أمة أو طائفة أو شخص مخصوص يتعلق به الحكم إلا مع الدليل على إرادة المعنى الأعم ، كما يتجلى في نداء الإيمان وتوجه الخطاب للمسلمين والمسلمات على نحو الخصوص والتعيين .
وقد وردت آيتان متتاليتان بالنداء لإرادة المسلمين في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ] ( ) .
ومن معاني نداء الإيمان ترتب الثواب على الوصف والتلقي ، فكون المسلم مشمولاً بذات النداء سبب للتشريف وتلقي الأجر والثواب .
ولا دليل على الإطلاق في مفهوم المخالفة ، إذ أن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، وكذا فان نفي شيء عن شيء لا يدل على إثباته في غيره .
وقد يفيد مفهوم المخالفة الرخصة دون الوجوب ، والكراهة دون الحرمة .
لذا يقيد العمل بمفهوم المخالفة بقيود منها تقدم النص والدليل على مفهوم المخالفة ، ومنها إرادة الفرد الغالب من القيد ، كما في قوله تعالى [وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ] ( ) لأن حرمة نكاح بنت الزوجة مطلق , سواء كانت في حجر وحضانة الزوج أو لا .
ومنه أن لا يكون مجئ الشرط أو الوصف للإمتنان والترغيب أو التخويف والوعيد ، ومنها إرادة المجاز والكناية ، ومنها موارد تقية المسلمين من الذين كفروا لقوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ).
ونبين في تفسيرنا هذا مفهوم الآية وبما هو أعم من مفهوم الواقعة والمخالفة ، إذ يشمل أثر المفهوم ، وحال خلاف منطوق الآية والأضرار التي تلحق بالمسلمين والناس لولا نزول آية من القرآن عند الشروع بتفسير الآية .
ويبقى السعي الذي نبذله في باب مفهوم الآية محدوداً ، وستأتي أجيال من العلماء لبيان إشراقات علمية تتعلق بهذا العلم الذي أسسناه في هذا السِفر ، ويكون علم مفهوم الآية بحوراً من التفسير تتفرع عن كل واحد منها وعنها مجتمعة علوم كثيرة .
وتصلح وجوه المفهوم اللغوية والأصولية والمنطقية في تفسير الآية وتأكيد نفي التعارض بين آيات القرآن ، وهل يدل هذا العلم على سلامة القرآن من التحريف .
الجواب نعم ، لما فيه من الدلالات على الإعجاز في الآية القرآنية، وإحاطة كلماتها المحدودة باللامحدود من الوقائع والأحداث.
وليس من قانون يضبط معاني المفهوم , وهو من الأسرار في تخلفه عن مراتب الدليل ، فقوله تعالى [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ) لبيان التضاد بين كلام الله وكلام البشر من جهات :
الأولى : سنخية الكلمات والآيات بالنسبة للقرآن السماوية ، وما يقابلها من المفردات والجمل من عند الناس سواء كانوا حكماء أو علماء .
الثانية : الإعجاز في القرآن وأنه يتغشى في مواضيعه وأحكامه أمور الدين والدنيا ، ويتضمن العبادات والمعاملات والأحكام ، وهو ما تتخلف عنه القوانين الوضعية وإن إجتمع أهل الإختصاص في إعدادها وتم تنقيحها وتدارك النقص والتعارض فيها مدة مئات السنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ) .
فنزلت آيات القرآن من السماء مرة واحدة لتبقى كافية وحاكمة وإماماً للناس إلى يوم القيامة .
الثالثة : تنزيه القرآن عن كلام البشر , وبيان التباين في سنخيته بينه وبين كلام الصالحين والعلماء والزعماء .
ويكون من مفهوم الموافقة في الآية أعلاه من سورة الإسراء وجود التناقض والتضاد في كلام البشر وقصور في الفصاحة والبلاغة في ثنايا الكلام .
السادس : علم إفاضات الآية
وهو علم جديد يبين رشحات في علم النفس والطبائع والأخلاق التي تتفرع عن الآية القرآنية ، ومن إعجاز القرآن أنه ليس من كتاب في تأريخ الإنسانية له الأثر في النفوس مثل آيات القرآن ، وكل آية تعمل بالنفس ما فيه الصلاح والتهذيب ، وتكون زاجراً عن الأخلاق القبيحة .
لقد جعل الله عز وجل الآية القرآنية مدداً للمسلمين مجتمعين ومتفرقين ، وهل هناك تشابه موضوعي في إفاضات آيات القرآن ، الجواب نعم , مع إستقلال كل آية بافاضات خاصة بها ، وهو من الشواهد على إتحاد سنخية التنزيل وإنتفاء الزيادة في كلمات وآيات القرآن ، قال تعالى [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا] ( ).
ومن إعجاز الآية القرآنية إتصال إفاضاتها من جهات :
الأولى : موضوع الآية القرآنية ، وتعدده وحضور الآية القرآنية في المسائل الإبتلائية ، لذا ورد قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً] ( ) .
إذ تتجلى الإفاضات في الآية أعلاه من وجوه :
الأول : عدم وقوف مضامين الآية القرآنية عند البيان ، فكل آية من القرآن بيان وتفصيل ، وبرزخ دون التردد والشك .
الثاني : الآية القرآنية هدى وزيادة هدى للمسلمين والمسلمات، ودعوة للناس للهدى ورحمة لهم جميعاً ، إذ أن الهدى في الآية من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، ومن معاني الهدى في المقام الصلاح والرشاد والتوفيق .
فان قلت لقد وردت الآية أعلاه بلفظ الكتاب ، ويكون موضوعها القرآن وآياته مجتمعة ، والجواب كل آية من القرآن تبيان في موضوعها وأحكامها .
وتقدير الآية : ونزلنا عليك الآية القرآنية تبياناً وهدى ، فاذا كان القرآن تبياناً لكل شئ ، فان الآية القرآنية تبيان بخصوص مضامينها القدسية وأحكامها , لتكون الآية على وجوه :
أولاً : إطلاق الكل وإرادة الكل أي المقصود القرآن مجتمعاً .
ثانياً : إطلاق الكل وهو لفظ الكتاب ، وإرادة الجزء وهو الآية القرآنية .
ثالثاً : ذكر القرآن كله في الآية ، وإرادة الجمع بين كل آيتين من آياته ، وكل ثلاث آيات أو أربع منها .
رابعاً : إطلاق الكل , وإرادة آيات القرآن كلها , والمقصود كل شطر من أي آية من آيات القرآن .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق وذخائر الآية القرآنية .
الثالث : كل آية قرآنية هدى من وجوه :
أولاً : المضمون القدسي للآية القرآنية .
ثانياً : رسم وتلاوة الآية القرآنية ، وفيها هدى للتالي والمستمع لها ، ليكون من الإعجاز في آيات القرآن تعدد ضروب ومصاديق الهدى في الآية القرآنية.
ثالثاً : نزول الآية القرآنية من السماء هدى للناس فهي الصلة والحبل الذي يجعل أهل الأرض على صلة متصلة مع السماء ، لقد تفضل الله عز وجل وخصّ الإنسان بنعمة الخلافة ، فبعد أن خلق آدم من طين نفخ فيه من روحه ، قال سبحانه [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ] ( ) ليتخذها الناس آلة ووسيلة لعبادة الله وتلاوة التنزيل والعمل بأحكامه وليعود الإنسان جثة هامدة إلى القبر والتراب وذات السنخية التي خلق منها , ثم يعود بذات الروح إلى عالم النشور والحساب والخلود .
وتصاحب الآية القرآنية المسلم والمسلمة في الآخرة , فهي حبل مبارك ممتد من السماء إلى الأرض يقود الناس إلى الهداية والإيمان.
فيكون سمعه وبصره وقلبه وعقله معه حاضراً يومئذ .
رابعاً : الآية إنحلالية , وتقديرها بصيغة المفرد : ونزلنا عليك الآية من القرآن تبياناً لكل شئ وهدى … )
خامساً : جزئية الآية من القرآن وصبغة التنزيل التي تتصف بها سبيل هدى للناس , فكل آية من القرآن نوع إكرام للمسلمين والناس وهذا الإكرام مقدمة للهدى .
سادساً : البيان في الآية القرآنية حث للناس على الصلاح ، لذا تقدم ذكر البيان في قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً] ( ) .
وهل تدل الواو في [وَهُدًى]على المغايرة بين البيان والهدى ، الجواب إنه من عطف العام على الخاص ، فذات بيان القرآن هدى ، لتأكيد فضل الله عز وجل بتعدد وجوه سبل التقوى التي تتجلى بالآية القرآنية وتترشح عنها .
سابعاً : كل عمل صالح يقوم به المسلم إمتثالاً لأمر الله عز وجل في القرآن هو هدىً وصلاح .
ثامناً : الإمتناع عن فعل السيئات التي تنهى عنها آيات القرآن هدى ، بلحاظ أن هذا الإمتناع أمر وجودي .
الثانية :ملائمة الآية القرآنية للوقائع والأحداث فيدرك أهل كل زمان أن الآية القرآنية نزلت لهم ومن أجلهم ، وهو من أسرار إستغراق نداء الإيمان لعموم أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
الثالثة : ترشح العلوم والقوانين عن مضامين الآية القرآنية ، وهو من الإعجاز في سلامة القرآن من التحريف والتغيير والتبديل .
الرابعة : تعدد الأحكام في الآية القرآنية فكل أمر في أي الآية القرآنية حكمة كما في قوله تعالى [فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ] ( ).
إذ تتضمن الآية أعلاه أربعة أوامر فمن تقدير الآية (وأطيعوا الله وأطيعوا رسوله).
وقد ورد هذا المعنى بالنص والبيان في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ]( ) وليس هناك أفراد للإمتثال أكثر وأعم وأحسن وأعظم من إمتثال المسلمين للأوامر الإلهية ، ومن الشواهد إمتثالهم اليومي المتجدد للأوامر الواردة في الآية أعلاه ، فاذ يؤدي كل مسلم ومسلمة الصلاة خمس مرات في اليوم فانه يحرص على طاعة الله ورسوله عند أداء الصلاة وفيما بين كل فريضتين من الصلاة ليكون العطف في الآية على أقسام :
الأول : عطف الخاص على العام ، وهو عطف إتيان الزكاة على إقامة الصلاة ، فالصلاة واجب مطلق يؤدى على كل حال ، أما الزكاة فلا تجب إلا عند تحقق النصاب في أصناف مخصوصة ، ولا تجب الزكاة في كل مال وعروض ، إنما تجب في النقدين وهما الذهب والفضة المسكوكين ، وحلت الأوراق النقدية محلهما ، فيجب فيها الزكاة بما يعادل النصاب ، وهو على قسمين :
الأول : عشرون ديناراً ذهباً ، وكل دينار مثقال ذهب عيار ثمان عشرة حبة ، لذا قيل أن المجموع هو خمسة وثمانون غراماً .
الثاني : مائتا درهم فضة ، وكل درهم فضة هو (2,52 ) غراماً ، وقيل أكثر ويكون المجموع هو نحو (590)غراماً ومقدار الزكاة في النقدين هو ربع العشرة ونسبة واحد إلى أربعين أي 2,5% .
وكانت في أيام النبوة والخلافة كل عشرة دراهم فضة تعادل ديناراً من الذهب ، أما في هذه الأزمنة فقد إزدادت قيمة الذهب كثيراً بالقياس مع الفضة ،فهل تكون الزكاة على مقدار وقيمة الذهب أم الفضة ، الأحوط هو الثاني لقاعدة الإشتغال ولأنه حق للفقراء وخير محض وفيه الأجر والثواب .
الثاني : عطف السنوي على اليومي ، إذ تجب الزكاة عند تمام الحول ، بينما تؤدي الصلاة كل يوم .
الثالث : عطف الواجب المالي ، وهو الزكاة على البدني وهو الصلاة .
الرابع : تقديم الأهم على المهم في أفراد العبادات، فمع أن كلاً من الصلاة والزكاة واجب إلا أن الصلاة هي عمود الدين .
ثم عطفت الآية طاعة الرسول على أقامه الصلاة وإتيان الزكاة ، لبيان قانون وهو أداء الصلاة والزكاة طاعة لله عز وجل ويكون تقدير الآية : وأطيعوا الله فأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطيعوا الرسول ).
والمراد من الرسول في الآية هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه تأكيد لقانون من جهات :
الأولى : ليس من رسول بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : بقاء طاعة الله ورسوله محمد إلى يوم القيامة .
الثالثة : دعوة المسلمين للعناية بالسنة النبوية ، كونها علماً مستقلاً ، ولا يعني هذا الإستقلال إنفصالها عن طاعة الله .
الرابعة : من مصاديق النداء الإيمان بلحاظ الآية أعلاه من سورة النور وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا بوجوب إقامة الصلاة .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا بوجوب إتيان الزكاة .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا بوجوب طاعة الرسول .
وفي الآية أعلاه دلالة على تدوين وتوثيق المسلمين للسنة النبوي لأن الله عز وجل أمر المسلمين بطاعة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وليكون من معاني تقديم أداء الصلاة والزكاة عرض السنة على القرآن لبيان صحة السند ، لقانون عدم التعارض بين الكتاب والسنة .
قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( ).
جاءت هذه الآية بصيغة الجملة الشرطية , ويمكن تقسيم صيغة الجملة الشرطية في نداء الإيمان إلى قسمين :
الأول : الآيات التي تتضمن التحذير والإنذار .
الثاني : الآيات التي تفيد الثناء والمدح والبشارة .
وجاءت آية البحث من القسم الأول أعلاه فهي وإن إبتدأت بصيغة نداء الإيمان وما فيه من الدلالة على حب الله عز وجل للمسلمين فانها تضمنت تحذيرهم من طاعة الذين كفروا ، وجاءت آيات أخرى بنهي المسلمين عن ولاية الذين كفروا ، قال تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ] ( ) .
ترى ما هي النسبة بين الولاية والطاعة ، فيه وجوه :
الأول : إرادة التساوي بين الولاية والطاعة .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الولاية أعم من الطاعة .
الثانية : الطاعة أعم من الولاية .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، وأن هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الرابع : نسبة التباين بين الولاية والطاعة .
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، إذ تتضمن الولاية معنى النصرة والإعانة والطاعة والإنقياد والتأييد والمودة ، وإذ تتضمن آية الولاية إستثناء حال التقية والخشية والخوف من الذين كفروا ، فان آية البحث مطلقة في النهي عن طاعة الذين كفروا وليس فيها إستثناء ، وتحتمل وجوهاً :
الأول : إستثناء موضوع عدم طاعة الذين كفروا من موارد التقية ، وتقدير آية البحث : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا الذين كفروا حتى في حال التقية .
الثاني : شمول آية البحث بأحكام التقية .
الثالث : إرادة التفصيل , فمرة تكون طاعة الذين كفروا من التقية ، وفي موارد لا تصح التقية .
الرابع : لقد ذكر بعض علماء النسخ أن قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ) منسوخة بآية السيف [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] ( ) .
والمختار هو الثالث أعلاه ، إذ أن الطاعة مورد خاص تترتب عليه أمور وآثار ، ومنها ما يكون خارج موارد التقية بالإضافة إلى ورود الآية بصيغة الجمع ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها المسلمون والمسلمات لا تطيعوا الذين كفروا .
الثاني : يا أيها الذي آمن لا تطع الذين كفروا .
الثالث : يا أيتها التي آمنت لا تطيعي الذين كفروا .
الرابع : يا أيتها اللائي آمنّ لا تطعن الذين كفروا .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا الذي كفر , فقد يتفق أن يكون هناك طاغوت ظالم يدعو الناس لطاعته بالقول أو الفعل ، فيأتي التحذير للمسلمين منه ومن طاعته .
ومن معاني النداء في آية البحث أمور :
الأول : تقسيم الناس إلى قسمين بلحاظ الإيمان وعدمه ، وهذا التقسيم ليس مجرداً وخالياً من الترجيح بل فيه إكرام للمؤمنين بدليل إبتداء الآية بنداء الإيمان , ليكون هذا الإبتداء رحمة ولطفاً وصدقة من عند الله على المسلمين والناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
لقد ورد لفظ [إن تطيعوا] أربع مرات في القرآن إثنتين في الترغيب والحث على طاعة الله ورسوله ، وكل واحدة منهما وردت خطاباً للأعراب ، وتحذيراً لهم وللناس , قال تعالى [قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] ( ) .
وهل يدخل في الآية أعلاه الأعراب الذين إستأذنوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الخروج إلى معركة تبوك , الجواب لا، ما داموا أصحاب عذر والمراد من المخلفين في الآية أعلاه أي الذين لم يستأذنوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى وإن كان عذرهم زوراً وغير صحيح .
وقد ورد بخصوص بعض المنافقين في معركة الخندق [وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ) ومن الآيات عدم ورود لفظ عورة في القرآن إلا في الآية أعلاه وعلى نحو متعدد .
(عن عروة بن الزبير ومحمد بن كعب القرظي قالا : قال معتب بن قشير : كان محمداً يرى أن يأكل من كنز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط ، وقال أوس بن قيظي في ملأ من قومه من بني حارثة { إن بيوتنا عورة } وهي خارجة من المدينة : إئذن لنا فنرجع إلى نسائنا وأبنائنا وذرارينا .
فأنزل الله على رسوله حين فرغ منهم ما كانوا فيه من البلاء يذكر نعمته عليهم ، وكفايته إياهم بعد سوء الظن منهم ، ومقالة من قال من أهل النفاق ، { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها }( ).
فكانت الجنود : قريشاً ، وغطفان ، وبني قريظة . وكانت الجنود التي أرسل عليهم مع الريح الملائكة { إذ جاءُوكم من فوقكم } بنو قريظة { ومن أسفل منكم } ( )قريش ، وغطفان . إلى قوله { ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً }( )يقول : معتب بن قشير وأصحابه { وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب }( ) يقول : أوس بن قيظي ومن كان معه على ذلك من قومه ) ( ).
ترى كيف يقسم نداء الإيمان الناس في آية البحث ، الجواب للكلام منطوق ومفهوم ، فمنطوق نداء الإيمان توجه الخطاب للمسلمين والمسلمات بالتحذير والتخويف والزجر عن طاعتهم للذين كفروا ، لتأكيد إستحالة إجتماع الضدين ، فلا تجتمع طاعتهم مع طاعة الله ورسوله .
فما دام المسلمون آمنوا بالله ونطقوا بالشهادتين فلابد من تقيدهم بالأوامر الإلهية والسنة النبوية الشريفة .
وأما مفهوم الآية فان غير المؤمنين خارجون عن النداء والمقصود منه .
الثاني : إرادة تفقه المسلمين في الدين ومعرفة سنن الإيمان بلزوم التنزه عن طاعة الذين كفروا .
الثالث : تشريف المسلمين بإكرامهم بالسلامة من طاعة الذين كفروا .
الرابع : الآية مقدمة لنزول الأحكام وبيان الفرائض العبادية التي يجب على المسلمين أداؤها .
الخامس : بيان قانون وهو أن الإيمان إرتقاء وتقدم وسمو بدليل إخبار الآية عن نتيجة طاعة الذين كفروا ، وهو الإرتداد بقوله تعالى [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ] ( ).
السادس : نداء الإيمان دعوة للجهاد وقهر للنفس الشهوية والإمتناع عن إتباع الهوى والغواية ، قال تعالى [وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا]( ).
السابع : من مصاديق نداء الإيمان تحذير وإنذار المسلمين من الزلل والخطأ ومقدمات الضلالة التي تبين آية البحث أصلاً من أصولها ، إذ تتفرع عن طاعة الذين كفروا مصاديق من الأذى وأسباب الضرر ، وقد قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) .
أي لن يضر الذين كفروا المسلمين إلا أذى ، وهو أدنى مرتبة وأقل خسارة من الضرر ، فلو أطاع المسلمون الذين كفروا فهل تكون ذات المرتبة من الأذى , أم يلقى المسلمون الضرر من الذين كفروا .
الجواب هو الثاني ، لذا فان الآية تنصح وتهدي المسلمين إلى سبل الرشاد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) فمن هذا الصراط الإحتراز من إتباع الذين كفروا بالباطل ، ليكون من مصاديق آية البحث وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا لا تضروا أنفسكم بطاعة الذين كفروا.
ثانياً : نداء الإيمان واقية للمسلمين من الضرر سواء الذي يأتي من غيرهم أو الذي يترشح عن المعاملات الباطلة في حال العكوف عليها .
ثالثاً : وجوب إحتراز المسلمين من طاعة الذين كفروا لأنها خسارة في النشأتين .
رابعاً : تدل آية البحث على سلامة المسلمين من الإنقلاب والإرتداد والنكوص وأسباب الضلالة لأنها لم ترد إلا بصيغة الجملة الشرطية [إِنْ تُطِيعُوا] وهذا الشرط متجدد في كل يوم ، فتطل آية البحث على المسلمين في الصباح وهم لم يطيعوا الذين كفروا .
ثم تطل عليهم في المساء بذات صيغة الشرط لتأكد أنهم لم يطيعوا الذين كفروا ، وهكذا إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار ورشحات قانون سلامة القرآن من التحريف بأن تكون فيه البشارة وعصمة المسلمين من الزيغ متجددة إلى يوم القيامة ، وهل من أسباب لبعث السكينة في نفوسهم .
الجواب نعم , من جهات :
الأولى : سلامة الآباء من الإرتداد .
الثانية : عصمة أهل الزمان الذين يتلون آية البحث من الإرتداد إذ أن تقديرها : إن الله عز وجل يشهد لهم هذا اليوم , وهذه الساعة بالإيمان والسلامة من الإرتداد فأثبتوا على ذات النهج وإجتنبوا طاعة الذين كفروا ، وهذا الثبات من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )فقد يقتدي بهم الكافر ويتوب إلى الله وهم يمتنعون عن الإنقياد للذين كفروا .
الثالثة : تبعث كل آية من القرآن الأمن في نفوس المسلمين ، وتطرد عنهم الخوف من طاعة الذين كفروا .
ومن الإعجاز في الأوامر والنواهي الإلهية أمور :
الأول : يأمر الله عز وجل بالشيء ثم يأمر بما يكون مقدمة له ويجعله أمراً سهلاً يسيراً .
الثاني : يتفضل الله عز وجل بالأمر بفعل عمل صالح ثم ينهى عما يكون برزخاً دون إتيانه .
الثالث : تفضل الله بإزاحة الحواجز والعوائق التي تحول دون فعل المسلمين الصالحات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ).
لقد أخبر الله عز وجل عن الضرر والخسارة التامة للمسلم الذي يطيع الذين كفروا مما يدل بالدلالة التضمنية على أمور :
أولاً : خسارة الذين كفروا في الدنيا .
ثانياً : العذاب الأليم في الآخرة للذين كفروا ، وقد تكرر الوعيد للكافرين أربع مرات في ثلاث آيات متتاليات ، قال سبحانه [وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ *وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
ثالثاً : إنذار الناس جميعاً من طاعة الذين كفروا ، وهل يشمل هذا الإنذار ذات الذين كفروا ورؤسائهم الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن إنهم من قوم بصفاتهم وخصالهم المذمومة ، فيكون الإنذار شاملاً لهم وفاتحاً لهم أبواب التوبة والإنابة والصلاح ، وهناك شواهد كثيرة بمبادرة أرباب الكفر والظلم إلى التوبة والنطق بالشهادتين ، ليدخل معهم أكثر الأتباع ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ] ( ) .
فتتلقى نداء الإيمان هذه الأفواج مجتمعة ومتفرقة ، ليكون ذخيرة وكنزاً محفوظاً لهم ، وحاضراً لهدايتهم ونجاتهم ، فليس بين نيل ثروة نداء الإيمان ، والفوز بتلقي نداء التشريف والإكرام من عند الله وبين العبد إلا النطق بالشهادتين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ] ( ) أي يستلزم النطق بالشهادتين أداء الفرائض والواجبات العبادية .
بخصوص قانون موضوعية خلافة الإنسان في النهي عن الربا وجوه :
الأول : أني أعلم بأن أبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية بحرمة الربا .
الثاني : أني أعلم بتقيد المؤمنين بحرمة الربا .
الثالث : أني أعلم بأني أرزق المسلمين بما يجعلهم في غنى عن أكل الربا .
الرابع : إني اعلم بتلاوة المسلمين آية النهي عن الربا خمس مرات في اليوم .
الخامس : إني أعلم بالملازمة بين خلافة الإنسان في الأرض وإمتناعه عن الربا أكلاً وتأكيلاً ، وقد مرت أيام عسر وحاجة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو أهل بيته وأصحابه ولم يقترضوا بالربا والفائدة المحرمة مع وجود فريق من أهل الكتاب واسواقهم في المدينة ، وإزدادت أموال الصحابة ومنهم من كان يكسر الذهب الخاص به بالفأس ، ومع هذا لم يقرضوا أحداً بالربح والفائدة الربوية .
السادس : إني أعلم بقيام المسلمين بالإقراض والتداين بينهم من غير ربا وربح محرم .
السابع : الله يعلم بالثواب العظيم الذي أعده للذين يجتنبون الربا طاعة له سبحانه .
الثامن : الله يعلم بأن نداء الإيمان في آية النهي عن الربا زاجر للمسلمين عن أكل الربا وسبيل للتفاخر بين الناس بهذا الزاجر ، والإنزجار ، وما يترشح عنه من المنافع .
التاسع : الله أعلم بأن المسلمين يتلون كل يوم آية النهي عن الربا في الصلاة فتكون مؤدياً لهم ، وصراطاً مستقيماً في باب المعاملات والتجارة والمكاسب .
(عن السائب بن أبى السائب انه كان شريك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اول الاسلام في التجارة فلما كان يوم الفتح قال مرحبا باخى وشريكي لا تداري ولا تمارى)( ).
قانون التعاضد بين آيات نداء الإيمان
لقد خص الله عز وجل تسعاً وثمانين آية بنداء الإيمان من بين ستة الآف ومائتين وستة وثلاثين آية هي مجموع ما بين الدفتين بحكمة منه تعالى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على الملائكة من جهات :
الأولى : منافع نداء الإيمان لبعث المسلمين للعمل بمضامين آيات النداء .
الثانية : ترغيب المسلمين بتلاوة آيات النداء والتدبر في مضامينها القدسية .
وهذا الترغيب من مصاديق رحمة الله عز وجل في الدنيا والآخرة .
وعن النواس بن سَمْعَان الكلابي، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ” ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه”. وكان يقول: “يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك”. قال: “والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه) ( ).
الثالثة : بيان قانون خاص بآيات النداء يتعلق بأسرارها وذخائرها وموضوعها والعمل بمضامينها .
الرابعة : أسرار عطف الآيات المتعددة على آية نداء الإيمان وبأستثناء آية واحدة من آيات نداء الآيات فان الآيات الثمانية والثمانين الأخرى تبدأ بنداء التشريف والإكرام هذا ، ومن المعلوم أن لفظ النداء (يا) ليس من حروف العطف إلا أنه لا يمنع من إحتساب عطف آية نداء الإيمان على الآية أو الآيات التي سبقتها بلحاظ أمور :
الأول : إتصاف لغة القرآن بأنها أعم من أن تحيط بها القواعد النحوية والبلاغية والمنطقية .
الثاني : المدار على نظم وسياق الآيات وصلة الآيات المتجاورة بعضها ببعض .
الثالث : موضوعية إتحاد الموضوع بين آية نداء الإيمان والآيات التي سبقتها .
الرابع : يمكن تأسيس علم جديد وهو ( عطف آية النداء على ما قبلها ) ليشمل آيات نداء الإيمان والآيات التي تتوجه بالنداء للناس جميعاً أو الآيات الخاصة بالنداء لأهل الكتاب أو بني إسرائيل أو غيرهم .
فمثلاً وردت آية بالإخبار عن قانون دائم من الإرادة التكوينية وهو الأخوة بين المؤمنين ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) وجاء بعده الأمر من عند الله للمسلمين بالإصلاح بين المسلمين لأن الله عز وجل أبى إلا أن يكونوا أخوه لتتعقبها آيتان من آيات النداء كما في قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ] ( ).
ويحتمل قانون أخوة المسلمين الذي تتضمنه الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : معاني وصلات الأخوة بين المؤمنين في المسجد والمحلة الواحدة .
الثاني : أخوة المسلمين في البلد والمصر الواحد .
الثالث : إرادة معاني الأخوة بين المسلمين من أهل كل زمان .
الرابع : المقصود أخوة المسلمين والمسلمات من أهل الأزمنة المتعاقبة ، ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة إذ أن حبل الأخوة ممدود ومتصل بين الأجيال على نحو الإمتداد يقوم كل جيل من المسلمين يتعاهده بأظهار المودة والمحبة والإحسان للمسلمين ، ويذكر الأفراد المؤمنين أسلافهم من المؤمنين بالإكرام ، ويرجون لمن يأتي بعدهم الثبات على النهج الذي يدل عليه نداء الإيمان .
قانون كل آية تبيان
حينما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض لأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) فأستجابوا لله عز وجل واستبشروا بفضله ورحمته بالناس ، وأدركوا إستدامة الحياة في الأرض إلى يوم القيامة من غير أن يكون فساد الإنسان وسفكه الدماء سبباً بتقريب أوان إنقطاع الحياة الإنسانية في الأرض .
ومن مصاديق علم الله عز وجل تفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) فلا يعلم أحد معنى ومضامين ومنافع قوله تعالى أعلاه إلا هو سبحانه .
وهناك مسائل :
الأولى : ليس من حصر لمصاديق التبيان في نزول القرآن ، وتقدير الآية على وجوه منها :
أولاً : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لمفاهيم التوحيد .
ثانياً : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لأحكام الشريعة .
ثالثاً : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لسبل النجاة في الآخرة .
رابعاً : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لرحمة الله بأهل الأرض ومصداقاً لما ورد في التنزيل [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
خامساً : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً للطف من عند الله بالعباد وتقريبهم إلى منازل الطاعة ، وبعث النفرة في نفوسهم من الغواية والضلالة .
سادساً : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لسنن الإيمان وأسباب الهداية والصلاح .
سابعاً : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً للأجر والثواب الذي يفوز به المسلمون .
ثامناً : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً وشاهداً على كون المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ولقد فاز المسلمون بمرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ]بهذا التبيان .
تاسعاً : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً للواجبات العبادية كالصلاة والزكاة والصيام والحج .
عاشراً : ونزلنا عليك القرآن تبياناً للصالحات وما فيه من الأجر والثواب .
الحادي عشر : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لمضامين ذات الكتاب ، وهو القرآن ، والكتب السماوية السابقة ، ولفظ الكتاب سور الموجبة الكلية الذي يشمل كل أفراد الكتب السماوية المنزلة من عند الله سبحانه .
الثاني عشر : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لأحوال يوم القيامة ، ونجاة المؤمنين يومئذ من الفزع والعذاب ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا] ( ).
وكل آية دعوة سماوية للأخلاق الحميدة وحسن السمت ، وتهذيب الألسن وهي واقية من قبيح القول والعادات الرذيلة ، لذا فكل آية من القرآن نعمة سماوية تكون طريقاً إلى السعادة الأبدية في الآخرة ، ويحتمل هذا الطريق وجوهاً :
الأول : إنه طريق خاص بذات الآية ، تخطه في ذات النفوس البشرية إذ تخالط شغاف القلوب ، ويكون منهاجاً في الحياة اليومية خاصاً بها .
الثاني : إنه طريق عام إلى السعادة بلحاظ الجمع بين كل آية قرآنية مع آيات القرآن الأخرى .
الثالث : تلاوة الآية القرآنية والتدبر في معانيها سبيل لنيل المراتب السامية في الآخرة .
الرابع : العمل بمضامين الآية القرآنية سبيل ومنهاج إلى اللبث الدائم في الجنة .
الخامس : تعاهد أي آية من القرآن طريق مبارك للبث الدائم في الجنان ، ومن معاني حاجة الناس للقرآن .
لقد أراد الله عز وجل لأي آية من القرآن أن تكون شاهداً على عقود الزمان المتعاقبة وأفراده الطولية الماضي والحاضر والمستقبل ، وهو من مصاديق الحاجة الدائمة لكل آية قرآنية .
وهل تحضر الآية القرآنية شاهداً يوم القيامة ، الجواب نعم ، لتكون تزكية وأمناً وواقية من العذاب للمؤمن الذي يقر بنزولها من عند الله ، وحجة على الكافر بنزولها ، والذي يصر على الجحود بها , ويمتنع من العمل بمضامينها القدسية , ويمكن القول أن كل آية قرآنية موضوع للكسب والتحصيل ، وفيها بركة من وجوه :
الأول : ذات الآية القرآنية بركة وزيادة في الخير ، قال تعالى [وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ] ( ).
الثاني : ترشح البركة عن تلاوة الآية القرآنية والعمل بما فيها من الأوامر والنواهي سواء الجلية بالنص , أو المستقرأة من مضامين ومفهوم الآية ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الثالث : تجدد معاني البركة الخير والنماء والزيادة والسعة في الرزق الكريم ، في تلاوة كل آية من القرآن ، والعمل بمضامينها .
الرابع : حضور كل آية من القرآن مع المؤمن في القبر , لتكون له واقية وحرزاً من العذاب الإبتدائي وحساب منكر ونكير ، فان قلت جاء النص بخصوص سورة مخصوصة وهي سورة الملك ، وقد ورد عن ابن عباس قال (ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خباء على قبر , وهو لا يحسب أنه قبر ، فإذا هو بإنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر ) ( ) وفيه مسائل :
الأولى : إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره , فكون سورة الملك منجية لا يعني أن غيرها من الآيات والسور غير منجية خاصة مع إتصاف الآيات بصبغة التنزيل .
الثانية : إتحاد سنخية وبركات آيات القرآن وأسرار نزولها , وأنها من عند الله.
الثالثة : إرادة تعدد مراتب الشفاعة , وصيغ النجاة في عالم البرزخ .
وتكون لكل آية موضوعية وشأن فيه ، وتتصف سورة الملك بأنها واقية من عذاب القبر على نحو العموم الإستغراقي في عالم القول والفعل .
ومن منافع الآية القرآنية في عالم البرزخ الحسنات التي تترشح عن تلاوة المسلم لها .
وعن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها . لا تقول { الم } حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف ) ( ).
الثالث عشر : ونزلنا عليك القرآن تبياناً لكل شئ ) بلحاظ أن المراد من الكتاب في الآية هو القرآن ، لقد وردت كلمة الكتاب في القرآن نحو مائة وتسعاً وأربعين مرة ، وهو على وجوه منها :
الأول : إرادة جنس الكتب السماوية النازلة من عند الله سبحانه .
الثاني : خصوص كتاب منزل لأحد الرسل ، كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ] ( ).
الثالث : قصد الكتب السماوية السابقة .
وإنتساب أتباع الأنبياء السابقين فقد ورد لفظ [أَهْلِ الْكِتَابِ] إحدى وثلاثين مرة في القرآن ، قال تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] ( ).
الرابع : إرادة اللوح المحفوظ الذي كتب الله عز وجل فيه أحوال ومقادير الخلق ، قال تعالى [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ] ( ).
ليكون من مصاديق تقدير الآية ونزلنا عليك القرآن تبياناً لما في اللوح المحفوظ .
إن تسمية القرآن بالكتاب نعمة عظمى وتأكيد لتضمنه العلوم والأحكام وما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة ، ولبيان أن العلماء مهما إجتهدوا في تفسيره وتأويله وبيانه فأنهم لن يصلوا إلى معشار من ذخائره وكنوزه ، لتتجلى العلوم والأسرار مع كل سعي وإجتهاد منهم .
فليس من طالب للعلم والمعرفة في القرآن إلا ويصل إلى علوم وغايات حميدة ، مع التسليم بقانون وهو ما يعجز عن بلوغه العلماء من كنوز القرآن أكثر مما وصلوا ويصلون إليه وإلى يوم القيامة ، ومنه تتمة تفسيرنا هذا الذي نسأل الله عز وجل أن تكون هناك مؤسسات علمية للنهوض بمنهجيته والتوسعة فيها ، والزيادة عليها ملايين أجزاء التفسير ، فيبقى ذات القانون أعلاه يبعث في النفوس الخشوع والخضوع والتسليم والشكر لله عز وجل .
ولم يرد ذكر اللوح المحفوظ في القرآن ، ولكنه ورد في النصوص وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه معروف عند ملائكة السماء .
(عن ابن عباس قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه جبريل عليه السلام يناجيه إذا انشق أفق السماء فأقبل جبريل يتضاءل , ويدخل بعضه في بعض و يدنو من الأرض فإذا ملك قد مثل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فقال يا محمد ! إن ربك يقرئك السلام و يخيرك بين أن تكون نبيا ملكا وبين أن تكون نبيا عبدا .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : فأشار جبريل إلي بيده أن تواضع , فعرفت أنه ناصح , فقلت عبدا نبيا فعرج ذلك الملك إلى السماء .
فقلت يا جبريل ! قد كنت أردت أن أسألك عن هذا فرأيت من حالك ما شغلني عن المسألة فمن هذا يا جبريل ؟ قال هذا إسرافيل خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافاً قدميه لا يرفع طرفه بينه وبين الرب سبعون نورا ما منها نور يدنو منه إلا احترق بين يديه اللوح المحفوظ .
فإذا أذن الله من السماء أو في الأرض ارتفع ذلك اللوح يضرب جبينه , فينظر فيه فإن كان من عملي أمرني به و إن كان من عمل ميكائيل أمره به .
قلت يا جبريل على أي شيء أنت ؟ قال على الرياح والجنود قلت على أي شيء ميكائيل ؟ قال على النبات , قلت على أي شيء ملك الموت ؟ قال على قبض الأنفس , وما ظننت أنه هبط إلا بقيام الساعة وما ذاك الذي رأيت مني إلا خوفا من قيام الساعة .
قوله بينه و بين الرب سبعون نورا يحتمل أن يريد بينه وبين عرش الرب) ( ).
السابع : علم الآية لطف.
وهو من العلوم الجديدة في علم التفسير من جهة تخصيص باب مستقل له ، لبيان قانون وهو أن كل آية من القرآن لطف ورحمة من عند الله , ومن معاني اللطف في الآية القرآنية أنها تأخذ بأيدي المسلمين لعمل الصالحات وتزجرهم عن فعل السيئات .
وكل باب من أبواب التفسير التي ذكرناها في هذا السفر هو لطف من عند الله ، فإعجاز الآية القرآنية لطف وفيه شاهد على صدق نزول الآية من عند الله عز وجل ، ودعوة للناس لدخول الإسلام وفعل الخيرات وإتخاذ الحياة الدنيا مزرعة للآخرة ، قال تعالى [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا] ( ).
ويأتي اللطف في الآية القرآنية من وجوه :
الأول : نزول أي آية من القرآن لطف من عند الله بالناس جميعاً .
الثاني : رسم الآية القرآنية لطف , للقدسية الذاتية لحروفه وكلماته .
الثالث : وجود الآية القرآنية بين دفتي المصحف وإقرار المسلمين بجزئيتها من القرآن .
الرابع : فضل الله عز وجل في حفظ الآية القرآنية وسلامتها من التحريف والنقص أو الزيادة .
الخامس : تلاوة المسلمين للآية القرآنية على نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة ، وهو من اللطف من جهات :
الأولى : اللطف بالمسلم الذي يقرأ الآية القرآنية .
الثانية : إقتران الخشوع والخضوع بالتلاوة .
الثالثة : قراءة الآية القرآنية بلحاظ القرآنية ، وجزئيتها من الصلاة .
الرابعة : الإنصات للآية القرآنية التي تتلى في الصلاة ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) .
الخامسة : إكرام المسلم والمسلمة ساعة تلاوة القرآن في الصلاة ، لقد جاء الأمر من عند الله [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً] ( ) ولا يعلم مصاديق النفع التي تأتي بسبب التلاوة إلا الله عز وجل , ومنها على نحو المثال :
أولاً : ورتل القرآن في الصلاة ترتيلاً .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا رتلوا القرآن ترتيلاً .
ثالثاً : ورتل القرآن ترتيلاً وبتدبر .
رابعاً : ورتل القرآن بتأن وتوئدة .
خامساً : ورتل القرآن ليزداد المسلمون إيماناً .
سادساً : ورتل القرآن ترتيلاً فقد نصركم الله وصرتم لا تخشون من الذين كفروا .
لقد كان كفار قريش يحاربون الإسلام ويمنعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تلاوة القرآن ، فتفضل الله عز وجل وجعل للمسلمين دولة في المدينة ونصرهم على الذين كفروا الذين أغاروا على المدينة في معركة بدر [لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ] ( ) ثم أعادوا الكرة في معركة أحد بجيوش لا قبل للمسلمين بها ، لتكسر هذه المعركة هيبة كفار قريش إلى يوم القيامة وتبعث اليأس في نفوسهم من تحقيق النصر أو الغلبة على المسلمين ، وهو المستقرأ من قوله تعالى بخصوص ذات المعركة [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
فاستصحب كفار قريش هذه الخيبة في وجودهم في مكة ، ثم زحفهم في معركة الخندق إذ عجزوا عن القتال مع بقائهم حول المدينة لأكثر من عشرين ليلة .
سابعاً : ورتل القرآن ترتيلاً لبعث الفزع في قلوب الذين كفروا .
ثامناً : ورتل القرآن ترتيلاً لدعوة الناس للإيمان .
تاسعاً : ورتل القرآن ترتيلاً للتحدي وبيان صدق نزوله من عند الله عز وجل .
عاشراً : ورتل القرآن ترتيلاً سلامة له من التحريف والتبديل .
الحادي عشر : ورتل القرآن ترتيلاً لتكون كل آية من القرآن أرثاً مباركاً لأجيال المسلمين .
الثاني عشر : ورتل القرآن ترتيلاً لأنه كلام الله عز وجل .
الثالث عشر : ورتل القرآن ترتيلاً ، وفيه برزخ دون الفرقة ، ولما نهى الله المسلمين عن التفرقة بقوله تعالى [وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ) هداهم لتلاوة القرآن بتدبر وإمعان .
السادسة : اللطف بالمسلمين بالرزق الكريم ، ونزول الفضل من عند الله عز وجل .
السابعة : الثواب العظيم في الآخرة على تلاوة آيات القرآن ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (يقال لصاحب القرآن يوم القيامة إقرأ وأرق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) ( ).
ويحتمل توجه الأمر للمسلمين في آية الترتيل وجوهاً :
الأول : الإقتداء والتأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : توجه الأمر بالترتيل في الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والمراد عموم المسلمين والمسلمات .
الثالث : وجوب تلاوة القرآن في كل زمان لأنها سر ديمومة الحياة بلحاظ أنها مصداق العبادة ، وتعاهد التنزيل في الأرض ، لتقَوم خلافة الإنسان بتلاوة القرآن , والعمل بمضامينه القدسية .
الثامنة : تلاوة المسلمين الآية القرآنية لطف من جهات :
الأولى : التلاوة لطف بالمسلمين أنفسهم وسبيل ومقدمة للعمل بقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( ).
الثانية : تلاوة المسلم للآية القرآنية وسيلة للبعث للعمل الصالح، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) بلحاظ أن تلاوة الآية القرآنية صراط مستقيم ، والمنافع التي تستقرأ منها صراط مستقيم .
الثالثة : لقد أنعم الله عز وجل وجعل أن تلاوتهم لآيات القرآن في الصلاة واجب ، ومن الصلاة ما تكون فيها القراءة جهرية وهي صلاة الصبح والمغرب والعشاء من كل يوم ليتعظ التالي والسامع بمضامين الآية ، ولتكون هذه التلاوة إخباراً لكل منهما من وجوه :
أولاً : واجب كل مسلم ومسلمة في حفظ آيات القرآن .
ثانياً : لزوم سلامة التلاوة من اللحن والخطأ .
ثالثاً : موضوعية الأمر المعروف والنهي عن المنكر في التلاوة .
رابعاً : الآية القرآنية وما فيها من الأحكام حجة على الذين يتلوها والذي يسمعها .
خامساً : تلاوة آيات القرآن في الصلاة من مصاديق العدالة .
سادساً : تنمية ملكة حب القرآن في النفس .
سابعاً: عرض المسلم أقواله وافعاله على آيات القرآن التي يتلوها أو يسمعها فمثلاً إذا تُلي قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ]( ) يراجع الإنسان نفسه على ظن ظناً لا أصل له ، وهو تجسس أو أغتاب وذكر أخاه بما يكره ، وأختتمت الآية أعلاه بالأمر بتقوى الله ، وحثت على التوبة والإنابة لبيان أن التقوى واقية من فعل المحرم ، والتوبة طريق لمحو السيئات .
الرابعة : تلاوة الآية القرآنية تأديب للمسلم ، وتهذيب لأفعاله ، وهي إمام يقود المسلم لفعل الخيرات ، وضياء ينير له دروب المعرفة والرشاد .
الخامسة : من أبهى معاني اللطف في تلاوة الآية القرآنية الأجر والثواب في الآخرة .
قانون متعلق الآية القرآنية لطف
تتعدد وجوه اللطف الإلهي في الآية القرآنية سواء في نزولها أو موضوعها أو كلها أو الأثر المترتب عليها ، فتنزل الآية القرآنية ليفيض اللطف الإلهي من كلماتها ومن ثناياها وعند تلاوة المسلم لها.
لذا تفضل الله عز وجل وجعل تلاوتها في الصلاة أمراً واجباً ، ويكون متعلق اللطف في الآية القرآنية على وجوه :
الأول : الآية القرآنية لطف وإحسان وفيض في جذب الناس للإيمان ، وهو من إعجاز القرآن الغيري ، فلم ينتشر الإسلام بالسيف ، إنما إنتشر وإتسع بالمعجزة العقلية التي تتجلى بالآية القرآنية .
الثاني : من خصائص الآية القرآنية أنها خير محض في مقاصدها وغاياتها ، والموضوع الذي تتعلق به ، ومن اللطف في الآية القرآنية أنها بعث للعمل الصالح وزجر عن الفعل القبيح .
الثالث : سلامة الآية القرآنية من التحريف لطف من عند الله عز وجل بالمسلمين والناس جميعاً ، ليكون تقدير قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) بلحاظ قانون اللطف الإلهي على وجوه :
أولاً : إنا نحن نزلنا الذكر لطفاً بالعباد .
ثانياً : إنا نحن نزلنا الذكر رحمة بالعالمين .
ثالثاً : إنا نحن نزلنا الذكر ليكون طريقاً لدخول المؤمنين الجنة .
رابعاً : إنا نحن نزلنا الذكر لإزاحة عبادة الأوثان من الأرض .
خامساً : إنا نحن نزلنا الذكر ولا يقدر على تنزيله إلا الله سبحانه.
سادساً : إنا نحن نزلنا الذكر لفظاً ورسماً , وليس للملائكة أو الرسول التغيير أو التبديل فيه .
روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال لجبريل عليه السلام : إن الله تبارك وتعالى سمّاك بأسماء ففسّرها لي،
قال الله في وصفك {ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين} ( )فأخبرْني عن قوّتك، قال : يا محمد رفعت قرى قوم لوط من تخوم الأرض على جناحي في الهواء حتى سمعت ملائكة سماء الدنيا أصواتهم وأصوات الديكة ثم قلبتها ظهراً لبطن .
قال : فأخبرني عن قوله {مُّطَاعٍ} قال : إن رضوان خازن الجنان، ومالكاً خازن النيران متى كلفتهما فتح أبواب الجنة والنار فتحاهما لي، قال : فأخبرْني عن قوله {أَمِينٌ} قال : إن الله عزّ وجلّ أنزل من السماء مائة وأربعة كتب على أنبيائه , لم يأتمن عليها غيري) ( ).
وورد مثله بالإسناد عن معاوية بن قرة (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجبريل : ما أحسن ما أثنى عليك ربك { ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين }( ) فما كانت قوتك وما كانت أمانتك؟ قال : أما قوّتي فإني بعثت إلى مدائن لوط وهي أربع مدائن ، وفي كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب ، ثم هويت بهم فقتلتهم ، وأما أمانتي فلم أومر بشيء فعدوته إلى غيره) ( ) .
سابعاً : إنا نحن نزلنا الذكر لفضح المنافقين ، وهذا الفضح من اللطف من جهات :
الأولى : إنه لطف بالمؤمنين لكشف الدخلاء بينهم , والإمتناع عن إتخاذهم وليجة .
الثانية : إنه لطف بذات المنافقين لزجرهم عن النفاق ، وبعث اليأس في نفوسهم من إستبطان المؤمنين لهم .
الثالثة : اللطف بالناس جميعاً لما في الآية من الحصانة للمسلمين والمنافع الظاهرة والخفية لها في حياتهم اليومية ، ويقتطف منها الناس بالعرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ثامناً : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون لطفاً بالعباد .
تاسعاً : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون لهداية الناس إلى الصراط المستقيم .
عاشراً : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، وهو من نعم الله عز وجل المصاحبة لخلافة الإنسان في الأرض .
