معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 188

المقدمة
الحمد لله الذي له ملك السماوات والأرض، وتفضل وجعل مقاليد الأمور بيده ليكون هذا الجعل رحمة إضافية بالناس، فتعجز الخلائق متفرقة ومجتمعة عن التصرف في جزء من آفاق السماوات والأرض، ليكون الملائكة والإنس والجن من ملك الله عز وجل، ومنقادين لمشيئته.
وقد أراد الله عز وجل إظهار الإسلام وتثبيت دعائم التوحيد في الأرض بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الكافرين أبوا إلا الجحود ولم يكتفوا بالإصرار على العناد والضلالة، بل دفعهم إستكبارهم وبغيهم إلى الزحف على يثرب .
ولم يكن المسلمون مستعدين لمثل هذا الجيش وقتاله، وليس عندهم فئة يرجعون لها، ولا قبيلة او دولة يطلبون منها المدد والعون فبرز الإيمان كله دفعة واحدة وبحال من الضعف والوهن البدني وقلة العدة دون حال القلوب إذ كان المسلمون رابطي الجأش، قوية قلوبهم، يزحفون إلى الموت طلباً للشهادة ويسعون للنصر والظفر على الكفار من غير أن يكون في الوجود الذهني عندهم تعارض بين الأمرين.
ليكونوا أسوة حسنة للمسلمين في كل زمان، وشهوداً على سر إنتصار الإسلام في معاركه الأولى بمدد من عند الله الذي نزل عليهم بعد حسن إسلامهم وصبرهم، وبذلهم الوسع في مرضاة الله عز وجل.
جاء هذا الجزء بفضل الله في تفسير آيتين من سورة آل عمران وإظهار جزء يسير مما فيهما من الكنوز والذخائر العلمية، والمعارف القدسية، والدعوة السماوية للتحلي بالتقوى والخشية من الله عز وجل، والإجتهاد في الشكر له سبحانه لقوله تعالى في خاتمة الآية الأولى منهما [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ليكون الخطاب الإلهي وما فيه من لغة الأمر التي تحمل على الوجوب موجه المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة إلى يوم القيامة.
فقد كان النصر في معركة بدر هبة وفضل من الله عز وجل على المسلمين جميعاً لأنه دعوة للإسلام وفعل الخيرات، وهزيمة للكفر والضلالة والفسوق.
ومن إعجاز نظم آيات القرآن أن تأتي الآيتان اللتان يتضمنها هذا التفسير واحدة في معركة بدر، ولم يرد اسم “بدر” في القرآن إلا فيها، والأخرى في معركة أحد ونزول الملائكة لنصرة المؤمنين الذين صدقوا بنبوة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتبعوه وخرجوا تحت لوائه لقتال الكفار، ليكون النصر حليف المسلمين وتكون معارك الإسلام الأولى ترغيباً بالإسلام، وبشارة حسن الجزاء للمسلمين، ومصداقاً واقعياً لقوله تعالى [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).

قوله تعالى [ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] الآية 123.

الإعراب واللغة
وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ: الواو: حرف عطف واستئناف , والمشهور أنها استئنافية، واللام: قيل واقعة في جواب قسم محذوف، ولا دليل عليه ، قد: حرف تحقيق، نصركم الله: فعل ماض والضمير الكاف مفعول به مقدم، اسم الجلالة: فاعل مؤخر، ببدر: جار ومجرور متعلقان بنصركم.
وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ: الواو: للحال، أنتم: مبتدأ، أذلة: خبر، والجملة في محل نصب على الحال.
فَاتَّقُوا اللَّهَ: الفاء هي الفصيحة ، اتقوا، فعل أمر مبني على حذف النون، الواو: فاعل، اسم الجلالة، مفعول به.
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: لعل واسمها، تشكرون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، واو الجماعة: فاعل.
في سياق الآيات
صلة هذه الآيات بالآيات المجاورة على شعبتين:
الشعبة الأولى: الصلة بين هذه الآية والآيات السابقة، وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية وآية [وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( )، وفيها وجوه:
الأول: خروج المسلمين إلى معركة بدر من الخيرات.
الثاني: مدح أهل بدر لأنهم سارعوا إلى لقاء العدو، وهو من أسمى معاني الخير والفلاح، لما فيه من الدفاع عن الإسلام وصد المنكر وكيد الكفار.
الثالث: عدم التعارض بين الصلاح والذلة بين الناس، فقد خرج الصحابة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمواجهة الكفر والضلالة ولم يتوانوا في نصرة الإسلام، ولم يتخلفوا عن النفير.
الرابع: لقد نال المسلمون الأوائل مرتبة المسارعة في الخيرات ولبسوا رداء الصلاح وإنفردوا بالدعوة إلى الله في زمانهم، وصحيح أن قوله تعالى (يؤمنون بالله) جاءت بخصوص الأمة القائمة من أهل الكتاب إلا أن مضامينه أعم بلحاظ الصفة والفعل، ليكون البدريون أسوة لهم ولجميع الصالحين.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية[وَمَا يَفْعَلُوا]( )، وفيها مسائل:
الأولى: ان الله عز وجل يعلم جهاد البدريين في سبيل الله، وهو من فعل الخير.
الثانية: بشارة عدم ذهاب عمل البدريين سدى، وان الله عز وجل يثيبهم على جهادهم في النشأتين.
الثالثة: جهاد البدريين من التقوى وخشية الله.
الثالث: الصلة بين هذه الآية وآية [لَنْ تُغْنِيَ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: ذم الكفار الذين جاءوا لقتال المسلمين.
الثانية: الإخبار عن ضياع أموال المشركين التي أنفقوها في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في بدر، وفي الطريق إلى المعركة.
الثالثة: الإخبار عن العذاب الأليم وسوء العاقبة الذي ينتظر الكفار يوم القيامة.
الرابعة: لقد كانت معركة بدر بين الإيمان والكفر، وجاءت آية [لَنْ تُغْنِيَ] في عدم إنتفاع الكفار من أموالهم وأولادهم، ومن مصاديق عدم الإنتفاع هذا خسارتهم المعركة.
الرابع: الصلة بين هذه الآية وآية [رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: كانت قريش ذات تجارة وأموال، فجاءت معركة بدر وأحد ليسخروا أموالهم في محاربة الإسلام، فذهبت هباء.
الثانية: معركة بدر مصداق عملي لآية [رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ] لأنها تؤكد ظلم الكفار لأنفسهم وضياع أموالهم.
الثالثة: في الجمع بين الآيتين إنذار وتحذير للكفار من التعدي على الإسلام، والإنفاق في محاربته.
الرابعة: إن خروج الكفار إلى بدر ظلم منهم لأنفسهم لذا رجعوا بالهزيمة والخسران.
الخامس: الصلة بين هذه الآية وآية[بِطَانَة]( )، وفيها مسائل:
الأولى: تحذير المسلمين من ولآية الكفار وجعلهم خاصة ووليجة.
الثانية: يسعى الكفار للقضاء على دولة الإسلام، مما يستلزم الحيطة واليقظة ، وعدم إطلاعهم على أسرار المسلمين.
الثالثة: حذرت آية البطانة من إتخاذ الكفار خاصة وأشارت إلى البغضاء التي تبدو على ألسنتهم، وجاءت هذه الآية لتؤكد عداوتهم بالحرب على الإسلام.
الرابعة: أخبرت هذه الآية عن إنتصار المسلمين في بدر مع أنهم أذلة، وتدل آية البطانة بالدلالة الإلتزامية على عز ودولة المسلمين بحيث يتخذون خاصة، ويستطيعون إختيارها بما فيه جلب المصلحة، ودفع المفسدة.
الخامسة: أختتمت هذه الآية بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ومن مصاديق الشكر لله عز وجل التقيد بأحكام آية البطانة وإجتناب إستبطان القوم الكافرين.
السادس: الصلة بين هذه الآية وآية [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: توكيد عدم إستحقاق الكفار مودة المسلمين، لأنهم جاءوا لقتالهم وحربهم، فلم يكتفوا بترك المسلمين يعبدون الله، ويقيمون الشعائر بعيداً عن مكة المكرمة، بل زحفوا عليهم، وقطعوا المسافات الطويلة لقتالهم وحربهم.
الثانية: جاءت آية [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ] بذم الذين يتظاهرون كذباً بالإيمان عند لقاء المسلمين، وقد لاقى كفار قريش المسلمين بالسيف، والمباغتة بالهجوم، مما يستلزم التحذير منهم.
الثالثة: ولم تكتف قريش بعد خروج المسلمين للعير القادمة من الشام إلى مكة بعض الأنامل من الغيظ، بل قامت بالتحريض والمناجاة والخروج لقتال المسلمين.
السابع: الصلة بين هذه الآية وآية [ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة، وأخذ الناس يدخلون الإسلام وهي حسنة ونعمة عظيمة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار.
الثانية: كان نصر المسلمين في بدر حسنة ونعمة مما أحزن الكفار فقاموا بتجنيد الناس والتوجه إلى المدينة فكانت معركة أحد، وفيه دليل على أن حزن الكفار بالحسنة التي تصيب المسلمين، لاينحصر بالإكتئاب والحسرة لما حصل، بل أنهم يسعون للإنتقام ويحاولون محو كل الحسنة.
الثالثة: جاء في آية [ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ] الحث على الصبر والخشية من الله وبيان منافعها، قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] وتتجلى في معركة بدر أصدق معاني الصبر والخشية من الله، لذا فان كيد الكفار وجمع الجيوش والزحف بها إلى المدينة المنورة لم يضر المسلمين والإٍسلام شيئاً، إذ إنهزم الكفار بعد أن تكبدوا خسائر فادحة وفقدوا ثلة من كبار رجالهم.
الرابعة: في الجمع بين الآيتين إنذار للكفار، لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] فهو سبحانه يعلم مكر وكيد الكفار، وجاء نصر المسلمين في بدر للدلالة على علمه تعالى بمكرهم، ورجوع كيدهم إلى أنفسهم.
الثامن: الصلة بين هذه الآية وآية [وَإِذْ غَدَوْتَ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: لقد جاءت الآية أعلاه بخصوص معركة أحد، أما هذه الآية فتختص بمعركة بدر، وفي الجمع بين الآيتين آية قرآنية إعجازية، ودعوة للعلماء وكتاب السير والمغازي بدراسة الصلة بين موضوع الآيتين، والمقارنة بين المعركتين وما نتج منها، وسيأتي مبحث مستقل في هذا الجزء للمقارنة بين المعركتين في الأسباب والمقدمات ووقائع المعركة والنتائج.
الثانية: يحتمل الجمع بين الآيتين بلحاظ إجلاس المسلمين في مواضعهم في معركة بدر وجوهاً:
الأول: التباين بين معركة بدر وأحد، إذ إبتدأت معركة بدر بالمبادرة الشخصية، ثم إنهزم الكفار.
الثاني: وحدة الموضوع في تنقيح المناط، فكما بوأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين في مواضعهم من القتال في معركة أحد، فكذا في معركة بدر.
الثالث: لم يبوأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين مواضعهم من القتال في معركة بدر، وأدرك المسلمون الحاجة إلى قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإجلاسهم في مواضعهم في معركة أحد وأنها أكثر خطورة على المسلمين، ولكيفية سير وقائع المعركة والحاجة فيها إلى تعيين المواضع وتعدد جهاتها، خصوصاً وان المنطقة فيها بعض الجبال، شاخصة إلى الآن بخلاف معركة بدر التي كانت في أرض منبسطة.
الرابع: نصرة الملائكة للمؤمنين في معركة بدر، بما تجلت معه المعجزة.
والصحيح هو الثاني والرابع، إذ يتولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه قيادة الجيش، وتوجيه دفة المعركة، وتعيين مواضع المقاتلين فيها، فلا يمنع التباين في سير وقائع المعركة من قيام النبي بوظائف النبوة والإمامة.
لقد جاء تعيين مواضع جلوس المؤمنين في القتال بوحي ولطف من عند الله وهو تشريف لهم، وشهادة تأريخية بفوزهم بتعيين سيد المرسلين مواضعهم في مواجهة الكفار.
الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين أن حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلها جهاد، ودفاع عن الإسلام، ومع هذا فان الناس يدخلون الإسلام أفواجاً مما يدل على إدراك الناس لصدق نبوته، إذ يخرجون معه لقتال الفئة الكثيرة من الكفار.
الرابعة: ذكرت الآية في معركة أحد أهل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ]( )، مما يدل على إستقرار الحياة في المدينة تحت ظلال الإسلام، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يركن إلى حياة الأسرة وما فيها من التنعم والسكينة مع العيال ، قال تعالى [هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ] ( ).
التاسع: الصلة بين الآية السابقة [وَإِذْ غَدَوْتَ]( )، وهذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: التخفيف عن المؤمنين ببدر فليس فيهم من هم بالفشل.
الثانية: بينما جاءت الآية السابقة بالإخبار عن الهم بالفشل أكدت هذه الآية حصول النصر للمؤمنين في أحد.
الثالثة: لقد جاءت معركة بدر متقدمة زماناً على معركة أحد، والنصر الذي حصل في معركة بدر للمؤمنين واقية لهم من الفشل منهم جميعاً، ومن الطائفتين اللتين ذكرتهما الآية السابقة أعلاه.
الرابعة: دعوة المؤمنين للشكر لله تعالى على نعمة السلامة من الفشل والجبن والخور.
الخامسة: جاءت هذه الآية بالأمر للمسلمين بتقوى الله عز وجل، ومن أحسن مصاديق التقوى الصبر في ملاقاة العدو، وطاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم ترك المواضع التي أجلسهم فيها ، ورجاءهم النصر من عندالله عز وجل.
السادسة: جاءت الآية السابقة بدعوة المؤمنين للتوكل على الله عز وجل، وجاءت هذه الآية بالإخبار عن نصر المسلمين في بدر، ويفيد الجمع بين الآيتين عدم الغفلة عن التوكل على الله فكما أنه السلاح في المعركة مع الكفار، فانه حرز وواقية من التفريط بنعمة النصر.
الشعبة الثانية: الصلة بين هذه الآية والآيات القليلة التالية، وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية والآية التالية وفيها مسائل:
الأولى: هذه الآية خطاب للمؤمنين، وجاءت الآية التالية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإخباراً عن المدد الإلهي للمؤمنين بالملائكة وقتالها يوم بدر نصرة للمؤمنين.
الثانية: بيان موضوعية الملائكة في تحقيق النصر على الكفار يوم بدر.
الثالثة: نسبت هذه الآية نصر المؤمنين إلى الله [نَصَرَكُمْ اللَّهُ] وجاءت الآية التالية بالإخبار عن المدد الملكوتي وفيه إعجاز ببيان علة النصر الإلهي وهي بعث الملائكة، وهذه العلة لا تمنع من المدح والثناء على المسلمين لقتالهم في بدر لذا جاءت الآية بالإخبار عن تحقيق المسلمين النصر.
الرابعة: الجمع بين الآيتين عون للمسلمين لمواجهة الكفار، وإجتناب الفشل والجبن لوجوه:
الأول: مجئ النصر من عند الله.
الثاني: نزول الملائكة لنصرة المسلمين.
الثالث: تثبيت المسلمين في منازل الإيمان.
الرابع: حرص المسلمين على التقيد بأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تعيين مواضعهم في ميدان المعركة، وإدراك حقيقة وهي أن هذا التقيد طريق ومقدمة لتحصيل النصر والغلبة على الكفار.
الخامسة: إختتمت الآية محل البحث بندب المسلمين إلى شكر الله عز وجل وجعل نعمة النصر على الكفار مناسبة للشكر له سبحانه، وإبتدأت هذه الآية بتذكير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بآية المدد الملكوتي التي فازوا بها ليشكروا الله على هذه النعمة والتي تدل على تفضيل المسلمين، والواقعة شاهد تأريخي على أن المسلمين خير أمة أخرجت للناس، إذ أنزل الله الملائكة لنصرتهم وإعانتهم.
السادسة: بيان إنقطاع حال الذلة عند المؤمنين بنزول الملائكة وتحقيق النصر.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية [ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا]( )، وفيها مسائل:
الأولى: الربط بين واقعة بدر وأحد والإخبار عن إستمرار المدد الملكوتي للمسلمين.
الثانية: جاءت هذه الآية بأمر المسلمين بالتقوى والخشية من الله، وجاءت الآية بعد التالية بالحث على الصبر والتقوى معاً بصيغة الجملة الشرطية.
الثالثة: مجئ الملائكة مدداً عنوان النصر، وعلة لتحقيق الظفر وهزيمة الكفار، إذ أخبرت الآية محل البحث عن تحقيق النصر للمؤمنين بفضل الله تعالى بإنزال الملائكة عوناً لهم في القتال، وجاءت آية [ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا] لدعوة المسلمين لتهيئة المقدمة الذاتية لتحقيق النصر، وهذه المقدمة على وجهين:
الأول: الصبر في ميادين القتال.
الثاني: خشية الله، وإطاعة أوامره وأوامر رسوله.
الثالث: الصلة بين هذه الآية وآية [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلا بُشْرَى لَكُمْ]( )،وفيها مسائل:
الأولى: نصر المؤمنين في معركة بدر أمن وسكينة لهم.
الثانية: مدد الملائكة بشارة للمسلمين في معاركهم الأولى واللاحقة، فصحيح أن موضوع الآيات هو معركة بدر وأحد إلا أن مضامينها أعم، ويدل على العموم ضمير الخطاب في قوله تعالى [بُشْرَى لَكُمْ] أي بشرى لأهل بدر وأحد وبشارة للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة.
أن المدد الملكوتي أمر حاضر في الوجود الذهني عند المسلمين، وهذا الحضور مدد آخر وفضل من عند الله.
الثالثة: النصر في معركة بدر بشارة تثبيت دعائم الدين، ويفيد الجمع بين الآيتين صدق إيمان البدريين، وأنهم يحبون تثبيت دعائم الدين، وترسيخ مبادئ الإسلام في الأرض.
الرابعة: توكيد قانون ثابت وهو ان النصر بيد الله، وهو الذي ينعم به على من يشاء، وفيه دلالة على تحقيق المسلمين النصر، وإن الهزيمة والخسارة ملازمة للكفر، والله عز وجل لاينصر القوم الذين ظلموا أنفسهم بإختيارهم الجحود بالربوبية والنبوة.
الرابع: الصلة بين هذه الآية وآية [لِيَقْطَعَ طَرَفًا]( )، وفيه مسائل:
الأولى: لاينحصر موضوع نصر المسلمين في معركة بدر بالنفع العظيم لهم، بل يشمل الخزي والخسارة للكافرين الذين جاءوا لمقاتلة المسلمين.
الثانية: التذكير بنعمة النصر في بدر، وما لحق الكفار من الهزيمة وتقدير الجمع بين الآيتين: ولقد نصركم الله ببدر ليقطع طرفاً من الذين كفروا.
الثالثة: كما جاءت الآية محل البحث بالإخبار عن نصر المؤمنين، فقد أختتمت آية [لِيَقْطَعَ طَرَفًا] ببشارة خيبة الكفار، ورجوعهم من التعدي على المسلمين من غير أن ينالوا شيئاً، وهو الذي حصل فعلاً في معركة الأحزاب، ولعل فيه أمارة على علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الواقعة ونتائجها قبل وقوعها.
الخامس: الصلة بين هذه الآية وآية [ لَيْسَ لَكَ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين بعث الرحمة في قلوب المسلمين بعد النصر على الكفار وعدم البطش بعد المعركة إنتقاماً.
الثانية: إستمرار فتح باب التوبة حتى للقوم الكافرين الذين حاربوا المسلمين.
الثالثة: كما أن النصر بيد الله وقد تفضل به على المؤمنين فكذا العذاب فانه بيد الله، وهو الذي يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء.
الرابعة: إتصاف الكفار بالظلم ليجتمع عندهم الظلم والهزيمة فما لاقوه من الخسارة والقتل والأسر لم يمحِ عنهم صفة ظلمهم لأنفسهم وإستحقاقهم للعذاب إلا من يتوب ويصلح حاله فان الله غفور رحيم.
السادس: الصلة بين هذه الآية وآية [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: جاء النصر من عند الله للمؤمنين في معركة بدر لأن مقاليد الأمور بيده سبحانه.
الثانية: يجب تقوى الله والخشية منه سبحانه لأن ملك السماوات والأرض له سبحانه.
الثالثة: ان الله تعالى مالك كل شئ بيده الأمر كله، وقد جعل النصر هبة خاصة للمؤمنين.
الرابعة: دعوة الكفار للتوبة ودخول الإسلام، لأن الله عز وجل هو الغفور الرحيم.
الخامسة: جاء نصر الله للمؤمنين ليتوب الناس، ويرجعوا عن الضلالة والغوآية.
لما جاءت الآية السابقة بالإخبار عن ولاية الله عز وجل للطائفتين، جاءت هذه الآية يذكر نصر الله للمؤمنين في بيان عظيم فضل الله على المسلمين وعموم لطفه وإحسانه عليهم.
إعجاز الآية
في الآية إخبار عن واقعة بدر الكبرى وإنتصار المسلمين بها، مع تقييد هذا النصر بانه من عند الله، وجاء بفضله ورحمته بالمؤمنين، وليس بالجهود الخاصة من المؤمنين ، وإن كانت لهذه الجهود والجهاد موضوعية في إصلاح المؤمنين للنصر وبلوغه مع ضعف المسلمين وقلة عددهم، ولكن مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل، وقرنت الآية بين النصر والتقوى لبيان أن المسلمين يحتاجون التقوى والخشية من الله بخصوص المعارك في أمور:
الأول: قبل وقوع المعركة.
الثاني: اثناء المعركة.
الثالث: بعد المعركة.
ومن إعجاز الآية أنها ذكرت موضع بدر بالاسم ليكون إختيار اسم المعركة من عند الله، فكما تفضل الله سبحانه وإختار ليحيى اسمه كما في قوله تعالى [نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى]( )، فقد سمى الله تعالى معركة المسلمين الأولى باسم معركة بدر، ولايتعارض هذا المعنى مع مجئ الاسم للإشارة إلى موضع المعركة وأنها وقعت عند بئر بهذا الإسم، وهو من إعجاز القرآن.
وجاء الحث على تقوى الله عز وجل لتوكيد لزوم طاعة المؤمنين لرسول الله، وثباتهم معه في المعركة، وعدم التخلية بينه وبين الكفار، وتقود التقوى إلى الشكر لله مما يدل على ترشح النعم العظيمة من التقوى، وما يستلزم معه الشكر لله تعالى، بالإضافة إلى وجوب شكر الله عز وجل على نعمة النصر.
ولاينحصر أداء هذا الشكر على الصحابة الذين حضروا معركة بدر، وقاتلوا فيها بل جاء الخطاب في الآية إلى المسلمين والمسلمات في الأجيال المتعاقبة بوجوب شكر الله تعالى على نعمة النصر يوم بدر.
وهذه الآية وثيقة سماوية تبين جهاد المسلمين، وتحقيقهم النصر في أول معركة خاضوها ضد الكفر والكفار، وتمنع من تحريف سير ونتائج المعركة.
وهذه الآية مدد وعون للمسلمين إلى يوم القيامة، لما فيها من الإخبار عن تدلي وقرب النصر الإلهي من المسلمين في معاركهم، ودفاعهم عن الإسلام والنبوة والقرآن.
ويمكن تسمية الآية آية ” بدر” ولم يرد لفظ (بدر) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.

الآية سلاح
لقد جعل الله عز وجل الآية القرآنية سلاحاً بيد المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، وهو من إعجاز القرآن، والشواهد على كون القرآن آية عقلية تتصل منافعها إلى يوم القيامة، فمع أن الآية تذكر واقعة مخصوصة بالاسم إلا أن منافعها أعم، فهي واقية للمسلمين لما فيها من زجر الكفار عن التعدي على المسلمين، والإخبار عن نصر الله للمسلمين وان كانوا في قلة وذلة.
إن النصر سلاح ذو أثر مبارك وفيه قوة للمسلمين، وضعف ووهن للكافرين، وتلك آية في القدرة والرحمة الإلهية بالمسلمين، إذ أن النصر يستلزم السلاح والعدة في المعركة ويكون سلاحاً في الميادين المختلفة، فقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] يدل على فتح الآفاق أمام المسلمين وإصلاحهم لمنازل عظيمة في الشأن، وفيه مدد وعون لهم لبذل الوسع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة الناس للإسلام، بالإضافة إلى أن النصر سلاح لجذب الناس للإسلام من وجوه:
الأول: توكيد معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر على الأعداء بأسباب ملكوتية.
الثاني: قلة عدد المسلمين ليس برزخاً دون دخول الناس الإسلام.
الثالث: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من الإسلام.
الرابع: عدم خوف الناس من أقطاب الضلالة الذين يحاولون صدهم عن الإسلام.
لقد إستشهد أربعة عشر من المؤمنين في معركة بدر، فحزن عليهم أقاربهم فنزل قوله تعالى[وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ]( )، لترغيب المسلمين بالتوكل على الله، ومواصلة الجهاد في سبيل الله، والرضا بأمره تعالى وما ناله الشهداء من الثواب العظيم.
وفي إخبار الآية عن نصر المسلمين مع قلتهم منع للخلاف بينهم في مواجهة الأعداء، فلا يقف شطر منهم عند الأسباب المادية والعدة والسلاح وحدها، بل يتطلع الجميع إلى المدد والعون الإلهي بيقين ، وهذا اليقين من وجوه:
الأول: رحمة الله تعالى بالمسلمين وإعانته لهم.
الثاني: قوة وأثر وسلطان المدد الإلهي، إذ ينزل الله عز وجل الآلاف من الملائكة لنصرة المسلمين، مع أنه يكفي نزول ملك واحد لقهر الكفار والظالمين.
الثالث: إراد الله عز وجل بقاء الإسلام، وظهور دولته.
لقد ذكرت الآية حال الذلة التي يتصف بها المسلمون ليس للتعريض بهم بل لبيان عظيم فضل الله بتحقيقهم النصر على الأعداء، لتكون الآية حجة وبرهاناً على المدد الإلهي للمسلمين، ومانعاً من القول بإن المسلمين إنتصروا بالأسباب المادية وقانون السببية، والعلة والمعلول.
وما جاء في الآية من الأمر بتقوى الله سلاح مبارك آخر بيد المسلمين، ودعوة لهم لطاعة الله والإمتثال لأوامر الرسول في المعارك التي يخوضونها، وحصل تقصير في المقام وهو قيام الرماة في معركة أحد بترك مواضعهم التي أجلسهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه حث للمسلمين جميعاً على التقيد التام بأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام لضرورة هذا التقيد لأن أوامر النبي وحي من الله عز وجل
مفهوم الآية
في الآية بيان للعنآية الإلهية بالمسلمين، وأن الله سبحانه لم يتركهم يواجهون عتو وظلم قريش بمفردهم، إذ جاءت قريش بخيلها وخيلائها وهي تريد تدارك ما فاتها من قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحاول توكيد ان السلطان والشأن لها في أرض الحجاز جوراً وإستكباراً.
ولم تزحف قريش من مكة إلى المدينة وتتحمل الخسائر ومؤونة الجيوش إلا عن ظن الغلبة ، إذ نظرت إلى عالم الأسباب، وعلمت قلة عدد المسلمين، والنقص في عدتهم ومؤنهم، ولم يكن مع المسلمين إلا فرسين، وأدركت قريش ان عدد المسلمين في تنام وزيادة مطردة، إذ يدخل الأفراد والجماعات من القبائل الإسلام ، فأرادت وقف دخول الناس الإسلام، وإجهاض دولة الشريعة، ومنع إتساع رقعة الإسلام، فجاء المدد الإلهي للمسلمين لتبدأ مرحلة النصر ، ودخول الناس على نحو دفعي [وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
وأكدت الآية على أن النصر من عند الله، وفيه دعوة للمسلمين للإنقطاع إلى طاعته، والتوجه اليه بالدعاء والمسألة وسؤال النصر من عنده، لقد بدأت الدعوة الإسلامية على نحو القضية الشخصية لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقريبين منه للإسلام ، مع إقتران هذه الدعوة بالشواهد الإعجازية التي تؤكد صدق نبوته.
وتدل الآية في مفهومها على نصر المسلمين وهم أعزة وأقوياء من باب الأولوية القطعية، فاذا كان المسلمون أذلة ضعفاء ورزقهم الله الغلبة على عدوهم فان الله سبحانه ينصرهم وهم أقوياء بقيد تقوى الله الذي أمرت به هذه الآية وليس بسبب الكثرة والقوة بذاتها، ويدل عليه قوله تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا]( ).
وفي شرط التقوى الذي تذكره الآية الكريمة إشارة إلى وقوع معارك كثيرة تنتظر المسلمين، وحاجة المسلمين فيها إلى التقوى والخشية من الله عز وجل، ومن مصاديق الخشية منه سبحانه إجتناب معصية أوامر الرسول في المعركة.
ومن مفاهيم الآية توكيد ظفر المسلمين في معركة الإسلام الأولى لتكون بدآية مباركة، وفتحاً تأريخياً، ووسيلة لإثبات وجود الدولة الإسلامية، وأهلية المسلمين للدفاع عن أنفسهم، ومنع تعدي الكفار على المسلمين، وهذا المنع مناسبة كريمة لتفقه المسلمين في الدين وإستمرار نزول الآيات من عند الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذ يتنعم المسلمون في هذا الزمان وكل زمان بتلاوة آيات القرآن ومنها الآيات والسور المدنية فان معركة بدر سبب لهذه النعمة لأنها منعت من وصول أيدي الكفار إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجعلت الوحي يستمر في نزوله.
إذ ينزل الملك بالوحي، ونزل آلاف من الملائكة لنصرة المسلمين في معركة بدر مما يدل على موضوعية معركة بدر في تأريخ الإسلام والمسلمين، فجاءت الملائكة أضعاف عدد المشركين ليتعظوا ويعتبروا ويكفوا عن الإعتداء على المسلمين .
لقد جاءت نتائج معركة بدر لمنع وقوع معركة أخرى مثل أحد والخندق، ولكن الكفار أصروا على التعدي والظلم،، لقد شاهد وعاش الكفار وقائع بدر وكيف أنها إنتهت بسرعة لصالح المسلمين لتخسر فيها قريش رجالاً من كبرائها بين قتيل وأسير، وتكون عبرة للناس وآية حسية ظاهرة تدعو الناس لدخول الإسلام، وعدم التخلف عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويدل قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ] على منافع التقوى والحاجة إليها في المعركة وتحقيق الغلبة على الكفار، وأن الملائكة تنزل على المتقين الذين يخشون الله في الغيب، ويحرصون على أداء العبادات ويجتنبون المعاصي، ومن التقوى التضحية والفداء، وإظهار معاني الصبر في قتال الأعداء.
وفي الآية مسائل:
الأولى:نصرة الله عز وجل للمسلمين.
الثانية: عدم ترك الكفار ينفردون بالمؤمنين وينتقمون منهم، وينتفعون من ضعفهم وأنهم في بدآية الدعوة الإسلامية.
الثالثة: التوثيق السماوي لحال المسلمين في بدآية الدعوة، فلا يأتي أحد ويقول أن المسلمين بدأوا أقوياء وأعزة بلحاظ أن المؤمن وحده أمة ، فقد أكدت الآية ضعف المسلمين يؤمئذ لبيان عظيم المعجزة في نصرهم، وهو شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله ، ودعوة للمسلمين للشكر لله على نعمة النصر .
الرابعة: بيان قانون وهو أن المدار ليس على الذلة والفقر والضعف، أو الكثرة والقوة، بل على النصر والغلبة، وعواقب الأمور فليس من منقصة في الذلة، ولكن الفخر بالنصر والظفر، وقد فاز به المسلمون بفضل الله عز وجل.
الخامسة: الملازمة بين تلقي الفضل الإلهي بالنصر وبين الخشية من الله، والحرص على طاعته في السر والعلانية، إذ أمرت الآية الكريمة بالتقوى، والتي تتجلى في معارك أيام التنزيل بإخلاص النية، وطاعة الرسول في أوامره في المعركة.
لقد تولى صحابة رسول الله مسؤوليات عظيمة لم تتولها قبلهم أو بعدهم أمة أو طبقة أو جيل من المؤمنين، فجاءت هذه الآية بالإخبار عن إكرام الله عز وجل لهم بالنصر على الكفار ودعوتهم إلى تقوى الله عز وجل، ودعوة المسلمين جميعاً من خلالهم إلى التفاني في مرضاة الله، ونصرة الإسلام بالنفوس والأموال.
السادسة: أن الله عز وجل يحب أن يشكره عباده، وان يظهر هذا الشكر على السنتهم وجوارحهم، وجاء الشكر في الآية غآية ونتيجة، وهو أعم إذ أن منافعه على المسلمين عامة أكثر من أن تحصى لقوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
السابع: إنعدام الملازمة بين القوة النصر من جهة ، وبين الضعف والهزيمة من جهة أخرى ، لأن النصر بيد الله عز وجل.
وتدل الآية في مفهومها على هزيمة الكفار والمشركين من قريش مع مجيئهم بالجيوش الكثيرة وتسلحهم بالعدة والسلاح، وأن عداوتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين صارت سبباً لعداوة الله تعالى لهم، فتفضل سبحانه بهزيمتهم وخسارتهم في المعركة.
ووردت في هذه الآية كلمات لم ترد في غيرها وهي:
الأول: ولقد نصركم الله، بلحاظ إضافة حرف العطف الواو.
الثاني:ببدر.
الثالث: وأنتم أذلة.
الآية لطف
في الآية الكريمة لطف مركب ومتعدد بالمسلمين من وجوه:
الأول: توجه الخطاب الإلهي للمسلمين.
الثاني: إكرام المسلمين بأن النصر الذي حققوه في معركة بدر لطف وفضل من الله.
الثالث: الأمر الإلهي للمسلمين بتقوى الله مما يدل على أنهم مقبلون على وظائف عقائدية وإجتماعية وسياسية تستلزم الخشية من الله في السر والعلانية، وقد حصلت معركة بدر في السنة الثانية للهجرة، وفرض الصيام والزكاة على المسلمين في ذات السنة، وظهرت أمارات إتساع الدولة الإسلامية ، وإنقياد القبائل والقرى لأحكام الشريعة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجلت في التنزيل.
الرابع: الشكر لله من أسمى مقامات العارفين، وأصدق معاني الإيمان.
وجاءت الآية بالحث عليه، ودعوة المسلمين للمواظبة عليه ليكون باباً لنزول البركات من عند الله، ودفع كيد الكفار، والشكر في المقام من عمومات [لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( ) إذ أن الشكر واقية من شرور الأعداء.
ويمكن معرفة اللطف الإلهي بالنص في معركة بدر بلحاظ التخلية بين المتحاربين، وكل طرف يواجه الآخر بما عنده من العدة والعدد، وقد ذكرت الآية حال المسلمين وأنهم كانوا أذلة يخشون بطش قريش، التي يبعث ذكرها الهيبة والفزع في قلوب أعدائها.
فصحيح أن قريشاً كانوا أهل تجارة إلا أنهم أسياد في الجزيرة، يبادرون إلى حمل السيف والقتال يداً واحدة على عدوهم، كما يظهر من إستنصار بعضهم بعضاً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، مع عدم وجود موضوع يستحق تحشيد الجيوش والهجوم على المدينة، فجاء اللطف الإلهي بمحق شأن قريش إلى الأبد، ورميهم بالهزيمة والخسارة من قوم أذلة، فليس لهم ان يحتجوا بأن عدوهم قوي، وأنهم قاتلوه بضراوة فكان المسلمون أذلة مستضعفين، ولم يصمد صناديد قريش أمامهم فانهزموا في الساعات الأولى من المعركة، وهو من اللطف الألهي بأهل بدر والمسلمين جميعاً في أجيالهم المتعاقبة.
لقد أراد الله عز وجل العز للمؤمنين فأنعم بالنصر والغلبة عليهم في بدر ، وقهر وأخزى عدوهم ومن أراد الإضرار بهم، وهو من مصاديق [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
إفاضات الآية
لقد جعل الله عز وجل الإنسان محتاجاً، وهذه الحاجة أعم من أن تكون شخصية، إذ تكون نوعية تخص الجماعات والأمم وأهل الملل، وليس من حاجة أعظم من سيادة مبادئ الإسلام في الأرض، لما فيه من المنافع الدنيوية والأخروية للناس جميعاً، فليس من فرد أو جماعة إلا وتترشح عليهم تلك المنافع حتى لو كانوا أعداء للإسلام، وهو مصداق لفضل الله على الناس بالإسلام، وشاهد على أن المسلمين خير أمة أخرجت للناس.
لقد دخل المسلمون الأوائل الإسلام والأخطار تحيط به وبهم من كل صوب وجهة، فقبائلهم لم ترض عنهم، وفريق من أهل الكتاب يحرفون أخبار النبوة وصفات نبي آخر زمان، وليس من مدد وعون مادي يأتي من دولة أو جهة، وقريش تجهز الجيوش وتألب الناس ضدهم، وأهل الريب يثيرون مسائل الجدل وأسباب الشك.
وأدرك الكفار أن ظهور دولة الإسلام أصبحت واقعاً، ووضعت لبنتها الأولى في المدينة المنورة فزحفوا بجيوش كبيرة لوأد هذه الدولة بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الذين يواصلون القتال معه، وكانت قلة عدد المسلمين سبباً لطمع الكفار بهم، وموضوعاً لإغراء الهمج والجهلة والأحابيش معهم، ولكنهم لم يلتفتوا إلى موضوعية المعجزة في المقام وأثرها في سر المعركة، ونتيجتها.
فجاءت هذه الآية للإخبار عن حصول النصر للمسلمين بفيض ولطف من عند الله عليهم وعلى الناس جميعاً لأن نمو وبقاء دولة الإسلام سبب لجلب المصالح ودفع المفاسد عن المسلمين والناس جميعاً، وإن كان الأمر متبايناً بين المسلمين وغيرهم، إذ ينال المسلمون النفع العظيم في الدنيا والآخرة ، أما غيرهم فيكون الإسلام سبباً لدعوتهم إلى التوحيد وعبادة الله، وبرزخاً من الإصرار على الكفر والجحود، وجاء النصر في معركة بدر ليكف الكفار عن التعدي والهجوم على المسلمين.
لقد كان نصر المسلمين في معركة بدر خيراً محضاً، وإشراقة ملكوتية أطلت على الأرض لتبدأ حياة جديدة قوامها التقوى والصلاح، لذا جاء الأمر بتقوى الله مصاحباً للإخبار عن النصر في بدر وتقدير الآية: نصركم ببدر فإتقوا الله، وإبذلوا الوسع في طاعته، وأظهروا السمت الحسن والأخلاق الحميدة التي تجذب الناس للإسلام.
لقد ترتبت على النصر في بدر وظائف كثيرة على المسلمين وهي رشحة من رشحات النصر والفضل الإلهي لذا أمرت الآية المسلمين بتقوى الله للإنتفاع الأمثل من هذا النصر العظيم، والتسليم بإنه لم يتم إلا بنعمة من عند الله.
الصلة بين أول وآخر الآية
بدأت الآية بالإخبار عن نصر المسلمين في معركة بدر، لطرد وهم ، ومنع للشك والريب في نتيجة المعركة، وما أسفرت عنه من ظهور دولة الإسلام وعز المؤمنين، وقد قتل المسلمون يومئذ سبعين وأسروا سبعين من المشركين الذين إنهزموا وولوا على أعقابهم فزعين.
ثم بينت الآية حال المسلمين يوم بدر بأنهم كانوا أذلة ضعفاء قليلي العدة والعدد لتوكيد نسبة نصرهم لله عز وجل، وبعد الإخبار عن نصر الله المسلمين أمرهم سبحانه بأن يتقوه ويخشوه ويحرصوا على طاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن منافع التقوى في المقام إستدامة وتعاهد منافع النصر، والوقآية من الهزيمة، لأن الآية قيدت النصر بانه في بدر وإرادة واقعة مخصوصة، وهل جاء ما تعرض له المسلمون من الخسارة بسبب الإبتعاد عن التقوى بعد معركة بدر، الجواب لا، ولكن تقوى الله حاجة للمسلمين وباب لنيل الرغائب، وبلغة للوصول إلى الغايات الحميدة التي يسعون إليها.
ثم أختتمت الآية بالحث على الشكر لله تعالى، والإخبار بأن نعمة النصر مقدمة وسبب للتوجه بالشكر لله تعالى على نعمة النصر في بدر، الأمر الذي يدل على أن هذا النصر نعمة عظيمة، وما كان يحصل لولا فضل الله عز وجل على المسلمين.
لقد كان في النصر في معركة بدر حياة جديدة للصحابة، لأن قريشاً جاءت لتفتك بهم ولا راد لها عن بغيتها إلا الله عز وجل، إن رد الكفار عن غايتهم الخبيثة فضل من الله عز وجل على المسلمين، ولكنه سبحانه لم يكتف بردهم بل تفضل بنصر المسلمين، وهزيمة الكفار شر هزيمة، فهو سبحانه إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم مما يستلزم الشكر له سبحانه.
وتقدير الجمع بين أول وآخر الآية الكريمة (ولقد نصركم الله ببدر لعلكم تشكرون).
وإبتدأت الآية بحرف العطف (الواو) ثم جاءت واو الحال في قوله تعالى [وَأَنْتُمْ] وجاءت بعدها الفاء للتعقيب في قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ] فالنصر من عند الله، وعلى المسلمين التقوى والشكر لله عز وجل، مما يدل على أن الشكر على النعمة لا ينحصر بالشكر القولي بل لابد من الشكر الفعلي بالخشية من الله عز وجل.
ومع قلة عدد كلمات هذه الآية فانها جاءت بأمور:
الأول: الجملة الخبرية.
الثاني: تعيين موضوع الآية.
الثالث: الوصف.
الرابع: الأمر .
الخامس: الجملة الإنشائية.
فقد أخبرت الآية الكريمة عن نصر الله عز وجل للمؤمنين، وهو نصر للمسلمين جميعاً، ثم تفضل الله عز وجل، وبيّن موضوع ومناسبة النصر، ومكان المعركة التي نصر الله عز وجل فيها المؤمنين وهي معركة بدر، في موضع بئر على مقربة من المدينة في الطريق إلى مكة.
ثم ذكرت الآية حال المسلمين [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( )، وهو أن المسلمين كانوا ضعفاء، وهذا الضعف ليس بالقياس إلى عدد وقوة الكفار وحدها، بل ضعفهم بالذات في قلة عددهم وعدتهم وآلاتهم .
وكان في عسكر المسلمين يوم بدر فرسان فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود، وسبعون جملاً كانوا يتعاقبون عليها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يتعاقبون على جمل لمرثد، بينما كان في عسكر قريش مائتا فرس، أي نسبة واحد إلى مائة، مع موضوعية وأثر الفرس في القتال، ورجحان كفة الراكب على الراجل في القتال، وسرعة الحركة والكر والفر، وقيل عندهم أربعمائة فرس، لذ حينما نظرت قريش إلى قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال أبو جهل : ما هم إلا أكلة رأس ، لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد( ).
اما الأمر الثالث فقد جاءت الآية بالأمر إلى المسلمين بتقوى الله والخشية منه في السر والعلانية، فمن خصائص الذين تنزل عليهم الملائكة التقوى، وهي مطلوبة بذاتها وبالعرض، إذ تكون غآية، وطريقاً إلى إكتساب المعارف الإلهية، والإرتقاء في سلّم الصلاح والهدآية، ووسيلة لإستدامة النعم المترشحة من نزول الملائكة مدداً، ومن النصر في ميدان المعركة مع القلة والضعف.
وتبين الآية عدم وجود فترة ومدة بين النصر في معركة بدر ولزوم تقوى الله، لتأتي التقوى متعقبة للنصر مما يدل على ترشح وظائف عبادية وعقائدية جديدة على المسلمين من النصر في معركة بدر، ورؤيتهم للمدد السماوي والفضل الإلهي العظيم بمشاركة الملائكة لهم في القتال والهجوم على الكفار.
وجاءت خاتمة الآية ببعث المسلمين جماعات وأفراداً إلى الشكر لله عز وجل ، وهذا الشكر وبخصوص مضامين الآية الكريمة على وجوه:
الأول: نصر الله عز وجل للمسلمين في معركة بدر.
الثاني: مجئ النصر مع قلة عدد المسلمين وآلاتهم.
الثالث: كفآية المسلمين، ووقايتهم من شر الكفار ومحاولاتهم البطش والتعدي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة.
الرابع: خروج الإسلام قوياً من معركة بدر.
الخامس: الأمر الإلهي للمسلمين بتقوى الله، فمن فضل الله عز وجل على المسلمين أن يأمرهم بتقوى الله وأن يأتي هذا الأمر متعقباً لحصول الظفر والنصر للمسلمين في معركة بدر، لكي لا تصيب المسلمين غفلة، وفتور عن ذكر الله عز وجل وأداء الفرائض والعبادات والمناسك، فهذا الأمر المبارك يستحق من المسلمين الشكر لله عز وجل في ذاته وأثره وعظيم نفعه.
وفي إجتماع التقوى والشكر لله عز وجل مناسبة كريمة لنزول النصر الإلهي على المسلمين، ومجئ الملائكة مرة أخرى مدداً وعوناً، لذا إبتدأت الآية التالية بالبشارة مع تقييدها بالصبر والخشية من الله بقوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
ويفيد الجمع بين أول ووسط وآخر الآية أن نصر المسلمين في معركة بدر لم يتم لولا المدد والفضل الإلهي العظيم على المسلمين.
ومن وجوه الجمع بين أطراف الآية وجوه:
الأول: بيان معجزة النصرة الإلهي، لأنه لم يأت وهم في حال قوة ومنعة، بل جاء وهم في حال ضعف.
الثاني: نصر الله مقدمة وطريقة لتقوى الله، ويجب على المسلمين بعد نصرهم في معركة بدر التحلي بالتقوى والخشية من الله عز وجل.
الثالث: من الآيات أن الأمر بالتقوى جاء بعد الإخبار عن نصر الله للمسلمين، وعن بيان حالهم أثناء المعركة، وكيف أنهم كانوا أذلة ضعف.
الرابع: الحث على شكر الله من مقامات التقوى وطاعة الله وإجتناب معاصيه.
التفسير
قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهٍُ]
جاء قبل خمس آيات وفي آية البطانة الخطاب التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ثم جاءت الآيات بذات الصيغة من الخطاب بإستثناء آية واحدة جاءت بينها خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي آية [وَإِذْ غَدَوْتَ]( )، من غير أن تخرج عن السياق وذات المضامين القدسية، ولغة العموم في الخطاب للمسلمين.
وجاءت الآيتان السابقتان بخصوص معركة أحد على المشهور شهرة عظيمة، وجاءت هذه الآية بخصوص معركة بدر وذكرتها باسم موضع القتال، ومع وقوع معركة بدر قبل معركة أحد بأحد عشر شهراً تقريباً إلا أن الآيات قدمت ذكر معركة أحد، وفيه آية إعجازية تبين الحاجة إلى إقتباس الدروس من معركة أحد، وإعتبار معركة بدر مقدمة لها، وللصبر والتقوى فيها ، وتوكيد حقيقة وهي أن النصر قد تتبعه خسارة، فلابد من تعاهد النصر بالتقوى والخشية من الله عز وجل.
إن نصر المسلمين في معركة بدر نعمة حاضرة عند المؤمنين الذين إشتركوا في القتال في معركة أحد، ولولا النصر في معركة بدر لما زحف المسلمون إلى أحد وهم واثقون من النصر مع كثرة وقوة العدو، وكان الحرص ظاهراً عند المؤمنين ومنهم أولئك الذين فاتهم الإشتراك في معركة بدر.
لقد دخل المسلمون معركة أحد بإستحضار النصر في معركة بدر، والتوكل على الله، لذا أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] .
ومن وجوه تقديم ذكر معركة أحد في المقام وجوه:
الأول: تذكير المسلمين بواقعة بدر.
الثاني: بيان فضل الله على المسلمين في معركة بدر عند دخول معركة أحد.
الثالث: مواساة المسلمين لما لحقهم في أحد من الخسارة وقتل بعض الصحابة.
الرابع: من بديع القرآن تقسيم القرآن إلى سور وآيات إذ تستقل هذه الآية بموضوع معركة بدر.
الخامس: منع دبيب الشك واليأس إلى نفوس المسلمين بعد الخسارة في أحد.
السادس: إتحاد موضوع هذه الآيات، وتعلقها بقتال المسلمين دفاعاً عن الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع: توكيد حقيقة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خرج بنفسه إلى معركة بدر وكذا إلى معركة أحد.
الثامن: هل في تقديم خبر معركة أحد نوع توبيخ للمسلمين بأنهم لم يحافظوا على النصر في بدر، أو لم يأتوا بنصر في أحد مع إتحاد الموضوع في تنقيح المناط، الجواب لا، فقد جاءت الآيتان السابقتان في مدح المؤمنين الذين إشتركوا في معركة أحد.
لقد كان الخروج إلى أحد، وتبوء المؤمنين مقاعد القتال وحده حسنة وعملاً صالحاً لا يستطيع الجزاء عليه إلا الله عز وجل، وقد جاء الجزاء في الدنيا عاجلاً بالمدح والثناء في هذه الآيات مع تجلي معاني العز والغلبة للمسلمين، وفي الآخرة يكون الجزاء الخلود في النعيم.
التاسع: لعل الآية نزلت بعد معركة أحد، فيكون تأخير آية في معركة بدر من باب ذكر النعم التي أنعم الله تعالى بها على المسلمين في موضوع الجهاد والقتال وأنه سبحانه جعل النصر في معركة أحد قريباً من المسلمين بإستصحاب النصر في بدر.
وأراد الله عز وجل لهذه الآية أن تكون مصاحباً سماوياً للمسلمين يكشف وقائع معركة الإسلام الأولى، ويبين ما لها من الإشراقات، وغلبة المسلمين فيها.
لقد تجرأت الأمم السابقة على التنزيل بالتحريف والتغيير في اللفظ والتأويل، فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن من عند الله ليكون في مأمن من التحريف والتغيير إلى يوم القيامة.
ومن الآيات أن منافع سلامته من التحريف لا تنحصر به بالذات بل تشمل ما فيه من العلوم والأخبار، وتلك آية أخرى من إعجاز القرآن بأنه يحفظ الوقائع، ويخبر عنها كما هي ولو على نحو الإجمال لأن السنة النبوية تأتي بياناً لها، وكشفاً لتفاصيلها، بالإضافة إلى الأخبار الواردة عن الصحابة بخصوص أحداث المعركة، ووظائفهم فيها، وقيام العلماء من التابعين وتابعي التابعين بتوثيق أخبار معارك المسلمين خصوصاً التي جاءت بها آيات القرآن.
فتذكر في كتب التفسير والفقه والسيرة والمغازي وعلم الرجال لتعلقها بحياة عدد كثير من الصحابة، فتأتي معركة بوقائع ومسائل فقهية تكون سبباً لتوثيقها وذكر تفاصيل الأحداث فيها لتعلقها بموضوع الآية، كما في كتيبة ذات الرقاع مثلاً إذ لقى المسلمون جمعاً عظيماً من غطفان، وتقاربوا، وخاف بعضهم بعضاً حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين صلاة الخوف، وعن جابر بن عبد الله، في صلاة الخوف، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة ركعتين ثم سلم، وطائفة مقبلون على العدو، قال : فجاءوا فصلى بهم ركعتين أخريين، ثم سلم( ).
وذكرت فيها أقوال أخرى مبينة في كتبنا الفقهية الإستدلالية،أن موضوعية أخبار الصحابة في توثيق وقائع معركة بدر من أسرار مجئ الآية بصيغة الجمع، ويحتمل قوله تعالى[ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]بصيغة الخطاب وجوهاً:
الأول: إرادة البدريين الذين شاركوا في معركة بدر، لأنهم هم الذين نالوا النصر.
الثاني: إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت الآية بصيغة الجمع للإكرام والتشريف، خصوصاً وأن الآية قبل السابقة جاءت خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ]( ).
الثالث: المقصود في الخطاب عموم الصحابة، ومنهم الذين تخلفوا عن الخروج إلى معركة بدر عن عذر أو بدون عذر، وقد ألح جماعة من الذين فاتتهم المشاركة في معركة أحد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج إلى المشركين لقتالهم.
الرابع: عموم المسلمين في أجيالهم المتعاقبة.
اما الأول فالآية أعم منه لأن النصر جاء للصحابة جميعاً رجالاً ونساءً، فكانت غلبة المسلمين في معركة بدر منحة وإحساناً إلهياً فاز به المسلمون لم تنله أمة أخرى، إذ رجع المسلمون بالغنائم والأسرى من أعتى قوة تهابها قبائل الجزيرة، إنهم سادات قريش ذوو الشأن والصيت والمراس في الحرب والقتال، لحقتهم الهزيمة والذل في يوم بدر ولم يستطيعوا الصبر في الميدان ساعة واحدة.
وأما الثاني فان الآية خطاب عام للمسلمين وتذكير لهم بنعمة النصر والغلبة على الأعداء، وصحيح أن الآية السابقة جاءت خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنها جاءت بصيغة المفرد [غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ] ( )، بالإضافة إلى دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين في الخطاب العام باعتباره نبيهم وإمامهم وقائدهم.
والصحيح هو الرابع والخامس.
فالآية خطاب للصحابة ولعموم المسلمين في أجيالهم المتعاقبة ويدل عليه نظم الآيات ومجئ الآية السابقة والتالية بذات الصيغة، وليس من تباين بين إرادة الصحابة وإرادة عموم المسلمين فهو كعطف العام على الخاص، وليعتبر من الآية البدريون والصحابة وينتفع عموم المسلمين من هذا الإعتبار ومن الآية الكريمة.
ان لغة الخطاب إنحلالية تتوجه لكل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة وبصيغة المفرد والجمع، إذ يشعر الجماعة من المؤمنين بان الله عز وجل نصرهم في بدر، وكذا يدرك الواحد منهم، ويتلو إمام الجماعة هذه الآية في الصلاة في مشارق الأرض أو مغاربها فتدرك المصلين النعمة الإلهية العظيمة عليهم بالنصر في معركة بدر لما لهذا النصر من الأثر والنفع على كل مسلم في دينه ونفسه وعرضه .
لقد كانت معركة بدر واقية من الضلالة وأمناً من تعدي الكفار والمشركين، وهي من مصاديق قوله تعالى [اللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ) فجاء النصر في معركة بدر ليحفظ الله المسلمين والمسلمات من الكيد والمكر وأسباب الغوآية والإرتداد.
ويحتمل نصر الله عز وجل للمؤمنين وجوهاً:
الأول: النصر التام للمسلمين وعلى نحو الموجبة الكلية، والهزيمة الماحقة للكافرين.
الثاني: النصر على نحو الموجبة الجزئية مع خروج الكفار من المعركة بذات الشوكة والقوة.
الثالث: تحقق النصر في أول المعركة دون آخرها، أو بالعكس.
والصحيح هو الأول، وتدل عليه الشواهد التأريخية والأخبار، إذ إنهزم الكفار من ساحة المعركة ولحقتهم الذلة إلى يوم القيامة.
وأسر المسلمون في معركة بدر سبعين من جيش قريش منهم العباس عم النبي وعقيل بن أبي طالب، وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق، وروى أنه قال لهم: إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم، فقالوا: بل نأخذ الفداء، فاستشهدوا بأحد، وكان فداء الأسارى عشرين أوقية، وفداء العباس أربعين أوقية( ).
والأوقية ستة دنانير وأربعون درهماً، والدنيا مثقال ذهب عيار ثمان عشرة حبة، وكان الفداء يوم بدر سبباً لإسلام العباس، فلما وقع في الأسر قال: كنت مسلماً لكنهم استكرهوني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن يكن ما تذكره حقاً فالله يجزيك، فاما ظاهر أمرك فقد كان علينا.
وذكر ان النبي قال له: افد ابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث، فقال: يامحمد تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت، فقال له: فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة، وقلت لها: لا أدري مايصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل، فقال العباس، وما يدريك، قال: أخبرني به ربي، قال العباس: فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنتم مرتاباً في أمرك، فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب( ).
وما مرت السنوات حتى جاء مال البحرين ثمانين ألفاً، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة الظهر، وما صلى حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما اقدر على حمله، وكان يقول: هذا خير مما أخذ مني، وأرجو المغفرة.
وورد في قوله تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ]( )، إذ إضربت الروم وفرد فانتصرت فارس، فبلغ الخبر مكة وشق على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لأن فارس مجوس، والروم نصارى وأهل كتاب، وفرح المشركون وقالوا للمسلمين: أنتم والنصارى أهل الكتاب، ونحن وفارس أميون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرن عليكم فنزلت الآيى لتكون بشارة ووعد كريم، إلى أن ظهرت الروم على فارس( وعن ابي سعيد الخدري وافق ذلك يوم بدر وفي هذا اليوم نصر المؤمنون) ( )، أي أن النصر للمسلمين والنصارة في يوم واحد، وقيل أن نصر الروم وافق صلح الحديبية.
قال الواقدي: بلغ النجاشي مقتل قريش و ما ظفر الله به رسوله فخرج في ثوبين أبيضين ثم جلس على الأرض و دعا جعفر بن أبي طالب و أصحابه فقال أيكم يعرف بدرا فأخبروه فقال أنا عارف بها قد رعيت الغنم في جوانبها هي من الساحل على بعض نهار و لكني أردت أن أتثبت منكم قد نصر الله رسوله ببدر فاحمدوا الله على ذلك فقال بطارقته أصلح الله الملك إن هذا شي ء لم تكن تصنعه يريدون لبس البياض و الجلوس على الأرض فقال إن عيسى ابن مريم كان إذا حدثت له نعمة ازداد بها تواضعا .
قال الواقدي فلما رجعت قريش إلى مكة قام فيهم أبو سفيان بن حرب فقال يا معشر قريش لا تبكوا على قتلاكم و لا تنح عليهم نائحة و لا يندبهم شاعر و أظهروا الجلد و العزاء فإنكم إذا نحتم عليهم و بكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم فأكلكم ذلك عن عداوة محمد و أصحابه مع أن محمدا إن بلغه و أصحابه ذلك شمتوا بكم فتكون أعظم المصيبتين و لعلكم تدركون ثأركم فالدهن و النساء علي حرام حتى أغزو محمدا فمكثت قريش شهرا لا يبكيهم شاعر و لا تنوح عليهم نائحة.
قال الواقدي و كان الأسود بن المطلب قد ذهب بصره و قد كمد على من قتل من ولده و كان يحب أن يبكي عليهم فتأبى عليه قريش ذلك فكان يقول لغلامه بين اليومين ويلك احمل معي خمرا و اسلك بي الفج الذي سلكه أبو حكيمة يعني زمعة ولده المقتول ببدر فيأتي به غلامه على الطريق عند ذلك الفج فيجلس فيسقيه الخمر حتى ينتشي ثم يبكي على أبي حكيمة و إخوته ثم يحثي التراب على رأسه و يقول لغلامه ويحك اكتم علي فإني أكره أن تعلم بي قريش إني أراها لم تجمع البكاء على قتلاها.
قال الواقدي حدثني مصعب بن ثابت عن عيسى بن معمر عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت قالت قريش حين رجعوا إلى مكة لا تبكوا على قتلاكم فيبلغ محمدا و أصحابه فيشمتوا بكم و لا تبعثوا في أسراكم فيأرب بكم القوم ألا فأمسكوا عن البكاء . قال و كان الأسود بن المطلب أصيب له ثلاثة من ولده زمعة و عقيل و الحارث بن زمعة فكان يحب أن يبكي على قتلاه فبينا هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلامه و قد ذهب بصره انظر هل بكت قريش على قتلاها لعلي أبكي على أبي حكيمة يعني زمعة فإن جوفي قد احترق فذهب الغلام و رجع إليه فقال إنما هي امرأة تبكي على بعيرها قد أضلته فقال الأسود
تبكي أن يضل لها بعير و يمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكر و لكن على بكر تصاغرت الخدود
فبكى إن بكيت على عقيل و بكى حارثا أسد الأسود
و بكيهم و لا تسمي جميعا فما لأبي حكيمة من نديد
على بدر سراة بني هصيص و مخزوم و رهط أبي الوليد
ألا قد ساد بعدهم رجال و لو لا يوم بدر لم يسودوا
قال الواقدي و مشت نساء من قريش إلى هند بنت عتبة فقلن أ لا تبكين على أبيك و أخيك و عمك و أهل بيتك فقالت حلأني أن أبكيهم فيبلغ محمدا و أصحابه فيشمتوا بنا و نساء بني الخزرج لا و الله حتى أثأر محمدا و أصحابه و الدهن علي حرام إن دخل رأسي حتى نغزو محمدا و الله لو أعلم أن الحزن يذهب عن قلبي لبكيت و لكن لا يذهبه إلا أن أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبة فمكثت على حالها لا تقرب الدهن و لا قربت فراش أبي سفيان من يوم حلفت حتى كانت وقعة أحد .
قال الواقدي و بلغ نوفل بن معاوية الديلي و هو في أهله و قد كان شهد معهم بدرا أن قريشا بكت على قتلاها فقدم مكة فقال يا معشر قريش لقد خفت أحلامكم و سفه رأيكم و أطعتم نساءكم أ مثل قتلاكم يبكى عليهم هم أجل من البكاء مع أن ذلك يذهب غيظكم عن عداوة محمد و أصحابه فلا ينبغي أن يذهب الغيظ عنكم إلا أن تدركوا ثأركم من عدوكم فسمع أبو سفيان بن حرب كلامه فقال يا أبا معاوية غلبت و الله ما ناحت امرأة من بني عبد شمس على قتيل لها إلى اليوم و لا بكاهم شاعر إلا نهيته حتى ندرك ثأرنا من محمد و أصحابه و إني لأنا الموتور الثائر قتل ابني حنظلة و سادة أهل هذا الوادي أصبح هذا الوادي مقشعرا لفقدهم)( ).
علم المناسبة
ورد لفظ[نَصَرَكُمْ] في آيتين من القرآن، أحداهما هذه الآية، أما الآية الأخرى في قوله تعالى[لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ]( )، ومن إعجاز الجمع بين الآيتين تذكير المسلمين بالنصر يوم بدر وهم أذلة، وما حصل الخوف الإرباك يوم حنين.
وبين الآيتين عموم وخصوص مطلق فنصر الله المسلمين في بدر فرد من أفراد نصر الله لهم الذي ذكرته الآية أعلاه من سورة التوبة، ويفيد الجمع بين الآيتين أن كل نصر حققه المسلمون هو من عند الله عز وجل، ولكن النصر في معركة بدر إتصف بخصوصية وهي المدد من الملائكة، وهذا المدد جاء أيضاً في معركة أحد.
وهل من ملازمة بين نصر الله والمدد من الملائكة، الجواب لا، وإن نزلت الملائكة يوم حنين أيضاً وعدم الملازمة هذا شاهد على بديع صنع الله عز وجل، وعظيم قدرته وسعة سلطانه، ولأسباب كلها بيده، وفيه نكتة كلامية بخصوص معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال بنزول الملائكة مدداً له ولأصحابه المؤمنين، وذكرت الآية أعلاه أن نصر الله للمسلمين متعدد وفي مواطن كثيرة منها واقعة بدر، وكتيبة بني قريظة وبني النضير وخيبر وفتح مكة وغيرها.
ولم يرد لفظ[مَوَاطِنَ]في القرآن إلا في الآية أعلاه.

قانون”معركة بدر”
جاءت هذه الآية بأمور:
الأول: الإخبار عن تحقيق المسلمين النصر على الكفار في معركة بدر.
الثاني: نسبة النصر إلى الله عز وجل، فهو الذي نصر المؤمنين يوم بدر، وتدل الآية التالية على نزول الملائكة لنصرة المسلمين.
الثالث: بيان حال المسلمين يوم بدر، وأنهم كانوا ضعفاء أذلة، لبيان الإعجاز في النصر الإلهي وتوكيده، والزجر عن إرجاع النصر للأسباب المادية.
الرابع: دعوة المسلمين لشكر الله عز وجل على نعمة النصر.
وجرت معركة بدر يوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة( )وجاءت هذه الآية لتوثيقها، وهي من أعظم وأهم معارك الإسلام، وكانت طريقاً ووسيلة قتالية وعقائدية لتثبيت كلمة التوحيد مع أنها لم تستمر إلا ساعتين أو نحوها، وفيه إعجاز آخر على نزول الملائكة لنصرة المسلمين.
لقد بدأت المعركة بالمبارزة الشخصية بين ثلاثة من أهل البيت وكفار قريش وإنتهت بقتل واحد من أهل البيت هو عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب، والثلاثة من قريش، ولكن أبا جهل وجيش الكفار قاموا بالهجوم بعدها.
فجاءت نصرة الملائكة آية من عند الله، وهجم المسلمون معهم الملائكة فكانت الدائرة على قريش، ولم تقم لهم قائمة بعدها إلى يوم الدين، وهو من أسرار نصرة الملائكة، وقتالها ضد قريش بأن أفل وتهافت نجم قريش، فلا يكون لها شأن بين القبائل بعد مدة ساعتين من نهار يوم من شهر رمضان تغير فيهما مجرى تأريخ الإنسانية، ولا ينحصر موضوع هذا التغيير بزمان مخصوص بل إن بركاته باقية إلى يوم القيامة، وهو خير محض، وسبيل صلاح للناس جميعاً.
ويدل خروج المؤمنين للمبارزة، وقتال المسلمين وهجومهم على الكفار على أن الملائكة جاءوا مدداً وعوناً، ولم يتكفل الملائكة وجوه القتال كلها مع المشركين، لذا وصفتهم الآية التالية بأنهم مدد، فكان الملك يستعمل السوط مثلاً لضرب المشرك لينهزم أمام المؤمن، وقد حطم أنفه وشق وجهه، ولم يكن عند المسلمين ما يستعدون به للمعركة قبل وقوعها والسلاح والخيل والمؤن الكثيرة.
وأرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سرايا إستطلاع حول المدينة للإطمئنان من عدم غزوها أو مهاجمةالمسلمين من الخلف، ولإختيار أفضل الواقع لمواجهة العدو، ولا حظت هذه السرايا الطريق الذي تسلكه قوافل قريش التي جاءت بالتجارة من الشام ومعها أبو سفيان.
وإختار المسلمون للقتال موضع الماء في بدر، وذكر أنهم جعلوا آبار الماء خلفهم، ويبعد موضع معركة(بدر) مائة وخمسين كيلو متراً عن المدينة المنورة في الطريق إلى مكة المكرمة، وهي بئر للماء يتزود منها الذين يمرون في طريقهم عليه، ليصبح الآن قرية كبيرة .
وسيكون لهذه القرية شأن عظيم في التأريخ وتأخذ بالإتساع، ويأتيها الحجاج والمعتمرون تبركاً بالموضع واليوم العظيم الذي نصر الله عز وجل به المسلمين، وسيكون إتساعها شاهداً آخر على إعجاز الآية القرآنية، وأثرها الزماني والمكاني، وقد إقترحت قبل عدد من السنين أن يكون هناك يوم إسمه يوم القرآن العالمي.
وأن الأفضل أن يكون يوم السابع عشر من شهر رمضان والذي سماه الله عز وجل يوم الفرقان لأن فيه إنتصار الحق على الباطل، قال تعالى[تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ) وستحرص جماعات من المؤمنين على قضاء يوم السابع عشر من شهر رمضان في مدينة بدر والتبرك بمواضعها، ومشاهد معالم المعركة الأولى للإسلام في المدينة التي يقتبس إسمها من القرآن ، ويحصل التدافع والتزاحم في مسجد العريش الموجود الأن في القرية، وفي الوضع الذي بني فيه المؤمنون عريشاً لينزل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليكون يومئذ مسجدا وموضعا للدعاء وغرفة عمليات .
وستظهر وسائل الإعلام العالمية الإستعدادات المحلية لإستقبال الزوار والبرامج والمحاضرات والخدمات يومياً، إلى جانب الزيارات المتصلة للموضع من قبل عموم المسلمين والمسلمات من أرجاء المعمورة، ولترتبط البلدة بطريق وسكة قطار مع المدينة المنورة، ومكة المكرمة ، لتكون هذه الزيارات عنوان صلة بين المسلم والمسلمة وبين الصحابة الأوائل، وشاهداً واقعياً بأن قوله تعالى[لَقَدْ نَصَرَكُمْ] إنما هو نصر للمسلمين جميعاً.
وفي تلك الزيارات يومئذ وجوه:
الأول: إنها صيغة مباركة في الصلة بين المسلمين في هذه الأزمنة وبين الصحابة الأوائل.
الثاني: يرى المسلمون المعجزات على أرض الواقع.
الثالث: إنها موطن للدعاء، فقد ثبت أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ألحَّ بالدعاء يومئذ في العريش حتى سقط رداؤه من على منكييه.
الرابع: إقتباس المسلمين الدروس من جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبدريين.
الخامس: السياحة في الأماكن الدينية، ورؤية الموضع الذي تغير منه وجه التأريخ إلى الأحسن، لتعلو كلمة التوحيد، ويجعل الله للمسلمين عزاً متجدداً دائماً إلى يوم القيامة.
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر من الخلف بين جبلين أحدهما صخري وآخر رملي وقيل كانت هناك قرية إسمها(الدبة) لم تكن موجودة الآن، وقد ترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طريقاً آخر إلى الحمراء للتورية والتمويه على العدو، وعسكر المؤمنون في العدوة الدنيا، قال تعالى[إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ] ( ).
والعدوة شاطئ وجانب الوادي، والمراد من الدنيا أي مما يلي المدينة، والقصوى مما يلي مكة، أما الركب فهم الأربعون رجلاً الذين كانوا يقودون عير قريش القادمة بالبضائع من الشام، في إشارة إلى ضعف المسلمين، وعجزهم عن الجمع بين أخذ العير وقتال القوم، وفقر المسلمين وغنى الكفار، وهو من مصاديق وصفهم بالذلة يوم بدر، ومن الآيات في المقام ذكر مواضع المتحاربين في القرآن لما له من الدلالات والأثر في المعركة إذ أنه يدل على ضعف إضافي عند المسلمين، وقوة ومنعة أخرى عند الكفار، إذ أن العدوة الدنيا التي نزل فيها المسلمون خبار تسوخ فيها الأقدام في الرمل ويصعب فيها المشي لولا أن منّ الله عز وجل على المسلمين بمطر فتلبدت به أرضهم وزال عنهم الظمأ وإغتسـلوا من الجنابة والحدث.
أما العدوة القصوى التي نزل فيها المشركون فهي على كثيب من الرمل وكان فيها الماء، وكانت العير والخوف خلف ظهورهم وكذا النساء للذب عنهم وبذل قصارى الجهد حمية وغيرة وخشية الشماتة والفضيحة بين القبائل، وبنى الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر عريشاً.
وهو ما يكون من عيدان وسعف نخيل منصوبة يظلل عليها، ويستظل بها، وفي لسان العرب: قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: إلا نبني لك عريشاً تتظل به) ( ) .
وصار العريش مقراً لقيادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجيش، وموضعاً للدعاء والصلاة، وسؤال النصر والغلبة على الأعداء، فمن الأسرار في قيادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التداخل بين أمور:
الأول: توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء إلى الله، وسؤال النصر والمدد الملكوتي.
الثاني: توجيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين في قتالهم.
وهذا التوجيه متعدد الجهات منها:
الأولى: تعيين الذين يتقدمون بالمبارزة الشخصية كما في أمره للحمزة وعبيدة، وعلي، وكان علي عليه السلام أصغرهم سناً.
الثانية: أوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحاب الرايات، سواء رآية المهاجرين أو رآية الأنصار أو غيرها.
الثالثة: أوامر النبي في الدفاع وصد هجمات الأعداء.
الرابعة: وصايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأمراء والمقاتلين.
الخامسة: أوامر الهجوم على العدو ومواضعه ومؤنه.
السادسة: كيفية جمع الغنائم وغيرها من الأوامر التي يقوم بها النبي في المعركة والتي تصدر عن الوحي، لذا فإن وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المعركة حاجة للمؤمنين، ويكون من عمومات النصر في قوله تعالى[لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] نصرهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعائه وأوامره .
وبالإضافة إلى المدد من الملائكة، ومن الآيات إمتثال أهل البيت والصحابة لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير تردد والحمزة عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أكبر منه سناً، وعندما أمره النبي بالخروج للمبارزة خرج وقاتل طاعة لله وسوله.
قانون ” الرؤيا في بدر”
من نعم الله عز وجل على الإنسان الرؤيا الصالحة، ورؤيا البشارات والإنذارات مع فتح باب الدعاء، وتقريب موضوع البشارة، ومحو موضوع الإنذار، وفاز بهذا الباب المؤمنون.
وكانت رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جزء من الوحي، وتكون الرؤيا الصالحة مرآة له، وتأتي الرؤيا رحمة بالمسلمين، قال تعالى [إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ]( ) وفيه بيان لمنافع الرؤيا في التخفيف عن المؤمنين وتثبيت أقدامهم ومواجهتهم الكفار والأعداء في سوح المعارك، فتأتي الرؤيا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة لينتفع منها المسلمون جميعاً، من الصحابة والأجيال اللاحقة من المسلمين.
وتحول رؤيا البشارة والإنذار دون الفشل وهو الضعف مع الفزع، والتنازع والإختلاف وما فيه من الضعف والفرقة، لتكون الرؤيا هبة من عند الله، وسلاحاً بيد المسلمين.
والرؤيا لطف من عند الله لما فيها من تقريب الناس إلى منازل العبادة والنسك، وهي شاهد حاضر على وجود صلة بين الله وروح الإنسان وكأنها مصداق لقوله تعالى [فنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا] ( )، وإستدامة بركات هذا النفخ عند الإنسان حتى في عالم المنام، وسكون الأعضاء وغياب الحواس.
ولا ينسى الله عز وجل العبد في أي حال من الأحوال فتنزل عليه شآبيب الرحمة في اليقظة والمنام، وفيه وجوه:
الأول: يلتفت الإنسان إلى النعم التي تأتيه في اليقظة كالسلامة في البدن والرزق، ودفع الأذى، وإلى النعم الإلهية في عالم الرؤيا فينتفع من بشاراتها ويتعظ من إنذارتها.
الثاني: يدرك الإنسان النعم التي تأتيه في عالم اليقظة، ولا يلتفت إلى عالم الرؤيا وما تحتويه وترمز اليه من إخبار عن أمر قد مضى، أو حادث قادم.
الثالث: يولي الإنسان عنآية خاصة بأحلامه وما يراه في عالم الرؤيا، ولكنه لا يتعظ ويتدبر في النعم التي تتوإلى عليه في عالم اليقظة.
الرابع: إصرار الإنسان على الجحود والإعراض عن النعم التي ترد في عالم اليقظة أو التي تأتي في المنام.
ومن إعجاز القرآن دعوته المسلمين والناس جميعاً للعنآية والإلتفات إلى النعم الظاهرة والباطنة، لتكون الرؤيا الصالحة من النعم الباطنة، قال تعالى [وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً] ( ).
بالإضافة إلى مجئ الرؤيا في القرآن إذ وردت سبعة من الرؤيا في القرآن، إثنتان منها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تشريف إضافي له بأن تذكر رؤياه في القرآن، وتبقى مضامينها ودلالاتها إلى يوم القيامة.
وقد ذكرت الآية اسم بدر، ولم تقل (في معركة بدر) بل قالت (ببدر) وفيه وجهان:
الأول:في الآية حذف للمضاف، والتقدير: ولقد نصركم الله بمعركة بدر.
الثاني: النصر المقصود في الآية أعم من الظفر في المعركة.
ولا تعارض بين الوجهين، وتلك آية من إعجاز القرآن، فالمراد وقائع معركة بدر كما ان النصر عام وشامل.
وتبين معركة بدر حاجة المسلمين والناس جميعاً إلى نصر الله، وهذه الحاجة لا تنحصر بالبدريين بل تشمل الصحابة والصحابيات والتابعين والمسلمين والمسلمات جميعاً.
وتلك حقيقة يدركها كل مسلم ومسلمة في كل زمان، ولا يعني هذا تعلق بقاء الإسلام بمعركة بدر على نحو الملازمة والتقيد، لأن الله واسع كريم وهو الذي أراد إظهار الإسلام ونصر المؤمنين، فإذا لم يكن النصر والظفر بمعركة بدر فانه يكون في معارك أخرى ويكون من غير دخول معركة أيضاً، وهو سبحانه لاتستعصي عليه مسألة.
فتفضل الله عز وجل بنصر المسلمين في أول معركة يواجهون بها المشركين، لتكون هذه المعركة حجة ومعجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، تدعو الناس إلى الإسلام وتحثهم على الإعراض عن محاولات قريش وأقطاب الشرك والضلالة والصد والمنع من دخول الإسلام.
لقد جاءت هذه الآية ليدرك المسلمون أن نصرهم في معركة بدر فضل ورحمة من عند الله، ومن الإعجاز أن هذا الإدراك ظاهر لمن إشترك في المعركة ومن خلفهم وللأجيال المتعاقبة من المسلمين والمسلمات، فقد لا يحس أطراف الحادثة بما فيها من الآيات لإنشغالهم بالأسباب المادية الظاهرية، وقد تخفى بعض الحقائق عن الأجيال اللاحقة.
فجاءت هذه الآية جامعة مانعة، جامعة لموضوع النصر، مانعة من التغيير والتحريف في أمور:
الأول: وقوع معركة بدر.
الثاني: حصول النصر للمسلمين.
الثالث: نسبة النصر إلى الله تعالى.
الرابع: خسارة وهزيمة الكفار والمشركين.
وتؤكد الآية الكريمة وقوع معركة بين المسلمين والكفار في موضع مخصوص هو (بدر) وهذه التسمية متسالم عليها في زمانها، ليصبح علماً واسماً مشهوراً على الموضع والواقعة، وحتى لو إختلفت معالم هذا الموضع فان اسم بدر باق إلى يوم القيامة، وهذا شرف ومنزلة عظيمة لهذا الموضع ببركة هذه الآية الكريمة، فاذا قيل أن هذه الواقعة ثابتة في كتب المغازي والسيرة وان لم تذكرها الآية القرآنية، والرد على هذا القول من وجوه:
الأول: كتب المغازي والسيرة فرع القرآن وآياته.
الثاني: ذكرت آيات القرآن بعضاً من أخبار الوقائع والمعارك التي خاضها المسلمون لتكون تأسيساً لعلم المغازي، وبرزخاً دون الغفلة عنها أو قلة الإهتمام بها، فلولا ذكر آيات القرآن لوقائع مخصوصة وما جرى فيها ونتائجها لأعرض الناس عنها، وقالوا تكفينا العنآية بعلوم التفسير والفقه.
الثالث: يبعث ذكر آيات القرآن للوقائع الشوق في النفوس لمعرفة تفاصيلها.
الرابع: تلاوة هذه الآية مناسبة للتدبر في المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: في القرآن تبيان لكل شئ، ومن الشواهد عليه ذكر أهم الوقائع والمعارك التي خاضها المسلمون، وإتخاذها مدرسة وعبرة وموعظة.
السادس: ذكر الوقائع والمعارك في القرآن تشريف وإكرام لأهلها، ودعوة للصحابة الآخرين للإلتحاق بهم في سوح المعارك.
وعندما وقعت معركة بدر بادر المسلمون للقتال، وروي عن ابن عباس انه قال : كان المهاجرون يوم بدر سبعة وسبعين رجلا، والأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلا، والجميع ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً( ).
ولكن عدد المسلمين الذين خرجوا إلى معركة أحد أضعاف هذا العدد، لإسلام عدد كثير من الناس بعد معركة بدر ، ولأن الذين لم يخرجوا إلى أحد فرحوا بالمشاركة والإنتقام من المشركين، ومنهم من أصر على الخروج وعدم إنتظار الكفار في المدينة لفوات المشاركة في معركة بدر عليهم، فأرادوا التعويض والتدارك ونيل شرف مقاتلة الكفار، والمساهمة في هزيمتهم مما يدل على أثر وموضوعية الآية القرآنية ومضامينها في جذب المسلمين للقتال، ومنع التفريط والتكاسل وحب القعود في البيت أوان القتال.
قانون “نصركم الله”
لقد أنعم الله عز وجل على الناس وجعلهم خلفاء في الأرض يتبؤون منها حيث شاءوا من المنازل موضعاً وسعة، وإن سبق شطر منهم إلى المواضع الأحسن والحسنة فان الأقل منها يبقى في منازل غيرهم وقد تصبح هي الأحسن، وتلك آية في كرم الله عز وجل ففي كل زمان هناك أراض وصحار وهضاب وكنوز لم تصل اليها يد الإنسان.
وجعل الله شرطاً في الحياة الدنيا وهو لزوم التوحيد والإقرار بالعبودية لله تعالى، والإنتماء للإسلام بإعتباره علة خلق الإنسان، فليس في إختيار الديانة مراتب وتعدد وإختيار أحد الضدين، بل أن الإنتماء محصور بالديانة الحق والشريعة الناسخة للشرائع السابقة.
ومن الآيات أنها تتصف بالسعة والقدرة على إستيعاب كل الناس رجالاً ونساءً من غير شرط أو قيد بالذات أو العرض، بالإضافة إلى سهولة الإنتماء للإسلام، فليس بين البقاء على الكفر والإنتقال إلى الإسلام إلا النطق بالشهادتين ليكون هذا النطق نصراً من الله على النفس الشهوية، وطرداً للشيطان وإغوائه عنها وعن الجوارح.
ويرتقي الإنسان بالإيمان في مراتب العبودية لله تعالى والأهلية لمنازل الخلافة في الأرض، ويكون عوناً للمسلمين الآخرين في تثبيت مفاهيم التوحيد وداعياً إلى الله عز وجل، ومحارباً للكفر والشرك، الأمر الذي لايرضي الكفار فيسعون في إرتداده ومنعه من أداء وظائفه العبادية مع أن هذا الأداء لايضرهم، ولكنهم يدركون بالحس والوجدان أنه سبب لجذب أناس آخرين من حواليهم إلى الإسلام، ويتعذر عليهم حمله على الإرتداد وصد الناس عن دخول الإسلام لأنهم أضعف من أن يواجهوا المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيلجأون إلى القتال والحرب، ويأتون بالجيوش والقبائل لمحاربة المسلمين لجماعة وأمة، وهو الأمر الذي فعلته قريش ، إذ جاءت بجيوش لاعهد للجزيرة العربية بها في حينه.
ويبين عدد جيش قريش في بدر ثم في أحد سلطانها وقوتها ونفوذها بين القبائل، وقدرتها على ندب الناس للقتال، خصوصاً وانه ليس من حق لهم يطلبونه عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعند المسلمين، والمتعارف بين الناس وجود سبب وراجح عقلي أو عرفي أو شرعي للنصرة والإعانة من طلب حق، أو ثأر.
وجاءت قريش يوم بدر بنحو ألف من المقاتلين وليس لها حق تطلبه، ولا غنيمة ترجوها في المسلمين أو في المدينة المنورة، وإذ فزعت بعض القبائل والأفراد لنصرة قريش فان المسلمين لم تفزع لهم جماعة أو قبيلة في معركة بدر أو أحد، وتلك مسألة مهمة في عدم تحصيل التكافئ في المعركة، فمع كثرة رجال وأموال وعدة ومؤون قريش فانها تجد الناصر والمعين، ومع قلة عدد المسلمين والنقص الظاهر في أموالهم وعدتهم، فليس من ناصر لهم إلا الله [اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]( ).
وقد أغرى هذا التباين قريشاً ومن معها، وظنت أن المسلمين فريسة سهلة، ومغنماً قريباً، فاختارت النزاع والبراز وتحملت مشاق السفر ومؤون الحملة والهجوم للإنقضاض على المسلمين فلاقاهم المسلمون بالمدد والعون الإلهي.
وجاءت هذه الآية لتؤكد أموراً:
الأول: تحقيق المسلمين النصر في معركة بدر.
الثاني: نسبة النصر إلى الله عز وجل .
الثالث: غنى الله عز وجل عن العالمين.
فالله عز وجل غير محتاج لهذا النصر، ولكن المسلمين محتاجون إلى هذا النصر أفراداً وأمة وملة، لذا فان هذه الآية تذكير بالنعمة الإلهية على المسلمين بالنصر، ودعوة لهم للشكر على هذه النعمة، وبرزخ دون نسيانها أو إهمالها ولو لم ينصر الله المسلمين فهل ينتصرون، الجواب من وجوه:
الأول: يتحقق النصر للمسلمين بتوكلهم على الله وإخلاصهم النية.
الثاني: ينتصرون بحسن قتالهم، واستبسالهم في القتال.
الثالث: كانت معركة بدر حياة أو موتاً للمسلمين، لذا فانهم يبذلون الوسع في القتال، ويظهرون أسمى معاني الأخوة والتعاون من أجل تحقيق الغلبة على الأعداء.
الرابع: يأتي نصر المسلمين بسبب ضعف الكفار، وإمتلاء صدورهم بالخوف من المسلمين.
الخامس: معرفة المسلمين لفنون القتال، وقيامهم بمباغتة العدو.
السادس: عدم وقوع المعركة، وحصول أسباب تحول دونها.
السابع: لم يتحقق إنتصار وغلبة المسلمين لولا المدد والعون الإلهي.
الثامن: يبادر المسلمون إلى طلب الصلح والهدنة والرضا بشروط الكفار.
والصحيح هو السابع، وتدل الآية في مفهومها على عدم إنتصار المسلمين لو لم يمن الله تعالى عليهم بالنصر والعون منه سبحانه، وتقدير مفهومها: ولولا نصر الله لكم ببدر لما انتصرتم.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الغلبة والنصر في معركة بدر على نحو التعيين، ولا راد لأمره، ولا غالب لمشيئته وقضائه، فجاءت هذه الآية مدحاً وثناء من الله عز وجل على نفسه، فبعد أن جاءت الآية السابقة بالإخبار عن ولآية الله عز وجل للطائفتين من المؤمنين اللتين همتا بالضعف المقترن بالشعور بالضعف يوم أحد.
جاءت هذه الآية للإخبار عن نصر الله للمؤمنين ليفزعوا إلى الدعاء، ويرجوا النصر من عند الله في معركة بدر، وهو سبحانه وليهم ولا يتركهم قال تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( )، وتدل عمومات هذه الآية الكريمة على حضور العنآية واللطف الإلهي بالمؤمنين في ميدان المعركة، قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ]( ).
لقد وعد الظالمون والفاسقون وجنود إبليس الكفار بالإعانة والنصرة ولم ينفعوهم شيئاً، وجاءت نصرة الله عز وجل للمؤمنين حاسمة للمعركة بالنصر التام للمسلمين، وتستلزم هذه الآية تأليف مجلد خاص في كل من :
الأول: نصر الله للمسلمين في معركة بدر.
الثاني: المواطن الكثيرة التي نصر الله بها المسلمين.
الثالث: بيان مصاديق نصر الله للمسلمين في المعارك على نحو الخصوص سواء بالمعجزات التي تسبق المعركة أو التي تكون أثناءها أو التي تحصل بعدها.
وتدعو الآية العلماء في أجيال المسلمين المتعاقبة إلى ذكر أفراد ومصاديق نصر الله عز وجل للمسلمين في معركة أحد، ويحتمل النصر وجوهاً:
الأول: مجيؤه دفعة واحدة.
الثاني: إنحلال النصر إلى عدة أفراد ووجوه.
الثالث: الأمر الجامع بين الدفعة الواحدة والتدريج، كما لو كانت مقدمات النصر تدريجية، والنصر خاتمة للمعركة.
والصحيح هو الثاني، فيصدق النصر على القضية الشخصية في المبارزة الفردية، كما في مبارزة وقتل الإمام علي عليه السلام للوليد بن عتبة يوم أحد.
لقد تم قتل سبعين وأسر سبعين من المشركين يوم بدر، وفي كل قتل أو أسر منها نصر من الله عز وجل تسبيباً وفعلاً وأثراً وغآية.
وهل من صلة بين نصر المؤمنين في معركة بدر وبين الخلافة في الأرض الجواب نعم، لأن نصر المؤمنين مقدمة وموضوع لإستدامة عبادة الله في الأرض وإعمارها بالصلاح والتقوى، وفيه مصداق لقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] في رد الله على الملائكة [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) فمن علم الله تعالى حصول معركة بدر بين المسلمين والكفار، ونصر الله عز وجل المسلمين، ومنع الكفار من مواصلة الإفساد في الأرض.
بحث بلاغي
من وجوه البديع “الفرائد” وهو المجيء بلفظة تكون بمنزلة الفريدة، أي القطعة والجوهرة من العقد التي لا شبيه لها، وهذا الوجه خاص بالفصاحة دون البلاغة، وتدل على قدرة المتكلم على إختيار اللفظ المناسب، وسمو المنطق عنده ، وتسمى تلك اللفظة إصطلاحاً فريدة لأنها تشق على الفصحاء.
ومن إعجاز القرآن ان كلماته كلها فرائد بالإضافة إلى إنفرادها بخصوصية وهي تعدد وجوهها ومعانيها، فاللفظ القرآني شجرة مثمرة تحمل أنواع الثمار، يقطف منها كل ذي إختصاص ما يحتاج اليه وسيلة وغآية.
وإبتدأت هذه الآية بالإخبار عن تحقيق النصر للمسلمين [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ] إذ جاءت باللام التي تفيد الإمضاء والصيرورة، ومنهم من يلحقها بالقسم، ثم حرف التحقيق “قد” ثم الإخبار عن موضوع الآية وهو حصول النصر للمسلمين في أول معارك الإسلام، وجاءت الآية بصيغة الجمع في الخطاب الذي يدل عليه الكاف “نصركم” وهو خطاب إنحلالي يشمل البدريين على نحو العموم الإستغراقي، وتقدير صيغة المفرد في الخطاب لكل بدري: ولقد نصرك الله ببدر، وهذا المعنى الشخصي في طول المعنى العام وصيغة الجمع للآية، فكأن كل واحد من البدريين نال النصر من وجوه:
الأول: نصر المسلمين عموماً في المعركة.
الثاني: نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الكفار.
الثالث: إنتصار الإسلام على الكفر يوم بدر.
الرابع: النصر الشخصي لكل بدري.
وهل نصر البدري على واحد أو أكثر من الكفار الجواب لا، فان كل بدري إنتصر على الكفار الذين إشتركوا في معركة بدر جميعاً، ثم ذكرت الآية العلة المادية للنصر، وما منه النصر، فهو رشحة من رشحات الباري عز وجل.
إذ قالت الآية [ نَصَرَكُمْ اللَّهُ] وفي الآية ثناء من الله عز وجل على نفسه، فهو الذي بيده مقاليد الأمور، وهو الرؤوف الرحيم، وكانت رحمته يوم بدر بنصر المؤمنين، وهل في هذا النصر رحمة بالكفار أيضاً، الجواب نعم، لأن هذا النصر مناسبة لتثبيت دعائم الدين، وباب للتوبة والإنابة، وبرزخ دون زيادة الإثم والتمادي في الكفر والغي، فقد زحف الكفار للقضاء على الإسلام، والإفساد في الأرض، وهو خلاف العلة الغائية للخلق والوجود الإنساني في الأرض.
فقد أراد الله عز وجل للأرض أن تكون عامرة بعبادته وقام شطر من الذين خلقهم الله لعبادته بمحاربة الإسلام والهجوم على المؤمنين، فجاء نصر المؤمنين في معركة بدر لمنع فتنتهم وزجرهم عن الباطل، وإرجاعهم عن غيهم، واللطف بهم بتقريبهم إلى التوبة والصلاح، ومن وجوه اللطف في المقام أن يروا الملائكة يقومون بالإجهاز عليهم، وحتى لحوق الملائكة بهم كان درساً بليغاً، فلم يكن عند المسلمين يوم معركة بدر إلا فرسين، وسارع الكفار إلى الهزيمة وترك مؤونهم الأمر الذي يعني الخفة والسرعة حين الهزيمة ومعهم الرواحل السريعة، فلا يستطيع المسلمون اللحاق بهم، فقام الملائكة بملاحقتهم لكي يتعظوا ويعتبروا من هذه الآية العظيمة، ويتجنبوا الزحف مرة أخرى على المدينة.
قوله تعالى [بِبَدْرٍ]
ذكرت الآية موضع وموضوع النصر وأنه ببدر، وتلك آية إعجازية في القرآن لما تدل عليه من البيان والتعيين، وفيه دعوة للعنآية النوعية العامة من المسلمين بمعركة بدر من وجوه:
الأول: ذكر الاسم والموضع في القرآن، وما فيه من المعاني السامية.
الثاني: حصول معركة وقتال في الأرض والمحل الذي يسمى بدراً بين المسلمين والكفار.
الثالث: تعيين وتوثيق نتيجة المعركة والقتال، إذ أن نتيجة المعركة تحتمل وجوهاً ثلاثة:
الأول: إنتصار المسلمين.
الثاني: إنتصار الكفار.
الثالث: إنتهاء المعركة من غير تحقيق نصر لأي من الطرفين.
وجاءت الآية بالإخبار عن إنتصار المسلمين في معركة بدر، ويتجلى هذا الإخبار بصيغة الخطاب الواردة في الآية الكريمة، (نصركم) والمراد بجهة الخطاب هم المسلمون، وهل يمكن للكفار أن يظنوا بأن الخطاب موجه لهم، الجواب لا، من وجوه:
الأول: دلالة نظم الآيات على توجه الخطاب فيها إلى المسلمين.
الثاني: أخبار السنة النبوية التي تؤكد نصر المسلمين، وإحضار الأسرى من قريش إلى المدينة المنورة وفدائهم.
الثالث: مجئ الآيات في بيان فضل الله على المسلمين في ميادين القتال.
الرابع: دعوة المسلمين في هذه الآية الكريمة للشكر على نعمة النصر في بدر التي أنعم الله عز وجل بها عليهم.
الخامس: إخبار هذه الآية بكون المسلمين قلة وأذلة ومستضعفين.
السادس: حث المسلمين في هذه الآية على تقوى الله، والتقوى تأتي بعد الإسلام، بشرط قصد القربة فيها والذي لايتحصل إلا بالإسلام.
السابع: السيرة والأخبار المتواترة التي تدل على إنتصار المسلمين في بدر.
الثامن: زحف الكفار في معركة أحد للثأر مما لحقهم من الهزيمة والخسارة والذل في بدر.
التاسع: مجئ الآية في بيان النعم الإلهية على المسلمين، لأن نصر المسلمين في معركة بدر نعمة وفضل عظيم من عند الله عز وجل، وتحتمل جهة الخطاب في الآية بلحاظ السعة والضيق وجوهاً:
الأول: إرادة البدريين أي الذين شاركوا في معركة بدر من الصحابة.
الثاني: عموم المسلمين أيام نزول الآية الكريمة.
الثالث: جميع المسلمين في أجيالهم المتعاقبة، وهو على شعبتين:
الأولى: إرادة الرجال من المسلمين دون النساء.
الثانية: المقصود عموم المسلمين رجالاً ونساءً.
ولاتعارض بين الوجوه أعلاه، فكأن الخطاب على قسمين خاص وعام، ويراد من الخاص البدريون والمؤمنون عامة أيام التنزيل، أما العام فيشمل المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة، ومن نفع الخاص في المقام حث الصحابة على القتال في المعارك اللاحقة، ودعوتهم وحثهم على الشكر لله عز وجل.
اما النفع العام فالآية هبة سماوية لكل مسلم ومسلمة لما فيها من الإخبار عن إنتصار الإسلام، ودحر الكفر والشرك والضلالة، فيمكن حمل الآية على الخطاب الخاص وحملها على الخطاب العام، ولكل فرد منهما منافعه المتعددة.
لقد خاطبت الآية أيام نزولها أهل بدر ومن يلحق بهم من الصحابة الذين تخلفوا عن الخروج عن عذر بإن الله عز وجل نصرهم على عدوهم، ولم تأت الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم تقل (ولقد نصرك الله ببدر).
وفي صيغة الجمع في الآية إكرام إضافي للمسلمين إذ جاء النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولهم، وهم أنصاره وأتباعه وأصحابه.
وقد جاءت آيات أخرى تتضمن الإخبار عن نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ]( )، وتبين الآية محل البحث حب الله عز وجل للمسلمين، وإختصاصهم بالنصر من عنده تعالى، فليس من أمة أو ملة تنال النصر من عند الله أوان وبعد نزول القرآن إلا المسلمين مما يدل على بدآية بزوغ شمس الإسلام، وعدم قدرة الكفار على إيقاف زحفه وتقدمه وإنتشاره بين الناس لأن النسبة بين نصر الله وظهور الدين نسبة العلة إلى معلولها، فكما أن المعلول لا يتأخر عن علته فكذا السلامة والنجاة والظهور على الأعداء فانها أمور تترتب على نصر الله.
وبدر موضع بين المدينة المنورة، ومكة المكرمة، وفي تسمية بدر وجهان:
الأول: هناك بئر لرجل اسمه بدر، فسمي الموضع بإسمه قاله الشعبي.
الثاني: عن الواقدي هو اسم لموضع، وكل شئ تم فهو بدر.
ولعل وجه التمام في المقام هو وجود الماء وكفآية المسافر في الطريق لحاجته وحاجة دوابه من الماء، أو من الماء والزاد والعلف.
وفي قوله تعالى [نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] حذف، والتقدير على وجوه:
الأول: نصركم الله بمعركة بدر .
الثاني: نصركم الله بموضع بدر.
الثالث: نصركم الله بيوم بدر.
ولاتعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، لأن المسمى واحد، فحالما يسمع المسلم وغيره موضوع النصر في بدر يتبادر إلى ذهنه إنتصار المسلمين في معركة بدر، ولم تجر بعدها معركة في نفس الموضع وإلى يومنا هذا، ليبقى الموضع شاهداً على محق الكفار الذين إعتدوا على الإسلام في بدآياته، وتلك آية إعجازية في أسماء المواضع والوقائع التي ذكرها القرآن.
وكأن تلك المعركة وذكرها في القرآن أضفى خصوصية وقدسية على هذا الموضع لأن فيه نصر الله للمسلمين، فيصح أن يشير المسلم إلى موضع بدر أو يستحضره في ذهنه أو على الخريطة ويقول هنا نصر الله لنا، وفي هذا الموضع نزل نصر الله على المسلمين في ساعة محنة وشدة وضيق على المسلمين لم يمروا بمثلها قط، فليس في تأريخ الإسلام ساعة حرج وشدة على المسلمين مثل يوم بدر.
صحيح كانت هناك أيام عصيبة مثل يوم أحد وفرار أكثر المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويوم الخندق، ويوم حنين إذ قال الله تعالى [وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ]( )، إلا أن واقعة بدر تتصف بأمور:
الأول: انها أول معركة للمسلمين ، وللنتيجة في أول معركة أثر عظيم على كل من.
الأول: المسلمون لما في النصر والغلبة من تثبيت الإيمان في قلوبهم.
الثاني: الكفار، لأن هزيمتهم ضعف ووهن وخزي لهم.
الثالث: باقي الناس، لما في نصر المسلمين من آية حسية ظاهرة بلحاظ قلة عددهم وعدتهم، وكثرة عدد وعدة قريش، وخبرتهم الطويلة في الحروب والقتال، وإستعدادهم للمعركة، وقدومهم من أجل القتال، فجاء النصر من عند الله ليؤكد حقيقة وهي أن المدار في المعركة بين الإيمان والكفر على الإيمان وحسن التوكل على الله تعالى، إذ ينزل النصر من عنده سبحانه.
لقد كان الكفار يشكّون في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويحاولون صد الناس عن الإسلام بالطعن في نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتسفيه عقول المسلمين، والتقليل من شأنهم في عيون الناس، حتى في عيون الذين جاءت قريش بهم من حلفائها، ومن الأحابيش.
فإبتدأت المعركة وتجلى نصر الله من ساعاتها الأولى إذ تزاحم وتدافع نفر من المهاجرين والأنصار للمبارزة، ليبرز ثلاثة من أهل بين النبوة وتلك آية في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وثقة أهل البيت والصحابة بلزوم الدفاع عن الإسلام.
لقد ذكرت الآية نصر الله عز وجل للمؤمنين في معركة بدر، وفيه وجوه:
الأول: المدد بالملائكة كما تدل عليه الآية التالية[أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ].
الثاني: تقوية عزائم المسلمين، وتقريبهم للطاعة والتحلي بالصبر والتقوى.
الثالث: ماجاء على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من البشارات بالنصر، مع ثقة المسلمين بما يقوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين، سواء من برز منهم للقتال أم عامة المشركين، فحالما قتل منهم الثلاثة الذين برزوا للقتال وهم عتبة بن ربيعة، وإبنه الوليد، وأخوه شيبة بن ربيعة إنهزم المشركون وولوا الأدبار فلم يصبروا في مواقعهم ولم يستعملوا النبل والسيوف والرماح مع أنهم كانوا ثلاثة أضعاف المسلمين.
الخامس: نصر الله المسلمين بوجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المعركة، وتلقيه الوحي، فان قلت كان النبي حاضراً في أحد، ومع هذا تعرض المسلمون للخسارة، والجواب من وجوه:
الأول: ذكرت الوجوه أعلاه على سبيل التعدد والتداخل، وكل فرد منها نعمة عظيمة.
الثاني: كان وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد سر سلامة ونجاة المسلمين من الهزيمة، إذ بقى في مكانه في المعركة لم يغادره إلى أن رجع اليه أصحابه.
الثالث: الوحي نعمة في حال السلم والحرب، وقد فاز أهل بدر بحضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والوحي معهم، وكان من الإرادة التكوينية نصر الله عز وجل لهم.
وللباء في ” بِبَدْرٍ ” معانِ متعددة، أهمها الإلصاق، ولم يذكر سيبويه معنى آخر لها، ومنه [وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ]( )، وجاءت في المقام بمعنى الظرفية المكانية، لبيان موضع ومكان النصر الذي أنعم الله عز وجل به على المؤمنين، وفيه وجوه:
الأول: المنع من الترديد في إرادة المعركة التي حصل فيها النصر.
الثاني: حصر جهة الخطاب بإرادة المسلمين، إذ تأتي الآيات أحياناً خطاباً لغير المسلمين كأهل الكتاب عامة، وبني إسرائيل خاصة، وجاءت هذه الآيات خطاباً للمسلمين على نحو التعيين.
الرابع: يدل تعيين معركة مخصوصة على وقوع معارك عديدة للمسلمين.
الخامس: مدح الله عز وجل لنفسه، وبيان عظيم قدرته بتحقيق النصر والغلبة للمؤمنين.
السادس: توكيد فضل الله عز وجل على المسلمين بنصرهم وغلبتهم على عدوهم، ولو قالت الآية “ولقد نصركم الله وأنتم أذلة” لحمل المعنى على العموم وإرادة النصر والظفر في بدآية الإسلام على الكفار وظهور دولة الإسلام، ولكن الآية جاءت لبيان قضية في واقعة وأمر مخصوص تتجلى فيه معاني النصر والظفر بأبهى معانيه من وجوه:
الأول: إنتصار الإيمان على الكفر.
الثاني: موضوعية وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في النصر والغلبة على الأعداء، فقد أرادوا قتله، فجاء نصر الله لسلامته ووقايته من شر الأعداء.
الثالث: وصف المسلمين حال النصر بما يدل على إنعدام أسبابه الذاتية عندهم، وجاء ذكر النصر على نحو الإجمال من غير بيان كيفيته، ويفيد الإجمال إرادة النتيجة والعاقبة وهي غلبة المؤمنين وهزيمة الكافرين، ولكن الآية التالية جاءت لبيان كيفية النصر بأنه بملائكة أنزلهم الله مدداً للمسلمين.
وفيه عون للمسلمين للتفقه في الدين بمعرفة موضوعية الأسباب في عالم الأفعال والوقائع فالله عز وجل قادر على نصر المسلمين من غير أسباب ظاهرة، ومن غير أن ينزل الملائكة من السماء مدداً وعوناً، ولكنه سبحانه أراد للمسلمين زيادة الإيمان، والثقة بفضل الله، ومعرفة آية من بديع صنعه وهي نزول ملائكة من السماء لنصرة المؤمنين في الأرض.
لقد كان المسلمون حديثي عهد الإيمان، ولكنه راسخ في صدورهم، ووسط أهل ملل تجتهد في بث الشك والريب في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذوي قربى وقبائل يحاصرون المسلمين ويسعون لإرجاعهم إلى ملة الكفر والتخلي عن إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إلى جانب الضائقة الإقتصادية الشديدة التي عليها المسلمون، وقلة عدتهم وسلاحهم ورواحلهم، فلم يبقَ لهم إلا المدد من عند الله عز وجل، وهذه الوجوه جمعها قوله تعالى [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ليكون وثيقة سماوية تحكي حال المسلمين في بدآية الإسلام.
وهل حداثة العهد بالإسلام من الذلة هذه الجواب لا، وجاء قوله تعالى في الآية التالية [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ] على بلوغ المسلمين مراتب الإيمان العالية، وان حداثة الإسلام لم تجعلهم في شك أو ريب ويدل على ثباتهم في منازل الإيمان خروجهم لمواجهة جيش من الكفار عدده أضعاف عددهم، وكذا عدته وسلاحه وآلاته إلى جانب صيت قريش في القتال، وهيبتها في الحرب.
والمسلمون جيش لم يتجانس بعد في القتال والطبائع، ولكن الإيمان كان سور الموجبة الكلية وهو أبهى صلة وسبب في التجانس والوفاق والأخوة فيما بينهم قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
قانون” تلاوة آية بدر”
لقد ذكر الله عز وجل واقعة بدر بالاسم في هذه الآية وجاء الإخبار عن نصر المسلمين فيها بصيغة الخطاب المردد بين البدريين والمسلمين جميعاً، من غير تعارض بينهما.
ومن منافع عموم الخطاب القرآني وجوه:
الأول: إدراك كل مسلم ان النصر يوم بدر هبة ونعمة من الله عليه.
الثاني: دعوة كل مسلم للتدبر في آية النصر في معركة بدر.
الثالث:جعل معركة بدر حاضرة في الوجود الذهني لكل مسلم ومسلمة.
الرابع: معرفة آيات الله في النصر في معركة بدر، بلحاظ التباين الكبير بين قوة العدو، وقلة عدد وعدة المسلمين.
الخامس: تنمية ملكة العز في نفوس المسلمين والمسلمات بعدم الخشية من الكفار.
السادس: إدراك حقيقة وهن وضعف الكفار، وعجزهم عن مواصلة القتال وإن كانوا ذوي عدة وعدد.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين والمسلمات نيل الأجر والثواب بتلاوة هذه الآية الكريمة، وذكر معركة بدر ونيل المسلمين الأوائل الثواب والأجر بهذه التلاوة لأنهم ساهموا في بناء صرح الدولة الإسلامية بأنفسهم وأموالهم وسيوفهم خرجوا مع قلتهم لعدو ظالم كافر جاء ليقضي عليهم.
ومن الآيات أن ذكر بدر جاء بالإخبار عن نتيجة المعركة وحصول النصر فيها للمسلمين، ليكون إستحضار وقائعها مقروناً بالنصر والغلبة للمسلمين، لمناسبته للغايات الحميدة من ذكرها، ولكي يدرك المسلمون موضوعيتها من غير وسائط تتعلق بالإعداد للمعركة وتفاصيلها، فقد ذكرت آيات عديدة من سورة آل عمران وقائع معركة أحد، وما تعرض له المسلمون من الأذى والخسارة، وما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأعداء، وثباته في مكانه في المعركة وإصابته بالجراح إلى أن رجع إليه المؤمنون.
أما هذه الآية الكريمة فذكرت معركة بدر بالإخبار عن نصر المسلمين فيها وبصيغة الخطاب لعموم المسلمين، فكان النصر في معركة بدر سدرة يتفيأ بضلالها كل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة، وهو نعمة عليهم جميعاً فلم يكن الملائكة الذين نزلوا يوم بدر مدداً للمؤمنين المقاتلين وحدهم، بل نزلت الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين المقاتلين وأسرٍهم وعموم المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، الأمر الذي يستلزم الشكر على هذه النعمة من الأجيال المتعاقبة من المسلمين، وهذا من إعجاز القرآن وذكر الوقائع فيه والمعاني القدسية لتلاوته وما فيها من الأسرار.
وهل تكون تلاوة الآية من مصاديق الشكر لله على هذه النعمة الجواب نعم، فعندما يقرأ المسلم هذه الآية في صلاته وخارجها، فان هذه القراءة من عمومات الشكر لله تعالى، وفيه وجوه:
الأول: التسليم بنزول هذه الآية من عند الله.
الثاني: الإعتراف بالمدد والنصر الإلهي.
الثالث: الإقرار بالحاجة إلى نصر الله عز وجل.
الرابع: قرب نصر الله من المسلمين.
الخامس: بعث المؤمنين للشكر لله على النصر يوم بدر.
السادس: هزيمة الكفار وان كانوا ذوي قوة وشوكة.
السابع: بعث السكينة في نفوس المسلمين عند تلاوة الآية الكريمة.
الثامن: طرد أسباب الخوف والفزع من القوم الكافرين، وكل من يعلم بوجود ناصر ومعين له فانه يزداد قوة وبسالة في مواجهة العدو، أما المسلمون فان ناصرهم هو الله وهو خير الناصرين.
التاسع: تلاوة المسلمين لهذه الآية إنذار للكفار من التعدي على المسلمين، وتحذير لمن ينوي نصرة وإعانة الكفار بأنه لن يجني إلا الخسارة، لأن الهزيمة ملازمة للكفار في معاركهم مع المسلمين، ونصرة المنهزم والخاسر خلاف موازين العقل.
ومن الآيات قلة وجود الناصر لكفار قريش من بين قبائل الجزيرة فقد حاولت قريش جمع الجيوش بعد معركة بدر للهجوم على المسلمين قبل أن تشيع أخبار نصر المسلمين في معركة بدر، ووصول تفاصيل النصر الإلهي والمدد من الملائكة إلى عموم القبائل فيمتنعوا عن نصرة قريش، فجاءوا بجيوش عظيمة في معركة أحد والخندق ولم ينالوا إلا الخسران في الأموال والأنفس، والإسلام يزداد قوة ومنعة، وعدد المسلمين يتضاعف ، وصارت المدينة لا تسعهم.
لقد جاءت معركة بدر وأحد والخندق، وإصرار الكفار على الزحف على المدينة بجيوش عظيمة للقضاء على الإسلام في مهده، تحذيراً للمسلمين من حصر دولة الإسلام بالمدينة المنورة، وفيه دعوة لهم للإستجابة لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدفاع عن بيضة الإسلام.
ليكون غزو وزحف الكفار على المدينة المنورة وبالاً عليهم وعلى من حالفهم من القبائل، فالإسلام لم ينتشر بالسيف، ولكنه إتخذ السيف واقية من الغزو المتكرر للكفار، وليس لأحد لوم المسلمين على الفاع لأن العدو كان يقصدهم ويبذل الوسع في التعجيل بمحاولة القضاء على الإسلام وهو لايزال في المدينة بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدد من الصحابة.
فان قيل إذا كان المسلمون ي

تخذون من القتال دفاعاً عن الإسلام في أيامه الأولى ، فما بال الفتوحات في المشرق والمغرب، والجواب من وجوه:
الأول: بقاء الخطر على الإسلام حتى بعد فتح مكة وأجزاء من الجزيرة.
الثاني: قيام جماعة من الكفار والمشركين بتحريض قبائل ودول أخرى على الإسلام.
الثالث: عالمية الرسالة الإسلامية، إذ بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً.
وقد قام النبي بإرسال رسائل إلى قيصر ملك الروم، وإلى كسرى ملك فارس في السنة السادسة للهجرة يدعوهم فيها إلى الإسلام، وهذه الدعوة حجة في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وآية في إتباعه والإمتناع عن التعدي على الإسلام والمسلمين.
وجاء النصر الإلهي للمسلمين في معركة بدر دعوة لهم لمواصلة الجهاد، وعدم الخشية من الكفار، إذ أنها نوع ضمان بالنصر والغلبة في المعارك، ولم يخش بعدها المسلمون الكفار.
لذا جاءت هذه الآية بصيغة التذكير بالنصر في معركة بدر كنعمة عظيمة على المؤمنين، وليقوم المسلمون بالشكر العملي لله تعالى على النصر في معركة بدر بمواصلة الجهاد في سبيله، وإجتناب القصور والتفريط.
وتدل الوقائع على وجود ملازمة بين الجهاد وبقاء الإسلام إذ لا سبيل إلى الراحة، والكفار يشنون الهجوم تلو الهجوم على المسلمين، ويكون بينهما التهديد والوعيد من الكفار بأنهم قادمون لغزو المدينة، فكانت قريش لعجزها تستعمل وسائل التهديد، وتبذل الأموال لمن ينقل رسائل للمسلمين بأن قريشاً تستعد لغزوهم أو أنها في طريقها إلى المدينة، وعند رجوع المشركين من أحد إلى مكة مرّ بهم ركب من عبد القيس فقال أبو سفيان: أين تريدون، قالوا: نريد المدينة، قال: ولم، قالوا: نريد الميرة، قال: فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها اليه، وأحمل لكم هذه غداً زبيباً بعكاظ إذا وافيتموها، قالوا نعم، قال: فاذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبوسفيان، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل( ).
ومع هذا فان الله عز وجل يتفضل ويخبر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بما يبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار والمشركين، ويجرى الكلام والفعل على يد الكافر أيضاً بما يمنع من مواصلة التعدي على المسلمين.
ومرّ معبد بن أبى معبد الخزاعى، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، وصفقتهم معه، لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك، فقال : يا محمد، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك فيهم، ثم خرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد، حتى لقى أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقالوا : أصبنا حدّ أصحابه وأشرافهم وقادتهم .
ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ! لنكرن على بقيتهم، فلنفرغن منهم . فلما رأى أبو سفيان معبدا، قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد إجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شئ لم أر مثله قط، قال : ويحك ! ما تقول ؟ قال : والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصى الخيل، قال : فو الله لقد أجمعنا الكثرة عليهم، لنستأصل بقيتهم، قال : فإنى أنهاك عن ذلك( ).
وللإخبار القرآني عن نصر المسلمين بفضل ونعمة من الله دعوة للمسلمين لمواصلة الجهاد في سبيل الله، وعدم الخوف والفزع من المشركين وجيوشهم، وعدم الخوف هذا حاجة وضرورة لإنتشار الإسلام، وتثبيت سننه وأحكامه، فجاء النصر الإلهي للمسلمين في بدر قضاء لهذه الحاجة ومدداً وعوناً للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة، ومناسبة للفخر والسمو والعز، وإنذاراً للكفار، وبعثاً للخوف في نفوسهم من التعدي على المسلمين.
ويتجلى الفخر بتلاوة هذه الآية، وهي صاحب كريم للمسلمين، وناصر لهم، فاذ نصر الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة في معركة بدر بالملائكة، فانه سبحانه ينصر المسلمين بتلاوتهم لهذه الآية لما فيها من الحجة والشواهد على حضور نصر الله، وإمكان غلبة المسلمين بمدد من الملائكة، وأسباب للنصرة من عند الله لا يعلمها إلا هو سبحانه إذ يأتي النصر الإلهي بوجوه:
الأول: إعانة المسلمين.
الثاني: بعث الفزع والخوف في نفوس الكفار، وضياع وتلف أموالهم التي ينفقونها في محاربة الإسلام.
الثالث: العنوان الجامع من نصرة المسلمين، وهزيمة الكفار وإبتلائهم بالنقص والخسارة والوهن، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ]( ).
إن تلاوة هذه الآية مفتاح وبشارة لنيل النصر والغلبة على الكفار، ولا ينحصر نصر المسلمين في ميادين المعارك بل هو شامل لأبواب التنافس والتزاحم والتعارض ، إذ تجعل الآية المسلمين يدركون أن الله عز وجل معهم، وهو ناصرهم.
وفي تلاوة هذه الآية دعوة للمسلمين للتوكل على الله واللجوء اليه في المهمات، والتفقه في الدين والإقرار بفضله ونصره ومدده لهم، وجاء حرف الباء في قوله تعالى [بِبَدْرٍ] مرادفاً للحرف (في) لإرادة الطرفية والتقدير: ولقد نصركم الله في بدر.
قانون “بدر”
جاء ذكر بدر في القرآن في هذه الآية على نحو التعيين لإرادة موضع مخصوص جرت فيه أول معارك الإسلام، وجاء ذكرها لوجوه:
الأول: إنها أول معركة للمسلمين، فمن فضل الله عز وجل أن يذكرها بالإسم.
الثاني: في ذكر (بدر) بالاسم إشارة إلى وقوع معارك أخرى للمسلمين، وبعث للثقة والسكينة في نفوس المسلمين قبل وأثناء المعركة وتقدير الآية (ولقد نصركم الله ببدر وينصركم في غيرها).
الثالث: دعوة المسلمين للعنآية بموضوع معركة بدر ، وإستحضارها ووقائعها ومدد الملائكة فيها للمسلمين.
الرابع: جعل الله النصر في معركة بدر حافزاً للمسلمين لمواجهة الكفار وعدم الخشية منهم وان كثر عددهم وزادت قوتهم.
الخامس: النصر في معركة بدر سلاح عند المسلمين في المعارك اللاحقة.
السادس: تلاوة هذه الآية وإستحضار النصر في معركة بدر مواساة للمسلمين فيما يصيبهم من المصائب والخسارة في المعارك اللاحقة، كما في معركة أحد إذ قتل من المسلمين فيها سبعون.
ومن الآيات أن المسلمين والمسلمات تلقوا المصيبة بالصبر والرضا بأمر الله، والثقة بالنصر على الكفار إذ تخبرهم هذه الآية بإن الله ينصرهم ويظهر الإسلام ومبادئه ولو كره المشركون.
لقد كانت بدآية مباركة للمسلمين بإن إنتصروا في أول معركة يخوضونها مع الكفار، ومن الآيات أن المسلمين لم يقصدوا الكفار في ديارهم، بل قصدهم الكفار إلى عقر دارهم لإجهاض الدعوة، ومنعها من الإنتشار والإتساع.
فجاء رد المسلمين شاهداً على صدق إيمانهم وتفانيهم في سبيل الله، بأن بادروا إلى الخروج تحت رآية الإسلام وبقيادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليأتي المدد الإلهي جلياً ظاهراً بالملائكة ناصرين ومؤازرين للمسلمين في معركة بدر، وفي بناء الدولة الإسلامية وتثبيت أحكام الشريعة إلى يوم القيامة.
لقد كان النصر الإلهي في معركة بدر زاجراً للكفار عن التعدي على الإسلام، ولاينحصر موضوع الزجر بقريش ومن حالفها أو في زمان النبوة بل هو باق ومتصل إلى يوم القيامة، وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة الجمع [نَصَرَكُمْ اللَّهُ] وعدم مجئ الآية بصيغة الخطاب المفرد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فتدل الآية في مفهومها على تحذير الكفار والفاسقين من التعدي على المسلمين لأن الله ناصر المسلمين في معاركهم وقتالهم، وخير شاهد هو معركة بدر أولى معارك الإسلام، ومن خصائص النعمة الإلهية أنها لا ترفع، فالله عز وجل هو الواسع الكريم إذا أنعم بنعمة على أهل الأرض أو شطر منهم فانه أكرم من أن يرفعها.
لذا جاءت نعمة نصر الله في أول معارك المسلمين لبيان قانون ثابت وهو نصر الله للمسلمين في معاركهم، ويجب على الناس ان يجتنبوا الإعتداء على من ينصره الله، وتقتضي الحكمة وموازين العقل الإنتماء والإلتحاق بالذين ينصرهم الله،لأن هذا النصر دليل على أنهم على الحق المبين، فجاء نصر الله في معركة بدر ترغيباً للناس بدخول الإسلام، ومنهم رجال قريش الذين شهدوا المعركة.
فكان الأولى بهم أن يدخلوا الإسلام وان يأتوا إلى المدينة معلنين إسلامهم ليبقوا في شأنهم وعزهم بين القبائل، ولكنهم أبوا إلى الجحود، فلما رجعوا إلى مكة أخذ جماعة منهم يطوفون على أهلها يحثونهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، ثأراً لمن قتل من رجالهم، وخشية على شأنهم ومقاماتهم ومنافعهم التي شعروا بأن الإسلام يهددها، ولم يتعظوا من آيات معركة بدر، ويكفوا عن قتال المسلمين.
ولما كان الكفار الذين حضروا معركة بدر، وشاهدوا آيات النصر الإلهي والمعجزات التي أدت إلى خسارتهم وهزيمتهم وفقد رجالهم مع أنهم ثلاثة أضعاف المسلمين، لم يتعظوا، ويمتنعوا عن التعدي على الإسلام فهل عامة الناس لا تتعظ منها من باب الأولوية، الجواب لا، فان الله سبحانه يهدي من يشاء.
لقد كان النصر في معركة بدر على وجوه:
الأول: إنه آية للعالمين.
الثاني: فيه دعوة للناس لدخول الإسلام.
الثالث: تثبيت المسلمين في منازل الإيمان.
الرابع: زجر الكفار عن التعدي على المسلمين وغزو ثغورهم وأمصارهم.
فجاءت الآية الكريمة بخصوص محاولة الكفار غزو المدينة، ولكن مضامينها أعم وتشمل التحذير من التعدي على ثغور المسلمين، لأن المدد الإلهي قريب من المسلمين، وما معركة بدر إلا حجة في المقام، وجاء ذكرها في القرآن بالاسم والتعيين لأن فيها آية ظاهرة في المدد والنصر الإلهي للمسلمين، إذ أن إنزال الملائكة لنصر المسلمين معجزة وأمر عظيم، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فجاء التوثيق السماوي متعدداً من وجوه:
الأول: نصر الله عز وجل للمسلمين.
الثاني: بيان فضل الله بنزول الملائكة لنصرة المسلمين.
الثالث: مجئ النصر بآية من عند الله مع ضعف وقلة عدد المسلمين ونقص عدتهم.
لقد جاءت هذه الآية لتقوية قلوب المسلمين، وجعلهم لا يخافون من الكفار والمشركين، فذات الآية مدد دائم للمسلمين وإلى يوم القيامة، وهو من إعجاز القرآن، بأن تأتي الآية القرآنية بالإخبار عن واقعة ومعركة فيكون هذا الإخبار مدرسة وعضداً وعوناً للمسلمين في مواجهة أعداء الدين وان كانوا أصحاب شوكة وكثيري العدد والعدة.
وسيبقى اسم (بدر) حاضراً في الوجود الذهني للمسلمين، وآية ومدرسة عقائدية، وجارياً على السنتهم بتلاوة هذه الآية الكريمة، ومدوناً في كتبهم بالبحوث والتحقيقات عن المعركة، كما يحتل مكانه في وسائل الإعلام لأنه موضوع بهي، يجذب الأبصار والأسماع لما فيه من الآيات والبراهين التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتترسخ معه مفاهيم الثقة بالنصر في نفوس المسلمين.
فمن خصائص هذه الآية أنها تجعل المسلمين يرون النصر قريباً منهم لوجود شاهد سماوي وواقعي عليه في أول معركة للمسلمين مع الكفار، ويبعث اسم (بدر) الفزع في قلوب الكفار من وجوه:
الأول: إنه عنوان إنتصار المسلمين في أول معركة لهم.
الثاني: في بدر تجلت معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم ينلها غيره من الأنبياء بأن نزلت الملائكة تقاتل معه.
الثالث: تحذير الكفار من المدد الغيبي الذي يأتي للمسلمين.
الرابع: إستحضار المسلمين لمعركة بدر تقوية لعزائمهم.
الخامس: عجز الكفار عن حجب اسم ومعركة بدر عن المسلمين او تحريف وقائعها ونتائجها.
لأن هذه الآية برزخ دون عدم ذكرها، والقرآن كتاب سماوي باق في أيدي المسلمين إلى يوم القيامة، لتلاوتهم آياته في الصلاة الواجبة والمستحبة، وفي غير أوقات الصلاة ويفتخرون بنصر الله حينما يتلون هذه الآية أو يسمعونها، أو يمرون بذكر بدر.
فلا غرابة أن يكون في كل بلد من بلدان المسلمين وقراهم من إسمه بدر، وفي هذا الاسم تذكرة وإشارة إلى معركة بدر، لأصالة التبادر، ولأن الاسم يذكر في التلاوة ويراد منه معركة بدر، وإن كان هذا الاسم أعم ويشمل القمر في تمامه.
فلقد كانت معركة بدر تماماً وكمالاً لبزوغ نور الإسلام وبلوغه مرتبة الدفاع عن الذات، وأهلية المسلمين للتصدي للعدوان، لأن نصر المسلمين يدل على رسوخ الإيمان في نفوسهم، وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإستعدادهم للتضحية دفاعاً عنه وعن مبادئ الإسلام, وهو من أسرار اسم المعركة، فقد وقعت في موضع إسمه بدر لتكون نتيجتها بدراً أطل على سماء المسلمين .
لقد أراد الله عز وجل أن يبين للصحابة صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآية عظيمة وهي النصر بالمعجزة، وهي آية مركبة ومتعددة من وجوه:
الأول: خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه للقتال.
الثاني: عدم طلب الهدنة أو الصلح من العدو أو مناشدتهم الرحم، بل كان الخطاب بإنذارهم ودعوتهم إلى الإسلام، وزجرهم عن القتال.
الثالث: نصر المسلمين مع قلة عددهم وضعفهم.
الرابع: مجئ النصر بآية إعجازية من عند الله، ومدد من الملائكة نزلوا مسوّمين لنصرة المسلمين.
بحث بلاغي
من ضروب الإطناب التكرير، وهو نوع توكيد لفظي، ووجه من وجوه الفصاحة، وله فوائد عديدة منها التقرير، وزيادة البيان، والتحذير والإعتبار وطرد الغفلة ويتصف التكرير في القرآن بأنه لا يبعث الملل والسأم في النفس، بل يكون سبباً لجذبها إلى الآية القرآنية وموضوعها، والتدبر في معانيها القدسية.
ً وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعل في قراءة كل حرف قرآني عشر حسنات، بالإضافة إلى تعدد وجوه التفسير والتأويل للفظ والكلمة القرآنية متجددة، ليكون إستخراج الدرر والذخائر منه متصلاً متجدداً يبعث الشوق في النفوس لتلاوة آياته والتدبر في معانيها، والإستئناس بالتكرار الموضوعي الوارد في قصص وإنذارات القرآن، وليس كل قصص القرآن مكررة فيه، فجاء موضوع النصر في معركة بدر مرة واحدة في القرآن وفي هذه الآية.
مما يدل على ان عدم التكرار في القرآن له منافع عظيمة، وهذا من إعجاز فسواء جاء الموضوع مكرراً أو غير مكرر فان له معانِ قدسية عظيمة بالإضافة إلى خصوصية يتصف بها القرآن وهي التكرار بتلاوة المسلمين للآية القرآنية في صلاتهم، وخارج الصلاة لتكون الصلاة مناسبة للإتعاظ والإعتبار والتكرار، وضبط المسلمين لتأريخ واقعة بدر وانه السابع عشر من شهر رمضان، وإستحضار ذكرى الواقعة في كل عام بذات اليوم.
وصحيح ان اسم “بدر” لم يذكر في القرآن إلا في هذه الآية إلا انه لا يعني إنحصار موضوع معركة بدر بهذه الآية بل هناك آيات كثيرة ذكرت هذه الواقعة ونزول الملائكة فيها منها قول تسمية يوم بدر بيوم الفرقان قال تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، وفيه ذكرت لمعركة بدر على نحو مركب منها:
الأول: إختصاص يومها باسم معين هو يوم الفرقان.
الثاني: نعت يوم بدر هو يوم إلتقى فيه جمع المؤمنين ضد جمع الكفار في قتال ضروس أراد له الكفار أن ينتهي بقتل المؤمنين.
الثالث: الإخبار عن نزول آيات من القرآن يوم بدر، والدعوة للإيمان بها والعمل بأحكامها.
الرابع: السعي لإحصاء وتفسير الآيات التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر.
الخامس: بيان آية إعجازية وهي ان القتال مع الأعداء لم يمنع من نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتوكيد حقيقة وهي المدد الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يوم بدر بنزول آيات القرآن إلى جانب نزول الملائكة، وفيه تعدد للفضل من عند الله عليهم يومئذ ، ودعوة إلى تعاهد العبادات، والعمل بأحكام القرآن.
قوله تعالى [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]
بعد أن بينت الآية نصر الله للمسلمين في معركة بدر، وأكدت على حقيقة وهي أن النصر من عندالله وليس من المسلمين أنفسهم، أو بسبب قوتهم وبسالتهم خصوصاً وانهم كانوا الأقل في العدد والعدة، جاء هذا الشطر من الآية لوصف حال المسلمين عند المعركة وبما يؤكد الشطر الأول من الآية ونسبة النصر إلى الله عز وجل.
وتطرد الآية الوهم، وتمنع من الشك في هذه النسبة فقد كان المسلمون في حال من الضعف من وجوه:
الأول: قلة عدد المسلمين، إذ أنهم نحو ثلث عدد الكفار.
الثاني: عدم وجود مدد للمسلمين من مدن وقبائل أخرى.
الثالث: النقص الظاهر في عدة المسلمين،فلم يكن معهم إلا فرسين.
الرابع: قلة مزاولة أكثر المسلمين للمعارك والحروب، بينما جاءت قريش بصناديدها.
وليس في قوله تعالى [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ذم أو تعريض بالمسلمين، ويفيد الجمع بين أول الآية وهذا الشطر تعذر النصر بالأسباب المادية، وأنه لا يعلم أحد العواقب والأضرار التي تلحق بالمسلمين لولا نصر الله، خصوصاً وانها المعركة الأولى للمسلمين، ويطلب الكفار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان في قلب المعركة، وليس من خطوط دفاعية بين ميدان المعركة وبين المدينة المنورة فأي هزيمة يتعرض لها المسلمون تعني إستباحة الكفار للمدينة، يؤازرهم فيها المنافقون .
فجاء نصر الله رحمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وأهل المدينة والأجيال المتعاقبة من المسلمين، وحق على المسلمين أن يحتفلوا بذكرى معركة بدر لما فيها من النصر والغلبة لهم جميعاً، ولاينحصر إحياء ذكرى معركة بدر ذاتها ووقائعها، بل يشمل أثرها في تثبيت دعائم الإسلام، وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل، وإستدامة نزول آيات وسور القرآن إلى حين تمامه، وقد جاء في سورة المائدة، وهي آخر سور القرآن نزولاً [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
ولكل مسلم ومسلمة حصة في النصر الذي أنعم الله به على المسلمين في معركة بدر، وتأتي منه إفاضات تترشح على حال وشأن المسلمين في الميادين والبلدان المختلفة، ويكمن في هذا النصر سر عظيم أظهرته هذه الآية وهو أن حال الذل الذي قد يكون عليه المسلمون لا يكون برزخاً وحاجزاً دون نيلهم النصر وكسبهم للمعارك، وان القوة والكثرة عند الكفار لاتصلح أن تكون علة تامة لغلبة الكفار، لأنهم مهزمون بكل الأحوال.
إذ أن الله عز وجل ينصر المسلمين وهم أذلة، فمن باب الأولوية تفضله عليهم بالنصر وهم على قوة وعزة وعزيمة في المعركة، وجاء النصر في معركة بدر ليكون سبباً في قوة المسلمين، ومادة لمنعتهم، وموضوعاً لإتحادهم، ومناسبة كريمة لبعث السكينة في نفوسهم وعدم الخشية من الكفار، أو من حال الضعف والذل عند مواجهتهم، وبعد معركة بدر لم تسمع أحداً من المسلمين يشكو القلة والضعف، مع علم المسلمين بكثرة وقوة المشركين، لأن المدار على نصر الله عز وجل، وعدم إعتبار القوة والضعف، بل القوة تدور مع نصر الله فتأتي المعارك بين المقاتلين كل بحسب قوته وخدعته وبسالته في القتال، أما في معركة بدر فإن النصر كان بآية ومدد من عند الله.
وتدل الآية في مفهومها على أن حال المسلمين بعد معركة بدر أحسن كثيراً مما كان حينئذ، لأن التذكير بحال الذل يدل في مفهومه على أن المسلمين أصبحوا أعزة وكثيرين وقادرين على مواجهة الكفار، ويحتمل تأثير النصر في بدر أمرين:
الأول: موضوعية وأثر نصر الله عز وجل للمسلمين ببدر في تحسين حالهم وإزدياد قوتهم.
الثاني: عدم موضوعية هذا النصر في تغيير حال المسلمين نحو الأحسن.
والصحيح هو الأول، لذا جاء التذكير بالنصر في بدر لبيان أثره وموضوعيته في قوة المسلمين، وضعف ووهن الكفار من وجوه:
الأول: دفع نصر الله للمسلمين في معركة بدر ضرر وشر للكفار، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلا أَذًى]( ).
الثاني: حاجة المسلمين إلى نصر الله في أول معارك الإسلام، مع ضعف حالهم.
الثالث: يزيد نصر الله المسلمين قوة ومنعة.
الرابع: فتح نصر الله باب الدخول للإسلام للكثير من أفراد القبائل.
الخامس: يبلغ المهاجرون والأنصار بنصر الله مراتب التقوى واليقين،
فكان نصر الله سبباً للهدآية وباعثاً على التضحية وطلب الشهادة في سبيل الله.
لقد صار المسلمون بالنصر في معركة بدر أكثر عدداً، وأقوى مما كانوا، وأصبحوا لايخشون الكفار والمشركين، ومن يكن الله ناصره لايخاف من أحد، إذ رأى المسلمون الملائكة وهم ينصرونهم كما شاهدوا حال الفزع والهلع التي أصابت قريشاً ، فقتل وأسر الكثير من رجالهم، ومن نجا منهم إنهزم وجلب على قومه الذل والهوان، لتكون الذلة بعد معركة بدر مصاحبة لقريش بالشواهد والوجدان.
فدخل المسلمون معركة بدر وهم أذلة ضعفاء، ودخلتها قريش بكبريائها وخيلائها وصناديدها، وكانت النتيجة سريعة وحاسمة إذ حدث تغير في المواضع والمنازل.
ويحتمل الحال بعد معركة بدر وجوهاً:
الأول: بقاء المسلمين في حال الذلة والضعف.
الثاني: تحول المسلمين إلى مراتب العز والقوة.
الثالث: بقاء قريش في حال القوة والكثرة.
الرابع: صيرورة قريش والكفار في حال ضعف وذلة.
والصحيح هو الثاني والرابع ، فخرج المسلمون من المعركة أعزة، وخرجت قريش ذليلة منكسرة، وتلك رشحة وفيض من فيوضات نصر الله للمسلمين، إن أن منافعه لاتنحصر بواقعة بدر بل تشمل ما بعده من الأيام والوقائع، لأن نصر الله للمسلمين آية في العالمين فتشع أنواره في الميادين المختلفة، ويستمر ضياؤه إلى يوم القيامة لذا تفضل الله عز وجل بذكره في هذه الآية بصيغة الخطاب للمسلمين للإخبار عن إنتفاع أجيالهم المتعاقبة منه، ومن بركاته المتجددة.
ويحتمل وصف المؤمنين بالذلة في المقام وجوهاً:
الأول: إنه ذم للمؤمنين وتقدير الكلام إذا كنتم أذلة فكيف تخرجون لقتال الجيش الكبير.
الثاني: في وصف أذلة مدح للمؤمنين، وثناء عليهم، فمع قلتهم وضعفهم برزوا للقتال وتلقي السهام والنيل.
الثالث: ليس في هذا الوصف مدح أو ذم للمؤمنين، ولكنه جاء لبيان حالهم يوم بدر.
الرابع: جاء الوصف بالذلة لبيان عظيم فضل الله على المسلمين، ولكي لا يقال أنهم إنتصروا بالأسباب.
والصحيح هو الثاني والرابع، فيدل وصف الذلة على جهاد وصبر المسلمين في سبيل الله، وثباتهم على الإيمان، وهو من أسرار عدم وجود شرط في نزول الملائكة يوم بدر، فقد جاء الشرط في معركة أحد [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( ).
بحث كلامي
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة، فدعا عشيرته وقومه إلى الإسلام فآمن به عدد قليل وحاربه الملأ من قريش وأذاقوه والمؤمنين أصناف الأذى.
وجاءت بيعة العقبة ووعد نقباء يثرب له بالنصرة آية من عند الله وشاهداً على سعة رحمته وأن الأرض ملك له سبحانه، فحينما تشتد سطوة الكفر والكفار في بلد ما ، تظهر بذور وبدايات الهدآية والإيمان في بلد آخر.
ونفد مال خديجة وليس من عون مالي يأتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الأوائل، وتلك آية في نبوته وشاهد على صدق رسالته، فكما كان أمياً ونزل عليه القرآن بإعجازه.
فقد كان فقيراً وإنقادت له النفوس لما جرى على يديه من الآيات البينات، وحينما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة لم يجلب معه مالاً ليكون عوناً ووسيلة لقضاء الحوائج وشراء السلاح والعدة والخيل، وحتى من كان عنده مال من المهاجرين فانه تركه خلفه في مكة لأن قريشاً منعتهم من إخراج المال معهم.
وفيه شاهد على دقة النظام الإقتصادي والضبط في مكة وإلتفات قريش إلى موضوعية المال، وحرصها على بقائه في مكة وعدم إنتفاع المسلمين منه ومعرفتها بفنون الحصار ، ولعل قريشاً كانت تخطط للحرب على المسلمين في دار الهجرة، فقطعت عنهم أسباب السعة والمال، وبدأت حرباً إقتصادية شاملة أرادت منها مقدمة للمعركة وقتال المسلمين، ووسيلة لصد الناس عن دخول الإسلام.
وهل كان في هذا التخطيط والحصار موضوعية لتوجيه من يهود المدينة لقريش الجواب لا دليل عليه، ولكن قريشاً أهل تجارة وصيغ الحصار هذه تدل على الإرتقاء الحضاري عندهم والسعي في إتقان مقدمات القتال، ووسائل الحرب الإقتصادية على المسلمين، وفيه حجة عليهم في لزوم تصديق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من المعجزات لأن معجزته وهو القرآن يخاطب العقول بالدليل والبرهان.
فجاءت الذلة والضعف للمسلمين من نقص الأموال والمؤون، ومن قلة العدد والعدة بالإضافة إلى المقارنة بين قلة المسلمين وكثرة المشركين يوم بدر.
لقد خططت قريش لمعركة بدر قبل وقوعها بسنوات ومنذ وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وحصول بيعة العقبة الأولى والثانية ومع بدايات هجرة المسلمين الأوائل للمدينة، وجاء هذا التخطيط بنوع حصار إقتصادي وعسكري وعقائدي ضد المسلمين، وتحريض القبائل عليهم.
وبذل الكفار الوسع ليبقى المهاجرون والأنصار في حال فقر يزداد شدة بكثرة المهاجرين ، وعدم إستيعاب المدينة لهم لقلة فرص العمل فيها ، وإنشغال الصحابة بالتفقه في الدين ، ودراسة آيات القرآن، والإنصات إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحضور الصلوات الخمس معه.
وأدركت قريش بما لها من الخبرة والمعرفة بأحوال الناس والقبائل، وشؤون الملك والسلطنة، أن الناس أخذوا يميلون إلى الإسلام، ويتناقلون آيات القرآن وما فيها من الإعجاز، وأن الوقت مناسب لشن حرب على المسلمين ودخول معركة تأتي على الإسلام، ويقتلون فيها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وأن الحصار الإقتصادي على المسلمين أخذ ينهار بدخول أعداد وجماعات من أفراد القبائل في الإسلام، وإظهار الأنصار لأعلى مراتب الإيثار والمعونة للمهاجرين.
فزحفت قريش بجيوش كبيرة وهي تأمل النصر والظفر بالمسلمين، وأصرت على الإعراض عن الآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منذ أن كان في مكة المكرمة لتستحق الهزيمة والخزي إلى يوم القيامة.
فلم تكن قريش بعيدة عن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان النبي يتودد اليهم، ويرغبهم بالإسلام، ويبين لهم المنافع العظيمة في الدنيا والآخرة التي تأتيهم بدخولهم الإسلام، بينما التقى أهل يثرب بالنبي في موسم الحج فآمنوا بنبوته وتعهدوا بنصرته وإتباعه، وخرجوا معه إلى بدر ولم يقولوا له إن نصرتنا لك ما دمت معنا داخل المدينة، بل خرجوا على قلتهم لقتال الكفار.
وإذا كانت قريش تتكل على قوتها وقدرتها، فقد كان الأنصار والمهاجرون يتوكلون على الله، ويأملون النصر بحضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معهم في المعركة، وهل كانوا يأملون نزول النصر من عند الله الجواب نعم، من وجوه:
الأول: بشارات القرآن وما في آياته من الدلائل على نصرة المؤمنين وظهور دولة الإسلام.
الثاني: ما يرد في السنة القولية من الأحاديث التي تدل على غلبة المسلمين، وهزيمة الكفار، “وعن أبي عبيدة عن عبد الله قال لما التقينا يوم بدر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فما رأيت ناشدا ينشد حقا له أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وسلم ربه تعالى وهو يقول اللهم إني أنشدك وعدك وعهدك اللهم إني أسألك ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الارض ثم التفت إلينا كأن شقة وجهه القمر فقال هذه مصارع القوم العشية “( ).
الثالث: من مفاهيم الإيمان أن الشهادة في سبيل الله نصر أبدي وخلود في النعيم.
الرابع: إظهار المسلمين أبهى معاني الأخوة الإيمانية، والإستعداد للتفاني في الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومبادئ الإسلام، وليس عند الكفار ما يدافعون عنه.
الخامس: اليقين عند عموم الصحابة بأن الله عز وجل ينزل رحمته وسكينته على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة قال تعالى [حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ إلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ]( ).
وفيه دلالة على رجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين النصر من عند الله، ويلحون بالدعاء لتقريب أوان النصر عند مخافة العدو، وشدة الإمتحان الذي تعرض له المسلمون، ومن أسباب نزول الآية أعلاه أنها نزلت في المهاجرين إلى المدينة الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأصابهم الضر والفاقة، مما يدل على أن المسلمين كانوا ينتظرون النصر والفرج من عندالله عز وجل.
قانون”وانتم أذلة”
جاءت هذه الآية لبيان حال المسلمين الأوائل من الضعف والفقر والوهن، لقد بدأ الإسلام غريباً ليس له ناصر من بين القبائل وأهل الملل، حتى الكتابيين الذين كانوا يتوارثون أقوال الأنبياء التي تتضمن صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما مذكور عنه في الكتب السماوية السابقة قاموا بتحريفها وتغييرها لصرف الناس عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحريض قريش عليه.
ولم يبق مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا عدد من المهاجرين والأنصار ومايجري على يديه من المعجزات، وغاب عن عقول الكفار عدم وجود حد لمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن منها نصر الله له، إذ تأتي المعجزة في حال الحضر والسفر، والسلم والحرب، وقد تكون في الحرب أكثر حاجة وأهمية إذ أن المسلمين محتاجون للنصر والظفر على الأعداء، ومحتاجون لدفع ضرر وبطش قريش عنهم، ولكن الله ذو الفضل العظيم، إذ أنعم على المسلمين بالنصر الذي يتضمن دفع ضرر قريش، وإلحاق الخزي والهزيمة بها.
ومن خصائص المعجزة أنها خارقة للعادة، ومقرونة بالتحدي فكان نصر النبي والمسلمين في معركة بدر أمراً خارقاً للعادة بلحاظ التباين الكبير في عدد وعدة الطرفين المتحاربين، إذ ذكرت الآية حال المسلمين بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] لبيان أن الضعف الذي يتصف به المسلمون أعم من قلة العدد والعدة لشدة الضغظ والتأثير على المسلمين من قبائلهم واليهود في المدينة وغيرهم بسبب إختيارهم الإسلام والإستعداد للدفاع عنه بالأنفس.
لقد أدرك الناس أن الإنتماء للإسلام لا يقف عند التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، بل يشمل إتباعه ونصرته وجذب الناس للإسلام والدفاع عن مبادئه بالسيف والنفس.
فثارت قوى الإستكبار في الجزيرة وأحست بالخطر يهدد مصالحها فزحفت بكل قوتها وجبروتها، والإسلام ما زال فتياً، وعدد المسلمين قليل بالقياس إلى كثرة الكفار.
لقد تعجلت قريش المعركة والهجوم على الإسلام، ولكن نصر الله قريب من المسلمين، وأراد الله عز وجل لهم بالنصر أن يكونوا أعزة ويتخلصوا من حال الذلة والعوز، وتأتي الغنائم لتدفع عنهم الفقر الذي هو من أفراد الذلة والحاجة، مما يدل على ترشح مصالح ومنافع عظيمة من النصر الإلهي على المسلمين في أمور الدين والدنيا.
فالمراد من قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] أي جعل النصر وسيلة لإصلاح أحوالكم وتخلصكم من حال الذلة والمسكنة بالغلبة على العدو، والحصول على الغنائم، وجذب الناس للإسلام، وتهيئة أسباب إستيعاب القادمين الجدد إلى المدينة من غير أن تحصل نفرة عند أهلها بسبب كثرة المهاجرين والداخلين إلى الإسلام من أفراد القبائل الذين هجروا دورهم وقراهم.
فمن الآيات أن يكون النصر غآية وموضوعاً قائماً بذاته، ويكون وسيلة لتحقيق غايات حميدة، ومقدمة لقضاء حوائج عظيمة للبدريين، والمسلمين عموماً والداخلين في الإسلام بعد معركة بدر، وهو من خصائص النعمة الإلهية إذ تتعدد منافعها ، وما يترشح عنها من البركات والخير الجزيل، ليكون النصر قاطعاً لحال الذل، ومخلصاً للمسلمين منه.
لقد أراد الكفار أن تكون معركة بدر فاصلة، ومانعة من إنتشار الإسلام وعلو كلمة التوحيد، فجاء النصر الإلهي ليكون هزيمة ماحقة لقريش، ومانعاً من إستمرار سلطانها على القبائل، وفيه إنذار للكفار من آيات الله، فتأتي الآية في باب وموضوع فيتجلى أثرها في المواضيع المتعددة وتحتمل حال المسلمين والكفار بعد النصر الإلهي وجوهاً:
الأول: بقاء حال الذل عند المسلمين، وتعلق النصر بالظفر في المعركة.
الثاني: زوال حال الذل عند المسلمين.
الثالث: بقاء حال القوة والعز عند الكفار والمشركين.
الرابع: صيرورة الكفار في حال ذلة وهوان.
والصحيح هو الثاني والرابع فجاء نصر المسلمين في معركة بدر نعمة على المسلمين، ونقمة على الكافرين، وبرزخاً دون حجب قريش وحلفائها الناس عن الإسلام، وهو من مصاديق الذل الذي صارت عليه قريش بحيث لا يلتفت الناس إلى منعهم عن الإسلام وما يثيرونه من أسباب الشك والريب في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتبين الآية حقبة وحالاً مرّ بها المسلمون في بدآية الإسلام، يتصفون بها بالضعف والذل والفاقة، ومن الآيات مجئ ذكرها وتوثيقها ضمن الإخبار عن نصر الله للمسلمين في معركة بدر، وفيه وجوه:
الأول: عدم طرو الأذى والضرر من الإخبار عن حال الذلة.
الثاني: دعوة المسلمين للشكر لله تعالى على نعمة النصر في حال الذلة.
الثالث: بيان عظمة الفضل الإلهي بمجئ النصر للمسلمين وهم ضعفاء ومستضعفون، فلو جاء النصر في حال القوة والمنعة للمسلمين لقيل إنه من العلة والمعلول، وقوانين السببية.
ولكن جاءت الآية حجة وبرهاناً ودليلاً على النصر الإلهي من غير علة ظاهرة، وجاءت الآية بصيغة الجمع في وصف المسلمين بالذلة، وفيه وجوه:
الأول: أن كل مسلم عنده ذلة وضعف .
الثاني: حال المسلمين في الخروج في معركة بدر في ذلة وضعف.
الثالث: بعض المسلمين في حال ذلة وضعف.
والصحيح هو الثاني، فليس كل المسلمين في حال ضعف وذلة، خصوصاً وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم معهم وفيهم، إلا أنهم في ضعف وفزع ووجل من وقائع المعركة ونتيجتها وآثارها، وما كانوا لينالوا النصر لولا فضل الله عليهم.
ومن الآيات أن الفضل الإلهي لم ينحصر بتقريب المسلمين من النصر، وتهيئة أسبابه ومقدماته، وإعانة المسلمين لبلوغه بل جاء النصر كله من عندالله تعالى لقوله [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] في بيان لعطاء الله وأنه سبحانه يعطي بالأتم والأوفى، ويرزق المؤمنين النصر كاملاً من عنده، ويتجلى هذا الأمر بدراسة مقارنة بين معركة بدر ومعركة أحد وكيف أن معركة بدر إنتهت بسرعة بعد مبارزة شخصية وهجوم شنه المسلمون بينما في معركة أحد هجم المسلمون وإنهزم الكفار ثم ما لبثوا أن رجعوا وأوقعوا هزيمة بالمسلمين بعد مغادرة الرماة لمواقعهم على الجبل.
ويمكن معرفة النصر الإلهي في معركة بدر بلحاظ مجئ ألف من المشركين عازمين على القتال وإستئصال مبادئ الإسلام، ولم تظهر لهذا العزم موضوعية في ميدان المعركة، فسرعان ما إنهزموا أمام جنود أذلة ضعفاء، ولكن الإيمان يملأ نفوسهم.
ومن أفراد النصر الإلهي إلقاء الخوف والرعب والفزع في قلوب الكفار، ليدرك المسلمون أن النصر من عند الله وهو الذي أمدهم بالقوة وهيء أسباب الظفر لهم.
لقد تقدم عتاة قريش للمبارزة الذين يعول عليهم قومهم الأمر عند الشدائد، وترجو بهم قريش الغلبة في الصراع، ليبرز لهم فتى من عشيرتهم لم يعهد القتال وليس له خبرة في البراز والمسايفة الحقيقية هو الإمام علي، ومعه الحمزة وعبيدة، وسلاحهم المدد الإلهي فيقتلوهم ليهجم المسلمون هجمة رجل واحد ومعهم الملائكة، ليقضى على الكفار بمدد وعون من الله لأن الله سبحانه أراد نصر المسلمين في بدر ولا راد لأمره.
وجاء قوله تعالى [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] مع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان إماماً للمسلمين وفيه وجوه:
الأول: شمول لفظ الأذلة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من لفظ وموضوع الأذلة، لأن العزة مصاحبة للنبوة.
الثالث: إرادة معنى الضعف وقلة العدد والعدة من قوله تعالى [أَذِلَّةٌ].
والصحيح هو الثالث فأرادت الآية بيان حال المسلمين من الضعف والوهن وقلة العدد بالقياس إلى كثرة المشركين، وقوة شوكتهم، وكان صاحب رآية رسول الله يوم بدر الإمام علي عليه السلام، وصاحب رآية الأنصار سعد بن عبادة وقيل سعد بن معاذ.
لقد جاء نصر الله تعالى في معركة بدر بالإمداد بالملائكة، وقال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وكانوا في غيره من الأيام عدة ومدداً( ).
لقد نزلت الملائكة في المعركة لتقاتل إلى جنب المسلمين وتكون مدداً لهم، ولا تجتمع الملائكة والذلة في جبهة القتال، إذ أن وجود الملائكة صارف للذلة والضعف.
وفي موضوع الذلة وجوه:
الأول: إنتهاء حال الذلة عن المسلمين بمعركة بدر، وحصول النصر والغلبة لهم.
الثاني: بقاء حال الذلة بعد النصر.
الثالث: ذهاب الذلة في معركة بدر، ولكنها تعود عند تجدد أسبابها.
والصحيح هو الأول، وفيه آية إعجازية، وشاهد على موضوعية المدد والنصر الإلهي في محو وزوال حال الذل من المسلمين، وهو الذي عليه الوجدان.
لقد كان النصر في معركة بدر دليلاً على قوة شوكة المسلمين، وقدرتهم على مواجهة الكفار، وسبباً لجذب الناس للإسلام، وحجة ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وآية حسية ظاهرة تدل على حسن إختيار المسلمين الإيمان، وفيه تثبيت للإيمان في نفوسهم، وتطرد مصاديق الإيمان أسباب الذلة من مجتمعات المسلمين، وهي عون لمواجهة الأعداء ومقدمات الشك والريب.
علم المناسبة
ورد لفظ[وأنتم أَذِلَّةٌ] أربع مرات في القرآن، واحدة في هذه الآية، وواحدة في سورة المائدة، وإثنتين في سورة النحل، أما التي في سورة المائدة فهي في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ] ( ).
في مدح لقوم من قادة المؤمنين يحرصون على العطف على المؤمنين عموماً، ويظهرون لهم التواضع، وهم مع علو شأنهم، وفضلهم ورفعة درجتهم يخفضون أجنحتهم للمؤمنين، ويشاركونهم همومهم، وينصتون لهم.
والنسبة بين الذلة في الآية أعلاه، والذلة في الآية محل البحث هي الإطلاق والتقييد، فالمراد من الذلة في واقعة بدر هي الضعف وقلة العدد والعدة بالذات، وبالنسبة لكثرة عدد وعدة وآلات الكفار من قريش.
إذ أرادت هذه الآية أن تؤكد حقيقة وهي قلة عدد المسلمين مع عظيم المسؤوليات العقائدية الملقاة على عاتقهم، ثلاثمائة نفر ونيف يريدون تغيير وجه التأريخ، وإصلاح الأمم، وهدايتها إلى الرشاد، مع قوة وبطش قوى الشك والضلالة، ووجود دول عظيمة آنذاك كالدولة الفارسية والرومانية،ليست بعيدة عن الجزيرة مكانا وتأثيراً وعنآية .
لقد بدأ إشعاع ضياء الآيات في المدينة المنورة بهؤلاء النفر تحت رآية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجذب الأمم العظيمة إلى الإسلام، ولا أحد يصدق أن هؤلاء النفر يستطيعون الثبات أمام قوى الشر والطغيان، خصوصاً وأن الدول العظمى آنذاك ترقب وتتابع الأحداث وفتوحات الإسلام، وقد ذهب جماعة إلى الروم طلباً للنصرة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
بينما جاءت الآية من سورة المائدة لبيان حالة ذلة عرضية إختيارية جهتية محمودة وفيما بين المسلمين، من غير أن تتعارض مع حال العز والجهاد في سبيل الله التي تجتمع معها، وتلك آية في الأخلاق المحمودة للمؤمنين بتغير الفعل مع تغير الموضوع، فمادامت النسبة بين الإيمان والكفر التباين فإن المؤمنين أذلة بعضهم على بعض، وتبعث هيبتهم الفزع في قلوب الكفار، وهذه الذلة أرق من الرحمة في قوله تعالى[أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ].
وقد ورد لفظ أذلة في سورة النمل مرتين وفي قصة واحدة هي قصة نبي الله سليمان مع بلقيس ملكة سبأ، وكيف أنه أرسل لهم الهدهد بكتاب إليها .
الأول: قوله تعالى[قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً] ( ) في حكآية عن بلقيس حينما جاءها كتاب سليمان بالدعوة إلى الإسلام، وإستشارت أهل مشورتها من قادة جيشها، وهم(ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً كل واحد على عشرة آلاف) ( ) أي أن عدد أهل مشورتها وقادتها بعدد المؤمنين الذين شاركوا في القتال يوم بدر، مع الفارق والتباين بينهما، فإذا كانت بلقيس مع كثرة جنودها تستسلم وتذعن لسليمان، فان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدأ دعوته برجال أذلة وسط قوى عظمى وجيوش كثيرة للكفر والضلالة، وإستطاع تحقيق النصر والغلبة عليهم.
لقد أخبرت بلقيس بأن الملوك يجعلون أعزة البلاد التي يدخلونها فاتحين أذلة، أما المؤمنون فانهم كانوا أذلة ولكنهم يمنحون العز لأهل القرى والبلاد التي يفتحونها، والتقدير بخصوص الفتح الإسلامي، “وجعلوا أهلها أعزة” أي ليس الأذلة منهم يرفعهم المؤمنون والفتح الإسلامي إلى مراتب العز، بل أنهم يرفعون كل أهل المصر والبلد إلى درجات العز والرفعة بدخولهم الإسلام.
الثاني: قوله تعالى [فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ] ( )، وهذه الآية حكآية عن قول سليمان للرسول الذي بعثه إلى بلقيس ملكة سبأ، وقيل انه مضمون كتاب حمله الهدهد مرة أخرى إلى بلقيس.
ومن إعجاز القرآن ان لفظ “أذلة” ورد في سورة النمل مرتين مرة على لسان بلقيس وأخرى على لسان سليمان، ولكن موضوعهما واحد، وهو أصحاب بلقيس ، وبين القولين عموم وخصوص مطلق، فان بلقيس ذكرت حال الملوك عند إحتلالهم البلدان، أما سليمان عليه السلام فان كلامه تذكير لهم بلزوم دخولهم الإسلام، وان الذلة عاقبة من يصر على الكفر والجحود ويعرض عن دعوة سليمان، وكان خطاب سليمان الأول لها: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ، السلام على من إتبع الهدى أما بعد فلا تعلو عليّ وأتوني مسلمين( ).
وكانت كتب الأنبياء جملاً وكلمات قليلة تدل على المعنى من غير خلل فيه، ومن الآيات ان سليمان عرّف نفسه لها بانه عبد الله، وخاطبها بصفة الملك التي هي عليها، وفيه شاهد ان تقيد المؤمن وهو في عزة وقوة بالعبودية لله عز وجل يبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يظهر أصدق معاني العبودية لله يوم بدر بتوجهه إلى الله تعالى بالدعاء والمسألة بمرأى ومسمع من المسلمين ،لقد كان المؤمنون في أيام سليمان أقوى من عدوهم، أما المسلمون فكانوا هم الأذلة ونالوا النصر بفضل الله , ليصبحوا هم الأقوى من عدوهم وإلى يوم القيامة.
بحث بلاغي
من ضروب الإطناب مجيء الإيضاح بعد الإبهام لتحصيل العلم بالمضمون الأخص، وبعث الغبطة في النفس عند العلم بالشيء وإدراك ما يأتي من البيان بخصوصه.
ومنه التفصيل بعد الإجمال للتدبر في مضامين الكلام، وما له من المعاني، ويتصف اللفظ القرآني بأن المعاني القدسية لهذا الباب أكثر من أن تحصى، وقد جاءت هذه الآية بالإخبار عن نصر الله عز وجل للمسلمين، بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ] وهو لغة عامة وتشمل ميادين القتال وغيرها، فجاء البيان بتعيين موضوع وموضع النصر، وهو معركة بدر بقوله تعالى [بِبَدْرٍ] وهو من الإيضاح بعد الإبهام، لتحصيل اللذة بالعلم بموضوع النصر، وتعيين مكانه وزمانه.
ومن المعاني القدسية في المقام بعث الشوق في النفوس للعلم بمعركة بدر وتأريخها وتفاصيل القتال فيها، ومعرفة المعجزات التي تؤكد نسبة النصر إلى الله عز وجل، ثم جاء التفصيل في حال المسلمين يوم المعركة بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ويدل في مفهومه على عدم توفر أسباب النصر الذاتية عندهم لولا فضل الله، ويبين رجحان كفة العدو في العدة والعدد والمدد من المال والرجال.
ويحتمل قوله تعالى [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] وجوهاً:

الأول: إختصاصه بأوان معركة بدر.
الثاني: إرادة مقدمات القتال، وأسبابه وقدرات المسلمين فيه.
الثالث: المعنى الأعم الذي يشمل الأمور الإقتصادية والإجتماعية والعسكرية، فمن الذلة والضعف مجيء المهاجرين على نحو الأفراد مع عدم رضا أغلب قبائلهم على هجرتهم.
والصحيح هو الثالث فان حال المسلمين العامة لا تؤهلهم لخوض معركة يواجهون فيها جيشاً عرمرماً كمغلى وجود معركة بدر، ولذا سميت معركة بدر الكبرى في إشارة إلى أهميتها وإلى معركة بدر الصغرى، ليدخل المسلمون المعركة وهو متوكلون على الله، راجون لنزول رحمته ونصره لنبيه الكريم وكأن ذكر صفة الذلة للإخبار عن عدم موضوعيتها لرجحان وجود النبي مع المؤمنين في ساحة المعركة، فوجدوه هذا عز قائم بذاته يترشح على المسلمين، ويطرد عنهم حال الذلة والضعف والوهن.
لذا جاءت الآية بعد التفصيل بالأمر بالتقوى، وفيه دعوة لإقتباس الدروس وإستنباط الأحكام من النصر الإلهي للمسلمين في معركة بدر، فمن التقوى طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والخروج تحت لوائه إلى ميادين القتال ومحاربة الكفار وعدم الإعتذار بالضعف وقلة العدة والعدد، لأن نصر الله قريب من المسلمين، ومن يكون معهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والنصر قريب منه لا يجعلون الموضوعية والإعتبار للأسباب وشرائط القتال.
فالخشية من الله عون للمسلمين لطاعة الله عز وجل وطاعة رسوله، وتحقيق الإنتصارات في المعارك التالية من غير زهو بالذات أو إنشغال بالغنائم، إذ تحذر الآية من مسألة وهي إتخاذ النصر الإلهي وسيلة لكسب الغنائم، وجلب المنافع الدنيوية العاجلة، والتقوى واقية من الطمع بزينة الدنيا.

قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ]
لقد جاء قبل ثلاث آيات قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( )وجاءت هذه الآية بالأمر بتقوى الله والخشية منه، ولم تذكر الصبر، وفيه وجوه:
الأول: يستلزم المقام تقوى الله على نحو التعيين، فجاءت الآية بالأمر بها وتوكيدها.
الثاني: من مصاديق تقوى الله الصبر، فاذا جاء الأمر بتقوى الله فانه يعني بالدلالة التضمنية الأمر بالصبر.
الثالث: خوض معركة بدر من أبهى مصاديق الصبر.
ولاتعارض بين هذه الوجوه وكلها من مفاهيم الآية الكريمة، ومعانيها القدسية، فمن إعجاز نظم الآيات الحث على الصبر والتقوى في آية [إِنْ تَمْسَسْكُمْ]( ) والأمر بالخشية من الله عز وجل في هذه الآية.
إن خروج المسلمين لمعركة بدر آية في الصبر، ودخولهم المعركة وقتالهم في سبيل الله من أحسن مضامين الصبر، ودليل على بلوغهم أسمى المراتب في الصبر في مرضاة الله، وجاءت هذه الآية لأمرهم بالخشية من الله عز وجل ليجتمع الصبر والتقوى ، ويسلم المسلمون من كيد الكفار في الإعداد لمعركة بدر وأحد والخندق، وزحفهم على المسلمين بجيوش لا قبل لهم بها.
لقد نصر الله عز وجل المسلمين في معركة بدر ليتقيدوا بمفاهيم التقوى، ويحرصوا على أداء الفرائض والعبادات، وتدل الملازمة بين نصر الله والأمر بتقوى الله على بدآية مرحلة جديدة في حياة المسلمين تستلزم إظهار أسمى مراتب الخشية من الله، والتي تتجلى بإتيان الطاعات وإجتناب المعاصي، ليثبت المسلمون للناس أنهم أهل للنصر الإلهي، وأنهم يحسنون الإنتفاع الأمثل منه.
لقد كان اليهود في المدينة، والنصارى في نجران وهي ليست بعيدة عنها، والكفار قريبون من المدينة ، فأراد الله عز وجل إقامة الحجة على الناس بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسيرة أصحابه، وحسن سمتهم، وتلك آية في تأديب المسلمين، وإرشادهم إلى سبل الصلاح بالنصر في ميدان المعركة، ونزول هذه الآية من السماء، ترى لماذا أمرت الآية بتقوى الله في هذه المناسبة ، الجواب من وجوه:
الأول: تعاهد النصر الإلهي في معركة بدر بالخشية من الله عز وجل.
الثاني: إظهار المسلمين للأهلية لنيل هذا النصر.
الثالث: تقوى الله من مصاديق الشكر له سبحانه على نعمة النصر.
الرابع: تقوى الله واجب عيني على كل مسلم،، وجاءت مناسبة النصر في معركة بدر لتوكيده والحث عليه.
الخامس: النصر في معركة بدر تنمية لملكة التقوى عند المسلمين.
السادس: الآية بشارة لنيل المسلمين المراتب العالية، وتوليهم شؤون الحكم مما يستلزم تفقههم في الدين، وخشيتهم من الله بالسر والعلانية.
السابع: بهاء النصر الإلهي مع التقوى، وكل فرد منهما ضياء يجذب الناس إلى منازل الإيمان.
الثامن: لقد أصبح كل مسلم بعد معركة بدر داعية إلى الله، ومرآة لسنن الإسلام، فأراد الله عز وجل أن يظهر المسلمون الصلاح ومعاني الإيمان فأمرهم جميعاً بالتقوى.
التاسع: جاء الأمر بتقوى الله بعد الإخبار عن نصر الله للمسلمين وهم في حال الذلة، مما يدل على الزجر عن الغرور والغفلة والركون إلى الراحة، فمن خشية الله أخذ الحائطة للدين، والإحتراز من كيد الكافرين.
العاشر: لم تكن العرب وكثير من اليهود يتوقعون نتيجة معركة بدر بغلبة المسلمين، لقد فضحت قريش نفسها، وأساءت إلى سمعتها، ونزلت بها الهزيمة عقوبة لسوء جوارها للبيت الحرام، وإفراطها في التعدي والجور بالزحف على المدينة لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة، ومحاولة القضاء على الإسلام.
فجاء هذا الشطر من الآية لبيان التضاد والتناقض بين المسلمين وبين الكفار.
الحادي عشر: بعد معركة بدر إشرأبت أعناق الناس إلى المدينة المنورة، وأخذ الركبان ينقلون أخبار النبوة ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وينقلون للناس شطراً من آيات القرآن، فأراد الله عز وجل أن يصاحبها حسن سمت المسلمين، وبيان أثر نزول الآيات والمعجزات عليهم، وظهوره في أقوالهم وأفعالهم وإخلاصهم العبادة لله تعالى.
الثاني عشر: لزوم تجلي النصر بما يؤديه المسلمون من العبادات، ليكون عملهم مرآة للنصر الإلهي، وثمرة من ثماره، فبينما كان المسلمون أذلة، وعدوهم في أشد خيلائه جاءهم النصر من عند الله ليرى الله كيف يتلقون النصر ويحافظون عليه، فأعانهم بهذه الآية وما فيها من الأمر بالتقوى والخشية منه، والحرص على المبادرة إلى طاعته.
وتبين الآية المسؤوليات الجسام الملقاة على عاتق المسلمين بأداء الفرائض والعبادات وقد وقعت معركة بدر في السنة الثانية، وفيها فرضت الزكاة والصيام إلى جانب الصلاة التي فرضت في مكة قبل الهجرة.
وجاء قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ] معطوفاً بحرف الفاء الذي يفيد التعقيب من غير فاصلة وفترة، كما يقال جاء زيد فعمرو، أي أنها تدل على المجئ من غير إبطاء، ليكون من معاني الآية تقوى الله عند إنتهاء المعركة من وجوه:
الأول: الرضا في قسمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للغنائم.
الثاني: حسن معاملة الأسرى.
الثالث: المبادرة إلى الصلاة وعدم الغفلة عنها.
الرابع: الإستعداد للدفاع في القادم من المعارك بين المسلمين والكفار.
الخامس: الإقرار بان النصر في معركة بدر من عند الله، وبفضله تعالى على المسلمين.
السادس: إظهار أسمى معاني الطاعة لله ورسوله، وإجتناب الفرقة والخلاف.
وقد كان الصحابة أسوة في الإبتعاد عن أسباب الخلاف والفتنة، وحريصين على الأخوة الإيمانية فيما بينهم بحيث تغلبوا على إنشطارهم إلى مهاجرين وأنصار، وكانت هذه القسمة في الاسم ، وشاهداً على إشتراكهم في الصحبة والجهاد، وسبباً للوحدة والتآخي بينهم ، وليس مقدمة للفرقة والخلاف، وهذه الوحدة من مصاديق إمتثالهم للأمر الإلهي في هذه الآية [فَاتَّقُوا اللَّهَ]، وهو من إعجاز الآية بأن تأتي مصاديقها العملية مقارنة لها وغير متخلفة عنها.
فقد جاء نصر الله في معركة بدر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة جميعاً من غير فصل وتمييز بين المهاجر والأنصاري، وهذا النصر إنحلالي وتقدير صيغة الخطاب الموجه لكل فرد من البدريين ومن خلفهم من المسلمين (ولقد نصرك الله ببدر فاتق الله) ليتآزر المسلمون في سبل التقوى ويزداد تفقههم في الدين، ويقبلوا على آيات القرآن بشوق وتدبر وحرص على حفظها والتقيد بما فيها من المضامين القدسية.
لقد كان نصر المسلمين في معركة بدر بدآية لإتساع رقعة الإسلام، ورسوخ مبادئه، ودخول الناس فيه أفواجاً لذا جاء الأمر بالتقوى من غير فاصلة مع الإخبار عن وقوع النصر وتحققه في الواقع ليحترز المسلمون من الدنيا وزينتها، ويجتنبوا الإنشغال بالغنائم وقسمتها مثلاً، وفيه دعوة للإرتقاء في سلم المعارك والتفقه في الدين، وإتخاذ هذا النصر وسيلة لجذب الناس للإسلام، ولدفع الشبهات عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن المعجزة بنزول الملائكة كانت ظاهرة جلية يوم بدر.

علم المناسبة
ورد قوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ] في القرآن تسعاً وستين مرة، منها خمس مرات في سورة آل عمران وحدها، وهي كالآتي:
الأولى: خطاب لبني إسرائيل على لسان عيسى بن مريم، [وَجِئْتُكُمْ بِآية مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ]( ) في بيان للمعجزات التي جاء بها عيسى ابن مريم من خلق الطين والنفخ فيه، وإبراء الأكمه الذي ولد أعمى والأبرص، وإحياء الميت، وجاءت الآية محل البحث لتوكيد آية نصر المسلمين في بدر وأنها كالآية التي جاء بها عيسى عليه السلام، لأن الآيات التي جاء بها عيسى عليه السلام جاءت على نحو القضية الشخصية مع تعددها وكثرتها، وروي “انه ربما إجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى من أطاق منهم آتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى”( ).
لقد كان النصر في معركة بدر آية في العالمين بذاته وآثاره المباركة في تغيير موازين القوى دفعة واحدة، فلم تكن القبائل والملل والأمصار والدول تحسب للمسلمين حساباً، فظهر المسلمون مرة واحدة كقوة عظمى في الجزيرة، تعجز أكبر القوى فيها وهم قريش واليهود وهوازن وثقيف ونحوها عن مواجهتها.
لقد جاء الأمر بتقوى الله في هذه الآية بعد الإخبار الإلهي عن نصر المسلمين في معركة بدر، وفيه إشارة للوظائف العقائدية التي تنتظر المسلمين في إمامة الناس في مسالك الخير والصلاح.
الثانية: قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] ( )، وفيه دعوة للمسلمين للتحلي بأعلى مراتب الصلاح والخشية من الله، وإجتناب المعاصي والسيئات، لأن التقوى ملازمة للإيمان ومترشحة عنه، ولبيان حاجتهم والناس جميعاً لإرتداء المسلمين لباس التقوى في العبادات والمعاملات.
الثالثة: ما ورد في الآية محل البحث بالحث على تقوى الله الذي جاء بصيغة الأمر ومتعقباً للإخبار عن فوز المسلمين بالنصر في معركة بدر بمنّ وفضل من الله عز وجل عليهم وعلى الناس جميعاً، وهل تشمل نعمة نصر المسلمين يوم بدر المشركين الذين إنهزموا وولوا الأدبار يومئذ الجواب نعم، من وجوه:
الأول: رؤية الكفار آية نزول الملائكة لنصرة المسلمين.
الثاني: تجلي أسرار النصر الإلهي للمسلمين مع انهم قلة وأذلة.
الثالث: نصر المسلمين في معركة بدر دعوة للكفار لدخول الإسلام، وفعلاً ما مرت الأيام حتى دخل كفار قريش بالإسلام طوعاً وكرهاً، لذا ورد عن الحسن في قوله تعالى [يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] ( )، ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أراد ان يدعو على كفار قريش يوم أحد لكثرة إيذائهم لهم، فنهاه الله تعالى لعلمه ان فيهم من يؤمن، وهل المراد خصوص دعاء معين وليس مطلقاً، الجواب هو الأول ، خصوصاً وأنهم متلبسون يومئذ بالكفر والجحود والإصرار على الباطل.
الرابع: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من المسلمين وما عندهم من المدد الإلهي.
الخامس: قيام الكفار بالإنهزام أمام المسلمين في المعارك اللاحقة، كما حصل في بدايات معركة أحد إذ إنهزم جيش المشركين مع انهم كانوا ثلاثة أضعاف عدد جيش المسلمين، لولا ان تكون هناك ثغرة من ناحية الرماة فينفذوا منها، وفي هذا الإنهزام إضعاف لقوى الشر، ومنع من مضاعفة آثامهم في الإصرار على مواجهة ومحاربة المسلمين، أو التعرض للقتل على الكفر بسيوف المسلمين وما فيه من العذاب في الآخرة.
الرابعة: قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، وجاء الخطاب في هذه الآية أعم ولا ينحصر بالبدريين أو الصحابة، بل يشمل المسلمين في أجيالهم المتعاقبة ممن آمن بالله وصدق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليبقى النهي عن أخذ الزيادة عن أصل المال في القرض حكماً ثابتاً في الأرض إلى يوم القيامة، وجاء الأمر بتقوى الله لإجتناب المعاصي مطلقاً.
وتبين الآيات وظيفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإنذار الناس ومجاهدتهم وجذبهم إلى الإيمان.
وتظهر الآية الإعجاز الغيري للقرآن وآثار آياته المباركة، إذ ان الربا معاملة شائعة في الجاهلية، فجاء الإسلام لمنعها وإستئصالها وورد الأمر بتقوى الله متعقباً لها للحرب على النفس الشهوية والطمع بالمال الحرام، وجعل النفوس تنفر من الكسب المنهي عنه.
الخامسة: أختتمت سورة آل عمران بخطاب للذين آمنوا والصبر على الأحكام الشرعية، والمرابطة في سبيل الله والحث على الخشية من الله بقوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، لأن إتيان العبادات والمرابطة في الثغور وقتال الأعداء يستلزم الصبر والخشية من الله، وبذل الوسع في طلب مرضاته، والفوز بالفضل والإحسان منه.
وجاءت هذه الآيات بالأوامر الإلهية للمسلمين مع الحث على التقوى والخشية من الله أما الآية محل البحث فتتضمن نكتة عقائدية ، إذ جاءت بالإخبار عن نصر الله عز وجل للمسلمين ثم أمرهم بالتقوى، ويحتمل وجوهاً:
الأول: النصر الإلهي في معركة بدر فضل وإحسان مطلق من عند الله من غير تقييد بالتقوى.
الثاني: جاء النصر في معركة بدر إبتداء ومن غير تعليق على شرط مخصوص.
الثالث: يدل النصر في معركة بدر على بلوغ المسلمين مراتب الإيمان والتقوى.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، والأصل هو ان نصر المسلمين في معركة بدر فضل ولطف من عند الله على البدريين والمسلمين جميعاً إلى يوم القيامة، لذا فان الأمر الوارد في الآية محل البحث [وَاتَّقُوا اللَّهَ] لا يختص بالبدريين والصحابة بل هو عام وشامل للمسلمين جميعاً في أجيالهم المتعاقبة.
قانون “فاتقوا الله”
من إعجاز القرآن أن يأتي الأمر بالخشية من الله عز وجل متعقباً لنصر الله، والإخبار عنه، فما أن إنهزم الكفار وإستحوذ المسلمون على مؤنهم، وجاءوا بالأسرى منهم ليرى أهل المدينة واليهود والناس جميعاً حقيقة إنتصار المسلمين بالشواهد العملية حتى جاء الأمر الإلهي للمسلمين بتقوى الله والخشية منه.
لتكون التقوى نصراً آخر ملحقاً بالنصر في معركة بدر، والتقوى نصر على النفس الشهوية والغضبية، وواقية من الشك والريب، وهي سلاح لجذب الناس للإسلام، وترجمة عملية للنصر في بدر في ميادين الأقوال والأفعال بإظهار المسلمين التقيد التام بالعبادات وأداء الفرائض، وطاعة الله ورسوله.
ويحتمل الأمر في هذه الآية سعة وضيقاً وجوهاً:
الأول: إرادة البدريين دون سواهم.
الثاني: جاء الخطاب للصحابة والصحابيات بالخشية من الله.
الثالث: المراد عموم المسلمين والمسلمات.
ولاتعارض بين هذه الوجوه ، وكأنها من إجتماع الخاص والعام لأصالة الإطلاق، وعمومات الخطاب القرآني، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ]( )، وهذا العموم لا يتعارض مع إرادة البدريين على نحو الخصوص، ولزوم إظهارهم أسمى معاني الصلاح والخشية من الله عز وجل لأنهم أصبحوا قادة، وبدأوا تأسيس بناء الدولة الإسلامية بدمائهم وبإمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسنن الوحي والتنزيل ، وأدركوا بركات وجوده بين ظهرانيهم بنزول الملائكة لنصرته وتثبيت نبوته بين الناس، ودفع الكفار، ومنعهم من الحاق الضرر به وبإتباعه من المؤمنين.
لقد إبتدأ بهذه الآية عالم جديد، وحياة عقائدية لم تشهدها الأرض، إذ جاء نصر من الله للمسلمين وأمرهم بالتقوى على نحو الملازمة، وليس من إنفكاك بين النصر والتقوى، فمع النصر يجب أن يخشى المسلمون الله عز وجل لأن التقوى حفظ وتعاهد للنصر، وبرزخ من التفريط به أو تضييعه ترى من الذي يحتاج التقوى ، الجواب من وجوه:
الأول: يحتاج اليها المسلمون، وهذه الحاجة مطلقة تشمل الحياة الدنيا والآخرة والله عز وجل غني عن العالمين، وهو ليس محتاجاً، وجاء الأمر بتقوى الله لحاجة المسلمين له فمن رحمة الله أنه يعلم حاجة المسلمين للنصر في معركة بدر، فأنعم عليهم بالنصر بإنزال الملائكة، والمدد الحسي الظاهر للجميع، ويعلم حاجتهم للخشية منه سبحانه فأمرهم بالتقوى والتقيد بأحكام الشريعة.
الثاني: الناس جميعاً، وتتجلى التقوى بدخول الإسلام، وإجتناب الكفر والجحود ومحاربة المسلمين.
ولكن الخطاب لم يأت إلا للمسلمين، لأن التقوى مقرونة بقصد القربة التي لا تقبل إلا من المسلمين، فالتقوى حاجة للناس، ولكن الكفار حجبوا عن أنفسهم مقدمات ومصاديق التقوى وما فيها من سلامة النفس والأمن في الآخرة.
فجاءت الآية لتدعوهم إلى الإيمان والتقوى بما يتحلى به المسلمون من معاني الخشوع لله، وطاعته وطاعة رسوله.
لقد كان الإسلام جديداً على الأرض وأهلها، فأراد الله عز وجل للمسلمين الإرتقاء في مراتب المعرفة والصلاح فنصرهم على الكفار وأمرهم بالتقوى والخشية منه ليشع ضياء الإيمان من المدينة على أرجاء الجزيرة والعالم، ويتناقل الناس صفات وخصائص المسلمين وأنهم أمة من المتقين، يحرصون على أداء الوظائف العبادية خشية من الله عز وجل وطاعة له.
وللنصر الإلهي في معركة بدر ثمار ومنافع عظيمة يستلزم نيلها والمحافظة عليها بالتقوى وطاعة الله ورسوله فلذا جاء الأمر الإلهي بتقوى الله كي يجني المسلمون ثمار النصر، ويتجلى كسبهم المعركة في الواقع اليومي والحياة العامة لهم، ويظهرون التعاون والأخوة فيما بينهم، وحسن الخلق مع الناس، ويجتنبون التعدي والظلم والأخلاق المذمومة خصوصاً وأن النصر في معركة بدر إنعطاف في الحياة العامة وتغيير لمنازل أهل الملل والنحل، وفيه دعوة للناس للإقرار بالمسلمين كأمة متحدة ذات شأن تدعو إلى الله بالتقوى والصلاح.
وفي الآية دعوة للمسلمين لتكون التقوى ملكة ثابتة عندهم كأفراد وأمة، وتظهر جلية على أفعالهم وصلاتهم، وتكون مقدمة لدخول معارك قادمة مع الكفار، كما كانت مقدمة لتلقي المدد الإلهي في معركة بدر.
أن الأمر الوارد في هذه الآية متجدد في كل زمان ومكان، لتقتدي الأجيال المتعاقبة من المسلمين بالبدريين، ويتطلعون دائماً إلى النصر والغلبة والظفر بمدد من الله، إذ يحتاج المسلمون التقوى مقدمة للمعارك وأثناءها وبعدها، وفي حياة السلم والرخاء.
ومن وجوه التقوى إجتناب المعاصي، وعدم إتيان الفواحش، ليكون المسلمون مرآة عملية لأحكام الشريعة، وترجماناً للأوامر والنواهي الواردة فيها، وأهلاً للنصر الإلهي، وتلقي المدد والعون من عند الله، وفي تقوى المسلمين إنذار للكفار والمشركين، وتحذير من التعدي على المسلمين.
ويفيد الجمع بين نصر الله للمسلمين وتقواهم منع وزجر قريش عن الهجوم مرة أخرى على المسلمين، ولكنها أصرت على المجئ في معركة أحد والخندق فلم تنل شيئاً، ولا تستطيع أمة أو جيش أن يقهر الأمة التي تفوز بنصر الله وتحرص على التقوى وتتخذها منهاجاً وعملاً دائماً وكأن الآية تقول للمسلمين تعاهدوا النصر وتطلعوا إليه مرة أخرى بالتقوى والتقيد بالفرائض والعبادات.
والتقوى إقرار بالأخوة وتذكير للناس بلقاء الله، فمن يخشى اليوم الآخر وأهوال الحساب يتقي الله ويخافه في السر والعلانية، وكذا العكس فمن يتقي الله عز وجل يخشى اليوم الآخر ويستعد له، والتقوى أحسن مصاديق الإستعداد لليوم الآخر.
والتقوى واقية من شدة الحساب، ومن العذاب يوم القيامة، لذا فان الأمر الإلهي في هذه الآية بالخشية من الله رحمة ورأفة بالمسلمين، ومن يتق الله يأتيه المدد والنصر من عند الله جزاء عاجلاً، ولما كانت علة خلق الإنسان هي العبادة لله عز وجل وهي:
الأول: نصر الله عز وجل للمسلمين إدامة لعبادة الله في الأرض، لأن المسلمين هم الأمة التي تؤدي الفرائض والواجبات التي أمر الله تعالى بها وتجتنب ما نهى الله عنه، أن نصر الله عز وجل للمسلمين في يوم بدر مصداق للآية أعلاه، لأن المسلمين على دين الفطرة والتوحيد، ويريد الكفار صدهم عن الإيمان، ويسعون لإرتدادهم [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا] ( ).
وجاء نصر الله عز وجل لمنع حصول الإرتداد عن المسلمين وإلى يوم القيامة، بلحاظ قرب نصر الله منهم في مواجهتهم للكفر ومفاهيم الضلالة، وأقطاب الشرك.
الثاني: تقوى المسلمين لله عز وجل، وخشيتهم منه إقرار بالعبودية لله تعالى، وإمتثال لأوامره.
الثالث: شكر المسلمين لله عز وجل إعتراف بأن نصرهم في معركة بدر والمعارك الأخرى من عنده سبحانه.
والله عز وجل قاهر لعباده، ولا راد لأمره، وقد تفضل سبحانه ونصر المسلمين ليشكروه، والشكر لله من مصاديق العبادة والخضوع والخشوع له سبحانه، والتقوى طريق للنجاة والأمن وسبيل للهدآية والرشاد قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
لذا جاء الأمر في هذه الآية للمسلمين بالتقوى للسلامة من كيد الكفار ورجاء النصر في المعارك الأخرى لأن النصر في معركة بدر جاء من باب المثال، والشهادة بأن النصر الإلهي ملازمة للمسلمين من أول معركة خاضوها ضد الكفر والكافرين.
ومن فضل الله عز وجل بقاء النعمة التي ينعم بها على الناس
فلا يرفعها، فغلبة ونصر المسلمين حقيقة واقعة، وآية حسية في معركة بدر، وهو أمر متجدد في معارك المسلمين ما داموا متقيدين بالتقوى والخشية من الله، وتقدير الآية (فاتقوا الله لينصركم في المعارك اللاحقة).
وتقوى الله وسيلة لإزالة حال الذل والضعف عن المسلمين، فمع التقوى يستطيع المسلمون مواجهة الكفار مع كثرة عددهم وعدتهم، لأن التقوى سلاح ملكوتي، وباعث على تقوية العزائم، ومادة للإيثار والتزاحم في طلب الشهادة في سبيل الله، ومقدمة لنزول الملائكة مدداً وعوناً، وطريق إلى الخلود في النعيم الدائم يوم القيامة، قال تعالى [لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
فمن اللطف الإلهي بالمسلمين أن يأتي الأمر بالتقوى ليكون طريقاً إلى الخلود في النعيم، وسبباً للهدآية والتوفيق وإكتناز الصالحات في الحياة الدنيا،بما يكون واقية من أهوال يوم القيامة وعالم الحساب.
قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]
إختتمت الآية الكريمة ببيان أصل في تلقي النعم الإلهية وهو الشكر النوعي العام، وفيه شاهد على موضوعية الشكر لله في دوام النعم الإلهية وتجددها، والله عز وجل غني عن شكر العباد له، ولكنهم يحتاجون هذا الشكر ، قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
فجاءت خاتمة الآية دعوة للمسلمين للمبادرة للشكر لله كي تزداد عليهم النعم الإلهية، ويتجدد النصر وتقدير الآية (لعلكم تشكرون فينصركم في المعارك التالية) .
ويحتمل متعلق الشكر وجوهاً:
الأول: الشكر لله على نعمة النصر في معركة بدر، وهزيمة الكفار شر هزيمة مع أن المسلمين كانوا في حال ضعف.
الثاني: المبادرة إلى الشكر لله على الأمر بالتقوى والتقيد بمضامينه، فلولا قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ] وما فيه من لغة الوجوب ، ومعاني حب الله للمسلمين ، لما إستطاعوا الإرتقاء إلى أعلى درجات الخشية من الله عز وجل.
الثالث: شكر المسلمين الله على نعمة النصر وهم في حال الذل والضعف.
الرابع: شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة النصر وبلوغ مراتب التقوى.
والصحيح هو الأول إلا أن الوجهين الثاني والثالث لايتعارضان مع الأول بل هما في طوله.
وجاءت الآية بصيغة إعجازية لإفادة صدور الشكر لله على نعمة النصر من منازل التقوى، فيبلغ المسلمون المراتب العالية في التقوى والخشية من الله لوجوه:
الأول: التدبر في آيات الله ونعمه العظيمة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثاني: صدور الشكر لله عن منازل الإيمان والتقوى، والإقرار الثابت بأن النصر في معركة بدر من عند الله إبتداء وإستدامة ونهآية.
الثالث: إتخاذ الشكر لله منهجاً ثابتاً، ووظيفة يومية دائمة للمسلمين.
الرابع: خلو نفوس المسلمين من الشك والريب بوقوع النصر في معركة بدر، والإقرار العام بأنه هبة وفضل من عند الله عز وجل.
وتقدير الآية على وجوه:
الأول: ولقد نصركم ببدر لعلكم تشكرون الله على نعمة النصر.
الثاني: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة لعلكم تشكرون )
ليأتي الشكر على إجتماع نعمتين ، وهما :
الأولى : تحقق النصر في معركة بدر .
الثانية : مجئ النصر من منازل الذل والضعف.
الثالث: فاتقوا الله لعلكم تشكرون على نعمة الهدآية إلى التقوى، ومالها من المنافع الخاصة والعامة.
الرابع: لعلكم تشكرون الله على النعم الإلهية:
الأولى: نعمة النصر في معركة بدر.
الثانية: مجئ النصر المسلمين، مع رجحان كفة العدو عدداً وعدة .
الثالثة: الأمر الإلهي بتقوى الله.
الرابعة: إقتران نعمة النصر من عند الله بنعمة التقوى.
الخامسة: الشكر على بلوغ مراتب الشكر.
إذ أن التوفيق إلى الشكر لله يستلزم من العباد الشكر له تعالى على بلوغ مراتب الشكر ، وما فيها من الدلالات على حسن العبودية والإقرار بأن النعم التي عند العباد من الله عز وجل.
ولو كان الناس يشكرون الله على النعم لما وقعت معركة بدر لأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة وخير محض على الناس عامة، وعلى قريش خاصة ، فجحدت قريش بهذه النعمة العظيمة ، وأصرت على الإستكبار وخرجت لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدل نصرته، وأرادت الإنتقام من الذين إتبعوه بعد أن رأوا الآيات الباهرات تجري على يديه.
فجاءت الهزيمة القاسية لقريش إذ أن قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] يدل في مفهومه على خسارة قريش المعركة وصيرورتهم أذلة، فأرادوا دفع الذل باعادة الكرة والهجوم من جديد.
فجاءت معركة أحد والمسلمون متقيدون بأحكام التقوى، ودائبون على الشكر لله تعالى بالقول والفعل وتلاوة هذه الآية وما تدل عليه تلاوتها من التسليم بمضامينها، لتكون الهزيمة عاقبة قريش من غير أن يضر بهذه النتيجة خسارة المسلمين في المعركة قبل أن يرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( ).
وليخرج المسلمون منها بالموعظة والعبرة والتحلي بالصبر مع تعاهد منازل التقوى والشكر لله عز وجل على فوات الفرصة على الكفار، وعجزهم عن النيل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإستبشار المؤمنين والمؤمنات بسلامته ونجاته وإستدامة حضور النبوة بين ظهرانيهم.
لقد جاءت خاتمة الآية رحمة بالمسلمين، وهي باب لتوالي النعم العظيمة من الله عليهم ، لقوله تعالى [وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ]( )، وجاءت الآية بصيغة الجمع، وفيها معنيان:
الأول: توجه المسلمين كأمة بالشكر لله تعالى على نعمة النصر.
الثاني: إنحلال الآية بعدد المسلمين ، وكل واحد منهم يشكر الله عز وجل على نعمة النصر في معركة بدر.
وهل تلاوة هذه الآية من مصاديق الشكر لله ، الجواب نعم، وهو من اللطف والمن الإلهي على المسلمين، فتلاوة المسلم لهذه الآية شكر منه على نعمة النصر، وتلاوة إمام الجماعة شكر منه ومن المأمومين لله على نعمة النصر في معركة بدر، سواء كانت التلاوة في الصلاة الواجبة أو المندوبة،
وجاءت القراءة فيها جهرية أو إخفاتاً، بالإضافة إلى تعدد الوظائف الحميدة لهذه الآية الكريمة ، ومنها أنها تذكير بالشكر لله تعالى، وتأديب للمسلمين، وإرشاد إلى قانون ثابت في الإرادة التكوينية وهو لزوم شكر الله عز وجل على النعمة من أجل إستدامتها وزيادتها.
والشكر من أفراد الثناء على الله عز وجل والتسليم بعظيم قدرته، وواسع سلطانه، ولأن الإنسان كائن محتاج فان شكره لله يتضمن رجاء المزيد من الفضل والنعم الإلهية ، والمسلمون فقراء إلى الله ومحتاجون دفع إلى كيد وشر قريش عنهم عموماً.
فيأتي الشكر لله على نعمة النصر في معركة أحد رجاءً لإستحداث الشكر بتجدد المواجهة مع الكفار، لذا حينما بلغ المسلمين أن الكفار جاءوا لقتالهم ، وحلوا في منطقة أحد ألح شطر من المؤمنين على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للخروج لقتالهم خصوصاً من فاتته المشاركة في معركة بدر ولم يفز بالغنائم فيها، واعظم الغنائم في معركة بدر هذه الآية الكريمة بنسبة نصر المسلمين لله عز وجل فليس من شرف أعظم من الشرف الذي يناله الفرد والجماعة بأن يأتي نصرهم نعمة وهبة من عندالله ، والشكر لله وجه من وجوه الحكمة قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ]( ).
فأراد الله عز وجل أن يرتقي المسلمون في مراتب الحكمة بتعاهدهم للشكر لله، وفيه ترغيب للناس بدخول الإسلام لتجلي مفاهيم ومعاني الحكمة في أقوال وأفعال المسلمين، وأسماها إختيارهم الإسلام وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو من أصدق وأبهى وجوه الحكمة.
ومن بديع صنع الله أن يأتي نصره لأهل الحكمة والعقل في حسن إختيارهم، وتحديهم للكفر والضلالة وجهادهم في سبيل إعلاء كلمة التوحيد، ليبادروا إلى شكر الله عز وجل على نعمة النصر، فلم يخرج المسلمون إلا طاعة لله تعالى، فمنّ عليهم سبحانه بالنصر والإرشاد إلى التقوى والحث على الشكر له تعالى لتتوإلى عليهم نعمه تعالى، فقد أبى سبحانه إلا أن ينعم على المتقين الشاكرين بالنصر والظفر، وقد فاز المسلمون بهذه النعمة العظيمة.
وجاءت هذه الآية وثيقة سماوية تلح على المسلمين بتعاهد الشكر الذي هو من مقامات العارفين، ويدل على إرادة تعاهد وإستدامة الشكر لله مجئ الآية بصيغة الفعل المضارع (لعلكم تشكرون) .
ترى لماذا جاءت الآية بصيغة الترجي (لعل) الجواب من وجوه:
الأول: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء، وجاء الحرف (لعل) لندب المسلمين للقيام بالشكر لله كي يثابوا ويؤجروا.
الثاني: إفادة لعل معنى الفعل وإتيان الشكر ومعنى الآية (لتشكروه).
الثالث: أراد الله عز وجل أن يأتي الشكر من منازل التقوى، وهو
ظاهر بقوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] مما يدل على التداخل بين الخشية من الله والشكر له سبحانه.
الرابع: توكيد حاجة المسلمين إلى الشكر لله تعالى، وأنه سبحانه غير محتاج لشكرهم.
الخامس: الإشارة إلى النعم العظيمة التي تتعقب الشكر لله عز وجل، ومنها دوام النعم.
إذ أن النعمة الواحدة تنحل إلى نعم متعددة بلحاظ الإبتداء والإستدامة وترتب الأثر عليها، كما في نعمة النصر ونعمة التقوى، فالنصر وان كان قضية في واقعة إلا أن آثاره ومنافعه مستمرة على المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، ونعمة الأمر بالتقوى متجددة في كل أوان لأنها سلاح لمواجهة الإبتلاء والإمتحان في الدنيا، وهي طريق إلى الخلود في النعيم، مما يستلزم الشكر لله تعالى على نعمة الهدآية إلى الطريق المؤدي إلى النعيم الأبدي.
علم المناسبة
ورد قوله تعالى “لعلكم تشكرون” في القرآن أربع عشرة مرة، منها ست مرات بإضافة الواو “ولعلكم تشكرون” وثمان مرات من غير واو ومنها هذه الآية الكريمة، وتفيد لعل الترجي ورجحان الفعل، ولكنها جاءت في هذه المقامات بإعتبارها جزء من عالم الإبتلاء والإختبار في الحياة الدنيا.
لأن الشكر لله تعالى منزلة عظيمة لا يرقى اليها إلا أهل الإيمان والتقوى، وورد قوله تعالى “لعلكم تشكرون” ثلاث مرات في سورة البقرة، إثنتين منها بخصوص بني إسرائيل، وجاءت واحدة خطاباً للمسلمين يتعلق بفريضة الصيام، ولم يرد هذا اللفظ في سورة آل عمران إلا مرة واحدة في هذه الآية في خطاب للمسلمين جميعاً، جاء بمناسبة النصر في واقعة بدر لبيان عظمة الفضل الإلهي على عموم المسلمين بتحقيق النصر يوم بدر، فهو من الكلي الطبيعي الذي يكون لكل مسلم فيه حصة وسهم، وهو نعمة متجددة على المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة تستلزم الشكر منهم جميعاً على نحو الإنحلال والشكر البدلي.
وهل يجزي في الشكر لهم على هذه النعمة تلاوة هذه الآية الكريمة، الجواب نعم، فان تلاوة هذه الآية في الصلاة وخارجها من مصاديق الشكر لله عز وجل على هذه النعمة بالإضافة إلى ما يترشح عن هذه التلاوة من التدبر في معاني الآية، وإستحضار الواقعة في الوجود الذهني، وإدراك أسباب الترجيح المادية لجيش الكفار، وحصول الغلبة للمسلمين بفضل الله وخلافاً لتلك الأسباب لتكون هذه الغلبة ضياء ينير دروب المجاهدين والصابرين والمرابطين من المؤمنين، فلا يخافون كثرة الأعداء بل يتطلعون إلى الآيات وموارد الفرج، ويحرصون على شكر الله عز وجل على نعمة النصر ببدر.
ويبين قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] حقيقة وهي ان الله عز وجل يحب ان يشكره المسلمون، وهو غير محتاج لهم ولشكرهم لغناه المطلق عن العالمين، ولكن المسلمين يحتاجون هذا الشكر قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث أنه بالشكر تزداد النعم وتتوالي إنتصارات المسلمين في سوح المعارك مع الكفار، وهو أمر ظاهر بالوجدان والشواهد التأريخية لتعاقب إنتصارات المسلمين وكثرة الغنائم التي إكتسبوها في المعارك، ودخول الناس أفواجاً في الإسلام، وهو من الشواهد على ترشح النعم الكثيرة من النعمة الواحدة.
قانون “دعاء يوم بدر”
الدعاء هو السؤال والإستقامة، وهو في الإصطلاح سؤال إلى الله مقرون بالتضرع والإقرار له بالربوبية ، وأن مقاليد الأمور بيده تعالى, وهو من وجوه العبادة ، باب لقضاء الحوائج، والدعاء سفر غير محدود بموضوع وكيفية وصيغة، ويدخل في الدعاء الذكر والتهليل والتحميد، وهل تدخل تلاوة القرآن في الدعاء الجواب نعم، سواء جاءت التلاوة بقصد القرآنية أم بقصد الدعاء كما في قوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ).
وفي الدعاء سياحة في عالم الملكوت، ولجوء إلى الله، والدعاء شاهد على حاجة الإنسان إلى رحمة الله، والإقرار من العبد بإنه محتاج وليس من أحد يقضي حاجته إلا الله عز وجل، وفيه تنزه عن الهوى، وإعلان سلامة الإعتقاد، والإعتراف بالعبودية لله عز وجل، والدعاء سلاح في معركة الإنسان مع الشيطان والنفس الشهوية، لأن الإنسان بالدعاء يسأل المدد من الله عز وجل[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ]( ).
وجاءت معركة بدر بمدد من عند الله بنزول آلاف من الملائكة لنصرة المسلمين، وهذا المدد متعدد النفع من وجوه كثيرة منها:
الأول: تقوية نفوس المسلمين، وبعث الثقة فيها.
الثاني: طرد الفزع والخوف من نفوس المسلمين.
الثالث: التطلع لفضل الله، ورجاء فضله في المهمات.
الرابع: توكيد إختيار الإيمان.
الخامس: قيام المسلمين بدعوة الناس للإسلام.
السادس: تجلي معجزات حسية بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجعل الناس تنجذب إليها.
السابع: إرتقاء المسلمين في مراتب الكمالات الإنسانية، لأن رؤية الفضل الإلهي والمعجزات الباهرات مناسبة للصلاح والتقوى.
الثامن: تدارك النقص والضعف عند المسلمين.
وقد ذكرت في الجزء الخامس من التفسير(إن كل آية من آيات القرآن مناسبة للدعاء، أما في منطوقها أو مفهومها) ( ) وجاءت هذه الآية الكريمة بالدعاء والمسألة.
ومن خصائص قادة الجيوش في المعارك الإنشغال في توجيه سير المعركة، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان إلى جانب توجيهه لسير المعركة يعطي الأولوية للدعاء وسؤال النصر من عند الله عز وجل، وفيه آية للبدريين والناس جميعاً في أجيالهم المتعاقبة على صدق نبوته من وجوه:
الأول: أنه يرجو النصر ليس بقدرات المسلمين بل بالمدد والفضل والعون الإلهي لهم.
الثاني: ثقة النبي بكسب المعركة بفضل الله.
الثالث: إستجابة الله عز وجل لدعاء النبي ونزول الملائكة مدداً للمسلمين يوم بدر، فهذه الإستجابة شاهد على نبوته.
الرابع: يدل توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدعاء والمسألة على إنتظاره المدد من عند الله، وكما ورد في مسألة القبلة في قوله تعالى[قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا] ( ).
ومن مصاديق جمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقيادة المعركة وإتخاذه الدعاء سلاحاً أنه لما ظهرت رايات قريش وإرادة التقدم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه غضوا أبصاركم، وعضوا على النواجذ، ورفع يده فقال: يارب أن تهلك هذه العصابة لا تعبد ، ثم أصابه الغشي فسري عنه، وهو يسلت العرق عن وجهه فقال: هذا جبرائيل قد أتاكم بألف من الملائكة مردفين).
والمشهور لغة أن العصابة هي الجماعة بين العشرة إلى الأربعين، ولكن
هذا الحديث يدل على المعنى الأعم، وعدم حصر عددها من طرف الكثرة، لذا قال ابن منظور (وكل جماعة رجال وخيل بفرسانها أو جماعة طير أو غيرها عصبة وعصابة) ( )، وفي إطلاق النبي نعت العصابة على البدريين نوع تضرع إلى الله ، وبيان المسكنة والقلة ، وهو مصداق لقوله تعالى ( وأنتم أذلة ) .
وجاء دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان حاجة الإسلام وتثبيت أركانه إلى نصر الله وأن العبادة لا تستديم في الأرض إلا بنصر المسلمين في معركة بدر.
وهل دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق الوحي وقوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى] ( )الجواب نعم، فإن كلمات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تصدر إلا بإذن من الله عز وجل ولجوء له سبحانه.
ويبين دعاء النبي هذا موضوعية معركة بدر والبدريين في بقاء ذكر الله في الأرض، وقيام الناس بعبادته، فهناك موضوعية لمعركة بدر في تأريخ الإنسانية، قال تعالى[مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ] ( )، لقد أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إرشاد المسلمين إلى الدعاء، وإستحضار ذكر الله في ساحة المعركة، لأن هذا الذكر بذاته مدد وعون للمقاتل، وواقية له من حب الدنيا وجعلها غآية في قتاله.
فالمدد في الأعمال على النيات وسلامة السرائر ، والدعاء صفاء للنية، وشاهد على صدق الإيمان، وأن المسلم لم يقاتل طمعاً بالغنيمة والمال، بل حباً لله عز وجل، ودفاعاً عن بيضة الإسلام، وتتجلى هذه الحقيقة بدخول المسلمين المعركة وهم أذلة وقلة مع علمهم ورؤيته لكثرة عدد وعدة الكفار.
لقد أعطى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء في المعركة درساً عظيماً في توكيد إقراره بالعبودية لله عز وجل، وأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس ملكاً ولا يطلب الملك والسلطنة بل يريد تثبيت دعائم التوحيد، وهدآية الناس، وسلامتهم من الأذى والعذاب في النشأتين، ودعاء النبي في معركة بدر دعوة للمسلمين للجوء إلى الدعاء وسؤال الله عز وجل في حال المسلم والحرب.
لقد كان دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ثروة عقائدية وكلامية ينتفع منها المسلمون في أجيالهم المتعاقبة ، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
ولا تنحصر حاجة المسلمين للدعاء في المعركة في حال ضعفهم ونقص آلاتهم أمام قوة العدو، بل هي شاملة لكل أحوال القتال، فيحتاجون إليه وهم كثيرون مثلما يحتاجون إليه وهم قلة مستضعفون.
ولم يكن دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو القضية الشخصية بل كان منشغلاً بالدعاء والمسألة، فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كثرة المشركين يوم بدر أزاء قلة أصحابه لجأ إلى سلاح الأنبياء، وهو الدعاء، فمد يديه وهو يقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة لاتعبد في الأرض( ).
وكما إنفرد المسلمون بنزول الملائكة لهم مدداً، فإنهم إمتازوا على عدوهم بسلاح الدعاء، فصحيح أن كثرة وقوة العدو ترجيح في موازين القتال بالعنوان الأولي إلا أن إضافة سلاح الدعاء إلى القلة يجعل الترجيح بالعنوان الثانوي خصوصاً إذا كان الذي يتوجه بالدعاء هو سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والدعاء سلاح الأنبياء.
ولم ينحصر الدعاء يوم بدر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان سلاحاً للبدريين جميعاً وهو من مصاديق تسميتهم بالمؤمنين، وتحليهم بآداب التقوى.
ومن الآيات أن تأتي المعركة الأولى للمسلمين في شهر رمضان المبارك لتكون مناسبة زمانية كريمة للتوجه بالدعاء والمسألة إلى الله عز وجل سواء فرض الصيام يومئذ أو أنه لم يفرض إلا بعد إنقضاء شهر رمضان، ولو توجه الكفار بالدعاء يوم بدر فهل يقبل منهم، الجواب لا، قال تعالى في وصف دعاء الكفار في الآخرة وذم وتوبيخ الملائكة لهم[قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إلا فِي ضَلاَلٍ] ( ).
وهل هؤلاء الملائكة الذين قالوا هذا القول هم أنفسهم الملائكة الذين نزلوا مدداً للمسلمين يوم بدر، الجواب لا، لأن ملائكة النار قد ورد ذكرهم على نحو الخصوص بأنهم خزنة جهنم وقال تعالى[وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إلا مَلاَئِكَةً]( )، وبتقريب أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، والقول بخلقهما هو المشهور عند المتكلمين .
ويزيد الدعاء المؤمن قوة وشجاعة، ويطرد عن نفسه الخوف من العدو وإن كان هو الأقوى والأكثر عدداً، وتلك معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجلت في جهاد أتباعه وأنصاره من المسلمين في سوح الدفاع عن النبوة والتنزيل ، وآية جعلت الكفار يفزعون ويمتلئون خوفاً ورعباً من جيوش المسلمين عند السماع بزحفها، وهو من أسرار النصر الإلهي للمسلمين، إلى جانب المدد المادي المحسوس بنزول الملائكة في معارك الإسلام الأولى.

قانون”قتال الملائكة”
من بديع الخلق وعظمة قدرة الله عز وجل الصلة بين الملائكة والإنسان ومصاديقها المتعددة، فكانت هناك موضوعية للملائكة ساعة خلق آدم.
ليس في خلقه لأن خلقه من عند الله ولا دخل للمخلوق فيها، ولكن الله عز وجل تفضل وأخبر الملائكة بخلقه، ولم يخبر غيرهم كالجن مع أنهم خلق موجودون ساعة خلق آدم، مما يدل على إكرام الله للملائكة، وما لها من شأن في حياة الإنسان، نعم جاء إخبار إبليس مع الملائكة بخلق آدم بإعتباره مع الملائكة ومن ضمنهم وإن كان أصله من الجن[إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ] ( )، وكانت بدايات ومواضيع الصلة بين الملائكة والإنسان على وجوه:
الأول: تفضل الله عز وجل بإخبار الملائكة عن جعل آدم خليفة في الأرض، فهو سبحانه لم يخبرهم عن خلقه، وهو الذي[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( )،مما يدل أنه لا شأن للملائكة بخلق آدم والخلائق الأخرى من بديع خلق الله، ليس لأن مسكن آدم هو الأرض، وسكن الملائكة في السماء، ولكنه للتباين بين الخالق والمخلوق، والسيد والعبيد، فمقاليد الأمور بيد الله، وهو الغني الذي لايستشير أحداً من خلقه، وكل ما سواه مخلوق له، وأمره بيد الله عز وجل.
الثاني: تعيين موضوع الإخبار الإلهي للملائكة فيما يخص آدم وجنس الإنسان مطلقاً بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فحتى على القول بأن الخلافة قضية شخصية وتتعلق بآدم عليه السلام، أو أنها خاصة بالأنبياء فان موضوع إخبار الله للملائكة يشمل خلق الناس جميعاً والتناسل في ذرية آدم، وكيفية عمل الإنسان في الأرض، والصلات بين بني آدم، والصلات فيما بينهم في حال السلم والحرب.
الثالث: رد الملائكة الإنكاري بخصوص جعل خليفة في الأرض، مع بيانهم لموضوع الإنكار، ويتألف من وجهين:
الأول: الإفساد في الأرض.
الثاني: المعصية والفسق.
وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، وجاء الرد من عند الله عز وجل حجة عليهم، وتأديباً لهم، وتوكيداً لعظيم قدرته وإخباراً بأن خلافة الإنسان في الأرض لا تخرجه عن سلطان الله عز وجل، فهو ليس خليفة مطلقاً، فلا يجوز له الإفساد وفعل المعاصي، ومن يفعلها يجد الجزاء والعقاب في الدنيا والآخرة.
الرابع: أمر الله عز وجل للملائكة بالسجود لآدم عليه السلام بعد البيان والحجة، والدلالة على أهليته لوظيفة الخلافة في الأرض [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ] ( )، وفيه شاهد على عظيم منزلة وشأن آدم بين الخلائق إذ إختاره الله عز وجل خليفة في الأرض.
الخامس: توكيد طاعة الملائكة لله عز وجل بمبادرتهم للسجود لآدم طاعة لله عز وجل، وفيه دليل على إقرارهم بخلافة آدم في الأرض، وأهليته للخلافة، ودعوة ملكوتية للإنسان لأن يعمر الأرض بالعبادة والصلاح والتقوى.
السادس: سكن آدم مع الملائكة في الجنة قبل أن يهبط إلى الأرض.
السابع: عدم إنقطاع صلة الملائكة بالإنسان بعد هبوطه إلى الأرض.

إذ تولى الملائكة تبليغ الأنبياء بالوحي ووظائف أخرى منها نقل البشارات وأخبار الوحي، كما في بشارتها لمريم[يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابن مَرْيَمَ]( ).
الثامن: نزول الملائكة مدداً للمؤمنين في معركة بدر، إذ نزل ثلاثة آلاف ملك لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لتثبيت دعائم الإسلام في الأرض إلى يوم القيامة.
لقد جاءت نصرة الملائكة للمؤمنين فضلاً من الله عز وجل على المؤمنين والناس جميعاً، وآية تبين الصلة بين أهل السماء وأهل الأرض وأنها تتقوم بالتقوى وإرادة الصلاح في الأرض، فقد إحتج الملائكة في موضوع الخليفة في الأرض بإفساد الإنسان فيها وسفكه للدماء، فجاءت نصرتهم للمسلمين لمنع تفشي الفساد في الأرض، والحيلولة دون سفك الدماء.
وزحفت قريش لتفتك بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وتنتقم من الأنصار الذي آووا ونصروا وفتحوا صدورهم وبيوتهم للمهاجرين، وجعلوهم يشاركونهم في أموالهم فكانت هزيمتها درساً للكفار في كل زمان، وزجراً لهم عن التعدي على المسلمين، وقد يقال لقد نصر الله المسلمين يوم بدر بمدد من الملائكة، وليس من مدد في هذا الزمان من الملائكة للمسلمين، مما يعني التخلية بينهم وبين الكفار، فإذا كان الكفار هم الأكثر عدداً وعدة وأسلحة فتاكة حديثة فهل الغلبة تكون لهم.
والجواب من وجوه:
الأول: إن الله عز وجل واسع كريم، وله جنود في الهواء والماء، قال سبحانه[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ] ( ).
الثاني: لا دليل على الملازمة بين وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ساحة المعركة وبين نزول الملائكة، وليس من برهان على إنقطاع نصرة الملائكة للمؤمنين، ونزولهم مدداً وناصرين لهم بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى، والمدار في الموضوع على عموم اللفظ وليس خصوص السبب.
الثالث: كشفت الآية التالية سراً في الإرادة التكوينية وهو أن الصبر والتقوى وسيلة مباركة لنصرة الملائكة للمسلمين ، قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الرابع: لقد أراد الله عز وجل لكلمة التوحيد البقاء في الأرض، وهو سبحانه أعلم بالمصلحة وأسباب دفع المفسدة، ومن هذه الأسباب نزول الملائكة لنصرة المسلمين متى وأين يشاء.
الخامس: نصرة الملائكة للمسلمين أعم من القتال، فقد تأتي بتثبيت المؤمنين، وبعث الثقة والسكينة في نفوسهم، وعن مقاتل في قوله تعالى[فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا]( ) أن بشروهم بالنصر، وكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل، ويقول أبشروا فإن الله ناصركم.
السادس: أصل النصرة من عند الله، وهو الواسع الكريم، وقد تأتي النصرة من الناس، وتكون في بعث الفزع والخوف في قلوب الكافرين.
لقد كانت نصرة الملائكة للمؤمنين مدداً وعوناً للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة، ومعجزة تدعوهم للجهاد والثبات في مواضع القتال من غير خوف أو خشية من الأعداء، ودعوة لهم لرجاء آية ومادة للنصر والغلبة من عند الله عز وجل .
ولا يعني نزول الملائكة إتكال المسلمين عليهم في دفاعهم في معاركهم القادمة بل جاءت الآيات بحث المسلمين على الصبر والتقوى والإستعداد للقتال ، قال تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( ).
كما دعت الآيات المسلمين إلى الإتحاد ونبذ الفرقة والخلاف، قال تعالى[وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]( ).
بحث بلاغي
من وجوه الإطناب التعليل، ويأتي للتقرير وتمام الفائدة، وبعث النفوس على التدبر والتفقه في قوانين العلة والمعلول، ومن حروف التعليل “لعل” وقد جاءت في هذه الآية لتعليل النصر الإلهي للمسلمين في معركة بدر.
ومن الإعجاز ان الآية جاءت بأربعة أطراف:
الأول: الجملة الخبرية بنصر الله عز وجل للمسلمين.
الثاني: صفة المسلمين حال النصر، وكونهم أذلة ضعفاء.
الثالث: لغة الأمر إلى المسلمين بتقوى الله والخشية منه.
الرابع: ذكر علة النصر وهي رجاء الشكر لله، وفيها وجوه:
الأول: إنحصار الشكر لله على النصر في معركة بدر.
الثاني: الشكر لله على نعمة النصر لله، والمسلمون في حال ذلة وضعف.
الثالث: علة الشكر لله عز وجل الأمر بتقوى الله والإمتثال له.
الرابع: العنوان الجامع للوجوه الثلاثة أعلاه، بلحاظ ان كل فرد منها يستحق الشكر بما فيها تقوى الله والخشية منه.
وقد يقال بإنحصار علة الشكر بالنصر في معركة بدر، وان الأمر بتقوى الله مترشح عن النصر في معركة بدر، كوظيفة للمؤمنين بعد النصر والغلبة، ولا يتعارض هذا القول مع إعتبار تقوى الله جزء علة للشكر لله تعالى.
ولقد أراد الله عز وجل صدور الشكر من منازل التقوى والخشية لله عز وجل، وتأتي التقوى في المقام على وجوه:
الأول: التدبر في نعمة النصر يوم بدر.
الثاني: إجتناب الغرور والإستكبار والزهو.
الثالث: إتخاذ جانب الحيطة والحذر من الكفار، فان النصر في معركة بدر ليس النهآية، بل هو باب لصراع جديد مع الكفار يدخل فيه غلبة النفس الغضبية عندهم، وسعيهم للثأر والإنتقام.
الرابع: الإبتعاد عن البطش بالأسرى، ومن يقع في أيدي المؤمنين، فمن التقوى الرجوع إلى الله ورسوله بخصوص الحكم بهم، بالقتل أو الفداء أو السجن أو غيره، وقد تم فداؤهم.
الخامس: جاءت الفاء في قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ] لبيان عدم وجود فاصلة بين نصر الله في معركة بدر وبين التقوى.
السادس: في تعقب تقوى الله للنصر في معركة بدر شاهد على حاجة المسلمين للتقوى والخشية من الله عز وجل ، ومن وجوه الحاجة نزول الملائكة بمعارك الإسلام.
السابع: من وجوه التقوى طاعة الله ورسوله، والإقرار بمعجزة النصر التي جاءت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة بدر.
وتتضمن الآية إعجازاً بخصوص الصلة بين التقوى والشكر لله عز وجل، بصدور الشكر لله عز وجل من منازل التقوى والخشوع لبيان ان الشكر لله عز وجل من مقامات الخاشعين والعارفين، وفيه دليل على بلوغ المؤمنين الأوائل مراتب التقوى والصلاح.


قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] الآية 124.
الإعراب واللغة
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: إذ: ظرف لما مضى من الزمان، تقول: فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت يعود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والجملة الفعلية في محل جر بالإضافة، للمؤمنين: جار ومجرور متعلقان بتقول.
أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ: الهمزة للإستفهام الإنكاري، لن: حرف نصب، يكفيكم: فعل مضارع منصوب بلن، الكاف: ضمير متصل في محل نصب مفعول به.
أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ : أن: حرف مصدري ونصب، يمدكم: فعل مضارع منصوب، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر فاعل يكفيكم، والتقدير ومدد، ربكم: رب: فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، وهو مضاف، الكاف: مضاف اليه، بثلاثة: جار ومجرور متعلقان بيمدكم، آلاف: مضاف اليه مجرور بالكسرة.
مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لثلاثة آلاف، منزلين: صفة ثانية.
في سياق الايات
في الصلة بين هذه الآية وما جاورها قسمان:
الأول: الصلة بين هذه الآية والآيات السابقة، وفيها وجوه:
الأول: جاءت آية [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ]( )، لبيان حال الناس يوم القيامة وأنهم على قسمين بينهما تضاد، ففريق في الجنة، وفريق في النار، ووصفت أهل الجنة والنعيم الدائم ببياض الوجوه عنواناً للنقاء والنزاهة والطهر، وأهل النار بسود الوجوه نتيجة فعل السيئات وإرتكاب المعاصي واليقين بسوء العاقبة، وجاءت هذه الآية لتخبر عن المدد الملكوتي للمسلمين في معركة بدر، وان الملائكة نزلت لنصرتهم مما يدل على أنهم على الحق والهدى والصراط المستقيم.
وفيه بشارة بياض الوجوه لأهل بدر، وبه وردت الأخبار، وجاءت الآية محل البحث بشارة لنيل المسلمين المراتب العالية في جنة النعيم، وفيه طرد للشك والتردد في دخول المعركة، وإخبار بأن الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيضة الإسلام واجب عيني على المسلمين ، ويفيد الجمع بين الآيتين أن الكفار الذين يحاربون المسلمين يأتون يوم القيامة ووجوههم سود، لأن القتال أكثر مصاديق التضاد بياناً بالإضافة إلى التعدي من الكفار، ويظهر هذا التعدي بزحف قريش من مكة إلى المدينة، وقطعها أكثر من أربعمائة كيلو متراً في أراض وعرة، وأحوال صعبة لقتال المسلمين، وليكون زحفهم هذا إختياراً لمنازلهم في الجحيم إلا من تاب وأمن وعمل صالحاً.
الثاني: أخبرت آية[وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ]( )، عن تغشي الرحمة الإلهية للمؤمنين، وجاء خروج المسلمين لمعركة بدر ليكون من أبهى مصاديق الإيمان والإخلاص في العبودية لله عز وجل، ليفيد الجمع بين الآيتين بشارة البدريين بالنعيم الدائم وأنهم من الذين إبيضت وجوهم، ومن الآيات أن رحمة الله جاءتهم عاجلة وهم في الدنيا، إذ جاءهم النصر من عند الله وهم أذلة ضعفاء.
وفيه آية إعجازية بأن الجزاء الإلهي أعم من الحياة الآخرة، فمن أفراده ما يأتي عاجلاً ومصاحباً للفعل العبادي ومتعقباً له، ولم يكن بين المشركين وبين الإجهاز على الإسلام إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر من المؤمنين، وقفوا بسيوفهم وعصيهم ودمائهم درعاً وترساً دون الإسلام، فانزل الله عز وجل الملائكة لنصرتهم، لصدق إيمانهم ولأن الله عز وجل أراد للإسلام البقاء، ولعبادته في الأرض الدوام إلى يوم القيامة، والتي لا تتقوم إلا بالعمل بمضامين آيات القرآن التي كانت تنزل تباعاً .
الثالث: الصلة بين هذه الآية وآية [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ]( )، التي أخبرت عن تلاوة آيات الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحق والصدق من غير تعد أو ظلم للناس، وجاءت الآية محل البحث لتخبر عن آية حسية عظيمة، وهي نزول الملائكة لنصرة المسلمين، لكي يزداد المسلمون إيماناً، وينزجر الكفار، ويكفوا عن التعدي على الإسلام والمسلمين.
ومن إعجاز القرآن مجئ قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ] في القرآن، وصيرورته آية من آيات الله عز وجل، وفيه إكرام عظيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى: يتكلم النبي مع أصحابه فيأتي هذا الكلام في آية قرآنية، [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ].
الثانية: الإخبار السماوي عن كلام جرى بين النبي وأصحابه.
الثالثة: توكيد سماوية هذا الكلام، وفي الجمع بين الآيتين دليل على أن ما يقوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو وحي من عند الله.
الرابعة: توكيد نزول الملائكة ممدداً وعوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الخامسة: ليس في نزول الملائكة ونصرتهم للمسلمين ظلم لقريش والكفار مطلقاً، نعم الذين ظلموا أنفسهم هم الذين تعدوا ويتعدون على الإسلام والمسلمين.
الرابع: الصلة بين هذه الآية وآية [إلى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( )، وفيه شاهد بأن الملائكة عباد لله، ويأتمرون بأمره، وتدل عليه آيات القرآن قال تعالى[لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( )، ونزول الملائكة لنصر المسلمين من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] ويقومون بوظائف عبادية تتمثل بنصرة المسلمين.
الخامس: الصلة بين هذه الآية وآية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( )، وفي الجمع بين الآيتين مسائل:
الأولى: إن خروج المسلمين إلى معركة بدر لمواجهة الكفار شاهد على أنهم خير أمة لما في الخروج من الدلالة على الثبات على الإيمان.
الثانية: الجهاد بالسيف في معركة بدر من أصدق معاني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالثة: خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى معركة بدر دعوة للناس لدخول الإسلام ونصرة النبوة والحق، وهو من عمومات قوله تعالى[أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] إذ تأتي الدعوة إلى الإسلام بالقول والفعل والجهاد والشهادة في سبيل الله.
الرابعة: تبين الآية محل البحث صفة من خصائص خير أمة وهي نزول الملائكة لنصرتها، والأمة التي تنصرها الملائكة هي الأمة والملة الباقية إلى يوم القيامة.
الخامسة: لقد وصفت هذه الآية المسلمين بالمؤمنين وخير أمة هي الأمة المؤمنة بالله ورسوله.
السادسة: في الجمع بين الآيتين دعوة لأهل الكتاب لدخول الإسلام، لما تدل عليه هذه الآية من نصرة الملائكة للمسلمين، وهي آية حسية ظاهرة للناس جميعاً، إذ سار المسلمون إلى معركة بدر وهم أذلة ضعفاء بمرأى ومسمع من يهود المدينة وغيرهم، ليعودوا بالنصر والغنائم والأسرى.
السادس: الصلة بين هذه الآية وآية [لَنْ يَضُرُّوكُمْ]( )، بلحاظ المعنى الأعم لواو الجماعة في [لَنْ يَضُرُّوكُمْ] وإرادة المشركين والفاسقين ، وقد تجلى دفع الضرر في هذه الآية من جهات :
الأولى: عجز الكفار عن الإضرار بالمسلمين.
الثانية: ثبات المسلمين في ميدان المعركة.
الثالثة: نصرة الملائكة للمسلين.
الرابعة: قلة قتلى المسلمين في معركة بدر.
الخامسة: هزيمة الكفار وتركهم وعدتهم خلفهم.
السادسة: بشارة صرف ضرر الكفار في الأيام والمعارك اللاحقة.
السابع: الصلة بين هذه الآية وآية[وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ] ( )، وفيها مسائل:
الأولى: الخروج لمعركة بدر خير محض.
الثانية: بيان فضل الله على المسلمين، إذ جاء النصر في الحال بنزول الملائكة مدداً وعوناً.
الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين مدح البدريين، والشهادة لهم بالتقوى لأن خروجهم فعل خير وجهاد في سبيل الله.
الثامن: الصلة بين هذه الآية وآية[لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ] ( ) وفيها مسائل:
الأولى: الإخبار عن خسارة قريش لأموالهم التي أنفقوها في الإعداد لمعركة بدر.
الثانية: جاءت معركة بدر توكيداً عملياً لآية [لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ] ودليلاً بأن عدم إغناء أموال الكفار لهم أعم من أن ينحصر بعالم الحساب والجزاء، بل يشمل الحياة الدنيا.
وجاءت معركة بدر وهزيمة الكفار فيها شاهداً على عدم إنتفاع الكفار من أموالهم وأولادهم.
الثالثة: سوء عاقبة الذين يعادون الإسلام ويحاربون المسلمين، ومن جاء من الكفار لمقاتلة المسلمين مصيره النار خالداً فيها إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً.
التاسع: الصلة بين هذه الآية وآية [رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ] ( )، وفيها مسائل:
الأولى: ذهاب الأموال التي أنفقها الكفار في معركة بدر هباءً منثوراً.
الثانية: أنزل الله الملائكة مدداً للمسلمين وللإنتقام من الكفار في أنفسهم ومؤنهم ورواحلهم وآلاتهم التي جاءوا بها إلى المعركة.
الثالثة: من مصاديق ظلم الإنسان لنفسه تعرضه لقتال ومطاردة الملائكة له يوم بدر وأحد.
العاشر: الصلة بين آية[بِطَانَةً] وبين هذه الآية وفيها مسائل:
الأولى: تبعث البطانة السيئة على الشك في الآيات والمعجزات، ومنها نزول الملائكة.
الثانية: إستغناء المسلمين عن البطانة من غيرهم، لأن الله عز وجل أنعم عليهم بنزول الملائكة مدداً وعوناً.
الثالثة: لزوم شكر المسلمين لله تعالى على نزول الملائكة لنصرتهم
ومن مصاديق الشكر في المقام إجتناب البطانة من غيرهم والتي تبعث على الخبال والفساد.
الرابعة: الآية محل البحث ونزول الملائكة من عند الله من الآيات التي بينّها الله للمسلمين.
الخامسة: ذكرت الآية أعلاه أن ما تخفي صدور الكفار أكبر من البغضاء، وقد تجلى بتجهيزهم الجيوش، وزحفهم للقضاء على الإسلام، فجاء فضل الله عز وجل بنزول الملائكة مدداً ونصرة.
الحادي عشر: الصلة بين آية[هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ] ( ) وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: نزول الملائكة لنصرة المسلمين شاهد على إيمانهم بالكتاب كله.
الثانية: لقد وصفت هذه الآية المسلمين بالمؤمنين، وجاءت الآية أعلاه بالإخبار عن إيمان المسلمين بالكتاب كله، مما يدل على أن من مصاديق الإيمان التصديق بجميع الكتب السماوية، وقد فاز به المسلمون دون سواهم من الموحدين.
الثالثة: ورد في الآية أعلاه قوله تعالى[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] وقد جاء نزول الملائكة لتمتلأ نفوس الكفار غيظاً، ويموت بعضهم بسماع حركة الملائكة.
الرابعة: هذه الآية عون للمسلمين للحذر والحيطة من الكفار، وتوكيد للتضاد والتباين بين المسلمين وبينهم.
الثاني عشر: الصلة بين آية[إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ] وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: جاءت هذه الآية بحسنات ونعم تفضل الله عز وجل بها على المسلمين وهي:
الأولى: خطاب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[إِذْ تَقُولُ].
الثانية: توثيق كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين في آية قرآنية باقية إلى يوم القيامة، ويتلوها المسلمون في مساجدهم وبيوتهم ومنتدياتهم.
الثالثة: نعت المسلمين الذين خرجوا إلى معركة بدر، وشاركوا فيها بالمؤمنين، وهل الحسنة هنا خاصة بالبدريين أم هي رحمة ولطف من الله بالمسلمين جميعاً، الجواب هو الثاني.
الرابعة: تفضل الله بإمداد ونصرة المسلمين.
الخامسة: مجئ النصرة من عند الله بنزول الملائكة مدداً وعوناً.
السادسة: بيان عدد الملائكة وهو ثلاثة آلاف ملك، مع كفآية نزول الملك الواحد في تحقيق الغلبة على الكفار، ولكنه الفضل الإلهي العظيم، وهل نزول الملائكة مدداً فضل على المسلمين وحدهم أم هو فضل على المسلمين وعلى الملائكة أيضاً، الجواب هو الثاني، وتلك آية في الإرادة التكوينية.
الثالث عشر: الصلة بين آية[وَإِذْ غَدَوْتَ]( ) وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم والنحل بأن تقترن البشارة بنصر الملائكة لهم بإستعدادهم للمعركة مع الكفار.
الثانية: النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يهيئ المؤمنين للقتال وهو الذي تجري على لسانه البشارة مما يدل على صدقه، فلو لم تكن البشارة حقيقة وآية حسية لعموم المؤمنين ، فقد يتخلى شطر منهم عن القتال.
الثالثة: ورد لفظ[الْمُؤْمِنِينَ] في الآيتين صفة للمسلمين الذين خرجوا للقتال في معركة بدر وأحد.
الرابعة: أختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى[وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]، وجاءت هذه الآية بالإخبار عن نزول الملائكة مدداً وعوناً للمسلمين، وهو من الشواهد على أن الله عز وجل سمع دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، فقد إنقطع النبي يومئذ إلى الدعاء حتى وقع رداؤه، والله سبحانه سميع لدعاء النبي والمؤمنين، وعليم بحالهم وما هم فيه من الضعف وقلة المؤونة والعدة والآلة، وقوة شوكة العدو وإصراره على الكفر والجحود.
الرابع عشر: الصلة بين آية [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: بيان فضل الله عز وجل في الحيلولة بين جناحين من المسلمين وبين الضعف والجبن والفشل.
الثانية: لقد وصفت هذه الآية المسلمين الذين خرجوا للقتال تحت رآية الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤمنين، وجاءت الآية أعلاه بالإخبار عن عدم حصول الفشل عندهم جميعاً، مما يدل على قاعدة كلية وهي أن المؤمنين لايفشلون.
الثالثة: الأمة التي تنصرها الملائكة وتنزل من السماء مدداً لها لا تفشل ولاتجبن ولاتخور.
الرابعة: جاءت الآية أعلاه بالإخبار عن ولآية الله للمؤمنين، وجاءت هذه الآية بالإخبار عن نزول الملائكة لنصرتهم مما يدل على أن من ولآية الله للمؤمنين إنزاله الملائكة مدداً وعوناً لهم، وتقدير الجمع بين الآيتين: المؤمنون الذين وليهم الله لا يفشلون.
الخامسة: تكرر لفظ المؤمنين في الآيتين إذ تكرر هذا اللفظ ثلاث مرات في أربع آيات، في هذه الآية والآيتين قبل السابقة، وحتى الآية السابقة ذكرت المؤمنين ولكن بصيغة الخطاب.
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين أن من منافع حسن التوكل على الله نزول الملائكة ناصرين.
السابعة: تدعو الآيتان المسلمين عموماً إلى التوكل على الله، والثقة بنصره وتأييده.
الخامس عشر: الصلة بين الآية السابقة آية [بَدْرٍ]( )، وبين هذه الآية وفيها مسائل:
الأولى: إشتراك الآيتين بخصوص معركة بدر، على القول بأن مضامين هذه الآية تتعلق بمعركة بدر، بل حتى على القول بأنها تخص معركة أحد فان الجمع بين الآيتين تستنبط منه دروس ومسائل بخصوص معركة بدر.
الثانية: جاءت هذه الآية بالإخبار عن إنزال الله للملائكة مدداً وعوناً للمؤمنين في معركة بدر، وجاءت الآية السابقة بالإخبار عن نصر الله عز وجل لهم، ويفيد الجمع بينهما بيان قانون ثابت وهو ان الذين تنزل الملائكة مدداً لهم يحرزون النصر التام على عدوهم.
الثالثة: في الجمع بين الآيتين منطوقاً ومفهوماً تحذير وإنذار للكفار من التعدي على المسلمين وحرمات الإسلام.
الرابعة: يدل الجمع بين الآيتين على زوال حال الذل والضعف عن المسلمين، وبعد واقعة بدر ونزول الملائكة لنصرة المسلمين أصبح الكفار يدركون حقيقة وهي ان إحصاءهم لعدد المسلمين وعدتهم وخبرتهم في القتال لا يكون صحيحاً أو تاماً أبداً لوجود قوة غيبية عظيمة مدداً وناصرين.
السادسة: أختتمت الآية بندب المسلمين إلى الشكر لله عز وجل على نعمة النصر والغلبة على الكفار لتوكيد لزوم شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة النصر في معركة بدر ونزول الملائكة مدداً لهم.
القسم الثاني: الصلة بين هذه الآية والآيات التالية، وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية والآية التالية آية[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] وفيها مسائل:
الأولى: إتحاد موضوع الخطاب وهم المؤمنون مع التباين الظاهري في جهة صدور الخطاب ففي الآية السابقة جاء الخطاب على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أما في هذه الآية فهو من عند الله عز وجل، والخطاب من النبي[إِذْ تَقُولُ] هو أيضاً من عند الله بالوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: ذكرت الآيتان موضوع نزول الملائكة وأنهم مدد للمسلمين، فمن إعجاز القرآن أن أخبار المدد الملكوتي للمسلمين في المقام لم ترد في القرآن إلا في ثلاث آيات، فقد ورد مرة أخرى في سورة الأنفال[ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ ] ( ).
الثالثة: جاء ذكر المدد من الملائكة في هذه الآية مطلقاً غير مقيد، أما في الآية التالية فجاء مقيداً بلزوم الصبر والتقوى، ومن وجوه الصلة بينهما: إن تصبروا وتتقوى كما صبرتم واتقيتم يوم بدر وأحد ، وفيه وجوه :
الأول: إنها إعجاز قرآني يتجلى في إفاضات آية قرآنية على مضامين الآية الأخرى
الثاني: فيه شاهد على مدح الله للمسلمين .
الثالث: الإخبار عن رضا الله عن المؤمنين الذين خرجوا إلى معركة أحد.
الرابع: موضوعية قتيل وتضحية المؤمنين يوم بدر في نزول الملائكة في معركة أحد.
الرابعة: ذكرت هذه الآية عدد الملائكة وأنه ثلاثة آلاف، وجاءت الآية التالية بذكر عددهم وأنهم خمسة آلاف، وفيه بيان لفضل الله عز وجل على المؤمنين وأنه في إزدياد مع أن قريشاً لو عادت إلى المعركة لكانت أكثر ضعفاً ووهناً مما كانوا في بدآية المعركة ومع هذا ينزل لنصرة المؤمنين خمسة آلاف من الملائكة، ليكونوا أكثر قوة وعدداً.
الخامسة: كما وردت الآية السابقة بذكر نزول الملائكة من غير تقييد بفعل ومقدمة من المسلمين، فقد ورد ذكر الملائكة من غير وصف إضافي، وجاءت هذه الآية بوصفهم بأنهم مسومون بعلامات مخصوصة.
السادسة: يدل الجمع بين الآيتين على بلوغ المسلمين لمراتب الصبر والتقوى، وتوالي النعم الإلهية وأسباب النصر والظفر عليهم.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية[بُشْرَى لَكُمْ] ( )، وفيها مسائل:
الأولى: توكيد المدد الملكوتي النازل من السماء.
الثانية: مع تعدد موضوع نزول الملائكة وعددهم في كل مرة، فإن الآية أعلاه ذكرته بصيغة المفرد[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ] في بيان لعظيم قدرة الله، وسعة سلطانه.
الثالثة: الجمع بين البشارة وتحقيقها واقعاً.
الرابعة: توكيد رأفة الله عز وجل بالمؤمنين، وفضله عليهم في بعث الطمأنينة في نفوسهم.
الخامسة: بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو أن النصر بيد الله عز وجل، وقد جعله خاصاً بالمؤمنين في قتالهم مع الكفار.
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين زجر الكفار عن التعدي على حرمات الإسلام ، وإخبارهم بإن الهزيمة مصاحبة لهم في معاركهم مع المسلمين، لأن النصر بيد الله ولا يهبه إلا للمؤمنين به.
الثالث: الصلة بين هذه الآية وآية[لِيَقْطَعَ طَرَفًا] ( )، وفيها مسائل:
الأولى: بيان منافع نزول الملائكة، فسواء قاتل الملائكة أم لم يقاتلوا فإن هذه الآية تدل على تحقيق النصر بنزول الملائكة من عند الله، وإن نزولهم مدداً حسم للمعركة لصالح المؤمنين، ووتحقيق لهزيمة الكافرين.
الثانية: توكيد حقيقة وهي عدم إنحصار منافع نزول الملائكة بالبشارة، فتشمل بعث السكينة في قلوب المؤمنين ، ونزول الخسارة الفادحة بالكفار، وقتل جماعة من صناديدهم.
الثالثة: نزول الملائكة مدداً للمسلمين في معركة بدر وأحد وسيلة سماوية لخيبة الكفار، ورجوعهم إلى مكة خاسرين نادمين.
الرابعة: لقد نزل الملائكة في معركة بدر، وكان أثرهم متبايناً على المتحاربين مع أنهم في موضوع واحد، إذ يبعث نزولهم السكينة في قلوب المؤمنين، والفزع والخوف في قلوب الكافرين.
الخامسة: نزول الملائكة في معركة بدر وأحد سبب مبارك لثبات المسلمين في معارك الإسلام اللاحقة، وجاء نزول الملائكة، وتحقيق النصر والغلبة بفضل الله لأنه سبحانه يقول بأن النصر من عنده.
الرابع: الصلة بين هذه الآية وبين آية [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ] ( )، وفيها مسائل:
توكيد شمول نعمة نزول الملائكة للمؤمنين الذين إشتركوا في معركة بدر وأحد.
الثانية: كفآية نزول الملائكة من السماء لتحقيق النصر على الكفار، وفيه دعوة للمؤمنين للثبات في مواضعهم في القتال، قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الثالثة: بقاء باب التوبة مفتوحاً لأهل الإيمان والناس جميعاً.
الرابعة: أن يوم نزول الملائكة مدداً عيد للمسلمين جميعاً، وهو مناسبة كريمة للتوبة والإنابة، ودعوة للناس لدخول الإسلام، سواء الكفار الذين رأوا وأحسوا بوجود الملائكة في المعركة أو الذين وصلهم خبر نزول الملائكة أو غيرهم، وقد جاءت هذه الآيات لتكون إخباراً للناس جميعاً عن نزول الملائكة لنصرة المسلمين يوم بدر وأحد.
الخامس: الصلة بين هذه الآية وآية[وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: لقد نزل الملائكة من السماء، وتبين الآية الصلة بين أهل الأرض وأهل السماء، وأن الملائكة ينزلون مدداً وعوناً للمؤمنين.
الثانية: بيان عظيم قدرة وسلطان الله عز وجل.
الثالثة: منع الإفتتان بالملائكة وقوتهم لأن القوة لله جميعاً.
الرابعة: منع التوجه بالدعاء إلى الملائكة للنزول لنصرة المسلمين، لأنهم لا ينزلون إلا بأمر الله عز وجل، ولا يفعلون إلا ما يأمرهم به.
الخامسة: دعوة المسلمين للتفقه في الدين، وإدراك النصرة الإلهية بفتح باب التوبة للناس جميعاً.
السادسة: الإنذار للكفار بالعقاب الأخروي يوم القيامة، وفيه إشارة إلى الخزي الذي يلحق الكفار في الدنيا والآخرة، والعذاب الذي تذيقهم الملائكة إياه في الدنيا والآخرة.
السادس: الصلة بين هذه الآية وآية[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] ( )، وفيها مسائل:
الأولى: تحتمل النسبة بين نعت المسلمين بصفة الإيمان في هذه الآية وبين الخطاب الإلهي[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]وجوهاً:
الأول: التساوي، وإرادة ذات المعنى في كلا الآيتين.
الثاني: العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين:
الأولى: المؤمنون جزء من الذين آمنوا.
الثانية: الذين آمنوا جزء من المؤمنين.
الثالث: العموم والخصوص من وجه، أي يلتقي الإلتقاء في وجوه، والإفتراق في وجوه:
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني، فالمؤمنون بالله ورسوله وملائكته بجوانحهم وقلوبهم أخص من الذين آمنوا أي نطقوا بالشهادتين.
الثانية: يفيد الجمع بين الآيتين حث المسلمين على الشكر لله عز وجل على نعمة نزول الملائكة بالتقيد بأحكام الشريعة، وإجتناب تفشي المعاصي بينهم.
الثالثة: التداخل بين حال المسلمين في السلم وحالهم في الحرب، ليكون المدد الملكوتي في المعركة وسيلة كريمة لإصلاح المسلمين في باب العاملات، وإقبالهم على الفرائض والعبادات.
الرابعة: نزول الملائكة مدداً عون للمسلمين للتقيد بأحكام وسنن التقوى والخشية من الله عز وجل.
لقد أراد الله عز وجل أن تكون السكينة مصاحبة للمسلمين عند العزم على مواجهة العدو واثناء المعركة وبعدها، فجاءت هذه الآية وثيقة قرآنية تخبر عن نصرة أهل السماء للمؤمنين من أهل الأرض، ومن الآيات أن نزول الملائكة من عند الله وليس بمحض إختيارهم وإرادتهم، فان الملائكة لم ينزلوا إلا بأمر من الله عز وجل.
وتبين الآية صدق عبودية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله تعالى وحسن تأديبه للمسلمين، بأن يخبرهم بأن الملائكة لم ينزلوا إلا بأمر وإذن من الله عز وجل.
إعجاز الآية
تتضمن الآية الإخبار عن آية من معركة بدر بفضل الله عز وجل، وتتجلى بنزول الملائكة عوناً ومدداً للمؤمنين في معركة بدر، وجاء الإخبار على وجوه:
الأول: توكيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بنزول الملائكة.
الثاني: بيان موضوع نزول الملائكة وهو نصرة المؤمنين.
الثالث:توثيق القرآن لأمرين:
الأول: نزول الملائكة.
الثاني:إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بنزول الملائكة.
الثالث: بيان موضوع النزول وهو أن الملائكة مدد وعون لهم.
الثاني: البدريون والصحابة مطلقاً إذ تبعث الآية السكينة في نفوسهم لمعدل الإسلام المقاومة.
الثالث: التابعون وتابعوا التابعين وعموم المسلمين،لأن نصرة الملائكة في بدر شاهد على نصر الله للمسلمين، ومدهم بأسباب الظفر والغلبة في معاركهم.
ومن إعجاز الآية أن عدد المشركين كان نحو ثلاثة أضعاف جيش المسلمين، فجاء عدد الملائكة ثلاثة أضعاف جيش المشركين مع كفآية العدد القليل من الملائكة لنصرة المؤمنين، ولكنه الفضل الإلهي الذي ليس له حد، ولا يمكن إحصاؤه ، فإن قلت أن عدد ثلاثة آلاف يمكن إحصاؤه، فالجواب من وجوه:
الأول: يتمثل كل ملك بصور وهيئات مختلفة، مما يصعب معه إفراده بالعد والحساب.
الثاني: يتجلى الفضل الإلهي بعمل كل ملك، وما قام به في ساحة المعركة، وهو أمر يتعذر إحصاؤه.
الثالث: يؤدي الملائكة وظائف شخصية وأخرى نوعية، إذ يقوم الملك الواحد بما يأمره الله من أسباب نصرة المسلمين ، كما أنه يشترك مع غيره في فعل غيرها من وجوه المعونة.
ومن إعجاز الآية أمور:
الأول: مجيؤها في باب نزول الملائكة لنصرة المؤمنين،.
الثاني: الإخبار عن المدد والعون للمؤمنين من عند الله عز وجل.
الثالث: إتصاف المدد بأنه سماوي وليس أرضياً.
الرابع: كثرة عدد الملائكة الذين نزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين مع انه يكفي ملك واحد لإبادة جيش قريش.
الخامس: دعوة المؤمنين من البدريين والأحديين والمسلمين جميعاً لسؤال العون والمدد الإلهي، والدعاء بالمزيد منه في حال والحرب السلم.
ويمكن أن تسمى هذه الآية بآية “ألن يكفيكم” ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الا في هذه الآية.
الآية سلاح
تتجلى في هذه الآية أصدق معاني السلاح، وأبهى مفاهيم النصرة والمدد.
فليس بعد نصرة الملائكة نصرة، ولم يشهد تأريخ الإنسانية نصرة ومدداً مثل الذي كان في معركة بدر وأحد، لذا فإن الأقلام متخلفة عن بيان ما تنفرد به معركة بدر من بين المعارك التي خاضها المسلمون والموحدون منذ بدآية نزول آدم إلى الأرض وإلى الآن.
لقد خرج ثلاثمائة وثلاثة عشر من المهاجرين والأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدة قليلة إلى معركة بدر، ليواجهوا جيوش المشركين، وكلا الفريقين لا يعلم بنصرة الملائكة للمسلمين، ولكن المسلمين تلقوا البشارة وهم حريصون على التقيد بآداب وسنن التوكل على الله عز وجل، أما الكافرون فإنهم مصرون على تحدي الآيات والمعجزات التي تجري على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن جاءت آية نصرة الملائكة لتكون أقوى سلاح تشهده الإنسانية وسوح المعارك من وجوه:
الأول: نزول الملائكة إلى الأرض، وهم سكان السماوات.
الثاني: الغرض من نزول الملائكة هو أنهم مدد للمؤمنين.
الثالث: من تكون الملائكة مدداً له لا يخشى عدوآ.
الرابع: القوة السماوية الإضافية للمسلمين، إذ يأتي المدد للمتحاربين من أصحابهم وإخوانهم من أهل الأرض، أما البدريون فقد فازوا بفيض ومدد سماوي خاص بهم.
وهذه الآية سلاح من وجوه:
الأول: الآية مدد وعون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إصلاح أصحابه للحرب وزيادة إيمانهم.
الثاني: إنها سلاح للبدريين في مواجهة العدو.
الثالث: الآية سلاح للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة، فهي شاهد على نصرة أسلافهم في أول معركة خاضها المؤمنون في مواجهة قوى الضلالة والشرك فكيف جاء المشركين الذين جاءوا لقتال المسلمين.
الثالث: عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر هذا جبرئيل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب( ).
الرابع: قال عكرمة، قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه، ويكره أن يخالفهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكذلك صنعوا لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلاً .
فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزاً، قال : وكنت رجلا ضعيفا، وكنت أعمل القداح أنحتها في حجرة زمزم، فو الله إني لجالس فيها أنحت القداح، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهب، يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينا هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان ابن حرث بن عبد المطلب، وقد قدم، فقال أبو لهب، هلم إلي يا ابن أخي فعندك الخبر، فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال : يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس قال: لا شئ والله، إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق، بين السماء والأرض، ما تلق شيئاً، ولا يقوم لها شئ.
قال أبو رافع : فرفعت طرف الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك الملائكة، قال: فرفع أبو لهب يده وضرب وجهي ضربة شديدة، فثاورته واحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته ضربة فلقت رأسه شجة منكرة، وقالت : تستضعفه إن غاب عنه سيده، فقام موليا ذليلاً، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة، فقتله، ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا ما يدفنانه حتى أنتن في بيته.
وكانت قريش تتقي العدسة كما يتقي الناس الطاعون، حتى قال لهما رجل من قريش : ويحكما إلا تستحيان إن أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه، فقالا: إنا نخشى هذه القرحة، قال : فانطلقا فأنا معكما، فما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يمسونه، ثم احتملوه فدفنوه بأعلى مكة إلى جدار، وقذفوا عليه بالحجارة، حتى واروه( ).
الخامس: عن ابن عباس قال كان الذي أسر العباس بن عبد المطلب أبو اليسر بن عمرو وهو كعب بن عمرو أحد بني سلمة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أسرته يا أبا اليسر قال لقد أعانني عليه رجل ما رأيته بعد ولا قبل هيئته كذا قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أعانك عليه ملك كريم( ).
السادس: قال عبدالله بن عمر: لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا، ويقولون: لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر) ( ).
السابع: كما أختلف في يوم بدر هل قاتل الملائكة أم لم يقاتلوا، فقد إختلف المسلمون فقال بعضهم: أنا قتلت، وقال آخر: أنا قتلت فأنزل الله قوله تعالى [َلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ] ( ).
أي أن الهزيمة المذلة لقريش لم تحصل إلا بآية ونصر من عند الله.
الثامن: لما ظهرت قريش مستعدة للقتال، فزع رسول الله، إلى سلاح الأنبياء وهو الدعاء وقال صلى الله عليه وسلم هذه قريش، قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك: اللهم أني أسألك ما وعدتني، فنزل جبرئيل، وقال خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان، قال لعلي أعطني قبضة من التراب من حصباء الوادي، فرمى بها في وجوههم، وقال شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا( ).
مفهوم الآية
جاءت هذه الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويتضمن خطابه للمؤمنين بنصرة الملائكة لهم.
مما يدل على موضوعية وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المجاهدين والمقاتلين، وتلقيه الوحي ورؤيته للملائكة وعلمه بعددهم، وتوكيد نزولهم بخطاب نبوي عام للمسلمين فقوله تعالى[أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ] يدل على رؤية المسلمين في بدر للملائكة، وهي معجزة عقلية وحسية من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فتكون هذه الرؤية سبباً لزيادة إيمان الصحابة، ودعوة مستحدثة لهم لمواصلة الجهاد في سبيل الله والإستعداد لمواجهة الكفار في المعارك اللاحقة وفعلاً فلم تمر الأيام والأشهر حتى جاء الكفار بجيش يبلغ ثلاثة أضعاف عدد المؤمنين وكان النصر في معركة بدر آية من عند الله ترشح الفيض منها على معركة أحد إذ بادر المسلمون إلى الخروج لمواجهة الأعداء من غير خوف أو فزع لأن الله عز وجل ورسوله والملائكة معهم.
وتبين الآية واقعة تأريخية وهي نزول الملائكة مدداً للمسلمين في معركة بدر، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قام بتذكير المسلمين بهذا المدد، وفي هذا التذكير منافع:
الأولى: توكيد النعمة الإلهية بنزول الملائكة.
الثاني: المنع من نسيان المسلمين لهذه النعمة، وقد أنعم الله عز وجل على الأمم السابقة من المسلمين بآيات ونعم عظيمة، ومنهم من جحد تلك النعم، ولم يذكرها، ولم يجعل لها موضوعية في عمله، ولكن المسلمين إتصفوا بإستحضار النعم، وإتخاذها نبراساً ومرآة في القول والعمل، وجاء سؤال النبي للمسلمين بخصوص مدد الملائكة دعوة للمسلمين للإعتراف بفضل الله في النصر في معركة بدر، والتسليم بأن نصرهم لم يتم لولا المدد الملكوتي.
وأيهما أكثر فخراًً وعزاً للمسلمين أن يكون نصرهم بجهدهم وجهادهم، أم بفضل الله والمدد الملكوتي، الجواب هو الثاني، فحصول النصر بمدد وعون من الملائكة أمر إنفرد به المسلمون وهو من خصائص خير أمة أخرجت للناس وهم المسلمون.
بينما يحصل في التأريخ أن تتغلب جماعة وأمة، قليلة على جيش كبير قال تعالى[كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
وفضل الله عز وجل على المؤمنين في المعارك على مراتب متعددة، وكل واحدة منها آية ونعمة عظيمة، ولكن فضل الله عز وجل بالمدد بالملائكة هو الآية العظمى الذي فاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بها لتكون آية وموعظة إلى يوم القيامة، وجاء خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببيان كثرة مدد الملائكة خصوصاً وأن هيئاتهم مختلفة، وقد يكون بعضهم مما لا يراه المسلمون ولكن يرون فعله وأثره.
فجاء قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتوثيق العدد والمنع من زيادته والمبالغة والإختلاف فيه، فلولا هذه الآية لإختلف المسلمون في عدد الملائكة ، وظن فريق منهم أنهم أكثر من ثلاثة آلاف ملك لما رأوا من الآيات والبراهين وظن فريق آخر أنهم أقل بلحاظ قوة وأثر الملك الواحد.
فجاءت الآية بالحق والصدق وبيان عدد الملائكة الذين تفضل الله عز وجل بهم، وأخبرت الآية عن موضوع نزول الملائكة وأنه نصرة للمؤمنين، وكونهم مدداً لهم، مما يدل على بسالة وتضحية المؤمنين يوم بدر ولأن المدد يأتي للمقاتلين الصابرين في الميدان.
لذا إبتدأت المعركة بالمبارزة الشخصية ليعقبها هجوم المسلمين على الكفار، وكان حضور الملائكة سبباً لبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، ورؤية المسلمين المهاجمين وكأنهم أضعاف عددهم الأصلي.
وتبين الآية رضا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بفضل الله عز وجل ونعمته بنصرة الملائكة للمسلمين وفيه شاهد على أن رحمة الله قريب من المؤمنين المجاهدين في سبيل الله، وأن المدد من الملائكة شاهد على إرادة الله عز وجل نصر وظفر المسلمين بأعدائهم وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ) بتقريب أن الإيمان والخروج للجهاد في سبيل الله من أصدق وأسمى معاني الإحسان.
وتقدير الآية: ألم يكفيكم للوثوق من تحقيق النصر والغلبة على الكفار، بالمدد والنصرة بثلاثة آلاف من الملائكة، ومن مفاهيم الآية بعث السكينة في نفوس المسلمين بتحقيق النصر على الكفار وإن كانوا أضعافاً مضاعفة للذين جاءوا منهم في واقعة بدر، ويستطيع ثلاثة آلاف ملك أن يهزموا الملايين من الكفار، وتلك آية باقية إلى يوم القيامة .
أن الله ذو فضل عظيم، ومع زيادة عدد الكفار يزداد فضل الله والمدد من الملائكة لنصرة المؤمنين، ومن مفاهيم الآية أن الله عز وجل ينعم على المسلمين بزيادة عدد الملائكة وأنه سبحانه أراد نصر المسلمين بآية عظمى تكون مدرسة وموعظة وعبرة، فلم يكن نصر المسلمين في معركة بدر أمراً وفق المتعارف، وكراً وفراً لينتهي بنصر المسلمين، أو أن نصر المسلمين جاء بمشقة وعسر بلحاظ قلة عددهم، وعدتهم ولكن نصرهم جاء سريعاً وحاسماً على خلاف الحسابات، وخارقاً لعالم التصور، فما أن بدأت المعركة حتى كان النصر والغلبة للمسلمين، وهو على قسمين:
الأول: النصر على نحو القضية الشخصية بالمبازرة التي جرت بين أهل البيت من جهة وكبار مشركي قريش من جهة أخرى.
الثاني: النصر النوعي العام، بالهجوم الشامل للمسلمين على معسكر الكفار، وليس ثمة فترة أو وقت بين النصر الشخصي الذي أحرزه الإمام علي عليه السلام والحمزة وعتبة، وبين الهجوم الـعـام لكل المسلمين، وهو من وجوه إستحقاقهم صفة الإيمان في الآية،فلم يتكل بعضهم على بعض، ولم يكتفوا بالنصر في المبارزة، بل بادروا إلى إتمام هذا النصر وجني ثماره وتوكيده.
وفيه دلالة على أن المؤمنين في بدر شاهدوا الملائكة، وأيقنوا بالمدد السماوي، ونزول النصرة من عند الله عز وجل، فهبوا كليوث نحو العدو يريدون أن يجتثوه من الأرض، ومعهم الملائكة ناصرين، فأصاب الكفار يومئذ من الخوف والفزع ما لم يروه في حياتهم كلها وهو عقاب أولي على كفرهم وصدودهم عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقصدهم قتله ووأد الإسلام.
إن نزول الملائكة توبيخ وتبكيت للكفار، وتحذير لهم من مواصلة التعدي على المسلمين، لقد كان درساً سماوياً، وآية ظاهرة للعيان.
وفي رؤية الملائكة وجوه:
الأول: رؤية المؤمنين لهم دون الكفار.
الثاني: إختصاص رؤية الملائكة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: رؤية المسلمين والكفار للملائكة كآية حسية ظاهرة.
الرابع: عدم رؤية أحد للملائكة يوم بدر.
والصحيح هو الثالث فـإن جميع من حضر معركة بدر شاهد الملائكة وإن تباينت تلك الشاهدة، ولأن المؤمن ينظر بنور الله، وأما الكافر فإن الله إبتلاه بغشاوة على بصيرته، ومع هذا فانه يدرك أسرار هزيمته وإنها جاءت من عند الله عقوبة وتأديباً له، لذا حينما قام نفر قليل من المشركين بالطواف على كبار قريش لأخذ الثأر من المسلمين لما خسروه في معركة بدر، واجهوا إمتناعاً وتردداً من كثير من وجهاء قريش ومن الذين حضروا معركة بدر ولاقوا درس الهزيمة والخسارة.
وفي الآية مسائل:
الأولى: توثيق القرآن لتوكيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين لنزول الملائكة يوم بدر.
الثانية: توكيد صفة الإيمان للمسلمين، وأن الخطاب يأتيهم من عند نبيه بصفة الإيمان ويأتي التوكيد الإلهي له بذات الصفة، وفيه مدح وثناء للمسلمين، ودعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام، والخروج للجهاد دفاعا ضد المشركين , ونيل صفة الإيمان، وما لها من النفع العظيم في الدنيا والآخرة، إذ أن هذه الصفة بشارة الظفر بالأعداء والغلبة عليهم في الدنيا والفوز بالمراتب العالية والنعيم الدائم في الآخرة.
الثالثة: من الآيات في عالم الخلق أن الملائكة يقومون بوظائف كثيرة لايحصيها إلا الله عز وجل، ومن وظائفهم ما يخص الإنسان مثل إحصاء الملائكة لعمله، قال تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( )، وقال سبحانه[عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ] ( ).
لذا فمن إعجاز الآية أنها تخبر عن وظيفة الملائكة ساعة نزولهم يوم بدر وهي نصرة المؤمنين.
الرابعة: تدل الآية على أن نصرة الملائكة لا تتم إلا بصفة الإيمان وليس النطق بالشهادتين فقط، لبيان منزلة البدريين وحسن إسلامهم وسمتهم.
الخامسة: نزول الملائكة من السماء مخصوص للنصرة والمدد والمعونة للمؤمنين يوم بدر.
السادسة: كفآية عدد الملائكة الذين نزلوا مدداً للمسلمين في تحقيق النصر والغلبة على الكفار.
السابعة: تدل الآية في مفهومها على أن المسلمين لم يواجهوا مشقة وصعوبة في النصر على الكفار، لأن نصرة الملائكة عامة ولا تنحصر بمؤمن دون آخر، ولا ساعة دون أخرى من ساعات المعركة، فهي شاملة من جهة الموضوع والزمان.
مع قلة كلمات هذه الآية، فقد وردت فيها كلمات لم ترد في غيرها من آيات القرآن وهي:
1- تقول للمؤمنين.
2- يكفيكم.
3- يمدكم.
4- ثلاثة آلاف.
5- منزلين.
إفاضات الآية
لقد جعل الله الأرض حديقة ناضرة للمسلمين، يتنعمون فيها بفضل الله الذي يتجلى بالهدآية إلى الإيمان وعمل الصالحات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاءت معركة بدر لتؤكد صدق إيمان المسلمين، وعزمهم على مواجهة الحتوف شوقاً للمعبود.
وجعلوا من قصد الشهادة سياحة في عالم الملكوت وآية تدل على تعلق أرواحهم بالملأ الأعلى، وإنقطاعهم إلى التقوى، والسعي في قوس الصعود إلى السماء العالية والتنزه من أدران الدنيا الفانية، والإجتجاج على سيادة الكفر والجحود في الأرض.
فجاء قوس النزول بهبوط الملائكة ناصرين لهم، وهو فيض ونعمة من عند الله فاز به البدريون ومن خلفهم عموم المسلمين وكأن نزول الملائكة في بدر سدرة تتدلى أغصانها للمسلمين خاصة في عموم الأرض، يأحذون منها ما يكون عدة مدداً لهم، ويكون تعلقهم بهذه الأغصان مقدمة لإنتصارهم على الكفار، وواقية من كيدهم وشرهم.
أن نزول الملائكة مدداً يوم بدر من عمومات قوله تعالى في ذم الكفار [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلا أَذًى] ( ) بتقريب أن نزول الملائكة لنصرة المسلمين شاهد على تعاون أهل السماء مع المؤمنين لتثبيت أحكام الإسلام وأحكام الشريعة، وحصانتهم من الكيد والأذى، ويدل تأريخ الوقائع على أن معركة بدر إنعطاف تأريخي في باب العقيدة والولاء وثورة إجتماعية وأخلاقية غيرت مجرى التأريخ بأن رسخت الشريعة الإسلامية، وأكدت صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد كان بعضهم يطالب بآية حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في معجزات الأنبياء السابقين مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ولم يكتفوا بمعجزة القرآن العقلية، فجاء يوم بدر بمعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من معجزات الأنبياء السابقين، وكانت شاهداً على أفضليته عليهم، وهي نزول الملائكة لنصرته والمؤمنين.
ولو كان نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه دون أصحابه لأصاب المسلمين الضرر، ولتعرضوا لخسائر فادحة، ووقع فيهم القتل خصوصاً مع كثرة جيش الكفر والضلالة وكثرة عدتهم، ولكن الفيض الإلهي شامل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولمن معه من المؤمنين الذين خرجوا لنصرته وإعلاء كلمة التوحيد في الأرض لذا جاءت الآية بقوله تعالى[أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ].
وكانت معركة بدر في اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، إذا أطل الملائكة على المؤمنين بإشراقة سماوية أعظم من إشراقة الشمس، وبهاء ملكوتي يملأ الأبصار، ويزيدهم إيماناً، ويكون نواة لصلة مباركة بين أهل الأرض وأهل السماء إلى يوم القيامة.
ومن الآيات أن الفيض الإلهي يأتي عاماً شاملاً، فهل إنتفع الكفار يوم بدر من آية نزول الملائكة، الجواب نعم من وجوه:
الأول: رؤية آية حسية عظيمة.
الثاني: إقامة الحجة على الكفار.
الثالث: الإنذار السماوي للكفار برؤية الملائكة أعداء لهم.
الرابع: كان الكفار من قبل لا يؤمنون بالملائكة فجاء نزولهم دعوة لقريش ومن معهم للإيمان بالملائكة، والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علة نزولهم.
الخامس: بعث اليأس في قلوب الكفار من وأد الإسلام أو القضاء عليه.
الآية لطف
لقد جاء إخبار الآية عن سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين من أهل بدر لطفاً بهم وبالمسلمين جميعاً، وهو من بركات البدريين على الأجيال المتعاقبة للمسلمين فبادروا إلى الخروج لقتال العدو مع تفوقه عليهم عدداً وعدة، وكانت قريش تنوي إستئصال الإسلام، ومنع مغادرة أبنائها لها، وتسعى لإنقطاع الموضوع الذي يجعل القبائل الأخرى تخرج عن طاعتهم، وتناصبهم العداء.
لم يستطع أقطاب الكفر تحمل تمرد أتباعهم عليهم، وصيرورتهم أعداء لهم، فرحين بما رزقهم الله من الهدآية والإسلام، وينظرون إلى أقطاب الكفر نظرة إزدراء وإحتقار لسوء إختيارهم، فأرادوا الإنتقام منهم ومن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء بالدين الجديد الذي سيطر على القلوب، وأضاء البصائر بنور الإيمان.
فسارت قريش بجيش كبير وهي تعلم قلة عدد المسلمين، وعجزهم عن مواجهتها في ساحة المعركة، أي أن قريشاً حينما جاءت إلى بدر تعلم عدد المسلمين وعدتهم على نحو الدقة العرفية من خلال الأخبار التي تصلهم عن طريق بعض العيون، ومن يتعاون معهم من سكان المدينة فأغرتهم قلتهم على الهجوم عليهم، ولكنها لم تعلم أو تتوقع المدد السماوي ونزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولو أخبرها الثقة بأن الملائكة ستنزل لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر، فهل تمتنع قريش عن المجئ للقتال، الجواب لا، لعنادها وإصرار رؤسائها على الجحود.
وآية نزول الملائكة لطف خاص وعام، خاص بالبدريين من المؤمنين وعام للمسلمين والناس جميعاً ويتلو المسلم هذه الآية فيزداد إيماناً، ويسمعها الكافر فتمتلأ نفسه فزعاً وطمعاً.
ويدرك شطر من الكفار أن الآية تدعوه إلى الإسلام، وتزجره عن التعدي على حرمات المسلمين، لقد هجمت قريش يوم بدر بخيلها وخيلائها لتضر الكفار إلى يوم القيامة إذ صارت لهم درساً وعبرة وموعظة، وآية بينة في الصالحين بلحاظ مالحقها من الخسارة إذ فقدت سبعين من أبطالها، وأسر سبعون آخرون من رجالاتها، لتتغشى قريشاً الذلة والمهانة بين القبائل، وتفقد سطوتها.
وهو من خصائص محاربة الملائكة لهم، إذ أن نصر الملائكة للمسلمين يتضمن أيضاً إلحاق الهزيمة والذل بمن يحاربهم ويقاتلهم، وفيه إنذار لعموم الكفار من التعدي على المسلمين، وإخبار بأن نزول الملائكة مركب من أمرين:
الأول: نصرة المسلمين.
الثاني: إلحاق الهزيمة والذل بالكافرين ليس لأن الهزيمة والذل يترشحان عن نصر المسلمين بل إن الملائكة ينتقمون من الكفار لسوء إختيارهم، وإصرارهم على الضلالة.
وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) حينما رد الله عز جل على الملائكة الذين قالوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، فمن علمه تعالى أن مكّن الملائكة من الكفار يوم بدر، وجعلهم يضربون أدبارهم، ويبثون الفزع والخوف في نفوسهم، ونسي الكفار أنهم جاءوا للإنتقام من المسلمين والبطش بهم، وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذوا يتدافعون في الهروب، وكل واحد منهم يطلب النجاة لنفسه.
والمسلمون والملائكة من خلفهم في لطف من الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبدريين، وتخفيف عنهم، وجزاء لهم على صدق إيمانهم، وكونهم الأوائل من الناس الذين بادروا إلى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين قوم كافرين لا يكتفون بظلمهم لأنفسهم بالكفر والجحود بل أرادوا جعل المسلمين بين خيارين إما القتل وإما الإرتداد.
ويأبى الله إلا أن يبقى الإسلام، والبدريون هم الإسلام كله يومئذ، فجاء النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام والمسلمين بمعجزة إلهية، وهي نزول الملائكة مدداً وعوناً.
وتحتمل نصرة الملائكة في المقام وجوهاً:
الأول: النصرة والمدد المطلق إلى أن يتم النصر والغلبة للمسلمين.
الثاني: النصرة والمدد المحدود بحد كما لو كان في بدآية المعركة او بخصوص بعث الفزع في قلوب الكفار لتبقى نتيجة المعركة معلقة على جهاد المؤمنين وما يبذلونه في سبيل الله ومواجهة الكفار.
الثالث: تعلق نصرة الملائكة للمسلمين بشروط ومقدمات يجب على المسلمين إتيانها وبلوغها، مثل الثبات في ساحة المعركة، وسقوط عدد من الشهداء.
والصحيح هو الأول، فليس من شرط أو قيد لنزول الملائكة ناصرين للمسلمين، وهو من اللطف الإلهي، فقد تفضل الله عز وجل باكرام البدريين والمسلمين جميعاً بنزول الملائكة بقصد إعانة المسلمين حتى تحقيق النصر التام على الكفار، والله سبحانه إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، ومن التمام في المقام وجوه:
الأول: جاء المدد من عند الله بالملائكة ، فالله عز وجل قادر على أن يجعل المدد من الناس بهدآية قوم وقبائل، وإقرار اليهود الذين في المدينة بعلامات نبوة محمد وإتباعه ونصرته، ويكون نصر المسلمين بالأسباب الظاهرة، ولكن الله تفضل بالمدد من الملائكة، لينال ثواب وشرف نصرة الملائكة لهم الذين إختاروا الإيمان طوعاً من غير إكراه.
الثاني: بلوغ المسلمين مرتبة النصر والظفر في معركة بدر، فلم يتركهم الملائكة إلى أن هزموا العدو، وأسروا جماعة منهم، وحازوا الغنائم من العدو، لقد إشترك الملائكة مع المؤمنين في تحقيق النصر والغلبة على الكفار، ولكنهم لم ولن يشاركوا في الغنائم، فقد هيئوها للمسلمين، ليكون عدم المشاركة هذه على وجوه:
الأول: إنها شاهد أمام أهل المدينة والناس جميعاً على النصر الملكوتي،
الثاني: دليل على هزيمة الكفار شر هزيمة.
الثالث: مناسبة لجذب الناس للإسلام.
الرابع: طرد الخوف من الفاقة والفقر بسبب دخوله.
الخامس: زجر وتأديب المنافقين الذين يظهرون تذمرهم من كثرة وفود المهاجرين وأهل الصفة إلى المدينة والمزاحمة في الأرزاق.
الثالث: كثرة عدد الملائكة الذين حضروا لنصرة المسلمين يوم بدر، ليحيطوا بالمسلمين لوقايتهم من الضرر، ويحيطوا بالكفار فيمنعوهم من التعدي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الرابع: ورود الآية الكريمة التالية التي تدل على فضل الله تعالى بزيادة عدد الملائكة ونزولهم من جديد لنصرة المسلمين في معاركهم ضد الكفار.

الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتضمن موضوع نزول الملائكة لنصرة المسلمين، وبيان عظيم فضل الله عز وجل عليهم في صرف كيد وشر الكفار عليهم، وإنحصرت مضامين الآية بخطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بخصوص نزول الملائكة مما يدل على أن موضوع نزول الملائكة لنصرة المسلمين كان ذا أهمية خاصة في حياة المسلمين، وحديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وأن معارك المسلمين مع الكفار مستمرة فجاء سؤال وبشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين لتثبيتهم في منازل الإيمان، وطرو الخوف والفزع من الكفار من أنفسهم.
وأختتمت الآية ببيان حال الملائكة وهي نزولهم من عند الله مخصوص نصرة المسلمين، مما يدل على أن الملائكة من أهل السماء وأنهم نزلوا لوظيفة خاصة كما في نزول جبرئيل بالوحي والقرآن لتبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوة الآيات عليه.
وجاءت الآية بقوله تعالى [يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ] وفيه مدح إضافي للمؤمنين من وجوه:
الأول: إقرار المؤمنين بالربوبية لله عز وجل.
الثاني: يقاتل المؤمنون الكفار من أجل بقاء كلمة التوحيد.
الثالث: إن الله عز وجل يعلم صدق إيمان البدريين فأنعم عليهم بنزول الملائكة مدداً وعوناً لهم.
وتبين الآية الصلة بين الإيمان ونصرة الملائكة، فلم يأت الملائكة إلا بعد بلوغ المسلمين مراتب الإيمان، والإستعداد للتضحية في سبيل الله، ترى لماذا لم تقل الآية (أن يمدنا) بإعتبار مجئ نصرة الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، الجواب من وجوه:
الأول: معرفة المسلمين والناس جميعاً بحقيقة مجئ النصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثاني: بيان الآية لحاجة المسلمين يوم بدر وأحد للمدد والعون السماوي.
الثالث: في الآية حذف والتقدير على وجوه منها: أن يمدكم ربكم في نصرتكم لي.
الرابع: توكيد المنزلة والشأن العظيم للمؤمنين عند الله، فلولا هذه الآية لقيل إنما نزلت الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان البدريين إنتفعوا من هذه النعمة بالعرض وببركة وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لاحاجة لوجودهم أصلاً، لأن الله ينصر النبي محمداً بالمدد من الملائكة، فجاءت هذه الآية معجزة في موضوعها، ومانعة من الفرقة والخلاف بين المسلمين،وبرزخاً دون الفتنة، إذ أكدت أن النصرةجاءت للمؤمنين من غير تعارض مع موضوعية وجود النبي في المعركة ونصرة الملائكة له على نحو الخصوص.
الخامس: الآية شاهد على إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للبدريين، وحرصه على إعلان جهادهم في سبيل الله، والشكر لهم على صبرهم في ميادين المعركة، وإذ أخبرت الآية عن المدد من الملائكة لنصرة المسلمين جاءت خاتمتها بوصف الملائكة بأنهم منزلون، أي أنهم لم يكونوا في الأرض بل نزلوا من السماء خصيصاً لنصرة المسلمين، ولا يعلم كثرة وعدد الملائكة في السماء إلى الله عز وجل.
سبب النزول
نسب الرازي إلى بعضهم أنه قال: أمد الله أهل بدر بألف، فقيل: إن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: ألن يكفيكم) يعني بتقدير ان يجئ المشركين
مدد فالله يمدكم أيضاً بثلاثة آلاف وخمسة آلاف( ).
ولكن هذا الخبر ضعيف سنداً، ودلالة، أما ضعفه سنداً فلعدم ذكر قائله، ومعرفة وثاقته وطبقته، وأما دلالة فإن نزول الملائكة جاء فضلاً من عند الله في موضوعه وغاياته السامية ويمكن إعتباره أحد مصاديق وأسباب النزول.
التفسير
قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ]
بعد أن أخبرت الآية السابقة عن معجزة حسية ظاهرة أنعم الله عز وجل بها على المسلمين بنصرهم في معركة بدر، مع عدم إجتماع مقدمات النصر عندهم، ولا أسباب الهزيمة عند عدوهم، أي أن المعجزة جاءت مركبة من جهتين خصوصاً وأن الكفار كانوا يعلمون قلة عدد وعدة المسلمين قبل المعركة، وعند المعركة صاروا ينظرون لهم وكأنهم أقل قليلاً قال تعالى [وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ]( ).
ليكون النصر في معركة بدر معجزة ومدرسة للأجيال، وقال الرازي: إختلف المفسرون في أن هذا الوعد حصل يوم بدر، أو يوم أحد( )، أي أن قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين ليس بياناً لحالة سابقة وتذكيراً بنعمة، ولكن ظاهر الآية لا يمنع من هذا المعنى خصوصاً وأن نظم الآية يساعد عليه.
إذ جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ليكون من شكر المسلمين لله تعالى في معركة بدر الشكر على نزول الملائكة مدداً وعوناً.
وما ورد من الأخبار والتباين فيها لا يدل على إرادة الوعد في الآية ولكن القدر المتيقن من الخلاف هو خصوص اليوم الذي نزل فيه الملائكة وهل هو يوم بدر أم أحد وليس موضوع الوعد، فقد أختلف في المراد من اليوم الذي أمد الله تعالى فيه المسلمين بثلاثة آلاف من الملائكة على قولين:
الأول: انه يوم أحد.
الثاني: انه يوم بدر.
وعلى القول بأنه وعد وهو الظاهر فالمراد أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وعد به المسلمين قبل خروجهم إلى المعركة ليكون هذا الوعد جزء من أسرار النبوة والوحي.
إما إذا كانت الآية إخباراً عن حال فهي بيان لأمر قد تم، وتذكير بنعمة عظيمة ووعد بمثلها أو بما يشبهها.
وتحتمل الآية محل البحث وجهين:
الأول: الإخبار عما جرى.
الثاني: والوعد بما هو قادم، ويناقش القول بأنه وعد من وجوه:
الأول: إن الوعد في الآية لم يأت من الله عز وجل بل جاءت الآية على صيغة القول من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين.
الثاني: إحتمال التباين بين موضوع الكفاية وبين الوعد.
الثالث: لقد خرج المسلمون لمواجهة الكفار توكلاً على الله.
الرابع: جاءت الآية، بمدح المسلمين بوصفهم بصفة الإيمان مما يدل على رضاهم بما أمدهم الله به من الملائكة والرضا في المقام يحصل عند كل مسلم فكيف بالمؤمنين المجاهدين.
أما الأول فأن مجئ الوعد على لسان النبي شاهد على الوحي خصوصاً وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ينسب المدد إلى الله وأما الثاني فليس في المقام .
وأما الثالث فلا مانع من الجمع بين التوكل على الله والوعد.
وأما الرابع فإن الوعد توكيد لمدح المسلمين بصفة الإيمان.
نعم جاءت الآية بحرف الإستقبال والنصب (لن) فلم تقل الآية (الم يكفيكم) ولكن يمكن حمله على إرادة الإستقبال بخصوص القادم من المعارك بعد أن أمدّ الله المسلمين بثلاثة آلاف من الملائكة، فكأن الآية تذكير لهم بنعمة نزول الملائكة لنصرتهم، ولم تقل الآية(أن أمدكم) بل جاءت بصيغة الفعل المضارع[يُمِدَّكُمْ] ويحمل على الإستقبال.
ولكنه أعم من لغة الماضي، وعلى فرض أن هذا القول ليس وعداً، لأن الوعد يأتي من عند الله وأن جاء على لسان النبي ففي الآية مسائل:
الأولى: الآية توكيد لنزول الملائكة يوم بدر.
الثانية: علم المسلمين بنزول الملائكة لنصرتهم يوم بدر.
الثالثة: أوان قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين الوارد في هذه الآية بعد نزول ثلاثة آلاف من الملائكة لنصرتهم أي بعد يوم بدر، وكذا بالنسبة لنزول الآية فأن أوانها بعد معركة بدر.
لقد رجعت قريش من معركة بدر إلى مكة تجر أذيال الهزيمة والخسارة، فأخذ نفر من أقطابها يحرضون الناس على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، ويرغبونهم بالمال، ويهددونهم في مصالحهم، حتى إجتمع جمع غفير لهم، أما المسلمون فكان عندهم في تلك المدة آيات القرآن تأتيهم مدداً وعوناً.
وجاءت هذه الآية لتخبر عن بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم روح القتال في نفوس أصحابه بتذكيرهم بنصرة الملائكة لهم يوم بدر وترغيب البدريين وغيرهم من المسلمين في المعركة القادمة، إذ كان المسلمون حينئذ على أقسام ثلاثة:
الأول: البدريون.
الثاني: الصحابة الذين فاتهم الخروج لمعركة بدر.
ومن الآيات أن المنافقين إنخزلوا في الطريق إلى معركة بدر، ولكن لم يحصل إنخزال ورجوع في معركة بدر، مع أن معركة بدر متقدمة زماناً على معركة أحد.
الثالث: الذين دخلوا الإسلام بعد معركة بدر، ويتجلى هذا الأمر في الفارق الكبير بين عدد المسلمين في معركة بدر وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، وعدد المسلمين في معركة أحد وهو نحو ألف، إنسحب منهم ثلاثمائة مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول، وبقى سبعمائة من المؤمنين.
وفيه دلالة على كثرة الذين دخلوا الإسلام بعد معركة بدر، وكانت المدة بين المعركتين أحد عشر شهراً، فحدثت معركة بدر في السنة الثانية للهجرة، وأحد في السنة الثالثة للهجرة ليخرج فيها ألف من المسلمين، مما يدل على أثر إنتصار المسلمين في معركة بدر ونزول الملائكة فيها في جذب الناس للإسلام، فقد أيقن المسلمون أن الله عز وجل ناصرهم، فاخذوا يدعون الناس بقوة إلى الإيمان ويبينون لهم المعجزات العقلية والحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية قولان:
الأول: أنه يوم بدر، ونسبه الرازي إلى أكثر المفسرين( ).
الثاني: أنه يوم أحد، وهو المروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق، وأستدل على القول الأول أي المراد يوم بدر بأمور:
الأول: مضامين الآية السابقة، وأن الله عز وجل نصر المؤمنين ببدر حينما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الكلام، فبعد هذا الكلام جاء قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) وحتى على القول بأن الآية توكيد للنصر فإنه جاء بعد معركة بدر.
الثاني: كانت حاجة المسلمين للمدد في معركة بدر شديدة لقلة العدد والعدة، فأراد الله تقوية قلوب المؤمنين.
الثالث: أن الوعد بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً غير مشروط بقيد الصبر والتقوى، ويمكن أن نضيف لها أموراً أخرى:
الأول: أن معركة بدر أول معارك الإسلام، وفي دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر لما رأى كثرة عدد المشركين وقلة عدد المسلمين توجه إلى الدعاء وهو سلاح الأنبياء، قال ابن عباس: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، إستقبل القبلة ومد يده وهو يقول (اللهم أنجز لي ماوعدتني اللهم ان تهلك هذه العصابة لاتعبد في الأرض) ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ورد أبو بكر ثم إلتزمه ثم قال: كفاك يا نبي الله مناشدتك ربك فانه سينجز لك ما وعد كل، فنزلت هذه الآية، ولما إصطفت القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره ورفع رسول الله يده بالدعاء المذكور( ).
الثالث: نظم الآيات إذ تتحدث الآية السابقة عن نصر المسلمين يوم بدر، ويكون حينئذ العامل في(إذ) في أول هذه الآية هو قوله تعالى في الآية السابقة[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ] وتقدير الآية: (إذ نصركم الله ببدر وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين).
الثالث: وورد في بعض الأخبار بأن الملائكة قاتلت إلى جانب المؤمنين يوم بدر(وقول ابن عباس رضي الله عنهما: لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر، وفيما سواه كانوا عدداً ومدداً لا يقاتلون ولا يضربون) ( ).
وفيه شاهد على نزول الملائكة يوم بدر، وأن كان يحتمل وجهين:
الأول: المراد من الملائكة هم المذكورون في قوله تعالى[ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
الثاني: المراد ما مذكور في هذه الآية وأنهم الثلاثة آلاف من الملائكة الذين.
الرابع: عن ابن مسعود أنه سأله أبو جهل : من أين كان يأتينا الضرب، ولا نرى الشخص، قال : من قبل الملائكة . فقال : هم غلبونا لا أنتم( ).
أما على القول بأنه يوم أحد فاستدل عليه بوجوه:
الأول: أمد الله المسلمين يوم بدر بألف من الملائكة كما ورد في الآية أعلاه من سورة الأنفال، فلا يصح أن يكون المدد بثلاثة آلاف في ذات اليوم.
الثاني: كان الكفار يوم بدر نحو ألف، والمسلمون على الثلث منهم، وجاء عدد الملائكة وهو ألف مقابل عدد الكفار.
بينما كان عدد الكفار في معركة أحد ثلاثة آلاف، فجاء عدد الملائكة مساوياً لعددهم.
الثالث: إن الله تعالى قال في الآية التالية[وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] وقال الرازي: ويوم أحد هو اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء، فأما يوم بدر فالأعداء ما أتوهم، بل ذهبوا إلى الأعداء) ( ).
وأجيب على الوجه الأول أعلاه بوجهين:
الأول: أنه تعالى أمدّ أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بألف ثم زاد فيهم ألفين فصاروا ثلاثة آلاف، ثم زاد ألفين آخرين فصاروا خمسة آلاف، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بألف من الملائكة فقالوا بلى، ثم قال: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف فقالوا بلى، ثم قال لهم: إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلاف.
وهو كما روي انه صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه “أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة، قالوا نعم، قال أيسركم ان تكونوا ثلث أهل الجنة قالوا نعم، قال: فأني أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة”
الثاني: ان أهل بدر إنما أمدوابألف على ما هو مذكور في سورة الأنفال ثم بلغهم ان بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير فخافوا وشق عليهم ذلك لقلة عدوهم، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد فأنا أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة، ثم أنه لم يأتِ قريشاً ذلك المدد، بل أنصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش، فأستغنى عن إمداد المسلمين بالزيادة على الألف.
ويمكن أن يرد على الجواب أعلاه بأن التمثيل بالحديث الوارد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه إنما هو قياس مع الفارق، من جهتين:
الأولى: ورد الحديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الجنة ودار النعيم، ويفيد موضوعه وزمانه الحصر.
الثانية: إن إنحصار موضوع نزول الملائكة في معركة بدر بعيد، وما ذكروه من الزيادة المتكررة في عدد الملائكة ذات اليوم وأن الملائكة نزلوا كلهم يوم بدر لا دليل عليه، والأصل هو التعدد إلا مع الخبر المعتبر أو الأمارة أو القرينة الصارفة.
وأما قول الرازي: فأما يوم بدر فالأعداء ما آتوهم) فإن الكفار جاءوا إلى محاربة المسلمين وأخافوا أهل مكة وقالوا من لم يخرج نهدم داره، (ونزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بنفير المشركين من مكة فإستشار أصحابه في طلب العير وحرب النفير) ( ).
الثاني: أما القول بأن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً فأنزل الله ألفاً من الملائكة ويوم أحد ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثة آلاف فمع ما فيه من التوافق العددي فإنه لا دليل عليه، أما الوجه الثالث فالمراد من قوله تعالى[وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا] أي أن رجعوا من وجههم وكانوا قد غضبوا يوم أحد ليوم بدر مما لقوا من فورة الغضب، إذ ندم الكفار بعد معركة أحد لماذا لم يغيروا على المدينة وأهلها، وهموا بالرجوع، فنزلت الآية أعلاه، وسيأتي بيانه.
لقد جاءت الآية بوصف المسلمين الأوائل بصفة المؤمنين بقوله تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ] وفيه إكرام لهم وشهادة سماوية بحسن إسلامهم، ودعوة للمسلمين للإرتقاء إلى مقامات الصحابة في الصلاح والتقوى وإقتباس الدروس والمواعظ من إيمانهم وحسن سمتهم الذي تجلى بخروجهم إلى بدر وأحد مجاهدين مقاتلين.
وحينما بعثت قريش شخصاً ليرى هل من كمين للمسلمين، رجع وقال ليس لهم كمين ولا مدد، ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع، أما ترونهم خرساً لا يتكلمون، ويتلمظون تلمظ الأفاعي، ما لهم ملجأ إلا سيوفهم، وما أراهم يولون حتى يقتلوا، ولا يقتلون حتى يقتلوا بعددهم( ).
وفيه إقرار من العدو بعزم الأنصار والمهاجرين على مواجهة الحتوف في سبيل الله، وهو أبهى معاني الإيمان، لذا فإن تسميتهم بالمؤمنين في هذه الآية شكر لهم وثناء من عند الله عز وجل على أهل بدر وأحد، كما أن قول النبي لهم في البشارة والإخبار عن مجيء الملائكة مدح وثناء إضافي لأنه شاهد على إستحقاقهم بلوغ مرتبة تلقي المدد السماوي، ونزول الملائكة لنصرتهم.
وفيه آية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجهين:
الأول: نزول الملائكة شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين.
الثاني: هذه الآية مصداق بأن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
إذ نالوا شرف المدد من الملائكة، وتوجهوا مع قلتهم لقتال الجيش العظيم من الكفار لتكون معركة بدر بدآية النهآية لإستبداد الكفر، وطغيان أهل الشرك والضلالة.
وجاءت الآية بوصف المخاطبين الذين خاطبهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ]بصفة الإيمان، وهذا الوصف تشريف ومدح من عند الله عز وجل، وقد ورد لفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تسعاً وثمانين مرة في القرآن، كلها من عند الله عز وجل للمسلمين، وليس فيها خطاب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو غيره بهذا اللفظ فإختص صدور هذا اللفظ في القرآن بالله عز وجل وهو الذي يقول: يا أيها الذين آمنوا.
وجاءت هذه الآية بذكر خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين، ولكن وصفهم جاء من عند الله مما يدل على رضا الله ورسوله عنهم، ويحتمل المراد في الآية وجوهاً:
الأول: المسلمون الذين خرجوا إلى معركة بدر.
الثاني: الذين شاركوا في معركة أحد من المهاجرين والأنصار.
وإنما ذكرنا هنا صفة المشاركة، وفي الوجه الأول أعلاه كفآية الخروج، لأن الذين خرجوا إلى بدر لم ينسلخ منهم أحد، بينما الذين خرجوا إلى أحد نحو ألف من المسلمين فإنسلخ ورجع منهم ثلاثمائة مع عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق في المدينة، فتكون النسبة بين الخروج والمشاركة في معركة بدر هي التساوي، فكل من خرج شارك في القتال وفي معركة أحد هي العموم والخصوص المطلق، فالذين خرجوا أعم وأكثر من الذين شاركوا في المعركة.
الثالث: عموم المؤمنين من المهاجرين والأنصار، رجالاً ونساءً، سواء الذين خرجوا للقتال أم الذين واللواتي لم يخرجوا للقتال.
الرابع: المؤمنون من عموم طبقات المسلمين وأجيالهم المتعاقبة.
والصحيح هو الأول والثاني، لتكون هذه الآية وقول النبي للمؤمنين هذا مدداً إضافياً، وعوناً لهم في معركة بدر وأحد.
ولم تقل الآية الكريمة(قل للمؤمنين)بصيغة الأمر والجملة الإنشائية، بل جاءت بصيغة الجملة الخبرية، وفيه مسائل:
الأولى: عدم تردد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ الوحي وفي حال الحرب وشؤون القتال.
الثانية: ثقة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضل الله، ونزول المدد من الملائكة ورؤية المسلمين لهم ولعظيم أثرهم.
الثالثة: جاءت الآية لتوثيق صدور القول من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ في حال السلم والحرب، فوقوع المعركة وجعجعة السلاح، وخيلاء قريش لم تمنعه من جذب المؤمنين لأخبار الوحي والتنزيل.
الرابعة: حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على بعث السكينة في نفوس أصحابه بفضل ورحمة الله عز وجل.
وتحتمل النسبة وقول النبي هذا والوحي به وجوهاً:
الأول: التقدم الزماني للوحي بالبشارة على إعلان النبي لها، فالله عز وجل هو الذي أمر النبي أن يقول للمؤمنين[أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ].
الثاني: تقدم قول النبي على الوحي به، فبعد أن قال النبي للمسلمين هذا القول بشارة أو توثيقاً وتوكيداً جاء الوحي به.
الثالث: عدم وجود وحي بخصوص القول، فالنبي قاله للمؤمنين رجاء وثقة بنصر الله ثم نزلت هذه الآية بالإخبار عنه وتوثيقه.
والصحيح هو الأول لعمومات قوله تعالى[ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى]( ).

علم المناسبة
لم يرد لفظ (إذ تقول) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، وقد ورد مرة أخرى فيه، ولكن بإضافة واو اللعطف بقوله تعالى [وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ] ( )، إذ جاءت خطاباًً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً في قصة معروفة وهي زواجه من زينب بنت جحش والمراد من الذي أنعم الله عز وجل ورسوله عليه هو زيد بن حارثة ( )، وقد شرفه الله عز وجل بنعمة الإسلام، وفوزه بعتق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومحبته وتقريبه له وتزويجه له زينب بنت جحش الأسدية مع أنها إبنة عمة النبي وأبصرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد زواجها، فوقعت في نفسه فقال: سبحان الله مقلب القلوب، وكانت نفسه تجفو عنها قبل ذلك، ولو أرادها النبي لإختطبها وتزوجها.
وسمعت زينب التسبيحة، وأخبرت زيد بها، ففطن، والقى الله في نفسه كراهة صحبتها، ورغب أن تكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاء النبي وقال: إني أريد أن أفارق صاحبتي؟ فقال: مالك أرا بك منها شيء؟ قال: لا والله ما رأيت منها إلا خيراً، ولكنها تتعظم على لشرفها وتؤذيني، فقال له: أمسك عليك زوجك وأتق الله)( ).
وفيه دليل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يجعل الأولوية في عمله وعمل المسلمين للتضوي والخشية من الله، وأن أحكام المعاملات مرهونة بصيغها الشرعية، وهو الذي زوّج زيداً، وأنه ليس من موضوعية لوقوعها في نفسه، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يصون عقود الزواج وصيغ النكاح والمعاملات الشرعية ويتعاهدها.
مما يدل بالأولوية على لزوم تقييد الحكام والأمراء المسلمين بها، والمحافظة عليها، وعدم إستغلال مناصبهم لتغييرها، وحمل الناس على التخلي عن مصالحهم، وما عندهم من المزايا الشخصية في النكاح والمال والتجارة والعقارات ونحوها.
وصحيح أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي عتق زيداً، ونال بفضل الله ورسوله المنزلة الرفيعة بين الناس، ووقعت زينب في نفس النبي إلا أنه لم يحثه على طلاقها، ولم يقل الأمر بيدك أن تفارقها، بل قال له[أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ]وسماها زوجته في إشارة إلى قوة وموضوعية عقد النكاح ولزوم إحترام وصيانة المسلمين له، خصوصاً وأنه يتعلق بالفروج.
ولم يستنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيداً عن زوجته، ولم يأمره بمفارقتها، ولا حبب إليه المفارقة أو رغبه ببدل عنها ولم يبذل له مالاً، بل إن ما تتعلق به نفس النبي تتجافى عنه نفس غيره، في آية من آيات النبوة، وعظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله ثم طلقها زيد.
وبعد أن إعتدت منه تزوجها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وبينت الآية إباحة هذا الزواج ورفع الحرج عن المؤمنين فيه[زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ] ( ).
أما الآية محل البحث فجاءت بموضوع عام، وخطاب للمؤمنين مما يدل على إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في حال الحرب والسلم وأنه يضع القواعد الشرعية في باب المعاملات في الحضر والسفر، ويخبر عن صلة السماء بالمؤمنين ونزول الملائكة لهم مدداً وعوناً بفضل الله، وفيه توكيد أن المسلمين على الحق والهدى، وأنهم نالوا مرتبة لم ينلها أحد من الناس، ويرجون أن يعلم الناس بنصرة الملائكة لهم في معركة بدر وهم أذلة، ليكون هذا العلم سبباً لدخولهم الإسلام والفوز بنعمة الإيمان.
فجاءت هذه الآية مرآة لأمانيهم بتوثيق نزول الملائكة في الكتاب السماوي الباقي إلى يوم القيامة والذي لم تصل إليه يد التحريف أبداً، ومن الآيات أن ينزل القرآن من السماء بخبر نزول الملائكة لنصرة المسلمين، فكلاهما نزلا من السماء القرآن والملائكة مع إشتراكهما في وظيفة إعلاء كلمة التوحيد، وتثبيت دعائم الإسلام.
ونزل القرآن مرة واحدة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليبقى متجدداً في آياته ومضامينه ودلالاته، ويكون وثيقة خالدة لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين في كفآية نزول الملائكة من عند الله.
وكأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم سألهم أتريدون زيادة من الملائكة ونصرتهم، وهذا المعنى إعجاز للآية، وبيان لعظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله عز وجل.
لذا جاءت الآية التالية بالإخبار عن نزول خمسة آلاف من الملائكة لنصرة المسلمين.
قانون (قتال الملائكة في بدر)
لقد أنعم الله عز وجل بالنصر على المسلمين يوم بدر، وهو سبحانه قادر على أن يأتي لهم بالنصر بأسباب ذاتية وغيرية وأرضية، بأن يجعل قوة المسلمين أضعاف قوتهم المتعارفة، وقد أظهر المؤمنون شجاعة فائقة في غير ساعة المعركة.
أو ببعث الوهن والفتور عند الكفار، أو كما في آية المطر المتباين يوم بدر، إذ أنزل الله على المسلمين المطر، رذاذاً وضعيفاً حتى لبد الأرض وثبت أقدامهم، أما قريش فكان المطر ينزل عليها مثل الغزإلى، أي أنه كثير ومتسع والقى الله في قلوبهم الرعب، ثم أنعم الله عز وجل على المسلمين بالملائكة من السماء مدداً ونصرة.
وكان مدد المسلمين قليلاً بالقياس إلى عدد الكفار، فجاءت نصرة الملائكة ببدر ليكون جيش المسلمين هو الأكثر والأقوى، وتلك آية وفضل من عند الله، ولم يكن نصر الله عز وجل للمسلمين بالملائكة وحدهم بل كان الله عز وجل معهم[إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
وعن الحسن معناه قاتلوا معهم المشركين، وعن الزجاج: ثبتوهم بأشياء تلقونها في قلوبهم يقرون بها.
وفيه شاهد على إكرام الله عز وجل للمسلمين وللملائكة الذين نزلوا مدداً لهم، لقد كان إستيلاء الكفار على الماء في بدر فتنة، وسبباً للإقتتال، وقد عطش المؤمنون وشعروا بنقص الماء للشرب والطهارة، وأكثرهم
إحتلموا وأجنبوا، وروي أن إبليس تمثل للمسلمين وقال: أنتم تزعمون أنكم على الحق، وأنتم تصلون على الجنابة، وقد عطشتم ولو كنتم على الحق لما غلبوكم على الماء فأنزل الله تعالى المطر حتى جرى الوادي، وإتخذ المسلمون حياضاً لخزن الماء وإغتسلوا، وتلبد الرمل حتى ثبتث عليه الأقدام.
لقد ظن الكفار بإستيلائهم على الماء النصر والغلبة فجاء المدد من الله بنزول المطر، ليقل أو يزول خوف المسلمين من الكفار وكثرة عددهم وآلاتهم.
وليكون نزول المطر مقدمة لنزول الملائكة لنصرتهم، لقد كانت السماء والأرض مع المؤمنين، وهو شاهد بأن الخلائق كلها مسخرة لأمر الله، وبيده سبحانه مقاليد الأمور، وإن هذا التسخير لنفع المؤمنين ويتجلى بآيات عقلية وحسية.
ومن الآيات أن أثر المطر متباين مع نزوله في وقت وموضع واحد فبينما كان نفعاً محضاً للمسلمين، فإنه وبال وضرر على الكفار، إذ أنهم نزلوا في موضع التراب والوحل، فحينما نزل المطر عجز الكفار عن المشي بإختيارهم.
وإختلف في فعل وعمل الملائكة يوم بدر:
الأول: لم تقاتل الملائكة، ولكنها شجعت وكثرت سواد المسلمين وبشرت بالنصر.
ولكن الآية أعم إذ أن الله عز وجل ينصر المؤمنين والملائكة، ومن وجوه نصرته تعالى إرشاد الملائكة إلى وظائفهم في المعركة كما في قوله تعالى[فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ]( ) ونزول المطر على المسلمين، فقد سبق الكفار إلى الماء، فنزل المسلمون على كثيب، وأخذوا يصلون على جنابة وتسوخ أقدامهم في الوحل، فمطرهم الله حتى إغتسلوا به من الجنابة وتطهروا به من الحدث، وتلبدت به أرضهم وأوحلت أرض عدوهم، بالإضافة إلى تثبيت قلوب المؤمنين، وإلقاء الفزع والخوف في قلوب الكفار قال تعالى[سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
الثاني: أن ألفاً من الملائكة نزلوا مقاتلين كما ورد في ذكرهم في سورة الأنفال، أما ما ذكر في هذه الآية من نزول ثلاثة آلاف، والآية التالية نزول خمسة آلاف فإنما نزلوا بالبشارة، قاله مجاهد( ).
الثالث: إن الملائكة قاتلت يوم بدر وقَتًلَت، وهو المروي عن ابن عباس ويمكن أن نضيف وجهاً رابعاً وهو الأمر الجامع من البشارة والقتال وأن الملائكة قاتلت مع المسلمين، وجاءت بالبشرى لهم بالنصر والغلبة من غير تعارض بين البشارة والقتال.
وتلك آية في نصر الله للمسلمين، كما لو جاء المدد إلى المقاتلين ويبشرهم عند بدآية مجيئه بأن النصر سيتحقق لهم لطرد الخوف والرعب من قلوبهم، ولبيان ثقة المدد بنفسه وقدرته على تحقيق النصر والغلبة.
والصحيح هو الثالث والرابع، لأن الله عز وجل إذا أعطي يعطي بالأوفى والأتم، ومن وجوه التمام أنه سبحانه جعل الملائكة يقاتلون مع المسلمين بالإضافة إلى التبادر من مفهوم المدد، وهو النصرة والمشاركة في القتال إلا مع القرينة الدالة على تقييد ماهية المدد، ويدل على الإطلاق قوله تعالى[وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( )، أي الأطراف من اليدين والرجلين عن ابن عباس وابن جريج والسدي، وعن ابن الأنباري أن الملائكة حين أمرت بالقتال لم تعلم أين تقصد بالضرب من الناس فعلمهم الله تعالى.
وأستدل على عدم مقاتلة الملائكة يوم بدر بقوله تعالى[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلا بُشْرَى] ( ) أي ما جعل الله إرداف الملائكة إلا بشرى (قال ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر في العريش قاعداً يدعو، وكان أبو بكر قاعداً عن يمينه ليس معه غيره، فخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه نعساً، ثم ضرب بيمينه على فخذ أبي بكر وقال: أبشر بنصر الله ولقد رأيت جبريل يقدم الخيل ( ).
وقال الرازي وهذا يدل على أنه لا غرض من إنزالهم، إلا حصول هذه البشرى، وذلك ينفي إقدامهم على القتال) ( )، ولكن العكس بخلافه، إذ أن النبي رأى بدآية نزول الملائكة فأيقن بالنصر والغلبة، لأن اليقين بالنصر يتحقق بالظن بقتال الملائكة أكثر منه بالبشارة وحدها، ومن وظائف الذي يقدم الخيل القيام بالقتال إلا مع القرينة الصارفة.
شواهد قتال ونصرة الملائكة للمسلمين يوم بدر
لقد جاءت هذه الآية بالإخبار عن نزول الملائكة مدداً للمسلمين، وتدل في ظاهرها على رؤية المسلمين يومئذ للملائكة وهم ينصرونهم ويعينونهم على عدوهم الكافر الظالم.
ومن أسرار نزول الملائكة أمور:
الأول: أن الكفار هم الذين جاءوا لغزو المسلمين، فكانوا ظالمين لأنفسهم، ومن الآيات والحجج قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدعوتهم إلى السلم وترك القتال بأمر الله عز وجل، إذ نزل قوله تعالى[ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] ( ).
فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا معشر قريش إني أكره أن أبدأ بكم، فخلوني والعرب وارجعوا، فقال عتبة : ما رد هذا قوم قط فأفلحوا، ثم ركب جملا له أحمر، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يجول بين العسكرين، وينهى عن القتال، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن يك عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر، وإن يطيعوه يرشدوا، وخطب عتبة فقال في خطبته: يا معشر قريش، أطيعوني اليوم واعصوني الدهر، إن محمدا له إل وذمة، وهو ابن عمكم، فخلوه والعرب، فإن يك صادقا، فأنتم أعلى عينا به، وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره، فغاظ أبا جهل قوله وقال له : جبنت وإنتفخ سحرك( ).
الثاني: معركة بدر أول معارك الإسلام.
الثالث: ضعف المسلمين، وقلة عددهم.
الرابع: إرادة الله عز وجل نصر المسلمين، وتثبيت دعائم الإسلام في الأرض.
ومن مصاديق نصر الملائكة للمسلمين في يوم بدر وجوه:
الأول: روى أبو أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، قال : لقد رأينا يوم بدر أن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك، فيقع رأسه من جسده . قبل أن يصل إليه السيف( ).
الثاني: قال ابن عباس : حدثني رجل من بني غفار قال : أقبلت أنا وابن عم لي، حتى صعدنا في جبل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة، فبينا نحن هناك إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها جعجعة الخيل، فسمعت قائلاً يقول أقدم حيزوم( )، ثم قال: فأما ابن عمي فأنكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت( )، وفيه آية بأن المشرك الذي يشرف على المعركة يكون هذا جزاؤه، ويلحقه الضرر من نصرة الملائكة للمسلمين، وسلم الثاني لعلم الله بتوبته ، وليروي آية مرور الملائكة عليه.
قانون”مدد الملائكة”
الملائكة: جمع ملك، وأصله مالك، وتركت الهمزة لكثرة الإستعمال، وقال أكثر اللغويين أنه مشتق من الألوكة، وهي الرسالة لإنها تولت في النعم، وتنقل بعنآية لسانية زائدة، وتحتاج إلى بيان، ولا ملازمة بين الملك والرسالة، فليس كل ملك في السماء هو رسول لأهل الأرض أو لغيرهم، ولكن الصفة والإشتقاق جاء للملائكة لأن كثيراً منهم تلبس بالرسالة وقد تنزل الملائكة لغير الأنبياء، كما في قوله تعالى[إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ] ( ) .
والملائكة أجسام نورانية لطيفة وهو المشهور، وقد جعل الله عز وجل عندها القدرة على تغيير هيئاتها وأشكالها بصور مختلفة ولكنها مقيدة بالحسن الذاتي، والتشبيه الخالي من النفرة وكان جبرئيل يأتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على هيئة دحية الكلبي والذي يتصف بجمال الهيئة.
والملائكة أئمة للمؤمنين في الصلاح والتقوى، فهم مواظبون على طاعة الله، لا ينفك كل ملك عن الذكر والعبادة، ومسكن الملائكة في السماء، ولكن شطراً منها ينزل إلى الأرض بوظائف ورسائل من عند الله عز وجل، ويكون نزول الملائكة على قسمين:
الأول: القضية الشخصية، كما في نزول الملك بالوحي للنبي، والظهور للرسول.
الثاني: النزول النوعي المتعدد، كما في نزول الملائكة لنصرة المسلمين في معركة بدر وأحد، ومنه هذه الآية، التي تخبر عن نزول ثلاثة آلاف ملك في معركة بدر لنصرة المسلمين.
فالقرآن مع عظمته وأثره، نزل به جبرئيل وحده ولكن على مدى ثلاث وعشرين سنة، أما يوم بدر وحده فنزل ثلاثة آلاف ملك يقاتلون إلى جانب المسلمين، وكذا نزل الآلاف من الملائكة يوم أحد، ونزولهم المتكرر هذا تثبيت لآيات القرآن التي نزل بها جبرئيل.
ويتصف الملائكة بالطاعة التامة لله عز وجل وعلى نحو الموجبة الكلية، وهم منزهون عن الغفلة والسهو والتحريف لأنهم عقل بلا شهوة، وهذا من أسرار نزولهم بالوحي والتنزيل على الأنبياء كما أمرهم الله عز وجل به.
فمن البديهيات أمانة الملائكة وإتصافهم بالصدق، وفيه حجة على الإنسان، وشاهد على إمكان بلوغ مراتب الصدق والأمانة والتقوى، وترغيب بالأخلاق الحميدة، ومع عظيم هيئة وخلق الملائكة فانهم لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، ولكن هذ لا يعني غناهم وعدم حاجتهم.
إذ إبتلى الله عز وجل الخلائق كلها بالنقص والحاجة، فغذاؤهم التسبيح ونسيم العرش ليكون آية في بديع صنع الله عز وجل، وعوناً لهم على الإنقطاع للتسبيح والعبادة، والسياحة في عالم السماوات وما فيه من أسرار الخلق والآيات العظام، وليس من خلق لله أكثر من الملائكة عدداً، (وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال أطت السماء وحق لها ان تئط ما في السماء موضع كف أو قال شبر إلا عليه ملك ساجد)( ).
فمع تعدد وسعة السماوات فانها مملوءة بالملائكة من غير تزاحم وتدافع بينها، والصلة بين الإنسان والملائكة دائمة ومتصلة، فهي أقدم في الخلق من الإنسان، ولكنها حاضرة لأول ساعات خلقه وبعث الروح فيه.
لقد تفضل الله عز وجل وأخبر الملائكة بجعل خليفة في الأرض ليكون من علل ومواضع هذا الإخبار نزولهم يوم بدر وأحد لنصرة المسلمين، وتلك آية في بديع صنع الله، وتعيين لنوع الصلة بين سكان السماوات وسكان الأرض.
وتلقى الملائكة خبر خلق آدم وإتخاذه خليفة في الأرض بالرد الإستنكاري [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، ليس إعتراضاً على الله، وهم أهل الطاعة الذين يذعنون لأمر الله ويعلمون أنه سبحانه العليم الحكيم ولكن سألوا أن تنزه الأرض من أهل الضلالة والفسوق، وأن تكون خالصة لأهل الإيمان والتقوى، كي يعمروها بالعبادة والذكر كما يعمر الملائكة السماء لذلك أردفوا [وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
أي أنهم سألوا الله عز وجل ان يكون سكان الأرض مثل سكان السماوات، ويحاكونهم في الإنقطاع إلى العبادة، إذ لا يعقل أن يحتج الملائكة على خلق الأنبياء والصالحين، وهم الذين يقومون بالنزول بالوحي والرسالة والدعاء لهم قال تعالى[ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ] ( ).
وتفضل الله عز وجل وعلم آدم الأسماء ليعلمها بدوره إلى الملائكة، ويكون هذا التعلم والتعليم حجة على الملائكة وشاهداً على أهلية الخليفة لتعاهد العبادة والتقوى في الأرض، ومنع غلبة المشركين وأهل الضلالة.
ثم جاء نزول الملائكة بالوحي لتعاهد سنن العبادة والصلاح، وإعانة الأنبياء والمؤمنين على الثبات في منازل التقوى، وجاء نزولهم يوم بدر شاهداً على عظيم قدرة الله وأنه سبحانه يترك للملائكة الجهاد في الأرض لمنع الظلم والعتو والطغيان، وكما أن الملائكة لم تعلم بالأسماء إلى أن علّمها آدم بها، فكذا هي لم تعلم يوم خلق الله آدم أنها ستنصر المؤمنين في معركة بدر وأحد.
فجاء نزولها مدداً وعوناً شاهداً على علم الله عز وجل، وفضله في عدم مغادرة النبوة والإيمان الأرض، ومناسبة للملائكة للإنتقام من الكفار والمشركين، وهو من مصاديق جواب الله عز وجل للملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]، أي أعلم أنكم ستنزلون لنصرة الخليفة في الأرض، إذ نزلوا يوم بدر وأحد لنصرة سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه دليل على عدم الفصل والقطيعة بين أهل السماوات والأرض ومن الآيات أن الملائكة يصاحبون أهل الجنة وأهل النار، مع التباين في ماهية وكيفية تلك الصحبة، فيكرمون أهل الجنة بالبشارة والسلام وحسن اللقاء قال تعالى[وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ] ويقومون بعذاب أهل النار بجحودهم وصدودهم ومحاربتهم للمؤمنين في بدر وأحد ومن غير أن يتوبوا قال تعالى [وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إلا مَلاَئِكَةً] ( ).
وهل سيرى المؤمنون يوم القيامة الثلاثة آلاف من الملائكة الذين ذكرتهم هذه الآية الجواب نعم، ويعلمون تفاصيل وكيفية نصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم بدر وأحد ليجدد أهل الجنة الشكر والحمد لله.
بحث منطقي
لقد جاءت هذه الآية للإخبار عن نزول الملائكة في واقعة بدر، وفيه توثيق للواقعة ونتيجتها وآثار تلك النتيجة على النفوس والواقع العملي، وفي باب التصور والتصديق، وقد شرّف الله عز وجل الإنسان بنعمة العقل، وجعله قادراً على التمييز بين الأشياء، ويدرك الكليات والجزئيات، ويفرق بين الحسيات الوهميات، ويفصل بين الصحيح والفاسد، ويستنبط الأحكام ويستقرأ المسائل، وينتزع القواعد والمفاهيم، ويقتبس المبادئ، ويستنتج الأحكام، وينقسم العلم إلى قسمين:
الأول: التصور وهو حضور الشيء في الذهن من غير أن يقترن بإعتقاد وجزم، لأنه لم يتعقبه حكم فقد سمي تصوراً وقيل أن التصور والإدراك والعلم الفاظ لمعنى واحد وهو حضور صور الأشياء عند العقل، ولكن بين العلم والتصور عموم وخصوص مطلق، فكل تصور هو علم وليس العكس.
الثاني: التصديق وهو الحكم والتصديق بالخبر الذي يتعقب ويتبع التصور، فالتصديق في طول التصور وليس في عرضه، أي أن التصديق مركب من أمرين:
الأول: ذات التصور المجرد.
الثاني: الإمضاء للتصور والحكم عليه، وعرفه الشيخ في الإشارات بأنه تصور معه حكم.
فالقول بأن أول الشهر سيكون يوم الإثنين مثلاً من التصور، أما ثبوت رؤية الهلال فهو حكم وتصديق، والتصديق مطلق يشمل الإثبات والنفي، فإذا لم يكن في البين هلال وأن الخبر بأن أول الشهر هو يوم الإثنين غير مطابق للواقع، قيل هو من التصديق لأن التصديق هو ترجيح أحد طرفي الخبر، وهما الوقوع واللاوقوع، وقيد الترجيح لأن التصديق على قسمين:
الأول: اليقين: وهو خصوص التصديق الجازم المطابق للواقع أو عدمه، من غير إحتمال للعكس، ويمكن أن نقسم التصديق تقسيماً إستقرائياً جديداً إلى قسمين:
الأول: التصديق الإيجابي: وهو المطابق لمضمون الخبر، ووقوعه.
وينقسم إلى شعبتين:
الأولى: اليقين الجازم بالوقوع.
الثانية: الظن بوقوع مضمون الخبر.
الثاني: التصديق السلبي، وهو التصديق بعدم وقوع الخبر، وهو على شعبتين:
الأولى:اليقين القاطع بعدم وقوع الخبر، وليس من إحتمال في البين لوقوعه.
الثانية: ترجيح عدم وقوع مضامين الخبر، مع جواز طرف الوقوع.
وبين اليقين والظن عموم وخصوص مطلق، فكل يقين هو ظن وليس العكس، والظن أدنى مراتب التصديق لما فيه من إحتمال مخالفة الراجح في الذهن وعالم التصور.
الثاني: الظن: وهو ترجيح مضامين الخبر مع إحتمال عدمها، أو ترجيح نفيه وعدمه مع إحتمال وجوده، واليقين هو أعلى مراتب التصديق لموافقته للواقع، وإنتفاء الضد.
وهناك وجهان آخران للخبر هما:
الأول: الشك: وهو تساوي طرفي الوقوع واللاوقوع، كما في دعوى رؤية الهلال، فإنه ليس من يقين أو ظن برؤيته أو عدم رؤيته، ولكن يشك بالرؤية.
الثاني: الوهم ترجيح خلاف مضمون الخبر، مع وجود إحتمال لصدق الخبر.
وإجتمع في هذه الآية التصور والتصديق، ويتصفان بأن كل فرد منهما إعجاز مستقل بذاته، فلا يتصور أحد نصرة الملائكة للمؤمنين في معاركهم، للتباين في السكن والماهية والوظائف، نعم تقوم الملائكة بالنزول بالوحي والتنزيل.
فجاءت هذه الآية بشارة، والبشارة من عالم التصور ولكن البشارة القرآنية بذاتها تصور وتصديق في آن واحد، وهو من إعجاز القرآن ودلالته على حقيقة وقانون وهو آن أسرار التنزيل أعظم وأكبر من أن تحيط بها العقول والأوهام.
فتأتي الآية القرآنية لينتج عنها أعلى مراتب التصديق وهو اليقين المطابق للواقع لا عن تقليد أو حاجة للجوء إلى التفسير والتأويل، فليس من ظن أو شك او وهم، وليس من يقين بمعناه السلبي، بل تكفي البشارة القرآنية ليتحقق اليقين بالوقوع.
فلما جاءت البشارة بنزول الملائكة مدداً تقيد المسلمون بمفاهيم التقوى والخشية من الله عز وجل وإستعدوا للمعركة التي أحدث فيها نزول هذه الآية نتيجة هي عكس عدم التكافئ الذي كان معلوماً قبل نزولها، إذ كان رجحان الكفة لكثرة العدد والعدة والآلات التي يتصف بها الكفار، فأصبح الرجحان وعدم التكافئ لصالح المسلمين بنزول الملائكة.
ومن الآيات أن هذا الإنقلاب السريع لم يعلم به إلا المسلمون، إذ بقي الكفار على ظنهم بأن عددهم وعدتهم كافية لتحقيقهم الغلبة في المعركة، ترى لماذا لم يعلم الكفار بحقيقة نزول الملائكة فيه وجوه:
الأول: لقد بشر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بنزول الملائكة لنصرتهم، وبإمكان الناس جميعاً ان يسمعوا هذا القول، ولكن الكفار أصموا آذانهم، وأصروا على العناد، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
الثاني:يدل نزول هذه الآية على أن حضور الملائكة لنصرةالمسلمين ليس سراً، أو جزء من الخدعة في الحرب، بل هو ظاهر ومكشوف للناس جميعاً.
الثالث: لم ينغلق باب التوبة على الكفار سواء قبل أو أثناء أو بعد المعركة، كما يأتي بعد أربع آيات في قوله تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ] ( ).
الرابع: في نزول الملائكة مدداً دعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام، وبرزخ دون الإصرار على الكفر والجحود، وليس من مجاز أو تصور في المقام بل تدل الآية على الحقيقة وحتمية وقوع الخبر الوارد في هذه الآية، وهو مدد إضافي للمسلمين.
قوله تعالى{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ}
جاء هذا الشطر من الآية لبيان مضامين وموضوع القول الذي قاله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين من أصحابه الذين شاركوا في معركة بدر وأحد، لبيان عظيم فضل الله عز وجل عليهم ومع أن نزول الملائكة كان لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فانه لم يقل(ألم يكفينا) بل جاء القول بصيغة الخطاب، وفيه مسائل:
الأولى: بيان رضا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشكره لله تعالى على نزول الملائكة.
الثانية: ثقة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنصرة الله والملائكة له، وهل نزول الملائكة يوم بدر من عمومات صلاة الملائكة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ] ( )الجواب إنها أعم فالمراد من الصلاة في المقام الدعاء، ونزول الملائكة كان للقتال والنصرة، والدعاء من مصاديق النصرة أيضاً.
الثالثة: جاءت الآية للبرهان والإحتجاج بدليل إبتدائها باسم الإستفهام.
الرابعة: توكيد حقيقة في الإرادة التكوينية وهي أن نصرة الملائكة لم تأت لبعض البدريين دون غيرهم، بل جاءت لنصرتهم وإعانتهم جميعاً، وفيه نكتة عسكرية وهي أن الملائكة لم يخلوا بين أحد المؤمنين وبين الكفار لأسباب شخصية أو لأنهم لم يؤمروا بنصرته على نحو الخصوص والتعيين، بل جاءت نصرتهم للمؤمنين على نحو العموم الإستغراقي والعموم المجموعي.
الخامسة: منع الفرقة والخلاف في أجيال المسلمين المتعاقبة بأن يأتي من يقول أن نصرة الملائكة كانت خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه كما تنزل الملائكة بالوحي على الأنبياء على نحو التعيين، فكذا المدد والنصرة من الملائكة لا تصح إلا للأنبياء بالذات وينتفع منها أصحاب الأنبياء بالعرض.
فجاءت هذه الآية وثيقة قرآنية وشهادة للمؤمنين بأن نصرة الملائكة لهم كما جاءت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين معاً قال تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( )، وفيه إكرام المسلمين الأوائل الذين خرجوا للمعركة وليس عندهم من سلاح إلا الإيمان بالله، والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم،فجاءهم النصر بالملائكة والإكرام بهذه الآية وبيان عظيم فضل الله عز وجل عليهم.
وفيه شاهد بأن الله عز وجل مع المؤمنين ينصرهم، ويدفع عنهم، والآية من مصاديق قوله تعالى[أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى] ( ).
السادسة: تدل الآية على خلو صفوف المسلمين في معركة بدر وأحد من المنافقين، للتباين والتضاد بين صفة الإيمان التي وصفوا بها، وحال القبح الذاتي والعرضي للنفاق.
ويحتمل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً:
الأول: الإحتجاج على المؤمنين.
الثاني: جاء هذا القول جواباً على كلام أو فعل للمؤمنين فيه إظهار للضعف والخوف من العدو، أو إعلان أو تلميح لحال الضجر من الحرب والقتال، وما فيه من الخسائر في الأرواح.
الثالث: الآية بشارة وبعث للسكينة في نفوس المسلمين.
الرابع: توكيد وتوثيق لنصر الله عز وجل للمسلمين في معركة بدر وأحد.
والصحيح هو الثالث والرابع أعلاه فليس في الآية ذم للمؤمنين، أو بيان لإثارتهم غضب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه أراد إقامة الحجة ومنعهم من الفشل والخوف.
بل جاءت الآية بياناً لعظيم فضل الله عز وجل على المؤمنين، وذكره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم بإعتباره الواسطة بين الله وبين عباده، وفيه إشارة لوظيفة عظيمة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي توكيد المعجزة الحسية بالقول والفعل، وهذا التوكيد نوع من الشكر لله عز وجل على المعجزة والآية التي ينعم الله عز وجل بها على المسلمين لكي لا يغفلوا عنها.
ويكون عدم الغفلة في المقام منها من وجوه:
الأول: عند الإستعداد للمعركة بإستحضار ذكر الله والتوكل عليه، والتطلع إلى فضله وعظيم إحسانه.
الثاني: مزاولة القتال مع رجاء آية ومعجزة من عند الله تتضمن الإنتقام السريع والبطش الشديد بالكفار.
الثالث: عند رؤية المعجزة، برسوخها في الوجود الذهني.
الرابع: ما بعد إنقضاء الواقعة، وهو على شعب:
الأولى: الإقرار بالمعجزة سواء كانت عقلية أو حسية، ونصرة الملائكة للمسلمين آية عقلية وحسية.
الثانية: بيان كيفية نصر الملائكة للمؤمنين في المعركة.
الثالثة: تبادل الأخبار بين المؤمنين فيما رأوا وأدركوا من وجوه نصرة الملائكة للمؤمنين من الصحابة.
الرابعة: توثيق أخبار نصرة الملائكة للمؤمنين، روآية وكتابة.
الخامسة: وراثة البدريين والأحديين أخبار نصرة الملائكة لأولادهم وذراريهم.
السادسة: حرص الصحابة والتابعين وتابعي التابعين على تعاهد أخبار نصرة الملائكة للمؤمنين.
السابعة: نزول هذه الآية المباركة، وما فيها من الإخبار عن حضور ومشاركة الملائكة في القتال ضد الكفار.
الثامنة: بعث العزيمة في نفوس المؤمنين للقتال دفاعاً عن الإسلام و النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وطرد الفزع والخوف من صدورهم.
التاسعة: تلاوة المسلمين في كل زمان ومكان لهذه الآية في الصلاة وخارجها.
وتحتمل الكفاية في المقام وجوهاً:
الأول: أنها من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة.
الثاني: من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متعددة قوة وضعفاً، وكثرة وقلة.
الثالث: التعدد في مواضيع الكفآية.
الرابع: الحصر والإتحاد في موضوعها.
والصحيح هو الثاني والثالث أعلاه للتباين في مراتب الكفآية، وتعدد مصاديقها وأفرادها.
وجاءت الآية لإفادة أعلى مراتب الكفاية في القتال وساحة المعركة، إذ يكفي الملائكة المؤمنين عناء الجهاد ويمنعون عنهم ضرر الأعداء، وهجومهم وتعديهم، وهو الذي تجلى خارجاً فمع أن الكثرة في العدد والعدة للكفار فأنهم لم يهجموا على المسلمين من بداية المعركة حتى نهايتها.
ولم تشهد المعركة كراً وفراً من الطرفين، بل كانت هجوماًً من طرف واحد، إذ قام المسلمون بالهجوم على الكفار يتقدمهم ويحيط بهم الملائكة فامتلأت قلوب الكفار فزعاً ورعباً، وبدلاً من أن يتخذ الكفار مائتي فرس كانت معهم للهجوم والدفاع، فإنهم إتخذوها وسيلة للهرب والفرار أمام المؤمنين، وهو أمر خلاف موازين العقل والمتعارف في ميادين القتال، ولا غرابة فيه، لأن نزول الملائكة أمر خارق للعادة، وموضوع للتحدي يفوق عالم التصور.
وجاءت الرحمة بنزول الملائكة للمسلمين والناس جميعاً، أما المسلمون فهو سبب لتثبيت الإيمان في صدروهم، ونجاتهم من الأعداء، أما غيرهم من الناس فآية نزول الملائكة دعوة لهم للإسلام، وبرهان عملي على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم تتضمن الآية جواب المؤمنين على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنها تدل عليه بالمفهوم والدلالة الإلتزامية، بإن قالوا بالإيجاب والرضا.
ومن الإعجاز في نظم الآيات أن تبدأ الآية التالية بلفظ بلى، وكأنه إخبار عن إعلان المسلمين لرضاهم وإقرارهم بكفآية المدد والنصرة الإلهية لهم، والآية إنحلالية وتقديرها كفاية المدد لكل بدري في المعركة، إلى جانب كفايتهم كجيش وأمة.
لقد آمن المسلمون بالله وملائكته ورسله فجاءت الآية شكراً لهم على إيمانهم بأن أنزل الله عز وجل الملائكة لنصرة رسوله الكريم، وهو آية في الجزاء العاجل من عند الله عز وجل والكفآية في هذه الآية من عند الله عز وجل، وهو من عمومات قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
وشاهد على حضور الفضل الإلهي في حال الحرب والسلم وأن الله عز وجل ينعم على المسلمين بالنعم العظيمة التي تؤدي إلى غناهم وكفايتهم.
وجاءت(لن)التي تفيد توكيد النفي للإخبار عن ضعف المسلمين في مواجهة جيش الكفر والضلالة وقوة شوكته.
لقد كان المسلمون في حال ذلة وضعف، ومحتاجين للعون والسلاح والمدد بالرجال والمؤون مما يحتاجه المقاتلون في ميادين القتال، وليس من ناصر لهم من بين الناس، فقد خرجوا للقتال، وكأنهم برزوا إلى المضاجع والحتوف ومن يراقب الحال يتوقع هزيمة المسلمين.
أما جيش الكفار الذي يبلغ ثلاثة أضعافهم في العدد، وأكثر من هذا بكثير في العدة وآلات القتال، إلى جانب التباين في القوة من جهة كثرة الفرسان والأبطال في جيش الكفار.
أما المؤمنون فقد كانوا أهل تقوى وخشوع لله مع نقص ظاهر في العدة، ولم يخرجوا للتجربة ورؤية مدى صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه اذا كان نبياً حقاً فان الله ينصره ويمده، بل خرجوا وهم على يقين بصدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم وطلبوا الشهادة في سبيل الله، خرجوا للذب عنه وعن القرآن، ولإخبار الكفار بوجود أمة مؤمنة تقاتل في سبيل الله ومع ضعف وقلة المسلمين يوم معركة بدر فانهم راضون عن الله عز وجل، بما أنعم به عليهم من المدد السماوي المبارك.
لقد سأل فريق من أهل الكتاب وجماعات من المشركين النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم آيات حسية تدل على صدق نبوته، فجاءت الآية الحسية العظيمة للمؤمنين في يوم بدر مع أنهم بلغوا مراتب الإيمان والتقوى، بخروجهم إلى القتال في بدر دفاعاً عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام.
مما يدل على ان الآيات تأتي من حيث يشاء الله وليس من حيث يشاء الناس، الذين يجعلون الآيات شرطاً لإيمانهم.
فان قلت إن سؤال الآية أمر عقلاني مشروع للتأكد من صدق النبوة، وشاهد على رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالجواب من وجوه:
الأول: لقد أنزل الله عز وجل القرآن آية عقلية دائمة، تتجلى فيها معاني الإعجاز.
الثاني: مجيء آيات ومعجزات حسية متعددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: نجاة وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيد وبطش قريش وهجرته إلى يثرب معجزة حسية في نبوته.
الرابعة: جاء نصر المسلمين في معركة بدر آية حسية للناس جميعاً في أفراد الزمان الطولية بلحاظ التباين الكبير بين قلة وضعف المؤمنين وكرة قوة المشركين، لذا فمن إعجاز القرآن تثبيت حال المسلمين في معركة بدر بقوله تعالى في الآية السابقة [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ].
فلا غرابة أن يظهر الكفار عزمهم على الرجوع إلى القتال مرة أخرى حالما عادوا إلى مكة من معركة بدر، ليس للإنتقام لقتلاهم وحده، بل لأنهم ويهود المدينة أدركوا ان الناس يدخلون الإسلام أفواجاً بعد معركة بدر، لأنها معجزة حسية ظاهرة تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاء إستعداد الكفار لمعركة أحد، وتهيئتهم مقدماتها وتسخير الأموال العظيمة لها، وندب القبائل من حولهم للمشاركة فيها لطمس معجزة معجزة بدر وحجبها عن الناس، وهو كيد ومكر عظيم فجاءت هذه الآية كمعجزة عقلية لتثبيت معجزة حسية، وتلك خصوصية ينفرد بها القرآن إذ أن المعجزات في القرآن تأتي على أقسام:
الأول: كل آية من القرآن معجزة عقلية.
الثاني: الآية القرآنية معجزة عقلية لتصديق وتوكيد معجزات الأنبياء الحسية.
الثالث: تثبيت الآية القرآنية لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية.
الرابع: تضمن الآية القرآنية لعلوم الغيب، وتتفرع عن كل قسم من هذه الأقسام وجوه ومسائل متعددة.
وجاءت هذه الآية من القسم الأول والثالث والرابع لأن هذه الآية بذاتها إعجاز مستقل، وفيها بيان وتوكيد لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما أنها تتضمن إخباراً عن علوم الغيب لما يترشح من المدد الملكوتي يوم بدر من الآيات والدلالات الباهرات.
وهل تنحصر كفاية المؤمنين بمدد الملائكة بخصوص يوم بدر وحال الحرب أم هي أعم، الجواب هو الثاني لأن مدد الملائكة في يوم بدر له منافع في حال السلم والحضر من وجوه:
الأول: رجوع المؤمنين إلى المدينة المنورة بالنصر والغلبة، مع سبعين أسيراً من صناديد وكبار قريش.
الثاني: كانت المدينة تشكو قلة المؤن، ومن المنافقين من أعلن إستياءه من كثرة المهاجرين فيها، ومزاحمة أهل المدينة في أرزاقهم، فخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون والأنصار إلى معركة بدر ليعودوا بالغنائم الكثيرة، ثم طلبوا الفداء من أسرى المشركين لتكون هناك سيولة وأموال في المدينة وأمل بالمزيد والنماء.
وفيه آية حسية في الرد العملي على أولئك الذين لم يرضوا بكثرة المسلمين في المدينة، ومقدمة كريمة لسكوتهم عند قدوم أفواج من المهاجرين إلى المدينة بعد معركة بدر، لتتجلى قاعدة في المقام وهي الملازمة بين كثرة المسلمين في المدينة وبين مجئ الغنائم وجلب الأموال لها، وفعلاً لم تمر الأيام والسنين حتى تدفقت خزائن كسرى وقيصر إلى المدينة المنورة بآية لم يشهد التأريخ القديم والحديث لها مثيلاً.
وتأتي البركة مع المؤمنين، ويحل الخير معهم أينما حلوا، ولا عبرة به ظاهر الحال المتزلزل من الغفر والذلة والفاقة التي سرعان ما تزول بفضل الله والأسباب الظاهرة والباطنة، وهل ينتفع غير المسلم من النعم التي تأتي مع المؤمنين الجواب نعم والله واسع كريم، لتكون النعم التي تنزل عليهم كمطر السماء والسحابة التي ينتفع منها المؤمن ومن هم في ناحيته، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فان هذه النعم تكون حجة على الكفار، ومناسبة لعذابهم.
بحث منطقي
ينتقل الذهن من معنى إلى معنى آخر لعلاقة ذهنية بين شيئين يكون العلم بأحدهما نتيجة العلم بالآخر، وهو الذي يسمى الدلالة لصلة بين الدال والمدلول، وعرفت في علم المنطق بأنها كون الشئ بحالة يلزم من العلم به العلم بشئ آخر.
وتكون الدلالة على أقسام منها الدلالة الوضعية وتنقسم إلى قسمين:
الأول: الدلالة اللفظية، والتي تأتي من وضع لفظ أزاء معنى مخصوص، والعلقة الناشئة بينهما، فاذا صدر اللفظ المخصوص من المتكلم يتبادر إلى الذهن المعنى المقصود به إلا أن تكون هناك قرينة صارفة لمعنى آخر، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
الأول:الدلالة المطابقية، والتي يدل فيها اللفظ على تمام المعنى على نحو التطابق كما في قولك (شهر رمضان) فانه ينطبق على تمام أيام الشهر وهي الأصل في الدلالة اللفظية.
الثاني: الدلالة التضمنية: وهي دلالة اللفظ على جزء المعنى الموضوع له اللفظ كدلالة لفظ الصلاة على الركوع والسجود بلحاظ جزئيتهما منها، وهذه الدلالة فرع الدلالة المطابقية.
الثالث: الدلالة الإلتزامية، بأن يدل اللفظ على معنى خارج عن المعنى الذي وضع له بالأصل او إنتقل له بالمجاز والإستعمال، وتكون هذه الدلالة بسبب نوع ملازمة في الوجود الذهني بين معنى اللفظ والمعنى الملازم له كدلالة الأذان على الصلاة، وحضور المدرس على إبتداء الدرس، وهذه الدلالة فرع الدلالة المطابقية أيضاً.
الثاني: الدلالة غير اللفظية، وهي قسيم الدلالة اللفظية إلا أنها لم تأت عن وضع الواضع للفظ أزاء معنى مخصوص، بل يكون الدال الموضوع غير لفظي مثل العلامات المرورية المنصوبة في الطريق، والإشارات التي يحملها رجال الجيش والزي الخاص الذي يدل على وظيفة مخصوصة، ترى من أي الدلالات أعلاه كان قول النبي للمؤمنين بنزول الملائكة الجواب إنه من الدلالة المطابقية إذ نزل ثلاثة آلاف من الملائكة لنصرة المؤمنين وبما يكفي لتحقيق الغلبة والظفر على الأعداء.
لقد رأى المسلمون آيات النصرة، وفازوا بالمدد السماوي ليكون ملكاً للمسلمين جميعاً في أجيالهم المتعاقبة، ووثيقة لفظية وغير لفظية على صدق إختيارهم الإيمان، وسلامة عقيدتهم، ولا ينحصر موضوع الدلالة المطابقية وغير اللفظية بالمؤمنين الذين شهدوا بدراً وأحداً، بل يشمل عموم المسلمين في كل زمان ومكان.
وتلك آية إعجازية في الآية القرآنية وأثرها في إنتقال الذهن من اللفظ القرآني إلى المعنى المطابق له مع التباني والتسالم على صدق الآية القرآنية وأنها حق وصدق، ولقد رأى المؤمنون كيفية نصرة الملائكة لهم وأثرها في حسم المعركة بسرعة فائقة لصالح المسلمين لتجتمع الدلالة اللفظية وغير اللفظية في إثبات موضوع نزول الملائكة ويتحصل اليقين عند المسلمين بالمدد السماوي لهم، ويتطلعون إلى مثله بالدلالة المطابقية أو إلى ما هو قريب منه بالدلالة التضمينية أو الإلتزامية لنصرهم وإعانتهم من عند الله وهو سبحانه الواسع الكريم.
قانون ألن يكفيكم
لقد أنعم الله عز وجل على الناس ببعثة الأنبياء، وكانوا الواسطة بين الله وبين البشر، يأتون بالوحي من عند الله، ويقومون بالبشارة والإنذار، البشارة لأهل الإيمان بالمغفرة والجنة، والإنذار للكفار بالعقوبة والخلود في الجحيم، وقد لازمت النبوة الإنسان منذ هبوطه إلى الأرض، ولكنها لم تستمر بأشخاص الأنبياء مع الوجود الإنساني، وبين الحياة الإنسانية والنبوة بلحاظ أفراد الزمان الطولية عموم وخصوص مطلق، فقد إنقطعت النبوة بإنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى فهو خاتم النبيين وليس من نبي بعده.
ولم تحرم الأجيال اللاحقة من بعده من فيض وبركات النبوة، فقد بقيت النبوة تتجلى بالقرآن والسنة النبوية، إذ جاء القرآن كتاباً سماوياً جامعاً للأحكام الشرعية، وجاءت السنة النبوية تفسيراً للقرآن وهي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن، وهي في طوله وليس في عرضه.
ومن خصائص هذه الآية الكريمة أنها تجمع بين أمور:
الأول: القرآنية، وان الآية الكريمة جزء من القرآن، وشاهد على نزوله من عند الله عز وجل.
الثاني: بيان القرآن للسنة النبوية الشريفة، والمعروف ان السنة النبوية بيان للقرآن، وجاءت هذه الآية لتؤكد انها بيان للسنة ولكنه قياس مع الفارق، فبيان السنة للقرآن تفسير وتأويل له، أما بيان القرآن للسنة فهو إخبار وتوثيق سماوي عن فعل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تم بالوحي من عند الله عز وجل.
ولم تأتِ الآية خطاباً من الله عز وجل للمؤمنين، بل جاءت حكاية لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين، وهو من عمومات تبيان القرآن لكل شيء، إذ ان كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه شيء من الأشياء، جاءت الآية القرآنية بذكره وتوثيقه، وتدل الآية في مفهومها على تلقي المسلمين قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والرضا، من وجوه:
الأول: إكتفاء الآية بذكر قوله من غير رد من المسلمين عليه.
الثاني: مجيء الآية بصيغة الجملة الخبرية التي تفيد الإمضاء والإجزاء.
الثالث: توكيد حقيقة صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يقول، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمى في أيام الجاهلية الصادق الأمين، وجاءت النبوة لتتضمن قانوناً ثابتاً وهو انه لا ينطق إلا عن الوحي والتنزيل.
الرابع: ليس من الإخبار عن نزول الملائكة، ووقوع النزول فعلاً من فترة أو مدة، فالواقع الخارجي تصديق لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن المغيبات في زمانه وبعد رحيله إلى الرفيق الأعلى فجاءت الوقائع والأحداث كما أخبر عنها، وهو معجزة من معجزات نبوته، فكيف بإخباره عن أمر عظيم خارق العادة وهو نزول الملائكة على نحو الوعد الذي يقارب الموعود به، أو على نحو الإخبار عن وقوع النزول.
وتدل الآية على كفآية الله عز وجل للمؤمنين قال سبحانه [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( )، والمراد من عبد الله في الآية هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقرئ بكافِ عباده وقال الزمخشري “وهم الأنبياء” ( ).
ولكن الآية محل البحث تدل على إرادة المعنى الأعم، وانها تشمل كفآية الله عز وجل للمؤمنين، وروي في سبب نزول الآية أعلاه ان قريشاً قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نخاف ان تخبلك آلهتنا وإن نخشى عليك معرتها لعيبك إياها، ويروى أنه بعث خالداً إلى العزىّ ليكسرها، فقال له سادتها، أحذركها ياخالد إن لها لشدة لايقوم لها شئ، فعمد خالد إليها فهشم أنفها، فقال الله عز وجل: أليس الله بكاف نبيه أن يعصمه من كل سوء ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف( ).
لقد أكدت الآية محل البحث بأن الله عز وجل يمد المسلمين بأسباب النصر بجنود من السماء والأرض، فقد صدق الصحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته، وإتبعوه، وعزموا على نصرته، بأن غادر المهاجرون معه إلى يثرب، ومنهم من وصل قبله، ومنهم من وصل معه، ومنهم من وصل بعده، وآواه الأنصار وعاهدوه على النصره والدفاع عنه.
فجاءت قريش تبغي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتريد الفتك بالمهاجرين والأنصار، فنزل الملائكة لنصرتهم، وفيه آية إعجازية في موضوع نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكأن هناك ملازمة بين نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الملائكة لنصرة من يتبعه ويوطئ النفس للدفاع عنه، وعن الإسلام وفي قوله تعالى [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ] إكرام للمؤمنين، وبيان لسعة وعظيم فضل الله عز وجل عليهم من وجوه:
الأول: ان الله عز وجل يرى مكانهم، ولم يضيع أعمالهم.
الثاني: كثرة الملائكة النازلين لنصرة المؤمنين، وهل تتضمن الآية معنى شوق الملائكة لنصرة المؤمنين، ورغبتهم بالإنتقام من الكفار الجواب نعم، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
الثالث: منّ الله عز وجل على المؤمنين بزيادة عدد الملائكة لنصرتهم في معركة أحد فليس من حصر وتقييد لفضل الله عز وجل.
الرابع: دعوة المسلمين لسؤال الله عز وجل المزيد من أسباب النصر السماوية والأرضية، لعظيم قدرته، وإرادة الكثرة والتعدد في أسباب وصيغ وكيفية نصر الله عز وجل للمؤمنين، فقوله تعالى [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ] حث للمؤمنين على المزيد من فضل الله عز وجل في أسباب النصرة والعونة لهم، وهو من أسرار توثيق الآية لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين هذا، أي إسألوا وأطلبوا المزيد فان خزائن الله عز وجل لاتنفد.
قانون “موضوعية وجود النبي في المعركة”
تبين الآية موضوعية وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المؤمنين ومالها من البركات في كل من الحالات التالية:
الأول: حال الإستعداد للمعركة.
الثاني: أثناء المعركة.
الثالث:مابعد لإنتهاء المعركة.
أما الأول فقد جاء قبل آيتين قوله تعالى [تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )، لبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بنفسه بإجلاس المؤمنين في مواضعهم، ويعين لهم مواقعهم في معركة أحد، وكيفية مواجهة العدو، وهو أمر لايستطيع غيره القيام به.
وقد ذكرت الكتب الفقهية جملة من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها قيامه الليل، وزواجه لأكثر من من أربع نساء وقيامه بصوم الوصال، ولكنه لم تذكر ما إنفرد به من تهيئة المسلمين للقتال في معركة بدر وأحد والخندق وغيرها من معارك الدفاع .
فإن قلت إن أمراء السرايا وقادة المسلمين يضعون المجاهدين في مواضعهم، ويهتمون بتقسيم الخميس إلى مقدمة وميمنة وقلب وميسرة ومؤخرة فالجواب من وجوه:
الأول: إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعين مواضع المؤمنين بالوحي والتنزيل.
الثاني: لاتنحصر موضوعية الوحي في المقام بتعيين المواضع بل بإختيار الإشخاص المناسبين لمواضعهم، ومنه إختيار الذين يبرزون للقاء والمبارزة الشخصية مع العدو.
الثالث: إمتثال المؤمنين لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تعيين مواضعهم.
الرابع: رؤية المؤمنين المعجزات والأسرار الغيبية في تعيين النبي لمواضعهم، وظهور منافعه في الحال وفيما بعد وعلى نحو متعدد.
أن خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام الأولى شاهد على صدق نبوته، وعلمه بأن الله عز وجل ينصره وينصره بمدد غيبي ولا يجعل الأعداء يصلون اليه كما يبعث خروج النبي للمعركة المسلمين على المبادرة للخروج ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإستبسال في المعركة وبذل الوسع للفوز بأحدى الحسنيين أما النصر وأما الشهادة، ولايكون طلب الشهادة بعرض واحد مع طلب النصر في القضية النوعية أي أن المؤمن وإن كان يعشق الشهادة فانه يريد النصر للمسلمين كي ينجو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويواصل دعوته النبوية إلى الله، مع إستمرار نزول الوحي والقرآن عليه.
فقد خرج المسلمون لمعركة بدر وبغيتهم تحقيق النصر والغلبة على العدو، وإن إستشهد بعضهم، وكان كل فرد من المؤمنين في معركة بدر حريصاً على سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونجاته من العدو، فجاء فضل الله عز وجل بنجاته وإياهم من قريش مع كثرة جيشها وعدتها.
لقد إختارت قريش زمان ومكان وكيفية المعركة وهو عامل قوة إضافي لهم إلى جانب كثرتهم حتى أنهم إستولوا على البئر والماء الذي في بدر ليمنعوا المسلمين منه، ولكن الله عز وجل أنعم على المسلمين بما لم يكن في حسبان قريش، إذ أنزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
ترى لو لم يكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موجوداً في معركة بدر فهل ينزل الملائكة لنصر المسلمين، الجواب أن الله عز وجل واسع كريم ولكن النصرة جاءت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ونصرة الملائكة واقية وحرز سماوي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونجاته من الكفار والمشركين.
لقد أرادت قريش قتل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة يوم لم يكن له أنصار وأصحاب إلا عدداً قليلاً لايقدرون على مواجهة قريش، فمنعه الله عز وجل من شرار قريش، وصرف كيدهم عنه، ثم قصدوه ليلة هجرته لقتله في فراشه وغادر ساعتها مكة ليبيت الإمام علي عليه السلام في فراشه ولم تكتشف قريش الأمر إلا عند الفجر، فتبعوا أثره وحاولوا اللحاق به في طريق هجرته إلى المدينة وكانت آية الغار وكيف جعل الله غاشية على أبصارهم وبصائرهم لينجو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر، ويتوجهان إلى المدينة المنورة لتنشأ دولة الإسلام في المدينة المنورة، ويتألف جيش من الصحابة قوامه المهاجرون والأنصار.
ولم تكن فكرة الجيش في الأصل في أذهان الصحابة وإتباعهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكان القصد الإمتثال لأمر الله في التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته، والتقيد بما جاء به من الأحكام والفرائض والسنن.
ولكن المشركين باغتوا المسلمين بجيش عرمرم يغزو المدينة،فتحول الصحابة بين عشية وضحاها إلى مقاتلين، ولبس أهل التقوى الدروع وحملوا العصي والسيوف من غير أن يتخلفوا عن الوظيفة الأساسية لهم وهي عبادة الله وأداء الفرائض، ليكون خروجهم خلف النبي لقتال العدو من مصاديق إتباعهم ونصرتهم له، فحينما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقتال العدو أدرك المسلمون وجوب خروجهم معه وذبهم عنه، وهم لا يعلمون أن سوراً من الملائكة سيحيطهم وإياه، ويكفيهم شر ومكر وكيد العدو.
وتلك آية في تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى بأن يخرجوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عن مبادئ الإسلام، ومواجهة جيش يبلغ عدده ثلاثة أضعاف عددهم فيأتيهم المدد من السماء، وتنصرهم الملائكة لنصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليفوزوا بالشرف العظيم بين الناس في أيامهم، وبين المسلمين إلى يوم القيامة، وينالوا الثواب العظيم في الآخرة.
فان قيل إذا كانت الملائكة هي التي نصرتهم والنبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يكون الثواب لهم، والجواب من وجوه:
الأول: لقد صدق البدريون ما عاهدوا الله عليه من إتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: الخروج إلى مواجهة الكفار مع كثرة عددهم دليل على صدق الإيمان، وشاهد على إرتقاء الصحابة في المعارف الإلهية وعدم فصلهم بين الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عنها وعن شخص النبي.
الثالث: مزاولة البدريين للمسايفة والقتال مع العدو.
الرابع: تقيد البدريين بأحكام ومعاني الصبر والتقوى بطاعة الله ورسوله وجهادهم في سبيل الله.
الخامس: حرص البدريين على الأخوة الإيمانية فيما بينهم، وإظهارهم الإيثار في المعركة والتدافع للقاء العدو، وعدم حصول خلاف بينهم بخصوص الغنائم لوجوه:
الأول: تسليم الصحابة بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يفعل إلا ما يأمره الله عز وجل به سواء في المعركة أو بخصوص الغنائم.
الثاني: إعطاء البدريين الأولوية لسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونجاته من الكفار، فهم مستعدون لبذل أنفسهم دونه، فجاء المدد الملكوتي بسلامتهم أيضاً وفيه شاهد بأن الله عز وجل هو الذي يكفي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وينجيه ومن معه، وهو من عمومات قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
ولايتعارض هذا المعنى مع نزول الآية أعلاه بعد معركة بدر وأحد،لأن الله واسع كريم وأراد أن يحفظ نبيه في حال الحرب والسلم، ويكون خروجه للقتال جزء علة لنصرة المسلمين، وسبباً لنزول ثلاثة آلاف من الملائكة مدداً وعوناً لهم في مواجهة الكفار والمشركين.
وتدل هذه الآية على موضوعية وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المؤمنين في المعركة إذ يخبرهم بالمدد والنصرة السماوية، وحضور الملائكة لإعانتهم وكف أيدي الكفار عنهم.
قتل أبي جهل
لقد كان أبو جهل أحد أكبر زعماء قريش، وقد لاقى منه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون الأوائل في مكة المكرمة الأذى الشديد بصبر وثبات على الإيمان، ومواصلة للدعوة الإسلامية مما جعله وأقرانه يزدادون غيظاً ويتمادون بإيذاء المسلمين، وكان يضعون أمعاء الجزور على ظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو ساجد في البيت الحرام، ويضحكون ويتمايل بعضهم على بعض، ولاقى أهل البيت منهم الحصار لثلاث سنوات في شعب أبي طالب، هم ونساؤهم وصبيانهم حتى أكلوا الأوراق والجلود، لينعم عليهم الله عز وجل بعد الصبر والتقوى بالخمس من الغنائم إلى يوم القيامة، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابن السَّبِيلِ] ( ).
وقام أبو جهل وأصحابه بتعذيب المسلمين، وقتلوا ياسر أبا عمار تحت التعذيب وعمار ينظر لهم وطعن أبو جهل سمية أم عمار في قبلها بالحربة لثباتها على الإيمان وماتت أمامه وجاءوا بحديدة محمرة كأنها الجمر لتوضع على ظهر خباب لتطفأ بشحم ظهره، ولم يرتد أحد من المسلمين بل إختاروا الهجرة فقصدهم أبو جهل وصناديد قريش بالجيوش والخيل والرماح لإجتثاث الإسلام.
فجاء النصر الإلهي للمؤمنين نتيجة صبرهم وعزمهم على مواجهة الحتوف دفاعاً عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام، وكان أبو جهل هو قائد جيوش الكفار، وكانت الأسباب معهم، لكثرة عددهم وأموالهم، وإختيارهم المكان الملائم لهم، إذ كانوا في العدوة القصوى على كثيب من الرمل، والماء من تحتهم.
ومن الآيات ان نسبة المعركة إلى ماء بدر يدل على موضوعية الماء فيها وأثره في سير المعركة، وكيف ان الله عز وجل رزق المؤمنين يوم بدر ماء مباركاً من السماء، وكان أبو جهل يثبت أصحابه في مواضعهم، ويشد من عزائمهم ويقول: لا نرجع حتى نقيدهم بالحبال، يا أهل مكة خذوهم أخذاً حتى نعرفهم بسوء صنيعهم، ويظهر إستخفافه بجيش المسلمين وهو ينظر اليهم، ويقول: لو بعثنا اليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً.
ونزل قول الله عز وجل [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] ( )، فبعث اليهم رسول الله انه “يا معشر قريش اني أكره أن أبدأ بكم، فخلوني والعرب، وإرجعوا”( ).
وفي هذه الكلمات مدرسة في الجهاد ومقدماته من الوعظ والإنذار، وأشار بقوله ” أكره أن أبدأ بكم” أنه ماضِ في جهاده وسعيه للفتح وجذب الناس للإسلام، فلم يظهر الخوف والتقية منهم.
ومن إعجاز القرآن في المقام ان الآية لم تقل “وأجنح للسلم عسى أن يجنحوا له” بل جاءت بصيغة الجملة الشرطية والجمع (جنحوا) وتقديم ميل ورغبة الكفار بالسلم ليقابلها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينما جاء ذكر أمر المسلمين بانه بيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاجنح.
وهو شاهد على حسن إمتثال وإتباع المؤمنين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ودليل أن فعل النبي وحي، فمع الشدة ورؤية السيوف وحرها فانهم واظبوا على قانون ثابت وهو طاعة الله ورسوله في حال السلم والحرب، ليكونوا أسوة للمسلمين إلى يوم القيامة، وهو من وجوه العز التي إكتسبها المسلمون منذ الأيام الأولى للإسلام.
ومن الإعجاز ان كلام وموعظة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تذهب سدى وان كانت موجهة إلى الكفار والمشركين، إذ قام عتبة بن ربيعة وهو من قادة قريش وكبار رجالاتها ، وأخذ يحث قريشاً على إجتناب القتال.
فإمتلأ أبو جهل غيظاً من كلامه، وقام بتوبيخه أمام الجيش والعبيد وقال له: جبنت وإنتفخ سحرك( ).
فقال عتبة لأبي جهل يا مصفّر إسته( )، مثلي يجبن، وستعلم قريش أينا ألأم وأجبن، وأينا المفسد لقومه.
لتظهر مقدمات القتال الأخلاق الذميمة التي يتصف بها رؤساء الكفر والضلالة وقادة قريش وحاجة الناس إلى إمامة تهديهم إلى سبل الرشاد، ولم يستمر عتبة في وعظه، خصوصا وانه وأصحابه يعلمون بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان الأولى بعتبة ان يختار الإعتزال وأن يقف جانباً، ولكن حمية الجاهلية ركبته فلبس درعه وتقدم إلى المبارزة، ولم يكتفٍ بنفسه بل تقدم معه أخوه شيبة وإبنه الوليد، وقال: يا محمد أخرج الينا أكفاءنا من قريش، ولكن الأنصار بادروا إلى مواجهتهم وخرج لهم ثلاثة نفر من الأنصار في آية تدل على وحدة المسلمين، وتعاهد الأنصار لعهدهم في حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليعطوا رسالة عملية من ميدان المعركة أنهم يحفظون المهاجرين أيضاً كما يذبون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فلقد كان كلام عتبة واضحاً بان طلب الأكفاء من قريش ممن هاجر مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة، وسمع المهاجرون والأنصار كلامه الذي كان موجهاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين.
وفيه إقرار من الكفار بان المسلمين يمتثلون لأوامر النبي في القتال، وان قرار الحرب والسلم بيده صلى الله عليه وآله وسلم بينما قادة قريش يتبادلون ألسباب والشتائم، فقال عتبة: إنما نريد الأكفاء من قريش، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ابن عمه عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب، وكان عمره سبعين سنة، فقال: قم يا عبيدة، وهو أول من إختاره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم نظر إلى حمزة، فقال: قم يا عم، ثم نظر إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: قم يا علي، وكان أصغر القوم.
لقد جاء سؤال الكفار بمبارزة الأكفاء من قريش وترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار يتقدمون بدلاً عنهم للإشارة إلى إستعداد الأنصار للتضحية والفداء، ولبعث الفزع والخوف منهم في قلوب الكفار، لقد أعطى الأنصار درساً لقريش الذين جاءوا يتعقبون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين لقتلهم بينما آمن الأنصار بنبوته وأعلنوا الدفاع عنه وعن المهاجرين.
لقد أراد الأنصار إعطاء رسالة لقريش بترشح الإيثار عن الإيمان وأنهم جميعاً من قريش والتي ناصرت النبي وليس التي خرجت لقتاله، وان الشأن وعلو المنزلة فرع الإيمان والصلاح.
وكان شطر من المهاجرين من قريش وفيهم من هم أكفاء لهؤلاء الكفار، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قدّم أهل بيته للدلالة على صدق نبوته وإستعداده وأهل البيت للفداء والتضحية.
وجاء مثلها في آية المباهلة مع وفد نصارى نجران إذ خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعه فاطمة وعلي والحسن والحسين، وإختلف وفد نصارى نجران عن مشركي قريش، بان طلب رؤساء وفد النصارى الصلح مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورضوا بدفع الجزية، مع انهم أهل كتاب، بينما لم يرضَ مشركوا قريش بسؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم أن يتركوه وشأنه ويخلون بينه وبين القبائل العربية، يطلعهم على المعجزات ويدعوهم إلى الإسلام من غير أن تجعل قريش برزخاً من الشك والريب، أو تقوم بالحرب عليه وعلى المسلمين وتدل المبارزة على التقيد بآداب القتال آنذاك، وان المعركة تكون على مراحل، وان كل فريق على موقفه ورأيه، وكانت نتيجتها معجزة من معجزات الإسلام وهي من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] فبنصر من الله عز وجل قتل أهل البيت الثلاثة الذين برزوا لهم من الكفار، وإستطاع شيبة أن يضرب رجل عبيده ويقطعها، وحمل حمزة وعلي عبيدة وأتيا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستعبر عبيدة قال: يا رسول الله ألست شهيداً، قال: بلى، أنت أول شهيد من أهل بيتي.
لقد كان فزع جيش المشركين عظيماً عند قتل صناديدهم الثلاثة في لحظة واحدة، ولكن أبا جهل أراد ان يخفف من هذا الفزع فقام بذم عتبة وأخيه وإبنه وقال لقريش ومن معهم: لا تعجلوا ولا تبطروا كما بطر أبناء ربيعة عليكم بأهل يثرب فأجزروهم جزراً، وعليكم بقريش فخذوهم حتى ندخلهم مكة، فنعرفهم ضلالتهم التي هم عليها، وأمر جيش الكفر بالهجوم، ولكن يد الله فوق أيديهم، وهو الذين أنزل الملائكة لنصرة المسلمين.
وعن عبدالرحمن بن عوف قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عكرمة بن أبى جهل من ضرب أباك قال الذى قطع رجله فقضى سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح( ).
لقد كان قتل أبي جهل بدآية أفل نجم قريش، وفي قتله وأقطاب الشرك شفاء لصدور المؤمنين، وتخفيف عن الذين يرغبون في دخول الإسلام، ومناسبة لإطلاع الناس على المعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإذ قتل من قريش يوم بدر سبعون فإنه أستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً ورفعت مقابر الشهداء من المكان لأنه معبر سبيل أما قتلى المشركين فظلوا في مكانهم
عن أنس رضى الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر من ينظر ما فعل أبو جهل فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد فأخذ بلحيته فقال انت ابا جهل قال وهل فوق رجل قتله قومه أو قال قتلتموه( ).
قوله تعالى [أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ]
تبين الآية حقيقة في الإرادة التكوينية، وهي ان الله عز وجل يتعاهد الإيمان في الأرض، ويحفظ المؤمنين بمدد وواقية منه، ولن يتخلى عنهم أو يتركهم لينال منهم الكفار والظالمون، مما يدل على ان الإبتلاء والإمتحان في الدنيا ليس مطلقاً، بل هو مقيد من طرف أهل الإيمان بفضل من الله عز وجل عليهم دون الكفار والمنافقين، إذ تكون وجوه الصراع والمواجهة بين المسلمين والكفار على وجوه:
الأول: المسلمون هم الأقوى والأكثر عدداً من الكفار.
الثاني: التكافئ في العدد والعدة بين المسلمين والكفار.
الثالث: الكفار هم الأكثر عدداً وعدة.
ويأتي المدد الإلهي في الوجوه الثلاثة أعلاه للمسلمين، فصحيح ان الآية السابقة ذكرت حال ضعف المسلمين بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] إلا أنها لا تعني حصر المدد والعون بحال الذل والضعف للمسلمين، بل هو عام وشامل لهم في جميع المواقف والمقامات، وجاء هنا من باب المثال وفي أشد الأحوال ليكون نصر الله عز وجل في الوجهين الآخرين أعلاه من باب الأولوية، ولتوكيد فضل الله عز وجل على المسلمين في حال الحرب والسلم.
وحينما أراد الله عز وجل ان يبطش بقوم لوط أرسل لهم جبرئيل فرفع قريتهم ومن فيها بطرف جناحه، بينما أنزل للمسلمين مدداً ثلاثة آلاف ملك، ويحتمل التباين وجوهاً:
الأول: إتصاف جبرئيل بقوة خارقة.
الثاني: لم يكن جبرئيل مع الملائكة الذين نزلوا لنصرة المسلمين يوم بدر.
الثالث: يتصور الملائكة بهيئات مختلفة، وكانت هيئة جبرئيل يوم بدر غيرها بخصوص قوم لوط.
والصحيح هو الأول والثالث، فجبرئيل موجود يوم بدر ولكن وظيفته تختلف عنها في قوم لوط، وكذا فهو موجود يوم أحد وغيره من الوقائع كما في يوم حنين إذ ذكر ابن إسحاق: عن جبير بن مطعم، قال : لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الاسود( )، أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم، فنظرت، فإذا نمل أسود مبثوث قد ملا الوادي، لم أشك أنها الملائكة، ثم لم يكن إلا هزيمة القوم( ).
ويدل هذا الشطر من الآية على أمور:
الأول: رأفة الله عز وجل بالمسلمين، ونصرته لهم في حال قوتهم وضعفهم.
الثاني: الكثرة والتعدد في أفراد المدد الإلهي للمسلمين مع كفاية المتحد.
الثالث: تعلق المدد الملكوتي بفضل الله، وهو الواسع الكريم الذي يعطي الكثير، فجاءت هذه الآية لتؤكد عظيم إحسانه، وأنه يرزق المؤمنين مدداً كثيراً من الملائكة، وهو من عمومات قوله تعالى [يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
الرابع: لم يكن المؤمنون يائسين من النصر، لأن خروجهم للقتال، وإستعدادهم لمواجهة العدو سواء في بدر أو أحد شاهد على أنهم يرجون النصر والظفر، نعم يتعلق هذا الرجاء بالفضل والمدد الإلهي وتلك خصوصية ينفرد بها المؤمنون في سوح المعارك إذ يرجو غيرهم النصر بقوة شوكته، وكثرة عدده، وفنون الحرب، أما المؤمنون فانهم يرجون النصر بوجوه منها:
الأول: المدد من عند الله، وهو على أقسام:
الأول: نزول الملائكة لنصرة المؤمنين.
الثاني: تثبيت أقدام المؤمنين، وبعث السكينة في قلوبهم.
الثالث: طرد الفزع والخوف من قلوب المؤمنين.
الرابع: بعث الفزع والخوف في نفوس الكفار، ( وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر( ).
الخامس: تهيئة أسباب وآلات القتال للمسلمين، من حيث لا يحتسبون قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ] ( ).
السادس: صرف كيد ومكر الكفار عن المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى [ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلا أَذًى] ( )، وليس من حد للمدد الإلهي وكيفيته وأوانه، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ]( ).
الثاني: التوكل على الله عز وجل في مواجهة الأعداء.
الثالث: اليقين بان مقاتلة الكفار طاعة لله عز وجل ولرسوله.
الرابع: التحلي بالصبر والتحمل، ومواجهة المشاق من غير ملل أو جزع، وأكثر ما يحتاج المقاتلون هو الصبر، وكان المسلمون في معركة بدر صابرين على نحو الإتحاد والتعدد، فكل مؤمن منهم صابر، وهم كجيش وأمة صابرون، أي أن الصبر النوعي العام مغاير للصبر على نحو القضية الشخصية.
فمنافع صبر الفرد منهم تترشح على الجماعة والطائفة والجيش عامة ومنافع الجماعة والطائفة والجيش تترشح على الأفراد منهم فيثبت كل واحد منهم في موضعه، ويواجه الكفار ببسالة وإستعداد للتضحية والفداء، لذا يتصف المسلمون بقانون ثابت في حروبهم، وهو عجز العدو عن إختراق أجنحتهم والميمنة والميسرة من جيوشهم، مما يدل على صبرهم وتقواهم وحسن مرابطتهم.
الخامس: الإستعداد للقتال، وتهيئة مقدماته.
السادس: فضل الله عز وجل على المسلمين في المباغتة والخدعة في الحرب.
السابع: إظهار المسلمين لأسمى معاني التقوى والخشية من الله في القتال، والتي تتجلى بالإخلاص في الدفاع عن الإسلام، وحب لقاء الله عز وجل.
الثامن: تقيد المسلمين بمضامين الأخوة الإيمانية قبل بدء المعركة وأثناءها وبعد إنتهائها.
التاسع: تطلع المسلمين لفضل الله.
وجاءت الآية بصيغة الفعل المضارع[يُمِدَّكُمْ]لبيان حضور النعمة العظيمة في الواقع العملي والحضور الذهني للمسلمين وكأنهما من الخاص والعام، فالخاص واقعة المدد الملكوتي، أما العام فهو إحساس المسلمين بقرب المدد الإلهي منهم وتوقع نزول الملائكة ورؤيتهم، وقيام الملائكة بنصرة المسلمين من غير أن يراهم المسلمون أو غيرهم، وأما الخاص فهو رؤية وتصديق المؤمنين في معركة بدر وأحد لنصرة الملائكة لهم.
ولم تقل الآية(أن يمدكم الله) بل جاءت بصفة الرب، وبلغة عبودية المسلمين لله عز وجل مما يدل على حسن إيمان المسلمين، وتسليمهم بالربوبية لله عز وجل في زمان شاع فيه الكفر والجحود، وفيه دلالة على رضا عز وجل ورسوله عن المؤمنين من أصحاب النبي، وأن الرضا مقدمة لنزول الملائكة عليهم، لأن الملائكة لا ينزلون مدداً إلا للمؤمنين بالله ورسوله، وفيه دعوة للمسلمين جميعاً للإرتقاء إلى مراتب الإيمان، ليكونوا مؤهلين لهبوط الملائكة مدداً وعوناً لهم، ويحتمل موضوع وأوان نزول ثلاثة آلاف من الملائكة مدداً وجهاً:
الأول: إنهم نزلوا يوم بدر، وقال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وكان في غيره من الأيام عدة ومدداً.
الثاني: كان الوعد بالإمداد بالملائكة يوم أحد، وعدهم الله المدد إن صبروا، عن عكرمة والضحاك.
الثالث: المعنى الأعم، وهو نزول الملائكة يوم بدر وأحد.
والصحيح هو الثالث لوجوه:
الأول: تعدد الآيات التي أخبرت عن نزول الملائكة، ومجئ آيتان منها متعاقبتين، كما في هذه الآية والآية التالية.
الثاني: التباين في عدد الملائكة الذين نزلوا أو وعد الله بنزولهم على ثلاث أقسام:
الأول: ألف من الملائكة كما قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
الثاني: ثلاثة آلاف ملك كما في هذه الآية الكريمة.
الثالث: خمسة آلاف من الملائكة، كما في الآية التالية.
وعن عكرمة قال: لم يمدوا يوم أحد ولا بملك واحد( ).
ولكن وردت النصوص المستفيضة التي تدل على نزول الملائكة يوم أحد منها ما(روي أن رسول الله أعطى اللواء مصعب بن عمير فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقدم يا مصعب فقال الملك لست بمصعب فعرف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه ملك أمدّ به).
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه انه قال: كنت أرمي السهم يومئذٍ فيرده على رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه، فظننت أنه ملك)( ).
وعن مجاهد: حضرت الملائكة يوم أحد ولكنهم لم يقاتلوا) والحضور من مصاديق المدد والعون الإلهي.
ويبدو أن عكرمة وقف عند ظاهر الآية الكريمة الآتية[ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( )، بتقريب أن الكفار لم يرجعوا إلى المسلمين حال إنسحابهم من معركة أحد، ليكون عدم مجئ الملائكة من إنتفاء المشروط بإنتفاء شرطه، ولكن النصوص تدل على وجود الملائكة مدداً للمسلمين في معركة أحد.
فلا يقوى قول عكرمة وهو من التابعين على معارضة النصوص الواردة عن الصحابة في المقام والتي هي الأنسب وفيها توكيد لفضل ورحمة الله بالمسلمين ونصرتهم، ولوحدة الموضوع في تنقيح المناط، فكما نصر الله عز وجل المسلمين في معركة بدر فأنه نصرهم في أحد.
وإستمر حضور وفعل الملائكة حتى بعد إنتهاء المعركة، حينما قتل حنظلة بن عامر وهو من الأنصار(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إن صاحبكم لتغسله الملائكة، فاسألوا أهله ما شأنه”، فسئلت صاحبته،قال الواقدي : هي جميلة بنت أبى بن سلول وكانت عروساً عليه تلك الليلة، فقالت : خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة( ).
أي الصيحة والنداء للخروج للقتال، وفي إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه والذي تبينه هذه الآية[أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ] مسائل:
الأولى: إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يخبر عن الله عز وجل.
الثانية: هذا الإخبار مدرسة في النبوة، وعظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله عز وجل بأن ينعم عليه وعلى أصحابه بمدد من الملائكة.
الثالثة: الآية مناسبة وحجة لزيادة إيمان المسلمين، وتثبيت أقدامهم في مساك الهداية.
الرابعة: إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن المدد الملكوتي دليل على صدق نبوته بظهور الشواهد والمصاديق على نزول الملائكة وإعانتهم للمسلمين في القتال.
الخامس: موضوعية أوان القول في ترتب الأثر عليه، إذ جاء قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند معركة أحد، وحاجة المسلمين للنجاة والسلامة من جيوش الكفار وصناديد قريش الذين زحفوا للثأر والإنتقام لما أصابهم يوم بدر، إذ أن الثأر عامل إضافي في إصرار الفرد والجماعة على القتال خصوصاً في الجزيرة العربية آنذاك، فجاء نزول الملائكة لإعانة المسلمين على آثار حمية الجاهلية الأولى وعادات الثأر عند العرب.
السادس: تبين الآية أن سر هبوط الملائكة عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاء قوله لإخبار الصحابة به بالواسطة ليكون هذا الإخبار سكينة لهم قبل وأثناء وبعد المعركة، ثم جاءت هذه الآية لأمور:
الأول: التوثيق السماوي لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه.
الثاني: هذه الآية مدد إضافي للمسلمين، إذ أن توثيق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين بهبوط الملائكة لنصرتهم عون لهم في ميادين القتال وفي حال السلم أيضاً.
الثالث: طرد اليأس والقنوط من نفوس المؤمنين.
الرابع: منع تسرب الخوف والفزع إلى قلوب المؤمنين من قوة وكثرة جيش الكفار.
الخامس: بيان فضل الله عز وجل على المؤمنين.
السادس: فتح باب الدعاء للمسلمين وسؤال الحاجة، فجاءت الآية بالإخبار عن نزول ثلاثة آلاف من الملائكة مدداً للمؤمنين، إلا أن سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين فيه وجوه:
الأول: بيان عظيم قدرة الله عز وجل، وفضله في زيادة عدد الملائكة الذين يهبطون لنصرة المؤمنين.
الثاني: نصرة المؤمنين بأسباب أخرى إلى جانب الملائكة.
الثالث: التخفيف عن المؤمنين في حال الحرب والسلم.
الرابع: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الخامس: إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية، بإدراك حقيقة وهي سعة فضل الله عز وجل، وأنه سبحانه يعطي الكثير من غير أن تكون هناك نهاية لعطائه.
السادس: ان نزول الملائكة رحمة ولطف بالمؤمنين جميعاً.
وتتصف معركة بدر بأمور:
الأول: قلة عدد وعدة ورواحل المؤمنين.
الثاني: إنها أول معركة يخوضها المسلمون في مواجهة الكفار.
الثالث: لقد أراد الكفار قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة قبل الهجرة، وخرج حينها وتستصحب تلك الإرادة والنية في مجيئهم إلى المدينة بجيش عرمرم، فأنعم الله عز وجل على النبي والمسلمين بالمدد من الملائكة، وهل يستقرأ من لغة الخطاب الصادر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ] ان الثلاثة آلاف من الملائكة نزلوا لنصرة المسلمين، وأن فريقاً آخر من الملائكة ينزل مدداً لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص الجواب لا، فان هؤلاء الملائكة نزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين جميعاً، ويحتمل وجوهاً:
الأول: إن نصرة المؤمنين هي نصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: إكتفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الملائكة شاكراً لله عز وجل وتقدير الآية: قد كفاني الله ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم.
الثالث: ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كفاه الله بآية ومدد من عند الله.
والصحيح هو الأول، ولايتعارض معه الوجه الثالث لأن الله عز وجل واسع كريم، والمدد الإلهي للمسلمين متصل ومتعدد الوجوه والكيفية ومن الإعجاز في تأريخ الإسلام ان المعركة الأولى للإسلام إنتهت بنصر المؤمنين.
وجاءت المعركة الثانية وهي معركة أحد بخسارة كبيرة للمسلمين، وليس هزيمة، لأن عضد المسلمين إشتد في المعركة الأولى، وتجلت آيات نصرهم والمدد الإلهي لهم.
فجاءت الخسارة في معركة أحد من غير أن تؤدي إلى بعث اليأس والقنوط، ولا حتى الخوف والفزع في نفوس المسلمين، لأن النصر في معركة بدر كان ظهيراً وعوناً لهم ومناسبة للصبر والتحلي بالتقوى خصوصاً وانهم رأوا الآيات والمدد من الملائكة.
لقد جاءت الآية بوصف المسلمين بصفة الإيمان، وأنهم بلغوا أعلى مراتب الهداية ويدل بالدلالة التضمنية على أنهم لم يسألوا المدد من الناس، كاليهود في المدينة وهم أهل كتاب، وأقرب إلى المسلمين، ويشاطرونهم السكن والجوار، بل توجهوا إلى الله عز وجل لسؤال الإمداد والنصرة.
فان قلت لم تذكر الآية هذا السؤال بل أخبرت عن مجيء المدد من عند الله إبتداء، والجواب ان القرآن يفسر بعضه بعضاً وقد ورد قوله تعالى بخصوص معركة بدر [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
وتدل الآية على ثقة المسلمين برحمة الله عز وجل، وانه سبحانه لا يتخلى عنهم لقد آمن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسط عالم مليء بالكفر والضلالة، فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات وقابلها أكثر الناس بالجحود والصدود، وتلقاها أهل البيت والصحابة بالقبول والرضا والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فلم يتركهم الناس وشأنهم بل سارت قريش ومن معها بجيوش كبيرة زاحفة نحو المدينة المنورة ولا يستطيع المسلمون مواجهتها، ففزعوا إلى الله، وإستغاثوا به وسألوه النصرة والمدد، وهذا السؤال رشحة من رشحات المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما بعثته في نفوسهم من الأمل والرجاء بفضل الله، ونصرة لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد خرج المهاجرون والأنصار نصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم يرجون نصرة الله عز وجل لهم لأنه سبحانه هو الذي بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحق رسولاً إلى الناس جميعاً، فجاء المدد من عند الله عز وجل بآية إعجازية والله عز وجل قادر على ان يمدهم بأسباب أرضية مادية تكون كافية لنصرهم كالريح والمطر والسحاب، ويؤهلهم لأسباب مباغتة العدو، والحرب خدعة، ويقوي قلوبهم، ولكنه سبحانه تفضل بالمدد السماوي، وجاء بمعجزة علنية ظاهرة وهو الذي لا يخاف ولا يخشى أحداً، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا] ( ).
لقد أراد الله عز وجل في المدد الملكوتي رحمة الناس جميعاً وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فحتى في حال الحرب، وتعدي الكفار على المؤمنين، وإرادتهم نشر الضلالة والحرب على مبادئ التوحيد، تأتي الآية السماوية في ميدان الحرب لتدعوهم إلى التوبة والهداية والكف عن التعدي على أهل الإسلام.
ومن أصر على الكفر والعناد من الكفار، وأبى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان معجزة نزول الملائكة برهان آني حاضر، ودعوة سماوية له للإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الآيات في نصرة الملائكة للمسلمين أنها لا تقف عند حدود دعوة الناس للإيمان، فمن لم يؤمن يأتيه العذاب، وهو من الشواهد على أن نصرة الملائكة للأنبياء كانت في الحرب والقتال، وليس في الدعوة وحدها، فقد كان جبرئيل ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي والقرآن من عند الله عز وجل، ويعرج بعدها إلى السماء من غير أن يكره أحداً على الإيمان، أو ينتقم من كافر لجحوده بنزول القرآن من عند الله ولكنه عندما نزل مع الملائكة من السماء تقدم المؤمنين على فرسه حيزوم، مقتحماً معسكر الكفار لتكون معركة بدر وأحد مناسبة لإنتقام الملائكة من الكفار والمشركين الذين أذاقوا المسلمين الأذى.
وهل نزول الملائكة وبطشهم بالكفار من عمومات قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلا أَذًى] ( )، الجواب نعم، فان نزول الملائكة برزخ دون إضرار الكفار بالمسلمين، ومانع من إستباحتهم المدينة وشماتة المنافقين بهم، بل وجاء نصر الملائكة للمسلمين لتبكيت المنافقين، وفضح سوء سرائرهم ودعوتهم للهدى والتنزه من أسباب النفاق والضلالة، علماً بان النفاق من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ورأس المنافقين يومئذ هو عبد الله بن أبي بن سلول ولكن شطراً من المنافقين يكون عندهم النفاق متزلزلاً غير مستقر.
فجاء نزول الملائكة مدداً وعوناً للمسلمين لجذبهم إلى منازل الإيمان، وجعلهم يعرضون عن أقطاب النفاق، لذا فان الأمارات التأريخية تدل على نقصان وقلة عدد المنافقين مع تقادم الأيام، الشواهد أنه إنخزل في الطريق إلى أحد مع عبد الله بن أبي بن سلول ثلاثمائة من المنافقين، ولكن بعد عودة المسلمين إلى المدينة غير منهزمين، إذ إستطاعوا رد جيوش الكفار وإرغامهم على الإنسحاب، حاول عبد الله بن أبي وأصحابه التدارك من طريقين:
الأول: عام، لقد وقعت معركة أحد يوم السبت النصف من شوال، وفي اليوم الثاني أي يوم الأحد السادس عشر من شوال أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الناس بطلب العدو، وتلك آية إعجازية وشاهد على العز وقوة العزيمة التي عند المؤمنين وأنهم لم يهنوا ولم يتعبوا من معركة أحد، ولم يشعروا بالخوف من العدو، فلم يقل بعضهم يكفي صرف الكفار عن المدينة، أو يقول نحن بالكاد نجونا منهم فكيف نخرج في طلبهم، أو يقرض منهم أحد خشية مباغتة العدو ودخوله المدينة من جهة ما كما فعل الكفار حينما هاجموا المسلمين من الخلف في معركة أحد، وأدى إلى خسارتهم وإرباكهم، بل بادر المؤمنون إلى الإستجابة لنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب الجهاد أن مؤذنة نادى لا يخرجن معنا أحد إ لا أحد حضر يومنا بأمس) ( ).
مما يدل على الثقة والسكينة لفضل الله وأهلية الذين قاتلوا في أحد للدفاع مرة أخرى عن الإسلام، والخروج في اليوم التالي من غير ضجر أو ملل.
وفيه إشارة بينة إلى إستغناء المؤمنين عن المنافقين وأن الله ورسوله لا يريدان خروجهم للقتال والدفاع عن الإسلام، ليحجب الثواب عنهم، ولكي لا يقولوا إحتاج لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسألنا الخروج، نعم جاء جابر بن عبد الله، وإعتذر من الرسول وقال لي سبع أخوات طلب مني أبي أن أتخلف عليهن يوم أمس، أما الآن فإسمح لي بالخروج معكم فأذن له.
لقد كان الخروج في اليوم التالي من معركة أحد حجة بأن المسلمين ما زالوا أقوياء ويستطيعون الهجوم على العدو وقهره، ودليلاً على نصرة الملائكة لهم يوم أحد، ورؤيتهم آيات المدد السماوي بحيث أخذوا يستبشرون بلقاء العدو، لأنه يدل بالدلالة الإلتزامية على نزول الملائكة مدداً وعوناً لهم من السماء.
ويتضمن الخروج لطلب العدو في اليوم التالي لأحد آيات في التضحية والجهاد للصحابة، ودروساً في الصبر والفداء وتحمل المشاق طاعة لله ورسوله، قال ابن إسحاق بالإسناد عن ابي السائب مولى عائشة بنت عثمان : أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بنى عبد الاشهل، كان شهد أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : شهدت أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا وأخ لى، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، قلت لاخى أو قال لى : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون( ).
ويدل خروج أخوين جريحين لم تلتئم جراحهما مع عدم وجود فترة ومدة بين أوان الجرح والخروج، فلم يفصل بينهما إلا نحو أربع وعشرين ساعة على خروج من هو سالم معافى من الأحديين من باب الأولوية القطعية، نعم لم يقاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون عند خروجهم هذا بل إنتهوا إلى حمراء الأسد، وتبعد عن المدينة ثمانية أميال ولم يرجع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة في الحال، بل أقام في حمراء الأسد ثلاثة أيام للتحدي وتثبيت الخروج وموضوع طلب العدو.
وتعني الإقامة هناك مدة الثلاثة أيام أن خبر خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبقاءه في حمراء الأسد قد وصل إلى كفار قريش وانهم خافوا وعجزوا عن الرجوع إلى المعركة، وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال، وأمارة على رؤية المؤمنين للملائكة ينصرونهم يوم أحد، ورجاء نزولهم عند مواجهة العدو إذا رجع للقتال لذا جاءت الآية التالية بالبشارة بنزولهم قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ].
“قال ابن هشام : وحدثني بعض أهل العلم، أن ابن أبى نجيح قال : نادى مناد يوم أحد . لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي.
قال ابن هشام : وحدثني بعض أهل العلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلى بن أبى طالب : لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا”( ).
وهو من علم الغيب الذي أنعم الله عز وجل به على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون بشارة ثانية للمسلمين بعد نزول الملائكة، وبيان حقيقة وهي الملازمة بين نزول الملائكة لنصرة المسلمين وعدم حصول الخسارة عند المسلمين، فلو حصلت خسارة للمسلمين، وتكررت هذه الخسارة لقيل ماهي الفائدة من نزول الملائكة إذا لم يحصل النصر للمسلمين، وتصيبهم مع نصرة الملائكة الخسارة، فجاء قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رداً متقدماً لمثل هذا القول، ولبشارة المؤمنين بالنصر والغلبة على الأعداء.
الثاني: خاص بالتصدي للمنافقين، وزجرهم عن التأثير بالناس، وكانت واقعة أحد مناسبة لفضح رؤوس النفاق، ودعوة لأتباعهم للتخلي عنهم، ونبذ النفاق لقبحه الذاتي والعرضي، وما له من الأضرار على الفرد والأمة والعقيدة قال ابن إسحاق: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان عبد الله بن أبى بن سلول – كما حدثنى ابن شهاب الزهري – له مقام يقومه كل جمعة لا ينكر، شرفا له في نفسه وفى قومه، وكان فيهم شريفا، إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس، قام فقال : أيها الناس، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا له، ثم يجلس.
حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع، ورجع بالناس، قام ففعل ذلك كما كان يفعله، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا : اجلس، أي عدو الله، لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول : والله لكأنما قلت بجرا أن قمت أشدد أمره.
فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد، فقال : ما لك ؟ ويلك ! قال : قمت أشدد أمره، فوثب على رجال من أصحابه يجذبوننى ويعنفونني، لكأنما قلت بجرا أن قمت أشدد أمره، قال : ويلك ! ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : والله ما أبتغى أن يستغفر لي( ).
وفيه دليل على عدم نصرة أحد لعبد الله بن أبي، فقد خرج وحده من المسجد ولم يخرج معه احد، وطلب منه الإستغفار والإعتذار، ولم يعتذر منه أحد.
لقد جاءت الآية بصفة الرب لله عز وجل وفيه ذم للكفار عن تركهم نعمة الخضوع والخشوع لله رب العالمين، وإخبار بأن الذي يصلح سريرته ويؤدي وظائف العبودية لله عز وجل فانه يمده بأسباب الغلبة التي لا تقهر ولا تجارى، وتنحصر تلك الوظائف بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق بنبوته وإتباعه ونصرته، ومن الآيات ان المؤمنين الأوائل نصروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنفسهم وأموالهم فنصرهم الله بالملائكة مدداً وعوناً وهو من وجوه مجيء الآية بالإخبار عن إختصاصهم بالمدد الملكوتي [أَنْ يُمِدَّكُمْ].
ان المدد الملكوتي للمؤمنين في معارك الإسلام الأولى شاهد على ان الله عز وجل ينصر المؤمنين ويثبت أقدامهم، ويمنع من تسرب الشك والريب إلى نفوسهم، فقد يرى العبد معجزة النبي ويؤمن بنبوته ويتبعه، ولكن عندما تحصل المواجهة مع الكفار ويرى بريق السيوف وآلات القتال، وقرب المنية فانه يجزع ويرتاب، فجاءت هذه الآية لمنع مثل هذا الإرتياب.
وفيه لطف وفضل من عند الله بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا بنبوته، وشاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين بلحاظ نصرة الله عز وجل للذين آمنوا برسالته بمدد من الملائكة، وهو من وجوه [يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ] فقد نال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المرتبة الرفيعة بين الأنبياء بأن أمد الله المؤمنين بنبوته بالملائكة في ساحة المعركة والقتال، ليكون شاهداً على حضور المدد الإلهي لهم في حال السلم من باب الأولوية، فاذا كان النصر يأتيهم في ساحة المعركة فمن باب الأولوية أنه يأتيهم في شؤون الحياة اليومية وأسباب المعاش وفي حال السفر والضيق والعسر ليدفع الله عز وجل عنهم الشدة والحرج إلا أن يقال بإن الملائكة لشدة حاجة المسلمين للنصرة في المعركة، وفيه دعوة للمسلمين للإرتقاء في مراتب الإيمان، وبلوغ مراتب اليقين بعد رؤية المعجزات والإنتفاع الأمثل من الآيات السماوية والأرضية.
علم المناسبة
لم يرد لفظ[يُمِدَّكُمْ] في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، ليكون لها خصوصية، ودلالات عقائدية مركبة من جهة الإمداد وموضوعه، إذ أن موضوعه أشرف وأعظم المواضيع وهو نزول الملائكة مدداً وعوناً ومن الإعجاز أن جاء الإخبار عن المدد الإلهي بقول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين من أصحابه الذين نالوا الشرف العظيم بالمشاركة في أول معارك الإسلام، وبتلقي نزول الملائكة مدداً وعوناً من عند الله، ولم يذكر القرآن مدداً من الملائكة للموحدين من الأمم السالفة، وقد جاءت الآيات بالإخبار عن المدد من عند الله عز وجل بالأموال والنعم الكثيرة لتكون مناسبة وحجة بلزوم تقوى الله، قال تعالى[وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ] ( ).
ويحتمل إنحصار ذكر المدد من الملائكة للمؤمنين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً:
الأول: الملازمة بين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإيمان بها وبين نصرة الملائكة.
الثاني: يأتي المدد من الملائكة للمؤمنين الذين يقاتلون تحت راية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: عدم إختصاص ذكر المدد الملكوتي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيشمل الأنبياء والمؤمنين من الأمم السابقة.
الرابع: عدم ذكر المدد الملكوتي للأنبياء السابقين لايدل على إنتفاء موضوعه، وعدم الإيجاد أعم من عدم الوجود.
الخامس: المدد بالملائكة من نصر الله عز وجل للأنبياء والأولياء والمؤمنين، وليس من حصر لأسباب وصيغ نصرة الله سبحانه، فقد ينصرهم بالملائكة أو الريح أو الماء أو الأسباب الأرضية والسماوية، أو ينصرهم بالكفار أنفسهم.
وإن قيل في القرآن تبيان لكل شيء، ولم يذكر القرآن نزول آلاف من الملائكة مدداً للأنبياء السابقين، والذين آمنوا بهم، الجواب إن ذكر نصرة الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين جاءت من باب المثال الأمثل، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، قال تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا] ( )وحتى على القول بأنه من باب المثال الأمثل فإن إختصاص المؤمنين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالذكر بنصرة الملائكة لهم تشريف عظيم لهم، وشاهد على عظيم مكانتهم عند الله، وبين المليين، وفوزهم بمقامات رفيعة يوم القيامة يغبطهم عليها الأولون والآخرون.
وقد أمد الله الناس جميعاً بالنعم، ومنهم الكفار والمشركون ولكنها تكون وبالاً عليهم، قال تعالى [أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَ يَشْعُرُونَ] ( )، وفيه دلالة على أن الدنيا دار إمتحان وبلاء، وأن الكفار إذا إتخذوا من النعم الإلهية وسيلة للإفساد في الأرض، ومحاربة المؤمنين فان عاقبتهم إلى خسران، ليكون هذا المد إستدراجاً لهم في التمادي في الغي والمعصية، بينما يأتي المدد من الملائكة لنصرة المسلمين وتثبيت أقدامهم وتنمية ملكة التقوى عندهم.
وهل من صلة بين مدد الكفار بالأموال والبنين، وبين مد المؤمنين بالملائكة الجواب، الجواب نعم، فان المدد من الملائكة يأتي على ما عند الكفار من النعم، وكأن إستدراج الكفار في هذه الصورة إلى حين دخولهم المعركة وإصرارهم على حرب للمسلمين فيأتي المدد الملكوتي ليهلك ماعند الكفار من النعم، ولاينحصر هلاكها بمدد الملائكة، ولا في حال الحرب وحده.
فمن منافع المدد الملكوتي للمسلمين أمور:
الأول: أنه يأتي على ما عند الكفار من النعم ليكونوا عاجزين عن التعدي على المسلمين وعلى ثغورهم وهو من إسرار عدم توالي نزول الملائكة مدداً للمسلمين، فقد نزلوا لنصرتهم بما صار معه المسلمون معه قادرين على صد العدو، ومنعه من التعدي على حرمات الإسلام.
الثاني: زيادة عدد المسلمين بسبب المدد من الملائكة الذي جاء للمؤمنين في معركة بدر وأحد وغيرها، إذ تجتمع أسباب متعددة لجذب الناس للإيمان منها:
الأول: المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من الحجة والبرهان.
الثاني: نزول الملائكة لنصرة المسلمين.
الثالث: إنتصار المسلمين في معاركهم الأولى مع أنهم ضعفاء وقلة وفيه دلالة على المدد الإلهي بالملائكة وغير الملائكة.
الرابع: ضعف ووهن الكفار، وعجزهم عن صد الناس عن دخول الإسلام.
الخامس: فضح أمر الكفار، وكشف قبح عقيدتهم، وجهالتهم وماهم عليه من الضلالة.
السادس: ظهور النقص في أموال ومؤن الكفار، وعجزهم عن مواجهة المسلمين، لذا فان زحف قريش إلى معركة بدر ثم أحد كان عن دهاء ومكر، إذ أحس أقطابها أن عدد المسلمين آخذ بالإزدياد، وقوتهم تتنامى، ويتجلى الحق الذي هم عليه بتتابع وتعاقب معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسرعة إنتشار أخبارها بين القبائل .
وجاء نصر الملائكة لهم حجة على الناس، وتخفيفاً عنهم، ورحمة بهم، وتلك آية في عموم فضل الله، فتأتي النعمة خاصة بالمؤمنين ولكن منافعها تترشح على الناس جميعاً.
وجاءت هذه الآية بلفظ [ُيمِدَّكُمْ] أما الآية التالية فجاءت بلفظ [يُمْدِدْكُمْ] مع تكرار اسم (ربكم) وهو من أمهات أسماء الله، وفيه شاهد على حسن العبودية لله، ويأتي أحياناً على لسان الأنبياء في تحذير وإنذار قومهم، وورد على لسان نوح عليه السلام في التنزيل [قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ]( ).
بينما جاء هنا على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خطاب مدح وثناء على المؤمنين، وبيان فضل الله عز وجل عليهم بنزول الملائكة لنصرتهم، وهو من الشواهد على تفضيل المسلمين وأنهم خير أمة أخرجت للناس.
علم المناسبة
ورد المدد بالملائكة في القرآن ثلاث مرات، وكلها في نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الأوائل وهي:
الأولى: الآية الكريمة محل البحث.
الثانية: الآية التالية والتي أخبرت عن المدد.
الثالثة: قوله تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
ان إخبار القرآن عن نصرة الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين آية تدل على ما للمسلمين من المنزلة الرفيعة عند أهل السماء، وهذا النصرة من وجوه تفضيلهم وكونهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
نعم ورد قوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ]( )، وجاءت الآية في حبيب بن إسرائيل النجار، وهو ممن آمن برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع انه لم يبعث إلا بعد نحو ستمائة سنة.
ولما سمع بالرسل جاءوا إلى إنطاكية دعا قومه لتصديقهم، فقتلوه بأن وطئوه بأرجلهم وهو يقول: اللهم إهدِ قومي، وقبره في سوق إنطاكية، ولما قتل غضب الله عز وجل عليهم فأهلكوا بصيحة جبرئيل عليه السلام، وكذا قوم صالح أهلكوا بصيحة من جبرئيل، ولم ينزل الله عز وجل جنوداً من السماء لهلاك قوم حبيب، فتكفي الصيحة من جبرئيل لهلاكهم ، فلماذا خص الله سبحانه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الملائكة، فيه وجوه:
الأول: توكيد حقيقة في الإرادة التكوينية وهي تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين.
الثاني: مجيء الملائكة ليزداد المسلمون إيماناً.
الثالث: رحمة الله تعالى بالناس جميعاً، ومنهم كفار قريش ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يهلك الناس بالصيحة أيام نبوته، بل يأتي الملائكة لبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار وهزيمتهم أمام المؤمنين.
وتلك خصوصية إنفردت بها نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من مصاديق تفضيله على الأنبياء الآخرين وان المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) تأتي الملائكة لنصرتها وإعانتها من غير إستئصال لفريق من الناس.
الرابع: في نظم الآية إعجاز في المقام، إذ انها تبين وظيفة الملائكة وانهم مدد وعون للمسلمين وليس لإستئصال قريش وهلاكهم، ولو شاء الله عز وجل ان يهلك قريشاً ومن خرج معها من الكفار وسط المعركة لأهلكهم، أما المؤمنون فهم ينظرون اليهم في هلاكهم، كما في نظر بني إسرائيل لهلاك وغرق فرعون وجنده، وكما في مسخ الذين إعتدوا في السبت من بني إسرائيل إلى قردة وخنازير، وإخوانهم ينظرون اليهم، وأصبح القردة يعرفون قومهم أما الذين بقوا من بني إسرائيل فلا يميزون بين أفراد القردة.
ويبين قوله تعالى [يُمِدَّكُمْ] الغاية من نزول الملائكة، وانهم جاءوا لتحقيق النصر والغلبة للمسلمين ويفسره قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ولا يعني النصر هلاك الأعداء بل إلحاق الهزيمة بهم، لتكون هذه الهزيمة مناسبة للتوبة والإنابة.
فان قلت إذا لم يستأصل ويهلك الكفار في ساحة المعركة فقد يعودوا مرة أخرى، وفعلاً فانهم رجعوا في معركة أحد بجيوش أكثر عدداً وعدة، فنزل الملائكة مرة أخرى لنصرة المسلمين، ولم يستأصلوا قريشاً إلى أن جاء فتح مكة فدخلوا في الإسلام وفيه دلالة على ان الإسلام دين الرحمة والرأفة والمغفرة، وان نزول الملائكة مدداً للمسلمين باب لهداية الناس وسبيل للرشاد.
خصائص نصرة السماء
لقد جعل الله إختلافاً وتبايناً بين خلق الملائكة وخلق الإنسان من حيث السنخية والماهية والفعل والعمر والإبتلاء، وفي موضع السكن، وفيه آية على عظيم قدرة الله وبديع صنعه نعم لقد عاش آدم هو وحواء لساعات في بدآية خلقهما في الجنة، وإلتقى مع الملائكة قبل أن يفتنهما إبليس، ويكون سبباً لهبوطهما إلى الأرض، قال تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا] ( )، ولم يكن الإنسان يظن ان الملائكة ينزلون إلى الأرض لنصرته وإعانته خصوصاً وهم الذين [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
وجاءت معركة بدر بين المسلمين والكفار لتشرق على الأرض بآية من بديع صنع الله، وهي هبوط الملائكة مدداً وعوناً للمسلمين، وفيه شاهد على عدم الإنقطاع التام بين الملائكة والإنسان وان تباين جنسهما وسكنهما، وهل يستطيع الإنسان نصرة الملائكة الجواب نعم وذلك بالإيمان والعمل الصالح ومحاربة أعداء الله والملائكة ورسله، قال تعالى [مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ] ( )، وتتجلى عداوة الله عز وجل للكفار في الدنيا والآخرة.
وجاء هبوط الملائكة من السماء لنصرة المسلمين مصداقاً من مصاديق عداوة الله عز وجل وملائكته للكفار.
لقد أراد الله عز وجل بنصرة الملائكة للمؤمنين إجتثاث عداوة الملائكة من الأرض، وهو من أسرار الخلق والتكامل في الخلائق من وجوه:
الأول: تتقوم الصلة بين الخلائق بالإيمان، وبه يعرف الإنسان وظائفه العبادية، ومنها الإيمان بملائكة الله.
الثاني: إيمان المسلمين بالله وملائكته ورسله، جاءت لهم بالملائكة مدداً وعوناً.
الثالث: الصحابة والذين إستمعوا لهم من التابعين.
الرابع: عموم المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
والصحيح هو الرابع وتلك آية من فضل الله عز وجل، فصحيح ان المؤمنين الذين خاضوا معارك الإسلام الأولى إنتفعوا على نحو مباشر من آية نزول الملائكة، ولكن النفع عام شامل لهم وللمسلمين جميعاً.
ودفع الله عز وجل الهزيمة عن المسلمين في معركة بدر ومنحهم النصر بمدد من الملائكة قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]، كما نجّا الله المسلمين من الخسارة وأعانهم على التدارك والعودة إلى ساحة المعركة والإلتحاق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومباشرة القتال يتقدمهم الملائكة إلى ان هزموا العدو.
ولم ينقطع عمل الملائكة بل كانوا مستعدين للهبوط مرة أخرى إذا رجع الكفار مرة أخرى لقتال المسلمين بعد إنسحابهم من معركة أحد ولكنهم لم يرجعوا، وعدم رجوعهم هذا من الشواهد على فزعهم وخوفهم من نصرة الملائكة للمؤمنين في المعركة، فمع قلة عدد المسلمين يومئذ، وكثرة عدد وعدة وآلات الكفار، وما أصاب المؤمنين من القتلى والجراحات والخسائر، فان الكفار خافوا من الرجوع إلى ميدان المعركة، لأن نصرة الملائكة للمسلمين ملأت قلوبهم فزعاً وخوفاً، وجعلتهم يمتنعون من الرجوع، ويعجلون العودة إلى مكة.
وحينما رد الملائكة على الله تعالى في موضوع جعله خليفة في الأرض أجابهم سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، وهو سبحانه يعلم أنه ينزل الملائكة لمحاربة الفساد والمفسدين، والحيلولة دون سفك الدماء في الأرض بغير حق.
فقد أراد مشركوا قريش قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بدعوته من المهاجرين والأنصار، ليشكر الملائكة الله عز وجل، ويدركوا بالواقع العملي ان الله عز وجل يعلم ما لا يعلمون، وانه سبحانه رؤوف به وبالناس، وان خلافة الإنسان تتقوم بالمدد الإلهي، ومن يمده الله عز وجل بالنصرة والإعانة فانه يجد التوفيق في عمله، والله عز وجل قادر على ان يمد المسلمين بجيوش من أهل الأرض، ويهدي قلوب شطر من الناس للإيمان، ويجعل يهود المدينة يدخلون الإسلام، أو يخرجون مع بقائهم على اليهودية لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم أهل كتاب سماوي.
ولكنه سبحانه جعل الناس في الخيار وهو من وجوه الإبتلاء والإمتحان في الحياة الدنيا، وظن الكفار ان المسلمين قليلون وأذلة، وإمتنع شطر من الناس عن نصرتهم، وترددوا في دخول الإسلام فزعاً وخوفاً من الكفار وبطشهم.
فجاء النصر الإلهي ليختص البدريون والأحديون بشرف لم ينله غيرهم من المسلمين إلى يوم القيامة، ويفوزوا بالمدد الشخصي لهم بالملائكة، إذ ان الخطاب في الآية إنحلالي فكل مؤمن منهم يتوجه له قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه:
الأول: ألن يكفيك ان يمدك ربك بثلاثة آلاف من الملائكة.
الثاني: ألن يكفيك أن يمدك وأصحابك ربكم، بثلاثة آلاف من الملائكة.
ومن وجوه التفضيل والفوز يومئذ ان الملائكة الذين نزلوا لنصرة المؤمنين، يكونون شهوداَ لهم يوم القيامة، وحجة على الكفار من قريش في مواطن الحساب، وهو من مصاديق قوله تعالى لهم يوم خلق آدم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
أي أن الناس جميعاً يقفون للحساب بين يدي الله ومن ينصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض تشهدون له ايها الملائكة لينال الخلود في النعيم، ومن يحارب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين برسالته تنزلون في الدنيا لنصرته، وتشهدون عليه في الآخرة، ليدخل النار خالداً فيها.
قال تعالى [وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ] ( )، وفيه دلالة على ان الملائكة قد ينزلون بهيئة البشر والمقاتلين ومن المستقرأ من وصفهم بالمدد للمؤمنين، وبما يكون آية في الإبتلاء والإختبار في الدنيا، فالمؤمن يراهم كآية من عند الله، ويزداد إيمانه أما الكافر فانه يظنهم من المسلمين ويستمر عليه اللبس والريب والشك إلا أن يهديه الله بفضله.
لقد جاء إنتقام الملائكة من الكفار مصداقاً من مصاديق غضب ولعنة الله والملائكة عليه، لأن الكفار أرادوا إستئصال كلمة التوحيد ومنع نزول آيات القرآن، وصد الناس عن الإيمان، وإشاعة الفحشاء والمنكر في الأرض، وجعل الأرض تمور بسفك الدماء بغير حق.
ومن الآيات ان الملائكة لم ينزلوا إلا بأمر من الله عز وجل وبوظيفة مخصوصة ومعينة وهي نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته في معارك الإسلام الأولى، وجعل الإسلام قوياً، وفتح الباب لدخول الناس أفواجاً فيه، وصيرورة المسلمين في منعة وأمن من حروب الإبادة والإستئصال التي أرادها الكفار لهم، وتثبيت دعائم الدين.
وهل إنقطع مدد الملائكة للمسلمين، وأنه خاص بمعارك المسلمين، الجواب لا، فانه باب فتحه الله عز وجل على المؤمنين، وجعل الدعاء وسيلة لنيله والإنتفاع منه وفيه تثبيت لأقدام المسلمين في منازل الإيمان، ومواطن القتال، وبعث للفزع والخوف في قلوب الكفار من المسلمين في حال الحرب والقتال وحال السلم، وزجر لهم من التعدي على المسلمين، ودعوة للناس لدخول الإسلام، وعدم الخشية من الكفار وكيدهم ومكرهم.
وتدل نصرة الملائكة للمؤمنين على عدم التكافؤ بين جيش الإسلام وجيوش الكفر، وان الرجحان دائماً لكفة الإسلام والحق والهدى، وان كان الظاهر كثرة عدد وعدة الكفار، وهذا التباين من أسرار الخلافة في الأرض ومقدمات وصيغ حفظ كلمة التوحيد في الأرض، وتعاهد الفرائض والعبادات، وبقاء المسلمين في مأمن من الفزع والخوف من الكفار وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلا أَذًى] فمهما بلغت قوة وكثرة الكفار فان النصر حليف المسلمين لأن المدد الإلهي لهم متصل وغير محدود.
علم المناسبة
وردت مادة(كفى) في القرآن ثلاثاً وثلاثين مرة، ولم يرد لفظ[يَكْفِيَكُمْ] في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة وفيه أطراف أربعة:
الأولى: إنه قول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخطاب منه للمؤمنين.
الثانية: ورود هذا الخطاب بخصوص أمور القتال، وتتجلى موضوعية هذا الخطاب بلحاظ أوانه والأسباب التي تحيط به، وقلة عدد جيش المسلمين وضعفهم، ونزول الملائكة في بدر وأحد وحنين وغيرها من معارك المسلمين الأولى من مصاديق قوله تعالى[وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا] ( ).
فالمدد من الملائكة من نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، لذا فمن إعجاز الآية أن جاءت بتثبيت حقيقة أن المدد بالملائكة من عند الله.
وقد إبتلى قوم من أتباع الأنبياء بفتنة عبادتهم، وجعلوهم في منازل الربوبية، فجاءت هذه الآية لتأديب المسلمين، ومنع الإفتنان بالملائكة لأنهم مع عظيم قدرتهم وقوتهم لم ينزلوا إلا بإمر من عند الله، ويلتقون مع المسلمين في العبودية لله تعالى، والجميع جنود له سبحانه قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ] ( ).
وهل يدل لفظ المدد على تفضيل المؤمنين على الملائكة بلحاظ أن الذين جاءهم المدد أفضل من المدد ذاته، الجواب لا دليل عليه، إلا أن يستقرأ موضوع التفضيل من دليل آخر وقد إختلف المتكلمون في التفضيل بين الملائكة والأنبياء.
وليس المدار هو أيهما أفضل والإنشغال بما يحتمل هذا الموضوع، فكلا الفريقين فاضل وله منزلة عظيمة من الله، وجاء نزول الملائكة فضلاً من عند الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبدريين والمسلمين جميعاً إلى يوم القيامة.
وورد في سورة الأحزاب قوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( )، والنسبة بين الآيتين العموم والخصوص المطلق، ففي بدر قاتل المسلمون وجاء الملائكة مدداً لهم في القتال، أما في معركة الأحزاب فقد خفف الله عز وجل عن المؤمنين بعد معركة بدر وأحد، فلم يقاتلوا في الأحزاب بكفاية الله عز وجل لهم، ولم تنحصر مضامين الكفاية هنا بالملائكة بل بالملائكة والريح وبعث الضجر في قلوب الكفار وغيره.
وروي ان جبرئيل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صبيحة الليلة التي أنهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج، فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: من متابعة قريش، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه، فقال: يا رسول الله ان الملائكة لم تضع السلاح ان الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وانا عامد إليهم فان الله داقّهم دق البيض على الصفا وأنهم لكم طعمة، فأذن في الناس ان من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة، فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الآخرة لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( ).
وجاء في ذم الظالمين وإقامة الحجة عليهم الإخبار بكفاية القرآن للهداية والرشاد، قال تعالى[أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ]( ).
فإن القرآن حجة على الناس جميعاً، وهو المعجزة الباقية إلى قيام الساعة تدعو إلى الله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث أن من يكتفي بنزول القرآن ويؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكفيه الله عز وجل في ميادين القتال بنزول الملائكة مدداً وناصرين في مواجهة قوى الكفر والضلالة.
وكأن خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين هو إكتفيتم بنزول القرآن وآمنتم فكفاكم الله بالملائكة ناصرين.
قانون”نصرة الله للملائكة”
جاءت الآية الكريمة بالإخبار عن نزول الملائكة مدداً وعوناً للمؤمنين في معاركهم الأولى، وهذه النصرة آية أطلت على أهل الأرض في واقعة مخصوصة ولكن ضياءها باق في الأرض، مابقي الليل والنهار، وهل يحجب ضياء الشمس ونور القمر ضياء الآية القرآنية ومضامينها الجواب لا، لعدم التعارض في أفراد الضياء والتعدد في أفراد الفضل الإلهي الناس، وفيه حجة إضافية على الناس، وبرهان صدق على حسن إختيار المسلمين بإيمانهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويشمل الإنتفاع من ضياء الآية القرآنية ميادين العبادات والمعاملات، وأمور الدين والدنيا، ويحتاج اليه الإنسان في عالم البرزخ أيضاً إذ تضئ الآية القرآنية قبر الذي يعمل بأحكامها وسننها عن إيمان.
ويتعدد النفع من الآية القرآنية لأنها كنز من المعارف وخزينة من الآداب، وموضوع متجدد للإعجاز، ومنهل لإستنباط الأحكام، كما في هذه الآية الكريمة التي أخبرت عن نزول الملائكة مدداً وعوناً للمسلمين، والكبرى فيه على أقسام:
الأول: نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر وأحد وغيرها بنزول الملائكة.
الثاني: إنتقام الله عز وجل من الكفار والمشركين في معركة بدر وأحد بنزول الملائكة لنصرة المسلمين، ويدل عليه منطوق الآية وقوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ].
وهل من أثر لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الكفار، الجواب نعم، فأنه يملأ نفوس الكفار رعباً وفزعاً، وتتصف المعارك والحروب بكثرة الإنذارات والوعيد ومحاولة كل طرف للظهور بمظهر القوي صدقاً وزيفاً وإيهام العدو، أما المسلمون فقد حضروا إلى بدر ضعفاء أذلة مما لبس على الكفار، وظنوا أنهم لقمة سائغة حتى قال أبو جهل “ماهم إلا أكلة رأس”( ).
ولكن المسلمين لجاؤا إلى الدعاء وإستغاثوا بالله عز وجل فتغيرت موازين القوى بوقوع المعجزة التي تتجلى بنزول الملائكة قال تعالى بخصوص واقعة بدر [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الثالث: نصر الله عز وجل للملائكة في نزولهم مدداً للمؤمنين، فصحيح أن قوة الملائكة خارقة، وهي نوع معجزة في الأرض لأنها خلاف العادة وماتعارف بين الناس، ولكن الملائكة يحتاجون المدد من عند الله لقانون الحاجة الذي يحكم الخلائق كلها، لذا جاءت الآية بتوكيد حقيقة المدد الإلهي للمؤمنين بالملائكة فلم تقل الآية “ألم يكفكم ان تأتي الملائكة مدداً لكم” وقد جاء الإخبار عن نزول الملائكة بلغة الإتيان [هَلْ يَنظُرُونَ إلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ]( ).
ان نسبة المدد إلى الله موضوع لقوة إضافية للمؤمنين وبشارة النصر العظيم، وشاهد على الفضل الإلهي العظيم عليهم بحتمية النصر والغلبة على الكفار، مع العناية واللطف بالمسلمين.
فمن أسرار نسبة المدد إلى الله عز وجل الرأفة والرحمة بالمسلمين فلا يستطيع الملائكة ان يحيطوا المؤمنين بمعشار من الرحمة الإلهية التي تتغشاهم في حال السلم والحرب، نعم نزول الملائكة لنصرتهم فرد من أفراد هذه الرحمة، وعون لهم في مواجهة الكفار في ساحة المعركة، وعز للمسلمين عموماً إلى يوم القيامة، وحجة على الكفار، وينفرد المسلمون في معركة بدر ان النصر جاءهم من عند الله من وجوه:
الأول: نصر الله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل وأثناء المعركة قال تعالى [وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا] ( ).
وفي هذا النصر مسائل:
الأولى: الإخبار بنصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: توكيد نصر الله لنبيه على نحو القطع والجزم.
الثالثة: عدم موضوعية قوة الأعداء وضعف المسلمين في نتيجة المعارك بينهم لأن المدار على النصر الإلهي الذي يأتي للمسلمين.
الرابعة: نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعم من أن ينحصر بسوح المعارك، فهو شامل في ميادين الحياة كلها وهل يشمل الآخرة الجواب نعم، للمنزلة الرفيعة التي ينالها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة والإذن له بالشفاعة.
الخامسة: وصف نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه نصر عزيز، وفيه وجوه:
الأول: النصر التام على أعدائه، إذ ان الله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم.
الثاني: ثبوت وإستقرار النصر، وعدم تزلزله.
الثالث: مجيء النصر بأقل الخسائر والأضرار.
الرابع: ترشح المنافع من النصر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ميادين الحياة المختلفة.
الخامس: من وجوه النصر العزيز نزول الملائكة مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي نزول الملائكة مدداً للمؤمنين وجوه:
الأول: انه مدد ونصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء كان في أيام حياته المباركة أو بعدها.
الثاني: نصر المؤمنين أمر مستقل عن نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: التفصيل في نصر الله للمؤمنين على شعب:
الأولى: إذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المؤمنين فان النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً كما في مضمون هذه الآية [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ] فقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو قائد جيش المسلمين في بدر وأحد، وقيل عدد الغزوات التي شارك فيها هو ستة وعشرون غزاة , والمختار أن النبي محمدا ص لم يغزُ أحدا .
الثانية: إذا كان النصر للمؤمنين أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معهم فيحتمل قسمين:
الأول: انه نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: أنه نصر خاص بالمؤمنين الذين شاركوا في الدفاع .
الثالثة: نصر الله عز وجل للمسلمين بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والصحيح هو الوجه الأول، فكل نصر يحرزه المسلمون في ميادين القتال وغيرها هو نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء كان النبي حاضراً في الميدان أو أنه أرسل السرايا، أو إنتصر المسلمون بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى وإلى يوم القيامة، وهو من أفراد العز التي وصفت بها الآية أعلاه نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس: بقاء منافع وآثار نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متصلة إلى يوم القيامة.
السابع: ترشح العز للمؤمنين والمؤمنات من نصر الله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دليل على تفضيله على الأنبياء الآخرين، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثامن: في نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تثبيت لكلمة التوحيد، ومناسبة لقيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قانون الملائكة في الأرض
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء، وجعلها مزرعة للآخرة، ومناسبة لجني الصالحات، ومن اللطف الإلهي بالإنسان أنه لم يجعله يواجه الإبتلاء والإمتحان في الدنيا بمفرده.
وأنت ترى الإمتحانات التي تجري في الفصول والجامعات والوظائف ونحوها يستعد لها الطالب بالدراسة، وتلقي الدروس من الأساتذة لكي يسهل عليه الإمتحان، ويستطيع معرفة الإتيان بالواجب المناسب على السؤال الإمتحاني، وهذا وان كان قياساً مع الفارق إلا انه مناسبة لمعرفة فضل الله عز وجل على الناس في تيسير إجتياز ضروب الإمتحان والإبتلاء في الدنيا بالفطرة وتجلي الآيات وتوظيف العقل.
ومن الآيات ان الفضل الإلهي في هذا الباب جاء للناس جميعاً على نحو العموم الإستغراقي وبصيغ متعددة وآيات لا تعد ولا تحصى.
والنسبة بين هذه الآيات وسكن الإنسان في الأرض على وجوه:
الأول: الملازمة والتداخل بينهما.
الثاني: تقدم الآيات والتعليم والإرشاد الإلهي للإنسان على سكنه الأرض.
الثالث: تأخر الآيات والحجج الإلهية عن خلق الإنسان وسكنه الأرض.
والصحيح هو الثاني، وتلك آية إعجازية في إكرام الله عز وجل للإنسان وإعانته على التوفيق في الإبتلاءات والسلامة من الآفات في الدنيا، وهذه الآيات على أقسام:
الأول: الآيات السماوية بخلق آدم وحواء في الجنة وسكنهما فيها، وإلتقائهما بالملائكة.
الثاني: الآيات الأرضية في الآفاق وما تدركه الحواس الخمسة الباصرة، السامعة، الشامة، الذائقة، اللامسة، وما تدركه العقول من الكليات والمعاني الجزئية التي لا مادة لها.
الثالث: الآيات السماوية الأرضية، وهي على قسمين:
الأول: الآيات النافعة مثل نزول الملائكة لنصرة المؤمنين في معارك المسلمين الأولى، إذ ان الملائكة يتصورون بهيئات حسنة مختلفة، ومنه نزول الملائكة بالوحي والتنزيل، ومنه المطر النازل من السماء بركة ورزقاً للناس عموماً برهم وفاجرهم ليكون إبتلاء لهم، وموضوعاً للتدبر والهداية والرشاد.
الثاني: آية الإبتلاء بإبليس وجنوده إذ طرده الله عز وجل من الجنة ليكون سبباً للغواية والضلالة.
لقد سجد الملائكة لآدم عليه السلام عند خلقه بأمر من الله عز وجل، ثم ما لبث أن سكن معهم في الجنة يأكل من ثمارها ليرى الملائكة أمراً غير مسبوق في الجنة وهو وجود زوجين آدم وحواء ليكون إخباراً متقدماً عن دخول المؤمنين الجنة مع أزواجهم ليزيد الله عز وجل عليهم من فضله ما يشاء من الحور العين.
ولكن سكن آدم في الجنة لم يدم طويلاً وذكر أنه بقي فيها ست ساعات والأرجح أنها من ساعات الدنيا، ليهبط إلى دار الإبتلاء في الأرض مسلحاً برؤية الملائكة والآيات الباهرات في الجنة، وتكون آيات الآفاق عوناً له وسبباً لثباته وذريته في مسالك الإيمان، والحرص على أداء الوظائف العبادية طاعة لله عز وجل، وشوقاً إلى الجنة.
وفي الفلسفة ان العلم يوجد الشوق، فعلم آدم وحواء بالجنة وما فيها من النعيم يولد الشوق لها والسعي للعودة اليها، وقد أخبرا أولادهما وأحفادهما بصفات الجنة وجاءت الكتب السماوية تترى وكلها تبين ما في الجنة من النعيم وتؤكد إمكان وصول الإنسان اليها والإقامة الدائمة فيها، وذكرت سكان السماوات وانهم الملائكة الذين يتصفون بصفات خارقة يعجز الإنسان عنها، ومن خواصها انها تنزل من السماء بالوحي بأمانة إلى المقصود المعين الذي لابد وان يكون نبياً، والقيام بتبليغه تبليغ مضامين التنزيل من غير تغيير أو زيادة أو نقص، وبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً، وأرسل اليه جبرئيل بالوحي وآيات القرآن نجوماً.
وتتضمن البشارات والإنذارات، والوعد والوعيد، فصدع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر يدعو الناس للإسلام، وتحمل وأهل البيت والمسلمون الأوائل المشاق والأذى الشديد من الكفار ومشركي قريش، وهاجر إلى الطائف ثم إلى يثرب ليجد الأوس والخزرج ناصرين له، في آية لم ير الزمان وتأريخ النبوة مثلها.
وهو دليل على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين، ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، من وجوه:
الأول: هجرة الذين آمنوا في مكة إلى المدينة المنورة.
الثاني: نصرة الأوس والخزرج للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: تجلي أبهى معاني الأخوة بين المهاجرين والأنصار.
وأخذ المهاجرون والأنصار يتلون آيات القرآن ومنها التي تتضمن بيان أحوال الملائكة وبديع خلقهم، وحسن طاعتهم لله، وإمتثالهم التام لأوامره، وكيف أنهم لايعصون الله فيما يأمرهم به، ومن منافع الطاعة المطلقة في المقام العصمة من الإفتتان بالملائكة وعبادتها قال تعالى[وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا]( ).
وأخبرت الآيات بأن الملائكة بعرض واحد مع الأنبياء والناس في العبودية لله عز وجل، وفيه تشريف لهم، فمن فضل الله عز وجل على الإنس والجن والملائكة أن يكونوا عبيداً لله عز وجل قال تعالى [لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ]( ).
وجاءت معركة بدر لتتجلى فيها معان ومصاديق من الإتحاد والتسابه في العبودية لله عز وجل، والأخوة في طاعة الله عز وجل، ليكون يوم بدر وأحد من أحسن مصاديق عبودية الإنسان لله عز وجل إذ إفتدى المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنفسهم، وبرزوا للحتوف من أجل تثبيت الإسلام.
لقد رضي الكفار منهم أن يخلّوا بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورضوا من الأنصار أن يسلموهم المهاجرين من قريش، ولكن المهاجرين والأنصار واجهوا الجيوش العظيمة القادمة من أم القرى وما حولها بجنان ثابت، وإيمان صادق وطاعة لله عز وجل، فكانت هذه الطاعة مرآة لفعل الملائكة.
فنزلت الملائكة لتثبيت المؤمنين في منازل الإيمان، ولجذب الناس إلى الإسلام، فمن لم يؤمن بآيات القرآن بإعجازها الذاتي والعرضي، فقد جاءت آية نزول الملائكة وتحقيقها النصر للمسلمين على الكفار لتكون درساً وحجة وموعظة دائمة.
لقد أخبرت الآية عن بعث الله عز وجل للملائكة مدداً للمسلمين ويحتمل وجوهاً:
الأول: نصرة الملائكة وهم في السماء، ليكونوا مدداً سماوياً من غير هبوط إلى الأرض.
الثاني: قيام الملائكة بإعانة المسلمين من خارج ميدان المعركة، لأن الملائكة لهم قدرات خارقة.
الثالث: هبوط الملائكة ودخولهم أرض المعركة ومشاركتهم فيها.
والصحيح هو الثالث، ووردت فيه أخبار مستفيضة تدل على حضور الملائكة للمعركة وقيامهم بإعانة المؤمنين والبطش بالكافرين، ولم تخبر الآية عن هبوط الملائكة من السماء أو عروجهم إليها بعد إنتهاء المعركة ولكنه يستقرأ من الآيات الأخرى، والقواعد الكلية في الإرادة التكوينية، وأن مسكن الملائكة هو السماء، وفيه إكرام إضافي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بان المدد لم يأتهم من مكان قريب بل جاءهم من السماء ويعجز الكفار عن تلقي المدد من إخوانهم في الغي والضلالة وان كانوا قريبين منهم.
قانون المعجزة التوليدية
لقد أنعم الله عز وجل على الأنبياء بالمعجزات وجعلها سلاحاً لهم في دعوتهم إلى الله عز وجل، وإعلانهم للناس انهم ينبئون ويخبرون عنه سبحانه بالوحي والتنزيل، والوحي ذاته معجزة، إلا أنه معجزة خفية تأتي معجزة ظاهرية لتصديقه، وهي على قسمين:
الأول: المعجزة الحسية: وهي التي تدرك بالحواس الخمسة، مثل سفينة نوح، وناقة صالح، وعصا موسى، وإحياء عيسى للموتى وإبرائه للأعمى والأبرص.
الثاني: المعجزة العقلية وهي التي يدركها العقل، وتعيها البصيرة، وتتجلى بالقرآن ككتاب نازل من عند الله عز وجل يتصمن تبيان كل شئ، إلى جانب ما رزق الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المعجزات الحسية كإنشقاق القمر ونزول الملائكة في معارك الإسلام الأولى.
ويمكن تقسيم المعجزة تقسيماً إستقرائياً:
الأول: المعجزة الشخصية التي لاتترشح عنها معجزة كإبراء الأبرص.
الثاني: المعجزة التوليدية التي تترشح عنها معجزات أخرى، وهذا المترشح من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
وقد لايكون هذا التقسيم تاماً بالدقة العقلية، لأن كل معجزة تترشح عنها منافع وآثار متصلة دائمة، وجاء القرآن لحفظ وتوثيق معجزات الأنبياء فمعجزة عصا موسى معجزة توليدية تتجدد في كل مرة يضرب بها موسى عليه السلام الحجر فينفجر منها الماء اثنتي عشرة عيناً، وكذا نعمة نزول المن والسلوى ففي كلي يوم ينزلان على بني إسرائيل في آية ومعجزة متجددة لإدامة حياتهم في النية، وتثبيت أقدامهم في منازل الإيمان.
أما نعمة نزول الملائكة فهي توليدية من جهتين:
الأولى: تكرر معجزة نزول الملائكة في معارك الإسلام الأولى، وكل نزول للملائكة معجزة مستقلة، بل نزول كل ملك وحده معجزة، وجاءت هذه الآية بالإخبار عن نزول ثلاثة آلاف ملك وهي معجزة تتولد منها معجزات من وجوه:
الأول: نزول كل ملك معجزة أي أن الآية تتضمن ثلاثة آلاف معجزة.
الثاني: كل فعل من أفعال أي ملك من الملائكة يوم بدر وأحد معجزة مستقلة بذاتها، ليكون عدد المعجزات يومها أكثر من أن يحصى.
الثالث: آثار فعل الملك يوم بدر، ومنافعه اللاحقة، وهذه المنافع على أقسام منها:
الأول: تثبيت أقدام المسلمين في مسالك الإيمان.
الثاني: دعوة الناس لدخول الإسلام.
الثالث: زجر الكفار عن التعدي على الإسلام وحرمات المسلمين.
الرابع: وقوع الخسائر الكبيرة في معسكر الكفار.
الخامس: المنع من حصول النصر والظفر للكفار.
السادس: رؤية المسلمين والكفار للآيات الحسية العظيمة في ساحة المعركة.
السابع: دخول فريق من الناس إلى الإسلام بعد رؤية تلك الآيات، سواء من الذين حاربوا المسلمين أو من غيرهم.
الثامن: توجه المسلمين بالدعاء إلى الله عز وجل بالدعاء، رجاء نزول الملائكة في كل كتيبة ومعركة لهم ضد الكفر والضلالة.
التاسع: إمتلاء قلوب الكفار بالفزع والخوف والرعب من جيوش المسلمين.
العاشر: نزول هذه الآية توثيق لحضور ومشاركة الملائكة في معركة بدر.
الحادي عشر: تلاوة المسلمين لهذه الآية، وبقاؤها غضة طرية إلى يوم القيامة، وهو معجزة توليدية لنزول الملائكة وللآية القرآنية، فكل آية من القرآن هي معجزة توليدية في منطوقها ومفهومها ودلالتها.
ومن إعجازها المتجدد أنها حجة لمن يؤمن بها، وضياء ينير له دروب الهداية والرشاد، وموضوع للعلم والتفقه في الدين، وحكم وفصل خطاب، وحجة على الكافر والمشرك، فهي لا تقف عند حدود الإيمان والجحود بها، فالمؤمن يزداد بها إيماناً في كل مرة يتلوها ويقوم بتأويلها، أما الكافر فان الآية القرآنية تهاجمه في كل مرة، ولا يمنع إعراضه وصدوده عنها من عودتها إليه مرة أخرى بلغة الإنذار والوعيد، والترهيب والترغيب، والجذب إلى الإيمان بتلمس الإعجاز المتعدد الذي يتولد ويتفرع عنها.
والمعجزة العقلية أرقى مرتبة من المعجزة الحسية، وتتجلى هذه القاعدة بالآية القرآنية كمعجزة عقلية، لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا محلاً لرحمته بالعباد مطلقاً ومقدمة للنعيم الآخروي للمؤمنين، ومن مصاديق الرحمة المعجزة التي تأتي على أيدي الأنبياء لتكون سبيل هدى، وطريق رشاد وحجة على الناس بوجود الصانع ووجوب عبادته.
ومن المعجزات التوليدية بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذاتها من وجوه:
الأول: جريان المعجزات على يديه، ويمكن تقسيم المعجزات بلحاظ معنى التوليد إلى قسمين:
الأول: المعجزة بالأصل.
الثاني: المعجزة بالإلحاق.
الثاني: لقد كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة إلهية بالناس جميعاً قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، ومن وجوه الرحمة في المقام قيام المسلمين بالجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة الناس للإسلام.
فالرحمة الإلهية ببعثته صلى الله عليه وآله وسلم أعم من أن تنحصر بذات البعثة بل تشمل سعي المسلمين في إقامة شعائر الله، وتعاهد أحكام الحلال والحرام، وإنقاذ الناس من الضلالة.
وقد بينا في تفسير قوله تعالى [أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ]( )، أن ألف الإستفهام الذي إبتدأت به الآية أعلاه ليس للإنكار كما في الصناعة النحوية، بل هو أعم ويتضمن الثناء على المسلمين في رجائهم إيمان الناس جميعاً مما يستلزم إتساع لغة النحو لإستيعاب المعاني المتعددة للفظ القرآني ليكون سعي المسلمين في جذب الناس للإسلام فرعاً من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو شاهد على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] لكون عملهم من عمومات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً.
ومن رحمته تعالى عدم إنحصار منافع المعجزة بزمانها وأوانها ومحلها بل تتعدى منافعها موضوعها لتكون باقية إلى يوم القيامة فالناس في المعجزة شرع سواء، وكلهم ينتفعون منها وان كان هذا الإنتفاع على نحو الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً فان قلت إن المعجزة الحسية قضية في واقعة ومرهونة بساعة وقوعها، والجواب لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالقرآن ليكون حافظاً لمعجزات الأنبياء ووثيقة سماوية تجعل تلك المعجزات غضة طرية في كل زمان وحاضرة في الوجود الذهني وعالم التصور عند المؤمنين والناس جميعاً، ومنها معجزة نزول الملائكة يوم بدر.
فقد جاءوا لنصر المؤمنين في معركة بدر، وتثبيت دعائم الدين إلى يوم القيامة، لأن وظيفة الملائكة تتناسب مع عظيم منزلتهم عند الله، وشأنهم بين الخلائق، فهم لم ينزلوا لينتصر المسلمون في معركة ويخسروا في معاركهم الأخرى، بل نزلوا في معارك الإسلام الأولى لبناء دولة الإسلام، ولتقوية قلوب المسلمين، وبعث الفزع والخوف في قلوب الكافرين، وجعل نصر المسلمين قانوناً مستديماً.
نعم أصبح المسلمون يتطلعون في كل معركة لهم في مواجهة الكفار إلى نصر الله لهم سوء بالملائكة أو بغيرها لذا وردت الآية السابقة بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] أي أن النصر من عند الله عز وجل، وأن هبوط الملائكة عوناً ومدداً رحمة من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالمؤمنين، وباب من العلم تنفتح منه أبواب كثيرة، كل باب مدرسة في الصبر والجهاد، ودرس للإرتقاء في المعارف الإلهية ومما يترشح عن معجزة نزول الملائكة لنصرة المسلمين، إنتفاء الفزع والخوف في قلوبهم من الكفار.
لقد جاءت آيات القرآن بالإخبار بأن الله له ملك السماوات والأرض، وجاء نزول الملائكة بأمر الله لنصرة المؤمنين شاهداً بأن الله عز وجل يفعل ما يشاء في ملكه، وبما فيه المصلحة ونفع الخلائق عامة، ومما يتولد عن معجزة نزول الملائكة وقوع المصداق العملي لرد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
حينما إحتجوا على جعل خليفة في الأرض، فمن الإعجاز السماوي والأرضي أن ينزل الملائكة ويقاتلوا بأنفسهم لتثبيت خلافة المؤمنين في الأرض، ومنع الفساد في الأرض، والحيلولة دون سفك الدماء بغير الحق، فقد جاءت جيوش قريش للفتك بالمؤمنين فأمر الله عز وجل الملائكة ليكونوا برزخاً دونهم ويصونوا المؤمنين والإيمان إلى يوم القيامة، ويدفعوا عن النبي وعنهم الخسارة والقتل في الدنيا ليلاقوهم عند الوفاة في الآخرة بالبشارات العظيمة.
ومن أسماء الله تعالى الحكيم وهو الذي يقوم بتدبير شؤون الخلق بأحسن تدبير وبما تعجز الخلائق عن تصوره، وجاء إتصال ترشح المنافع عن المعجزة آية من بديع حكمة الله عز وجل، ومادة لهداية الناس، وحجة متجددة عليهم إلى يوم القيامة.
قانون تثبيت المعجزة بمثلها
لقد جعل الله عز وجل المعجزة أمارة تدل على وجوده سبحانه وأنه قادر على كل شيء، والمعجزة سلاح وحجة لنصرة أنبيائه وتثبيت نبوتهم، والتخفيف عن الناس بجعلها مادة للتصديق بهم.
لقد جعل الله عز وجل الأنبياء سادة البشر، ورزقهم المقامات العظيمة بين أهل السماوات والأرض، فأراد سبحانه أن يجعل عندهم أعظم سلاح عرفته الأرض قديماً وحديثاً، وهو سلاح المعجزة، فليس من سلاح أقوى منه لجذب القلوب، ودعوة الناس للإيمان، وكف أذاهم وشرهم، فان قلت من الأنبياء من قتله قومه مع وجود المعجزة عنده، فالجواب لقد أراد الله عز وجل أن يكون قتله حجة إضافية عليهم، ومعجزة أخرى تدل على تمادي وجور الكفار، وشاهداً على حاجة الناس جميعاً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإختتام النبوة به، ليكون شخصه الكريم ونبوته في حرز وواقية.
لقد آتى الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة القرآن، وهي أعظم معجزة من بين معجزات الأنبياء، ولم ينل غيره من الأنبياء مثلها، فآمن به المهاجرون والأنصار، وكانت معجزات الأنبياء حسية، يراها الناس فمنهم من يؤمن ومنهم من يجحد ويصر على الكفر، وكل واحد منهما ينقل رأيه إلى غيره وقد يحصل التحريف فينتج عنه أمران متباينان أحدهما الغلو والآخر الكفر والإنكار، فجاءت معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية، وتنقل إلى الناس كما هي آيات قرآنية نازلة من السماء تتضمن تبيان كل شيء، بلغة وبلاغة لم يعهدها العرب مع أنهم أساطين الفصاحة والبلاغة، فأخذ الناس يدخلون في الإسلام أفراداً وجماعات.
وأصبح الناس يتناقلون آيات القرآن، وتجري على ألسنة الكفار والمشركين أيضاً يذكرونها بلغة الإعراض عنها، فتنفذ إلى قلوب السامعين وتمتلأ نفوسهم خشية من الله عز وجل، ويدركون ان هذا الكلام ليس من كلام البشر ويتشوقون لرؤية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويختارون الإسلام قبل أن يلتقوا به، مما جعل قريشاً تخاف الإسلام، وتخشى على شأنها وجاهها.
فلم يعد الإسلام ينحصر على القرشيين الذين صدقوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل صار يضم الأنصار وجماعات كثيرة من القبائل، وكلهم مرشحون للزعامة والإمامة وخلافة قريش في شأنها بين القبائل، وقادة يريدون هدم سلطان قريش الملازم لوجود الأصنام في الكعبة، فكأن وجودها في البيت رمز لسطوة كفار قريش، فلم تعد قريش تطيق الأمر فزحفت على المدينة للقضاء على الإسلام والمسلمين.
ودفاعاً عن سلطانها وما يرمز اليه وجود الأصنام في الكعبة من الشأن لها بين القبائل والدول، ويبين زحف قريش ما عندها من الدهاء والفطنة التي جعلتها في الباطل، إذ أدركت أفل نجمها، وإنقطاع سلطانها بالإسلام فأرادت ان تبادر إلى القضاء على الإسلام قبل تغشي مبادئه للجزيرة، وما حولهما.
فجاءت قريش بجيش هو ثلاثة أضعاف المسلمين، وبعدة وآلات تفوق كثيراً عدة المسلمين لكسب المعركة وتحقيق النصر الحاسم وإستباحة المدينة، وجعل الناس يشمتون بالمسلمين.
لقد أرادوا ان يقتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كما قتل عدد من الأنبياء من قبل، فألتقى الجمعان في معركة بدر، وإحتاج المسلمون إلى معجزة تعضد معجزة القرآن، وآية تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ ان تلاوة الآيات على كفار قريش يوم بدر لا تزيدهم إلا عتواً وغروراً وان كانت تلك التلاوة تزيد المؤمنين إيماناً، وتكون حجة على الكفار في النشأتين، إذ أنه لا تعطيل لأثر معجزة القرآن في كل الأحوال، فلابد من وجود إذن صاغية للآيات القرآنية عند تلاوتها، ولكن الكفار أصموا آذانهم، وشهروا سيوفهم وأصروا على القتال، فجاءت معجزة نصرة الملائكة للمسلمين لتثبيت معجزة القرآن من وجوه:
الأول: سلامة المسلمين من الهزيمة مناسبة لإستمرار تلاوة آيات القرآن.
الثاني: نصر المسلمين في معركة بدر وسيلة مباركة لإقامة الصلاة وقراءة القرآن فيها.
الثالث: لقد جاءت آيات القرآن بالإخبار عن نصر الله للمؤمنين، ووقايتهم من شر الكافرين، فجاء نزول الملائكة مصداقاً لهذا الأخبار، وشاهداً عملياً عليه.
الرابع: من فضل الله عز وجل على المؤمنين أن تأتي المعجزة الحسية لتعضيد وتصديق المعجزة العقلية ولتكون حجة إضافية على الكفار، فمن أصر على الجحود بالقرآن، وصدق بتحريف صفات النبي، ودعوى انه سحر، جاء نزول الملائكة معجزة حسية قاهرة للإخبار بالشواهد السماوية على نزول القرآن من عند الله عز وجل.
وكان عدد من معجزات الأنبياء الحسية شخصية تكون دعوة للناس للإيمان، وحجة لإتباع الأنبياء بين أهليهم، أما معجزة نزول الملائكة فقد كانت فيصلاً بين الإيمان والكفر، وقهراً للكفار، وكاشفاً للحقائق، وسبباً لإزاحة ما أراده الكفار والفاسقون من اللبس على الناس ومنعهم من دخول الإسلام.
ولم يكف الكفار عن قتال المسلمين برؤية الملائكة حاضرين في المعركة، فقام الملائكة بالقتال ونصرة المؤمنين راياتهم والزحف بها وسط جيش الأعداء، لأن الجيش إذا رأى راية العدو تدخل في قلبه ووسطه يصاب بالفزع ويبادر إلى الهروب، ليكون من مصاديق نصرة الملائكة للمسلمين يوم بدر، ومن وجوه بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، وتقوية قلوب المسلمين، لأن المسلمين حين رؤا راياتهم تقتحم جيش العدو وتبقى وسطه مرفوعة يقاتل دونها الملائكة والمؤمنون فانهم يزدادون إيماناً، ويندفعون في القتال، ويثقون بالنصر والظفر على الأعداء.
لقد بادر الصحابة الأوائل إلى التصديق بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فزحف عليهم الكفار لقتلهم، فجاءت معجزة نزول الملائكة مدداً للمسلمين لتثبيت معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمنع من إنكارها والإستهزاء بها وتعريضها للنسيان، وتلك آية من بديع صنع الله عز وجل بأن تأتي معجزة لتثبيت معجزة أخرى، وتدعو اليها، وهذا ليس من الدور، إذ ان كل معجزة حجة قائمة بذاتها تدل على وجود الصانع، وتدعو لعبادته وتؤكد صدق بعثة النبي من عند الله عز وجل.
ولكن المعجزة الأخرى تعضيد للأولى وتثبيت لها والا فان الصحابة من المهاجرين والأنصار آمنوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخرجوا لقتال قريش دفاعاً عن النبي وعن الإسلام قبل أن ينزل الملائكة لنصرتهم، وكانوا عازمين على ملاقاة الحتوف، ويملأهم الشوق للقاء الله والفوز بالشهادة، فأراد الله عز وجل لهم خير الدنيا والآخرة فرزقهم الله معجزة المدد الملكوتي.
وصحيح ان معجزة نزول الملائكة خاصة بالمؤمنين في معركة بدر، إلا أنها رسالة سماوية للمسلمين والناس جميعاً في كل زمان تؤكد صدق نزول آيات القرآن من عند الله عز وجل لتكون معجزة نزول الملائكة في طول معجزة القرآن وعضداً لها، أي ان الملائكة لم ينزلوا لنصرة المؤمنين في بدر فقط، بل نزلوا لتثبيت دعائم الإسلام، وتصديق نزول القرآن من عند الله، ومنع المسلمين من الفشل وترتب الأثر النفسي عندهم لضعفهم وقلة عدتهم.
فإذ جاءت الآية السابقة بالإخبار عن هم فريق المؤمنين بالضعف والعجز، بقوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ] ( )جاء نزول الملائكة آية ومعجزة لمنع حصول الفشل عند المسلمين، في ذات المعركة التي هموا فيها بالفشل وهي معركة بدر، وفيما بعدها من المعارك.
وتلك من المصاديق التي تؤكد ان نزول الملائكة لنصرة المسلمين معجزة توليدية، ترشح عنها ثبات المسلمين في سوح المعارك، وعدم تركهم لمواقعهم مع كثرة وقوة العدو، لا لأنهم ينتظرون الملائكة لنصرتهم، وان كان هذا الإنتظار حسنة لأنه من معاني الإيمان بل أنهم يجاهدون في سبيل الله ويدافعون عن بيضة الإسلام ببسالة، ولا يخشون الكفار وقوتهم وطغيانهم، لأن المعجزات تترى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وتدعوهم متفرقة ومجتمعة للصبر والتقوى والدفاع عن الإسلام.
قوله تعالى [بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]
يكفي المسلمين أن يقول لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ] بصيغة الإطلاق والتنكير، وعدم التقييد بوصف مخصوص للمدد وهل هو من الملائكة أم الإنس أم من الجن أم من الريح والماء والمكونات الأرضية، لأن المدد الإلهي رحمة عظيمة على المسلمين وفضل يفوزون به، ومائز يجعل ترجيح كفة الغلبة لصالحهم في المعركة وفي الميادين المختلفة، ولكن الآية جاءت بأمور:
الأول: ذكر المدد الإلهي على نحو التعيين.
الثاني: إتصاف المدد الإلهي بأنه سماوي متعدد في أشخاصه.
الثالث: بيان ماهية وجنس المدد الإلهي، وأنه من ملائكة السماء.
الرابع: ذكر عدد الملائكة الذين نزلوا لنصرة المؤمنين في معركة بدر.
الخامس: كثرة عدد الملائكة.
السادس: الإخبار عن وظيفة الملائكة وأنهم مدد للمسلمين، مما يدل بالدلالة التضمنية على ان الملائكة كانوا يعلمون وظيفتهم وموضوع نزولهم إلى الأرض، وعدم حصر هذا الموضوع بنصرة محدودة أو مقيدة بشرط، فلا تكون نصرة الملائكة مشروطة بزحف المؤمنين على معسكر الأعداء، أو صبرهم في ميدان المعركة إلى أجل معين.
بل جاءت الآية بالإخبار عن مجيء المدد والنصرة السماوية من غير تقييد بشرط مخصوص، وتلك آية في الفضل الإلهي على الصحابة، ودعوة لهم لتثبيت أقدامهم في منازل الإيمان.
لذا جاءت الآية التالية بالحث على الصبر والتقوى، ان ذكر الملائكة بلحاظ العدد وحده وانهم ثلاثة آلاف يدل على إلتقائهم بصفات مخصوصة تكون خارقة في موضوع النصرة والإعانة، كتمثلهم بهيئات مختلفة ذات صلاح وحسن ذاتي، وكان عدد المشركين في معركة بدر نحو ألف، ووجود ثلاثة آلاف في معسكر المسلمين يبعث الخوف في قلوبهم، ويجعلهم يرون المسلمين كثر وجماً غفيراً ولا ينحصر تعدد هيئة الملك بالخلقة بل يشمل اللباس والسلاح والراحلة مما يجعل الكفار في فزع وإرتباك.
لقد جاءت الآية بأمور:
الأول: مجيء المدد والعون من عند الله عز وجل، وفيه مسائل:
الأولى: انه شهادة سماوية بان المسلمين على الحق والهدى، وان إختيار الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم طريق للفوز، وتلقي العون من عند الله عز وجل.
الثانية: ان رحمة الله عز وجل قريبة من المؤمنين.
الثالثة: لا يحجب الله عز وجل فضله عن المؤمنين، وهو ناصرهم في ساعة الشدة والضيق والحرج.
الرابعة: زجر الكفار عن التعدي على المؤمنين، ومحاولة إستباحة مدنهم وثغورهم.
الخامسة: رؤية الناس لمعجزة حسية تلح عليهم بلزوم الإيمان، والإقلاع عن الشرك والضلالة.
الثاني: توكيد وقوع القتال بين المسلمين والمشركين، وتوثيق معركة بدر وأحد، لأن هذه الآية دليل على وقوعهما، ويدخلان في تفسيرها وتأويلها.
الثالث: بعث الرضا في نفوس المؤمنين من جهة كثرة عدد الملائكة، فهم يرون جبرئيل ينزل بصورة دحية الكلبي، وقد يفسرون نزول الملائكة على هيئة البشر على نحو الحصر.
فجاءت الآية بلحاظ هذا التصور لكي لايشك المؤمنون بالنصر والغلبة فلو لم يكن نزول الملائكة إلا لكثرة السواد فانه يكفي في نصر المسلمين خصوصاً مع قانون في المقام وهو أن الملائكة لايفرون من ميدان المعركة ولا ينهزمون من الكفار، بل إنهم ينقمون من الكفر وأهله، وتجلت هذه النقمة بما ورد حكاية على لسانهم في التنزيل عند خلق آدم عليه السلام [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
الرابع: الإشارة إلى كثرة عدد ملائكة الله عز وجل، لأن الآية جاءت بحرف التبعيض (من) والذي يفيد أيضاً التبيين وتعيين الموضوع،ودفع الوهم، فيظهر الملائكة للمؤمنين بهيئة البشر، وقد يختلف المسلمون فيما بينهم في ماهيتهم.
فلو وقفت الآية عند ذكر العدد وهو ثلاثة آلاف من غير تعيين لجنسه، لتعددت الأقوال في جنسهم، وكل قول نسب إلى أحد الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين مع النقاش في كل قول، وذكر أسباب الترجيح والتعارض بين الأقوال.
فجاءت الآية بالتخفيف عن المسلمين وعلمائهم بذكر المدد والإخبار عن كونه أشرف وأحسن وأقوى مدد تتلقاه أمة من الموحدين في تأريخ الإنسانية وهو شاهد على إكرام الله عز وجل للمسلمين، ومصداق لكونهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
وقد يستبعد بعضهم نزول الملائكة مدداً لأنهم من أهل السماء، وهم منقطعون إلى الذكر والتسبيح ، وإحتجوا على جعل خليفة في الأرض.
ونزول بعض الملائكة بالوحي فيه دليل قرآني خاص فجاءت هذه الآية لوجوه:
الأول: منع الإستبعاد أعلاه، ودفع وهم بأن المدد من غير جنس الملائكة.
الثاني: الإخبار عن ماهية المعجزة التي شرّف الله عز وجل بها المسلمين.
الثالث: بيان عظيم قدرة الله عز وجل في تسخير الملائكة لنصرة المسلمين.
الرابع: نزول أهل السماء لنصرة المؤمنين من أهل الأرض، فأهل السماء كلهم مؤمنون، أما أهل الأرض فهم على ضروب متعددة منهم المؤمن ومنهم الكافر والمنافق والمستضعف، والفاسق، فجاء نزول الملائكة لنصرة بني آدم الذين يلتقون معهم في الإيمان لإعانتهم في قتال القوم الكافرين.
الخامس: لم يبعث الله عز وجل مدداً للمسلمين من الجن، وقد ورد في آية أنهم من جنود سليمان قال تعالى [وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ]( ).
وذكرت الآية حشر وإحضار جنود سليمان له أما الآية محل البحث فقد ذكرت نزول الملائكة لأداء وظيفة وعمل مخصوص وهو نصرة المسلمين من غير أن يكونوا جنوداً لهم، قال تعالى [وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
(روى ان معسكر سليمان كان مائة فرسخ : خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة، وسبعمائة سرية . فيأمر الريح العاصف فترفعه، ويأمر الرخاء فتسير به، فأوحى الله تعالى إليه، وهو يسير بين السماء والأرض : إني قد زدت في ملكك، أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشئ إلا جاءت به الريح فأخبرتك.
وقال مقاتل: نسجت الشياطين لسليمان بساطا فرسخا في فرسخ، ذهبا في إبريسم، وكان يوضع فيه منبر من الذهب، في وسط البساط، فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع الريح الصبا البساط مسيرة( ).
ونزل الملائكة لنصرة المؤمنين وهم أذلة ولم يشكوا الضعف وقلة العدد والمؤن، وعدم الشكوى هذا شاهد على حسن توكلهم على الله عز وجل، وإستغاذتهم به رجاء النصر والظفر بالأعداء، فأنعم الله عليهم بكثرة في العدد والعدة، وهذه الكثرة سماوية تتصف بخصائص إعجازية تعجز أوهام البشر عن تصورها ومعرفة كنهها، ولكن الناس جميعاً يتفقون على قدرتها على تحقيق النصر فيةالمعركة.
وإذ كان منطوق الآية خطاباً للمؤمنين بمجئ المدد لهم من الله عز وجل فما هو مفهومها بالنسبة لكفار قريش، الجواب هو أن الله عز وجل بعث لقتالهم ثلاثة آلاف من الملائكة وكأنهم يقولون لهم: كفوا عن قتال المسلمين وتوبوا إلى الله توبة نصوحاً، بادروا إلى دخول الإسلام كي تنقذوا أنفسكم من النار، فمن تحاربه الملائكة يكون مصيره إلى النار، إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً، وتلك آية أخرى.
فالملائكة تنصر المؤمنين لتكون شهوداً يوم القيامة على جهادهم وصبرهم وثباتهم في ميادين المعركة، وتستقبل يوم القيامة المؤمنين بالإكرام للصلة والود وإتحاد الوظيفة بينهم وبين الملائكة يوم بدر وأحد، أما الكفار الذين زحفوا إلى المدينة لقتال المسلمين فان الملائكة تسوقهم إلى النار عقوبة وجزاء.
أن نزول الملائكة لنصرة المسلمين بدآية لصلة كريمة معهم، وتتغشى هذه الصلة أيام الحياة الدنيا وتشمل الحياة الآخرة، وتشمل الحياة الآخرة، وتلك آية في الفضل الإلهي على المؤمنين الذين تلقوا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق، وحملوا السلاح لنصرته ويمكن معرفة عظمة وإخلاص عمل المؤمنين الأوائل وما لهم من الشأن العظيم في تأريخ الإنسانية من خلال مقارنة زحف قريش وهم عشيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة لقتله والمسلمين مع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لم يقتلوا منهم أحداً ولم يسلبوا تجارتهم ولم يزاحموهم السلطان في مكة بل إعتزلوهم وخرجوا إلى مدينة يثرب التي تبعد نحو أربعمائة وخمسين كيلو متراً عن مكة المكرمة التي هي أشرف بقعة في الأرض، وقد سألهم النبي في بدآية معركة بدر أن يخلوا بينه وبين العرب، ويتركوه وشأنه، ولكنهم أبوا إلا القتال، وأول ماسألوه في ميدان المعركة هو بروز أكفائهم من قريش مما يدل على إرادتهم الإنتقام أولاً من الذين تركوا مكة وقريشاً إتباعاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديقاً بنبوته.
ويحتمل المدد بالملائكة وجوهاً:
الأول: أنه خاص بيوم بدر وساحة المعركة.
الثاني: مصاحبة المدد والملائكة للبدريين في حياتهم كلها بالأمن والسلامة من المشركين.
الثالث: بقاء مدد الملائكة في الأرض لنصرة المسلمين في معاركهم ضد الكفار والمشركين.
والصحيح هو الأول من وجوه:
الأول: قيد الظرفية بحرف الجر الباء “ببدر”.
الثاني: قيام المسلمين بإستغاثة الله وسؤاله النصرة يوم بدر قال سبحانه [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
الثالث: بيان نتيجة وأثر المدد الملكوتي، وهو حصول النصر للمسلمين يوم بدر بمعجزة قرآنية بينة.
الرابع: ورود الأخبار بحضور الملائكة في معركة بدر، وتطلع المسلمين إلى نزولها ونصرتها لهم في معاركهم اللاحقة.
لقد جعل الله عز وجل الأنبياء سادة الأمم، وخصهم بمعجزة وهي نزول الملائكة عليهم بالوحي والتنزيل، ومن الأنبياء من يرى الملائكة أثناء نزولهم وهو الرسول، ومنهم من لم يره وهو النبي على ما ذكر من خصائص الرسل من بين الأنبياء وينزل الملك بشخصه منفرداً لتبليغ الوحي وهذا النزول أمر عظيم وخارق لنواميس الأرض، ومدرسة سماوية بين الناس لهدايتهم لسبل الإيمان، ولدعوتهم لإكرام الأنبياء وتصديقهم وإتباعهم.
وقد جاءت آيات القرآن بذم فريق من الناس آذوا الأنبياء وقتلوا شطراً منهم قال تعالى [أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ]( ).
فجاءت هذه الآية لتبين إرادة قريش قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بزحفهم بجيوش عظيمة على المدينة المنورة، ودخولهم القتال، وعدم رضاهم بما عرضه عليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من التخلية بينه وبين العرب، فهم لم يكتفوا بتكذيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل جاءوا لقتله وقتل من آمن بنبوته وصدق به، ولا دليل على وقوف قريش بحدود المعركة لو قدرت على تحقيق النصر فقد تزحف إلى المدينة لإستباحتها.
فغضب الله عز وجل لرسوله وللمؤمنين وأنزل الملائكة مدداً، فبعد ان كان جبرئيل يأتي بالوحي ويلقي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن وينصت المسلمون إلى آيات القرآن بإيمان وقبول، وبعد أن أفلح المسلمون بإختيار الإيمان وإجتناب الكفر، أصبحوا يوم بدر وعلى نحو قهري بين مفترق طريقين، فأما الحياة والنصر.
وأما الموت ونيل الشهادة وخسارة المعركة، وحينما رأى الله عز وجل صدق إيمانهم، تفضل وأنزل آلافاً من الملائكة ليس للوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل إلى القتال إلى جانب المسلمين وبين أيديهم.
وجاءت هذه الآية لتكون عيداً للمسلمين، ومناسبة لإكرام الذين أكرمهم الله عز وجل بنزول الملائكة لنصرتهم بنص آيات القرآن والسنة والوقائع التأريخية، فمن إعجاز القرآن أن تأتي أخبار معركة بدر لتبين المنافع العظيمة لنزول الملائكة.
ومن فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والمسلمين عموماً عدم تأخر نزول الملائكة عن بدآية المعركة، فقد يأتي المدد من الناس والملوك وينتظر سير المعركة حتى إذا قارب الفريق المراد إعانته الهزيمة، وشعر بالضعف دخل المدد لنصرته، لبيان الفضل والمنّ عليه وليكون العدو حينئذ في حال من الإنهاك والجهد.
ومن فضل الله نزول الملائكة في أول المعركة وهو من خصائص المدد الإلهي ومجيئه بالأوفى والأتم، فمن تمامه وجوه:
الأول: حضور المدد الإلهي عند وقوع المعركة، ومع البعد المكاني بين السماء والأرض فليس من زمان يستغرقه نزول الملائكة لعظيم قدرة الله.
وقدرته على صيرورة الملائكة في الأرض من غير واسطة أو زمان لإنتقالهم، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) فمن ملكه سبحانه ان يتفضل بنقل الملائكة من السماء إلى الأرض من غير ظرف زماني لهذا النقل والإنتقال.
الثاني: كثرة عدد الملائكة الذين نزلوا مدداً للمسلمين.
الثالث: مجيء البشارة بنزول الملائكة على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه برهان على صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد خرج مدعون للنبوة، وعدوا قومهم بالنصر والغلبة وأخبار الخصب والسقيا ونحوهما ولكن سرعان ما يظهر كذبهم وزيف إدعائهم، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد بشًر المسلمين بنزول مدد عظيم من الملائكة في معركة بدر، وليس بينهم وبين المعركة إلا ساعات، ويظهر أمامهم الأعداء من قريش ومن معهم بخيلهم وخيلائهم وكثرتهم لإرادة بعث الفزع والخوف في نفوس المسلمين الذين هم بالأصل على قلة وضعف، فجاء مصداق البشارة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة سماوية مستحدثة للناس للإيمان بنبوته، وإجتناب التعدي عليه وعلى المسلمين.
ومن أسباب هزيمة الكفار رؤيتهم للملائكة يتقدمون المؤمنين في القتال، ويساعدونهم على الكفار ضرباَ وتقتيلاً وشد وثاق.
لذا حينما طاف نفر من قريش على قومهم لندبهم للخروج لقتال المسلمين ثأراً لما لحقهم في معركة بدر، واجهوا مشقة في إقناع الكثير منهم، وتردد جماعة في الخروج مرة أخرى لقتال المسلمين لما رأوا من الآيات الباهرات في نصرة الملائكة للمسلمين، وعجز الكفار عن تحقيق النصر والغلبة.
ان قوله تعالى [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ] إشارة إلى إحسان وفضل الله عز وجل على المسلمين في ميادين المعركة، وحثهم على الشكر لله عز وجل على النعم المتعددة وهي:
الأولى: نزول الملائكة لنصرة المسلمين.
الثانية: كثرة عدد الملائكة.
الثالثة: الملازمة بين نزول الملائكة، وتحقيق المسلمين النصر والغلبة.
الرابعة: تصديق البشارة التي أخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بها المؤمنين [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ].
لقد جاءت هذه الآية بالإخبار عن عدد الملائكة الذين نزلوا لنصرة المسلمين يوم بدر، وفيها مسائل:
الأولى: المدح والثناء على المسلمين الذين خرجوا للقتال يوم بدر.
الثانية: بعث السكينة في نفوس المؤمنين المقاتلين.
الثالثة: بيان عظيم قدرة الله عز وجل.
الرابعة: تفقه المسلمين في الدين، وإرتقاؤهم في المعارف الإلهية بأن يعلموا عدد الملائكة الذين نزلوا لنصرتهم.
الخامسة: منع إنشغال المسلمين في الجدال ووقوع الخلاف بينهم بخصوص عدد الملائكة الذين نزلوا مدداً لهم.
السادسة: إقامة الحجة على الكفار بذكر المدد الكثير من الملائكة الذين جاءوا لنصرة المؤمنين يوم بدر.
السابعة: إجتهاد المسلمين بالدعاء والتوسل في كل معركة رجاء نزول الملائكة لنصرتهم.
وهل ينحصر الدعاء بالصحابة ومعارك الإسلام الأولى الجواب لا، فان هذه الآية باعث لكل المسلمين وفي مختلف الأزمنة المتعددة بإنزال الملائكة لنصرتهم وغلبتهم على عدوهم.
ولو حصل القتال بين فريقين من المسلمين وسأل فريق منهم الله عز وجل أن ينصرهم على الفريق الآخر، أو ان كل فريق منهما سأل الله عز وجل أن ينزل ملائكة مدداً له على الطرف الآخر لظن كل فريق أنه على الحق والهدى فكيف تكون الإستجابة الجواب من وجوه:
الأول: في الآية إخبار عن نزول الملائكة لنصرة المسلمين على الكفار، وليس لنصرة المسلمين بعضهم على بعض.
الثاني: حرمة الإقتتال بين المسلمين، وجاءت الآيات القرآنية بالأمر بالوحدة فيما بينهم، والإعتصام بحبل الله، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم “كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه”( ).
الثالث: جاءت آيات القرآن بالأمر إلى المسلمين عموماً بالإنبعاث للإصلاح بين المؤمنين الذين يحصل بينهم قتال، قال تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا] ( ).
الرابع: لا تنزل الملائكة لنصرة المسلمين بعضهم على بعضهم، فإذا كان المسلمون مأمورين بالإصلاح بين الذين يتقاتلون من إخوانهم في الإيمان، فان الملائكة يتوجهون إلى الله عز وجل بالدعاء والمسألة بالإصلاح بين المسلمين ومنع وقوع القتال بينهم.
الخامس: تأتي الإستجابة من عند الله بما يصلح حال المسلمين، ويمنع من إستمرار الفرقة بينهم، لذا ترى المسلمين إذا حصل خلاف وصراع بينهم فانه سرعان ما ينتهي ثم تبدأ مرحلة إزالة الضغائن بينهم.
لقد جاء نزول الملائكة خاصاً لنصرة المسلمين على أعدائهم من الكفار الذين جاءوا للتعدي عليهم وإبادتهم وإستباحة مدينتهم التي ليس لهم غيرها في الأرض، فلا يستطيع المسلمون الإنسحاب إلى مدينة أخرى غير مدينة يثرب، وليس من فئة يرجعون اليها، فكانت فئتهم الملائكة، وهم حاضرون معهم في ميدان المعركة لأمور:
الأول: دحر العدو الكافر.
الثاني: قتل وأسر فريق من الكفار ليكونوا عبرة لمن خلفهم من المشركين والفاسقين.
الثالث: تثبيت أقدام المسلمين في معركة بدر، وجعلهم يذبون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويمنعونه من مشركي قريش.
الرابع: لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة المكرمة هارباً من قريش، يسعى للنجاة بنفسه ومعه أبو بكر، بالهجرة إلى يثرب.
ولم يتأخر المشركون كثيراً حتى خرجوا خلفه في السنة الثانية من هجرته، ولم يخرجوا لطلبه وسؤال رجعته بالخديعة والمكر، أو بالترغيب والترهيب، بل جاءوا بجيوش كبيرة لقتاله ومن آمن بنبوته وصدق بالمعجزات التي جاء بها، والإسلام بعد لم ينتشر حول يثرب، فجاء المدد من الملائكة ليكون فئة للمسلمين يلجأون اليها، وكأن ميدان معركة بدر أصبح مدينة أخرى وفيه جند وأمة تقاتل دون رسول الله والمسلمين، وتمنع من وصول الكفار إلى المؤمنين، كما منع المؤمنون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وحرصوا على الحفاظ على حياته وسلامته.
ويتعدى موضوع حضور الملائكة المعركة يوم بدر والنصر فيها ليشمل أموراً ومنافع كثيرة منها:
الأول: تثبيت أقدام المسلمين في منازل الإيمان.
الثاني: منع شماتة المنافقين واليهود الذين كانوا في المدينة، وليس كل اليهود يريدون الخسارة للمسلمين.
الثالث: إستئصال الكفر والشرك من الأرض، فقد زحفت قريش لقتال النبي والمؤمنين، ولكنها وضعت بهذا الزحف نهايتها وهلاكها، وتلك آية إعجازية في نزول الملائكة، وكانت قريش بعد إنتهاء معركة بدر على أقسام:
الأول: سبعون قتيلاً وسبعون أسيراً.
الثاني: رجوع باقي الجيش إلى مكة بذل وهوان.
الثالث: وجود أناس من قريش لم يخرجوا لمعركة بدر، كما يدل عليه كثرة عددهم في معركة أحد، إذ بلغ ثلاثة أضعاف عددهم في معركة بدر وان كان بعضهم من القبائل الأخرى، مما يدل على ان معركة بدر لم تستأصل قريش، ولكنها أسست القضاء على الكفر والكفار، في الجزيرة، وصاروا بين أمرين: إما الإسلام وإما الهلاك، فليس بعد نصر الملائكة للمسلمين من رجحان لكفة الكفر والضلالة، وهو من عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
فمن وجوه الخير والفلاح في خروج المسلمين الناس إزاحة الكفر من أمامهم، فيأتي الكفار ليحاربوا الإسلام، فيهلك فريق منهم ويدخل الإسلام الفريق الآخر ببركة نزول الملائكة مدداً وعوناً للمسلمين في معارك الدفاع عن بيضة الإسلام.
لقد رأى الله عز وجل حال المسلمين، وكيف أصبحوا بزحف قريش في حال خطر وشدة، وهل خروج المسلمين إلى معركة بدر من مصاديق خروجهم للناس المذكور في الآية أعلاه من سورة آل عمران، الجواب نعم، فقد كان خروجهم إلى بدر على وجوه:
الأول: الخروج إلى قريش لصدها وزجرها عن التعدي على حرمات الإسلام.
الثاني: الخروج إلى بدر رسالة إلى المنافقين والمترددين في دخول الإسلام لتوكيد حقيقة قوة الإسلام، وصدق إيمان المسلمين، وإستعدادهم للتضحية والفداء في سبيل الله.
الثالث: كان الخروج إلى بدر مقدمة لنزول الملائكة لنصرة المسلمين، فمن كان يشك بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد جاء نزول الملائكة لتأكيد وإثبات نبوته وانه خاتم النبيين وسيد المرسلين، وكأن الخطاب يتوجه إلى المسلمين بأن أخرجوا إلى بدر وان كنتم أذلة كي تنزل الملائكة لنصرتكم فيدخل الناس في الإسلام جماعات، قال تعالى [وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ]( ).
وما مرت الأيام والسنين إلا وجاء فتح مكة ودخلت قريش صاغرة الإسلام، ليكون المدد الملكوتي يوم بدر مقدمة سماوية وحاجة لفتح مكة.
الرابع: في الخروج إلى بدر تحدِ وحجة على اليهود الموجودين في المدينة لأن النصر السماوي شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: من يصر على الإعراض عن الآية العقلية لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي القرآن فان الله عز وجل لم ينتقم منه، بل تفضل بآية حسية عظيمة وأنزل الملائكة مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا بنبوته وخرجوا لنصرته والدفاع عن الإسلام.
لتكون هذه الآية حجة على الناس، ودعوة لهم للتصديق بنبوته، وقد يقال ان معجزة القرآن خاصة بأهل العناد فجاءت المعجزات الحسية مدداً وعضداً لها، فلم يكن نزول الملائكة لنصرة المسلمين في القتال فقط، بل كان نزولهم مدداً للمعجزة العقلية وهي القرآن وتصديقاً له ودعوة الناس للعمل بما فيه من الأحكام.
وإذ رفع الله الجبل فوق بني إسرائيل ليعملوا بأحكام العهد والميثاق الذي أخذه عليهم [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ] ( )، فانه سبحانه أنعم على المسلمين بالنصرة والتأييد بالملائكة ليكون هذا المدد السماوي كرفع الطور ولكن ليس على المسلمين، بل على الكفار والمشركين، وهو من خصائص خير أمة أخرجت للناس.
وهم المسلمون بأن يكرمهم الله عز وجل بالمدد الملكوتي وليس بالتخويف بالطور، ويكون التخويف والإنذار بهم وبما يأتيهم من المد من السماء لأعدائهم ومن يتخلفون عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد ينشغل المسلمون بإصلاح أنفسهم للقتال، والقيام بالوظائف العبادية، ويغيبون عن منتديات الجدال والإحتجاج فتأتي آية نزول الملائكة مدداً لهم وحجة وبرهاناً على حسن إختيارهم وسلامة منهجهم بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد تفضل الله عز وجل على المسلمين وجعل آية نزول الملائكة حجة فعلية دائمة على الكفار والمشركين إلى يوم القيامة، ومن ينكر هذه الآية ويأبى التصديق فان الأخبار والوقائع والقرائن تدل عليها، وتقود للتصديق بها، لذا جاءت الآية السابقة ببيان نصر الله للمسلمين في بدر مع أنهم أذلة وضعفاء.
وهناك تنافِ بين النصر وبين الذلة والضعف، ولكن المعجزة تطرد هذا التنافي، وتزول حال الذلة مع نزول الملائكة مدداً، ويأتي النصر والغلبة معه على نحو الإنطباق وهو من عمومات قانون العلة والمعلول، وعدم تخلف المعلول عن علته، فلا هزيمة مع مدد ونصرة الملائكة.
السادس: جاء خروج المسلمين إلى بدر لخلع رداء الذلة والضعف، فلا موضوعية لضعف وذلة المسلمين، مع المدد الذي يأتيهم من السماء، بل أن الذلة تزول ليحل بدلها العزة والقوة والمنعة، وهذا التبدل والإنقلاب إلى الضد آية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصداق من مصاديق [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] أي تثبت الآيات ان من صفات خير أمة إنقلاب ذلها إلى عزة بسبب ما يأتيهم من المدد والنصرة من الملائكة، لقد سأم المؤمنون حال الضعف والفقر والحصار من قريش وغيرها من الكفار، فجاء الأمر بالخروج إلى بدر للتخلص من الذل والضعف إلى يوم القيامة، وهو من خصائص المدد السماوي فانه يختلف عن المدد من أهل الأرض، فصحيح أن الملائكة نزلوا لنصرة المسلمين في معركة بدر إلا أن منافع هذا النزول والنصرة باقية مع الوجود الإنساني في الأرض، وتتجدد مع الزمان وهذا التجدد من وجوه:
الأول: الدراسة المقارنة بين قلة وضعف جيش المسلمين، وقوة وكثرة جيش الكفار يوم بدر.
الثاني: تعدد أصوات أهل الشك والريب في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدور التحذير إلى المسلمين بعدم إذلال أنفسهم بمواجهة قريش ومن معها، ويأتي هذا التحذير على نحو القضية الشخصية لأفراد المسلمين، وعلى نحو القضية النوعية، وبصورة علنية وخفية.
الثالث: أثر المنافقين في تثبيط الهمم، والتأكيد على الأسباب من الرجال والسلاح في سير المعركة، ونتائجها، ليكون المدد الملكوتي حجة على المنافقين، وتعطيلاً لموضوعية الأسباب التي ذكروها، ودعوة لهم لنبذ النفاق والتباين بين إعلانهم الإيمان وإخفائهم الكفر.
ومن الآيات تضاؤل وإضمحلال نسبة المنافقين بين المسلمين على نحو تدريجي، فحينما خرج ألف من المسلمين للقاء الكفار في معركة أحد، إنخزل وإنسحب عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة من المنافقين في الطريق إلى المعركة، وهذا العدد نحو الثلث من مجموع المسلمين، مما يدل على كثرة المنافقين ولكن بعد حصول النصر والغلبة للمسلمين في معركة بدر وأحد والمعارك الأخرى وما فيه من الدلالات والشواهد على المدد السماوي السماوي، وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أخذ عدد المنافقين بالنقصان التدريجي مما يدل على ان نزول الملائكة لنصرة المسلمين من الأسباب لتنزيه صفوف المسلمين من النفاق.
لقد كان عدد المنافقين قابلاً للزيادة لأسباب:
الأول: ضعف المسلمين وقلة عددهم وعدتهم.
الثاني: قوة شوكة الكفار.
الثالث: ما يطلقه الكفار من الوعيد والتخويف للمسلمين.
الرابع: زحف الكفار على يثرب للقضاء على الإسلام.
الخامس: ما يثيره اليهود من المدينة من أسباب الشك والريب في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامهم بإنكار البشارات التي جاءت به في التوراة، وتحريف صفاته.
السادس: وجود رؤساء من أهل المدينة مع المنافقين، فقد كان عبد الله ابن أبي يطمع قبل وصول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يثرب ان يتوجوه ملكاً.
وجاء نزول الملائكة حرباً على الضعف والذلة وعلى النفاق والتحريف، ومرآة لصدق نزول القرآن من عند الله وإنذاراً إلى الكفار في كل زمان بأن نصر الله قريب من المسلمين وان المدد يأتيهم بآية من عند الله وهو الذي له جند السماوات والأرض.
ترى لو لم ينصر الله عز وجل المسلمين في معركة بدر ماذا تكون النتيجة الجواب ظاهر بلحاظ ترجيح كفة كثرة الجنود، والعدة وقوة الجيش وهي أمور كلها تميل إلى مصلحة قريش، ولو خسر المسلمون معركة بدر لظهر أعداء للمسلمين من داخل يثرب نفسها، من المنافقين واليهود والذين إستاءوا من كثرة المهاجرين في المدينة، بالإضافة إلى حقيقة وهي ان الكفار كانوا يطلبون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الآيات في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان النبي لم يبقَ في المدينة ويُخرج المؤمنين للقتال، بل خرج بنفسه، وكان الجيش بإمامته ليكون لحضوره الأثر العظيم في قوة قلوب المسلمين وعزمهم على القتال دفاعاً عنه وعن الإسلام، وهو شاهد على صدق نبوته وان الإسلام ليس دعوة لسانية فقط، بل جهاد بالنفس والمال والسلاح للدفاع عن الإيمان ومنع الكفار من التعدي على المسلمين.
لقد كان خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقتال مناسبة للدعاء، وإخبار المسلمين بالبشارة بنزول الملائكة لنصرتهم، وحجة على الكفار والمشركين.

علم المناسبة
ليس من خلق أكثر من الملائكة، وهذه الكثرة شاهد على عظيم قدرة الله عز وجل، وسعة سلطانه، وانه سبحانه على كل شيء قدير ولا يخشى من عبادته وكثرتهم وقدراتهم، إذ أن الملائكة قادرون على التصور بهيئات مختلفة ومنهم من تكون قدماه في تخوم الأرض، ورأسه في عنان السماء.
وورد ذكر الملائكة في القرآن بصيغة الجمع ثماناً وستين مرة، وهي مدرسة في وظائف الملائكة، وصلتها بالإنسان بما فيه صلاحه وهدايته، ومنها قيامها بالنزول بالوحي على الأنبياء، والبشارات للأولياء، كما في كلامها مع مريم عليها السلام، فلا غرابة أن تبدأ تلك الصلة من أول ساعة خلق الله عز وجل فيها آدم “الطبري” خلق آدم.
وبخصوص نزول الملائكة مدداً مسائل:
الأولى: من الآيات في ذكر الملائكة في القرآن انه لم يرد قوله تعالى [مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] بصيغة الجار والمجرور إلا ثلاث مرات كلها بخصوص نزول الملائكة لنصرة المسلمين، في الآية محل البحث، والآية التالية، وقوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الثانية: لم يرد لفظ “منزلين” في القرآن إلا وصفاً للملائكة في هذه الآية، ولا لفظ “مسومين” إلا في الآية التالية، ولا لفظ “مردفين” إلا في الآية أعلاه من سورة الأنفال، وتلك آية إعجازية في المضامين القدسية لنزول الملائكة مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بحيث تكون لهم صفات مباركة خاصة بكل مرة ينزلون فيها، لم تذكر لهم في الآيات والمواضيع الأخرى التي جاء ذكر الملائكة فيها في القرآن.
الثالثة: لم تذكر أعداد الملائكة وبلغة آلاف في القرآن إلا بخصوص نصرهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الرابعة: لم يأتِ في القرآن المدد من الملائكة إلا في الآيات الثلاثة أعلاه، وكلها في نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وفيه شاهد على عظيم منزلة المسلمين عند الله وثبات دعائم التوحيد بهم وبنصرة الله عز وجل لهم.
قانون منع أثر الكفر بالملائكة
لقد أخبرت هذه الآية من نزول الملائكة مدداً للمسلمين، وفيه كفاية لتحقيق النصر والغلبة على الكفار، ولقد كان المؤمنون في الأمم السابقة يلاقون أشد الأهوال وأسباب الأذى في جنب الله، وتمادى الكفار في الغي والتعدي وقاموا بقتل عدد من الأنبياء، فتطل على الأرض نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتبقى آيات القرآن وأحكام الإسلام إلى يوم القيامة لا يستطيع الكفار القضاء عليها أو تحريفها.
فعندما يعجز العدو عن الإستئصال يلجأ إلى محاولة الإضرار النسبي، ويجتهد في تحريف آيات التنزيل والأحكام إتباعاً منه للهوى.
فجاء نزول الملائكة واقية متجددة من أي سلطان للكفار على المسلمين يوم القيامة، فان قيل ان نصر الملائكة مقيد ومحصور زماناً ومكاناً، إذ جاء يوم السابع عشر من شهر رمضان للسنة الثانية للهجرة في معركة بدر، ولم تستمر المعركة إلا نحو ساعتين أو أكثر قليلاً فكيف يكون هذا النصر واقية على نحو الإطلاق في أفراد الزمان الطولية، وأجزاء المكان العرضية، والجواب من وجوه:
الأول: تجلي قاعدة كلية في ميادين القتال الذي يخوضه المسلمون ضد أعدائهم، وهو إمكان نزول الملائكة لنصرتهم، وان هذا النزول ليس أمراً مستحيلاً أو مستبعداً.
الثاني: إرتقاء المسلمين في سلم المعارف الإلهية وثبات أقدامهم في منازل الإيمان، إذ أصبحوا بنزول الملائكة لنصرتهم لا يخشون العدو وكثرته.
الثالث: نزول الملائكة معجزة حسية جاء القرآن لتوثيقها وتوكيدها، ودعوة الناس لتصديقها، بالإضافة إلى دلالة الشواهد والقرائن التأريخية عليها.
فمثلاً إستمر عيسى بن مريم بالدعوة إلى الله وجرت المعجزات على يديه ومع هذا لم يكن معه إلا الحواريين، وقام واحد بالوشاية عليه، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فصار له أصحاب كثيرون، وجيش يخرجون للقتال دونه، ومع هذا فان هذا الجيش لا يقدر على مواجهة جيوش الكفار لولا نزول الملائكة لنصرته وإعانته، وليس من عيب فيه، بل هو شاهد على قانون في الإرادة التكوينية ونصرة الله للمؤمنين بانه متى ما صدقوا النية، وأحسنوا التوكل على الله عز وجل فان المدد الإلهي وأسباب النصر تأتيهم من عند الله عز وجل.
لقد أراد الله عز وجل ان تكون الأرض داراً لعبادته، وما فيها من الأمصار حدائق ناضرة بذكره وتسبيحه، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ]( ).
وبعث الله الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لإعانة الناس في مسالك العبادة، ولكن الكفار أبوا إلا المعصية المركبة من وجوه:
الأول: الجحود بالنبوة والتنزيل.
الثاني: مخالفة الوظيفة الشرعية وعلة خلقهم في لزوم عبادة الله عز وجل.
الثالث: محاربة الكفار للدعوة إلى الله عز وجل، وهذه المحاربة على وجوه:
الأول: محاربة الأنبياء، قال تعالى فيما كان يتلقاه الأنبياء من قومهم [فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ]( ).
الثاني: الجحود بالتنزيل، أو القيام بتحريفه وتبديله.
الثالث: تعذيب وقتل المؤمنين الذين يصدّقون بالأنبياء ويتبعونهم، وقد إتصفت قريش بخصلة مذمومة من بين قوم الأنبياء وهي بالتعدي والحرب المطلقة على النبوة والتنزيل وأهل الإيمان، والتعدي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، وبلغت قريش أقبح مراتبها وأشدها ضرراً عندما زحفت على المدينة المنورة لقتال المسلمين، فجاء الفضل الإلهي بأبهى معانيه، والنصرة للمسلمين بأحسن أفرادها فليس من نصرة في تأريخ الأرض أفضل وأكمل وأتم من نصرة الملائكة للمسلمين يوم بدر وأحد وحنين.
وتدل هذه النصرة في مفهومها وآثارها على إرادة إستصال الكفر من الأرض، فنصر أحد طرفي القتال هزيمة وذل للطرف الآخر، وتتصف المعارك العقائدية بفرد زائد وهو أن نصر المؤمنين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم محق للكفر، وإعدام للضلالة ومنع من إستحواذ الكفار على شؤون السلطنة والإمارة على الناس، والذي تحقق بأمور إنفردت بها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهمها:
الأول: نزول القرآن عليه حجة عقلية بالغة على الناس جميعاً.
الثاني: مجيء القرآن بأحكام الحلال والحرام وما يحتاجه الإنسان في أمور الدين والدنيا.
الثالث: تضمن الشريعة الإسلامية لأحكام الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم الركون للذين ظلموا، ومنعهم من التعدي على حرمات الإسلام.
الرابع: مبادرة المسلمين الأوائل للخروج إلى سوح المعارك.
الخامس: إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في ميدان المعركة.
السادس: نزول الملائكة من السماء مدداً ونصرة للمسلمين، وحينما قالت الملائكة ساعة خلق آدم [ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاء نزول الملائكة يوم بدر لإستئصال الفساد من الأرض، ووضع اللبنة الأولى للقضاء على سفك الدماء بغير حق.
فقد إنقطع قتل الكفار للأنبياء، ليس لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم آخر الأنبياء فقط، بل لأن الملائكة كانت حرساً وواقية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وأحد وغيرهما قال تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
كما جاء حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببقاء القرآن من غير تبديل أو تحريف، ودوام أحكام الشريعة الإسلامية، وبنزول الملائكة تزلزل صرح الكفر والضلالة، ودب فيه الضعف والفساد، فإذ برز المسلمون إلى معركة بدر وهم أذلة، فقد جاء نزول الملائكة في معركة بدر لينقل الذل يومئذ إلى معسكر الكفار، ويصبح مستقراً عندهم، ظاهراً بصفة الوهن والإرباك بين صفوفهم والعجز عن مواجهة المسلمين في ميادين القتال كما يعجزون في باب الحجة والجدال.
ان نزول الملائكة إلى الأرض أمر ذو شأن عظيم، وهو عيد للمؤمنين ليس الذين حضروا بدراً وأحداً وحدهما بل لعموم المؤمنين إلى يوم القيامة ويبعث البهجة في نفوسهم، والفزع والخوف في قلوب الكفار، وفيه إخبار بأن الكفار لن يستطيعوا الزحف على الإسلام وثغورهم، وانهم لن يلقوا من هذا الزحف إلا الخزي والهلاك، لأن الله عز وجل ينزل الملائكة ويبعث جنوداً لا يعلمها إلا هو سبحانه لدفع وخزي الكفار، ولكن آثار هذا البعث تكون ظاهرة للعيان، فيأتيهم البلاء من حيث لا يحتسبون بآفات أرضية وسماوية، وإبتلاءات وضعية ليس لها مقدمات جلية تكون علة وسبباً تاماً لها.
لقد كانت قريش مثالاً مصغراً لقوى الكفر والضلالة، وسوء ما يبيتون، وقبح ما يفعلون، فصارت عبرة ودرساً للكفار والمشركين إلى يوم القيامة، وشاهداً على سحق الكفر، وقيام الملائكة بإستئصال شأفته وأصله في الجزيرة “وفي الدعاء إستأصل اللهم شأفتهم”( ).
قانون نصرة الملائكة
من إعجاز القرآن وجود النص فيه وهو الذي لا يحتمل التعدد في تأويله، فيكون المعنى فيه واحداً، ومنه هذه الآية التي جاءت صريحة بأمور:
الأول: خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه.
الثاني: تضمن الخطاب البشارة عظيمة، ومعجزة سماوية تحل في الأرض وهي نزول الملائكة.
الثالث: تفرع وترشح معجزة أخرى على نزول الملائكة، وهي معجزة كثرة عددهم إذ يفوق عددهم عدد طرفي القتال، مع كفاية ملك واحد لهزيمة جيش الكفار، ولكن الكثرة جاءت لوجوه:
الأول: بيان قدرة الله عز وجل، وعظيم فضله على المسلمين.
الثاني: مجئ الشاهد العملي على كثرة ملائكة السماء.
الثالث: إقامة الحجة على الكفار، فالملائكة مع كثرتهم وعجز الإنسان عن إحصاء أعدادهم، فانهم مؤمنون بالله، ويذبون عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا برسالته، فما بال ابن آدم يجحد بنبوته، والذي يجحد بها ويقوم بإعلان الحرب عليها لن يترك سدىً بل تنزل الملائكة لقتاله، ومواجهته.
فقد جاءت هذه الآية لتوكيد حقيقة وهي تولي الملائكة لوظيفة الدفاع عن المؤمنين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويحتمل هذا الدفاع وجهين:
الأول: إنحصاره بحال ضعف وقلة عدد المسلمين.
الثاني: الإطلاق في النصرة، سواء كان المسلمون أقوياء أو ضعفاء.
والصحيح هو الثاني لأن هذه النصرة فضل من عند الله عز وجل على المؤمنين، وجزء علة الثبات كلمة التوحيد في الأرض، وبرزخ دون غلبة الكفار والمشركين.
لقد أنفرد المسلمون الأوائل من المهاجرين والأنصار بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه رسول إلى الناس جميعاً، والأصل أن يبادر إلى دخول الإسلام كل من سمع بدعوته وحلول أوان بعثته والذي كان معروفاً في أخبار أهل الكتاب بالإضافة إلى وقوع أمارات كونية ظاهرة في الجزيرة والشام وبلاد فارس.
لقد كان المسلمون الأوائل مثالاً للصلاح والتقوى وصدق السريرة، وحازوا تلك المرتبة بسبقهم الناس في أمور:
الأول: الإيمان بالله.
الثاني: التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: التسليم بنزول القرآن من عند الله عز وجل.
الرابع: إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من أحكام الشريعة.
الخامس: نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين المعارك.
السادس: الخروج لقتال جيوش الكفر والضلالة.
السابع: إتصاف المؤمنين بالصبر والعزم على مواجهة الخوف إذ خرجوا للقتال وهم أذلة، اما الكفار فكانوا في قوة وكثرة ومنعة.
لذا نزل الملائكة ناصرين لهم، وللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام، فقد كانت مضامين نصرة الملائكة عامة وشاملة، وفيها تثبيت لدعائم الدين وأركان التوحيد وسنن الشريعة الإسلامية.
ولم يترك الملائكة الكفار في حال عن القوة والبطش بعد معركة بدر، وكان أكثر قتلاهم يومئذ من صناديدهم وأبطالهم، ووقع في الأٍسر عدد من ساداتهم لتستقرأ منه مسألة ، وهي ترشح المعجزة عن نزول الملائكة مدداً، وهذه المعجزة متعددة في أفرادها، وآثارها منها:
الأول: نزول الملائكة من مسكنهم في السماء.
الثاني: إستحضار كبرى كلية وهي أن الملائكة لم ينزلوا إلى الأرض إلا بأمر من عند الله، ولايقدر الملك أن يفعل شيئاً إلا بأمر إلهي.
الثالث: بيان الآية الكريمة لوظيفة الملائكة في نزولهم وهي نصرة المؤمنين وخذلان الكافرين.
الرابع: نيل المسلمين لأعلى المراتب في الهداية والإيمان لإجتماع الآية العقلية والحسية عندهم، وكل واحدة منهما تدعوهم إلى عبادة الله، وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتفاني في الجهاد دفاعاً عن الإسلام، وبقاء كلمة التوحيد في الأرض.
وتنمي رؤية الملائكة مدداً ملكة الإيمان في النفس، وتجعل المسلم في غبطة ورضا، فقد جاءت الآية بصيغة البشارة على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الملائكة [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ] لتترشح عن هذه البشارة بشارات كثيرة ومتعددة ومتجددة، فليس من حد للبشارات التي ترشحت وتترشح عن البشارة الواردة في هذه الآية، وهو من خصائص البشارة القرآنية، فهي وإن جاءت على نحو القضية في واقعة إلا أنها تتضمن وجوهاً:
الأول: إستدامة البشارة لصفة القرآنية، ومجيؤها بآية من كلام الله عز وجل.
الثاني: بيان قانون ثابت وهو تجدد وقوع البشارة ومصداقها العملي عند تجدد أسبابها لوجوه:
الأول: دوام وإتصال الفضل الإلهي على المسلمين.
الثاني: عمومات قاعدة وجود المقتضي وفقد المانع.
الثالث: إنقطاع المسلمين إلى الدعاء والتضرع، وسؤال نزول الملائكة لنصرتهم وإعانتهم.
الرابع: إنحصار إقامة احكام الدين والفرائض بالمؤمنين، وتفضل الله عز وجل بحجب أعدائهم عن الإضرار بهم، ومنعهم من أداء الشعائر والمناسك، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلا أَذًى]( ).
لقد جاءت الآية بالإخبار عن نصرة الله عز وجل للمؤمنين ببشارة على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الن يكفيكم أن يمدنا ربنا) بالإتيان بضمير جمع المتكلم، بل نسبت الآية النصرة والمدد للمؤمنين على نحو التعيين، وفيه نكتة عقائدية وهي أن الله عز وجل ناصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وممده بالملائكة قبل وأثناء وبعد معركة بدر، وأن الكفار لن يصلوا إليه في تلك المعركة.
فجاءت صيغة الخطاب في الآية للبشارة المركبة بسلامة وأمن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيد ومكر الكفار، وأن أيديهم لن تصل اليه وتجلت هذه الحقيقة في معركة أحد إذ إنهزم أغلب المسلمين عن النبي وتركوه في مواجهة العدو الذي كان يزحف ويتقدم، وكسرت رباعية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسقط على الأرض، ولكنه ظل في مكانه، ليكون ثباته وبقاؤه في موضوعه أمارة وبشارة ثبات الإسلام في الأمصار إلى يوم القيامة، وعدم تزحزحه عن مكانته ومنزلته في أقسى الأحوال، ويأتي رجوع المسلمين للنبي ونزول الملائكة لنصرتهم للدلالة على تنامي قوة الإسلام، ومنعة ثغوره.
ومن المعجزات المترشحة عن نصر الملائكة للمؤمنين أن الكفار أصبحوا يترددون في التعدي على الإسلام ويتجنبون المواجهة معهم في سوح المعارك وعدم قيامهم بالهجوم المتكرر على المسلمين وبلدانهم.
لقد زحفت قريش في السنة الثانية للهجرة لمعركة بدر، وفي الثالثة للهجرة لمعركة أحد، ثم جاءت بأكثر من عشر ألاف مقاتل لمعركة الخندق، وبين تلك المعارك تقع مقدمات للقتال ومواجهات ومكر من الكفار وبعض رؤساء اليهود في المدينة ضد المسلمين، ولكن الأمر إختلف بعدئذ وإلى يوم القيامة وتلك آية في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فلم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وقد تضاءل التعدي على ثغور المسلمين، وأصبحت المبادرة في القتال في الغالب بيد المسلمين فهم الذين يتحلون بالصبر , يقومون بالدفاع يختارون أوانه ومكانه وكيفيته، وفي حديث الخندق ورد عن سلمان الفارسى، أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت على صخرة.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني، فلما رأني أضرب ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدى، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، قال : ثم ضرب به ضربة أخرى، فلمعت تحته برقة أخرى، قال: ثم ضرب به الثالثة، فلمعت تحته برقة أخرى، قال: قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! ماهذا الذى رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب ؟ قال: أو قد رأيت ذلك يا سلمان ؟ قال : قلت : نعم، قال : أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح على بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح على بها المشرق( ).
لقد كانت نصرة الملائكة للمؤمنين يوم بدر هبة وفضلاً من الله عز وجل على المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة وفي مشارق الأرض ومغاربها، لما لها من المنافع والآثار المتجددة وهي واقية من هجوم الكفار على المسلمين وأمصارهم، بأن جعلت الكفار عاجزين عن هذا الهجوم، ولو قاموا به فان نصرة الملائكة للمؤمنين يوم بدر أدت إلى تثبيت أقدام المؤمنين إلى جانب رسوخ الإيمان في صدورهم.
فان فقد المسلمين موقعاً، أو خسروا معركة فانهم باقون على الإيمان، دائبون في طاعة الله حريصون على تعاهد معاني الأخوة والنصرة الإيمانية، راجون لفضل الله مدداً وعوناً لهم، شاكرون لنعمه عليهم في الهداية للإسلام والثبات على الإيمان وقيام الملائكة بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معارك الإسلام الأولى والكفار الذين خرجوا لقتال المسلمين على قسمين:
الأول: القادة والأمراء من قريش.
الثاني: الأتباع من عامة الناس ومن الفقراء والمستضعفين.
وجاء نزول الملائكة إنذاراً لهم جميعاً، ودعوة للأتباع بالتخلي عن نصرة أقطاب الشرك والضلالة لأنها لا تقود إلا إلى الهلاك في الدنيا والخسارة في الآخرة، فكانت معركة بدر مناسبة لرؤية الناس لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الملائكة لنصرته ونصرة من معه من المؤمنين، وفيه ترغيب للكفار في دخول الإسلام.
وكأن الآية تخاطب أتباع الكفار وتقول لهم: أيهما أحسن لكم نفعاً إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والفوز بنصرة الملائكة، أم البقاء على إتباع الكفار، وفيه الهلاك والخسارة الدائمة.
وتؤكد نصرة الملائكة على حقيقة وهي ان من تنصره الملائكة يفوز بالثواب والأجر العظيم، ومن تحاربه الملائكة يلقى الخزي والذل.
قوله تعالى [مُنْزَلِينَ]
بعد ان ذكرت الآية وظيفة الملائكة الذين يبعثهم الله عز وجل وهي أنهم مدد للمؤمنين في القتال مع المشركين، جاءت خاتمة الآية بوصف حالهم وكونهم منزلين من السماء، ولم تقل الآية “نازلين” بل ذكرتهم باسم المفعول وانهم أنزلوا.
وتبين الآية ان الذين أنزلهم هو الله عز وجل بدليل قوله تعالى [يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ] ليأتي إنزالهم لموضوع خاص وهو نصرة المؤمنين، وهو مصداق لقوله
تعالى [وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
فالملائكة خلق مسكنهم في السماء، ولا يفعلون إلا ما يأمرهم الله عز وجل، وقد أمر الله عز وجل ثلاثة آلاف ملك منهم بالنزول إلى الأرض لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، ويحتمل الأمر الإلهي إلى الملائكة الذين نزلوا لنصرة المؤمنين وجوهاً:
الأول: توجه الأمر إلى ملك واحد عظيم الشأن بين الملائكة كميكائيل ليأمر ثلاثة آلاف ملك، وهذا الأمر ينقسم إلى قسمين:
الأول: تعيين أسماء وهيئات الذين ينزلون للنصرة.
الثاني: الأمر إلى عدد من كبار الملائكة كما لو جاء الأمر إلى ميكائيل وإسرافيل وجبرائيل بأن يختار كل واحد منهم ألفاً من الملائكة لينزل بهم.
الثالث: جاء الأمر على نحو القضية الشخصية بأن أمر الله عز وجل كل ملك من الثلاثة آلاف بأمر واحد أن ينزل لنصرة المؤمنين.
والصحيح هو الثالث لوجوه:
الأول: لا دليل على الواسطة الملكوتية في المقام والأصل عدمها.
الثاني: يمكن أن يستقرأ الأمر على نحو القضية الشخصية بموضوع سجود الملائكة لآدم إذ أمرهم الله عز وجل بالسجود لآدم[وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ]( ).
الثالث: خاتمة الآية قرينة على هذا المعنى، لما فيها من الإشارة إلى تفضل الله عز وجل بإنزال الملائكة، فهو سبحانه الذي أنزلهم، فلا يجعل الله سبحانه بعض الملائكة يختارون فريقاً من الملائكة ثم يقوم بإنزالهم، بل تفضل سبحانه وأمر عدداً من الملائكة بالنزول لنصرة المسلمين، وهو ظاهر قوله تعالى [يمدكم ربكم] فينزل الملك وهو يعلم ما هي الوظيفة التي تنتظره في الأرض.
وهل من ثمة مسافة ووقت بين الأمر بنزول الملائكة ووقوع معركة بدر، كما لو أمرهم الله عز وجل بالنزول قبل يوم للتهيء للقتال الذي يعلم الله عز وجل أنه سيقع ليتخذ الملائكة مواضعهم، ويتفقوا على ما يفعلونه من غير تعارض أو تزاحم بينهم، الجواب لا، فقد جاء نزول الملائكة بأمر الله عز وجل [كُنْ فَيَكُونُ]( ) وان جاءت البشارة بالنزول قبله، وهو من فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، إذ ان وقوع المصداق الخارجي للبشارة.
وفي أشق الأحوال وأكثرها حاجة للمسلمين يجعلهم يزدادون إيماناً، ومن رحمة الله عز وجل أن يأتي بالآيات والمعجزات التي تجعلهم يزدادون إيماناً، قال تعالى [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى]( ).
قانون منزلين
أخبرت هذه الآية عن معجزة عظمى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا برسالته وخرجوا لنصرته والدفاع عن الإسلام، ليس في الأرض من مسلمين غيرهم يومئذ، فواجهوا الحتوف بصدورهم، لم يضع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خطة إحترازية لبقاء المسلمين ومبادئ الإسلام بأن يبقى في مأمن من المشركين هو وعدد من أصحابه المنتجبين، ويبعث شطراً من المسلمين للقتال، ليبقى شخصه الكريم ونواة من المؤمنين في مأمن من القتل.
بل خرج بنفسه وأهل بيته والمهاجرين والأنصار، لم يتخلف عنهم إلا من كان عنده عذر في التخلف، وهذا الخروج العام شاهد على صدق نبوته ووثوقه من النصر وأنه أول من تلقى الوحي بالبشارة بالتصديق.
وهل كان هذا التصديق جزء علة في خروج المؤمنين للقتال الجواب نعم فحينما رأى المسلمون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يلبس لأمة القتال سارعوا إلى ميادين التضحية والفداء وكانوا قرة عين له وعوناً في مواجهة الكفار والمشركين، وفيه تخفيف ورحمة لهم، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وتلك خصوصية إنفرد بها المسلمون من بين أهل الملل والنحل بأن يبادروا إلى الخروج تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ميادين الجهاد من غير تردد أو إبطاء، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
وليتلقى اللاحق من المسلمين الدروس والعبر من المؤمنين الأوائل، ويكون خروجهم إلى بدر سنة حسنة متجددة عند المسلمين تبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، وسبباً لنزول الفضل والمدد من الله عز وجل، ولو إكتفت الآية بالإخبار عن مجيء الملائكة مدداً للمؤمنين في معركة أحد ولم تذكر قيد “منزلين” ففيه وجوه:
الأول: التبادر إلى الأذهان بأن الملائكة ينزلون من السماء لأنها موضع سكنهم.
الثاني: الظن بأنهم يأتون من أماكن أخرى في الأرض.
الثالث: صدور قول وتفسير بأنهم من الملائكة الذين يصاحبون الناس قال تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] ( )، وقال تعالى [عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ] ( ).
الرابع: خلق الله عز وجل الملائكة لخصوص معركة بدر ونصرة المؤمنين فيها.
الخامس: إنهم ملائكة من جنة من جنان الدنيا.
السادس: ان الله عز وجل خلق ملائكة لخصوص القتال ونصرة المسلمين في ميادين الحرب في الأولين والآخرين.
فجاء قيد “منزلين”آية في البيان والتعيين، وإظهار معاني المعجزة القدسية العظمى بنزول الملائكة والإخبار بأنهم ليس من أهل الدنيا ولا من سكنة وعمّار الأرض.
وفي قيد “منزلين” وجوه:
الأول: ان الملائكة الذين نصروا المؤمنين من أهل السماء.
الثاني: نزل الملائكة بأمر من الله عز وجل، وفي نزول الملائكة شاهد على عظيم قدرة الله، ورحمته بالمؤمنين.
لقد نزل جبرئيل بالقرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزل الملائكة الكثيرون لنصرة المؤمنين في القتال وإرادة تثبيت دعائم الدين إلى يوم القيامة، وتبعث الآية الشوق في نفوس المؤمنين للتطلع إلى السماء رجاء النصرة ونزول المدد من عند الله سواء في ميادين القتال أو في حال السلم والدعة، وفي القضية الشخصية والنوعية.
لأن نصرة الملائكة أعم من أن تنحصر بالقتال فهي فضل ونعمة من عند الله، خص بها المؤمنين من بين الناس فكما كان القرآن آية سماوية دائمة في الأرض، فان نزول الملائكة لنصرة المؤمنين نعمة دائمة في منافعها وآثارها وبركاتها، ويحتمل نزول الملائكة وجوهاً:
الأول: النزول التدريجي، ومجيء الملائكة إلى ميدان المعركة على نحو تدريجي.
الثاني: النزول الدفعي وانهم نزلوا مرة واحدة.
الثالث: التفصيل، ففريق من الملائكة نزلوا دفعة واحدة، وفريق نزل بالتدريج.
والظاهر هو الثاني وهو المتبادر من النزول ولعظيم فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، والأصل في المدد أن يأتي مرة واحدة إذا كان من جهة واحدة.
أنها نصرة السماء لأهل الإيمان في الأرض، فعندما قام الكفار والمشركون بالزحف على المدينة المنورة لإستئصال الإسلام، ووقف أهل الكتاب الذين كانوا فيها متفرجين، لم يتدخلوا لنصرة المسلمين، وتردد المنافقون وإنقطع رجاء المؤمنين من القبائل المحيطة بالمدينة، وقد جاءت قريش بعده من رجالات القبائل معها للقتال، توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى سلاح الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، وسأل المدد من عنده تعالى.
فجاء مدد وعون يتصف بالقدرة على حسم المعركة بالنصر التام للمسلمين، والهزيمة الماحقة للكفار، وهذا النصر لا يكون إلا بآية من آيات الله عز وجل.
فأنعم الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بنزول الملائكة من السماء لنصرة المؤمنين، ليكون حجة على الكفار والمشركين، وإنذاراً لهم ودعوة للناس جميعاً للهداية والإيمان، والإخبار بالإتصال والتداخل بين السماء والأرض، ولا يتقوم هذا الإتصال إلا بالعبودية لله عز وجل ومعاني النصرة بين المؤمنين من أهل السماء والأرض، فليس في السماء إلا من هو ملك مؤمن طائع لله عز وجل، أما الأرض ففيها الإنس وهم على مشارب شتى.
وتجلت في أيام البعثة النبوية أمارات الضعف والقلة على أهل التوحيد والتصديق بالنبوة فانحصروا في بقعة محدودة من الأرض هي ساحة معركة بدر مع سعة الأرض وكثرة الأقطار والأمصار، وتعدد الأجناس والأعراق وإختلاف الألوان.
وتعطلت أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس، فلم تسمع أصوات تنهى قريشاً عن الخروج لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وليس هناك مناجاة بين الناس لنصرة المؤمنين، فأصبحوا يوم السابع عشر من شهر رمضان للسنة الثانية من الهجرة خارج المدينة في أرض جرداء يقابلهم عدو بقوة فتاكة.
فأجال المؤمنون أبصارهم في السماء وتطلعوا إلى رحمة الله عز وجل، رجاء سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتمام الرسالة وإتمام نزول آيات القرآن عليه، وقيامه بالتبليغ، لم يكن عند البدريين يومئذ من همّ إلا سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونجاته من الكيد والمكر والقتل، لذا بادروا أول ما وصلوا إلى بدر وبنوا له عريشاً من سعف النخيل وفيه تحدِ للكفار، وإخبار عن مكان معلوم يكون فيه الرسول، وليس هو من كشف موضعه، بل فيه مسائل ومنافع منها:
الأولى: إشارة إلى رجاء نزول الملائكة وكفاية المؤمنين القتال.
الثانية: الوثوق بسلامة ونجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: إستعداد المؤمنين للدفاع عنه.
الرابعة: منع أيدي الكفار من الوصول اليه.
الخامسة: صيرورة هذا العريش موضع القيادة لتوجيه سير المعركة وليذب المؤمنون عنه.
السادسة: العريش برزخ دون التراجع والإنهزام.
السابعة: أنه محل للدعاء، دعاء خاتم النبيين وسيد المرسلين، وليس بينه وبين الرب حجاب، وتجلت مضامين الإستجابة لدعائه بهزيمة نكراء للكفار والمشركين.
الثامنة: إنه عنوان العز والفخر للمسلمين.
التاسعة: سيكون هذا العريش معلماً عالمياً، وشاهداً على إنتصار الإسلام بمدد من عند الله.
العاشرة: من أحكام الشريعة حرمة لبس الرجال الحرير إلا في الحرب لما فيه من مظاهر العز والغنى وجاء بناء العريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان إكرام المسلمين له حتى في ميادين الحرب ليكون آية وإنذاراً للكفار.
ويفيد قوله تعالى “منزلين” بعث السكينة في نفوس المسلمين، وطرد الشك والخوف من أنفسهم من إحتمال الهزيمة وأسبابها، إذ ان نزول الملائكة عنوان للنصر والغلبة وقهر الأعداء، فلا يستطيع بنو آدم الثبات والصمود أمام قوة الملائكة وقدراتهم الخارقة، فكيف وقد جاء الملائكة ثلاثة أضعاف جيش الكفار يوم بدر، في إشارة إلى نصرة السماء للمؤمنين وان إجتمع عليهم أهل الأرض جميعاً.
وجاءت خاتمة الآية بالإخبار عن تنزيل الملائكة، فهم لم ينزلوا بمشيئتهم ولا بقدرتهم، بل ان الله عز وجل هو الذي أمر بنزولهم، وتفضل بإنزالهم، ومجيء الآية بصيغة الاسم المفعول شاهد على ان الملائكة لا يقدرون على النزول إلى الأرض إلا ان يُنّزلوا اليها، وهذا التنزيل لا يأتي إلا من عند الله عز وجل، ويدل عليه قوله تعالى في أول الآية [يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ].
والذي يؤكد على تعيين موضوع النزول وهو نصرة المؤمنين في معركة بدر، وتحتمل النصرة وجوهاً:
الأول: النصرة المطلقة والتامة.
الثاني: النصرة الجزئية.
الثالث: النصرة المقيدة بالشرائط.
والصحيح هو الأول، فليس من قيد أو شرط لنصرة الملائكة، نعم ورد وصف المسلمين بالمؤمنين، وبين الإيمان والإسلام عموم وخصوص مطلق، فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس ولكن صفة الإيمان نالها البدريون بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق الإختيار، وإظهار النصرة له بالزحف إلى المعركة ودخول القتال، وهو أبهى وأسمى معاني الإيمان، لذا جاءت البشارة بصيغة القطع والإمضاء، كما أن النصرة تامة فلا يترك الملائكة ميدان المعركة ويعرجون إلى السماء إلا بعد هزيمة وخسارة الكفار.
فلا يقول الملائكة للمؤمنين أثناء المعركة قد هيأنا لكم مقدمات وأسباب النصر وعليكم الإتمام وإحراز النصر الذي أصبح قريباً منكم، بل لاحق الملائكة الكفار في هزيمتهم وهم يعذبونهم ويبعثون الفزع والخوف في نفوسهم، وهل ينقص قتال الملائكة من أجر وثواب المؤمنين يوم بدر الجواب لا من وجوه:
الأول: لم يأتِ الملائكة بديلاً عن المسلمين في المعركة بل جاءوا مدداً وعوناً، وهو من إعجاز الآية وذكرها الملائكة بلفظ المدد.
الثاني: جاء نزول الملائكة فضلاً من الله، ولا يتعارض مع الأجر والثواب لأنه فضل أيضاً من عنده سبحانه وان كان بصفة الجزاء.
الثالث: فعل المؤمنين يوم بدر إنحلالي متعدد، إذ أنه يشمل الخروج إلى المعركة وحمل السلاح، وإخلاص النية، والعزم على مواجهة الكفار، بالإضافة إلى مزاولة المؤمنين بالقتال بالسيف والرمح والنبل.
الرابع: ان الله عز وجل واسع كريم، وهو الذي يعطي الكثير بالقليل، ويثيب المؤمنين على خروجهم للقتال وجهادهم في سبيله.
ومن الأسرار التأريخية في معارك المسلمين ومنها معركة أحد، ان اسم جبل أحد كان معروفاً قبل الإسلام بأخبار بين المليين تتضمن علامة من علامات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتعلق بمهاجره ومسكنه ودار حكم الإسلام.
وروى العياشي باسناده رفعه إلى الإمام جعفر الصادق عليه السلام “قال: كانت اليهود تجد في كتبها أن مهاجر محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين عير وأحد، فخرجوا يطلبون الموضع، فمروا بجبل يقال له حداد فقالوا : حداد وأحد سواء، فتفرقوا عنده . فنزل بعضهم بتيماء، وبعضهم بفدك وبعضهم بخيبر . فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمر بهم إعرابي من قيس، فتكاروا منه، وقال لهم : أمر بكم ما بين عير وأحد . فقالوا له : إذا مررت بهما فآذنا بهما، فلما توسط بهم أرض المدينة، قال : ذلك عير وهذا أحد . فنزلوا عن ظهر إبله، وقالوا له : قد أصبنا بغيتنا، فلا حاجة بنا إلى إبلك، فاذهب حيث شئت . وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر : إنا قد أصبنا الموضع، فهلموا إلينا . فكتبوا إليهم : إنا قد إستقرت بنا الدار، وإتخذنا بها الأموال، وما أقربنا منكم، فإذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم، واتخذوا بأرض المدينة أموالا . فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تبع فغزاهم، فتحصنوا منه، فحاصرهم ثم أمنهم، فنزلوا عليه . فقال لهم : إني قد استطبت بلادكم، ولا أراني إلا مقيما فيكم . فقالوا له : ليس ذلك لك، إنها مهاجر نبي، وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك . فقال لهم : فإني مخلف فيكم من أسرتي، من إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلف حيين تراهم الأوس والخزرج . فلما كثروا بها، كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم : أما لو بعث محمد لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم آمنت الأنصار، وكفرت به اليهود “( ).
وكانت هذه الأخبار وإستفتاح اليهود على المشركين والكفار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلما تعرضوا للأذى والتعدي من الكفار، أي انهم يستنصرون بنبوة آخر زمان ومسكنه في مدينة يثرب للإنتقام من الكفار إذ يظن اليهود ان نبي آخر الزمان منهم، وتطلعوا إلى زمانه وعرفوا ان أيامه أقتربت وكان الأوس والخزرج يسمعون هذا الكلام وهم على الشرك والكفر، فلما بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قلة وإتصل مع كبرائهم في العقبة وعند موسم الحج صدقوا به وعاهدوه على النصرة ولابد من موضوعية وأثر لإستفتاح اليهود به وإخبارهم عن نبوته وحينما خرج المهاجرون والأنصار لمعركة بدر وأحد خرجوا عن إيمان ويقين، وكانوا يقيمون الحجة على اليهود ويذكرونهم بما يخبرون عنه من صفات نبي آخر زمان ، فجاء النصر في معركة بدر مصداقاً عملياً للأخبار التي ذكرها اليهود، ودعوة متجددة لهم للتدارك ودخول الإسلام.
وتدل هذه الأخبار على معرفة أهل الكتاب لصفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقيامهم بإنكار الموافقة بينها وبين الصفات الشخصية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، في وقت أظهر المهاجرون والأنصار الإيمان والتصديق بنبوته، ومواجهتهم للتحريف في صفاته، وعدم إلتفاتهم لإنكار نبوته من قبل اليهود في المدينة، ومبادرتهم وعدم ترددهم في الخروج لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام الأولى.
وكان هذا الإيمان عصمة للصحابة ومن خلفهم من تحريف آيات القرآن، إذ بذلوا الوسع في حفظ وتدوين آيات القرآن ومنع الزيادة أو النقيصة فيه، وتدل عليه شواهد كثيرة في باب جمع القرآن وتلاوته وحفظه عن ظهر قلب، وتعاهده بالقراءة الواجبة في الصلاة والتدارس ، وإتخاذه حجة ودليلاً وإماماً، والإكثار من إستنساخه، والحرص على توارثه، وسلامته من التحريف، ورجاء الثواب في قراءة كلماته وآياته والعمل بمضامينها وما فيها من الأحكام.


مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn