بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمـــة
الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما ، وتتجلى ملكيته للدنيا والآخرة بوضوح للخلائق يوم القيامة ، لذا قال تعالى [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( )وفيه دعوة للناس للخشية من الله عز وجل ، والإخلاص في عبادته ، والتنزه عن الظلم والفسق والفجور .
الحمد لله الذي ملأ الأكوان بآياته وسخرها للناس ، ومن مصاديق هذا التسخير جذبهم إلى عبادته ، وبعثهم للتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لذا تفضل وأمره باعلان عالمية رسالته بقوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ) لينهل الناس من خزائن القرآن وتتوالى عليهم النعم من ملك الله عز وجل ، إذ أن إخبار الله عز وجل بأن ملك السموات والأرض له وحده ، والملك مطلقاً يوم القيامة له من الجنة والنار والملائكة ومواطن الآخرة ترغيب للمسلمين بالدعاء للفوز بالنعم والخير والبركة في الدنيا والآخرة ، ومن مصاديق قانون الدنيا مزرعة الآخرة إتخاذ الدعاء وسيلة النفع والفوز بالجنة والنجاة من النار ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )ومن تقديره في المقام ادعوني لأمور الدنيا والآخرة .
الحمد لله عدد ما خلق وملئ ما خلق وأعمار وأزمنة ما خلق ، الحمد لله عدد ما أحصى ملائكته وكتبه ، وما عجز عن إحصائه الملائكة ، وقد صدرت لي والحمد لله الأجزاء (245-247-258)من هذا السِفر معالم الإيمان في قانون (علم الإحصاء القرآني غير متناه).
الحمد لله بديع السموات والأرض ، ومن الإبداع في المقام عدم نفاذ خزائن السموات والأرض ، وهو من معاني [وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ) .
وتحتمل خزائن السموات والأرض مع تقادم الزمان وجوهاً :
الأول : بقاء خزائن السموات والأرض على حالها كماً وكيفاً .
الثاني : إصابة الخزائن بالنقص .
الثالث : إزدياد خزائن السموات والأرض مع كثرة العطاء والمسألة .
والصحيح هو الأخير .
ووردت كلمة [خَزَائِنُ] ثماني مرات ، كلها في خزائن الله عز وجل ورحمته ، إلا واحدة بخصوص يوسف عليه السلام في خطابه لملك مصر [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ]( )وتقدير الآية : أجعلني على خزائن الله في الأرض ) ولم يقل أجعل لي خزائن الأرض ، إنما سأل التولية والتصرف بما ينفع الناس .
الحمد لله حمداً كثيراً ، الحمد لله الأول قبل الأشياء ، والآخر بعد فناء الأشياء ، ونسأله تعالى العفو والمغفرة عما قصرنا فيه ، وعن إتباع الهوى والنفس في مناجاتها بالسوء ، ومن إتباع خطوات ونزغات الشيطان .
الحمد لله على نعمة الولادة والطفولة والصبا وبلوغ مرحلة الشباب وما بعدها ، مع دنو الآجل والآفات في كل يوم وساعة منها لولا فضل الله وحضور رحمته وأسباب صرفه للأذى والضرر ، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ]( ).
(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وكل بالمؤمن ثلثمائة وستون ملكاً ، يدفعون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك للبصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل من الذباب في اليوم الصائف ، وما لو بدا لكم لرأيتموه على كل سهل وجبل ، كلهم باسط يديه فاغر فاه ، وما لو وكل العبد فيه إلى نفسه طرفة عين ، لاختطفته الشياطين .
وأخرج أبو داود في القدر ، وابن أبي الدنيا وابن عساكر ، عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : لكل عبد حفظة يحفظونه ، لا يخر عليه حائط أو يتردى في بئر أو تصيبه دابة ، حتى إذا جاء القدر الذي قدّر له ، خلت عنه الحفظة فأصابه ما شاء الله أن يصيبه . وفي لفظ لأبي داود : وليس من الناس أحد إلا وقد وكل به ملك ، فلا تريده دابة ولا شيء إلا قال اتقه اتقه ، فإذا جاء القدر خلى عنه)( ).
الحمد لله على توالي حمد وشكر الخلائق لك سبحانك ، والذي لا يحصي عدده إلا أنت ، وأنت العفو العفور الذي ترضى بالقليل وتعطي الكثير .
وهذا الجزء التاسع والخمسون بعد المائتين من معالم الإيمان ويختص بتفسير الآية [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ]( ) .
الحمد لله الخالق الوهاب الذي تفضل وجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لطفاً وفضل منه تعالى على أجيال الناس ، وذات الخلافة ليس أمراً مجرداً إنما هو وسيلة للإيمان وعمارة الأرض بالعبادة ، فتفضل وبعث الأنبياء [مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ) ليتوارث المؤمنون سنن الإيمان ، ويتعاهدوا استدامة الحياة الدنيا ، ويتنعم الناس على إختلاف مشاربهم بخيرات السماء وكنوز الأرض ، وهل هو من مصاديق خطاب الله عز وجل للناس جميعاً [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ) لبيان قانون المؤمن نعمة على أهل الأرض ، وتتجلى منافع رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً .
وهل يثاب المؤمن بانتفاع الناس منه ، الجواب نعم .
ويتعلق موضوع الآية التي يختص بتفسيرها هذا الجزء المبارك بنداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان ، وهل كل آية قرآنية نداء للإيمان ، الجواب نعم ، وهو لا يتعارض مع المقصود من المنادي في الآية [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ]( )أن المنادي هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهذه التلاوة فرع دعوته وندائه للهداية والصلاح والسلام ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
حرر في التاسع من شهر رمضان 1445
20/3/2024
قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ] الآية 193
الإعراب واللغة
ربنا : منادى مضاف ، محذوف منه أداة النداء ، منصوب ، و(نا) ضمير مضاف إليه ، وفيه تأكيد للنداء المتقدم في الآية السابقة وموضوعه [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
والتقدير : يا رّبنا .
إننا : إن : حرف ناسخ يفيد التوكيد ، وضمير المتكلمين المتصل بها (نا) هو اسمها .
سمعنا : سمع فعل ماض مبني على السكون ، و(نا) الضمير المتصل فاعل.
منادياً : مفعول به منصوب بالفتحة .
وجملة [سَمِعْنَا مُنَادِيًا] خبر إن .
ينادي : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء للثقل، والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) .
للإيمان : جارّ ومجرور متعلّق بـ(ينادي) .
أن : حرف مصدريّ .
آمنوا : فعل أمر مبنيّ على حذف النون لان مضارعه من الافعال الخمسة والواو فاعل .
بربّكم : جارّ ومجرور متعلّق ب (آمنوا) و(كم) ضمير مضاف إليه .
فآمنا :الفاء عاطفة لربط المسبّب بالسبب (آمنّا) مثل سمعنا .
ربّنا : منادى مضاف محذوف منه أداة النداء منصوب و(نا) ضمير مضاف إليه .
فاغفر : الفاء عاطفة تربط المسبّب بالسبب (اغفر) فعل أمر دعائيّ مبني على السكون والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت.
لنا : اللام حرف جرّ و(نا) ضمير في محلّ جرّ متعلّق ب (اغفر) (ذنوبنا) مفعول به منصوب بالفتحة و(نا) مضاف إليه.
الواو : عاطفة .
كفّر عنّا سيّئاتنا : مثل اغفر لنا ذنوبنا، والجارّ والمجرور متعلّق ب (كفّر) وعلامة النصب في المفعول به الكسرة لانه جمع مؤنث سالم .
الواو : عاطفة .
توفّنا : أمر دعائيّ مبنيّ على حذف حرف العلّة و(نا) ضمير مفعول به، والفاعل أنت
مع : ظرف مكان منصوب متعلّق ب (توفّنا) .
الأبرار: مضاف إليه مجرور بالكسرة .
والأبرار : جمع بر -بفتح الباء- وهو المؤمن الذي وفى بطاعته لله والإمتثال لأوامره ، قال تعالى [إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ]( )، وضد الأبرار الفجار ، جمع فاجر ، وهو مرتكب المعاصي والسيئات ، قال تعالى [وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ]( ).
في سياق الآيات
صلة آية البحث بالآيات المجاورة السابقة وهي على وجوه:
الوجه الأول : صلة آية البحث بالآية السابقة رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ وفيه مسائل :
الأولى : ابتدأت كل من آية البحث والسياق بالنداء [رَبَّنَا] وكذا الآية التالية [رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ] ( ) ولابد لهذا التكرار من دلالات ومقاصد سامية ، وسيأتي في باب (لماذا تكرار نداء [رَبَّنَا].
وابتداء الآية السابقة [رَبَّنَا إِنَّكَ] بينما قالت هذه الآية [ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا…] وكل منهما دعاء لبيان الإقرار العام من المسلمين بالعبودية لله عز وجل .
وهذا الإقرار علة استدامة الحياة الدنيا وعمارة الناس للأرض وتوالي النعم السماوية والأرضية عليهم ، وصرف الحروب والإقتتال عنهم لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، وصرف الحروب في المقام لطف من الله ومقدمة للعبادة.
ليكون من معاني الآية أعلاه محو الله للموانع التي تحول دون عبادة الناس لله عز وجل في كل زمان ، وفيه بشارة قانون استدامة أحكام الإسلام وتجدد قول [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ]( )، وسلامة القرآن من التحريف .
الثانية : من إعجاز آية البحث تلاوة المسلم الآية بالنداء بصيغة الجمع [رَبَّنَا] وهل يقصد نفسه بصيغة الجمع التي تفيد التعظيم ، الجواب لا .
والمختار اختصاص هذه اللغة في القرآن بالله عز وجل وحده ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ]( ) ليفيد صدور الخطاب بصيغة الجمع وجوهاً :
الأول : صدور النداء من المسلم نيابة عن عامة المسلمين .
الثاني : نداء ودعاء المسلمين لأنفسهم .
الثالث : دعاء المسلمين للفرد الواحد منهم .
الرابع : طرد الغفلة عن المسلمين ، وتنزيههم منها باللطف الإلهي باحتساب دعوة الداعي منهم لنفسه وغيره ، ولقانون التضاد بين الذكر والغفلة .
والغفلة : السهو وقلة التحفظ ، والإبتعاد عن اليقظة والفطنة ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من الدعاء لطرد الغفلة ومصاديقها ومقدماتها .
و(عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه : اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ، والجبن والبخل ، والهرم والقسوة ، والغفلة ، والعيلة والذلة والمسكنة.
وأعوذ بك من الفقر والكفر ، والفسوق ، والشقاق ، والنفاق والسمعة ، والرياء ، وأعوذ بك من الصمم والبكم والجنون ، والجذام ، والبرص ، وسيئ الأسقام)( ).
الثالثة : بيان التشابه والتباين في الموضوع بين آية السياق وآية البحث ، فالجامع المشترك بين الآيتين من وجوه :
الأول : صدور النداء والتوسل من المسلمين إلى الله عز وجل .
الثاني : إقرار المسلمين بأنه لا ينجي ولا ينقذ من النار إلا الله عز وجل .
الثالث : تسليم المسلمين بوجود النار يوم القيامة ، وأن لها أهلاً هم الذين ظلموا أنفسهم باختيارهم الكفر والإقامة على المعاصي ، قال تعالى [وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
الرابع : كما سمع المسلمون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينادي بالإيمان فانهم سمعوه يتلو آيات القرآن التي تحذر من دخول النار وتبين شدة عذابها ، كما وردت السنة النبوية بذكر أهوال يوم القيامة .
وهل يختص هذا البيان بالسنة القولية ، الجواب لا ، إنما يشمل السنة الفعلية كما في حديث الإسراء .
عن ابن عباس قال (ونظر في النار ، فإذا قوم يأكلون الجيف .
قال : من هؤلاء يا جبريل .
قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس .
ورأى رجلاً أحمر أزرق جداً، قال : من هذا يا جبريل .
قال : هذا عاقر الناقة)( )( ).
الرابعة : ورد لفظ [رَبَّنَا] في أربع آيات هنا خمس مرات ، من الآية (19-194) من مجموع احدى عشرة مرة ورد فيها نداء [رَبَّنَا] في سورة آل عمران .
وامتازت آية البحث بورود النداء [رَبَّنَا] فيها مرتين للتأكيد على تعدد موضوع الدعاء فيها ، وأن كل فرد منه مستقل بذاته ومرتبط مع النداء الذي في نفس الآية ، ومع النداءات في الآيات المجاورة .
الخامسة : تضمنت آية البحث سوال المسلمين الله عز وجل بأن يغفر ذنوبهم [رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا]( ) لبيان التضاد بينهم وبين الكفار ، فمن مصاديق ظلم الكفار لأنفسهم امتناعهم عن الإستغفار ، وعجزهم عن الإهتداء إليه ، وإن استغفروا لن يغفر لهم ، لشرط التوحيد في قبول الإستغفار .
قال تعالى [وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ]( )، ومن الإعجاز أن شطر هذه الآية ورد مرتين :
الأولى : وصف حال الكافرين في الحياة الدنيا ، وضياع دعائهم بقوله تعالى [لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ]( ).
الثانية : أمر الملائكة من خزنة النار لأهلها بالدعاء مع إخبارهم ببطلان دعاء أهل النار لأن الآخرة حساب بلا عمل ، وفي التنزيل [قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ]( ).
و(عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :يلقى على أهل النّار الجوع حتّى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع .
فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فاذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم .
فيقولون ادعوا خزنة جهنم ، فيقولون ألم تك تأتكم رسلكم بالبينات .
قالوا : بلى .
قالوا : فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال .
قال : فيقولون إدعوا مالكاً ، فيدعون : يا مالك ليقض علينا ربّك ، فيجيبهم إنّكم ماكثون)( ).
ومن الإعجاز الغيري في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجدد استغفار المسلمين والمسلمات كل يوم بتلاوتهم لآية البحث وآيات الإستغفار الأخرى في الصلاة وخارجها ، وهل أداء الصلاة والصيام والزكاة والحج والخمس يلحق بالإستغفار بفضل من الله عز وجل ، الجواب نعم ، وكأنه استغفار بالعمل والجوارح.
السادسة : لقد توجه المسلمون بالدعاء ليستر الله عز وجل سيئاتهم في الدنيا والآخرة ، وفيه واقية من الخزي الذي تضمنته الآية السابقة .
لبيان معجزة في نظم وسياق الآيات ، وهي ورود آية في الإنذار لتعقبها آية بالنجاة من موضوع الإنذار ، إذ تشهد آية البحث على اتخاذ المسلمين منهاج النجاة من النار ، فالإيمان حرز وواقية منها .
لبيان قانون الحياة الدنيا وعاء ومناسبة للنجاة من الخزي ودخول النار، وتتجدد هذه المناسبة في كل يوم وكل ساعة بلحاظ أن ساعات الدنيا أفراد غير ارتباطية ذات صفة اعتبارية مستقلة في إتخاذها وعاءً ومناسبة للإستغفار وسؤال الستر ، والدعاء بتفضل الله عز وجل بالمغفرة والعفو .
ومن معجزات النبوة المتوارثة مجئ كل نبي بدعوته لقومه بالإستغفار مع شدة أذاهم له ، لقانون النبي ناصح أمين .
ونادى شعيب قومه [وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ]( )، لبيان معجزة غيرية للبني محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشكر المسلمين للنبي محمد وإقرارهم بقيامه بتبليغ الرسالة ، وتعاهد أجيالهم للإستغفار.
السابعة : لقد أختتمت آية السياق بنفي الأنصار عن الظالمين ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ليس للظالم نصير .
الثاني : ليس للظالم أنصار .
الثالث : ليس للظالمين مجتمعين ومتفرقين نصير .
الرابع : ليس للظالمين أنصار من الإنس وغيرهم .
لبيان أن الله عز وجل هو نصير المؤمنين ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
إلى جانب نصرة الملائكة والأنبياء والكتب السماوية واليوم الآخر للمؤمن لإيمانه بهم .
وهل تنصر الأرض المؤمن بالشهادة له بقيامه بالصلاة ، وعمل الصالحات على ظهرها ، الجواب نعم .
(عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل ما عمل على ظهرها ، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { إذا زلزلت الأرض زلزالها }( ) حتى بلغ { يومئذ تحدث أخبارها } قال : أتدرون ما أخبارها جاءني جبريل قال : خبرها إذا كان يوم القيامة أخبرت بكل عمل عمل على ظهرها .
وأخرج الطبراني عن ربيعة الجرشي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : تحفظوا من الأرض فإنها أمكم ، وإنه ليس من أحد عامل عليها خيراً أو شراً إلا وهي مخبرة به)( ).
كما يشهد الملائكة والجن والإنس للإنسان عمله الصالحات .
(عن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه وكان أبوه يتيماً في حجر أبي سعيد الخدري قال : قال لي يعني أبا سعيد : يا بُنيَّ إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالأذان فإني سمعت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا يسمعه جنّ ولا إنس ولا حجر إلاّ يشهد له)( ).
الثامنة : من ظلم الذين كفروا لأنفسهم امتناعهم عن العمل بمضامين آية البحث ، والتي هي قول على اللسان وصيغة كلام ، ومن معاني قوله تعالى في أول آية البحث[رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ]( ) هو سماع الكافرين لذات نداء الإيمان ولكنهم لم يؤمنوا فحق عليهم نعت الظالمين .
قال تعالى [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ]( )، ليلاقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأذى الشديد من قريش حتى نزل من السماء الذم لعمه أبي لهب ، قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ).
ويدل على سماع الكافرين لآيات القرآن ، ونداءات الإيمان قوله تعالى [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ) فلابد أن التبليغ قد وصل لأهل مكة والجزيرة عامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ) .
التاسعة : ابتدأت كل من الآية السابقة وآية البحث بنداء اللجوء والإستجارة [رَبَّنَا] مع التباين في الموضوع وزمانه ، إذ تتضمن الآية السابقة الإنذار والوعيد للناس جميعاً ، والذين كفروا على نحو الخصوص من الهوي في النار ، مع تأكيد الآية على أن النار حق ، وهي مأوى الظالمين والمقرون بالخزي الذي يلحقهم ، وهل يلحق آباءهم وأبناءهم وأزواجهم ، الجواب لا ، وهو من مصاديق [وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( ) وقوله تعالى [يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ]( ).
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ربنا اننا عبادك المؤمنون فقنا عذاب النار .
الثاني : ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته فانقذنا من النار .
الثالث : ربنا ما للظالمين من أنصار ، فاجعل لنا انصاراً.
وتدل الآية على قانون من الإرادة التكوينية وهو أن الله وحده هو الذي يأمر بدخول من يشاء النار ، وقانون دخول النار بالإستحقاق ، ورجحان كفة السيئات في ميزان الآخرة مع قانون أن الذنوب التي يتم العفو عنها ومحوها أكثر من التي وضعت في الميزان ولم يصلها العفو .
العاشرة : لقد حُجِبت الشفاعة عن الذين كفروا ، لذا قالت آية السياق [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ) .
ترى ما هي النسبة بين الأنصار والشفاعة ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالشفاعة فرع النصرة ، واحدى مصاديقها .
(وأخرج عن صهيب الفقير قال : كنا بمكة ومعي طلق بن حبيب وكنا نرى رأي الخوارج فبلغنا أن جابر بن عبد الله يقول في الشفاعة فأتيناه فقلنا له : بلغنا عنك في الشفاعة قول الله مخالف لك فيها في كتابه ، فنظر في وجوهنا فقال : من أهل العراق أنتم .
قلنا : نعم .
فتبسم وقال : وأين تجدون في كتاب الله.
قلت : حيث يقول {ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته}( ) و {يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها }( ) و {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها }( ) وأشباه هذا من القرآن فقال : أنتم أعلم بكتاب الله أم أنا؟
قلنا : بل أنت أعلم به منا .
قال : فوالله لقد شهدت تنزيل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشفاعة الشافعين ، ولقد سمعت تأويله من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن الشفاعة لنبيه في كتاب الله قال في السورة التي تذكر فيها المدثر {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين }( ) الآية ، ألا ترون أنها حلت لمن مات لم يشرك بالله شيئاً .
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الله خلق خلقاً ولم يستعن على ذلك ، ولم يشاور فيه أحداً ، فأدخل من شاء الجنة برحمته ، وأدخل من شاء النار .
ثم إن الله تحنن على الموحدين فبعث الملك من قبله بماء ونور فدخل النار ، فنضح فلم يصب إلا من شاء ، ولم يصب إلا من خرج من الدنيا لم يشرك بالله شيئاً فأخرجهم حتى جعلهم بفناء الجنة ، ثم رجع إلى ربه فأمده بماء ونور ، ثم دخل فنضح فلم يصب إلا من شاء الله ، ثم لم يصب إلا من خرج من الدنيا لم يشرك بالله شيئاً فأخرجهم حتى جعلهم بفناء الجنة ، ثم أذن الله للشفعاء فشفعوا لهم فأدخلهم الله الجنة برحمته وشفاعة الشافعين)( ).
الحادية عشرة : لقد أختتمت آية البحث بالدعاء بأن يتوفاهم الله مع الأبرار الذين بروا ووفوا بتقوى الله ، وأداء الفرائض العبادية ، لبيان حرص كل مسلم على حسن العاقبة ، وعلى عدم مغادرة الدنيا مثل مغادرة الظالمين لهما الذين تذكرهم الآية السابقة بالذم والتبكيت من جهات :
الأول : الذم بالنعت بالظالمين ، والنسبة بين الظلم والكفر عموم وخصوص مطلق ، لبيان قانون وجوب إمتناع المسلم عن ظلمه لغيره مسلماً كان أو غير مسلم.
وهذا الإمتناع من مصاديق نداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان ، وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثاني : حرمان الكفار أنفسهم من الدعاء (ربنا) وما فيه من القرب من الإحسان للذات ، والقرب من رحمة الله ، قال تعالى [إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثالث : الملازمة بين ظلم النفس بالكفر وبين دخول النار .
الرابع : قانون أشد ما يكون الإنسان بحاجة إلى النصير يوم القيامة ، فيحجب الكافر عن نفسه النصرة يومئذ .
الثانية عشرة : لقد اختتمت آية البحث بسؤال المسلمين ان يتوفاهم الله عند الأجل مع الأبرار والمحسنين ، وفيه بلحاظ آية السياق سؤال أمور :
الأول : السلامة من فعل السيئات والتي تكون عاقبتها النار .
الثاني : العصمة من الخزي في الدارين لقانون لا يخزي الله الأبرار .
الثالث : الوقاية من ظلم الغير والتعدي عليه .
الرابع : قانون بيان المسلمين الحاجة إلى النصر من الله عز وجل ، ومن أسمائه تعالى (النصير) و(الناصر) .
الخامس : تبرأ المسلمين من الذين يدخلون النار بظلمهم لأنفسهم .
السادس : تقدير الجمع بين الآية السابقة وخاتمة آية البحث على وجوه :
الأول : ربنا توفنا مع الأبرار الذين تدخلهم الجنة وتنجيهم من دخول النار .
الثاني : ربنا توفنا ما الأبرار الذين لا تخزيهم في النشأتين .
الثالث : ربنا توفنا مع الأبرار الذين امتنعوا عن الظلم بواقية منك .
الرابع : ربنا توفنا ما الأبرار الذين نصرتهم في الدنيا والآخرة .
قراءة في الآية السابقة
لقد تضمنت الآية السابقة مسائل :
الأولى : نداء المسلمين بصيغة التوسل والخضوع [ربنا] وهل يساعد أداء المسلم الصلاة خمس مرات في اليوم وليلته على اللجوء إلى الله عز وجل بالدعاء والخشوع.
الجواب نعم ، وهو من منافع الصلاة ، لذا قال تعالى [وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ) كما تؤدي تلاوة آية السياق والبحث إلى حسن التوجه إلى الله في الصلاة ، والإنقطاع إليه سبحانه بالدعاء والحاجة .
الثانية : اقرار المسلمين بالمعاد والحساب ، والثواب على الأعمال ، وجزاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات اللبث الدائم في الجنة ، وجزاء الكافرين دخول النار .
الثالثة : استجارة المسلمين من دخول النار وشدة عذابها ، وما في هذا الدخول من الخزي بين الخلائق ، وليس في القرآن دعاء ادخلهم النار ، بينما ورد الدعاء بدخول الجنة بقوله تعالى [رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
وورد لفظ [أَدْخِلْهُمْ] مرة واحدة في القرآن في هذه الآية ، ولم يرد لفظ (ادخله) لبيان النفع العظيم بالسؤال بصيغة الجمع.
كما ورد لفظ [أَدْخِلْنَا] مرة واحدة في القرآن حكاية عن موسى عليه السلام [قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ) .
وهل المقصود من ضمير المتكلم (نا) موسى وهارون عليهما السلام أم المعنى الأعم وإرادة المسلمين ، لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً .
المختار هو الأول لبيان حاجة الأنبياء إلى الدعاء والرجاء ، وسؤالهم الدخول في رحمة الله في الدنيا والآخرة.
نعم تشمل خاتمة الآية [وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] السؤال والدعاء من موسى عليه السلام للمسلمين والناس جميعاً ، وبتلاوة المسلمين هذه الآية أصبحوا ورثة موسى وهارون في ذات الدعاء والمسألة.
ويمكن أن يقال من خصائص الرسل أولي العزم الدعاء للناس جميعاً .
الرابعة : يدل قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ]( ) على أمور:
الأول : النشور حق والمعاد حق والجزاء على الأعمال حق .
الثاني : قانون اقتران الخزي بدخول النار .
ومن خصائص الإنسان حرصه على إجتناب الخزي ، والخزي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فيزداد الخزي مع شدة سوء الفعل .
فجاءت آية السياق رحمة بالناس جميعاً لتذكرهم بلحوق الخزي وما يحرصون على إجتنابه في الدنيا بالدخول في النار .
الثالث : تبين الآية وجوهاً :
أولاً : قانون ترشح الخزي عن فعل السيئات .
ثانياً : قانون آيات القرآن نجاة من الخزي في النشأتين ، وهو من أسرار إتصاف القرآن بصفة المعجزة العقلية .
ثالثاً : قانون تلاوة آيات القرآن واقية من الخزي .
رابعاً : قانون انعدام النصير للظالمين مجتمعين ومتفرقين يوم القيامة ، والذي يدل في مفهومه على الولاية والنصرة للمؤمنين يوم القيامة ، قال تعالى في خطاب للمسلمين ، وتثبيت أقدامهم في منازل الإيمان [فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ]( ) .
دروس من الآية السابقة
لقد تضمنت الآية السابقة مسائل :
الأولى : نداء المسلمين بصيغة التوسل والخضوع [ربنا] وهل يساعد أداء المسلم الصلاة خمس مرات في اليوم على اللجوء إلى الله عز وجل بالدعاء والخشوع ، الجواب نعم ، وهو من منافع الصلاة ، لذا قال تعالى [وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
وهل لها موضوعية في الإستجابة وسرعتها ، الجواب نعم .
كما تؤدي تلاوة آية السياق والبحث إلى حسن التوجه إلى الله في الصلاة والإنقطاع إليه سبحانه بالدعاء والحاجة .
الثانية : إقرار المسلمين بالمعاد والحساب والثواب على الأعمال ، وجزاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات اللبث الدائم في الجنة ، وجزاء الكافرين .
الثالثة : قانون اقتران دخول النار بالخزي لبداية الآية السابقة [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( )، وتقدير الآية من وجوه :
الأول : فقد أخزيته عند الملائكة ، قال تعالى [عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
الثاني : فقد أخزيته بين أهل النار أنفسهم .
الثالث : فقد أخزيته عند أهل الجنان ، إذ يفقده وأصحابه وجيرانه ممن فازوا بدخول الجنة ، وهل يستعرضون أسباب دخوله النار وحرمانه من الشفاعة ومن دخول الجنة ، الجواب نعم .
الرابع :نزول الخزي بالذي يدخل النار عند أهل المحشر كافة .
الرابعة : لا يأمر بدخول أحد النار إلا الله عز وجل ، لقوله تعالى [مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ]( )، وفيه وجوه :
الأول : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفة أحكام عالم الآخرة .
الثاني : الطمع برحمة الله يوم القيامة ، ورجاء شفاعة القرآن وتلاوته للمسلمين.
ومن خصائص آية البحث أنها توسل لقبول شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين والمسلمات لإجتهاده في التبليغ.
و(عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول الله [وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى]( )، فقال : إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)( ).
الثالث : الآية من مصاديق قوله تعالى [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( )، لبيان كثرة مصاديق هذه الآية في القرآن والسنة .
وهل يحتمل كون هذه مصاديق [مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ] في اكثر من ألف آية من القرآن أو أقل منه ، المختار هو الأول ، مما يلزم إحصاء وتتبع آيات القرآن آية آية من قبل علماء التفسير واللغة .
الخامسة : قانون لجوء المسلمين إلى الله عز وجل فهو النصير والولي والناصر ، وليس للظالمين من نصير في الدنيا والآخرة ، ومما في الدنيا قوله تعالى [وَلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا]( ).
قانون مصاحبة الخزي للكفر
لقد ذكرت الآية السابقة الظالمين وإنعدام الناصر لهم ، وتحتمل صفة الظالمين بلحاظ الخزي وجوهاً :
الأول : إنها خزي في الدنيا .
الثاني : لحوق الخزي للظالمين في الآخرة ، بدليل آية السياق [مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ]( ).
الثالث : إرادة الخزي في الدنيا والآخرة.
والمختار الفرد الجامع وهو الأخير أعلاه ، فصحيح أن آية البحث أخبرت عن الخزي في الآخرة إلا أن آيات أخرى اثبتت لحوق الخزي بهم في الدنيا ، كما في قوله تعالى [إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ) .
وتتضمن الآية أعلاه ذكر عقوبة الذين يفسدون في الأرض في الدنيا والآخرة ، لبيان أنه مصداق من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة حينما تساءلوا عن جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) وأنه يفسد الأرض ، فاجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل بعثه الأنبياء مع كثرتهم وتعاقبهم ، إذ يبلغ عددهم مائة وأربعة وعشرين ألف نبي .
قانون تبرأ المسلمين من الظالمين
لقد أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( )
فهل هذا القول حكم صادر من عند الله ، أم أنه من ضمن دعاء المسلمين.
لقد ورد ست مرات في القرآن منها من عند الله في خطاب الله عز وجل لأهل النار [فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ]( )، على لسان النبي في قوله تعالى [وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
وفيه نكتة عقائدية من وجوه :
الأول : قانون تبرء المسلمين من الظالمين في الدنيا والآخرة .
الثاني : تنزه المسلمين من الظلم والتعدي والغزو والوأد .
الثالث : قانون سعي المسلمين للنجاة من سوء عاقبة الظالمين .
الرابع : قانون لجوء المسلمين إلى الله عز وجل للنجاة .
الخامس : قانون إمتناع المسلمين عن الشفاعة للظالمين يوم القيامة.
السادس : التوسل إلى الله عز وجل لنجاتهم من الإجتماع في النار مع المشركين .
السابع : شكر المسلمين والمسلمات لله عز وجل لفتح باب الإستغفار لهم ، وفيه غلق لباب شماتة الظالمين ، قال تعالى [رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
وأصل الظلم وضع الشئ في غير موضعه ، ويفيد معنة القهر والجور والغلبة والتعدي بغير حق ، ومنه إفتراء الكذب على الله.
وقد صدر الجزء الخمسون بعد المائتين من هذا السِفر بتفسير الآية السابقة [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( )، وفيه (وفي الآية إنذار من توظيف الذكاء الإصطناعي والعلوم مطلقاً في الإضرار بالذات والغير ، قال تعالى [وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وتدل الآية أعلاه على إمكان تسخير هذا الذكاء المخترع لخدمة الإنسانية جمعاء وفي باب البناء والصحة والزراعة والصناعة ، وتوفير الخدمات ولم يرد لفظ (تلقوا) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
ولو استعمل الإنسان الذكاء الإصطناعي عن حسن نية ، ولكنه تسبب بالإضرار الفادح بالغير سواء الضرر المادي أو المعنوي فهل يترتب عليه الضمان أم يشمله حديث الرفع .
الجواب هو الأول ، لذا لابد من ضوابط قانونية ودولية لعمل الذكاء الإصطناعي خاصة مع ارتقائه في المستقبل)( ).
تقدير الجمع بين خاتمة الآية السابقة مع آية البحث
أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ) وتقديره بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : وما للظالمين الذين لا يقرون بالربوبية المطلقة لله تعالى من أنصار.
الثاني : وما للظالمين الذين امتنعوا عن الإستجابة لنداء الإيمان من أنصار .
الثالث : وما للظالمين الذين حاربوا النبوة والتنزيل من أنصار .
الرابع : وما للظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالجحود بالآيات الكونية ومعجزات الأنبياء من أنصار .
الخامس : وما للظالمين الذين لم يؤمنوا بالله والملائكة والنبيين واليوم الآخر من أنصار ، قال تعالى [وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا]( ).
السادس : وما للظالمين الذين يخفون الكفر مع إظهارهم الإيمان من أنصار ، قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ]( ).
السابع : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان فحجبنا عن الظلم وسوء عاقبته .
ولا يحصي عدد الذين انتفعوا من الرسالات السماوية في السلامة من الظلم للذات والغير إلا الله عز وجل .
الثامن : من أسرار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزته العقلية، وهي آيات القرآن ، وتلاوة كل مسلم ومسلمة لها سبع عشرة مرة في اليوم ، لتكون حصانة من الظلم وسبب نجاة من النار من جهات :
الأولى : الأجر والثواب على الإمتثال لأمر الله عز وجل باقامة الصلاة، قال تعالى [إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الثانية : مضاعفة الحسنات على تلاوة القرآن والتسبيح والتهليل في الصلاة من غير شراء لها بالصدقة ونحوها .
وورد عن أبي سعيد الخدري (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله اصطفى من الكلام أربعاً : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
فمن قال سبحان الله؛ كتبت له عشرون حسنة ، وحطت عنه عشرون سيئة ، ومن قال الله أكبر؛ مثل ذلك ، ومن قال لا إله إلا الله؛ مثل ذلك ، ومن قال الحمد لله رب العالمين . من قبل نفسه له ثلاثون حسنة ، وحطت عنه ثلاثون سيئة)( ).
الثالثة : قانون التلاوة مدرسة أخلاقية تمنع من الهّم بالمعصية وتعصم الجوارح من الظلم والتعدي ، ويفاجئ المسلم يوم القيامة بالإطلاع على أفراد قانون منع القرآن من المعصية ، قال تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( ).
التاسع : قانون التضاد بين انتفاء الأنصار للظالمين ، وبين فوز المسلمين بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو الذي ذكرته الآية بصفة المنادي للإيمان .
العاشر : وما للظالمين الذين لم يقولوا آمنا بربنا ، ولم يتسغفروا الله من أنصار .
الحادي عشر : قانون التضاد بين الأبرار والظالمين .
الثاني عشر : وما للظالمين من أنصار عند دخولهم القبر ، لذا أختتمت آية البحث بسؤال المسلمين لله عز وجل [وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ]( ) للجمع بين العفو والثواب .
الوجه الثاني : صلة آية البحث بالآية قبل السابقة [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
وفيها مسائل :
المسألة الأولى : ابتدأت آية السياق بالاسم الموصول (الذين) مما يدل على اتصالها الموضوعي بالآية السابقة لها ، وهو من إعجاز القرآن لقانون الفاصلة بين الآيات لا تفصل بين الآيات في معناها ، وصيغة العطف بينها.
فقد اختتمت الآية التسعين بعد المائة بقوله تعالى [لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ]( )، وابتدأت آية السياق ببيان صفة حميدة لأولي الألباب والعقول ، وهي انقطاعهم للذكر والدعاء والتفكر في خلق السموات والأرض .
ونزلت آية البحث لبيان خصلة حميدة لأولي الألباب وهي الدعاء بعد التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمور لا يقدر عليها إلا الله عز وجل وهي :
الأول : مغفرة ومحو الذنوب .
الثاني : العفو عن المعاصي والسيئات .
الثالث : ستر الحال ومنع الفضيحة والخزي في الدنيا والآخرة .
الرابع : الوفاة على الإيمان والصلاح ، ومع أهل الصدق والتقوى والصلاح ، لبيان اختتام آية البحث بسؤال الحشر في النعيم لقوله تعالى [إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ]( ).
المسألة الثانية : ذكرت آية السياق صفات حميدة عند أولي الألباب وأهل الإيمان وهي :
الأولى : إقامة الصلاة وتكرار ذكر الله عن قيام .
الثانية : تعاهد ذكر الله والتسبيح في حال القعود.
الثالثة : بيان قانون السنة النبوية من مصاديق النداء في قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا]( ) ومن الآيمان تعاهد سلامة آيات القرآن من التحريف ، وتوثيق الحديث النبوي ، والحرص على العمل بمضامينه لأنه مرآة للقرآن .
الرابعة : توالي ذكر الله في حال الإضطجاع وعند الشروع في وضع الرأس على الوسادة ، وعند الإستيقاظ .
و(عن معاذ بن جبل قال : بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدف من جُمدان( ) قال : يا معاذ أين السابقون؟ قلت مضى ناس قال : أين السابقون الذين يستهترون بذكر الله؟ من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله)( ).
وفي هذا الحديث تعليم وإرشاد ، فان المتبادر من السابقين هم الذين سبقونا بالمغادرة إلى الآخرة كما يظهر بجواب معاذ أعلاه ، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بيّن أن السابقين في الإصطلاح يشمل الأعلى مرتبة في الذكر والإكثار منه وإن كان زمانهم متأخراً .
وفيه شاهد على حاجة الصحابة وعامة المسلمين للحديث النبوي ونداءاته للهدى والذكر ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا]( ).
ومن الإعجاز في الحديث أعلاه بيان قانون التسابق في الذكر بين الأولين والآخرين في حلبة واحدة هي كثرة الذكر ، مما يدل على توثيق الملائكة للذكر .
ويسمى (المُقَصِّبُ: هو الذي يُحْرِزُ في السِّبَاقِ قَصَبَ السَّبْقِ)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال (كان أبي كثير الذكر ، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس ، وكان يأمر بالقراءة من كان يقرأ منا ، ومن كان لا يقرأ منا أمره بالذكر.
قال : والبيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عز وجل فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدري لأهل الأرض ، والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله فيه تقل بركته ، وتهجره الملائكة ، وتحضره الشياطين .
ثم قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال : من خير أهل المسجد ، فقال : أكثرهم لله ذكرا)( ).
الخامسة : المداومة على ذكر الله في كل حال وحسن التوكل على الله ، والنطق بالبسملة عند الشروع بالفعل ، والإكثار من قول الحمد لله في حال السراء والضراء لإعلان الرضا بقضاء وقدر الله عز وجل .
وهل الإستغفار من ذكر الله ، الجواب نعم ، ومن بدائع السنة النبوية الإخبار عن قانون الذكر جهاد.
لقد أتصف المسلمون بصفة أمة الإستغفار ، فلا تلحق بهم أمة في هذا المضمار ، فهم فرسانه بالليل والنهار ، ومن الآيات جمعهم بين الصيام والإستغفار ، والصلاة والإستغفار ، وهو من إيمانهم بالنداء الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي أداء مناسك حج بيت الله الحرام ، قال تعالى [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وورد (عن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أن رجلاً سأله فقال : أي المجاهدين أعظم أجراً ، قال : أكثرهم لله ذكراً قال : فأي الصائمين أعظم أجراً؟ قال : أكثرهم لله ذكراً)( ).
السادسة : ذكر الله إقامة الصلاة في غلبة على حال الإستراخاء التي سبق النوم .
وفي الثناء على الذين يقيمون الصلاة أوان العشاء قال تعالى [َتتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ]( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (قال: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة)( ).
لقد سخروا عقولهم لجلب المنافع في الدنيا والآخرة بذكر الله على كل حال ، والذي يدل في مفهومه على العزوف والإنصراف عن المعاصي والسيئات.
وهل ذكر الله على كل حال من سماع نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان ، الجواب نعم ، وفيه شاهد على إستجابة المسلمين للأمر الإلهي ، لكل مكلف ومكلفة بالصلاة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ) أي فرضاً وواجباً ،وإن اختلفت كيفية الصلاة في الملل السماوية .
لتفوز أجيال المسلمين بأدائها تامة من غير نقصان ، وهو من مصاديق النداء الذي سمعه المسلمون من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان ، ومن مصاديقه قوله (صلوا كما رأيتموني أصلي)( ).
المسألة الثالثة : لقد ذكرت آية السياق صفة حميدة لأولي العقول والألباب الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض ، لبيان قانون التفكر في خلق السموات والأرض من مصاديق التسخير في قوله تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ]( ).
لينتفع الناس جميعاً من هذه النعم والآيات الكونية ويتخذها أولو العقول عبرة وموعظة وعلامات على وجوب عبادة الله الذي خلقها ، وهذه العبادة من الشكر لله عز وجل .
ومنها ما ذكرته آية السياق بذكر المؤمنين لله عز وجل من جهات :
الأولى : أداء الصلاة اليومية على كل حال ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الثانية : تلاوة آيات القرآن في الصلاة وخارجها .
الثالثة : ذكر الله عز وجل بالتحميد والتسبيح والتهليل ، وبابتداء الشروع بالعمل بقول (بسم الله الرحمن الرحيم).
الرابعة : العمل بمضامين الشريعة من الأوامر والنواهي ومطلق التكاليف الخمسة.
وهل يشترط في اتيانها قصد القربة لتكون من مصاديق ذكر الله ، الجواب لا .
الخامسة : ذكر أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنته الفعلية فانها من عمومات الذكر لقوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
لقد ذكرت آية البحث سماع المسلمين لنداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان وأنهم استجابوا له ، ومن مصاديق هذه الإستجابة ذكرهم لله عز وجل عن قيام وقعود وعلى جنوبهم ، وهو من مصاديق بركة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيض القرآن ، في صلاح أمة لذكر الله على كل حال ، وبأي هيئة ووقت .
فلا تمر دقيقة من أفراد الزمان الطولية في هذا الزمان إلا وهناك ذاكر لله عن قيام ، وذاكر له من قعود ، وآخر مستلقي على جنبه يذكر الله عز وجل من الرجال والنساء .
وعن أنس بن مالك (قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك فطلعت الشمس ذات يوم بضياء وشعاع ونور لم نرها قبل ذلك فيما مضى ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجب من ضيائها ونورها ، إذ أتاه جبريل فسأل جبريل : ما للشمس طلعت لها نور وضياء وشعاع لم أرها طلعت فيما مضى .
قال : ذاك أن معاوية بن معاوية الليثي مات بالمدينة اليوم ، فبعث الله إليه سبعين ألف ملك يصلون عليه .
قال : بم ذاك يا جبريل؟ قال : كان يكثر [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( )، قائماً وقاعداً وماشياً وآناء الليل والنهار استكثر منها فإنها نسبة ربكم ، ومن قرأها خمسين مرة رفع الله له خمسين ألف درجة ، وحط عنه خمسين ألف سيئة ، وكتب له خمسين ألف حسنة ، ومن زاد زاد الله له .
قال جبريل : فهل لك أن أقبض الأرض فتصلي عليه! قال : نعم . فصلى عليه)( ).
فان قلت تضمنت آية السياق وصفاً لأولي الألباب ، والنسبة بينهم وبين المسلمين العموم والخصوص المطلق خاصة بلحاظ أفراد الزمان الطولية ، وإرادة ما قبل الإسلام .
الجواب هذا لا يمنع من إرادة المسلمين وإكرامهم لتعاهدهم أداء الصلاة على كل حال ، والمداومة على ذكر الله عز وجل ، خاصة مع مجئ آية السياق بصيغة المضارع [يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
المسألة الرابعة : يدل وصف الله عز وجل لأولي الألباب بأنهم يتفكرون في خلق السموات والأرض على قانون التفكر في الخلق حسن ذاتاً وأثراً ، وهل فيه أجر وثواب ، الجواب نعم ، في حالات منها :
الأولى : اقتران التفكر في خلق السموات والأرض بالإيمان .
الثانية : ترشح هذا التفكر عن الإيمان .
الثالثة : قراءة آية السياق بصيغة الإنشاء بأنها باعث للتفكر في خلق السموات والأرض .
الرابعة : إتخاذ هذا التفكر وسيلة وسبيلاً للهداية والإيمان.
وسئل بعض الأعراب (ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: يا سبحان الله، إن البعرة لتدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير)( ).
ومن بدائع صنع الله الإعجاز في المحسوسات واستدل بورق التوت تأكله النحل فيخرج منها العسل ، قال تعالى [َيخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
وتأكله دودة القز فيخرج منها الحرير ، وتأكله الضباء فيخرج منها المسك ذو الرائحة الطيبة ، بينما تأكله الأنعام والإبل فيخرج منها روثاً وبعراً ، فالأصل واحد ، والفروع متباينة بآية من عند الله عز وجل .
ويدرك الذي يتفكر في خلق السموات والأرض وما بينهما آيات حسية وعقلية ليس لها حصر .
وهل آيات خلق السموات والأرض والتفكر فيها من مصاديق نداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان ، الجواب نعم .
بالإضافة إلى بيان السنة النبوية لهذه الآيات وتقريب المدركات العقلية بالحسيات والذي صار علم الفلك الحديث يظهر بعض مصاديقها.
و(عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال : هل تدرون ما هذا .
قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : هذا العنان هذا روايا الأرض يسوقه الله عزّوجل إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه ، ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك .
قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : فإنها الرقيع موج مكفوف وسقف محفوظ .
قال : فكم تدرون بينكم وبينها .
قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : فإن بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة .
قال : هل تدرون ما فوق ذلك .
قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : فإن فوقها سماء أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدّد سبع سماوات بين كل سماءين مسيرة خمسمائة سنة.
ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك .
قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء السابعة مثلما بين سماءين.
ثم قال : هل تدرون ما الذي تحتكم .
قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : فإنها الأرض .
قال : فهل تدرون ما تحتها .
قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : فإن تحتها أرضاً أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدّد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة.
ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السابعة السفلى لهبط على الله ، ثم قرأ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( ).
المسألة الخامسة : من رشحات نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان التفكر في خلق السموات والأرض ، لذا تجد كثرة الآيات التي تبين بدائع خلق الله عز وجل في أغلب سور القرآن.
واتخذ الأنبياء الآيات الكونية حجة ومادة للتبليغ والبشارة والإنذار ، قال تعالى [رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا]( ).
وتقدير الصلة بين الآية أعلاه وبين آية البحث (منادياً مبشراً بالجنة بالإيمان ، ومنذراً بالنار عن الكفر وتكذيب الآيات والمعجزات).
وجاءت آية السياق لحض المسلمين والناس على التفكر في خلق السموات والأرض ، وتذكير المؤمنين باتخاذه نوع عبادة بالتسليم بأن الله عز وجل هو الذي خلقه .
وهل الدعوة للتفكر في خلق السموات والأرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الجواب نعم.
ومن خصائص ذكره في القرآن أنه مدرسة في الإحتجاج وباعث للخشية من الله ، ومانع من الغفلة العامة .
المسألة السادسة : تفكر المسلمين في خلق السموات والأرض نوع شكر لله سبحانه على هذه النعمة والآية العظمى وتسخيرها للناس لتدوم هذه النعمة على الناس .
فمن منافع نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان وتصديق المسلمين به بعث المسلمين والمسلمات على الشكر لله عز وجل ، وفيه توسل ورجاء لإستدامة نعمة خلق السموات والأرض والإنتفاع الأمثل منها ، ومن تسخير الله عز وجل لها في منافع الناس.
لقد اثنى الله عز وجل على نفسه بقوله تعالى [يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ]( )، وفيه تأكيد لقانون إرتفاع السموات بغير عمد .
وهو الذي تؤكده السنة النبوية واحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمضامين الآية أعلاه .
و(عن أنس قال : جاءت يهود خيبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم خلق الله الملائكة من نور الحجاب وآدم من حمإ مسنون وإبليس من لهب النار ، والسماء من دخان ، والأرض من زبد الماء ، فأخبرنا عن ربك فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم.
فأتاه جبريل بهذه السورة [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( ) ليس له عروق تتشعب [اللَّهُ الصَّمَدُ]( )، ليس بالأجوف لا يأكل ولا يشرب [لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ]( )، ليس له والد ولا ولد ينسب إليه [وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ]( )، ليس من خلقه شيء يعدل مكانه يمسك السموات إن زالتا .
هذه السورة ليس فيها ذكر جنة ولا نار ، ولا دنيا ولا آخرة ولا حلال ولا حرام انتسب الله إليها فهي له خالصة ، من قرأها ثلاث مرات عدل بقراءة الوحي كله ، ومن قرأها ثلاثين مرة لم يفضله أحد من أهل الدنيا يومئذ إلا من زاد على ما قال ، ومن قرأها مائتي مرة أسكن من الفودوس سكناً يرضاه ، ومن قرأها حين يدخل منزله ثلاث مرات نفت عن الفقر ونفعت الجار ، وكان رجل يقرأها في كل صلاة فكأنهم هزئوا به وعابوا ذلك عليه فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال : وما حملك على ذلك؟ قال يا رسول الله : إني أحبها قال : حبها أدخلك الجنة .
قال : وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ويرددها حتى أصبح)( ).
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : ربنا إننا سمعنا محمداً رسولك ينادي اذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم فآمنا وامتثلنا ، إذ أن لفظ (فآمنا) في آية البحث أعم من الإيمان اللفظي بل يشمل الإعتقاد والتصديق بالقلب.
ومن إعجاز آية السياق صبغة العموم فيها ، ببيان قانون ذكر الله عن قيام وقعود واستلقاء من خصال أولي الألباب ، وشمول هذا القانون المؤمنين في الأجيال المتعاقبة .
وأول من واظب على ذكر الله في الأرض هو آدم وحواء ثم الأنبياء والمؤمنون في كل زمان ليرث المسلمون هذا الذكر المتصل في كل حال إلى يوم القيامة بأن بعث الله عز وجل لهم النبي محمداً منادياً ومبلغاً.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية انفراد أجيال أمته بذكر الله في كل الأحوال التي يكون عليها الفرد الواحد منهم ذكراً أو أنثى قائماً وقاعداً ، فلم يمنعهم العمل والإشتغال في النهار من الذكر وأداء الصلاة اليومية في أوقاتها.
ولا ينسى الذكر عند الإستلقاء وإرادة النوم ، وهل كثرة المساجد وانتشارها في أقطار الأرض من المعجزات الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
وهل هو من مصاديق آية السياق [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، الجواب نعم ، لذا وردت النصوص باستحباب الصلاة جماعة في المسجد .
وهل هو من مصاديق آية السياق [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، الجواب نعم ، لذا وردت النصوص باستحباب الصلاة في المسجد وجماعة.
لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) وقوله (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)( ).
المسألة الثامنة :أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ] لبيان حاجة الإنسان عند الموت بمغادرة الدنيا على الإيمان وفيه لوم وتبكيت للذين يغادرونها على الكفر والجحود ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ) .
وذكر المسلمون الأبرار فلا بد ان صفات الأبرار معلومة عندهم وعند عامة الناس ، ومنها ما ورد في آية السياق من ذكرهم لله عز وجل عن قيام وقعود وعلى جنوبهم ، ومنها تفكرهم في خلق السموات والأرض والإستدال بها كمعلول ومخلوقات على وجوب عبادة الله عز وجل والإنصياع لأوامره .
لقد سأل المسلمون الله عز وجل أن ينتهجوا سيرة الأنبياء والصالحين ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ]( ).
تقدير الجمع بين الآيتين
فيه وجوه :
الأول : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي لذكر الله قياماً .
الثاني : سمعنا منادياً ينادي لذكر الله قعوداً .
الثالث : سمعنا منادياً ينادي لذكر الله عن جنوب .
الرابع : سمعنا منادياً ينادي بالتفكر في خلق السموات .
الخامس : سمعنا منادياً ينادي للتفكر في خلق الأرض .
السادس : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان فآمنا لانك ما خلقت السموات والأرض باطلاً .
السابع : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان فآمنا فقنا عذاب النار.
لقد ورد لفظ (باطلاً) مرتين في القرآن إحداهما في آية السياق والأخرى في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ]( )، لتتجلى وحدة الموضوع بين الآيتين في موضوع الخلق والنشأة وأن الله عز وجل هو خالق كل شئ ، ولم يخلق الأكوان إلا لحكمة .
خصال أولي الألباب
ذكر خصال حميدة عند أولي الألباب ، منه ما تضمنه قوله تعالى [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، ويسخرون عقولهم للتدبر والتفكر بالآيات الكونية واتخاذها مادة للهدى والإيمان .
ولتتجلى منافع نعمة العقل وتعضيدها بالآيات الكونية واختلاف الليل والنهار وشروق الشمس ، وإطلالة القمر في نظام كوني دقيق يدعو العقول إلى الإيمان ويحجبها عن الضلالة والغواية .
وفي آية السياق دعوة للناس جميعاً للتفكر في خلق السموات والأرض ، واستقراء وجوب عبادة الله عز وجل من عظمة مخلوقاته بالبرهان اللمي والإني ودلالة المعلول على العلة والمخلوق على الخالق .
وهل جاء المنادي للإيمان وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الدعوة ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات السموات والأرض ، وتأكيدها بأن الله هو الخالق والرازق والمدبر لكل شئ ، وفي التنزيل [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ]( ).
الثانية : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتفكر اليومي في خلق السموات والأرض مع تلاوة آية السياق والآيات المشابهة ، وترجمته على اللسان وعالم الفعل .
و(عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله السموات السبع والأرضين السبع في قبضته .
ثم يقول : أنا الله ، أنا الرحمن ، أنا الملك ، أنا القدوس ، أنا السلام ، أنا المؤمن ، أنا المهيمن ، أنا العزيز ، أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئاً ، أنا الذي أعيدها اين الملوك ، أين الجبارون)( ).
وهل طي السموات والأرض يوم القيامة من مصاديق قوله تعالى [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ]( )، الجواب نعم .
الثالثة : الأحاديث النبوية عن عظمة خلق السموات والأرض ولزوم التفكر فيها ، والإمتناع عن التفكر في ذات الله عز وجل .
و(عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :لا تتفكروا في عظمته ولكن تفكروا فيما خلق الله تعالى من الملائكة ، فإن خلقاً من الملائكة يقال له : إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى)( ).
الرابعة : الأحاديث التي تتضمن التدبر في خلق السموات والأرض ، والتي تكشف أسراراً في الخلائق ، وأحاديث الغيب بخصوص عالم الخلق والبعث على التدبر في الخلائق والأكوان وعظمتها ، وإتخاذها وسيلة للهدى والإيمان ، وهو من مصاديق تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [مُنَادِيًا] في آية البحث .
وبسند ضعيف عن جرير قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفر من أصحابه : أنا قارىء عليكم آيات من آخر الزمر فمن بكى منكم وجبت له الجنة ، فقرأها من عند [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ] إلى آخر السورة فمنا من بكى ومنا من لم يبك فقال الذين لم يبكوا : يا رسول الله لقد جهدنا أن نبكي فلم نبك فقال : إني سأقرأها عليكم فمن لم يبكِ فليتباكَ)( ).
نعمة التفكر
تفكر أولي الألباب في خلق الأرض بذاتها وبخلقها مع السماوات ، والصلة بينهما ، وقانون حاجة الأرض وعمارها ، للسماء وأهلها ، وبيان نعمة الله عز وجل على الناس بخلافتهم في الأرض ، ونزول الملائكة بالوحي والنصرة للأنبياء للتفكر في الجامع بين خلق السموات والأرض .
وهل منها نزول الملائكة يوم بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين ، لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، الجواب نعم .
لبيان الشأن والمنزلة الخاصة للمسلمين بالتفكر في حصة إضافية في المقام وهي نزول الملائكة من السماء إلى الأرض لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(وأخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]( ) قال هذا يوم أحد فلم يصبروا ولم يتقوا فلم يمدوا يوم أحد ، ولو مدوا لم يهزموا يومئذ)( ).
وعكرمة من التابعين ، وهو ضعيف .
وكذا (عن الضحاك في قوله [إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]( )، الآية قال : كان هذا موعداً من الله يوم أحد عرضه على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، أن المؤمنين إن اتقوا وصبروا أيدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ، ففر المسلمون يوم أحد وولوا مدبرين فلم يمدهم الله)( ).
والمختار أن الله عز وجل أمدهم يوم أحد بخمسة آلاف من الملائكة ، وأن المسلمين لم ينهزموا يومئذ ، فذات خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى ميدان معركة أحد صبر ، وتقوى ، وخشية من الله عز وجل .
و(عن ابن عباس في قوله [يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( )، فإنهم أتوا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم مسوِّمين)( ).
وقوله تعالى [مُسَوِّمِينَ] أي عندهم علامات تدل عليهم ، منها في نواصي خيلهم الصوف ، ومجزوزة أذناب خيلهم.
إن قوله تعالى [مُنْزَلِينَ] بخصوص ثلاثة آلاف ملك وقوله تعالى [مُسَوِّمِينَ] أمارة على نزول الملائكة ، فالله عز وجل كريم يخبر عن أوصاف متعددة للملائكة فلابد أنه ينزلهم لنصرة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وكأن صفة [مُرْدِفِينَ]( ) في ألف ملك ، و[مُنْزَلِينَ] في ثلاثة آلاف ملك وعد من عند الله بنزولهم.
و(قال عبد الله بن أوفى : كنا محاصري بني قريظة والنضير ما شاء الله أن نحاصرهم فلم يفتح علينا فرجعنا .
فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغسل ، فهو يغسل رأسه إذ جاءه جبرئيل عليه السلام.
فقال : يا محمد ، وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ثمّ نادى فينا فقمنا كالّين متعبين لا نعبأ بالسير شيئاً حتى أتينا بني قريظة والنضير ، فيومئذ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ، ففتح الله لنا فتحاً يسيراً وانقلبنا بنعمة الله وفضل.
وقال قوم : إنما كان هذا يوم أحد ، وعدهم الله عز وجل المدد إن صبروا ، فلم يصبروا؛ فلم يُمدوا ولا بملك واحد ولو أُمدّوا لما هزموا. وهو قول عكرمة والضحاك. وكان هذا يوم أُحد)( ).
وهل التفكر والتدبر في نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مصاديق قوله تعالى [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، الجواب نعم .
لبيان أن آيات الخلق جلية ومتجددة وغير منقطعة .
ليكون من مصاديق الآية وتقديرها : ويتفكرون في خلق السموات والأرض والآيات المستحدثة فيها .
قانون التفكر إقرار
لقد أقر أولي الألباب بأن الله عز وجل هو الذي خلق السموات والأرض بدليل قولهم [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا]( )، فذات التفكر في الخلائق يقود الإنسان طوعاً وقهراً وانطباقاً إلى حقيقة وهي لا يقدر على هذا الخلق إلا الله عز وجل ، وأنه سبحانه خلق الخلائق لغايات ومقاصد سامية وعلل لا تدركها الخلائق ، ومنها خلق آدم وحواء وانتشار ذريتهما في الأرض ، وحشر الناس يوم القيامة.
ثم دار الخلود فأما إلى النعيم بالجنان ، أو العذاب الأليم في النار ، فيلجأ أرباب العقول إلى الدعاء وسؤال الله عز وجل النجاة والسلامة من عذاب النار .
وهذا الدعاء من بركة بعثة الأنبياء ، وانتفاع المسلمين من رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهداية إلى الإيمان والصلاح .
تبين الآيات إجتهاد المؤمنين بذكر الله عز وجل والتفكر في آيات الخلق ، وتجليات قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ]( )، بلباس التقوى وصلاح الأركان فلم يسألوا المال والجاه في الدنيا ، إنما سألوا النجاة من عذاب النار ، لبيان قانون الملازمة بين الإيمان وسؤال النجاة من النار ، ترى لماذا لم يسألوا الجنة ، الجواب من جهات :
الأولى : ورود آيات أخرى في سؤال المؤمنين المغفرة ودخول الجنة.
وفي الثناء على المتقين وبشارتهم بالجنة ورد قوله تعالى [الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، مما يدل على أن المراد من أولي الألباب هم المتقون .
وعن الإمام الرضا عليه السلام قال (الايمان فوق الاسلام بدرجة، والتقوى فوق الايمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة، ولم يقسم بين العباد شئ أقل من اليقين)( ).
الثانية : تفقه المسلمين في المعارف الإلهية ، وأحوال الناس في الآخرة ، وأن الذي يبعده الله عن النار يدخل الجنة ، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ).
الثالثة : بيان تعدد مسائل الدعاء .
والتفكر في الخلق نعمة عظمى ونقيض الغفلة والجهالة ، لذا لابد أن يشكر المسلمون الله عز وجل على تذكير القرآن لهم بآيات الخلق والإبداع ، وعلى وجوب قراءتهم لها في الصلاة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا]( ).
مسألتان
هناك مسألتان :
الأولى : لما ذكرت آية السياق أولي الألباب .
الثانية : لماذا لم تقل الآية (لآيات للمؤمنين).
أما المسألة الأولى فتبين وظيفة أساسية من وظائف العقل وهي التفكر ببدائع خلق الله ، وتعاقب الليل والنهار ، والنظام الدقيق لسير الشمس والقمر والكواكب واتخاذ هذا التفكر سبباً للإيمان ، وإن لم تصل لطائفة من الناس معجزات الأنبياء ، أو أنها وصلتهم فيأتي التفكر في خلق السموات والأرض لتعضيد الأنبياء والتصديق بمعجزاتهم كأمر خارق للعادة مثلما أن السموات مرفوعة بغير عمد مع ثقل الأجرام السماوية التي لا يحصي أوزانها وكثافتها إلا الله عز وجل.
وكذا ينفرد الله عز وجل بإحصاء وزن وثقل ومساحة كل جرم من آلاف المليارات من الأجرام السماوية ، وإحصاء المسافة بينها بلغة الأرقام والأعداد لقوله تعالى [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( ).
ومنه مجموع أرقام هذه الأعداد التي يتعذر على الناس قراءتها لطول وكثرة أصغارها ، ومنها إحصاء الخلائق والملائكة في كل سماء ، الموجود والمعدوم والأصل مع الإكتشافات العلمية الحديثة زيادة الإيمان واتساع دائرة التوبة والإنابة مع لزوم قانون تسخير الإكتشافات الكونية للإيمان ، وفق إعلام وعلوم إيمانية تصل إلى الناس جميعاً .
إذ يدل قوله تعالى [لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ]( )، على مخاطبة الآيات الكونية للناس جميعاً بلحاظ أن كل إنسان عنده عقل يتفكر فيه ، ويتخذه وسيلة لإختيار الأحسن.
أما المسألة الثانية فمن رحمة الله بالناس في أجيالهم المتعاقبة في الدنيا أن جعل الآيات الكونية قريبة من كل واحد منهم ، وهي وسيلة للإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
نعم يتجلى ذكر المؤمنين بذات الآية بانتفاعهم الأمثل من التفكر في الآيات الكونية بأول وآخر الآية ، فهم دائبون على الذكر وأداء الفرائض العبادية ، ومنه إقامة الصلاة على كل حال .
أما في آخر الآية فانهم يشكرون الله عز وجل على نعمة الآيات الكونية العظيمة ، ويعلنون عجزهم عن إدراك كنهها ومنافعها بالقول [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
وبيان قانون لا يجير من النار إلا الله عز وجل ، فان قلت والشفاعة ، والجواب قانون الشفاعة فرع الإجارة والإستجارة بالله ، لذا قال تعالى [وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى]( ).
لقد ورد في قصة يوسف عليه السلام أنه رآى في المنام الكواكب تسجد له بقوله تعالى [يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ]( )، فهل من صلة بين ما ترمز إليه هذه الرؤيا ، وبين تفكر أولي الألباب في خلق السموات والأرض وتسخيرها لمنفعة الناس في النشأتين ، الجواب نعم .
ليعيش المسلمون في اليقظة سائحين في عظمة الخلائق ، وهو من معالم الإيمان .
قانون الآيات الكونية تعضيد للنبوة
لقد أخبر القرآن عن فضل الله بتسخير ما في السموات والأرض للناس ، وهو من اللطف الإلهي بخلفاء الأرض ، وبغية جذبهم إلى الإيمان ، وهدايتهم إلى عمارة الأرض بذكر الله ، قال تعالى [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ]( ).
ثم أخبرت الآية التي بعدها عن قانون عجز الناس وإن إجتمعوا عن عدّ وحساب نعمة الله عز وجل ، ومنها ذات خلق السموات والأرض وتسخير بدائع الخلق للناس للإنتفاع منها والتفكر في خلقها بما يؤدي إلى الإيمان والتصديق بالنبوات والتنزيل .
ويدل على هذا الجمع بين التفكر والإيمان قوله تعالى [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
ومن هذا التفكر وجوه :
الأول : عظمة الأكوان ودلالتها على عظيم قدرة الله .
الثاني : إنعدام المثال السابق لخلق السموات والأرض ، وفي ثناء الله على نفسه ، قال تعالى [بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ]( ).
الثالث : دقة أنظمة الكون .
الرابع : ضبط سير الشمس والقمر والأفلاك ، بما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل .
وهل خلقها الله عز وجل ، وجعل أنظمتها ثابتة بالذات ، أم أن الله عز وجل يتعاهد سيرها كل ساعة ، الجواب هو الثاني ، قال تعالى [وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
الخامس : تعاقب الليل والنهار كل أربع وعشرين ساعة ، فالسماء والأرض جزء من مجرة درب التبانة ، والتي يقدر عمرها بـ(13) مليار سنة وهي واحدة من مليارات المجرات التي قد تكون أكبر وأقدم منها .
وسمي العرب شطر المجرة الذي يظهر في كواكبه في السماء (درب التبانة) لأنها حلزونية الشكل وكأنها مثل الخطوط الملتوية من التبن الذي يتناثر خلف المواشي التي تحمله في الطريق ويرسم شكلاً حلزونياً .
ويسمى درب التبانة في الحضارات باسماء مختلفة ، فيسمى في الصين (النهر الفضي) وعند الإنكليز (THE MILKY WAY) أو الطريق اللبني وقيل أنه ترجمة عن الأغريق .
وكل مجرة تحتوي على مليارات النجوم والكواكب والأقمار والنيازك مع غبار كوني ومادة مظلمة.
وإذ تداخلت الحضارات في هذا الزمان ، وصار صوت الإيمان يصل إلى أهل الجحود والإلحاد ، وكذا العكس بواسطة الفضائيات ، ووسائل الإعلام التي تتغشى العالم كله.
جاءت هذه الإكتشافات الكونية الحديثة لتعضيد النبوة والقرآن ، وبيان حاجة أهل المشرق والمغرب لنداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإيمان.
وليكون الرجحان والغلبة لصوت الإيمان ، وهو من مصاديق آية البحث [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا]( ).
ولتكون الكواكب والأفلاك والنجوم والليل والنهار دعوة يومية للإيمان ، وناصراً للأنبياء ، وتثبيتاً لقلوب المؤمنين ، وترغيباً لها بالإيمان ، وواقية من مفاهيم الجحود .
لبيان وجوب انتفاع المؤمنين من الإكتشافات العلمية المبهرة الجديدة في الدعوة إلى الإيمان .
وآيات خلق العرش والكرسي أعظم وأعظم لبيان أن ما تم اكتشافه من الأفلاك البعيدة قليل بالنسبة للآيات الكونية الأخرى .
و(عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتدري ما الكرسي؟ قلت : لا .
قال : ما في السموات وما في الأرض وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ألقاها ملق في الأرض ، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة ألقاها الملق في الأرض.
وما الماء في الريح إلا كحلقة ألقاها ملق في ارض فلاة ، وما جميع ذلك في قبضة الله عز وجل إلا كحبة وأصغر من الحبة في كف أحدكم ، وذلك قوله وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ( ).
لبيان قانون تذكير السنة النبوية بالآيات الكونية دعوة للإيمان ، وهو من مصاديق آية البحث ، وقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
النسبة بين النجم والكوكب
الجرم السماوي هو الجسم الكبير الهائل خارج الغلاف الجوي لكوكب الأرض ، ومن الأجرام السماوية : الشمس ، القمر ، النجوم ، الكواكب ، المذنبات .
والنسبة بين النجم والكوكب عموم وخصوص من وجه .
فمادة الإتفاق بين النجم والكوكب من وجوه :
الأول : كل من النجوم والكواكب من بديع صنع الله وعظيم مخلوقاته.
الثاني : تسخير النجوم والكواكب من عند الله للناس جميعاً ، قال تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ]( ).
الثالث : كل من النجوم والكواكب آيات للتفكر في خلقها ، واتخاذ هذا التفكر طريقاً للهداية ، قال تعالى [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
الرابع : ذكرت كل من النجوم والكواكب في القرآن بصيغة المفرد ، قال تعالى [وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ* النَّجْمُ الثَّاقِبُ]( )، وقال تعالى [فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ]( )، والجمع ، قال تعالى [وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( )، وقال تعالى [إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ]( ).
الخامس : فصّل القرآن بين الشمس والقمر من جهة والنجوم من جهة أخرى ، وعلى التقسيم المستحدث للنجوم والكواكب ، واحتساب الشمس نجماً ، تكون الواو في الآية أعلاه (والنجوم) من عطف العام على الخاص.
السادس : هيئة الكروية لكل من النجم والكوكب .
السابع : لكل من النجم والكوكب قوة جاذبية .
الثامن : تدور النجوم والكواكب حول نفسها .
أما مادة الإختلاف فمن وجوه :
الأول : النحم أضخم وأكبر من الكوكب .
الثاني : تحدث تفاعلات نووية في نواة النجم فهو مشع بذاته ، بينما يعكس الكوكب الضوء الواقع عليه من الشمس ونحوها .
الثالث : النجوم أشد حرارة بكثير من الكواكب .
الرابع : يدور الكوكب حول النجم .
الخامس : يدور النجم حول مجرته بسرعة عالية ، بينما تدور الكواكب حول النجوم بسرعة أقل كثيراً .
السادس : تبدو النجوم للراصد من الأرض نقاطاً مضيئة مع خفوت الكواكب التي تبدو كروية .
السابع : الأرض كوكب داخل المجموعة الشمسية ، والشمس هي النجم الوحيد فيها ، وهي الأقرب من المجموعة إلى الأرض ، وتبعد عنها نحو (149) مليون كيلو متر .
الثامن : أقرب كوكب للأرض هو كوكب الزهرة ولأنه يبتعد في دورانه عن الأرض ، قال بعض العلماء أن عطارد وهو الأقرب إلى كوكب الأرض.
التاسع : تتعدد مواقع الكواكب في حركتها المستمرة ، بينما تتصف النجوم بمواقعها شبه الثابتة .
ليكن نداء النبي محمد في المقام على وجوه :
الأول : آيات القرآن باعث للتدبر في خلق الكواكب والنجوم والأفلاك.
الثاني : الآيات الخاصة بخلق السموات والأرض وتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها .
الثالث : السنة النبوية القولية بذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبدائع الخلق ، وإظهاره الخشية من الله عز وجل .
معجزة سرعة الضوء
من بديع صنع الله عز وجل إنتقال الضوء بسرعة فائقة تفوق الخيال ، فمع بعد الشمس عن الأرض بـ(150) مليون كم فان الضوء يقطعها في 8,3 دقيقة ، فهذه السرعة معجزة كونية لايقدر عليها إلا الله تعالى وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وتبلغ سرعة الضوء ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة ، لتكون الدقيقة الضوئية ثمانية عشر مليون كيلو متر .
وهل سرعة الضوء من مصاديق الآيات في قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
الجواب نعم ، وذات الضوء العام الذي يتغشى الأرض في النهار وسرعته الفائقة من هذه الآيات وبيان أن سرعة الملائكة أسرع من سرعة الضوء ، ويدل عليه قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
بدلالة الفاء في [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ] على السرعة الفورية ، فان قلت هذا في الإستجابة وليس في كيفية ومدة نزول الملائكة ، والجواب هو قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
تعاقب الليل والنهار
تبين آيات الليل والنهار الإعجاز الكوني في إختلاف وتعاقب الليل والنهار كل يوم لبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ينادي للإيمان في الليل والنهار.
ولا ينحصر نداءه بساعات النهار فقط ، وهذا النداء متصل مادامت السموات والأرض لأن المسلمين يؤدون الصلاة خمس مرات في اليوم ومنها صلاة العشاء عند العتمة ، وصلاة الفجر عند [الصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ]( ).
فمن فضل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه جعل الليل والنهار تعضيداً لنداءاته للإيمان ، وهذا الإختلاف وحده دعوة ونداء للإيمان ، فحتى الذي لا تصله دعوة خاتم الأنبياء فان الآيات الكونية تدعوه للإيمان ، والسعي للإصغاء لنداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ.
ومن المصاديق العملية لقوله تعالى [سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ]( )، ارتباط أوقات الصلاة اليومية بآيات كونية ، لتذكر كل واحدة منها الناس بالأخرى .
إن آيات خلق السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار دعوات متجددة كل ساعة للإيمان ، دعوات تنفذ إلى شغاف القلب حتى وإن كان الإنسان في خلوِة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ]( ) ، من وجوه :
الأول : خلق السموات حجة وبرهان على وجوب عبادة الله عز وجل .
الثاني : خلق الأرض وتسخير ما فيها من النعم رحمة من الله بالناس جميعاً .
الثالث : تباشير الصباح وإعلانه إطلالة الشمس بداية يوم جديد ، وما يحتويه من الغبطة التي تثبت وتزداد بالدعاء ، والكدورة وصرفها بالدعاء وأداء صلاة الصبح ، وهو من الإعجاز في تشريع صلاة الصبح بين الطلوعين لجلب الخير والنفع في النهار .
الرابع : غروب الشمس ، ومغادرتها قهراً لأنها تؤدي وظيفة الإشراف على النصف الثاني من الأرض في قسمة عادلة بين أقطار الأرض لا يستطيع الإنس والجن وإن اجتمعوا على تغييرها .
وفي هذا الزمان تستعمل التكنولوجيا في أصعدة كثيرة ولكنها تعجز عن حجب ضياء الشمس والقمر ، قال تعالى مخاطباً الناس جميعاً في أقطار الأرض [وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ]( ).
ومن هذا التسخير إتخاذ هذه الآيات سبيلاً للإيمان وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
لبيان حاجة الناس لشكرهم لله عز وجل على نعمة تسخير الشمس والقمر والليل والنهار كوسائل للهداية والإيمان مع النفع العام والخاص منها.
ومن مصاديق تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنادي بيانه للآيات الكونية ودلالتها على وجوب عبادة الله الذي خلقها ، وإكثاره من ذكرها كنعمة على أهل الأرض ولزوم شكر الله عز وجل عليها ، لبيان قانون اسم المنادي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يناسب أكثر آيات القرآن .
قانون كل اكتشاف في الفضاء آية لأولي الألباب
ذكرت آية السياق خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار بصيغة الجمع (لآيات) ولم تأت بصيغة التثنية جمعاً بين الخلق والإختلاف ، مما يدل على تعدد العلامات والبراهين التي تدل على عظيم قدرة الله وأنه سبحانه هو الإله والرب والمعبود .
وهل يمكن إحصاء الآيات الحسية والعقلية في خلق السموات والأرض والتي تترشح عنه ، وعن التباين بين الليل والنهار وتعاقبهما على الوعاء الزماني .
لتبعث آية السياق العلماء على التحقيق واستقراء الآيات الباهرات في السماوات وسعتها وسكانها ، ومنافعها.
وجاء سفر الإنسان إلى الفضاء في هذا الزمان ، والمناظير العملاقة التي تخترق الآفاق في عالم الكواكب والمجرات ليتجلى قانون وهو كل اكتشاف علمي آية لأولي الألباب.
لبيان قانون تجدد واستحداث مصاديق وشواهد عامة لقوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
وقانون كلما ارتقى الناس في كسب العلوم تجلت لهم براهين ومصاديق قوله تعالى [خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ]( ).
ومن إعجاز الآية الثناء على أولي الألباب لإدراكهم وتدبرهم في آيات السماء والأرض مع أن الله عز وجل رزق كل إنسان العقل ، وهو رسول باطني يقوم بالتفكر وإجالة النظر بالوقائع والأحداث ، وانتزاع المواعظ والعبر منها .
معنى الألباب
الألباب جمع لب ، وهو خالص الشيء وخياره وجوهره ، وضده القشر ، يقال دخل في لبّ الموضوع .
ولب الإنسان هو عقله الخالص من الشوائب والذي يوظفه في التفكر والتدبر ، ويتخذه وسيلة للنهج المستقيم والقول السديد .
والمشهور أن اللب هو العقل ، وتدل الآيات على التخصيص ومنه الذي يوظفون عقولهم في تنجز وظائف العبودية لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
إذ ورد الثناء على أولي الألباب في نحو ست عشرة آية في القرآن مما يدل على أن النسبة بين الناس وأولي الألباب هي العموم والخصوص المطلق.
ويفسر القرآن بعضه بعضاً إذ ورد قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا]( ).
مما يدل على أن أولي الألباب هم المؤمنون لأنهم جعلوا العقل آلة للإيمان.
وعن (ابن عباس كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله خالقٌ خلقًا أكرم عليه منَّا ولا أعلم منَّا؟ فابتلوا بخلق آدم -وكل خلق مُبْتَلًى- كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة، فقال الله اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ( ).
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إن الله عزوجل لما خلق العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر.
فقال تعالى : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أكرم علي منك ، بك اثيب وبك اعاقب ، وبك آخذ وبك أعطي)( ).
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ]( )، وفيه مسائل:
المسألة الأولى : دعوة الآيتين مجتمعتين ومتفرقتين للإيمان ، وأيهما أكثر دعوتهما مجتمعتين أم متفرقتين .
الجواب هو الأول : لبيان ترشح علوم كثيرة عن قانون سياق الآيات .
ومن مصاديق هذه الدعوة المجتمعة دعوة النبي محمد للتدبر في خلق السموات والأرض ، ومنه :
الأول : قانون لا يقدر على خلق السموات والأرض إلا الله عز وجل .
الثاني : قانون اختلاف الليل والنهار آية من عند الله عز وجل .
الثالث : قانون وجوب عبادة الخالق سبحانه .
الرابع : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان بالإستدلال الإني من المعلول إلى العلة الفاعلية ، فادنى تفكر في ماهية وعظمة السموات والأرض يقود الإنسان إلى الإقرار بالعبودية لله وحده ، ونبذ الشريك .
و(عن سعيد بن جبير قال : سألت قريش اليهود فقالوا : حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات ، فأخبروهم أنه كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله .
فقالت قريش عند ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً فنزداد به يقيناً ونتقوّى به على عدونا .
فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه ، فأوحى الله إليه : إني معطيكم ذلك ، ولكن إن كذبوا بعد عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين .
فقال : ذرني وقومي فأدعوهم يوماً بيوم ، فأنزل الله عليه [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ …]( ).
فخلق السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار أعظم من أن أجعل الصفا ذهباً)( ).
المسألة الثانية : بيان لطف الله عز وجل بالأنبياء بأن جعل خلق السموات والأرض مادة للهداية ، وبرهاناً على وجوب عبادته ، ثم تفضل ولم يجعل هذه الآية ساكنة مستقرة بل جعلها تتضمن آلاف الآيات كل يوم منها :
الأولى : طلوع وسير ثم غروب الشمس وموضوعيتها في درجات الحرارة على الأرض ، لتذكير الناس بالآيات الكونية ، واتخاذها وسيلة للإستماع إلى دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان .
الثانية : إطلالة الهلال ضعيفاً ثم أخذه بالزيادة إلى أن يصبح بدراً في أيام البيض ، أي أيام الليالي البيض ، ثم أخذه بالنقصان إلى ليالي المحاق ، ليعود في أول الشهر هلالاً خيطاً رفيعاً .
لبيان عدم إنحصار الإختلاف بالليل والنهار إنما يشمل الإختلاف الجلي والمتحرك في الأفلاك .
وهل من صلة بين إختلاف الليل والنهار في آية السياق وبين عدة الشهور والأشهر الحرم كآيات كونية من عند الله ، الجواب نعم ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ]( ).
لتملي الآية أعلاه على المسلمين والناس رصد الهلال وحساب الأيام ، والتقيد بأحكام الأشهر الحرم ، إذ تدل الآية على أن حكم حرمة هذه الأشهر عامة لأهل الأرض من أيام أبينا آدم .
وقد كان العرب في الجاهلية يتقيدون بأحكامها ، ولكن طرأ عليها النسئ ، والتحريف والتبديل بالزيادة والنقصان من الشهور لمواصلة القتال وأخذ الثأر فنزل قوله تعالى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ) ، ومنها نعمة إضاءة السماء بالكواكب والنجوم .
الثالثة : ما ذكرته آية السياق باختلاف الليل والنهار بذاتها ، والإختلاف بين ساعات الليل نفسها ، والإختلاف في ساعات النهار من الصبح ثم الضحى ثم الظهر ثم العصر ثم الغروب.
وقد تفضل الله عز وجل بأداء المسلمين الصلاة في كل وقت ، وهذه الأوقات عدا الضحى الذي تستحب فيه الصلاة ، قال تعالى [أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
ودلوك الشمس زوالها عن كبد السماء نصف النهار .
و(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر)( ).
الرابعة : آية جريان الأنهار وسعة البحار واستحواذها على أكثر أطراف الأرض .
وفي قوله تعالى [وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ]( )، قال الإمام علي عليه السلام (بحر في السماء تحت العرش)( ).
وهل فيه دعوة للسعي لاكتشاف الماء في الفضاء ، الجواب نعم .
ومجرة درب التبانة أعم من الكواكب التي تخرج في السماء على شكل حلزوني لأن منها الشمس والقمر والأرض .
المسألة الثالثة : لقد أخبرت آية البحث بأن رسول الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ينادي للإيمان ، فهل خلق السموات والأرض وكونهما آيات حسية متعددة دعوة ونداء للإيمان.
الجواب نعم ، وهو من معاني تسخير الله السموات والأرض والكواكب للناس وجوه :
الأول : إن في خلق السموات نداء للإيمان .
الثاني : إن في خلق الأرض نداء للإيمان .
الثالث : إن في اختلاف الليل والنهار نداء للإيمان .
لبيان قانون تعدد دعوة الإيمان في الحياة الدنيا ، وأنها لا تختص بنداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن خصائص هذه النداءات تعضيد بعضها لبعض ، من وجوه:
الأول : قانون تعضيد خلق السموات لنداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان .
الثاني : قانون تعضيد خلق الأرض لنداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان .
الثالث : تعضيد اختلاف الليل والنهار لنداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : تخفيف خلق السموات عن النبي محمد في دعوته إلى الإيمان.
المسألة الرابعة : أخبرت آية السياق عن آية خلق السموات وآية خلق الأرض وكيف أنهما وعجائبهما للذين اتخذوا عقولهم آلة وأداة للهداية والإيمان .
وأخبرت آيات أخرى بالإخبار عن تسخير السموات والأرض والشمس والقمر واختلاف الليل والنهار لنفع الناس ، قال تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ]( ).
ومن أهم مصاديق النفع من هذه الآيات الإستجابة لنداءات الأنبياء للإيمان ، ومن معاني [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ]( ) في آية البحث احتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات الكونية وخلق السموات والأرض على وجوب عبادة الله ، وتلقي ما جاء به من عند الله من الأوامر والنواهي بالقبول والإمتثال والعمل ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
رفع السماء بغير عمد
من خصائص أولي العقول التفكر في خلق السموات وعظمتها ، ورفعها ، وفي قوله تعالى [خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا]( )، قولان :
الأول : للسماء عمد ، ولكن لا ترُى .
ووردت عن ابن عباس أقوال :
أولاً : وما يدريك لعلها بعمد لا ترونها ، وكذا عن مجاهد وقتادة.
ثانياً : لها عمد ، ولكن لا ترونها ، يعني الأعماد .
ثالثاً : السماء على أربعة أملاك ، كل زاوية موكل بها ملك)( ).
الثاني : السماء مرفوعة من غير عمد ، وجملة (ترونها) في موضع حال من السموات ، أي كما ترون السموات بغير عمد .
والمختار هو الثاني ، قال تعالى [وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ]( )، وجاء العلم الحديث وصارت الطائرات والصواريخ والمركبات الفضائية تجوب الفضاء كل يوم ، وليس من عمد ، وليكون قوله تعالى [تَرَوْنَهَا] متجدداً في كل زمان.
ويدل كل من القولين على عظمة مخلوقات الله عز وجل ، إذ أنه يحتمل وجوهاً :
الأول : وجود عمد ولكن لا يراها الناس ، ولم يكتشفها العلم الحديث إلى الآن.
الثاني : توكيد نفي العمد ، أي كما ترون السماء من غير عمد بعائدية الضمير (ها) إلى السماء .
الثالث : تجدد آية (ترونها) بغير عمد في كل زمان ، وهو المختار ، ومع إرتقاء علوم الفضاء ، فلو كان لها عمد لاكتشفت بالمناظير الدقيقة والبعيدة المدى ، ووكالات الفضاء العالمية لبيان وجوه :
الأول : قانون تأييد العلم الحديث لآيات القرآن .
الثاني : قانون الإستعانة بالعلم الحديث لترجيح أحد الأقوال في الآية .
الثالث : قانون عدم التعارض بين آيات القرآن والعلم الحديث .
الرابع : قانون نصرة العلم الحديث للقرآن والسنة النبوية .
وإذا كانت معجزات الأنبياء الحسية تنتهي في أوانها ويختص بها الذين يرونها ، فان معجزة خلق السموات والأرض عامة ومستديمة ومتجددة ، وتطل على أهل الأرض كل ساعة وكل يوم وكذا آيات الأرض وسعتها ودورانها على نفسها لجذبهم إلى منازل الإيمان ، والتصديق برسالة الأنبياء وباليوم الآخر ، لذا ذكر الله عز وجل أولي العقول بقوله تعالى [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
وهذ من نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان آية رفع السموات بغير عمد ، الجواب نعم .
الوجه الرابع : صلة آية البحث بقوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) وفيه مسائل :
الأولى : ابتدأت آية البحث بالدعاء [رَبَّنَا] وهو أدب في العبودية ، وإعلان للإيمان ، وإنقطاع إلى الله رجاء رحمته وإحسانه وعفوه ، ويدل عليه مجئ موضوع النداء والحاجة بعده ، ليكون هذا الثناء مقدمة لها.
وكذا آية السياق إذ ابتدأت باسم الجلالة بصيغة الجار والمجرور ، والإخبار عن ملك الله المطلق .
ليكون من معاني الجمع بين الآيتين [رَبُّنَا اللَّهُ] وفيه بيان لصفة عامة للمسلمين وهي إقرارهم بالتوحيد ، ونبذهم للوثنية ومفاهيم الشرك ، لذا ترى كفار قريش وحلفاءهم جهزوا الجيوش وحملوا السيوف لمحاربة النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ومنع توالي نزول آيات القرآن ، ولم يعلموا ان أسرار نزول القرآن نجوماً وعلى التعاقب من قانون سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والأجل إلى حين إكمال نزول آيات وسور القرآن ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ]( ).
وهذه الآية من سورة المائدة وهي من أواخر سور القرآن نزولاً ، لذا قيل بخلوها من المنسوخ .
الثانية : أخبرت آية البحث عن إعلان المسلمين بأجيالهم المتعاقبة سماعهم لنداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان ، وبيانه للأحكام ، وابتدأت آية السياق بالإخبار عن ملك الله عز وجل للسموات والأرض وما فيهن ، لبيان ان المنادي والسامعين كلهم موضوع آية البحث سبب بنزول الرحمة على المسلمين وأهل الأرض ، وفي التنزيل [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ) .
ومن معاني الجمع بين آية البحث [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ]( ) وآية السياق بيان قانون مناداة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكل آية من آيات القرآن ، وتحتمل هذه المناداة وجوهاً :
الأول : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية حين نزولها نداء للإيمان.
الثاني : تكرار تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية نداء للإيمان .
الثالث : قراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآية القرآنية في الصلاة مناداة للإيمان .
الرابع : إحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآية القرآنية مناداة بها .
الخامس : تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية وبيان معانيها ابتداءً منه أو جواباً لسؤال مناداة بالإيمان .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث .
الثالثة : هل يمكن القول بقانون مناداة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل يوم من أيام حياته لله ملك السموات والأرض ، الجواب نعم ، فكل آية يتلوها هي شاهد ًملكية الله المطلقة للسموات والأرض ، وهو من وجوه تفضيله .
لقد نادى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان ولم يغادر النبي الحياة الدنيا إلا وعشرات الآلاف من أصحابه وأهل بيته ينادون في الجزيرة وأطرافها للإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
وهذا النداء من وجوه :
الأول : تلاوة آيات القرآن .
الثاني : إخبار الصحابة للتابعين عن السنة النبوية القولية والفعلية .
الثالث : تعاهد الصلاة والتابعين وعامة المسلمين الصلاة وأحكام الشريعة ، وهو من مصاديق قول المسلمين في آية البحث [فَآمَنَّا] .
الرابعة : لقد أخبرت آية السياق بأن السموات والأرض ملك لله عز وجل لبيان قانون الخلائق كلها ملك لله ملك مشيئة وتصرف ، فمقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل قال تعالى [قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن معاني (ملكوت) في الآية اعلاه الملك وخالصه ، والخازن ، والتصرف ، فالله عز وجل هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول (لا والذي نفسي بيده)( ).
الخامسة : من مصاديق لله ملك السموات والأرض قانون الإكتشافات الكونية شواهد التنزيل ، فكلما يرتقي العلم تتجلى شواهد جديدة في الآفاق تدعو الناس عامة للإيمان.
فمن دلالات خلق السموات والأرض إنها تتضمن إخبار الناس عن قانون وجوب الإيمان وعبادة الله عز وجل ، ومن فضل الله عز وجل أنك تجد كل أمة تقر بان الله عز وجل هو الخالق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ) .
وما أن يبتعد الناس عن سنن التوحيد حتى تأتيهم الآيات الباهرات التي تجذبهم للتوحيد ، وتمنع من التمادي في الكفر ومفاهيم الضلالة .
السادسة : من وجوه تقدير الجمع بين الآيتين وجوه :
الأول : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي لله ملك السموات والأرض.
الثاني : ربنا لك ملك السموات والأرض ، فمن خصائص النداء (ربنا) مناسبته لآيات القرآن ، فتكون الجملة الخبرية بصيغة الإنشاء لتضاف دلالات لمعناها.
الثالث : ربنا الله على كل شئ قدير ، ومن قدرة الله عز وجل بعثه الأنبياء ، وجعل نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصل إلى الناس جميعاً يدعوهم إلى الإيمان بالحجة والبرهان ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الرابع : سمعنا منادياً ينادي الله على كل شئ قدير ، ومن قدرة الله عز وجل هداية وصلاح الناس ، ودفع الفتن والحروب عنهم ، ولا يعلم ما صرفه الله من أسباب القتل والفساد إلا هو سبحانه ، وهو من مصاديق رد الله على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) حينما ذكروا فساد الإنسان في الأرض وسفك الدماء.
ومن قدرة الله عز وجل المطلقة نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام الأولى ، بدر ، وأحد ، الخندق ، حنين ، وغيرها ، وقد سمّى الله عز وجل يوم بدر [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
لبيان قانون لا يقدر على الفرقان والحسم وتعيين نتائج اللقاء إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
السادسة : لقد أخبرت آية البحث تلقي نداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان بالإيمان وتقديره بلحاظ كل آية السياق على وجوه :
الأول : فآمنا بالله ربنا .
الثاني : فآمنا لله ملك السموات والأرض .
الثالث : فآمنا ان الله على كل شئ قدير .
لقد ذكرت آية البحث نداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان.
ومنها الإيمان بأن السموات والأرض ملك لله عز وجل وحده ، وأنه سبحانه على كل شئ قدير ، لبعث المسلمين على سؤال حاجاتهم من الله عز وجل ، وسؤاله خير الدنيا والآخرة لبيان ان من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) قانون كل آية من القرآن رحمة للعالمين ، وقانون كل آية قرآنية دليل على الكمال المطلق لله عز وجل ، وسيادة مشيئته في الأرض والسماء .
الرابعة : من معاني [فَآمَنَّا] بلحاظ آية السياق وجوه :
الأول : آمنا بقانون لا يعجز الله شئ .
الثاني : آمنا بحاجتنا إلى الله عز وجل .
الثالث: آمنا بأن الخير كله من الله .
الرابع : آمنا [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الخامس : آمنا بقانون إنقياد كل شئ لأمر الله عز وجل .
السادس : آمنا بان الغنى والفقر من عند الله ، [وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
السابع : لقد بعث الله الانبياء [مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( )فآمنا بالبشارات والإنذارات التي جاء بها خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : آمنا بأن الآخرة حق وصدق وعدل ، ويتلو كل واحد من المسلمين ذكراً أو انثى سبع عشرة مرة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
التاسع : [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ]( )وقد رزقنا الإيمان وهو النعمة العظمى والكنز الذي لا ينفد ، والذي ينفع في الدنيا والآخرة ، لذا ذكرت آية البحث الإيمان [مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ]( ) بلحاظ انه سور الموجبة الكلية ، وتقع تحته مصاديق غير متناهية .
العاشر : من مصاديق خاتمة آية السياق بيان مغفرة الله للذنوب ، لذا تضمنت آية البحث [فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا].
الحادي عشر : لقد سأل المسلمون الله عز وجل ان يتوفاهم مع الأبرار ، وكل من الموت والحياة أمر وجودي وبيد الله عز وجل وحده .
ومن خصائص الأبرار إيمانهم بان ملك السموات والأرض لله وحده .
الثاني عشر : لقد سأل المسلمون في آية البحث ثلاثة أسئلة لا يقدر عليها مجتمعة ومتفرقة إلا الله عز وجل وحده ، لتكون هذه الأسئلة من شواهد الإيمان .
إعجاز صلة الآية بآيات القرآن الأخرى
من إعجاز القرآن وجوه :
الأول : إمكان الصلة بين كل آية منه مع آيات القرآن كلها ، وكأن ليس من فواصل بين الآيات ، أو إستقلال بأسماء سور القرآن المائة والأربع عشرة.
الثاني : استنباط المسائل والقوانين من الصلة بين كل آيتين من القرآن.
الثالث : استقراء تثبيت الأحكام الشرعية من الصلة بين الآيات.
الرابع : الصلة بين آيات القرآن دليل على قانون سلامة آيات القرآن من التحريف والزيادة والنقيصة ، ليكون من معاني قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، حفظ القرآن بالصلة بين آياته ، وانتفاء التعارض بينها .
الخامس : من قانون الصلة بين آيات القرآن تفسير بعض آياته لآيات أخرى .
السادس : لقد ابتدأت آية البحث بنداء التضرع (ربنا) وهو من أمهات الأسماء الحسنى ، فيدخل على أغلب آيات القرآن وفي أكثر من موضع من الآية بلحاظ تقسيم الآية القرآنية إلى جمل متعددة سواء كانت خبرية أو إنشائية ، أو إنشائية خبرية.
ولدخول النداء (ربنا) في تقدير الآيات الأخرى دلالات وتستنبط منه مسائل متعددة ، وهو من معاني تلاوة المسلمين والمسلمات لآيات القرآن .
السابع : وبعد النداء (ربنا) في آية البحث نزل [إِنَّنَا سَمِعْنَا] ليدخل هذا الشطر على أكثر آيات القرآن بأن المسلمين سمعوا الأحكام الإلهية من الأوامر والنواهي وسمعوا البشارات والإنذار ، والوعد والوعيد وسمعوا القصص والأمثال القرآنية ، قال تعالى [إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وفي قول المسلمين والمسلمات (سمعنا) ثناء عليهم وشهادة من الله عز وجل لهم تحضر في الدنيا والآخرة ، وتنفع الأحياء والأموات منهم ، وقد ذم القرآن قوماً بقوله تعالى [وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ]( ).
لبيان إعجاز قرآني ، وهو مجئ ذات اللفظ والكلمة في مدح قوم وذم قوم آخرين ، لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين بسماعهم واستجابتهم لنداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان ، ومنها دعوته والقرآن للتفكر في خلق السموات والأرض ، والآيات التي تذكرها وبديع صنع الله في الكائنات والخلائق لتكون من البرهان الإني ، بالإستدلال من المعلول إلى العلة على وجوب الإيمان بالخالق سبحانه ، وفي التنزيل [السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
أجزاء الصلة بين الآيات
السادس : علم الصلة بين آيات القرآن .
وقد صدرت من هذا السِفر أجزاء بهذا الخصوص وهي :
الأول : الجزء (76) ويختص بالصلة بين الآية 110 والآيات 64-69من سورة آل عمران .
الثاني : الجزء (77) ويختص بالصلة بين الآية 110 والآيات 70-77 من سورة آل عمران.
الثالث : الجزء (78) ويختص بالصلة بين الآية 110 والآيات 78-84 من سورة آل عمران .
الرابع : الجزء (79) ويختص بالصلة بين الآية 110 والآيات 85-93 من سورة آل عمران .
الخامس : الجزء (80) ويختص بالصلة بين الآية 110 والآيات 94-102 من سورة آل عمران .
السادس : الجزء (81) ويختص بالصلة بين الآية 110 والآيات 103-109 من سورة آل عمران .
السابع : الجزء (125) من هذا السِفر ويختص بالصلة بين الآية 152 والآية 151 من سورة آل عمران .
الثامن : الجزء (126) ويختص بالصلة بين شطر من الآية 153 والآية 151 من سورة آل عمران.
التاسع : الجزء (129) ويختص بالصلة بين شطر من الآية 154 بشطر 153 من سورة آل عمران.
العاشر : الجزء (151) ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 والآية 164 من سورة آل عمران.
الحادي عشر : الجزء (192) ويختص بالصلة بين الآية 180 والآية 181 من سورة آل عمران.
إعجاز الآية الذاتي
لقد ابتدأت الآية بصدور نداء الربوبية المطلقة [رَبَّنَا] يتلوها المسلم نيابة عن جميع المسلمين والمسلمات ليكون شهادة لهم للإيمان ، والشأن العظيم عند الله عز وجل للنطق بالشهادتين والإيمان .
فمن إعجاز الآية تقييدها النداء بالتسليم بالإيمان بالله عز وجل ، ليخرج بالتخصيص المنافقون لأنهم يبطنون الكفر ، وهل في الآية دعوة للذين كفروا والمنافقين والمنافقات للتوبة والإنابة ، الجواب نعم ، لما في الإيمان من حلاوة وطمأنينة وباعث للسكينة .
وتشهد آية البحث للنبي محمد بقيامه بتبليغ الرسالة وآيات القرآن من غير زيادة أو نقصان ، وفي الثناء على الأنبياء والرسل قال تعالى [لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( ).
وتبين الآية جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإخبار عن نبوته ، والدعوة إلى الله ، وتلاوة آيات القرآن بين ظهراني رؤساء يعبدون الأوثان ، ويسخرون الناس للبطش بعدوهم وعدو آلهتهم.
وتؤكد الآية فضل الله عز وجل في حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسلامته ، ودفع الضرر عنه ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( )وذكرت الآية استجابة المسلمين لدعوة الإيمان بالله عز وجل والتي تتضمن العمل بما جاء به رسول الله من الأوامر والنواهي ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
ومن فضل الله عز وجل أنه مع الإيمان يأتي العفو والمغفرة وسؤال النجاة يوم القيامة .
لقانون فتح باب الدعاء عند الإيمان ، وأن المسلمين فازوا بالتوجه بتعدد المسألة والحاجة إلى الله عز وجل .
ولم تقل الآية (منادياً للإسلام ) لبيان قانون دعوة النبي للشهادتين هي دعوة للإيمان وأداء الفرائض العبادية ، وليس من فصل بين الدعوة إلى الإيمان وبين إعلان المسلمين إيمانهم .
ولم يرد لفظ [مُنَادِيًا] [يُنَادِي] [كَفِّرْ عَنَّا] [سَيِّئَاتِنَا] إلا في آية البحث.
ومن إعجاز الآية أن لفظ (الأبرار) ذكر خمس مرات في القرآن ، كلها في خصائص أهل الجنة إلا آية البحث فانها وردت بخصوص الحياة الدنيا وصفة للمسلمين .
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه نداء سماوي ، ودعوة إلى الإيمان ، وزاجر عن مفاهيم الكفر والجحود .
وتقدير آية البحث : ربنا اننا سمعنا منادياً ينادي بآيات القرآن للإيمان.
وورد ذات ضمير الجمع (نا) خمس عشرة مرة في آخر آية من سورة البقرة [أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ).
ولا يحصي الذين دخلوا الإسلام ، وأحسنوا إسلامهم بسبب آيات القرآن تلاوة وسمعاً وتدبراً وتفكراً إلا الله عز وجل .
ومن إعجاز آية البحث ورود ضمير الجمع (نا) عشر مرات في الآية .
وورد الضمير (هن) خمساً وعشرين مرة في آية واحدة وتسمى آية الضمائر وهي قوله تعالى [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اتصال وتجدد نداءه للإيمان في كل يوم وهو من الشواهد على إنفراده بالمعجزة العقلية التي تخاطب الناس كل يوم مع وجود الإستجابة الكبيرة.
فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يغادر الحياة الدنيا إلا وقد بلغ أصحابه نحو سبعين ألف ، أو مائة ألف مع قصر مدة النبوة وهي ثلاث وعشرون سنة .
ويمكن تسمية الآية آية [إِنَّنَا سَمِعْنَا].
ولم يرد لفظ [إِنَّنَا سَمِعْنَا] في القرآن إلا في آية البحث.
إعجاز الآية الغيري
لقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً والمسلمين والمسلمات بنزول القرآن ، وبالأمر بتلاوة آياته في الصلاة اليومية ، وهل هذه التلاوة من مصاديق قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا]( ) الجواب نعم ، لبيان أن الإيمان قول باللسان ، واعتقاد بالجنان ، وفعل بالجوارح والأركان.
ومن خصائص تلاوة المسلم والمسلمة القرآن خمس مرات في اليوم تثبيت معالم الإيمان في القلوب ،وعصمتها من الكآبة والحزن والإضطراب ، وفيها دعوة متجددة إلى الله [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا].
فمن إعجاز الآية ترغيب الناس بالإسلام ، وبيان سبل الهداية والرشاد ، وإزاحة الصدأ وأسباب العناد عن القلوب.
فقد جاء الرسول بالمعجزات [وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا]( ).
إذ تقوم الحجة على الناس بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإيمان ، وبينت الآية أعلاه عاقبة الكفر والظلم والتعدي ، أما آية البحث فذكرت إشراقات الإيمان على النفوس والمجتمعات .
لذا ابتدأت بصيغة الجمع ثم المفرد للمنادى للإيمان ، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم جاءت صيغة الجمع في تلقي النداء بالقبول لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي بلوغ دعوته الأمصار ، فقد نادى للإيمان ، لينادي بعده الملايين من المسلمين في كل زمان للهداية وسنن الإيمان والصلاح وفق الكتاب والسنة .
وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : الجمود على النص وإنحصار المنادي للإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتقدير الآية : ربنا إننا سمعنا رسول الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ينادي للإيمان .
الثاني : المنادي هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أما بالنسبة لنداء المسلمين فيكون تقديره : ربنا إننا سمعنا تابعين للمنادي ينادون للإيمان.
الثالث : تقدير الآية : ربنا اننا سمعنا القرآن ومنادين ينادون للإيمان فأمنا.
الرابع : ربنا اجعلنا ممن ينادي للإيمان ، وهل هذا النداء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الجواب نعم .
وهل يصح تقدير آية البحث سمعنا ونسمع منادياً ينادي للإيمان ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : تجدد دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان وتجلياتها في القرآن والسنة .
الثانية : تلاوة المسلمين لآية البحث .
الثالثة : مجئ الفعل الماضي ودلالته على أفراد الزمان الطولية المتعددة من الماضي والحاضر والمستقبل.
لقد أبى الله عز وجل إلا أن يجعل الدنيا دار النداء النبوي للإيمان.
الآية سلاح
في الآية واقية للمسلمين من مفاهيم الشرك والضلالة باعلانهم الإيمان عن فقاهة وتدبر وإدراك لقانون الذي نادي للإيمان هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو لم يدع من نفسه إنما دعا للإيمان بالوحي والتنزيل المقترن بالحجة والمعجزة .
لقد سمع المسلمون دعوة الإيمان فاستقبلوها بالنداء (ربنا ) الصادر منهم رجالاً ونساءً ، لبيان نبذهم لمفاهيم الشرك وعبادة الأوثان ، لتكون اول كلمة من الآية سلاحاً يومياً متجدداً ، وحرزاً عند المسلمين بشد عضدهم لأداء الفرائض العبادية.
وفي الآية شكر من المسلمين لله عز وجل على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وشكر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قيامه بالتبليغ والنداء للإيمان.
لقد جاء الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عامة المسلمين لدعوته إلى التوحيد وتبليغه آيات القرآن ، وكل من النبوة والإيمان والنداء له ، والإستجابة له فضل ولطف من عند الله عز وجل ، فهو الهادي إلى سواء السبيل ، قال تعالى [قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ]( ) .
وقد يتبادر إلى الذهن عند سماع السلاح هو آلة الحرب والقتال ، والمصنوعة من الحديد او الخشب ونحوه ، ولكن النبي المنادي جاء بسلاح ماض ، سلاح سلام وهو القرآن ، يغزو القلوب ، ويستحوذ على الجوارح بما يجعلها مستجيبة لنداء الإيمان ، وهو من مصاديق [فآمنا] فلا يختص الإيمان بالإعتقاد ، بل يشمل الإيمان بالأوامر والنواهي التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل تلك النازلة في القرآن ، والواردة على لسانه وفي سنته .
مفهوم الآية
ابتدأت الآية بالنداء [رَبَّنَا] لإعلان المسلمين التسليم بالربويبة المطلقة لله عز وجل ، وفيه مقدمة للدعاء بالثناء على الله عز وجل .
ومن مفاهيم هذا النداء المبارك رجاء الإستجابة لمضمون الدعاء ، ولبيان قانون تخلف الذين كفروا عن النداء بصيغة الدعاء .
لقد شهد المسلمون على أنفسهم أنهم سمعوا آيات القرآن التي تدعو إلى الإيمان ، إذ أن قوله تعالى [سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ]( )يشمل وجوهاً :
الأول : آيات القرآن النازلة من عند الله عز وجل ، وتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن في الصلاة اليومية في المسجد النبوي ، كما كان يخرج مع أصحابه في الكتائب حول المدينة والتي تسمى في كتب السنة الغزوات ، ليصلي في أفواه القرى ، ويكون قريباً من الناس .
ولو رأى أشخاص النبي محمداً وهم كفار ثم أسلموا ولم يروه عند إسلامهم فهل هم من الصحابة ، الجواب لا ، على تعريف الصحابي بأنه المسلم الذي رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مسلم قد نطق بالشهادتين .
ويدل توجه المسلمين جميعاً لله عز وجل بالدعاء على بداية مرحلة جديدة وحال استقامة في تأريخ الإنسانية خالية من مفاهيم الشرك والضلالة لتستمر هذه الإستقامة اليومية [مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( ) .
لبيان معجزة غيرية متجددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ففي كل يوم يتجلى الإيمان الذي نادى به بمصاديق غير متناهية من صلاة ملايين المسلمين ، ومن تلاوة الآية القرآنية ملايين المرات كل يوم في هذا الزمان ، وهو من أسرار وجوب قراءة القرآن على كل مسلم ومسلمة في سبع عشرة ركعة في اليوم والليلة ، وهو مصداق جلي لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
والله عز وجل هو الوهاب والواهب للعطايا الجزيلة ، ومن أبهى الهبات من الله عز وجل الهداية إلى الإيمان ، وجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مجتمع يعبدون الأوثان لبيان إخلاصه وجهاده وصبره في الدعوة إلى الله ، ومنها النداء ، إذ يدل قوله تعالى [سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ]( ) على قانون دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان جهرية وعلنية عامة ، فالمنادي هو الذي يسمع عامة الناس من البر والفاجر صوته ودعوته ، لذا قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)( ).
إفاضات الآية
ابتدأت الآية بالنداء (ربنا) وتكرر مرة ثانية في الآية ، ومن غير (يا) النداء ، فلم تقل الآية (ياربنا) إذ تستعمل (يا) للقريب والبعيد ، بينما الله عز وجل أقرب إلى كل إنسان ، قال تعالى [وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( ).
فذات نداء (ربنا) قرب للصبر من الله ، وخشوع وتطامن وخضوع لله سبحانه ، كما أن الياء حذفت للإيجاز وللتبادر بأن الموضع موضع نداء .
وهذا المعنى لا يمنع من مجئ (يا) النداء في آيات أخرى كما في قوله تعالى [وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا]( ).
وتبين الآية حاجة الناس لرحمة الله عز وجل من جهات :
الأولى : تكرار نداء الإستغاثة (ربنا) .
الثانية : الإقرار بتلقي نداء وتبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوجوب الإيمان .
الثالثة : بيان النفع العام لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتبليغه أحكام الشريعة للناس ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
الرابعة : إعلان المسلمين لقانون وجوب الدعاء والاستغفار ، والإستغاثة بالله عز وجل ورحمته غياث الناس أجمعين ، وملاذ الخائفين ، قال تعالى [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ]( ).
الخامسة : قانون هداية المسلمين إلى السبيل إلى الله عندما تنقطع السبل.
ومن خصائص الإنسان إثقال الذنوب التي حملها لكاهله ، ويتصف المسلم باستحواذ الذنوب على تفكيره ، وخشيته من الإبتلاء العاجل ، والعقاب بالعذاب الأليم في الآخرة ، فهداهم الله لآية البحث تلاوة وتدبراً ، والله وحده هو الذي يكشف الغم ، ويفرج الكربات ، ويمحو السيئات ، وهو أرحم الراحمين ، ورب العرش العظيم .
و(عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم لغفر لكم . والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء الله بقوم يخطئون ، ثم يستغفرون فيغفر لهم)( ).
ابتدأت الآية بنداء الإستغاثة واللجوء (ربنا) والذي يصدر من المسلمين والمسلمات كل يوم ومن مصاديق تسميته هنا بالإستغاثة قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
ومن خصال المؤمنين افتتاح الكلام بصيغة الخضوع والخشوع لله عز وجل .
وتدل الآية على عدم وجود حاجب أو برزخ بين المسلمين وبين الله ، قال تعالى [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( ).
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً بالقرآن وآياته ، ولكن الصلة بين الله والعباد مباشرة ليس ثمة مسافة بين سكان الأرض والعرش ، وهو من أسرار صيرورة الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وهل هو من أسباب تساؤل الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، أي كيف يكون قريباً من العرش من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، المختار نعم .
وفي الآية تأديب للمسلمين والمسلمات وتعليم بقوانين وأصول الدعاء والمسألة بالإبتداء بالثناء على الله عز وجل بصفة الربوبية المطلقة .
وهل يحب الله سماع هذه الصفة من العباد ، الجواب نعم ، لأنها مصداق لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وفي قول (ربنا) عهد من المسلمين للبقاء في مقامات العبودية لله عز وجل ، والعصمة من الشرك ومن الظلم وإعانة الظالمين ، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ]( ).
وبعد ثناء المسلمين اليومي المتكرر على الله بقول (ربنا) أعلنوا العز والفخر بالإرتقاء إلى مراتب الإيمان عندما سمعوا النبي محمداً يصدح بآيات القرآن ، ويحض الناس على نبذ الشرك وعبادة الأوثان.
لبيان رشحات ومنافع قوله تعالى إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ]( )، لشهادة وإخبار المسلمين عن سماعهم لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستجابتهم لها.
وهل في هذه الإستجابة أجر وثواب وإرتقاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته ويوم القيامة ، الجواب نعم ، لبيان قانون تلاوة المسلمين للقرآن كل يوم علو منزلة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تَلٍّ ، ويكسوني ربي حلة خضراء ثم يؤذن لي أن أقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود)( ).
و(عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ، آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ، حَلّتْ له شفاعتي يوم القيامة)( ).
الآية لطف
من أسماء الله (الهادي) وفي التنزيل [وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا]( )، والله هو الذي هدى الناس إلى الإقرار بربوبيته المطلقة وإلى سنن الإيمان ، وأسباب الرشاد في أمور الدين والدنيا ، وسبل الإستقامة والخير ليتبصر الناس في أحكام الشريعة ، والمنافع ويقربهم إليها ، ويعلمون المضار ويبعدهم عنها ، ويحجبها عنهم .
وتتضمن آية البحث الهداية إلى الإيمان ، وتعاهده والإقامة في منازله ، ومن مصاديق الهداية تأديب المسلمين باللجوء إلى الدعاء ، وبيان كيفيته ، لذا تكرر النداء العام (ربنا) في آية البحث ليكون هداية للمسلمين والناس بالتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء والمسألة.
وتقديم الإقرار بربوبيته ، لتكون هذه المقدمة طريقاً للإستجابة ، ومنهاجاً في الدعاء وسؤال الحاجات من عند الله ، والتسليم بأن الله [عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وفي المرسل عن الإمام الباقر عليه السلام (قال: سئل النبي صلى الله عليه واله عن خيار العباد فقال: الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤا استغفروا ، وإذا اعطوا شكروا، وإذا ابتلوا صبروا ، وإذا أُغضبوا غفروا)( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار اللطف بالخلائق وخصّ الإنسان بلطف إضافي بأن جعله [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وأعطاه من أسباب التمكين والإنتفاع الأمثل من كنوز الأرض ومنها ما يتجلى بوضوح في هذه الأيام .
وسيأتي زمان ينتفع فيه الناس من ذخائر السماوات والأفلاك والكواكب.
وتصاحب الآية القرآنية المسلمين في كل زمان لتفتح لهم أبواب الأمل والرجاء ، وتبعث السكينة في نفوسهم بذكر الله ، وإعلانهم الإيمان .
من أسماء الله تعالى [اللَّطِيفُ] وهو الذي يترفق بعباده ويقربهم إلى منازل الطاعة والصلاح ، ويحجب عنهم أسباب ومقدمات المعاصي ، وهو الذي يدبر أمورهم من حيث يحتسبون ومن حيث لا يشعرون ، قال تعالى [وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ]( ).
ولا يختص اللطف الإلهي بالمؤمنين إنما يشمل كل إنسان كما يشمل الأموات من المؤمنين ، ومن لطف الله عز وجل بعثة الأنبياء وإنزال الكتب السماوية .
ويتجلى اللطف في المقام بالمعجزة العقلية المتجددة إلى يوم القيامة وهو القرآن ، ومن أسرار تقسيم القرآن إلى سور وآيات أن كل سورة هي لطف ، وكذا كل آية هي لطف من عند الله عز وجل .
ويمكن استقراء مصاديق اللطف الإلهي في كل آية من القرآن ومنه آية البحث ، إذ تدل على انجذاب المسلمين لمقام الربوبية المطلقة ، وسعادتهم بالتوجه إلى الله تعالى بقول (ربنا).
وتعليم المسلمين الإبتداء في الدعاء والمسألة بقول (ربنا) من لطف الله عز وجل ، إذ أنه شاهد هدى على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته إلى الإيمان .
مما يدل على أن التوحيد من فطرة الإنسان وأن البعثة النبوية لإظهاره على اللسان وفي الجوارح .
ومن لطف الله دعوة الأنبياء للإيمان ، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه دعا الناس إلى الإيمان فآمنت أمته ، وصار أفرادها يدعون إلى الإيمان .
وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الدعوة إلى الإيمان ، الجواب نعم ، لذا جعله الله واجباً .
ومن اللطف أنه واجب كفائي ، وقد يكون واجباً عينياً ويدل على الجامع بينهما قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
مع الإيمان أدرك المسلمون أن المغفرة والعفو والستر أمور بيد الله عز وجل وحده ، ولا يقدر عليها غيره، ولا يجعل الله عز وجل شروطاً وقيوداً للفوز بالمغفرة والعفو ، إنما هو السؤال الذي تتعقبه الإستجابة.
وفيه بيان عذوبة الإيمان والبشارات التي تصاحبه ، وما يتعقبه من فضل الله ، فلا يعلم الثقل والوزن الذي يحمله الإنسان بكثرة الذنوب والخطايا إلا الله عز وجل.
وهل ترى الملائكة هذا الوزن في الدنيا ، المختار نعم.
لتكون المغفرة وستر السيئات مما احتج به الله عز وجل على الملائكة بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) فترى الملائكة كيف تنحط الذنوب عن المؤمنين بالإستغفار ، ليكون حجة على الذين ظلموا أنفسهم بالإمتناع عن الإستجابة لنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإيمان .
تقدير اللطف في آية البحث
هذا العنوان مستحدث ، ويمكن أن ينطبق على كل آية من آيات القرآن وعلى نحو التفصيل وتتبع الكلمات فيها ، ويكون في آية البحث على وجوه :
الأول : قول ربنا من لطف الله ، فلا يهتدي الناس إلى الإقرار بالربوبية والتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء والمسألة إلا بلطف من عند الله .
الثاني : قانون من الإرادة التكوينية وهو النبوة لطف ، وهذا القانون أظهره الله قبل أن يخلق آدم ، إذ أخبر الله الملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
فالنبوة رحمة ولطف بالناس والخلائق وسبيل هداية وإستدامة الحياة الدنيا ، وتوالي الرزق على العباد ، لما فيها من مناداة النبي للناس إلى الإيمان ، وجذبهم إلى منازل الهدى ، كما تجلى في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
الثالث : [إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا] بلطف من عند الله ، فلولا اللطف الإلهي لعجزنا عن سماع الآيات وحجج النبوة ، قال تعالى [وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ]( ).
لتكون الفطرة عوناً للأنبياء في دعوتهم ، وهو من اللطف الإلهي بهم ، فمن وظائف البعثة النبوية تثوير الفطرة ، واستحواذ الإيمان على الجوارح والأركان ، قال تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ]( ).
الرابع : المراد من اللطف في الإصطلاح هو تقريب العبد من منازل الطاعة والإمتثال ، وإزاحة الموانع عنها ، وإبعاده عن المعصية ومقدماتها من غير أن يصل إلى مرتبة الإلحاد ، لإرادة الثواب في التكليف ، ومنهم من قسم اللطف إلى شعبتين :
الأول : اللطف المقرب أي الذي يقرب العبد إلى فعل الطاعة ولكنه لم ينتفع من هذا التقريب ، ولم يمتثل للأمر في المقام ، كما في الذي تهيئت له مقدمات حج بيت الله الحرام كلها ، ولكنه امتنع عن الأداء .
الثانية : اللطف المحصل الذي مع التقريب إلى الطاعة تتحقق معه الطاعة والإمتثال .
ومن اللطف الإلهي قوله تعالى في آية البحث [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ]( ) فيكون اللطف من وجوه :
الأول : النداء من المسلمين كافة [رَبَّنَا] .
الثاني : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنداء للإيمان في حال السلم والحرب والسعة والأذى .
الثالث : بلوغ نداء الإيمان للأسماع وتمكين الناس منه .
الرابع : تلقي نداء الإيمان بالقبول [فَآمَنَّا] ( ) .
الخامس : ترشح الدعاء والمسألة عن الإيمان لبيان أنه خير محض .
وفي علم الأصول قال عدد من العلماء (وأن اللطف واجب على الله تعالى )( )
وليس من واجب على الله عز وجل ، إنما هو اللطف والفضل والمنّ والإحسان من الله عز وجل ، فمقام العبودية لله لا يسمح لعبادة القول هذا واجب على الله .
الآية بشارة
من فضل الله عز وجل باختيار الناس خلفاء في الأرض توالي البشارات عليهم من جهات :
الأولى : البشارات الكونية من الغيوم والرعد والسحاب الذي يحمل الغيث والمطر وقد جاءت سورة من القرآن باسم سورة الرعد.
الثانية : البشارات الأرضية في الزراعة والثمار .
الثالثة : بشارة الولد والإنجاب ، وغبطة الوالدين بالمولود والحرص على سلامته .
الرابعة : بشارة الشفاء من الأمراض التي يتعرض لها الإنسان ، وورد حكاية عن إبراهيم في التنزيل [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ) لبيان أن الشفاء نعمة وبشارة .
الخامسة : البشارات التي تترى على لسان الأنبياء .
السادسة : البشارات التي نزل بها القرآن ، ويمكن تسميته كتاب البشارات التي تتصف بالصدق والتجدد المستديم ، فأعظم البشارات في تأريخ الإنسانية هي بشارات القرآن من جهات :
الأولى : نزول البشارة من السماء .
الثانية : مضمون البشارة .
الثالثة : عموم البشارة القرآنية زماناً ومكاناً .
الرابعة : التذكير العام بالبشارة القرآنية كل يوم بتلاوة المسلمين والمسلمات للقرآن في الصلاة اليومية .
الخامسة : تجدد مصاديق البشارة القرآنية كل يوم ، ومنه البشارات التي تتضمنها آية البحث ، وتقديرها (ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي بالبشارات من عند فآمنا).
ومن البشارات في آية البحث رجاء المغفرة والعفو من عند الله ، فقد تفضل الله عز وجل وأنزل آية البحث لتكون بشارة حسن العاقبة واللبث الدائم في الجنة للذين تلقوا نداءات الإيمان بالتصديق ليتجلى الإنذار لمن يتخلف عن الإيمان ، بالإضافة إلى تعضيد الآيات المجاورة لإنذارات آية البحث ، إذ تضمنت الآية السابقة الإنذار الصريح بقوله تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
الآية إنذار
من إعجاز القرآن جمع الآية القرآنية بين البشارة والإنذار في مضمونها ومفهومها ودلالاتها ، قال تعالى [رَبَّنَا] ليكون من تقدير الآية : ربنا أننا سمعنا منذراً فاجتنبنا ما نهيت عنه .
وهل في قول [رَبَّنَا] إنذار، الجواب نعم ، فهو إنذار لأهل الإستكبار والجحود ، إن قول [رَبَّنَا]ٍ دعوة للإيمان ووعد بالثواب للذين اتخذوا التوحيد منهاجاً ، وفيه وعيد للظالمين.
فمن إعجاز القرآن مجئ الإنذار في ثنايا البشارة ، والعكس أيضاً صحيح ، وهو مجئ البشارة بالدلالة الإلتزامية بالإنذار القرآني ، وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ]( ).
ويتجلى الإنذار في آية البحث من وجوه :
الأول : إنذار الذين سمعوا نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصروا على الإقامة في مستنقع الكفر والضلالة .
الثاني : الذين امتنعوا عن قبول النداء وماتوا على الكفر ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ).
الثالث : الذين حاربوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سوح القتال ، إذ كان النبي ينادي بين الجمعين (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
الرابع : لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من قراءة القرآن بين الناس في مكة ، وكل آية إنذار للناس ، فمنهم من آمن وهم الصحابة الأوائل ، ومنهم أصر على على الجحود والكفر، لتكون آية البحث حجة عليه في الدنيا والآخرة .
وهل في قوله تعالى [وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ]( )، إنذار للمسلمين والمسلمات من النفاق والإرتداد ، الجواب نعم .
لبيان معجزة غيرية للقرآن وهي إصلاح المسلمين للبقاء على الإيمان عند مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( ).
آية البحث شكر لله
مع قلة كلمات هذه الآية فانها تتضمن الشكر لله عز وجل من وجوه :
الأول : إعلان العبودية لله ، وهل النداء (ربنا) من هذا الشكر ، لبيان قانون مصاديق العبودية كلها شكر وثناء على الله عز وجل ، وتقدير الآية : اللهم أنت وحدك ربنا لا إله ومعبود لنا سواك .
الثاني : من الشكر لله ابتداء الآية بالنداء العام من المسلمين (ربنا) .
ويذكر الإجماع في الفتاوى ، وأما هذه الآية فجاءت بالإجماع بالمعنى الأعم الجامع لأجيال المسلمين والمسلمات ، وليس من إجماع في تأريخ الإنسانية مثله عدداً أو شرفاً وارتقاء في المعارف الإلهية .
الثالث : الشكر لله عز وجل على وحدة المسلمين في تلاوة القرآن سالماً من التحريف ، وعلى المناجاة والدعاء والمسألة ، وفي التنزيل [وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ]( ).
الرابع : إقرار المسلمين على أنفسهم بتبليغهم من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتضمن ذات الآية الشكر لله عز وجل على هذا الإقرار ، وتقيدهم بمضامينه القدسية ، ليكون مصداقاً عملياً لآية الميثاق [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ]( ) .
الخامس : شكر المسلمين لله عز وجل على تفضيله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بتبليغ آيات وسور القرآن مع شدة الأذى الذي لاقاه وأهل بيته .
السادس : الشكر لله عز وجل على حفظه النبي من شرور الأعداء من الأنس والجن ، ونجاته في ميدان القتال بمعجزات حسية ظاهرة ، وكذا بالنسبة لمحاولات اغتياله المتعددة ، وتقدير الآية : ربنا إننا سمعنا منادياً أنقذته من الإغتيال لينادي للإيمان فبلغنا هذا النداء المبارك .
الخطاب إلى النبي (ص) في القرآن
نزل القرآن بالخطابات إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الإكرام : يا أيها النبي ، يا أيها الرسول ، كما ورد بلفظ (قل) 328 مرة ، وبكلمات وأوامر أخرى مثل [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ) و[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ]( ) و[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا]( )والنواهي مثل [لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ) .
ويقسم الخطاب إلى النبي في القرآن إلى قسمين :
الأول : الخطاب الخاص له ، مثل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ) ومنه [يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ]( )[يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ]( ).
الثاني : الخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وتلحق به الأمة ، [قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا]( ).
الثالث : هناك قول مشهور عند علماء التفسير وهو الخطاب الذي لا دليل على كونه خاصاَ بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا دليل على عمومه ، فيكون خاصاً في لفظه وعاماً في حكمه ، وأستشهد عليه بقوله تعالى [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ]( )[ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ]( ).
والمختار ليس في القرآن خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مردد بين الخاص والعام ، خاصة مع الرجوع إلى آيات القرآن التي تتضمن تفسيراً لآية النداء .
الرابع : الخطاب الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والمراد الناس جميعاً ، وهذه الخطابات من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) مثل [وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ]( )و[وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ]( ) .
وهناك مسائل :
الأولى : أقل هذه الخطابات هي الخطابات الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : لا بد من إحصاء خطاب القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تشمل الأمة ، وتلك التي تشمل الناس جميعاً ، لمعرفة أيها هي الأكثر ودلالات هذه الكثرة .
ولا بد في هذا الإحصاء من موضوعية وحضور لعلماء التفسير للفصل والتمييز .
الثالثة : لو دار الأمر بين الخطاب الخاص للنبي أم تلحق به الأمة ، فالصحيح هو الثاني .
الرابعة : لو دار الأمر بين إرادة إلحاق خصوص المسلمين بالخطاب الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أم المقصود الناس جميعاً ، فالصحيح هو الثاني لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ) ولأصالة العموم .
لقانون الغالب في خطابات القرآن الخاصة لفظاً ، أنها عامة حكماً .
قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الخطاب في الآية موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر بعد إجتهاد النبي في الدعاء عشية ويوم معركة بدر وهو السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية.
وأيهما أسرع هبوط الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الضوء ، إذ تبعد الشمس عن الأرض مائة وتسعة وأربعين مليون كيلو متراً ، ويصل الضوء إلى الأرض في ثماني دقائق وثلاثة أعشار الدقيقة (8،3) دقيقة.
وكل من سرعة نزول الملائكة وسرعة الضوء من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
المختار هو الأول فالملائكة أجسام نورانية لا تقاس احوالهم وطبائعهم بأحوال وطبائع البشر ، ولعمومات قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( والله عز وجل قادر على خلق الملائكة في ساحة معركة بدر وقيامهم في الحال بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وورد عن ابن عباس قال (وأمد الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة وكان جبرئيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة وميكائيل في خمسمائة مجنبة)( ).
ليكون هذا النزول من مصاديق رد الله على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) حين تسألوا عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] فنزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نصرته تعالى لأنبيائه والمؤمنين .
وتدعو الإكتشافات العلمية في عالم الفضاء الناس إلى التدبر في عظمة المخلوقات ودلالتها على بديع صنع الله ، ووجوب عبادته سبحانه .
ولزوم تسليط العلماء والكشف والتحقيق عليها واتخاذها حجة وبرهان على وجوب الإيمان .
فمثلاً تقع الأرض والشمس والكواكب المحيطة بها والقمر في مجرة التبانة ، وسماها العرب القدامى بهذا الاسم لأنها تبدو في السماء كهية التبن المتساقط من الدواب عند مسيرها إذ يكون على نحو متعرج ، وتضم هذه المجرة مليارات النجوم ، وفي الكون مليارات المجرات ، وكل مجرة تضم ملايين ومليارات النجوم .
نرجو تسخير إكتشافات وكالة ناسا الفضائية ونحوها للإيمان بالله ، ونشر الأمن والسلام في ربوع الأرض ، قال تعالى [وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ]( ).
فنشاهد في هذا الزمان جهود العلماء لإكتشاف أسرار وسعة الفضاء وعالم الأكوان ، وارتقت بسرعة علوم الفيزياء الفلكية ، ويبحثون عن الماء في الكواكب ، ولم يعثروا عليه إلى الآن ، وقد نزل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) ومنه الآية أعلاه بذكر البحر المسجور ، إذ ورد عن (الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في قوله { والبحر المسجور }( ) قال : بحر في السماء تحت العرش)( ) اخرجه عبد الرزاق وابن جريح وابن ابي حاتم وغيرهم .
ومن معاني هذا الحديث أن الماء والبحر موجود في السماء ولكن في الطبقات العليا منها ، وأن العلماء يحتاجون إلى جهود إضافية لإيجاده .
وربطت الآية أعلاه بين آية البحر المسجور وبين عذاب الله لزجر الناس عن إتخاذ العلم للغرور والطغيان ، كما ورد عن الإمام علي عليه السلام أيضاً في قوله تعالى [ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ]( )قال الصاد اسم بحر في السماء ، كما في تفسير بحر العلوم للسمرقندي المتوفى سنة373 ثلاثمائة وثلاث وسبعون للهجرة ، وفيه مصداق لحديث الثقلين ، وبيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته علوم القرآن ، وإعانة العلماء والناس للإنتفاع الأمثل منه ، ومنهم علماء الفلك والفضاء .
الصلة بين أول وآخر الآية
ابتدأت آية البحث بالنداء (ربنا) لبيان إنقطاع المسلمين لله عز وجل إلهاً وخالقاً ورباً بيده كل شئ ، ولا تستعصي عليه مسألة.
وهل في هذا النداء تضرع وتوسل إلى الله بالعفو والمغفرة ، وجلب الرزق ، الجواب نعم ، وهو من أسرار قانون إظهار المسلمين العبودية لله عز وجل وحده ، وقانون يحب الله الموحدين ، فهم أوتاد الأرض بهم يستسقي الناس ، وتنزل البركة عليهم وعلى من حولهم.
وهل في النداء (ربنا) تأديب للمسلمين والمسلمات ، الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن بأن يتلو المسلم الآية القرآنية فيزداد إيماناً ، ويتجلى قانون الآية القرآنية مدرسة للإصلاح والتأديب ، وقانون الكلمة القرآنية حصانة وتأديب ، فاذا كانت كلمات القرآن هي (77439) فان عدد أفراد التأديب بعددها وبعدد الصلة بين كل آيتين منها ، بل تستقرأ مصاديق متعددة من ذات الآية الواحدة .
ومن معاني قانون القرآن معجزة عقلية تكرار أجيال المسلمين في كل زمان قول (ربنا) ولا تمر ساعة على أهل الأرض ومن أيام نزول القرآن إلا وهناك عدد من المسلمين يقولون (ربنا) في الصلاة وخارجها بتلاوة القرآن أو بالدعاء المأثور أو الدعاء الشخصي أو الحديث والجدال والإحتجاج ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويدل قول (ربنا) على النداء ليأتي بعده موضوع ومسألة النداء ، فجاء بصيغة الجملة الخبرية [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ] وفيه شهادة لرسول الله بقيامه بتبليغ عامة الناس بالتنزيل ، وأحكام الإسلام ، ويدل على هذا العموم إطلاق النداء وعدم تقييده فلم يقل المسلمون (إننا سمعنا منادياً ينادينا للإيمان) وهذا الإطلاق لقوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
وقيدت الآية موضوع النداء بأنه للإيمان ، واللام على قسمين :
الأول : اللام العاملة وهي على شعب :
الأولى : اللام الجارة.
الثانية : اللام الجازمة .
الثالثة : اللام الناصبة للفعل .
الثاني : اللام غير العاملة وتسمى المهملة وهي على خمسة شعب وهي :
الأولى : لام الإبتداء ، وحكمها الفتح ، وتفيد توكيد مضمون الجملة.
الثانية : اللام الفارقة .
الثالثة : لام الجواب .
الرابعة : اللام الموطئة للقسم .
الخامسة : لام التعريف .
وتتعدد معاني اللام منها لام الإختصاص وهي التي تقع بين ذاتين ، ولا يتصور منها الملك مثل [الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ]( ) فالجنة ذات ، والمتقون ذات ، ولا يتصور الملك.
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ) وتدل آية البحث على أن المسلمين شهود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه بلغ الرسالة وأوصل نداءه إلى الناس جميعاً ، وأنه لم ينادي إلا للتقوى وطاعة الرحمن .
وتدل الآية ايضاً على شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الناس بندائه للإيمان والصلاح الذي هو فرع الإيمان ، فاذا آمن الإنسان بالله عز وجل فانه يخشاه بالغيب ، ويتبع أوامره ويتجنب نواهيه ، والمراد من المنادي في آية البحث هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وموضوع النداء في الآية على شعبتين :
الأولى : الإيمان لقوله تعالى [مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ]( ).
الثانية : الإيمان بالله عز وجل [أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ] ( ) .
والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق ، فالإيمان بالله أخص ، ومنه يتفرع الإيمان بالملائكة والنبيين والكتب السماوية المنزلة والعالم الآخر ، وفي التنزيل [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ]( ).
ومن الإعجاز أن المسلمين ينادون الله عز وجل بأنهم آمنوا به سبحانه لرجاء رحمته ، لذا فبعد هذا الإخبار قالوا [فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا] وفيه وجوه :
الأول : إقرار المسلم بالذنوب .
الثاني : إدراك المسلمين لقانون من الإرادة التكوينية بأن مغفرة الذنوب بيد الله سبحانه وحده .
الثالث : تفقه المسلمين في الدين ، وبيان ان الإستجابة للإيمان لا تنحصر بالنطق بالشهادتين إنما تشمل العلم والعمل .
الرابع : توجه المسلمين إلى الله تعالى بالدعاء والمسألة المتعددة من وجوه :
الأول : سؤال الله عز وجل مغفرة الذنوب .
الثاني : الدعاء بالستر ومحو الخطايا ، وقيل المعنى واحد بين الذنوب والسيئات ، ولكن التعدد والمغايرة تتجلى من جهات :
الأولى : حرف العطف الواو بينهما .
الثانية : سؤال المغفرة للذنوب ، وتكفير وستر السيئات .
الثالثة : تعدد معاني اللفظ القرآني ، وكأن قوله تعالى [فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا]مما إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا أجتمعا لبيان منافع الإيمان العاجلة والآجلة.
الثالث : مغادرة الدنيا بالإيمان والصلاح ، وهل في قوله تعالى [وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ]( )، إنذار وواقية من الإرتداب ، الجواب نعم .
فحالما آمن المسلمون بالله سألوا المسائل العظيمة وسبل النجاح في النشأتين ، والتي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل ، وهي بياض صفحاتهم وإزاحة الندب السوداء في حياتهم ، وما كتبه الملائكة عنهم من الذنوب والمعاصي .
فمع إنشغال الملائكة بهذه الكتابة لسنوات من عمر الإنسان فان دعاءً وسؤالاً مع الإيمان يأتي عليها ليسعد الملائكة بهذا النحو في حياة العبد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) عندما تساءل الملائكة عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ومنهم [مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) فمن علم الله عز وجل أنه يبعث النبي محمداً رسولاً للناس ، فتؤمن به أجيال وأحقاب من الناس يشهدون له كل يوم بالرسالة من عند الله ، وقيامه بالدعوة إلى الله خير قيام ، ويتوجهون إلى الله عز وجل بسؤال العفو والمغفرة عنهم وعن آبائهم المسلمين.
وهل تعلم الملائكة أن الله يحب أن يستغفر العباد ، الجواب نعم ، فمن أسماء الله الغفور والغفار والتواب ، فاذا الخلائق في الأرض يجتهدون في الإستغفار وسؤال التوبة كمصداق ، وشواهد على أهليتهم للخلافة في الأرض .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم)( ).
وتبين آية البحث قانون الملازمة بين الإيمان والطمأنينة باختيار المؤمن الإستغفار والإنابة إلى الله و(عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ومن كل هم فرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب)( ).
واختتمت الآية بدعاء المسلمين أن يغادروا الدنيا مع الأبرار وتقدير الآية : ربنا توفنا مع الأبرار ، ولم تقل توفنا أبراراً ، وفيه مسائل :
الأولى : علم المسلمين بوجود أمم سابقة من الأبرار الأتقياء .
الثانية : قانون رجاء المسلمين الفوز بالجنة ، قال تعالى [إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا]( ).
الثالثة : تعاون المسلمين وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لنيل مرتبة الأبرار ، وكل واحد منهم يرجو ان يحشر مع الآخرين الأبرار ، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
الرابعة : الأبرار هم أهل الصدق والطاعة الذين بروا الله عز وجل في طاعتهم وعبادتهم له وحده.
لقد سأل المسلمون الله عز وجل الراحة عند الموت ولطف ملك الموت بهم ، فحتى المذنب والمقصر منهم فانه يرجو أن يقبض الله عز وجل بالكيفية اللطيفة التي يقبض فيها أرواح الأبرار .
و(عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ، ولما يلحد ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجلسنا حوله – وكأن على رؤوسنا الطير – وفي يده عود ينكت به في الأرض.
فرفع رأسه فقال : استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً ، ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مد البصر . ثم يجيء ملك الموت ، ثم يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس المطمئنة ، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان .
قال : فتخرج . . . تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء ، وإن كنتم ترون غير ذلك ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض.
فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الطيب .
فيقولون : فلان ابن فلان ، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا ، فيستفتحون له فيفتح لهم ، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها ، حتى تنتهي به إلى السماء السابعة ، فيقول الله : اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى . فتعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك؟
فيقول : ربي الله .
فيقولان له : ما دينك؟
فيقول : ديني الإِسلام .
فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟
فيقول : هو رسول الله .
فيقولان له : وما علمك
فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدّقت .
فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي ، فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة ، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره ، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسرك . . . هذا يومك الذي كنت توعد .
فيقول له : من أنت .
فوجهك الوجه يجيء بالخير .
فيقول له : أنا عملك الصالح .
فيقول : رب أقم الساعة . . . رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي)( ).
لقد تكرر اسم (الرب) ثلاث مرات في الآية ، مرتين بالنداء (ربنا) الصادر من كل فرد وجماعة وجيل من أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، والأخرى بلفظ (آمنوا بربكم) فلم يقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آمنوا بربي ، إنما آمنوا بربي وربكم لبيان وجوب الإيمان والحاجة إليه.
وقد تكرر لفظ (ربي وربكم) ثماني مرات في القرآن ، في موسى وعيسى عليهما السلام ، وفي خطاب موسى لآل فرعون [وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ]( ).
لقد توعدوا موسى عليه السلام بالقتل فاظهر التحدي بالإستعاذة بالله وسألهم الإمتناع عن الإضرار به وعن رجمه بالحجارة ، وعن قتله كيلا يأتيهم العذاب .
وكذا تكررت مادة (آمن) ثلاث مرات ، مرة باسم الإيمان وثانية (آمنوا بربكم) وثالثة (فآمنا) .
كما ورد السؤال والدعاء ثلاث مرات :
الأولى : فاغفر لنا ذنوبنا.
الثانية : كفر عنا سيئاتنا .
الثالثة : توفنا مع الأبرار .
ترى لماذا جاء حرف العطف الفاء في (فاغفر لنا) بينما جاء حرف العطف (الواو) مرتين بعدها ، الجواب إنه من الإلحاح في الدعاء فبعد إعلان المسلمين إيمانهم سألوا الله ان يغفر لهم فمن الإيمان قانون إدراك شدة العذاب على الذنوب والخطايا ، وقانون الدعاء والإستغفار يمحو الذنوب .
وتبين الآية أن نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على شعبتين :
الأولى : النداء للإيمان .
الثانية : النداء للإيمان بالله إلهاً وسيداً ورباً ، ليدخل في الأول الإعتقاد الجازم بالإيمان بالله والملائكة والكتب السماوية والنبييين واليوم الآخر .
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : ابتدأت الآية بنداء (ربنا) الصادر من المسلمين والمسلمات شاهد على الإيمان ، وفيه وجوه :
الأول : طرد الغفلة عن المسلمين والمسلمات .
الثاني : قانون رفع المسلمين لواء التوحيد وترغيب الناس به .
الثالث : قانون إعلان المسلمين حبهم للإيمان ورضاهم وغبطتهم به .
ومن الإيمان إقبال المسلمين على أداء الوظائف العبادية ، ويتجلى بعشقهم للصلاة اليومية والوقوف بين يدي الله خمس مرات في اليوم.
كما يتجلى بالسعادة والبهجة التي يستقبلون بها شهر رمضان ، لقانون الصيام من الإيمان الذي نادى إليه رسول الله .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ]( )، تفضل الله عز وجل بالإستجابة لدعاء المسلمين في آية البحث [رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ]( ).
و(عن عبد الله بن عمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفِّعْني فيه ، قال : فيشفعان)( ).
الرابع : ليس للمسلمين رب إلا الله ، آمنوا بربوبيته مجتمعين ومتفرقين وقول (ربنا) من مصاديق قوله تعالى [إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ]( ).
الخامس : تنمية ملكة الإلحاح بالدعاء والتوسل إلى الله عز وجل وسؤاله الحاجات.
وعن الإمام الصادق عليه (عن أبيه، عليهما السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله: أربع من كن فيه كان في نور الله الاعظم، من كانت عصمة أمره شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله .
ومن إذا أصابته مصيبة قال : إنا لله وإنا إليه راجعون، ومن إذا أصاب خيرا قال : الحمد لله رب العالمين .
ومن إذا أصابته خطيئة قال: أستغفر الله وأتوب إليه)( ).
السادس : من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )، ذكر آية البحث لماهية الإيمان وأنه إيمان بالله عز وجل إلهاً ورباً لا شريك له ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ]( ).
فجاء الدعاء وسؤال الله المغفرة والعفو من قبل المسلمين شاهداً على إيمانهم وإقرارهم بالتوحيد.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انقطاع عبادة الأوثان في الجزيرة قبل أن يغادر الدنيا ، ولن تعود إليها أبداً ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، ابتداء البعثة النبوية من مكة ، وإنذار التنزيل من عبادة الأوثان ، وقضاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليها .
و(عن جابر قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت لوجهها وقال جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا( ).
وعن الإمام الرضا عليه السلام قال (دخل رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة والاصنام حول الكعبة ، وكانت ثلاثمائة وستين صنما، فجعل يطعنها بمخصرة في يده ويقول [جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ) جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ” فجعلت تكب لوجهها)( ).
التفسير
قوله تعالى [رَبَّنَا]
ابتدأت آية البحث بالدعاء والنداء من قبل المسلمين [رَبَّنَا] وهو من أسمى النداءات في تأريخ الإنسانية لوجوه :
الأول : النداء بكلمة الرب وهو من أمهات الأسماء الحسنى .
الثاني : مجئ النداء بصيغة الجمع (ربنا) الصادر من أجيال المسلمين المتعاقبة بتلاوتهم له في الصلاة وخارجها .
الثالث : نداء [رَبَّنَا]شاهد على إيمان المسلمين والمسلمات .
الرابع : إقامة الحجة على الذين كفروا كل يوم بتلاوة المسلمين لآية البحث ، والتي قبلها والتي بعدها إذ تبدأ كل واحدة منها النداء [رَبَّنَا] وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن خمس مرات في اليوم والليلة على نحو الوجوب العيني.
ليكون من أسرار تلاوة المسلم الفاتحة مع سورة أو آيات أخرى ، لبيان الصلة بين قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )والنداء [رَبَّنَا].
والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، إذ أن [رَبَّنَا] أخص ، وليكون تقدير أول آية البحث (ربنا ورب العالمين جميعاً) وهل تدل آية البحث على هذا المعنى ، الجواب نعم من وجوه :
الأول : الرسول المنادي من عند الله وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : توالي نزول الملائكة إلى الأرض بالوحي ، وبما يأمرهم الله عز وجل به لتثبيت سنن ومعالم الإيمان في الأرض ، منها قوله تعالى بخصوص يوم معركة بدر [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ) إذ نزلت هذه الآية بعد اجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالدعاء .
واشترك الملائكة في القتال لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن (ابن عباس قال بينما رجل من المسلمين يومئذ ( )يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربه بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع.
فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال ( صدقت ذلك مدد السماء الثالثة ) فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين)( ).
الثالث : يحتمل نزول الملائكة في هذا الزمان وجوهاً :
الأول : نزول الملائكة عند الحاجة بين الحين والآخر حيث يأمرهم الله ، قال [لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
الثاني : إنقطاع نزول الملائكة بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا ، وإنقطاع الوحي معه .
الثالث : نزول الملائكة كل يوم من أيام الحياة الدنيا .
والمختار هو الأخير ، فصحيح أن مسكن الملائكة هو السموات ، ولكن طائفة وجماعات منهم ينزلون حيث يأمرهم الله ، ومنه قوله تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ) فلا يحصي ملك الحسنات الذي على يمين الإنسان ، وملك السيئات الذي على شماله أفعاله وهما في السماء ، بل لابد أن يكونا بقربه لذا قال تعالى [لَدَيْهِ]أي حاضرة عنده ، ومنها ملائكة الرعد والبرق ، والملائكة التي تزجر وتسوق السحاب .
وعن جابر بن عبد الله (أن خزيمة بن ثابت – وليس بالأنصاري ، سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، عن منشأ السحاب فقال : إن ملكاً موكل بالسحاب يلم القاصية ويلحم الدانية ، في يده مخراق ، فإذا رفع برقت ، وإذا زجر رعدت ، وإذا ضرب صعقت)( ).
و(عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، قَالَ:”تجتمع ملائكة الليل، وملائكة النهار في صلاة الفجر)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا “( ) يعني صلاة الفجر تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، فإذا صلى العبد الصبح مع طلوع الفجر أثبتت له مرتين، أثبتها ملائكة الليل وملائكة النهار)( ).
بداية الآية (ربنا)
ابتدأت آية البحث بنداء الربوبية المطلقة[رَبَّنَا] وتقديره على وجوه :
الأول : ربنا نحن معاشر المسلمين جميعاً .
الثاني : ربنا ورب الناس كافة ، قال تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : ربنا ورب الأنبياء لبيان عصمة المسلمين من الغلو بأشخاص الأنبياء مع معجزاتهم ، وورد بخصوص يعقوب عليه السلام قوله تعالى [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
الرابع : تسليم المسلمين بأن الله عز وجل رب الكائنات كلها ، وهو الذي خلقها ورزقها ، والذي يتعاهد وجودها واستدامتها إلى الأجل الذي جعله لفنائها وزوالها .
الخامس : إقرار المسلمين بأن النبي محمداً لم يدع إلى الإيمان من تلقاء نفسه إنما هو بالوحي من عند الله ، وتقدير الآية : ربنا اننا سمعنا منادياً بعثته ينادي للإيمان ، لبيان حتمية وجود الإستجابة الكافية لحفظ كلمة التوحيد في الأرض إلى يوم القيامة ، لأن النبي محمداً خاتم النبيين .
السادس : اللهم أنت ربنا لا نشرك بك شيئاً .
السابع : قول (ربنا ) شهادة وإقرار من المسلمين بعبوديتهم لله عز وجل.
الثامن : ربنا ورب آبائنا الأولين وأبنائنا وذرارينا .
التاسع : ربنا إننا موحدون طائعون لأوامرك خاشعون خاضعون لك فاغفر لنا وأرحمنا .
العاشر : ذكرت كلمة (ربنا) مائة وأربع مرات في القرآن ، منها اثنتان في آية البحث ، وواحدة في الآية السابقة وواحدة في الآية التالية [رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ]( ).
بحث نحوي / وجوه النداء
النداء هو الدعاء برفع الصوت ، وفيه أطراف :
الأول : المنادي : وهو في الآية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : موضوع النداء : وهو الإيمان بالله .
الثالث : المنادى : وهو المطلوب إقباله ، والمقصود الناس جميعاً ، ومن استجاب شاهد لغيره ممن ، ومنه صلاة الجماعة استجاب ، وعلى من لم يستجب ، لإطلاق لفظ المنادى وصيغة العموم الإستغراقي ، وكأنه من النكرة المقصودة وغير المقصودة معاً .
وبلحاظ نظم الآيات والقرائن تعددت وجوه للنداء في القرآن نذكر صيغة كل نداء والمثال عليه ، والمختار أن المثال القرآني الواحد يراد منه عدد وجوه من النداء ومنها :
الأول : المدح مثل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثاني : التشريف مثل [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ].
الثالث : الذم مثل [يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ].
الرابع : التنبيه مثل [يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ]( ).
الخامس : نداء الرفق بخصوص نوح عليه السلام وابنه ، ورد في التنزيل [يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا]( ).
السادس : نداء الإستعطاف ، وبخصوص موسى وهارون عليهما السلام ورد في التنزيل [قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي]( ).
السابع : التحسر مثل [أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ]( ).
الثامن : التمني مثل [يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا]( ).
التاسع : الدعاء كما في آية البحث [رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا]( ).
العاشر : التحدي مثل [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ]( ).
الحادي عشر : البشارة والوعد .
الثاني عشر : الإنذار والتهديد والوعيد .
الثالث عشر : نداء الإخبار مثل [يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ]( ).
الرابع عشر : نداء اللازم وإرادة الملزوم مثل [يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ]( )، فوضع النداء موضع التعجب لأن البشرى لاتنادى ، إنما ينادى الأشخاص ورجال القافلة في الآية أعلاه ، وفائدته الجلب الشديد للتنبيه .
الخامس عشر : نداء الإنكار ، مثل [قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ]( ).
السادس عشر : نداء البليغ ، ومنه آية البحث وان ورد بصيغة الجملة الخبرية ، ومنه آية البحث [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ]( )، وقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).
والوجوه الستة الأخيرة أعلاه مستحدثة في هذا الجزء ، وبالإمكان الزيادة والتفصيل في المقام لبيان تعدد الدلالة والغايات من النداء القرآني.
دلالات تعدد النداء [رَبَّنَا]
ومن دلالات تعدد لفظ [رَبَّنَا] في هذه الآيات وجوه :
الأول : قانون النفع العام في الإلحاح بالدعاء .
الثاني : التنبيه إلى موضوعية وشأن مسائل الدعاء الواردة في هذه الآيات .
الثالث : تأكيد الخضوع والخشوع لله عز وجل .
الرابع : اللجوء والإستغاثة بالله عز وجل في أهوال الآخرة .
الخامس : قانون تنمية ملكة التقوى عند المسلمين والمسلمات و(عن الإمام الرضا عليه السلام : الإيمان فوق الإسلام درجة )( ).
السادس : وحدة الموضوع في تنقيح المناط في الحاجة إلى الدعاء [رَبَّنَا] بصيغة الجمع لينتفع منه كل مسلم سواء كان تالياً للآيات أو مستمعاً لها أو يقطن في ذات البلد أو بلد آخر لأصالة العموم ، وقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
وتقدير أول آية البحث : ربنا أننا المسلمون والمسلمات سمعنا رسولك محمداً منادياً للإيمان .
السابع : لما أخبرت آية البحث عن إيمان المسلمين [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا]( )جاءت هذه الآيات شهادة من عند الله عز وجل لإيمان المسلمين ، وثناء عليهم .
الثامن : الدعوة لهداية الناس للإيمان والإقرار بالربوبية لله عز وجل ، وفي التنزيل [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ..]( ).
التاسع : بيان إرتقاء المسلمين في المعارف ، وتفكيرهم في عالم الأكوان ، وبديع صنع الله في خلق السموات والأرض ، واتخاذ هذا التفكير مادة للإيمان ،وباعثاً لأداء الفرائض العبادية لقوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
العاشر : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بتلقيهم كيفية الدعاء ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) نزول آيات القرآن بتعليم المسلمين كيفية الدعاء والمسألة .
الحادي عشر : في النداء [رَبَّنَا] ثناء على الله وإجلال لمقام الربوبية وحب الله عز وجل .
الثاني عشر : بعد هذا الإلحاح بالدعاء ، وتقديم النداء [رَبَّنَا]جاءت الآية بعد التالية بالبشارة والإخبار بأن الله عز وجل استجاب لهم الدعاء .
ومن الإعجاز في المقام أن الإستجابة بلفظ الرب أيضاً بقوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ]( ) لبيان قانون تعقب الإستجابة للإلحاح بالدعاء والمسألة.
الثالث عشر : قانون تضمن الدعاء الثناء على الله والإقرار بعظيم مخلوقاته ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
قانون نداء (ربنا) شهادة الإيمان
لقد أراد الله عز وجل للإنسان أن يعمر الأرض بالذكر والدعاء وعبادة الله عز وجل ، والشكر له على النعم ومنها الخلافة في الأرض ، ولم ينل الملائكة الخلافة في السماء ، فهل يمكن وجود أجناس من الخلائق ارتقت إلى مرتبة الخلافة في الكوكب الذي يعمرونه ، المختار لا.
فقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) .
وقد ذكر خلقه للسموات والأرض والملائكة والجن والأكوان ، وخصّ الأرض بالذكر مع السموات مع أنها كالقطرة في بحر السموات السبع الواسعة ، والأجرام السماوية والعوالم التي لا يعلمها إلا الله ، ومنها الإكتشافات العلمية المذهلة الجديدة.
فاختص الإنسان بصفة الخلافة ليقوم بأعباء العبادة وتكاليفها واثبتت وكالات الفضاء وجود المليارات من المجرات ، وتضم المجرة الواحدة ملايين أو بلايين النجوم ، وكل نجمة أكبر من الأرض بملايين المرات .
ومن خصائص الخلافة وقوف الناس بين يدي الله عز وجل للحساب يوم القيامة ، ولا يستثنى أحد من هذا الحساب ، لذا ابتدأت آية البحث بالنداء [رَبَّنَا] وليكون من معاني التضرع للنجاة يوم الحساب .
(وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام قال : ما من عبادة أفضل من أن يسأل ، وما يدفع القضاء إلا الدعاء ، وإن أسرع الخير ثواباً البر ، واسرع الشر عقوبة البغي ، وكفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه ، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع التحوّل عنه ، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه)( ).
وقد أكرم الله عز وجل الناس بأن قرن ذكر الأرض مع السموات لبيان عظيم مسؤولية الناس في الخلافة في الأرض ، فرزق الله الناس النبوة والتنزيل ، وهداهم لقول [رَبَّنَا] مجتمعين ومتفرقين ، لتكون فيه استدامة للخلافة ومعها يأتي الرزق الكريم وتتوالى النعم ، لبيان وجوه :
الأول : قانون نداء [رَبَّنَا] نعمة .
الثاني : قانون نداء [رَبَّنَا] هداية وسبيل صلاح .
الثالث : قانون نداء [رَبَّنَا] مقدمة وطريق للرزق الكريم .
الرابع : قانون نداء [رَبَّنَا] إصلاح للخلافة في الأرض .
الخامس : قانون نداء [ربنا ] وسيلة للعفو والمغفرة .
قانون المسلمون ينادون للإيمان
اجتمعت آيات حسية وعقلية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهداية الناس للإيمان ، وبينت آية البحث نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته للإيمان فالذي يتلقى نداءه ودعوته بالتصديق والنطق بالشهادتين والإمتثال لأمر الله تعالى يصبح منادياً للإيمان بأدائه الفرائض العبادية ، وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وهذه التبعية في الأداء والنداء من المعجزات الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
إذ يتولى كل مسلم النداء إلى الإيمان بالقول والفعل ، وهل منه الأذان والإقامة إلى الصلاة اليومية خمس مرات في اليوم ، الجواب نعم.
لبيان قانون الحياة الدنيا دار النداء إلى الإيمان ، ولا يعلم عدد الذين نادوا إلى الله ووجوب الإيمان بربوبيته وحده ، وعدد المرات التي نادى فيها كل واحد منهم إلا الله سبحانه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ]( ).
لقد أحبّ الله عز وجل المسلمين فجعلهم دعاة لعبادته بالتقيد بأداء الفرائض العبادية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعاهدها من غير بدعة أو نقص .
وهذا التعاهد دعوة أخرى للإيمان لما في الثبات في مقاماته من الهدى والرشاد .
(عباراتنا شتى وحسْنُك واحد … وكُلٌّ إلى ذاك الجَمَالِ يُشير)( ).
قانون تعاهد الإيمان
إذ حمل المسلمون ألوية النداء للإيمان والإقرار بالتوحيد في ربوع الأرض من جهات :
الأولى : تعاهد أداء الصلاة ، وتلاوة القرآن خمس مرات في اليوم .
الثانية : مصاحبة الإيمان للمسلمين في إقامتهم وترحالهم ، وفي التنزيل قال تعالى [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا]( ).
الثالثة : التحلي بالتقوى ، والدعوة إلى الصلاح ، ونشر الرأفة بين الناس ، والإمتناع عن المعاصي ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الرابعة : إجتهاد المسلمين في الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الخامسة : من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) لابد من وجود أمة في كل زمان تحمل لواء التوحيد في الأرض .
وقد فاز المسلمون بهذه النعمة والمنزلة الرفيعة، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ]( ) أي في الدعوة إلى التوحيد ونداءات الإيمان.
المنافع اليومية لآيات القرآن
من خصائص القرآن إعجازه الذاتي بكلماته ومضامينها القدسية ، وإعجازه الغيري بما يترشح عنه من إصلاح النفوس والإرتقاء العلمي والأجر والثواب .
وقد تقدم في الجزء الثاني قانون المنافع اليومية للآية ، ويتلقى المسلمون والمسلمات الأمر الإلهي بوجوب قراءة القرآن خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني في الصلاة بالقبول والإمتثال المقرون بالغبطة ، ويدركون منافع هذه القراءة ، وفيها وجوه :
الأول : تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن سبع عشرة مرة في اليوم على نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية دروس متجددة لهما والسامعين خمس مرات في اليوم في أسمى جامعة سماوية متصلة لم يشهد لها التأريخ مثيلاً ، وهو من الشواهد على أن القرآن معجزة عقلية وحسية .
الثاني : بعث السكينة في النفس ، لتكون تلاوة المسلم القرآن كل يوم في الصلاة وخارجها من مصاديق قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ) وهذه السكينة مطلوبة بذاتها ، وهي حرز ومقدمة للهداية ، والرشاد في القول والعمل .
الثالث : قانون تلاوة القرآن مدد وعون من عند الله عز وجل .
الرابع : في تلاوة القرآن التماس البركة في السعي والجهد ، وفي الرزق والمال ، وواقية من أسباب حجب الرزق و(عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ، ولا يرد القدر إلا لدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر)( ).
قانون النداء للإيمان دائم ومتصل
بيان قانون وجود مناد للإيمان في كل زمان فقد توالى بعث الأنبياء للناس بفضل الله عز وجل ، وفي فترات خلو الأرض من نبي هناك الأئمة والأولياء والصالحين اتباع الرسل.
إلى أن بعث الله عز وجل خاتم النبيين محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولم يغادر الدنيا إلا بعد أمور مباركة :
الأول : فتح مكة سلماً ، من غير قتال يعتد به ، بعد أن خاب وخسر المشركون في معارك الإسلام الأولى مع أنهم كانوا أكثر عدداً وعدة وأسلحة ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثاني : نزول تمام آيات القرآن ، إذ كان نزوله على نحو التدريج والتوالي ، ومن آياته ما كانت أسباب ووقائع لنزولها .
الثالث : كثرة أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلم يغادر الدنيا إلا وأصحابه نحو مائة ألف ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
ومن مصاديق قوله تعالى [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ] أعلاه إتقان أهل البيت والصحابة الصلاة والفرائض العبادية الأخرى ، ومن الشواهد أنه حج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع سبعون ألف على أقل تقدير ، وقيل أن عددهم مائة ألف إذ تسابق رجال القبائل من كل حدب وصوب للحج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو معجزة غيرية له.
بينما خرج من مكة وليس معه إلا واحد من أصحابه ، وحينما ندب أهل المدينة ومن حولها للحديبية لم يخرج معه إلا ألف وأربعمائة ، وخرج معه إلى تبوك في السنة التاسعة أكثر من ثلاثين ألفاً .
مما يدل على أن عدد المسلمين والمسلمات أكثر من ضعف هذا العدد .
و(عن الشافعي أنه قال: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ممن سمع منه ورآه زهاء ستين ألفا)( ).
ليتعاهدوا آيات وأحكام القرآن التي سمعوها من الرسول المنادي ، ويتركوها إرثاً لأبنائهم وعموم التابعين الذين هم تلقوا أيضاً النداء للإيمان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة القرآن والصحابة.
الدنيا دار النداء السماوي
من رحمة الله بالناس جميعاً قانون جعل الدنيا دار النداء اليومي للإيمان فلا يمر يوم على الدنيا إلا وهناك نداءات متكررة للإيمان إلى جانب الآيات الكونية من وجوه :
الأول : الآيات الكونية الثابتة كالسماء والأرض .
الثاني : الآيات الكونية المتعاقبة كالليل والنهار والشمس والقمر.
الثالث : الآيات الموسمية كالغيث من السماء .
الرابع : الآيات الكونية الطارئة ككسوف الشمس ، وخسوف القمر ، وما فيهما من التذكير بعظيم قدرة الله ووجوب عبادته ، وبعث الطمأنينة في قلوب المؤمنين ، والخوف والرهبة في قلوب الكافرين .
(وعن محمود بن لبيد قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه واله فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه و اله فخرج رسول الله صلى الله عليه واله حين سمع ذلك، فحمد الله وأثنى عليه .
ثم قال : أما بعد أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تنكسفان لموت أحد، ولا لحياته ، وإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى المساجد. و دمعت عيناه .
فقالوا يا رسول الله صلى الله عليه واله تبكي وأنت رسول الله ؟ فقال: إنما أنا بشر، تدمع العين، ويفجع القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، و الله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون)( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ العَيْنِ ، وَلاَ بِحُزْنِ القَلْبِ ، وَإِنَّمَا يُعَذِّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ)( ).
لبيان عدم إنحصار نداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان في مواضيع وأحكام مخصوصة بل يشمل هذا النداء أمور الدين والدنيا وأسباب الصلاح والفقاهة عند الناس .
أركان النداء في آية البحث
أركان النداء هي :
الأول : أداة النداء ، مثل (يا) (همزة الإستفهام) (أيهما) (أيتها).
الثاني : المنادي .
الثالث : المنادى .
الرابع : موضوع النداء وهو جملة جواب النداء التي تبين الغرض من النداء .
وفي الصناعة النحوية يذكر ركنان فقط وهما : الأول والثالث أعلاه .
ولا ينحصر قول (ربنا) بالنداء إنما هو دعاء وتضرع وإقرار بالعبودية لله عز وجل وأن مقاليد الأمور كلها بيده تعالى ، وهو من أسرار تكرار النداء (ربنا) وما فيه من حلاوة على اللسان وسكينة للقلب وطمأنينة تتغشى الأركان .
وهل يجوز تقدير أداة نداء لفظية في المقام (يا ربنا) الجواب نعم.
وتتضمن الآية إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشهادة أجيال المسلمين المتعاقبة له بالدعوة إلى الله وصدور النداء العام من المسلمين (ربنا) شاهد على تلقي دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان بالإستجابة ، ولم يطلبوا زخارف زينة الدنيا ، ولا الجاه والسلطان إنما طلبوا العفو والمغفرة ، والعبور على الصراط يوم القيامة بأمن وأمان .
وأيهما أكثر نفعاً [رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا]( )، أم قول نستغفر الله ، الجواب هو الأول ، لوجوه :
الأول : صفة القرآنية ، وما في التلاوة من الأجر وكثرة الحسنات ، ومع كثرة كلمات وصيغ الإستغفار في القرآن ، فانه لم ترد فيه كلمة (نستغفر).
الثاني : مجئ الآية بلغة الدعاء والتوسل ونداء (ربنا) .
الثالث : صيغة الجمع والنداء العام ، وكل مسلم يدعو لإخوانه بظهر الغيب .
ولا يحصي الذين يتلون آية البحث إلا الله عز وجل .
بحث عرفاني
ابتدأت آية البحث بالنداء [رَبَّنَا] مثلما ابتدأت الآية السابقة بالنداء (ربنا) وللنداء أحرف متعددة وتستعمل للقريب والبعيد ، وأكثرها استعمالاً الحرف (يا ) وهو أصل حروف النداء ، ولا تأتي بديلاً له عند حذفه ، ولا ينادى الله بأسمائه الحسنى إلا به .
وجاء النداء (ربنا ) من غير حرف نداء لبيان التسليم بقرب الله عز وجل من الناس ، وفي التنزيل [وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( ) لتأكيد قانون حذف أداء النداء في [رَبَّنَا] دليل على إيمان وتفقه المسلمين ، وإقرارهم بأن الله قريب منهم ، وليس لهم رباً وإلهاً مجتمعين ومتفرقين إلا الله عز وجل .
ويدل عليه الشواهد القرآنية التي تدل على أنه ليس للمسلمين رب إلا الله عز وجل منها قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ]( ) .
ولما قال تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ]( ) جاء مصداق الإمتثال من المسلمين بمناداة الله ودعائه بالتسليم له بالربوبية المطلقة ، وبانعدام الحجب بينه وبينه .
ليكون من معاني أول آية البحث (ربنا اننا سمعنا منادياً ينادي وإذا سالك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني) ففزعنا إليك بالدعاء وحاجات الدنيا والآخرة .
لقد أراد الله عز وجل أن لا تكون فاصلة بينه وبين الذين يدعونه ويسألونه ويناجونه لتحقيق المقاصد ، وهو من فضل الله عز وجل على الناس ، ولبيان قانون الخلافة في الأرض قرب من الله عز وجل .
فصحيح أن الملائكة مسكنهم الجنة ومنهم حملة العرش فان الله عز وجل أكرم المؤمنين بأن جعلهم قريبين منه .
وهذا القرب من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ) حينما تساءلوا عن جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ليسمع الملائكة نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى التوحيد ، وتنزل لنصرته.
ويكرر هذا النداء بتلاوة آية البحث ملايين المسلمين ، فيدعو الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين .
قوله تعالى [إِنَّنَا سَمِعْنَا]
بعد نداء المسلمين بتضرع وخشوع (ربنا) وما فيه من طرد للرياء ، إذ شكروا الله عز وجل على حاسة السمع وتسخيرها لما فيه خير الدنيا والآخرة ، وأقروا بأنهم سمعوا نداءات الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يناديهم للإيمان فبادروا إلى الإيمان بالقلب والأركان ، وظهر الإيمان على ألسنتهم خالياً من النفاق ، فقالوا [إِنَّنَا سَمِعْنَا].
ولم يرد لفظ [إِنَّنَا سَمِعْنَا] في القرآن إلا في آية البحث لبيان موضوعيتها ومضامينها القدسية في حياة المسلمين .
نعم ورد [إِنَّا سَمِعْنَا]( )، مرتين في القرآن بخصوص الجن ، قال تعالى [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا]( ).
المراد من [إِنَّنَا] في الآية على وجوه :
الأول : أهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار .
الثاني : التابعون .
الثالث : كل طبقة وجيل من المسلمين .
الرابع : الذي يتلو آية البحث يشهد على نفسه وعن أهله ودويرته بأنهم سمعوا آيات التنزيل والسنة فآمنوا .
الخامس : أفراد صلاة الجماعة، لذا تكون قراءة الإمام نيابة عن المأمومين .
السادس : آمنا نحن وآباؤنا المسلمون ، لبيان قانون تلاوة المسلم للقرآن ثواب لوالديه أيضاً .
تحتمل عودة الضمير المتصل (نا) جهتين :
الأولى : المسلمون والمسلمات .
الثانية : المؤمنون والمؤمنات .
والصحيح هو الأول ، فكل مسلم ومسلمة نطق بالشهادتين ، ويتلوان القرآن في الصلاة وخارجها ، فالمراد من قوله تعالى [فَآمَنَّا] الإيمان الظاهري .
قانون دلالة زيادة المبنى على زيادة المعنى
تدل الزيادة الطارئة على اللفظ في القرآن على معنى زائد على ما يدل عليه اللفظ دونها ، سواء كانت الزيادة حرفاً أو زيادة في وزن الكلمة .
والزيادة ما زاد على الشئ كماً وكيفاً أو معنى ، وتطلق الزيادة في إصطلاح اللغة على الحرف غير الأصلي ، والزائد مطلقاً مما لا فائدة معه ، والضابطة أن وجوده أو عدمه لا يخل بالمعنى الأصلي ، ولكن هذه الزيادة في القرآن لها دلالات ومعاني ، إذ تبتنى اللغة العربية على الإشتقاق ، وهو من أسرار تعدد معاني اللفظ القرآني ، ونزول القرآن باللغة العربية ، قال تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
وتفيد معنى جديداً ، وفي المثل السائر : الألفاظ أدلة المعاني ، ومنه قوله تعالى [فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ]( ) فاسم مقتدر ابلغ من قادر ، وأشد جذباً للأذهان ، وتأكيد بأن الله قادر على كل شئ ، لا تستعصي عليه مسألة ، ولا يرد عذابه عن الظالمين سواء في الدنيا أو الآخرة .
ومنه قوله تعالى [غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ]( ) فان غلَق يزيد على غَلَقَ لبيان حرص امرأة العزيز على كتمان الأمر وعدم الفضيحة عند إرتكاب الفاحشة ولكي لا يهرب يوسف عليه السلام منها لذا [قَالَتْ هَيْتَ لَكَ] ( ) .
وثواب ألفاظ البالغة التي يزاد فيها حرف أكثر من ثواب الألفاظ التي ليس فيها زيادة لقانون عشر حسنات في قراءة كل حرف من القرآن ، إذ ورد عن عبد الله بن مسعود وغيره قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها . لا تقول { الم } حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف)( ).
ولا ينحصر النفع بزيادة الثواب هذه بل يأتي الثواب مما يترشح عن زيادة الحروف من التدبر والوقوف عند الكلمة للتفكر .
وتقسم الحروف إلى قسمين :
الأول : حروف المعاني ولها دلالة في ذاتها ، وتدل على معنى في غيرها ، وتربط بين أجزاء الكلام مثل الباء التي تفيد الإلصاق ، و(على ) التي تدل على الاستعلاء و(من) التي تفيد التبعيض ، و(في) التي تفيد الظرفية ، و(إن) التي تفيد التوكيد ، و(لكن) التي تدل على الإستدراك .
الثاني : حروف المباني : وهي التي تتألف وتبنى منها الكلمة واللفظ لتحقق دلالتها وإفادتها لمعنى مخصوص ، فلفظ (قلم) يتألف من القاف ، واللام والميم ، وكل حرف منها لا يدل على معنى جزئي في الكلمة ، ولكنه يجتمع مع غيره ليكّون معنى الكلمة.
فعندما تجتمع يتبادر إلى الذهن أن المراد قلم الكتابة والخط .
وتسمى الحروف الهجائية
ومن زيادة حروف المباني في آية البحث لفظ (إننا) فلم يقل المسلمون (إنا سمعنا) إنما أرادوا تأكيد سماعهم نداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكل من (انا) و(اننا) لفظة عربية فصيحة ولغة من لغات العربية ، ومنه لعلي ولعلني ، وكأني وكأنني .
وورد (اننا) في آية البحث باضافة نون الوقاية ولابد له من دلالات منها :
الأولى : تأكيد المسلمين لسماعهم قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن اننا أوكد من إنا .
الثانية : ورد [إِنَّنَا سَمِعْنَا] على لسان المسلمين و[إِنَّا سَمِعْنَا] على لسان الجن بيان لقانون إيمان الناس أعلى مرتبة من إيمان الجن لما فيه من قهر النفس الشهوية والغضبية .
ولذا وصف الله عز وجل المؤمنين بأنهم [أُولُو الْأَلْبَابِ] قال تعالى [إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
إذ ورد في سورة الجن (انا) تسع مرات على لسان الجن ، وليس في هذه السورة (اننا).
الثالثة : قاعدة زيادة المباني زيادة في المعاني .
الرابعة : إكرام المسلمين بزيادة الأجر والثواب لعدم حذف نون الوقاية .
قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (القرآن مأدبة الله فتعلموا مأدبته ما استطعتم .
إن هذا القرآن هو حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، فاقرؤه فان الله عزوجل يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف واحد، ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة)( ).
ومن إعجاز آية البحث أن المسلم يتلوها فتكون تلاوته نيابة عن المسلمين والمسلمات ، ويتفضل الله عز وجل ويحتسبها لهم ، ليأتي الأجر والثواب للجميع وشطر من المسلمين لا يعلمون بهذا الأجر ، وهو من أسرار تفاجئ المؤمن يوم القيامة بأنه يرى ثواباً وأجراً له حاضراً من غير عمل منه .
(روي أن الله عزوجل أوحى إلى موسى عليه السلام ادعني بلسان لم تعصني به، فقال: أني لي بذلك، فقال: ادعني بلسان غيرك)( ).
تقدير [إِنَّنَا سَمِعْنَا]
وفيه وجوه :
الأول : ربنا لك الحمد إذ إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان ، وهل قول كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]بصيغة القرآنية والخشوع من مصاديق هذا السمع والشكر لله عز وجل ، الجواب نعم .
ولا يعلم عدد وكثرة النعم التي يجعل الله عز وجل للمسلم لقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] شكراً وحمداً عليها إلا الله سبحانه ، لبيان أن الصلاة وتلاوة القرآن فيها حاجة للمسلمين مجتمعين ومتفرقين .
وإذا كانت منافع قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] لا يحصيها إلا الله فانها آية من سبع آيات من سورة الفاتحة واجبة القراءة في الصلاة ، لبيان قانون منافع تلاوة سورة الفاتحة في الصلاة لا يعلمها إلا الله عز وجل.
(وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اقرؤا.
يقول : العبد : الحمد لله رب العالمين.
فيقول الله : حمدني عبدي .
ويقول العبد : الرحمن الرحيم .
فيقول الله : أثنى عليَّ عبدي .
فيقول العبد : مالك يوم الدين.
فيقول الله : مجّدني عبدي.
يقول العبد : إياك نعبدُ وإياك نستعين.
قال : هذه الآية بيني وبين عبدي.
يقول العبد : اهدنا الصراط إلى آخره.
يقول الله : فهذا لعبدي ولعبدي ما سأل)( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال (فاتحة الكتاب أعطاها الله محمدا صلى الله عليه وآله وامته، بدأ فيها بالحمد والثناء عليه، ثم ثنى بالدعاء لله عزوجل: ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
قال الله عز وجل: قسمت الحمد بيني وبين عبدي: فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل)( ).
عموم النداء الرسالي
لقد أخبرت آية البحث عن قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنداء إلى الإيمان ولم تذكر الآية اسم النبي ليدل ذكر [مُنَادِيًا] وحده على أنه اسم من أسماء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنه يعرف عند أهل السماء والملائكة الذين نزلوا بالوحي بأنه المنادي للإيمان ، فمن معجزاته أنه فرد واحد يدعو الأمم إلى الإيمان إذ لم تقيد الآية جنس الذين تتوجه لهم نداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : سمعنا منادياً ينادي في الليل والنهار للإيمان .
الثاني : سمعنا منادياً للناس جميعاً أن آمنوا بربكم .
الثالث : سمعنا منادياً ينادي في مكة أن آمنوا بربكم فآمنا ، وهاجرنا معه إلى المدينة ، وفزنا بلقب المهاجرين في القرآن .
الرابع : سمعنا منادياً ينادي للإيمان في المدينة المنورة ، وآمنا وفزنا بلقب الأنصار ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
وهل تدل هذه الآية على حصر صحابة رسول الله بالمهاجرين والأنصار ، الجواب النسبة بين الصحابة وبين المهاجرين والأنصار عموم وخصوص مطلق ، فالصحابة أعم ، والمختار أن الصحابي هو المسلم الذي رأى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهو مسلم ، فلو رأى شخص كافر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ثم أسلم هذا الشخص ولكنه بعد إسلامه لم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو ليس من الصحابة .
الخامس : سمعنا منادياً في ميدان القتال ينادي للإيمان ، إذ كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينادي بين الصفين في معركة بدر ، وأحد ، والخندق (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
السادس : سمعنا رسول الله الكريم ينادي في أسواق مكة وفي منى في موسم الحج : قولوا لا إله إلا الله .
و(عن جابر قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم ، عكاظ ومجنة ، في المواسم ، يقول : من يؤوينى ، من ينصرني ، حتى أبلغ رسالة ربى وله الجنة.
فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر، كذا قال فيه، فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك.
ويمضى بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالاصابع ، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الاسلام.
ثم أئتمروا جميعا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف .
فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك .
قال : تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم ، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة ، فقمنا إليه فبايعناه)( ).
السابع : سمعنا منادياً ينادي بتلاوة القرآن في الصلاة وخارجها.
ولقد تحمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأذى الشديد من قريش بسبب تلاوته القرآن في البيت الحرام وفي المجالس واللقاء مع الناس من أهل مكة والمعتمرين ووفد الحاج .
وكان إذا رأى غريباً في البيت الحرام جلس إلى جواره ودعاه إلى التوحيد ، وقرأ عليه آيات من القرآن وطلب منه أن يكتم أمره دفعاً لأذى قريش ، وحتى هذا الطلب دعوة للمستمع وغيره بالتدبر في دعوة ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه من مخاطبة العقول والقلوب وبعث النفرة من قريش لمحاربتها دعوة الحق.
الثامن : سمعنا منادياً ينادي للإيمان بالوحي والتنزيل .
ومن معجزات النبي وجود السامع لما يقول لقانون نفاذ الوحي إلى شغاف القلوب ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( )، وجود السامع والمستجيب لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضل ولطف من عند الله عز وجل ، وآلة البصر وآلة السمع بيد الله عز وجل .
وعن جابر بن عبد الله قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك . قلنا : يا رسول الله تخاف علينا وقد آمنا بك؟ فقال : إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يقول به هكذا . ولفظ الطبراني : إن قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الله عز وجل ، فإذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه)( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال (إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله، يقلبها كيف يشاء ساعة كذا، وساعة كذا)( ).
التاسع : سمعنا منادياً يأمر بالمعروف ويبشر بثوابه العظيم ، وينهى عن المنكر وينذر على فعله ، قال تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )ليرث المسلمون والمسلمات وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو واجب كفائي ، وقد يكون عينياً ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( )لبيان البشارة العظمى باللبث الدائم في الجنة لمن يعمل بمصاديق الآية أعلاه .
العاشر : سمعنا منادياً ينادي بالتنزيل .
الحادي عشر : سمعنا منادياً ينادي كما نادى الأنبياء السابقون .
الثاني عشر : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي بوقائع عالم الآخرة بشارة وإنذاراً ، بشارة للمؤمنين ، وإنذاراً للكافرين ، لذا أختتمت آية البحث بـ[تَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ] .
الثالث عشر : سمعنا منادياً ينادي برحمة الله وعفوه وستره للخطايا ، لذا ورد في آية البحث [رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا] .
الرابع عشر : ربنا إننا سمعنا منادياً يدعو إليك .
الخامس عشر : ربنا إننا سمعنا خاتم النبيين ينادي للإيمان فآمنا .
السادس عشر : ربنا إننا سمعنا منادياً بصوته وبالواسطة في الأجيال اللاحقة من ورثته الأئمة عليهم السلام والعلماء فهم ورثة الأنبياء .
(عن الإمام الصادق عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة.
وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به، وأنه ليستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر.
وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وأن العلماء ورثة الانبياء، إن الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر)( ).
وورد مثله في تفسير ابن كثير عن أبي الدرداء يرفعه( ).
السابع عشر : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان فآمنا بك خالقاً وإلهاً ورباً [خَيْرٌ حَافِظًا]( ).
الثامن عشر : ربنا إننا سمعنا رسولك محمداً ينادي للإيمان فآمنا بك وبملائكتك وكتبك ورسلك ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره ، وتسمى هذه الأصول (الأصول الستة) ، وفيه شاهد على وجوب التصديق بأركان الإيمان.
التاسع عشر : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان والعمل بأحكام الشريعة فآمنا وعملنا بأحكام الشريعة فأغفر لنا .
العشرون : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان فآمنا وأبناءنا ربنا فاغفر لنا .
لبيان الفوز بالعفو والمغفرة من عند الله على الإيمان الشخصي وعلى إيمان الأبناء ، قال تعالى [ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الواحد والعشرون : ربنا اننا سمعنا منادياً للإيمان فآمنا بالقول والفعل والإنقياد والإذعان والإمتثال للأوامر والنواهي النازلة من السماء .
الثاني والعشرون : ربنا اننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان فآمنا فلك الحمد على تفضلك ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منادياً للإيمان ، وفي التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ).
الثالث والعشرون : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان فآمنا وعلمنا معالم الإيمان فاغفر لنا .
الرابع والعشرون : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان فآمنا [رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ).
الخامس والعشرون : ربنا إننا سمعنا منادياً فهديتنا للإيمان ، وفي التنزيل [بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
السادس والعشرون : ربنا إننا نشهد على أنفسنا والناس أننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان فاحشرنا مع المؤمنين ، لتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى [لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ]( ).
السابع والعشرون : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي الناس جميعاً للإيمان ، فآمنا من بينهم ، قال تعالى مخاطباً النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
وعن (محمد بن كعب القرظي في قوله:”ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان”، قال: ليس كل الناس سمع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن المنادي القرآن.)( ).
ولكن قيد النداء والصوت المسموع يدل على أن المراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصوته ليكون من إعجاز الآية سماع كل جيل من أجيال المسلمين نداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإيمان .
نعم ورد في الجن في التنزيل [فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا]( ).
وهو يدل على أن المنادي الذي استمع له الجن هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتلو آيات القرآن لبيان تفضيل الإنس على الجن بسماعهم القرآن والوحي في السنة القولية.
و(عن معاذ بن جبل قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الفتن فعظمها وشددها فقال علي بن أبي طالب : يا رسول الله فما المخرج منها؟ قال : كتاب الله فيه المخرج ، فيه حديث ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم ، من تركه من جبار يقصمه الله.
ومن يبتغي الهدى في غيره يضله الله ، وهو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم . هو الذي لما سمعته الجن لم تتناه أن قالوا [إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ]( ) هو الذي لا تختلف به الألسن ولا تخلقه كثرة الرد)( ).
نعم تقدير الآية على وجوه :
الأول : سمعنا منادي ينادي بالقرآن للإيمان .
الثاني : سمعنا منادياً ينادي بالوحي للإيمان .
الثالث : سمعنا منادياً ينادي بالسنة النبوية للإيمان .
معجزة [سَمِعْنَا]
لقد سمع أهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار التبليغ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الذين يقولون ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أضعافهم بملايين المرات ، لتلاوة الآية من قبل أجيال المسلمين ذكوراً وإناثاً في الأجيال المتعاقبة ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،وتنزل آية بصيغة الجملة الخبرية فيتلقاها المسلمون على أنها أمر أو نهي ، ويعملون بمضامينها.
وهل يشمل النداء في الآية السنة النبوية أم يختص بالقرآن ، المختار هو الأول ، لأن قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يعترض أحد عن إخبار أجيال المسلمين في آية البحث بأنهم سمعوا المنادي وهو رسول الله ، لبيان أنه والقرآن حاضران مع المسلمين في كل مكان وزمان لذا تفضل الله عز وجل وأمرهم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والزيادة في رفعة مقامه ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ).
إن نطق كل مسلم في زماننا [سَمِعْنَا مُنَادِيًا]( ) معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على أن سماع المسلمين لنداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعني إمتثالهم لما فيها من الأوامر والنواهي ، ليكون تقدير قول [فَآمَنَّا] ( ) أي اعتقاداً ونطقاً وعملاً ، وهو من معاني الإيمان .
ومع مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة على مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى فأننا نقول ونشهد بأننا سمعناه ينادي للإيمان ، وفيه حجة على المشركين ، فهذا الإيمان لم يأت بالوارثة فقط إنما بالتصديق الشخصي باعجاز القرآن ، وأنه نازل من عند الله عز وجل .
قانون التكامل بين حواس الإنسان
الحمد لله على نعم السمع والبصر ، وكل نعمة عندنا ولم نلتفت إلى موضوعيتها وعظيم نفعها.
فجاءت آية البحث لتبين منافع حاسة السمع في الإستجابة لنداء الإيمان ، والنجاة في الآخرة من عذاب النار .
وصحيح أن آية البحث ذكرت السمع على نحو الخصوص ولكن حاسة البصر تشاركه برؤية الآيات الكونية والمعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان الإعجاز الإلهي في قانون التكامل بين وظائف حواس الإنسان وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
لبيان أن حسن التقويم لا يختص بهيئة وصورة الإنسان التي ذكرت في قوله تعالى [فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ]( ).
و(عن ابن عباس [لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ) قال : خلق كل شيء منكباً على وجهه إلا الإِنسان)( ).
ونضيف له أن من [أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] وجوه :
الأول : التناسق بين أعضاء جسم الإنسان .
الثاني : إمكان أداء عضو لوظيفة عضو آخر .
ونسب إلى ارسطو القول : من فقد حساً فقد علماً ، وصار شائعاً بين أهل العلم ، ولكن هذا القول خلاف الواقع لأن فضل الله عز وجل على الإنسان عظيم ، فرزقه العقل الذي تأتيه التصورات من أكثر من جهة .
وفي آية البحث يشترك المسلم الذي عنده حاسة السمع ، والأطرش الذي فقدها في سماع دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمبادرة إلى الإيمان .
لأن قوله [إِنَّنَا سَمِعْنَا] يفيد العموم الإستغراقي وسور الموجبة الكلية الشامل لكل المسلمين والمسلمات الأحياء والأموات .
علم المناسبة
ورد لفظ [سَمِعْنَا] في القرآن سبع عشرة مرة ، وهو عدد كثير يدل على أمور :
الأول : تبليغ الأنبياء الرسالات وأحكام الشرائع .
الثاني : تفضل الله بأيصال نداء الإيمان إلى الإنس والجن .
الثالث : فضح الذين جحدوا بالربوبية والتنزيل .
الرابع : بيان جدال وقبح دعوة الذين انكروا رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ* مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ]( ) .
الخامس : الثناء على المسلمين إذ سمعوا نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان بالتصديق والإيمان، قال تعالى [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ]( ).
السادس : إقرار الجن بأنهم سمعوا القرآن وآياته ، إذ ورد هذا اللفظ مرتين في سورة الجن ، وفي أول آية منها ورد لفظ سمعنا بقوله تعالى [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا]( ).
كما ورد مرة ثالثة في سورة الأحقاف بقوله تعالى [قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ]( )لبيان قانون القرآن يفسر بعضه بعضاً ، وأن الله عز وجل عضّد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن صرف إليه نفراً من الجن واهتدوا إلى الإيمان .
و(عن ابن عباس قال : كان الشياطين لهم مقاعد في السماء يستمعون فيها الوحي ، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعاً فأما الكلمة فتكون حقاً ، وأما ما زادوا فيكون باطلاً .
فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإِبليس .
ولم تكن النجوم يرمي بها قبل ذلك ، فقال لهم إبليس : ما هذا الأمر إلا لأمر حدث في الأرض .
فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً يصلي بين جبلي نخلة ، فأتوه فأخبروه ، فقال : هذا الحدث الذي حدث في الأرض .)( ).
وهناك آيات أخرى لم يذكر فيها لفظ الجن ، ولكن علم التفسير يدل عليه ، إذ ورد عن عبد الله بن مسعود (في قوله : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً } قال : كان نفر من الإنس يعبدون نفراً من الجن ، فأسلم النفر من الجن ، وتمسك الإنسيون بعبادتهم ، فأنزل الله { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } كلاهما بالياء .
وأخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل ، عن ابن مسعود قال : نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن ، فأسلم الجنيون ، والنفر من العرب لا يشعرون بذلك)( ).
السابع : تذكير المسلمين بقولهم في آية البحث [فَآمَنَّا] لأنه عهد وميثاق يجب أن يتعاهدوه ، قال تعالى في خطاب إلى المسلمين [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
قوله تعالى [مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ]
بيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي سماع الأجيال المتعاقبة من الناس لندائه ودعوته للإيمان بالله عز وجل في أمن من كيد الكفار والمشركين.
لقد جهزوا الجيوش لقتاله ، ولكنهم لم يستطيعوا منع بلوغ ندائه إلى الناس جميعاً ، لذا كان رؤساء الكفر يتفاجأون بدخول أبنائهم ذكوراً وإناثاً الإسلام .
لبيان نفاذ نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيصل إلى ربات الخدور ، والعروش ، وهذا الوصول والوصل من معجزات القرآن وسرعة حفظ آياته ، وإدراك ما فيه من البشارة والإنذار خاصة وأن السور المكية تتصف بالقصر في ذاتها وآياتها.
ترى لماذا لم تقل الآية سمعنا منادياً بالإيمان ، الجواب لقد ذكرت الآية [مُنَادِيًا يُنَادِي] لإفادة الفعل المضارع [يُنَادِي] لإستمرار التجدد والتكرار لبيان إتصال نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجدده بآيات القرآن وتلاوة المسلمين له ، لقانون كل آية من القرآن نداء للإيمان.
وقد تتضمن الآية القرآنية الواحدة عدة جمل ، وكل جملة منها هي نداء ودعوة للإيمان ومنها آية البحث فقول (ربنا) وحده دعوة للإيمان ، ثم تأتي الشهادة العامة من المسلمين بأنهم سمعوا نداء الرسول المتكرر للإيمان فبادروا إليه وهم يرغبون بدخول الناس معهم إلى الإيمان لأن هذا النداء حق وصدق ، وهو نازل من السماء بالقرآن والوحي .
وتدل آية البحث على سلامة القرآن من التحريف لأن كل جيل من المسلمين يشهد بسماع النداء للإيمان وعلى لزوم توثيق السنة النبوية لقانون كل حديث نبوي هو دعوة للإيمان ونهي عن الكفر والضلالة.
مَن المنادي
في المراد من المنادي وجوه :
الأول : هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو المشهور شهرة عظيمة .
الثاني : المراد القرآن(عن محمد بن كعب القرظي في قوله رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ]( )، قال: ليس كل الناس سمع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن المنادي القرآن)( ).
(وهو نظير قوله جل ثناؤه مخبرًا عن الجن إذ سمعوا كلام الله يتلى عليهم أنهم قالوا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ)( ))( ).
ولكنها شبه بدوية تزول عند التدبر والتحقق ، ففي الآية حذف وتقديره : انا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتلو قراناً) فهذه الآية تدل على أن المنادي هو الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن ابن عباس قال : انطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : ما لكم .
فقالوا : أحيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، فقالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما الذي حال بينكم وبين خبر السماء .
فانصرف أولئك الذين ذهبوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك رجعوا إلى قومهم ، فقالوا : يا قومنا [إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا]( )، فأنزل الله على نبيه [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ]( )،وإنما أوحى إليه قول الجن)( ).
الثالث : المراد كل مناد بالقرآن في الصلاة وغيرها ، فمن خصائص القرآن بقاء الآية القرآنية غضة طرية تتجدد كل يوم بتلاوتها وأحكامها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
وهل ينقض هذا الوجه بصيغة الماضي التي نزلت بها الآية [إِنَّا سَمِعْنَا] الجواب لا ، فقد يأتي الفعل الماضي ويراد منه أفراد الزمان الطولية .
والمختار هو الوجه الأول وأن المراد من المنادي في آية البحث هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي نزل القرآن على صدره وأمره الله عز وجل ان يتلوه على الناس ، وهو لا يمنع من كون القرآن منادياً للإيمان أيضاً ، وكذا المؤمنون .
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي بالقرآن للإيمان .
الثاني : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي بالوحي للإيمان .
الثالث : ربنا إننا سمعنا رسولك محمداً ينادي للإيمان .
الرابع : ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي قولوا لا إله إلا الله تفلحوا فآمنا ومن الفلاح سؤال المغفرة والستر من الله عز وجل والوفاة مع الأبرار.
الخامس : ربنا إننا سمعنا منادياً للإيمان تترى على يديه المعجزات فآمنا .
السادس : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي وأصحابه وأهل بيته للإيمان فآمنا.
السابع : ربنا إننا سمعنا أول المسلمين ينادي للإيمان فأمنا ، وفي خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ]( ).
الثامن : ربنا إننا سمعنا مبعوثاً من عندك منادياً للإيمان فآمنا فضلاً منك في البعثة والنداء والإيمان .
وفي آية البحث شواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها إعلانه نداءات الحق والتوحيد من غير خوف أو خشية من الظالمين ، وفي زكريا ورد قوله تعالى [إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا]( ) .
التاسع : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان فآمنا من غير إكراه.
العاشر : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان فاّمنا بهداية منك ، وفي التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ).
الحادي عشر :ربنا إننا سمعنا والناس جميعاً مناديا ينادي للإيمان فآمنا .
قانون نفي [سَمِعْنَا مُنَادِيًا] لنسخ آيات السلم
النسخ لغة الرفع والإزالة ، يقال نسخت الشمس الظل أي أزالته ومحته فلم يبق له أثر ، وقد يرد النسخ بمعنى النقل والتحويل ، ومنه تناسخ المواريث .
والنسخ في الإصطلاح هو رفع أمر ثابت في الشريعة لإنقطاع زمانه وحلول أجله بآية ناسخة أخرى ، وقيد الأمر الثابت في الشريعة ليخرج إرتفاع الحكم ، وإنقطاع أوانه مثل إرتفاع أداء الحج بانقضاء أيامه وأوان مناسكه إلى قابل ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
لقد أخبرت آية البحث عن الموضوع والحكم الذي ينادي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الإيمان بقوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ]( )وفيه شاهد على أنه لم يدع إلى السيف والقتال.
وقد جاءت آيات القرآن بالإخبار عن وجوب قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ ،وعلى بيان سنخية الدعوة إلى الإيمان بقوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : سمعنا منادياً ينادي بالحكمة للإيمان بالله .
الثاني : سمعنا منادياً ينادي بالموعظة للإيمان بالله .
الثالث : إننا سمعنا منادياً يجادل بالتي هي أحسن للإيمان .
ولم يرد لفظ [بِالْحِكْمَةِ]في القرآن إلا مرتين ، والثانية في الرسول عيسى عليه السلام بقوله تعالى [وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ]( ).
لبيان وحدة سنخية الدعوة النبوية فعيسى لم يدع إلى قتال وكذا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويتجلى قانون التضاد بين النداء للإيمان وبين إتخاذ السيف وسيلة للإيمان ، ولا يختلف اثنان بأن آية البحث محكمة غير منسوخة ، وتدل على الدعوة إلى الإيمان بالحجة والبرهان ، وألوية السلام ، وهو الذي تدل عليه السنة النبوية والوقائع والأحداث .
فمن إعجاز القرآن نفي مجموع آيات النداء لنسخ آية السيف لأكثر من مائة آية .
لبيان قانون النداء إلى الإيمان قانون يومي متجدد .
قانون النداء للإيمان عام
لقد أخبرت آية البحث عن إقرار المسلمين بسماع نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان ، ولم يختص نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جهته وغايته بالمسلمين .
لذا لم تقل الآية : سمعنا منادياً ينادينا للإيمان ، بل قالت ينادي للإيمان ، بارادة أمور :
الأول : اتحاد المأمور به وهو الإيمان.
الثاني : تعدد المأمور .
الثالث : إرادة العموم بالنسبة للناس جميعاً.
ليفوز المسلمون بمراتب الكمال العبادية بذكر الله عن قيام وقعود وعلى جنوبهم فاستحضروا صفة أولي الألباب لقولهم [فَآمَنَّا] لبيان أن الإيمان هو العروة الوثقى التي يجب التمسك بها ، ولبيان قانون الإيمان طريق النجاة في النشأتين ، ومن منافعه في الدنيا قوله تعالى [وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا]( ).
والسبيل في المقام هو الظهور عليهم ، أما في النشأة الآخرة فان الإيمان هو سلاح العبور على الصراط ، والواقية من الفزع من أهوال يوم القيامة ، والحرز من أليم العذاب في النار .
و(روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن العبد المؤمن إذا قام من قبره للحشر تمثل له رجل جميل الوجه طيب الرائحة فيقول : من أنت .
فيقول أنا عملك الصالح فيقوده إلى الجنة ، وبعكس هذا في الكافر)( ).
وتبين الآية توجه نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان إلى الناس جميعاً ، كما أنه يتكرر على ألسنة المسلمين والمسلمات بتلاوة آيات القرآن ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
والخطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة يكون في أغلب الأحيان عاماً ، فتلحق به الأمة أو يلحق به الناس جميعاً .
علم المناسبة
مع موضوعية الإيمان في حياة الناس وكثرة ورود مادة (آمن) وفروعها في القرآن ، فلم يرد لفظ [لِلْإِيمَانِ] في القرآن إلا ثلاث مرات :
الأولى : آية البحث .
الثانية : يتعلق موضوع الآية بالمنافقين وقعودهم عن الدفاع عن أنفسهم وأهليهم من شرور كفار قريش ، قال تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
وقيل نزلت الآية أعلاه بأعراب (من بني أسد، امتنوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقالوا: آمنا من غير قتال، ولم نقاتلك كما قاتلك غيرنا، فأنزل الله فيهم هذه الآيات)( ).
وحينما سئل (سعيد بن جُبَير في هذه الآية [يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا]( ) أهم بنو أسد؟ قال: قد قيل ذلك)( ).
وفي رواية عنه : يزعمون ذلك .
وتضمنت آية البحث الشهادة للمسلمين بالإيمان ، وسلامة النهج بالتوجه إلى الله لسؤال المغفرة والعفو ، وفيه مسائل :
الأولى : قانون تجديد الإيمان بتلاوة القرآن .
الثانية : قانون تنزه المؤمنين عن النفاق لقوله تعالى [فَآمَنَّا].
الثالثة : ترغيب الناس بالهداية والإيمان .
الرابعة : وجود أمة مؤمنة في كل زمان .
الخامسة : البشارة بالرزق الكريم شكراً من الله على الإيمان .
ليكون تقدير آية البحث : سمعنا منادياً ينادي للإيمان لينزل علينا فضل من الله ورزق كريم .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أحسنوا مجاورة النعم لا تملوها ولا تنفروها فانها قل ما نفرت من قوم فعادت إليهم.
وقال عليه الصلاة والسلام: من قال: قبح الله الدنيا، قالت الدنيا: قبح الله أعصانا للرب)( ).
أيهما اكثر نداءات الدنيا ، أم يوم التناد
منادياً : اسم فاعل من (نادى) الرباعي ، بضم الميم وكسر الدال وزن [مُهَاجِرًا]( )، ولم يرد لفظ (منادياً) في القرآن إلا في هذه الآية .
أما مُنادَى : (بفتح الدال) فهو اسم مفعول من نادى .
ومن أسماء يوم القيامة [يَوْمَ التَّنَادِ]( )، أي يوم ينادى كل قوم بامامهم ، وبأعمالهم ، ويكثر الصراخ والندب والإستغاثة ، وينادي أهل الجنة أهل النار [أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ]( )، وينادي أهل النار أهل الجنة [أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
ويندب أهل النار الملك الموكل بها [وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ]( ).
وليس من يوم أكثر منه نداء ونذكر مسألة أيهما أكثر مجموع النداءات في الحياة الدنيا من حياة أبينا آدم إلى يوم ينفخ في الصور أم مجموع النداءات والإستغاثة يوم القيامة ، المختار هو الثاني .
إنه يوم الأهوال الطويل ، قال تعالى [فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ]( ).
و(عن ابن عباس في قوله [فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ]( ) قال : لو قدرتموه لكان خمسين ألف سنة من أيامكم ، قال : يعني يوم القيامة)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال (ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فإن في القيامة خمسين موقفا كل موقف مثل ألف سنة مما تعدون، ثم تلا هذه الآية فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ( ).
و(عن يعلى بن أمية قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ على المنبر وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ( ).
و(عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يلقى على أهل النّار الجوع حتّى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فاذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم ، فيقولون ادعوا خزنة جهنم.
فيقولون ألم تك تأتكم رسلكم بالبينات .
قالوا : بلى .
قالوا : فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال .
قال : فيقولون إدعوا مالكاً .
فيدعون : يا مالك ليقض علينا ربّك .
فيجيبهم إنّكم ماكثون)( ).
وتتجلى منافع وبركة آية البحث يوم القيامة من وجوه :
الأول : أجر وثواب تلاوة المسلمين لآية النداء .
الثاني : مناداة المسلمين بآية البحث .
الثالث : سؤال المسلمين الله عز وجل بشفاعة ولشفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنادي لهم .
الرابع : شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بتلاوة القرآن وتلقي نداءاته بالإيمان والعمل بأحكام الشريعة .
الخامس : شهادة آية النداء للمسلمين والمسلمات بقراءتها ، لتبعث السكينة في نفوسهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
السادس : نداء المؤمنين يوم القيامة بآيات القرآن لبيان قانون تلاوة القرآن في الدنيا حاجة في الآخرة .
بحث بلاغي
من المتسالم عليه من حين نزول القرآن وإلى يومنا هذا هو قانون بلاغة القرآن شعبة من إعجازه ، وقد غاص العلماء في سبر أغوار هذا القسم من الإعجاز ولا زلنا في بداياته مع مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة لأن ذخائر القرآن توليدية متجددة.
وتدعو بلاغة وفصاحة القرآن علماء التفسير واللغة والبيان والأدب إلى الإجتهاد في علوم القرآن .
والنسبة بين الفصاحة والبلاغة عموم وخصوص مطلق ، فالفصاحة أعم وهي سهولة جريان الألفاظ على اللسان ، وخفة وقعها على آلة السمع ، وتكون وفق القواعد التي ينطق بها العرب ولا تنفر منها النفوس.
أما البلاغة فهي أن يكون النظم محكماً ، ويدل على المعنى بأكمل وأبهى صيغة مع متانة التأليف .
ومن إعجاز القرآن حضور فضل الله في تلاوته ببهجة وغبطة ، وأي تدبر في كلماته يجعلك تدرك أن نظم كلماته معجزة .
وكذا الموضوع والحكم المستنبط من توالي آياته وتجدد الإنسجام بين كلمات الآية الواحدة واستيفاؤها للمعنى ، ونفاذها إلى شغاف القلوب ، بما يساعد المسلم على العمل بأحكامها ، ولتكون موضوعية لبلاغة القرآن في الحياة اليومية العامة ، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
خاصة وأن آيات الموعظة والذكرى والوعد والوعيد والبشارة والإنذار والمثال وردت باسمى مراتب البلاغة .
وفي قصص القرآن ورد التحدي التأريخي المتجدد في علوم البلاغة والفصاحة والتأريخ بقوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ]( ).
ومن خصائص تقسيم القرآن إلى (6236) آية قانون كل آية من القرآن مدرسة في البلاغة وحسن البيان ، ومنها آية البحث ، إذ ابتدأت بالنداء الصادر عن المسلمين جميعاً (ربنا) ولا يحصي الذين قالوا ويقولون (ربنا) من المسلمين والمسلمات إلا الله عز وجل ، وهو من المعجزات الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن خصائص هذا النداء جذبه للأذهان عند تلاوته أو سماعه وإدراك لحوق مسألة عامة بعده لا تختص بفرد واحد أو جماعة بل هو دعاء عامة المسلمين ، ودعاء الفرد منهم لعامتهم الأحياء والأموات.
النسبة بين النداء والدعوة إلى الإيمان
ورد [إِلَى الْإِيمَانِ] مرة واحدة في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ]( ).
لبيان أن شطراً من الناس دعاهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإيمان ولكنهم قابلوا الدعوة بالصدود والجحود .
ترى ما هي النسبة بين النداء للإيمان ، والدعوة إلى الإيمان .
المختار هو نسبة العموم والخصوص المطلق ، فالنداء أعم وتأتي الدعوة من وجوه :
الأول : الآيات الكونية .
الثاني : جهاد الأنبياء بدعوة الناس للإيمان .
الثالث : الكتب السماوية .
الرابع : دعوة الصالحين .
الخامس : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ]( ).
السادس : قانون لغة الإحتجاج دعوة للإيمان .
السابع : قانون توالي النعم على الإنسان تذكير بوجوب الإيمان .
الثامن : قانون نزول المصيبة بالإنسان دعوة للإيمان ، قال تعالى [وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
التاسع : الترغيب بالإيمان ، وبيان الحاجة له .
إنتفاء موضوع الجزية هذا الزمان
ومن مصاديق الإيمان بالرسل اللطف بأهل الكتاب ، وإقرارهم على دينهم ، لذا فرضت الجزية عليهم ، وهي ليست ضريبة إنما لدفاع المسلمين عنهم ، وحماية مصالحهم وأعراضهم .
وانتفى موضوع الجزية في هذا الزمان إذ سادت أنظمة المواطنة وتساوى الناس في قوانينها كانتفاء موضوع [تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ] مع ذكره في القرآن خمس مرات كفرد من أفراد الكفارة ثلاثة منها في آية واحدة بقوله تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
لقد انتفى موضوع الجزية فانتفى حكمها في هذا الزمان لتبعية الحكم للموضوع ، قال تعالى [حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( )، كما انتفى الصغار أيضاً لأحكام الدستور ، وقوانين المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
النسبة المنطقية بين الآخرة ويوم القيامة
قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ) ( ).
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومنها أحوال الناس في الآخرة وأهوالها .
والنسبة بين الآخرة ويوم القيامة عموم وخصوص مطلق ، فالآخرة أعم.
وقد ورد ذكر الآخرة في القرآن (112) مرة ، وبلفظ اليوم الآخر (26) مرة ، وورد قوله تعالى [وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى]( )، باعادة الناس خلقاً جديداً في البعث والنشور ، وقال تعالى [يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ]( ).
وورد لفظ يوم القيامة (70) مرة في القرآن ، كما ورد بأسماء متعددة أخرى مثل :
يوم الدين ، يوم الحشر ، يوم التناد ، يوم التغابن ، يوم البعث ، يوم الحساب ، يوم الجزاء ، الواقعة ، القارعة ، الساعة [يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ]( ).
تخصيص الكتاب بخبر الواحد
المراد من الكتاب في العنوان أعلاه هو القرآن ومنهم من يكتب العنوان تخصيص القرآن بخبر الواحد ، وهل يخصص بالحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعصوم بخبر الواحد ، بعد إجماع علماء الإسلام على جواز تخصيصه من جهتين :
الأولى : تخصيص العام القرآني بالخاص القرآني ، وهو من مصاديق قانون (القرآن يفسر بعضه بعضا) مثل [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ]( )، ثم قال تعالى [وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ]( )، وقوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ]( )، ثم جاء قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ]( ).
وفي حكم الزنا قال تعالى [الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ]( )، ثم جاء في الإماء [فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ]( ).
لبيان الرأفة والتخفيف عن الإماء والنساء مطلقاً .
الثانية : تخصيص القرآن بالسنة المتواترة إذ ترد أحكام في القرآن بلفظ عام ، وهو اللفظ المستغرق لما يصلح له.
ويشمل جميع الأفراد التي يصدق عليها معناه ، ومنها لفظ (كل) (جميع)، (كافة) المعرف بـ(أل) الجنس ، والمضاف إلى جمع ، وتأتي السنة للتخصيص فمثلاً قوله تعالى [يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ]( ).
ورد عن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس للقاتل من الميراث شيء)( ).
وعن الإمام علي والباقر والصادق عليهم السلام (أنهم قالوا القاتل لا يرث من قتله)( ).
وقال الإمام (علي : من قتل حميما له عمدا أو خطئا لم يرثه)( ).
ولكن القاتل لا يمنع الميراث ممن تقرب به ، كما لو قتل زيد أباه وليس عند هذا الأب ولد غيره ، ولكن عنده أحفاد من ولده زيد فانهم يرثون.
و(عن ابن أبي عمير عن جميل عن أحدهما عليهما السلام : في رجل قتل أباه ، قال : لا يرثه ، وإن كان للقاتل ولد ورث الجد المقتول).
أي في مفروض المسألة ليس للمقتول ولد صلبي إلا ولده القاتل.
وهذا الحكم من النداء الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إصلاح المجتمعات ، وضبط أحكام المواريث ، وتخصيص الكتاب ، وبيان قبح سفك الدماء .
وقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، إفادة إخراج الزكاة فيما يملك .
وجاءت السنة النبوية بتعيين الأعيان التي تجب فيها الزكاة من النقدين والأنعام الراعية عن الإبل والبقر وتشمل الجاموس ، والغنم وتشمل الظأن.
العام القرآني
العام القرآني على أقسام :
الأول : ما بقي على عمومه ولا يقبل التخصيص ، مثل أصول العبادات ، كاقامة الصلاة في كل حال ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( )، واتيان الزكاة ، وأداء الصيام ، والحج ، والخمس ، ومثل وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الثاني : وجود التخصيص والتخفيف في موارد متعددة من العبادات مثل قيد الإقامة والسلامة من المرض بالنسبة للصيام ، قال تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
ومنه قيد الإستطاعة في الحج ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ).
الثالث : قد يرد لفظ خاص ويراد منه العموم مثل [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ]( )، فالنداء والأمر في الآية موجهان إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمراد العموم ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا]( )، وجاء الأمر بتقوى الله للناس جميعاً في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ]( ).
العام الذي يراد منه الخصوص
العام الذي يراد منه الخصوص ، كما في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( )، يتعلق موضوع الآية باليوم الذي تلا معركة أحد ، وإنسحاب المشركين في نفس يوم المعركة وتوجههم إلى مكة ثم عزمهم في الطريق على المكر والعودة لغزو واستباحة المدينة وبقصد قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
والمشهور أن المراد من الناس [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ]( )، هو نعيم بن مسعود الأشجعي.
والمختار أن لفظ الجمع وإرادة المفرد منه لا يطلق في القرآن إلا على الله عز وجل مع أن واجب الوجود بسيط .
وذكر المراد من الناس في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ]( )، أربعة وليس شخصاً واحداً وهو الأنسب في المقام .
ومنه في باب المثال [وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ]( )، ففي الآية حذف وتقديرها (وأوتيت من كل شئ من أمور الحكم والسلطة).
تكرر العام في الآية أعلاه من سورة آل عمران ثلاث مرات والمراد منه الخاص ، وهي :
الأولى : (الذين) وهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حينما أخبرهم جماعة بأن جيش المشركين عزم على غزو المدينة .
الثانية : الذين أشفقوا على المسلمين وأخبروهم باستعداد أبي سفيان وأصحابه بالعودة لغزو المدينة وذكر بلفظ [النَّاسُ]في قوله ([الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ]( ) يعني نعيم بن مسعود، فهذا لفظه عام، ومعناه خاص)( ).
والمختار إرادة المتعدد من لفظ (الناس) أعلاه .
الثالثة : من المراد [إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ]( )، المراد أبو سفيان وجيش مشركي قريش وحلفائهم .
و(عن ابن عباس قال : لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمداً قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم . بئسما صنعتم ارجعوا . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد.
فقال المشركون : نرجع قابل .
فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكانت تعد غزوة ، فأنزل الله [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ…]( ).
وقد كان أبو سفيان قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : موعدكم موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا ، فأما الجبان فرجع ، وأما الشجاع فأخذ أهبة القتال والتجارة . فأتوه فلم يجدوا به أحد وتسوقوا . فأنزل الله [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ]( ).
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر الصغرى وبهم الكلوم ، خرجوا لموعد أبي سفيان فمر بهم أعرابي ، ثم مر بأبي سفيان وأصحابه وهو يقول :
ونفرت من رفقتي محمد … وعجوة منثورة كالعنجد
فتلقاه أبو سفيان فقال : ويلك ما تقول .
فقال : محمد وأصحابه تركتهم ببدر الصغرى .
فقال أبو سفيان : يقولون ويصدقون ، ونقول ولا نصدق وأصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً من الأعراب وانقلبوا .
قال عكرمة : ففيهم أنزلت هذه الآية [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ]( )، إلى قوله [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ]( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال : إن أبا سفيان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أبا سفيان قد رجع وقد قذف الله في قلبه الرعب فمن ينتدب في طلبه؟
فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم . فتبعوهم.
فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطلبه ، فلقي عيراً من التجار فقال : ردوا محمداً ولكم من الجعل كذا وكذا ، وأخبروهم أني قد جمعت لهم جموعاً ، وإني راجع إليهم .
فجاء التجار فأخبروا بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : حسبنا الله . فأنزل الله الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ( ).
والمختار قانون إذا وردت صيغة الجمع في القرآن بارادة الأشخاص والناس فتحمل على ظاهرها والمقصود الجماعة والمتعدد ، إنما ينفرد الله عز وجل في القرآن باطلاق صيغة الجمع عليه ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ]( ).
وقال في كفاية الأصول (الحق جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص كما جاز بالكتاب أو بالخبر المتواتر، أو المحفوف بالقرينة القطعية من خبر الواحد، بلا ارتياب، لما هو الواضح من سيرة الاصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الائمة عليهم السلام، واحتمال أن يكون ذلك بواسطة القرينة واضح البطلان.
مع أنه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرة أو ما بحكمه، ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب، لو سلم وجود ما لم يكن كذلك)( ).
ويشكل على الكلام أعلاه من جهات :
الأولى : إن عدم القول بتخصيص الكتاب بخبر الواحد لا يعني إلغاء خبر الواحد بالمرة .
الثانية : قوله ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب ، إنما العكس هو الصحيح فأكثر أخبار النبوة والأحاديث النبوية في بيان وتفسير القرآن والسنة النبوية مرآة وترجمان للقرآن.
الثالثة : قوله (لو سلم وجود ما لم يكن كذلك) الذي يعنيه المؤلف هو إحتمال خلو أحاديث المعصومين من حديث يخالف عموم الكتاب ، أي أنه رجع إلى الندرة التي ذكرها ليرجح نفي وجودها هي الأخرى .
وقيل (بل على الظاهر أن مسألة تقديم الخبر الخاص على الآية القرآنية العامة من المسائل المجمع عليها من غير خلاف بين علمائنا)( ).
ولكن تخصيص القرآن بخبر الواحد لا يعني تقديمه على الآية القرآنية ، إنما يكون في طولها ، سواء كان العام أمراً أم نهياً أو خبراً ، فهو ليس من باب التعارض بين العام والخاص ، وتقديم أحدهما ، كالمتأخر يكون ناسخاً للمتقدم ولقانون لا يتقدم على القرآن شئ .
المطلق والمقيد
المطلق والمقيد من مصطلحات علم الأصول ، وفيه استنباط للأحكام الشرعية من القرآن والسنة .
ويتقوم علم الأصول باستنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية ، فلابد من معرفة النص رواية ودراية ، وقواعد اللغة العربية ، وطرق الدلالة على المعنى .
والنص الشرعي على قسمين :
الأول : الدلالة على المعنى الذي وضع له اللفظ .
الثاني : الدلالة على الحكم الشرعي .
والمطلق لغة بمعنى الإرسال ، والخالي من القيد ، وفي الإصطلاح هو ما دلّ على شائع في جنسه ، والماهية بلا قيد .
وإرادة واحد لا بعينه بلحاظ حقيقة شاملة لجنسه مثل (تحرير رقبة) هذا اللفظ الذي ورد خمس مرات في القرآن ثلاثة منها في آية واحدة وهي قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
كما ورد بلفظ [فَكُّ رَقَبَةٍ]( )، ولم يرد بلفظ عتق رقبة ، مع كثرة وروده في الحديث .
وعن الصادق عليه السلام قال : قال (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله قال: من قم مسجدا كتب الله له عتق رقبة، ومن أخرج منه ما يقذى عينا كتب الله عزوجل له كفلين من رحمته)( ).
والمقيد لغة مقابل المطلق ، ومنه التقييد من الحركة والمشي .
والمقيد : المسجون .
والمقيد في الإصطلاح عكس المطلق ومغاير له ، وفيه قيد أو عارض ذاتي أو خارجي يقيده ويحجبه عن الإطلاق ، فمثلاً قوله تعالى [وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ]( )، فقيدت الآية الرقبة بأنها مؤمنة .
وورد الإطلاق في قوله تعالى [وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا]( ) والتماس : الجماع والعتق ، بالإطلاق من غير تقييد الرقبة بالإيمان.
وفيه وجهان :
الأول : حمل المطلق في كفارة الظهار على المقيد في كفارة القتل الخطأ ، فيكون تقدير الآية والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة مؤمنة من قبل أن يتماسا.
الثاني : بقاء المطلق في آية الظهار على إطلاقه وهو المختار لوجوه:
الأول : لأصالة الظهور .
الثاني : للسعة في الدين .
الثالث : إنه من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الرابع : ترغيب الناس بالإسلام .
الخامس : الرفق بالعبيد ، ومن يطمئن له وإن لم يكن مسلماً.
السادس : البشارة بعتق العبيد المؤمنين ، وحال تعذر وجود رقبة مسلمة ، فيعتق الكتابي مثلاً .
السابع : عتق المستضعفين الذي لا يفقهون .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انقطاع نظام العبيد ، وانتفاء الرق في الإسلام ، وقوله تعالى [فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ]( )، تقييد الصيام بالتتابع.
إذ ورد قيد التتابع في الآيتين بخصوص تعذر كفارة قتل الخطأ ، وتعذر كفارة الظهار .
وفيه إشارة إلى انتفاء موضوع العبيد في الإسلام والحكم تابع للموضوع ، فمن الإعجاز والبشارة جعل البديل عن تحرير الرقبة كفارة الصيام .
وهل فريضة صيام رمضان من المطلق أم المقيد ، الجواب هو الثاني ، فهو مقيد بالصحة والإقامة ، قال تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
وفي حج بيت الله الحرام ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ]( )، فجاء التقييد بالإستطاعة ، ثم ورد شرط الإسلام لأداء الحج ، بمنع المشركين من دخول المسجد الحرام ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
وأيهما أكثر في العبادات المطلق أم المقيد ، الجواب هو الثاني ، وهو من رحمة الله عز وجل بالناس .
فتوى في خبر الواحد
المختار أن خبر الواحد يفيد العلم بشروط :
الأول : استقراؤه من القرآن أو السنة ، لأن السنة مرآة للقرآن .
الثاني : عدم تعارضه مع آيات القرآن ، ولوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( )، بلحاظ أن السنة النبوية مرآة وتفسير للقرآن.
الثالث : وثاقة رجال السند ، سواء كان الحديث من الصحيح أم الحسن أم الموثق.
هل خبر الواحد حجة
اختلف في حجيته على أقوال :
الأول : جواز العمل بخبر الواحد ، وهو مشهور علماء الإسلام.
الثاني : المنع من العمل بخبر الواحد .
واختلف كل من الفريقين في سبب الجواز أو المنع ، ومن القائلين بالجواز من استند إلى حكم العقل في حجيته.
الثالث : جواز العمل بخبر الواحد بشرط موافقته القرآن والسنة ، وهو المختار .
وجاءت آية البحث بصيغة الجمع المتعدد للضمير المتصل (نا) عشر مرات مع قلة كلمات الآية لبيان قانون كل مسلم داعية إلى الله وشاهد على تبليغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرسالة والأحكام.
المعجزات الجامعة للأنبياء
من المعجزات ما يشترك فيها الأنبياء جميعاً لما تفضل الله عز وجل وجعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) فانه لم يتركه وشأنه ، قال تعالى [أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى]( ) أي أن يهمل لبيان أن هذه الآية تتضمن البشارة والإنذار ، وتشريع الأحكام والسنن ، وعالم الأرزاق ، ونزول الملائكة بالوحي للأنبياء ، وتجري المعجزات عل أيديهم ، وتتوجه الأوامر والنواهي للناس ، وتحصي الملائكة أعمالهم .
فمن مصاديق الآية أعلاه وشواهد خلافة الإنسان في الأرض قوله تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ) ومنها بعث الناس للحساب والجزاء يوم القيامة ، فتأتي معجزات الأنبياء لنجاتهم من أهوال الآخرة باختيار الإيمان واتباع الأنبياء في الحياة الدنيا .
ودأب علماء التفسير على ذكر معجزات الأنبياء مثل سفينة نوح ، وآية الناقة لنبي الله صالح ، ونجاة إبراهيم من الإحتراق وسط النار ، وعصا موسى ، وفي داود عليه السلام قال تعالى [وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ]( ) وتسخير الرياح لسليمان بن داود تجري بأمره ، وفهمه لكلام الطيور ، ومعجزات عيسى عليه السلام ابتداء بكلامه وهو في المهد ثم إبرائه الأكمه والأبرص ، وإحيائه الموتى .
ثم بعث الله عز وجل النبي محمداً بالمعجزات الحسية الكثيرة ، وانفرد من بين الأنبياء بالمعجزات العقلية الخالدة ، وهي آيات القرآن البالغة (6236) آية وكل آية منها معجزة بذاتها ، وهي معجزة بالجمع بينها وبين آيات القرآن الأخرى ، ومعجزة في مضامينها القدسية ومعانيها ودلالاتها المتجددة إلى يوم القيامة .
وهناك معجزات يشترك فيها الأنبياء جميعاً تكون كسور الموجبة الكلية منها :
الأولى : الوحي لقانون الملازمة بين النبوة والوحي ، فكل نبي يأتيه الوحي من عند الله ، وهو من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض بلحاظ أنه صلة وواسطة بين الله وعباده ، وقد يأتي الوحي بواسطة رؤيا منام ، وهي أخص وأسمى من الرؤيا الصادقة ، قال تعالى [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا]( ) وقال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ]( ).
لبيان تقوم الوحي بكلمة التوحيد ، وابتدأت آية الكرسي بقوله تعالى [اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( )فكانت أعظم آية .
و(عن أيفع بن عبد الله الكلاعي قال : قال رجل : يا رسول الله أي آية في كتاب الله أعظم .
قال : آية الكرسي {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}( ) قال : فأي آية في كتاب الله تحب أن تصيبك وأمتك .
قال : آخر سورة البقرة ، فإنها من كنز الرحمة من تحت عرش الله ، ولم تترك خيراً في الدنيا والآخرة إلا اشتملت عليه) ( ).
كما روي عن ( ابن مسعود أن أعظم آية في كتاب الله اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ( ).
و(عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : سيد آي القرآن اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ( ).
الثانية : قانون مصاحبة العصمة للنبوة ، فكل نبي معصوم ، وهو من الشواهد الحسية في تنزه الأنبياء عن صغائر الذنوب وكبائرها .
ترى هل الوحي معجزة ذاتية لا يعلم بها إلا النبي نفسه ، أم أنه معجزة جلية وظاهرة وتكون حجة على الناس ، المختار هو الثاني .
والوحي لغة هو الإعلام الخفي والسريع والإشارة والإيماء ، أما في الإصطلاح فهو إعلام الله تعالى لمن اختاره واصطفاه من عباده بالإلهام والإلقاء في الروع وكيفية خاصة سريعة غير ظاهرة للناس في الجملة ، ولكن آثارها ومنافعها جلية وواضحة ، ومنها تبليغ النبي الناس بأمور تفوق الإدراك والحس البشري ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ]( ).
الثالثة : الوحي دليل النبوة ، وشاهد عليها ، والمائز بين النبي وعامة الناس ، قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ]( ) والمعجزة مرآة ظاهرة للوحي .
الرابعة : الإجتهاد في الدعوة إلى الله ، وبذل الوسع في بيان الحسن الذاتي للإيمان ووجوبه ، والقبح الذاتي والغيري للكفر ولزوم إجتنابه .
الخامسة : نداء كل نبي في قومه بوجوب الإيمان ، ومن الأدلة عليه آية البحث [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ]( ).
فصحيح أن هذه الآية بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن موضوعها أعم ويشمل الأنبياء جميعاً.
السادسة : قيام كل نبي ورسول بالبشارة بالجنة للمؤمنين ، والوعيد بالنار للذين كفروا ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ…]( ).
ومن مصاديق كون القرآن معجزة عقلية تجدد بشاراته وإنذاراته كل يوم في مشارق ومغارب الأرض بتلاوة كل مسلم ومسلمة آيات القرآن خمس مرات في اليوم .
لبيان أن جهاد الأنبياء في البشارة والإنذار على مراتب متفاوتة ، فمن الأنبياء من يكون تبليغه في أسرته وقريته ، أو قبيلته وبلدته ، وقال نال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الشرف الأسنى بالتبليغ للناس جيمعاً وجوب التوحيد وتمام الأحكام وعن أهوال يوم القيامة بآيات تنزيل لا تصل إليها يد التحريف .
السابعة : تحمل الأنبياء الأذى الشديد في جنب الله عز وجل ، والنسبة بين الأذى والقتال عموم وخصوص مطلق ، فالأذى أعم لقانون كل نبي لاقى الأذى الشديد من قومه ، ومنهم من لاقى الأذى من الطواغيت ومن قومه ، كما في إبراهيم وموسى عليهما السلام ، أما القتال فهناك من الأنبياء من لم يقاتل مثل زكريا وعيسى ويحيى عليهم السلام ، وتدل عليه لغة التبعيض في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ) .
الثامنة : قانون دعوة كل نبي إلى التوحيد ، ونبذ الشرك وعبادة الأوثان.
التاسعة : عبادة كل نبي لله عز وجل على نحو جهري وإعلانه هذه العبادة.
العاشرة : إخلاص الأنبياء في طاعة الله عز وجل.
الحادية عشرة : معجزة إيمان طائفة بالنبي ، وهذه الطائفة من الكلي المشكك في كثرة أو قلة أفرادها .
وهل من موضوعية للمعجزة العقلية في زيادة أعداد المؤمنين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ما مِنْ نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا)( ).
الثانية عشرة : اقتران المعجزة ببشارة الأنبياء بالجنة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، والعذاب الأليم في النار للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والجحود ، قال تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الثالثة عشرة : قانون مصاحبة ملكة الصبر للأنبياء ، إذ يتحلى كل نبي بأبهى مصاديق الصبر والتحمل في طاعة الله، ودعوة الناس للإيمان ، وهذا الصبر بمدد وعون من الله عز وجل ، قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ]( ).
الرابعة عشرة : نصرة الله عز وجل للأنبياء في الدنيا والآخرة ، كما يدل عليه قوله تعالى [إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ]( ).
وفي الآية أعلاه مسألتان :
الأولى : صيغة الجمع [رُسُلَنَا] .
الثانية : جاءت بصيغة الرسالة فهل تشمل الأنبياء .
الجواب نعم ، فقد يرد لفظ الرسل في القرآن ، والمراد منه الأنبياء والرسل .
فمع مجئ كل نبي بمعجزة خاصة به ، فهناك معجزات يشترك بها كل الأنبياء .
آية البحث من آيات السلم
قد صدرت عشرة أجزاء بعنوان آيات السلم محكمة غير منسوخة ، خلافاً لمشهور المفسرين بأن آية السيف نسخت أكثر من مائة من آيات السلم والموادعة ، وآية السيف هي [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ومن آيات السلم التي ذكر انها منسوخة بآية السيف :
الأولى : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الثانية : قوله تعالى [َلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا]( ).
و(عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيُّ الإسلام خير؟ قال : أنْ تُطعمَ الطعامَ وتقرأ السلامَ على منْ عرفتَ ومَنْ لم تعرف ، ومعنى قوله: أيُّ الإسلام خير، يريد أيُّ خصال الإسلام خير)( ).
الخامسة : قوله تعالى [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
(وقال ابن العربي : كل ما في القرآن من الصفح على الكفار والتولي والإعراض والكف عنهم منسوخ بآية السيف وهي (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) ( )، الآية نسخ مائة وأربعة وعشرين آية، ثم نسخ آخرها أولها)( ).
ولا دليل على هذا القول إنما آيات السلم محكمة وباقية في تلاوتها وموضوعها وحكمها ، وإذا كان مقصود ابن عربي ونحوه من الكفار غير المسلمين فهذا القول بجانب القرآن والسنة ، للتباين في الموضوع والحكم بين أهل الكتاب والمشركين.
فالمختار أن أهل الكتاب ليسوا كفاراً ، وهم أهل الذمة ، في دلالة على التعايش معهم بأمن وسلام ، وتختص آية السيف بالمشركين من أهل الجزيرة أيام التنزيل .
ترى كيف تكون آية البحث من آيات السلم ، الجواب إخبارها عن وظيفة النبوة ، وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمناداة للإيمان ، ودخول المسلمين الإسلام بهذا النداء من غير إكراه ، قال تعالى [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ]( ).
وقيل نسخت آية السيف مائة وأربعاً وعشرين آية ، والحق بخلافه.
وذكر أن قوله تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( ) نسخت آيات عديدة منها :
الأولى : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الرابعة : قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ).
السادسة : قوله تعالى [وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ).
ولا أصل لهذا النسخ والسنة النبوية بخلافه ، إنما آيات السلم من إعجاز القرآن ومصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وهذه الرحمة في كل زمان ، ومنها استدامة العمل بآيات السلم .
قانون اقتران النبوة بالمعجزة
قوله تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]( )
لقد صاحبت المعجزة الحسية النبوة فكل نبي له معجزة حسية أو أكثر كشاهد على بعثته من عند الله ، وفيه رحمة بالناس لجذبهم إلى منازل الإيمان بلطف من عند الله عز وجل.
وقد امتاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجمع بين المعجزة الحسية والعقلية .
وقد صدر الجزء الثاني والخمسون بعد المائتين من معالم الإيمان وستعقبه أجزاء متعددة بهذا الخصوص إن شاء الله في وقائع لم تذكر كمعجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها مثلاً أنه وبعد ثلاث عشرة سنة من نيله مرتبة النبوة ودعوته الناس إلى الإسلام في مكة خرج منها بأمر من جبرئيل بعد أن أرادت قريش قتله في تلك الليلة ، وليس معه إلا فرد واحد من أصحابه ، قال تعالى [إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
وبات الإمام علي عليه السلام في فراشه وقريش تحرسه لتهجم عليه عند السحر لقتله ظناً منهم أن النبي لا زال نائماً في فراشه .
وعن عبد الله بن عدي (أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ فِي سُوقِ مَكَّةَ وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)( ).
وجعلت قريش مائة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً ، فلحقه الطلب فاعماهم الله عز وجل.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو [وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ]( ).
وشاركت العنكبوت ببناء بيتها ، والحمامة بالبيض على فوهة غار ثور لنجاته .
لتكون المعجزة في المقام من وجوه :
الأول : نسيج العنكبوت على فوهة الغار .
الثاني : وجود حمامتين في فم الغار .
ومن المعاصرين من استدل بقوله تعالى [وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا]( )، على نفي وجود العنكبوت والحمامة ، ولكن اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره.
فهذا التأييد لا يعني أن الله عز وجل لم يؤيده بجنود ترى خاصة مع ورود النصوص عن ابن عباس وغيره ، وتعدد منازل نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة .
وفي البحار عن علوم الدين (كان رسول الله صلى الله عليه وآله حين أتى الغار دعا بشجرة فأتته فأمرها أن تكون على باب الغار، وبعث الله حمامتين فكانتا على فم الغار، و نسج العنكبوت على فم الغار، ثم أقبل فتيان قريش، وكان أبو جهل قد أمر مناديا ينادي بأعلى مكة وأسفلها: من جاء بمحمد أو دل عليه فله مائة بعير، أو جاء بابن أبي قحافة أو دل عليه فله مائة بعير، فلما رأوا الحمامتين ونسج العنكبوت على فم الغار انصرفوا.
فدعا النبي صلى الله عليه وآله للحمام، وفرض جزاءهن، وانحدرن في الحرم، ونهى عن قتل العنكبوت، وقال: هي جند من جنود الله.
وروي عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله كان لا يتطير، وكان يتفأل، وكانت قريش جعلت مائة من الابل فيمن يأخذ نبي الله صلى الله عليه وآله فيرده عليهم حين توجه إلى المدينة .
فركب بريدة في سبعين راكبا من أهل بيته من بني سهم، فتلقى نبي الله صلى الله عليه وآله، فقال نبي الله صلى الله عليه وآله: من أنت ؟ قال: أنا بريدة، فالتفت إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر برد أمرنا وصلح، ثم قال: وممن أنت .
قال: من أسلم قال صلى الله عليه وآله: سلمنا، قال: ممن .
قال: من بني سهم، قال: خرج سهمك، فقال بريدة للنبي صلى الله عليه وآله: من أنت.
فقال: أنا محمد بن عبد الله رسول الله، فقال بريدة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فأسلم بريدة وأسلم من كان معه جميعا فلما أصبح قال بريدة للنبي صلى الله عليه وآله: لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء)( ).
وفي المقام مسألة وهي أن الطلب ورجال قريش تتبعوا أثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه ، حتى وصلوا إلى باب الغار .
لقد وثب الإمام علي عليه السلام في وجوه رجالات قريش عندما هجموا عليه وهو في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاح بهم فبهتوا
(فقالوا: علي ؟ قلت: نعم، قالوا: وأين محمد ؟ قلت: خرج من بلدكم ، قالوا: إلى أين خرج: قلت: الله أعلم .
فتركوني وخرجوا، فاستقبلهم أبو كرز الخزاعي وكان عالما بقصص الآثار، فقالوا: يا أبا كرز اليوم نحب أن تساعدنا في قص أثر محمد ، فقد خرج عن البلد .
فوقف على باب الدار فنظر إلى أثر رجل محمد صلى الله عليه وآله، فقال: هذه أثر قدم محمد، وهي والله اخت القدم التي في المقام، ومضى به على أثره حتى إذا صار إلى الموضع الذي لقيه فيه أبو بكر، قال: هنا قد صار مع محمد آخر، وهذه قدمه، إما أن تكون قدم أبي فحافة أو قدم ابنه، فمضى على ذلك إلى باب الغار، فانقطع عنه الاثر .
وقد بعث الله قبجة فباضت على باب الغار، وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار، فقال: ما جاز محمد هذا الموضع، ولا من معه، إما أن يكونا صعدا إلى السماء أو نزلا في الارض.
فإن باب هذا الغار كما ترون عليه نسج العنكبوت، والقبجة حاضنة على بيضها بباب الغار ، فلم يدخلوا الغار، وتفرقوا في الجبل يطلبونه)( ).
الثالث : بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه ثلاثة أيام في الغار .
الرابع : عدم حمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيفاً في طريق الهجرة.
وبنى مسجده في المدينة ، وهذا البناء معجزة له ، وتتجدد هذه المعجزة بزيارة عشرات آلاف المسلمين له كل يوم على مدار السنة .
ولم يكف كفار قريش عنه فجهزوا الجيوش العظيمة لقتاله وأصحابه ولقتله كما في معركة بدر وأحد والخندق .
ولكنه دخل مكة في السنة الثامنة للهجرة من غير قتال يذكر إذ اختلف العلماء في فتح مكة على قسمين :
الأول : فتحها عنوة .
الثاني : فتحها صلحاً .
وجئت بقول جديد مستقرأ من السنة والوقائع والتأريخ أن مكة فتحت سلماً .
قانون من الإيمان حرمة الإعتداء
ورد الدعاء المتكرر في آية البحث (ربنا) ومن الإعجاز في آية البحث أن كل كلمة منها ذكر لله عز وجل ودعاء لبيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نداءاته للإيمان ، إستجابة المسلمين والمسلمات لهذه النداءات ، وتحمل المهاجرين والأنصار الأذى الشديد من المشركين في ميدان المعارك ، ولمعان السيوف ، وخارجها ، لبيان أن معارك الإسلام الدفاعية الأولى مثل بدر ، أحد ، الخندق ، حنين ، كانت من أجل تعاهدهم لذكر الله ، واستدامته في الأجيال اللاحقة .
وكل من الدفاع والذكر من مصاديق الإيمان الذي دعا له النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طاعة الله .
وليكون ذكر الله كثيراً من مصاديق [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] في قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) من وجوه :
الأول : قاتلوا دفاعاً عن بيضة الإسلام ، وعن النبوة والتنزيل ، لذا قيدت الآية القتال بخصوص الذين يقاتلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وتدل الآية في مفهومها على عدم قتال الذين لم يقاتلوا المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم .
الثاني : قاتلوا لتذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم ، إذ كان مشركو قريش يؤذون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حال صلاته في المسجد الحرام وعند تلاوته القرآن ، ويؤذون أصحابه لا لشئ إلا لاتباعهم النبي محمداً وقراءتهم القرآن .
اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : هل رجل يسمع قريشاً هذا القرآن (فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : أَنَا ؛ قَالُوا : إنّا نَخْشَاهُمْ عَلَيْك ، إنّمَا نُرِيدُ رَجُلًا لَهُ عَشِيرَةٌ يَمْنَعُونَهُ مِنْ الْقَوْمِ إنْ أَرَادُوهُ قَالَ دَعُونِي فَإِنّ اللّهَ سَيَمْنَعُنِي .
قَالَ فَغَدَا ابْنُ مَسْعُودٍ حَتّى أَتَى الْمَقَامَ فِي الضّحَى ، وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا ، حَتّى قَامَ عِنْدَ الْمَقَامِ ثُمّ قَرَأَ (بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ) رَافِعًا بِهَا صَوْتَهُ [الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ]( )، قَالَ ثُمّ اسْتَقْبَلَهَا يَقْرَؤُهَا . قَالَ فَتَأَمّلُوهُ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ مَاذَا قَالَ ، قَالَ ثُمّ قَالُوا : إنّهُ لَيَتْلُو بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ فَقَامُوا إلَيْهِ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ فِي وَجْهِهِ وَجَعَلَ يَقْرَأُ حَتّى بَلَغَ مِنْهَا مَا شَاءَ اللّهُ أَنّ يَبْلُغَ.
ثُمّ انْصَرَفَ إلَى أَصْحَابِهِ وَقَدْ أَثّرُوا فِي وَجْهِهِ فَقَالُوا لَهُ هَذَا الّذِي خَشِينَا عَلَيْك ؛ فَقَالَ مَا كَانَ أَعْدَاءُ اللّهِ أَهْوَنَ عَلَيّ مِنْهُمْ الْآنَ وَلَئِنْ شِئْتُمْ لَأُغَادِيَنّهُمْ بِمِثْلِهَا غَدًا ؛ قَالُوا : لَا ، حَسْبُك ، قَدْ أَسْمَعْتَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ).
الثالث : قانون حرمة الإعتداء في القتال وبدونه ، فمن إعجاز آية القتال أعلاه اجتماع أمرين :
الأول : قانون تقييد قتال المسلمين بأنه في سبيل الله ، وليس للثأر أو حمية أو للغنائم والأموال ونحوها من الغايات الدنيوية .
الثاني : التنزه عن التعدي العام والخاص .
وتدل عليه آية البحث التي تبين ماهية نداء ودعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنها خالصة للإيمان بالله [يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ]( ).
ومن الإيمان بالله الإمتناع عن التعدي لأنه من مصاديق الظلم ، وقد جاءت آيات قرآنية عديدة تنهى عن الظلم ، وتبين سوء عاقبته .
وفي المرسل (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال الله : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)( ).
خطبة حجة الوداع سلام وصلاح
مما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة (قال : اسمعوا مني تعيشوا ، ألا لا تتظالموا ألا لا تتظالموا ، إنه لا يحل مال امرىء إلا بطيب نفس منه ، ألا أن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة.
وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته( ) هذيل( )، ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع ، وإن الله قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب ، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)( ).
لبيان حرمة القتال والثأر والإقتتال ، والسرقة ، والنهب ، والفتنة في الإسلام .
وهل خطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذه من ندائه للإيمان أم أن القدر المتيقن في الآية هي دعوة الناس للإسلام فآمن المسلمون .
الجواب هو الأول ليكون تقدير قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا] أي فآمنا وعملنا ونعمل بأحكام وسنن الإيمان ، لأن الإيمان إقرار باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح ، فهو قول وفعل .
ترى ما المراد من قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (اسمعوا مني تعيشوا) الجواب من وجوه :
الأول : إستدامة الحياة الدنيا بالعمل بأحكام القرآن والسنة ، وتقدير الآية اسمعوا مني آيات القرآن ، وسنتي واعملوا بها .
الثاني : اسمعوا مني تعيشوا حياة رغد وسعادة ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ) .
الثالث : اسمعوا مني حرمة الظلم والتظالم .
الرابع : قانون الظلم والتعدي سبب لسرعة المصرع و(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة .
وأخرج الطبراني عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاثة تستجاب دعوتهم : الوالد ، والمسافر ، والمظلوم)( ) ورد المظلوم في الحديث أعلاه بصفة الإطلاق ليشمل دعوة الكافر المظلوم ، لذا ورد البيان عن (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ : اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ)( ).
وهل تدخل هذه الخطبة ومضامينها وما فيها من الأحكام بنداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإيمان كما في آية البحث ، الجواب نعم ، لبيان إتصال وتجدد هذا النداء قبل الهجرة وبعدها.
وتروى خطبة الوداع بطرق متعددة منها عن أبي حرة الرقاشي عن عمه ، أما اسم عمه فهو حنيفة قال ابن حجر(جزم الباوردي والطبراني وغير واحد بأن اسم عمه حنيفة وقيل إن حنيفة اسم أبي حرة وقيل اسم أبي حرة حكيم)( ).
وفي اسد الغابة قيل اسمه حنيفة وهو المختار .
(عَنْ أَبِي حُرَّةَ( ) الرَّقَاشِيِّ عَنْ عَمِّهِ قَالَ : كُنْتُ آخِذًا بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَذُودُ عَنْهُ النَّاسَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَتَدْرُونَ فِي أَيِّ شَهْرٍ أَنْتُمْ وَفِي أَيِّ يَوْمٍ أَنْتُمْ وَفِي أَيِّ بَلَدٍ أَنْتُمْ قَالُوا فِي يَوْمٍ حَرَامٍ وَشَهْرٍ حَرَامٍ وَبَلَدٍ حَرَامٍ قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَهُ.
ثُمَّ قَالَ اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا أَلَا لَا تَظْلِمُوا أَلَا لَا تَظْلِمُوا أَلَا لَا تَظْلِمُوا إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ أَلَا وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ وَمَالٍ وَمَأْثَرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي هَذِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ يُوضَعُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ.
أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَضَى أَنَّ أَوَّلَ رِبًا يُوضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ [َلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ]( )، أَلَا وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ قَرَأَ [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( ).
أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ أَلَا إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ وَلَكِنَّهُ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا وَإِنَّ لَهُنَّ عَلَيْكُمْ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقًّا أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا غَيْرَكُمْ وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ خِفْتُمْ [نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ]( )، ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ قَالَ حُمَيْدٌ قُلْتُ لِلْحَسَنِ مَا الْمُبَرِّحُ قَالَ الْمُؤَثِّرُ وَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ( ) وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا وَبَسَطَ يَدَيْهِ فَقَالَ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ثُمَّ قَالَ لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَسْعَدُ مِنْ سَامِعٍ)( ).
وبالنسبة لخاتمة الخطبة أعلاه ورد عن الصحابي أبي بكرة فرب مبلّغ أوعى من سامع).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تكرار ذات النداء للإيمان في مقامات متعددة ، فتجد مضامين حجة الوداع يوم النحر في السنة العاشرة للهجرة متكررة قبلها أو بعدها في أحاديث متفرقة منها مثلاً ما ورد عن زيد بن أسلم قال (لما نزلت [قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا]( )، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف ، فقالوا : ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله؟ قال : نعم . فقال بعض الناس : لا يكون هذا أبداً ، فأنزل الله [انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ]( )، إلى قوله [وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ])( ).
وفيه بعث لأجيال المسلمين للتقيد بأحكام الشريعة ونقلها لغيرهم ، وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مصاديق خاتمة هذه الخطبة ، الجواب نعم ، وهو من فيوضات قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ) .
أي هناك من يتلقى أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالواسطة كالتابعين وتابعي التابعين ، ويكون أفهم وأكثر استجابة وعملاً بهذه الأحاديث وما فيها من الأحكام ، لبيان لزوم قيام الصحابة وطبقات العلماء بتوثيق ونقل أحاديث وأوامر ونواهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى غيرهم من الصحابة والتابعين من الرجال والنساء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
قانون سماع أجيال المسلمين لخطبة الوداع
من الإعجاز في خطبة حجة الوداع ابتداؤها بالنداء العام [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] لبيان أن السنة النبوية مرآة للقرآن وليشمل العموم الإستغراقي للصحابة وأجيال المسلمين وعامة الناس ، ثم ذكر كلاً من الشهر واليوم والبلد التي تلتقي بصفة الحرام ، وهو شهر ذي الحجة ، واليوم التشريق ، والبلد بلدة مكة ، ثم توالت الأحكام في هذه الخطبة البيانية التي هي فرع أحكام القرآن ، وبيان لها ، وعضّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطبته بآيات من القرآن منها [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( ) وشطر من آيتين بخصوص النساء لبيان موضوعية إكرامهن في الإسلام وأحكام الشريعة .
إن آية البحث وقوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا] إقرار بسماع أجيال المسلمين لخطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع بالواسطة والنقل والتدوين ، وأنهم يحرصون على العمل .
لقد أكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن الظلم الشخصي والعام ، فلا يظلم المسلم غيره ، ولا يظلم جماعة وطائفة أخرى ، ولا يظلم المسلمون غيرهم من عامة الناس .
والنسبة بين الظلم والتعدي عموم وخصوص مطلق ، فالظلم أعم (عن خزيمة بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام ، يقول الله : وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين .
وأخرج أحمد عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً ، فإنه ليس دونها حجاب)( ).
لبيان قانون خطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة عامة ، وهي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
رؤيا يوحنا عن نهاية العالم
اختص سفر الرؤيا من العهد الجديد برؤيا طويلة ، وفيها تفاصيل كثيرة تتضمن ذكر معركة هرمجدون في آخر الزمان خلافاً لمنهاج الرؤيا في حياة البشر بقصرها مع دلالتها ، وصعوبة حفظ مثل هذه الرؤيا.
واختلف في شخص يوحنا هل هو حقيقي أم افتراضي ، وتنسب رؤية الرؤيا إلى يوحنا بن زبدي ، وأن كتابتها بين (81- 96) م، وأنه نبي مسيحي يهودي ، وينفي الكتاب والسنة وجود نبي بين عيسى عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) .
وفي رواية أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (ليس بيني وبين عيسى نبي وإنه نازل فيكم فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين.
كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية.
ويهلك الله تعالى في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ويهلك الدجال ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون)( ).
ومن الكنائس كالأرثودكسية اليونانية لم يقرأوا سفر الرؤيا ويقولون أنه (ليس قانونياً) وقالوا أنه غير موصى به ، وغير ملزم لهم.
ومن إعجاز القرآن أنه ذكر الرؤيا ومضامنيها ومعانيها في آيات عديدة من القرآن ، مع تعدد موضوع الرؤيا ، وهو من مصاديق نزول القرآن لما فيها من المواعظ والعبر ، وليس المغيبات التي تشمل العالم كله بما فيه هي سفك دماء ثلث البشر أو أكثر عن طريق التمسك برؤيا .
ومن سفر يوحنا :
(16:12 ثم سكب الملاك السادس جامه على النهر الكبير الفرات فنشف ماؤه لكي يعد طريق الملوك الذين من مشرق الشمس
16:13 و رايت من فم التنين و من فم الوحش و من فم النبي الكذاب ثلاثة ارواح نجسة شبه ضفادع
16:14 فانهم ارواح شياطين صانعة ايات تخرج على ملوك العالم و كل المسكونة لتجمعهم لقتال ذلك اليوم العظيم يوم الله القادر على كل شيء
16:15 ها انا اتي كلص طوبى لمن يسهر و يحفظ ثيابه لئلا يمشي عريانا فيروا عريته
16:16 فجمعهم الى الموضع الذي يدعى بالعبرانية هرمجدون)( ).
وقد ذكرت بعض الأحاديث في الملاحم والفتن منها ما لم يثبت إسناده ، ولم يذكر في الكتب المعتبرة .
والأصل عدم ثبوت معركة هرمجدون في قادم الأيام والأحقاب بالهلاك العام الذي ذكرت فيه ، بالإضافة إلى حضور قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) .
الجملة الخبرية والإنشائية
اضفت لهما قسيماً ثالثاً في القرآن ، وهو الجملة الخبرية الإنشائية في آن واحد ، ويلزم منه تعدد المثال في المقام ، وعدم الحصر والوقوف عند الضوابط التي جعلت للجملة الإنشائية أو الخبرية مما لم يثبت أو أن اللفظ القرآني أعم منه .
وقد قسم الكلام إلى عشرة أقسام وإلى تسعة وثمانية ، وسبعة ، وإلى ستة وهي :
الأول : خبر واستخبار .
الثاني : أمر ونهي .
الثالث : نداء ونعت .
وإلى أربعة وإلى ثلاثة بالفصل بين الطلب والإنشاء .
وإلى قسمين :
الأول : الخبر .
الثاني : الإنشاء .
وقال السيوطي : اعلم أن الحذاق من النحاة وغيرهم وأهل البيان قاطبة على انحصار الكلام فيهما وأنه ليس له قسم ثالث( ).
(وادعى قوم من أقسام الكلام عشرة: نداء، ومسألة، وأمر، وتشفع، وتعجب، وقسم، وشرط، ووضع، وشك، واستفهام. وقيل تسعة بإسقاط الاستفهام لدخوله في المسألة.
وقيل سبعة بإسقاط الشك لأنه من قسم الخبر. وقال الأخفش: هي ستة: خبر، واستخبار، وأمر، ونهي، ونداء، وتمن.
وقال بعضهم خمسة: خبر، وأمر، وتصريح، وطلب، ونداء. وقال قوم: أربعة : خبر، واستخبار، وطلب، ونداء.
وقال كثيرون : ثلاثة: خبر، وطلب، وإنشاء. قالوا لأن الكلام إما أن يحتمل التصديق والتكذيب أو لا.
الأول : الخبر.
الثاني : إن اقترن معناه بلفظه فهوالإنشاء، وإن لم يقترن بل تأخر عنه فهو الطلب. والمحققون على دخول الطلب في الإنشاء وأن معنى اضرب مثلاً وهوطلب الضرب مقترن بلفظه، وأما الضرب الذي يوجد بعد ذلك فهومتعلق الطلب لا نفسه. وقد اختلف الناس في حد الخبر فقيل: لا يحد لعسره، وقيل لأنه ضروري لأن الإنسان يفرق بين الإنشاء والخبر ضرورة)( ).
وهذا التفريق لا يتعارض مع معاني اللفظ القرآني لتعددها والتباين الجهتي فيها .
فمثلاً قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، اختلف فيه هل يفيد الخبر أم الإنشاء.
إنما يفيد الخبر والإنشاء معاً وهكذا لابد من تتبع آيات القرآن جملة جملة سواء عند القيام بالتفسير وبيان المعاني أو عند الإحصاء.
فيكون تقسيمها وفق الجدول الأتي :
الآية عدد الجمل الخبرية فيها عدد الجمل الإنشائية فيها عدد الجمل الخبرية الإنشائية فيها
بلحاظ أن الآية القرآنية غالباً ما تتكون من أكثر من جملة .
وحتى قوله تعالى [يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا]( )، الآية التي وردت بموضوع الأخبار وهو جمع خبر تحتمل الوجهين الخبر والإنشاء .
ومن معاني الآية ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عُمِلَ على ظهرها .
إذ ورد (عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عُمِلَ على ظهرها.
قال : وتلا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم [إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا] ( )، حتى بلغ [يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا]( )، قال : أتدرون ما أخبارها ، إذا كان يوم القيامة أخبرت بكل عمل عُمِلَ على ظهرها)( ).
وشهادة الأرض إلى جانب شهادة الملائكة والناس بعضهم على بعض ، وشهادة جوارح الإنسان نفسه.
قانون اتصال الرزق
ورد في التنزيل [قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي]( ) هذا اليوم هو الجمعة الأخيرة من شهر شعبان لسنة 1445 للهجرة نسأل الله أن ييسر لنا صيام شهر رمضان ، وأن يوقف الحروب في فلسطين والسودان واليمن وأوكرانيا وغيرها ، وأن يفرج عن المسجونين ويصلح أحوالهم ، ويهديهم سواء السبيل.
هذه الآية في يوسف وصاحبي السجن وهما من الكفار ، والموضوع هنا مبحث جديد ومستحدث هو هل تدل هذه الآية على نهي السجناء عن الإضراب عن الطعام لأنه رزق من عند الله ، والرزق ما ينتفع منه الإنسان والدواب على خلاف بتقييده بالحلال أم مطلقاً ، قال تعالى [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا]( )وفي الرزق أطراف :
الأول : الرازق وهو الله عز وجل وحده ، ومن صفاته الرزاق .
الثاني : مادة وماهية ونوع الرزق ولا يعلم رسمه وحده إلا الله عز وجل ومنه المال والثمار والجاه والعلم والملبوس والمشروب والمسكون كالعقار ، والرزق على قسمين رزق الدنيا ، ورزق الآخرة ، وفي الشهداء قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
الثالث : المرزوق وهو الإنسان والملائكة والجان والدواب وعالم الأكوان ، قال تعالى [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] ( ).
وقال اكثر المفسرين كما عن الثعلبي بان المراد من الرزق في [تُرْزَقَانِهِ]في الرؤيا وبه قال السدي ومجاهد وابن جريج وتبعهم الطبرسي نزيل مشهد ثم سبزوار في مجمع البيان 5/356 .
والمختار أن المراد من الرزق هنا هو في اليقظة لأصالة الظاهر وتسميته رزقاً ، وقوله تعالى [لاَ يَأْتِيكُمَا]والمجئ عنوان الأمر الوجودي ، ولأن الأصل هو حال اليقظة ، ولعلهم ذهبوا إلى تأويله بالرؤيا لأن الآية [إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ] ولكن في نفس سورة يوسف ورد قوله تعالى [وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ]( )والأحاديث أعم .
وزمان يوسف متقدم زماناً على موسى بنحو أربعمائة سنة فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم .
وقد صدر لي قبل ثلاث وثلاثين سنة كتابي الموسوم (تفسير سورة يوسف) والمسجل بدار الكتب والوثائق في بغداد برقم 272 لسنه 1991 .
ترى لماذا قال يوسف [ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي]( ) للمنادى الجواب لشكر الله ولمنع الإفتتان به ، ولتبكيت الكفار الذين يعبدون الملك فرعون وهو عاجز عن معرفة تأويل الأحاديث واحتاج والملأ من قومه إلى يوسف عليه السلام لتأويل رؤياه ، وكان في هذا التأويل نجاة لأهل مصر ومن حولهم .
وعندما خرج يوسف من السجن يأمر الملك وطلبه له كتب على بابه (هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان وحرقة الأصدقاء وشماتة الأعداء)( ).
ثم دعا لأهل السجن (اللهمّ اعطف عليهم بقلوب الأخيار وأنعم عليهم الأخبار)( ).
والمختار أن هذه الآية تنهى عن أضراب السجناء لما فيه من رد رزق الله في المطعوم والمشروب والعافية ، ولما في الإضراب من الأذى على السجين وأهله وأصدقائه ، وعلى فرض صحة تأويلي هذا هل يشترط وجود بديل عن الإضراب عن الطعام لإعلان المظلومية والحاجات ووجود استجابة من المسؤولين أم أن النهي مطلق ، الجواب هو الثاني ، وتستثنى شدة الأذى والجور والضرورة ونحوها.
أسماء النبي محمد (ص)
لقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً وأنبياء آخرين بذكر أسمائهم في القرآن ، وفوز عدد منهم باسمين لكل منهم وهم كل من :
الأول : إسحاق وهو إسرائيل ، قال تعالى [مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الثاني : يونس عليه السلام واسمه الآخر ذو النون ، قال تعالى [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ]( ).
الثالث : عيسى وهو المسيح ، وذكر بهذا الاسم ست مرات في القرآن ، منها مرتان في قوله تعالى [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا]( ).
الرابع : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وله أسماء في القرآن منها محمد الذي ذكر أربع مرات ، و(أحمد) الذي ذكر مرة واحدة على لسان عيسى بقول الله تعالى [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
قانون كثرة أسماء النبي محمد (ص) إكرام له
وردت أسماء وصفات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن منها :
الأول : الشاهد .
الثاني : المبشر .
الثالث : النذير .
الرابع : الداعي .
الخامس : السراج المنير .
ويجمع الأسماء الخمسة أعلاه قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا]( )، وقيل هي صفات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والخلاف صغروي .
وهو من إعجاز القرآن في إكرام الله عز وجل للنبي محمد ، فهو شاهد على الأنبياء وعلى أمته ، ومبشر بالجنة ، ومنذر من النار ، وداعية إلى الوحدانية والإيمان ، ومنه الدعوة إلى الإيمان في آية البحث.
ولم يرد لفظ (داعياً) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وقيدت الآية الدعوة إلى الله عز وجل بأذن الله للدلالة على تقوم دعوة النبي محمد إلى الله بالوحي والتنزيل ، وهو سراج منير لبيان وعد من الله عز وجل بتلاوة القرآن كل يوم من أيام الدنيا وسلامته من التحريف ، وبقاء سنته غضة متجددة بين الناس وتعاهد أمته للوظائف العبادية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وورد لفظ (سراج) أربع مرات في القرآن كلها بصيغة النصب [سِرَاجًا] ثلاثة بخصوص السماء والشمس والكواكب ، وواحدة بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوة للعلماء لبيان النفع العام من رسالته .
السادس : الرسول : قال تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).
السابع : النبي : قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثامن : محمد .
التاسع : أحمد .
العاشر : المدثر : قال تعالى [يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ]( ).
الحادي عشر : المزمل : قال تعالى [يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ]( ).
الثاني عشر : المبين : قال تعالى [وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ]( )، لبيان فضل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمجئ تسميته من عند الله عز وجل .
الثالث عشر : الخاتم : وبه ختم الله عز وجل النبوة ، فلا نبي بعده.
و(عن أبي الطفيل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي عشرة أسماء عند ربي قال أبو الطفيل : حفظت منها ثمانية : محمد وأحمد وأبو القاسم والفاتح والخاتم والماحي والعاقب والحاشر ، وزعم سيف أن أبا جعفر قال : الاسمان الباقيان (طه) ويس)( ).
فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكنية (أبو القاسم) والصفات (الفاتح) ، والخاتم ، والماحي ، والعاقب ، والحاشر أسماء له عند الله عز وجل.
والمختار أن الاسم أعلى مرتبة من الصفة ، ومثله (عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لي خمسة أسماء : أنا محمد وأنا أحمد ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا العاقب ، والعاقب الذي ليس بعده نبي)( ).
و(قَالَ بَعْضهمْ أَسْمَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَد أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى تِسْعَة وَتِسْعُونَ اِسْمًا ، قَالَ : وَلَوْ بَحَثَ عَنْهَا بَاحِث لَبَلَغَتْ ثَلَاثمِائَةِ اِسْم)( ).
وقيل لله ألف اسم ولرسوله ألف اسم .
وتعدد أسماء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من معجزاته لقانون كل اسم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له خصوصية ومعاني سامية من المعارف ودلالات عقائدية ، وهي واقية وحصانة وباعث للمسلمين للتفقه في الدين ، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ]( ).
الرابع عشر : المُذِكر .
الخامس عشر : الذكر .
السادس عشر : الرحمة ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وتقدير الآية : رحمة للعالمين في كل زمان .
السابع عشر : النعمة .
الثامن عشر : الهادي .
التاسع عشر : طه .
(عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا قام من الليل يربط نفسه بحبل؛ كي لا ينام فأنزل الله عليه طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى( ).
ولكن ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن ربط حبل للإستمرار بصلاة النافلة وطرد الكسل والنعاس إذ ورد (عن انس بن مالك قال دخل نبي الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال ما هذا.
فقالوا هذا الحبل لزينب تصلي فإذا فترت تعلقت به فقال النبي صلى الله عليه وسلم حلوه ليصل أحدكم بنشاطه فإذا فتر فليقعد)( ).
وهل يحتمل أن ربط الحبل للمواظبة على صلاة النافلة من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثلما كان صوم الوصال من مختصاته ، الجواب لا ، فلم يثبت ربط النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبلاً للمداومة على صلاة النافلة ، كما أن السنة النبوية بخلافه .
إذ ورد عن ابن عباس نفسه أنه قال (قَوْلَهُ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ]( )، قال: هُمْ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: نَقْطَعُ مَذَاكِيرَنَا وَنَتْرُكُ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَنَسِيحُ فِي الأَرْضِ كَمَا يَفْعَلُ الرُّهْبَانُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُمْ .
فَقَالُوا : نَعَمْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”لَكِنِّي أَصُومُ، وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي، وَأَنَامُ، وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَمَنْ أَخَذَ بِسُنَّتِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)( ).
العشرون : يس .
الواحد والعشرون : الشهِيد .
الثاني والعشرون : الأمين .
الثالث والعشرون : الشفيع .
لقد جاءت آية البحث باسم اختص به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو (المنادي للإيمان) .
فن إعجاز آية البحث عدم إكتفائها بذكره (منادياً) بل قيدته بأن النبي محمداً كان منادياً للإيمان بالله عز وجل رباً وإلهاً جعل الدنيا مزرعة للآخرة التي هي حساب بلا عمل .
وفي الثناء على المؤمنين قال تعالى [فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( )، لبيان قانون منافع نداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان في الدنيا والآخرة .
اسم (عبد الله) للنبي محمد (ص)
قال تعالى [وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا]( )، لبيان قانون عبودية الناس العامة والمطلقة لله ، فمع كثرة أسماء وصفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه سيد الأنبياء والمرسلين فهو عبد لله عز وجل.
قال الرضا عليه السلام (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا ترفعوني فوق حقي فان الله تبارك وتعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا ، قال الله تبارك وتعالى مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( ).
ومن الآيات أن ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خمس مرات في اليوم في الأذان بالجمع بين صفتين العبودية لله عز وجل والرسالة وهو قانون يومي متجدد لمنع الغلو بشخصه الكريم ، لذا نجا وينجو المسلمون والمسلمات من الغلو بالرسول ، ومن باب الأولوية قانون نجاة المسلمين والمسلمات من الغلو بالأئمة والأولياء .
أسماء النبي محمد (ص) في السنة النبوية
هناك أسماء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مستقرأة من القرآن ووردت في السنة النبوية منها :
الأول : المصطفى : و(عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول اللّه عليه السلام : إن اللّه عزّ وجلّ اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل ، واصطفى من بني كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم)( ).
ومن الآيات الإجتماعية في باب الكنى والأسماء كثرة اسم المصطفى بين المسلمين تبركاً باسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويرد اسم المصطفى لآدم عليه السلام ، ومنه تسمية جبل الصفا ، لأن آدم المصطفى هبط عليه .
وعن الإمام الصادق عليه السلام (فقطع للجبل اسم من اسم آدم على نبينا وآله وعليه السلام، يقول الله عزوجل [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا]( )، وهبطت حواء على المروة، وإنما سميت المروة مروة لأن المرأة هبطت عليها، فقطع للجبل اسم من اسم المرأة)( ).
وقد أكرم الله عز وجل المرأة بشخص حواء بالإصطفاء ولبثها في الجنة وكلامها مع الملائكة قبل هبوطها إلى الأرض ، كما أكرم الله عز وجل مريم بالإصطفاء ، قال تعالى [قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ]( ).
ولم يرد لفظ (اصطفاك) في القرآن إلا مرتين وفي الآية أعلاه كما ورد الحديث النبوية باصطفاء فاطمة وخديجة عليهما السلام .
(عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، وآسية امرأة فرعون)( ).
ومثله ورد عن ابن عباس وأبي هريرة( ).
وهل يمكن القول بأن الله عز وجل اصطفى النبي محمداً للمناداة بين الناس للإيمان ، الجواب نعم ، لبيان قانون تعدد مصاديق اصطفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال ابن حجر (وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْمَشْهُورَة : الْمُخْتَار وَالْمُصْطَفَى وَالشَّفِيع الْمُشَفَّع وَالصَّادِق الْمَصْدُوق)( ).
الجمع بين اسم وكنية النبي محمد (ص)
لقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن جمع أي فرد من الناس بين اسم محمد وكنية أبي القاسم ، باكبر أولاده القاسم .
إذ ورد عن أنس بن مالك قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم في السوق ، فقال رجل : يا أبا القاسم ، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرجل : إنما أدعوا ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تسمّوا باسمي ولا تكنّوا بكنيتي)( ).
وعن السكوني ، عن الصادق عليه السلام في حديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن كنية أبي القاسم (إذا كان الاسم محمداً) ( ).
واختلف في النهي على وجوه :
الأول : إرادة كراهة الجمع بين اسم محمد وكنية أبي القاسم .
الثاني : القدر المتيقن من النهي في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجواز الجمع بين اسمه وكنيته بعد وفاته.
الثالث : النهي مطلقاً في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته ، وبه قال الشافعي .
الرابع : نسخ الحديث ، وجواز التكني بأبي القاسم لمن اسمه محمد أو أحمد وغيره ، حكي عن مالك وليس من نسخ في المقام .
الخامس : الحديث ليس منسوخاً ، إنما كان النهي للتنزيه والأدب وليس للتحريم .
السادس : انحصار النهي بخصوص الكنية (أبي القاسم) ، وإن كان الاسم غير محمد وأحمد .
وقيل قام بعض الأنصار بتغيير كنيته من أبي القاسم إلى غيرها .
(وَكَتَبَ عُمَر إِلَى الْكُوفَة : لَا تُسَمُّوا أَحَدًا بِاسْمِ نَبِيّ ، وَأَمَرَ جَمَاعَة بِالْمَدِينَةِ بِتَغْيِيرِ أَسْمَاء أَبْنَائِهِمْ مُحَمَّد ، حَتَّى ذَكَرَ لَهُ جَمَاعَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَسَمَّاهُمْ بِهِ فَتَرَكَهُمْ)( ).
وعن أنس يرفعه (يسمونهم محمداً ثم يلعنونهم)( ).
والمختار حمل النهي على الكراهة ، وإرادة التنزيه والتأديب ، وهذا النهي مطلق في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته ، إلا أن الكراهة كانت أشد في أيام حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والعلم عند الله .
دعاء الأنبياء توطئة لبعثة النبي محمد (ص)
بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ورفعه قواعد البيت الحرام ، وأذانه في الناس بالحج ، قال تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
وقد دعا موسى وهارون عليهما السلام على فرعون ، فنزلت الإستجابة من الله [قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ]( ).
وزمان إبراهيم عليه السلام متقدم على أيام موسى.
(وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال : كان عمر آدم ألف سنة . قال ابن عباس : وبين آدم وبين نوح ألف سنة ، وبين نوح وإبراهيم ألف سنة ، وبين إبراهيم وبين موسى سبعمائة سنة ، وبين موسى وعيسى ألف وخمسمائة سنة ، وبين عيسى ونبينا ستمائة سنة)( ).
فقد (أخرج ابن المنذر والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس قال : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وإبراهيم ، وإسحاق ، وإسماعيل ، ويعقوب ، وشعيب ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن نبي له اسمان إلا عيسى ، ويعقوب ، فيعقوب إسرائيل وعيسى المسيح .
كما ورد عن ابن عباس في حديث آخر أن الفترة بين إبراهيم وموسى عليهما السلام هي ألف سنة .
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : كان بين آدم ونوح ألف سنة ، وبين نوح وإبراهيم ألف سنة ، وبين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبين موسى وعيسى أربعمائة سنة ، وبين عيسى ومحمد ستمائة سنة)( ).
ولا يصدر هذا الإختلاف عن ابن عباس ، والسهو أو الخطأ من رجال السند ، والأرجح هو الحديث الأول وهو بين إبراهيم وموسى سبعمائة سنة.
لبيان توارث الأنبياء البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرتقاء أمته في المعارف الإلهية والعلوم .
وهل في دعاء موسى وهارون على فرعون واستجابة الله لدعوتهما ولو بعد حين وانقراض حكم الفراعنة توطئة ومقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول أهل مصر سلماً الإسلام ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق البشارة في قوله تعالى [ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ]( ).
وصحيح أن هذه الآية وردت حكاية عن قول يوسف لأبويه وأخوته إلا أنها تتضمن البشارة للمسلمين بفتح مصر على المختار ، ويستقرأ من صيغة الخطاب في القرآن ومن تحقق فتح مصر بيسر .
قانون المعجزة توليدية
من لطف الله عز وجل بالناس التعدد والتوالي بالنعمة المتحدة وردفها بنظائر من النعم ، وحجب الموانع التي تحول دون وصولها إلى الناس ، ومن أبهى النعم المعجزات التي جرت على أيدي الأنبياء .
ومن المعجزات ما تكون واحدة ولكنها تتكرر وتتوالى ، كما في ناقة صالح التي وردت نسبتها في القرآن إلى الله عز وجل ، وفي التنزيل [فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا]( ).
لبيان أن ذات الناقة وشربها الكثير من الماء في اليوم المخصص لها معجزة متعددة ، وأن يوم شربها معجزة تتكرر كل يوم ، لقانون دعوة المعجزات الناس للإيمان وهو من أهم ثمرات وفوائد المعجزة.
لقد خرجت الناقة من صخرة ملساء بسؤال قوم صالح له كي يؤمنوا برسالته ، ولم تخرج الناقة من الصخرة بسهولة بل صارت الصخرة تتمخض كما تتمخض الحامل التي دنا وضعها الجنين وأخذها الطلق ثم خرجت لهم الناقة بالصفة التي سألوها.
ولم تنقطع المعجزة عند هذا الحد فقد كانت الناقة تختلف في أوصافها وضخامة بدنها عن نوقهم (وكانت) الناقة تصيّف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها أغنامهم وأبقارهم وإبلهم فتهبط إلى بطن الوادي في حرّه وجدبه.
والمواشي تنفر منها إذا رأتها تشتو في بطن الوادي إذا كان الشتاء ، فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدب. فأضرّ ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار وكانت مراتعها في ما يزعمون الجناب وحسمى ، كل ذلك ترعى مع واد الحجر)( ).
والظاهر أنه السبب الذي جعل عدداً من الأشرار يتناجون في عقرها ، ولم يلتفتوا إلى إنذارات صالح ، وقانون وجوب إكرام المعجزة وتلقيها بالقبول .
ثم أنها تشرب ماء البئر كله في يوم لتعطي القرية كلها اللبن في ذات اليوم بما يكفيهم ويدخرون ويملأون أوانيهم منه.
ويكون اليوم الثاني لهم ولدوابهم وزراعاتهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ]( ) لتتجدد المعجزة كل يوم ، وفيه مسائل :
الأولى : دعوة لهم للتصديق برسالة صالح .
الثانية : التنعم بالرزق الكريم .
الثالثة : قانون المعجزة خير محض .
الرابعة : الإنذار من الجحود والكفر.
ولكن نفراً منهم تمادوا وعقروا الناقة فعجّل الله لهم العذاب ، قال تعالى [فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا]( ).
ليدل في مفهومه على الثناء على المسلمين لتصديقهم بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله.
قانون ذخائر القرآن غير المستخرجة هي الأكثر
من إعجاز القرآن أن كل آية تدعو إلى الله عز وجل من وجوه( ):
الأول : ذات الآية واستقلالها ، وهو من الإعجاز في الفواصل بين الآيات ، وتقدير وتعيين هذه الفواصل .
الثاني : صلة الآية بالآيات المجاورة ، واستقراء المسائل والقوانين منها ، كما في مبحث (في سياق الآيات) في هذا السِفر .
الثالث : صلة الآية بالآيات في ذات السورة ، وهو من الدلالات الإعجازية على تقسيم القرآن إلى مائة وأربع عشرة سورة .
الرابع : الصلة بين أول ووسط وآخر الآية، وقد أفردت باباً لهذا القسم في تفسير كل آية من القرآن ، وفيه علوم وقوانين مستنبطة لم تطرأ على البال والحمد لله .
الخامس : استقراء المسائل والقواعد والقوانين ، وسبل الهداية والرشاد من صلة آية البحث مع كل آية من آيات القرآن .
لتتجلى من هذه الوجوه ذخائر سماوية ، وتستخرج درر في آيات القرآن ، ولبيان قانون العلوم التي لا زالت مدخرة في خزائن القرآن أكثر من التي استخرجت منها .
وهل ينقطع هذا القانون مع الذكاء الإصطناعي وجهاد العلماء في التفسير والتحقيق في علوم القرآن بأجل يمكن تعيينه كـألف سنة أو ألفي سنة ، الجواب لا ، إذ يتجدد الخطاب القرآني للناس جميعاً [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا]( ) خاصة وأن آيات القرآن كاشفة عن الوقائع والأحداث وعلوم الغيب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
علوم القرآن مستقبلاً
هل يختص ما لم يكتشف من علوم القرآن بأفراد هذه العلوم ، وأن لكل علم موضوع مستقل بذاته ، وتتمايز العلوم بالتباين في موضوعها ، الجواب لا ، إنما يشمل العلوم المستخرجة من القرآن مستقبلاً أصل هذه العلوم وأفرادها وما لم يكشف الغطاء عنه من ذات العلوم وعلوم أخرى مستحدثة بذاتها وموضوعها وأحكامها ، ليبقى الباب مفتوحاً إلى يوم القيامة في إضافة علوم مستحدثة إلى علوم القرآن المتعارفة وأمهات المقاصد السامية والأسس العامة والمباحث الكلية في خزائن القرآن .
وهذه العلوم متجددة ، وتضاف لها علوم أخرى في كل زمان ، ومن علوم القرآن :
الأول : علم رسم حروف وكلمات القرآن ، وكيف أنه توفيقي .
الثاني : علم جمع القرآن وتدوينه .
الثالث : إعراب القرآن .
الرابع : علم عدد حروف وكلمات وآيات وسور القرآن .
الخامس : علم فضائل القرآن .
السادس :علم القراءات والتجويد ،والمحسنات اللفظية .
السابع :علم جمع القرآن في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعدها .
الثامن :علم التوحيد والذي يتقوم التنزيل به .
التاسع : علم أسماء الله الحسنى وصفاته .
العاشر : علم نزول القرآن .
الحادي عشر : أقسام الوحي .
الثاني عشر : الوحي المتعدد إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ]( ).
الثالث عشر : نسبة العموم والخصوص المطلق بين الوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن عليه ، فالوحي أعم .
و(عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ أَلَا وَلَا لُقَطَةٌ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُمْ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُمْ فَلَهُمْ أَنْ يُعْقِبُوهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُمْ)( ) .
والمقدام بن معدي كرب من صغار الصحابة ، نزيل حمص ، وفي سنة سبع وثمانين (توفي المقدام بن معدي كرب الكندي صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن إحدى وتسعين سنة. مات بحمص)( ).
وهل يدل الحديث أعلاه على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مشرع الجواب نعم بشرط صحة سند الحديث ، ولابد من إحصاء التشريع في السنة النبوية .
الرابع عشر : علم سلامة القرآن من التحريف .
الخامس عشر : علم إعجاز القرآن .
السادس عشر : أسباب النزول .
السابع عشر : علم الإعجاز الذاتي والإعجاز الغيري لكل آية من القرآن ، كما رأيت في تفسير آيات القرآن بتخصيص باب لكل منهما .
الثامن عشر : علم التفسير والتأويل .
التاسع عشر : علم كشف القرآن لماهية الوقائع والأحداث قبل حدوثها ، وإتخاذ القرآن هدىً ورشاد .
العشرون : علم إكرام المرأة في القرآن .
الواحد والعشرون : علم حقوق الإنسان في القرآن .
الثاني والعشرون : علم معجزات الأنبياء الحسية في القرآن ، وفي إبراهيم عليه السلام قال تعالى [قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ]( ).
فقد أرادوا معاقبته بالحرق بالنار أمام الناس جميعاً نصرة لآلهتهم التي كسرها وزجر الناس عن التعدي عليها خاصة وأنها أصنام ، والإنقياد لها خلاف العقل والبصيرة فانقذه الله أمام أعين الناس جميعاً فلا يمكن لنمرود ورجاله أن يكتموا أو يستروا معجزة صيرورة النار [بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ* وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ]( ).
ونضيف معنى وتفسيراً لقوله تعالى [فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ] أن حمل السلطة أهل البلد على حضور حرق إبراهيم عليه السلام في النار صار وبالاً على السلطة والكهنة لأنهم جميعاً رأوا آية سلامة إبراهيم من الحرق ، ويدل قوله تعالى [فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ]( )، على اهتداء طائفة من الناس لما رأوا معجزة سلامة إبراهيم من النار ، وبقاء نمرود وجنوده في حال دهشة وحيرة وعجز.
الرابع والعشرون : دلائل التنزيل التي تدل على أن القرآن معجزة عقلية.
الخامس والعشرون : أدلة سلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقصان .
السادس والعشرون : معارك الإسلام الأولى للدفاع والضرورة ، فمشركو قريش وحلفاؤهم هم الغزاة ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
السابع والعشرون : علم الصلة بين أول وآخر الآية القرآنية ، وهو علم مستحدث في هذا السِفر المبارك ، وتترشح عنه مسائل وقوانين كثيرة .
الثامن والعشرون : علم موضوع وأحكام الآية القرآنية أعم من سبب النزول ، إذ أن المدار على عموم المعنى وليس سبب النزول وحده لتكون أسباب النزول توطئة لبيان موارد الحكم وإعانة المسلمين على التفقه في الدين ، ولتبقى الآية القرآنية غضة طرية إلى يوم القيامة .
التاسع والعشرون : من علوم القرآن علم اسمه علم مبهمات القرآن ، ويسمى علم غريب القرآن ، والغامض منه ، والبعيد عن الفهم في دلالة على ألفاظه .
والمختار ليس من مبهم أو غريب في ألفاظ القرآن ، إنما يأتي علم التفسير والتأويل على الكلمات في القرآن .
ولا مانع من تخصيص باب في علم التفسير للألفاظ القرآنية التي يصعب فهم وإدراك معانيها أول وهلة ، أو بالتبادر إنما يلزم التدبر فيها .
الثلاثون : علم العام والخاص في القرآن .
الواحد والثلاثون : تخصيص القرآن بالحديث المتواتر ، وحتى خبر الواحد المعتبر .
الثاني والثلاثون : المطلق والمقيد في القرآن .
الثالث والثلاثون : خطاب المدح مثل [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وخطاب الذم مثل [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
ومن خصائص القرآن دعوته لهذا العلم ابتداء من افتتاحه كل سورة من القرآن عدا براءة بالبسملة [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] التي تتضمن ثلاثة من الأسماء الحسنى .
الرابع والثلاثون : علم النبوة والمعجزات التي صاحبت الأنبياء ، والبراهين التي تدل عليها .
الخامس والثلاثون : علم التكاليف الخمسة الوجوب ، الندب ، الإباحة ، الكراهة ، الحرمة .
السادس والثلاثون : علم اللغة العربية ، ومنها علوم النحو والصرف والبلاغة ، وفي الثناء على القرآن ، قال تعالى [وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ]( ).
السابع والثلاثون : علوم الفقه في القرآن .
الثامن والثلاثون : علم الأديان وقصص الأنبياء .
التاسع والثلاثون : معرفة الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه .
الأربعون : علم مكارم الأخلاق .
الواحد والأربعون : علم النداء في القرآن ، ومنه آية البحث وما فيها من منافع النداء .
الثاني والأربعون : علم لم يغز النبي محمد (ص) أحداً .
الثالث والأربعون : علم آيات السلم محكمة غير منسوخة .
الرابع والأربعون : علم آيات الدفاع سلام دائم .
الخامس والأربعون : علم الآيات الحسية للنبي محمد (ص) خاصة .
السادس والأربعون : علم الكلمات المفردة في القرآن .
السابع والأربعون : علم الإحصاء في القرآن ، وقد صدرت بخصوصه الأجزاء (245-247-258) من هذا التفسير المبارك .
الثامن والأربعون : علم المعاد في القرآن .
التاسع والأربعون : علم حب الله والعرفان في القرآن .
الخمسون : علم العفو والمغفرة في القرآن .
الواحد والخمسون : علم الرزق في القرآن .
الثاني والخمسون : علم الملائكة في القرآن .
الثالث والخمسون : علم الخلق والخليقة في القرآن .
الرابع والخمسون : تخلف الذكاء الإصطناعي عن علوم القرآن .
الخامس والخمسون : علم الرؤيا في القرآن .
السادس والخمسون : علم الصلح والمهادنة في القرآن .
السابع والخمسون : علم التقية في القرآن .
الثامن والخمسون : علم التقوى في القرآن .
التاسع والخمسون : علم أسماء الأنبياء ودلالاتها .
الستون : علم الغيب في القرآن والسنة النبوية .
الواحدة والستون : علم المواريث في القرآن .
الثاني والستون : قانون الإسلام دين السلم والسلام والآيات والسنة النبوية التي تدل عليه .
الثالث والستون : علم الحسن الذاتي للإيمان .
الرابع والستون : علم القبح الذاتي للكفر ، ونفرة النفوس منه ، قال تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ]( ).
معجزات موسى (ع)
معجزات الرسول موسى عليه السلام وهي :
الأولى : العصا وهي أعظم معجزات موسى عليه السلام في موضوعها ومصاحبتها له وإنتفاعه وبني إسرائيل منها وحضورها كمعجزة وهي تعضيد سماوي له ، وهي أكثر معجزات موسى ذكراً في القرآن ، ووردت بصيغة عصاك ست مرات ، وبصيغة ضمير الغائب (عصاه) ثلاث مرات ، قال تعالى [فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ]( ).
الثانية : أخذ آل فرعون بالسنين ونقص الثمرات ، قال تعالى [وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ]( ) أي بالجوع والقحط والجدب ونقص ماء النيل (عن حذيفة بن اليمان قال : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حرة بني معاوية ، واتبعت أثره حتى ظهر عليها فصلى الضحى ثماني ركعات .
فأطال فيهن ثم التفت إلي فقال : إني سألت الله ثلاثاً فأعطاني إثنتين ومنعني واحدة ، سألته أن لا يسلط على أمتي عدوّاً من غيرهم فأعطاني ، وسألته أن لا يهلكهم بغرق فأعطاني ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني)( ).
وتناقصت الثمرات عند آل فرعون لإمتناعهم عن التصديق برسالة النبي موسى عليه السلام ولشدة أذاهم لبني إسرائيل ، وتكليفهم بالأعمال الشاقة مع ذبح أبنائهم واستحياء نسائهم .
الثالثة : الطوفان ، أي المطر الكثيف والسيل الذي يضر بالزراعات والدواب والأبنية وبعض الأعمال ومقاربة الفيضان و(عن ابن عباس في قوله [فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ]( )، وهو المطر حتى خافوا الهلاك ، فأتوا موسى فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر ، فانا نؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل)( ).
وذكرت وجوه أخرى في معنى الطوفان منها :
الأول : الطاعون .
الثاني : عذاب من السماء .
الثالث : قال عطاء إنه الموت .
الرابعة : آية أسراب الجراد التي أسرعت في أكل مزروعات آل فرعون ، فلجأوا إلى موسى وسألوه أن يدعو الله ووعدوه بارسال بني إسرائيل معه ، فدعا الله عز وجل فكشف عنهم الجراد ، فقالوا قد بقي من زرعنا شئ ، وندخر من معايشنا ما يكفينا ، فلن نؤمن لك ولن نرسل معك بني إسرائيل.
الخامسة : القمل وهي البراغيث.
وقيل السوس الذي يخرج مع الحنطة ، عن ابن عباس( ).
السادسة : الضفادع إذ أرسلها الله عز وجل على آل فرعون فملأت بيوتهم ، وكانت تقفز في قدورهم فتفسد طعامهم ، فاشتكوا إلى موسى عليه السلام ، وقالوا له لقينا من الضفادع البلاء والأذى الشديد .
وعن ابن عباس (قالوا : يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا الضفادع فقد لقينا منها بلاء وأذى ، فانا سنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل)( ).
فلما دعا موسى عليه السلام الله عز وجل استجاب له وكشف عن آل فرعون الضفادع وأصبحت الأنهار خالية منها فعمت البهجة.
السابعة : معجزة الدم ثم أرسل الله عليهم الدم ، فاذا استسقوا من النهر أو الآبار وجدوه دماً عبيطاً ، وكذا ما كان في أوعيتهم ، فلا يشربون إلا الدم .
فسألوا موسى أن يكشف عنهم عذاب الدم هذا ، وتعهدوا بالإيمان برسالته ، وإرسال بني إسرائيل معه ، فتوجه موسى بالدعاء إلى الله فكشف عنهم عذاب الدم ، ولكنهم استمروا بالجحود وإيذاء بني إسرائيل ، ومنع خروجهم مع موسى عليه السلام .
ولقد توالت الآيات على بني إسرائيل ليأخذهم الله عز وجل بعدها ليغرق الله عز وجل فرعون وجنوده في البحر الأحمر عندما أصروا على إتباع موسى وبني إسرائيل وإعادتهم إلى حياة الذل والإمتهان عند آل فرعون .
الثامنة : معجزة شق البحر الأحمر لموسى عليه السلام ليعبره وبنو إسرائيل للنجاة من آل فرعون الذين أوشكوا على اللحاق بهم وعن (أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى [وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا]( )، إلى قوله [وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ].
فإن بني إسرائيل قالوا: يا موسى ادع الله أن يجعل لنا مما نحن فيه فرجا، فدعا فأوحى الله إليه : أن أسر بهم .
قال : يا رب البحر أمامهم ، قال: امض فإني آمره ان يعطيك وينفرج أظلهم .
قال موسى للبحر: انفرج لي، قال: ما كنت لافعل، وقال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: غررتنا وأهلكتنا، فليتك تركتنا يستعبدنا آل فرعون، ولم نخرج الآن نقتل قتلة .
[قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ]( ).
واشتد على موسى ما كان يصنع به عامة قومه.
وقالوا : يا موسى [إِنَّا لَمُدْرَكُونَ]( )، زعمت أن البحر ينفرج لنا حتى نمضي ونذهب وقد رهقنا فرعون وقومه، هم هؤلاء نراهم قد دنوا منا، فدعا موسى ربه.
فأوحى الله إليه [أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ]( )، فضربه فانفلق البحر، فمضى موسى وأصحابه حتى قطعوا البحر الأحمر وأدركهم آل فرعون، فلما نزلوا إلى البحر قالوا لفرعون: ما تعجب مما ترى .
قال أنا فعلت، فمروا وامضوا فيه، فلما توسط فرعون ومن معه أمر الله البحر فأطبق عليهم فغرقهم أجمعين، فلما أدرك فرعون الغرق قال [آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ]( ).
يقول الله عزوجل [آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ]( )، يقول : كنت من العاصين ، فاليوم ننجيك ببدنك.
قال : إن قوم فرعون ذهبوا أجمعين في البحر فلم ير منهم أحد، هووا في البحر إلى النار، وأما فرعون فنبذه الله وحده.
فألقاه بالساحل لينظروا إليه وليعرفوه ليكون لمن خلفه آية، ولئلا يشك أحد في هلاكه، وإنهم كانوا اتخذوه رباً ، فأراهم الله إياه جيفة ملقاة بالساحل ليكون لمن خلفه عبرة وعظة، يقول الله وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ( ).
التاسعة : معجزة الحجر ، قال تعالى [وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ]( ).
إذ اشتكى بنو إسرائيل لموسى عليه السلام وهم في البرية الظمأ ، فكان معهم حجر من حجارة الطور .
فيأمر الله موسى فيضرب بعصاه الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عيناً ليشرب كل سبط من عين .
لقد كانت معجزات موسى عليه السلام حسية ، نزل القرآن بتوثيقها وضبطها ، وهذا التوثيق وتلاوة أجيال المسلمين والمسلمات لآيات القرآن التي تبين معجزات موسى عليه السلام من المصاديق اليومية المتجددة لقوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ]( ).
ولتترى معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية ، ومنها آية البحث وتوالي نداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مشارق ومغارب الأرض للإيمان بما يعجز المشركون عن حجب هذا النداء عن الناس بل وعن أنفسهم أيضاً ، تترى الآيات والبراهين التي تدل صدق نبوته ولزوم الإنتفاع الأمثل للنشأتين منها.
عدد أصحاب موسى عليه السلام
روي أن أصحاب موسى ستمائة ألف ، والجواب من جهات :
الأولى : ورد عن وهب : أن يعقوب وأولاده (دخلوا مصر وهم ثلاثة وسبعون إنسانا، وخرجوا مع موسى عليه السلام وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا، وكان بين يوسف وموسى أربعمائة سنة)( ).
ووهب ضعيف ، ويكثر من الإسرائيليات .
الثانية : على فرض المدة أربعمائة سنة بين يوسف وموسى عليهما السلام فلا تكون هذه المدة كافية لمثل هذا التكاثر إلا في حالات نادرة .
الثالثة : كان بنو إسرائيل في حال مشقة وعناء وجهد جهيد عند آل فرعون ، مما يحول دون كثرة الزيجات والإنجاب .
الرابعة : من الإعجاز قانون القرآن واقية من المبالغة والتهويل في الوقائع والأخبار والأرقام ، من وجوه :
الأول : بيان شدة إضرار آل فرعون لبني إسرائيل ، وورد حكاية عن فرعون في التنزيل [قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ]( ).
الثاني : شكاية بني إسرائيل شدة الأذى وإظهارهم العتاب لموسى عليه السلام [قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ]( ).
الثالث : حث موسى عليه السلام بني إسرائيل على الصبر .
الرابع : إخبار القرآن عن قلة عدد بني إسرائيل مع موسى ، وإن كانت هذه القلة بالنسبة لكثرة جيش فرعون ، الذي وصف بني إسرائيل بالشرذمة ، كما ورد في التنزيل [إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ]( ).
وشرذمة كل شئ بقيته القليلة ، والعصبة الباقية من الجمع الغفير ، لبيان نكتة في المقام أن فرعون يُذّكر أهل مدائن مصر بأنه قضى على أكثر بني إسرائيل لبيان قانون رسالة موسى عليه السلام حاجة.
ورد عن ابن عباس أن عدد بني إسرائيل ستمائة ألف نسمة (وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أوحى الله إلى موسى [أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ]( ).
فأسرى موسى ببني إسرائيل ليلاً ، فاتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث أي مليون حصان ، وكان موسى في ستمائة ألف ، فلما عاينهم فرعون قال [إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ]( ).
فاسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر فالتفتوا فإذا هم برهج دواب فرعون فقالوا : يا موسى [أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا]( )، هذا البحر أمامنا ، وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه قال [عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ]( ).
فأوحى الله إلى موسى : أن اضرب بعصاك البحر ، وأوحى إلى البحر : أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك . فثاب البحر له أفكل يعني رعدة لا يدري من أي جوانبه يضرب)( ).
الخامس : نعم ورد عن ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان أصحاب موسى الذين جاوزوا البحر اثني عشر سبط ، فكان في كل طريق اثنا عشر ألفاً كلهم ولد يعقوب عليه السلام)( ).
فيكون المجموع حينئذ (144) ألف وليس أكثر من ستمائة ألف على فرض صحة سند الحديث .
وليس من مقارنة في المقام بين أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحاب موسى عليه السلام ، لأن بني إسرائيل على دين التوحيد وملة إبراهيم قبل بعثة موسى عليه السلام ، وقال تعالى [كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
السادس : (وأخرج ابن المنذر عن محمد بن كعب قال : خرج موسى من مصر ومعه ستمائة ألف من بني إسرائيل لا يعدون فيهم أقل من ابن عشرين ولا ابن أكثر من أربعين سنة فقال فرعون إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ( ).
وعلى هذا يكون عددهم أكثر من ضعف ستمائة ألف بلحاظ عدم احتساب النساء أيضاً وهو بعيد ، ولا يخلو من مبالغة ، بينما حينما دعاهم موسى إلى قتال الجبابرة امتنعوا.
وقيل ولد موسى عليه السلام أيام فرعون مصر رمسيس الثاني (1303-1213) قبل الميلاد ، وتربى موسى في قصر فرعون كما ذكر القرآن كيفية نجاته بالقاء أمه له في النيل بأمر من عند الله ، قال تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ]( ).
السابع : ورد عن ابن عباس أيضاً قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان فرعون عدو الله حيث غرقه الله هو وأصحابه في سبعين قائد ، مع كل قائد سبعون ألفاً ، وكان موسى مع سبعين ألفاً حين عبروا البحر)( ).
وهذا العدد هو الأقرب للواقع ، والأنسب لما ورد في التنزيل [إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ]( )، وهو من بيان السنة لآيات القرآن.
و(عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة وبلغه أن عير أبي سفيان قد أقبلت فقال : ما ترون فيها لعل الله يغنمناها ويسلمنا.
فخرجنا فلما سرنا يوماً أو يومين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتعادّ ففعلنا ، فإذا نحن ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعدّتنا ، فسر بذلك وحمد الله وقال : عدة أصحاب طالوت . فقال : ما ترون في القوم فانهم قد أخبروا بمخرجكم .
فقلنا : يا رسول الله لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم إنما خرجنا للعير ، ثم قال : ما ترون في قتال القوم .
فقلنا مثل ذلك ، فقال المقداد : لا تقولوا كما قال أصحاب موسى لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ( ).
سؤال العفو والهداية
لقد تضمنت سورة الفاتحة التي يفتتح بها نظم القرآن سؤال المسلمين لله عز وجل بالهداية [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )كما أختتمت سورة البقرة وهي أطول سورة في القرآن والتي جاءت بعد سورة الفاتحة مباشرة بسؤال المسلمين الله عز وجل [وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ).
ومن الإعجاز في هذه الآية ورود ضمير الجمع للمتكلم (نا) خمس عشرة مرة ، كلها في الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل لبيان صدق إيمان المسلمين والنفع العظيم والهداية المترشحة عن نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان ، بأن صارت أمة عظيمة تلح على الله عز وجل بالدعاء .
وتحتمل هذه الكثرة من جهة الإستجابة وجوهاً :
الأول : الإستجابة لشطر من هذه الأدعية .
الثاني : الإستجابة التامة لشطر من المسلمين والإستجابة الجزئية للآخرين .
الثالث : الإستجابة التامة للجميع .
المختار هو الأخير لبيان النعمة الإلهية العظمى بنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان .
وورد النداء (ربنا) في الآية أعلاه ثلاث مرات وكذا ورد في سورة الأعراف [قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ]( ).
[وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ]( )، وورت كلمات في هذه الآية لم ترد في آية أخرى من القرآن وهي : اخطانا ، احدا ، حملته ، تحملنا ، فانصرنا.
بين الذكر والإستغفار
النسبة بين الذكر والإستغفار هو العموم والخصوص المطلق ، إذ أن الذكر أعم .
ومن خصائص آية البحث بعثها المسلمين على الإستغفار وتنمية ملكته عندهم ، وترغيب الناس بالتوحيد الذي يتقوم به الإستغفار.
و(عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك عَلَيّ .
وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة .
ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة)( ).
ومع أن الإستغفار ذكر فانه طريق إلى الذكر ، وتذكير بالتحميد والتسبيح وتلاوة آيات القرآن .
وقد تضمنت آية البحث الإستغفار [فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا]( )، لبيان الإعجاز في آية البحث .
ويكون من مضامين آية البحث وجوه :
الأول : صبغة التلاوة القرآنية .
الثاني : قراءة آية البحث إقرار بالربوبية المطلقة لله تعالى ، وهي تأكيد لتلاوة سورة الفاتحة والتي تسمى أيضاً سورة الحمد ، وسورة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني)( ).
الثالث : آية البحث من ذكر الله عز وجل إذ تبدأ بالنداء (ربنا) وتختتم بسؤال الوفاة مع الصالحين الأبرار ، لبيان أن الوفاة وخاتمة أعمال الإنسان في الدنيا بيد الله ، فخشي المؤمنون الزيغ فلجأوا إلى الله عز وجل للتوفيق لتعاهد سنن التلاوة والذكر على ألسنتهم .
الرابع : اللجوء إلى النداء العام (ربنا) مقدمة عبادية حسنة للإستغفار.
ومن الإعجاز في المقام تكرار النداء (ربنا) في آية البحث مرتين لإظهار العبودية لله ، وبيان حب المسلمين له ، وفي التنزيل [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
قانون عدم التعارض بين المناجاة وطلب الرزق
لقد ابتدأت الآية بالمناجاة من المسلمين والمسلمات (ربنا) وشكرهم لله عز وجل على بعثه النبي محمداً رسولاً للناس جميعاً ، ويدل على صيغة العموم تنكير النداء في آية البحث [مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ] من غير تعيين المنادَى بفتح الدال ، ويفيد التنكير في مقام الإثبات العموم .
وهل يتضمن نداء الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإيمان إقامة الصلاة وذكر الله على كل حال كما في آية السياق ، الجواب نعم ، وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي اذكروا الله قياماً .
الثاني : اذكروا الله قعوداً .
الثالث : اذكروا الله على جنوبكم .
وهل المقصود بالذكر في الهيئات المختلفة في آية السياق خصوص الصلاة اليومية ، وعلى كل حال من الصحة والمرض.
الجواب الآية أعم ، فيشمل الذكر في المقام حال الصلاة وخارجها ، قال تعالى [فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
فتتضمن الآية أعلاه ذكر الله على كل حال خارج الصلاة وبعد إنقضائها ، وورد قي صلاة الجمعة قوله تعالى [فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) لبيان قانون ذكر الله كثيراً لا يتعارض مع السعي في الأرض وطلب الرزق ، فيمكن الجمع بينهما.
وهو من الإعجاز في آية السياق خاصة وأن ذكر الله يأتي على اللسان جهراً وإخفاتاً لتوكيد قانون عدم وجود حاجب بين الإنسان وذكر الله ، وقانون لا تستطيع الخلائق منع الإنسان من ذكر الله .
قوله تعالى [أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا]
(أن ) تفسيرية تفيد التبيين ، وهي حرف مهمل لا عمل له ، وسبقتها جملة فيها معنى القول ، وتتأخر عنها جملة [فَآمَنَّا].
ومنها قوله تعالى [فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ اصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا]( ).
والمتبادر من النداء أنه للحرب أو الإستغاثة ، أو لدفع البلاء أو لجلب نفع طارئ ، ولكن آية البحث قيدت النداء بأنه للإيمان ، لبيان قانون في الإيمان خير الدنيا والآخرة.
فمن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوته الناس جميعاً إلى الإيمان ، وهذه الدعوة خاصة وعامة ، أما الخاصة فللعشيرة والأقربين منه ، قال تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ) وأما العامة فهي للناس جميعاً ، وسور الموجبة الكلية في الدعوة هو الإيمان بالله عز وجل إلهاً وسيداً ورباً ، وهو الذي يبعث الأنبياء بالأوامر والنواهي ، والبشارات والإنذارات .
وتلقي المسلمون والمسلمات نداء الإيمان بالقبول الفوري لمقام الفاء في [فَآمِنُوا] فان قلت ليس كل المسلمين بادروا إلى دخول الإسلام ، فمن الناس من حارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد والخندق ، ثم دخل الإسلام الجواب شملهم الإخبار عن السبق في الإيمان بلطف من عند الله عز وجل .
(وقد قال صلى الله عليه وسلم : الإسلام يجب ما قبله)( ).
و(عن أبي أيوب الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين وذلك أنه لم يصل معي أحد غيره)( ).
ومن خصائص الإيمان ملائمته للفطرة السليمة ، وفي تلقيه بالقبول تنزه عن المكابرة والمعاندة والجحود .
وتدل الآية على التوبة والإنابة لأن الإيمان اعتقاد وقول ، وفعل وامتثال للأوامر الإلهية ، وإجتناب لما نهى الله عز وجل عنه .
وتبين الآية أن المسلمين والمسلمات لم يؤمنوا طمعاً أو لأغراض دنيوية بدليل ورود [فَآمَنَّا] على نحو الإطلاق من غير شرط أو تردد أو تسويف أو تأجيل ، وفيه ثناء على المسلمين.
وتقديره : فأمنا بكل ما ورد في القرآن والسنة النبوية .
وهل تشمل الآية أجيال المسلمين الذين يولدون لأبوين أو أحدهما مسلم ، الجواب نعم ، وهو من أسرار تلاوة المسلمين القرآن في الصلاة اليومية .
يتضمن نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمرين :
الأول : مناداة الناس لجذبهم للإيمان اعتقاداً وعملاً ، قال تعالى [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ]( ).
الثاني : مناداة الناس للإيمان بالله تعالى إلهاً ورباً .
والنسبة بين النداءين عموم وخصوص مطلق ، فالثاني أخص وهو الأصل الذي يبتنى عليه الإيمان .
وفيه منع للجهالة والغرر إذ تتضمن الآية تعيين سنخية الإيمان لتبعث على التفقه في الدين ، والإحتراز من مفاهيم الشرك والضلالة.
وفي الآية مسائل :
الأولى : لا ينعقد الإيمان إلا بالإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
الثانية : مع الإيمان بالله يأتي الرزق الكريم ، ومنه التوفيق للدعاء بالمغفرة ومحو السيئات ، كما في آية البحث .
الثالثة : لا يختص الدعاء في المقام بالمغفرة والستر ، إنما يشمل سؤال الرزق والعافية والأمن ونحوها .
ترى لماذا اختصت الآية بسؤال المغفرة والستر ، الجواب إنهما حاجة في النشأتين ، ومقدمة للرزق الكريم والسعادة ويسر الحال ، وفي التنزيل [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ) .
الرابعة : لقد قدّم المسلمون سؤال الحاجات الأخروية بسؤال المغفرة والستر ، وليبدأوا حياة جديدة تتصف بالعز والأمل ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
خصال المسلمين الحميدة
امتاز نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصال :
الأول : النداء للإيمان بالله ، وإيمان المسلمين هذا دعوة للناس جميعاً للهدى والإيمان ، وزجرهم عن محاربة النبوة والتنزيل.
ويدل بالدلالة الإلتزامية على خسارة وخيبة الذين يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي معركة أحد قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الثاني : النداء للإيمان بالملائكة ، قال تعالى [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ]( ).
ومن معاني الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث بيان أفراد ومصاديق الإستجابة لنداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معاني الإيمان بالملائكة التصديق بالوحي الذي تنزل به الملائكة ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ]( ).
الثالث : الإيمان بالكتب التي أنزلها الله عز وجل على الأنبياء كالتوراة التي نزلت على موسى عليه السلام والزبور الذي أنزل على داود.
والزبور : الكتاب ، يقال زبرت الكتاب إذا كتبته ، قال تعالى [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ]( )، والجمع الزُبر ، قال تعالى [وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ]( ).
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أعطيت السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطيت المبين مكان الانجيل ، وأعطيت المثاني مكان الزبور ، وفضلت بالمفصل)( ).
و(ذكر أسلم أن عمر بينما هو قائم في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم وإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه وهو يقول : أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقال له عمر : ما شأنك.
قال : أسلمت لله قال : هل لهذا سبب.
قال : نعم ، إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيرا من كتب الأنبياء فسمعت أسيرا يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة فعلمت أنه من عند الله فأسلمت.
قال : ما هذه الآية ، قال قوله تعالى [وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ]( ) في الفرائض [وَرَسُولَهُ] في السنن [وَيَخْشَ اللَّهَ] فيما مضى من عمره [وَيَتَّقْهِ] فيما بقي من عمره [فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ] والفائز من نجا من النار وأدخل الجنة)( ).
الرابع : إيمان المسلمين والمسلمات بالأنبياء والرسل جميعاً ، وفي التنزيل [لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ]( ).
علوم مستحدثة في هذا السِفر
الأول : علم (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وقد صدرت الأجزاء (206-207-208-214-215-223-240-241-242-248) من هذا السِفر بعنوان (آيات السلم محكمة غير منسوخة) في رد على المشهور بأن آية السيف نسخت أكثر من مائة آية من القرآن .
الثاني : علم (آيات الدفاع سلام دائم) وقد صدر بخصوص هذا العلم الأجزاء (142-205-217-218-231-232-257) من هذا السِفر .
الثالث : علم (التضاد بين القرآن والإرهاب) وقد صدرت بخصوصه الأجزاء (184-185-188-195-198-199-203-210-211-219-235-236-238-243-246-252) من هذا السِفر .
الرابع : علم (لم يغز النبي محمد (ص) أحدا) والذي صدرت بخصوصه الأجزاء ((164-165-166-168-169-170-171-172-174-176-177-178-180-181-182-183-187-193-196-204-212-216-221-229-239-256) من هذا السِفر .
الخامس : علم (تفسير النبي (ص) للقرآن) وصدر بخصوصه الجزءان (253-254) من هذا السِفر .
قوله تعالى [رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا]
ترى لماذا ابتدأ هذا الشطر من الآية بتكرار نداء الربوبية المطلقة [رَبَّنَا] المختار تأكيد المسلمين لتلقي نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان ، وقوله [أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ] بالإستجابة والإمتثال ورجاء فضل الله .
إذ كانت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على شعبتين :
الأولى : عامة وهي الإيمان .
الثانية : خاصة وهي الإيمان بالله عز وجل إلهاً ورباً.
فسأل المسلمون الله عز وجل بمحو الذنوب والعفو عنهم ، وستر عيوبهم وخطاياهم أمام الملائكة وعند الناس في الدنيا ، وبين الخلائق في المحشر ليكون هناك تباين بين المؤمنين والكفار باحتراز المسلمين بالإيمان والدعاء ، قال تعالى [وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا]( ).
فيفعل المسلم والكافر ذات الذنب ، ولكن يفاجئ الكافر بمحو ذات الذنب عن المسلم بينما هو ثابت وشاهد عليه ، فيسأل فيقال له إن المسلم قال [رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا] فاستجاب الله له وغفر له ذنوبه وهو لا يزال في الدنيا قبل أن يموت وهو من مصاديق الصلة بين أول وآخر الآية بأن يكون من معاني [وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ]( ).
بالمغفرة وبياض صحيفة الأعمال وخفة الكاهل من الذنوب والسيئات .
فيكون من تقدير آية البحث : فاغفر لنا ذنوبنا الآن ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
فكاك أسرى بدر بالتعليم
لقد وقع سبعين أسيراً من المشركين بيد المسلمين يوم بدر في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة وكان بدل فكاك كل واحد منهم أربعة ألاف درهم فضة ، ومن لم يستطع هو وأهه وعشيرته في مكة دفع هذا المبلغ يقوم بتعليم عشرة من صبيان المدينة الكتابة .
و(خرج الامام أحمد من حديث عكرمة عن ابن عباس قال: كان ناس من الاسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء فجعل رسول – الله صلى الله عليه وآله فداءهم ان يعلموا أولاد الانصار الكتابة.
قال: فجاء غلام يبكى إلى أبيه، فقال: ما شأنك ، قال ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بذحل بدر، والله لا تأتيه ابدا، وقال عامر الشعبى: كان فداء الاسرى من اهل بدر اربعين اوقية. اربعين اوقية، فمن لم يكن عنده علّم عشرة من المسلمين، فكان زيد بن ثابت ممن عُلم)( ).
العباس بن عبد المطلب
ولما جعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على كل أسير أربعين أوقية من الذهب كان مع عمه العباس ذهب لأنه واحد من ثلاثة عشر من رؤساء قريش ضمنوا لجيش المشركين اطعامهم في الطريق ، كان كل واحد يذبح تسعة أو عشرة أباعر (العباس عشرون أوقية من ذهب ، فأخذها منه ولم يحسبها من فدائه؛ وكان قد خرج بها معه ليطعم بها أهل بدر من المشركين ، لأنه أحد الثلاثة عشر الذين ضمنوا إطعام أهل بدر؛ وقد جاءت توبته فأراد أن يطعمهم ، فاقتتلوا يومئذ فلم يطعمهم ، حتى أخذ وأخذ ما معه؛ فكلَّم العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل العشرين أوقية من فدائه ، فأبى عليه وقال : هذا شَيْءٌ خَرَجْتَ لِتَسْتَعِينَ بِهِ عَلَيْنَا فَلا نَتْرُكُهُ لَكَ)( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعباس قائلاً (يا عباس أفد نفسك وابن أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن جحدم أحد بني الحارث بن فهر)( ).
وجرى جوار بينهما ، إذ العباس (علام ندفع وقد استكرهنا على الخروج ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لقد كنت في الظاهر علينا).
ثم قال العباس : تترك عمك يسأل الناس يكفه ، وفي رواية : لقد تركتني فقير قريش ما بقيت .
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فأين المال الذي وضعت بمكة حين خرجت عند أم الفضل بنت الحارث ليس معكما أحد ثم قلت لها ان أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا ولعبد الله كذا وكذا قال والذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيري وغيرها واني لاعلم انك رسول الله ففدى العباس نفسه وابن أخيه وحليفه قال أخبرنا إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس قال حدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة بن أخي موسى بن عقبة عن موسى بن عقبة بن بن شهاب عن أنس بن مالك قال قال رجل من الأنصار لرسول الله صلى الله عليه و سلم ائذن لنا فلنترك لابن أخينا العباس بن عبد المطلب فداه فقال لا ولا درهما قال أخبرنا علي بن عيسى النوفلي عن أبيه عن عمه إسحاق بن عبد الله عن عبد الله بن الحارث قال فدى العباس نفسه وابن أخيه عقيلا بثمانين أوقية ذهب ويقال ألف دينار.
قالوا وخرج العباس الى مكة فبعث بفدائه وفداء بن أخيه ولم يبعث بفداء حليفه.
فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم حسان بن ثابت فأخبره ورجع أبو رافع فكان رسول العباس بفدائه فقال له العباس ما قال لك فقص عليه الأمر فقال وأي قول أشد من هذا احمل الباقي قبل ان تحط رحلك فحمله ففداهم العباس)( ).
ونزل قوله تعالى [إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وتمر الأيام وينتقل العباس بن عبد المطلب إلى المدينة .
و(عن حميد بن هلال العدوي ان العلاء بن الحضرمي بعث الى رسول الله صلى الله عليه و سلم من البحرين بثمانين ألفا فما أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم مال كان أكثر منه لا قبل ولا بعد.
فأمر بها فنشرت على الحصير ونودى بالصلاة .
فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فمثل على المال قائما وجاء الناس حين رأوا المال وما كان يومئذ عدد ولا وزن ما كان الا قبضا فجاء العباس.
فقال يا رسول الله اني أعطيت فداي وفدى عقيل بن أبي طالب يوم بدر ولم يكن لعقيل مال فأعطني من هذا المال فقال خذ.
قال فحثا العباس في خميصة كانت عليه ثم ذهب ينهض فلم يستطع فرفع رأسه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ارفع علي.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج ضاحكه أو نابه قال ولكن أعد في المال طائفة وقم بما تطيق ففعل فانطلق بذلك المال وهو يقول اما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزها ولا أدري ما يصنع في الأخرى يعني قوله [قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ]( )، فهذا خير مما أخذ مني ولا أدري ما يصنع في المغفرة)( ).
وفيه مفخرة للمهاجرين والأنصار ومواساة من الإمام علي عليه السلام وحمزة بن عبد المطلب ، إذ يأتي العباس وهو عم النبي وعقيل بن أبي طالب مع جيش المشركين ، بعد أن رجع جماعة من بني هاشم من الطريق إلى بدر منهم طالب بن أبي طالب ، وإلى جانب شدة ايذاء أبي لهب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزلت سورة كاملة من القرآن في ذمه وزوجته ، قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ).
تبت أي قطعت .
وفي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسرى بتعليم صبيان المدينة القراءة والكتابة وجوه :
الأول : قانون الإسلام دين العلم والمعرفة ، وأول آية نزلت منه هي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ).
الثاني : من السنة النبوية الإرتقاء العلمي للمسلمين وبداية جيل العلم .
الثالث : إتخاذ الكتابة وسيلة لتدوين آيات القرآن ، وهو من مصاديق سلامته من التحريف والزيادة والنقصان ، قال تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
ولبيان أن قوله تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]( )إنما ورد من باب المثال الأمثل في العناية والرأفة بالأسرى ، وليس الحصر .
الخامس : إلى جانب العناية بالأسرى تحمل المهاجرون والأنصار الأذى الصادر من الأسرى من غير معاقبتهم أو الإنتقام منهم .
السادس : صيرورة الأسرى دعاة للإسلام عند عودتهم إلى مكة سواء قصدوا هذه الغاية السامية أو لا .
وفي خطبة الوداع قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (اللهم أشهد ، فليبلغ الشاهد الغائب فربّ مبلغ أوعى من سامع )( ).
ويقال وعيت الحديث أعيه وعياً فانا واع أي فهمته ، وفلان أوعى من فلان ، أي أفهم وأنبه وأحفظ .
فقد يحتمل العلم والفقه وآيات التنزيل غير المسلم وغير الفقيه لغيره فيتدبر فيه ويهتدي بأنواره .
لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة قبل الهجرة إذا رأى زائراً غريباً للبيت الحرام جلس بجواره وتلا عليه آيات القرآن ,ومن الإعجاز في السور المكية أنها قصيرة ذات نظم بديع ، وسرعان ما يحفظها الإنسان مع إحتمال تلقي الضرر من قريش ، خاصة في الأشهر الحل غير الحرم .
كما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في السعي بين وفود القبائل في موسم الحج لأنها أشهر حرم .
السابع : تأسيس النبوة لوظيفة للأسير مبينة على العلم والمعرفة ، وعدم إبقاء الأسير في الأسر بعد أداء هذه الوظيفة ، فالمتعارف أن فكاك الأسرى يكون بشروط بين طرفي الصراع ، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أمر الأسير بتعليم عشرة صبيان ليطلق سراحه .
الثامن : لم يسترق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً من الأسرى .
التاسع : أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم الأسير لعشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة ، إنما تم بالوحي لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) لبيان أن الوحي خير محض ، ونفع عام للأجيال .
العاشر : لم يقيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التعليم بأبناء الأنصار بل لصبيان المدينة ، أي من الأوس والخزرج ، ومن أبناء المهاجرين إن وجدوا .
لفظ (مالك) في القرآن
من إعجاز القرآن ورود لفظ (مالك) ثلاث مرات في القرآن ، اثنتين لله عز وجل وهما :
الأولى : قوله تعالى [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( )، الآية الرابعة من سورة الفاتحة والتي يقرأها كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم على نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية عدا القراءة المستحبة .
الثانية : قوله تعالى [قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
لبيان ملكية الله المطلقة لما في الدنيا والآخرة .
أما الثالثة فتتعلق بنداء أهل النار لخازنها [وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ]( ).
و(عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون بالطعام ، فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة.
فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب ، فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد ، فإذا ذنت من وجوههم شوت وجوههم ، وإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم.
فيقولون : ادعوا خزنة جهنم فيدعون خزنة جهنم إن [ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ]( ) فيقولون [أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ]( ).
فيقولون ادعوا مالكاً فيقولون [يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ]( ) فيجيبهم إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ( ).
وهل يقي صيام شهر رمضان المسلمين من جوع يوم القيامة وإفطارهم من الطعام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع .
الجواب نعم ، لذا ورد (عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل جعل حسنة ابن آدم بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم، والصوم لي وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره وفرحة يوم القيامة، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)( ).
وفي فرحة الصائم يوم القيامة شربه من حوض الكوثر ، وعصمته من الجوع والعطش في المحشر بدخول الجنة من باب الريان.
و(عن أنس مرفوعاً : في الجنة نهر يقال له الريان ، عليه مدينة من مرجان ، لها سبعون ألف باب من ذهب وفضة ، لحامل القرآن)( ).
وهل يحضر للصائم يوم القيامة إفطاره في الدنيا ، المختار نعم ليكون سكينة وبشارة ونواة ومادة للنعم في المأكول والمشروب .
ومع ورود لفظ [الْمُلْكِ] لإرادة الملِك والتمليك احدى وثلاثين مرة فانه لم يرد اسم (الملك) لله عز وجل إلا أربع مرات ، قال تعالى [فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ]( ).
مع بيان آيات القرآن بأن الملك لله وحده ، قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وورد لفظ (الملك) ثلاث مرات في آية واحدة وهي قوله تعالى [قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
قوله تعالى [وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا]
بيان قانون من خصائص الإيمان إدراك الحاجة إلى المغفرة والإجتهاد في الإستغفار ، وهو نعمة عظمى من فيوضات الإيمان ، لبيان أمور :
الأول : قانون الإيمان خير محض .
الثاني : قانون الإيمان حرز إلى الآخرة.
الثالث : حاجة كل إنسان للعفو والمغفرة والصفح من عند الله ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ]( ).
وهو من أسرار فرض خمس صلوات في اليوم والليلة على كل مسلم ومسلمة .
ومن وجوه تقدير الآية :
الأول : وكفر عنا سيئاتنا لهدايتنا للإيمان .
الثاني : وكفر عنا سيئاتنا لإتباعنا نبيك محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : وكفر عنا سيئاتنا رحمة منك .
الرابع : واستر سيئاتنا فلا يستر الذنوب إلا أنت .
الخامس : تسليم المسلمين بأن الموت حق ، ومغادرة الناس دار الحياة الدنيا أمر حتم .
السادس : إدراك المسلمين الحاجة لمصاحبة الإيمان لحين الوفاة .
السابع : قانون الإستعداد للموت بالدعاء ، ومنه سؤال الموت مع الأبرار الأتقياء وفيه توسل من المسلمين ليستقبلهم في عالم البرزخ المؤمنون الذين سبقت مغادرتهم الحياة الدنيا .
والمختار أن النسبة بين الذنب والسيئة عموم وخصوص مطلق فالذنب أعظم إثماً ، وكأنه من عطف الخاص على العام .
إن عرض سيئات الإنسان أمام الخلائق يوم القيامة نوع خزي له.
و(عن ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يأتي الله بالمؤمن يوم القيامة فيقربه منه حتى يجعله في حجابه من جميع الخلق ، فيقول له : اقرأه . فيعرفه ذنباً ذنباً فيقول : أتعرف أتعرف؟ فيقول : نعم ، نعم . فيلتفت العبد يمنة ويسرة.
فيقول له الرب : لا بأس عليك يا عبدي أنت كنت في ستري من جميع خلقي وليس بيني وبينك اليوم من يطلع على ذنوبك ، اذهب فقد غفرتها لك بحرف واحد من جميع ما أتيتني به .
فيقول : يا رب ما هو؟ قال : كنت لا ترجو العفو من أحد غيري فهانت علي ذنوبك ، وأما الكافر فيقرأ ذنوبه على رؤوس الأشهاد هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ( ).
قانون الثناء على المؤمنين
في الآية ثناء على أهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار لإختيارهم الإيمان عندما سمعوا نداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فآمنوا وحملوا السيوف للدفاع عنه وعن التنزيل .
فمن مفاهيم الآية أيضاً أن الكفار من مشركي قريش وحلفائهم سمعوا نداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان فجحدوا .
ولم يكتفوا بالإصرار على الإستكبار والصدود عن الدعوة إلى الله بل حملوا السيوف وحشدوا الجيوش وساروا إلى المدينة غزاة في معركة بدر وأحد والخندق يبتغون غايات خبيثة منها قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه تجاهر المشركين بطلب قتله بالتهديد والوعيد وطلبهم من أبي طالب تسليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، وبعد الهجرة سعوا إلى قتله في ميدان المعارك ، وعندما عجزوا سعوا في محاولات اغتياله مرة بعد أخرى ، لتكون هذه المحاولات حجة عليهم لأنها تكتشف بالمعجزة بمرآى ومسمع من الصحابة ، فيكون من مصاديق قولهم في آية البحث [فَآمَنَّا]( ) وجوه :
الأول : قانون سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإغتيال تثبيت للإيمان في صدور المسلمين .
الثاني : قانون سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإغتيالات سبب لدخول طائفة من الناس الإسلام .
الثالث : قانون دخول رهط من الناس الإسلام مع كل معركة من معارك الإسلام .
الرابع : قانون توالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جعل أقواماً يتخلون عن الكفر وإعانة قريش في حربها عليه وعلى التنزيل .
قانون بيان ضروب العبادة
ولما أخبر الله عز وجل عن علة خلق الجن والإنس بقوله [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) فانه تعالى تفضل بأمور :
الأول : بيان مصاديق العبادة .
الثاني : ذكر طرق العبادة .
الثالث : بعثة الأنبياء والمرسلين بضروب العبادة ، والنهي عن الشرك وعن التكاسل في العبادة ، قال تعالى [ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ]( ).
الرابع : تقريب الناس لنداء الإيمان وأداء الفرائض العبادية ، ومن هذا التقريب نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس بالإيمان .
ومن مفاهيم الآية قانون فتح باب الدعاء للمسلمين ، فحالما اعلنوا إيمانهم بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم توجهوا بالدعاء [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا]( ) .
ترى لماذا لم يسألوا المال والجاه والسلطان ، الجواب تبين الآية تقديم الأهم ، وهو الفوز بالمغفرة وقانون الفقر في الآخرة إلا من رحم الله.
ليكون من معاني قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( )، أي انتم الفقراء في الدنيا والآخرة إلى الله ، وفقر الآخرة هو الأشد والأطول مدة ، وهذا الفقر لا يتعارض مع قوله تعالى [أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
كما أن القرآن كتاب الدعاء إذ ورد في التنزيل [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ) والحسنة هنا مطلقة تشمل الخير والمال والصلاح والولد .
الدعاء بالمأثور
أي الدعاء الوارد في القرآن والسنة ، وفيه تقرب من رحمة الله ، وقصد باب من أبواب السماء ، وإمتناع عن اللحن والخطأ ، وعن غلبة النفس الغضبية والشهوية .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (قال النبي صلّى الله عليه وآله : إنّ الرجل الأعجمي من أُمتي ليقرأ القرآن بعجمته فترفعه الملائكة على عربيّته)( ).
قال أحدهم للإمام الصادق عليه السلام : أني أخترعت دعاءً فقال عليه السلام : دعني من اختراعك وعلّمه دعاء .
ومن خصائص الأدعية المأثورة أنها جامعة لحاجات الدنيا والآخرة .
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما مررت على الركن إلا رأيت عليه ملكاً يقول آمين ، فإذا مررتم عليه فقولوا : (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار( ))( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم إنحصار الأدعية المأثورة بالقرآن إذ وردت أدعية من السنة النبوية التي هي فرع الوحي .
وعن (الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، اللهم اجعل في سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وفي قلبي نوراً.
اللهم اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، وأعوذ بك من وسواس الصدور ، وتشتت الأمور ، وعذاب القبر.
اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل ، وشر ما يلج في النهار ، وشر ما تهب به الرياح ، شر بوائق الدهر)( ).
ولم يقف الدعاء بعد الإيمان على آية البحث بل جاءت الآية التي بعدها بأدعية أخرى ، لبيان وجوه :
الأول : قانون إلحاح المسلمين بالدعاء .
الثاني : قانون الدنيا دار الدعاء .
الثالث : قانون إستجابة الله عز وجل للمؤمنين في أدعيتهم لقوله تعالى في الآية بعد التالية [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ]( ) وتدل خاتمة الآية [وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ] ( ) على وجود طائفة من الناس يتوفاهم الله عز وجل مع الفجار والفاسقين.
لتبين الآية حاجة الإنسان للنجاة من الفجور ، ومن مصاحبة الفجار في الدنيا والآخرة ، ولا تكون هذه النجاة إلا بالإيمان ففيه العصمة من الفجور ، ومن إغواء النفس الشهوية ووسوسة الشيطان.
ومن الإيمان كثرة الدعاء بالمأثور الوارد في القرآن كما في آية البحث والآيتين اللتين قبلها ، والآية التي بعدها .
قوله تعالى [وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ]
الأبرار جمع بار وهو الصادق في إيمانه وطاعته لله ، والذي يدأب على عمل الصالحات ، وضد الأبرار الفجار .
ولم يرد لفظ [مَعَ الْأَبْرَارِ]في القرآن إلا في آية البحث لبيان أنها معية حكمية وليس مصاحبة زمانية ، فالمقصود الأبرار من الأولين والآخرين.
وورد لفظ (الأبرار) خمس مرات والأربعة الأخرى كلها بخصوص أهل النعيم في الجنة وهي :
الأولى : قوله تعالى [إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا]( ).
الثانية : قوله تعالى [إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ]( ).
ترى لماذا لم تقل الآية (واحشرنا مع الأبرار) الجواب للدلالة على أن أهوال الآخرة وحاجة الإنسان للرحمة فيها من حين الوفاة وقبض الروح ، ودخول القبر وشدة ضيقه.
وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (من مات فقد قامت قيامته)( ).
ترى لماذا لم يقل المؤمنون توفنا أبراراً ، الجواب من جهات :
الأولى : إرادة حال الوفاة ، ومغادرة الدنيا وهي سكون وليس عملاً.
الثانية : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفتهم لطبقات وأحوال الناس.
الثالثة : إجتهاد المسلمين لاتباع نهج الأنبياء ، وسيرة الصالحين .
الرابعة : ثناء المسلمين على أهل طاعة الله من المتقدمين والمتآخرين ، من الأنبياء وأتباعهم ، ومن الذراري التي لم تأت بعد.
الخامسة : شهادة المسلمين للصالحين والمسلمين الذين سبقوهم في مغادرة الدنيا .
السادسة : دعاء المسلمين للأجيال اللاحقة منهم برفق ملك الموت بأبنائهم ، وهو من بر الآباء بالأبناء .
السابعة : رجاء المسلمين إصلاحهم لمراتب الأبرار السامية في القول والعمل ، وعدم مغادرة الدنيا إلا بالصلاح .
الثامنة : إدراج أسماء المسلمين في كتاب الأبرار.
و(عن ابن عباس سأل كعب الاحبار عن قوله [كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ]( )، قال: إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها فيهبط بها إلى الارض فتأبى الارض أن تقبلها فيدخل بها تحت سبع أرضين حتى ينتهى بها إلى سجين وهو موضع جند إبليس ، فيخرج لها من تحت جند إبليس رق لهلاكه للحساب، فذلك قوله (وما أدريك ما سجين كتاب مرقوم)( ).
ومثله ورد في الدر المنثور( ).
التاسعة : سؤال المسلمين الله عز وجل بأن يحشرهم مع الأبرار ، قال تعالى [إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا]( ).
العاشرة : إقرار المسلمين بالمعاد وعالم الآخرة بدليل سؤالهم الوفاة والحشر مع الأبرار وشوقهم للنعيم الأبدي والنجاة من سوء عاقبة الفجار ، قال تعالى [إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ]( ).
الحادية عشرة : استحضار المسلمين مجتمعين ومتفرقين للموت ومغادرة الدنيا .
وفي حديث طويل (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أكثروا ذكر الموت فإنه هادم اللذات.
واعلموا عباد الله أن ما بعد الموت أشد من الموت لمن لا يغفر الله له ويرحمه واحذروا القبر وضمته وضيقه وظلمته فإنه الذي يتكلم كل يوم يقول: أنا بيت التراب وأنا بيت الغربة وأنا بيت الدود. والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار)( ).
الثانية عشرة : دلالة معية المسلمين مع الأبرار على أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فالأبرار أعم وعنوان شامل للمؤمنين من الأولين والآخرين .
الثالثة عشرة : ترغيب الناس بالإرتقاء إلى مرتبة الأبرار بالإيمان والعمل الصالح ، والإحسان ، ومنه بر الوالدين ، قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا]( ).
وورد لفظ (الوالدين) في القرآن خمس مرات بصيغة الاسم المجرور ، وورد ثلاث مرات بصيغة الرفع اثنتين منها في آية واحدة من آيات الميراث ، قال تعالى [لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا]( ).
وإقرار المسلمين بالموت والمعاد باعث لهم للإستغفار ، وواقية من إرتكاب السيئات ودعوة للناس للهداية والرشاد ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
فمع سؤال المسلمين والمسلمات مغفرة الذنوب فانهم احتاطوا لأنفسهم بالدعاء أن يتوفاهم الله مع الأبرار ومن معانيه أن يقيهم الله ارتكاب الذنوب وفعل السيئات في أيام حياتهم ما بين هذا الإستغفار وطلب ستر الخطايا وبين مغادرة الدنيا .
فمن معاني قوله تعالى [وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ]( )، خشية الإفتتان ومن خصائص الأبرار أنهم سمعوا النداء للإيمان فآمنوا وتعاهدوا الإيمان إلى أن غادروا الدنيا.
وتقدير الآية : وتوفنا مع الذين توفيتهم أبراراً.
وهل يصلح تفسير الآية : والذين سوف تتوفاهم أبراراً ، الجواب نعم.
لأن ظاهر الآية مطلق شامل لأفراد الزمان الطولية.
ومن مصاديق تكرار النداء (ربنا) في آية البحث أن وفاة الإنسان بيد الله من وجوه :
الأول : أوان الوفاة والإنتقال إلى عالم الآخرة .
الثاني : محل قبض الروح ، قال تعالى [وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ]( )، ليكون هذا العلم من العلم الذي اختصه الله لنفسه .
الثالث : حال وملة الإنسان عند الموت ، لذا تضرع المسلمون إلى الله عز وجل بأن يتوفاهم على ملة الإسلام ، وسنن الإيمان .
الرابع : رجحان كفة الحسنات عند الموت أو لا ، وقد يمدّ الله عز وجل في عمر إنسان ليتوب ويزيد من فعل الحسنات ، ويلتحق بالأبرار .
وقد يقصر عمره لإنقاذه من الإفتتان وإرتكاب السيئات ، لذا فان من معاني (توفنا مع الأبرار) سؤال أطالة العمر مع عمل الخيرات وإكتناز الحسنات .
ولم يرد لفظ [تَوَفَّنَا] في القرآن إلا مرتين ، واحدة في آية البحث ، والأخرى في سحرة فرعون الذين تابوا إلى الله عندما رأوا معجزة عصا موسى ووعدهم فرعون بأنه سيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف فاجابوا [قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ]( ).
والمختار أن النسبة بين المسلمين والأبرار هي العموم والخصوص المطلق ، فالأبرار أخص لذا سأل أجيال المسلمين الله عز وجل أن يتوفاهم مع الأبرار ، لقانون الدعاء بالأخص والأتم .
علم المناسبة
لم يرد لفظ [وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ]( )، في القرآن إلا في آية البحث ، وورد لفظ (توفنا) مرتين في القرآن ، والثانية بخصوص سحرة فرعون بعد توبتهم كما ورد في التنزيل [وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ]( ).
ونادى السحرة الله عز وجل بذات نداء المسلمين في آية البحث ، نداء الربوبية المطلقة (ربنا) وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً يدعو في ساعة الشدة والعسر [َتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ].
كمار ورد عن الصحابي (رفاعة بن رافع الزرقي( ) قال : لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال النبي صلى الله عليه وسلم : استووا حتى أثني على ربي ، فصاروا خلفه صفوفاً.
فقال : اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لما أضللت ، ولا مضل لما هديت ، ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا مقرب لما بعدت ، ولا مباعد لما قربت.
اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف.
اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا ، اللهم حبب إلينا الإِيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين.
اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك ، واجعل عليهم رجزك وعذابك ، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب يا إله الحق)( ).
وورد لفظ (الإبرار) خمس مرات ، واحدة في هذه الآية ، والأربعة الأخرى في الجزئين الأخيرين من القرآن ، وكلها في الثناء على أهل الجنة وبيان حسن ثوابهم منها قوله تعالى [كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ]( ).
لبيان تفقه المسلمين في المعارف الإلهية وإيمانهم بالمنزلة الرفيعة للأبرار فلذا سألوا الله عز وجل أن يكونوا معهم من حين مغادرة الدنيا إذ يختلط المؤمن والكافر ، والتقي والفاجر في الدنيا في المعاملات والأسواق والمجتمع .
بينما عند الوفاة يكون الفصل والتمييز ، لبيان صبر المسلمين في الدنيا في تقوى وصلاح بانتظار ، المغادرة إلى دار النعيم.
بحث كلامي
تبين الآية عدم وجود فاصلة بين الحياة والموت فحالما تغادر الروم البدن ينتقل الإنسان إلى عالم البرزخ حيث يحتاج رحمة الله ، والله عز وجل هو الذي يتوفى الناس ، قال تعالى [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
وتدل نسبة وفاة الناس إلى الله عز وجل على أن تفويض ملك الموت بقبض الأرواح ليس تفويضاً تاماً فلا ينصرف ولا يقبض روحاً إلى بأمر وإذن من عند الله عز وجل ، قال تعالى [قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ]( ).
وفيه حضّ للمسلمين للتوجه بالدعاء إلى الله عز وجل بأمور :
الأول : تأجيل أوان الموت ، وهو من مصاديق [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، وقوله تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ]( ).
ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (الاجل المقضي هو المحتوم الذي قضاه الله وحتمه، المسمى هو الذي فيه البداء يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، والمحتوم ليس فيه تقديم ولا تأخير)( ).
الثاني : الدعاء لليسر والسهولة في قبض ملك الموت للروح ، وهو من مصاديق [وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ]( )، لقانون قبض ملك الموت أرواح الأبرار برفق ولطف .
الثالث : التوسل بمغادرة الدنيا على الهدى والإيمان وحسن العاقبة .
الرابع : الدعاء للموت بين الأهل والأحبة وليس في الغربة وحال الفزع.
الخامس : سؤال المسلم الله عز وجل أن يغادر الدنيا من غير أن يظلم أحداً .
و(عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)( ).
وفي حديث ابن عباس قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن (واتق دعوة المظلوم فانه ليس بينها وبين الله حجاب)( ).
ولله در القائل :
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً … فالظلم آخره يأتيك بالندم
نامت عيونك والمظلوم منتبه … يدعو عليك وعين الله لم تنم.
قانون التباين في قبض الأرواح
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إبتلاء وإمتحان ليبدأ الفصل بين المؤمنين والكفار من ساعة الوفاة وقبض الروح ، كما ورد في الحديث النبوي لبيان قانون نداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإستعداد لساعة الوفاة ، والسعي لزيارة ملك الموت للإنسان بأحسن صورة ، وإجتناب السخط الإلهي في كيفية قبض روح الكافر .
وفي حديث تميم الداري يرفعه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد أن ذكر قبض روح المؤمن بيسر وسلامته من العذاب الإبتدائي من قبل منكر ونكير في القبر قال (وأما الكافر فيقول الله لملك الموت : ويفتح الله لملك الموت انطلق إلى عبدي فائتني به فإني قد بسطت له رزقي وسربلته نعمتي فأبى إلا معصيتي فأئتني به لأنتقم منه اليوم .
فينطلق إليه ملك الموت في أكره صورة رآها أحد من الناس قط ، له اثنتا عشرة عيناً ومعه سفود من النار كثير الشوك ، ومعه خمسمائة من الملائكة معهم نحاس وجمر من جمر جهنم ، ومعهم سياط من النار تأجج .
فيضربه ملك الموت بذلك السفود ضربة يغيب أصل كل شوكة من ذلك السفود في أصل كل شعرة وعرق من عروقه ، ثم يلويه ليّاً شديداً ، فينزع روحه من أظفار قدميه ، فيلقيها في عقبيه ، فيسكر عدوّ الله عند ذلك سكرة وتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط .
ثم كذلك إلى حقويه ، ثم كذلك إلى صدره ، ثم كذلك إلى حلقه ، ثم تبسط الملائكة ذلك النحاس وجمر جهنم تحت ذقنه .
ثم يقول ملك الموت : أخرجي أيتها النفس اللعينة الملعونة إلى [سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم]( ).
فإذا قبض ملك الموت روحه قالت الروح للجسد : جزاك الله عني شرّاً فقد كنت بي سريعاً إلى معصية الله بطيئاً بي عن طاعة الله ، فقد هلكت وأهلكت ، ويقول الجسد للروح مثل ذلك ، وتلعنه بقاع الأرض التي كان يعصي الله تعالى عليها.
وتنطلق جنود إبليس إليه يبشرونه بأنهم قد أوردوا عبداً من بني آدم النار ، فإذا وضع في قبره ضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فتدخل اليمنى في اليسرى واليسرى في اليمنى ويبعث الله إليه حيات دهماء تأخذ بأرنبته وإبهام قدميه ، فتغوصه حتى تلتقي في وسطه.
ويبعث الله إليه الملكين فيقولان له : من ربك؟ وما دينك؟ فيقول : لا أدري فيقال له : لا دريت ولا تليت ، فيضربانه ضربة يتطاير الشرار في قبره ، ثم يعود ، فيقولان له : انظر فوقك ، فينظر ، فإذا باب مفتوح إلى الجنة فيقولان له عدو الله لو كنت أطعت الله تعالى ، هذا منزلك فوالذي نفسي بيده إنه ليصل إلى قلبه حسرة لا ترتد أبداً.
ويفتح له باب إلى النار.
فيقال : عدوّ الله هذا منزلك لما عصيت الله ، ويفتح له سبعة وسبعون باباً إلى النار يأتيه حرها وسمومها حتى يبعثه من قبره يوم القيامة إلى النار)( ).
ويدل قول المسلمين[وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ]على تفقههم في الدين ، قال تعالى[أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ]( ).
الفجار أي الذين يرتكبون المعاصي ويخرجون عن طاعة الله .
وعن الإمام الصادق عليه السلام (قال: جاء رجل إلى أبي ذر فقال: يابا ذر ما لنا نكره الموت ؟
فقال: لانكم عمرتم الدنيا، وأخربتم الآخرة، فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب، فقال له: فيكف ترى قدومنا على الله ؟
فقال: أما المحسن منكم فكالغائب يقدم على أهله، و أما المسيئ فكالآبق يرد على مولاه، قال: فكيف ترى حالنا عند الله ؟
قال: أعرضوا أعمالكم على الكتاب، إن الله يقول: ” إن الابرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ” قال: فقال الرجل: فأين رحمة الله .
قال رحمة الله قريب من المحسنين)( ).
ولم يقل المسلمون (توفنا ابراراً) إنما سألوا الله عز وجل أن يحشرهم مع الأبرار لبيان تصديق المسلمين بنبوة الأنبياء السابقين واتباع شطر من الناس لهم ، والنسبة بين الأبرار والأنبياء عموم وخصوص مطلق ، فالأبرار أعم لبيان قانون إنقطاع النبوة واستمرار وجود الأبرار في كل زمان ، وتدل آية البحث على أن كل جيل من المسلمين يدعو بأن يحشروا مع الأبرار وأهل التقوى .
قال تعالى [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ) ومن مفاهيم [وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ] العهد من المسلمين باداء الصلاة والصيام والفرائض العبادية الأخرى ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
وبخصوص الزكاة ورد حديث أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون واسمنه ، تطؤه باحقافها ، وتنطحه بقرونها ، كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس.
كما قيدت السنة وجوب الزكاة منها في الأنعام مثلاً من وجوه :
الأول : بلوغ النصاب ، والنصاب الأقل للإبل خمسة ، والبقر ثلاثون ، والغنم أربعون .
الثاني : أن يحول على الأنعام الحول ، بأن يمضي على تملكها حول كامل .
الثالث : لا تكون الأنعام عاملة ، فاذا كانت الإبل أو البقر تستعمل في السقي أو الحرث ونحوه فلا زكاة فيها عن الإمام علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ليس على العوامل شئ)( ) .
الرابع : أن تكون سائمة أي راعية في المرعى ، وتكتفي به في أغلب أيام السنة من الكلأ المباح ، أما المعلوفة فلا زكاة فيها . وقال المالكية بالزكاة في المعلوفة أيضاً .
الخامس : لا تجب الزكاة في الخيل ، وهي مستحبة في الخيل الإناث في كل فرس ديناران ذهب عيار 18 حبة .
رؤية الهلال
لا يثبت الهلال بقول المنجمين الذي غايته الظن ، ومشهور المذهب المالكي عدم اعتبار المنجم والحاسب لسير الكواكب وأكثر أصحاب أبي حنيفة.
ومنهم من منع الرجوع لقول المتجمين لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (من صدق كاهناً أو منجماً فهو كافر بما أنزل على محمد).
ولكن موضوع حساب الهلال يختلف ، فالمنجم هو الذي يستطلع النجم لمعرفة الوقائع التي تحدث في قادم الأيام ، لأن ما يحدث في الأرض قد يرى في السماء ، ولكن التنجيم لا يعد من الظن ويدحضه قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وقيل : كذب المنجمون ولو صدقوا) وهذا القول ليس بحديث ، نعم هم لا يصدقون ، وقد يوافق قولهم القدر .
قال تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ]( ).
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد.
وقال علي بن أبي طالب (عليه السلام) : الكاهن ساحر والساحر كافر)( ).
والكاهن هو الذي يدّعي العلم بالوقائع التي ستقع ، والعراف هو الحازر ، والمنجم الذي يدّعي معرفة ما يقع في الأرض بلحاظ حركة وتقارب النجوم ، ويسمى الزجر والطرق والتنجيم والعيافة .
والعرّاف والكاهن والمنجم والرّمال بمعنى واحد ، والرمال الذي يضرب الرمل او الحصى ، ويلحق بها قراءة الكف وقراءة الفنجان.
ترى ما هي النسبة بين علوم الظن وطرق الحساب القديمة ، وبين علوم الهلال في هذا الزمان وضبط تأريخ ولادته ، وتعيين البلدان التي يمكن معها من رؤيته بالعين المجردة ، والعين المسلحة .
الجواب نسبة التباين إذ يتصف هذا العلم بالدقة والضبط ، ولكنه ليس حجة شرعية بخصوص الهلال لموضوعية الرؤية لقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
اجتماع الضدين في شهر رمضان
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )
هذه الليلة هي الليلة الأولى من شهر رمضان من السنة الأربعمائة وخمس وأربعين بعد الألف .
قالوا في علم المنطق باستحالة إجتماع الضدين في محل واحد ، وأنه ليس لها مصداق في الواقع ، والضدان لا يجتمعان في مكان واحد ، ويمكن ارتفعهما معاً من كالسواد والبياض على الجدار فهما لا يجتمعان ، ولكن قد يرتفعان ويحل بدلاً عنهما اللون الأخضر أو الأصفر ، وقد أنشأت قانوناً أن قوانين الإرادة التكوينية تتخلف عنها العلوم الإنسانية والقواعد الوضعية كعلم اللغة والبلاغة والأصول والكلام ، والمنطق ، والفلسفة ، والفلك ، وعلم التفسير من باب الأولوية ، وقد صدر لي والحمد لله هذا الجزء وهو (259) من معالم الإيمان ولا زلت في سورة آل عمران ، وأقوم بالتأليف والمراجعة والتصحيح بمفردي بفضل ولطف من عند الله عز وجل .
فيجتمع الضدان في شهر رمضان ، فمع الجوع والعطش طيلة ساعات النهار ، والإمتناع عن اللذة التي أباحها الله فأن المسلمين والمسلمات يستقبلون هذا الشهر بالغبطة والسرور والسعادة ، وقد أكرمه الله إذ افرده بذكره بالاسم في القرآن من بين شهور السنة ، وأنزل فيه القرآن ، قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) وإرادة الله بنا اليسر من الشواهد في المقام ، فمع شدة التكليف بالصيام ثلاثين يومياً ، فقد وعد الله عز وجل بأنه يسر ، وهل يختص هذا اليسر بشهر رمضان ، الجواب لا .
إمساكية شهر رمضان ــ 1445هـ
((مدينة بغداد صانها الله من الفساد))
شهر رمضان اليوم التاريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
1 الثلاثاء 12/3 4:55 6:16 12:12 6:22
2 الأربعاء 13/3 4:53 6:15 12:12 6:23
3 الخميس 14/3 4:52 6:13 12:12 6:24
4 الجمعة 15/3 4:51 6:12 12:12 6:25
5 السبت 16/3 4:49 6:11 12:11 6:26
6 الأحد 17/3 4:48 6:10 12:11 6:27
7 الإثنين 18/3 4:47 6:08 12:11 6:28
8 الثلاثاء 19/3 4:45 6:07 12:10 6:28
9 الأربعاء 20/3 4:44 6:06 12:10 6:29
10 الخميس 21/3 4:40 6:04 12:09 6:30
11 الجمعة 22/3 4:39 6:02 12:09 6:31
12 السبت 23/3 4:37 6:00 12:09 6:31
13 الأحد 24/3 4:36 5:59 12:08 6:32
14 الإثنين 25/3 4:34 5:58 12:08 6:33
15 الثلاثاء 26/3 4:33 5:56 12:08 6:34
1- يكون يوم الثلاثاء 12/3/2024 أول أيام شهر رمضان إن شاء الله ، ويطل الهلال ليلتئذ عالياً ، ويبقى بعد الغروب ساعة و(18) دقيقة.
2- لا أصل للإحتياط بالإمساك قبل الأذان بسبع أو عشر دقائق، ويمتنع السحور بطلوع الفجر الصادق، وعليه الكتاب والسنة ، فيجوز شرب الماء قبله ولو بدقيقة، وتتجلى المندوحة بقوله تعالى[كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ] وقوله تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ].
3- يستحب الإستهلال، وتثبت رؤية الهلال بشاهدين عدلين ، ويتضاءل الخلاف هذه السنة في رؤية هلال رمضان وشوال إذ تلتقي رؤية الهلال بالعين المجردة والعين المسلحة والحمد لله.
شهر رمضان اليوم التاريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
16 الأربعاء 27/3 4:32 5:55 12:07 6:34
17 الخميس 28/3 4:30 5:54 12:07 6:35
18 الجمعة 29/3 4:29 5:53 12:07 6:36
19 السبت 30/3 4:27 5:51 12:07 6:37
20 الأحد 31/3 4:26 5:50 12:06 6:38
21 الإثنين 1/4 4:24 5:48 12:05 6:40
22 الثلاثاء 2/4 4:22 5:47 12:05 6:40
23 الأربعاء 3/4 4:21 5:45 12:04 6:41
24 الخميس 4/4 4:19 5:44 12:04 6:42
25 الجمعة 5/4 4:18 5:43 12:04 6:42
26 السبت 6/4 4:16 5:42 12:04 6:43
27 الأحد 7/4 4:15 5:40 12:03 6:44
28 الإثنين 8/4 4:14 5:39 12:03 6:45
29 الثلاثاء 9/4 4:12 5:38 12:03 6:45
1- يكون يوم الأربعاء 10/4/2023 أول أيام عيد الفطر المبارك إن شاء الله.
صدرت مائتان وثمانية وخمسون جزءً من تفسيري (معالم الإيمان) في سورة البقرة وأكثر آيات آل عمران ، وهي معروضة على موقعنا WWW.MARJAIAA.COM، وكلها تأويل وإستنباط وقوانين من ذات مضامين الآيات لم يشهد لها التأريخ مثيلاً، إلى جانب كتبي الفقهية والأصولية [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].
يوميات علمية للمرجعية الإسلامية
المرجع الصالح الطائي
هل العلوم والقوانين والمسائل التي استخرجت من القرآن إلى الآن هي الأكثر أم التي سوف تستخرج منه هي الأكثر ، المختار هو الثاني ، ومنها خزائن الصلة بين الآيات والتوسعة في فروع ذات العلوم المستقرأة والمستنبطة من القرآن ثم إن الجامع بينهما [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا].
العدد : 46/24 في 15/2/2024
الحمد لله الذي جعل الصبر ملازماً للنبوة وشاهداً عليها ، إذ اشتد أذى كفار قريش للنبي (ص) ومنه الحصار الإجتماعي والإقتصادي على بني هاشم لثلاث سنوات من السنة السابعة للبعثة ، ثم أرادوا قتله في فراشه , فبات الإمام علي (ع) في فراشه , فهاجر النبي (ص) في ذات الليلة إلى المدينة فجهزوا الجيوش لغزوها وقتاله ، وكان هو وأصحابه من المهاجرين والأنصار في حال دفاع .
وقد صدر الجزء (257) من معالم الإيمان خاصاً بـ(آيات الدفاع سلام دائم).
العدد : 47/24 في 16/2/2024
الأخوة بين النبي (ص) والإمام علي أخوة إيمان ، والمراد من المنزلة هي الولاية ، وقد وصف القرآن الإمام علي عليه السلام بأنه نفس رسول الله ، قال تعالى [فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ].
العدد : 48/24 في 17/2/2024
لقد قرن الله عز وجل برّ الوالدين بعبادته لبيان موضوعيته في النشأتين ، وأنه طريق سالكة للعبادة ، وسبب ليرثها اللاحق من السابق ، قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا].
وحسن معاملة الوالدين واللطف بهما من الآداب والخلق الحميد ، ليكون من إعجاز القرآن الغيري إكرام الإنسان في كبره وهرمه على نحو يومي متجدد ومن داخل أسرته ، وضبط الأنظمة الإجتماعية في الأجيال المتعاقبة في العالم بكلمتين [فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ] وأحاديث نبوية تبين عظيم ثواب برّ الوالدين.
العدد : 49/24 في 18/2/2024
يكون يوم الثلاثاء 12/3/2024 أول أيام شهر رمضان إن شاء الله ، ويطل الهلال ليلتئذ عالياً ، ويبقى بعد الغروب ساعة و(18) دقيقة.
يستحب الإستهلال، وتثبت رؤية الهلال بشاهدين عدلين ، ويتضاءل الخلاف هذه السنة (1445) في رؤية هلال رمضان وشوال إذ تلتقي رؤية الهلال في كل منهما بالعين المجردة والعين المسلحة والحمد لله.
ويكون يوم الأربعاء 10/4/2024 أول أيام عيد الفطر المبارك إن شاء الله ، والمدار على ثبوت رؤية الهلال الشرعية.
العدد : 50/24 في 19/2/2024
يخفف الله عن النبي والناس جميعاًً ويقربهم إلى الله بعصمة النبي وتنزيهه من صباه، فلا يرى الناس في سيرته إلا الخير والبر والصلاح.
ولقد سمّى أهل مكة النبي محمداً (ص) قبل النبوة (الصادق الأمين) وهذا الوصف من مقدمات النبوة ومن فضل الله تعالى في إصلاح النبي لمراتب الرسالة السامية، بالتوفيق لحسن خلقه وسيرته وسط مجتمعات الغزو والقتل وعبادة الاصنام وشيوع المنكرات والفواحش , قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ].
العدد : 52/24 في 21/2/2024
هل اختصت معركة بدر باسم (يوم الفرقان) وأنه القدر المتيقن من الآية أم أنه ورد من باب المثال الجلي , والمقصود كل معركة من معارك الإسلام الدفاعية ، بدر ، وأحد ، والخندق ، وفتح مكة سلماً ، وحنين ، بدليل قوله تعالى في ذات الآية [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ].
المختار هو الثاني مع خصوصية لمعركة بدر في المقام ، لبيان قانون ترتب الحكم على الوصف مشعر بالعلية .
العدد : 53/24 في 22/2/2024
النسبة بين الآخرة ويوم القيامة عموم وخصوص مطلق ، فالآخرة أعم ، وتبدأ من دخول القبر .
قال النبي (ص) (من مات فقد قامت قيامته). البحار 58/7
العدد : 54/24 في 23/2/2024
كان أولاد أبي طالب بن عبد المطلب أربعة ، بين ولادة كل واحد والآخر عشر سنوات على الترتيب الآتي ، طالب ، عقيل ، جعفر ، الإمام علي عليه السلام .
العدد : 55/24 في 24/2/2024
من عصمة النبي اتصافه بالخصال الاخلاقية والتربوية الحميدة، فمن لطف الله تعالى بالأنبياء والناس ان يصلح النبي من صباه في سيرته وسمته وأخلاقه ، كي لا يتردد الناس في اتباعه أو يطرحون الشكوك بالاستصحاب الباطل الذي نقض بالنبوة والدعوة الى الله عز وجل ، ومن هذه الخصال ملكة الصبر والتقوى والإستقامة، ثم الوحي .
العدد : 56/24 في 25/2/2024
الحديث النبوي المتعدد عن الإمام المهدي (ع )
أخرج أبو داود وابن ماجة والطبراني والحاكم عن أم سلمة : (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : المهدي من عترتي من ولد فاطمة) .
وأخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أبشركم بالمهدي يبعثه الله في أمتي على اختلاف من الزمان وزلازل فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ويرضى عنه ساكنوا السماء وساكنوا الأرض ، يقسم الأرض ضحاحاً . فقال له رجل : ما ضحاحا؟ قال : بالسوية بين الناس ، ويملأ قلوب أمة محمد غنى ، ويسعهم عدله حتى يأمر مناد ينادي يقول : من كانت له في مال حاجة فما يقوم من المسلمين إلا رجلٌ واحد ، فيقول : ائت السادن يعني الخازن فقل له : إن المهديّ يأمرك أن تعطيني مالاً فيقول له : أحث حتى إذا جعله في حجره وأبرزه ندم ، فيقول : كنت أجشع أمة محمد نفساً إذ عجز عني ما وسعهم قال : فيرد ، فلا يقبل منه ، فيقال له : إنا لا نأخذ شيئاً أعطيناه ، فيكون كذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين ثم لا خير في العيش بعده قال : ثم لا خير في الحياة بعده )الدر 9/186.
العدد : 57/24 في 26/2/2024
وردت كلمة (مُرْتَفَقًا) في القرآن مرتين :
الأولى : في الثناء على أهل الجنة (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) .
الثانية: في ذم أهل النار (وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) .
والمرتفق المنزل والمجتمع والمتكأ
العدد :58/24 في 27/2/2024
من اسماء الله الحسنى (المُحصي) وهو الذي (أَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) وقد تفضل الله علينا بصدور الجزء الثامن والخمسين بعد المائتين من معالم الإيمان بعنوان (علم الإحصاء القرآني غير متناه ) ونطبع أجزاءه المتعاقبة على نفقتنا الخاصة ، وهو من أفضل موارد الخمس والحقوق الشرعية .
العدد :59/24 في 28/2/2024
أكثر المعجزات الحسية ذكراً في القرآن معجزات النبي محمد (ص) ثم معجزات موسى التسعة ، منها عصاه التي ذُكرت في القرآن تسع مرات أيضاً ، ست بلفظ (عَصَاكَ) وثلاث بلفظ (عَصَاهُ) قال تعالى (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) .
هذا إلى جانب إنفراد النبي محمد (ص) من بين الأنبياء بالمعجزات العقلية ، وهي آيات القرآن والصلة بينها ، وبقاؤها غضة طرية إلى يوم القيامة ، قال تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ).
العدد :60/24 في 29/2/2024
عندما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراً وبلغ الجُحفة في طريقه إلى المدينة نزل عليه قوله تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ] وهو بشارة عودته إلى مكة سالماً فاتحاً لها من غير قتال .
ولأن هذه الآية نزلت في الطريق بين مكة والمدينة فهي استثناء من تقسيم القرآن إلى مكي وهي السور التي نزلت قبل الهجرة ، وإلى مدني وهي السور التي نزلت بعد الهجرة .
و[فَرَضَ عَلَيْكَ] أي أنزله عليك وألزمك بالعمل بأحكامه ويختص النبي (ص) بالنزول ، وتلحق به الأمة في قانون تعاهد القرآن وقانون وجوب العمل بأحكامه.
العدد :61/24 في 1/3/2024
البحث الخارج أعلى مراحل الدراسة في الحوزات العلمية ويتقوم بالإستقراء والاستنباط والإستدلال من القرآن ونصوص العصمة , وليس هو قراءة في الكتب أو الهاتف , ولا يحل الذكاء الإصطناعي وموسوعيته مع هناته وجموده على النص محل الأستاذ في الجملة ، ولقد تسابق العلماء في اجتهادهم وإبداعهم فتركوا لنا ثروة وتراثاً ومنهاجاً.
العدد :62/24 في 2/3/2024
تناجى رؤساء قريش لعقد اجتماع عام في دار الندوة للتصدي لدعوة النبي (ص) للتوحيد والنبوة , وبعد التشاور اتخذوا قراراً بقتله في فراشه بخطة وتدبير خبيث ، بأن تشترك بيوتات قريش كلها في قتله حتى يعجز بنو هاشم عن الأخذ بثأره فيرضون بالدية.
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسأل الله العافية ، ومنها نـجاته من القتل ليلتئذ ليتم تبليغ رسالته إذ أحاط عشرة من شباب قريش الأقوياء ببيته وسيوفهم في أيديهم ينتظرون وقت السحر وهدأة الأصوات للهجوم عليه في فراشه .
فنزل جبرئيل يأمره بالهجرة فوراً ، ومبيت الإمام علي عليه السلام في فراشه.
العدد :63/24 في 3/3/2024
لقد وقعت معركة أحد يوم السبت النصف من شوال من السنة الثالثة للهجرة ، ومع شدة خسارة المسلمين إذ فقدوا سبعين شهيداً ، فقد انسحب جيش المشركين الذي يتألف من ثلاثة آلاف رجل في ذات يوم المعركة عائدين إلى مكة بخيبة وإنكسار ، وهذا الإنسحاب معجزة غيرية للنبي محمد (ص) لينزل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ].
العدد :64/24 في 4/3/2024
أيهما أعظم وأكثر نفعاً نزول القرآن أم هبوط الملائكة , المختار هو الأول ، فهو الحجة العظمى التي تهدي إلى سواء السبيل ، والشاهد العقلي المتجدد كل يوم على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى قانون هبوط الملائكة المتكرر إلى الأرض ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ].
العدد : 65/24 في 5/3/2024
هل خرج بعضهم مع المشركين في معركة بدر فصار مسلماً ومع النبي (ص) في معركة الأحزاب ، الجواب نعم ، دون العكس.
وكل منهما معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فليس من مسلم قاتل مع النبي (ص) يوم بدر وصار مع المشركين في أحد أو مع الأحزاب وغيرها , لقانون انتفاء إرتداد المؤمن ، وفيه شهادة من الميدان على صدق رسالة النبي (ص) وإقرار الصحابة بها .
العدد : 66/24 في 6/3/2024
الرؤيا الصادقة صلة بين الله عز وجل والعبد ، وهي فضل ورحمة الله وبشارة وإنذار ، ولا يجوز الكذب في الرؤيا لما ورد عن رسول الله (ص) أنه قال (من أعظم الفرية – ثلاثا – أن يفتري على عينيه ، أن يقول قد رأيت ولم ير ، وأن يفتري ، يدعي إلى غير أبيه ، أو يقول يسمع ولم يسمع) والفرية من الإفتراء والكذب
العدد : 67/24 في 7/3/2024
جميع حروف القرآن ثلاثـمائة وثلاثة وعشرون ألف حرف وستمائة وأحد وسبعون حرفاً) (323671).
وفي قراءة كل حرف منها عشر حسنات .
من الجزء (255) من معالم الإيمان
العدد : 68/24 في 8/3/2024
من أسماء النبي محمد (ص) التي لم تذكر ويبيّن معناها (المنادي) لقوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا] وفي تفسير هذه الآية يصدر قريباً بفيض من الله الجزء (259) من معالم الإيمان.
العدد : 69/24 في 9/3/2024
يتوارث عندنا أحياناً في الحوزات أن القرآن قطعي الصدور (الثبوت) ظني الدلالة إنما هو قطعي الدلالة، ومنه آيات الفرائض العبادية وآيات المواريث والقصص والأمثال مما يمتنع معه الإجتهاد والرأي فهو قطعي الصدور ، قطعي الدلالة ، فان ترد كلمتان أو ثلاثة يختلف في معناها مثل [قُرُوءٍ] من بين (77439) كلمة فلا يعني أنه ظني الدلالة ولا أصل لهذا القول ، قال تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ].
العدد : 70/24 في 10/3/2024
ذكر النبي (ص) باسمه خمس مرات ، أربعة باسم محمد ، والخامسة باسم أحمد وذكر بصفة النبي ، والرسول ، والأمي ، والمنادي .
وورد قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ] في القرآن ثلاث عشرة مرة منها الخطابات الخاصة مثل [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ] [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ].
ومن معاني الأمر الإلهي (قل) إتصاف رسالة النبي محمد (ص) بأنها رسالة سلام وأمن.
العدد : 71/24 في 11/3/2024
عن رسول الله (ص) : الصيام جُنّة) أي واقية وأمن ، ويحتمل الحديث وجوهاً:
الأول : القدر المتيقن أن الصيام واقية من النار .
الثاني : الصيام واقية من الأمراض وحرز من الآفات في الدنيا.
الثالث : إرادة المعنى الأعم ، وأن الصيام واقية وأمن في النشأتين.
والصحيح هو الأخير، لأصالة الإطلاق كتاباً وسنة، قال تعالى [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ] وللنصوص الواردة بمنافع الصيام في الدنيا والآخرة.
من الجزء (32) من تفسيرنا معالم الإيمان
العدد : 72/24 في 12/3/2024
النص والإجماع على إفطار الحائض وقضائها الصوم بعد شهر رمضان ولا تقضي الصلاة .
والمختار في العلة أن وقت الصلاة يستغرقه الحيض كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ، فلا تجب إعادة الصلاة ، أما الصيام فكل أيام الشهور الأخرى بعد رمضان مناسبة للقضاء ، قال تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ].
وهل تلحق الحائض والنفساء بالمريض ، الجواب نعم ، كما يدل عليه الطب الحديث .
العدد : 73/24 في 13/3/2024
قال النبي (ص) للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة يوم القيامة.
والبصمة أدناه من السيد هشام الموسوي الذي تطوع مشكوراً بترجمة الجزء (244) من معالم الإيمان ويقع في (التضاد بين القرآن والإرهاب) جعلت لنا اليوم فرحة ثالثة .
وفيه دعوة عالمية لترجمة (259) جزءً من هذا السِفر.
ونطبعه على نفقتنا الخاصة وهو من أفضل موارد الخمس والزكاة .
العدد : 74/24 في 14/3/2024
لقد ختم النبي محمد (ص) خطبته الخالدة في حجة الوداع في السنة العاشرة بقوله (لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَسْعَدُ مِنْ سَامِعٍ).
أي ينتفع منها ويفهمها من لم يحضر الموسم ويسمع الخطبة أكثر من بعض من حضرها ، وفيه ثناء على أجيال المسلمين.
وبيان وجوب قيام الصحابة بتبليغ الذين لم يحضروا ، والتابعين الخطبة وما فيها من الأوامر والنواهي وليتجدد وجوب التبليغ والعمل بمضامينها على كل مسلم ومسلمة .
وذكر أن مجموع الذين حضروا حجة الوداع نحو مائة ألف.
العدد : 75/24 في 15/3/2024
قال موسى (ع) [وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ].
وقال النبي محمد (ص) [وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ] .
لبيان شهادة وتعضيد النبي محمد للمسلمين والمسلمات ، وفيه مقدمة لشفاعته لهم يوم القيامة .
قال (ص) (ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي).
العدد : 76/24 في 16/3/2024
يأتي الحديث النبوي بصيغة الجملة الخبرية ولكنه حجة ، وشعبة من الوحي ووثيقة كاشفة.
إذ ورد (عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله (ص) : صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين وذلك أنه لم يصل معي أحد غيره) تأريخ دمشق 42/39.
لبيان سبق إيمان الإمام علي عليه السلام وفوزه بمشاركة النبي (ص) بصلاة الملائكة عليه وطول مدة هذه الصلاة التي تفيد القطع بأنها في سني البلوغ والرشد.
العدد : 77/24 في 17/3/2024
هل تعلم أن تلاوة القرآن تنمي ملكة التقوى عند المسلمين.
وتستأصل النفاق وتطرد الفجور.
وعن الإمام الباقر عليه السلام (لكل شئ ربيع وربيع القرآن شهر رمضان)البحار 89/213.
ويصدر بعد يومين إن شاء الله الجزء (259) من معالم الإيمان.
العدد : 78/24 في 18/3/2024
ومن معجزات النبي محمد (ص) الغيرية انفراد أجيال أمته بذكر الله في كل الأحوال التي يكون عليها الفرد الواحد منهم ذكراً أو أنثى قائماً وقاعداً ، فلم يمنع العمل والإشتغال في النهار من الذكر وأداء الصلاة اليومية في أوقاتها على كل حال.
ولا ينسى الذكر عند الإستلقاء وإرادة النوم.
وفيه طرد للأرق لعمومات قوله تعالى [أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ].
العدد : 79/24 في 19/3/2024
رقم الايداع في دار الكتب والوثائق ببغداد
416 لسنة 2023