الحادي عشر : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون لبيان إعجاز القرآن وبقائه إلى يوم القيامة بين الناس من غير تغيير أو تبديل .
الثاني عشر : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون لمنع وقوع الفرقة بين المسلمين .
الثالث عشر : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ليستغني المسلمون عن البطانة والخلة التي تريد الإضرار بهم ، وحملهم على الفعل الذي يأتي منه الأذى .
الرابع عشر : إنا نحن نزلنا الذكر لطفاً بالعباد وإنا له لحافظون رحمة بهم ، لبيان أن اللطف المترشح عن آيات القرآن متصل ومتجدد إلى يوم القيامة .
الخامس عشر : إنا نحن نزلنا الذكر تصديقاً لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وإنا له لحافظون ليكون شاهداً دائماً على نزوله من عند الله عز وجل .
السادس عشر : إنا نحن نزلنا الذكر ليجني المسلمون الحسنات بتلاوته والعمل بمضامينه , وإنا له لحافظون لمنع طغيان الكفر ومفاهيم الضلالة .
السابع عشر : إنا نحن نزلنا الذكر ليكون مدداً وعوناً للمسلمين .
الثامن عشر : إنا نحن نزلنا الذكر ليدعو المسلمون الله عز وجل.
التاسع عشر : إنا نحن نزلنا الذكر بياناً له وللسنة بلحاظ أنها فرع الوحي والتنزيل , قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ]( ).
العشرون : إنا أنزلنا الذكر صراطاً مستقيماً .
لقد أراد الله عز وجل أن يكون القرآن منهاجاً دائماً للمسلمين، قال تعالى [إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ] ( ).
الحادي والعشرون : إنا نحن نزلنا عليك الذكر لديمومة الحياة الدنيا بلحاظ أن القرآن منهاج العبادة ، وقال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثاني والعشرون : إنا أنزلنا عليك الذكر ليبسط الله الرزق للمسلمين والناس .
الثالث والعشرون : الآية القرآنية لطف بالناس لأنها سبيل لصرف البلاء عنهم ، ويأتي هذا الصرف من جهات :
الأولى : تلاوة المسلمين للآية القرآنية ونزول شآبيب الرحمة مع هذه التلاوة .
الثانية : قراءة المسلمين كل يوم للآية القرآنية على نحو الوجوب في الصلاة ، لتردد الآفاق ذات ألفاظ الآيات , وتشهد لأهل الأرض بتعاهد القرآن وتلاوته والعمل بأحكامه .
الثالثة : دعاء الملائكة للمسلمين وإستغفارهم لهم عند سماع تلاوتهم لآيات القرآن .
لقد إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض ، ولم يترك الله عز وجل إحتجاجهم فتفضل باجابتهم بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ثم تفضل مرة أخرى على أجيال المسلمين في كل زمان باطلاعهم على إحتجاج الملائكة , ورد الله عز وجل عليهم ليكون وثيقة سماوية تنير دروب الهداية للمسلمين، وتجعلهم يبذلون الوسع في التنزه عن الفساد وسفك الدماء .
ومن علم الله عز وجل تفضله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورة المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ومن معاني ومصاديق الخير والتفضيل في المقام تلاوتهم لآيات القرآن , وإخبار القرآن عن دعاء الملائكة لهم لقوله تعالى [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ]( ) .
وهذا الدعاء من اللطف الإلهي بالمسلمين وإهتدائهم بآيات القرآن ، وليبقى دعاء الملائكة للمسلمين سبيلاً لدفع الأذى والضرر عنهم .
الرابعة : الآية القرآنية لطف وخير محض ، ويترشح اللطف في موضوع وأحكام الآية القرآنية ، وتتجلى درر من بحوره من جهات:
الأولى : تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن .
الثانية : السنة النبوية مرآة لأحكام آيات القرآن وشاهد على عدم وجود تعارض بين التنزيل والسنة النبوية .
الثالثة : إجتهاد أهل البيت والصحابة في بيان كنوز القرآن ومصاديق اللطف في آياته .
الرابعة : بقاء باب التفسير مفتوحاً إذ يجتهد العلماء في بيان شذرات من اللطف الذي تفيض به آيات القرآن .
الثامن : الآية بشارة : من مصاديق البيان في آيات القرآن ان البشارات جلية وواضحة يقف عندها المسلم وغيره بالتدبر وغيره بالتدبر والتفكر وتأتي هذه البشارات بالنص والتصريح ولفظ البشارة، كما في قوله تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى] ( ).
كما تأتي البشارة في الآية القرآنية بالمعنى والدلالة ، كما في قوله تعالى [وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ] ( ) أي بفوزهم ونجاتهم في الآخرة من أمور :
الأول : الخوف والفزع لما يأتي من أهوال يوم القيامة ليكون من معاني نداء الإيمان في القرآن أنه مقدمة للأمن والسلامة من الخوف والأذى .
الثاني : الأمن من الحزن والأسى على ما فاتهم في الحياة الدنيا من تضييع لشطر من المستحبات ، قال تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ]( ).
الثالث : فوز المؤمنين في الآخرة بالسكينة .
الرابع : نجاة المؤمنين يوم القيامة بطاعتهم لله عز وجل ورسوله في الدنيا ليكون تقدير آية الطاعة : وأطيعوا الله ورسوله لعلكم ترحمون بالنجاة من النار ).
الخامس : سلامة ونجاة المؤمنين من النار يوم القيامة .
السادس : نجاة المؤمنين من العذاب الأخروي بصبرهم وتحملهم الأذى في جنب الله ، وأدائهم الفرائض والعبادات ، وقد تأتي مباحث وتكتب دراسات عن بشارات القرآن ، أما أن يأتي باب خاص في تفسير آية من القرآن إسمه ( الآية بشارة ) فهو علم مستحدث تجلى في هذا السِفر المبارك .
لبيان ما تتضمنه الآية القرآنية وما يترشح منها منطوقاً ومفهوماً من البشارات وأسباب السعادة والغبطة للذي يتلوها ويعمل بأحكامها ، ولا يخرج عما فيها من السنن ، وكل نداء للإيمان في القرآن هو بشارة من عند الله للمسلمين ، لما أعدّ الله للمؤمنين ، وهو بشارة لهم بالإيمان ، وهذه الشهادة نوع بشارة وفضل عظيم ووعد كريم من عند الله عز وجل .
التاسع : الآية إنذار: الإنذار هو الإعلام الذي يصاحب التخويف والتهديد سواء كانت هذه المصاحبة بذات صيغة الإنذار أو كلام إضافي أو حركة وفعل مصاحب له ، وورد لفظ الإنذار والتخويف في آيات كثيرة من القرآن ، وفي قوله تعالى [كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وتدل الآية أعلاه على نزول القرآن ليكون إنذاراً ونذيراً وينذر به النبي والصالحون ، قال تعالى [فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ] ( ) والأصل في سنخية الإنسان هو الملازمة بين الإنذار القرآني والإتعاظ به ، والذي يمتنع عن قبول الإنذار القرآني والإنتفاع منه ، هو الكافر والجاحد ، والكفر أمر عرضي يتم إختياره عن زلل وغواية وعناد ، قال تعالى [وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] ( ) وقد أنعم الله عز وجل على الناس بالأنبياء مبشرين ومنذرين ، قال تعالى [وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ]( ) لبيان مصاحبة الإنذار من عند الله عز وجل للأمم والأجيال المتعاقبة، وقد تفضل الله عز وجل على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى في الثناء عليه [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ) فجعل كل آية من القرآن إنذاراً وتخويفاً في منطوقها أو دلالتها أو مفهومها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فليس من أمة تلقت الإنذارات مثل المسلمين في جهة كثرتها وتعدد مواضيعها وجزالة معانيها ، وسبل الإنتفاع منها .
إذ يخرج المسلمون للناس بأنذارات القرآن وإنذارات السنة النبوية .
ومن إعجاز الآية القرآنية أنها إنذار في منطوقها أو مفهومها ، وهل يفيد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الإنذار ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : نداء الإيمان إكرام وتشريف للمسلمين ليدل على إنذار الذين كفروا لتخلفهم عن الإيمان .
الثانية : في نداء الإيمان بشارة في ذاته ومنطوقه ومفهوم الموافقة ، وهو إنذار ووعيد للذين كفروا .
الرابعة : يقسم نداء الإيمان الناس إلى قسمين ، مؤمنين وغير مؤمنين، لتكون البشارات خاصة بالذين آمنوا بالله رباً وإلهاً واحداً، وصدقّوا بالنبوة والتنزيل وهي إنذار في دلالتها ومفهومها .
وقد تقدمت ستة وجوه من تقدير نداء الإيمان في آية البحث( ) ، وكل فرد منها يبعث المسلمين على عدم طاعة الذين كفروا ليكون من خصائص آيات النداء التأزر ليمتثل المسلمون للعمل بمضامينها ، ويطرد نداء الإيمان عن المسلمين الخوف والوجل من الإمتثال لآيات القرآن ، والخشية من ترك الحرام والمنكر ، ومن منافع توقي وإحتراز المسلمين من طاعة الذين كفروا السلامة والأمن من الأقتتال معهم فلو أطاع المسلمون الذين كفروا في أمور عديدة ، ثم إمتنعوا عن طاعتهم في باب العقيدة والفرائض فقد تأخذ الذين كفروا الحمية ويستولي عليهم الغضب ، فيسعون للإجهاز على المؤمنين سواء كانوا جماعة أو أفراداً ، فجاءت آية البحث لحجب الذين كفروا عن الطمع بالمسلمين وطاعتهم ، إذ تخبر آية البحث الذين كفروا بأن الله عز وجل نهى المسلمين عن طاعتهم ، وبينّ الضرر الفادح في الدنيا والآخرة الذي يترشح عن طاعة الذين كفروا وفيه بعث للفزع والخوف في نفوسهم ، وهو سبب لإنشغالهم بأنفسهم ، وكل نداء من نداءات الإيمان التسعة والثمانين الواردة في القرآن آية للمؤمنين وصراط مستقيم ، ليكون من فضل الله عز وجل أنه أخبر عن الصراط المستقيم بصيغة المفرد والأمر المتحد والخط المستقيم هو حركة نقطة أو خط في مسار مخصوص يكون إمتداده على نحو طولي باتجاه واحد من غير عوج وكانوا يعُرفون الخط المستقيم بأنه خط خال من العرض ، وليس له بداية أو نهاية .
أما الصراط المستقيم الذي يرد ذكره فانه نهج وإعتقاد وقول وعمل ، قال تعالى [وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
ويدل نداء الإيمان على هذا الصراط فمن معاني نداء الإيمان أن المسلمين على صراط مستقيم وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا أنكم على صراط مستقيم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إن كل أمر في القرآن هو صراط مستقيم .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بأن أداء الفرائض صراط مستقيم ، وعن النواس بن سمعان قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ضرب الله مثلا صراطا مستقيما ، وعلى جنبتي الصراط سور ، وأبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ، ولا تعوجوا ، وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد فتح شيء من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه ، فإياك أن تفتحه ، فالصراط الإسلام ، والسور حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على الصراط كتاب الله ، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم) ( ).
الرابع : يا أيها الذين آمنوا بأن الصراط في الآخرة حق وصدق .
لقد جعل الله عز وجل نداء الإيمان في الدنيا مقدمة ونوع تمرين وذخيرة لإجتياز الصراط المستقيم والعبور عليه .
وعن أنس عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : آخر من يدخل الجنة رجل يمشي على الصراط مرة، ويكبو أخرى ، ويمشي مرة ويحبو أخرى ، وتصفعه النار مرة فإذا جاوزها التفت إليها فقال : الحمد لله الذي نجاني منك لقد أعطاني شيئا لم يعطه أحد من الأولين ، ولن يعطيه أحدا من الآخرين . قال : وترفع له شجرة فيقول : أي رب ، أدنني من هذه الشجرة لأستظل بظلها ولأشرب من مائها ، فيقول لعلي إن أعطيتكها أن تسألني غيرها ؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها وربه عز وجل يعلم أنه سيفعل وربه تعالى يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه الله عز وجل منها فيشرب من مائها ويستظل بظلها ، فترفع له شجرة أخرى هي أحسن من الأولى فيقول : أي رب ، أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها ولأشرب من مائها فيقول : يا ابن آدم ، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها فيقول : بلى أي رب ، ولكن هذه فأدنني لا أسألك غيرها فلأستظل بها وأشرب من مائها . فيدنيه منها فيستظل ويشرب من مائها فترفع له شجرة أخرى على باب الجنة هي أحسن من الأوليين فيقول : أدنني من هذه فلأستظل بظلها ولأشرب من مائها . فيقول : يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها فيقول : بلى يا رب ، ولكن هذه فلأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها فيعاهده أن لا يسأله غيرها ، وربه عز وجل يعلم أنه سيسأله غيرها وربه تعالى يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه ، فيدنيه الله تعالى منها فيسمع أصوات أهل الجنة فيقول : يا رب أدخلني الجنة يا رب أدخلني الجنة لا أسألك غيرها . فيقول : يا ابن آدم ، أيرضيك أن أعطيك مثل الدنيا ومثلها معها فيقول : أي رب أتستهزئ بي وأنت رب العالمين فيضحك ابن مسعود ، وقال : ألا تسألوني مما ضحكت ؟ قالوا : ومم ضحكت ؟ فقال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ألا تسألوني مم أضحك ؟ قالوا : ومم تضحك يا رسول الله ؟ قال : من ضحك رب العالمين ، فيقول : إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قدير ) ( ).
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم (يمشي على الصراط مرة ، ويكبو أخرى) بيان تعدد كيفية عبور الناس على الصراط بحسب سنخية أعمالهم في الحياة الدنيا ، وتفضل الله وأنزل نداء الإيمان ليعبر المسلمون الصراط هرولة وركضاً وفي غبطة وسعادة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).

ومن خصائص نداء الإيمان في آية البحث أمور :
الأول : التكافل بين المسلمين في الأمور الخاصة والعامة ليكون من وجوه تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا تعاونوا من أجل الإمتناع عن طاعة الذين كفروا ، ومضامين آية البحث على جهات :
الأولى : نهي المسلمين كأمة عن طاعة الذين كفروا مجتمعين .
الثانية : زجر المسلمين كأمة عن طاعة طائفة من الذين كفروا .
الثالثة : نهي أي طائفة من المسلمين عن طاعة الذين كفروا مجتمعين أو متفرقين .
الرابعة : نهي المسلم عن طاعة الذين كفروا .
الخامسة : نهي المسلمين عن طاعة الذين كفروا .
السادسة : نهي أي طائفة أو رهط من المسلمين عن طاعة الذين كفروا .
فان قلت جاءت الآية بصيغة الجملة الشرطية وليس النهي ، والجواب تفيد الآية في صيغتها وكيفيتها النهي والزجر الأكيد عن طاعة الذين كفروا ، وقد تقدم الكلام بأن النهي الوارد في آية البحث يشمل النهي عن طاعة المنافقين( ) لأنهم لا يأمرون إلا بما هو قبيح وضار ، قال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ]( ).
والنسبة بين الذين كفروا والمنافقين هي العموم والخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء هي الجحود والكفر بالقلب والجنان ، أما مادة الإختلاف فهي إظهار الذين كفروا الكفر والجحود بينما يظهر المنافقون الإسلام .
ويتفرع عن هذا الإظهار حضورهم الصلاة وخروجهم للقتال ، وهل يجوز أن يأمر المنافق بأداء الصلاة أو الندب للقتال ، الجواب نعم ، وهو يحتمل وجهين من جهة القصد والنية ، فإما أن يكون عن غلبة الإيمان على لسانه أو لحمية ونحوها .
ومن خصائص نداء الإيمان أنها يخاطب المنافقين ليتوبوا ويناديهم ليزجرهم عن الأفعال التي تدل على الكفر والجحود .
لقد تفضل الله عز وجل بهذا الإيمان ليكون المسلمون في واقية من اليأس والقنوط ، ولقد علم سبحانه أن الذين كفروا يسعون جاهدين لبث صيغ الفتنة بينهم ، فتفضل الله عز وجل ونهى المسلمين عن طاعتهم ، لتبقى معاني الأخوة بين المسلمين ، وتستديم صيغ التعاون والإحسان بينهم ، وأراد الله عز وجل بنداء الإيمان إرتقاء المسلمين إلى مراتب الإحسان .
الثالث : تنمية ملكة الأخوة بين المسلمين وإقرارهم بأنهم أمة واحدة يجمع بينهم الإيمان ووجوب التنزه عن طاعة الذين كفروا .
الرابع : بعث الحسرة في نفوس الذين كفروا لحرمانهم من نداء الإكرام النازل من السماء ، ففي الحياة الدنيا ترى شعوباً كاملة يصيبها الحزن والإحباط لأن فريقه خسر في لعبة لهو لا يستديم أثرها إلا أياماً معدودات ، فكيف حال الذين كفروا يحجب عنهم نداء الإيمان ويخسرون منافعه الدنيوية والآخروية ، قال تعالى [اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ] ( ).
العاشر : الآية رحمة , وكما قسمنا إعجاز الآية إلى شعبتين ، فكذا يقسم هذا الباب إلى :
الشعبة الأولى : الآية رحمة في الدنيا ، وهي على أقسام :
أولاً : الآية رحمة بالمسلمين والمسلمات .
ثانياً : الآية رحمة بأهل الكتاب .
ثالثاً : الآية رحمة بالناس جميعاً .
الثانية : الآية رحمة في الآخرة ، وهل يمكن حصر هذه الرحمة بخصوص المؤمنين ، لأن الذين كفروا إمتنعوا باختيارهم عن العمل للآخرة .
الجواب لا ، لأن الرحمة نعمة عظمى من عند الله عز وجل ، ورحمته في الآخرة بالناس جميعاً من مصاديق رده على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
فمن معاني إستفهام الملائكة الإنكاري [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ] ( ) على جهات :
الأولى : توسل الملائكة إلى الله عز وجل بجعل الناس جميعاً يبذلون الوسع في طاعته .
الثانية : رجاء الملائكة فطنة الناس وإستحضارهم لعالم الآخرة في التصور الذهني وعالم الفعل اليومي .
الثالثة : دعوة الملائكة لإنقياد الناس للأوامر والنواهي الإلهية وعن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء) ( ) .
الرابعة : إستحضار الملائكة لخلق ووجود الناس قبل أن يهبط آدم إلى الأرض ، ليكون من بركات وفضل الله عز وجل على الناس بإخبار الملائكة عن خلافتهم في الأرض سبق دعاء الملائكة ، وتقدير الآية على جهات :
الأولى : أتجعل فيها من يفسد فيها من حجب عنهم الفساد .
الثانية : أتجعل فيها من يفسد فيها فأصلحهم للخلافة وأجعلهم يتنزهون عن الفساد .
الثالثة : أتجعل فيها من يفسد في الدنيا , وهي دار مرور وزوال وعبور .
الرابعة : أتجعل فيها من يفسد فيها وعاقبة الفساد والخلود في النار .
الخامسة : أتجعل فيها من يفسد فيها وأنت سبحانك القائل [كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] ( ).
السادسة : أتجعل فيها من يفسد فيها مع فضلك ببعث الأنبياء وإنزال الكتب السماوية .
السابعة : أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نتوسل لك بهدايتهم ، وفي التنزيل [وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] ( ) .
كما ورد تقييد إستغفار الملائكة بخصوص صبغة الإيمان في قوله تعالى [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ] ( ).
ومن الإعجاز في الجمع بين الآيتين أعلاه مسائل :
الأولى : نيل الناس جميعاً إستغفار ودعاء الملائكة .
الثانية : تقديم الملائكة التسبيح والثناء على الله عز وجل قبل الإستغفار للناس .
الثالثة : فوز المؤمنين باستغفار الملائكة ليأتي إستحضار الملائكة للمؤمنين مرتين , واحدة بلحاظ أنهم شطر من الناس وأخرى لكونهم مؤمنين.
(أن الله خلق السموات والأرض ثم جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق ، ثم خلق الخلق فوضع بينهم واحدة وأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة) ( ).
الثامنة :أتجعل فيها من يفسد فيها , ويحارب الأنبياء , ونحن نسبح بحمدك .
التاسعة : أتجعل في الأرض من يفسد فيها وهي بقعة من الجنة في الآخرة ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
العاشرة : أتجعل فيها من يفسد فيها ويحرم نفسه وغيره من نعمة الجنة في الأرض , ومن الآيات عدم ورود لفظ [أتجعل ] في القرآن إلا في هذه الآية الشريفة .
الحادية عشرة : أتجعل فيها من يفسد فيها وتكون عاقبته النار .
الثانية عشرة : أتجعل فيها من يفسد فيها , وقد تفضلت على الإنسان بمرتبة الخلافة .
الثالثة عشرة : أتجعل فيها من يفسد فيها مع بعثة الأنبياء وجهادهم والمؤمنين في سبيله ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
الحادي عشر : علم الصلة بين أول وآخر الآية
وهو علم جديد أسسناه في هذا السفر المبارك وبعد أن صدر منه نحو ستين جزء أنعم الله عز وجل علينا بالرجوع إلى الأجزاء الأولى، وذكرنا مضامين هذا العلم في الآيات التي ورد تفسيرها فيها، وهذا العلم كنز ليس له حد من جهة كثرة المسائل العلمية المستنبطة منه ، وهو شاهد على أن مفاتيح ذخائر وكنوز القرآن لم يكتشف معشارها بعد .
ولقد رزق الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب قارون الكنوز من الأموال كما في قوله تعالى [وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ] ( ).
(عن خَيْثَمَةَ: كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود، كل مفتاح مثل الأصبع، كل مفتاح على خزانة على حدته، فإذا ركب حُملت على ستين بغلا أغر محجلا ) ( ).
وعن ابن عباس ({ إن قارون كان من قوم موسى }( ) قال : كان ابن عمه ، وكان يبتغي العلم حتى جمع علماً ، فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده . فقال له موسى عليه السلام : إن الله أمرني أن آخذ الزكاة .
فأبى قارون , فقال : إن موسى عليه السلام يريد أن يأكل أموالكم . جاءكم بالصلاة ، وجاءكم بأشياء فاحتملتموها ، فتحملوه أن تعطوه أموالكم ؟ قالوا : لا نحتمل فما ترى فقال لهم : أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل ، فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها .
فارسلوا إليها فقالوا لها : نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك . قالت : نعم . فجاء قارون إلى موسى عليه السلام قال : اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك قال : نعم . فجمعهم فقالوا له : بم أمرك ربك؟ قال : أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تصلوا الرحم ، وكذا وكذا ، وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم .
قالوا : وإن كنت أنت قال : نعم . قالوا : فإنك قد زنيت قال : أنا . فأرسلوا إلى المرأة ، فجاءت فقالوا : ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى عليه السلام : أنشدك بالله إلا ما صدقت , قالت : أما إذ نشدتني بالله فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي .
وأنا أشهد أنك بريء ، وأنك رسول الله ، فخر موسى عليه السلام ساجداً يبكي ، فأوحى الله إليه : ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض ، فمرها فتطيعك .
فرفع رأسه فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم ، فجعلوا يقولون : يا موسى . . . يا موسى . . . فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم ، فجعلوا يقولون : يا موسى . . . يا موسى . . . فقال : خذيهم فغيبتهم فأوحى الله يا موسى : سألك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم ، وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم .
قال ابن عباس : وذلك قوله تعالى { فخسفنا به وبداره الأرض}( ) وخسف به إلى الأرض السفلى) ( ).
ولقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالقرآن لتكون آياته مفاتيح خزائن علوم متجددة إلى يوم القيامة كلما إستخرج المسلمون كنزاً من كنوزها تدلت وصارت قريبة منه كنوز وذخائر أخرى من علوم التنزيل .
فان قلت إنه قياس مع الفارق إذ أن كنوز قارون من الذهب والفضة ، أما كنوز القرآن فهي من العلم , والجواب أن كنوز القرآن على وجوه :
الأول : ذخائر وكنوز العلم .
الثاني : أسباب الرزق الكريم بالقرآن وتلاوته والعمل بأحكامه وسننه .
الثالث : كنوز وعلوم القرآن سبيل إلى العفو والمغفرة .
لقد صارت كنوز قارون وبالاً عليه في الدنيا , وحجة وطريقاً لسوقه إلى النار وخلوده فيها .
أما كنوز القرآن فهي رحمة دائمة ينهل منها المسلمين وتفيض عليهم بالخير الوفير ، ولقد بدأ المسلمون حياتهم العامة في فقر ومسكنة ، وكان من فضل الله أن نصرهم في معركة بدر ، مع حال الفقر والعوز ونقص المؤن والسلاح التي هم عليها بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
مع أن الغذاء والمؤن حاجة للجيش من جهات :
الأول : أثناء مدة التدريب والإستعداد للمعركة .
الثاني : عند الخروج للمعركة وقطع المسافة في الغزو أو الدفاع .
الثالث : عند اللقاء مع العدو في ميادين القتال .
الرابع : سد حاجة عوائل الجنود وكفايتهم في المؤون كيلا يكون همّ الجندي موجهاً لعياله أوان المعركة ، مع الخوف عليهم عند قتله أو فقده أو إعاقته فيها .
الخامس : عند المرابطة في مواجهة وصد العدو .
السادس : تيسير المؤن للجنود عند إنتهاء المعركة قبل تهيئة أسباب المعيشة في الكسب اليومي والزراعات والتجارات .
وهناك قول وهو (تزحف الجيوش على بطونها ) أي أنها لا تستطيع التقدم إلى ميادين القتال إلا مع الشبع والإرتواء ، ليكون قتال المسلمين في معركة بدر وأحد ومعارك الإسلام الأولى معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة للمسلمين للصبر والرضا بالقليل ، إذ كان المؤمنون يزحفون بإيمانهم وحسن التوكل على الله عز وجل.
وتتجلى هذه الحقيقة في كل معركة من معارك الإسلام، فكانت سبباً في بعث اليأس والخوف في قلوب الذين كفروا وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
ومن خصائص علم الصلة بين أول وآخر الآية الدلالة على الإعجاز الذاتي والغيري، وفي كل آية من القرآن أسرار وكنوز خاصة تستقل بها بخصوص هذا العلم.
ومنها آيات نداء الإيمان , فمع أنه متحد في كلماته وألفاظه [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في تسع وثمانين آية من آيات القرآن، إلا أن موضوعه يختلف في كل آية بلحاظ صلته مع الأمر أو النهي أو الشرط المتصل به، وصلته مع وسط آو آخر ذات الآية القرآنية، إذ يفيد إكرام المسلمين والمسلمات وبعثهم على السعي في مرضاة الله، والإحتراز من الذين كفروا، والإخبار عن النعيم الذي ينتظرهم في الآخرة .
وهناك فيوضات وعلوم في التفسير والتأويل يختص بها علم الصلة بين أول وآخر الآية .
والعلوم التي تستخرج من الصلة من وجوه :
أولاً : الصلة بين أول الآية القرآنية ووسطها .
ثانياً : موضوعية نداء الإيمان في دلالات وسط وآخر الآية القرآنية .
ثالثاً : الأسرار والعلوم التي تتجلى عن عطف الآية القرآنية على آية النداء ، فاذا إبتدأت آية النداء بنداء الإيمان [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ترد بعدها في الغالب آيات عديدة معطوفة عليها ، ليكون هذا العطف علماً مستقلاً بذاته تترشح عنه المسائل الفقهية والكلامية .
رابعاً : الصلة بين أول الآية القرآنية وآخرها والمسائل التي تتفرع عن هذه الصلة ، ومن نعم الله عز وجل أن أكثر خواتيم الآيات تتضمن الوعد الكريم واللطف والمدد والبشارة بالعفو والمغفرة ، وبيان أسماء الله الحسنى التي تفيد المغفرة للعباد وقبول التوبة ، وإحاطة الله علماً وفضلاً ورحمة بكل شئ .
خامساً : الصلة بين وسط وآخر الآية ، وما فيها من المعاني والحجج وأسرار صيغة العطف في الآية من قوانين الإرادة التكوينية التي تترشح عن خواتيم الآيات مثل قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا] ( )و[وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا]( ).
سادساً : تبعيض وسط الآية وبيان الصلة بين أطراف ذات الوسط باستثناء الآيات القصيرة التي يكون وسطها كلمة واحدة وهي قليلة ، وهذا التبعيض من ذخائر القرآن وعلومه الذاتية وكنوزه .
سابعاً : الصلة فيما بين وسط الآية القرآنية ، بلحاظ تعدد الكلمات في وسط الآية ، فمثلاً عدد كلمات آية الدين هو مائة وثمانية وعشرون كلمة ، وعدد حروفها خمسمائة وأربعون حرفاً ، وفيها ثلاث وثلاثون ميماً)..
إذ تبدأ بنداء الإيمان وذكر مسألة التداين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ] ( ) ويستلزم التحقيق والتفسير في الصلة بين أولها ووسطها وآخرها مجلداً مستقلاً أو اكثر من مجلد .
الثاني عشر : علم من غايات الآية : وهو علم جديد في التفسير إذ أفردنا له باباً خاصاً في هذا السفر، ونقف عند كل آية لإستقراء الغايات الحميدة لها من جهات :
الأولى : الغايات التي تتعلق بشخص المسلم .
الثانية : الغايات العبادية لكل آية من آيات القرآن .
الثالثة : ما هي الغايات التي تتجلى في الآية القرآنية في باب المعاملات .
الرابعة : الغايات التي تشمل عموم المسلمين والمسلمات في الأوامر والنواهي والأحكام التي تتضمنها الآية القرآنية .
الخامسة :الغايات الدنيوية للآية القرآنية بما فيه صلاح النفوس والمجتمعات ، وتعظيم شعائر الله، وعمارة الأرض بالذكر والتسبيح وتلاوة ذات الآية القرآنية .
السادسة: الثواب الأخروي العظيم في الآية القرآنية من وجوه:
أولاً : إقرار المسلم بنزول الآية القرآنية من عند الله عز وجل .
ثانياً : ترشح الثواب عن تلاوة المسلم للآية القرآنية، وهو من الإعجاز في فرض قراءة القرآن في الصلاة اليومية خمس مرات لكي لا ينفك الثواب عن المسلم .
ومن الآيات في المقام مضاعفة الثواب على نحو متتال ومتعاقب بفضل من عند الله عز وجل .
ثالثاً : تعاهد المسلم للآية القرآنية بالتلاوة والتدوين والتفسير .
رابعاً : إستحضار المسلم للآية القرآنية في الوقائع والأحداث.
خامساً : مجئ الثواب للمسلم باستعانته بالآية القرآنية وإتخاذها إماماً وضياءً ومنهاجاً .
إن العلوم المستقرأة من الآية القرآنية في باب الغاية والعلة الغائية، أكثر من أن تحصى لبيان قانون من إعجاز القرآن وهو أن ذخائر آيات القرآن الذاتية من اللامتناهي من جهة العلوم والأثر العملي في الأقوال والأفعال .
ويرد عنوان هذا العلم في تفسيرنا هذا بصيغة التبعيض ( من غايات الآية ) للإقرار بالعجز عن بيان وذكر غايات الآية خاصة مع الإضرار بأن شطراً غير محدود من غاياتها يستحدث مع تقادم الأيام والسنين إذ تتغشى هذه الآيات أيام الحياة الدنيا بالإضافة إلى موضوعيتها في عالم الآخرة ز
فمن الثابت حضور الآية القرآنية في مواطن يوم القيامة وهذا الحضور أمر وجودي يتجلى بمنطوق وشهادة الآية القرآنية للمؤمن الذي تلاها وعمل بأحكامها ،وهي حجة على الذي جحد بها ، إلى جانب شفاعة القرآن في الآخرة حيث يأذن الله عز وجل .
ومن معاني التبعيض في هذا العنوان دعوة العلماء في الأجيال اللاحقة إلى إستقراء غايات كريمة من الآية القرآنية من جهات :
الأولى : ألفاظ الآية القرآنية .
الثانية : معاني ودلالات كلمات الآية القرآنية .
الثالثة : المسائل والأحكام التي تستنبط من الصلة بين أول وآخر الآية .
الرابعة : غايات الآية القرآنية في إصلاح النفوس والمجتمعات .
الخامسة : كل آية قرآنية دعوة إلى ذكر الله والتوبة والإنابة ، والإتعاظ من القرآن وآياته ورياضها وغاياتها , وورد حكاية عن نبي الله شعيب في التنزيل [وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ] ( ).
السادسة : الغايات الأخروية للآية القرآنية من وجوه :
أولاً : هداية المسلمين لعمل الصالحات .
ثانياً : بعث المسلمين لإتخاذ الدنيا مزرعة للآخرة .
ثالثاً : بيان آيات القرآن لأهوال عالم الآخرة ونجاة المؤمنين منها، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الثالث عشر : أسباب نزول الآية القرآنية
وهو علم مستقل ألفت فيه كتب عديدة , وذكرت الآيات التي لها أسباب نزول مع بيان تلك الأسباب ، وقد يذكر علماء التفسير ذات الواقعة والسبب في نزول أكثر من آية قرآنية ، ومن الإعجاز في أسباب النزول أمور:
أولاً : بيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
ثانياً : موافقة القرآن للوقائع والأحداث ، ونزوله بالبيان والحكم.
ثالثاً : أسباب نزول الآية القرآنية عون للمسلمين عند تكرار وتجدد ذات الأسباب .
رابعاً : من خصائص علم أسباب النزول التخفيف عن المسلمين بصرف السبب الذي فيه ضرر عليهم ، والإمتناع عن السبب الذي يجلب الأذى .
وقد يرد أكثر من سبب نزول لآية واحدة ، فمثلاً قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ] ( ) ذكرت فيه وجوه :
الأول : ورد بالإسناد (عن جابر بن عبد الله قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية كنت فيها، فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منا: قد عرفنا القبلة هي ها هنا قبل الشمال، فصلوا وخطوا خطوطاً .
وقال بعضنا: القبلة ها هنا قبل الجنوب وخطوا خطوطاً فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فسكت فأنزل الله تعالى (وَللهِ المَشرِقُ وَالمَغرِبُ فَأَينَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ اللهِ) ( ).
الثاني : عن ربيعة عن أبيه قال : (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السفر في ليلة مظلمة، فلم يدر كيف القبلة، فصلى كل رجل منا على حاله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت (فَأَينَما تُوَلوا فَثَمَّ وَجهُ اللهِ) ( ).
الثالث : ذكر أن الآية نزلت في صلاة النافلة ، وأن النبي يصلي على راحلته في النافلة حيث توجهت به الراحلة (عن جابر بن عبد الله قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أنمار يصلي على راحلته متوجهاً قبل المشرق تطوّعاً ) ( ).
وتجوز الصلاة في النافلة لغير القبلة بالنسبة لراكب الراحلة أو الذي لا يعلم جهة القبلة .
الرابع : عن ابن مسعود وناس من الصحابة (في قوله { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله }( ) قال : كان الناس يصلون قبل بيت المقدس ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة على رأس ثمانية عشر شهراً من مهاجره ، وكان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر به ، فنسختها قبل الكعبة) ( ) .
الخامس : ما ورد عن ابن عباس قال : خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر وذلك قبل تحويل القبلة إلى الكعبة فاصابهم الضّباب فحضرت الصّلاة فتحروا القبلة وصلّوا فمنهم من صلّى إلى المشرق ومنهم من صلّى إلى المغرب. فلما ذهب الضّباب استبان لهم إنّهم لم يصيبوا. فلّما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية بذلك ) ( ).
السادس : ورد بالإسناد عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة سوداء مظلمة، فنزلنا منزلا فجعل الرَّجل يأخذُ الأحجارَ فيعمل مسجدا يصلي فيه. فلما [أن] أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة. فقلنا: يا رسول الله، لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة؟ فأنزل الله تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }( ) الآية.) ( ).
السابع : نزلت الآية (نزلت في صلاة المسافر يصلّي حيثما توجّهت به راحلته تطوعاً،
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُصلّي على راحلته جائياً من مكّة إلى المدينة.) ( ).
الثامن : نزلت في تحويل القبلة لما حوّلت إلى الكعبة .
التاسع : ورد عن عطاء وقتادة أن الآية (نزلت في النجاشي وذلك إنّه توفّي،
فأتى جبرئيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إنّ أخاكم النجاشي قد مات فصلّوا عليه. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف نُصلّي على رجل مات وهو يُصلي إلى غير قبلتنا.
وكان النجاشي يُصلّي إلى بيت المقدس حتّى مات. فأنزل الله تعالى هذه الآية.) ( ).
العاشر : عن مجاهد والحسن لما نزلت ( {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قالوا أين ندعوه؟
فنزلت {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ملكاً وخلقاً {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} تحولّوا وجوهكم {فَثَمَّ} هناك {وَجْهُ اللَّهِ})( ).
وهل يمكن القول أن يكون أكثر من سبب لنزول الآية , الجواب نعم ، مع إتحاد المكان والزمان أو سبق أحدهما إلى حين وقوع الثاني فتنزل الآية القرآنية .
ويعلم الله عز وجل بوقوع الحوادث قبل حدوثها , وتفضل وجعلها أسباباً لنزول آيات القرآن لتكون من الشواهد الحسية التي تساعد في تثبيت مضامين آيات القرآن في الوجود الذهني ، وتحول دون الغفلة والنسيان .
وهو من الإعجاز الغيري للآية القرآنية بأن يكون هذا الإعجاز سابقاً في موضوعه للآية ومتأخراً عنها ، فلا يختص إعجاز الآية بما يترشح عنها بل يشمل ما يتعلق بها من أسباب النزول ، وموافقة الآية للحكم السماوي والوقائع .
وقد مرّ على نزول القرآن أكثر من ألف وأربعمائة سنة وأسباب نزول الآيات موافق للواقع وسنخية المجتمعات ، فان قلت : يتعلق شطر من أسباب النزول بأحوال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربة الذين كفروا له وإستهزائهم بالتنزيل ، والجواب قد تتكرر ذات الأسباب والوقائع في أزمنة لاحقة ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
ووردت طائفة من أخبار أسباب النزول عن التابعين ، أي أنها كالمرسلة , وللدلالة على ما فيها من السعة ، والأرجح الأظهر أنهم أخذوا أكثرها عن الصحابة وأيام النبوة والمسألة صغروية لأن المدار على ملائمة الأسباب المذكورة للآية القرآنية .
وتلزم أفراد علم أسباب النزول التحقيق والتثبت فقد ترد قصة واحدة سبباً لنزول أكثر من آية أو تذكر عدة أسباب لآية واحدة ويمكن تقسيم أسباب النزول إلى أقسام :
الأول : ما تجلى من الأسباب أيام النبوة .
الثاني : الأسباب التي ذكرها أهل البيت والصحابة .
الثالث : ما ورد عن التابعين من أسباب نزول الآيات .
الرابع : موضوعية سند رواية سبب النزول ووثاقة رجاله .
الخامس : موافقة أسباب النزول لمضامين الآية القرآنية .
ولا تختص مسائل علم أسباب النزول بالوقائع التي تسبق وتصاحب نزول الآية القرآنية بل تعكس حال المجتمعات وسنخية التقوى ، أوان نزول آيات القرآن كما تكشف عن الأماكن والمواضع, ومنازل نزول آيات القرآن .
ومع إفادة علم أسباب النزول عن ماهية الوقائع أوان نزول آيات القرآن فان من إعجاز الآية القرآنية تحقق مصداق ذات الوقائع في كل زمان وإلى يوم القيامة ، وذات الآية القرآنية تساعد في فهم سبب النزول , والتدبر في معانيه .
وإجماع علماء الإسلام بأن المدار على عموم اللفظ وليس خصوص سبب النزول .
الرابع عشر : علم المناسبة : وهو علم جديد يتناول تكرار ذات اللفظ القرآني في آيات متعددة من القرآن والصلة والمناسبة بين جزئيته من الآية محل البحث وموضعه في الآيات القرآنية الأخرى ، وهو علم تشريف تتجلى فيه ذخائر من درر القرآن ، ومن إعجاز القرآن الذاتي والغيري أن هذه الوجوه الإثني عشر من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) .
ففي كل وجه من هذه الوجوه التي تتعلق بتفسير الآية القرآنية كنوز بيانية ، ورحمة للمسلمين والناس ، ودعوة متجددة للناس إلى يوم القيامة لإستنباط المسائل والأحكام سواء من سياق الآيات أو من إعجاز الآية الذاتي والغيري أو الآية سلاح أو مفهوم الآية وغيرها من الوجوه المتقدمة ومنها علم المناسبة .
ولا يختص علم المناسبة في أي آية قرآنية بمبحث واحد مستقل ، فكل لفظ وكل جملة من الآية له علم مناسبة خاص به ، وإذا تكرر ذات اللفظ في آيتين قرآنيتين فهل يكون علم المناسبة مكرراً أيضاً ، الجواب لا .
وقد ذكر هذا العلم من تفسيرنا في أطروحة خاصة عن هذا السِفر المبارك( ) .
الخامس عشر : ذكر قوانين متعددة مستنبطة من ذات الآية القرآنية ، وهو علم مستحدث يبين ذخائر كامنة في ثنايا الآية تجعلها إماماً للمسلمين , ويلجأ إليها الناس في كل زمان .
وجاءت في هذا التفسير إلى الآن مئات القوانين , وهي تأسيس لمصاديق متكثرة ودعوة للعلماء في هذا الزمان والأزمنة اللاحقة لبيان اللامتناهي من القواعد والقوانين المستقرأة من آيات القرآن من جهات :
الأولى : منطوق الآية القرآنية .
الثانية : الصلة بين كلمات وجمل الآية القرآنية .
الثالثة : نظم ذات الآية القرآنية .
الرابعة : الصلة بين الآية القرآنية والآيات المجاورة , فمثلاً جاء الجزء الخامس والعشرون بعد المائة بالصلة بين الآية (152) من آل عمران بالآية التي قبلها , وتضمن القوانين التالية :
الأول : يوم حنين يوم رعب للكفار .
الثاني : قانون إشتراك الملائكة في القتال يبعث الرعب في قلوب الذين كفروا.
الثالث : قانون الرؤيا سلاح وبيان .
الرابع : قانون الملازمة بين الوعد الإلهي ومصداقه .
الخامس : قانون إستقراء الدروس من هجرة الحبشة .
ومع أن الجزء السادس والعشرين بعد المائة جاء في الصلة بين شطر من الآية (153) بشطر من الآية (151) فقد ورد فيه كل من :
الأول : قانون الإعجاز في وقت وزمان النبوة الخاتمة .
الثاني : قانون علم التقدير .
الثالث : قانون القرآن برزخ دون القتال .
الرابع : قانون ترتب الأثر على إلقاء الرعب .
وجاء الجزء التاسع والعشرون بعد المائة في الصلة بين شطر من الآية (154) من آل عمران بشطر من الآية (153) من ذات السورة فقد ورد فيه :
الأول : قانون العطف بين الآيات .
الثاني : قانون الجمع بين (إذ تصعدون ) وثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة ).
الثالث : قانون الجمع بين (ولا تلوون على أحد ) (ثم أنزل عليكم).
الرابع : قانون الجمع بين(والرسول يدعوكم في أخراكم ثم أنزل عليكم).
الخامس : قانون الجمع بين(فأثابكم غماً بغم) (ثم أنزل عليكم).
السادس : قانون الجمع بين(ثم أنزل عليكم) (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم).
السابع : قانون الجمع بين(والرسول يدعوكم) (يقولون لو كان لنا من الأمر).
الثامن : قانون الجمع بين(والرسول يدعوكم) (يقولون ما قتلنا ها هنا).
التاسع : قانون الجمع بين(والرسول يدعوكم) (قل لو كنتم في بيوتكم).
العاشر : قانون الجمع بين(والرسول يدعوكم وليبتلي ما في صدوركم).
الحادي عشر : قانون الجمع بين(والرسول يدعوكم) (وليمحص الله ما في قلوبكم).
الثاني عشر : قانون الجمع بين(والرسول يدعوكم) (والله عليم بذات الصدور)
الثالث عشر : قانون الجمع بين (ثم أنزل عليكم) (لكيلا تحزنوا على ما أصابكم).
الرابع عشر : قانون الجمع بين (ثم أنزل عليكم) (والله خبير بما تعملون).
الخامس عشر : قانون الجمع بين (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم إذ تصعدون).
السادس عشر : قانون الجمع بين(والرسول يدعوكم) (ثم أنزل عليكم).
السابع عشر : قانون الجمع بين(والرسول يدعوكم) (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم).
الثامن عشر : قانون الجمع بين (والرسول دعوكم) (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم).
التاسع عشر : قانون الجمع بين(والرسول يدعوكم) (وطائفة يقولون هل لنا من الأمر) .
العشرون : قانون الجمع بين(والرسول يدعوكم) (قل أن الأمر كله لله).
الحادي والعشرون : قانون الجمع بين(والرسول يدعوكم) (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك) .
الثاني والعشرون : الجمع بين(فأثابكم الله) (ثم أنزل الله عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً).
الثالث والعشرون : الجمع بين(فأثابكم الله غماً بغم ثم أنزل عليكم أمنة نعاساً).
الرابع والعشرون : الجمع بين(فأثابكم الله غماً بغم) (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم).
الخامس والعشرون : الجمع بين(فأثابكم غماً بغم)(وطائفة يظنون بالله غير الحق).
الخامسة : الإتحاد الموضوعي بين الآية محل البحث والآيات الأخرى في ذات السورة القرآنية .
السادسة : التشابه في الحكم بين الآية محل البحث وآيات القرآن الأخرى .
السابعة : القوانين المستقرأة من صلة الآية القرآنية بالآيات الأخرى ، ومن إعجاز القرآن عدم تعيين حد من طرف الكثرة في هذه القوانين ،خاصة مع مشروع التفسير الذي تشترك به التخصصات في العلوم المختلفة ، وهو الذي ذكرناه على نحو التفصيل ( ).
السادس عشر : البحوث البلاغية التي هي جزء من تفسير الآية القرآنية , ومن الشواهد على إعجازها في البلاغة والفصاحة .
وتفتح هذه البحوث الباب أمام العلماء للتوسعة والإجتهاد في الكشف عن كنوز بلاغة القرآن ، وتأسيس ضروب جديدة في علم البلاغة مستقرأة من القرآن ، وفيه وجوه :
الأول : حاجة علم البلاغة للقرآن وآياته .
الثاني : حاجة علم التفسير لقواعد ومفاهيم وعلوم البلاغة .
الثالث : عدم حاجة القرآن لعلوم البلاغة وكذا العكس .
والصحيح هو الأول فعلم البلاغة يحتاج القرآن وعلومه ، ولا تحتاج علوم القرآن قواعد وفنون وعلوم البلاغة فان قلت يستدل على إعجاز القرآن بالبلاغة ، الجواب نعم , إنما يستدل على إعجازه بذات بلاغته ، وسموها , فمن خصائص القرآن في هذا الباب أمور :
الأول : بيان فنون البلاغة في اللغة العربية .
الثاني : تثبيت قانون وهو أن البلاغة علم مستقل بذاته .
الثالث : حفظ وتعاهد القرآن للغة العربية في ذاتها وقواعدها وبلاغتها ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ) ولولا نزول القرآن وتلاوة المسلمين له في الصلاة اليومية لما حفظت بلاغة اللغة العربية .

قانون موضوعية خلافة الإنسان في النهي عن الربا
الحمد لله الذي جعل حاجة العباد له وحده ، ولا يقدر على قضائها إلا هو سبحانه ، ومن أسرار خلافة الإنسان في الأرض ان حاجات أي إنسان من اللامتناهي في كثرتها وعددها وموضوعها ، وورد في التنزيل ثناء من عند الله على نفسه وما ينفرد به من معاني الربوبية [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ) لتكون معاني ما هو أخفى من السر منه مصاديق كثيرة في موضوعها وأفرادها منها :
الأول : نوايا الإنسان مطلقاً .
الثاني : النوايا التي تطرأ على الذهن مما لم تجتمع أسبابها ومقدماتها ، بحيث لا يظن الناس أنها طرأت على باله .
الثالث : الأوهام والمقاصد التي تبدو للإنسان ، ولو إطلع عليها الناس لقالوا أنه مجنون لمنافاتها للعقل والواقع .
الرابع : إستحضار الإنسان في ذهنه أفعاله في الزمن الماضي مما يذكره وما يجتهد في إستحضاره .
الخامس : الهّم بالصلاح والتقوى والمسارعة في الخيرات .
السادس : طرو فعل الخيانة والغل والضرر على الذهن .
السابع : المراد من قوله تعالى [وَأَخْفَى]أي أن الله عز وجل يعلم ما سوف يخفيه الإنسان في قرارة نفسه من الهموم والنوايا .
الثامن : ومن معاني [وَأَخْفَى] ما يمتنع عنه الإنسان من الأذى والضرر بسبب الزجر والنهي في القرآن ، كما في آية القصاص .
ومن الإعجاز أنها جاءت بصيغة نداء الإيمان ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) فمن السر أن يهم الإنسان بالقتل فيستحضر حكم القصاص في الوجود الذهني فيصرف النظر عن القتل وسفك الدماء ، فتكون نجاته ونجاة الذي أراد قتله من مصاديق قوله تعالى [وَأَخْفَى] فمن أسرار خلافة الإنسان في الأرض إجتناب المسلمين وغيرهم سفك الدماء ، للسلامة من القصاص .
وليكون من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عندما إحتجوا على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) مع أنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
أن الله عز وجل يتفضل بأنزال آية من القرآن تتألف من بضع كلمات لتحول دون الفساد ودون من القتل بغيرهم مجتمعين .
الثامن : من معاني [وَأَخْفَى] المنافع العظيمة التي تترشح عن ترك المسلمين للربا ولطاعة الذين كفروا .
التاسع : لقد أخبر القرآن عن أهوال إلى يوم القيامة ، وما أخفى منها عن الإنسان أعظم .
ففي الآية حذف تقدير يعلم السر وما هو أخفى من السر .
لقد خلق الله عز وجل الإنسان ورزقه العقل للتمييز بين الأشياء ، ثم تأتي الآية القرآنية عقلاً إضافياً للمسلم تأمره وتنهاه لتبين له النعم العظيمة من جهات :
الأولى : نزول القرآن من عند الله عز وجل .
الثانية : مجي الأمر في الآية القرآنية بعمل الصالحات ، وما هو خير محض .
الثالثة : تضمن الآية القرآنية النهي عن السوء والفحشاء ، ومن خصائص العقل الإنساني أنه يدرك القبح الذاتي للمعصية .
الرابعة : نعمة الإمتثال للأوامر والنواهي التي أنزلها الله عز وجل في القرآن ، فلا يعلم الغبطة التي تملأ نفس المسلم عند الإمتثال والمنافع والثواب العظيم في الإمتثال لأي فرد من الأوامر والنواهي إلا الله عز وجل ، ومنها الإمتناع عن الربا ، ليكون من معاني خلافة الإنسان في الأرض إقتباس الناس من المسلمين العمل الصالح ، وإجتناب ما فيه الضرر في الدنيا والآخرة ، ولا يختص هذا الإقتباس بأيام البعثة النبوية المباركة بل هو متصل من أيام أبينا آدم إلى يوم القيامة ، يرى الذين كفروا ما يفعله المؤمنون وما يجتنبونه .
ليكون على وجوه :
أولاً : صلاح المؤمنين حجة على الذين كفروا ، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَقُلْ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ]( ).
الثاني : ترغيب الناس بفعل الصالحات .
الثالث : بعث النفرة من السيئات والمعاصي .
الرابع : بيان قانون ، وهن أن المؤمنين يسعون إلى غاية حميدة ويرجون الثواب من عند الله عز وجل .
وإبتدأت مدرسة الإقتباس هذه من حين آكل آدم وحواء الشجرة التي نهاها الله عز وجل عن الدنو منها ، قال تعالى [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ).
لتتعظ أجيال ذريتهما ، وتتجنب النواهي فتكون الأرض جنة لهم وطريقاً إلى جنة الخلد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
ويكون من عمومات ذكر الأرض كوعاء وفرد من الجنة أن حياة الناس على الأرض في الحياة الدنيا جزء من الجنة إذا تقيدوا بالأوامر والنواهي من عند الله فيرزقهم الله عز وجل الخير الوفير ، ويجعلهم في سعادة مقبلين على الفرائض والطاعات ، وإذا نظرت إلى أسباب الكدورة والفتن في الدنيا عبر التأريخ تجدها مترشحة عن غلبة النفس الشهوية والغضبية ، وعندما أراد قابيل قتل أخيه هابيل إمتنع الأخير عن المبادرة إلى قتله ، كما ورد في التنزيل [لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ] ( ) ليتعلم الناس الصبر وملاقاة الإساءة بالإحسان ، وهل تدل الآية أعلاه على الإمتناع عن الدفاع عن النفس والتوقي من القتل ، الجواب لا ، فالقدر المتيقن منها هو تنزه هابيل عن سفك الدماء وعن القتل سواء قتل أخيه أو غيره بدليل علة هذه التنزه والإمتناع وهو الخوف والخشية من الله عز وجل الذي هو رب العالمين ورب القاتل والمقتول أي الذي يأخذ حق المقتول ولو بعد حين أو في الآخرة .
ومن عظيم قدرة الله عز وجل أنه يجعل الملائكة والإنس والجن يرون الآيات والبراهين حاضرة عندهم من غير إبطاء ليتعظوا ويسلموا بالعبودية والخضوع لله عز وجل ، كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( ) فقد أكرم الله عز وجل يوسف عليه السلام برؤية البرهان والحجة التي تزجره عن فعل الفاحشة حال إقترابها منه .
وعندما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض إحتجوا وسألوا سؤالاً إنكارياً [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) فصدقوا إذ سفك ابن آدم الدم الحرام مع سعة الأرض وكثرة الخيرات فيها ، وعدم وجود قبائل وعشائر إنما هما أخوان في هذه الأرض ، وأعقبه مصداق قول الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علم الله عز وجل في المقام :
الأول : إمتناع هابيل عن قتل أخيه .
الثاني : بيان هابيل لعلة إجتناب القتل وسفك الدماء بقوله [إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : حال الندم والأسى التي أظهرها قابيل وكأنه لم يعلم بأن الموت فراق مؤيد عن الدنيا ، وأن لا رجعة للإنسان بعده .
الرابع : العذاب الأليم الذي ينتظر قابيل لقيامه بقتل أخيه .
الخامس : إخبار القرآن والكتب السماوية السابقة عن قتل قابيل لأخيه ، وبيان سوء العاقبة الذي ينتظر قابيل .
السادس : نزول القرآن بقصة قابيل وهابيل .
السابع : إتعاظ الناس من قتل قابيل لأخيه ، والنفرة العامة من هذا الفعل .
الثامن : بعث المسلمين للعمل بأحكام القصاص وكتابة السلامة للكثير من الناس من جهات :
الأولى : إستهجان الناس لما فعله قابيل .
الثانية : تنمية ملكة صلة الرحم بين المسلمين .
الثالثة : إجتناب الناس القتل لما يتعقبه من القصاص .
الرابعة : تجلي قانون في خلافة الإنسان للأرض ، وهو ما من إنسان يقتل غيره إلا وصاحبه الندم والحسرة إلى أن يغادر الدنيا ، إلى جانب سخط الناس ممن حوله عليه وعلى سوء فعله وقد يقوم بعض الحكام بسن بعض المواد القانونية التي تجيز له قتل المناوئين له، أو إغتيالهم والحكم عليهم بالإعدام خلافاً لأحكام الشريعة ، وما جاء به الكتاب والسنة وإصراراً على البطش فلا يلبث أن يزول حكمه ، وتنقطع أمرته وتحجب عن إبنائه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في رد الله عز وجل على الملائكة ، فمن علمه تعالى مشيئته في صلاح أهل الأرض ، وفي الزجر عن توالي الفواحش والمعاصي ، وليس من حصر لوجوه وتقدير كل من قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ] ( )وقوله [مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).

المعلقات السبعة
وهي قصائد شعرية مشهورة من الشعر الجاهلي ، ومنهم من يجعلها عشرة , المختار أنها لم تجمع إلا في منتصف القرن الثاني الهجري ، قام بجمعها حماد الراوية .
والمعلقات مصطلح أدبي يراد منه قصائد مخصوصة من الشعر العربي الجاهلي ، تتصف بخصوصية من جهة جزالة ألفاظها ، وضبط نظمها بما ساعد في توارث الناس لحفظها وإلقائها والإستشهاد بها ، وسميت بأسماء أخرى أقل شهرة من هذه التسمية منها :
الأول : السبع الطوال ، لطول هذه القصائد وكثرة أبيات كل واحدة منها ، وهو اسم غير مناسب , إنما ورد لفظ السبع الطوال بخصوص سور القرآن وهي :
الأولى : سورة البقرة .
الثانية : سورة آل عمران .
الثالثة : سورة النساء .
الرابعة : سورة المائدة .
الخامسة : سورة الأنعام .
السادسة : سورة الأعراف .
السابعة : سورة التوبة .
وقيل سورة يونس .
وإذا كان المدار في القصائد على الطول فهناك مئات القصائد أطول من المعلقات السبعة التي لم تثبت نسبة بعضها إلى أصحابها .
الثاني : السموط , وبه سمّاها حماد الراوية , لأن هذه القصائد تشبه الحلية التي تجعلها المرأة في يدها للزينة , والتسميط في الشعر هو تقسيم البيت إلى أجزاء عروضية على غير روّي القافية .
والروي هو الحرف الذي يختتم به كل بيت من أبيات القصيدة الشعرية ، فيقال قصيدة ميمية إذا كان آخر حرف من كل بيت منها هو الميم مثل ميمية معلقة عنترة بن شداد العبسي :
أعياك رسم الدار لم يتكلم … حتى تكلم كالأصم الأعجم
ثم قال بعد بيت واحد:
هل غادر الشعراء من متردم … أم هل عرفت الدار بعد توهم؟
يا دار عبلة بالجواء تكلمي … وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي
فصرع البيت الأول والثالث والرابع.) ( ) .
وميمية المتنبي: إذ قال يمدح سيف الدولة ويعاتبه
وا حر قلباه ممن قلبهُ شبمُ .. ومن بجسمي وحالي عندهُ سقمُ ( ).
ووفق صناعة الشعر فمن الحروف ما لا يصلح أن يكون روياً مثل الألف عند الإطلاق وضمير التثنية ، والواو إذا كانت للإطلاق ، وإذ وردت ضمير جمع جاء الحرف الذي قبلها مضموماً .
مثل :
وليت للناس حظاً من وجوههم .تبين أخلاقهم فيه إذا إجتمعوا.
الثالث : المذهبات : قيل أن العرب كتبوا هذه القصائد بالذهب أو بماء الذهب ، وعلقوها في أستار الكعبة فيقال مذهبة زهير بن أبي سلمى ، مذهب طرفة بن العبد مذهبة لبيد بن ربيعة .
ولا دليل على تعليق هذه القصائد في الكعبة ، فلا تصل النوبة إلى الإخبار عن تذهيبها وتعليقها بالكعبة وأستارها مذهبة ومنهم من دافع عن هذا التعليق والتذهيب بأن العرب كانوا يعرفون الكتابة وأنهم يعلقون وثائقهم وكتاباتهم في الكعبة , لشرفها وقدسيتها .
وقيل أن سبب تسميتها بالمعلقات أنها تعلق في نفوس الناس وعقولهم ، وأيضاً لا دليل على هذا المعنى والعناية الزائدة بذات القصائد التي يرجح أنها لم تكن مشهورة شهرة فائقة تتعدى شهرة قصائد الشعراء الأخرى ، أو قصائد ذات أصحاب المعلقات إلا بعد السنة المائة والخمسين للهجرة عندما جمعها وأظهرها حماد الراوية ، وهذا الإظهار ببركة القرآن , وعناية المسلمين به وبلغته وبلاغته, والمعلقات هي :
الأولى : معلقة إمرى القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو (وكان عمرو بن حجر ملك كندة، وهو جد امرئ القيس) ( ) ويعود أصله إلى اليمن وقيل هو أشهر شعراء العرب ونظم الشعر وهو صغير ومطلع قصيدته هو :
قفا نَبكِ من ذِكرَى حَبيبٍ ومَنزِلِ … بسِقطِ اللّوَى بينَ الدَّخولِ فحَومَلِ( )
وعن جرير حينما سئل عن أمرى القيس بن حجر قال (اتخذ الخبيث الشعر نعلين يطؤهما كيف يشاء) ( ).
وكان أكثر الناس رواية لشعر أمرى القيس وذكر أخباره الفرزدق ، إذ رأى أمرئ القيس من أبيه جفوة وإعراضاً ، فلحق بعمه شرحبيل بن الحارث ، وكان مسترضعاً في رهط الفرزدق بني دارم ، فسكن عندهم وإشتهر أمرى القيس بوصف الخيل , وكان على دين الوثنية , والمسلم الذي لم يقل الشعر ولم يعرف قواعد اللغة أفضل وأكرم من أمرئ القيس لأن المسلم يصبح ويمس يقرأ القرآن ، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
الثانية : معلقة طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن عدنان وقيل أصله من البحرين أي من الإحساء والقطيف ، وعاش يتيماً في ضنك وأذى من أعمامه .
وفي الثناء على شعره قيل أن طرفة بلغ مع صغر سنه ما أدركه القوم في طول أعمارهم ومطلع معلقته هو :
لِخَولَةَ أَطْلاَلٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ، … تَلُوُح كباقي الوَشْمِ في ظاهرِ اليَدِ( )
الثالثة : معلقة زهير بن أبي سلمى وإمتاز شعره بالحكمة وله في أطراف مدينة يثرب ، ومطلع معلقته هو :
أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لم تَكلّمِ ….. بِحَوْمَانَةِ الدّرَاجِ فالمُتَثَلَّمِ( )
الرابعة : معلقة لبيد بن ربيعة بن مالك العامري ، وهو من قبيلة هوازن ، ومن أهل نجد أدرك الإسلام وأسلم وسكن الكوفة ، ومطلع معلقته هو :
عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّها فَمُقَامُها … بِمنىً تَأَبّدَ غَوْلُها فَرِجَامُهَا( )
الخامسة : معلقة عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب ، ولد في شمال الجزيرة العربية في بلاد ربيعة ، وسافر إلى العراق والشام ، وأمه ليلى بنت مهلهل أخي كليب ، وحين ولادتها أمر أبوها إمرأته هند أن تقتلها ، ولكنها أمرت خادماً لها أن تغيبها عنه ، وقيل (فلما نام هتف هاتف يقول:
كم من فتى يؤمل … وسيد شمردل
وعدةٍ لا تجهل … في بطن بنت مهلهل
واستيقظ فقال: يا هند أين بنتي؟ قالت: قتلتها. قال: كلا وإله ربيعة! فكان أول من حلف بها فاصدقيني، فأخبرته. فقال: أحسني غداءها. فتزوجها كلثوم بن مالك بن عتاب. فلما حملت بعمرو بم كلثوم قالت: إنه أتاني آتٍ في المنام فقال:
يا لك ليلى من ولد … يقدم إقدام الأسد
من جشمٍ فيه العدد … أقول قيلاً لا قند
فولدت غلاماً فسمته عمراً. فلما أتت عليه سنة قالت أتاني ذلك الآتي في الليل أعرفه، فأشار إلى الصبي وقال:
إني زعيم لك أم عمرو … بماجد الجد كريم النجر
أشجع من ذي لبدٍ هزبر … وقاص أقرانٍ شديد الأسر
يسودهم في خمسةٍ وعشر) ( ).
ولا دليل على هذه الأخبار وتعدد توالي رؤيا البشارة هذه في قوم من أهل الجاهلية ، وفيها نوع مبالغة .
نعم لقد جعل الله عز وجل الرؤيا بشارات وإنذارات لتكون موعظة وعبرة ودرساً ، ولا تختص هذه الرؤيا بالمؤمنين ، فقد تكون مقدمة للتوبة والإيمان والصلاح ، وكل من رؤيا البشارة والإنذار حجة على صاحبها ، وقد تكون حجة على غيره ممن يسمعها أو يطلع على مصداقها الواقعي ، وهي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وقيل (لما حضرت عمرو بن كلثومٍ الوفاة وقد أتت عليه خمسون ومائة سنة، جمع بنيه فقال: يا بني، قد بلغت من العمر ما لم يبلغه أحد من آبائي، ولا بد أن ينزل بي ما نزل بهم من الموت. وإني والله ما عيرت أحداً بشيء إلا عيرت بمثله، إن كان حقاً فحقاً، وإن كان باطلاً فباطلاً. ومن سَب سُب؛ فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لكم، وأحسنوا جواركم يحسن ثناؤكم، وامنعوا من ضيم الغريب؛ فرب رجلٍ خير من ألف، ورد خير من خلف. وإذا حُدثتم فعوا، وإذا حَدثتم فأوجزوا؛ فإن مع الإكثار تكون الأهذار . وأشجع القوم العطوف بعد الكر، كما أن أكرم المنايا القتل.
ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب ، ولا من إذا عوتب لم يعتب . ومن الناس من لا يرجى خيره ، ولا يخاف شره ؛ فبكؤه خير من دره، وعقوقه خير من بره . ولا تتزوجوا في حيكم فإنه يؤدي إلى قبيح البغض) ( ).
ومات عمرو بن كلثوم في سنة 584 م قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومطلع معلقته :
أَلاَ هُبّي بِصَحْنِكِ، فَاصبَحينا، … وَلاَ تُبقي خُمُورَ الأندَرِينَا ( )
السادسة : معلقة عنترة بن شداد العبسي ، ( قال ابن الكلبي: شدادٌ جده أبو أبيه، غلب على اسم أبيه فنسب إليه، وإنما هو عنترة بن عمرو بن شداد، وقال غيره : شداد عمه، وكان عنترة نشأ في حجره، فنسب إليه دون أبيه.
وإنما ادعاه أبوه بعد الكبر، وذلك أنه كان لأمةٍ سوداء يقال لها زبيبةٌ، وكانت العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولدٌ من أمة استعبده، وكان لعنترة إخوةٌ من أمه عبيدٌ، وكان سبب ادعاء أبي عنترة إياه أن بعض أحياء العرب أغاروا على قوم من بني عبس، فأصابوا منهم، فتبعهم العبسيون، فلحقوهم فقاتلوهم عما معهم: وعنترة فيهم، فقال له أبوه: كر يا عنترة! فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلاب والصر .
فقال : كر وأنت حرٌّ، فكر , وهو يقول:
كُلُّ امْرِىءٍ يَحْمِى حِرَهْ … أَسْوَدَهُ وأَحْمَرَهْ
والوارِدَاتِ مِشْفَرَهْ
وقاتل يومئذ فأبلي، واستنقذ ما كان بأيدي عدوهم من الغنيمة فادعاه أبوه بعد ذلك، وألحق به نسبه) ( ).
ويجمع عنترة بين شعر الفروسية والغزل ذي الحشمة ، ولد بمنطقة القصيم ، ويبدو أن بعض القبائل في الجاهلية تلحق ابن الأمة بأمه ، أما في الإسلام فان الولد يلحق بأشرف الأبوين ، فاذا كان أحدهما سواء الأب أو الأم حراً يلحق به .
وحضر عنترة حرب داحس والغبراء ، فأبلى بها ، ولم يكن يقول الشعر ، ولكن شتمه رجل من عبس وعيّره بسواده أخوته وسواد أمه وبأنه لا يحسن قول الشعر :
(فقال له عنترة: والله إن الناس ليترافدون بالطعمة، فما حضرت مرفد الناس أنت ولا أبوك ولا جدك قط، وإن الناس ليدعون في الغارات فيعرفون بتسويمهم، فما رأيناك في خيلٍ مغيرة في أوائل الناس قط، وإن اللبس ليكون بيننا، فما حضرت أنت ولا أبوك ولا جدك خطة فيصل، وإنما أنت فقعٌ نبت بقرقرٍ، وإني لأحتضر البأس، وأوفى المغنم، وأعف عن المسألة، وأجود بما ملكت يدي، وأفصل الخطة الصمعاء، وأما الشعر فستعلم، فكان أول ما قال قصيدةً:
هَلْ غَادَرَ الشّعراءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ؟ … أَمْ هَلْ عَرَفتَ الدّارَ بَعدَ تَوَهّمِ
وهي أجود شعره، وكانوا يسمونها المذهبة.) ( ).
السابعة : معلقة الحارث بن حلزة اليشكري وأصله من العراق من قبيلة بكر بن وائل , ويضرب به المثل في الفخر بقومه , وتوفي سنة (580) م , ومطلع معلقته:
آذَنَتْنا بِيَيْنِها أَسماءُ … رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثَّوَاءُ( )
ومن إعجاز القرآن أنه حفظ قصائد العرب من جهات :
الأولى : تجلي علوم البلاغة في القرآن وآياته .
الثانية : عناية العرب والمسلمين عموماً بعلوم اللغة العربية وبلاغتها ، ومن أهم ضروب البلاغة الشعر العربي .
الثالثة : تحسن الحالة المعيشية للمسلمين ، وتوجههم لدراسة فنون الأدب والقصة ، وصيرورتها مقدمة أو رشحة من علوم القرآن .
الرابعة : بيان رجحان الآية القرآنية ، وتخلف موازين الشعر عن بلاغة القرآن وعلومه .
ومن الشعراء الذين دخلوا الإسلام مَن هجر الشعر , وبهرته بلاغة القرآن ، وكل آية من القرآن تعلق في القلوب والمنتديات وتؤلف فيها المجلدات ، ويستمر فيها التحقيق والدراسة إلى يوم القيامة .
نعم , ورد في حلف خزاعة لعبد المطلب , وكان سببه أن نفراً من خزاعة (قالوا فيما بينهم: والله ما رأينا في هذا الورى أحداً أحسن وجهاً ولا أتم خلقاً ولا أعظم حلماً من عبد المطلب وقد ظلمه عمه حتى إستنصر أخواله، وقد ولدناه كما ولده بنو النجار فلو أنا بذلنا له نصرتنا وحلفناه فأجمع رأيهم على ذلك فأتوا عبد المطلب فقالوا: يا أبا الحارث! إن كان بنو النجار ولدوك فقد ولدناك ونحن بعد وأنت متجاورون في الدار فهلم فلنحالفك! فأجابهم .
فأقبل بديل أبو ورقاء بن بديل العدوي , وسفيان بن عمرو وأبو بشر القميري , وهاجر بن عمير بن عبد العزى القميري وهاجر بن عبد مناف بن ضاطر , وعبد العزى بن قطن المصطلقي وخلف بن أسعد الملحي وعمرو بن مالك بن مؤمل الحبتري في جماعة من قومهم، فدخلوا دار الندوة فكتبوا بينهم كتاباً، وأقبل عبد المطلب في سبعة نفر من بني المطلب , والأرقم بن نضلة بن هاشم وكان من رجال قريش , والضحاك وعمرو ابنا صيفي بن هاشم .
ولم يحضره أحد من بني عبد شمس ولا نوفل لليد التي منهم، وعلقوا الكتاب في الكعبة، فقال هاجر حين بعثوا عبد المطلب: والله لئن قلتم ذلك لقد رأيت رؤيا بيثرب ليكونن لولده شأن! .
قالوا: وما رأيت ؟ قال: رأيت كأن بني عبد المطلب يمشون فوق رؤوس نخل يثرب ويطرحون التمر إلى الناس، فليكون لهم شأن وليكون ذلك من يثرب؛ قال هاجر فقلت: والله ما لعبد المطلب إلا غلام يقال له الحارث! قال: فحالفوه، وتزوج عبد المطلب يومئذ لبنى بنت هاجر بن ضاطر فولدت له أبا لهب، وتزوج ممنعة بنت عمرو بن مالك بن مؤمل الحبتري فولدت له الغيداق، قال: وكتبوا كتاباً كتبه لهم أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة، وكان بنو زهرة يكرمون عبد المطلب لصهره فكان الكتاب: هذا ما تحالف عليه عبد المطلب ورجالات بني عمرو من خزاعة ومن معهم من أسلم ومالك، تحالفوا على التناصر والمؤاساة حلفاً جامعاً غير مفرق الأشياخ على الأشياخ والأصاغر على الأكابر والشاهد على الغائب، تعاهدوا وتعاقدوا ما شرقت الشمس على ثبير، وما حن بفلاة بعير .
وما قام الأخشبان وما عمر بمكة إنسان، حلف أبد لطول أمد، يزيده طلوع الشمس شداً وظلم الليل مداً، عقده عبد المطلب بن هاشم ورجال بني عمرو، فصاروا يدا دون بني النضر، فعلى عبد المطلب النصرة لهم على كل طالب وتر ف يبر أو بحر أو سهل أو وعر، وعلى بني عمرو النصرة لعبد المطلب وولده على جميع العرب في الشرق أو الغرب أو الحزن أو الهسب، وجعلوا الله على ذلك كفيلاً , وكفى بالله حميلا، ثم علقوا الكتاب في الكعبة، فقال عبد المطلب : من الطويل
سأوصي زبيراً إن توافت منيتي … بامساك ما بيني وبين بني عمرو
وأن يحفظ الحلف الذي شيخه … ولا يلحدن فيه بظلم ولا غدر
هم حفظوا الإل القديم وحالفوا .. أباك فكانوا دون قومك من فهر.
قال: وأوصى عبد المطلب إلى ابنه الزبير، وأوصى الزبير إلى أبي طالب , وأوصى أبو طالب إلى العباس، وفي تصديق ذلك قول عمرو بن سالم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أغارت عليهم بنو بكر فقتلوا من قتلوا من خزاعة: الرجز
لا هم إني ناشد محمداً … حلف أبينا وأبيه الأتلدا
إنا ولدناه فكان ولدا … ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا) ( ).
نعم ورد خبر تعليق الصحيفة التي إجتمعت وتوافقت فيها قريش على مقاطعة وحصار بني هاشم في جوف الكعبة ، لبيان أن ما يعلق في الكعبة هي الأمور ذات الشأن والأهمية في حياة الناس ، ومنها العهود والمواثيق العامة والصلح بين القبائل ، ولكن وثيقة قريش ضد بني هاشم كانت أمراً نادر الحدوث ، إذ رأى الملأ من قريش كثرة الذين يدخلون الإسلام وميلهم إلى الإجهار بالقرآن .
قانون توالي تجليات الآية القرآنية
من إعجاز القرآن الغيري إمتناعه عن الحبس في الصدور ، لذا لا تشمله حتى موارد التقية إلا على نحو السالبة الجزئية ، كما في قوله تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ) .
وكانت قريش تجتمع في دار الندوة التي أنشأها قصي بن كلاب بن مرة بن كعب وهو جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لتدور الأيام فيتخذها كفار قريش محلاً للفتنة والمكر خاصة بعد سماع أنباء إتساع الإسلام وأخبار دخول حمزة وغيره في الإسلام ، وعزم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على عدم ترك الرسالة وأمانة السماء ، وتأييد ونصرة بني هاشم له ومنهم من كان يؤيده باليد كأبي طالب ، ومنهم باللسان ، ومنهم بالقلب باستثناء أبي لهب , الذي كان مع الذين كفروا .
فتعاقدت قريش ضد(بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِبِ وَبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْ لَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُكَلّمُوهُمْ وَلَا يُجَالِسُوهُمْ حَتّى يُسَلّمُوا إلَيْهِمْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَكَتَبُوا بِذَلِكَ صَحِيفَةً وَعَلّقُوهَا فِي سَقْفِ الْكَعْبَةِ) ( ).
وأختلف في الذي كتبها على وجوه :
الأول : منصور بن عكرمة .
الثاني : النضر بن الحارث .
الثالث : بغيض بن عامر بن هاشم .
والأخير دعا عليه رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم فشلت يده , وإنتقل بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى شعب أبي طالب ويقع خارج مكة في جبل أبي قبيس ، وهو أحد الجبال المحيطة بمكة آنذاك قبل التوسعات المتعددة ، ويطل هذا الجبل على البيت من جهة جبل الصفا ، قال تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا] ( ) .
وكانوا لا يخرجون من الشعب إلا في الأشهر الحرم وحتى لو خرجوا فيها فان كفار قريش يحولون دون نزولهم بالمؤن والطعام ، ويمنعونهم من مزاولة التجارة مع أن الله عز وجل جعلها باباً كريماً لرزق قريش عامة بقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
وتبين الآية أعلاه أن علة نجاة قريش هي العبادة لبيان الشرف العظيم الذي فازت به قريش على نحو الخصوص ، فقد خلق الله عز وجل الناس جميعاً للعبادة بقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، وخص قريش بنعمة قوافل التجارة في الشتاء من مكة إلى اليمن، ورحلة الصيف من مكة إلى الشام وبالعكس , وأحياناً تكون هذه الرحلات بين الشام واليمن خاصة عند نشوء القتال بين دولة الروم ودولة الفرس.
قانون نداء الإيمان عبادة
يمكن إنشاء قانون، وهو أن العبادة كعلة تنقسم إلى أقسام:
الأول : العلة الغائية العامة، وما به الوجود، فصحيح أن وجود الإنسان بمشيئة وفضل الله عز وجل ، ولا يقدر على هذا الوجود إلا هو سبحانه، فقد تفضل وأخبر بأن العبادة غاية في خلق الناس مع غنى الله عز وجل عنهم وعن عبادتهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ]( ).
فمن رحمته تعالى أنه جعل الناس محتاجين لهذا العبادة من جهات :
الأولى : الحاجة في الدنيا ، إذ أن عبادة الناس لله سبب الرزق الكريم، وهي باب لصرف البلاء العام والخاص عنهم، إذ تستمر النعم على أصحابها بالعبادة، ويفتح الله عز وجل مراتب سامية منها، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( )، ليكون تقدير قوله تعالى بخصوص قريش[فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( )، على أقسام منها:
أولاً : فليعبدوا رب هذا البيت شكراً لله سبحانه الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) ومن ضمن أمن قريش من الخوف سلامة قوافلهم التي تجوب الصحراء والبراري من النهب والسلب.
ثانياً : فليعبدوا رب هذا البيت ليديم عليهم نعمة الإطعام والأمن، وهما من أعظم النعم , ويأتي الإطعام في المقام جامعاً لوفرة الطعام والعافية والسلامة من الأدران، كما في قوله تعالى في عيسى وأمه مريم عليهما السلام[كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ]( )، لبيان حاجة كل منهما إلى الطعام والشراب .
ومع أن الغاية الجلية من الآية هي نفي صفة الإلوهية عنهما، فانها تبين أن أكل الطعام نعمة عظمى على الإنسان ، ومناسبة لشكر الله عز وجل .
ثالثاً : عبادة الناس لله واجب ، فلتعبد قريش الله سبحانه .
ولم يرد لفظ [فَلْيَعْبُدُوا] إلا في سورة قريش لبيان إشعاع الإيمان من مكة , ووجوب تعاهد ذرية الإيمان من مكة ووجوب تعاهد ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام , ومجاوري البيت الحرام للعبادة وقيامهم بأداء المناسك .
ومن الآيات أن عمل قريش بالتجارة، وتسيير القوافل إلى الشام واليمن وغيرها مناسبة لنشر لواء التوحيد ونقل البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم باظهار التأييد والنصرة لها ولكن قريشاً أصرت على الكفر ، ولم يمنع إصرارهم هذا من سيادة أحكام الإسلام ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ] ( ).
رابعاً : أهلك الله عز وجل أصحاب الفيل لتعبد قريش الله عز وجل ، ومن الإعجاز في نظم الآيات إبتداء سورة قريش بلام التعليل لبيان صلتها الموضوعية مع السورة التي قبلها ، وهي سورة الفيل , لتأكيد إنتفاء إستقلال كل سورة في معناها ، لأن الظن بهذا الإستقلال يفوت على المسلمين والناس كنوزاً من العلم .
وسورة قريش هي السورة الوحيدة في القرآن التي تبدأ بلام الغاية لتأكيد قانون الصلة بين سور القرآن ، وإحتمال الصلة الغائية والسببية والإتحاد في الموضوع أو الحكم بين السورتين من القرآن ، ولا يقف الأمر بخصوص السور المتجاورة .
وفي إبتداء السورة بلام التعليل دعوة للتدبر في السورة السابقة وإستحضارها وقصتها في الوجود الذهني ، فلقد كان هلاك أبرهة وجنوده معجزة حسية جلية .
وعن قتادة قوله ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ) أقبل أبرهة الأشرم من الحبشة يوما ومن معه من عتاة أهل اليمن، إلى بيت الله ليهدمه من أجل بيعة لهم أصابها العرب بأرض اليمن، فأقبلوا بفيلهم، حتى إذا كانوا بالصَّفَّاح برك ; فكانوا إذا وجَّهوه إلى بيت الله ألقى بجرانه على الأرض، وإذا وجهوه إلى بلدهم انطلق وله هرولة، حتى إذا كان بنخلة اليمانية بعث الله عليهم طيرا بيضا أبابيل. والأبابيل: الكثيرة، مع كلّ طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره، فجعلت ترميهم بها حتى جعلهم الله عزّ وجلّ كعصف مأكول; قال: فنجا أبو يكسوم وهو أبرهة، فجعل كلما قدم أرضا تساقط بعض لحمه، حتى أتى قومه، فأخبرهم الخبر ثم هلك) ( ).
وقيل في الآية تقديم وتأخير وتقدير الآية : فليعبدوا رب هذه البيت الذي أطعمهم من جوعها وأمنهم من خوف لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف ) وهو بعيد إذ تبين هذه السورة تعدد النعم على قريش من أجل قيامهم بعبادة الله ، وتعاهدهم لسنن التوحيد لأنهم جيران البيت وأولى الناس بحفظه وتعاهد المناسك .
خامساً : فليعبدوا رب هذه البيت بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم شكراً لله عز وجل ولدوام النعم .
الثانية : حاجة الناس في عالم البرزخ لعبادتهم الله في الدنيا والبرزخ لغة هو الحاجز بين الشيئين ، قال تعالى [ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ] ( )عالم القبر وهو عالم وسط بين الدنيا ويوم النشور ، ويبدأ عالم البرزخ من حين موت الإنسان ومغادرة روحه الجسد سواء دفن في الأرض أم لم يدفن ، ولكن لم يذكر القبر في المقام ورد التنزيل بدفن الميت .
ومن الإعجاز إقتران الدفن بأول قتل في الأرض ، عندما قتل قابيل ابن آدم أخاه هابيل ، قال تعالى [فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ]( ).
وعن ابن عباس قال (مكث يحمل أخاه في جِرابٍ على رقبته سنًة، حتى بعث الله جل وعز الغُرَابين، فرآهما يبحثان، فقال: أعجزتُ أن أكون مثل هذا الغراب”؟ فدفن أخاه) ( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (البرزخ : القبر ، وهو الثواب بين الدنيا والآخرة ).
ويكون عالم البرزخ محلاً للحساب الإبتدائي ، فيأتي منكر ونكير للميت ويقصدانه ويسألانه ، فان كان مؤمناً صالحاً أكرم ، وإن كان كافراً فاعلاً للسيئات تلقى الضرب الذي يكون مقدمة للعذاب الأليم في الآخرة .
وقد ورد بخصوص آل فرعون وحالهم في البرزخ بقوله تعالى [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ]( ).
ومن أبهى معاني العبادة الصبر وأداء الصلاة والجهاد في سبيل الله لذا نزل القرآن باكرام الشهداء في عالم البرزخ والآخرة مطلقاً ، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
الثالثة : حاجة الإنسان في مواطن النشور ويوم القيامة لعبادته لله عز وجل في الحياة الدنيا دقائق معدودة في كل يوم يقضيها الإنسان في عبادة الله عز وجل في كل يوم من أيام الحياة الدنيا تورثه السعادة الأبدية ، لتكون العبادة أعظم نعمة من الله على الإنسان , وليس من حصر لمنافعها وهي خير محض .
ومن الآيات في خلق الإنسان أن أشد ما يكون محتاجاً في مواطن الآخرة وأهوالها ، فتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء مبشرين بالثواب العظيم للمؤمنين في الآخرة ، ومنذرين من الجحود بالربوبية والنبوة والتنزيل ، والصدود عن العبادة والتكاليف ، قال تعالى [يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ]( ) .
كأن الإنسان يفر لعمله وعبادته التي تكون له واقية ، وبها يستطيع الشفاعة لهؤلاء الذين فر وإنهزم منهم ليكون هناك تباين بين المؤمن والكافر يوم القيامة، فالمؤمن يفر رجاء الأمن ليشفع لذويه بينما يفر الكافر من ذويه لإيذائه لهم بكثرة ذنوبه وسوء الفواحش التي إرتكبها .
(عن سودة بنت زمعة قالت : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يبعث الناس حفة عراة غرلاً قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان ، قلت يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ قال : شغل الناس عن ذلك ، وتلا { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه } ) ( ).
وتبين الأحاديث أعلاه أن أمهات المسلمين يسألن عن هذه الآية ومن ورائهن المؤمنات جميعاً ، لما فيها من أسباب الفزع والحياء وقلة الستر وهن ذوات العفة ، فجاء البيان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشدة هول يوم القيامة وإنشغال كل إنسان بنفسه وموت الشهوة والرغبة عند الإنسان في بصره أو تصوره الذهني أو بدنه .
لقد فرض رؤساء الكفر من قريش الحصار على أهل البيت في شعب أبي طالب ليكون حجة على هؤلاء الرؤساء ومن والاهم وأيدهم ، ولم يعلموا أنه دعوة للناس لدخول الإسلام .
ومن أسباب هذه الدعوة صبر أهل البيت في نصرة النبوة والتنزيل ، وقد أكرمهم الله في القرآن بقوله تعالى [قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى]( ).
ولما كانت [ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ] ( ) والقرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) فقد تفضل الله عز وجل وجعل كل آية من القرآن صراطاً مستقيماً في الدنيا ووسيلة للعبور على الصراط الأخروي يوم القيامة.
ويتجلى تذكير الآية القرآنية بعالم الآخرة من جهات :
الأولى : إخبار الآية القرآنية بأنها كلام الله عز وجل وحبل ممتد من السماء إلى الأرض .
الثانية : بعث الآية القرآنية المسلمين على العبادة ، وإتخاذها حرزاً يوم القيامة .
الثالثة : بيان الآية القرآنية لقانون من الإرادة التكوينية ، وهو أن الدنيا دار زوال .
الرابعة : إنقطاع الحياة الدنيا بالموت تعضيد للآية القرآنية في بشاراتها وإنذارتها ، وكذا فان الآية القرآنية تعضيد ودعوة للإنسان للإستعداد للموت ، وقد يقال إنما هي عوض للمسلم على نحو الخصوص .
الجواب من خصائص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها في بشارتها وإنذاراتها عامة للناس ، قال سبحانه [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ).
وتقدير الآية في المقام : بشيراً للمؤمنين بما بعد الموت ، وتذكيراً للكافرين بما بعد الموت .
والمختار أن هذا الإحتجاج والإستفهام ليس إنكارياً فهم لا يردون على الله ، ولكنهم سألوا الله عز وجل أن يتفضل على الناس جميعاً بالتنزه والسلامة من الفساد ومن سفك الدماء لتكون الدنيا مرآة للجنة ، وليفوزوا جميعاً بدخول الجنة ، وتبقى النار سالبة بانتفاء الموضوع والأهل والسكان ، فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وليس من حصر لمضامين الآية أعلاه ، وهي متجددة في كل لحظة وساعة من ساعات الحياة الدنيا والآخرة ، ولا يستثنى منها إنسان حياً أو ميتاً , موجوداً أو معدوماً ، ومن علم الله عز وجل نزول كل آية من آيات القرآن، ودعوتها الناس جميعاً إلى الإستعداد لعالم الآخرة .
وتحتمل هذه الدعوة كماً وكيفاً وجوهاً :
الأول :هذه الدعوة من الكلي المتواطئ إلى جميع الناس مؤمنين وأهل كتاب وكفاراً .
الثاني : هذه الدعوة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، وهذا التباين على جهات :
الأولى : التباين بين أفراد الناس .
الثانية : موضوعية فضل الله عز وجل على عباده .
الثالثة : إكرام الله عز وجل للمؤمنين بتوالي تذكيرهم بعالم الحساب .
الرابعة : علم الله عز وجل بالسرائر وما تخفيه الصدور من العزم على السعي للآخرة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] ( ).
الخامسة : لحاظ الإيمان أو ضده في هذه التباين ، وهو على وجوه :
أولاً : دعوة المؤمنين للإستعداد للآخرة أكثر وأظهر من دعوة غيرهم من إختيار الكفر والصدود والعناد .
ثانياً : دعوة الذين كفروا للإستعداد للآخرة أكثر من دعوة المؤمنين لأن المؤمنين أدركوا وظائفهم وصاروا يبذلون الوسع في إدخار الحسنات ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
ثالثاً : تعلق ومقدار الدعوة بذات الشخص , فكما يختلف الناس في الحامض النووي والبصمة فان الدعوة التي تأتي لأي إنسان تختلف عن غيرها والضابطة هو فضل الله على العباد , بما يجذبهم للإيمان.
رابعاً : المدار على لطف الله عز وجل بالعبد وفضله عليه .
خامساً : تعلق دعوة الآية القرآنية إلى الآخرة بمضامينها القدسية وذكرها للآخرة وسبل السعي إليها منطوقاً أو مفهوماً .
الثالث : إرادة التفصيل ، فمرة تكون الدعوة إلى الآخرة على مرتبة وعرض واحد , وأخرى على مراتب متفاوتة .
والمختار أن دعوة الآية القرآنية للآخرة من الكلي المتواطئ ، ولكن تلقي الناس لها من الكلي المشكك الذي يكون بمراتب متباينة قوة وضعفاً ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
أولاً : أن هذا القرآن يهدي الناس جميعاً للتي هي أقوم .
ثانياً : إن هذا القرآن يهدي الذين يؤمنون بأنه كلام الله للتي هي أقوم).
ثالثاً : إن هذا القرآن يهدي التائبين للتي هي أقوم ، ومن مصاديق التوبة الإستعداد للآخرة ،والتجهز لها بالعمل الصالح .
وتأتي القوانين الوضعية بالتخويف والوعيد وأحكام السجن والعقوبات المغلظة ، بينما إبتدأت آية البحث بنداء الإيمان الذي يفيد الثناء والإكرام ثم تعقبه النهي عن أكل مال الربا ، ويحتمل هذا التعاقب في دلالته وجوهاً :
الأول : إختصاص المسلمين بالنهي عن الربا ، بلحاظ أن هذه النهي فضل من عند الله عز وجل .
الثاني : لا يقدر على السلامة والإحتراز من الربا إلا المسلمون .
الثالث : بيان قانون وهو الملازمة بين الإيمان والإمتناع عن أكل المال الربوي ، وتقدير الآية : ما دمتم آمنتم بالله ورسوله واليوم الآخر فيجب أن تجتنبوا الربا .
الرابع : تفيد آية البحث نهي الناس جميعاً عن أكل الربا وذكر خصوص المسلمين لجهات :
الأولى : تأكيد إمامة المسلمين للناس في الصالحات .
الثانية : إقامة الحجة على الناس بأنه لا يقدر على التقيد بأحكام الحلال والحرام إلا الذين آمنوا بالله ورسوله .
الثالثة : دعوة الناس للتدبر في تنزه المسلمين عن أكل المال الربوي .
الرابعة : ترغيب الناس بالإسلام .
الخامسة : النهي عن الربا من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )من وجوه :
الأول : تآزر وتعاون المسلمين في إجتناب المحرمات ، قال تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا] ( ).
الثاني : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب المعاملات .
الثالث : منع الغضاضة والعداوة بين المسلمين بسبب عقد الربا في حال حصوله ، فحينما أخبر الله عز وجل عن أخوة المسلمين فانه تعالى أصلحهم لهذه الأخوة في العبادات والمعاملات ، لتتجلى الأخوة الإيمانية في آية البحث من وجوه :
أولاً : إبتداء الآية بنداء الإيمان .
ثانياً : إستقراء نداء الإيمان لجميع المسلمين كأمة واحدة ، فمن الإعجاز في نداء الإيمان مخاطبته المسلمين والمسلمات مجتمعين ، والجامع بينهم هو الإيمان بالله ورسوله والملائكة واليوم الآخر ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ] ( ).
وهل إقراض المؤمن لأخيه في الإيمان من غير فائدة ربوية من الجهاد في الأموال ، الجواب نعم من وجوه :
1- قضاء حاجة المؤمن
2- إعانة المؤمن في أداء الفرائض والواجبات ، وقد ذكر الفقهاء أنه لا يجوز الإقتراض لأداء فريضة الحج ، لأنه مشروط بالإستطاعة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).والمختار إستحباب الإستدانة لأداء الحج الواجب إذا إجتمعت الشرائط الأخرى كخروج الاسم في القرعة .
وفي رسالتنا العملية (مناسك الحج)وردت :
(المسألة 48 ) : في هذا الزمان يتم الحج عن طريق القرعة والإختيار، ولو ظهر اسم شخص مسلم ضمن وفد الحاج ولم يكن مستطيعاً، وإستلزم الأمر الإستدانة يستحب له الإستدانة والإقتراض مع أدنى إحتمال لإمكان الوفاء في الأجل، لأن خروج إسمه في وفد الحاج بالقرعة ونحوها قد لا يتحصل عندما تكون عنده إستطاعة، ولأن الله سبحانه الواسع الكريم، ولإرادة تعظيم شعائر الله.
3- إرادة قصد القربة في إقراض المؤمن ، وفيه الأجر والثواب .
4- تسخير المال الخاص لإعانة المؤمنين .
5- الصبر على المؤمن في قضاء الدَين ، سواء بانتظار حلول ذات الأجل المتفق عليه ، أو عند الإمهال في حال العسرة والضيق .
ثالثاً : تعاون وتعاضد المسلمين للعمل بمضامين الآيات التي تبدأ بنداء الإيمان ، والآيات المعطوفة عليها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] ( ) .
رابعاً : قيام المسلمين بتلاوة آية البحث وما فيها من النهي عن الربا في الصلاة وخارجها ، لتكون هذه التلاوة من مصاديق الرحمة في قوله تعالى [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] ( ) فقد تميل نفس صاحب المال إلى الربح الربوي خاصة مع الطلب والسؤال من الطرف الآخر المحتاج ورضاه بالشرط الربوي .
فتأتي آية البحث لتكون من مصاديق الرحمة في الآية أعلاه وقوله تعالى [إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي].
خامساً : من خصائص الأخوة الإيمانية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والسلامة من الربا من أبهى مواضيع الأمر والنهي وهو من معاني الحب في الله .
سادساً : إتصاف المسلمين بنفرة نفوسهم من الربا مجتمعين ومتفرقين ، وهو من رشحات إبتداء الآية بنداء الإيمان .
(عن أبى امامة ان رجلا قال يا رسول الله ائذن لي في السياحة فقال ان سياحة أمتى الجهاد في سبيل الله) ( ).
السادسة : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على النعم الواردة في آية البحث منها :
الأول : شكر المسلمين لله عز وجل على الهداية إلى الآيات ، وفي التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا] ( ).
الثاني : مناجاة المسلمين بالشكر لله عز وجل على تلقيهم نداء الإيمان .
الثالث : مجئ المدد والعون من عند الله عز وجل للمسلمين والمسلمات للتنزه عن أكل الربا ،فاذ يتفضل الله عز وجل وينزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معارك الإسلام الأولى ، فانه يتفضل ويحول بينهم وبين أكل الربا ، وهل كان نزول الملائكة ببدر وأحد والخندق وصفين لمنع المسلمين من أكل الربا أم أن القدر المتيقن من نزولهم هو نصرة المسلمين على الذين كفروا في ميادين القتال ، الجواب هو الأول .
لذا ليس من حصر للغايات الحميدة في قوله تعالى بخصوص معركة بدر [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، وليكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : فأستجاب لكم ربكم أني ممدكم بألف من الملائكة لنصركم في بدر.
ثانياً : أني ممدكم بألف من الملائكة لتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتطيعوا الله ورسوله ، قال تعالى [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
ثالثاً : أني ممدكم بالف من الملائكة ليكونوا معكم ويصيرون برزخاً دون أكل الربا .
رابعاً : أني ممدكم بألف من الملائكة ليكونوا وسائط لصرف البلاء .
خامساً : أني ممدكم بألف من الملائكة لتشكروا الله عز وجل على نعمة المدد ومنافعه .
سادساً: أني ممدكم بألف من الملائكة لتشكروا الله عز وجل قال تعالى [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ] ( ).
ويدعو نداء الإيمان في آية البحث المسلمين إلى إحسان بعضهم لبعض من جهات :
الأولى : إتخاذ القرض وسيلة للتداين بينهم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ] ( ) لتكون هذه الكتابة شاهداً على تقيد المسلمين بمضامين آية البحث ، ووراثتهم لها للذراري والأجيال اللاحقة من المسلمين بالتنزه عن المعاملات الربوية ، فيعمل المسلمون في كل زمان بمضامين آية البحث ، وكأنها نازلة عليهم وفي زمانهم .
وتقدير الجمع بين آية البحث وآية الدَين أعلاه : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فأكتبوه ولا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة .
الثانية : بيان نداء الإيمان بذاته لحقيقة وهي إتصاف المسلمين والمسلمات بأعظم الخصال الحميدة وهي الإيمان وفيه بشارة بأن هذه الخصلة لا تغادرهم في الدنيا والآخرة لأصالة الإطلاق .
الثالثة : مناجاة المسلمين والمسلمات في الإمتثال لمضامين آية البحث والتنزه عن الربا والمعاملات الربوية .
الرابعة : إعانة المسلمين بعضهم لبعض في قضاء الحوائج بما يغنيهم عن الربا والقرض ذي الفائدة الربوية ، فلا تنحصر هذه الإعانة بالتداين فيما بينهم ، إذ تشمل النصح والصفح والإمهال في الدَين وتهيئة مقدمات العمل .
الخامسة : من الحقائق العقائدية أن كلاً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسنة وإحسان ، فهو حسن ونفع لفاعله وسامعه والعامل به ، وهو إحسان للمتلقي سواء كان منادى مقصوراً أو سامعاً أو متعظاً ، أو بلغته مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , لذا ورد الثناء على المسلمين ونيلهم مرتبة خير أمة بفضل الله عليهم بالأمر والنهي , كما في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] ( ).
السادسة : من أسرار التكاليف في الدنيا أنها باب لعمل الصالحات وإكتناز الحسنات ، والتنزه عن السيئات وما فيه الضرر على الإنسان في نفسه وماله , وفي دنياه وآخرته .
السابعة : ترغيب المسلمين بالإحسان ونشر أسباب المودة , وإعانة المحتاج والإقراض والإمهال فيه من غير طلب فائدة ربوية (قال لقمان عليه السلام لابنه : يا بني إياك والدَيْن فإنه ذُلُّ النهارِ هَمُّ الليلِ) ( ).
فجاءت آية البحث للتخفيف عن الوزر عن المؤمنين وتحط عنهم الأرباح الربوية وتبعثهم على التعاون في قضاء الدَين ، ومن الإعجاز في الشريعة جعل سهم للذين يعجزون عن قضاء ديونهم ، إذ لم تكن عن معصية ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
وعن عبد الله بن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من دل على خير كان له مثل أجر فاعله) ( ).
الثامنة : تنمية ملكة التنزه عن الظلم عند المسلمين والمسلمات ، والتفقه في الدين بمعرفة الملازمة بين الموضوع المنهي عنه وبين الظلم فاذا إرتكب الإنسان الفعل الذي ينهى الله ورسوله عنه فانه يظلم نفسه ويظلم غيره .
قانون كل آية قرآنية تنهى عن الظلم
الظلم لغة هو وضع الشيء في غير محله (والظُّلْمُ: أخذُكَ حقَّ غَيْرك.
والظُّلامةُ: مَظْلَمتُكَ تطلُبُها عند الظّالم.
وظَلَّمتُه تظليماً إذا أنْبَأْتُه إنّه ظالم.
وظُلِمَ فلانٌ فاظَّلَمَ، أي احتَمَلَ الظُّلْم بطِيب نفسه، افتَعَلَ وقياسه اظتَلَم فشُدَّدَ وقُلِبَتْ التاءُ طاءً فأُدغِمَت الظاء في الطاء، وإن شِئْتَ غلَّبْتَ الظاء كما غَلَّبْتَ الطاء.
وإذا سُئِلَ السَّخِيُّ ما لا يجِدُ يقال هو مظلُومٌ، قال زهيرك
ويُظْلَمُ أحياناً فيَظَّلِمُ
أي يَحْتَمِل الظُّلْمَ كَرَماً لا قَهْراً.
وظُلِمَت الأرض: لم تُحْفَر قطُّ ثم حُفِرَتْ، قال النابغة: والنُّؤيُ كالحَوْض في المظلومة الجَلَدِ وظُلِمَتِ الناقَةُ: نُحِرَتْ من غير داءٍ ولا كِبَرٍ) ( ) .
والظلم في الإصطلاح مجاوزة الحق ، والتعدي منه إلى الباطل وهو نوع مفاعلة , وفيه أطراف :
الأول : الظالم , وهو الذي يقوم بفعل الظلم والتعدي .
الثاني : موضوع الظلم .
الثالث : المظلوم , الذي يقع عليه الظلم .
ويقسم الظلم إلى أقسام :
الأول : ظلم الإنسان نفسه , قال الله سبحانه[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الثاني : ظلم الإنسان لغيره من البشر ، كالإستحواذ على أموالهم والتعدي على الحرمات .
الثالث : ظلم الإنسان بينه وبين ربه ، وهو أشد أنواع الظلم ، ولا يختص بالشرك بالله ، الذي هو أكبر الكبائر بل يشمل إنكار بعض ضروريات الدين ، والتقصير عن عمد في أداء الوظائف العبادية ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
وقد ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ) والظلم فساد وخسران ، ولما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام ، تفضل وأخبر الملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فأكثر الملائكة هذه الخلافة مع قيام الإنسان بالفساد ، وأرادوا تنزه آدم وذريته من الشرك والفساد مع الإمتناع عن قتل النفس إلا بالحق .
فتفضل الله عز وجل وأخبرهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علم الله عز وجل إنزاله القرآن ، وصيرورة كل آية منه على وجوه :
الأول : الآية القرآنية بيان للقبح الذاتي والعرضي للظلم .
الثاني : تأكيد قانون وهو أن الشرك بالله والإفتراء عليه سبحانه هو أشد ضروب الظلم ، قال سبحانه [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ] ( ).
الثالث : بيان القرآن التباين والتضاد بين الإيمان والظلم فيدرك المسلم لزوم تنزهه عن الظلم ، وإبتعاده عن الإضرار بنفسه وغيره .
الرابع : تلاوة الآية القرآنية من مصاديق الدعاء وذات سنخيته لتكون هذه التلاوة على جهات :
الأولى : إنها شكوى إلى الله من الظلم .
الثانية : التلاوة سؤال للعصمة من الظلم .
الثالثة : تلاوة الآية القرآنية واقية من دعوة المظلوم ، بإجتناب الظلم والتعدي على حقوق الناس .
وعن ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن إنك ستأتي قوما اهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى ان يشهدوا ان لا إله الا الله وان محمدا رسول الله فان هم اطاعوا لك بذلك فاخبرهم ان الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة .
فان هم اطاعوا لك بذلك فاخبرهم ان الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من اغنيائهم فترد على فقرائهم فان هم اطاعوا لك بذلك فاياك وكرائم اموالهم واتق دعوة المظلوم فانه ليس بينه وبين الله حجاب) ( ).
ويدل هذا الحديث على جواز دعاء المظلوم على الذي ظلمه في موضوع وقدر الظلم ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان سعة رحمة الله ، وحضورها عند المظلوم .
الثانية : الدعاء سلاح جعله الله بيد كل إنسان , وفيه إقرار بالربوبية ,[ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثالثة : زجر الظالم عن ظلمه ودعوته للكف عن التعدي والجور .
الرابعة : تأكيد قانون أن ملك السموات والأرض لله عز وجل .
الخامسة : بيان تحقق الجزاء والعقاب في الدنيا إن شاء الله ، ولا يتعارض هذا الدعاء مع المناصحة والمصارحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المقام والدعوة إلى التوبة لأنصاف المظلوم من الظالم .
الخامس : تلاوة الآية القرآنية أمن وسلامة من غضب الله عز وجل على الظالمين ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] ( ).
السادس : من إعجاز القرآن الغيري أن تلاوة الآية القرآنية والعمل بمضامينها نجاة من العذاب يوم القيامة ، حيث يلقى الظالمون أشد أنواع العذاب .
وما دام موضوع هذا القانون هو نهي الآية القرآنية عن الظلم ترى كيف يكون هذا النهي ، الجواب من وجوه :
الأول : نزول الآية القرآنية من عند الله عز وجل زجر عن الظلم .
الثاني : بيان آيات القرآن لقانون وهو أن الظلم سوء وشر .
الثالث : ترغيب آيات القرآن بأداء الفرائض التي هي حرز من الظلم .
الرابع : حث آيات القرآن الناس على فعل الصالحات ، وهي سلامة من إرتكاب الظلم لعدم إجتماع الضدين .
الخامس : الآية القرآنية وتلاوتها النفرة من النفوس من الظلم والتعدي .
السادس : من خصائص الآية القرآنية أنها تتضمن مسائل :
الأولى : الآية القرآنية بشارة في منطوقها على العمل الصالح والإحسان للغير ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الثانية : دلالة الآية القرآنية في مفهومها على البشارة لمن إجتنب الظلم وإيذاء الناس ، كما في قوله تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا..] ( ) إذ تدل الآية في مفهومها على فوز الذي يتنزه عن الظلم والجور بالمغفرة والعفو .
الثالثة : مجئ الآية القرآنية بالإنذار وظهوره في منطوقها بما يبعث الخوف في النفوس من إرتكاب الظلم والجور .
الرابعة : إفادة الآية القرآنية في مفهومها ودلالاتها الإنذار والنهي عن الظلم والجور .
وتدل هذه المسائل مجتمعة ومتفرقة على صدق هذا القانون وهو أن كل آية تنهى عن الظلم والجور ، وهو من إعجاز القرآن الذاتي والغيري ، إن إحتراز المسلمين من الظلم وتجافيهم عن إيذاء الناس دعوة للناس جميعاً للهداية والصلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) إذ يتصف المسلمون بالإجتهاد في الإبتعاد عن الظلم ، ويدعون الناس إلى السلامة منه .
ومن مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( ) أمور :
الأول : لا يأتي الظلم للظالم برزق وكسب ونفع .
الثاني : إن الله عز وجل هو الذي يجبر ضرر المظلوم خاصة الذي يتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء ويسأله ، أو أنه تلقى الظلم بسبب إيمانه وصلاحه ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الثالث : يحول الله عز وجل بأسباب ومصاديق الرزق بين الظالم وإرتكاب الظلم توسعة أو تضييقاً سواء بالنسبة للظالم أو المراد وقوع الظلم عليه ، وهذا المعنى من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ] ( ) أي أن كل حصة من الرزق أو حجبها لا يكون إلا بمشيئة وحكمة من عند الله وتفضله بإصلاح المجتمعات والتقوى ، وجذب الناس للهدى والإيمان ، ومنعهم عن الظلم بالإنشغال بالنفس والمال .
الرابع : ترغيب الناس بالإبتعاد عن الظلم ، لأن هذا الإبتعاد نوع طريق للرزق الكريم ومقدمة للإستجابة للدعاء .
الخامس : بيان قانون وهو أن ظلم الظالم لا يحجب عن العباد رزقهم ، وما كتب الله عز وجل لهم من الخير والصحة وطول العمر .
عن سهل بن سعد الساعدي . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عباس « ألا أعلمك كلمات تنتفع بهن؟ قال : بلى يا رسول الله .
قال : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، جف القلم بما هو كائن .
فلو جهد العباد أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، ولو جهد العباد أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، فإن استطعت أن تعمل لله بصدق في اليقين فافعل ، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً ( ).
السادس : من معاني قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( ) حث المسلمين على الأمر بالعدل والإستقامة والنهي عن الظلم والجور .
وهل القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الرزق الذي يتفضل به الله عز وجل , الجواب نعم , كما يترشح الرزق الكريم عن هذا الأمر والنهي ولا يختص الرزق الكريم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمال وحده بل يشمل طول الأعمار، والسلامة من الآفات، والفوز بالثواب العظيم في الآخرة .
ليكون نداء الإيمان وسيلة وسبباً للرزق الكريم بالذات وبالواسطة .
الخامس : مجئ آيات القرآن بنداء الإيمان الذي يبعث في النفوس الخشية من عند الله ويدعو المسلمين للعمل بسنن الإيمان ومصاديق التقوى والصلاح .
ومن الإعجاز أن نداء الإيمان واقية من الظلم وإشاعته بين الناس من جهات :
الأولى : تفضل الله عز وجل بالنداء للمسلمين بصفة الإيمان حث لهم على التنزه عن الظلم .
الثانية : نداء الإيمان شهادة من عند الله عز وجل على عدم إتخاذ المسلمين مسلكاً ومنهاجاً .
الثالثة : تتضمن كل آية من آيات نداء الإيمان النهي عن الظلم سواء في منطوقها أو مفهومها .
الرابعة : نداء الإيمان سور الموجبة الكلية في الأمن من الظلم والتعدي لما فيه من إكرام للمسلمين بما هم مؤمنون يجتنبون الظلم .
وعن أنس بن مالك قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً ، فإنه ليس دونها حجاب) ( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال (لما حضرت علي بن الحسين عليهما السلام الوفاة ضمني إلى صدره , ثم قال: يا بني اوصيك بما أوصاني به أبي عليه السلام حين حضرته الوفاة ، وبما ذكره أن أباه أوصاه به ، فقال : يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله) ( ).
الخامسة : تتجلى منافع نداء الإيمان في الآخرة بالشفاعة للمسلم والشهادة له بالإمتناع عن الظلم .
وجاءت آيات القرآن بالنهي عن الظلم وبيان سوء عاقبته وشدة ضرره على صاحبه في الدنيا والآخرة والظلم برزخ دون شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخرج الطبري أن أبي أمامة قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صنفان من أمتي لن تنالهم شفاعتي . إمام ظلوم غشوم ، وكل غال مارق) ( ).
قانون نزول الملائكة في بدر مدد للمسلمين في أُحد
لقد بدأت دعوة النبي محمد صلى الله عليه في مكة المكرمة بضعف مع قلة الناصر ، وكثرة الأعداء وشدتهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، لبيان حقيقة بقياس الأولوية وهي إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى الضرر الشديد في مكة التي هي البيت الحرام ، ومواريث النبي إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وسكانها هم أهل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعشيرته منهم من يتصل به بالجد الأول أو الثاني أو الثالث وحتى السادس .
فكيف لو كانت بعثته في بلد آخر , ويحيط به الغرباء من الناس، الجواب إن لله عز وجل جنوداً لا يعلمها إلا هو ، وهو سبحانه لا تستعصي عليه مسألة ، وقد تجلى التضاد ، ونصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الغرباء بهجرته إلى المدينة المنورة ، وقيام الأوس والخزرج بايوائه وأهل بيته وعموم المهاجرين من قريش وغيرها ، كما قاموا بنصرته بأنفسهم وأموالهم .
وكان عدد جيش الذين كفروا من قريش والأحباش ومن والاهم ثلاثة آلاف رجل ، بينما خرج لهم من المدينة ألف رجل من المسلمين , وكان لمعركة بدر ونصر المسلمين فيها موضوعية في معركة أحد من جهات :
الأولى : رغبة المسلمين في قتال الذين كفروا ، وعدم التردد في قتالهم .
الثانية : صيرورة النصر للمسلمين حقيقة .
الثالثة : لجم أفواه المنافقين .
الرابعة : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
الخامسة : صد وإنذار الناس من إعانة كفار قريش في حربهم على الإسلام بالرجال والمال والسلاح .
السادسة : إستصحاب المسلمين النصر في معارك الإسلام اللاحقة بعد معركة بدر إذ أن الإستصحاب أمر عقلائي ، وتحتمل أسباب وشرائط نصر المسلمين في معركة أحد وجوهاً :
الأول : مقدمات وأسباب نصر المسلمين في معركة أحد كثيرة منها في معركة بدر .
الثاني : التساوي في الأسباب والشرائط بين أسباب وشرائط النصر في معركة بدر وأحد .
الثالث : مقدمات النصر في معركة بدر واحد أكثر , وأظهر منها في معركة أحد .
والصحيح هو الأول ، فلم تقع معركة كبرى للمسلمين قبل معركة بدر.
وينزل فيها الملائكة لنصرتهم , ويمن الله عليهم بالنصر ، ومن الآيات أن معركة بدر ذكرت في القرآن بالاسم ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
ولم يذكر اسم ( أحد ) في القرآن مع أن الآيات التي وردت بخصوص معركة أحد أكثر ، فان قلت إذا كانت أسباب ومقدمات نصر المسلمين في معركة أحد أكثر فلماذا إنتكس المسلمون وخسروا في المعركة ، قال تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( ) .
والجواب لقد أراد الله عز وجل إتعاظ المسلمين وإقتباسهم الدروس من معركة أحد وتحليهم بالصبر ، والتفقه في المعرفة الإلهية وبذل الوسع في سبيل الله ، وفي التنزيل [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ]( ).
السابعة : مناجاة المسلمين في الخروج للمعركة بشوق , وإنقياد لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامنة : سعي المسلمين للبطش بالذين كفروا بعد ثبوت المدد الملكوتي من عند الله للمسلمين في معركة بدر وأحد .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحرص وهو في طريقه إلى ميدان معركة بدر على إستشارة أصحابه والإكثار من الإستشارة في عدد المرات وتواليها , وفي توجهها للذوات والأشخاص على نحو العموم والخصوص ، وخصوص الخصوص .
إذ توجه لعامة المهاجرين والأنصار ثم قصد الأنصار خاصة ورؤساء الأوس والخزرج , وفيه آية في الإمامة والزعامة ودرس لأمراء المسلمين بأن لا ينفرد الأمير والقائد بقرار الحرب والقتال ، ثم أن المشورة تبين حال وقدرة جيش المسلمين ، وتفيد الإحاطة الإجمالية بقدرات جيش العدو .
ثم قال رسول الله صلى لله عليه وآله وسلم (أَشِيرُوا عَلَيّ أَيّهَا النّاسُ . وَإِنّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارُ ، وَذَلِكَ أَنّهُمْ عَدَدُ النّاسِ وَأَنّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعُقْبَةِ .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامِك حَتّى تَصِلَ إلَى دِيَارِنَا ، فَإِذَا وَصَلْت إلَيْنَا ، فَأَنْتَ فِي ذِمّتِنَا نَمْنَعُك مِمّا نَمْنَعُ مَعَهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا . فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَتَخَوّفُ أَلّا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نَصْرَهُ إلّا مِمّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوّهِ وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إلَى عَدُوّ مِنْ بِلَادِهِمْ) ( ).
ولو دار الأمر بين إرادة معنى العموم أو الخصوص من اللفظ ، فالأصل هو العموم إلا مع القرينة الصادقة ، لذا فالمختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد جميع أهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار ، كما أن نصرة وتأييد الأنصار كان مقيداًَ بالدفع والذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بلادهم ، فان المهاجرين لم يهاجروا للقتال والحرب إذ أن الأصل في هجرتهم هي هروبهم بدينهم من الذين كفروا ، كما في هجرة لوط عليه السلام [وَقَالَ إِنِّي مهاجر إِلَى رَبِّي] ( ).
نعم على كل من المهاجرين والأنصار الدفاع عن أنفسهم في المعركة وللأنصار خصوصية في المشورة ، ولكنه لا يتعارض مع إرادة وقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعامة أصحابه , وهو موافق لقاعدة نفي الحرج في الدين .
وقد تقدم أن مشورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه جزء وفرع من الوحي لأنها من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
ومما يقطع به الناس أن نزول الملائكة في معركة ما نصر للمسلمين في ذات المعركة , وورد بخصوص معركة بدر [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
وتجلى هذا النصر بخصوص معركة أحد من جهات :
الأولى : زيادة إيمان المسلمين ، قال تعالى في الثناء على القرآن [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( )وقد جاء القرآن بالإخبار عن نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر .
والمختار أن المدد الملكوتي في معركة بدر نصر للمسلمين في ميدان الوغي وخارجه إلى يوم القيامة .
الثانية : إستحالة المستحيل إذ كان الناس وخاصة المنافقين يظنون هزيمة المسلمين بلحاظ قلة عددهم والنقص في مؤنهم ورداءة سيوفهم وأسلحتهم ، حتى أن بعضهم كان يحمل جريدة نخل ، ليكون من الإعجاز بالمدد الملكوتي تجلي أثره برهاناً ساطعاً يدل في كل زمان على حضور الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
فاذا درست معركة بدر ، وفق أي قواعد عسكرية ودراسات لفنون القتال تكون النتيجة عجز المسلمين عن تحقيق نصر ولو على نحو الموجبة الجزئية .
الثالثة : تسابق الصحابة للخروج إلى ميدان المعركة حالما سمعوا بقدوم المشركين لمعركة أحد .
ترى ماذا كانت حالهم لو خسر المسلمون معركة بدر ، وفقد عدد كبير من الشهداء في معركة بدر ، حيث كان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر .
الجواب هو ويادة شكوك المنافقين وصدودهم عن الخروج بينما وثق القرآن مبادرة الصحابة للخروج إلى معركة أحد من غير إحتجاج أو إعراض أو حتى سؤال إنكاري ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
الرابعة : عدم إصابة المسلمين بالفزع من كثرة عدد أفراد جيش المشركين .
وقد كان المسلمون يسارعون للخروج للقتال مع إظهار الطاعة لله ورسوله ، ورجاء النصر من عند الله ، وهل عمل المسلمون بدليل الإستصحاب في علم الأصول , الجواب نعم ، فهذا الأصل مدرك عقلي يلجأ إليه العقلاء قبل أن يكون مبحثاً أصولياً ، فقد إستصحب المسلمون النصر في معركة بدر كنتيجة , وثمرة لمعركة أحد .
والمختار أن المسلمين إنتصروا في معركة أحد رغم الخسارة الفادحة التي لحقتهم بسبب ترك الرماة المسلمين مواضعهم على الجبل مع تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجوب عدم مغادرتهم لها بأي حال من الأحوال .
وعن البراء بن عازب قال (جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد، وكانوا خمسين رجلا، عبدالله بن جبير، قال: ووضعهم موضعا وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
قال: فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن) ( ).
ويمكن الإستدلال بالحديث أعلاه على أن نزول الرماة من الجبل ليس من إستصحاب النصر في معركة بدر ونصرة الملائكة للمسلمين، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهاهم عن ترك مواضعهم وشدد عليهم وأخبرهم بأن سهامهم من الغنائم محفوظة , وإن بقوا في مواضعهم .
الخامسة : وهن وخفوت أصوات المنافقين عند خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى معركة أحد ، ففي معركة بدر دخل البشيران بالنصر إلى المدينة وهما زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحه , وكانا يعلنان أسماء القتلى من كبار المشركين ممن هو معروف عند أهل المدينة .
فكان زيد ينادي (قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وقتل أمية بن خلف وأبو جهل وأبو البختري وزمعة بن الاسود، وأسر سهيل ابن عمرو ذو الانياب، في أسرى كثير.) ( ).
ومع هذا كان المنافقون يبثون الأراجيف ويقولون ما جاء إلا فراراً وهزيمة إلى أن دخل أسرى المشركين وعليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانجلى الصبح لكل ذي عينين وأخذ المنافقون يعتذرون ، وبان ليهود المدينة حقيقة المدد الملكوتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه هو منصور مؤيد.
قانون الإعجاز الغيري لنداء الإيمان
حروف النداء متعددة وتصل إلى سبعة ومنها :
الأول : حرف النداء (يا) لإرادة البعيد كما تستعمل للقريب أيضاً وهو أصل حروف النداء وأكثرها إستعمالاً سواء في القرآن أو اللغة أو صيغ التخاطب بين الناس في النداء العام والخاص .
وجاء نداء الإيمان بذات صيغة البعيد لبيان قانون وهو شموله للإجيال غير المتناهية من المسلمين .
وورد في القرآن النداء العام [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] كما ورد النداء الخاص من وجوه عديدة منها :
اولاً : النداء للمسلمين بلفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
ثانياً : النداء لأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وهو على شعبتين :
الأولى : قال تعالى [يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] ( ).
الثانية : الأمر من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينادي أهل الكتاب ، والذي ورد في قوله تعالى [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُذونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] ( ).
ومن الإعجاز العددي في آيات النداء القرآني أن كل قسم من القسمين أعلاه ورد مرة واحدة في القرآن .
ثالثاً : توجه النداء في القرآن إلا بني إسرائيل ، وتذكيرهم بالتوراة وإخبارهم عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : مناداة القرآن لأرباب العقول وذوي الحلم والنباهة وهم المؤمنون الذين إختاروا ما يجب عليهم من التقوى ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ).
وورد النداء من عند الله إلى إبليس بصيغة الذم المقرون بالحجة والبرهان كما في قوله تعالى [قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ] ( ).
خامساً : توجه النداء من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووردت آيتان متتاليتان بهذا المعنى ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا]( ).
سادساً : تفضل الله عز وجل بالنداء لبعض الأنبياء كما في قوله تعالى [قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ] ( ) وقوله تعالى [يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ]( ).
ومن الإعجاز في القرآن أنه لم يأت فيه النداء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باسمه ، إنما ورد بلفظ [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ] .
سابعاً : مجئ النداء الخاص لنساء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [ يَانِسَاءَ النَّبِيِّ] ( ).
ثامناً : ورد النداء في القرآن لذات النفس الإنسانية كما في قوله تعالى [يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ] ( ).
تاسعاً : مجئ النداء في القرآن بصيغة التوبيخ إلى الذين كفروا ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
كما ورد النداء من الأنبياء إلى قومهم ومن الحكماء ، إذ ورد في التنزيل حكاية عن لقمان [يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ] ( ) وجاء النداء بين الجن كما ورد في قوله تعالى [يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ]( )وجاء النداء في القرآن إلى الدواب والهوام ، لبيان قدرة الله وفضله على الأنبياء .
قال تعالى [قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ]( ) وهذا العموم والكثرة والتعدد من مصاديق شمول بيان القرآن لكل شيء ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ…] ( ) الجواب نعم .
وتعدد النداء في سورة يوسف والتي جاءت خاصة بقصته إذ ورد من يوسف إلى أبيه [إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ] ( )وجاء من يعقوب النبي إلى إبنائه [وَقَالَ يَابَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ]( )ونادى يوسف بنداء القرب [يَا] كما ورد في قوله تعالى [قَالَ يَابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ] ( ).
كما ورد النداء من أخوة يوسف إلى أبيهم وإلى أخيهم يوسف بصفة عزيز مصر [قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا] ( ).
ومن خصائص نداء الإيمان الإعجاز من جهات :
الأولى : الإعجاز الذاتي لنداء الإيمان .
الثانية : الإعجاز الغيري لنداء الإيمان .
الثالثة: الأثر المبارك لنداء الإيمان في إصلاح النفوس .
الرابعة : نداء الإيمان عون ومدد للمسلمين للإمتثال للإحكام والأوامر والنواهي الواردة في آيات النداء إنه نوع لحمة وعلقة كريمة بين المؤمنين .
ويبين القرآن أن التكاليف الشرعية ملازمة للإيمان ، وليس من العسير على المسلمين الإمتثال لها .

قانون نداء الإيمان باعث للسكينة
لقد خلق الله عز وجل الناس لعبادته ، وعلة الخلق كافية لإقامة الحجة عليهم ،إذ يبعث نفخ الله من روحه في آدم صيغة الإيمان في النفس الإنسانية ، ويدرك الإنسان معها حاجته إلى الإيمان وعبادة الله ، ومع إنقطاعه إلى العبادة وصلاحه تتجلى له مصاديق النفع العظيم من الإيمان ، ويحس بالرضا والسكينة بطاعة الله ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ] ( ) هو وأطيعوا الله ورسوله لتمتلأ نفوسكم بالسكينة .
ومع إقامة الحجة على الناس بذات الخلق في لزوم عبادتهم لله عز وجل تفضل سبحانه وبعث الأنبياء للجهاد في سبيله سبحانه بالمعجزة والبرهان القاطع ، وهو مائز بين جهاد النبي وجهاد المؤمنين بأن النبي يأتي بالمعجزة لينتفع منها هو والمؤمنون في الدعوة إلى الله عز وجل .
فان قلت ينفرد النبي بسلاح الوحي في حث الناس على الهدى والإيمان ، الجواب نعم ، وهو من خصائص النبوة سواء كانت المعجزة حسية أو عقلية ، وقد تحمل الأنبياء أشد الأذى من قومهم ، منهم من قاتله الذين كفروا لمنعه من الدعوة إلى الله ، قال سبحانه [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
وكما إنفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء بالمعجزة العقلية فانه لاقى بصبر وتوكل على الله أشد صنوف الأذى من قومه ، سواء في بداية الدعوة الإسلامية أو عند إختياره الهجرة ، ووقعت بينه وبين المشركين معارك وقتال شديد توثقت من السماء وقائعه وتفاصيله في الكتاب الخالد إلى يوم القيامة وهو القرآن .
وليس من حصر لوجوه الأذى الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قومه ، وهو على وجوه :
الأول : الأذى بالإستهزاء والإستخفاف ، وهو على قسمين :
أولاً : السخرية والإستهزاء بالقول .
ثانياً : الإستهزاء بالفعل .
الثاني : مجئ الأذى بالفعل والتعدي الشخصي كالضرب والقتل ، وإلقاء الأذى وتحريض الناس عليه ، وهذا التحريض من المناجاة [بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ) وعن عبد الله بن مسعود قال (بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجدا والملأ من قريش جلوس وسلا جزور مطروحة .
فقالوا أيكم يذهب بهذا قال فهابوا ذلك فأخذه عقبة فطرحه على ظهره ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجدا لم يرفع رأسه .
حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره وسبّت الذي فعله فرأيته يومئذ دعا عليهم فقال اللهم عليك أبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وأبيا أو أمية وعقبة بن أبي معيط فرأيتهم يوم بدر قتلوا فألقوا إلا أمية فإنه كان رجلا ضخما فلما جر تقطع) ( ).
والسلا جلد رقيق يحيط بالجنين عند الولادة ، ويكون في الناس والخيل والإبل والجمع أسلاء ، والمراد من الجزور في الخبر أعلاه هو ( الذي يذبح من الإبل ، ولفظ الجزور مؤنث ، لذا يقال هذه جزور سمينة .
الثالث : إيذاء الذين كفروا لأهل بيت النبوة ومنه فرض حصار إقتصادي شديد على بني هاشم وبني عبد المطلب وبني عبد مناف حتى يُسلموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كفار قريش في بداية سنة سبع للهجرة .
ومن الدلائل على شدة التنظيم والضبط في مجتمع مكة آنذاك أن كفارها إتفقوا على أمور :
أولاً : عدم إجراء بيع أو شراء مع أهل البيت .
ثانياً : لا يتزوجون من أهل البيت ولا يزوجوهم ، مع أنهم من أشرف بيوتات قريش ، لبيان أثر الكفر والشرك ، وطغيان الغضب بما يؤدي إلى التمادي في الضلالة بدل التفكر في معجزات النبوة والتدبر في إقبال الناس على دخول الإسلام تصديقاً بهذه المعجزات.
ثالثاً : عدم مخالطة أو مجالسة بني هاشم .
وكتبت قريش وثيقة تتضمن هذا الإتفاق ، وعلقوها في سقف الكعبة ، حتى أكلتها الأرضة واستمر الحصار نحو ثلاث سنوات ، وهل كانت هناك سكينة عند أهل البيت والمسلمين مدة الحصار وشدة الجوع ، وكثرة الأذى .
الجواب نعم ، ومن الإعجاز قرب السكينة من النفوس ، وعدم إمكان وضع الناس حواجز دونها ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ) فحالما يذكر المؤمن الله عز وجل تأتيه الطمأنينة والسكينة على نحو دفعي لتخترق شغاف القلب ، وتخالط الجوانح ، وتحل في الوجود الذهني معاني الصبر والرضا والأمل بدل الخوف واليأس والقنوط .
الرابع : مناجاة الذين كفروا في إيذاء صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنين الأولى للدعوة الإسلامية ، مما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر رهطاً منهم بالهجرة إلى الحبشة ليكون تأسيساً لقانون الهجرة ومصاحبته للإسلام وصيرورته سلاحاً وواقية وسبيل نجاة .
وهل ينحصر الأمر بالمناجاة , الجواب لا، فقد بذل المشركون الوسع في إيذاء وتعذيب الذين آمنوا ، فتفضل الله عز وجل وجعل الإسلام يغزو بيوتهم , فيجتهد الكافر في الإضرار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين سواء في البيت الحرام أو دار الندوة أو أسواق ومنتديات مكة ليعود في المساء فيجد إبنه وبنته قد دخلا الإسلام ، أو يفشي له بعضهم سراً , وهو أن أخاه أو أخته قد دخلت الإسلام ، فمنهم من يتبعهم على الإسلام ومنهم من يزداد حنقاً وكدراً .
ودخول أهل وذوي رؤساء الكفر باعث للسكينة في نفوس المسلمين ، ووسيلة لتثبيت الإيمان في قلوبهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
ليكون كل فرد من نداءات الإيمان رحمة وسكينة تستقر في قلوب المسلمين من جهات :
الأولى : السكينة عند تلاوة آيات نداء الإيمان , ويكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : نداء الإيمان كنز .
الصغرى : ينهل المسلم من نداء الإيمان .
النتيجة : ينهل المسلم من الكنز .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التكاليف التي تتقوم بعبادة الله ، وتتقوم بها عبادة الله فهي المصداق الجلي لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) .
وتفضل الله سبحانه وجعل أغصان السكينة متدلية في كل بيت ، وقريبة من كل إنسان ليس بينه وبينها حجاب أو مانع ، وهو من وجوه رحمة الله بالناس في الدنيا لتكون هذه الرحمة مقدمة للعفو عنهم في الآخرة ، ومن مصاديق السكينة في الدنيا قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الذي هو إمام وضياء يأخذ بأيدي الناس إلى سبل النجاة ويهديهم إلى فعل الصالحات ، ويزجرهم عن فعل السيئات ، ولا تختص أسباب الهداية والزجر هذه بمضامين الآية الكريمة ، فمن معاني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ..] ( ) بعث نداء الإيمان في نفس المسلم والمسلمة العزم على الإمتثال لما في الآية من النهي ، ويصاحبهما هذا العزم في أيام حياتهما .
قانون كل آية قرآنية تذكير بعالم الآخرة
لقد خلق الله عز وجل آدم ليكون وذريته خلفاء وسادة وأمراء في الأرض ، يتصرفون فيها , وكأنهم يملكونها , كما يكسبون منها أقواتهم ، وما تقر عيونهم بحيازته وإمتلاكه ، ويتنعمون بخيراتها ويتخذونها مناسبة ووعاء للنكاح والتكاثر ووراثة الأبناء للآباء ، وإشترط الله عز وجل عليهم عبادته ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) .
فاحتجت الملائكة على هذه الخلافة ولم يظنوا أن خلقاً آخر يخلقه الله من غير جنسهم ويجعله حال خلقه خليفة في الأرض ، وهم يرون أنهم أولى بهذا المقام السامي ، إذ أنهم لم يسمعوا أن الله عز وجل سيكون له خليفة من خلقه ، وليس في الوجود إلا الله عز وجل الأبدي الدائم الأزلي وخلقه المحتاج الزائل .
لقد إنقاد الملائكة لطاعة الله بتحليهم بصفة العبودية التي يتشرفون بها مجتمعين ومتفرقين , وفي التنزيل [وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ *لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ] ( ).
وحالما سمع الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض وعلموا بما يفعله ويرتكبه شطر من الناس من السيئات والفواحش إحتجوا وخاطبوا الله عز وجل [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
قانون نداء الإيمان جزاء
الإبتداء بنداء الإيمان جامع قدسي مشترك بين آيات مخصوصة شرفّها الله عز وجل بهذا الإبتداء ، وأكرم المسلمين والمسلمات بها إلى يوم القيامة ، فهي وسام وقلادة تصاحبهم وتكون معلقة على أبواب دورهم يراها الملائكة في سياحتهم بين الناس ، ويجعل ملك الموت لها موضوعية عند تفقد كل أهل بيت خمس مرات في اليوم وعند حضور أجل أحدهم ، وقبض روحه بلطف وعناية .
لقد علّق كفار قريش وثيقة مقاطعتهم لبني هاشم في الكعبة ، وإستمرت هذه المقاطعة الإقتصادية والإجتماعية نحو ثلاث سنوات ليكون غذاء صبيان بني هاشم مشاركة كل إثنين بتمرة واحدة ، يكون صاحب الحظ منهما الذي تكون النواة من سهمه .
وسرعان ما تنطوي الأيام فتقبل الغنائم على المسلمين من كل مكان ، ولكن الأهم هو تعليق نداء الإيمان على بيوت المسلمين وتلاوتهم له ، وشكرهم لله عز وجل على نعمة نداء الإيمان ، فان قلت لقد تحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصحابة الأذى الشديد من كفار قريش فنالوا التشريف بنداء الإيمان ، بينما وجدت أجيال من المسلمين الأمن والسلامة في الإسلام ، فهل تأتيهم نداء الإيمان جزاء ، الجواب نعم من وجوه :
الأول : إرادة عظيم فضل الله عز وجل ، وهو سبحانه يعطي الكثير الدائم بالقليل المنقطع ، ولقد أثنى الله عز وجل على نفسه ووصف فضله بأنه عظيم , قال تعالى [وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ) لبيان التحدي من مقام الربوبية وفي قوله تعالى (والله ذو الفضل العظيم”، يقول: ذو فضل يتفضَّل به على من أحبّ وشاء من خلقه) ( ).
الثاني : لما تفضل الله وأخبر عن نيل المسلمين مرتبة [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فانه تفضل عليهم بالجزاء العاجل ليكون مقدمة وبشارة ومرآة للجزاء الآجل في الآخرة ، ومن هذا الجزاء تلقيهم نداء الإيمان ، وما تصاحبه وما تترشح عنه من النعم العظيمة ومنها النهي الوراد في آية البحث , وما فيه من تثبيت لمفاهيم الأخوة الإيمانية بين المسلمين .
والمختار أن فضل الله عز وجل يشمل كل الخلائق والناس جميعاً برهم وفاجرهم ، ليكون من معاني العظمة فيه ان الله عز وجل ينعم حتى على الجاحد والكافر ، ولا يجازيه بقطع رزقه وفضله عنه.
الثالث : نداء الإيمان فضل من عند الله وخير محض وإكرام للمسلمين ، وهذا الإكرام جزاء عاجل وثواب حاضر ، وترغيب بالثبات على الإيمان .
ومن خصائص الإيمان أنه سبب في زيادة الرزق والهدى وطول العمر ، وبعد الأجل , وهو سلامة للأمة من الآفات ، وصرف لسوء العاقبة أو تعجيل البلاء .
وعن عبد الله بن عمر قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول وهو قائم على المنبر : إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أعطى أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار هم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا , ثم أعطى أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غروب الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين .
قال أهل التوراة ربنا هؤلاء أقل عملا وأكثر أجرا قال : هل ظلمتكم من أجركم من شيء , قالوا لا , فقال فذلك فضلي أوتيه من أشاء ]) ( ).
ويكون نداء الإيمان بخصوص الجزاء على وجوه :
الأول : إنه طريق وباعث ليعمل المسلم ما فيه الجزاء الحسن .
الثاني : نداء الإيمان مقدمة للجزاء الحسن لأنه شهادة من عند الله عز وجل بحسن سمت المسلمين ، وحينما يشهد الله لأمة بالصلاح فانه سبحانه يجازيهم في الحال ويوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى] ( ).
الثالث : ذات نداء الإيمان جزاء من عند الله عز وجل للمسلمين والمسلمات ، وهو من البركة المصاحبة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن أنعم على أهل الأرض وجعل جزاءً عاجلاً للذين يصدقون بنبوته .
وليس من تعارض بين كون نداء الإيمان جزاءً ومقدمة للجزاء لتعدد أفراد ومصاديق فضل الله عز وجل الذي يصاحب كل إنسان في الدنيا والآخرة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يدفع الله العذاب بمن يُصلّي عمّن لا يُصلّي،
وبمن يُزكّي عمّن لا يُزكّي،
وبمن يصوم عمّن لا يصوم،
وبمن يحجّ عمّن لا يحج،
وبمن يجاهد عمّن لا يجاهد. ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما ناظرهم الله طرفة عين . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ...
ومن الآيات عدم غلق باب هذا الجزاء عن الناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ) من جهات :
الأولى : ترغيب الناس بتلقي نداء الإيمان .
الثانية : اليسر والتيسير في تلقي نداء الإيمان ، فليس بين أي إنسان وبين الإيمان إلا النطق بالشهادتين وأداء الفرائض .
الثالثة : إذا دخل الناس جميعاً الإسلام ، فان نداء الإيمان وما تترشح عنه من الفيوضات والجزاء الكريم يسعهم جميعاً من غير أن ينقص من نصيب السابقين للإيمان شيئاً ، لذا جاء الوعد من عند الله عز وجل لهم [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ] ( ).
الرابعة : صيرورة نداء الإيمان رحمة تتغشى أهل الأرض , وسبباً للتراحم والتعاطف بينهم.
الخامس : من معاني الجزاء في نداء الإيمان عدم إنحصاره بأصحابه والذين يتوجه لهم من المسلمين والمسلمات ، وتلك آية في الأخوة الإنسانية العامة بين الناس وإلتقائهم في النسبة إلى آدم وحواء , وإتحادهم في صيغة العبودية لله عز وجل ، فيؤمن فريق من الناس فيأتي الثواب للناس جميعاً بفضل ولطف من عند الله عز وجل .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (إن الله يدفع العذاب بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم الله طرفة عين ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } ] و [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن لله ملائكة تنادي كل يوم لولا عباد ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا( ).

قانون عطف آية النداء
هل يصح تقدير نداء الإيمان في الآيات التي يرد فيها نهي للمسلمين عن قول أو فعل مخصوص أو سيئة بعينها أو مطلقاً ، الجواب هو الثاني ، وهو من أسرار تعدد وكثرة نداء الإيمان في القرآن ليكون من دلالته إستحضار المسلم له في الوجود الذهني عند ورود الأوامر والنواهي في آيات القرآن مطلقاً فمثلاً وردت آية سابقة لنداء الإيمان بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ] ( ).
وهي معطوفة على آية النداء التي قبلها بست آيات وأداء العطف بين هذه الآيات إتحاد لغة الخطاب مع وجود العطف بينها مثل الواو و( ثم )و(الواو).
ويكون تقدير الآية أعلاه بلحاظ نداء الإيمان على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا إن الذين تولوا منكم هم أخوتكم مؤمنون .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا كما تولى الذين منكم يوم التقى الجمعان ، لبيان سر من أسرار نداء الإيمان بكونه برزخاً دون تكرار الخطأ الذي يرتكبه أفراد أو جماعة من المسلمين .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا الذين تولوا يوم التقى الجمعان ) بلحاظ أن نداء الإيمان عام وخاص ، وكما يخاطب المسلمين جميعاً فانه يخاطب الطائفة والأفراد منهم .
ليكون نداء الإيمان لطفاً بالمسلم وإن أخطأ وقصّر في ساعة الشدة ووقوع الرزية ، ومن إعجاز الآية أعلاه أنها تخاطب عامة المسلمين وتخبر عن حال طائفة منهم إنهزموا أمام العدو في معركة أحد ، وهو لا يتعارض مع توجه النداء لذات الذين تولوا للتبعيض والنسبة الواحدة بقوله تعالى [تَوَلَّوْا مِنْكُمْ] ومنهم من ذكر أسماء الذين تولوا وكان عددهم ثلاثة فقط ( ).
(عن ابن اسحق { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } فلان ، وسعد بن عثمان ، وعقبة بن عثمان الأنصاريان ، ثم الزرقيان . وقد كان الناس انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى صار بعضهم قريبا من المدينة ، وفر عقبة بن عثمان ، وسعد بن عثمان ، حتى بلغوا الجعلب جبل بناحية المدينة مما يلي الأغوص فأقاموا به ثلاثاً ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لقد ذهبتم فيها عريضة ) ( ).
ومنهم من أكثر وزاد عدد الذين تولوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد إذ لم يبق معه سوء ثمانية عشر رجلاً .
ليكون موضوع التولي في الآية من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً من وجوه :
الأول : المقصود الرماة المسلمين الذين تركوا مواضعهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم توجه لهم بالخطاب والوصايا قبل بدء معركة أحد من جهات :
الأولى : موضوعية حماية ظهر المقاتلين ، فصحيح أن الجيش يتألف من خمسة أقسام وهي :
أولاً : المقدمة .
ثانياً : الميمنة .
ثالثاً : القلب .
رابعاً : الميسرة .
خامساً :المؤخرة .
وأن وظيفة المؤخرة الذب عن الجيش من الخلف إلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أظهر معجزة في السنة الدفاعية بأن جعل سرية رماة على الجبل من خلف ظهور المسلمين لأن مؤخرة الجيش قد لا تستطيع الثبات أمام هجوم العدو من الخلف ورميه من فوق الجبل بالسهام.
الثانية : لقد كان عدد جيش المسلمين قليلاً بالذات وبالنسبة لكثرة الكفار الذين زحفوا لقتالهم يوم معركة أحد ، أما بالذات فمن وجوه :
أولاً : نقص المؤن .
ثانياً : أتصاف أسلحة وسيوف المسلمين بأنها قديمة في الجملة .
ثالثاً : قلة رواحل المسلمين .
رابعاً : إنسحاب رأس النفاق عبد بن بن أبي سلول بثلاثمائة من جيش المسلمين وسط الطريق إلى معركة أحد ، وفيه ضرر وترتب عليه الأسى في نفوس المؤمنين ، وهل داخل بعضهم الشك في الغاية الحميدة من الجهاد ، وكان لهذا الشك موضوعية في إنهزام أكثر المؤمنين يوم أحد .
الجواب لا دليل عليه ، إنما زادهم فعل المنافقين عزماً على الصبر في سوح الوغى ، وهو من الإعجاز في مجئ آيات القرآن في ذم المنافقين والتحذير من النفاق ، وبيان خصال المنافقين كيلا يفاجئ المسلمون بقبيح فعلهم ، ويؤدي بهم إلى الإنكسار ، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا] ( ).
فاذا كانوا يصدون عن التنزيل والتدبر في آيات التنزيل فأنهم من باب الأولوية القطعية لا يقاتلون في سبيل الله وتثبيت سنن التنزيل.
وأما مسألة القلة عند المسلمين بالنسبة لطرف جيش الذين كفروا فمن وجوه :
أولاً : كثرة جيس الذين كفروا .
ثانياً : إصرار الذين كفروا على القتال مع قطعهم المسافات والبراري وصعودهم الجبال بين مكة والمدينة .
ثالثاً : كثرة أفراد جيش المشركين ، وتعدد قبالهم من قريش وكنانة والأحباش وأهل تهامة ويبلغ عددهم ثلاثة آلاف رجل .
رابعاً : كثرة أسلحة الذين كفروا فمعهم من الدروع سبعمائة درع ، وحضر معهم عدد من الصناع لإصلاح السيوف والدروع والنبال .
خامساً : كثرة رواحل الذين كفروا ، فمعهم ثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس ،كما أحضرت نوق خاصة لتركب عليها النساء مثل هند بن عتبة لبعث الحمية في نفوس المقاتلين والتذكير بثارات بدر .
الثالثة : ليس من وصية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا وهي جزء من الوحي الذي يوصيه الله عز وجل فليس من أمة تنتفع من الوحي في ميادين القتال مثل المسلمين ، وهو من الدلائل على نصرهم في المعارك ولكن الذين كفروا لا يفقهون ، وتحتمل وصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهين :
أولاً : الوحي بتمام مفردات الوصية وجميع تفاصيلها .
ثانياً : نزول الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الإجمال لأنه ليس من القرآن بلحاظ أن القرآن ينزل بحروفه وكلماته ، ولا يجوز تبديل أو تغيير بعضها ولو بالمرادف .
والمختار هو أولاً أعلاه ، وهو من مصاديق الرحمة العظمى بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعمومات قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ..] ( ).
ومن الوحي تعيين النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعدد الرماة ولمن كان أميرهم إذ جعل عليهم عبد الله بن جبير من الأنصار ، وهو معلم بثياب بيض ليكون معروفاً بينهم ، وفي القتال يخشى الأمراء وكبار الضباط من إستهدافهم في المعركة فيلقون بالرتب والنياشين والأوسمة ، ليكونوا مثل عامة الجنود .
أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان مكانه في المعركة ظاهراً وبيناً وكذا بالنسبة لأمراء السرايا ، ومنهم أمير الرماة , وكان من وصايا النبي صلى اله عليه وآله وسلم لأمير الرماة وأصحابه:
الأولى : (انضح الخيل عنا بالنبل) ( ) لتعيين وظيفة الرماة وعدم وقوع الخلاف بينهم أو التردد والتلكأ في إستعمال النبل والإكثار من رميه , فالضابطة الكلية هي نضح ودفع الخيل عن جيش المسلمين ، ولم يكن ساعئتذ خيل للمشركين خلف جبل الرماة ، مما يدل على أن هذه التوصية من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية ، وفيه شاهد بأن معجزات النبوة واقية من نزول الخسارة والمصيبة والبلاء بالمسلمين ، فان قلت قد وقعت المصيبة يوم أحد ، قال تعالى [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا] ( ).
لقد خسر المسلمون جولة في المعركة وتعذر عليهم جلب الغنائم الكثيرة والأسرى معهم إلى المدينة يوم معركة أحد ، ولكنهم لم يخسروا المعركة كلها ، بل خرجوا من المعركة منتصرين مع لحوق الذل والخزي والخسارة الفادحة بالذين كفروا ، بدليل قوله تعالى بخصوص معركة أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ويدل نعت جيش الذين كفروا بالخاسرين على أن المسلمين لم يخسروا معركة أحد يومئذ بالإضافة إلى الدروس والمواعظ التي إقتبسوها من المعركة .

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn