المقدمــــــــة
الحمد لله الذي دلت مخلوقاته على ربوبيته، وإنفراده بملك السموات والأرض وما فيهما، وأبى إلا إنتفاء الشريك له، وإنعدام الند والخصم له، لتتغشى رحمته الخلائق كلها، وتسجد له طوعاً وقهراً قال تعالى[وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] ( ).
ولتكون الحياة الدنيا رشحة من بديع صنعه، وقدرته المطلقة، وعدم إستعصاء شئ عليه، فلا غرابة بان يكون قوامها العبادة والطاعة لله فأعان الناس على العبادة بآيات وأسباب سخّرها لهم , وهي أكثر من أن تحيط بها العقول، والتصورات الذهنية , وهو من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
ومنها آيات القرآن، والصلة بينها والقوانين والأحكام والمسائل المستنبطة من الجمع بينها وهو علم جديد يطل على الأرض بهذا التفسير وعلى نحو دفعي وهائل كماً وكيفاً وموضوعاً ، من غير أن يتعارض مع ما يستنبط ويستقرأ من كل آية من الآيتين أو الآيات التي يتم الجمع بينها، وورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام ( وفي الخبر بالإسناد عن حفص بن غياث عن الزهرى قال سمعت على بن الحسين عليهما السلام يقول آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزانة ينبغى لك ان تنظر ما فيها) ( ) .
فهل ما يستخرج من الجمع بين آيتين من خزائن القرآن مجتمعة ومتفرقة, الجواب نعم، فانه علم جديد يتعب العلماء ويلزمهم ببذل الوسع لإستخراج كنوز ولآلئ من الإشراقات الخاصة بالجمع بين كل آيتين أو أكثر بلحاظ أمور:
الأول : الجوار بين الآيتين و كما في منهجية الأجزاء السابقة من هذا التفسير .
الثاني : كل آيتين على نحو الإستقلال , من سور القرآن عموماً .
الثالث : الإتحاد الموضوعي.
الخامس : وحدة الدلالة النحوية والبلاغية والكلامية والفلسفية وغيرها.
السادس : جهة الإعجاز التي تجمع بين الآيتين .
السابع : القوانين والقواعد المستنبطة من الجمع بين الآيتين .
ويتكرر ذكر الآية الواحدة في الوجوه والأمور أعلاه لتعدد مصاديق الإعجاز فيها,
وموضوع تفسيرنا هو الأمر الثاني أعلاه , ليكون هذا التقسيم والبيان شاهداً على اللامتناهي من إعجاز القرآن , وهوفيض وخير محض وحكمة عالية وبركة متجددة قال تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ]( )، ويتجلى الإعجاز في المقام على وجوه :
الأول: إنه من الإعجاز الذاتي للقرآن.
الثاني: بيان لما في القرآن من الذخائر العلمية والكلامية.
الثالث: إنه من الإعجاز الغيري للقرآن لما فيه من الكشف والبيان.
الرابع: فيه أنوار للهداية في أمور الدين والدنيا.
الخامس:إقامة الحجة على الجاحدين بنزول القرآن.
السادس:بعث الغبطة والرضا في نفوس المسلمين.
وفي البحث الخارج للتفسير والذي شرعنا بتدريسه لفضلاء الحوزة العلمية منذ أكثر من عشر سنوات، وترشحت بركاته في هذا السفر العلمي ذكرنا فيه قبل ثلاثة أشهر علماً جديداً في سياق الآيات والصلة بين عموم آيات القرآن كل آيتين على حدة، فيكون مجموع أفراد هذا العلم وحده هو6236X6235=460,881, 38 ثمانية وثلاثين مليوناًً وثمانمائة وواحداً وثمانين وأربعمائة وستين علماً.
وفيه آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً بفيض ولطف من الله الذي[يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( )، وإذ أصبحت لغة وأرقام الملايين متعارفة في هذا الزمان عند غالب الناس، وفي أبواب عديدة من الإجتماع والإقتصاد والسياسة وكنز الأموال والبيانات الإحصائية يطل علينا علم في مقدمة واحدة من مقدمات تفسيرنا هذا وهو سياق الآيات بما سيكون نحو مليوني جزء في وجه واحد من الوجوه الستة اعلاه , وهذه الوجوه توليدية وإنشطارية.
وبعد تأسيسي له في محاضرات التفسير سأقوم باصدار أجزاء معدودات منه في آية واحدة وصلاتها بشطر من آيات القرآن , موضوعاً وحكماً ودلالة, وفيه مسائل:
الأولى: هذا العلم نبراس للعلماء.
الثانية: دعوة لهم لإتمامه وإكماله بما يتجلى فيه ضياء القرآن.
الثالثة: توكيد إعجاز القرآن وما فيه من الدرر والأسرار وعلوم الغيب.
الرابعة: يساهم هذا العلم في الإرتقاء النوعي العام في المعارف الفقهية.
الخامسة: يساعد في تهذيب النفوس.
السادسة: فيه دفع للكدورات الظلمانية.
السابعة: إنه مانع من غلبة النفس الشهوية والغضبية.
الثامنة: فيه دعوة للناس لقوام ومادة دوام الحياة الدنيا، وعلة خلقهم قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
قوله تعالى [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]الآية 129
الإعراب واللغة
[وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] الواو: إستئنافية، لله:جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
ما: اسم موصول في محل رفع مبتدأ مؤخر.
وفي السموات:جار ومجرور، متعلقان بمحذوف لا محل له، لأنه صلة.
ما: اسم موصول في محل رفع مبتدأ مؤخر.
ما في الأرض: عطف على ما في السموات.
[يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ]يغفر لمن يشاء: يغفر فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر يعود لله عز وجل.
لمن:جار ومجرور متعلقان بيغفر.
يشاء: فعل مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر يعود لله تعالى، فلا يفوز شخص بالمغفرة إلا بمشيئة وفضل الله.
[وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] يعذب،فعل مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود لله عز وجل، من:اسم موصول في محل نصب مفعول به.
[وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] الواو: إستئنافية، اسم الجلالة:مبتدأ . غفور: خبر أول لاسم الجلالة، مرفوع بالضمة، رحيم:خبر ثان مرفوع بالضمة.
الآية سلاح
لقد جعل الله عز وجل الأرض داراً لسكن بني آدم يعيشون ويتكاثرون فيها، تدر عليهم بأسباب الرزق والزراعات، ويتطلعون إلى السماء لنزول المطر والغيث ، وتطل عليهم الشمس كل يوم بالضياء والبركة.
ومن بديع صنع الله ولطفه بالناس أن آيات الحياة الدنيا من اللامتناهي قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( )، وكل آية تلح على الناس بوجوب عبادة الله , وجاءت الآية محل البحث للتذكير بهذه الآيات مجتمعة ومتفرقة لتكون عوناً في الإنجذاب إلى الفرائض العبادية.
وكما ينزل الغيث من السماء رزقاً كريماً توليدياً فإن هذه الآية رزق سماوي من وجوه:
الأول: إنها وسيلة لطرد الغفلة والجهالة عن الناس.
الثاني: هي برزخ دون طغيان الشرك والضلالة.
الثالث: المضامين القدسية للآية الكريمة بيان للتضاد والتباين في الجزاء بلحاظ أعمال الناس في الدنيا.
لأن الآية الكريمة جاءت ببيان ملك الله عز وجل للسماوات والأرض مطلقاً، تضمنت تعليق المغفرة أو العذاب على المشيئة الإلهية، وكما أنه تعالى مالك كل شيء فإنه سبحانه يغفر لمن يشاء من الناس ويعذب من يشاء لبيان مصاديق من ملكه بلحاظ هذه الآية الكريمة وهي:
الأول: الملائكة والمخلوقات في العالم العلوي من ملك الله لقوله تعالى(ولله ما في السموات).
الثاني: ذات السماوات.
الثالث: الناس والخلائق الموجودة على الأرض.
الرابع: الرحمة بالناس والخلائق جميعاً، فإنها أمر بيد الله عز وجل، فإن قلت إن الناس يتراحمون بينهم، والجواب من وجوه:
الأول: الرحمة الإلهية مطلقة وغير متناهية قال تعالى [َرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ]( ).
الثاني: تراحم الناس بينهم فرع رحمة الله، وباب لنيل الثواب والأجر، وهو رحمة أيضاً.
الثالث: تراحم الناس محدود وخاص في أيام الحياة الدنيا، ورحمة الله تشمل أيام الحياة الدنيا والآخرة، وأفراد الزمان المقدرة وغير المقدرة.
الرابع: تتغشى رحمة الله عز وجل الناس والخلائق جميعاً في آن واحد من غير أن تنقص الزيادة في رحمة طرف الرحمة لطرف آخر.
الخامس: تنقص وتقل رحمة الإنسان لأخيه بلحاظ الأسباب والكم والكيف، ورحمة الله تزداد للفرد والجماعة والأمة , ومقدار الرحمة من الإنسان محدود زماناً ومكاناً وموضوعاً لأن أيامه في الحياة الدنيا معدودة وقدرته محدودة.
السادس: يعلم الله عز وجل حاجة الإنسان والجماعة والأمة وينعم عليهم بما يحتاجون، وبالبلغة لنيل المطالب.
السابع: جعل الله عز وجل الدعاء باباً لنزول رحمته وفضله , والفضل هنا الزيادة في الرزق والنعم على العبد مما لم يكن مكتوباً له، والله واسع كريم , قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الثامن: كل إنسان محتاج إلى رحمة الله وإن كان يرحم غيره، لملازمة الحاجة لعالم الإمكان، والإنسان من الممكنات، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّه]( )، وهذه الآية من اللطف الإلهي في باب الرحمة من وجوه:
الأول: هداية الناس للإنتفاع الأمثل من رحمة الله.
الثاني: الآية سلاح مصاحب للمسلمين في حال الشدة والرخاء، والسلم والحرب.
الثالث: تلاوة الآية واقية من الشرك والضلالة.
إعجاز الآية
نزل القرآن في منطقة الجزيرة والحجاز حيث الشرك ضارب أطنابه في تلك النواحي، وليس من زاجر عن عبادة الأوثان , فجاءت السور المكية بالإنذار والوعيد التخويف .
وجاءت السور المدنية ببيان الأحكام الشرعية وسنن الفرائض والعبادات ، فقال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ).
وتتغشى معاني التوحيد سور القرآن كلها، ومنها هذه الآية التي تتجلى فيها رحمة الله وعظيم ملكه عز وجل، ليشعر معها الإنسان أنه مملوك وليس مالكاً, وأن الحاجة لرحمة الله مصاحبة له ، وهذا الشعور باعث على الإقرار بالعبودية لله عز وجل .
ومن إعجاز القرآن محاربته لأصل الشرك، وفضحه لعجز الآلهة والأوثان التي يتخذها المشركون أرباباً من دون الله، وهو خلاف المتعارف في الهدم إذ أنه يبدأ من الأعلى، ولكن القرآن جاء بأمور متداخلة وفي عرض واحد وهي:
الأول: هدم أفكار الضلالة من الأصل والأساس.
الثاني: تخريب وهدم بناء الكفر من الأعلى.
الثالث: تعدد مواضع الهدم.
الرابع: عجز أرباب الكفر عن إيقاف الهدم الذي تسببه الآية القرآنية في صرحهم.
الخامس: تزيح الآية القرآنية بناء الضلالة , وتجعل إعادة بناء أطلاله أمراً ممتنعاً , ويبقى رسمه( )، حجة على منافع الآية القرآنية للأجيال المتعاقبة من الناس جميعاً.
وجاءت هذه الآية الكريمة شاملة للوجوه أعلاه، وآية في الحرب على الكفر والضلالة، ومن إعجازها أمور:
الأول: جعل الكفار ينشغلون بأنفسهم ويدركون ضلالتهم وخطئهم.
الثاني: تحذير ونهي الناس عن محاربة الإسلام.
الثالث: الزجر عن إتباع القوم الظالمين.
الرابع: تتجلى في الآية لغة الإطلاق والعموم في ملك الله عز وجل، وليس من تقييد أو تخصيص في ملك الله.
وهو شاهد على البيان في آيات القرآن، وإفادتها الدلالات الواضحة والحجج الباهرة، لتكون على وجوه:
الأول: إنها سبيل لجذب الناس للإسلام ,[ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ] ( ) .
الثاني: المضامين السامية للآية برزخ دون زحف الجيوش على المسلمين وثغورهم.
الثالث: نفي الجهالة والغرر، وفضح مفاهيم الضلالة.
الرابع:خزي رؤساء الكفر ونفرة الأتباع منهم .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على إنعدام البرزخ في الجزاء، فهو على قسمين متناقضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، فلا بد للإنسان من نيل أحدهما أما المغفرة، وأما العذاب.
فمن إعجاز الآية بيان الموضوع والحكم، مع سعة الموضوع وخصوص الحكم، فيتعلق الموضوع بملكية السماوات والأرض وعائديتها لله عز وجل، أما الحكم فهو خاص ببني آدم وعاقبتهم مع جزئيتهم من ذات الموضوع، وفيه تشريف لبني آدم وإخبار عن إبتلائهم وإختبارهم في الحياة الدنيا، لتكون الآية على وجوه:
الأول: إنها مدرسة في المعرفة الإلهية.
الثاني: فيه مادة للإرتقاء العلمي عند الفرد والجماعة.
الثالث: إنه حجة سماوية، وفيصل بين الحق والباطل.
الرابع: بعث الناس على السعي لجلب المصلحة بالإيمان، ودفع المفسدة والعذاب الذي يترتب على معصية الله ورسوله.
فلا غرابة أن يسمع عدد من الناس الآية القرآنية فيدخل الإيمان قلوبهم دفعة واحدة، ويتلوها المسلم فتكون مدداً له في الجهاد في سبيل الله من وجوه:
الأول: إدراك المسلم بأنه عبد مملوك لله عز وجل، ويجب طاعته سبحانه.
الثاني: الجهاد شكر فعلي لله عز وجل.
الثالث: القطع بالمدد من عند الله الذي له ملك السماوات والأرض، كما تجلى بنزول الملائكة يوم بدر وأحد.
الرابع: التأكد من معصية الكفار، وقبح معصيتهم لأوامر الله الذي له ملك السماوات والأرض.
الخامس: ظهور روح التعاون بين المسلمين في الدفاع عن الإسلام، للتسليم الشخصي والنوعي بأن السماوات والأرض ملك لله عز وجل.
السادس: تلاوة الآية القرآنية تنمية لملكة التقوى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
وإبتدأت الآية بحرف العطف (الواو) للدلالة على إتصال مضامينها القدسية بالآيات السابقة وموضوعها وهو واقعة أحد والبشارات والإنذارات الخاصة بها، وإخبارها بنزول الملائكة من السماء مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، ولنصرتهم على القوم الكافرين، ليكون حرف العطف الواو آية إعجازية قائمة بذاتها تؤكد التداخل بين السماء والأرض، وأنهما وما فيهما من الخلائق ملك لله عز وجل , وتبقى دليلاً على إنعدام البينونة والفصل التام بينهما.
وقد إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض لما ورد حكاية عنهم ثم نزلوا لنصرة المؤمنين الذين يحاربون الفساد، ترى هل كان الملائكة يعلمون بنزولهم مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يوم بدر وأحد معارك الإسلام الأولى فيه وجوه:
الأول: لا يعلم الملائكة بهذا النزول عند إحتجاجهم يوم خلق آدم .
الثاني: علم الملائكة بنزولهم حينما ردّ الله على إحتجاجهم , وقال لهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الثالث: كان الملائكة يعلمون بنزولهم مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين قبل خلق الله آدم وجعله خليفة في الأرض لأن إحتجاجهم على حدوث الفساد وسفك الدماء على المعنى الذي ذكرناه في تفسيرنا هو تنزيه الأرض من مفاهيم الضلالة .
والأقرب هو الثاني، لصيغ البيان والحجة التي تتصف بها لغة الخطاب الإلهي للملائكة والجن والإنس , وهو جزء من علمهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من تثبيت لمفاهيم الصلاح في الأرض.
ويتعلق حرف العطف(الواو) بحال الناس في عالم الجزاء وأن مرجعهم جميعاً له، وهل فيها إشارة إلى صعود الإنسان إلى الكواكب الأخرى، وسكنه فيها هرباً من الفتن التي تحدث على الأرض، وطلباً للعافية والسعة في الرزق في مستقبل الأحقاب الجواب نعم، قال تعالى[أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا] ( ).
وفي حرف العطف(الواو) في المقام إستحضار لموضوع الآيات السابقة، وإشارة إلى إتصال وتداخل آيات القرآن وان تعددت المواضيع، وهل فيه أمارة على أن نظم الآيات توقيفي من عند الله، الجواب نعم، وفيه أمور:
الأول: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار في أجيالهم المتعاقبة.
الثاني: ندب للتفكر في خلق السموات والأرض.
الثالث: تدبر في بديع صنع الله عز وجل وعظيم قدرته.
الرابع: إنه شاهد صدق على مضامين الآيات السابقة، فان دخل الشك والريب إلى قلب أحدهم بمسألة نزول الملائكة تأتي هذه الآية لطرد هذا الشك.
الخامس: بيان إمكان هذا النزول , وأنه من أمر الله عز وجل[وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ] ( ).
وتقدير الجمع مثلاً بين آخر الآية السابقة وهذه الآية هو (أو يعذبهم فانهم ظالمون وتجمع أيضاً(ولله ما في السموات وما في الأرض وهم ظالمون).
السادس: فيه إنذار إضافي للكفار بعجزهم عن الفرار من العقاب الإلهي.
السابع: دعوة لهم للتدارك والتوبة، وبشارة للمؤمنين وشفاء لصدورهم لما فيه من الدلالة على القطع بالخزي الذي يلحق بالكفار.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية (لله ما في السموات)
الآية لطف
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أن يكونوا[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فتجلى التفضيل بهذه الآية الكريمة وتلاوتها والتدبر في مفاهيمها القدسية, وما تضمنت من البشارة بالمغفرة والعفو للمؤمنين الذين يقرون بالتوحيد وأن السماوات والأرض كلها ملك لله لا ينازعه فيها أحد.
وتدعو الآية الكريمة الناس إلى التفكر بحقيقة زوال ملك الناس وبقاء ثروتهم من بعدهم تركة لغيرهم، فليس من أحد يثبت له الملــــك إلا الله عز وجل.
وهل ملك الناس للأراضي والـــدور والبســاتين والمركبات والتجارات وغيرها في عرض ملك الله عز وجل أو في طوله، الجواب لا هذا ولا ذاك، إنما هي ملكية مجازية إعتبارية لا تعدو أن تكون تصرفاً وإنتفاعاً مؤقتاً يتبعه الحساب، ويشمله قوله تعالى[يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] فالمسلم الذي يؤدي زكاة المال ويسخره في مرضاة الله عز وجل يكون في رحمة الله، وتناله المغفرة والعفو منه سبحانه، ومن يتخذه في معصية الله ينزل به العذاب الأليم , قال تعالى[الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ).
والآية الكريمة خير محض , ولطف متجدد يتغشى ميادين الحياة المختلفة, ويصاحب الإنسان في نهاره وليله، ففي النهار تشرق عليه الشمس بضيائها, والنهار ببهجته وكل واحد منهما يهمس في حواس الإنسان بأنه من ملك الله، ولم يطل عليه إلا لرحمة الله به.
وفي الليل يتغشاه الظلام وهو أمر وجودي وليس عدمياً، لأنه خلق من خلق الله عز وجل وآية من عنده، ويشترك الظلام والنجوم والكواكب بمناجاة الإنسان وتذكيره بأنها مجتمعة ومتفرقة من ملك الله، تدين له بالربوبية.
أن قوله تعالى(يغفر لمن يشاء) رحمة خالصة وترغيب للناس بالتوبة والإنابة وعمل الصالحات والسعي في سبل الهداية والفلاح، فليس من إنسان يدرك ويؤمن بأن السماوات والأرض ملك لله عز وجل إلا ويطمع في النيل من رحمته وشموله بالمغفرة والرضوان , ويمكن أيضاً النظر إلى قوله تعالى أعلاه على نحو الإستقلال بأن الله سبحانه بيده المغفرة والعفو، وهو الذي يغفر للناس وتلك آية في عظيم قدرة الله ورحمته فكما أن رحمته تعالى من اللامتناهي فكذا مغفرته وعفوه .
وهل قوله تعالى(يعذب من يشاء) من رحمة الله الجواب نعم، إذ جاءت الآية على نحو الإنذار والوعيد ليكون زاجراً عن المعاصي والذنوب، وهو من منافع بعث الأنبياء عامة، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة لما في بعثته من بلوغ الإنذارات القرآنية إلى الأجيال المتعاقبة من الناس، وتلقي فريق منهم الإنذار بالقبول والإستجابة التي تتجلى بالتوبة ودخول الإسلام لأن الآية ذكرت العاقبة التي تنتظر الناس على قسمين متناقضين ليس من قسيم ثالث لهما.
مفهوم الآية
لقد أكرم الله عز وجل الإنسان منذ ساعة خلقه إذ صاحبه عنوان الخلافة في الأرض ورزقه الله عز وجل القدرة على التعلم والكسب والتحصيل، قال تعالى[وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( )، فلم ينزل آدم إلى الأرض إلا وقد فقه في أمور الدين والدنيا، ليتوارث أبناؤه هذا الفقه، ويوظبوا على العبادة وعمارة الأرض بالصلاح، وجاءت هذه الآية إشراقة علمية متجددة وكنزاً مدخراً لأيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون على وجوه:
الأول: إنها فرع ما تلقاه آدم عليه السلام يوم خلقه، وبعث الروح فيه.
الثاني: تجديد معارف الإنسان.
الثالث: الآية حرز وواقية من الضلالة.
الرابع: من الشواهد على كون المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس: الآية حجة على الناس في الدعوة إلى الله عز وجل.
فابتدأت الآية بقانون بسيط في الإرادة التكوينية ونص يتضمن الإطلاق ولا يقبل التعدد والإختلاف في التأويل وهو أن كل موجود هو ملك لله عز وجل سواء كان في السماء أو الأرض أو مابين السماء و الأرض , قال تعالى [لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى]( ).
وتتصف الحياة الدنيا بأنها زائلة ووجود الإنسان فيها محدود بزمان مخصوص قد يقصر أو يطول قليلاً، ولكن هذه الإطالة لا تخرج عن حد متعارف ومعلوم عند الناس كما لو بلغ عمر الإنسان فيها مائة سنة فلابد أن تفارق روحه البدن وينتقل إلى عالم الجزاء الأبدي.
فجاءت هذه الآية لتؤكد أنه في ملك الله عز وجل حياً وميتاً، وأن مقاليد الأمور كلها بيد الله، ليكون هذا التوكيد دعوة إلى الله وتثبيتاً لمفاهيم الإيمان في القلوب، وزاجراً عن الكفر والجدال بالباطل.
ومن خصائص قانون(الملكية المطلقة) لله الوارد في هذه الآية العصمة من الشك والريب في ماهية الوجود وكيفية الخلق، وفيه دعوة للتدبر في بديع صنع الله، والإقرار له بالعبودية، والتسليم بانعدام الشريك، ومع عظمة كل فرد من الخلائق والموجودات في السماء والأرض فانها تجتمع وتلتقي في شطر من هذه الآية الكريمة وبصفة المخلوقية والملكية والإنقياد التام، فليس فيها إلا هو ملك لله وخاضع له ومستجيب لمشيئته مما يستلزم من الناس طاعة الله وإظهار معاني الخضوع والخشوع له والتصديق بانبيائه والمعجزات التي جاءوا بها منه تعالى، ومنها هذه الآية التي تذكر الخلائق بالتشريف الذي يترشح من إخبار التنزيل أنها ملك لله عز وجل، فليس من مملوكية وعائدية تلحق الشئ إلا وفيها ذل وصغر وقلة إلا الملك لله عز وجل فانه رحمة بالخلائق وفخرها، وحاجة مستديمة لها.
فهو سر وجودها، وفيه بقاؤها، وهذا الملك رحمة من عند الله أي أن الله عز وجل تفضل على الناس والخلائق عامة وجعل ملكها له وخاصاً به لا يشاركه فيها أحد، وأنى يكون الشريك وليس من شيء إلا وهو مملوك لله عز وجل، وفي الآية مسائل:
الأولى: الآية ثناء على الله وتمجيد له في ملكه وسلطانه.
الثانية: تلاوة هذه الآية من مصاديق العبودية لله عز وجل.
الثالثة: تبين الآية أن المسلمين هم حملة لواء التوحيد.
الرابعة: تدل سلامة القرآن من التحريف على إستعداد المسلمين للجهاد في سبيل تثبيت مضامين هذه الآية في الواقع العام والمنتديات، ومحاربة أفكار الضلالة التي تطرأ على أذهان الناس.
الخامسة: تبعث الآية العز والمنعة في نفوس المسلمين، وتطرد عنهم الخوف من الكفار والظالمين، وهو من عمومات قوله تعالى[فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
السادسة: هل تمنع الآية التعدي بين أهل السماء وأهل الأرض، الجواب صحيح أن الكل ملك لله عز وجل إلا أن الآية لا تدل على منع ونفي التعدي، نعم لا يتعدى أهل السماء لأنهم منهمكون في العبادة ولا يفعلون إلا ما يأمرهم الله، ولا يستطيع أهل الأرض التعدي والتطاول على الملائكة، لذا يدل نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين على أن نزولهم حق وجاء لتثبيت سنن التوحيد والعدل في الأرض .
فإن قلت حصل قتل في نزولهم فالملائكة إحتجوا على جعل خليفة في الأرض[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )،ولا دليل على إرادة الجمع بين الفساد وسفك الدماء فقط بل جاء إحتجاجهم على الأمرين مجتمعين , ويشمل الإحتجاج كلاً منهما على نحو الإستقلال لما فيه من القبح الذاتي والعرضي، فكيف يقوم الملائكة بالقتل يوم بدر وأحد، أم أن نزول كان لتخويف الكفار وإصابتهم بالفزع، كما ورد عن قال البغوي : قال ابن عباس ومجاهد : لم يقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدر ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون ، إنما يكونون عدداً ومدداً( )، والجواب من وجوه:
الأول: إن قتل الملائكة للكفار ضرورة ودفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ونصرة للإسلام، لقد أراد كفار قريش الإجهاز على الإسلام.
الثاني: في قتل جماعة من الكفار إصلاح للأرض إلى يوم القيامة، لأنهم أرادوا إشاعة القتل بغير حق.
الثالث: جاء القتل بأمر الله عز وجل فهو سبحانه الذي أراد هلاك طائفة منهم( )، قال تعالى[فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ).
السابعة: إلحاق ما في الأرض بما في السماء في الملكية لله عز وجل كما في الآية الكريمة دعوة للناس جميعاً للإقتداء بالملائكة في طاعة الله والإستجابة لأوامره، وإجتناب مانهى عنه،ليكون الإلتقاء بين الملائكة والمؤمنين في الفعل والعمل الجهادي مثلما هو في الملكية والعائدية.
وتذكر (آيات الملائكة) الواردة في القرآن إنقطاعهم للعبادة والتسبيح ليكون مدرسة وموعظة للناس، وسبيلاً للهداية والرشاد، وبرزخاً دون الظلم والتعدي والجور.
الثامنة: كل فرد في الآية مدرسة في التفقه في الدين , وواقية من الغفلة والجهالة، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، ومن مصاديق الفقاهة في الآية تعليق المغفرة والعذاب على المشيئة الإلهية، والتدبر في هذا التعليق وقواعده وقوانينه التي تبينها الآيات القرآنية بإستحقاق المؤمنين المغفرة والتوبة، ونزول العذاب بالكفار والظالمين.
التاسعة: مع قلة كلمات الآية الكريمة فإنها أختتمت بثلاثة من الأسماء الحسنى، ويتجلى في معانيها الفيض والرحمة الإلهية.
فكما إبتدأت الآية بالإطلاق في ملك الله عز وجل فانها أختتمت بالإطلاق في رحمة الله وفتح باب المغفرة للناس جميعاً لتكون الحياة الدنيا دار المغفرة والعفو، ويكون الإخبار عن المغفرة والعذاب أمراً حتماً، فما دام كل شئ في السموات والأرض هو ملك لله عز وجل فان أمره سبحانه نافذ ليس من مانع دونه.
ومن الآيات في ملك الله أنه ليس مجرداً بل هو متفرع عن الخلق، فالله عز وجل هو الذي خلق ما في السموات وما في الأرض، ويتعلق التفرع بذات الأشياء والموجودات , مع دخولها جميعاً في ملك الله عز وجل، ومن أسمائه تعالى(المالك)و(الملك) و(المليك) قال تعالى[قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ]( ).
إفاضات الآية
ذكرت الآية ملك الله للسموات والأرض، وتتقوم هذه الملكية بأمرين:
الأول: شمولها بالإرادة والمشيئة الإلهية، فالله عز وجل قادر عليها إيجاداً وإستدامة وإنعداماً.
الثاني: إستجابة هذه المخلوقات لله عز وجل وإظهارها الخشوع والخضوع لله عز وجل قال سبحانه[وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
ومن خصائص كل آية من آيات القرآن طرد الغفلة عن الناس، ولا ينحصر هذا الأثر بمن يتلو الآية بل يشمل السامع لها وغيره من الناس، بصيغة البركة لهذا الأثر، وهو من مواضيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , فمن يسلّم بأن الخلائق كلها ملك لله يحرص على طاعته، ويجتنب معصيته، ويكون مستعداً للإنصات والإستماع لأفراد الأمر بالمعروف، والإنزجار عن المعاصي .
إن الحياة الدنيا وأفراد الزمان الطولية من ملك الله الذي ذكرته هذه الآية وقد تفضل وجعل هذه الأفراد العظيمة من ملكه مزرعة للآخرة، وداراً مملوءة بالبهجة والسعادة ومعاني المودة والرضا، ويذكر بالله عز وجل كل فرد من أفراد الزمان بالذات وبما يصاحبه ويلازمه من الآيات الكونية والموجودات الأرضية التي هي مصاديق وشواهد حاضرة على ملك الله للسموات والأرض، وتدعو الإنسان لعبادة الله.
والتذكير بهذه الآيات من إفاضات هذه الآية، إذ أن الأثر متبادل بين تلك الآيات الكونية وبين هذه الآية القرآنية وهي تشهد بإن كل شيء ملك لله عز وجل وتدعو مجتمعة ومتفرقة إلى عبادة الله عز وجل، لنيل المغفرة والرحمة، التي تضمنتها هذه الآية وتحذر من الكفر والشرك لقوله تعالى(ويعذب من يشاء) .
وهذا الوعيد في الآية مصداق عملي للعذاب العاجل ومقدمة للعذاب الأخروي , فقد خلق الله النار لعذاب الكفار والظالمين، قال تعالى[وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
ولكن الوعيد الوارد في هذه الآية سبب لنجاة فريق من الناس من النار بالتدبر في هذا الوعيد وإستحضاره بالوجود الذهني , والفزع إلى التوبة والإنابة وأداء الفرائض للفوز بالمغفرة التي تذكرها هذه الآية.
فمن الإعجاز فيها إشتراك الوعد والوعيد في صلاح الفرد والمجتمع وتهذيب عالم الأفعال، وليس من برزخ بين أثر الوعيد والوعد، بل إن الوعيد يقود إلى الوعد وإتخاذه بلغة وغاية في آن واحد، فالوعيد بالعذاب مناسبة للسعي لنيل العفو والمغفرة، ويشع ضياء هذه الآية على الموجودات ليكون إماماً وسبيل هداية.
والآية فناء في واجب الوجود لأنها تنفي عن الذات الإنسانية الإستقلال، وتنزع عنها الكبرياء والغرور , وتجعلها تتلمس العز والرفعة في مرضات المالك المعشوق , قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، وتبعث الآية في النفس الغنى عما في أيدي الناس، وتمنع من اللهث وراء الأفراد الحاضرة من مباهج الدنيا للعلم بأن الطالب والمطلوب مملوكان لله عز وجل فيتوجه بالدعاء إلى الله رجاء التوفيق في الكسب، وجلب المنافع ودفع المفاسد.
وفي الآية شوق وحزن، شوق إلى نيل المغفرة والرضا من عند الله، وحزن على الذين ينالهم العذاب الأليم، ومع أن الشوق والحزن من المتضادين الذين لايجتمعان في محل واحد فانهما يستقران في قلب المسلم من غير تنافر بينهما بل يكون أحدهما عوناً على الإنتفاع الأمثل من الآخر، وهو من رشحات القرآن وإعجازه الغيري، ونفاذ مضامينه القدسية إلى القلوب بما يجعلها ممتلئة بالحكمة، لتكون إماماً للجوارح في عمل الصالحات، وتكون اليقظة والفطنة ملكة عند المسلم، وواقية من مفاهيم الشرك والضلالة.
ومضامين هذه الآية نفع وخير محض، وكل فرد منها دعوة إلى عبادة الله, وإصلاح النفوس وترك الكدورات الظلمانية وهي:
الأول: ملك الله لكل ما في السموات.
الثاني: ملك الله لكل ما في الأرض.
الثالث: البشارة بمغفرة الله لذنوب المؤمنين وأهل التوبة.
الرابع: الوعد بعذاب الكفار.
الخامس: إختتام الآية بثلاثة من أسماء الله الحسنى , وما فيها من معاني العفو والمغفرة، وإتصال نزول شآبيب الرحمة على الناس، وتدلي أغصانها عليهم لتمس جوارحهم وتجذبهم بين الفينة والأخرى إلى التوبة والصلاح ببراهين حسية , جاء مثالها بقوله تعالى[وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ]( )، وبتوظيف العقل للتدبر في عظمة المخلوقات وإتخاذه وسيلة للتوبة.
ومن منافع هذه الآية الملازمة بين هذا التدبر وبين الإقرار بأن هذه المخلوقات والأجرام العظيمة هي ملك لله عز وجل وأنها من خلقه وبديع صنعه لا عن مثال سابق لها.
فان قلت إن الوعد بالعذاب بقوله تعالى[يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] إنذار وتخويف وبلاء عظيم ينزل بفريق من الناس، فالوجه الرابع أعلاه يخرج بالتخصص من النفع والخير المحض الذي تتضمنه الآية الكريمة والجواب أنه لايخرج من مفاهيم النفع والخير من وجوه:
الأول: فيه زجر للناس عن الكفر والضلالة.
الثاني: إنه من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، في رد الله على الملائكة حينما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض، من وجوه:
الأول: ما فيه من إنحصار الكفر والضلالة.
الثاني: إمتلاء النفوس بالخوف من الله.
الثالث: الإقرار باليوم الآخر وما فيه من الجزاء على الأعمال، وإدراك حقيقة وجود النار وأن الله أعدها للكافرين.
الرابع: الوعيد في القرآن رحمة وخير محض، لأنه إخبار عن حق وصدق، ودعوة للناس للنجاة والسعي في مسالك السلامة.
الخامس: إنه موضوع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أثنى الله عز وجل على المسلمين لإمامتهم في هذا الباب وهو من صفات الحسن التي وردت في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادس: في هذا الوعيد شفاء لصدور المؤمنين، وحث لهم على الثبات على مبادئ التوحيد، والشكر لله تعالى على النجاة من براثن الكفر.
السابع: يبعث الوعيد بالعذاب النفرة من أسباب هذا العذاب وهي الكفر والظلم والجحود، وهذه النفرة خير محض.
الثامن: جاءت الآية بتعليق العذاب على المشيئة الإلهية , وفيه دعوة للناس للجوء إلى الدعاء والإستجارة بالله والتوسل به للأمن من العذاب في الدنيا والآخرة.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة وكل فرد من هذه الآية بذرة سماوية كريمة تنبت بالفقاهة وتجذب العقول، وتجعل الإنسان يتيه في حسنها ويتدبر في نفعها، وتصير له ضياء ينير له درب الأعمال، وسلطاناً على الجوارح والأركان، فلا غرابة أن فرض الله عز وجل قراءة القرآن في الصلاة اليومية لتكون تلاوة هذه الآية تنمية لملكة التقوى ومعرفة بحقيقة الأشياء وإنقيادها لواجب الوجود.
الصلة بين أول وآخر الآية
تبدأ الآية بحرف العطف(الواو) لبيان حقيقة قرآنية وكلامية بتوكيد عدم إنتهاء موضوع الآيات السابقة وما فيها من أخبار نزول الملائكة لنصرة المؤمنين، ولغة البشارة والإنذار فيها لتكون هذه الآية مدرسة في الإحتجاج ومدداً للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة , وفيها توكيد لمسألة إعجازية وهي بعد نزول الملائكة مدداً للمؤمنين تنزل آية قرآنية مدداً لهم وللملائكة الذي نزلوا لنصرتهم، وهو من الإعجاز العقلي والغيري لهذه الآية والآيات السابقة خصوصاً وان واو العطف من الكلي الطبيعي الذي يشترك فيه المعطوف والمعطوف عليه.
وللعطف مع كل شطر وآية من الآيات السابقة دلالة ومعنى سيأتي بيانه في سياق ونظم الآيات، ومن خصائص الواو في المقام أنها ترغيب لبحث الصلة بين هذه الآية والآيات السابقة وإستقراء الدروس والعبر منها، ولا يمنع هذا العطف من إستقلال ما بعدها في الموضوع والحكم , وإبتداؤها بالجملة الإسمية، وإخبارها عن مغفرة وعفو الله عز وجل عمن يشاء من الناس.
وإبتدأت الآية بذكر عائدية السموات وأنها لله عز وجل، ومن الآيات في المقام تقديم اسم الجلالة وبصيغة لام الملك لإفادة الحصر في المالكية وإنعدام الشريك لله عز وجل في ملكه للسموات والأرض.
وجاءت الآية بالإخبار عن ملك الله لكل ما في السموات والأرض، أي أن كل أفراد الخلائق والموجودات في السموات وفي الأرض هي لله عز وجل، وعلى نحو العموم الإستغراقي الشامل لأفرادها ، وعلى نحو العموم المجموعي أي أنها مجتمعة مملوكة لله عز وجل، ويتجلى هذا الجمع والإشتراك بين أفراده بلحاظ ملكيتها لله عز وجل بنزول الملائكة من السماء مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
وتكررت(ما) للبيان والتفصيل، ولمنع تأويل عطف الأرض على الاسم الموصول(ما) الذي يفيد العموم لكل موجود , وقيل إن تكرار(ما) للتوكيد ، ولكنه أعم، فلو قالت الآية(والأرض) لأحتمل معنيين، لذا فإن تكرار(ما) لتجتمع المخلوقات والممكنات والمنظورات في السماء والأرض بملكيتها لله عز وجل وذكرت الآية الحال وإرادته هو والمحل.
ترى لماذا قدمت الآية السموات فيه وجهان:
الأول: لا بد من تقديم السماء أو الأرض، وليس من خصوصية وأسباب في التقديم، والأصل هو بيان العموم في ملك الله عز وجل.
الثاني: لا بد من وجود راجح لتقديم السموات.
والصحيح هو الثاني، فليس من تقديم أو تأخير في القرآن إلا وله أسباب، وتستنبط منه مسائل وأحكام , ومنها في المقام أمور:
الأول: بيان عظيم خلق السموات وما فيها من الملائكة.
الثاني: دعوة الناس للتفكر في خلق السموات وإتخاذه بلغة للإيمان.
الثالث: تنبيه الناس إلى عظمة السموات وأنها من ملك الله عز وجل.
الرابع: توكيد نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وأن هذا النزول حاسم للمعركة، وسبب لهلاك الكفار وهزيمتهم خاسرين، قال تعالى[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
الخامس: الإخبار عن إنقياد كل ما في السماء من المخلوقات العظيمة لله عز وجل وفي قوله تعالى [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى]( )، ذكر في معناه أي استقام واستوى له كل ما في السموات.
السادس: بيان تعدد وسعة السموات , وفي حديث الإسراء أن ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وقد تجلى مصداقه في العلم الحديث والزمان الذي تستغرقه المركبات الفضائية للوصول إلى بعض الكواكب، مع السرعة الفائقة لهذه المركبات.
السابع: مع أن السماء بذاتها وأجرامها ونجومها الثوابت أعظم من الأرض فإنها تكون بعرض واحد مع الأرض وما فيها في الملكية والعائدية لله عز وجل.
الثامن: الإخبار عن ملكية الله للملائكة وأنهم عبيد داخرون له، يأمرهم بالنزول ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
التاسع: كما نفت آيات القرآن البنوة عن الله عز وجل، وأنه ليس من ولد له من الناس، فإنها تنفي وجود ولد له من الملائكة.
وبعد بيان عموم ملك الله عز وجل أخبرت الآية عن صدور المغفرة من عند الله، وتحتمل المغفرة وجوهاً:
الأول: شمول المغفرة للناس جميعاً.
الثاني: إختصاص المغفرة بجيل وجنس من الناس.
الثالث: بيان صفة مخصوصة للذين تشملهم المغفرة.
الرابع: حصول المغفرة بفعل معين يأتي به العبد كالتوبة والإستغفار وفعل الصالحات.
الخامس: تعلق المغفرة بالمشيئة الإلهية.
والصحيح هو الرابع والخامس، ويدل منطوق الآية على الوجه الأخير، وهناك آيات تبين مصاديق للمغفرة وأسباباً للهداية إليها , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( )، وجاء الإخبار عن المغفرة وموضوعها متعقباً لملك الله عز وجل للسموات والأرض , وفيه مسائل:
الأولى: بيان عظيم قدرة الله على المغفرة المتعددة والعامة.
الثانية: تدل المغفرة على علمه تعالى بأفعال العباد ونوعها سواء الحسنات منها أو السيئات , قال تعالى[إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنْ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ]( ).
الثالثة: إن الله عز وجل الذي خلق الجنة والنار يريد لعباده دخول الجنة والسلامة من النار.
الرابعة: ترغيب الناس بالتوبة بإدراك أن السموات والأرض ملك لله عز وجل.
الخامسة: بعث الخشية والخوف من الله عز وجل في النفوس، لتكون مقدمة ذاتية للتوبة.
السادسة: بيان موضوعية المغفرة في الإرادة التكوينية.
السابعة: توكيد نعمة عظيمة لا يقدر عليها إلا الله الذي له ملك السموات والأرض وهي العفو والمغفرة للذنوب والسيئات.
الثامنة: دعوة الناس لشكر الله عز وجل على تدلي نعمة المغفرة وقربها من الناس، وسهولة الإنتفاع منها للمتحد والمتعدد من الناس , قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
التاسعة: بيان ترشح الرحمة والمغفرة عن الملك العظيم لله عز وجل، فهو سبحانه القوي في ملكه يتقرب إلى العباد بالمغفرة والعفو، ومن لطفه بهم جعلهم ينفرون من السيئات والذنوب، ترى لماذا علّقت الآية المغفرة على المشيئة، فيها مسائل:
الأولى: العفو والمغفرة فضل من الله عز وجل.
الثانية: قد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار، وبعث الأنبياء والرسل وأنزل الكتب السماوية، وأقام الحجة على الناس قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( )، ثم يتفضل الله عز وجل بالعفو والمغفرة على المؤمنين.
الثالثة: لقد جعل الله الدنيا دار عفو ومغفرة، تصاحب فيها المغفرة الناس في أيام حياتهم كلها وتكون قريبة منهم، لا يفصل بينهم وبينها برزخ، وتلك رحمة من الله سبحانه في الدنيا للناس جميعاً، فجاءت هذه الآية لبيان أمور:
الأول : توكيد قانون الدنيا دار مغفرة .
الثاني : ترغيب الناس بالتوبة .
الثالث : إقامة الحجة على الكفار الذين يمنعون عن أنفسهم المغفرة.
الرابعة: بيان حاجة الناس لرحمة الله عز وجل في الدنيا والآخرة[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ] ( ).
الخامسة: لا تكون المغفرة إلا بمشيئة الله عز وجل الذي له ما في السموات وما في الأرض.
السادسة: تعليق المغفرة على مشيئة الله برزخ دون الشرك بالله، وزاجر عن الغلو بالأنبياء.
السابعة: تأديب الناس جميعاً، وجعلهم يرجون الله في العفو عنهم.
الثامنة: إستحضار الناس لمشيئة الله في أمورهم وأفعالهم، ويترشح عنه إدراك الأضرار من فعل السيئات وإرتكاب الذنوب.
التاسعة: الآية إخبار عن قانون في الإرادة التكوينية، فلا ينال العفو والمغفرة إلا بأمر ومشيئة الله، وهل في الآية شاهد على أن العفو والمغفرة من عند الله فضل ولطف منه تعالى، الجواب نعم فليس المغفرة إستحقاقاً للعبد على توبته وإنابته.
وفي علم الكلام قال بعضهم(يجب على الله)ولكن لا بد من تنزيه مقام الربوبية عن لفظ الوجوب وما فيه من معاني الإستحقاق وغيره، بل كل إحسان ورحمة ومغفرة لطف من الله عز وجل.
وبعد الإخبار عن المغفرة وما فيه من البشارة والوعد الكريم، جاءت الآية بالإنذار والوعيد(ويعذب من يشاء) وفيه مسائل:
الأولى: صلته مع بداية الآية، والإخبار عن ملك الله المطلق، وفيه وجوه:
الأول: قدرة الله عز وجل على عذاب الكفار.
الثاني: قيام الحجة على الكفار، وأن العذاب لم يأت إلا جزاء لهم على سوء أفعالهم، قال تعالى[وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ] ( ).
الثالث: تأكيد حقيقة وهي أن الله غني عن العالمين، وأنه يحاسب الناس بما كسبت أيديهم.
الرابع: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار , لأن كل شيء في الوجود هو لله عز وجل.
الخامس: زجر كفار قريش عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
السادس: الإنذار بنزول الملائكة لقتال الكفار، خصوصاً وأن هذا النزول من عذاب الكفار العاجل.
السابع: تخلف الكفار عن الإختبار والإمتحان في الدنيا، التي جعلها الله عز وجل دار أمانة , قال سبحانه[إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ]( ).
الثامن: الإخبار عن إنعدام الناصر والمعين للكفار، لأن كل الخلائق ملك لله، ومستجيبة لأمره.
التاسع: حصر المدد في معارك الإسلام الأولى بالملائكة ناصرين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، فإن قلت قد يأتي مدد للكفار والجواب، هذا المدد في حال وجوده فإنه من جيش الكفار ويلقى ذات العاقبة من العذاب الأليم، وتتوجه له إنذارات هذه الآية.
العاشر: بعث القنوط واليأس في قلوب الكفار، وتوكيد عجزهم عن النجاة.
الحادي عشر: دعوة الكفار والناس جميعاً للتدبر في أمور الدين والدنيا، وماهية أفعالهم، وما يجلبه الكفر على صاحبه من الضرر المستديم.
الثانية: صلة الإنذار بالعذاب والبشارة بالمغفرة، وفيها وجوه:
الأول: الإخبار عن حتمية الجزاء، وعدم إستثناء أحد منه.
الثاني: بيان التباين في الجزاء بلحاظ أفعال المكلفين في الدنيا.
الثالث: إجتماع الترغيب والترهيب في الآية القرآنية الواحدة.
الرابع: هذا الإجتماع من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
الخامس: توكيد أن الدنيا دار أمانة يتعاهد الإنسان فيها التكاليف العبادية, ويكون أداؤه لها سبباً للثواب العظيم، وجحوده وإعراضه عنها سبباً لعذابه.
الثالثة: تقديم المغفرة في الآية على العذاب، وفيها مسائل:
الأولى: بيان سعة رحمة الله.
الثانية: العفو والمغفرة من الله، وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل وأبو نصر السجزي في الابانة والديلمي عن عمرو بن عبسة قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك } ما كان النداء؟ وما كانت الرحمة؟ قال: كتاب كتبه الله قبل أن يخلق خلقه بألفي عام ، ثم وضعه على عرشه ، ثم نادى : يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي ، أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدي ورسولي صادقاً أدخلته الجنة( ) .
الثالثة: إكرام المسلمين لأنهم المخاطبون في الآية الكريمة , وبعث السكينة في نفوسهم.
الرابعة: ترغيب الناس بالإسلام، وبيان الملازمة بين أداء الفرائض وبين المغفرة.
السادسة: فيه حجة على الكفار، لأنهم حجبوا عن أنفسهم الإنتفاع من نعمة المغفرة.
الرابعة:تعليق العذاب على المشيئة الإلهية، وفيها وجوه:
الأول: بيان لمصداق من مصاديق الإرادة التكوينية، وأنها بيد الله عز وجل.
الثاني: توكيد فضل الله عز وجل على الناس.
الثالث: عدم وجود ملازمة بين الذنب والعذاب , فلابد من المشيئة الإلهية بنزول العذاب.
الرابع: توكيد اللطف الإلهي بالناس جميعاً.
الخامس: دعوة الناس للتوبة والإنابة.
السادس: فيه دلالة على وجود النار، وأن الله عز وجل خلقها للكفار.
السابع: مصاحبة الرجاء للغة الإنذار في الآية الكريمة، إذ أن التعليق على المشيئة رحمة من عند الله.
الثامن: إن الله عز وجل [أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا] ( )، وهو سبحانه يعلم أحوال العباد، ومن تدركه أسباب الهداية والصلاح، فلذا أختتمت الآية الكريمة بقوله تعالى[وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ليتكرر موضوع المغفرة في هذه الآية والترغيب فيه مرتين فجاء بصيغة الجملة الفعلية[يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ].
وأختتمت الآية بثلاثة من أسماء الله الحسنى, وفيه ترغيب بالتوجه وأمل بالنهل من رحمة الله عز وجل في الدنيا والآخرة، إذ أن الخاتمة جاءت بصيغة الإطلاق الزماني والمكاني والموضوعي , فاذا كان قوله تعالى[يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] يخرج الكافر بالتخصيص من المغفرة والإنتفاع من إسم(الغفور) .
أما إسم(الرحيم) فيبقى على إطلاقه وشموله للناس جميعاً على نحو العموم الإستغراقي والعموم المجموعي في الحياة الدنيا.
لقد إبتدأت الآية باسم الجلالة وإنتهت بثلاثة من الأسماء الحسنى منها اسم الجلالة وفيه مسائل :
الأولى : الآية شاهد على الربوبية المطلقة لله .
الثانية : فيها تقريب للناس للعبادة .
الثالثة : إلتقاء بداية وآخر الآية باسم الجلالة والأسماء الحسنى من إعجازها، وما لها من الدلالات .
الرابعة : فيه دعوة للتدبر في مضامين الآية القدسية، وما فيها من البراهين الكونية والحجج الكلامية
الخامسة : إتخاذ الحياة الدنيا مناسبة كريمة للفوز بالمغفرة , وإحراز الوقاية من العذاب الدنيوي والأخروي.
السادسة : بيان سعة ملك الله وقدرته على كل شئ , وعدم إستعصاء مسألة عليه , وهو سبحانه رحيم بالناس، وما بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا مصداقاً لهذه الرحمة لذا قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وتتجلى الرحمة الإلهية بنزول هذه الآية بعد آيات القتال ونزول الملائكة لنصرته وأصحابه , لتكون على وجوه :
الأول : الثناء على المؤمنين .
الثاني : الوعد الكريم بدوام المدد من الله .
الثالث : المدد الملكوتي رشحة من رشحات رحمة الله .
الرابع : فيه وعيد للكفار.
الخامس : دعوة الناس للتدارك والإنابة واللحوق بالمسلمين في فوزهم بالمغفرة والعفو والنصر من عند الله.
ولا تنحصر رحمة الله عز وجل بأهل الأرض بل هي عامة وشاملة للخلائق كلها وهو من معاني الإطلاق في اسم الرحيم.
بحث فلسفي
يظهر الإطلاق في ملك الله عز وجل للموجودات بذكر عموم الخلائق والجواهر والأعراض والموجود الممكن على قسمين، أما أن يكون متحيزاً وهو الجوهر والحاصل في مكان ويشار إلى جهته وموضعه إشارة حسية فيقال انه هناك.
أو يكون حالاً في الجوهر، وهو العرض والذي لا يتقوم بذاته وإن كان له وجود خارجي, ولا يستغني عن غيره لأنه حال ولا وجود له بدون جسم، فمن العرض الألوان والطعوم والروائح والعلوم والإرادة ونحوها مما تعرض في الأجسام والجواهر، وقد قسم العرض إلى تقسيمات عديدة منها ما يتعلق بالحكم فيما يقبل في مفهومه القسمة، وأما أن يكون بالكيف.
ومنها العرض الساري وغير الساري، والأول من كان كل جزء من الحال يلاقي كل جزء من المحل.
والعرض الخارجي، والخاص، والإضافي , والعرض القار وهو الذي تجتمع أجزاؤه في الوجود كالسواد والبياض، والعرض اللازم والعارض، لذا ذكر الحكماء أن الأجناس العالية للممكنات عشرة وهي الأعراض التسعة والجوهر، وأطلقوا عليها اسم المقولات العشر وهي:
1- الكم، 2- الكيف، 3- الأين، 4- المتى، 5- الوضع، 6- الملك، 7- الإضافة، 8- أن يفعل، 9- أن ينفعل، 10- الجوهر.
والأنسب أن تجري القسمة والإصطلاح على نحو يكون ملائماً للواقع بإعطاء الجوهر اعتباراً أكثر , فالمقولات التسعة كلها أعراض لا تتقوم بذاتها بل تحتاج إلى الجوهر وهو المحل، فالأولى أن تكون القسمة على وجهين:
الأول: الجوهر.
الثاني: العرض: ويتكون من مقولات تسع وهي 1-الكم2- الكيف …..إلى آخر المقولات التسعة.
والمراد من (العرضي) هو الأمر الإعتباري الموجود في الإعتبار، والذي هو برزخ بين الوجود العيني الخارجي وبين الوجود الذهني مثل الزواج والملكية والرقية ونحوها.
وهل الأعراض والمقولات التسعة من عمومات ملك الله في هذه الآية الجواب نعم، فهي وإن كانت تحل في غيرها إلا أن ملك الله يشمل الحال والمحل لتكون على وجوه :
الأول : إنها آيات تدل على بديع صنع الله , وهي موضوع ومناسبة لشكره تعالى.
الثاني : هي بلغة للإجتهاد في طاعة وعبادة الله .
الثالث : إنها وسيلة لتعاهد الإستغفار والصلاح.
الرابع : فيها مادة لرجاء توالي النعم , قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، ( ).
لقد أكدت الآية أن كل شيء في السماء والأرض هو ملك لله ومستجيب لمشيئته بداية ووجوداً وإنعداماً، وفيه دعوة للناس لدخول الإسلام , وتخويف من الجحود وعواقبه .
وإختلف المتكلمون في خلق الجنة والنار على قولين، فالمشهور والمختار أنهما مخلوقتان، والقول الآخر أنهما لم يخلقا بعد، وتدخل الجنة والنار في عمومات الآية الكريمة للقطع بخلقهما وأنهما حقيقة، وفيه إنذار إضافي للكفار، وزجر عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، ويشمل قوله تعالى(ما في الأرض) الناس والدواب والجبال والبحار والأنهار والطير، وصحيح أن اللام تفيد الملكية، إلا أن معناها في المقام أعم فهو يشمل الخالقية والمشيئة والقدرة المطلقة .
التفسير الذاتي
تكرر قوله تعالى(لله ما في السموات وما في الأرض) في آيات عديدة من القرآن , وله دلالات عديدة بلحاظ ذات اللفظ ومضامينه القدسية، وموضع الآية وصلتها مع الكلمات الأخرى الواردة في ذات الآية الكريمة، فجاء في سورة البقرة مرة واحدة , وتتمة الآية[وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وتجتمع الآيتان في الإخبار عن كون المغفرة والعذاب بيد الله عز وجل وتكرر ذات اللفظ(لله ما في السموات وما في الأرض) ثلاث مرات في سورة آل عمران، ففي الآية التاسعة بعد المائة جاء الشطر الثاني من الآية بالإخبار عن رجوع الأمور كلها لله عز وجل , وحضور أفعال العباد بين يديه سبحانه بقوله تعالى[وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
وورد في سورة النساء ثلاث مرات بذات نص هذه الآية( )، وورد مرتين بذات المعنى والدلالة قال تعالى[وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، وقال تعالى[لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً]( )، لترغيب الناس بالإيمان، ، وبعثهم نحو فعل الصالحات وإتخاذها بلغة لنيل الثواب العظيم، وجعلهم ينفرون من الكفر والضلالة .
لقد جاءت هذه الآيات بالوعد بنزول الملائكة والإخبار عن نزولها للقتال إلى جانب المسلمين، وفيه مسائل :
الأول : تحذير للكفار والظالمين من الإعراض عن لغة الوعد والوعيد في القرآن.
الثاني : حث الناس جميعاً على التدبر في وعد القرآن للمسلمين وأنه حق وصدق، قال تعالى[أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ]( ).
الثالث : فيه دعوة للمسلمين للنفور والخروج للجهاد في سبيل الله، ليكون الإيمان بنزول الملائكة رشحة من الإيمان بهم , والإقرار بعبوديتهم التامة لله عز وجل، وهو أمر خاص برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم ومن إتبعه .
لقد آمن المسلمون وأتباع الأنبياء من الأمم السابقة بالملائكة وخلقهم وسكنهم في السماء، ولكنهم لم ينزلوا لنصرتهم مدداً وعوناً كما نزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنصار والمهاجرين، وفيه مسائل:
الأولى: توكيد تفضيل المسلمين وأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثانية: نزول الملائكة شهادة سماوية على صدق إيمانهم وإخلاصهم في عبادة الله.
الثالثة: لقد أراد الله عز وجل أن يكون الإسلام الديانة الباقية في الأرض إلى يوم القيامة فتفضل بتسخير الملائكة لتثبيته في الأرض، وقوله تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( )، وعد كريم بحفظ الإسلام وأحكامه وسننه إلى يوم القيامة.
الرابعة: نزول الملائكة من السماء شاهد على مضامين هذه الآية , وإخبار عملي للناس بأن كل ما في السموات والأرض ملك له سبحانه.
الخامسة: إعانة المسلمين بما فيه تثبيت إيمانهم وزيادة قوتهم بما يترشح عن نزول الملائكة من البينات والنعم التوليدية المتجددة.
السادسة: دعوة المسلمين للتوكل على الله، وتفويض الأمور له سبحانه، وطرد أسباب الشك والريب , قال تعالى[لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً]( ).
ومن إعجاز القرآن أن الآية التي فيها إخبار عن ملك الله للسموات والأرض تتضمن معاني ودلالات تؤكد هذه الحقيقة، وتجعل منها سبباً وشاهداً للتصديق بتلك المضامين، كما في الآية محل البحث إذ أن المغفرة والعذاب فرع ملك الله عز وجل للسموات والأرض وما فيهما، فليس من أحد يغفر الذنوب إلا هو، وليس هناك من يحتج فيما يناله المؤمنون من الثواب، وما ينزل بالكفار من العذاب.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: إبتداء الآية بحرف العطف(الواو) دعوة للتدبر في آيات الله.
الثانية: دعوة الناس للإرتقاء في المعارف الإلهية، وحثهم على التدبر في خلق السموات والأرض.
الثالثة: توبيخ الكفار على عنادهم وجحودهم، إذ أن الإخبار عن ملك الله للسموات والأرض دعوة للناس جميعاً للإيمان.
الرابعة: توكيد صدق نزول القرآن من عند الله فليس فيه إلا الدعوة إلى التوبة والصلاح.
الخامسة: بيان سعة ملك الله،، وإستجابة الخلائق كلها له، وفيه تعريض بالكفار الذين رزقهم الله عز وجل العقول لإتخاذها آلة لعبادته والتفكر ببديع صنعه، فإمتنعوا عن توظيفها في مرضاة الله، وغلبت عليهم النفس الشهوية والغضبية , فجاءتهم هذه الآية بالإنذار بالعذاب الأليم، قال تعالى[فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ] ( ).
السادسة: توكيد نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وأنه أمر ممكن لوجود المقتضي وفقد المانع فإن أهل السماء وأهل الأرض ملك لله عز وجل , وأبى سبحانه إلا حفظ الإقرار بملكه للخلائق في الأرض والسماء عند أهل الأرض، فنزل الملائكة لتثبيت مضامين هذه الآية.
فكما تتضمن الآية الإخبار عن نزول الملائكة فهي تبين أن نزول الملائكة لتثبيت مضامين هذه الآية في الأرض، وهي إنذار للكفار الذين يمتنعون عن عبادة الله، ويسعون في الأرض فساداً، ويزحفون بالجيوش والخيل للقضاء على الإسلام، وأهل لا إله إلا الله الذين يسلمون بأن ما في السموات وما في الأرض ملك لله عز وجل.
السابعة: الآية واقية لأجيال المسلمين من الكفار، ومانع من الخوف منهم.
الثامنة: توكيد عالم الحساب وما في الآخرة من الثواب والعقاب، وأن الجنة حق والنار حق.
التاسعة: بيان فضل الله عز وجل على الناس بنزول القرآن.
العاشرة: دعوة المسلمين والناس جميعاً للشكر لله على الوعد الكريم بقوله تعالى(يغفر لمن يشاء).
الحادية عشرة: حث المسلمين على الدعاء وسؤال العفو والمغفرة من عند الله، والفوز بالجنة والنجاة من العذاب وحر النار.
الثانية عشرة: شكر الله عز وجل للمسلمين على جهادهم وصبرهم ببشارتهم بالمغفرة والعفو، قال تعالى[فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( ).
الثالثة عشرة: إن المغفرة والعذاب أمران بيد الله عز وجل، ولا يقدر عليهما إلا هو سبحانه , وهل المراد من العذاب في الآية إمكانه والقدرة على وقوعه، أم أنه أمر حاصل في الآخرة على نحو القطع، الجواب هو الثاني فيدخل الكفار النار خالدين فيها إلا أن يشاء الله , وتدرك المغفرة فريقاً من الناس بين ثنايا وأحوال العذاب .
فمن يغفر الله له لا يعذبه , ومن يلقى العذاب عقاباً قد يرفع عنه العذاب بفضل من الله عز وجل ومشيئته , قال تعالى[خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ]( ).
فمن التباين بين المغفرة والعذاب أن المغفرة مستمرة وحاضرة في كل أوان بينما لا يكون العذاب إلا بعد التمادي في السيئات وتتعقبه المغفرة، ولا يستطيع هو أن يتعقب المغفرة.
الرابعة عشرة: من رحمة الله بالناس توكيد الآية لمضامين المغفرة والعفو وإختتامها بقوله تعالى(والله غفور رحيم) لبيان أن باب المغفرة والعفو مفتوح للناس جميعاً وفي كل الأحوال، وأن إرتكاب العبد للذنب، وإستحقاقه للعذاب لا يغلق عليه باب المغفرة .
ومن أسرار الآية الكريمة أنها تمنع إبتعاد العبد عن أسباب المغفرة والرحمة، وتؤكد قبول التوبة رحمة من الله عز وجل، وهو من الشواهد على حاجة الناس للقرآن وعمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، من وجوه:
الأول: إنتفاع المسلمين الأمثل من أبواب المغفرة وحسن ولوجهم لها.
الثاني: إتخاذ المسلمين الإستغفار سلاحاً وواقية وحرزاً.
الثالث: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن مصاديقه الزجر عن الذنوب، والدعوة إلى التوبة والإنابة والصلاح.
الرابع: تلاوة هذه الآية وما فيها من الترغيب بالإسلام، ومنع النفرة من الدعوة إلى التوبة.
الخامس: المسلمون أئمة في التوبة والإنابة وأسوة حسنة للناس في الصالحات.
وكما يفيد تقديم المفعول على الفاعل الحصر مثل بيان إنحصار عبادة المسلمين بالله في قوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، فان تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر والإختصاص أيضاً، ومن معاني الححصر إثبات المذكور ونفي غير المذكور لتوكيد إطلاق ملك الله، وإمتناع شريك الباري، وكل ما يتخذونه شريكاً هو مملوك لله في ذاته وفعله.
وقد تفضل الله سبحانه وجعل كل فرد من الخلائق يدل بذاته إنه مملوك لله عز وجل ومحتاج إلى رحمته وجوداً وإستدامة وإنعداماً.
وجاء تقديم السماوات بصيغة الجمع على الأرض في القرآن مائة وتسعاً وأربعين مرة، وقدمت الأرض على السموات في أربع آيات قال تعالى[تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلاَ] ( ).
سياق الآيات
الصلة بين هذه الآية والآيات المجاورة على شعبتين:
الأولى: الصلة بين الآيات السابقة وهذه الآية، وفيها وجوه:
الأول:الصلة بين الآية السابقة(ليس لك من الأمر) ( )، وبين هذه الآية.
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية، أما الآية أعلاه فقد وردت بصيغة الجملة الإنشائية، والخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: إلتقاء الآيتين بذكر المغفرة والعذاب مع التباين بينهما في الموضوع.
الثالثة: كل من الآيتين توكيد للآية الأخرى.
الرابعة: تحث الآيتان مجتمعتين ومتفرقتين على التوبة , وسؤال العفو والمغفرة.
الخامسة: الله عز وجل وحده الذي يقول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(ليس لك من الأمر شيء) فالله سبحانه له ما في السموات وما في الأرض.
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين تشريف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكفايته من مالك السموات والأرض.
السابعة: الله الذي له ما في السموات والأرض يعفو ويتجاوز عن سيئات الذين يهجرون الكفر والضلالة.
الثامنة: الله هو الذي يحصي أفعال العباد، والقادر على العفو عن الناس.
التاسعة: ترغيب الناس بالتوبة حباً وشوقاً لله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
العاشرة: ذكرت الآية أعلاه توبة الله على من يتوب من الكفار، وجاءت هذه الآية بالمغفرة ومحو الذنوب عمن يشاء الله عز وجل، وتحتمل النسبة بين التوبة والمغفرة وجوهاً:
الأول: العموم والخصوص من وجه، وأن هناك مادة للإلتقاء، ومادة للإفتراق.
الثاني: التساوي بين توبة الله والمغفرة منه تعالى.
الثالث: البرزخية بين الوجهين أعلاه، وقد لا يكون هذا القسم تاماً، إذ أن أدنى إفتراق بينهما يجعل النسبة من الوجه الأول أعلاه، ولكننا ذكرناه للإشارة إلى التداخل بينهما، وصعوبة تلمس مادة للإفتراق بينهما.
ويتجلى الفارق في المعنى اللغوي لكل من التوبة والمغفرة،(وقال ابن منظور:تاب الله عليه: وفقه لها) ( )، أي للتوبة ولكن معنى توبة الله عز وجل أعم ويشمل محو الذنوب والمغفرة من جهات:
الأولى: لو تردد معنى توبة الله بين المغفرة وتقريب العبد إلى التوبة, فالأصل هو الأول، والله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم.
الثانية: يفيد قول:تاب الله عليه : أن فعل التوبة لله عز وجل، وليس للعبد فيها شأن، نعم تتعقب هذه التوبة توبة وإنابة العبد ولكنه ليس من العلة والمعلول لوجوه:
الأول: يتعقب المعلول علته، أما في المقام فان التوبة من الله رحمة وفضل .
الثاني: سبب التوبة هداية ولطف من الله.
الثالث: يصلح الله عز وجل من يشاء من عباده للتوبة ليكون من الذين يشملهم قوله تعالى[يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ].
وكما يرجع العبد عن الذنب والمعصية إلى الطاعة، فإن الله عز وجل يرجع عليه بالمغفرة والتجاوز عن سيئاته، يقال تاب إلى الله يتوب توباً وتوبة ومناباً أي أناب ورجع إلى الطاعة.
الثالثة: من أسماء الله عز وجل(التواب) وهو الذي يرجع على عباده بالعفو قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( )، ومن أسمائه تعالى(الغفور، الغفار) وهو من أبنية المبالغة والمعنى أنه تعالى الساتر لذنوب عباده، والمتجاوز عن سيئاتهم(وأصل الغفر التغطية والستر، غفر الله ذنوبه أي سترها) ( ).
ومن الإعجاز أن الآيتين بمعنى التوبة والمغفرة ليكون الجمع بينهما من اللطف الإلهي من وجوه:
الأول: بشارة التوبة والمغفرة.
الثاني: الترغيب بالتوبة والإنابة.
الثالث: الجمع بين أسماء الله التي تتضمن التوبة والعفو والمغفرة سبب للنفرة من المعاصي.
الرابع: دعوة الناس للتوبة والإنابة.
الخامس: تعدد أسماء الله عز وجل بخصوص التوبة والإنابة توكيد لسعة رحمة الله عز وجل وشمولها للناس جميعاً.
السادس: حث المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان موضوع من مواضيعه وهو توبة وعفو الله عن التائبين.
الرابعة: ليس بعد توبة الله عز وجل على العبد من ضرر وأذى، لأن الله له ملك السموات والأرض، وما من أحد إلا ويستجيب لأمر الله، فيقوم الملائكة بمحو الذنوب التي كتبوها عليه، ويتلقاه المسلمون بالقبول والأخوة الإيمانية.
الخامسة: بين قوله تعالى(يتوب عليهم) و(يغفر لمن يشاء) وجوه:
الأول: إرادة التوبة على الذين يدخلون الإسلام من كفار قريش والذين يحاربون الإسلام، أما المغفرة في هذه الآية فهي أعم.
الثاني: جاء قوله تعالى(أو يتوب عليهم) على نحو الترديد بين التوبة وبين والعذاب، وجاءت المغفرة معلقة على المشيئة الإلهية.
الثالث: إتحاد الآيتين في الترغيب بالتوبة، وبذل الوسع للفوز بالعفو والمغفرة من الله عز وجل.
الرابع: جاء ذكر التوبة في الآية أعلاه خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أما موضوع المغفرة فجاء بصيغة الجملة الخبرية.
الخامس: كل من موضوع التوبة والمغفرة وعد كريم من عند الله عز وجل، تأتي المغفرة من عند الله متعقبة للتوبة والإنابة من العبد، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى] ( )، ولكن هذا التعقب ليس من تعقب المعلول الذي لا يتخلف عن علته، إنما المغفرة فضل من الله عز وجل، وجاءت الآيات الخاصة بالمغفرة في أمور:
الأول: الوعد الكريم من الله بالتوبة والمغفرة.
الثاني: ترغيب الناس بالتوبة.
الثالث: بيان أن التوبة وترك المعاصي أمر وجودي وممكن على الناس السعي إليه وفيه.
الرابع: بيان عظيم رحمة الله في مغفرة ذنوب الناس.
الخامس: توكيد فضل الله عز وجل بالمغفرة والعفو عمن يشاء سبحانه.
السادس: توكيد مصاديق رحمة الله بالناس جميعاً ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن وما فيهما من أسباب العفو والمغفرة، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ].
السادس: ذكر موضوع وحكم يكون مصداقاً لقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، إذ يفوز المسلمون بالعفو والمغفرة.
السابع: بيان سعة رحمة الله عز وجل.
الثامن: دعوة المسلمين للإستغفار وهو أعظم كفارة.
التاسع: حث المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجذب الناس لمنازل الإستغفار وأسباب ومقدمات العفو والمغفرة.
العاشر: بين قوله تعالى(أو يتوب عليهم) وبين(ويعذب من يشاء) وجوه:
الأول: جاء الإخبار عن التوبة والعفو عن الظالمين من قريش بصيغة الترديد التي يدل عليها الحرف(أو) بينما جاء الإخبار عن العذاب متعلقاً بالمشيئة الإلهية، وليس من تعارض بينهما.
الثاني: تقدير الجمع بينهما أو يتوب عليهم أو يعذبهم.
الثالث: من لم يتب الله عليه فإنه يلقى العذاب الأليم.
الرابع: بينما إختلف وتعدد اللفظ القرآني في الآيتين بخصوص العفو، إذ جاء في الآية أعلاه بصيغة(التوبة) وجاء في هذه الآية بصيغة المغفرة، جاءت لغة العذاب والعقاب والبطش متحدة لفظاً ومعنى بصيغة العذاب، فورد في الآية أعلاه(أو يعذبهم)، وجاء في هذه الآية(ويعذب من يشاء).
وفيه بيان لعظيم الفضل الإلهي بالتعدد بصيغ التوبة والمغفرة، وهما رحمة مفترقتين ومجتمعتين، وهل هو مثل تعدد اليسر وإتحاد العسر في قوله تعالى[إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا] ( )، الجواب بينهما في المعنى عموم وخصوص من وجه.
الخامس: خروج المسلمين بالتخصص من لغة الإنذار بالعذاب في هذه الآيات، لأنهم فازوا بتوبة وعفو الله بدخولهم الإسلام، وبلحاظ قيد تعيين الكفار في قوله تعالى(أو يتوب عليهم أو يعذبهم)
السادس: ليس من برزخ للكفار بين التوبة والعفو من الله وبين المغفرة المعلقة على المشيئة، وفيه زجر لهم عن البقاء على الكفر والجحود.
السابع: دعوة المسلمين والناس جميعاً للتدبر في موضوع تعليق المغفرة على المشيئة الإلهية، وكيفية الفوز بالمغفرة , قال تعالى[قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ]( ).
الثامن: تكرار لفظ العذاب في آيتين متعاقبتين , وإرادة الكفار به سبب لبعث السكينة في نفوس المسلمين من وجوه:
الأول: يجب لطلب السلامة من العذاب التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه.
الثاني: شفاء صدور المسلمين لما يلقاه الكفار من العذاب.
الثالث: إستحضار المسلمين والناس لعالم الحساب والجزاء وما يلقاه الكفار يومئذ.
الرابع: تعاهد الفرائض والواجبات طاعة لله , قال تعالى[وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ] ( ).
الخامس: التوجه بالشكر لله عز وجل على نعمة الهداية والإيمان , وما فيها من السلامة من العذاب .
السادس: إعانة المسلمين في الجدل والإحتجاج على الكفار.
السابع: الإحتراز من الإفتتان، وسعي الكفار للإغواء والإرتداد.
الثامن: الصبر على أذى الكفار للعلم بما يلقونه من العذاب.
ومن الآيات مجيء الآيتين بلغة الإطلاق الزماني والموضوعي في العذاب الذي يلقاه الكفار، وأصالة الإطلاق هي الأصل اللفظي للفظ المطلق عند الشك بوجود قيود وشروط وحالات خاصة.
وقيود اللفظ القرآني أعم من أن تنحصر بذات الآية أو اللفظ، بل القرآن يفسر بعضه بعضاً، بالإضافة إلى أسباب النزول وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وتلك آية في كنوز القرآن تستلزم إستحضار آياته ومضامينه القدسية عند إرادة تفسير آية قرآنية وإستنباط الأحكام والمسائل منها:
الصلة بين (أو يعذبهم) وبين (والله غفور رحيم)
وفيها مسائل:
الأولى: مع أن الله عز وجل هو الغفور الرحيم فإنه سبحانه يعذب الذين يقيمون على الكفر والجحود.
الثانية: توبيخ الكفار لحرمانهم أنفسهم من رحمة الله.
الثالثة: غلق الكفار باب المغفرة عن أنفسهم بسوء إختيارهم.
الرابعة: جعل الكفار يلومون أنفسهم على ما ينزل بهم وما ينتظرهم من العذاب، إذ أن الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الخامسة: ترغيب الكفار والناس جميعاً بالتوبة والمغفرة.
السادسة: توكيد التباين والتضاد بين المسلمين والكفار بتنعم المسلمين برحمة الله، وحرمان الكفار من العفو والمغفرة.
السابعة:مع نزول العذاب بالكفار فانهم ينتفعون من رحمة الله في الدنيا بمصاديق أكثر من أن تحصى على كل فرد منهم لعمومات قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( )، الشامل لنعم الدنيا والآخرة، وتعلق النعم بالمسلمين والناس جميعاً.
الثامنة: جاء قوله تعالى[أَوْ يُعَذِّبَهُمْ] بلغة التخيير والترديد , ليفيد الجمع بينه وبين خاتمة هذه الآية أموراً :
الأول : حث الكفار على التوبة والإنابة والفوز برحمة الله.
الثاني : دفع اليأس والقنوط عن النفوس .
الثالث : ترغيب الناس بالإستجارة بالله من العذاب .
الرابع : إدراك الناس لقانون بقاء باب المغفرة مفتوحاً.
التاسعة: ذم الكفار على عدم مقابلة رحمة الله بالشكر ,ويتجلى الشكر بالإيمان والتقوى.
العاشرة: إخبار الكفار بعدم إضرارهم بالمسلمين لأن الله عز وجل يغفر ويرحم المسلمين مجتمعين ومتفرقين، وهو من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الحادية عشرة: من رحمة الله بيان علة العذاب وهي الظلم من منازل الكفر ، وفيه منع للجهالة , وطرد للغفلة , وإعانة وتقريب لمنازل التوبة والإنابة.
الثانية عشرة: من رحمة الله عز وجل ترغيب الكفار بالمغفرة، ويستقرأ هذا الترغيب من مفاهيم الجمع بين الآيتين.
الثالثة عشرة: عدم إستيلاء اليأس على نفوس الكفار لدلالة خاتمة هذه الآية على بقاء باب المغفرة والتوبة مفتوحاً، وإخبارها بأن الله عز وجل هو (الغفور الرحيم).
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: بعد الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن ليس له [مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ] جاءت هذه الآية لتؤكد أن كل الأشياء والخلائق هي ملك لله عز وجل، وفيه آية إعجازية في سياق الآيات لما يدل عليه من البيان بأن الله عز وجل يخفف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالإنتقام من الكفار فهم في ملكه ولن يستطيعوا الهروب من حكمه، ووعيده بالعذاب لمن يصر على الكفر والعناد.
الثانية: يحتمل قوله تعالى(ليس لك) وجهين:
الأول: الصفة الشخصية والتقدير: ليس لك يا محمد.
الثاني: صفة النبوة والرسالة: ليس لك يا رسول الله.
ولا تعارض بين الوجهين، فمع مقام النبوة فإنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمر وعاقبة الكفار شيء، لأن أمرهم بيد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
الثالثة: بدأت هذه الآية بقوله تعالى(لله ما في السموات وما في الأرض) ويحتمل قوله تعالى(ليس لك من الأمر شيء) وجوهاً:
الأول: خصوص ما في الأرض، لأن موضوع الآية أمر الكفار ونزول البلاء بهم، وهلاك طائفة منهم.
الثاني: ما يخص السماء وما فيها لأنها عالم آخر بعيد عن الناس، ولا يستطيعون التصرف فيه.
الثالث: إطلاق الآية، وعموم موضوعها وأنه ليس للنبي شيء في أمر الكفار سواء فيما يتعلق بأحوالهم في الأرض، أو بما يأتي بخصوصهم من السماء، ومنه نزول الملائكة للبطش بهم , قال تعالى[فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ).
الرابعة: دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لتفويض أمورهم إلى الله، والتطلع لنزول الفرج من عنده , قال تعالى[قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ]( )، وهذا التطلع لا يتعارض مع أداء الواجبات والسعي في سبيل الله.
الخامسة: تقدير الجمع بين بدايتي الآيتين:ليس لك من الأمر شيء بل الأمر كله لله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
السادسة: دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجاء فضل الله بما يفوق أمور الأرض، كما في نزول الملائكة من السماء لنصرته والمؤمنين في المعركة.
السابعة: الجمع بين بدايتي الآيتين سياحة في عالم الملكوت، وندب للدعاء ورجاء الفضل الإلهي من السماء ومن الأرض ومنهما معاً مجتمعين.
الثامنة: إن الله عز وجل يسخر ما في السموات وما في الأرض للتخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، والإنتقام من الكفار والظالمين.
التاسعة: من مصاديق الربوبية المطلقة لله عز وجل أن الأمر كله له سبحانه , قال تعالى[قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] ( )، لذا جاءت الآية بحصر الإرادة والمشيئة بالله عز وجل.
الصلة بين (ليس لك من الأمر شيء) وبين (يغفر لمن يشاء)
وفيها مسائل:
الأولى: المغفرة والعفو عن الذنوب أمر بيد الله عز وجل وحده.
الثانية: دعوة المسلمين والناس جميعاً إلى اللجوء إلى الله عز وجل طلباً للمغفرة.
الثالثة: حث المسلمين على الدعاء والتضرع إلى الله، للفوز بالمغفرة والعفو.
الرابعة: إذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس له من الأمر شيء فإن غيره من الناس ليس بيده من المغفرة شيء وفيه دعوة للإنقطاع إلى الله عز وجل.
الخامسة: ليس من أحد من الخلائق يمنع مغفرة الله عز وجل لذنوب من يشاء من عباده وفي الحديث : لو اجتَمَعَ الإنسُ والجنُّ على أن ينفَعُوكَ بشَيءٍ لم يَنفَعُوكَ إلاَّ بشَيءٍ قد كَتَبَه اللهَ لك ، ولو اجتَمَعُوا على أَن يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لم يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدَّرَهُ اللهُ عليكَ ( ).
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين فوز التائبين من الكفار بالمغفرة من عند الله عز وجل .
السابعة: تضمن قوله تعالى(ليس لك من الأمر شيء)البشارة بالمغفرة للمسلمين والناس جميعاً.
الثامنة: ترغيب الناس بالإستغفار ونيل العفو بطريق مخصوص على سبيل الحصر وهو دخول الإسلام وأداء الوظائف العبادية.
التاسعة: يأتي الوعد والأمل في ثنايا الوعيد القرآني، ويستقرأ اللطف الإلهي من ذات الآية القرآنية، ومن جمعها مع غيرها من الآيات كما في الجمع بين الآيتين وتقديره:ليس لك من الأمر شيء يغفر لمن يشاء) أي أن الذين يقاتلونك يغفر لهم الله عز وجل إن تابوا وأصلحوا، وفيه آية من التأديب الإلهي للمسلمين .
العاشرة: إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية، وجعلهم يواظبون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه ترغيب الكفار والناس جميعاً بالتوبة والإنابة.
الحادية عشرة: طرد اليأس من النفوس، ومنع القنوط من رحمة الله.
الثانية عشرة: الإخبار عن قانون ثابت في الإرادة التكوينية وهو إنعدام البرزخ والحاجب بين الإنسان والتوبة.
الثالثة عشرة: تعليق المغفرة بمشيئة الله باعث على حب الله عز وجل، والتفكر في بديع مخلوقاته وآيات ملكه في السموات والأرض، والتدبر في كيفية الفوز بفرد من المشيئة الإلهية بالرحمة والمغفرة.
الصلة بين(ليس لك من الأمر شيء) وبين(يعذب من يشاء)
وفيها مسائل:
الأولى: بيان عظيم قدرة الله عز وجل على تعذيب الكفار والجاحدين.
الثانية: إنذار كفار قريش وغيرهم من بطش الله عز وجل، وقد جاءت السور المكية بالإنذار والوعيد العام والخاص للمشركين , ومن الخاص قوله تعالى[تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ] ( )، ومن العام قوله تعالى[فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا]( )، أي أن الله عز وجل هو الذي ينتقم منهم.
الثالثة: يبعث تعليق العذاب على مشيئة الله الفزع والخوف في قلوب الكفار .
الرابعة: لقد قام كفار قريش بتعذيب المؤمنين، وحاربوهم بأرزاقهم وأكثروا من الإستخفاف بهم، فهاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه إلى يثرب , فزحفت قريش بجيوش عظيمة لأسرهم وقتلهم، فجاءت هذه الآيات بكفاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، والإخبار عن نزول العذاب الأليم بالكفار، وفيه مواساة للمؤمنين لما لاقوا من العذاب , ودعوة لهم للصبر وتعاهد الإيمان والفرائض وأحكام الشريعة.
الخامسة: إن عذاب الله نازل بالكفار، ولا ترده الخلائق عنهم، وفيه زاجر لهم عن الكفر، ودعوة للإقلاع عنه، وحث على المبادرة إلى التوبة والإنابة.
الثالثة: ذكرت هذه الآية الترديد بين المغفرة والعذاب، وكذا الآية السابقة فإنها ذكرت الترديد بين توبة الله والعذاب، وبينهما عموم وخصوص مطلق إذ تشمل مضامين هذه الآية الناس جميعاً، أما الآية أعلاه فهي خاصة بالكفار، وتتعلق التوبة فيها بالذين يتوبون منهم.
الرابعة: تلتقي الآيتان في إنذار الكفار، ووعيدهم بالعذاب.
الخامسة: الصلة بين خاتمتي الآيتين، وفيها وجوه:
الأول: أختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى(فإنهم ظالمون) في وصف للكفار الذين يحاربون المسلمين، وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فصفة الظلم تشمل الكفار جميعاً وفق القياس المنصوص العلة , وللإطلاق في الآيات القرآنية التي تذم الكفار والظالمين قال تعالى[وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ).
الثاني: أختتمت هذه الآية بقوله تعالى(والله غفور رحيم) وفيه دعوة للظالمين للتوبة والإنابة والتنزه عن ظلم النفس والغير.
الثالث: يفيد الجمع بين الآيتين أن المغفرة باب مفتوح للناس جميعاً.
الرابع: دعوة المسلمين إلى التفقه في الدين، وعدم اليأس من إسلام الكفار الظالمين للعلم بأن الله عز وجل هو الغفور الرحيم.
السادسة: ذم الكفار على ظلمهم لأنفسهم، وعدم إنقيادهم لأوامر الله الذي له ملك السماوات والأرض، وحينما يعلم الإنسان أن الله عز وجل له ملك السماوات والأرض فإنه يستحي منه ويتجنب الكفر والجحود.
السابعة: توبة الله عز وجل على الكفار الذين يتوبون من عمومات خاتمة هذه الآية(والله غفور رحيم).
الثامنة: يفيد الجمع بين الآيتين ترغيب الكفار بالتوبة، والنهل من رحمة الله، ووعيدهم بالعذاب إذا أصروا على الكفر ومحاربة الإسلام.
التاسعة: ورد لفظ العذاب في الآيتين، وفي الآية أعلاه ورد قوله تعالى(أو يعذبهم)، وفي هذه الآية ورد قوله تعالى(ويعذب من يشاء) ويفيد الجمع بين الآيتين نفي الجهالة والغرر بتوكيد حقيقة وهي أن الله يعذب الكفارعلى نحو الخصوص.
العاشرة: توبة الله على فريق من الكفار من عمومات قوله تعالى(والله غفور رحيم).
وتقدير الجمع بين الآيتين (أو يتوب عليهم والله غفور رحيم).
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: تضمنت خاتمة آية(ليس لك من الأمر شيء) بيان علة عذاب الكفار، وتضمنت خاتمة هذه الآية توكيد الإطلاق في المغفرة والرحمة الإلهية.
الثانية: يفيد الجمع بين الآيتين: فإنهم ظالمون والله غفور رحيم)، وفيه وجهان:
الأول: إن الله عز وجل الغفور الرحيم يغفر للظالمين، وهذه المغفرة مقيدة بلحاظ ذات الآية السابقة والترديد فيها بين التوبة عليهم وعذابهم، وهو من السبر والتقسيم وفيه حذف، والتقدير يتوب على التائبين منهم، ويعذب الذين يصرون على الظلم.
الثاني: إن الله الغفور الرحيم لا يغفر للكفار لأنهم ظالمون جاحدون قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
ولا تعارض بين الوجهين، وكل منهما آية في الفضل الإلهي، وباب لرحمة الناس، وتنزيه الأرض من مفاهيم الكفر والضلالة.
الثالثة: الإشارة إلى قبح فعل الكفار، فمع أن الله عز وجل هو الغفور الرحيم فإن الكفار مستمرون في التعدي والظلم، ليحجبوا عن أنفسهم نعمة المغفرة التي هي رحمة عامة وخير محض.
الرابعة: بيان رحمة الله عز وجل في إمهال الظالمين وعدم الإنتقام منهم، فمع أن كلاً من الآيتين تتضمن الإنذار والوعيد للكفار بالعذاب الأليم فأنهم يصرون على الظلم والجحود.
الخامسة: جاءت آيات القرآن بتوكيد ظلم الكفار لأنفسهم وفيه مسائل:
الأولى: رحمة من الله عز وجل.
الثانية: فيه تذكير الكفار بالتوبة.
الثالثة: فيه حث على ترك المعاصي , قوله تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الرابعة: بيان قبح الظلم، وأن الكفر أشد أفراده وهو أكبر الكبائر.
الخامسة: جعل النفوس تنفر من الكفر، ومن أهل الجحود ,قال تعالى[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
السادسة: من ظلم الكفار لأنفسهم عدم إنتفاعهم من المغفرة الإلهية، وتماديهم في الجحود والصدود عن آيات الله عز وجل.
السابعة: دعوة المسلمين للصبر على ظلم وتعدي الكفار، لأن الله عز وجل هو الغفور الرحيم الذي يثيب المسلمين على تحملهم الأذى في جنب الله عز وجل.
الثامنة: في الجمع بين خاتمتي الآيتين أمور :
الأول : فيه موضوع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني : إنه سبيل للنفرة من الظلم .
الثالث : بيان لما فيه من الجور والتعدي على النفس والغير، والإعراض عن رحمة الله.
الثانية: الصلة بين آية(ليقطع طرفاً) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: من ملك الله عز وجل للسموات والأرض قطعه لطرف من الكفار في قتالهم مع المسلمين.
الثانية: تجدد وتكرار هذا القطع كلما إعتدى الكفار على الإسلام، وأصروا على الجحود والمعصية.
الثالثة: في الآية بلاغ للناس جميعاً بأن الكفار لا يخرجون عن ملك الله، وأنه سبحانه لا يتركهم وشأنهم، بل يهلك طائفة منهم.
الرابعة: كما أن النصر من ملك الله عز وجل للسموات والأرض فإن هلاك طائفة من الكفار من ملكه سبحانه.
الخامسة: هلاك طائفة من الكفار من عمومات قوله تعالى(ويعذب من يشاء) لما فيه من العذاب الذي ينزل بالكفار، وهو على وجوه:
الأول: العذاب للذين يقتلون من الكفار بأيدي الملائكة.
الثاني: الذي يقتلون منهم بسيوف المسلمين.
الثالث: من يقع في الأسر من الكفار.
الرابع: الكفار الذين ينهزمون من المعركة قال تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الخامس: الذي يمدون الكفار بالسلاح والمال، ويناصرونهم.
السادس: أبناء الكفار الذين يبقون على نهجهم، وذكر الذين يهلكون بصفة الجزئية والتبعيض من الذين كفروا يدل على التعدد أعلاه، وتغشي العذاب للكفار، وفيه إنذار للناس جميعاً من قوله تعالى(ويعذب من يشاء) ودعوة للإنتفاع من فضل الله الذي يتجلى في قوله تعالى(يغفر لمن يشاء).
السابعة: حث الكفار على التوبة والإنابة، والنجاة من الهلاك بالتوبة والصلاح، إذ أن قوله تعالى(ليقطع طرفاً من الذين كفروا) دعوة سماوية لطلب المغفرة، والسلامة من القطع والهلاك , وهو قريب من كل كافر خصوصاً الذي يحارب المسلمين ويسعى في الإضرار بهم.
الثامنة: جاءت هذه الآية بالإخبار بأن السماوات والأرض وما فيهما ملك لله عز وجل وأنه سبحانه يعذب من يشاء، وذكرت الآية أعلاه قطع طرف من الذين كفروا، وفيه دليل على إقتران ملكية الله عز وجل بالمشيئة والقدرة وإنتظام الخلائق وفق الإرادة التكوينية، وعجزها عن الخروج عما أراد الله لها [وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ]( )،من الكفار ينزل العذاب بساحته.
التاسعة: من ملك الله للسموات والأرض ضرب الكفار بالخزي والذل والهوان لإصرارهم على الجحود بالنعم الإلهية التي هي من ملك الله عز وجل، وهم عبيد داخرون له سبحانه.
العاشرة: أختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى(فينقلبوا خائبين) وهو من مصاديق ملك الله للسموات والأرض، إذ أن الكفار ينقلبون في أرض الله وملكه مما يتعذر عليهم معه الفرار أو الإختباء، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ] ( ).
الحادية عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين أن المسلمين هم الذين يشملهم قوله تعالى(يغفر لمن يشاء) لأن الله عز وجل أنزل البشرى بالنصر، وجعل السكينة تملأ قلوبهم وهو من مصاديق المغفرة، ومقدمة لها.
الثانية عشرة: الصلة بين خاتمتي الآيتين، وفيها وجوه:
الأول: إنقلاب الكفار خائبين خاسئين لا يغلق باب التوبة عنهم.
الثاني: هزيمة الكفار دعوة للتوبة والإنابة والإنتفاع من قوله تعالى(والله غفور رحيم).
الثالث: من رحمة الله عز وجل بالمسلمين هزيمة الكفار خائبين.
الرابع: جاء الإطلاق في رحمة الله عز وجل لتشمل المسلمين والذين يحاربونهم وينهزمون خائبين فتلك الهزيمة رحمة بالمسلمين ونصر لهم، وجذب للكفار للتوبة وتلمس العفو والمغفرة من الله عز وجل.
الخامس: تقدير جمع الخاتمتين: فينقلبوا خائبين والله غفور رحيم يقبل توبتهم فرجوع الكفار بذل وهوان من المعركة لا يغلق عليهم باب التوبة, ومن رحمة الله بقاؤه مفتوحاً للناس جميعاً.
الثالثة عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين الإخبار بأن هزيمة الكفار من عمومات قوله تعالى(ويعذب من يشاء) .
وتدل خاتمة هذه الآية على أن تلك الهزيمة ليست نهاية المطاف فأمام الكفار فرصة التوبة وأن الله عز وجل يتلقاهم بالمغفرة إذا تابوا.
الرابعة عشرة: من رحمة الله عز وجل إنحصار القطع والهلاك بطائفة من الكفار ليبقى فريق منهم أحياء وقادرين على الإنتفاع من باب التوبة والفوز برحمة الله.
الخامسة عشرة: إن الله الذي له ملك السموات والأرض قادر على نصر المسلمين وإنزال الملائكة من غير شرط تحلي المسلمين بالصبر , وفيه مسائل:
الأولى: جعل الله الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، ومن مصاديق الإبتلاء فيها الصبر والتحمل.
الثانية: حث المسلمين على إتخاذ الصبر وسيلة لنزول المدد وجلب النصر قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
الثالثة: إن الله الذي له ما في السموات وما في الأرض أمر المسلمين بالصبر كما جاء في آيات كثيرة منها قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا]( )، ويحمل الأمر في الأصل على الوجوب إلا مع القرينة الصارفة إلى الإستحباب، وليس من قرينة في المقام.
الرابع: أراد الله عز وجل للمسلمين الفوز بثواب الصبر وهو من عمومات[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ] ( )، فمن فضل الله عز وجل على المسلمين أن يجعل لهم في الآخرة ثواباً في ملكه على الصبر والجهاد في سبيل الله.
الخامس: إقامة الحجة على الكفار بتعديهم على المسلمين وصبر المسلمين في قتالهم.
السادس: بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو أن صبر المؤمنين مقدمة واجبة لنزول الملائكة مدداً، وهو لا يتعارض مع أمور:
الأول: الصبر مطلوب بذاته.
الثاني: ترشح منافع عظيمة من الصبر وتغشيها لأفراد الزمان الطولية.
الثالث الصبر مقدمة لأمور ومنافع كثيرة ، تتفرع عن مقدمات نزول الملائكة وتحلي المسلمين بالصبر والتقوى.
السابع: الصبر من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( )، التي أخرجها للناس الله الذي له ما في السموات وما في الأرض .
الثامن: توكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتحلي أصحابه وأهل بيته وأتباعه بالصبر والتقوى.
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: الذي له ما في السموات وما في الأرض يقطع طرفاً من الذين كفروا.
الثانية: بيان عظيم قدرة الله عز وجل وأنه يهلك فريقاً من الكفار، ويجعل ثغرة في صفوفهم، لما يعنيه قطع الطرف من إنكشاف جانب وجهة من الكفار، وإمكان نفاذ المسلمين إليهم بأمور:
الأول: الدعوة إلى الله وتبليغ الآيات.
الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: الإحتجاج بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدلائل التي تؤكد صدق نبوته.
الرابع: بيان أحكام الشريعة.
الخامس: ترغيب الناس بالتوبة والإنابة والتذكير بأن الله (غفور رحيم).
الثالثة: جاءت الآية أعلاه بقطع طرف من الكفار، ولم تقل هلاك فريق منهم، لإفادة معنى البتر في جيش الكفار، وصيرورتهم منكشفين أمام المؤمنين، لما يدل عليه قطع الطرف من تعطيل لجانب من جيش الكفار، وجعلهم عاجزين عن تأمين سلامتهم من الإختراق وهو من خصائص نزول الملائكة مدداً للمسلمين فقد لا يظهر النقص جلياً في صفوف الكفار عند هلاك طائفة وجماعة منهم متفرقة بين صفوف الجيش وجهاته المتعددة، ولكن هلاك طرف وإنكشاف جهة منهم يجعل المسلمين يندفعون في الإجهاز على الكفار.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الله الذي له ما في السموات وما في الأرض هو الذي يقطع طرفاً من الذين كفروا.
الخامسة: الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ينزل ملائكة السماء مدداً وعوناً لجنوده في الأرض ليهلك طائفة من الكفار.
السادسة: يقوم أهل السماء بمنع الكفار من الطغيان في الأرض، ويقاتلون من أجل دفع الضرر عن المؤمنين.
السابعة: بيان سلطان الله المطلق في ملكه في السموات والأرض بأن ينزل جنود السماء لنصرة المؤمنين.
الثامنة: لما قال الله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، جاءت هذه الآيات لتبين فضل الله عز وجل في تثبيت دعائم التوحيد في الأرض، وتيسير مقدمات وأمور العبادة للناس، وجعل المانع منها مفقوداً بنزول أهل السماء لقتال الكفار، وقتل فريق منهم بحيث يصيرون عاجزين عن الإضرار بالمسلمين.
التاسعة: لقد بعث الله عز وجل النبي الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليدعو الناس جميعاً للإسلام، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( )، ويدل الجمع بين بدايتي الآيتين على أمور:
الأول: إنذار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس أعم من تبليغ آيات الإنذار والوعيد بالعذاب بالآخرة، بل يشمل إستئصال طرف من الكفار.
الثاني: بعث الفزع والخوف في قلوب الناس من نصرة الذين كفروا.
الثالث: إعراض القبائل والجماعات وأهل الملل عن إعانة الكفار بالمدد والسلاح والمؤون، فمن يقطع الله طرفه يخشى الناس نصرته.
الرابع: تجلي علة هلاك طائفة من الكفار، وهي محاربتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وفيه إنذار إضافي لمن بقي منهم، ومن خلفهم من الرجال والنساء والصبيان.
ومن أسرار آيات القرآن أن ما فيها من الإخبار عن الوقائع إنذار متجدد، وحجة على الناس، وهو من عمومات قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
الخامس: تلاوة المسلمين للآيتين، وإتخاذهما موضوعاً وحكماً مادة للإحتجاج على الكفار.
السادس: جحد الذين كفروا بملكية الله لما في السموات وما في الأرض فقطع طرفاً منهم.
السابع: في الجمع بينهما تحذير للكفار عموماً، إذ أن قطع منهم إنذار لهم من البقاء على الكفر والجحود.
الثامن: من خصائص ملك الله للسموات والأرض قطع طرف من الذين كفروا من الذين يحاربون الإسلام، ويزحفون بالجيوش لقتل النبي والمؤمنين.
التاسع: بعث السكينة في قلوب المسلمين للقطع بما يصيب الكفار من الهلاك.
العاشر: حث المسلمين على الصبر وتحمل الأذى في جنب الله من الكفار الظالمين، لأن ملك السموات والأرض لله عز وجل وهو الذي يهلك طائفة من الكفار،ويقطع طرفاً منهم.
العاشرة: الله عز وجل يقطع طرفاً من الذين كفروا، وفيه منع من قطع طرف من المؤمنين وهو القوي العزيز.
الحادية عشرة:قطع طرف من الكفار متجدد ومستمر، وهو من أسرار مجئ الآية أعلاه بصيغة الفعل المضارع، وهذا التجدد موضوع لهلاك الكفار، وزوال مفاهيم الكفر من الأرض، وبرزخ دون تأثيرها على عامة الناس.
الثانية عشرة: التحدي في وجود مصاديق لقطع طرف من الذين كفروا بآية من ملك الله للسموات والأرض، سواء في كيفية القطع ومنها نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، أو في وقوع القطع في عرض واحد وفرد متحد من أفراد الزمان كما لو قتل جماعة ورؤوس من الكفار في مكة وما حولها في نفس اليوم الذي خسروا عدداً من صناديدهم في بدر وأحد.
ليكون القطع المتعدد مكاناً وأشخاصاً والمتحد زماناً وموضوعاً من الشواهد العملية على أن ما في السموات وما في الأرض ملك لله، إذ لا يقدر على هذا القطع إلا الله عز وجل، وهو الذي يجعل هذا القطع مقدمة لحفظ المسلمين والمسلمات في أنفسهم وإيمانهم وأموالهم وأمصارهم وقراهم , قال تعالى[فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا]( ).
الثالثة عشرة: توجيه اللوم والذم للكفار على جحودهم بالربوبية المطلقة لله عز وجل، فمن الإعجاز أنهم ذكروا بصفة الكفر والجحود والضلالة التي تجمع بينهم , وتقدير الآية:الذين كفروا بان لله مافي السموات وما في الأرض.
الرابعة عشرة: من خصائص ملك الله للسموات والأرض بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا، ويتجلى بلغة الحتم والتنكير في قطع طرف منهم لما في هذه اللغة من تغشي عموم الكفار بالفزع وظن كل فرد وجماعة منهم نزول الهلاك والقطع به.
الخامسة عشرة: الكفر فساد ويؤدي إلى الفساد، ويتفضل الله بتنزيه ملكه عن أسباب الفساد، ويتجلى هذا التنزيه بصيغ وكيفيات متعددة، منها هلاك طائفة من الكفار وقطع طرف من الذين يزحفون لإستئصال الإسلام.
السادسة عشرة: لقد جاء الكفار بجيوش عظيمة للقضاء على الإسلام، سواء في معركة بدر أو أحد أو غيرها خصوصاً وأن قريشاً ذات خبرة وشأن بين القبائل، وتعرف فنون القتال والكر والفر، وعلى دراية بعدد المؤمنين وقلة سلاحهم، والنقص في مؤونهم، ووجود المنافقين بينهم، إلى جانب أهل الحسد والبغضاء، قال تعالى[لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ] ( )، ولكن ملك السموات والأرض لله عز وجل فقطع طرفاً من الكفار لزجرهم وتأديبهم، ويكون هذا القطع مقدمة لنصر المؤمنين وسيادة مبادئ الإسلام في الأرض.
السابعة عشرة: الله الذي له ما في السموات وما في الأرض يجعل واقية على المسلمين من رحمته بما يرمي به الكفار من البلاء، وما ينزله بهم من الهلاك.
الثامنة عشرة: تفيد آية (ليقطع طرفاً) توكيد المضامين القدسية لهذه الآية الكريمة وأن النصر والقطع بيد الله الذي له ملك السموات والأرض، فجعل النصر خاصاً بالمسلمين وثواباً لهم، وجعل القطع خاصاً بالكفار وعقوبة عاجلة لهم، مع تأثير أحدهما بالآخر.
التاسعة عشرة: الله الذي له ملك السموات والأرض يمنع إفتتان الناس بالكفار، ويحذرهم من الطواغيت وإتباعهم بقطع طرف من الذين كفروا، وهو من رحمة الله بالناس جميعاً، ومنهم الذين كفروا لأن قلة الأتباع والأنصار سبب في إنحسار الكفر وزجر للكفار عن التعدي والظلم العام.
العشرون: الجمع بين الآيتين إنذار للكفار من عالم الجزاء، ودخول النار في الآخرة، إذ أن ملك الله عز وجل مطلق وعام , لذا قال تعالى في هذه الآية(يعذب من يشاء).
الواحدة والعشرون: غبطة من في السماء بقطع طرف من الذين كفروا، ليكون من مصاديق ملك الله للسموات والأرض سعادة وغبطة أهل السماء بنصر المؤمنين، وهزيمة الكافرين.
الصلة بين (ليقطع طرفاً) وبين هذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: هلاك طائفة من الكفار شاهد على حرمانهم أنفسهم من العفو والمغفرة، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( ).
الثانية: قطع طرف من الكفار من عمومات قوله تعالى(ويعذب من يشاء) وفيه عذاب متعدد، في جهته وكيفيته من وجوه:
الأول: القطع والهلاك من أشد أفراد العذاب.
الثاني: في قطع الطرف من الذين كفروا عذاب لهم جميعاً.
الثالث: قطع الطرف من الكفار عذاب متجدد للكفار في كل زمان لما فيه من السببية وقانون العلة والمعلول، إذ أن قطع الطرف ملازم للكفار، وهزيمتهم وعجزهم عن القتال.
الرابع: في هلاك طائفة من الكفار عذاب لأهلهم وذويهم لقتلهم على الباطل، وسوء عاقبتهم.
الخامس: قطع الطرف من الكفار عذاب نفسي، ومقدمة غيرية للعذاب الأكبر يوم القيامة، قال تعالى[لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ]( ).
الثالثة: ترغيب الناس جميعاً بالإيمان لما فيه من السلامة من القطع والهلاك.
الرابعة: بعث النفرة في النفوس من الكفر والجحود.
الخامسة: التوثيق السماوي لعاقبة الكفار الذين يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ليكون هذا التوثيق معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: صدق مصداقه في الواقع الخارجي.
الثاني: تجدد مصداق الآية بهلاك طائفة من الكفار المعتدين.
الثالث: التحدي المستمر للكفار يكون قطع طرف منهم عاقبة لهم عند الهجوم على المسلمين، والتعدي على ثغورهم.
الرابع: تجلي آثار قطع طرف من الكفار على جماعتهم ومن خلفهم.
الخامس: مجيء الآيتين بصيغة المضارع في مضامينها القدسية دليل على وقوع الوهن والضعف بالكفار، خصوصاً وأن المراد من قطع الطرف أهم من هلاك جماعة من الكفار من المعركة وأنه يشمل وقوع عدد منهم في الأسر، وخسارتهم لفريق منهم يهجرون منازل الكفر والضلالة لما يرون من المعجزات , ومنها نزول الملائكة مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
بل إن قطع الطرف من الكفار ذاته سبب لقطع إضافي منهم لأنه باعث على التفكر في آيات الله والإقرار بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الإسلام، ليكون تقدير الجمع بين الآيتين، (ليقطع طرفاً من الذين كفروا فيغفر لمن يؤمن منهم، ويعذب من يصر على الكفر بعد القطع).
السادس: قطع طرف من الكفار من مصاديق قوله تعالى(والله غفور رحيم) من وجوه:
الأول: عذاب من بقي من المقاتلين من الكفار من جهات:
الأولى: رؤية الآيات الظاهرة، وحصول هلاك فريق منهم بالمعجزة ومن غير سبب ظاهر، كما في قتل وأسر الكثير من الكفار في معركة بدر مع قلة عدد المؤمنين يومئذ، حتى أن بعض كبار المشركين كان يبحث عن مسلم يؤسره، كما في رأس الضلالة والكفر أمية بن خلف الذي كان واقفاً هو وإبنه علي يوم بدر يريدان مسلماً يأخذهما أسيرين إلى أن رآه بلال فجمع عليه المسلمون وأحاطوا به وقتلوه وابنه، وكان أمية هذا(عَذّبُ بِلالا بِمَكّةَ عَلَى تَرْكِ الإِسْلامِ فَيُخْرِجُهُ إلَى رَمْضَاءَ مَكّةَ إذَا حَمَيْت ، فَيُضْجِعُهُ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمّ يَأْمُرُ بِالصّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمّ يَقُولُ لَا تَزَالُ هَكَذَا أَوْ تُفَارِقَ دِينَ مُحَمّدٍ فَيَقُولُ بِلالٌ أَحَدٌ أَحَدٌ) ( ).
الثانية: الشعور بالذل والخيبة عند الهزيمة من المعركة، وحتى في حال عدم تحقيق النصر والغلبة على المسلمين كما في معركة أحد، إذ أن الكفار عجزوا عن قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسر أصحابه، وإنسحبوا من معركة الخندق من غير أن يستطيعوا دخول المدينة أو إستباحة بعض أطرافها.
الثالثة: كف الكفار عن القتال، لذا جاءت هذه الآية بقوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] فانقلاب ورجوع الكفار تأخير لقطعهم وهلاكهم , وباب لنجاتهم من الإثم الإضافي والقطع في الإستمرار بمحاربة المسلمين.
الرابعة: حث الكفار على شكر الله عز وجل للسلامة من القطع الذي أصاب أصحابهم من الكفار.
الخامسة:تدبر الكفار في خروجهم جيشاً عرمرماً، وعودتهم خائبين قد فقدوا عدداً من أقطابهم، ومن الإعجاز شمول القطع والهلاك لجماعة من رؤساء الكفر ممن كانوا يحرضون الناس على القتال، ويفترون على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليرى الناس العقاب الإلهي العاجل لهم.
السادسة: إنعدام الرغبة عند الكفار بالبقاء في ميدان المعركة ومناجاتهم بالإنسحاب منها.
السابعة: لجوء الكفار إلى الهزيمة، والإنسحاب من المعركة وتركهم لمؤونهم وراء ظهورهم، ليكون هذا الترك من أسباب خيبتهم.
الثامنة: شعور الكفار بالندم والحسرة.
الثاني: الكفار الذين خلف المقاتلين في الأمصار والقرى، وفيه مسائل:
الأولى: إصابة الكفار بالفزع والخوف.
الثانية: الإمتناع عن إعانة المقاتلين المعتدين من الكفار بالمال والسلاح.
الثالثة: التخلف عن إجابة دعوة الكفار لمحاربة الإسلام.
الرابعة: التدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتناقلها في المنتديات والبيوت.
الخامسة: الإمتناع عن نصرة الظالمين، لما فيها من القطع والهلاك, ورؤية الكفار تخلي أعوانهم وأتباعهم عنهم زاجر لهم , وتذكير بقبح فعلهم، وحسرة حاضرة تحّل بهم، وهو من عمومات الخسارة التي تلحق بهم، قال تعالى[قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ]( ).
السادسة: دخول فريق من الكفار وأولادهم وأسرّهم في الإسلام، فحالما تصلهم أخبار هزيمة الكفار يفكرون في دخول الإسلام خصوصاً وأنهم يعلمون بكثرة جيش الكفار وقلة عدد المسلمين وأسلحتهم، فمن رحمة الله عز وجل المترشحة عن قطع طرف من الكفار نفرة عوائل الكفار من الشرك، وإحتجاجهم على مقاتلة المؤمنين الذين ينزل ملائكة السماء مدداً لهم.
السابعة: تضرر عوائل الكفار من هجومهم على المدينة المنورة وتعطيل الأعمال والتجارات والزراعات لتهيئة مقدمات القتال وعند الزحف ومما قيل في الحرب أن أولها نجوى وأوسطها شكوى وآخرها بلوى، فكيف إذا كانت الحرب إبتداء وإستدامة وموضوعاً ووبالاً على الكفار لمواجهتهم لأهل الإيمان والملائكة.
الثامنة: الإنصات لآيات القرآن وتلقي أخبار ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتدبر والتفكر.
الثالث: أثر هزيمة الكفار بين الناس عموماً، وفيه مسائل:
الأولى: إعراض الناس عن الكفار، ونفرتهم منهم.
الثانية: الحذر في المعاملات التجارية مع الذين يخرجون لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكفار لإحتمال هلاكهم وأسرهم وضياع أموالهم، كما أن الخروج ذاته تعطيل للتجارات، وسبب في العجز عن مواصلة المعاملة وقضاء الديون، وتلف لأموالهم، وهو من عمومات قوله تعالى[مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ]( ).
الثانية: التدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتناقل آيات القرآن، وما فيها من الإعجاز العقائدي والبلاغي، وأخبار المغيبات، وأسرار التأويل.
الثالثة: الإستهزاء بالكفار الذين خرجوا وهم يتناجون بالقوة ويتطلعون إلى النصر والغلبة، فرجعوا بالخيبة والخسران، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضعف ووهن قريش وغيرهم من القبائل التي حاربته، فبعد الشأن العظيم لقريش بين القبائل صارت محل سخرية العرب، وأصاب تجارتها الفتور، وتناقل الناس الأشعار والقصائد التي تحكي هزيمتهم وخيبتهم وذهاب صناديدهم صرعى على أيدي مسلمين كانوا بالأمس يتلقون من قريش شتى صفوف التعذيب والإضطهاد.
الرابعة: إجتناب نصرة الكفار، والركون إليهم.
الخامسة: عقد العهود والمواثيق مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وإعلان عدم موالاة أعداء الإسلام.
السادسة: سعي الناس لطلب المغفرة، وإظهارهم التوبة من المعاصي والذنوب.
ويفيد الجمع بين قوله تعالى(ليقطع طرفاً من الذين كفروا) و(الله غفور رحيم) أموراً :
الأول : هلاك طائفة من الكفار موعظة وعبرة للناس جميعاً.
الثاني : إنه سبب للهداية والرشاد .
الثالث : موضوع لتثبيت دعائم الدينز
الرابع : فيه إنحسار لرقعة الكفر .
الخامس : منع المناجاة بمفاهيم الشرك والضلالة.
فإن قلت يمكن أن تنزل شآبيب الرحمة الإلهية على الناس من غير قطع طرف من الكفار , والجواب من وجوه :
الأول: جاء قطع طرف من الكفار، لتماديهم في الغي والتعدي، قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الثاني: سبقت الإنذارات والبشارات للناس كافة نزول القطع للكفار.
الثاث : لقد سعى الكفار بأيديهم للقطع والهلاك .
الرابع : قيام الحجة على الكفار، وهي من جهات:
الأولى: ظهور معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية.
الثانية: تجلي إعجاز القرآن، وما فيه من الكنوز التي تؤكد صدق نزوله من عند الله.
الثالثة: مجيء الأنبياء والكتب السماوية السابقة بالبشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وصفاته.
الرابعة: وجود أمة مسلمة تتبع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وتقاتل تحت لوائه , وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامسة: إصرار الكفار على قتال المسلمين، وسعيهم لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فصار قطع الطرف منهم مقدمة وضرورة لحفظ بيضة الإسلام، وتوالي نزول آيات القرآن.
السادسة: هلاك طائفة من الكفار من عمومات قوله تعالى[وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ] ( ).
السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الناس على قسمين متضادين في الإقرار بالعبودية لله الذي له ما في السموات وما في الأرض،
الأول: المؤمنون.
الثاني: الكفار.
ولم يترك الله الناس وشأنهم، بل ينصر الله سبحانه المؤمنين، ويهلك طائفة من الذين كفروا إذا أسرفوا وزحفوا لقتال المؤمنين، وليكون هذا الهلاك والقطع مقدمة للفتوحات الإسلامية، وهو من رحمة الله بالأجيال المتعاقبة من الناس , قال تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
الثامنة: هلاك فريق من الكفار دعوة للباقين منهم للمبادرة إلى التوبة والإنابة، وتلك آية في اللطف الإلهي بتهيئة مقدمات التوبة وتقريب الناس لها بالإنذار والعبرة.
الصلة بين (أو يكبتهم ) وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: الله الذي له ما في السموات والأرض يرمي الذين كفروا بالذل والحزن وينزل بهم العذاب.
الثانية: بيان عظيم قدرة الله بخزي أعدائه وأعداء رسوله، وضربهم بالخيبة.
الثالثة: لما أخبرت هذه الآية عن نزول العذاب الأليم بمن يشاء الله، ذكرت الآية أعلاه مصداقاً لهذا العذاب وهو نزول الخيبة والخسران بالكفار.
الرابعة: خيبة الكفار إنذار وسبيل للتوبة والإنابة، وصحيح أنه عذاب عاجل إلا أنه لا يتعارض مع إمكان اللجوء إلى التوبة والإنابة، وهو تذكير بها وندب إليها.
الخامسة: خيبة وخسارة الكفار موعظة للناس جميعاً، وحث لهم على دخول الإسلام، ومناسبة للمناجاة بإجتناب محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة: لقد أصابت الخيبة والذل الكفار بملائكة من السماء نزلوا مدداً للمؤمنين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض، وهو من الشواهد على أن ملك السموات والأرض لله عز وجل وحده .
فمن إعجاز القرآن مجيء أمرين متضادين في موضوع واحد ويكون المائز بلحاظ فعل وإختيار العبد، قال تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( )، فيتعقب الخيبة أما المغفرة بالتوبة، أو العذاب بالإصرار على الكفر والجحود.
ترى ما هي فائدة الخيبة في الإصلاح والإنابة في مسائل:
الأولى: إنها درس وموعظة.
الثانية: إنها برزخ دون التمادي في الغي والجحود.
الثالثة: هي زاجر ذاتي عن الإصرار على محاربة الإسلام، فمن الناس من يتعظ بغيره , ومنهم من يتعظ بما يلقاه.
الرابعة: ترشح الوهن والضعف عن الخيبة والذل.
الخامسة: إدراك القبح الذاتي والعرضي للكفر.
فجاءت خيبة الكفار عبرة وموعظة لهم وللناس جميعاً، وهل هي عبرة للمسلمين الذين هجروا منازل المعصية الجواب نعم، من وجوه:
الأول: إنها مناسبة لشكرهم الله على نعمة الهداية.
الثاني: زيادة إيمانهم بما يلقاه الكفار من الكبت والخيبة.
الثالث: إجتهاد المسلمين في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة الناس للإسلام بالحجة والبرهان.
الرابع: إتخاذ خيبة الكفار مادة للإحتجاج والجدال.
الخامس: في خيبة الكفار زاجر لهم عن الجدال وفضح لهم في إفترائهم , قال تعالى[مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
السابعة: التخفيف عن المسلمين بإنشغال الكفار بأنفسهم، وهو من خصائص ملك الله للسموات والأرض ومصاديق تغشي رحمته للمؤمنين.
الثامنة: جاءت آية(ليقطع طرفاً) في ذم الكفار وبيان العقوبة العاجلة النازلة بهم من جهات:
الأولى: هلاك طائفة منهم.
الثانية: بقطع طرف من الكفار تنكشف أطراف جيشهم الأخرى.
الثالثة: إصابة الكفار بالذل والخيبة والهوان.
الرابعة: إنقلاب ورجوع الكفار من المعركة من غير أن يحققوا ما يأملون.
الخامسة: إتصاف الكفار عند الإنقلاب بأنهم خائبون خاسرون.
التاسعة: جاءت مضامين الآية أعلاه بصيغة البناء للمعلوم، والفاعل في كل فرد منها هو الله عز وجل الذي له ملك السموات والأرض، وتقدير الآية:
1- ليقطــع الله طرف الذين كــفروا.
2- يكــبت الله الذين كــفروا.
3- يقلب الله الذين كفروا خائبين.
العاشرة: سوء إختيار الكفار، وإمتناعهم بالإختيار عن الفوز برحمة الله في الدنيا والآخرة.
الحادية عشرة: كبت الكفار من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصداق كونه رسولاً من الله الذي له ما في السموات وما في الأرض .
الثانية عشرة: في كبت الكفار دعوة لهم وللناس جميعاً للتدبر في آيات السموات والأرض , والإقرار ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
الثالثة عشرة: حث المسلمين على الشكر لله الذي له ملك السموات والأرض على ما يصيب عدوهم من الكبت والذل والخزي.
الرابعة عشرة: إضرار الكفار بأنفسهم بإختيار الكبت والذل بدل المغفرة والعفو من عند الله.
الخامسة عشرة: قيام الحجة على الكفار ونزول العقوبة بهم بجحودهم بالربوبية، ومخالفتهم عن عمد لعلة خلقهم , قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
السادسة عشرة: في قطع طرف وهلاك طائفة من الكفار سلامة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل لما يترشح عنه من الضعف والوهن عند الكفار.
السابعة عشرة: عداوة الله عز وجل للكفار وهو الذي له ملك السموات والأرض والذي[يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ].
الجمع بين الآيتين مدد وعون
تفيد الآيتان إنذار الكفار بلغة التحذير والترغيب بحال الدنيا وما فيها من الوقائع والأحداث، وعالم الآخرة وما فيه من الجزاء، ودعوة الناس للإقرار بالعبودية لله الذي له ملك السموات والأرض، والتدبر في قانون ثابت في الإرادة التكوينية وهو عذاب الكفار، ويكون من وجوه:
الأول: إستئصال فريق من الكفار.
الثاني: إعانة المؤمنين في القتال بصيرورة الكفار عاجزين عن وقاية أنفسهم في ميدان المعركة من الجهات المتعددة.
الثالث: حث المؤمنين وقادة الجيش الإسلامي إلى إعمال الفكر، وزيادة الهمة لإختراق صفوف العدو من الطرف الذي قطعه الله عز وجل، مع إدراك حقيقة وهي تعدد طرق وكيفيات هذا القطع، فقد لايكون بالهلاك والقتل بل بمعجزة وكيفية أخرى مغايرة خصوصاً وان الآية أعلاه إبتدأت باللام(ليقطع) مما يدل على تعلق مضامينها بالآية السابقة لها والتي تتضمن البشارة بالمدد الملكوتي إن عاد الكفار للقتال، وبعث الطمأنينة في نفوس المؤمنين , قال تعالى[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ] ( ).
إن مضامين ودلالات الآية أعلاه من عمومات خاتمة هذه الآية[وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] لما فيها من بشارة النصر للمسلمين، وظهور معاني الضعف والوهن على الكفار، وما يرميهم الله به من التخويف.
وكما جعل الله عز وجل النصر بيده فانه سبحانه جعل الهزيمة والخسارة بيده، لأن النصر دليل على وقوع معركة وصراع بين طرفين، وهناك ملازمة بين نصر طرف وخسارة الطرف الآخر ليكون نصر المؤمنين من عمومات قوله تعالى في هذه الآية [يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ] وتكون هزيمة الكفار من عمومات قوله تعالى[وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ].
لقد أختتمت هذه الآية بقوله تعالى[وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ومن رحمته بعث السكينة في نفوس المسلمين بما يلحق الكفار من القطع والكبت والخيبة، ومن الإعجاز في قوله تعالى أعلاه وإجتماع اسم الغفور والرحيم أن باب المغفرة مفتوح للكفار والناس جميعاً، وهو من رحمة الله وسبيل للفوز بذات السكينة التي تملأ نفوس المسلمين، وتكون ظاهرة جلية في ماهيتها وكيفيتها , وفي توبة الكفار أمور :
الأول : التخفيف عن المسلمين.
الثاني : سلامة وواقية للمسلمين .
الثالث : إنه مناسبة للتفقه في الدين وإقامة شعائر الله.
الرابع : فيه إزدهار التجارات وكثرة الزراعات , وإستقرار وسلم إجتماعي .
الخامس : شيوع فعل الصالحات .
ويطرد الجمع بين الآيتين الفزع والخوف عن المسلمين وهو من عمومات قوله تعالى[لاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( )، وشاهد قرآني على تحقق أسباب إنتفاء الخوف والحزن عن المسلمين بهلاك فريق من أعدائهم، ورمي الفريق الآخر بالذل والحزن والخيبة مع بقاء باب التوبة مفتوحاً للكفار أنفسهم، وترغيبهم بالإنتقال إلى عز طاعة الله وهجران المعصية وما فيها من الذل والضعف.
الصلة بين آية(بشرى لكم) ( )، وبين هذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إن الله الذي له ملك السماوات والأرض يبعث بالبشرى وأسبابها للمؤمنين.
الثانية: مع الصبر والتقوى تأتي البشارة من عند ملك السموات والأرض.
الثالثة: لا تستطيع الخلائق ولو إجتمعت رد البشرى التي تأتي من عند الله سبحانه.
الرابعة: من ملك الله عز وجل للسموات والأرض تفضله بالبشرى على المسلمين بلحاظ أنه وحده القادر على تحقيق المصداق العملي لتلك البشرى، وذات المصداق بشارة، وتلك معجزة غيرية للقرآن، وآية تؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الآية توليدية متجددة، إذ يكون المصداق الواحد للبشرى القرآنية على وجوه:
الأول: إنه بشارة متجددة موضوعاً وحكماً لأجيال المسلمين.
الثاني: موضوع للإجتهاد في طاعة الله , لذا في آية بدر[فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
الثالث: دعوة للصلاح والرشاد والتوجه إلى الله عز وجل بالشكر والثناء على نعمة البشارة بنزول الملائكة.
الرابع: بيان أن ملك السماوات والأرض وما فيها لله سبحانه لم يشركه فيه أحد.
الخامسة: بدأت الآية أعلاه بفعل لله عز وجل(وما جعله الله) وإبتدأت هذه الآية بذكر الله وعائدية السماوات والأرض له سبحانه، إذ أن تقديم الجار والمجرور في المقام يفيد الحصر في الملكية وإنعدام الشريك فيها.
السادسة: أخبرت الآية محل البحث عن ملك الله للسموات والأرض، وذكرت الآية أعلاه البشرى، وهي سماوية أرضية.
سماوية من جهة نزولها وموضوعها وهم الملائكة.
وأرضية لأنها تنزل للمؤمنين وتبعث السكينة والغبطة في نفوسهم.
السابعة: من أفراد ملك الله لما في السماوات والأرض قلوب الناس، ويتفضل الله عز وجل ويجعل الطمأنينة تملأ قلوب المؤمنين، ويدل في مفهومه على إنذار الكفار بملأ قلوبهم بالفزع والخوف، وجاء به منطوق آيات عديدة منها قوله تعالى[وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ] ( ).
الثامنة: النصر بيد الله عز وجل لأنه مالك ما في السماوات والأرض، فيتفضل ويجعله مصاحباً للمؤمنين.
التاسعة: تقدير بداية هذه الآية مع خاتمة الآية أعلاه:ولله العزيز الحكيم ما في السموات وما في الأرض، وفيه وجوه:
الأول: بيان عظيم قدرة الله وحسن تدبير نظام الكون.
الثاني: الدعوة للتدبر في مصاديق الإتقان والكمال في الخلق.
الثالث: جذب الناس للإسلام، وزجرهم عن التعدي على الحرمات خشية من بطش الله عز وجل.
الرابع: من حكمة الله جعله ملك السماوات والأرض له وحده، ومن الشواهد على أن الله عز وجل هو(العزيز) أن كل ما عداه هو في ملكه.
الخامس: تسليم الخلائق بجعل الله ملك السماوات والأرض له وحده، وقد إحتج الملائكة عند جعل آدم خليفة في الأرض[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، وتلقت الملائكة والخلائق جميعاً إنحصار ملك السماوات والأرض بيد الله بالقبول والرضا.
السادس: إنه باب هداية ورشاد للناس، وسبب لإصلاح الأرض وتنزيهها مما يتنافى مع حكمة الله.
السابع: من اللطف الإلهي إمهال الكفار وأهل المعاصي رجاء توبتهم وصلاحهم.
العاشرة: من حكمة الله عز وجل أنه[يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ].
الحادية عشرة: في الجمع بين الآيتين جواب على سؤال مقدر بخصوص قوله تعالى[يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] وهو تجلي معاني الحكمة في المقام بتغشي المغفرة لأهل الإيمان، والعذاب للكفار قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( ).
الثانية عشرة: من معاني صفة(العزيز) التي يختص بها الله عز وجل أنه القوي الغالب على كل شيء، لذا فالمغفرة والعذاب بيده وحده، فإن قلت من الملائكة خزنة للنار وهم يعذبون الكفار، والجواب إنهم مأمورون من عند الله، قال تعالى في صفتهم والثناء عليهم[لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها وجوه:
الأول: توكيد نزول القرآن من عند الله بإختتام كل من الآيتين بثلاثة أسماء من أسماء الله عز وجل.
الثاني: يفيد الجمع بين خاتمتي الآيتين بياناً لدلالات إجتماع أربعة أسماء من أسماء الله الحسنى منها:
الأول: إن الله هو الرحيم بالخلائق بعزته وجبروته وسلطانه وانه لايفوته أحد.
الثاني: إخبار الآية عن عائدية ملك السماوات والأرض لله عز وجل من حكمته سبحانه.
الثالث: إن الله عز وجل يغفر للناس من مقامات القدرة المطلقة رأفة بهم ويدعوهم للعفو فيما بينهم[إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا] ( ).
الرابع: حينما يرحم الله عز وجل الناس فلا راد لرحمته لأنه هو العزيز ذو القوة والجبروت.
الخامس: حث الناس على التوبة من حكمة الله.
الثالث: تقدير الجمع بين الآيتين: الله العزيز الحكيم الغفور الرحيم، وفيه دعوة لإستنباط المسائل من إجتماع أربعة أسماء من أسمائه.
الرابع: من حكمة الله عز وجل أنه يغفر الذنوب ويعفو عن السيئات، كما تفضل وجعل باب التوبة مفتوحاً إلى يوم القيامة.
الثالثة عشرة: من رحمة الله عز وجل تعدد النعم على المؤمنين في الموضوع المتحد، ويتجلى في هذه الآية على وجوه:
الأول: ينصر الله عز وجل المسلمين على الكفار.
الثاني: يجعل الله عز وجل النصر بمدد سماوي من الملائكة ليكون آية ظاهرة ومتجددة إلى يوم القيامة.
الثالث: يجعل الله النصر بشارة للمسلمين والمسلمات.
الرابع: من رشحات النصر والبشارة به إمتلاء قلوب المسلمين بالطمأنينة والسكينة.
الصلة بين أول الآية أعلاه وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: من رحمة الله عز وجل بالمسلمين نزول البشرى عليهم من السماء.
الثانية: إتصاف البشرى القرآنية بأنها تبعث السكينة والطمأنينة في النفوس.
الثالثة: البشرى السماوية نعمة عظيمة، يحتاج إليها المسلمون بالذات وبالأثر، إذ أنها مقدمة للتفقه في الدين، وأداء الوظائف العبادية بأمن ومن غير خوف، وهي مناسبة للكسب والسعي في التجارات والزراعات، وغيرها من الأمور النافعة التي تترشح عن البشارة من عند الله.
فقوله تعالى(وما جعله الله إلا بشرى)فيه حذف وتقديره متعدد بلحاظ المنافع والثمرات العظيمة التي تأتي مع البشارة , وتتفرع عنها بالإضافة إلى ما تقدم ذكره أمور:
الأول: طرد الفزع والخوف من قلوب المسلمين من جيوش الكفر والضلالة.
الثاني: يتلقى المسلمون البشارة من الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وفيه زجر لأعداء الإسلام عن التعدي على المسلمين.
الثالث: هذه البشارة توليدية، فالبشارة بنزول الملائكة بشارة بفوز المسلمين بالتوبة والمغفرة من عند الله.
الرابع: تكرر اسم الجلالة مرتين في كل من الآيتين، وجاءا في بدايتي الآيتين وفي آخرهما، وفيه مسائل:
الأولى: بعث السكينة في نفوس المسلمين.
الثانية: توكيد صدق البشارة وأنها نازلة من عند الله عز وجل.
الثالثة: كل لفظ من ألفاظ اسم الجلالة في الآيتين له معنى مستقل بلحاظ نظم الآية التي ورد فيها، ومعنى آخر بحسب قانون الجمع بين الآيتين , منها:
الأول: تجلي الرحمة الإلهية بالبشارة من عند الله.
الثاني: إختصاص المؤمنين بالبشارة، ليكون من صفاتهم إقترانها بالحياة الدنيا والآخرة.
الثالث: طرد اليأس والخوف من قلوب المسلمين , والذين يريدون دخول الإسلام، فحينما تأتي البشارة من عند الله تكون واقية من كيد الكفار.
الرابع: حث المسلمين على سؤال البشارات من الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
الخامس: يمكن تقسيم البشارة التي تأتي للمسلمين إلى قسمين:
الأول: البشارة السماوية، وهي التي يتعلق موضوعها بالسماء وما ينزل منها كما في هذه الآية والبشارة بنزول الملائكة مدداً.
الثاني: البشارة الأرضية والتي تأتي فيها يخص الأرض .
وهذا التعدد من عمومات قوله تعالى(لله ما في السموات وما في الأرض).
السادس: الجمع بين الآيتين من عمومات الرد الإلهي على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، أي أن الله عز وجل ينزل البشارة على المؤمنين فيزدادون إيماناً.
السابع: العز الذي يتغشى المؤمنين ثابت ودائم وليس متزلزلاً، لأنه نازل من الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
الصلة بين بدايتي الآيتين،
وفيها مسائل:
الأولى: إكرام المسلمين بتلقي البشرى من عند الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
الثانية: الجمع بين الآيتين من مصاديق كون المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالثة: بيان عظمة البشارة التي تأتي من الله الذي له ما في السموات وما في الأرض من وجوه:
الأول: مجيء البشارة لعموم المسلمين والمسلمات لقوله تعالى[بُشْرَى لَكُمْ].
الثاني: تحقق البشرى على نحو القطع والحتم.
الثالث: تجدد البشرى في كل زمان وواقعة بذات الموضوع والحكم.
الرابع: تأتي البشارة الإلهية من السماء.
الخامس: موضوع البشرى من السماء وهو نزول الملائكة، ومن خصائص البشرى الإلهية عجز الخلائق عنها.
الرابع: البشرى الإلهية ترغيب للناس بالإسلام، ودعوة للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقتال تحت لوائه.
الخامس: تحدي الكفار وتبكيتهم ولومهم على سوء إختيارهم، وإصرارهم على الضلالة والجحود.
السادس: ترشح العز والرفعة عن البشارة الإلهية، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
السابع: تبعث البشرى الإلهية السكينة في قلوب المسلمين، وتمنع من الفزع والخوف من الكفار.
الثامن: البشرى الإلهية تأديب للمسلمين، ومدرسة في الصبر والتقوى لذا جاءت الآية السابقة لآية(بشرى لكم) بصيغة الشرط في قوله تعالى(بلى إن تصبروا وتتقوا).
التاسع: البشرى بنزول الملائكة مدداً للمسلمين من رحمة الله عز وجل بهم وبالناس جميعاً.
العاشر: البشرى خير محض تنتفع منه الأجيال المتعاقبة، وهذا الإنتفاع أعم من المصاديق الظاهرة له، فمنه ما لا تدركه الحواس من أسباب الضلالة والغواية التي دفعتها البشرى، أو حالت دون ظهورها، مما لا يراه الناس، وهذا التعدد في المنافع الظاهرة والخفية للبشرى الإلهية من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الحادي عشر: الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ينزل من السماء إلى الأرض كلاً من:
الأول: الملائكة بالوحي والتنزيل.
الثاني: نزول الملائكة مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الثالث: البشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة.
التاسعة: من ملك الله للسموات والأرض البشرى للمسلمين، وبما لا يقدر عليه إلا ملك السموات والأرض، إذ أن إنزال الملائكة من السماء وبوظيفة معينة وهي نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بديع صنع الله والشواهد على عظيم قدرته ، لتكون هذه البشارة على وجوه:
الأول: إنها جزء من ملك الله عز وجل للسموات والأرض، ومشيئته المطلقة فيها.
الثاني: البشرى شاهد على أن السموات والأرض ملك لله عز وجل.
الثالث: البشرى رشحة من ملك الله عز وجل للسموات والأرض وما فيهما.
الرابع: بيان حاجة الخلائق عامة والناس خاصة لملك الله للسموات والأرض.
الخامس: دعوة أجيال المسلمين لشكر الله عز وجل على نعمة البشرى بنزول الملائكة.
الصلة بين(وما جعله الله إلا بشرى) وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: البشرى من مصاديق المغفرة للمسلمين.
الثانية: البشرى للمسلمين عذاب للكفار، لما بينهما من التضاد والعداوة خصوصاً وان موضوع البشارة هو النصرة على الكفار، وضربهم بالذل والخيبة، فالبشارة بنزول الملائكة وما يترشح عنه من عمومات قوله تعالى في هذه الآية[يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] فهي باب للمغفرة للمسلمين، وسبيل للتوبة، وعذاب لمن يبقى على الكفر.
الثالثة: إن الله عز وجل يرحم المؤمنين بأن يبشرهم بنزول الملائكة لنصرتهم وغلبتهم على الكفار.
الرابعة: نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة عقلية وحسية وهو من عمومات قوله تعالى [وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] لما فيه من أسباب المغفرة وجذب الناس للهداية بالذات والأثر، أما الذات فان الناس يرون الآية العظيمة، وأما الأثر فانه باق ومتجدد إلى يوم القيامة.
الخامسة: من رحمة الله عز وجل بالناس نزول الملائكة، وجعل هذا النزول بشارة وسكينة للمسلمين، ومن يطلب السكينة والسعادة في الدنيا والآخرة فعليه أن يجعل نفسه من الذين تنالهم البشرى وهم المسلمون والمسلمات.
فان قلت إن البشرى في الآية خاصة بالمسلمين بدليل التقييد بالجار والمجرور في قوله تعالى[بُشْرَى لَكُمْ]
والجواب : يتعلق الموضوع بالكبرى وهي بقاء الدخول إلى الإسلام مفتوحاً للناس جميعاً وإلى يوم القيامة، وتقدير الآية(بشرى لكل من دخل الإسلام) وهو من رحمة الله عز وجل بالناس بأن جعل البشارة مادة للترغيب بدخول الإسلام، وهو من إعجاز القرآن الذاتي والغيري بأن تكون آياته على وجوه :
الأول : الدعوة إلى الإسلام، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
الثاني : إنها حرب على الكفر.
الثالث : تلاوتها والتدبر في معانيها سبب لبعث السكينة في قلوب المؤمنين والمؤمانت , وهي واقية من النفاق .
الرابع : بعث الفزع والخوف في قلوب الكافرين , قال تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
السادسة: البشرى من رحمة الله لما فيها من الترغيب بدخول الإسلام.
الصلة بين(ولتطمئن قلوبكم به) وبين هذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إن الله الذي له ملك السموات والأرض يتفضل على المسلمين ويبعث السكينة والطمأنينة في قلوبهم.
الثانية: الطمأنينة من مصاديق المغفرة والعفو، ومناسبة كريمة للإستغفار.
الثالثة: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أداء المناسك والعبادات بطمأنينة وإنقطاع إلى الله.
الرابعة: الطمأنينة عون للتفكر في خلق السموات والأرض وملك الله عز وجل لها، ولزوم طاعته.
الخامسة: بيان منزلة المسلمين عند الله بأن تأتيهم الطمأنينة وأسبابها من السماء, وتكون مقدمة للسعي في دروب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
السادسة: من الآيات أن الطمأنينة التي تأتي من السماء قطعية لا تقبل الترديد والتأخير، وتحتمل وجوهاً:
الأول: إنها من الكلي المتواطئ الذي يكون على مراتب واحدة عند المسلمين جميعاً.
الثاني: من الكلي المشكك وأنها على مراتب متفاوتة بين المسلمين , وهذا التفاوت بلحاظ وجوه:
الأول: درجة الإيمان والتقوى، فكلما كان المسلم أكثر إيماناً كانت الطمأنينة عنده أكثر وأبين.
الثاني: تكون الطمأنينة أكثر عند المؤمنين في ساحة المعركة كيوم بدر وأحد، وبعدها تكون أقل درجة سواء عندهم، أو عند غيرهم من المؤمنين .
الثالث: إزدياد درجة الطمأنينة عند تلاوة هذه الآيات في الصلاة وغيرها.
ولا دليل على هذا التفصيل في التفاوت في الطمأنينة، في الوجوه الثلاثة أعلاه.
الثالث: إختصاص المؤمنين في معركة بدر وأحد بالطمأنينة.
الرابع : إرادة العموم , وتغشي الطمأنينة لقلوب المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، وهو من عمومات قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( )، بتقريب أن الخروج للقتال جهاداً في سبيل الله من أفضل مصاديق ذكر الله, وهو مناسبة للدعاء وذكر الله طلباً للنصر ورجاء الغلبة على الكفار.
الخامس: المراد الطمأنينة النوعية العامة للمسلمين كأمة وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادس: الملازمة بين نزول الملائكة مدداً وإمتلاء قلوب المقاتلين بالطمأنينة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية بإستثناء الوجه الأول للتباين بينه وبين الوجه الثاني والأرجح منهما، فيصدق صرف الطبيعة ومسمى الطمأنينة على حصولها عند المسلم، إلا أن الله عز وجل هو الكريم ويعطي من أفراد الطمأنينة الكثير كماً وكيفاً، وبين الطمأنينة المذكورة في هذه الآية والطمأنينة في قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( )،عموم وخصوص من وجه.
فمادة الإلتقاء هي:
الأول: إنبعاث الطمأنينة في القلوب.
الثاني: ترشح الأخلاق الحميدة عن الطمأنينة.
الثالث: الطمأنينة مادة ومناسبة للإقبال على الفرائض وأدائها بشغف وشوق.
الرابع: الطمأنينة فضل من الله عز وجل، وهو من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الخامس: ترغيب الناس بدخول الإسلام.
السادس: توجه المسلمين إلى الله تعالى بالشكر على نعمة الطمأنينة.
وأما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول: الطمأنينة في المقام رشحة من رشحات نزول الملائكة.
الثاني: جاءت الطمأنينة هنا بسبب الصبر والتقوى , قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
الثالث: تكون مقدمة للصبر والتقوى بالجهاد في سبيل الله عز وجل , وهل كون الطمأنينة سبباً للصبر، ومقدمة للصبر يستلزم الدور وأن أحدهما يتوقف على الآخر , الجواب لا، للتباين الموضوعي في أفراد الصبر والطمأنية.
الرابع: جاءت الطمأنينة هنا بنزول الملائكة والبشارة به، وأما في الآية أعلاه فإن الطمأنينة ملازمة لذكر الله، لتكون نعمة حاضرة، يستطيع المسلم نيلها والفوز بها بذكر الله وتسبيحه وأداء الفرائض.
السابعة: لا سلطان لأحد على قلب غيره، والله وحده الذي يعلم ما في القلوب، ويقلبها كيف يشاء , ومن الشواهد عليه أن الله عز وجل ينزل السكينة على قلوب المسلمين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي.
الثامنة: الطمأنينة مقدمة مناسبة لإتيان الأفعال التي تجلب المغفرة والعفو، سواء بالنسبة للمسلمين أوغيرهم، فمنافع الطمأنينة للمسلمين متعددة موضوعاً وأفراداً منها:
الأول: إنها وعاء لأداء العبادات.
الثاني: التقيد بسنن التقوى.
الثالث: إنها واقية من النفس الغضبية والشهوية.
الرابع: هي سلاح في أمور الدين والدنيا.
وأما غير المسلمين فإن الطمأنينة التي تصيب المسلمين، والحال المترشحة عنها نفع لهم من وجوه:
الأول: إنها تذكير وحجة على الناس.
الثاني: ترغيب لهم بالإسلام.
الثالث: فيها زجر عن التعدي على المسلمين.
والطمأنينة مدد وقوة إضافية، وهو من خصائص البشارة الإلهية وإعجاز المدد الإلهي بأن يكون توليدياً تتفرع عنه أنواع من المدد النفسي والخارجي اللذين يترشح عنهما متفرقين ومجتمعين فروع أخرى من السلاح.
التاسعة: إحتجاج المسلمين بالبشارة الإلهية، وهذا الإحتجاج وإختيار سلاح الحجة والبرهان من رشحات الطمأنينة التي تتغشى المسلمين هبة ورحمة من الله الغفور الرحيم , وهو من مقدمات الإمتثال لقوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
العاشرة: طمأنينة قلوب المسلمين عذاب للكفار في مفهومها وأثرها، فمن عمومات قوله تعالى[يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ]( )، نزول الطمأنينة على المسلمين ليغفر لهم الله، ولتكون مصداق المغفرة، وهي عذاب عاجل للكفار، وإنذار لهم بالعذاب الآجل لتعدد صيغ وكيفيات وأوان العذاب .
الحادية عشرة: يحتمل دوام النعمة التي ينزلها الله على العباد في المقام وجوهاً:
الأول: دوام نعمة بشارة نزول الملائكة يوم أحد.
الثاني: تجدد نعمة المدد والبشارة.
الثالث: إجتماع النعمتين معاً، بإستدامة نعمة البشارة يوم بدر وأحد، وتجدد بشارات مستحدثة.
والصحيح هو الثالث، وهو من رحمة عز وجل، ومصاديق عمومات خاتمة هذه الآية(والله غفور رحيم).
الثانية عشرة: من رحمة الله عز وجل بالمسلمين تعدد وتفرع النعم عن النعمة الواحدة وقد تقدم قانون(المعجزة التوليدية) ( ).
فالمدد الملكوتي أمر خارجي، ولكنه يبعث السكينة والطمأنينة في قلوب المؤمنين، لتكون هذه الطمأنينة نوع شكر لهم على إتباعهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإستعدادهم لبذل أموالهم ونفوسهم في سبيل الله.
وطمأنينة قلوب المسلمين شاهد على تلقيهم بشارة المدد الملكوتي بالقبول والرضا والتصديق.
الثالثة عشرة: لقد جعل الله عز وجل الإنسان متحداً أو متعدداً كائناً محتاجاً، تصاحبه الحاجة في عالم الدنيا والآخرة، وجاءت الطمأنينة رحمة من عند الله خاصة بالمسلمين، ليمتازوا بها عن غيرهم من أهل الملل والنحل، وتكون من مصاديق[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الرابعة عشرة: طمأنينة المسلمين سبب للعناية بالقرآن وحفظ آياته وتلاوته، وبرزخ دون وصول يد التحريف إليه، وهو من رحمة الله.
الخامسة عشرة: الإجتماع واللقاء بين جند الله في الأرض وجنده في السماء , والبشارة بالإجتماع بينهما مناسبة لنزول الطمأنينة في قلوب المؤمنين.
السادسة عشرة: لما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )،قال سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )،وبعث الطمأنينة في قلوب المؤمنين من علم الله الذي ذكرته الآية إعلاه، والمصاديق العملية للرد على إحتجاج الملائكة من وجوه:
الأول: تنزه فريق من الناس عن الفساد في الأرض وهم المسلمون.
الثاني: محاربة المسلمين للفساد.
الثالث: تفضل الله عز وجل بنزول الطمأنينة على الذين يحاربون الفساد في الأرض، ويكون هذا النزول مباشرة وبالذات أو بالواسطة كما في المقام وترشح الطمأنينة عن البشارة بنزول الملائكة، ومجيء هذه البشارة بعد تحقق نزول الملائكة في معركة بدر وتلك آية في رحمة الله بالمسلمين، ونزول الطمأنينة عليهم، وتحقق مصداقها وإستقرارها في قلوبهم، بأن تأتي البشارة بمدد ملكوتي في معركة أحد، قد تقدم وقوع مثله في معركة بدر، ليبادر المسلمون إلى التصديق به.
وهذه المبادرة إلى التصديق بالبشارة بالمدد نوع طمأنينة أخرى، وفيها مسائل:
الأولى: بيان الفضل الإلهي على المسلمين.
الثانية: التنبيه إلى تعدد مصاديق ومنافع الطمأنينة.
الثالثة: صيرورة السكينة ملكة عند المؤمنين قال تعالى[فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابعة: التخفيف عن المسلمين.
الخامسة: طرد أسباب الشك والوهم.
السادسة: إنها واقية من أهل الريب والحسد.
السابعة عشرة: يحتاج المسلمون الإتحاد والتعاون والتآلف والتقيد بأحكام الشريعة، قال سبحانه[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( )، ومن رحمة الله عز وجل بالمسلمين جعلهم في حال من الطمأنينة والسكينة وبما يساعد على إتحادهم وتعاونهم، ويكون مناسبة للإستغفار والتضرع بالدعاء.
الثامنة عشرة: من مصاديق قوله تعالى(والله غفور رحيم) نزول الملائكة والبشرى والطمأنينة على المؤمنين في ساعة الشدة وساحة القتال.
التاسعة عشرة: من رحمة الله عز وجل بالمسلمين إصلاحهم للإمتثال لأوامره تعالى في الطاعة قال تعالى[أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ]( )، وجاءت طمأنينة القلوب من هذا الإصلاح فكانوا في غاية الإخلاص وبديع الطاعة في ساحة المعركة.
العشرون: من رحمة الله عز وجل بالمسلمين صيرورة الطمأنينة ملكة عند المسلمين وعلامة ينفردون بها، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، لتصبح على وجوه:
الأول: بلغة للمغفرة.
الثاني: وسيلة للتدارك والإنابة إلى الله.
الثالث: مادة وسلاح للمسارعة في الخيرات، وإفشاء الصالحات.
الحادي والعشرون: لقد حصل إرتقاء وتطور سريع في عالم الطب مثلاً وتعددت الإختصاصات فيه، وكل إختصاص لا يلبث أن ينشطر إلى إختصاصين أو أكثر، وظهرت الدراسات النفسية، وصار الطب النفسي عالماً مستقلاً في الوقاية والعلاج وكثرت أفراد ومصاديق الإبتلاء والداء فيه، لتكون الطمأنينة التي رزق الله عز وجل المسلمين ملكة دائمة وشاهداً متجدداً على الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق بعثته من عند الله، وهو من الرحمة الإلهية بالمسلمين بالسلامة من كثير من الأمراض النفسية الظاهرة والمتجددة في الأزمنة اللاحقة.
الثاني والعشرون: البشرى من رحمة الله، وجعلها هبة لأنبيائه ففي إبراهيم ورد قوله تعالى[وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى]( )، وقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالبشرى بنصرهم، وغلبتهم على عدوهم بنزول آلاف من الملائكة، وهو من آيات رحمة الله الباقية والمتجددة إلى يوم القيامة، ومن الآيات في معجزة البشارة الواردة في المقام التعدد في كل من الوجوه الآتية:
الأول: ذات البشارة.
الثاني: كيفية البشارة.
الثالث: الجهة التي تتوجه لها البشارة.
الرابع: الذين ينتفعون من البشارة، وبين هذا الوجه والوجه السابق عموم وخصوص مطلقاً، إذ تتوجه البشارة للمسلمين، ولكن الناس جميعاً ينتفعون منها.
الخامس: موضوع البشارة ونزول آلاف الملائكة لنصرة المؤمنين.
السادس: تجدد البشارة بحدوث مقدمات موضوعها فيستحضر المسلمون البشارة عندما يهم الكفار بالتعدي عليهم، فيتحلون بالصبر، ويزدادون إيماناً.
السابع : تلاوة المسلمين لآيات بشارة نزول الملائكة , وهو من عمومات[تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ]( ).
الثامن : مصاديق وأفراد الإنتفاع من البشارة الإلهية، بأن ينتفع منها المؤمنون على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والشخصي .
وتتعدد ميادين ومصاديق الإنتفاع منها، ولا تنحصر في حال الحرب وكثرة الأعداء، بل هي سلاح مصاحب لهم في حياتهم الدنيا وفي الحرب والسلم، والليل والنهار، وإذ سقط عن النساء القتال فإنهن لم يحرمن من نعمة البشرى والإنتفاع الأمثل منها، وتلك آية في إكرام الله للمسلمين والمسلمات، وشمول المؤمنات بالنعم العامة والخاصةز
والتعدد أعلاه في كل وجه من وجوه البشرى من خصائص البشرى التي تأتي من الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، ومن أسرار ورشحات هذا التعدد إستقرار الطمأنينة في قلوب المسلمين، ووقايتهم من الشك والريب.
لقد أراد الله عز وجل لآيات القرآن وأحكام الإسلام البقاء إلى يوم القيامة، وقد تصدى الكفار لمحاربتها ومنع إنتشارها، فأنعم الله عز وجل على المسلمين بآيات من المدد والمنعة وأسباب القوة مما لايقدر عليه إلا الله الذي له [مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
الحادية والعشرون:يفيد الجمع بين الآيتين أن من رحمة الله عز وجل جعل الدنيا (دار الطمأنينة) لذا فتح لهم باب المغفرة والعفو، وقد فاز بالطمأنينة ومقدماتها والآثار المباركة المترشحة عنها المسلمون فلابد ان ينالوها فضلاً من الله، ولو إجتمع عليهم الكفار وأرادوا الإضرار بهم والإجهاز عليهم، وفيه ترغيب بالطمأنينة، وإخبار عن حصرها بالمسلمين، وجاءت الآية محل البحث لبيان قدرة الله عز وجل على جعل الدنيا دار الطمأنينة، وتوكيد سعة رحمته وتغشيها الناس جميعاً في أجيالهم المتعاقبة بالرحمة.
صلة (وما النصر إلا من عند الله) وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: من خصائص ملك الله للسموات والأرض أن النصر بيده وحده، ويدل قوله تعالى أعلاه في مفهومه بأن الهزيمة والخسارة بيد الله أيضاً، ليكونا من عمومات قوله تعالى(يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) بلحاظ أن نصر المؤمنين باب للمغفرة لهم، وأن هزيمة الكفار من العذاب في ذاته وأثره، وهو مقدمة للعذاب الأخروي بالخلود في النار.
الثانية: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: وما النصر إلا من عند الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
الثاني: الله له ما في السموات وما في الأرض وما النصر إلا من عنده.
الثالث : الله غفور رحيم وما النصر إلا من عنده.
الثالثة: دعوة المسلمين للتوجه للدعاء وسؤال النصر.
الرابعة: طرد اليأس عن القلوب، فأما المسلمون فإن الخسارة التي تصيبهم لا تجعلهم ييأسون بل يتطلعون إلى النصر من عند الله رحمة منه تعالى، وأما الكفار فإن باب التوبة والمغفرة مفتوح لهم، وفتحه في طول الإنذار بأن النصر خاص بالمؤمنين على نحو الحصر والتعيين.
الخامسة: قد يحقق أحد الطرفين النصر في بداية المعركة , فجاءت هذه الآية لتؤكد رحمة الله عز وجل بأن النصر إذا كان في بداية المعركة للمسلمين فإنه سيستمر، وتنتهي المعركة بنصرهم، وأما إذا كان للكفار فإنه لن يستمر بل يتحول إلى هزيمة، وتبعث هذه القاعدة الأمل والطمأنينة في نفوس المسلمين والمسلمات، والفزع في قلوب الكفار ليكونا سبباً لتحقيق النصر من عند الله للمسلمين.
وإذا كانت الطمأنينة من رحمة الله فهل هي نصر بذاتها : الجواب إن القدر المتيقن من النصر المذكور في الآية هو الغلبة على العدو، وهذا القدر من فضل الله، وعمومات رحمة الله تعالى والبيان الذي في القرآن قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، لذا جاءت الآية بحرف العطف(وما النصر).
ولو وقع إقتتال بين طائفتين من المسلمين فهل تشمله عمومات هذه الآية وقوله تعالى[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ].
الجواب إن النوبة لا تصل إلى موضوع النصر لأن القرآن جاء بما يوجب الإصلاح بينهما، وتأديب الفئة الباغية التي تمتنع عن الصلح والعدل , قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ] ( )، وإنما النصر جاء في الآية بخصوص القتال بين المؤمنين والكفار، والصراع بين الإيمان والكفر.
السادسة: يدل قوله تعالى(لله ما في السموات وما في الأرض)على أن النصر بمشيئة وقدرة الله، لأن كل شيء مستجيب له.
السابعة: تحتمل جهة النصر الإلهي للمؤمنين بلحاظ الجمع بين الآيتين وجوهاً:
الأول: يأتي النصر بأسباب ووسائط مما في الأرض.
الثاني: يأتي بملائكة وأسباب من السماء وهو من عمومات قوله تعالى(ولله ما في السموات).
الثالث: يأتي بواسطة جنود الله في السماء والأرض والله واسع كريم، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
والصحيح هو الثالث، فمجيء هذه الآيات بالبشارة والإخبار عن نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لا يعني حصر النصر بهذا النزول، بدليل مجيء قوله تعالى(وما النصر إلا من عند الله) قاعدة كلية تتغشى أيام المسلمين في الحياة الدنيا.
الثامنة: النصر من عند الله شاهد على المغفرة للمسلمين , ومقدمة ونتيجة لهذه المغفرة، وهو عذاب للكفار والظالمين في الدنيا، ومقدمة لعذابهم في الآخرة إن لازموا الكفر والضلالة بعد هزيمتهم ورؤية آيات النصر التي تصاحب الإيمان والمؤمنين.
التاسعة: تقدير جمع قوله أعلاه وخاتمة هذه الآية هو (وما النصر إلا من عند الله الغفور الرحيم) أي أن النصر من رحمة الله، وهو باب للمغفرة لذا خص الله عز وجل به المؤمنين، لأن شيوع مبادئ الإسلام والعمل بأحكام الشريعة رحمة وسبب لجلب شآبيب الرحمة للعاملين بها ولغيرهم من الناس وفيه عذاب أليم للكفار .
العاشرة: الإخبار عن كون النصر بيد الله من عمومات قوله تعالى(يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) الذي جاء في هذه الآية سبباً وموضوعاً ونتيجة.
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين: لله العزيز الحكيم ما في السموات وما في الأرض، وفيه وجوه:
الأول: توكيد حكمة الله في خلق السموات والأرض وجعل ملكيتهما له خاصة.
الثاني: ملك الله للسموات والأرض شاهد على أن القوة والمنعة له , قال تعالى[أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ).
الثالث: جعل الله النصر بيده خير محض، ونفع للناس جميعاً، وهو من حكمة الله وبديع صنعه.
الرابع: إنحصار المغفرة والعذاب الأخروي بيد الله من عزته وشاهد على قوته سبحانه.
الخامس: من حكمة الله عز وجل عالم الحساب والجزاء، لما فيه من ندب الناس لعبادته، وعمارتهم الأرض بالصلاح، والثواب العظيم للمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
الصلة بين آية(بلى إن تصبروا) ( )، وبين هذه الآية.
وفيها مسائل:
الأولى: صبر المسلمين في جنب الله الذي له ملك السموات والأرض.
الثانية: لو شاء الله لفتح على المسلمين من غير قتال أو ضرر أو أذى لأن السماوات والأرض وما فيها ملك له سبحانه، ولكنه أراد لهم الصبر والثواب العظيم على هذا الصبر.
الثالثة: ترغيب المسلمين بالصبر في ميادين القتال وغيرها لأنه الطريق إلى الفوز برحمة الله والمغفرة كما في هذه الآية (يغفر لمن يشاء).
الرابعة: التقوى نوع سؤال وتوسل لنزول الملائكة للنصرة.
الخامسة: تحلي المسلمين بالتقوى حجة على الكفار الذين يصرون على التعدي عليهم، ويسعون لإرتداد فريق منهم عن الإسلام.
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين فوز المتقين بالمغفرة، فمن يتق الله ويخشاه في الغيب يكون من الذين ينالهم قوله تعالى(يغفر لمن يشاء).
السابعة: إجتماع الصبر والتقوى عند المسلمين سبيل للفوز بالمغفرة والأمن من العذاب.
الثامنة: قيام الحجة على الكفار وإستحقاقهم العذاب المذكور في قوله تعالى(ويعذب من يشاء) لأنهم يحاربون المؤمنين الذين يتصفون بالصبر، ويتقيدون بأحكام التقوى والخشية من الله.
التاسعة: جاءت الآية أعلاه بالأمر بخصلتين كطريق لنزول الملائكة والنصر، وهما الصبر والتقوى، وجاءت هذه الآية بالإخبار بأن الله هو الغفور الرحيم.
العاشرة: من خصائص(خير أمة أخرجت للناس) ( )، الصبر والتقوى والخشية من الله الذي له ملك السموات والأرض.
الحادية عشرة: جاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية، وتبين سعة ملك الله عز وجل، وأن كل شيء بيده، لتكون زاجراً للكفار عن التعدي على الذين يؤمنون بالتوحيد، ويتنزهون عن الشرك والضلالة.
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: إن الله الذي له ما في السموات والأرض يأمر المسلمين بالصبر والتقوى وهو سبحانه غير محتاج لهم، ولكن الصبر والتقوى مقدمة لنزول المدد الإلهي.
الثانية: الصبر والتقوى في جنب الله مصداق للإيمان بالله والتصديق ببعثة نبيه محمد صلى الله وآله وسلم.
الثالثة: أمر الله عز وجل للمسلمين بالصبر والتقوى شاهد على حبه تعالى لهم.
الرابعة: لقد أراد الله عز وجل للإسلام البقاء والثبات والإستدامة إلى يوم القيامة، فكانت البداية بالصبر في ميادين القتال والخشية من الله في حال الحرب والسلم، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامسة: تقدير الجمع بين الآيتين: بلى إن تصبروا وتتقوا الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
السادسة: لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار عمل، وأشرف أفراد العمل هما الصبر في طاعة الله، والخشية منه، فأنعم الله عز وجل على المسلمين وجعلهما شرطاً للنصر والغلبة على الكفار فإن قلت: لم تذكر الآيتان النصر .
والجواب أنه نتيجة قطعية لنزول الملائكة مدداً.
السابعة: تذكير المسلمين بأن لله ما في السموات وما في الأرض عون ومدد لهم للتحلي بالصبر والخشية منه سبحانه، وجعلها ملكة ثابتة عند أجيالهم المتعاقبة.
الثامنة: إدراك المسلمين بأن الأشياء كلها ملك لله واقية من الفشل والخوف والفزع خصوصاً وأن موضوع الآية رجوع الكفار للقتال في معركة أحد وبعد الخسارة التي تعرض لها المسلمون.
التاسعة: ترغيب المسلمين بالصبر والتقوى رجاء اللطف والفضل الإلهي الذي يترشح عنهما.
العاشرة: بيان منزلة المسلمين الرفيعة بين الأمم بأن يأمرها الله الذي له ما في السموات وما في الأرض بالصبر والتقوى ويعدها عليه المدد والنصر.
الحادية عشرة: كفاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بقيد تحليهم بالصبر في ميادين القتال، والخشية من الله عز وجل.
وقد جاءت آيات القرآن بالأمر بالصبر والتقوى وإتيان الفرائض والواجبات , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا] ( ).
الثانية عشرة: إن الله عز وجل وحده القادر على الوعد بالنصر والمدد الملكوتي، وقد خص به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وهو من الشواهد على كون المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالثة عشرة: حث المسلمين على الدعاء، والتطلع إلى السماء وعالم الملكوت، ورجاء فضل الله عز وجل بنزول جنود السماء لنصرتهم.
الصلة بين [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا] وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: الصبر حاجة في القتال في سبيل الله.
الثانية: الصبر في مرضاة الله وسيلة مباركة للفوز بالمغفرة من عند الله.
الثالثة: من يتق الله ينال المغفرة من عنده، ومن اللطف الإلهي بالمسلمين حثهم على التقوى والخشية من الله، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
الرابعة: بيان منزلة المسلمين عند الله، والمائز الذي يتصفون به من الإكرام الإلهي بهدايتهم إلى التقوى والخشية منه سبحانه.
الخامسة: لما جاء قوله تعالى [يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] جاءت الآية أعلاه لبيان سبيل المغفرة، وهو التقوى والخشية من الله، وتوكيد نزول العذاب بمن يأت محارباً للإسلام والمسلمين.
السادسة: بيان قانون وهو أن الله عز وجل يلطف بالعباد، ويقربهم إلى سبل الطاعة والمغفرة، بأن يأمر المؤمنين بالصبر والتقوى.
السابعة: لما أختتمت هذه الآية بقوله تعالى(والله غفور رحيم) جاءت هذه الآية بالرحمة الإلهية بالأمر للمسلمين بالصبر والتقوى، وهما وسيلة للفوز بمصاديق أخرى من الرحمة الإلهية لتكون الأوامر الإلهية باباً للرحمة التوليدية المتجددة.
الثامنة: تساعد مضامين هذه الآية المسلمين على تنمية ملكة الصبر والتقوى والإرتقاء في المعارف الإلهية بإدراك أن السموات والأرض لله عز وجل وأنه الغفور الرحيم الذي تجب الخشية منه، ومحاربة أعدائه وأعداء لرسوله.
صلة قوله تعالى(ويأتوكم من فورهم) وهذه الآية.
وفيها مسائل:
الأولى: إن الله الذي له ما في السموات وما في الأرض يعلم حال الكفار ومنزلتهم، ونيتهم العودة إلى القتال أو عدمها، فجاءت الآية أعلاه لبيان رحمة الله بالمسلمين وحفظه لهم , قال تعالى[فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
الثانية: بيان قبح فعل الكفار بتعديهم على المسلمين.
الثالثة: تخويف الكفار للمؤمنين مناسبة لنيل المؤمنين المغفرة والثواب، ونزول العذاب بالكفار.
الرابعة: بعث السكينة في نفوس المسلمين لأن مقاليد الأمور بيد الله، وأفعال الكفار بعلم الله، وهو القادر على كف أذاهم والبطش بهم.
الخامسة: ما دام المسلمون يقرون ويعترفون بأن ملك السموات والأرض لله عز وجل فلا يخافون الكفار إذا عادوا إلى ساحة المعركة، وتفضل الله عز وجل على المسلمين بالمدد السماوي.
السادسة: لقد كان يوم أحد عصيباً ومؤلماً، جرح فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكسرت رباعيته وإستشهد عدد من المؤمنين وجرح آخرون، ولكنهم لم يكلوا ولم يجبنوا عندما سمعوا بعزم الكفار على المجئ، وكان المسلمون مستعدين لمواصلة القتال وتحقيق النصر والغلبة وبذل التضحيات أي أنهم يسعون لإحدى الحسنينين إما النصر وإما الشهادة، وكانوا يبذلون الوسع لتحقيق النصر على نحو التعيين مع شوقهم للقاء الله عز وجل وحبهم للشهادة التي تكون في طول النصر كعلة غائية وكانوا يثقون بالنصر والغلبة على الكفار لأن الله له ما في السموات وما في الأرض.
والمسلمون يقاتلون في سبيل الله، وإعلاء كلمة التوحيد، ومن الدلائل عليه أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خرجوا لطلب العدو في اليوم الثاني لمعركة أحد وهو اليوم السادس عشر من شوال في السنة الثالثة للهجرة، ولم يحتج أحد من المسلمين بكثرة الجراحات التي أصابتهم أو بقوة وكثرة العدو، أو ترك الكفار بعد أن إنسحبوا خائبين، وتلك آية في حسن توكل المسلمين على الله، وثقتهم بالنصر من عنده وهو من مصاديق تسمية هذه الآية لهم بالمؤمنين وقوله تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الآية السابقة للآية أعلاه(إذ تقول للمؤمنين).
السابعة: التسليم بأن الله عز وجل له ما في السموات وما في الأرض مقدمة للصبر ومادة له، لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالصبر والتقوى، وبيّن لهم في هذه الآية الكريمة عذوبتهما ويسرهما مجتمعين ومتفرقين.
الثامنة: تؤكد الآيات والأخبار والأحاديث أن الكفار لم يرجعوا إلى لميدان معركة أحد بعد إنسحابهم.
ترى هل كان لصبر وتقوى المؤمنين موضوعية في عدم الرجوع هذا، الجواب نعم فان المسلمين لم ينهزموا أو ينسحبوا فارين، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علياً في أثر الكفار للتأكد من وجهتهم خشية إغارتهم على المدينة، وفيه مسائل:
الأولى: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الثانية: ترغيب الناس بالإسلام.
الثالثة: تأسيس منهاج لأجيال المسلمين بالصبر في ميدان القتال، وإن كان الكفار هم الأكثر عدداً وعدة، وليس من حصر لمنافع هذا التأسيس، والدروس والمواعظ المقتبسة منه.
الرابعة: تنمية ملكة الصبر والجهاد عند المسلمين، وعدم الخشية من الكفار.
الخامسة: بعث السكينة في نفوس الأفراد والأسر والبيوتات في المدينة.
السادسة: الإخبار العملي عن قوة المسلمين، ومنعة الإسلام , قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
السابعة: إستعداد المؤمنين لمواصلة القتال، والزحف وإن إنتهت المعركة.
الثامنة: من خصائص ملك الله للسموات والأرض عدم وجود مسافة بين السماء والأرض في نزول الملائكة ونصرتهم المؤمنين، لقوله تعالى[وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا]( )، فحالما يرجع الكفار إلى المعركة يكون الملائكة حاضرين.
صلة (يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة) و هذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إن الله عز وجل ملك ورب ما في السموات وما في الأرض.
الثانية: من خصائص ملك الله للسموات والأرض أن أهل السماء ينزلون لنصرة المؤمنين في الأرض.
الثالثة: جاء ذكر الملائكة النازلين لنصرتهم بلغة التبعيض والتنكير(من الملائكة)مما يدل على أن الملائكة كلهم مؤمنون طائعون لأمر الله عز وجل, وأن قوله تعالى [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( )، يدل في مفهومه على إستعداد وأهلية باقي الملائكة للنزول مدداً للمسلمين . في معركة أحد وما بعدها .
الرابعة: إن الله عز وجل الذي ينزل خمسة آلاف من الملائكة لنصرة المؤمنين هو الذي يغفر لهم جميع ذنوبهم.
الخامسة: إن الله يظهر للعباد عظيم قدرته وسعة سلطانه، وآياته الباهرات، التي تدل على أن ملك السموات والأرض له سبحانه , وتجلت يوم أحد بآيات من وجوه:
الأول: الأمر الإلهي بنزول الملائكة.
الثاني: ذكر عدد الملائكة على نحو التعيين وهو خمسة آلاف ملك , وفيه بيان لكثرة وقوة الملائكة، وقطع بالنصر والغلبة للمؤمنين.
الثالث: بيان وظيفة الملائكة عند نزولهم إلى الأرض وهي نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
السادسة: جعل الله أهل السماء يتصفون بعلامات خاصة بهم، فنزلوا بعمائم صفر وعلقوا الصوف الأبيض على نواصي خيلهم، كما إمتازت خيلهم بانها كانت بلقاً أي لونها مركب من السواد والبياض لتكون علامات تدل عليهم، وتعرف أفعالهم وشجاعتهم في الميدان وقدراتهم الفائقة فتكون عذاباً حاضراً للكفار، فهذه العلامات من عمومات قوله تعالى[يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] وفيها زاجر لهم عن معاودة الإعتداء على المسلمين.
وفي حمل الملائكة لعلامات خاصة في المعركة إرشاد للمسلمين للصبر ودعوة لهم للخشية من الله، والشكر له سبحانه على نعمة الهداية للإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد أقر المسلمون بأن ملك السموات والأرض لله عز وجل فانزل عليهم المدد من السماء شكراً على هذا الإقرار والإستعداد لبذل النفوس في الثبات عليه , قال تعالى [وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا] ( ).
السابعة: نزول الملائكة مسومين بعلامات مخصوصة في ساحة المعركة من عمومات خاتمة هذه الآية[وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ورحمته تعالى بالناس في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فان المسلمين والكفار ينتفعون منها إذ أنها تزيد المسلمين إيماناً، وتدعو الكفار للتوبة والإنابة، وهي حجة بالغة عليهم، ورسالة إنذار لمن خلفهم تنطلق من سوح المعارك لتدخل بيوت الكفار وتكون تعضيداً حسياً وعملياً لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويمتلأ المسلمون غبطة بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيد الكفار في الحياة الدنيا ، وأما في الآخرة فان المسلمين هم الذين ينتفعون منها من وجوه:
الأول: التصديق بمعجزة نزول الملائكة.
الثاني: التسليم بأن الملائكة نزلوا بأمر من عند الله عز وجل.
الثالث: إعانة ونصرة الملائكة للمؤمنين سبيل لزيادة إيمانهم، ومواصلتهم الجهاد في سبيل الله.
الرابع: وراثة المسلمين لأبنائهم وذراريهم الإيمان ,ونقل أخبار نزول الملائكة مدداً , وتلاوة هذه الآية , سبب لجلب الثواب والأجر لهم في حياتهم وبعد مماتهم.
الصلة بين (أن يمددكم ربكم) وبين ( ولله ما في السموات والأرض)
وفيها مسائل:
الأولى:إقرار المسلمين بأن الله عز وجل هو ربهم وهذا الإقرار مقدمة واجبة للمدد السماوي.
الثانية: من الشواهد على إنحصار ملك السماوات بالله عز وجل وحده إنزاله المدد منها .
الثالثة: من ملك الله للسموات والأرض نزول جنود السماء لنصرة جنود الأرض .
الرابعة: إلتقاء الملائكة والمؤمنين في العبودية لله والإقرار بالربوبية له سبحانه ، قال تعالى[وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ] ( ).
الخامسة: بيان كثرة عدد الملائكة في السماء ، إذ ينزل الله عز وجل منهم دفعة واحدة ثلاثة آلاف لنصرة المسلمين.
السادسة: من أسرار ملك الله لما في الأرض نزول ملائكة السماء مدداً للمؤمنين وصعودهم سالمين.
السابعة: إنعدام المسافة بين السماء والأرض بدليل نزول الملائكة من غير أن يستغرق نزولهم وقتاً معتداً به، وهو من أسرار مجيء الآية بتعلق ملك الله بما في السماوات وما في الأرض، وليس بذات السماء والأرض مع ورود آيات بهذا المعنى , قال تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الثامنة: يبين موضوع المدد الملكوتي أن جنود الله في السموات والأرض هم الغالبون.
التاسعة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الله ينزل من السماء الملائكة لنصرة من في الأرض من المؤمنين.
العاشرة: يعرف أهل السموات طرق الأرض، ويميزون بين المؤمنين والكفار، وهو من عمومات قوله تعالى(ولله ما في السموات وما في الأرض) فلا يستوحش سكان السموات عند النزول إلى السماء لوجود المؤمنين فيها.
الحادية عشرة: المدد الملكوتي مناسبة للتوبة والإنابة والنجاة من العذاب لما فيه من الآيات الحسية التي تجذب الناس للإسلام.
الثانية عشرة: من خصائص ملك الله للسموات والأرض بعث الفزع والخوف في نفوس الكفار، لأنهم من ملكه وفي ملكه ويجحدون بربوبيته ويحاربون رسوله.
التاسعة عشرة: لما جاءت خاتمة هذه الآية(والله غفور رحيم)جاء الأمر الإلهي للمسلمين بالصبر والتقوى، وهو طريق لنيل الرحمة الإلهية، وسبب للمغفرة والعفو.
العشرون: نزول الملائكة بعلامات خاصة من رحمة الله , وآية سماوية في الأرض وإذ يجعل الأبطال والفرسان هذه العلامات، فالملائكة أولى بها .
وهل كان الملائكة محتفظين بهذه العلامات منذ أن رد الله عز وجل عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، يوم إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض، أم أنها أمر مستحدث، الأقوى هو الثاني.
الواحدة والعشرون: بيان عظيم قدرة الله عز وجل ، بحمل الملائكة لإشارات خاصة بهم .
الثانية والعشرون: من رحمة الله عز وجل منع الجهالة وطرد اللبس عن الناس ،لذا نزل الملائكة بعلامات سماوية خاصة بهم كي يعلم الفريقان أنهم ملائكة ، أما المسلمون فإنهم يزدادون قوة وتدخل السكينة نفوسهم ، وأما الكفار فإنهم يدركون آية حسية وعقلية عظيمة بنزول الملائكة وحضورهم ميدان المعركة ليكون مناسبة للهداية ، وباعثاً للفزع والخوف في قلوبهم .
الثالثة والعشرون: إعانة المؤمنين وإقامة الحجة على الكفار سواء الذين حضروا المعركة أو غيرهم .
الرابعة والعشرون: حمل الملائكة لعلامات خاصة في المعركة دعوة لسؤال المغفرة والعفو من عند الله، وهو من عمومات قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
الخامسة والعشرون: إتصاف رحمة الله عز وجل بالإطلاق وعدم التقييد فهو سبحانه أنزل الملائكة مدداً ، وتفضل وجعلهم يحملون شارات خاصة بهم، وتحتمل تلك الشارات والعلامات وجوهاً:
الأول: إنها تشبه ما يحمله المجاهدون .
الثاني: إختصاص الملائكة بها.
الثالث: تلك العلامات تكون معروفة عند الناس وإن لم يتوسم بها المجاهدون لتكون من عمومات اللبس على الكفار.
والصحيح هو الثاني ، فإن العلامات التي يحملها الملائكة خاصة بهم، وهي نازلة معهم من السماء ، نعم قد لا تتبين خصائصها إلا بعد التمعن فيها كنوع من الإبتلاء للكفار في ساحة المعركة ، أما المسلمون فإن هذه الآية إخبار لهم عن نزول الملائكة لنصرتهم ، وهو يعلمون أن ملك السماوات والأرض لله عز وجل ، كما تتجلى مصاديق نزولهم بهزيمة الكفار بخزي وخيبة.
السادسة والعشرون: يدل الجمع بين خاتمتي الآيتين على أمور:
الأول: التقارب والتداخل بين السماء والأرض، ونزول سكان السموات بعلامات خاصة يعرفون بها، وتميزهم عن أهل الأرض.
الثاني: لم ينزل كل ملائكة السماء بل نزل ثلاثة آلاف منهم، ويدل عليه تعيين العدد، ولغة التبعيض في الآية(من الملائكة).
السابعة والعشرون: عدم إنحصار منافع هذا القتال بالدفاع والذب عنهم بل تتضمن إعانتهم على تحقيق النصر في المعارك اللاحقة، وتلك آية ينفرد بها المدد الملكوتي بأن تكون منافعه وبركاته متصلة ودائمة ولا تختص بأوان النزول فهي متجددة، وهذا التجدد من عمومات رد الله تعالى على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، حينما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض ومن فضل الله في المقام وجوه:
الأول: أنه ينزل ملائكة من السماء.
الثاني: وظيفة الملائكة نصرة المؤمنين وقهر الكافرين.
الثالث: منع الكافرين من التمادي في التعدي.
الرابع: بقاء آثار نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في الأرض.
الخامس: نزول الملائكة ضياء حينما ينير دروب المجاهدين.
السادس: تكون هذه النصرة على وجوه:
الأول: إنها درس وموعظة وعبرة.
الثاني: وسيلة لجذب الناس للإسلام.
الثالث: إزدياد قوة المسلمين.
الرابع: تطلع المسلمين إلى المدد الإلهي.
الخامس: فزع الكفار من تجدد المدد للمسلمين.
ومن مصاديق الآية أعلاه ورد الله على الملائكة أن ملائكة السماء يرون إخوانهم من الملائكة يقاتلون لمنع شيوع الفساد وسفك الدماء في الأرض، لأن الشريعة الإسلامية تحرمهما وتعاقب عليهما، لذا ورد قوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( )، ففي العمل بأحكام الشريعة أمور :
الأول: إستدامة الإيمان .
الثاني: أداء للفرائض والعبادات .
الثالث: إنه برزخ متجدد دون الظلم والقتل بغير الحق.
الثامنة والعشرون: يحتمل حمل الملائكة علامات خاصة في المعركة وجوهاً:
الأول: كل ملك من الثلاثة آلاف ملك يحمل علامة خاصة به.
الثاني: شطر من الملائكة يحمل علامة، وشطر لا يحملها، لأن بعضهم لا يراه الناس.
الثالث: إتحاد وتشابه علامات الملائكة.
الرابع: إختصاص كل ملك بعلامة خاصة.
الخامس: تشابه علامات عدد من الملائكة، وإنفراد بعضهم بعلامات مخصوصة.
السادس: للعلامات التي يحملها الملائكة دلالات خاصة يعرفها أهل السماء، تتعلق بمنزلتهم، ووظيفتهم في القتال، والسماء التي جاءوا منها، وتعرف منزلة الملك وعظيم شأنه بالعلامة التي يحملها، فيحمل كل جماعة من الملائكة علامة خاصة بهم.
والأرجح هو الأول والخامس والسادس.
صلة آية(إذ تقول للمؤمنين) ( )، وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه يوم بدر(ألن يكفيكم) من الوحي الذي تفضل به الله الذي له ما في السموات وما في الأرض قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الثانية: من الشواهد على أن ملك السموات والأرض لله عز وجل أنه سبحانه ينزل الملائكة من السماء مدداً للمؤمنين في الأرض.
الثالثة: من مصاديق ملك الله للسموات والأرض نزول الملائكة من السماء إلى الأرض بأمر من الله عز وجل، فذات النزول آية تدل على أن ملك السموات والأرض مطلقاً لله عز وجل لا يشاركه فيها أحد.
الرابعة: ورد اسم الجلالة في هذه الآية مرتين، وبصفة الغفور والرحيم، وجاءت آية(إذ تقول للمؤمنين) بإسم(الرب) في خطاب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين لأنها ساعة عسرة وحرج، ومناسبة للجوء إلى الله عز وجل والإستجارة به والإنقطاع إليه، والتسليم بملكه المطلق.
الخامسة: يتلقى المؤمنون إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن نزول الملائكة بالقبول والتصديق لأن الله له ملك السموات والأرض.
السادسة: المسلمون هم الذين ينتفعون من ملك الله عز وجل للسموات والأرض، وبما ينفع الناس جميعاً وتخليص الأرض من الفساد الذي إحتج به الملائكة يوم خلق آدم[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( )، وهذا النفع للذات والناس من الملل الأخرى من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السابعة: في الجمع بين الآيتين إنذار للكفار للكف عن التعدي على المؤمنين فلا تستطيع قوة قهرهم لأن الله الذي له ملك السموات والأرض هو ناصرهم، وممدهم بملائكة من السماء.
الثامنة: من خصائص ملك الله للسموات والأرض وجود جنود له في السموات، وجنود في الأرض، وينصر جنود السموات جنوده في الأرض، ويكون هذا النزول رحمةً وباب مغفرة للمؤمنين، ووسيلة لعذاب الكفار والمشركين.
التاسعة: لقد تضمنت الآية أعلاه الإخبار عن المدد الملكوتي للمسلمين في معركة أحد، وجاءت هذه الآية مدداً وعوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في التصديق بنزول الملائكة من السماء لنصرتهم، وبرزخاً دون دبيب اليأس والفشل إلى نفوسهم.
العاشرة: لم يأت المدد من السماء إلا بعد بلوغ المسلمين مرتبة الإيمان بدليل قوله تعالى(إذ تقول للمؤمنين) ليكونوا من الذين تنالهم المغفرة والرحمة من الله عز وجل.
الحادية عشرة: ذكرت الآية أعلاه نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وأن عددهم هو ثلاثة آلاف ملك وبلحاظ مضامين الآية محل البحث وأن الله له ملك السموات والأرض، فإن هذا العدد جزء قليل من عدد ملائكة السماء الذين لا يحصي عددهم إلا الله.
الثانية عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين إستحقاق الكفار للعذاب الأليم، لأنهم من ملك الله وفي ملكه تعالى لقوله تعالى[وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]ومع هذا فإنهم يجحدون بالنبوة والتنزيل، فينزل الملائكة للبطش بهم، وهو من عمومات قوله تعالى في الكفار[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
ترى لماذا لم تنحصر وظيفة الملائكة بإقامة الحجة والبرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإن رؤية جبرئيل مثلاً بستمائة ألف جناح سبب لدخول فريق من المشركين الإسلام، لتكون هذه الوظيفة من عمومات رحمة الله بالناس التي ذكرتها هذه الآية، الجواب من وجوه:
الأول: إن الله عز وجل[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
الثاني: جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، وقد نزل جبرئيل بالوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما يدل على صدق نبوته بإعتبار أن القرآن معجزة عقلية خالدة، إلى جانب المعجزات الحسية التي هي حجة وبرهان على لزوم إتباعه وإجتناب محاربته وقتاله.
الثالث: لقد جاء الكفار للإجهاز على الإسلام وإستئصال المؤمنين، وسألهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إجتناب القتال ولكنهم أصروا عليه كما بيناه في الأجزاء السابقة ( )، فجاء نزول الملائكة لكف أذى الكفار بقتالهم وتخويفهم وطردهم، وهلاك طائفة منهم لقوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ).
الرابع: الدنيا دار عبرة وموعظة، وجاء نزول الملائكة ليتدبر الناس في صدق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعقاب العاجل الذي يلحق الذي يكفرون بنبوته ويحاربونه وأصحابه وأنصارَه وأتبَاعَه.
الخامس: نزول الملائكة من عمومات وأفراد الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ]( )، فنزول الملائكة في معركة بدر وأحد من تلك الآيات، ودليل على إتيان النبي بمثلها وبما يكون خارقاً للعادة وقانون السببية، والعلة والمعلول وفق النظام الكوني.
السادس: بنزول الملائكة يزداد المسلمون إيماناً، ويندفعون في سوح القتال، ويعشقون الشهادة، ويشتاقون للقاء الله.
الثالثة عشرة: تتجلى في الصلة والجمع بين خاتمتي الآيتين أمور:
الأول: أختتمت آية(إذ تقول للمؤمنين) بنزول الملائكة مدداً للمسلمين، وجاءت خاتمة هذه الآية بإسمين من أسماء الله عز وجل هما(غفور رحيم).
الثاني: من رحمة الله بالمسلمين والناس جميعاً نزول الملائكة مدداً وعوناً للمسلمين في قتالهم مع الكفار الظالمين.
الثالث: ينزل الملائكة بالنصر والمغفرة للمؤمنين.
الرابع: مع نزول الملائكة لهزيمة وعذاب الكفار فإن خاتمة هذه الآية الكريمة(والله غفور رحيم) دعوة لهم للتوبة والإنابة.
الخامس: من مصاديق إسم(الرحيم) نزول ملائكة السماء لنصرة المؤمنين ومن غير فترة أو وقت يستغرقه النزول وهو فضل ورحمة من الله، قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( )، وهذا التباين في عدد الملائكة الذين ينزلون مدداً من الشواهد على ملك الله عز وجل للسموات والأرض.
الرابعة عشرة: حمل الملائكة لشارات خاصة في ميادين القتال آية من بديع خلق الله عز وجل وملكه للسماوات والأرض، وهل هذه العلامات والشارات الخاصة التي يحملها الملائكة من موجودات الأرض أم موجودات السماء، الجواب هو الأول من وجوه:
الأول: إفادة الجمع بين هذه الآية والآية السابقة أن الملائكة ينزلون من السماء مسومين، إذ أخبرت الآية السابقة عن نزولهم، وأخبرت هذه الآية عن كونهم مسومين.
الثاني: الملائكة جند من السماء نزلوا مدداً للمسلمين، ولقتال الكفار والمشركين، والشارات والعلامات الخاصة بهم من لواحق وأمور القتال.
الثالث: العلامات التي يحملها الملائكة من الشواهد على أنهم من أهل السماء.
الرابع: إذا دار الأمر بين كون العلامات التي يحملها الملائكة سماوية أو أرضية فالأصل أنها سماوية، ومصاحبة لهم من السماء.
الخامسة عشرة: الصلة بين بدايتي الآيتين، وفيها وجوه:
الأول: إن الله عز وجل الذي له ما في السموات وما في الأرض هو الذي يخاطب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وفيه تشريف له وللمسلمين.
الثاني: الله الذي له ما في السموات وما في الأرض يسمع ما يقوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين، ويتفضل بذكره في القرآن ليكون شاهداً على أن من خصائص ملك الله عز وجل للسموات والأرض أنه سبحانه يسمع كل ما يدور بين الخلائق.
الثالث: يدل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين(ألن يكفيكم) على ثقته بالنصر الإلهي، ومجيء المدد من عند الله عز وجل.
الرابع: تقدير الجمع بين بدايتي الآيتين هو: إذ تقول للمؤمنين بأن لله ما في السموات وما في الأرض.
الخامس: الثناء على المسلمين لإيمانهم وإقرارهم بأن لله ما في السموات وما في الأرض من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، فالله عز وجل يعلم بتصديق أمة من الناس بأن لله ما في السموات وما في الأرض، وأنه سبحانه الذي بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبياً.
السادس: قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه(ألن يكفيكم) شاهد على تسليم المسلمين بأن لله ما في السموات وما في الأرض، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثامن: تقدير الجمع بين الآيتين:إذ تقول للمؤمنين لله ما في السموات وما في الأرض.
التاسع: يخاطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين بأن لله ما في السموات وما في الأرض , وفيه إرتقاء في المعارف الإلهية.
العاشر: الإيمان بأن لله ما في السموات وما في الأرض علة للنصر، ومجلبة للنفع والخير الدائم.
الحادي عشر: من يختار الإيمان يفوز بخطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتوثيق هذا الخطاب بكتاب نازل من السماء.
الثاني عشر: إن الله عز وجل يجازي الذين آمنوا به ويدفع عنهم في الحياة الدنيا، ويكون هذا الدفع مصداقاً دنيوياً حاضراً للثواب الأخروي.
السادسة عشرة: لقد سخّر الله عز وجل خيرات السماوات والأرض للناس عموماً، يتمتعون بها في الحياة الدنيا، وتفضل سبحانه وخص المؤمنين بالكفاية في ميدان القتال، وتحتمل هذه الكفاية وجوهاً:
الأول: الإطلاق الموضوعي والزماني والمكاني.
الثاني: التقييد بميادين القتال.
الثالث: الحصر والتقييد في موضوع الكفاية وهي نزول الملائكة لنصرة المؤمنين.
الرابع: الكفاية بخصوص المعارك التي ورد الدليل على نزول الملائكة فيها، كما في معركة بدر وأحد والخندق .
الخامس: إختصاص الكفاية بمعركة أحد، وحاجة المسلمين لها، وتوقف نصرتهم وسلامتهم من الكفار على المدد الملكوتي، ليكون كل وجه من الوجوه الأربعة الأخيرة أعلاه مقيداً لما قبله، ومطلقاً بالنسبة للاحق له.
والصحيح هو الأول لأصالة الإطلاق وعمومات الكفاية وملك الله عز وجل لما في السماوات وما في الأرض.
الثامنة عشرة: الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يغفر الله لهم.
التاسعة عشرة: من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نقل البشارات إلى المسلمين بما فيه سلامتهم ونصرهم.
العشرون: بلحاظ الصلة بين الآيتين جاء قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين في الآية أعلاه حاجة لهم وللناس جميعاً من وجوه:
الأول: إكرام الله للمسلمين بنعتهم بصفة الإيمان، إذ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم(الن يكفيكم) ولكن وصفهم بالمؤمنين في الآية جاء من عند الله عز وجل وهو ثناء حاضر ورزق كريم فاز به أصحاب النبي الذين خرجوا للقتال يوم أحد.
الثاني: تغشي المسلمين جميعاً وإلى يوم القيامة بصبغة الإيمان والإمتثال في العبادات والمعاملات والأحكام , قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ] ( ).
الثالث: إدراك المسلمين والناس جميعاً للضابطة الكلية في الإيمان وهي الصبر في ميادين القتال طلباً لمرضاة الله، وجهاداً في سبيله.
الرابع: توكيد دفع كيد الكفار، ومنع وصول الضرر منهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وعوائلهم.
الخامس: التذكير بأن لله ملك السموات والأرض.
الحادية والعشرون: بشارة فوز المؤمنين بالمغفرة من الله عز وجل.
الثانية والعشرون: قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين (ألن يكفيكم) من رحمة الله وعمومات قوله تعالى(والله غفور رحيم).
الثالثة والعشرون: دعوة الناس للإلتحاق بالمؤمنين والفوز بالخطاب التشريفي في القرآن وإكرام الله عز وجل لهم، لقد كانت الدعوة الإسلامية في بدايتها، ولم يكتف رؤساء الكفر بمقابلتها بالصدود بل سعوا للإجهاز على المسلمين بالسلاح والخيل، فتطلع المؤمنون إلى الله الذي له ملك السموات والأرض رجاء نجاتهم ونصرهم فجاءهم المدد، ويحتمل قوله تعالى(ألن يكفيكم) وجوهاً:
الأول: إنه مدد من عند الله جرى على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثاني: أنه مقدمة للمدد الملكوتي والنصر النازل من السماء.
الثالث: بشارة المدد الملكوتي، وندب للدعاء رجاء نزول المدد من السماء وتجدده في كل معارك المسلمين.
الرابع: بيان مضامين هذه الآية الكريمة، وتوكيد ملك الله للسموات والأرض.
الخامس: إنه برزخ دون طرو الخوف على قلوب المسلمين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وفيها شاهد على المنافع العظيمة لوجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ساحة المعركة وموضوعيته في تحقيق النصر والغلبة على الكفار خصوصاً وأن هذا الوجود بأمر من الله عز وجل , قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
الرابعة والعشرون: إخبار الملائكة قبل نزولهم إلى الأرض بأنهم ينزلون لنصرة الذين تنحصر بهم يومئذ صفة الإيمان على الأرض، وفيه رد واقعي على إحتجاج الملائكة يوم خلق الله آدم[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، بأن نصرة الملائكة لجماعة المؤمنين في الأرض سبب لنشر الإسلام وتثبيت الإيمان في الأرض إلى يوم القيامة.
وتلك معجزة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن تأتيه النصرة والمدد من السماء قضية في واقعة لتبقي مضامينها ومنافعها متجددة في الأرض وتزيح مفاهيم الكفر والجحود، وتحتمل اللام في(للمؤمنين)وجوهاً:
الأول: إنها للعهد، وخاصة بالمسلمين الذين حضروا معركة أحد.
الثاني: إنها للجنس والمراد جميع المؤمنين يوم نزول الآية.
الثالث: إرادة عموم الإستغراقي للمؤمنين والمؤمنات إلى يوم القيامة.
الرابع: المعنى الجامع للعهد والجنس، ليكون المقصود بالآية الكريمة المؤمنين الذين قاتلوا يوم أحد، ويلحق بهم المسلمون والمسلمات إلى يوم القيامة.
والصحيح هو الأخير لأن منافع كفاية المؤمنين شر وكيد الكفار متصلة ودائمة إلى يوم القيامة، وهي مقدمة وسبب لتوالي نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد معركة أحد، ودخول الناس في الإسلام.
الخامسة والعشرون: إن الله الذي له ما في السموات وما في الأرض يمد المؤمنين بما يكفيهم، وورد ذكر الملائكة ونزولهم مدداً في القتال لبيان فضل الله عز وجل عليهم وأنه سبحانه يمدهم بما يكفيهم، والمدار على عموم اللفظ وليس ذات السبب.
السادسة والعشرون: يحتمل تعيين وتحديد عدد وأشخاص الملائكة الذين نزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وجوهاً:
الأول: إن الله عز وجل هو الذي يعيّن ويحدد عددهم وأشخاصهم، فينزل الأمر من الله لكل ملك من الذين نزلوا مدداً.
الثاني: ينزل الأمر الإلهي للملائكة على نحو الإجمال، ويقوم كبار الملائكة كإسرافيل وميكائيل وجبرئيل بتعيين العدد الكافي للنصرة، وأشخاص الملائكة النازلين.
الثالث: يصدر الأمر من الله إلى كبار الملائكة بأسماء وعدد الملائكة النازلين، وليس لهم إلا تبليغ الذوات الكريمة من الملائكة بالنزول، والأقرب هو الأول من وجوه:
الأول: عدم ثبوت واسطة بين الله عز وجل والملائكة بدليل قوله تعالى[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
الثاني: عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، خصوصاً وأن الآية جاءت بقوله تعالى(ويأتوكم من فورهم هذا) فليس من ثمة مدة أو مسافة بين الوعد الإلهي ونزول الملائكة.
الثالث: لو شككنا هل من واسطة بين الله والملائكة النازلين لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم لا، فالأصل هو الثاني.
الرابع: لقد تفضل الله عز وجل بكفاية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وتتجلى الكفاية بأبهى معانيها بنزول الملائكة بأمر مباشر من عند الله، وهو لا يتعارض مع تعيين رؤساء من بين الملائكة في القتال.
السابعة والعشرون: ينزل آلاف من الملائكة من السماء إلى الأرض لنصرة المؤمنين، ولا يشاركون أهل الأرض في أرزاقهم ومعاشاتهم، بل يكونون عوناً لهم وخيراً محضاً، وهم عطاء ونفع وتنزل معهم البركة بالأصالة والتبعية والأثر، إذ أن نزول الملائكة بذاته نعمة وفيض أطل على الأرض ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليهتدي به فريق من الناس، ويكون باباً لترغيب الناس بالعفو والمغفرة من عند الله , وليختص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآية حسية في ميدان المعركة وتكون معه سلامته ونصرته أمراً حتماً.
الثامنة والعشرون: قوله تعالى(منزلين) من عمومات قوله تعالى(لله ما في السموات وما في الأرض) وبيان أن السموات فوق الأرض، وأن سكان السماء لا ينزلون إلى الأرض إلا بأمر من الله عز وجل وهو من عمومات قوله تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ]( ).
التاسعة والعشرون: عندما ينزل الملائكة إلى الأرض فهل هم من عمومات قوله تعالى(لله ما في السموات) أو أنهم من عمومات(وما في الأرض) الجواب هو الثاني، وهو من إعجاز الآية أعلاه، فلم تقل الآية(ولله سكان السموات) بل وردت بلفظ(ما) وهو أعم في موضوعه فيشمل الملائكة والجن والإنس وغير العاقل، ويشمل المستقر والمتزلزل في وجوده سواء في السماء أو في الأرض، وفيه نكتة عقائدية من وجوه:
الأول: يدرك الملائكة أنهم ملك وعبيد لله سواء كانوا في السماء أو في الأرض.
الثاني: ينزل الملائكة لنشر الإصلاح في الأرض وما يجذب الناس للإيمان وجعلهم يقرون طائعين بوجوب عبادة الله.
الثالث: لا ينزل الملائكة إلا بأمر من الله عز وجل.
الرابع: ليس من بينونة وبرزخ دائم بين أهل السماء والأرض.
الصلة بين (إذ تقول للمؤمنين) وبين(يعذب من يشاء)
وفيها مسائل:
الأولى: ترغيب الناس بالتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: الزجر عن الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن هذا الجحود علة لنزول العذاب الإلهي بصاحبه.
الثالثة: نزلت الآية في قتال المؤمنين دفاعاً عن الإسلام، وصدهم للكفار الذين أرادوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإستئصال الإسلام، وفي قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا إنذار ووعيد للكفار.
الرابعة: بيان المائز بين المؤمنين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والكافرين بها، والإخبار عن هزيمة الكفار.
الخامسة: المدد الملكوتي بذاته عذاب للكفار.
السادسة: تلاوة هذه الآية والإخبار السماوي عن بشارة النبي محمد للمؤمنين بالمدد إنذار للكفار ودعوة لهم للتوبة.
السابعة: سماع الله القول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين بالمدد عذاب متجدد للكفار.
الثامنة: ترغيب الناس بالنجاة من العذاب، وتنحصر هذه النجاة بالإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسعة: يمكن تأسيس قاعدة وهي كل بشارة للمسلمين عذاب مركب للكفار، فالبشارة ذاتها عذاب لهم، وتحقق مصداقها الخارجي عذاب آخر للكفار ومن خلفهم.
السادسة عشرة: الصلة بين خاتمة الآيتين، وفيها وجوه:
الأول: أختتمت هذه الآية بإسمين من أسماء الله وأنه سبحانه(غفور رحيم) وأختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى(مسومين) في وصف الملائكة وأنهم معلمين بشارات وعلامات تدل على أنهم مدد من السماء جاءوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثاني: وسم وعلامات الملائكة من ملك الله عز وجل المطلق للسماوات والأرض.
الثالث: من خصائص ملك الله للسموات والأرض أنه رحمة بالمؤمنين، وفيه آيات هي دعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام.
الرابع: العلامة والوسم في القتال أمر يعرفه أهل السماء وأهل الأرض.
الخامس: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، وجعلهم ينقلون وقائع المعركة وما فيها من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية إلى من خلفهم من الناس، فيدخل شطر منهم الإسلام.
السابعة عشرة: من مصاديق قوله تعالى(ويعذب من يشاء) عذاب الكفار بنزول الملائكة معلمين بشارات خاصة تدل عليهم وتكون إنذاراً حاضراً لكفار قريش، ومن خلفهم من المشركين، وتحذيراً من إعادة الكرة بالهجوم على المسلمين.
الثامنة عشرة: لمّا إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض، قال الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، ويبين الجمع بين آية(بلى إن تصبروا) وبين الآية محل البحث مصداقاً من مصاديق هذه العلم الإلهي من وجوه:
الأول: إن الله له ملك السموات والأرض، يفعل ما يشاء في ملكه.
الثاني: ينزل الله عز وجل ذات الملائكة لقتال من[يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
الثالث: نزول الملائكة مدداً للمسلمين مناسبة للإنتقام من الذين يفسدون في الأرض ويقتلون المؤمنين تعدياً وظلماً.
الرابع: نزول الملائكة مصداق عملي لقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، وجاء هذا القول في الجنة يوم خلق آدم، أما نزول الملائكة فكان في معركة بدر، ولا يعني هذا أنه المصداق الوحيد لقوله تعالى أعلاه، بل المصاديق كثيرة ومتجددة في كل زمان وإلى يوم القيامة، وكذا في عالم الآخرة.
التاسعة عشرة: لما جاءت خاتمة هذه الآية(والله غفور رحيم)جاء الأمر الإلهي للمسلمين بالصبر والتقوى، وهو طريق لنيل الرحمة الإلهية، وسبب للمغفرة والعفو.
معجزة نزول الملائكة
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالمعجزات وجعلها ملازمة للنبوة وشاهداً عليها وناصراً للأنبياء، فكل نبي ينصره الله بالمعجزة، وجاء نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمتعدد من المعجزات ومنها نزول الملائكة لنصرته والمؤمنين بنبوته، والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة، المقرون بالتحدي , السالم من المعارضة.
إن الله الذي له ما في السموات والأرض نصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزة السماوية، ويحتمل نزول الملائكة وجوهاً:
الأول: إنه معجزة عقلية تستقرأ بالإستدلال.
الثاني: إنه معجزة حسية تدرك بالحواس.
الثالث: معجزة عقلية حسية.
والصحيح هو الثالث، وهو من بديع قدرة الله وملكه لما في السموات وما في الأرض، وتسخير آية الملائكة لأمور:
الأول: بيان حقيقة ملك الله للسموات والأرض وإنعدام الشريك.
الثاني: رؤية الناس لآيات السماء النازلة إلى الأرض.
الثالث: نزول الملائكة من اللطف الإلهي بالمسلمين خاصة والناس جميعاً.
الرابع: جاء نزل الملائكة لتغيير وجه الأرض، وجعل أيام الحياة الدنيا ممتلأة بالإيمان وتكون كفة الإيمان هي الأرجح، ومعالم التوحيد ظاهرة بين الناس وفي المنتديات، والمعجزة على قسمين:
الأول: العقلية.
الثاني: الحسية.
وإختص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقسم الأول، وهذا الإختصاص شاهد على تفضيله على الأنبياء، وبيان عظيم معجزته مع مجيئه بآيات حسية، وفيه دعوة للناس لإتباعه ويكون تأثير القسمين بعضهما ببعض على وجوه:
الأول: المعجزات الحسية حفظت المعجزة العقلية.
الثاني: المعجزة العقلية حفظت المعجزات الحسية.
الثالث: كل من المعجزتين حفظت الأخرى.
الرابع: كل قسم من المعجزات حفظ نفسه بنفسه.
والصحيح هو الثالث، مع التباين في مراتب الحفظ إذ أن المعجزة العقلية أكثر أثراً في الحفظ وتجلى بحفظ القرآن لمعجزات الأنبياء.
السادسة:الصلة بين آية(ولقد نصركم)( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: بيان المائز في صفة الملكية بين الله عز وجل والناس، فالإنسان يملك الأرض إعتباراً وإختصاصاً مثلاً، ولا يستطيع تغيير موضعها أو إزالتها، والله عز وجل يفعل ما يشاء في ملكه، ومنه نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين , وإستجابة الموجودات الأرضية لأمره .
الثانية: لما أخبرت الآية أعلاه بنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وجاءت الآيات الأخرى والنصوص بالإخبار عن نزول الملائكة مدداً لهم، جاءت الآية محل البحث لتبين أن سكان السماوات ملك لله عز وجل، ومستجيبون لأمره، لذا نزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين , قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
الثالثة: آية(ولقد نصركم) خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وبواسطتهم للمسلمين والمسلمات جميعاً، لأنهم ينتفعون من إفاضات ومنافع النصر في معركة بدر إلى يوم القيامة، وهذا النفع يستلزم تأليف مجلد يتناوله كماً وكيفاً، والميادين المتعددة لهذا النفع، كما أنه أمر متحرك، وليس ثابتاً، وتلك معجزة إضافية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي من الإعجاز الغيري المتجدد للقرآن، ففي كل زمان تظهر منافع وبركات لهذه الآيات ولنصر المسلمين في معركة بدر، وتأتي الآية محل البحث لتذّكر بنصر المسلمين مع أنهم أذلة وقلة خلافاً لقانون العلة والمعلول، والسبب والمسبب وأن الله عز وجل الذي له ملك السماوات والأرض أنزل ملائكة السماء لنصرة المؤمنين في الأرض لتعلو كلمة التوحيد في الأرض , قال تعالى[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
الرابعة: تضمنت آية(ولقد نصركم) الأمر إلى المسلمين بالخشية والخوف من الله(فاتقوا الله) وجاءت هذه الآية بتوكيد عائدية السماوات والأرض وما فيها إلى الله عز وجل.
وتقدير الجمع بين الآيتين(فاتقوا الله الذي له ما في السموات وما في الأرض)، وهو من أسرار الجمع بين لغة الخطاب في الآية أعلاه، وصيغة الجملة الخبرية في هذه الآية.
الخامسة: جاءت هذه الآية لتبين قانوناً ثابتاً وهو لزوم الخشية والخوف من الله وحده.
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين: ولقد نصركم الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
السابعة: إن الله عز وجل الذي له ما في السموات وما في الأرض بعث جنوداً من السماء لنصرة جنده في الأرض في معركة بدر لتكون شاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأفضليته على الأنبياء السابقين.
الثامنة: مجئ الإخبار بنصر المؤمنين في بدر بصيغة الماضي، وجاء الإخبار عن المغفرة في هذه الآية بصيغة المضارع(يغفر لمن يشاء) وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : لعل الله إطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ماشئتم،فقد غفرت لكم) ( ).
وجاءت الآيات في المغفرة بصيغة المضارع والماضي قال تعالى في موسى عليه السلام[قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ] ( ).
روى محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في أسرى بدر، إن شئتم قتلتموهم وان شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم.
وكان الأسارى سبعين، فقالوا: بل نأخذ الفداء ونتمتع به ونقوى على عدونا ويستشهد منا بعدتهم( ).
وتلك آية في علم الغيب، وسر من أسرار النبوة وترك الخيرة للمؤمنين فطلبوا الفداء للظهور على عدوهم وأبدوا الشوق للشهادة.
وظاهر كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لو إختاروا قتل الأسرى لم يقتل من المؤمنين بعددهم، وهو من الإعجاز في نبوته يتجلى بالواقع الخارجي ببعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من المؤمنين، وإمتناع القبائل عن نصرة كفار قريش والخروج معهم إلى معركة أحد.
وكان رسول الله يولي عناية خاصة بأهل بدر، ويظهر إكرامهم من بين أصحابه والذين دخلوا الإسلام سواء قبل واقعة بدر أو بعدها وفي قوله تعالى[إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا]( )، ورد عن (مقاتل بن حيان قال أنزلت هذه الآية يوم جمعة وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة ، وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس ، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم ، فشق ذلك عليه فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : قم يا فلان ، وأنت يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه ، فنزلت هذه الآية)( )، إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يكرم الذين قاتلوا في أول معارك الإسلام، الذين أمدهم الله عز وجل بملائكة من السماء.
الثانية: وصفت آية(بدر) المؤمنين بأنهم أذلة ساعة نصرهم يوم بدر، مما يدل على إنتفاء أثر الذلة والقلة والضعف مع الإيمان، ورجحان الكفة بالإيمان وليس بما عند الكفار من العدة والعدد ، وفيه تخويف للكفار، وزجر لهم عن الإتكال على كثرة العدد والقوة والمؤون، لقد كانت معركة بدر رشحة ومرآة لملك الله عز وجل للسموات والأرض ونصره للمؤمنين وعذابه للكافرين.
الثالثة: من مصاديق قوله تعالى(ويعذب من يشاء) في الدنيا ما نزل بالكفار يوم بدر وتوبيخ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم وهم موتى بآية من آيات النبوة، وإتصال عذاب الكفار في عالم البرزخ، روى أنس( ) عن أبي طلحة أن النبي أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش ، فقذفوا في طوى من أطواء بدر ، وكان إذا ظهر على قوم أحب أن يقيم في عرصتهم ثلاث ليال ، فلما كان اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها فحركها ثم مشى وتبعه أصحابه ، وقالوا ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته ، حتى قام على شفاء الركي ، فجعل يناديهم بأسمائهم ، وأسماء آبائهم : يا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلم من أجساد ولا أرواح فيها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) ( ).
لقد تجلت معاني وبركات الإيمان بالله وأن السموات والأرض ملك له سبحانه يوم بدر في المبارزة المتعددة التي غيرت مجرى التأريخ وأرست مبادئ الإسلام في الأرض إذ برز نفر من المؤمنين وبأمر من الله عز وجل علي بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث ابن أبي طالب والحمزة بن المطلب، أما المبارزون من الكفار فهم: عتبة بن ربيعة، وإبنه الوليد بن عتبة، وأخوه شيبة بن ربيعة ونزل قوله تعالى[هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ]( )، لتكون تلك المبارزة ونتائجها من مصاديق قوله تعالى(يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) بأن تأتي المغفرة بفضل الله للمؤمنين، ويفشي القتل بالكفار وينزل بهم العذاب.
الرابعة: قوله تعالى(وأنتم أذلة) دعوة للمسلمين للدعاء وسؤال العز والمنعة والقوة من عند الله عز وجل.
الخامسة: تباين وتغير حال المسلمين من الذل والضعف، إلى القوة والمنعة مناسبة كريمة لرجاء المغفرة والعفو.
السادسة: بعث المسلمين على الصبر وتحمل حال الضعف والأذى ونقص المؤون لأن الله عز وجل يبدلها بالعز والنصر والغلبة والكثرة ، وهو من عمومات خاتمة هذه الآية[وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ].
السابعة: إن الله الذي له ما في السموات وما في الأرض جعل المسلمين ينتقلون إلى حياة جديدة تتصف بالمنعة والقوة.
الثامنة: النصر في معركة بدر مع حال الضعف التي عليها المسلمون يملي عليهم الشكر لله عز وجل، والجهاد في سبيله.
الصلة بين[فَاتَّقُوا اللَّهَ] وبين هذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين وجوهاً:
الأول: فاتقوا الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
الثاني: فاتقوا الله الذي يغفر لمن يشاء.
الثالث: فاتقوا الله الذي يعذب من يشاء.
الرابع: فاتقوا الله وهو غفور رحيم.
كما يمكن قراءتها بلحاظ تقديم مضامين هذه الآية فيكون:
الأول: الله له ما في السموات وما في الأرض فاتقوه.
الثاني: الله يغفر لمن يشاء فاتقوه.
الثالث: الله يعذب من يشاء فاتقوه.
الرابع: الله غفور رحيم فاتقوه.
الثانية: لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، ومن حاجة الإنسان التقيد بأحكام التقوى والخشية من الله عز وجل.
الثالثة: تقوى الله والخشية منه سبيل مبارك للفوز بالعفو والمغفرة.
الرابعة: لما قالت هذه الآية [يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ] جاءت الآية أعلاه بالهداية إلى نيل المغفرة بملكة التقوى.
الخامسة: إن الله الذي له ما في السموات وما في الأرض تفضل على المسلمين بالأمر بالتقوى والخشية منه، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادسة: (ذكر اسم الجلالة) وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين في كل من الآيتين مرتين.
السابعة: في تقوى المسلمين دلالات:
الأولى: بيان حسن سمت المسلمين.
الثانية: إنها برزخ دون الأخلاق المذمومة والكدورات الظلمانية.
الثالثة: فيها دعوة للناس لدخول الإسلام.
الرابعة: إنها حجة على الكفار، وزجر لهم من التعدي على المسلمين وأمصارهم.
الخامسة: دعوة الناس لدخول الإسلام , وإرتداء لباس التقوى والخشية من الله.
الثامنة: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، وتفضل وجعل التقوى سبيل النجاة والوقاية فيها، فأمر الله المسلمين بها، ولقد أنزل الله عز وجل الملائكة لنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وهل قوله تعالى[فَاتَّقُوا اللَّهَ] مدد، الجواب نعم من وجوه:
الأول: إنه مدد عقائدي.
الثاني: إنه سلاح لإصلاح النفوس وتهذيب المجتمعات.
الثالث: بعث المسلمين على العبادة وإتيان الصالحات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن خصائص هذا المدد أنه متجدد في كل زمان ويأتي لنصرة الإنسان على النفس الشهوية والغضبية ولإعانة المسلمين في تعاهد العبادات، والوقاية من السيئات في دار الإبتلاء والإمتحان.
التاسعة: بيان قانون ثابت في الإرادة التكوينية وهو أن تقوى الله أمن من العذاب.
الصلة بين قوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] وبين هذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: من واجبات العباد الشكر لله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
الثانية: بيان موضوعية الشكر في حياة الناس، والشرائع الإسلامية.
الثالثة: إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية بإظهارهم حسن العبودية بالشكر لله عز وجل.
الرابعة: إختيار المسلمين لمنزلة الأمة الشاكرة لله عز وجل، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الخامسة: الشكر لله طريق للفوز بالمغفرة.
السادسة: بيان اللطف الإلهي بالمسلمين والناس جميعاً، فلما قال الله تعالى في هذه الآية (يغفر لمن يشاء) جاء إرشاد المسلمين لسبل المغفرة بالتقوى والشكر لله عز وجل.
السابعة: يحتمل الشكر في قوله تعالى(لعلكم تشكرون) وجوهاً:
الأول: الشكر القولي.
الثاني: الشكر الفعلي.
الثالث: المعنى الأعم الشامل للوجهين أعلاه.
الرابع: الشكر الشخصي وعلى النعم الشخصية على العبد.
الخامس: الشكر النوعي على النعم العظيمة.
السادس: الشكر الشخصي على النعم النوعية العامة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وليس من حصر لوجوه وأفراد الشكر لله عز وجل، ومنها الشكر على نعمة النصر يوم بدر، وهي نعمة مركبة من وجوه:
الأول: خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من المعركة.
الثاني: هزيمة الكفار مع كثرتهم.
الثالث: وقوع الغنائم الكثيرة بيد المسلمين.
الرابع: وقوع سبعين أسيراً من الكفار بيد المسلمين.
الخامس: فداء أسرى الكفار بالأموال.
السادس: إنتفاء حال الذل والضعف عن المسلمين للتضاد بين النصر والذل، وتغشيهم بالعز والرفعة بإختيار الإسلام، قال تعالى[لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
السابع: بيان معجزة حسية وعقلية للنبي محمد صلى الله عليه آله وسلم.
الثامن: إرتقاء المسلمين في مراتب التقوى بلحاظ أن الشكر لله ذاته تقوى وخشية من الله.
التاسع: الشكر لله على الأمر بالتقوى والإمتثال له.
العاشر: كما كانت معركة بدر صراعاً بين المؤمنين والكفار، فإن الشكر لله ميدان لمعرفة التمايز والتباين بين المؤمنين والكفار، قال تعالى[إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا] ( ).
الحادي عشر: الشكر لله مدرسة في الخشوع والخضوع لله عز وجل، وهو مقدمة لتلقي الأوامر الإلهية والفرائض بالإستجابة والإمتثال.
الثاني عشرة: لقد خلق الله الناس لعبادته وعمارة الأرض بالشكر له والثناء على النعم العظيمة التي تفضل ويتفضل عليهم بها، وتصدى المسلمون لهذه الوظيفة العبادية، ليكونوا سبباً مباركاً في إستدامة الحياة على الأرض.
الثالث عشر: التوفيق لعبادة الله، والإصلاح للشكر لله فذات الشكر نعمة تستلزم الشكر للتوفيق إليها وذات الشكر لله يحتاج إلى الشكر للتوفيق للشكر .
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: ذكرت هذه الآية ملك الله للسموات والأرض، أما آية(بدر) فبينت نصر الله للمسلمين.
الثانية: إن الله الذي له ما في السموات وما في الأرض نصر المؤمنين نصر المؤمنين وهم قلة وفي ضعف.
الثالثة: إن الله عز وجل ينصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، قال تعالى[وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الرابعة: النصر بيد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
الخامسة: حث المسلمين على سؤال ورجاء النصر من عند الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
السادسة: ذكرت الآية أعلاه نصر الله للمؤمنين من غير ذكر الكيفية والسبب، وجاءت الآيات التي بين الآيتين لتبين أن النصر جاء بمدد من الملائكة من الله ملك السموات والأرض.
السابعة: إستحداث صلة بين أهل السماء وأهل الأرض تتقوم بنزول فيها الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وفيه بعث للفزع والخوف في قلوب الكفار والمشركين إلى يوم القيامة.
الثامنة: أنزل الله عز وجل ملائكة من ملكه في السماء إلى جنده في الأرض ليكون نصر المسلمين من عمومات قوله تعالى[لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ].
التاسعة: الآية مدرسة وموعظة للأجيال المتعاقبة من الناس للدخول في الإسلام، وزجر للذين يعتدون على المؤمنين، فنزول الملائكة لنصر المسلمين تأسيس لنصرتهم من أهل الأرض بآيات من السماء، وفيه إنذار متجدد للكفار إلى يوم القيامة.
العاشرة: إخبار الآيتين عن نصر الله للمسلمين في بدر وهم قلة بمدد من ملائكة السماء ولله ملك السموات والأرض وفيه دعوة للمسلمين لمواصلة الجهاد والسعي في الفتح ونشر مبادئ الإسلام، ولكن قريشاً لم يدركوا هذا المعنى فجاءوا يوم أحد والخندق وإختاروا العناد فلم يضروا المسلمين في زحفهم وتقدمهم في فتح الأمصار، وكانت مكة من أول المدن التي قام المسلمون بفتحها.
الحادية عشرة: يفيد الجمع بين بدايتي الآيتين أن الله نصركم ببدر وأنتم أذلة، وينصركم بغيرها من المعارك من باب الأولوية القطعية، لأمور:
الأول: ملك السموات والأرض لله على نحو الدوام والأزل والأبد.
الثاني: إنتفاء حال الذلة والقلة والضعف عنهم.
الثالث: صيرورة المسلمين أقوياء، وقادرين على الدفاع عن أنفسهم.
الرابع: إزدياد خبرة المسلمين في القتال.
الخامس: دخول الناس جماعات وقبائل في الإسلام قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( ).
السادس: جاء وصف المؤمنين بأنهم[أَذِلَّةٌ] بلحاظ قوة وطغيان وجعجعة جيوش الكفار، وإمتلأت نفوس الكفار بعد معركة بدر بالفزع والخوف.
السابعة: الصلة بين خاتمتي الآيتين، وفيها وجوه:
الأول: أختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى(لعلكم تشكرون) والشكر وسيلة للفوز برحمة الله.
الثاني: يختص المسلمون بالتوجه إلى مالك السموات والأرض بالشكر على نعمة النصر، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) لما في هذا التوجه من أسباب الصلاح والإصلاح.
الثالث: تتغشى رحمة الله المسلمين جميعاً لأنهم يشكرون الله عز وجل على النعم بدليل مجيء الآية أعلاه بصيغة الجمع(لعلكم تشكرون) ولغة الخطاب في الآية إنحلالية تشمل المسلمين والمسلمات جميعاً.
الرابع: يشكر المسلمون الله عز وجل لأنه تعالى هو الغفور الرحيم.
الخامس: تقدير الجمع هو: لعلكم تشكرون الله الغفور الرحيم.
الثانية: لزوم الشكر لله لأنه هو الغفور.
الثالثة: شكر الله لأنه هو الرحيم.
الرابعة: كل من خاتمتي الآيتين من رحمة الله، وكذا الجمع بينهما.
الخامسة: جاء ذكر الشكر في الآية بلغة الحث والتدبر(لعل) ليكون بلوغ المسلمين مراتب الشكر بلطف ورحمة من عند الله، ويبقى شاهداً على إتصافهم بالتقوى والخشية من الله عز وجل.
السادسة: إن قوله تعالى(لعلكم تشكرون) من رحمة الله، ومدخل للعفو والمغفرة.
الثامنة: في كل من الآيتين، وفي الجمع بينهما ترغيب للناس بدخول الإسلام لما فيه من أدب العبودية، وتوالي النعم والثواب العظيم، والعفو عن الذنوب.
التاسعة: جاء اسم بدر في آية(ولقد نصركم) للدلالة على معركة بدر، وسميت باسم الموضع الذي وقعت فيه، ويبعد عن المدينة المنورة نحو مائة وخمسين كيلو متراً، وأخبرت هذه الآية عن كون الأرض كلها لله عز وجل.
وإنفردت الآيات الثلاثة الأخيرة من سورة الحشر بصيغة من الإعجاز القرآني بكثرة أسماء الله فيها متفرقة، ومجتمعة لتكون سياحة كلامية في الأسماء الحسنى ودعوة لإستنباط المسائل منها ما تضمنت تسعة من أسماء الله، وأخرى ستة، وكلماتها الأخرى كلها في أسماء الله والتوحيد
والتسبيح له تعالى وفيها[لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى]( ).
العاشرة: واقعة بدر مصداق لما جاء في هذه الآية من الوعد بالمغفرة، والوعيد بالعذاب، إذ نال أهل بدر العفو والمغفرة من عند الله، ولقى كفار قريش الهلاك والقطع وخزي الهزيمة من وجوه:
الأول: قريش هي التي إختارت القتال وزحفت بجيوشها على المدينة المنورة.
الثاني: كان أقطاب الكفر من قريش يعدون الجنود ومن خلفهم بالنصر الحاسم واليسير على المسلمين، (و كان في عسكر قريش أربعمائة فرس و قيل مائتا فرس فلما نظرت قريش إلى قلة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال أبو جهل ما هم إلا أكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد)( ).
الثالث: ظهور الهزيمة ومصاديقها جلية على الكفار من جهات عدة منها:
الأولى: كثرة أسرى المشركين.
الثانية: هلاك رؤساء من الكفار.
الثالثة: وقوع بعض زعماء قريش بالأسر.
الرابعة: ترك قريش مؤنها خلفها لتكون غنائم للمسلمين.
الرابع: إستبانة معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإدراك القبائل وأهل مكة لصدق نبوته، فقد كانت معركة بدر أهم إختيار للدعوة الإسلامية .
ويتجلى بنعت المسلمين في الآية الكريمة بأنهم كانوا يوم بدر(أذلة) وكأنها تقول لا يجتمع النصر والذلة إلا بمعجزة.
الخامس: تعقب دخول الناس الإسلام لمعركة بدر، وهو من مصاديق تسميتها بيوم الفرقان, بقوله تعالى[وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
الحادية عشرة: جاءت خاتمة الآية دعوة للكفار الذين خرجوا لقتال المسلمين في معركة بدر ليبادروا إلى التوبة والإنابة، وسؤال الله المغفرة والعفو على تعديهم على الإسلام، وتكذيبهم للآيات والبراهين التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية عشرة: توكيد قاعدة كلية وهي: إن الله عز وجل يغفر لمن يتقيه ويخشاه.
الثالثة عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين دعوة المسلمين لشكر الله عز وجل لأنه سبحانه الغفور الرحيم، فكل اسم من أسماء الله الحسنى يستلزم من الناس جميعاً شكره تعالى لما يترشح من الفضل الإلهي عليهم جميعاً وفي النشأتين، وفاز المسلمون بنعمة الهداية إلى الشكر لله تعالى، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابعة عشرة: تتعدد مصاديق الشكر بلحاظ الجمع بين خاتمة آية(ولقد نصركم) وبين هذه الآية، وهو على وجوه:
الأول: الشكر لله على عائدية ملكية السماوات والأرض له سبحانه.
الثاني: الشكر لله على مغفرته لذنوب من يشاء من عباده.
الثالث: الشكر لله عز وجل لنزول هذه الآية، وما فيها من الترغيب بالتوبة، والإنذار من البقاء على المعصية.
الرابع: الشكر لله عز وجل لأنه هو الغفور الرحيم، ولا يغفر الذنوب سواه.
السابعة:الصلة بين آية(إذ همت) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: علم المسلمين بأن السموات والأرض ملك لله عز وجل يطرد الفشل والخور عنهم.
الثانية: كأن هذه الآية تقول للمسلمين: لا تهموا بالفشل ولا تجبنوا لأن السماوات والأرض كلها ملك لله عز وجل.
الثالثة: من رحمة الله عز وجل بالمؤمنين منع الفشل والخور من السيطرة على نفوسهم والإستيلاء على أفعالهم.
الرابعة: بيان علة نجاة المؤمنين من الفشل والهزيمة وهي ولاية الله عز وجل لهم ، وهذه الولاية، وحجبها عن الكفار من عمومات قوله تعالى [لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ].
الخامسة: توكيد نصر المؤمنين فمن يكن الله الذي له ملك السموات والأرض ناصره فإنه هو الغالب , قال تعالى[وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
السادسة: تحذير الكفار من التعدي على المسلمين، والهجوم على ثغورهم وأمصارهم، وإقامة الحجة عليهم، قال تعالى[وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا] ( ).
السابعة: من ولاية الله عز وجل للمسلمين تعذيب أعداءهم الذين يكيدون بهم، ويجلبون الجيوش العظيمة لقتالهم.
الثامنة: الآية أعلاه من رحمة الله بالمسلمين، ومصاديق بيان هذه الرحمة.
التاسعة: تكرر اسم الجلالة في الآية أعلاه مرتين، وورد في هذه الآية مرة واحدة.
العاشرة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الله صرف الفشل والخور عن المؤمنين لأنه الغفور الرحيم.
الحادية عشرة: بيان الحاجة والنفع العظيم في التوكل على الله لأنه تعالى الغفور الرحيم .
الثانية عشرة: من مصاديق إيمان المسلمين الإقرار بأن الله عز وجل هو الغفور الرحيم، وأنه يعفو عمن يشاء ويعذب من يشاء.
الثالثة عشرة: تدل الآية أعلاه على أن علة همّ المسلمين بالفشل مداهمة عدو قوي لهم، وبه جاءت الأخبار والتأريخ، إذ تتعلق الآية بواقعة أحد، وكان الكفار أكثر من ثلاثة أضعاف المسلمين.
ويفيد الجمع بين الآيتين إنذار الكفار ووعيدهم بالعذاب الذي ينتظرهم بسبب زحفهم لإستئصال الإسلام.
الرابعة عشرة: ذكر عفو ومغفرة الله عز وجل من غير تعيين وتخصيص لهذه المغفرة بالمسلمين دعوة للكفار للتوبة والإنابة وإن إشتركوا في الهجوم على المسلمين والتعدي عليهم.
الخامسة عشرة: لقد أراد كفار قريش قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءت هذه الآية بتوكيد سلامته لأنه مبعوث من الله الذي له ملك السموات والأرض.
السادسة عشرة: يتوكل المسلمون على الله عز وجل الذي له ملك السماوات والأرض وهو وليهم، أما الكفار فلا ولي لهم، قال تعالى [وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ]( ).
السابعة عشرة: تدل الآية أعلاه على مغفرة الله عز وجل للمؤمنين الذين هموا بالفشل إذا قلنا بأنه من الأفعال التي يؤاخذ عليها، إذ أنهم لم يفشلوا ولم يجبنوا، والهم العزم والنية بالفعل وليس ذات الفعل.
الثامنة عشرة: الإخبار عن همّ فريق من المؤمنين بالهم بالفشل دليل على خروج المؤمنين للقتال في سبيل الله، وهو من أفضل أبواب جلب المغفرة.
التاسعة عشرة: تقدير الآية بلحاظ قوله تعالى[تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ] في الآية السابقة أن الطائفتين من المؤمنين، أي أن الهم بالفشل حصل وهم متلبسون بالإيمان، ولم يغادروا منازله.
العشرون: لقد جاءت هذه الآية بالوعد الكريم بالعفو والمغفرة لقوله تعالى[يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ] وتضمنت آية (إذ همت) الترغيب بالمغفرة بالجهاد في سبيل الله.
الحادية والعشرون: ترغيب الناس بالإسلام، ودعوتهم لنصرة المؤمنين.
الثانية والعشرون: إنذار الكفار والمشركين، والإخبار عن إثمهم وقبح فعلهم بجعل فريق من المؤمنين يهّمون بالجبن والخوف في ملك الله عز وجل.
الثالثة والعشرون: إن الله الذي له ملك السموات والأرض هو الذي يرزق المسلمين الأمن بعد هذا الخوف، ويملأ قلوب الكفار بالفزع والرعب، ليكونوا ممن يشملهم قوله تعالى[وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] إلا أن يتداركوا أمرهم بالتوبة والإنابة.
الرابعة والعشرون: حث المسلمين على المناجاة بالثبات والصبر، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
الخامسة والعشرون: جاء قوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ] بصيغة الماضي لكي يكون الإخبار الإلهي هذا إشارة إلى عدم إستقرار هذا الهم، وواقية من الهم بالفشل والخور بعد نزول هذه الهم بعدها عند الصحابة وفي معارك الإسلام الأولى، وهو من الإعجاز الغيري في وظائف الآية القرآنية، وأسرار بقائها غضة طرية.
السادسة والعشرون: عدم تحول الهمّ بالفشل إلى واقع خارجي من رحمة الله، وفيه وجوه:
الأول: إنه رحمة بالذين هموا بالفشل على نحو الحصر.
الثاني: إن الله الغني عن العالمين والذي له السموات والأرض يتفضل بولايته وحفظه للمؤمنين إن همّوا بالجبن والفشل، لبيان حقيقة وهي الملازمة بين الإيمان وولاية الله.
الثالث:ولاية الله للمؤمنين من رحمته عز وجل بهم وبالناس جميعاً لما فيه من النفع الخاص والعام من وجوه:
الأول: ولاية الله مدد وعون، وهل لها موضوعية في صرف الهم بالفشل، الجواب نعم.
الثاني: إنها من رحمة الله بالمسلمين وأجيالهم المتعاقبة، فيفوز المسلم بخير وثواب ولاية الله له، وولايته لآبائه، وولايته لأبنائه بمعنى أنه يأتيه النفع والثواب من كل فرد منها على نحو الإستقلال والإنضمام مع غيره.
الثالث: ترغيب الناس بالإيمان لنيل مرتبة ولاية الله.
الرابع: ترسيخ مبادئ الإيمان في الأرض، وعدم التفريط بالأحكام الشرعية.
الخامس: الرجوع إلى القرآن لمعرفة منافع ولاية الله، وعظيم منزلة المسلمين عند الله.
السادس: ولاية الله للمؤمنين من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ولما قال الملائكة يوم خلق آدم[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، ورد الله عز وجل عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، جاءت هذه الآية لتبين أموراً:
الأول: إن الله عز وجل سبحانه يدفع الفساد , والقتل بالباطل بولايته للمؤمنين.
الثاني: دفع حديث النفس بالجبن والخور عن المسلمين.
الثالث: إعانتهم بالعصمة من الفشل وترك ميادين القتال.
الرابع: هذا الدفع سبب لإمتلاء قلوب الكفار على كثرتهم بالفزع والخوف.
الخامس: فوز شطر من الناس وهم المؤمنون بالمغفرة والعفو من الله عز وجل لولاية الله لهم، ونصرتهم لهم حتى على النفس الأمارة بالسوء.
صلة [وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: وعلى الله الذي له ما في السموات وما في الأرض فليتوكل المؤمنون.
الثاني:وعلى الله الغفور فليتوكل المؤمنون.
الثالث: وعلى الله الرحيم فليتوكل المؤمنون.
الرابع: وعلى الله الذي يغفر لمن يشاء.
الخامس: وعلى الله الذي يعذب من يشاء فليتوكل المؤمنون.
الثانية: كفاية الله الذي له مافي السموات وما في الأرض للمؤمنين والمؤمنات , قال تعالى[لَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
الثالثة: بالتوكل على الله ينصرف الفشل والهم به، وهذا الإنصراف يكون على وجوه:
الأول: دفع الفشل والجبن بالذات.
الثاني: إمتناع المؤمنين عن الفشل والجبن.
الثالث: إنصراف مقدمات الفشل، ورمي الكفار بالضعف والوهن.
الرابع: بيان شكر الله عز وجل للمؤمنين به وبرسوله بكفايتهم وسلامتهم من الكدورات الظلمانية وأسباب الفزع والخوف.
الخامس: إرشاد المسلمين للثقة بالله الذي له ما في السموات وما في الأرض واللجوء إليه.
الرابعة: التوكل على الله عز وجل مصداق الإيمان، وبه يعرف حسن إسلام العبد.
الخامسة: التوكل على الله مرتبة لا ينالها إلا الذي إمتلأ قلبه بالإيمان.
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: إن الله الذي له ما في السموات وما في الأرض يعلم حال المؤمنين يوم أحد.
الثانية: من عظيم قدرة الله عز وجل أنه يمنع وقوع الفشل والجبن بين المؤمنين.
الثالثة: إن الله عز وجل يفوّت على الكفار فرصة الإنتفاع من همّ فريق من المسلمين بالفشل.
الرابعة: دعوة المسلمين إلى التدبر في عظيم مخلوقات الله، وسعة ملكه وشموله لكل الخلائق في السماء والأرض.
الخامسة: جاء ذكر(الهمّ) بصيغة الماضي والحصر والتقييد، أي حصره بطائفتين من المؤمنين، وأنه لا يتعدى مرتبة العزم والإرادة دون الفعل أي أنهم لم يفشلوا ولم يجبنوا، وفيه بيان لصفة ملك الله للسموات والأرض وأن من خصائصه عصمة المؤمنين بالله من الفشل والجبن والخور.
السادسة: ترغيب الناس بالإسلام، وحثهم على الإقرار بأن ملك السموات والأرض لله تعالى، والتطلع لبلوغ مراتب العز والرفعة بالإيمان.
السابعة: إن الله الذي له ملك السموات والأرض لطيف بالمؤمنين، يصلحهم للجهاد، ويصرف عنهم شر الأعداء، وهو مفاهيم صرف الهم بالفشل، ودفع كيد الكفار، ورده إلى نحورهم، ولما كان ملك الله مطلقاً وعاماً , فهل اللطف في الآية مطلق وللناس كافة الجواب نعم.
إذ تتضمن الآية الإنذار والتحذير للناس من قتال المسلمين، وتبعث الخوف في قلوب الكفار.
الثامنة: بيان التضاد بين المؤمنين والكفار فالمؤمنون يهم فريق منهم بالفشل، وهذا الهم في جنب الله، ويتفضل الله الذي له ما في السموات وما في الأرض فيمنع من ترجله في الخارج وصيروته فعلاً، ويحول دون ترتب الأثر عليه، بل هو أمر من الخوف طرأ على البال ثم تبدد وإنصرف وهو من عمومات قوله تعالى[فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
التاسعة: ترى كيف إنصرف همّ المؤمنين بالفشل , الجواب فيه وجوه:
الأول: الإقرار بأن ملك السموات والأرض سبب لصرف هذا الهمّ.
الثاني: تغشي رحمة الله للمسلمين.
الثالث: نزول المدد الملكوتي من السماء لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الرابع: تفان وإخلاص المؤمنين في مرضاة الله عز وجل، وسعيهم لإحدى الحسنيين، وإستعدادهم لبذل النفوس دفاعاً عن الإسلام.
الخامس: وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المؤمنين، فمن خصائص وجود النبي في المعركة عدم إستقرار الخوف والفشل في نفوس المؤمنين.
السادس: إنصراف الهم بالفشل من مصاديق قوله تعالى[وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] فمن خصائص ولاية الله نصرة المؤمنين، ودفع الهم من المعنى الأعم للنصرة، والله يعطي بالأوفى والأتم، قال تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ).
السابع: من شكر الله عز وجل للمؤمنين عدم صيرورة الهم بالفشل فشلاً وفعلاً خارجياً.
الثامن: من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )تبديد الهم بالفشل عن نفوسهم، وهو رزق كريم أدخّره الله عز وجل للمؤمنين، ليكون شاهداً على إنتفاء حصول المقدمات القريبة للجبن والخور عندهم.
العاشرة: ثبات أكثر المؤمنين في مواضع القتال، وعدم طرو الفشل على قلوبهم عون للطائفتين منهم للتخلص من الهم بالفشل.
أوان الهمّ
يحتمل حدوث الهمّ يوم أحد من جهة زمانه وجوهاً:
الأول: قبل حدوث معركة أحد وعند الإعداد لها.
الثاني: في الطريق إلى أحد، ومواجهة الأعداء.
الثالث: أثناء إشتداد القتال، وترك المركز خصوصاً قيام رماة المسلمين بالنزول من الجبل.
الرابع: بعد إنقضاء المعركة.
والصحيح هو الثاني، وهو المستقرأ من الأخبار، وبه قال السدي وابن جريج.
فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المعركة ومعه أصحابه، وهو يعدهم بالنصر إن صبروا، فلما بلغوا الشوط إنخزل عبد الله بن أبي الخزرجي في ثلث جيش المسلمين أي نحو ثلاثمائة، (وهو يقول: عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ) ( ).
وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالإنصراف معه وقيل أنه دعاهم للرجوع إلى المدينة وعدم ملاقاة المشركين ولكن الله عز وجل عصمهم وجعلهم يمضون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للقتال، وفيه مصداق من مصاديق الولاية في قوله تعالى(والله وليهما)بأن تكون الولاية بالحفظ بالعقيدة والإيمان، والسلامة من النفاق وأدران الشك، لذا أظهر جابر الأنصاري غبطته وسروره بقوله تعالى(والله وليهما) وهناك أقوال أخرى في أوان الهم:
الأول: أنهم إختلفوا في الغدو والمقام حتى همّوا بالفشل والجبن، وهو ضعيف.
الثاني: المقصود بالطائفتين الذين طلبوا الأمان من المشركين (وأخرج أبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم عن المسور بن مخرمة قال : قلت لعبد الرحمن بن عوف يا خال أخبرني عن قصتكم يوم أحد؟ قال : اقرأ بعد العشرين ومائة من آل عمران تجد قصتنا(وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال) إلى قوله (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ) قال : هم الذين طلبوا الأمان من المشركين) ( ).
الثالث: الذين همّوا بالفشل إنما هم قوم من المهاجرين والأنصار.
ولكن القول بأنهم بنو سلمة وبنو الحارثة من الأنصار وهو قول ابن عباس وجابر بن عبد الله وغيرهما من الصحابة والتابعين(أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: هم بنو حارثة، وبنو سلمة)( )، بالإضافة إلى دلالة لفظ(طائفتين) على أن المراد جماعتان كل جماعة تستقل بوصف مخصوص ومعلوم كما في بني سلمة وبني حارثة، (وعن ابن عباس رضي الله عنه : أضمروا أن يرجعوا ، فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا) ( ).
وإستشهد من الأنصار يوم أحد سبعون، ومن المهاجرين أربعة ونزول الآية بخصوص واقعة أحد مشهور.
الرابع : نسب ابن جرير إلى الحسن البصري أنها نزلت يوم الأحزاب، وهو بعيد , وقال ابن كثير (وهو غريب لا يُعّول عليه) ( ).
وليس من ثمة كلمات في الآية بين الهم بالفشل وولاية الله (أن تفشلوا والله وليهما) للإشارة إلى معنى الهم وأنه حديث للنفس سرعان ما إضمحل وزال، وزواله السريع من رشحات ولاية الله للمؤمنين وعظيم نفعها.
صلة (الله وليهما) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بأن الله هو وليهم وناصرهم.
الثانية: يفيد الجمع بين الآيتين بشارة المدد الإلهي لنصرة المؤمنين.
الثالثة: الجمع بين الآيتين شاهد على عظيم منزلة المسلمين عند الله عز وجل.
الرابعة: من خصائص ولاية الله للمؤمنين إقالة عثرتهم، ودفع الفشل والخور والجبن عنهم، ويأتي هذا الدفع لذات الفشل وأسبابه، كما يتجلى بصرف مقدماته.
الخامسة: يدل دفع الفشل وعدم إستقرار الهمّ به في نفوس فريق من المؤمنين وفيما بينهم على ثباتهم في ميدان المعركة، وعدم فرارهم وتوليهم من العدو، من باب الأولوية القطعية.
السادسة: لو شككنا هل ظهر الهّم بالفشل على ألسنة الطائفتين من المسلمين وتناجوا به، أم أنه كان حديثاً في النفس فالثاني هو الأظهر، ولما ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدحهم، ليكون الإخبار الوارد في الآية من إعجاز نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن القرآن يخبر عن زعزعة النفوس، وهو من عمومات[تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ]( ).
السابعة: التخويف والوعيد للكفار بأن الله ينتقم منهم، لأنه أبى إلا نصرة أوليائه والمؤمنين به وبأنبيائه الذين يبشرون الناس بالمغفرة إذا آمنوا وينذرونهم بالعذاب إذا أصروا على الكفر والجحود.
الثامنة: القطع بتحقيق المسلمين النصر والغلبة على الكفار لأن وليهم هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
التاسعة: توكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يخبر عن الهمّ وحديث النفس بالرجوع وعدم ترتب الأثر على هذا الهم، وعفو الله عن أصحابه، وإثابتهم على جهادهم وقتالهم في سبيل الله، والإشارة إلى أن هؤلاء المؤمنين من الذين قال الله فيهم (يغفر لمن يشاء).
العاشرة: لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، وجاءت ولاية ونصرة الله لكفاية الإنسان ففاز بها المسلمون في حال الحرب والسلم، وتجلت في ميادين المعركة بدفع الفشل والجبن عنهم، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن مصاديق الآية وبديع صنع الله عز وجل أنه يسخر ما في السموات وما في الأرض لنصرة وإعانة المسلمين، وقد تفضل وأنزل آلاف الملائكة من السماء مدداً لنصرتهم، وهزيمة أعداء الله ورسوله.
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها وجوه:
الأول: من فضل الله عز وجل على المسلمين أنهم يتوكلون على الله الغفور الرحيم.
الثاني: ترغيب الناس جميعاً بالإسلام، وهل يشمل هذا الترغيب الكفار الذين يحاربون المسلمين ويجعلون فريقاً منهم يّهم بالفشل، الجواب نعم وهو من أسرار لغة العموم في خاتمة هذه الآية(والله غفور رحيم).
الثالث: بشارة المسلمين بمغفرة ذنوبهم، ، وزيادة حسناتهم.
الرابع: تقدير الجميع بين خاتمتي الآيتين على قراءتين:
الأولى: (فليتوكل المؤمنون على الله الغفور الرحيم).
الثانية: (وعلى الله الغفور الرحيم فليتوكل المؤمنون).
الخامس: الجمع بين الخاتمتين مدرسة كلامية في التوكل على الله.
الثامنة عشرة: في التوكل على الله الذي له ملك السموات والأرض منافع عظيمة منها:
الأول: نزول المدد الملكوتي من السماء، إذ تدل الآية على التداخل والإتصال بين السماوات والأرض والذي يتجلى بأبهى مصاديق بنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر وأحد.
الثاني: إن الأرض لله عز وجل، وهو الذي يمد المؤمنين بالنصر، ويسخر الأرض والطبيعة لهم، ويجعلها سبباً لضعف ووهن الكفار.
الثالث: زيادة عدد المسلمين بدخول الجماعات والقبائل فيه فمن خصائص هذه الآية مجيء الوعد بالمغفرة مع ملك الله للسموات والأرض فيها للترغيب بدخول الإسلام وبيان أنه حاجة وخير محض، ونفع دائم.
الرابع: التوكل على الله باب لنزول ومجئ الرحمة الإلهية من السماء والأرض قال تعالى[وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( ).
الخامس: يلجأ المسلمون إلى الله، ويتوكلون عليه لأنهم يؤمنون بأنه الغفور الرحيم.
السادس: ذكرت خاتمة الآية أعلاه أمرين:
الأول: الإيمان بالله.
الثاني: الإتكال على الله، وتفويض الأمور له سبحانه، وذكرت خاتمة هذه الآية ثلاثة أسماء من أسماء الله تبعث على المبادرة إلى التوكل عليه، وإتخاذ التوكل بلغة لنيل الغايات الحميدة، والفوز بالعز في الدنيا والآخرة.
التاسعة عشرة: من يريد النجاة من العذاب الذين ذكرته هذه الآية(ويعذب من يشاء) فعليه بالإيمان والتوكل على الله.
العشرون: من رحمة الله عز وجل بالناس هدايتهم إلى سبل النجاة في النشأتين بالتوكل عليه سبحانه.
الحادية والعشرون: آمن المسلمون بأن الله الغفور الرحيم فاحسنوا التوكل عليه.
الثانية والعشرون: التوكل على الله طريق مبارك للفوز بالرحمة الإلهية.
الثالثة والعشرون: إن الله الغفور الرحيم يقرب الناس لمنازل التوكل عليه.
الرابعة والعشرون: التوكل على الله مطلوب بذاته، وهو مقدمة لقضاء الحوائج، ومنهاج للسلامة والأمن في الدنيا والآخرة، وهو من رحمة الله, وفضل من عنده سبحانه لإصلاح الناس لعبادته.
الخامسة والعشرون: التوكل على الله سلاح للثبات في مواضع القتال والصبر رجاء رحمة الله عز وجل وبشارة النصر، قال تعالى[وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ].
السادسة والعشرون: لقد واجه المسلمون الأوائل السخرية والإستخفاف والإعراض من قومهم وغيرهم، ثم جاءت معركة أحد وما فيها من رجحان كفة الكفار عدداً وعدة مما قد يتسرب معه إلى نفوس المسلمين الخشية من شماتة أهل السخرية والشك والريب، فجاء الحث على التوكل على الله واقية وسلاحاً، وسبيلاً للنصر وهو من رحمة الله عز وجل، ومدرسة أخلاقية تدل على الإعجاز في آيات القرآن والجمع بين مضامينها القدسية.
السابعة والعشرون: التوكل آمر وجودي، وهو فعل بقصد القربة ورجاء الهداية والفلاح، والفوز بالثواب، ورشحة من رحمة الله، وهو ليس كالتواكل الذي يعني الركون إلى القصود، وعدم السعي والإجتهاد، وقد ورد ذم التواكل في آيات منها ما ورد في بني إسرائيل وكلامهم مع موسى عليه السلام[فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ] لذا فمن الإعجاز في أحكام الإسلام مجئ الأمر بالتوكل على الله في ميدان معركة أحد وحاجة المسلمين فيها إلى الثقة بالله عز وجل , قال تعالى[وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] ( ).
ومن أسرار التوكل على الله أمور:
الأول: إنه يقود نحو الغايات السامية.
الثاني: إنه دعوة لبذل الوسع والإستقامة.
الثالث: إختيار فعل الصالحات التي تتناسب وموضوع وأحكام التوكل.
الرابع: إتخاذ التوكل مقدمة لتهذيب التقوى وإصلاح المجتمعات.
الخامس: التوكل مدد ذاتي وبلغة لنيل المطلوب.
السادس: التوكل على الله مقدمة للصبر.
السابع: إنه طريق للفوز بمحبة الله , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ].
ويتجلى هذا المعنى في هذه الآية[وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] فيأتي التوكل مع الإيمان الذي هو فعل وسعي وجهاد.
الثامنة والعشرون: التوكل على الله حرز وواقية متقدمة زماناً من النظريات التي تتولد عن الحضارة المادية والتي تقول بالإعتماد على الذات وتعتمد على أمور حسية واقعية قاصرة، لذا فان التوكيد على أن الله هو(الغفور الرحيم) باب للثقة بفضله تعالى ولطفه ومدده في إعانة المسلمين والناس جميعاً في أمور الدنيا والآخرة، والتخفيف عنهم في المكاسب والمعاشات بتسخير ما في السموات وما في الأرض لنفعهم.
التاسعة والعشرون: ليس من تعارض بين التوكل على الله، والسعي في الأسباب وطلب المقدمات، لذا خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى قتال الكفار ،وهو سيد الناس في مراتب التوكل على الله عز وجل , قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ]( ).
الثلاثون: هل التوكل من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة، أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، الظاهر هو الثاني.
ومن أسمى هذه المراتب الصبر في ميادين القتال والتوكل على الله ورجاء رحمته، لذا فمن إعجاز القرآن في هذه الآية وموضوع التوكل على الله في ساحة القتال لكي يكون التوكل ملكة ثابتة عند المسلمين، فأنهم أحسنوا الثقة بالله في معركة أحد والمعارك الأخرى ورأوا منافع التوكل بسلامة من الأعداء ونصر للإسلام، وصاروا يتخذون من التوكل على الله منهاجاً ثابتاً في أمورهم الخاصة والعامة.
الحادية والثلاثون: التوكل على الله ركن من أركان الإيمان، وصرح للهداية تشع أضواؤه لأهل السماء، وتكون حصناً وحرزاً من الوهن والضعف وعن الإمام علي عليه السلام(الإيمان له أركان أربعة: التوكل على الله، وتفويض الأمر إلى الله، والرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله عز وجل) ( ).
الثانية والثلاثون: التوكل على الله سنة الأنبياء، ومنهاج الصالحين، وتركة أهل الإيمان، وتفضل الله عز وجل وجعله ملكة راسخة عند المسلمين، وفي وصية لقمان لإبنه(يابني:توكل على الله ثم سل في الناس من ذا الذي توكل على الله فلم يكفه).
إن الله الذي له ما في السموات وما في الأرض يكفي عباده، ويصرف عنهم الضرر والبلاء، وهل قوله تعالى[يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ] من الكفاية، الجواب نعم، لما فيها من محو الذنوب والتجاوز عن السيئات، وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : سألت من جبرائيل : ما التوكل ؟ قال ” العلم بأن المخلوق لا يضر ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، واستعمال اليأس من الخلق،فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله ، ولم يرج ولم يخف سوى الله ، ولم يطمع في أحد سوى الله فهذا هو التوكل.
الثالثة والثلاثون: إن كل شطر وموضوع في هذه الآية عون للمسلم في بلوغ مرتبة التوكل على الله وإدراك الحاجة للجوء إليه سبحانه والإقرار بأنه (لامؤثر في الوجود إلا الله) وفيه مسائل :
الأول : بعث السكينة في نفس المسلم .
الثاني : يجعل المسلم يؤدي وظائفه العبادية بشوق ورغبة .
الثالث : مواجهة الأعداء بعزيمة وثبات.
الرابع : التنزه عن أسباب الخوف والشك والريب، وهو من عمومات[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( )، وبديع صنعه تعالى في ماهية الإنسان , وفي المقام أمور:
الأول: التنافي والتضاد بين التوكل على الله وبين الفشل والخوف.
الثاني: إزالة التوكل على الله للفشل والخوف والهمّ بهما.
الثالث: عدم تأثير الخوف والفشل والجبن بمراتب التوكل على الله.
صلة آية(وإذ غدوت) ( ) بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أما هذه الآية فهي بصيغة الجملة الخبرية.
الثانية: تتعلق الآية أعلاه بواقعة أحد.
الثالثة: خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين للقتال تثبيت لمضامين هذه الآية وأن السموات والأرض ملك عز وجل.
الرابعة: بيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في سبيل الله، وثقتهم به وحسن توكلهم عليه.
الخامسة: تسليم أهل البيت وأوائل الصحابة بضرورة الجهاد في سبيل الله، ودفع الكفار عن ثغر الإسلام وهو المدينة المنورة.
السادسة: كما يأتي الوحي وآيات القرآن ببيان أحكام الحلال والحرام، وقصص الأنبياء والأمم السابقة فإنه يأتي بسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهاده وأصحابه في سبيل الله.
السابعة: تجلي أسمى معاني الجهاد في سبيل الله خصوصاً بلحاظ التباين بين قلة عدد وعدة المسلمين، وكثرة جيوش الكفار التي زحفت على المدينة.
الثامنة: الجمع بين الآيتين دليل على الإخلاص والتفاني وبذل النفوس والأموال في سبيل الله، قال تعالى[لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ]( ).
صلة(وإذ غدوت من أهلك) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بشارة النصر والغلبة للمؤمنين لأن الله عز وجل له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير.
الثانية: إرادة المسلمين العفو والمغفرة من عند الله.
الثالثة: تتضمن هذه الآية الترغيب بأسباب نيل المغفرة , ويأتي خروج النبي للقتال ليكون منهجاً للمسلمين في الدفاع عن الإسلام والنبوة والتنزيل.
الرابعة: من أسرار توثيق خروج النبي للقتال في القرآن إنه ليس خاصاً بتلك الواقعة، بل هو درس وموعظة للمسلمين والناس جميعاً، إذ أنه يحث المسلمين على الجهاد في سبيل الله الذي له مشارق الأرض ومغاربها، ويبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الخامسة: صحيح أن آية(وإذ غدوت) خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنها إنذار بالعذاب للكفار الذين أفزعوا المسلمين وجاءوا لقتالهم، وهل كثرة عدد الكفار ومؤنهم سبب لزيادة عذابهم , الجواب نعم لأنه شاهد على إصرارهم إستئصال الإسلام.
السادسة: تقدير الجمع بين أول الآية أعلاه وخاتمة هذه الآية هو: وإذ غدوت من أهلك والله غفور رحيم) وفيه بشارة النصر والغلبة على الأعداء، والفوز برحمة الله في الدنيا والآخرة وهو شاهد على أن المؤمنين يبذلون الوسع للفوز برحمة الله وهو من عمومات قوله تعالى[وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ]( ).
صلة(تبوئ للمؤمنين) وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين: تبوئ للمؤمنين مقاعد للقتال والله له ما في السموات وما في الأرض.
الثانية: بعث السكينة في نفوس المؤمنين لأنهم يقاتلون تحت راية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي سبيل الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
الثالثة: في مقاعد ومواضع القتال التي يتخذها المؤمنون أمور:
الأول: جاء تعيينها بالوحي، وفيه تحد وبشارة للنصر.
الثاني: إنها من ملك الله عز وجل للأرض.
الثالث: تسليم المسلمين بأن خروجهم وتحديد مواضعهم بأمر ووحي من الله , وهو من أسرار تسميتهم في الآية بالمؤمنين.
الرابعة: بيان موضوع القتال والصراع بين الطرفين، وهو أن المسلمين يؤمنون بأن ما في السموات وما في الأرض ملك لله عز وجل , والكفار يجحدون به.
الخامسة: الإخبار عن فضل الله عز وجل على الناس جميعاً وسعة رحمته، وأنها تسع الكفار أيضاً بإمكان مبادرتهم للتوبة، والكف عن قتال المسلمين لذا ترى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعظ القوم ويدعوهم للإسلام، ولإجتناب القتال قبل بدأ المعركة.
الأولى: يتضمن الجمع بين الآيتين بشارة نصر النبي والمؤمنين على الكفار، لأن السموات والأرض وما فيهما بيد الله عز وجل.
الثانية: قال تعالى[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( )، وفي الجمع بين الآيتين دليل على أن ملك الله يشمل الأمور الإعتبارية والنتائج والآثار المترتبة على الأفعال.
الثالثة: المقاعد التي يتخذها المؤمنون للقتال هي من ملك الله عز وجل لأن الأرض كلها ملكه، وفيه عون لهم، وطرد لليأس والقنوط من نفوسهم.
الرابعة: ذكرت الآية أعلاه المؤمنين، ومن شرائط الإيمان التسليم بأن الله له ملك السموات والأرض.
الخامسة: خروج المؤمنين للقتال باب لنيل المغفرة والفوز بمرضاة الله، والسلامة من العذاب الأخروي.
السادسة: علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأن الله له ملك السموات والأرض وسيلة وموضوع لبعث السكينة في نفوسهم.
السابعة: جاءت آية(وإذ غدوت) قضية في واقعة , أما هذه الآية فجاءت بصيغة الجملة الخبرية التي تتضمن إطلاق الملك والحكم لله عز وجل، فبيده المغفرة والعذاب، قال تعالى[إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ]( ).
الثامنة: وردت الآية أعلاه بخصوص معركة أحد وإستعداد المسلمين لقتال الكفار الذين جاءوا بجيوشهم من مكة إلى المدينة، ويفيد الجمع بينها وبين الآية محل البحث أن الله عز وجل يغفر للمؤمنين، ويعذب الكفار الذين جاءوا لقتالهم ظلماً وعدواناً.
التاسعة: الصلة بين خاتمتي الآيتين، وفيها وجوه:
الأول: مع قلة كلمات كل من الآيتين فقد جاءت ثلاثة أسماء من أسماء الله عز وجل في خاتمة كل واحدة منهما.
الثاني: تكرر اسم الجلالة(الله) في كلا الآيتين.
الثالث: الجمع بين أسماء الله عز وجل في الآيتين مدرسة كلامية وعقائدية تستقرأ منها الدروس والعبر.
الأولى: مع ملك الله للسموات والأرض فإنه سبحانه يسمع ويعلم كل ما يجري فيها من الحوادث والوقائع.
الثانية: حينما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون إلى معركة أحد فإنهم في عين الله، يعلم مكانهم، ويسمع دعاءهم قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ].
الثالثة: حث المسلمين على الدعاء في قضاء الحوائج، وسؤال الله الرحمة والعفو والمغفرة.
الرابعة: بعث المؤمنين الذين يخرجون للقتال على ذكر الله عز وجل ورجاء مغفرته ونزول رحمته.
الخامسة: تحذير الكفار من تضييع الفرص في الحياة وعدم المبادرة إلى التوبة، لأن الله عز وجل يعلم كل ذنوبهم وهو الذي يعذب عليها، ولا ينجو إلا الذي يصدق في توبته وأنابته.
الرابع: خروج المؤمنين للقتال سبب لنزول رحمة الله وغفران الذنوب.
الخامس: من مصاديق رحمة الله في المقام نزول الملائكة مدداً للمسلمين في معركة أحد، قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
السادس: من مصاديق رحمة الله عز وجل بالمؤمنين وعذابه للكفار، أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي ينزل المؤمنين في مواطن القتال لمواجهة الكفار يوم أحد وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
السابع: بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للدعوة إلى الله، والفوز برحمته، ولزوم الأمن من العذاب الأليم.
صلة آية(إن تمسسكم) ( ) وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إخبار هذه الآية عن ملكية الله للسموات والأرض وما فيهما دعوة للمسلمين للدعاء لإكتساب الحسنات، ودفع السيئات.
الثانية: إن الصبر والتقوى والخشية من الله شاهد الإقرار بأن السموات والأرض ملك له سبحانه.
الثالثة: إنذار الكفار الذين يحزنون لما يصيب المسلمين من الخير، ويفرحون للنوازل التي تحل بهم , قال تعالى[إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ]( )، والتذكير بأن الله عز وجل[يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] ومنهم أعداء الإسلام.
الرابعة: الصبر والتقوى مناسبة للفوز بالمغفرة من عند الله عز وجل.
الخامسة: تذكير الكفار والناس جميعاً بالآخرة ومواطن الحساب فيها.
السادسة: تخفيف المصائب عن المسلمين بحثهم على الصبر والخشية من الله، والإخبار بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل.
الصلة بين خاتمتي الآيتين , وفيها وجوه:
الأول: إن الله يعلم بكل شيء وهو الغفور الرحيم.
الثاني: من فضل الله عز وجل على الناس علمه بكل شيء، وهذا العلم رحمة بالناس، وباب للمغفرة والعفو.
الثالث: تدل خاتمة الآية أعلاه على علم الله عز وجل بما تخفي صدور الكفار، وفضحهم وإشعارهم بالحساب على سوء مقاصدهم، وجاءت خاتمة هذه الآية للترغيب بالتوبة والإنابة، وأن العفو عن التائبين يشمل ما كانوا يضمرونه وما يفعلونه من الكيد بالمسلمين.
الرابع: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الذكرى، وتذكر لغة الإنذار في خاتمة هذه الآية الكفار بأن الله عز وجل يعلم الذين يمكرون بالمسلمين، وأنه يعذبهم بما كسبت أيديهم.
الثامنة: جاءت آية(إن تمسسكم) خطاباً للمسلمين وجاءت هذه الآية بين آيات تخاطب المسلمين.
التاسعة: إن الله الذي له ملك السموات والأرض هو الذي يجعل كيد الكفار لا يضر المسلمين، وهو الذي يعذب الكفار على كيدهم هذا، فمع عدم لحوق الضرر بالمسلمين من هذا الكيد فإن الكفار يؤثمون عليه، ويأتيهم العذاب الأليم بسببه.
العاشرة: أختتمت هذه الآية بالإخبار عن غفران الله للذنوب ورحمته بالناس، لتنال المسلمين المغفرة والرحمة من عند الله.
صلة آية(ها أنتم أولاء) ( )،وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه بصيغة الجملة الإنشائية ولغة الخطاب، وجاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية.
الثانية: يعلم المسلمون أن ما في السموات وما في الأرض ملك لله عز وجل، ولكن الكفار يصرون على الجحود.
الثالثة: إن الله عز وجل هو الذي أنزل الكتب السماوية كلها، وتتضمن الآية الإخبار بأن ملك السموات والأرض لله عز وجل.
الرابعة: جاءت هذه الآية بقوله تعالى[يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] وتضمنت الآية أعلاه التباين بين المسلمين والكفار في المحبة والعداوة، وما يلحق الكفار من الإثم بسبب عداوتهم للمسلمين.
الخامسة: يحتمل قوله تعالى[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] وجوهاً:
الأول: إنه من عمومات قوله تعالى[وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ].
الثاني: من مقدمات العذاب الذي ينزل بالكفار.
الثالث: ليس من العذاب أو مقدماته.
والصحيح هو الأول والثاني.
السادسة: جاءت الآية أعلاه في بيان الحجة والتفصيل في تخلف الكفار والمنافقين عن مراتب البطانة وقصورهم عن وظائفهم وبما يكون سبباً لنزول العذاب بهم من وجوه:
الأول: بغضهم وعدم حبهم للمسلمين، لأن المسلمين آمنوا بالله وأقروا بأن ما في السموات والأرض ملك له سبحانه.
الثاني: جحود الكفار وأهل الضلالة بنزول القرآن من عند الله.
الثالث: إمتلاء صدورهم بالغيظ والبغضاء للمسلمين.
الرابع: سخط الله عز وخل عليهم لقوله تعالى[قل موتوا بغيضكم]
الصلة بين خاتمتي الآيتين، وفيها وجوه:
الأول: تكرار اسم الجلالة في الآيتين.
الثاني: تقدير الجمع بين خاتمتي الآيتين، والله غفور رحيم عليم بذات الصدور.
الثالث : الإخبار السماوي عن علم الله بما في الصدور بشارة للمسلمين وإنذار وحجة على الكافرين .
الرابع: إعانة المسلمين والناس جميعاً لإستحضار النوايا الحسنة الحميدة، فهو سبحانه الرحيم الذي يجعل عالم النوايا مقدمة لفعل الخيرات والمسارعة فيها ويغفر للمسلمين ما يخطر على بالهم من الهم بالسوء .
الخامس : توكيد رحمة الله عز وجل بالمسلمين بإخبار الآية أعلاه عن قبيح ما يضمره الكفار والذين يريدون التسلل إلى منازل الوليجة للمسلمين.
السادس: دعوة المسلمين والمسلمات للإستغفار عما يخطر على البال وفي قوله تعالى [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] في المعاني عن الصادق عليه السلام في هذه الاية السر ما أكننته في نفسك وأخفي ما خطر ببالك ثم أنسيته.
السابع : يتفضل الله عز وجل بالثواب للمسلم والمسلمة على نية الخير والصلاح والنية إرادة تفعل بالقلب،(ومنهم من جعل الفعل كالشبح والنية له كالروح) ( ).
بحث فقهي
النية لغة هي الإرادة والعزم والقصد، وهي من مقومات الفعل العبادي، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : انما الاعمال بالنيات ولكل أمرئ ما نوى، فمن غزى ابتغاء ما عند الله وقع أجره على الله عز وجل، ومن غزى يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلا ما نوى) ( ).
وهل ينحصر الحديث أعلاه بالغزو أم هو أعم، الصحيح هو الثاني بدليل لغة الإطلاق في أوله، وللنية موضوعية في الفعل العبادي خصوصاً لحاظ قصد القربة موضوعاً وحكماً.
وأختلف في التلفظ في نية الفعل العبادي عند المشروع به كالوضوء، والصلاة والصوم على وجوه:
الأول: لايجب التلفظ بها، وهو المشهور، وقيل أنه إتفاقي وعدم الوجوب عام يشمل :
الأول: المستحب.
الثاني: المباح.
الثالث:المكروه.
الرابع: المحرم.
ولكن الأخير يخرج بالتخصص في المقام لإنصراف الدليل عنه.
الثاني: نسب القول باستحباب التلفظ إلى أكثر أصحاب الشافعي، وقال بعض أصحابه يجب التلفظ بها وخطّأه أكثر أصحابه.
الثالث: التلفظ بالنية مكروه، وقيل لا دليل على هذه الكراهة.
الرابع: إستحباب الإقتصار على القلب.
الخامس: يجب التلفظ إن لم يمكن تحقق النية بدونه.
السادس: يكفي في النية الإخطار بمعنى تصورها في البال، وأشكل عليه بانه لو كانت إخطارية للزم بقاؤها في الذهن إلى الفراغ من العمل، ولا دليل على الملازمة إذ يكفي انه لو سئل المتوضأ ماذا يفعل فيقول: أتوضأ، بما يفيد عدم الغفلة عن نية الفعل العبادي.
السابع: النية هي الداعي إلى الفعل، وانه موجود في القلب، فقد يكفي في خطور الأفعال والواجبات في النفس حضور داعيها كوقت الصلاة وسماع الأذان، وهو من فلسفة تشريع وتعاهد الأذان والإقامة عند وقت كل صلاة يومية، وبين الإخطار في البال والداعي عموم وخصوص مطلق، فكل خطور في البال هو داع وليس العكس.
صلة آية(البطانة) ( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه خطاباً للمسلمين وجاءت الآية محل البحث بعد خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويعم المسلمين أيضاً.
الثانية: تتعلق الآية أعلاه بالخاصة والوليجة التي يتخذها المسلمون على نحو العموم أو الإختصاص، أما هذه الآية فتبحث في أمور عبادية تشمل عموم المسلمين والمسلمات والناس جميعاً.
الثالثة: هذه الآية واقية من إتخاذ بطانة من الذين كفروا، وحرز من الخبال وفساد الأمر الذين يسعون إليه لما فيها من الإقرار بالتوحيد والتسليم بالعبودية لله عز وجل.
الرابعة: تتضمن هذه الآية تحذيراً من إيذاء المسلمين لما فيها من الوعيد بالعذاب للكفار.
السادسة: جاءت خاتمة الآية أعلاه بالحث على توظيف العقل للسلامة من كيد ومكر الكفار، وأختتمت هذه الآية بإسمين من أسماء الله عز وجل(والله غفور رحيم) لبيان العفو والمغفرة والرحمة الإلهية بالمسلمين وترغيب الناس بالتوبة والإنابة.
السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين عدم التعارض بين الوعيد والوعد الكريم، فمع قوله تعالى في الآية أعلاه(قل موتوا بغيظكم) جاءت خاتمة هذه الآية بالإخبار عن الإطلاق والسعة في رحمة الله ومغفرته للذنوب.
الثامنة: يفيد الجمع بين الآيتين دعوة البطانة الفاسدة والذين يريدون نيل مراتب البطانة عند المسلمين للتوبة والإقرار بالعبودية لله عز وجل فقوله تعالى[وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ترغيب بالتوبة، وبيان لكيفية نيل المراتب عند المسلمين وقادتهم.
الصلة بين بدايتي الآيتين، وفيها وجوه
الأول: يفيد الجمع بين الآيتين[ يا أيها لذين آمنوا لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ].
الثاني: بشارة المغفرة للمسلمين لإقرارهم بأن السماوات والأرض وما فيهما لله عز وجل.
الثالث: تفقه المسلمين، وإرتقاؤهم في المعارف الإلهية، وتسليمهم بأن ملك السماوات والأرض لله عز وجل.
التاسعة : من رحمة الله عز وجل بالمسلمين تحذيرهم من بطانة السوء.
العاشرة: الإيمان واقية من الخبال.
الحادية عشرة: من ملك الله عز وجل للسموات والأرض، سلامة المؤمنين من أسباب الفساد، لتكون مقدمة لتعاهدهم كلمة التوحيد في الأرض، فالتحذير من الوليجة غير النصوحة موضوع مقصود بذاته، ولغيره من الأمور العقائدية والعبادية والسياسية، وهو من عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالثة عشرة: لما جاءت هذه الآية بالوعيد[وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] ذكّرت آية البطانة بالذم الذين يريدون المكر بالمسلمين وتبدو في كلامهم البغضاء للإسلام والمسلمين ودولتهم، لتكون السنتهم حجة عليهم وسبباً للعقوبة ولحوق الخزي بهم.
الرابعة عشرة: جاءت الآية أعلاه بقوله تعالى[قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ] وبلحاظ الجمع بينها وبين الآية محل البحث وجوه:
الأولى: إن السماوات والأرض ملك طلق لله عز وجل لايشاركه فيا أحد، وأنّى تكون هذه المشاركة وكل شئ هو من ضمن ملك لله، وفي سلطانه، ويستجيب لأمره.
الثاني: كل مافي السماوات وما في الأرض ملك لله عز وجل.
الثالث: إن الله عز وجل يغفر لمن يشاء.
الرابع: الحيطة والحذر من البطانة السيئة من أسباب فوز المسلمين بالمغفرة، وواقية من الضرر والعذاب.
الخامس: من عذاب الكفار في الدنيا مجئ آية (البطانة) بالتحذير من إتخاذهم وليجة، ومن الإنصات لهم والإستماع إلى مشورتهم.
السادس: إن الله عز وجل هو الغفور الرحيم الذي يرحم المسلمين، ويحذرهم من البطانة التي تضمر لهم الحسد والكيد.
الخامسة عشرة: من منافع مجئ هذه الآية بالإنذار(يعذب من يشاء) كبت وتوبيخ الذين يسعون في إخفاء ما في صدورهم من العداوة للمؤمنين خوفاً من الفضيحة , وفي الجمع بين الآيتين دليل على إرتقاء المسلمين وتفقههم في أمور الدين والدنيا.
السادسة عشرة: توبيخ الكفار والذين يضمرون الحسد والبغضاء للمسلمين لأن المسلمين يؤمنون بالله الذي له ملك السماوات والأرض، ويجتهدون في طاعته.
الصلة بين خاتمتي الآيتين، وفيها وجوه:
الأول: من رحمة الله عز وجل بالمسلمين والناس جميعاً تحذير المسلمين من بطانة السوء، وتوكيد هذا التحذير بالجملة الشرطية في خاتمة الآية أعلاه.
الثاني: إن الله الغفور الرحيم يخاطب المسلمين بما ينمي مداركهم العقلية.
الثالث: بيان الآيات رحمة من عند الله عز وجل بالمسلمين.
صلة آية(كمثل ريح) ( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بينت هذه الآية أن ملك السماوات والأرض لله، وأخبرت الآية أعلاه عن ذهاب ما ينفقه الكفار أدراج الرياح، وفيه آية إعجازية بتوكيد أن الإنفاق والآثار المترتبة عليه يقع في ملك الله، وأنه سبحانه يمنع من نماء الكفر بالإنفاق بالباطل.
الثانية: الحياة الدنيا من ملك الله عز وجل للسموات والأرض، وتمضي مشيئته فيما يجري فيها.
الثالثة: جاءت الآية أعلاه بمثل(ريح فيها صر) وهذه الريح من مصاديق ملك الله(للسموات والأرض وما فيهما وما بينهما)
الرابعة: يبعث الجمع بين الآيتين الفزع والخوف في قلوب الكفار لأن الله عز وجل قادر على هلاكهم وأموالهم بريح فيها برد، ولها صوت ودوي، قال تعالى[وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ]( ).
الخامسة: ذكرت هذه الآية العقاب الأليم للكفار بقوله تعالى(ويعذب من يشاء).
وهل هلاك الأموال التي ينفقها الكفار من هذا العذاب أم المراد منه العذاب الأخروي بالنار، الجواب هو الأول.
السادسة: أختتمت هذه الآية بقوله تعالى(والله غفور رحيم) وجاءت الآيات بالأمر للمسلمين جميعاً بطاعة الله والرسول، للفوز برحمة الله، وجاءت هذه الآية بالأمر بالمبادرة لنيل المغفرة والعفو من عند الله.
السابعة: الجمع بين الآيتين من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، من وجوه:
الأول: فضل الله عز وجل بنزول كل آية من هاتين الآيتين.
الثاني: إخبار هذه الآية عن كون الله عز وجل هو الغفور الرحيم.
الثالث: ترغيب المسلمين بالسعي لنيل المغفرة.
الرابع: إن الله عز وجل هو الغفور، وهو اللطيف الذي يقرب المسلمين من رحمته ومغفرته.
الخامس: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، فجاءت آية(كمثل ريح) لحث الناس على العمل فيها بالأوامر الإلهية، وإجتناب الإنفاق بالباطل لأنه علة لنزول العذاب الوارد في قوله تعالى(ويعذب من يشاء).
الثامنة: يفيد الجمع بين الآيتين توبيخ الكفار لإنفاقهم الأموال في محاربة المسلمين، وصيرورة هذا الإنفاق وبالاً عليهم في الدنيا، ومادة للعذاب في الآخرة .
وجاء القرآن بالإنذار للذين يدخرون الأموال ولاينفقونها في سبيل الله( )، مما يدل بالأولوية القطعية على نزول العذاب بالذين ينفقون الأموال في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
التاسعة: ذكرت هذه الآية اسم الجلالة مرتين، وإسمين من الأسماء الحسنى(غفور رحيم) بينما ذكرت الآية أعلاه اسم الله مرة واحدة ولكنها ذكرت هلاك أموال الكفار في الدنيا بكيفية لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
العاشرة: أخبرت هذه الآية عن ملك الله للسموات والأرض، وذكرت هذه الآية الريح بإعتبارها من ملك الله في ماهيتها ومصدرها وهبوبها وجهة وقوعها.
الحادية عشرة: من معاني (الصر) صوت الريح الباردة الشديدة، وفي الجمع بين الآيتين دليل على أن البرودة والحرارة أمر بيد الله عز وجل، وإنها نوع عذاب للكفار.
الثانية عشرة: ذكرت هذه الآية عذاب الله بقوله تعالى(يعذب من يشاء) وذكرت الآية أعلاه مادة(ظلم) ثلاث مرات وعلى أقسام:
الأول: ورود الظلم في الآية بصيغة المثل لقوم ظلموا أنفسهم.
الثاني: تنزيه واجب الوجود من الظلم في هلاك أموال الكفار، وما يأتيهم من العذاب مطلقاً.
الثالث: بيان حقيقة ظلم الكفار لأنفسهم(ولكن أنفسهم يظلمون) وفيه حث للناس لإجتناب ظلم النفس.
الثالثة عشرة: من رحمة الله عز وجل بالظالمين تذكيرهم بقبح فعلهم، وهذا التذكير مقدمة للتوبة والصلاح.
الرابعة عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين بعث السكينة والرضا في قلوب المسلمين لفوزهم بالرحمة، ونزول العذاب بالكفار الظالمين أنفسهم.
الخامسة عشرة: جاء في هذه الآية قوله تعالى(يعذب من يشاء) وذكرت آية(ريح فيها صر) أن الكفار ظالمون لأنفسهم، ويكون الجمع وفق القياس الإقتراني.
الكبرى: يعذب الله عز وجل الظالمين.
الصغرى: الكفار هم الظالمون.
النتيجة: يعذب الله الكفار
الخامسة عشرة: قيام الحجة على الكفار، وإستحقاقهم للعذاب لظلمهم لأنفسهم، وإخبار هذه الآية بأن الله عز وجل يعذب من يشاء، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
السادسة عشرة: من رحمة الله عز وجل بالناس في الدنيا تحذير الظالمين بمثل له دلالات كلامية بأن الآفاق الأرضية والسماوية قد تأتي على الكفار على نحو التعيين إنتقاماً وبطشاً بهم، ومنعاً من تماديهم في الظلم.
السابعة عشرة: تضمنت هذه الآية الإخبار عن ملك الله للسموات والأرض وما فيهما، ومن مصاديق الملك المذكور في آية(ريح فيها صر) أمور:
الأول: الأموال، ومنها ما ينفقه الكفار.
الثاني: الحياة الدنيا.
الثالث: الريح مطلقاً.
الرابع: الريح التي فيها برد شديد ولها صوت لسرعتها وتدافعها.
الخامس: الناس.
السادس: الحرث والزراعات.
السابع: نمو أو هلاك الزراعات.
ومن رحمة الله أنه سبحانه يهدي الناس لكيفية الإنتفاع من ملكه، ويزجرهم عن القبائح.
الثامنة عشرة: إن الجمع بين موضوع ملك الله للسموات والأرض، وبيان عالم الجزاء وما فيه من الرحمة والعذاب دعوة للكفار والناس جميعاً لنبذ مفاهيم الكفر، والتوجه نحو طاعة الله والإمتثال لأوامره.
التاسعة عشرة: يضرب الله عز وجل الأمثال، وتقع مواضيع الأمثال في ملكه سبحانه، ومن الآيات أن مصاديق تلك الأمثلة متجددة في كل زمان، وهذا التجدد من الشواهد على إستدامة ملك الله عز وجل وعظيم قدرته، ولو قيل قد يقوم الظالمون بالزراعة المغطاة وإستعمال وسائل التقنية في حفظها فهل تشملهم مضامين الآية في هلاك مزروعاتهم بريح فيها صر، الجواب من وجوه:
الأول: من الرياح ما تكون عاتية قوية تقتلع الأشجار، وتجرف الدور والمساكن.
الثاني: جاءت الآية بصيغة الجمع في أهل الحرث والزراعات مما يدل على سعة وكثرة تلك المزروعات.
الثالث: ذكر هلاك الزرع من باب المثال الذي يتضمن الإنذار.
العشرون: ورد في آية(ريح فيها صر) بأن القوم تلفت مزروعاتهم التي زرعوها في غير أوانها، فنعتتهم الآية بأنهم(ظلموا أنفسهم) ولكن الآية أعم، وتتضمن وقوع ظلمهم على أنفسهم وليس على أموالهم وحدها، وقد تكررت الآيات في القرآن بإرادة ظلم النفس في إرتكاب المعاصي، وجاء هلاك الزرع لوجوه:
الأول: إنه عقوبة عاجلة.
الثاني: إنه برزخ دون الإنتفاع من تلك الزراعات والأموال لمحاربة الإسلام ونشر مفاهيم الضلالة.
الثالث: منع الكفار من التمادي في المعاصي.
الرابع: جعل الكفار ينشغلون بأنفسهم ويتدبرون في خلق السموات والأرض وعائديتها إلى الله عز وجل في الملكية ومجريات وعواقب الأمور.
وجاءت الآية محل البحث لإعانتهم على إدراك هذه الحقائق وشراء سلامة أموالهم بالإمتناع عن ظلم أنفسهم بالكفر والضلالة، فمن يريد تحصين أمواله فيجب عليه أمور:
الأول: الإمتناع عن الإنفاق في معصية الله.
الثاني: إجتناب محاربة رسول الله والمؤمنين.
الثالث: الإقرار بالعبودية لله عز وجل.
الحادية والعشرون: هلاك أموال الظالمين من أفراد ومصاديق قوله تعالى في هذه الآية(ويعذب من يشاء) قال تعالى[وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ]، وفيه دلالة على أن عذاب الكفار أعم من أن ينحصر بعالم الآخرة، بل يشمل الدنيا.
الثانية والعشرون: جاءت هذه الآية بذكر رحمة الله وأنه تعالى(الغفور الرحيم)وفي هلاك أموال الكفار رحمة بهم لما فيه من الزجر والمنع من التمادي في الظلم والتعدي وإرتكاب المآثم.
الثالثة والعشرون: حينما ظلم بنو إسرائيل أنفسهم بإتخاذ العجل، نزل القتل الذاتي فيما بينهم كما جاء في التنزيل حكاية عن موسى عليه السلام[يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ] ( )، وتبين هذه الآية رحمة الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمجيء الإنذار بصيغة المثل ومتعلقة بالحرث والمزروعات، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]، من وجوه:
الأول: إنذار وتحذير الكفار.
الثاني: نزول البلاء والتلف بالمزروعات وليس بالأبدان والأنفس، وتلف المزروعات أخف وطأة ليكون إنذاراً لهم.
ومن يصر مع هلاكها على محاربة الإسلام فإن مصيره ينحصر بأمرين أما الهلاك وأما الرجوع بخيبة وخسران ويجمعهما قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
الثالث: مجيء آية(ريح فيها صر) بلغة المثل.
الرابع: تعدد مضامين الرحمة في الآية محل البحث ومجيؤها بالبشارة بالعفو والمغفرة لمن تاب.
وهل من المغفرة عودة الأموال التي هلكت أيام الكفر والضلالة، أي لو كان شخص يحارب المسلمين، ويكيد لهم، ثم يدخل الإيمان قلبه ويحسن إسلامه فهل تعود له تلك الأموال كجزء من عفو ومغفرة الله عز وجل عنه، الجواب نعم ، إن شاء الله وقد يعطيه بالإسلام أضعاف تلك الأموال , كما قصة العباس بن عبد المطلب وفديته في بدر , وما أفاض الله عليه فيما بعد من الغنائم , والله سبحانه له(ما في السموات وما في والأرض).
الرابعة والعشرون: نهي الكفار عن الظلم بأقسامه:
الأول: غير المتعدي وهو الظلم للنفس كالإمتناع عن الإيمان، وترك الفرائض سواء على القول بأن الكفار مكلفون بالفروع وهو المشهور والمختار، أو القول بأنهم غير مكلفين.
الثاني: الظلم المتعدي إلى الغير.
الثالث: الظلم الجامع للقسمين أعلاه.
وهذه الأقسام متداخلة , والظلم للنفس إغواء وظلم للغير وكذا العكس صحيح.
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها وجوه:
الأول: أختتمت هذه الآية بثلاثة أسماء من أسماء الله، وبما يبعث الرغبة في النفوس لنيل فضل الله عز وجل الذي يتمثل بدخول الإسلام ولكن الكفار ضيعوا هذه النعمة.
الثاني: دعوة الكفار للتخلص من ظلمهم لأنفسهم , وحثهم على الفناء في مرضاة الله طمعاً في مغفرته ورحمته.
الثالث: إن الله عز وجل الغفور الرحيم الذي يغفر للتائبين من الكفار، والظالمين لأنفسهم.
الرابع: دفع اليأس عن نفوس الناس مطلقاً، لأن خاتمة هذه الآية تخبر عن عفو ومغفرة الله عز وجل لهم جميعاً إذا ما تابوا، قال تعالى[إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا] ( ).
الخامس: تقدير الجمع بين الآيتين: والله غفور رحيم للذين أنفسهم يظلمون إذا تابوا.
صلة آية(لن تغني عنهم) ( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين توبيخ الذين كفروا، لأنهم من ملك الله وتخلفوا عن وجوب الإيمان به عز وجل.
الثانية: أموال الذين كفروا من ملك الله عز وجل، وهو القادر على سلبها وتلفها.
الثالثة: بيان حقيقة أن ملك السماوات والأرض لله دعوة للناس جميعاً لشكره سبحانه على نعمة المال وإقتنائه، ويتجلى هذا الشكر على اللسان في الواقع العملي بالإمتناع عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الرابعة: من ملك الله للسماوات والأرض قدرته على جعل الكفار عاجزين عن الإنتفاع من أموالهم وأولادهم.
الخامسة: إن الله الذي له ملك السماوات والأرض لا تمنع عذابه من الكفار أموالهم وأولادهم , قال تعالى[أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
السادسة: جاءت هذه الآية بالوعد بالمغفرة، والوعيد بالعذاب وتدل آية(لن تغني) على نزول العذاب بالكفار، وفيها بيان وتفسير لقوله تعالى(ويعذب من يشاء).
السابعة: أخبرت هذه الآية عن عظيم رحمة الله وأنه الغفور الرحيم، وجاءت الآية أعلاه لتبين مصاديق من رحمته بالكفار في الحياة الدنيا منها:
الأول: رزق الكفار الأموال.
الثاني: جعل الكفار يتناسلون ويصير لهم أولاد وذراري كالمسلمين.
الثالث: عدم إنتفاع الكفار من أموالهم وأولادهم في الشر والظلم والتعدي، وإن قاموا بتسخيرها فتكون وبالاً عليهم، وسبباً للآثام والأوزار الثقيلة.
الرابع: مجيء هذه الآية بالإخبار عن قانون تخلف الأموال والأولاد عن نجاة الكفار من العذاب.
الخامس: الوعيد بدخول الكفار النار سبيل لجذبهم لمنازل التوبة.
السادس: إقامة الحجة على الكفار في جحودهم بنعمة المال، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
الثامنة: لما ذكرت هذه الآية عذاب الكفار، جاءت هذه الآية بذكر مصداق من مصاديق هذا العذاب، وهو عدم دفع الأموال والأولاد العقاب والعذاب عن الكفار.
التاسعة: تدعو الآية أعلاه في مفهومها الكفار إلى التدبر في خلقهم وعواقبهم، وإذا كانت الأموال والأولاد لا تنفعهم ولا تدفع عنهم العذاب فعليهم بالتوبة والإنابة.
العاشرة: ذكرت الآية أعلاه الكفار ومصيبتهم بعدم الإنتفاع من الأموال والأولاد، فهل ينتفع المسلمون من أموالهم وأولادهم، الجواب نعم لتسخيرهم الأموال وتوجيه الأولاد في مرضاة الله وسبل طاعته، فتكون سبباً لزيادة الحسنات، ونشر الصلاح في الأرض ومادة لمحاربة الكفار.
الحادية عشرة: من ملك الله للسموات والأرض إنتفاع المسلمين من أموالهم وأولادهم، وعجز الكفار عن الإنتفاع منها، فإن قلت الظاهر أن الكفار ينتفعون من أموالهم في المعيشة والتمتع بالحياة الدنيا، ويتخذون من الأولاد عضداً في محاربة الإسلام، الجواب من وجوه:
الأول: جاءت الآية بالتقييد بأن الأموال والأولاد لن تدفع عنهم العذاب الإلهي.
الثاني: توكيد قانون وهو أن الله عز وجل له ملك السماوات والأرض.
الثالث: الإخبار بأن ملك الناس لأموالهم إنما هو ملك إعتباري ومجازي، وليس أمراً مطلقاً.
الرابع: بيان حقيقة وهي أن إنتفاع الناس من الأموال والأولاد من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، وفيه مسائل:
الأولى: ينتفع منها المسلمون في الدنيا والآخرة.
الثانية: لا ينتفع الكفار من الأموال والأولاد في الآخرة.
الثالث: ينتفع الكفار من أموالهم وأولادهم في الدنيا على نحو التقييد، وفي الأمور الصغيرة.
الثانية عشرة: دعوة الناس جميعاً إلى التدبر والإعتبار من قصص الأمم السالفة، وكيف يأتي العذاب للكفار ومكذبي الأنبياء، وورد ذم ثمود قوم صالح إذ جاء لهم بمعجزة الناقة فكفروا بها وعقروها بعد أن إقترحوها، فلم يلتفتوا إلى تحذيره وإنذاره من قتلها، فأخذهم وأولادهم العذاب وتلفت أموالهم قال تعالى[فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا* وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا] ( )، وأستؤصلوا دفعة واحدة، ولم يفلت من العذاب صغير أو كبير منهم، ولم يبق منهم شاهد.
وجاءت آيات القرآن لتكون شاهداً سماوياً على تلك الوقائع، وبرهاناً يتصف بالصدق والتبليغ إلى الناس جميعاً إلى يوم القيامة، وهو تحذير وإنذار إضافي، ودليل على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بتدبرهم في الإنذارات والإنتفاع الأمثل منها، وقيامهم بإنذار وتذكير الناس، بقصص الأمم السابقة وجعلهم يعتبرون منها.
وقد سمى القرآن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نذيراً قال تعالى[إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ] ( )، والإنذارات التي يأتي بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متعددة في موضوعها وأحكامها وآثارها، ومن أسرار الإنذار المحمدي بقاؤه إلى يوم القيامة كما في الآية محل البحث وآية(لن تغني) وكل واحدة منهما إنذار مستقل كما أن جمعهما إنذار آخر.
الثالثة عشرة: ذكر أصحاب النار في آية(لن تغني) باسم الإشارة للبعيد(أولئك) لإرادة الذم والإزدراء لهم، والتحذير منهم، ليكون ذم وتبكيت الكفار في الآيتين منطوقاً ومفهوماً من وجوه:
الأول: نعتهم بالذين كفروا، وما فيه من الدلالة على الجحود والمعصية والإمتناع،(وكفرت الشيء أكفِره بالكسِر أي سترته) ( )، فالكافر يستر النعم الإلهية وينكرها ولا يؤمن بها.
الثاني: مجيء نعت الكفر بصيغة الجمع ليعم الكافرين جميعاً.
الثالث: سلب فرح الكفار بأموالهم وأولادهم، لأن الآية إنذار وتحد لهم، وإخبار عن عدم إنتفاعهم من الأموال والأولاد.
الرابع: إن القوة لله جميعاً، وأن كفرهم وجحودهم يعذبهم، ويرجع عليهم بالبلاء والعقاب.
الخامس: تفويت الكفار على أنفسهم فرصة الحياة الدنيا وما فيها من رحمة الله، وفتح باب التوبة إلى حين الوفاة ومغادرة الروح الجسد.
السادس: إعراض الكفار عن معاني الرحمة التي جاءت بها هذه الآية.
السابع: إن الله غفور الرحيم يبطش بالكفار، ويمنعهم من الإنتفاع بالأموال والأولاد، إذ جحدوا بهذه النعم، وأنكروا فضله تعالى، وأصروا على المعصية والكفر.
الثامن: أولاد الكفار، والأموال التي بأيديهم كلها من ملك الله عز وجل، وهو الذي يعذب الجاحدين الظالمين، فمن وجوه العذاب الإلهي منعهم من الإنتفاع بهذه الحصة من النعم الإلهية.
التاسع: إقامة الحجة على الكفار إذ أخبرت هذه الآية بأن الله(يعذب من يشاء) وذكرت آية(لن تغني) عدم دفع الأموال والأولاد العذاب عن الكفار.
العاشر: سلب الفرح من نفوس الكفار، وإستيلاء اليأس عليها بإخبار الآية أعلاه بعدم دفع الأموال والأولاد العذاب عنهم.
الحادي عشر: جعل الكفار والناس جميعاً يدركون ماهية وشدة العذاب الأليم الذي لا تدفعه الأموال والأولاد وإن كثروا، لتكون هناك ملازمة بين الكفر وحجب الإنتفاع من نعمة المال والولد.
الثاني عشر: يأتي العذاب للكفار مركباً من ذات العذاب، ومن العجز عن دفعه بالأموال والأولاد قال تعالى[إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ* مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ]( ).
الثالث عشر: بيان حقيقة عجز الكفار عن النجاة من العذاب بأنفسهم، فإذا كانت الأموال والأولاد لا تنجي الكافر من العذاب فإنه بشخصه لا يستطيع النجاة من باب الأولوية القطعية.
الرابع عشر: مع سعة رحمة الله وإخبار هذه الآية بأنه سبحانه(الغفور الرحيم) فلم تأت آية(لن تغني) بخصوص الأموال أو الأولاد وحدهم، بل ذكرت الأموال والأولاد على نحو التعدد والإجتماع والإطلاق، فالكافر لا تنفعه أمواله وأولاده ولا تنجيه من العذاب.
ولو إجتمعت أموال وأولاد الكفار للذب والدفع عن واحد منهم فهل تدفع عنه الضرر والعذاب الجواب لا، وهو من عمومات سنن الجزاء وملك الله للسموات والأرض الذي ذكرته هذه الآية , قال تعالى[فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ]( ).
الخامس عشر: حرمان الكفار أنفسهم من نعمة المغفرة المذكورة في هذه الآية بقوله تعالى(يغفر لمن يشاء).
السادس عشر: نعت الكفار بأنهم أصحاب النار وهو من مصاديق عذاب الله عز وجل لهم، إذ أن هذا التخويف والوعيد والتذكير نوع عذاب وتوبيخ، نعم هو مناسبة للتوبة والتدارك.
السابع عشر: ملازمة صفة(أصحاب النار) للكفار وهم في الدنيا، وفيه شاهد على عدم إنتفاعهم من الأموال والأولاد، لأنهم لا يستطيعون دفع هذه الصفة وما فيها من التوبيخ عنهم، وكذا يوم القيامة فأنهم لا يستطيعون دفع العذاب الفعلي الذي يحل بالكفار بخلودهم في الجحيم.
الرابعة عشرة: إختتام هذه الآية بإسمين من أسماء الله عز وجل(الغفور الرحيم) وفيه أسمى معاني الترغيب بالتوبة، والسعي الدؤوب لتحصيل هذه النعمة العظيمة أي نعمة إختتام هذه الآية بأن الله هو الغفور الرحيم، لذا أختتمت آية(لن تغني) بالإخبار القطعي عن خلود الكفار في الجحيم.
الخامسة عشرة: ترى لماذا لم تقف الآية أعلاه عند وصف الكفار بأنهم أصحاب النار بل ذكرت خلودهم في النار , الجواب من وجوه:
الأول: تتضمن الآية الإخبار عن عالم الآخرة، وحال الكفار فيها.
الثاني: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الثالث: إقامة الحجة والبرهان على الكفار.
الرابع: تحذير الناس جميعاً من الكفر وسوء عاقبته.
الخامس:لما جاءت الآيات بأن[الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ] ( )، وهي حياة بلا موت، أخبرت هذه الآية عن حال الكفار فيها، وأنهم ماكثون إلى الأبد في النار.
السادس: بيان تخلف الكفار عن النهل من رحمة الله، بإصرارهم على الكفر.
السابع: إرادة شفاء صدور المؤمنين، وبعثهم على الصبر والجهاد في سبيل الله.
الثامن: ترغيب الناس بالتوبة والصلاح لأنهما الطريق إلى الخلود في النعيم الدائم.
التاسع: ذكر أهل النار في الآية أعلاه، وذكرها لمغفرة الله عز وجل بيان لنجاة المؤمنين من النار، وبعث للنفرة من أسباب ومقدمات دخول النار.
العاشر: من وجوه عذاب الكفار الخلود في النار، أي أن عذابهم لا ينحصر بدخول النار أو البقاء فيها مدة مديدة، بل يشمل الخلود والإقامة الدائمة فيها.
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها وجوه:
الأول: جاءت خاتمة هذه الآية بالوعد الكريم، وما يبعث السكينة في نفوس المسلمين، والرغبة عند غيرهم لدخول الإسلام والطمع في رحمة الله عز وجل .
وجاءت خاتمة الآية أعلاه بالوعيد والتخويف بالنار بقوله تعالى في الكفار[أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ].
الثاني: إن الله عز وجل هو(الغفور الرحيم) وليس من حد أو حصر لرحمته، أو قيد وإستثناء لمغفرته بدليل مجيء خاتمة الآية بصيغة الإطلاق والعموم .
وتدل خاتمة آية(لن تغني) على حرمان الكفار من رحمة الله يوم القيامة، وهذا الحرمان بإختيارهم وبما كسبت أيديهم، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
الثالث: تقدير الجمع بين خاتمتي الآيتين والله غفور رحيم إلا بالنسبة للذين كفروا فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
الرابع: ترغيب الكفار والناس جميعاً برحمة الله، والمبادرة إلى التوبة.
الخامس: يتجلى اللطف الإلهي في المقام من جهات:
الأولى: خاتمة آية(لن تغني) لما فيها من التحذير والإنذار من الكفر وسوء عاقبته، وبما يبعث النفرة في النفوس من الكفر كسبب للعذاب، وعلة للخلود في الجحيم.
الثانية: خاتمة هذه الآية وما فيها من معاني الرحمة والمغفرة الإلهية التي تتغشى الخلائق جميعاً.
الثالثة: في الجمع بين خاتمتي الآيتين أمور:
الأول: دعوة للناس لنبذ الكفر.
الثاني: الحث على دخول الإسلام وأداء الفرائض.
الثالث: السعي لإجتناب الكفر والجحود ومحاربة الإسلام وما يجلب الخزي وسوء المقام في الآخرة.
صلة آية(وما يفعلوا من خير) ( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: الله الذي له ملك السموات والأرض يعلم ما يفعل المؤمنون، والناس جميعاً.
الثانية: إن الله عز وجل يحفظ ويرى الصالحات التي يفعلها المؤمنون، قال تعالى[أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى] ( ).
الثالثة: الخير الذي يفعله المسلمون من ملك الله للسموات والأرض، وهو لا يقع إلا في ملكه.
الرابعة: فعل الخير وإتيان الفرائض نعمة وتوفيق من عند الله.
الخامسة: لما جاءت هذه الآية بالإخبار بأن السموات والأرض ملك لله عز وجل جاءت هذه الآية في فعل الخير، ويفيد الجمع بينهما بعث المسلمين لفعل الخيرات، ونشر المعروف بين الناس , قال تعالى[وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ]( ).
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين الترغيب بفعل الخير لأن الله له ملك السموات والأرض، ولأن فعل الخير باب لنيل المغفرة والرحمة الإلهية.
السابعة: إتيان الصالحات بقصد القربة إلى الله عز وجل.
الثامنة: فعل الخير لن يذهب سدىً لأن الله عز وجل له ملك السموات والأرض وهو الذي يخلف عليه خيراً، قال تعالى[فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه] ( ).
التاسعة: إذا كانت السموات والأرض وما فيهما ملك لله عز وجل وهو سبحانه الشاكر العليم، فلا يستطيع أحد منع الجزاء الحسن والثواب عن المسلمين.
العاشرة: يفيد الجمع بين الآيتين أنه لا تقدر الخلائق على رد الجزاء الذي يأتي من عند الله.
الحادية عشرة: تتضمن آية (وما يفعلوا من خير) في منطوقها ومفهومها تأويلاً لقوله تعالى(يغفر لمن يشاء) إذ أنها بشارة المغفرة للمسلمين، وفيها إنذار وتوبيخ للكفار من وجوه:
الأول: عجز الكفار عن ستر أو منع الجزاء الذي يأتي للمسلمين.
الثاني: حرمان الكفار أنفسهم من فعل الخير وما يتعقبه من الثواب، فإن قلت قد يفعل الكافر الخير ويسدي المعروف للناس، والجواب من جهات:
الأولى: المراد من الخير في المقام طاعة الله.
الثانية: إرادة قصة القربة في فعل الصالحات، ويتعذر هذا القصد على الكافر لجحوده بالتوحيد .
ومن أدلة قصد القربة في علم الأصول قوله تعالى[وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]( ).
الثالثة: جاءت الآية خاصة بالمؤمنين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، بدليل الآية السابقة لها( ).
الثالث: تتضمن الآية بشارة المسلمين بالعز والقوة والمنعة قال تعالى [لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثانية عشرة: الله الذي له ملك السماوات والأرض عليم بالمتقين، وهو عالم بكل شيء , ولكن لماذا خص المتقين في الآية، الجواب من وجوه:
الأول: إكرام المسلمين.
الثاني: البشارة للمسلمين بالثواب والأجر العظيم.
الثالث: إغاظة الكفار، وبعث اليأس في نفوسهم من الثواب على فعل الخير والإحسان للآخرين.
الرابع: إنه من مصاديق شكر الله عز وجل لعباده , قال تعالى[وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ] ( ).
الخامس: مجيء الآية بصيغة المضارع(وما يفعلوا)وفيه دلالة على ثبات المسلمين على الإيمان، وتعاهدهم للفرائض والواجبات، وكل يوم يؤدون فيه وظائفهم العبادية يكون حسرة للكافرين، وحجة عليهم، وبياناً لعجزهم عن رد الفضل الإلهي عن المسلمين.
الثالثة عشرة: تشريف المسلمين والثناء عليهم بنسبة فعل الخير لهم، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، من وجوه:
الأول: مبادرتهم إلى فعل الخيرات.
الثاني: مسارعتهم في الصالحات كما ذكرت الآية السابقة.
الثالث: تعاهدهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: نعتهم بالصالحين كما في خاتمة آية(يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) التي عطفت عليها آية(وما يفعلوا من خير).
الرابعة عشرة: جاء فعل الخير في الآية بصيغة الجمع وفيه وجوه.
الأول: الآية إنحلالية، فكل مسلم ومسلمة يفعلان الخير، ومن أبهى وأسمى مصاديق الخير إتيان الفرائض.
الثاني: يفعل المسلمون الخير مجتمعين كما في خروجهم وقتالهم متحدين قال تعالى[إن الله يحب الذين يقتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص]( ).
الثالث: إتيان المسلمين الفرائض وهي بلحاظ أوان إتيانها على قسمين:
الأول: الواجب غير المؤقت الذي ليس له وقت مخصوص كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: الواجب المؤقت وهو الذي يؤتى به بوعاء زماني مخصوص ومحدد بلحاظ آيات كونية كالشمس والهلال موضوعية فيها، وينقسم الواجب المؤقت إلى قسمين:
الأول: الواجب المضيق يكون زمان أدائه مساوياً للوقت المأمور بأدائه خلاله ويعتبر شرطاً في صحته أو كماله، كما في أداء صيام شهر رمضان والوقوف في عرفة للمختار( ).
الثاني: الواجب الموسع وهو الذي يكون زمان أدائه المعتبر فيه صحته أوسع من مقدار أدائه كما في الصلاة اليومية , فان وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس بينما يستغرق أداؤها نحو خمس دقائق، أو أقل قليلاً أو أكثر بحسب كيفية الأداء وقصر أو طول السورتين والإتيان بالمستحب أو عدمه.
وقد يكون الواجب تارة مضيقاً وأخرى موسعاً.
الخامسة عشرة: جاءت الآيتان بصيغة الجملة الخبرية وقيل(أن الجملة الخبرية أكد وأبلغ في مقام الطلب) ولكنه ليس مطلقاً فقد تكون الجملة خبرية هي الأبلغ أو العكس .
السادسة عشرة: بدأت الآية أعلاه(وما يفعلوا من خير) بحرف العطف (الواو) في إشارة إلى تعلقها بما قبلها , ويعود واو الجماعة للمسلمين والمسلمات .
وبلحاظ الآية محل البحث يكون مدخلاً لأمور عظيمة، ومنازل سامية وهي:
الأول: الفوز بفضل الله الذي له ملك السماوات والأرض.
الثاني: نيل مرتبة المغفرة والعفو من عند الله عز وجل فجاءت هذه الآية بتعليق المغفرة على مشيئة الله بقوله تعالى(يغفر لمن يشاء).
ويفيد الجمع بين الآيتين أن المسلمين الذين يعملون الصالحات ينالون المغفرة بفضل الله.
الثالث: الوقاية من العذاب الوارد بقوله(يعذب من يشاء) إذ أن فعل الخير المقرون بالإيمان وقصد القربة حرز من العذاب.
الرابع: أختتمت الآية محل البحث بقوله تعالى(والله غفور رحيم)، والمسلمون الذين يعملون الصالحات تتغشاهم رحمة الله في الدنيا والآخرة.
الخامس: حث المسلمين على السعي، وبذل الوسع في طلب الرزق وفعل الخيرات لأن الله عز وجل له ملك الأرض , قال تعالى[يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ).
السابعة عشرة: جاءت هذه الآية بذكر رحمة الله على نحو التعدد، والعذاب على نحو الإتحاد، أما آية(وما يفعلوا من خير) فجاءت بمضامين وأسباب المغفرة والرحمة من وجوه:
الأول: إرادة المسلمين في الآية.
الثاني: عدم تضييع الصالحات التي يفعلها المسلمون.
الثالث: وصف المسلمين الذين يعملون الصالحات بالمتقين.
الرابع: علم الله عز وجل بما يعمل المسلمون من الصالحات.
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها وجوه:
الأول: أختتمت هذه الآية بقوله تعالى(والله غفور رحيم) وأختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى (والله عليم بالمتقين).
الثاني: ذكرت الآيتان في خاتمتيهما اسم الجلالة.
الثالث: من رحمة الله عز وجل تقريب المسلمين إلى منازل الطاعة، ونيلهم مرتبة التقوى والخشية منه.
الرابع: إن الله عز وجل الغفور الرحيم يحب أن يتقي الناس منه، ويمتثلون لأوامره، ويجتنبون ما نهى عنه وهو من أسرار رزقهم العقل دليلاً وآلة للتفكر، وفاز المسلمون بالتقوى وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الخامس: تقدير الجمع بين الآيتين(والله الغفور الرحيم عليم بالمتقين) وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين، ودعوة للناس للسعي لمراتب التقوى بالإيمان وفعل الخيرات.
السادس: دعوة الناس للتوبة والإنابة إذ أن نعت المسلمين بالمتقين، وإختصاصهم في الآية بعلم الله بهم ترغيب للناس للإقتداء بهم , وإقتفاء أثرهم في الخيرات.
الثامنة عشرة: ذكرت الآية أعلاه المتقين، وجاءت آيات القرآن بالبشارة للمتقين، قال تعالى[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ]( ).
التاسعة عشرة: من رحمة الله عز وجل بالمتقين علمه بهم، وعفوه عنهم، ونصره لهم، قال تعالى[أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ).
العشرون: الله الذي له ملك السموات والأرض يعلم حال المتقين، وكل الأشياء حاضرة عنده، فيعلم سبحانه الموجود والمعدوم وهو من رحمة الله التي تدل عليها خاتمة هذه الآية.
الحادية والعشرون: الله الذي له ملك السموات هو الذي يتفضل على المؤمنين بأمور :
الأول: يرزقهم مرتبة المتقين، وبينها وبين مرتبة المؤمنين عموم وخصوص مطلق .
الثاني: يجعلهم في عز وأمن.
الثالث: يدفع عنهم الضرر والكيد الذي يأتي من الكفار.
الرابع: فوزهم بالأجر والثواب في النشأتين .
الثانية والعشرون: لا تضيع الصالحات التي يفعلها المسلمون، أما الكفار فتكتب عليهم السيئات والذنوب التي يرتكبون.
صلة آية(يؤمنون بالله) ( )، بهذه الآية
وفيها مسائل :
الأولى: الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها وجوه:
الأول: إبتدأت هذه الآية باسم الجلالة، وإبتدأت الآية أعلاه بإيمان المسلمين بالله عز وجل.
الثاني: تقدير الجمع بين الآيتين: يؤمنون بالله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وتقديره: يؤمنون بأن لله ما في السموات وما في الأرض.
الثالث: يؤمن المسلمون بالله على نحو العموم المجموعي فهم كأمة يؤمنون بالله، وعلى نحو العموم الإستغراقي يؤمن كل مسلم ومسلمة بالله عز وجل.
الرابع: من أفراد إيمان المسلمين إقرارهم بأن السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ملك لله عز وجل.
الخامس: دعوة الناس لإتباع المسلمين في إيمانهم وإقرارهم بأن السماوات والأرض ملك لله عز وجل.
السادس: وجود أمة تؤمن بالله واليوم الآخر هو من ملك الله لما في السموات وما في الأرض.
السابع : جاءت الآيتان بصيغة الجملة الخبرية.
الثانية : جاءت هذه الآية بالإخبار عن عائدية ملك السموات والأرض، لله عز وجل، وجاءت هذه الآية بالإخبار عن الإيمان باليوم الآخر، وعالم الجزاء.
ويفيد الجمع بين الآيتين أن اليوم الآخر من ملك الله عز وجل وأنه سبحانه يملك الأمكنة والأزمنة المقدرة وغير المقدرة.
الثالثة : الإقرار بأن السموات والأرض لله موضوع وعون لتثبيت الإيمان في النفوس والمجتمعات والأرض.
الرابعة : ذكرت هذه الآية مغفرة الله لمن يشاء من عباده، وذكرت الآية أعلاه حسن سمت المؤمنين بالله والنبوة وأهليتهم للفوز بالمغفرة لإتصافهم بأمور:
الأول: الإيمان بالله.
الثاني: الإقرار باليوم الآخر.
الثالث: الأمر بالمعروف ومن أهم مصاديقه الدعوة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: النهي عن المنكر.
الخامس: المسارعة في الخيرات.
الخامسة : وصفت الآية أعلاه المؤمنين بأنهم الصالحون، وجاءت الآيات بالبشارة بالمغفرة لهم، وورد في التنزيل حكاية عن سليمان[وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ]( )، مما يدل على عظيم منزلة الصالحين والتي نالها المسلمون.
ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الله يغفر للصالحين.
الصغرى: المؤمنون هم الصالحون.
النتيجة: الله يغفر للمؤمنين.
السادسة: الله الذي له ملك السماوات والأرض يأمر المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهما واجبان على نحو الكفاية.
السابعة: الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر من المؤمنين يفوزون بمغفرة الله.
الثامنة : من يستمع للمسلمين في الأوامر والنواهي يفوز بالمغفرة، فيأتي الثواب للمسلمين أيضاً لأنهم الدعاة إلى الله الذي له ملك السماوات والأرض.
التاسعة : إن الله عز وجل لا يعذب المؤمنين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
العاشرة: دعوة الناس للفوز بالمغفرة والرحمة بالإنصات للمسلمين في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
الحادية عشرة: إن الله الغفور الرحيم هو الذي هدى المسلمين للأمر بالمعروف، ونشر مفاهيم الصلاح.
الثانية عشرة: من يرحمه الله عز وجل ويريد أن يتفضل عليه بالمغفرة يصلحه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالثة عشرة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل على التفقه في الدين ومعرفة أحكام الشريعة والتسليم بأن السموات والأرض ملك لله عز وجل.
الرابعة عشرة: إن الله عز وجل الغفور الرحيم يغفر للذين يؤمنون به سبحانه ويقرون بالعبودية له وهم المسلمون.
الخامسة عشرة: الإيمان باليوم الآخر، وأن الله عز وجل يبعث من في القبور طريق للمغفرة، وسبيل لنزول الرحمة من (عند الله الغفور الرحيم).
السادسة عشرة: من رحمة الله بالمسلمين مسارعتهم وسباقهم في الخيرات وعمل الصالحات، قال تعالى[وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
السابعة عشرة: جاءت هذه الآية في بيان عاقبة الناس، وما ينتظرهم من الجزاء الذي هو على قسمين بينهما تضاد وتناف، فأما المغفرة وأما العذاب مع إنعدام البرزخ والوسط بينهما.
وجاءت آية(يؤمنون بالله) بصفات حميدة يتصف بها المسلمون في أصول وفروع الدين.
ويفيد الجمع بين الآيتين أن المسلمين ممن قال الله عز وجل فيهم(يغفر لمن يشاء).
الثامنة عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين هداية الناس إلى سبل النجاة من العذاب وذلك بالإيمان بالله واليوم الآخر وإتيان الصالحات.
التاسعة عشرة: تغلق الآيتان أبواب الضرر والإعتذار عن الكفار، إذ أن المسلمين يؤدون الواجبات والتكاليف برغبة وشوق ويدل على هذا الشوق مسارعتهم في الخيرات، ومبادرتهم للأمر والنهي في مرضاة الله، وهو من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الناس، وما فيها من أسباب الهداية , قال تعالى[لِكي َلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ]( ).
العشرون: لما ذكرت هذه الآية أن ملك السماوات والأرض لله عز وجل، ذكرت قيام المؤمنين بمناسك الطاعة والخضوع لله عز وجل.
الحادية والعشرون: يجاهد المسلمون من أجل نجاة الناس من العذاب، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] ( ).
الثانية والعشرون: من مصاديق الأمر بالمعروف الدعوة للتوحيد، والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة والعشرون: دعوة أهل الكتاب عموماً للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجتناب إعانة الكفار في محاربتهم له وللمسلمين وفي التنزيل: [إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة] ( ).
الرابعة والعشرون: توكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن بالعناية بأهل الكتاب على نحو الخصوص ودعوتهم لفعل الصالحات بقيد الإيمان بالله وقصد القربة.
الخامسة والعشرون: إن الله عز وجل الذي له ملك السماوات والأرض هو الذي بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الكتاب والناس جميعاً يدعوهم للإسلام والخصال الحميدة.
السادسة والعشرون: جاءت خاتمة هذه الآية بالإخبار عن الإطلاق في مغفرة ورحمة الله، وجاءت آية(يؤمنون بالله) لبيان طرق وكيفية نيل المغفرة , وهو من عمومات قوله تعالى بخصوص القرآن [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ).
السابعة والعشرون: بشارة أهل الكتاب الذين يصدقون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتبعونه بالفوز برحمة الله عز وجل.
الثامنة والعشرون: من رحمة الله عز وجل تفضله بقرن الإيمان باليوم الآخر بالإيمان به سبحانه، ودعوة الناس للإستعداد له والذي يأتي عن طريق التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد تقدم القول(إن الإقرار بالمعاد من الضروريات في شريعة موسى وعيسى عليهما السلام، وبه جاءت التوراة والإنجيل) ( ).
التاسعة والعشرون: في الجمع بين الآيتين ذم وتعريض بكفار قريش والفاسقين من أهل الكتاب، وتحذيرهم من التعدي على المسلمين.
الثلاثون: زجر أهل الكتاب عن نصرة الكفار والمشركين في حربهم على الإسلام، وإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن إعجاز القرآن وما فيه من آيات اللطف بأهل الكتاب الثناء على فريق منهم يؤمنون بالله ويقرون بالمعاد ويعملون الصالحات ويدعون للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي أراد الله عز وجل لها أن تكون الفيصل بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلالة.
الواحدة والثلاثون: الله الذي له ملك السماوات والأرض جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ملازماً للإقرار له بالربوبية.
الثانية والثلاثون: يفيد الجمع بين الآيتين أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدعو أهل الكتاب إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له، والإقرار باليوم الآخر وفعل الصالحات، وقد فاز المسلمون بهذه الخصال سواء الذين إنتقلوا إلى الإسلام من الملل الكتابية أو من غيرها.
الثالثة والثلاثون: إن الله الغفور الرحيم هو الذي يذكّر المسلمين بخصال حميدة عند شطر من أهل الكتاب لمنعهم من إشاعة القتل والتشريد فيهم، ولقبول إسلامهم.
ومن الإعجاز في لغة القرآن البيان وإزاحة اللبس، إذ تبين الآية صفات هذا الشطر على نحو التفصيل وبما يتضمن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي فرع الإيمان بالله , لأن الله عز وجل هو الذي بعثه نبياً رسولاً.
الرابعة والثلاثون: إن الله عز وجل يقرب الناس إلى أبواب المغفرة، ويدفعهم عن أسباب العذاب، ببيان أمور :
الأول: محبوبية فعل الخير .
الثاني: حسن المسارعة في الخيرات .
الثالث: عدم التردد أو الإبطاء في الصالحات.
الخامسة والثلاثون: إن كل فرد من أفراد آية(يؤمنون بالله) دعوة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشاهد على صدق نبوته وهو من عمومات خاتمة هذه الآية(والله غفور رحيم).
السادسة والثلاثون: من الشواهد على أن السماوات والأرض وما فيهما ملك لله عز وجل لا يشاركه فيه أحد وجود أمة تؤمن بالله واليوم الآخر, وتظهر إيمانها في الواقع اليومي بالعبادة والمسارعة في الصالحات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السابعة والثلاثون: جاءت آية(يؤمنون بالله) بصفات حميدة معطوفة على صفات أخرى مثلها وردت في الآية السابقة، وهي:
الأولى:القيام بما فيه مرضاة الله.
الثانية: تلاوة آيات القرآن آناء الليل.
الثالثة: تعاهد السجود والخضوع لله عز وجل.
والصفات الواردة في الآيتين مجتمعة ومتفرقة من رحمة الله عز وجل ,وسبيل لنيل المغفرة في قوله تعالى(يغفر لمن يشاء).
الثامنة والثلاثون: جاءت هذه الآية بالإخبار عن عالم الحساب والجزاء(يغفر لمن يشاء ويعذب لمن يشاء) وذكرت هذه الآية فريقاً من أهل الكتاب يسعون إلى المغفرة والعفو، ويهربون من أسباب وعلة العذاب، وفيه دعوة لعموم أهل الكتاب للإقتداء بالذين أسلموا منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه.
التاسعة والثلاثون: ورد في أسباب نزول الآية أعلاه والتي قبلها(ليسوا سواء) (أنه لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة قالت أحبار اليهود ما آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا شرارنا فأنزل الله (ليسوا سواء) إلى قوله (من الصالحين) عن ابن عباس وقتادة وابن جريج) ( ).
وجاءت هذه الآية لفصل الخطاب وأن المدار على الإعتقاد وعالم الأفعال، فالأشرار هم المعتدون، وأن الصلاح هو الإيمان بالله الذي له ملك السموات والأرض واليوم الآخر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمبادرة إلى الخيرات.
الصلة بين خاتمتي الآيتين، وفيها وجوه:
الأول: أختتمت هذه الآية بقوله تعالى(الله غفور رحيم) وأختتمت آية(يؤمنـــون بالله) بقــوله تعـالى(وأولئك من الصالحين) ومن رحمة الله عز وجل أن جعل المسلمين من الصالحين.
الثاني: تقدير الجمع بين الآيتين(وأولئك من الصالحين والله غفور رحيم).
الثالث : من رحمة الله عز وجل أن جعل المسلمين دعاة إلى البر والصلاح .
الرابع: جاءت خاتمة الآية أعلاه على نحو التبعيض(من الصالحين) مما يدل على وجود أمم سابقة من الصالحين، وهو من رحمة الله عز وجل في كل زمان.
الخامس: بين الصالحين والمؤمنين عموم وخصوص مطلق، فكل صالح هو من المؤمنين, وقد جاءت آيات القرآن بوصف الأنبياء بأنهم من الصالحين كما في قوله تعالى[وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ]( )، مما يدل على عظيم منزلة المسلمين برحمة وفضل من عند الله، ونيلهم رتبة الصلاح، وهو من مصاديق تفضيلهم .
السادس: ولاية الله الغفور الرحيم للمسلمين في دينهم ودولتهم لقوله تعالى[وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ]( ).
السابع: وصف المسلمين بالصالحين شاهد على إتيانهم الصالحات.
الثامن: جعل[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، من الصالحين فيه أمور:
الأول: إنه رحمة متجددة بالناس جميعاً.
الثاني: بعث السكينة في النفوس.
الثالث: بيان الوظائف العبادية، ومنع الجهالة والغرر.
الرابع: الثناء على المؤمنين، وذم الكافرين والمعاندين.
التاسع: إن الله الغفور الرحيم هو الذي يقرب الناس إلى منازل الطاعة بأن يجعل المسلمين من الصالحين، ويبين مصاديق الصلاح والصالحات التي يقومون بها، وهذا البيان من رحمة الله عز وجل بهم وبالناس جميعاً.
العاشر: من رحمة الله عز وجل ترغيب الناس بفعل الصالحات وتحبيب الإيمان إلى نفوسهم، ودعوتهم للإقتداء بالمسلمين لذا جاءت الآية أعلاه بذكر السجايا الحسنة.
الحادي عشر: من رحمة الله عز وجل بالمسلمين أن جعلهم ورثة الأنبياء في الصلاح والتقوى، وهو من عمومات قوله تعالى[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثاني عشر: إستدامة تغشي المسلمين برحمة الله لمصاحبة صفة الصلاح لهم إلى يوم القيامة بلحاظ بقاء هاتين الآيتين منطوقاً وحكماً مادامت السماوات والأرض.
الثالث عشر: صيغة الجمع(أولئك) من رحمة الله عز وجل من وجوه:
الأول: مجيء الآية بصيغة الجمع وإرادة العموم.
الثاني: الثناء على المسلمين باسم الإشارة للبعيد، قال تعالى[وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
الثالث: الآية إنحلالية تنبسط على أجيال المسلمين المتعاقبة لتعاهدهم الإيمان في الأرض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
صلة آية( ليسوا سواء) ( )، وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها وجوه:
الأول: جاءت هذه الآية ببيان أن ملك السماوات والأرض لله وحده، أما الآية أعلاه فيتعلق موضوعها بأهل الكتاب والتباين بينهم.
الثاني: توجيه اللوم والذم للفاسقين من أهل الكتاب الذين يتخلفون عن وظائفهم العقائدية والعبادية.
الثالث: الله الذي له ملك السموات والأرض هو الذي جعل أمة من أهل الكتاب قائمة بالحق لا تزل أقدامهم بالغواية والتعدي الذي عليه الفاسقون.
الثالثة: جاءت هذه الآية بالإخبار عن الحساب والجزاء وأن الناس فيه على قسمين أما أن تدركهم المغفرة أو ينزل بهم العذاب، وجاءت الآية أعلاه مصداقاً لهذا التقسيم بقوله تعالى(ليسوا سواء) لتكون الآية التي قبلها خاصة بالذين ينزل بهم العذاب، وما بعدها خاصة بالمسلمين الذين يرجون رحمة الله وهو الغفور الرحيم.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين دعوة أهل الكتاب إلى التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الله عز وجل الذي له ملك السموات والأرض هو الذي بعثه نبياً.
الخامسة: إن الله الذي ملك السماوات والأرض هو الذي يهدي أمة من أهل الكتاب للإسلام وتلاوة القرآن والخشوع لله عز وجل.
السادسة: ليس كل أهل الكتاب يسعون للمغفرة من عند الله.
السابعة: الله غفور رحيم وهو الذي يرحم المسلمين ببيان حال الكتاب، ويحذرهم من فريق منهم.
الثامنة: إن الله الذي له ملك السماوات والأرض أنزل آياته ليتلوها الناس، وقد أعرض عنها فريق من أهل الكتاب، وقامت أمة منهم بتلاوتها.
التاسعة: جاءت آيات القرآن بوصف أمة من أهل الكتاب بأنها[أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ] ( )، وهم الذين أسلموا منهم وإتبعوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وذكرت أقوال أخرى فيهم وهي:
الأول: النجاشي وأصحابه.
الثاني: قوم لم يعادوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: فريق من أهل الكتاب معتدلون في العمل من غير غلو ولا تقصير.
الرابع: من يقر منهم بأن المسيح عبد الله ولا يدعّي فيه الإلهية، ذكره الطبرسي على نحو الإحتمال( )، وورد في الآية أعلاه ذم لأكثر أهل الكتاب بقوله تعالى[وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ] ( )، والله الذي له ملك السماوات والأرض أحاط بكل شيء علماً، ومن رحمته في المقام أمور:
الأول: الإخبار عن حال أهل الكتاب والتباين بينهم بلحاظ الإيمان وعدمه.
الثاني: حث الناس على أسباب الفوز بالعفو والصلاح ليكونوا من الذين قال الله فيهم (يغفر لمن يشاء).
الثالث: دعوة أهل الكتاب للنجاة من العذاب، وتتجلى تلك النجاة بالتصديق بالقرآن كتاباً نازلاً من عند الله وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
العاشرة: جاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عمومات قوله تعالى(والله غفور رحيم) فهي سبيل العفو والمغفرة ورحمة بالناس جميعاً[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لأهل الكتاب، جاءهم بما بشر به موسى وعيسى عليهما السلام.
الحادية عشرة: إذا كان أهل الكتاب ليسوا سواء، فإن المسلمين سواء في إيمانهم بالله واليوم الآخر وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأداء الفرائض وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثانية عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين أن أهل الكتاب ليسوا سواء فيغفر الله لمن يشاء منهم ويعذب من يشاء.
الثالثة عشرة: الله له ملك السماوات والأرض، ومنه أفراد الزمان والوقت، ويفيد الجمع بين الآيتين الثناء على الذين يذكرون الله ويقرأون القرآن في الليل والنهار.
الرابعة عشرة: الصلة بين خاتمتي الآيتين، وفيها وجوه:
الأول: تقدير الجمع بينهما(وهم يسجدون لله وهو غفور رحيم).
الثاني: لا يصح السجود إلا لله الغفور الرحيم.
الثالث: إن الله عز وجل شاكر للذين يسجدون ويخضعون له وهو غفور رحيم.
الرابع: البشارة بالمغفرة والرحمة للساجدين طاعة لله عز وجل.
الخامس: الإطلاق والسعة في رحمة الله وشمولها لجميع الذين يسجدون له من الأجيال والأمم المتعاقبة من المسلمين.
الخامسة عشرة: الله الذي له ملك السماوات والأرض أنزل آياته كي يتلوها المسلمون ويعملون بأحكامها، ومنها السجود طاعة له.
السادسة عشرة: ورد ذكر السجود(وهم يسجدون) على نحو الإطلاق من غير تقييد وبيان، وفيه وجوه:
الأول: الإشارة إلى التسارع على السجود لله عز وجل.
الثاني: السجود تكليف، وعنوان الخشوع والخضوع ولا يأمر به إلا الله، وغيره تعالى يرضى من الناس، بمسمى الإتباع بالباطل.
الثالث: السجود إمتحان وإختبار وتطامن إلى الأرض طاعة إلى الله عز وجل وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الرابع: جاءت الآية في سياق الثناء على أمة من أهل الكتاب مما يدل على أنهم يسجدون لله عز وجل ولا يغالون بالأنبياء.
الخامس: لقد إختص المسلمون بالسجود لله عز وجل، ووضع الجباه على الأرض أربعاً وثلاثين مرة في اليوم على نحو الوجوب بلحاظ أن في كل ركعة سجدتين، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
صلة آية(ضربت عليهم) ( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: ذكر ضرب الذلة بصيغة المبني للمجهول ولا يقدر على هذا الضرب إلا الله عز وجل الذي له ما في السموات وما في الأرض فمع مجيء الفعل مبنياً للمجهول، فإنه لا تنصرف الأذهان في فاعل ضرب الذلة إلا لله عز وجل، ليتسالم الناس على قانون ثابت هو لا يقدر على ضرب الذلة على الفرد والجماعة والأمة إلا الله عز وجل ، فإن قلت قد يضرب وينزل الذلة الإنسان أو القوم بآخرين كما في قوله تعالى[إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ]( ) , خصوصاً أن في اسم الإشارة أعلاه من التشبيه دلالة على التكرار والتجدد .
والجواب فيه وجوه:
الأول: إن الذل الذي يكون بين الناس مؤقت يزول بأسبابه، كما في الآية أعلاه المقيد بدخول الملوك القرية .
الثاني: جاء الذل أعلاه بخصوص الأعزة من أهل القرية، أما آية[َضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ] فهي مطلقة من جهة المكان والمسكن أينما وجدوا، وتشمل الكفار , وهو إعجاز وتحد متجدد من القرآن إلى يوم القيامة، أي حتى لو كانوا هم أهل الحكم والشأن فإنهم يعيشون ذلة لذا قيل المراد الفقر لأنهم يتفاقرون أبداً وإن كانوا أغنياء.
الثالث: جاءت الآية أعلاه بإستثناء ورفع حال الذل بالعهد من الله والناس.
الرابع: تضمنت هذه الآية قوله تعالى(يعذب من يشاء) وبلحاظ الجمع بين الآيتين يكون عذاب الكفار من جهات:
الأولى: عجز الكفار عن الإجهاز على المسلمين، إذ يجمع الكفار الجيوش وينفقون الأموال الطائلة، ويستعدون أشهراً للحرب، ويواجهون المسلمين الذين ليس عندهم مؤون كافية، ولكن النتيجة خيبة الكفار (فينقلبوا خائبين).
الثانية: الإثم الذي يلحق الكفار بالكلام السيء الذي يسمعونه للمسلمين.
الثالثة: نزول الغضب الإلهي بالكفار.
الرابعة: إحاطة الذلة والهوان بالكفار.
الخامسة: ظهور معاني المسكنة والفقر عليهم.
السادسة: الكفر والجحود بآيات الله، فهذا الكفر وإن كان فعلاً إختياراً إلا أنه نوع عذاب للكفار لأن الألم يصاحبهم مجتمعين ومتفرقين، ويلحقهم الأذى حتى من الصحبة على الكفر والضلالة.
السابعة: آثار قتلهم الأنبياء، وما يلاحقهم من اللعنة بسببه، ولا ينحصر موضوعها بالذين يباشرون القتل بل يشمل أصحابهم على ذات الضلالة والغواية.
الثامنة: إدراك الكفار لحقيقة وهي أن قتلهم للأنبياء تعد وبغير حق، وقد يقال إذا كان الكفار يعلمون أنه ليس حقاً فكيف يقدمون عليه، والجواب من وجوه:
الأول: يأتي القتل إستكباراً وعناداً.
الثاني: لقد جعل الله عز وجل العقل عند الإنسان رسولاً باطنياً ليتساءل هؤلاء الكفار عن إنتفاء السبب لقتل الأنبياء.
الثالث: ينزل البلاء بالكفار لقتلهم الأنبياء، فيكون مادة ومقدمة لتوجيه اللوم الذاتي لأنفسهم لسوء فعلهم.
الرابع: وجود أتباع وأنصار للأنبياء يذكّرون برسالاتهم ومعجزاتهم، وهذا الإتباع في مفهومه إحتجاج على تكذيبهم وقتلهم.
الخامس: مجيء القرآن بهذه الآيات التي تذكر بقتل الكفار للأنبياء بغير حق في وثيقة سماوية تخاطب الناس عموماً إلى يوم القيامة، وهو إعجاز غيري للقرآن بأن تلاحق آياته وتلاوتها أجيال الكفار وتذمهم على إتباع قتلة الأنبياء، وتدعوهم إلى التبرأ منهم في الدنيا قبل الإضطرار لهذا التبرأ في الآخرة، قال تعالى[إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ]( ).
السادس: الأذى من إستحواذ النفس الغضبية والشهوية عليهم، وقيامهم بالتعدي ونشر مفاهيم الظلم والجور.
الثانية: يفيد الجمع بين الآيتين إنذار وتحذير الفاسقين من غضب الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
الثالثة: أينما ذهب وحل الفاسقون والناس جميعاً فإنهم في ملك الله عز وجل لقوله تعالى(أين ما ثقفوا).
الرابعة: تضمنت الآية محل البحث الوعد بالمغفرة والعفو بقوله تعالى(يغفر لم يشاء) وفيه دعوة للكفار للتوبة والفوز بالمغفرة من عند الله.
الخامسة: توبيخ الكفار على جحودهم بآيات الله الذي له ملك السموات والأرض، وكل ما فيهما وما بينهما آية على نحو الإستقلال والإنضمام المتحد والمتعدد أي أن الجزء المكاني أو الزماني آية كالشمس فهي آية من وجوه:
الأول: آية بذاتها وإطلالتها على الأرض كل يوم , وفي التنزيل حكاية عن إبراهيم في إحتجاجه [فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي]( ).
الثاني: آية بإنضمامها للنهار وما تبعثه من الضياء فتتجلى عظمة خلق الشمس بآية ضياء النهار وتضاده مع الليل بسبب إختصاصه بالشمس للإستدلال وفق البرهان الإني من المعلول على العلة أي أن علة ضياء النهار هي الشمس.
الثالث: آية بإنضمامها إلى النهار والقمر والليل والكواكب الأخرى وتداخل الليل والنهار.
الرابع: المنافع العظيمة المترشحة منها.
الخامس: ما يصيب الشمس يوم القيامة وإندكاكها بقدرة الله , قال تعالى[إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ]( )، أي تُلف وتطوى ويذهب ضياؤها ليحدث الله ضياءً غيرها.
ليتجلى التشابه بين الآيات الكونية والآيات القرآنية في كون كل واحدة منها على وجوه:
الأول: انها معجزة بذاتها.
الثاني:معجزة بالإنضمام إلى غيرها من الآيات منطوقاً ومفهوماً.
الثالث: تجلي معجزات أخرى من هذا الإنضمام، والجمع بين كل آيتين، وبين الأكثر من آيتين.
الرابع: ترشح معجزات توليدية من المعجزة القرآنية والكونية.
السادسة: لما جاءت هذه الآية بالوعيد بقوله تعالى(ويعذب من يشاء) ذكرت آية(ضربت عليهم) وجوهاً من العذاب للكافرين والفاسقين وهي:
الأول: ضرب الذلة عليهم.
الثاني: مصاحبة الذلة لهم في أي بلد أو موضع يحلون فيه.
الثالث: ذم الآية لهم بجحودهم بآيات الله.
الرابع: قتلهم الأنبياء بما هم أنبياء جاءوا للتبليغ والإنذار والبشارة.
الخامس: بيان الآية لقبح فعلهم، وقيام الحجة عليهم بقتلهم الأنبياء بغير حق.
السادس: معصيتهم لأوامر الله عز وجل، وإصرارهم على إرتكاب الذنوب، ومخالفة ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع: ظلمهم وتعديهم على المسلمين وثغورهم.
السابعة: حاجتهم إلى العهد والأمان من الناس، وإستجارتهم بغيرهم.
الثامنة: تكرر لفظ(ضربت) في الآية مرتين وعلى البناء للمجهول ونائب الفاعل في الأولى(الذلة) وفي الثانية(المسكنة) وتحتمل النسبة بين الذلة والمسكنة وجوهاً:
الأول: التساوي، وأن الذلة هي نفس المسكنة.
الثاني: نسبة العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين:
الأولى: الذلة أعم من المسكنة.
الثانية: المسكنة أعم من الذلة.
الثالث: العموم والخصوص من وجه فهناك مادة للإلتقاء، وأخرى للإفتراق.
الرابع: التباين والإختلاف بين الذلة والمسكنة.
والأقوى هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني، فتأتيهم أسباب الذلة من الغير، والمسكنة حالة نفسانية تصاحبهم، وتمنعهم من التعدي على المسلمين.
التاسعة: ذكرت الآية أعلاه جحود الكفار بآيات الله، ومنها ما في السماوات وما في الأرض وهي أكثر من أن تحصى، مما يدل على أن تلك الآيات حجة على الناس.
العاشرة: الذي يجحد بآيات السماوات والأرض ومعجزات النبوة تضرب عليه الذلة والمسكنة , قال تعالى[يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ]( ).
الحادية عشرة: لقد إمتلأت السماوات والأرض بآيات ومعجزات كونية حسية وعقلية كثيرة، ليكون تكذيب وقتل الكفار للأنبياء حجة على عموم الكفار، وسبباً لنزول العذاب بهم في قوله تعالى(ويعذب من يشاء).
الثانية عشرة: قيام الحجة على الكفار في نزول الذل بهم في الدنيا، ودخولهم النار في الآخرة لسوء إختيارهم وفعلهم مع توالي الآيات عليهم، ومقابلة الآيات والبراهين بالتكذيب.
الثالثة عشرة: تتضمن الآية أعلاه ضروب المعاصي التي يستحق معها الكفار العذاب وهي:
الأول: الكفر بآيات الله.
الثاني: قتلهم الأنبياء بغير حق.
الثالث: معصية الكفار لله عز وجل.
الرابع: إعتداؤهم وظلمهم للمسلمين والناس.
الرابعة عشرة: جحود الكفار بالنعم، وإستحقاقهم للعذاب، لأن الله سخّر ما في السموات وما في الأرض للناس جميعاً ، ولكن الكفار لا يشكرون النعم العظيمة , قال تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ] ( ).
الخامسة عشرة: إذا كان الكفار يكفرون بآيات الله عز وجل فإن الله بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليظهر المسلمون وإلى يوم القيامة تصديقهم بالآيات، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الصلة بين خاتمتي الآيتين
أختتمت هذه الآية بقوله تعالى(والله غفور رحيم) وأختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى(وكانوا يعتدون) وفيه وجوه:
الأول: دعوة الكفار للتوبة والإنابة.
الثاني: إن الله عز وجل يغفر المعصية والتعدي والظلم , قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا]( ).
الثالث: قيام الحجة على الكفار.
الرابع: من رحمة الله عز وجل بالمسلمين والناس الإخبار عن ضرب الذلة والمسكنة بالكفار.
الخامس: ضرب الذلة والمسكنة على الكفار عون ومدد للمسلمين، ومناسبة لنشر مبادئ التوحيد، وتعظيم شعائر الله.
السادس: جاء قتل الكفار الأنبياء بغير حق فإنتشر أتباع وأنصار النبوة بالحق في عموم الأرض.
السابع: بيان مصاديق رحمة الله عز وجل بالمسلمين في السلامة من القتل، فمع علو ورفعة منزلة الأنبياء وعظيم مقامهم عند الله فإنهم تعرضوا للقتل على أيدي الكفار.
الثامن: من رحمة الله عز وجل بالمسلمين تحذيرهم وإنذارهم من تعدي الكفار، فإذا كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق فإنهم من باب الأولوية يقدمون على قتل المسلم، قال تعالى[خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا]( ).
صلة آية(لن يضروكم) ( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه بصيغة الجملة الإنشائية، ولغة الخطاب للمسلمين، أما الآية محل البحث فوردت بصيغة الجملة الخبرية.
الثانية: الصلة بين بدايتي الآيتين، وفيها وجوه:
الأول: إن الله عز وجل الذي له ملك السموات والأرض، يدفع عن المسلمين الضرر القادم من الكفار.
الثاني: بيان الغفلة والجهالة التي عليها الكفار لأنهم يريدون الإضرار بالمؤمنين في ملك الله.
الثالث: بشارة نزول الملائكة لنصرة المسلمين لأن ما في السماوات ملك لله عز وجل.
الثالثة: إستضعف الكفار المسلمين، وغزوهم في يثرب للإضرار بهم، والإجهاز على الإسلام في أيامه الأولى فجاء النصر من عند الله الذي له ملك السماوات والأرض.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين تحذير الكفار من قتال المسلمين، لأن الله عز وجل ناصرهم وهو الذي له[مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ].
الخامسة: لن يضر الكفار المسلمين[إِلاَّ أَذًى] لأن الله له ملك السماوات والأرض بيده مقاليد أمورها.
السادسة: من مصاديق ملك الله عز وجل(ما في السموات وما في الأرض) أن مكر الكفار بالمسلمين لا يصل منه إلا أذى، فإن قلت لماذا لا يصرف الله عز وجل أذى الكفار من الأصل، ويمنع من وصوله إلى المسلمين، والجواب من وجوه:
الأول: جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء.
الثاني: أذى الكفار مناسبة لإقتناء المسلمين الحسنات.
الثالث: هذا الأذى حجة على الكفار وسبب للحوق الخزي بهم في الدنيا والآخرة.
الرابع: جاءت الآية محل البحث بقوله تعالى(يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) ليكون أذى الكفار هذا سبباً لفوز المسلمين بالمغفرة، وحجة لنزول العذاب بالكفار.
الخامس: فيه شاهد على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] من وجوه:
الأول: دفع الله الضرر الجسيم عن المسلمين.
الثاني: تلقي المسلمين الأذى في جنب الله، ومناسبة للصبر، والفوز بالثواب وفي التنزيل [وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا] ومن مواضيع الصبر في المقام العلم بأن ما في السموات وما في الأرض ملك طلق لله عز وجل، وأن الصبر في مرضاته باب لنيل العفو والمغفرة.
الثالث: عصمة المسلمين من الجزع والفزع والخوف من مكر وكيد الكفار.
السابعة: في صيرورة الضرر الآتي من الكفار أذى قليلاً تحذير للمسلمين من قتال الكفار، وتعديهم على ثغور المسلمين لأن الآية أعلاه تقول(فإن يقاتلوكم).
وهل فيه إستدراج وإنذار للكفار الجواب نعم، فإذا كانت أسباب الإضرار بالمسلمين مجتمعة عندهم، ومع هذه لا يترتب عليها إلا أذى قليلاً فإنه إنذار وزجر لهم عن قتال المسلمين، ودعوة للكف عن المكر بالمسلمين، ومحاولات قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الثامنة: بشارة نصر المسلمين في القتال .
وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: (وإن يقاتلوكم لله ما في السموات وما في الأرض).
الثاني: (لله ما في السماوات وما في الأرض وإن يقاتلوكم) أي لا تحزنوا ولا تخافوا من الكفار وإصرارهم على التعدي على الإسلام والمسلمين، قال تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
الثالث: وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبارلأن[لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( )، فالنصر بيد الله عز وجل وهو ينصر المسلمين ويقيهم شر الكفار، ويصرف ضررهم، لان (لله ما في السموات وما في الأرض).
الرابع: لأن لله ما في السموات والأرض فإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار فيكون ملك الله للسموات والأرض مطلقاً علة تامة لنصر المسلمين.
الخامس: إن الكفار لا ينُصرون لأن لله ما في السماوات وما في الأرض.
السادس: ليعلم الذين يقاتلون المؤمنين (بأن لله ما في السموات وما في الأرض) والنتيجة الحتمية للمعركة أنهم [يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ].
السابع: وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون لأن لله ما في السموات وما في الأرض.
التاسعة: إن الله له ما في السموات وما في الأرض يبشر المسلمين بعجز الكفار عن تحقيق النصر في المعارك التي تجري بين المسلمين والكفار.
العاشرة: من رحمة الله بالكفار في الدنيا حجب النصر عنهم، لأنه سبب لزيادة آثامهم، ومناسبة لتماديهم في المعاصي.
الحادية عشرة: النصر بيد الله وهو الذي يمنع الكفار من بلوغ مراتبه , قال تعالى[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( ).
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها وجوه:
الأول: من رحمة الله عز وجل بالناس حجب النصر عن الكفار.
الثاني: أراد الله عز وجل أن يبقى باب المغفرة مفتوحاً للناس جميعاً فمنع الكفار من الغلبة وإغواء الناس.
الثالث: إن الله عز وجل رحيم بالمسلمين يهيء لهم أسباب ومقدمات أداء الفرائض والعبادات.
صلة آية(كنتم خير أمة) ( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه بصيغة الجملة الإنشائية ولغة الخطاب للمسلمين، وجاءت الآية محل البحث بصيغة الجملة الخبرية.
الثانية: من مصاديق كون المسلمين(خير أمة أخرجت للناس) وبلحاظ الآية محل البحث أمور:
الأول: إقرار المسلمين بأن لله ما في السموات ما في والأرض.
الثاني: تلاوة المسلمين لقوله تعالى لله (ما في السموات والأرض).
الثالث: فوز المسلمين بالمغفرة والرحمة من عند الله.
الرابع: إن الله عز وجل يعذب أعداء (خير أمة أخرجت للناس) ويحجب عنهم النصر، وقد جاء في قوله تعالى[وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ] ( ).
الثالثة: من رحمة الله عز وجل بالمسلمين جعلهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
الرابعة: من رحمة الله عز وجل بالناس كافة جعل المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ ]للأجيال المتعاقبة منهم، تتعاهد مبادئ التوحيد، وتقوم بوظائف الإمامة للناس.
الخامسة: الإنذار والوعيد للكفار من محاربة المسلمين.
السادسة: خير أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر لأنها تعلم أن لله ما في السموات وما في الأرض.
السابعة: لأن المسلمين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إجتباهم الله الذي له ما في السموات والأرض ليكونوا[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
الثامنة: يغفر الله للمسلمين لأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
التاسعة: يعذب الله عز وجل الفاسقين من أهل الكتاب.
العاشرة: ترغيب الناس بالإلتحاق والإنضمام ل[خَيْر أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
الحادية عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين فوز المسلمين بالمغفرة والعفو من عند الله، فورد في هذه الآية قوله تعالى(يغفر لمن يشاء) وذكرت الآية أعلاه أن المسلمين هم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] فلا بد أن ينالوا المغفرة , وهو من عمومات تفضيلهم.
الثانية عشرة: جاءت هذه الآية بقوله تعالى(يعذب من يشاء) ويفيد الجمع بين الآيتين تحذير الكفار مطلقاً من التعدي على المسلمين، وتخويف كفار قريش وإخبار عن نزول العذاب بهم إن هجموا على المدينة المنورة , وفعلاً لما زحفوا في معركة بدر وأحد كانت العاقبة عذاباً حاضراً لهم، إلى جانب الوعيد بالنار، لأن قوله تعالى(يعذب من يشاء) مطلق وشامل للحياة الدنيا والآخرة.
الثالثة عشرة: تضمنت الآية أعلاه الثناء على المسلمين بالوصف الكريم الذي جاء بلغة الخطاب(تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) لتكون مصداقاً عملياً لقوله تعالى(يغفر لمن يشاء) وأن المسلمين تدركهم المغفرة الإلهية.
الرابعة عشرة: قسمت هذه الآية الناس إلى قسمين بلحاظ المغفرة والعذاب، المترشحين العمل وعالم الجزاء، أما الآية أعلاه فقسمت الناس إلى قسمين:
الأول: خاص، وهم المسلمون.
الثاني: عام وهم الناس مطلقاً.
ويتجلى هذا التقسيم بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] وفيه دعوة للناس للإنصات للمسلمين والأخذ منهم لبلوغ مراتب المغفرة، وأسباب النجاة من النار.
ومن البيان وصيغ الوضوح ودفع الإجمال في آيات القرآن أن الآية أعلاه ذكرت خصال المسلمين وأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وفيه وجوه:
الأول: المنع من حسد المسلمين على ما آتاهم الله.
الثاني: دعوة الناس للأخذ والإكتساب من المسلمين.
الثالث: حث المسلمين على التقيد بالخصال التي جعلتهم يرتقون لمرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ] بتعاهد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: ترغيب الناس للإسلام.
الخامسة عشرة: لقد جعل الله عز وجل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، ومنه وجود أمة هي أحسن الأمم، مع ذكر خصالها الحميدة، ومن الآيات أنهم بلغوا تلك المنزلة بلطف من الله بدليل قوله تعالى(أخرجت للناس) ولم تقل الآية(خرجت للناس) أي أن الله عز وجل هو الذي أخرجها، وفيه بشارة بقاء وإستدامة الإسلام بتقريب أن الناس باقون على الأرض إلى يوم القيامة، والمسلمون أُخرجوا لكل الناس بأحقابهم المتعاقبة، وتلك بشارة عظيمة ورحمة للمسلمين والناس جميعاً.
السادسة عشرة:ذكرت الآية أعلاه الخصال الحميدة التي يتصف بها المسلمون وهي:
الأول: تفضل الله عز وجل بإخراجهم دعاة إليه في مشارق ومغارب الأرض بلحاظ الإطلاق في لفظ الناس.
الثاني: أمر المسلمين بالمعروف.
الثالث: نهي المسلمين الناسَ عن المنكر.
الرابع: إيمان المسلمين بالله عز وجل .
وكل خصلة من هذه الخصال سبيل لنيل المغفرة من الله عز وجل، ودعوة للناس للسعي لنيلها، فمن بديع صنع السموات والأرض أن جعل الله عز وجل المسلمين دعاة للخير وأسوة حسنة، وآمرين بالمعروف وناشرين لمفاهيم الصلاح في الأرض.
السابعة عشرة: يؤمن المسلمون بالله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
الثامنة عشرة: أخبرت آية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] بأن الإيمان خير لأهل الكتاب وفي الجمع بين الآيتين بهذا الخصوص لو أمن أهل الكتاب بان الله له ما في السموات وما في الأرض .
وفي هذا الإيمان تنزه وسلامة من نسبة البنوة لله عز وجل، قال تعالى[وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابن اللَّهِ] ( ).
التاسعة عشرة: دعوة أهل الكتاب للإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من عمومات قوله تعالى [وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ].
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: أختتمت آية الآية أعلاه بذم فريقاً من أهل الكتاب ونعتهم بالفاسقين، بينما أختتمت الآية محل البحث بقوله تعالى [وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ].
الثانية: إن الله عز وجل يغفر لمن يتوب من الفاسقين.
الثالثة: ترغيب الكفار والفاسقين بالتوبة والإنابة.
الرابعة: الآيتان من رحمة الله وعمومات قوله تعالى(الرحيم).
الخامسة: طرد اليأس والقنوط عن الناس وجذبهم إلى منازل الإيمان.
العشرون: قيام الحجة على الناس بعذاب الكافرين لوجود أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وهو من عمومات قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الحادية والعشرون: الله الذي له ما في السموات وما في الأرض أبى أن يجعل الأرض من غير أمة تدعو إلى عبادته، وتأمر بفعل الصالحات، وتزجر عن المعاصي، وتكون سبباً لهداية الناس إلى سبل المغفرة، وهو من رحمة الله وعمومات قوله تعالى[وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ].
الثانية والعشرون: دعوة المسلمين للتدبر في معاني قوله تعالى [لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] وما له من الأسرار القدسية خصوصاً وانه جاء في ثناء الله على نفسه.
الثالثة والعشرون: يؤمن المسلمون بعظيم قدرة الله وبديع صنعه لأن السماوات والأرض من خلقه.
الرابعة والعشرون: لقد خلق الله الناس لعبادته في ملكه وأرضه , قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
وأنعم الله عز وجل على المسلمين وجعلهم يتعاهدون العبادة، ويكونون سبباً في إستدامة الحياة في الأرض، وتذكير الناس بلزوم عبادته تعالى، والسعي للمغفرة والعفو، والنجاة من العذاب في الدنيا والآخرة.
الخامسة والعشرون : ليس من حواجز وموانع بين الإنتماء لخير أمة وبين الناس، فكل إنسان يستطيع أن يدخل الإسلام ويصبح من خير أمة، ولا يستغرق الأمر وقتاً يذكر، فحالما ينطق بالشهادتين يكون من خير أمة , وهو من عمومات الرحمة الإلهية في المقام، وإتصاف خير أمة بسهولة الإنتماء لها.
السادسة والعشرون : إخراج المسلمين كخير أمة للناس من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، ولم يرتق المسلمون إلى هذه المنزلة إلا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابعة والعشرون: تتغشى مضامين الآية الكريمة أفراد الزمان الطولية، وصحيح أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إنتقل إلى الرفيق الأعلى في السنة الحادية عشرة للهجرة إلا أنه باق مع أجيالهم في سنته وجهاده ودعوته إلى الله عز وجل.
الثامنة والعشرون: إبتدأت الآية بالخطاب التشريفي والإكرام للمسلمين (كنتم خير أمة) وهو من رحمة الله بهم.
التاسعة والعشرون: من رحمة الله بالمسلمين والناس وراثة المسلمين للأنبياء، وهذه الوراثة من خصائص (خير أمة).
الثلاثون: مصاحبة صفة(خير أمة) للمسلمين في أيام الحياة الدنيا والآخرة.
الحادية والثلاثون: تعاهد المسلمين لكلمة التوحيد في عموم أرجاء الأرض.
الثانية والثلاثون: حفظ القرآن وآياته، ومنعه من التحريف والتغيير والتبديل.
الثالثة والثلاثون: أداء المسلمين الفرائض والواجبات العبادية.
الرابعة والثلاثون: إتصاف المسلمين بأداء العبادات كما كان يؤديها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير زيادة أو نقيصة، من جهة الكيفية والوقت وغيرها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي)( )ليتعاهد المسلمون الصلاة وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وفعلاً إلى يوم القيامة وهو من مصاديق[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( ).
الخامسة والعشرون: لقد أنعم الله عز وجل على الناس نعماً عامة وهو من رحمة الله، وجاء إخراج المسلمين لهم لتعاهد هذه النعم بالشكر لله عز وجل.
السادسة والعشرون: ورد في حديث الإسراء مسائل تدل على رفعة درجة المسلمين بفضل الله منها:
الأولى: في جواب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل عنه وعن أمته قال: [ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ]( )، فقال جل ذكره لهم الجنة المغفرة عليّ إن فعلوا ذلك.
الثانية: وعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنه وعن أمته بالإيمان بالله والأنبياء وعدم التفريق بينهم، فمن خصائص(خير أمة) مسائل:
الأولى: إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يجيب عنها .
الثانية: تعاهد المسلمين الإيمان في الأرض.
الثالثة: إنفراد المسلمين بالإقرار بالأنبياء على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي والبدلي وفي الحديث القدسي(سبقت رحمتي لعبادي الذين آمنوا برسلي) .
الرابعة: جاءت إجابة ووعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن المسلمين في السماء السابعة ليلة الإسراء.
الخامسة: إجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن كل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة , ووفاء أجيال المسلمين بالعهد.
الثالثة: تفضل الله عز وجل بالثناء على المسلمين لما ورد في حديث الإسراء إذ قال الله عز وجل:[ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ] ( ).
فقال جل ذكره لهم الجنة والمغفرة على أن فعلوا ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وآله: أما إذا فعلت ذلك بنا، فغفرانك ربنا وإليك المصير، يعني المرجع في الآخرة، قال: فأجابه الله عز وجل قد فعلت ذلك بك وبأمتك.
ثم قال عز وجل: أما إذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيها وقد عرضتها على الأمم فأبوا أن يقبلوها وقبلتها أمتك حق علي أن أرفعها عن أمتك وقال: ” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت – من خير – وعليها ما اكتسبت” من شر ( ).
الرابعة: سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المزيد له ولأمته كما ورد في التنزيل[رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا] ( )، قال الله تعالى: لست أواخذ أمتك بالنسيان أو الخطأ لكرامتك عليّ.
الخامسة: كانت الأمم السابقة ينزل بهم العذاب إذا نسوا بعد أن يذّكروا، وفي حديث الإسراء(وقد رفعت ذلك عن أمتك لكرامتك عليّ).
السادسة: سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التخفيف عن أمته: اللهم إذا أعطيتني فزدني فقال الله له سل[رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا] ( )، يعني بالإصر الشدائد التي كانت على من كان قبلنا فأجابه الله إلى ذلك.
وتفضل الله عز وجل بالتخفيف عن المسلمين إذ رفع عنهم الأصار التي كانت على الأمم السابقة، وبالإسناد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال لحبر من أحبار اليهود : إن الله عز وجل قال لرسول الله (صلى الله عليه و آله ) ليلة المعراج : لقد رفعت عن امتك الآصار التي كانت على الأمم السالفة و ذلك أني جعلت على الأمم أن لا أقبل فعلا إلا في بقاع الأرض التي اخترتها لهم و إن بعدت وقد جعلت الأرض لك و لامتك طهورا و مسجدا، فهذه من الآصار قد رفعتها عن أمتك( ).
السابعة: إستغراق أطراف النهار لصلاة المسلمين وإتساع أوقاتها فصلاة الظهر مثلاً يستر وقتها إلى ما قبل الغروب, ومن خصائص خير أمة أن صلاتهم تتغشى أوقات وأطراف النهار ليكون من فلسفة ومصاديق قوله صلى الله عليه وآله وسلم: الصلاة عمود الدين) وفيه أمور:
الأول: بيان قانون ثابت وهو أن الصلاة عمل وكسب.
الثاني: تزاحم الصلاة أعمال الإنسان الأخرى في اليوم والليلة لبيان حقيقة وهو أن الدار الآخرة لها نصيب من ساعاته، فلا غرابة أن تكون الصلاة مفروضة على المكلفين على نحو الحصر والتعيين.
الثالث: حضور ذكر الله وتلاوة القرآن في أوقات النهار وأطراف الليل.
الرابع: تعاهد صلاة الجماعة لإستحبابها المؤكد، وما فيها من الثواب العظيم، وهي من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] وشاهد على رحمة الله عز وجل لهم وللناس، من وجوه:
الأول: إستدامة وتوارث التقيد بالأوامر الإلهية وإتيان الفرائض.
الثاني: تنمية ملكة الإيمان، وتثبيتها في النفوس والمجتمعات.
الثالث: حفظ وتعاهد الأخوة الإيمانية، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الرابع: إتقان المسلمين لأفعال الصلاة، أركاناً، وواجبات، ومستحبات، وهذا الإتقان من رحمة الله بالمسلمين.
صلة بداية آية(كنتم خير أمة) بخاتمة هذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: من رحمة الله عز وجل في المقام وجوه:
الأول: ورود الآية أعلاه بلفظ(كنتم).
الثاني: الله رحيم بالمسلمين إذ جعلهم في علمه وعنده(خير أمة).
الثالث: غلق باب المنافسة في موارد التفضيل، وفوز المسلمين به إلى يوم القيامة ليكون تفضيل بني إسرائيل في زمانهم كما في قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]، مقدمة وطريقاً لتفضيل المسلمين الدائم وإنحصار نيل مرتبة(خير أمة) بهم من الناس.
الرابع: من رحمة الله عز وجل بالناس جعل أمة من بينهم تكون خير الأمم.
الخامس: لابد من وجود أمة تكون أسوة للأمم يقتدي بها الناس جماعات وأفراداً.
السادس: صلاة الجماعة مناسبة لفوز المسلمين بالمغفرة والعفو الإلهي، يشمل الثواب وأسباب المغفرة في صلاة الجماعة أفراداً:
الأول: إمام الجماعة.
الثاني: المؤذن والمنادي للصلاة.
الثالث: المصلون جميعاً، سواء كانوا في الصفوف الأولى أو غيرها.
الرابع: الذين يساعدون في أداء الصلاة ويهيؤون مقدماتها.
الخامس: صاحب الموضع الذي تقام فيه الصلاة، والذي قام ببناء المسجد حياً كان أو ميتاً.
السادس: أداء المسلمين والمسلمات الصلاة في أوقات نشاط وحركة وبعيدة عن أسباب الغفلة وورد في حديث الإسراء(وكانت الامم السالفة صلاتها مفروضة عليها في ظلم الليل وأنصاف النهار، وهي من الشدايد التي كانت عليهم فرفعتها عن امتك وفرضت عليهم صلاتهم في أطراف الليل والنهار في أوقات نشاطهم. وكانت الامم السالفة قد فرضت عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتا، وهي الاصار التي كانت عليهم، فرفعتها عن امتك وجعلتها خسما في خسمة أوقات، وهي احدى وخمسون ركعة، وجعلت لهم أجر خمسين صلاة).
السابع: ترغيب الناس بدخول الإسلام، وأداء صلاة الجماعة وما تنفرد به من معاني الخشوع والخضوع، وهو من عمومات قوله تعالى (أخرجت للناس).
الثامن: من رحمة الله عز وجل(بخير أمة) التخفيف في الصلاة من جهة عدد الفرائض، وعدد الركعات في كل صلاة وإتساع أوقاتها، والبعث على أدائها جماعة .
التاسع: أداء المسلمين لعدد من الركعات أقل من تلك التي كانت مفروضة على الأمم السالفة، وفوزهم بذات الثواب الذي كان للأمم السالفة في صلاتهم المتعددة.
العاشر: مضاعفة الحسنات للمسلمين على الفعل المتحد , قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( )، وفي حديث الإسراء(وكانت الأمم السالفة إذا نوى أحدهم حسنة ثم لم يعملها لم تكتب له، وإن عملها كتبت له حسنة، وأن أمتك إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، وأن عملها كتبت له عشر، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك، وفيه حث للناس لدخول الإسلام والفوز بالكثير والمتعدد من الحسنات على الفعل الصالح.
الحادي عشر: من رحمة الله(بخير أمة) العفو والمغفرة عنهم إذا همّوا بالسيئة ولم يفعلوها، وفي خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الإسراء(وكانت الأمم السابقة إذا همّ أحدهم بسيئة ثم لم يعملها لم تكتب عليه، وأن عملها كتبت عليه سيئة، وإن إمتك إذا همّ أحدهم بسيئة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، وهذه من الآصار التي كانت عليهم فرفعت ذلك عن أمتك).
الثاني عشر: ستر الله عز وجل لذنوب المسلمين، وترغيبهم بالإٍسغفار والتوبة، وفي حديث الإسراء(وكانت الأمم السالفة اذا اذنبوا كتبت ذنوبهم على ابوابهم وجعلت توبتهم من الذنوب أن حَرمتُ عليهم بعد التوبة احب الطعام اليهم) ( ).
الثالث عشر: ليس بين المسلمين ومحو الذنب إلا الإستغفار، والتوبة النصوح، وتلك رحمة خصّ الله عز وجل بها[ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
الرابع عشر: قرب التوبة من المسلمين وتعقبها للإستغفار والندم ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهاد المسلمين في سبيل الله، وهو من فضل الله عز وجل على[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وتتجلى آيات رحمة الله للمسلمين في المقام والتباين بينهم وبين الأمم السالفة .
الخامس عشر: لقد رحم الله عز وجل خير أمة بالتخفيف عنهم، وعد تكليفهم بما لا يطاق من الأفعال والعبادات وهو من النعم العامة على الأمم المتعاقبة إلا أن المسلمين إتصفوا بتلقي التكاليف بشوق وقبول ورغبة، ويتجلى مثلاً في الغبطة والسعادة والرضا الذي يغمرهم عند حلول شهر رمضان وما فيه من فريضة الصيام، والإمتناع عن المقطرات وحينما تلا النبي في الإسراء[رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا] قال تبارك إسمه قد فعلت ذلك بك وبأمتك وقد رفعت عنهم عظيم بلايا الأمم، وذلك حكمي في جميع الأمم أنا لا أكلف خلقاً فوق طاقتهم).
السادس عشر: مصاحبة النصر للمسلمين، وغلبتهم على الكافرين، وهذه الغلبة من خصائص(خير أمة) ليكون في نصرهم تثبيت لأقدامهم على الإيمان، ودعوة للناس لدخول الإسلام، وفي هزيمة الكفار زجر لهم عن الكفر ومحاربة الإسلام.
وفي التنزيل(وأعف عنا وأغفر لنا وأرحمنا أنت مولانا) ولما تلاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الإسراء , قال الله تعالى: قد فعلت ذلك بتائبي أمتك، فتلا النبي(فأنصرنا على القوم الظالمين) قال الله جل إسمه: إن أمتك في الأرض كالشامة البيضاء في الثور الأسود، هم القادرون، وهم القاهرون، يَستخدمون ولا يُستخدمون لكرامتك عليّ، وحق عليّ أن أظهر دينك على الأديان حتى لا يبقى في شرق الأرض وغربها دين إلا دينك أو يؤدون إلى دينك الجزية.
إن دفع الملل الأخرى الجزية للمسلمين من عمومات الصلة بين أول آية(كنتم خير أمة) وبين خاتمة هذه الآية(والله غفور رحيم) .
إن إسراء النبي محمد صلى الله عليه وآل وسلم آية عظمى لم ولن تشهد السموات والأرض مثلها، (قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: ما وفد إلى الله تعالى أحد أكرم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما سأل لأمته هذه الخصال) ( ).
الثامن عشر: ورد في حديث الإسراء ما يدل على إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية وإتصافهم بالتقوى، ونيلهم الدرجات العلى وهو من رحمة الله عز وجل بخير أمة أخرجت للناس) ورحمة بالناس جميعاً من جهات:
الأولى: دوام الحياة الدنيا.
الثانية: توالي النعم في الدنيا.
الثالثة: إستدامة فتح باب المغفرة.
الرابعة: تجدد الدعوة إلى الدخول في رحمة الله بالتوبة والنطق بالشهادتين، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الإسراء، فكلمني ربي سبحانه وبحمده تعالى: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا . فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي أو في نحري ، فعلمت ما في السموات وما في الأرض ثم قال : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : نعم . في الكفارات ، والمكث في المسجد بعد الصلوات ، والمشي على الأقدام إلى الجماعات ، واسباغ الوضوء في المكاره ، ومن فعل ذلك عاش بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه ، وقل يا محمد إذا صليت : اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون . قال : والدرجات، افشاء السلام، واطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام)( ).
التاسعة عشر: لقد عرج بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء وبلغ مقاماً لم يصله نبي ولا ملك مقرب، وهو أمر تترشح عنه مصاديق من الرحمة والتفضيل للمسلمين على الأمم الأخرى، وتبقى الدروس المستنبطة منه موعظة ومناراً ل[خَيْر أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]، وعن الإمام الصادق عليه السلام: لما عرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:إنتهى به جبرئيل إلى مكان فخلى عنه تعالى له جبرئيل: تخليني على هذا الحال، فقال: إمض فو الله لقد وطيت مكاناً ما وطأه بشر، وما مشى فيه بشر، فكان قاب قوسين أو أدنى.
العشرون: من رحمة الله عز وجل بالمسلمين جعلهم يرتقون إلى مقامات الأمر بالمعروف ومنها مقدمات الأمر وما يرتكز عليه ومنها:
الأول: الإحاطة بمصاديق المعروف.
الثاني: معرفة كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: حسن التصرف في الإرتقاء في مراتب الأمر والنهي، والإبتداء بالأخف والأنسب.
الرابع: الإتفاق في سبيل الله عندما يتوقف الأمر والنهي عليه.
الحادية والعشرون: تجدد المصاديق والشواهد على كون المسلمين خير أمة بكل زمان إلى يوم القيامة , ومن وجوه الرحمة الإلهية بالمسلمين في المقام أمور:
الأول: إستنباط العلوم والأحكام والسنن من القرآن في كل جيل.
الثاني: إحاطة القرآن بلامحدود من الوقائع والعلوم.
الثالث: حفظ القرآن وتعاهد آياته.
الرابع: تلاوة المسلمين لآيات القرآن وفي كل يوم، وكل بلد من بلدان الأرض، وجاءت الثورة المعلوماتية، والإعلامية لتكون موضوعية لتلك التلاوة، ويتحقق وصولها لأصقاع الأرض المختلفة.
الثانية والعشرون: تعاهد وإدخار المسلمين لأعظم كنز من التنزيل والذي يشمل القرآن ومطلق الوحي، وبين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق، فكل قرآن هو وحي وليس العكس، إذ تدخل السنة النبوية والحديث القدسي في الوحي ولا يدخلان في القرآن.
الثالثة والعشرون: من خصائص(خير أمة) التصديق بالسنة النبوية، والعمل بمضامينها سواء كانت القولية أو الفعلية، وهذا التصديق من رحمة الله بالمسلمين والناس لأن الله عز وجل هو الذي قرّب المسلمين إلى هذا التصديق بالقرآن والمعجزات التي أجراها على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجلى معاني الصدق والحق في السنة والعمل بها.
الرابعة والعشرون: لقد أخرج الله عز وجل المسلمين للناس بحسن عملهم بالسنة وإتباعهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه جذب للناس للإسلام , قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( )، وهو من رحمة الله عز وجل بالناس، وسبيل لجني المسلمين الصالحات وإكتناز الحسنات.
الخامسة والعشرون: في الأمر بالمعروف أربعة أطراف:
الأول: الآمر بالمعروف.
الثاني: لغة الأمر التي تتقوم بصيغة(إفعل).
الثالث: الموضوع المأمور به.
الرابع: الذي يتلقى الأمر ويمكن تسميته بالمأمور.
وتتجلى رحمة الله تعالى على المسلمين بهذه المعاني الأربعة من جهات:
الأولى: المسلمون هم الآمرون بالمعروف والآمر خير من المأمور.
الثانية: بذل المسلمين الوسع ليتبعهم الناس في أبواب المعروف والصلاح.
الثالثة: تجلي معاني الجمع في أبواب الأمر بالمعروف من وجوه:
الأول: لغة الجمع في قوله تعالى(تأمرون بالمعروف).
الثاني: إتحاد لفظ(المعروف) فهو وإن كان اسم جنس إلا أن صيغة الإتحاد تدل في بعض مفاهيمها على تعاون المسلمين على المصداق الواحد من المعروف لتحصيله وتحقيقه، كما لو إشترك عدد من المسلمين والمسلمات في هداية شخص للإسلام، أو في النهي عن المنكر وزجر شخص عن المعصية، وهو من رحمة الله , وعمومات قوله تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الثالث: تدل الآية في مفهومها على إمتناع المسلمين عن التعاون على الباطل، ولا يرضون بشيوع الفاحشة، قال تعالى[وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ).
السادسة والعشرون: وصف المسلمين بأنهم(خير أمة) إشارة إلى عدم وجود برزخ بينهم وبين رحمة الله عز وجل، فينتفع المسلمون من إسم(الرحيم) أكثر من غيرهم، وهم واسطة لإنتفاع الناس منه، وهو من مصاديق قوله تعالى(أخرجت للناس)ليكون من مصاديق الرحمة الإلهية في المقام أمور:
الأول: خطاب المسلمين بصيغة التشريف والإكرام (كنتم).
الثاني: إرادة المعنى الأعم للفعل الماضي الناقص(كان) وشموله لأفراد الزمان : الماضي والحاضر والمستقبل.
الثالث: لغة العموم والشمول في الخطاب التي تتغشى المسلمين جميعاً من جهات:
الأولى: إرادة العموم في لغة الخطاب.
الثانية: تفضيل المسلمين كأمة من الأمم الأخرى.
الثالثة: لغة الجمع في المفضول من الأمم، فليس من أمة وملة لا تدخل في عمومات الذين أخرج لهم الله خير الأمم وهم المسلمون.
الرابعة: إرادة الناس جميعاً في الأمم والشعوب التي أخرج الله لهم المسلمين.
الخامسة: بقاء أجيال المسلمين على نهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من الأحكام والعبادات من عند الله.
السادسة: إتصاف المسلمين بصيغة الإسلام، وثباتهم على مبادئه في خروجهم للناس، في حال الحرب والسلم، والرخاء والشدة، ففي كل زمان يكون المسلمون(خير أمة) ودعاة إلى الله عز وجل يذكرون الناس بوظائفهم العبادية.
ولما تفضل الله عز وجل بخلق الناس، وجعل العبادة هي علة خلقهم كما في قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، فإنه سبحانه تفضل ببعث الأنبياء والرسل، وأنزل الكتب السماوية وجعل العقل عند الإنسان رسولاً باطنياً.
ثم تفضل فأخرج المسلمين للناس جميعاً، فهذا الإخراج من رحمته سبحانه، وهو من أسرار ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ جعل الله أتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورثة الأنبياء وأخرجهم للناس جميعاً ليكونوا حاضرين في كل زمان ومكان وعلى نحو الكثرة والتعدد، ولما قام الكفار بتكذيب وقتل الأنبياء كما يدل عليه قوله تعالى[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ] ( ).
بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وحفظه من الناس ودفع عنه القتل والإغتيال وجعله يبلغ رسالته كاملة, قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
ثم تفضل سبحانه وجعل المسلمين أمة عظيمة لا يسعها مصر أو موضع من الأرض فكانوا(خير أمة أخرجت للناس) وهو من رحمة عظيمة بالناس إذ يأتيهم الدعاة رحمة القرآن وضياء النبوة المحمدية يدعونه إلى الإسلام.
السابعة والعشرون: من رحمة الله بالمسلمين نزول القرآن، وكل آية من آياته رحمة قائمة بذاتها تجعل المسلمين أفضل الأمم، وتجذبهم إلى منازل التفضيل , وتمنعهم من مغادرتها أو التفريط بها كنعمة عظيمة لم تنلها أمة غيرهم من الأولين والآخرين.
الثامنة والعشرون: يتعذر على المسلمين بلوغ مرتبة(خير أمة) وما فيها من النعم لولا رحمة الله الذي له ما في السموات والأرض.
التاسعة والعشرون: من صفات الإنسان أنه كائن محتاج، تصاحبه الحاجة في خلقه وآنات حياته كلها، وفي الآخرة، ومن حاجة الناس المستديمة أمور:
الأول: وجود أمة هي(خير أمة).
الثاني: نالت هذه الأمة التفضيل والمرتبة السامية بفضل ولطف من عند الله عز وجل .
الثالث: خروج هذه الأمة للناس، وعدم إنغلاقها على نفسها.
الرابع: قيام أفضل الأمم بالأمر بالمعروف والدعوة إلى الله.
الخامس: تولي خير أمة الزجر عن المعاصي والسيئات.
السادس: إنحصار صفة(خير أمة) بالمسلمين دون غيرهم.
الثلاثون : أهلية المسلمين للإمامة بين الناس، وهذه الإمامة لا تتعارض مع الحاجة الذاتية , فالمسلمون والناس محتاجون لرحمة الله، ومن رحمته تعالى جعل المسلمين أئمة يدعون إلى الهدى والفلاح، ويجعلون الناس يدركون تلك الحاجة وقضائها، ولزوم مقابلتها بالشكر والثناء على الله عز وجل الغفور الرحيم .
الحادية والثلاثون: من رحمة الله بالناس ملازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخير أمة تتصف بالتفضيل المتصل والمستمر على الناس جميعاً.
الثانية والثلاثون: قيام الحجة على الناس في خصائص(خير أمة) وإفتقار الأمم الأخرى لما عندها من الخصال الحميدة.
الثالثة والثلاثون: من رحمة الله عز وجل بخير أمة أن جعل الله عز وجل القرآن أخر الكتب السماوية، وهو من مصاديق إخراج المسلمين للناس، فإذا سأل سائل، بماذا أخرج المسلمون على الناس الجواب أنهم خرجوا بالقرآن وأحكامه وإعجاز آياته الذاتي والغيري.
الرابعة والثلاثون : من رحمة الله ترشح الخير والصلاح عن(خير أمة) وخروجها للناس بكل ما هو حسن شرعاً وعقلاً، وما فيه النفع العام والخاص.
الخامسة والثلاثون : مجيء آية(كنتم خير أمة) بصيغة الماضي في(كنتم)وفيه رحمة من عند الله , وهي على وجوه منها:
الأول: ثبوت وإستدامة هذه الصفة بفضل الله.
الثاني: إكرام المسلمين، والثناء عليهم.
الثالث: إدراك الأمم السالفة لهذا القانون والرحمة الإلهية، وقيام الأنبياء وأتباعهم بالبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورة جهادهم مقدمة لخروج(خير أمة) على الناس، وفيه مواساة للأنبياء والصالحين بأن سعيهم وجهادهم لم يذهب سدى، وأن تكذيب الأنبياء لايدوم في الأرض، بل تأتي أمة من بعدهم لم ترهم ولا معجزاتهم، ومع هذا تقوم بتصديقهم، لنزول القرآن بالشهادة على نبوتهم , وهو من رحمة الله بالمسلمين والأمم السابقة من المؤمنين، وفيه دلالة على عموم لفظ(الناس) الوارد في الآية، وأن المسلمين أخرجوا للناس من الأمم التي سبقتهم أيضاً من وجوه:
الأول: مواساة المؤمنين من الأمم السابقة بعلمهم بمجيء أمة من بعدهم تكون (خير أمة).
الثاني: تحدي المسلمين من الملل السابقة للكفار والمعاندين بأن الله عز وجل هو الذي إجتباهم وتفضل عليهم بمنزلة خير أمة.
الثالث: إنتفاع المسلمين من جهاد المؤمنين في الأزمنة السالفة، وإتخاذ حياتهم وما لا قوه من العناد والأذى موعظة وعبرة، قال تعالى[) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
الرابع: تلقي الناس لخير أمة وما يأمرون به من المعروف بالقبول والرضا، وهو من رحمة الله، إذ أن قوله تعالى(أخرجت للناس) لا ينحصر بالجهاد وجذب الناس للإسلام، وإمامتهم في دروب الخير والصلاح، بل يشمل تلقي شطر من الناس للمسلمين بالنصرة والإعانة والمدد، لأن الأنبياء السابقين بشروا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخبروا عن لزوم إتباعه والإنتماء إلى أمته والجهاد تحت لوائه.
السادسة والثلاثون: من رحمة الله جعل خير أمة طائعة لله ورسوله، قال تعالى[أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ]( )، وتتوارث أجيال المسلمين طاعة الله ورسوله، وفيه دعوة للناس للإقتداء بهم .
وأستدل في علم الأصول بالآية أعلاه على كون الأصل في الواجبات عبادية وليس توصلية، أي لا بد فيها من قصد القربة وأشكل عليه بأن الطاعة أعم من العبادة وأن الآية أعلاه جاءت في مقام التوحيد وحث المسلمين على حسن الإمتثال، وطرد الشرك الظاهر والخفي، وأن الأصل في الواجب أنه توصلي وهو ما يتحقق بإتيانه مطلقاً، ويسقط بمجرد وجوده وإن كان بسبب خارجي من غير الداعي الإلهي وقصد القربة.
السابعة والثلاثون: من رحمة الله عز وجل بالمسلمين والناس الثناء على المسلمين، ووصفهم بأنهم(خير أمة) مع أنهم عباد لله عز وجل ولم يقوموا إلا بوظائف العبودية، ولكن الله عز وجل رحيم يشكر من أطاعه وصدق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويتجلى هذا الشكر بلغة الخطاب ونعت المسلمين بأنهم(خير أمة) والشهادة لهم بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
الثامنة والثلاثون: من رحمة الله عز وجل أنه أخبر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأن أمته[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين.
التاسعة والثلاثون: تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآية أعلاه على المسلمين وإخباره عن الله بأنهم (خير أمة أخرجت للناس)، وفيه جزاء حاضر، وبشارة الثواب العظيم.
الأربعون : كما أن نيل مرتبة(خير أمة) رحمة عظيمة للمسلمين، وللناس أيضاً، فإن البقاء في هذه المرتبة وتعاهد المسلمين لها رحمة من الله، ولا يتم هذا البقاء إلا بمدد من الله عز وجل.
الحادية والأربعون: تدل الآية أعلاه على أن من في السماوات والأرض يعلمون أن المسلمين(خير أمة) وفيه رد على الملائكة الذين إحتجوا على جعل آدم عليه السلام خليفة في الأرض[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، ولعل جعل المسلمين(خير أمة) من علم الله عز وجل الذي لم يكن الملائكة يعلمون به، لينشغلوا بالتسبيح والثناء على الله على عظيم قدرته، وسعة رحمته بالناس بجعل المسلمين(خير أمة) يمنعون من طغيان الفساد، ويحولون دون سفك الدماء بغير حق، ومنه قيامهم بالقصاص حتى فيما بينهم لعمومات قوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الثانية والأربعون: المسلمون(خير أمة) في علم الله عز وجل يوم خلق السماوات والأرض وقبل خلقهما، وهو من عمومات رحمة الله بالمسلمين والناس، فلم يخلق الله آدم عليه السلام إلا والله يعلم أن المسلمين هم(خير أمة) وأنها تخرج للناس تدعوهم للهدى وتزجرهم عن المعاصي، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) ( ).
الثالثة والأربعون: من رحمة عز وجل مجيء الآية أعلاه بالنص والتبيين الذي يطرد الترديد والإجمال، فلا يحتمل تخلف المسلمين عن منزلة(خير أمة) في بعض الأزمنة وتؤكد بقاءهم في مرتبة(خير أمة) إلى يوم القيامة من جهات:
الأولى: تحلي المسلمين بأوصاف حميدة ثابتة كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثانية: تعاهد المسلمين لمنزلة(خير أمة).
الثالثة: حاجة الناس للمسلمين في كل زمان.
الرابعة: توارث المسلمين لمبادئ الإسلام، وأحكام الشريعة الإسلامية.
الخامسة: بقاء باب الجهاد مفتوحاً.
السادسة: تجدد معاني الإيمان بالأمر بالمعروف، ودفع الكدورات بالنهي عن المنكر.
السابعة: الأمر بالمعروف إصلاح للذات، وباعث على الأمر بالصلاح، والتنزه عن التباين بين القول والفعل.
الثامنة: تثبيت مفاهيم التقوى والإستقامة في المجتمعات، وتعاهد تعظيم شعائر الله.
التاسعة : منع طغيان الفساد، وأفكار الضلالة والفجور
الرابعة والأربعون: لقد خلق الله عز وجل الجنة للمتقين، والنار للكافرين، ومن رحمته تعالى بلحاظ بداية آية (خير أمة) وجوه:
الأول: الإخبار عن وجود أمة من أهل الجنة، وهي(خير أمة).
الثاني: إخراج الله عز وجل المسلمين دعاة ومجاهدين في سبيله سبب لدخولهم الجنة.
الثالث: ترغيب الناس بدخول الإسلام، والسعي إلى الجنة.
الرابع: تجيب المعروف إلى النفوس، إكتناز الحسنات بالأمر بالمعروف.
الخامس: الإبتعاد عن المنكر والسيئات، بالنهي المستمر عنه، فمن خصائص(خير أمة) تعاهدها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادس: إيمان المسلمين بالله عز وجل، وإبتعادهم عن الشرك والضلالة قال تعالى[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ] ( )،وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من العمل الصالح الجواب نعم، وهو مقدمة للعمل الصالح، ليكون ثوابه توليدياً يترشح من أمور:
الأول : ذات الأمر والنهي .
الثاني : الآثار المترتبة عليهما.
الثالث : الإستجابة لهما سواء جاء الأمر والنهي متحدين أو متعددين، وكان الأثر متحداً أو متعدداً ومتكرراً، فقد يصدر الأمر من أحد أفراد(خير أمة) ولكن أثره يكون عند الجماعة من الناس، فيمتثل له كل من:
الأول: الذي يتلقى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: من يبلغه مضمون الأمر والنهي.
الثالث: الذي يحاكي الآمر والناهي.
الرابع: الذي يتبع المستجيب للأمر والنهي.
الخامسة والأربعون: لقد بعث الله الأنبياء وأنزل الكتب السماوية، ثم جعل المسلمين يقومون بما يلي:
الأول: تعاهد التنزيل، وتلاوة آيات القرآن[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا] ( ).
الثاني: وراثة الأنبياء.
الثالث: التقيد بالفرائض والواجبات إلى يوم القيامة.
الرابع: دعوة الناس للإسلام.
الخامس: محاربة الضلالة وفضح الفاسقين.
السادسة والأربعون: من رحمة الله عز وجل بالمسلمين والناس عدم لحوق النسخ بشريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينما جاء النسخ على الشرائع السابقة وسلامة الإسلام كتاباً ومبادئ وأحكاماً من النسخ وطرو التبديل والتغيير.
السابعة والأربعون: من رحمة الله عز وجل إبتداء الآية أعلاه بحقيقة بسيطة خالية من الترديد واللبس، إذ بدأت بقانون ثابت في الإرادة التكوينية لا يقبل النسخ وهو أن المسلمين (خير أمة) .
وأراد الله عز وجل به للمسلمين أن يتعاهدوا الأخوة الإيمانية فيما بينهم، ويتمسكوا بمبادئ الإسلام، ويتقيدوا بالقرآن , قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( ).
الثامنة والأربعون: من رحمة الله عز وجل بالناس إنتظارهم لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإدراكهم لما فيها من الصلاح والإصلاح فقد جاء اليهود من بني قريظة والنضير وبني قينقاع من الشام وسكنوا يثرب وما حولها بإنتظار خروج نبي آخر الزمان والذي تكون أمته(خير أمة) ولما بعثه الله عز وجل من العرب كفروا به وأخذوا يكيدون له، نعم دخل فريق منهم الإسلام لتلك البشارات التي وردت في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية السابقة وللمعجزات التي جاء بها.
التاسعة والأربعون: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختبار، ومن معاني الرحمة في المقام صيرورة المسلمين(خير أمة) وخروجهم للناس، ليكونوا واقية لأنفسهم ولغيرهم من الإفتتان بالدنيا وزخرفها، وسبباً مباركاً لجذب الناس إلى منازل المغفرة والصلاح، وكأن خير أمة تتصارع وتتزاحم مع الحياة الدنيا في جذب الناس .
فمن مصاديق الرحمة في قوله تعالى(أخرجت للناس) بذل المسلمين الوسع لهداية الناس ودفع الغواية عنهم، ونصحهم بعدم اللهث وراء زينتها.
الخمسون : من رحمة الله عز وجل بالمسلمين أنه لم يحعلهم ينتظرون ثناء وشهادة الناس لهم بأنهم(خير أمة) بل تفضل سبحانه وأخبر عن كونهم(خير أمة) وأن هذه الصفة، على وجوه:
الأول: أنها سابقة لوجود المسلمين.
الثاني: مصاحبة للمسلمين مادامت السماوات والأرض.
الثالث: متأخرة عن الحياة الدنيا، إذ تنتقل معهم إلى الآخرة، وهذا الإنتقال من خصائص الشهادة القرآنية فيفوز المسلمون برحمة الله عز وجل بالنشأتين، ويكون خروجهم رحمة للناس جميعاً في الدين وحجة ووبالاً على الذين يعرضون عن الدعوة إلى الحق والهدى.
الحادية والخمسون: من رحمة الله بالمسلمين والناس جميعاً أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدخل في الخطاب في هذه الآية فقوله تعالى(كنتم خير أمة) يكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد وإمام الأمة.
الثانية والخمسون: إجتماع مصاديق الرحمة على الناس، وتعددها وكثرتها، وكل فرد منها آية في فضل الله عز وجل وتتجلى بخروج المسلمين للناس، وهم واسطة هذه المصاديق من الرحمة وهي:
الأول: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ).
الثاني: نزول القرآن رحمة وسبيل نجاة في النشأتين، قال تعالى[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث : وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المسلمين.
الثالثة والخمسون: من مصاديق رحمة الله بالمسلمين عدم إتساع الفرقة، أو ترسيخ الشقاق بينهم، ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث وقوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، أن المسلمين أمة عظيمة متآخية، لا تتفكك أوصالها، ولا تنشطر إلى أمم متعددة.
فتعاهد المسلمين للإتحاد في(الأمة) لفظاً وواقعاً من الشواهد على أنهم(خير أمة) إذ أن الأمم والشعوب والقبائل تنشطر مع مرور الأيام وتكاثر الأعداد والأمصار والقيادات والبيوتات ونحوها، ولكن المسلمين كلما يزدادون عدداً وأمصاراً يزدادون إتحاداً لأن القرآن ولواء نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم جامع لهم، ومانع من تشتتهم وتفرقهم، وهو من مصاديق قوله تعالى(أخرجت للناس) لما فيه من البعث على دخول الإسلام، وطلب المنعة والعز فيه لأنهما يترشحان إنطباقاً وقهراً عن الوحدة والتآخي.
فإن قلت إن المسلمين مذاهب شتى ومنهم من يكّفر بعضهم مع أنهم يلتقون في النطق بالشهادتين الذي تعصم به الدماء، وتحل المناكح، والجواب إن هذا التكفير قليل ومحصور ومستحدث ولا إعتبار له عند الغالب من المسلمين وطوائفهم، وهو إلى زوال فلا يبقى إلا الذي يترشح عن آيات القرآن ومبادئ الإسلام والأحاديث النبوية.
ومن معاني(خير أمة) في المقام أن المسلمين يتفقون على صحة تلك الأحاديث التي تدل على وحدتهم ولزوم نبذ الفرقة والإبتعاد عن السنن التي تضمن وحدتهم
الرابعة والخمسون: من رحمة الله عز وجل بالمسلمين إكرام كل مسلم ومسلمة على نحو الإنفراد والإستقلال، وتقدير الخطاب المفرد في الآية: كنت من خير أمة أخرجت للناس) ليكون المسلم والمسلمة داعيين إلى الله عز وجل.
ولما جاء قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( )، جاءت آية(كنتم خير أمة) لبيان العز الذي عليه المسلمون وهو رحمة بهم، ومع أن عموم الناس من غير المسلمين محرومون من هذا العز إلا أنهم ينتفعون من العز الذي يتغشى المسلمين من وجوه:
الأول: المنع من التعدي والظلم.
الثاني: بعث الإستقرار في المجتمعات.
الثالث: تجدد الدعوة إلى الله في كل زمان.
الرابع: بيان الحسن الذاتي والغيري للإسلام، وتجلي معاني العز الذي عليه المسلمون.
الخامس: توكيد مصداق لقوله تعالى(كنتم خير أمة) في الواقع اليومي للناس.
ويمكن تأسيس قانون في المقام وهو لكل آية قرآنية مصاديق في الواقع العملي يدركها الناس أو شطر منهم، وهو من رحمة الله عز وجل بالمسلمين والناس، وشاهد متجدد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضيله على الأنبياء السابقين، وهذا المصداق على وجوه:
الأول: ما يتعلق بشطر من الآية القرآنية.
الثاني: صحة ومناسبة الحكم الذي تتضمنه الآية القرآنية.
الثالث: توكيد الآية القرآنية على نحو العموم المجموعي.
الرابع: الإعجاز في الصلة بين كل آيتين.
الخامس: بيان حقيقة وهي أن الآية القرآنية غضة طرية متجددة.
السادس: تعاهد الآية القرآنية ألفاظاً وحكماً، والمنع من طرو التحريف على الآية القرآنية.
الرابعة والخمسون: من رحمة الله عز وجل إخبار آية(خير أمة) عن أهل الكتاب وأن فريقاً منهم مؤمنون، وأكثرهم فاسقون، وفيه لهم للصلاح، وزجر عن الخروج عن الدين، وبيان لحقيقة وهي أن المسلمين(خير أمة) من وجوه:
الأول: محاربة المسلمين للفسوق والفجور.
الثاني: عدم طرو التغيير على سنخية خير أمة، فلم يغلب فيها الفسوق.
الثالث: بيان حال أهل الكتاب، وهم أتباع الأنبياء، وصيرورة الفسوق والمعصية الصفة الغالبة على كثير منهم، ليكون هذا البيان السماوي , وتلاوة المسلمين له زجراً عن الفسوق وتحذيراً من الفاسقين، وشاهداً على حاجة الناس للمسلمين بصفتهم(خير أمة).
الخامسة والخمسون: دعوة أهل الكتاب للإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونبذ العناد والمعاصي، ليكون هذا الإيمان وسيلة الفوز بالمغفرة فقد جاء في خاتمة الآية محل البحث اسم الله عز وجل(الغفور) ويفيد الإطلاق والعموم وعدم حجب أحد من الناس عن بلوغ هذه المرتبة السامية، والسعادة الدائمة إلا أن يحجب نفسه عنها بإختياره .
السادسة والخمسون: من رحمة الله عز وجل بأهل الكتاب نعت هذه الآية فريق منهم بأنهم(مؤمنون) , وفيه مسائل:
الأولى: إنه شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله.
الثاني: نعت فريق من أهل الكتاب بأنهم(مؤمنون) من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، ودليل على أن رحمة الله عز وجل تأتي على وجوه:
الأول: تنزل الرحمة مباشرة من عند الله إلى العباد على نحو العموم المجموعي للأمة والملة والجيل من الناس وأهل المصر والقبيلة والجنس والقومية ونحوهم ودفع الضرر والآفات عنهم.
الثاني: الرحمة الشخصية، والتوفيق ونزول الفضل الإلهي عليه، ودفع البلاء عن الشخص الواحد، من غير ان تتعارض هذه النعم مع مايأتيه من النعم كفرد من الجماعة والأمة.
الثالث: الرحمة التي بواسطة الأنبياء والرسل والأئمة، وأسناها وأعظمها ما جاء بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: الرحمة الإلهية للناس جميعاً، وهي على جهتين:
الأول: ما تأتي للناس بعرض واحد، كما في بعثة الأنبياء ونزول الماء من السماء، وإخراج الأرض لكنوزها، قال تعالى[وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا] ( ).
الثاني: ما يكون لفريق من الناس ولكن الناس عموماً ينتفعون منه، ليكون الإنتفاع منه من الكلي المشكك كما في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ). فيكون الإنتفاع من رحمة الله في هذا الشطر من الآية على وجوه:
الوجه الأول: إنتفاع المسلمين , وهو على جهات:
الأولى: لغة الخطاب التشريفي في الآية من رحمة الله.
الثانية: نعت المسلمين بأنهم أمة وفيه وعد من عند الله عز وجل ببقائهم أمة واحدة تتصف بالتفضيل وصفات الصلاح والخير، وهو من رحمة الله إذ تفضل عليهم بالنعم المتعددة، فلم تقف نعمه تعالى عند بقائهم أمة واحدة وكل نعمة هي رحمة بالمسلمين مجتمعين، وبكل مسلم ومسلمة على نحو الإستقلال والإنفراد.
الثالثة: الجامع المشترك بين المسلمين عموماً، هو التفضيل والترجيح على الأمم الأخرى.
الرابعة: كل مسلم ومسلمة أخرج للناس، وتقدير صيغة المفرد(وكنت من خير أمة أُخرجت للناس ).
الخامسة: توارث المسلمين لنعمة(خير أمة).
السادسة: إتصاف المسلمين بالخير والصلاح.
السابعة: إتصال وإستمرار تفضيل المسلمين.
الثامنة: مجيء هذا التفضيل بالحق ومصاديق الخير على نحو العموم المجموعي والإستغراقي.
التاسعة: نيل المسلمين لمنزلة(الخروج للناس)ولم تصل أمة من الأمم إلى هذه المنزلة، لذا إبتدأت الآية أعلاه بالفعل الماضي(كنتم) للدلالة على تخلف الأمم والملل السابقة عنها، أما الأمم اللاحقة فتدل على عجزها عن بلوغها أمور:
الأول: ذات لفظ(كنتم) من جهات:
الأولى: المراد أفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل.
الثاني: مجيء لفظ كان بمعنى(صار).
الثالث: إرادة الإستدامة والإتصال من لفظ(كان) قال تعالى[كَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ).
الرابع: فضل الله عز وجل بالكتابة في اللوح المحفوظ بأن المسلمين(خير أمة).
الوجه الثاني: إنتفاع الناس من كون المسلمين(خير أمة) وهو على جهات:
الأولى: المسلمون أسوة حسنة.
الثانية: قيام الحجة على الناس بوجود أمة هي(خير أمة).
الثالثة: إمكان دخول كل إنسان لخير أمة، وحفظ مستقبل أولاده وأحفاده وأن نزلوا لتبعيتهم له وتوارثهم الإسلام .
الرابعة: منع الناس عن المعاصي والظلم، بقيام(خير أمة) بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذات سيرة المسلمين دعوة للصلاح.
الخامسة:(خير أمة) رحمة مزجاة متدلية للناس جميعاً، تدخل معالمها ومفاهيمها وسننها إلى منتدياتهم وبيوتهم، وتنفذ إلى قلوبهم لترغيبهم بالتوبة والإنابة.
السادسة: تعاهد المؤمنين من أهل الكتاب لمنازلهم في الإيمان، وإعلانهم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخبارهم عن البشارات التي جاءت بنبوته في الكتب السماوية السابقة.
هل يعلم المسلمون الأوائل حين دخلوا الإسلام أنهم(خير أمة) فيه وجوه:
الأول: إنهم يعلمون به قبل دخولهم الإسلام.
الثاني: علموا به بعد دخولهم الإسلام.
الثالث: نالوا تلك المنزلة وعلموا بمقاماتهم بعد الإنتصار في معركة أحد.
الرابع: جاء العلم به بالسنة القولية، والأحدايث النبوية السابقة لنزول هذه الآية.
الخامس: علم المسلمون نيلهم هذه المرتبة الرفيعة عند نزول هذه الآية الكريمة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وبعضها في طول بعض , ليكون نزول هذه الآية عيداً للمسلمين والإنسانية جمعاء، وحتى على فرض وجود دليل يدل على تحقق أحد الوجوه المتقدمة أعلاه وأن المسلمين علموا بهذه المرتبة قبل نزولها، فإن الآية توثيق سماوي وتحقيق لبلوغ المسلمين هذه المرتبة، وبرزخ دون الشك والظن بخلافه، لتبقى آية(خير أمة) وأوان وموضوع نزولها عيداً متجدداً , ورحمة متصلة للمسلمين والناس , ودعوة للناس للتوبة والإنابة , وهو من عمومات خاتمة الآية محل البحث (والله غفور رحيم).
السابعة والخمسون: لما أخبر الله عز وجل سبحانه عن علة خلقه للناس، وأنها عبادته وإنقيادهم لأوامره بقوله تعالى [مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، وتقيدهم بنواهيه تفضل وأخرج للناس أمة تتصف بالصلاح , وفيه مسائل:
الأولى: تعاهد(خير أمة) لعلة خلق الناس، ليكون هذا التعاهد مصداقاً عملياً متجدداً لعبادة الناس لله، ولو على نحو الموجبة الجزئية أي تحصيل عبادة شطر من الناس لله عز وجل، وهذا الشطر هو الأفضل والأحسن.
الثانية: وجود أمم سابقة تعبد الله عز وجل، ويصاحبها التطلع لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخروج المسلمين للناس، فمن معاني ومضامين البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت في الكتب السماوية السابقة للقرآن ما يلحق بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم من خروج المسلمين للناس في أجيالهم المتعاقبة إلى يوم القيامة، وهو من رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً، وعمومات قوله تعالى(والله غفور رحيم).
الثامنة والخمسون: من رحمة الله عز وجل بالمسلمين والناس أن المسلمين يؤدون أشق التكاليف العبادية في تأريخ الملل السماوية بشوق ورغبة، وهذه التكاليف متعددة في ذاتها.
التاسعة والخمسون: تتبادل الأمم المعارف والعلوم، وتتبع بعضها بعضاً ومن خصائص(خير أمة) أنها لا تطيع غيرها، والآخرون مدعون أشخاصاً وجماعات إلى طاعتها وإتباعها والإنصات لها، ومن أفراده الإنصات لآيات القرآن لتكون التلاوة رحمة مترشحة عن الرحمة الإلهية بجعل المسلمين(خير أمة) وشاهداً على أنهم يخرجون للناس بالقرآن وتلاوته لجذبهم للإيمان، وهدايتهم لسبله.
الستون : يشمل الخطاب (كنتم خير أمة) نساء المسلمين بعرض واحد مع الرجال منهم، إذ ورد لفظ التذكير للتغليب وجاء قوله تعالى (يغفر لمن يشاء) بشارة المغفرة للمسلمات، وحثاً لهن للإجتهاد في طاعة الله، وترغيب الناس بالتوبة والإنابة والصلاح، والمساهمة في بناء أسرة تتوارث مفاهيم التوبة والإستغفار.
الحادية والستون: الجمع بين الآيتين توكيد لسلامة مبادئ الإسلام، وعظيم نفعها في إعداد أمة صالحة من النساء تستطيع بناء مجتمعات تتصف بالصلاح والتقوى، وقادرة على أن تكون ظهيراً للمجاهدين في سوح القتال، وحفظ الأموال والأولاد عند قيامهم بالمرابطة، وهو من عمومات قوله تعالى(لله ما في السموات وما في الأرض).
الثانية والستون: من خصائص(خير أمة) الإنتماء للإسلام والإقرار بالعبودية لله عز وجل، وهو لا يتعارض مع الإنتساب للأوطان والبلدان لأن(لله ما في السموات وما في الأرض) نعم هذا الإطلاق في ملك الله عز وجل حجة في الدعوة إلى الله عز وجل والولاء لعقيدة التوحيد، وطاعة الله ورسوله.
البشارة في الجمع بين الآيتين
تتضمن الآيتان متحدتين ومتفرقتين البشارة من وجوه:
الأول: توكيد كون المسلمين(خير أمة) لأن ما في السموات وما في الأرض ملك لله عز وجل وهو سبحانه يعلم حال الأمم.
الثاني: لقد جعل الله عز وجل ملكه محتاجاً إليه كلاً وأجزاءً، ومن مصاديق الحاجة التي أنعم الله عز وجل على الناس بقضائها هي وجود(خير أمة) تكون مصاحبة لأفراد الزمان وأجيال الناس في مشارق الأرض ومغاربها.
الثالث: إستدامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأرض، وهو عنوان الصلاح، ووجود أمة تتقيد بأحكامه في أفعالها وسننها، وتدعو إليه، فحتى على فرض أن المأمور بالمعروف لا يعمل به، والمنهي عن المنكر لا ينزجر عنه، فإن الآمر والناهي متقيد بهما وأن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حية ومتجددة بين الناس.
الرابع: المدد الإلهي لإستدامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الله عز وجل له ملك السموات والأرض، وهو القادر على تسخير ما في الكون للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
الخامس: بعث السكينة في قلوب المسلمين والمسلمات على سلامة دينهم ووراثة أبنائهم لهم في الإيمان وأداء العبادات، وقد يظن فريق منهم أن مفاهيم الفسوق والفجور تنتشر في الأرض، وأنها قد تتسع ، ويحل البلاء ومصاديق قوله تعالى(ويعذب من يشاء) فتأتي آية(خير أمة) لتبعث البشارة في نفوسهم جميعاً لأن إستدامة الأمر بالمعروف عنوان على بقاء الصلاح في الأرض.
السادس: من مصاديق البشارة مجيء الآية أعلاه خطاباً بالمسلمين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي، ولم تنحصر ألفاظ الخطاب فيها بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان هذا الحصر يتضمن في دلالته إلحاق المسلمين في موضوع الخطاب، ومن أسرار العموم في الخطاب تجدده مع كل جيل من المسلمين، ليكون نوع تكليف عقائدي وأخلاقي لهم جميعاً.
وينقسم الواجب إلى قسمين:
الأول: الواجب العيني: وهو الذي يجب على كل مكلف على نحو التعيين، ولا يسقط عنه بفعل غيره، مثل الصلاة اليومية والصيام والحج، ولا يضر في إعتبار الحج من الواجب العيني جواز النيابة فيه عن العاجز والذي لا يقدر على أداء الفريضة لأنه أمر خاص جاء بسبب طرو عارض ويزول بزواله، أي لو أرسل العاجز نائباً عنه، ثم تجددت عنده القدرة على الحج مع الإستطاعة فعليه الأداء بنفسه لعمومات الخطاب التكليفي العيني في قوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ] ( ).
الثاني: الواجب الكفائي: وهو الذي يتوجه فيه الخطاب بوجوب الأداء إلى كل المكلفين ولكن يكتفى بإتيانه من بعضهم متحداً كان أو متعدداً، فيسقط بأدائه عن الآخرين أي يجب على الجميع بفرض الكفاية.
الثالث: أهلية مبادئ وأحكام الإسلام في زمان العولمة وما بعده للأحوال المتباينة.
الثالثة والستون: الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، جعل(خير أمة)تنشئ المساجد لتكون صروحاً قائمة بذكر الله، وتقوم هذه الأمة بعمارتها بالصلاة والذكر والتسبيح، وتظهر فيها أسمى معاني الخشوع والخضوع لله عز وجل بالسجود والتطامن عند أداء الصلاة ومطلقاً، وتعمر الأرض بالإعلام للصلاة , والذي يتضمن النداء بالتوحيد والشهادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة من عند الله الذي شريك له، وتتجدد الصلاة فيها خمس مرات في اليوم على نحو الجماعة والإنفراد، ومن يصلي بمفرده يبقى في شوق للجماعة وأسى لحرمانه منها، وإلتفات وحرص على القادم منها لما فيها من النفع والثواب العظيم.
وكل صلاة دعوة إلى الفوز بالمغفرة الواردة في قوله تعالى(يغفر لمن يشاء) وحجة على الناس في لزوم التوبة والإنابة، وتجاهد(خير أمة) في دعوة الناس للإنتفاع الأمثل من قوله تعالى.
صلة آية (ألن يكفيكم) بهذه الآية
وفيها وجوه:
الأول: تدل الصلة بين قوله تعالى(لله ما في السموات)وبين قوله تعالى(ألن يكفيكم) على أمور:
الأول: كفاية الله عز وجل للمؤمنين.
الثاني: الجمع بين الآيتين من عمومات قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الثالث: جاء قوله تعالى(ألن يكفيكم) بلغة القطع التي تدل عليها أداة الإستفهام الهمزة وما فيها من معاني التوكيد والتقرير .
وتحتمل هذه المنافع بلحاظ أفرادها الطولية وجوهاً:
الأول: الإختصاص بذات معركة أحد لحين إنتهائها.
الثاني: المعارك الدفاعية التي يشترك بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في معركة الخندق وحنين.
الثالث: عامة المغازي والمعارك التي إشترك بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقاد فيها جيوش المسلمين للدفاع عن الإسلام، والفتح، ودفع ضرر الكفار وهو من عمومات قوله تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
الرابع: معارك الصحابة وأيام الخلافة الراشدة.
الخامس: عموم المعارك التي يخوضها المسلمون وإلى يوم القيامة.
السادس: إرادة المعنى الأعم الشامل للمعارك وغيرها وحالات الحرب والسلم.
والصحيح هو الخامس والسادس، ويدل عليه مجيء الآية بصيغة المضارع ومعاني الإستقبال في(ألن).
لتكون هذه الآية بشارة دائمة ومتجددة، فإن قلت إن لغة الخطاب(ألن يكفيكم) يدل على إرادة المؤمنين يوم أحد على نحو التعيين، فالجواب نعم، ولكن مضامين الآية القرآنية أعم من جهة الخطاب خصوصاً في باب البشارة والإنذار، والوعد والوعيد، فتأتي البشارة لقوم أو بلحاظ واقعة ولكنها أعم في دلالاتها ومنافعها، وتتجلى عمومات الكفاية بوحدة الموضوع في تنقيح المناط، ونصر الله عز وجل للمؤمنين في حال الذلة والضعف، لأنه سبحانه له ما في السموات وما في الأرض , لتجتمع أمور في قوة ومنعة المسلمين منها:
الأول: البشارة بالنصر في معركة مخصوصة.
الثاني: تحقيق النصر على الكفار.
الثالث: مصاحبة البشارة للمسلمين.
الرابع: الوعد في هذه الآية بالمغفرة عن المسلمين.
وهذه الأمور مجتمعة ومتفرقة من الشواهد على ملك السموات والأرض لله عز وجل .
ويداهم الخوف والحزن المقاتلين في سوح المعارك ويدركون الحاجة إلى الناصر وكثرة السواد.
وقد كان المسلمون هم القلة في معارك الإسلام الأولى فجاءت آية البشارة لتكون ظهيراً لهم، وسلاحاً مصاحباً لهم إلى يوم القيامة وهي معجزة يتحدون بها الكفار.
الصلة بين آية(ولله ترجع الأمور) ( ) وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: إتحاد ألفاظ بدايتي الآيتين بقوله تعالى(ولله ما في السموات وما في الأرض) وفيه وجوه:
الأول: توكيد الإخبار القرآني عن ملك الله للسموات والأرض.
الثاني: دعوة المسلمين والناس إلى التدبر في أسرار وعظمة الآيات الكونية اللامتناهية.
الثالث: بيان صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل.
الرابع: تحدي الكفار والجاحدين.
الخامس: التذكير بوجوب عبادة الله عز وجل.
الثانية: مع إتحاد ألفاظ بدايتي الآيتين فإن الخاتمتين جاءتا مختلفتين، وهو من الشواهد على السعة وتعدد العلوم في الآية القرآنية متحدة ومتفرقة، فكأن بين الآيتين عموماً وخصوصاً من وجه، فمادة الإلتقاء بدايتا الآيتين، ومادة الإفتراق أواخر الآيتين.
الثالثة: من مصاديق قوله تعالى(إلى الله ترجع الأمور) أنه سبحانه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
الرابعة: طرد الغفلة عن الناس، لأن عواقب الأمور بيد الله عز وجل.
الخامسة: دعوة الناس للإستعداد للحساب لرجوع الأمور كلها إلى الله عز وجل.
السادسة: لقد جاء القرآن بالبشارات والإنذارات، ومنها في المقام:
الأول والثاني: كل من الآيتين على نحو الإستقلال.
الثالث: الجمع بين الآيتين.
السابعة: الصلة بين خاتمتي الآيتين، وفيها وجوه:
الأول: تقدير الجمع بينهما: وإلى الله الغفور الرحيم ترجع الأمور).
الثاني: من رحمة الله بالناس أنه جعل الأمور كلها ترجع إليه.
الثالث: رجوع الأمور إلى الله سبيل للعفو والمغفرة.
الرابع: من الشواهد على أن الله غفور رحيم أنه يرجع الأمور كلها له سبحانه.
الخامس: بعث السكينة في نفوس المسلمين لأن الأمور ترجع إلى الله الغفور الرحيم , ومن معاني اسم الغفور أن الأمور كلها ترجع إلى الله، فلا أحد غيره يغفر الذنوب والآثام.
السابعة : من مصاديق رحمة الله بالناس جميعاً، عائدية الأمور كلها له سبحانه.
الثامنة: رجوع الأمور إلى الله توكيد لقوله تعالى(يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء).
التاسعة: الأوامر جمع أمر، ويأتي بمعان متعددة منها: 1-الحادثة.
2-الغرض. 3-الفعل.
4-الفعل العظيم والعجيب كما في قوله تعالى[أَتَى أَمْرُ اللَّهِ]( ).
5- الشأن. 6- الشيء.7-الحال.
8-الشغل. 9-الطلب.
ومنهم من أوصل معاني الأمر إلى أربعة وعشرين معنى منها التهديد والإمتحان والإختبار والتعجيز والإستهزاء بإعتبار أنها دواع لإيقاع المقاصد، ويجمع الأمر المراد منه الطلب على (الأوامر) وبلحاظ الآية تحتمل وجوهاً:
الأول: دخول الأوامر ضمن الأمور الواردة في الآية الكريمة بقوله تعالى(إلى الله ترجع الأمور).
الثاني: عدم دخول الأوامر في المقصود من الأمور الواردة في الآية.
الثالث: دخول شطر من الأوامر دون الجميع.
والصحيح هو الأول، فإن الأوامر ترجع إلى الله وإن كانت بين الناس من العالي إل الداني أو من المساوي، وفي الطلب الوجودي والندبي، وفي الخير والشر، كما تلحق بالأوامر في المقام النواهي و رجوعها إلى الله من وجوه:
الأول: الأثر المترتب على تلك الأوامر.
الثاني: النوايا منها.
الثالث: الثواب أو الإثم الذي يكون عليها.
الرابع: الجزاء الذي يكون محل تلك الأوامر من الثواب إن كانت في مرضاة الله، والعقاب إن كانت في معصية الله.
الخامس: التخفيف عن الناس في تحقيق مصاديق أوامر الخير.
السادس: البرزخ والموانع التي يجعلها الله عز وجل في طريق أوامر الشر والسوء، وفي يوسف عليه السلام وكيد امرأة العزيز ورد قوله تعالى[وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( ).
العاشرة: بيان حقيقة وهي أن أعمال الناس لن تذهب سدىً بل تكون في موازين الجزاء من عند الله الذي أحاط بكل شيء علماً لأن له ما في السماوات وما في الأرض، وأينما يكون الإنسان يأتي به الله عز وجل قال تعالى[أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى]( ).
الحادية عشرة: إن كل ما في السموات وما في الأرض لله عز وجل وهو في ملكه وراجع إليه فيما بعد، فالموت ليس أمراً عدمياً بل هو أمر وجودي، وكذا عالم الأفعال فهي وإن كانت مقرونة بأوانها وتلبّس المبدأ في بالحال كما في باب المشتق من علم الأصول إلا أنها حاضرة بذاتها وجزائها عند الله عز وجل، ومدونة من قبل الملائكة في سجلات لا تقبل التلف أو التحريف وهي نفسها تتضمن توثيق تحريف الفاسقين للكتب السماوية السابقة، وفيه ثناء على المسلمين لتعاهدهم القرآن وكلماته وآياته ومضامينها القدسية ومنها هاتان الآيتان.
الثانية عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين أن قوله تعالى(وإلى الله ترجع الأمور) أعم من أن ينحصر بعواقب الأعمال، وخواتيم الأشياء، فيشمل إبتداء الأمور وسنخية الوقائع، وتفاصيل الحوادث، وهو المستقرأ من قوله تعالى(ولله ما في السموات والأرض) وتتفرع منه مسائل:
الأولى: تقدم الوعد بالمغفرة على زمان الفعل.
الثانية: التحذير من إرتكاب السيئات، فلا يفاجئ الإنسان يوم القيامة بالعقاب الأليم، فمن بديع صنع الإنسان وعمومات قوله تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ) إدراكه لعواقب الأمور وتلقيه للبشارات والإنذارات .
الثالثة: عدم إنغلاق باب المغفرة والتوبة عن الناس لأن الله عز وجل هو(الغفور الرحيم).
الثالثة عشرة: إن المغفرة والعذاب أمران بيد الله لأن الأفعال كلها ترجع إلى الله، وتكون حاضرة عنده.
الرابعة عشرة: من فضل الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً أن جعل الأمور ترجع إليه سبحانه.
الخامسة عشرة: الصلة بين خاتمتي الآيتين , وفيها وجوه:
الأول: مجيء اسم الجلالة في كل من خاتمتي الآيتين.
الثاني: ترجع الأمور إلى الله الغفور الرحيم.
الثالث: بعث السكينة في قلوب المسلمين بعودة الأمور جميعاً لله سبحانه.
الرابع: دعوة الناس للتوبة والإنابة.
الخامس: منع اليأس والقنوط من الدبيب إلى النفوس.
السادس: الحث على الإستغفار.
السادسة عشرة: إستحضار الناس لحقيقة رجوع الأمور كلها لله عز وجل في نها العبادات والمعاملات والأحكام.
السابعة عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين نشر مفاهيم الصلاح في المجتمعات، وتهذيب النفوس.
الثامنة عشرة: مع إلتقاء بدايتي الآيتين في الألفاظ فإن المعنى متعدد، وقد يختلف في بعض وجوهه ومصاديقه فيمكن النظر إلى صلة آية(وإلى الله ترجع الأمور) مع مضامين الآية محل البحث، فإن السماوات والأرض تعود لله عز وجل في خلقها وإستدامتها وما سخره الله عز وجل للناس فيها، وعواقب الأمور وعالم الحساب، ومنه كيفية إنتفاع موتوظيف الإنسان لما فيها من النعم في إكتناز الصالحات.
صلة آية(تلك آيات الله) ( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأول: كل آية في السماوات والأرض هي من بديع صنع الله ومن آياته وملكه المطلق.
الثانية: أخبرت هذه الآية عن ملك الله للسموات والأرض، وجاءت الآية أعلاه بصيغة الجملة الإنشائية، ولغة الإشارة والتوكيد.
الثالثة: تتعلق الآية أعلاه بأحوال الناس في عالم الجزاء والتباين فيها بين أهل الصلاح وجزائهم الحسن، وبين الكفار وشدة عذابهم، وهو من آيات الله، وملكه لما في السموات والأرض، ومن أفراد ملكه تعالى في الآية أعلاه:
الأول: الناس.
الثاني: عالم الأفعال وإحصاؤها.
الثالث: عالم الجزاء.
الرابع: تلاوة آيات القرآن.
الرابعة: ملك الله عز وجل لما في السماوات والأرض من الآيات التي يتلوها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة: التلاوة بالحق والصدق من ملك الله عز وجل، قال تعالى [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا] ( ).
السادسة: إتصاف ملك الله عز وجل بالنزاهة من الظلم والتعدي.
السابعة: دعوة الملوك وأرباب الرياسة والأغنياء إلى إجتناب الظلم والجور في ملك الله عز وجل.
الثامنة: كما تفضل الله سبحانه وأخبر الملائكة عن خلق آدم، وجعله خليفة في الأرض بقوله تعالى[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، فإنه سبحانه تفضل وأخبر الناس بأن ما في السماوات وما في الأرض ملك طلق له سبحانه ومنه الملائكة بخلقتهم العظيمة وهيئاتهم العجيبة، وفيه دلالة بأن إخبار الله للملائكة من وجوه :
الأول: في ملكه أي في السماوات.
الثاني: لملكه وهم الملائكة .
الثالث: عن ملكه وهو آدم .
الرابع: موضع الخلافة , وهو الأرض .
التاسعة: من آيات الله التي يتلوها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى(يغفر لمن يشاء).
العاشرة: بيان عظيم الآيات وما فيها من البشارات , فالوعد الإلهي الكريم بالمغفرة آية لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
الحادية عشرة: تشترك الآيتان بتلاوة الوعد بالمغفرة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية عشرة: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين تلاوة آيات المغفرة لتكون وعداً لهم وحجة على غيرهم.
الثالثة عشرة: جاءت آية(تلك آيات) بصيغة الجمع والتعدد، وذكرت هذه الآية آيات متعددة هي:
الأولى: ما في السماوات ملك لله عز وجل.
الثانية: ما في الأرض ملك لله عز وجل.
الثالثة: السماوات والأرض ذاتهما ملك لله عز وجل , للغة العموم في الآية ولإخبار آيات قرآنية عنه , قال تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ] ( ).
الرابعة: صدور وعودة الأمور كلها إلى الله عز وجل.
الخامسة: كل آية من الآيات الأربعة أعلاه شاهد على عظيم قدرة الله عز وجل، وسعة سلطانه.
صلة آية[وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ] ( ) وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: من ملك الله لما في السموات وما في الأرض بلحاظ الآية أعلاه أمور:
الأول: عالم الحساب والجزاء.
الثاني: قدرة الله عز وجل على جعل ألوان الوجوه يوم القيامة بحسب الأعمال في الدنيا.
الثالث: بيان قانون ألوان الوجوه في الآخرة، وتعلقه بأعمال الناس في الدنيا، قال تعالى [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( )، ولم يرد ( تبيض) ولفظ (تسود) في القرآن إلا في الآية أعلاه..
الرابع: تمييز وتشريف المسلمين يوم القيامة ببياض الوجوه.
الخامس: الرحمة وما يحتاجه الناس يوم القيامة.
السادس: الخلود في الجنة.
السابع: إختصاص المؤمنين بالخلود بالنعيم.
الثامن: إستدامة بياض الوجوه، وعدم طرو تغيير عليها.
الثانية: لما أخبرت هذه الآية عن تعلق المغفرة بالمشيئة بقوله تعالى(يغفر لمن يشاء) جاءت الآية أعلاه بالإخبار عن المغفرة من وجوه:
الأول: بياض الوجوه في الآخرة مصداق ظاهر عن الغبطة والسعادة والمغفرة والجزاء الحسن , وهو من عمومات قوله تعالى[تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ]( ) .
الثاني: إقامة المؤمنين في رحمة الله.
الثالث: خلود المؤمنين في النعيم الدائم.
الرابع: إستدامة بياض وجوه المؤمنين.
الثالثة: تبعية الجزاء الحسن للمغفرة.
تتمة الصلة بين خاتمة هذه الآية، وأول آية(ليس لك) ( ).
وفيها وجوه:
الأول: أختتمت هذه الآية بأسمين من أسماء الله عز وجل، وإبتدأت الآية أعلاه بخطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن ليس من أمر الكفار شيء.
الثاني: إختتام هذه الآية بإسم(الغفور) فيه مسائل:
الأولى: إنه دعوة سماوية للكفار بالتوبة والإنابة.
الثالثة: إخبار المسلمين بأن باب التوبة لم ولن يغلق على أحد أو جماعة من الناس، فإذا كان مفتوحاً للكفار الذين يقاتلونهم، فمن باب الأولوية فتحه لغيرهم من الناس.
الثالث: حث المسلمين على دعوة الكفار للتوبة، وعدم اليأس من أحد منهم، ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر أمراء السرايا والجيوش أن لا يقاتلوا العدو حتى يعظوه ويحذروه، ويدعوه إلى دخول الإسلام ليكون له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم فليس من مراتب وطبقات في الإسلام بلحاظ السبق الزمني أو غيره، وجاءت آيات القصاص لتؤكد هذا القانون، وتبعث الطمأنينة في قلوب الذين يريدون الدخول في الإسلام وتكون ترغيباً لهم، ولغيرهم من المستضعفين والناس جميعاً، قال تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الرابع: تقدير الجمع بينهما ليس لك من الأمر شئ لأن الله غفور رحيم، فهو سبحانه يغفر عن الكفار إذا تابوا وأخلصوا التوبة.
الخامس: قوله تعالى(ليس لك من الأمر شيء) رحمة من الله على وجوه:
الأول: إنه رحمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتخفيف عنه.
الثاني: رحمة بالمسلمين، وتخفيف عنهم في المعارك وفي حال السلم.
الثالث: ترغيب الكفار بالتوبة، لأن الآية تجمع بين لغة الوعد والوعيد، فصفة(الرحيم) لله عز وجل وعد كريم، وقوله تعالى(ليس لك من الأمر شيء)ووعيد وتخويف للكفار.
السادس: الجمع بين بداية الآية أعلاه وخاتمة هذه الآية مدرسة كلامية، ودعوة للناس لترك الكفر والضلالة، والإقرار بأن الله عز وجل رحيم بالناس، وليس من حد لرحمته سبحانه.
السابع: من ملك الله عز وجل للسموات والأرض قوله سبحانه لنبيه(ليس لك من الأمر شيء) وتلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين هذا القول بالقبول والرضا.
الثامن: جاءت الآية أعلاه بالإخبار عن توبة الله عن الكفار على نحو الترديد مع عذابهم، وجاءت الآية محل البحث بأنه سبحانه(يغفر لمن يشاء).
ويفيد الجمع بين الآيتين في المقام أموراً:
الأول: يغفر الله عز وجل للمسلمين والمسلمات.
الثاني: يغفر الله عز وجل للتائبين من الكفار.
الثالث: يعذب الله من يصر على البقاء على الكفر والضلالة.
التاسع:إبتدأت الآية أعلاه بسور السالبة الكلية(ليس)، وإبتدأت هذه الآية بسور الموجبة الكلية لام التحليل مع لغة الإطلاق والعموم، وفيه آية في بيان سعة ملك الله وعظيم قدرته، وأن النبوة والرسالة ضمن العبودية وملك الله عز وجل.
عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: إتخذني الله عبداً قبل أن يتخذني نبياً) ( ).
ومع أن المؤمنين مشغولون في الجهاد والدفاع عن بيضة الإسلام في بدايات الهجرة جاءت لهذه الآية لتدعوهم للإلتفات إلى مبادئ التوحيد، والتسليم بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله والتذكير بعالم الحساب والجزاء وفيه بعث للسكينة في نفوسهم، وعدة وقوة إضافية في القتال.
العاشر: لقد قتل عدد من صناديد قريش في معركة بدر، ولحقتها الذلة والخزي، وإنسحبت من معركة بدر وأحد والخندق بخيبة وحسرة، وجاءت هاتان الآيتان لبيان لحوق العذاب بالكفار، والإخبار بأن الأمر لا ينتهي بالهزيمة، بل يأتي العذاب للكفار في أي مكان من الأرض، وإذا إنهزم الكفار وإنسحبوا من المعركة ومما حول المدينة صاروا بعيدين عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، فجاءت هذه الآية وما فيها من الإخبار عن عائدية ملك السموات والأرض لله عز وجل.
الحادي عشر: يفيد الجمع بين بدايتي الآيتين سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والضرر والكيد، لأن الله عز وجل له ما في السموات وما في الأرض، وهو بيده كل شيء، وقوله تعالى(ليس لك من الأمر شيء) شاهد على بقاء النبي حياً حتى يحكم الله عز وجل في أمر الكفار، فيتوب على من تاب منهم، ويعذب من بقى على الكفر عنهم.
الثاني عشر: جاء ذكر التوبة والمغفرة في الآية أعلاه بخصوص الكفار، وذكرتهما هذه الآية بالتعليق على المشيئة وفيه مسائل:
الأولى: بين الآيتين عموم وخصوص مطلق لإرادة المعنى الأعم والناس جميعاً في هذه الآية.
الثانية: تتضمن هذه الآية التقييد للإطلاق الخاص الوارد في الآية السابقة، وتقدير الجمع بينهما:يغفر لمن يشاء منهم ويعذب من يشاء منهم.
الثالثة: توكيد قانون في الإرادة التكوينية وهو تعلق المغفرة والعذاب خاصاً أو عاماً على المشيئة الإلهية.
الرابعة: في الجمع بين الآيتين حث للناس لإقتران الدعاء والتوسل بالتوبة والإنابة كي يتوب الله عز وجل عليهم.
الخامسة: إن موضوع التوبة والفوز بالمغفرة نعمة عظيمة على الناس عليهم أن يجتهدوا في الوصول إليها، ومن النعم فيها وجود عوائق وموانع دون بلوغها، وهذا لا يتعارض مع لزوم السعي والإجتهاد للفوز بها.
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: بين الخاتمتين تباين في الموضوع، فقد جاءت الآية السابقة بنعت الكفار بالظالمين، وأختتمت هذه الآية بأسمين من أسماء الله عز وجل هم(الغفور الرحيم)وفيه دلالة على إستثناء الظالمين من عمومات المغفرة والعفو الإلهي.
الثانية: قد يقال ولو شككنا في عموم المغفرة أو تقييدها فالأصل هو الإطلاق لإن الله عز وجل هو الغفور،، والجواب يتجلى بالجمع بين الآيتين الذي يدل على تخصيص عمومات المغفرة وخروج الكفار منها بالتخصص لأنهم ظالمون.
الثالثة: من مصاديق المغفرة الإلهية مجيء هاتين الآيتين إذ أنهما مجتمعتين ومتفرقتين يرشدان إلى التوبة والفوز بالمغفرة.
الرابعة: أختتمت هذه الآية بقوله تعالى(الرحيم) ومن رحمة الله عز وجل بلحاظ خاتمة الآية السابقة أمور:
الأول: نعت الكفار بأنهم ظالمون.
الثاني: إرتقاء الناس في المعارف الإلهية بالتمييز بين الإيمان والكفر، وحسن الأول، وقبح الثاني.
الثالث: دعوة الكفار للتخلص من الكفر والظلم.
الرابع: ترغيب الكفار بالتوبة والكف عن الظلم.
الخامس: الوعيد بالعذاب للظالمين من رحمة الله، لأنه إخبار عن الحق وقانون ثابت في الإرادة التكوينية وأن الله عز وجل أعدّ النار للكافرين.
السادس:لزوم توجه الناس بالشكر لله عز وجل لأن له ما في السموات وما في الأرض وهو الذي قال لنبيه(ليس لك من الأمر شيء) وقرن هذا القول بالوعد الكريم بالتوبة والمغفرة عن التائبين.
السابع: يفيد الجمع بين الآيتين تأديب المسلمين وإرشادهم إلى التنزه عن الغلو، لأن قوله تعالى(ليس لك من الأمر شيء) وهذا التنزه من مصاديق قوله تعالى(كنتم خير أمة) وشاهد على أن النبي محمداً عبد الله عز وجل أكرمه وفضله بالوحي وللنبوة، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ).
الثامن: من خصائص ملك الله عز وجل لما في السموات وما في الأرض أنه سبحانه فتح باب التوبة للناس جميعاً لتكون الحياة الدنيا ذات بهجة ونضارة، وتحمل معاني التجدد , وبما يكون نحو الأحسن والأتم والأكمل، لذا جاءت هذه الآية بالجامع المانع، إذ إبتدأت بالإخبار عن ملك الله عز وجل المطلق لما في السموات وما في الأرض وأختتمت بتوكيد إستدامة فتح باب المغفرة للناس جميعاً، وعموم رحمته تعالى.
التاسع: من الإعجاز في الجمع بين الآيتين أن ظلم الكفار نفسهم والناس لمن يمنع من ترغيبهم بالتوبة، وحثهم عليها، والظلم قبيح ذاتاً وعرضاً، ويحرم لذاته ولما يترشح عنه، لذا أختتمت الآية أعلاه ببيان علة عذابهم وهي إتصافهم وتلبسهم بالظلم.
الجمع بين الآيات مناسبة للأمر والنهي
من الإعجاز في الآية القرآنية أمور
الأول: إنها مناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بذاتها.
الثاني: الآية إمام للأمر والنهي بما يترشح عنها من العلوم والدلالات،والمنافع .
الثالث: يكون الجمع بين الآيات مدرسة كلامية، ومناسبة إضافية للأمر والنهي.
الرابع: تستخلص من الآية دروس ومواعظ وعبر .
ومن مصاديق الإعجاز في الجمع بين الآيتين وجوه:
الأول: توكيد ملك الله للسموات والأرض بحصر الأمر كله بيد الله عز وجل.
الثاني: أمور الناس وما ينتظر الكفار من ملك الله عز وجل لا يشاركه فيه أحد.
الثالث: إشتراك الآيتين في الجمع بين المغفرة والعذاب على نحو الترديد.
الرابع: حث الظالمين على المبادرة إلى التوبة والمغفرة.
الخامس: بيان قبح الظلم والبقاء عليه مع مجيء الآيتين بالندب إلى التوبة والإنابة.
السادس: بيان القوانين والأحكام الثابتة في السموات والأرض وما فيه السلامة وإستدامة الخلق، وتسخير ما في السموات وما في الأرض للناس في معايشهم وعباداتهم، قال تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ]( ).
السابع: يفيد الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل هو الغني عن العالمين وأن التوبة والمغفرة حاجة للناس، جاءت الآيتان ببيانها والتذكير بلزوم المبادرة إليها.
السابع: لقد نزلت هذه الآيات والحرب قائمة بين المسلمين والكفار، لتخبر عن أمور:
الأول: التباين في عالم الجزاء.
الثاني: إنذار الكفار.
الثالث: بشارة المسلمين بالمغفرة.
الرابع: زجر الناس عن نصرة الكفار في تعديهم على الإسلام والمسلمين.
الخامس: الوعد بنزول المدد من السماء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأنصاره، لأن ما في السموات وما في الأرض ملك لله عز وجل.
تتمة الصلة بين آية(ليقطع طرفاً) بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: تضمنت هذه الآية الإخبار عن كون كل ما في السماوات وما في الأرض ملكاً لله عز وجل وفيه إنذار ووعيد للكفار لجحودهم نعمة الخلافة في الأرض، وما يترتب عليها من الوظائف العبادية، ولزوم تصديق الخليفة الذي جاء بالمعجزات التي تدل على صدق نبوته.
الثانية: بيان قدرة الله عز وجل على الإنتقام من الكفار في الحياة الدنيا، ونزول عقاب الإستئصال بالكفار، وهو حاجة لإستدامة الإسلام ونجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم أرادوا قتله، ومنع توالي نزول آيات القرآن.
الثالثة: الكفار من ملك الله عز وجل لعمومات قوله تعالى [وَمَا فِي الأَرْضِ] ويفيد الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل يفعل في ملكه ما يشاء.
الرابعة: إن الله الذي(له ما في السموات وما في الأرض) يتعاهد الإيمان في الأرض بالذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ودفع الكفار المعتدين عنهم.
وجاءت آية (ليقطع طرفاً) لبيان وجه من وجوه هذا الدفع، ومنافعه أعم من أن تنحصر بزمانه وأشخاصه، فهلاك أشخاص من الكفار موعظة وزاجر من وجوه:
الأول: منع من بقي من الكفار من الإستمرار في محاربة الإسلام.
الثاني: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الثالث: جعل الكفار يترددون في موضوع التعدي والهجوم على المسلمين.
الرابع: نهي الناس عن إعانة الكفار في ظلمهم وتعديهم على الإسلام.
الخامس: إدراك الناس جميعاً مؤمناً وكتابياً ومشركاً لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرة الله عز وجل له بهلاك أعدائه، وهذا الهلاك من الإعجاز الغيري في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن.
السادس: إنذار الكفار بأن ما ينزل بالكفار من العذاب هو من سوء إختيارهم، وإصرارهم على الكفر وإقامتهم على الضلالة , قال تعالى[هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ] ( ).
الشعبة الثانية: ( )، الصلة بين هذه الآية والآيات التالية، وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية والآية التالية آية(الربا) ( )، وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه بصيغة الجملة الخبرية، ووردت هذه الآية بلغة الخطاب للمسلمين جميعاً.
الثانية: يؤمن المسلمون بأن ملك السماوات والأرض لله عز وجل وحده، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالثة: من وجوه أفضلية المسلمين طاعتهم لله وإقرارهم بأن ملك السموات والأرض لله عز وجل وتنزههم عن الربا طاعة لله عز وجل.
الرابعة: حسن توكل المسلمين على الله عز وجل بإجتنابهم الربا، وطلبهم الرزق الحلال من أبوابه وسبله.
الخامسة: أخبرت هذه الآية عن المغفرة والعفو عمن يشاء الله عز وجل بقوله تعالى(يغفر لمن يشاء) وجاءت هذه الآية بالنهي عن الربا وأخذ الفائض على القرض، وهذا النهي من أسباب ومقدمات المغفرة والعفو عن المسلمين، قال تعالى[وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]( ).
السادسة: بيان قانون ثابت في اللطف الإلهي وهو تقريب الناس لأسباب المغفرة والعفو.
السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين الإنذار من الربا وتعاطيه، وتوكيد أنه ذنب وسبب للذنوب.
الثامنة: لما أخبرت هذه الآية عن عائدية ملك السموات والأرض لله عز وجل جاءت هذه الآية بالأمر للمسلمين بتقوى الله والخشية منه، فهو أهل أن يتقى.
التاسعة: ذكرت هذه الآية مغفرة الله عز وجل وعفوه عن ذنوب من يشاء من عباده , وجاءت الآية التالية بنعت المسلمين بالذين آمنوا وفيه دليل على فوزهم بالمغفرة المذكورة في هذه الآية قال تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ] ( ).
العاشرة: إن الربح أضعاف مضاعفة بالباطل سبب لجلب العذاب وصيرورة صاحبه من الذين يشملهم قوله تعالى(يعذب من يشاء).
الحادية عشرة: لزوم التقيد بالأوامر والنواهي التي أمر الله تعالى بها، ومنها إجتناب الربا وأخذ الزيادة الربوية.
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها وجوه:
الأول: فوز المسلمين برحمة الله عز وجل.
الثاني: النهي عن الربا من عمومات قوله تعالى(والله غفور رحيم).
الثالث: دعوة الكفار للتوبة والإستغفار، لأن خاتمة هذه الآية ترغيب بالفوز بالمغفرة ورحمة الله، فمن إعجاز خاتمة هذه الآية إجتماع المغفرة والتوبة من عند الله عز وجل على عباده.
الرابع : من خصائص ملك الله عز وجل العدل والحكم بالحق، فالنار من ملك الله عز وجل ولم يخلقها إلا لأهل المعصية، الجاحدين بالربوبية.
الخامس : من رحمة الله عز وجل بالمسلمين دعوتهم للخشية من الله وتحذيرهم من النار.
السادس : توكيد حقيقة وهي أن الدنيا دار إمتحان وإختبار وأن الوقاية من النار والعذاب في الآخرة تكون في الدنيا، وتتجلى بالإيمان والعمل الصالح.
صلة هذه الآية بآية (واتقوا النار) ( ).
وفيها مسائل :
الأولى: الجنة والنار من ملك الله للسموات والأرض.
الثانية: دخول الكفار في النار من ملك الله للسموات والأرض بخصوص الحال والمحل، فكل منهما ملك لله عز وجل.
الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين أن ملك الله أعم من أن ينحصر بالدنيا، فيشمل أيام الآخرة، ومواطن الحساب والجزاء فيها.
الرابعة: ذكرت هذه الآية نزول عذاب أليم بمن يشاء بقوله تعالى(ويعذب من يشاء) جاءت الآية أعلاه لبيان أمور:
الأول: الكفار هم الذين يعذبهم الله.
الثاني: يكون العذاب بدخول النار، وهل يفيد حصر العذاب به الجواب لا، لأن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
الثالث: بيان نوع العذاب وهو الخلود في النار.
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها وجوه:
الأول: أختتمت هذه الآية بذكر ثلاثة أسماء من أسماء الله عز وجل وأنه الغفور الرحيم، وجاءت خاتمة الآية أعلاه بالوعيد للكفار.
الثاني: إصرار الكفار على عدم الإنتفاع من رحمة الله في الآخرة.
الثالث: هذه الآية من رحمة الله في الدنيا بالناس جميعاً، وبشارة إنتفاع المؤمنين منها في الآخرة، وخروج الكفار بالتخصص من هذه الرحمة لأنهم يومئذ مقيمون في النار.
الرابع : جاءت الآية السابقة بالأمر(وأتقوا الله) وتضمنت هذه الآية الأمر بإتقاء النار وليس من تعارض بينهما، وكل فرد منهما سبيل للفلاح وطريق للنجاح.
الخامس : من عذاب الله للكفار إخبار هذه الآية عن النار التي أعدها الله عز وجل لهم.
السادس : من رحمة الله عز وجل التحذير من النار، وتعيين أهلها وأنها خاصة بالكفار، وفيه طرد للجهالة والغرر، وزجر عن الكفر لقبحه الذاتي ولأنه مقدمة وسبب لدخول النار.
السابع : إخبار هذه الآية عن عائدية السماوات والأرض لله عون للناس جميعاً لإجتناب النار والعذاب الأخروي.
الثامن : من يتق النار يفوز برحمة الله عز وجل، لإنحصار إتقائها وطلب السلامة منها بالإيمان والصلاح.
التاسع : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين وتقريبهم لمنازل الرحمة الإلهية بأمرهم في هذه الآية بإتقاء النار والخشية منها.
صلة هذه الآية بآية(قل أطيعوا) ( )
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية، أما الآية أعلاه فوردت بصيغة الجملة الإنشائية والخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل) وتتضمن الأمر للمسلمين بطاعة الله ورسوله.
الثانية: لما بينت هذه الآية أن ملك السماوات والأرض لله عز وجل، جاءت هذه الآية بالأمر الإلهي بإطاعة الله ورسوله.
الثالثة: بيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإقتران طاعته بطاعة الله عز وجل الذي له ملك السماوات والأرض، وفيه دلالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين نزول الأوامر والنواهي من عند الله بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة: لما ذكرت هذه الآية مغفرة وعفو الله عمن يشاء جاءت هذه الآية بالأمر بطاعة الله ورسوله لتكون سبيلاً لنيل المغفرة .
السادسة: لم تذكر هذه الآية الذين يغفر لهم الله أو الذين يعذبهم على نحو التعيين , فجاءت الآية أعلاه لبيان سبيل الفوز بالمغفرة وهو طاعة الله والرسول، فإن قلت إن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، وأن الرحمة الإلهية قد ترك بطريق آخر، والجواب من وجوه:
الأول: جاءت هذه الآيات خطاباً للمسلمين.
الثاني: مجيء الآيات بالأمر بالتقوى.
الثالث: تدل الآية على الملازمة بين طاعة الله وطاعة الرسول، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
السابعة: طاعة الله الذي له ملك السموات والأرض واجب كل مكلف ومكلفة.
الثامنة: من وظائف المسلمين الإقرار بأن السماوات والأرض ملك لله عز وجل، وإرادة قصد القربة في أعمالهم العبادية.
التاسعة: يفيد الجمع بين الآيتين عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله، وأن طاعته من طاعة الله الذي له ملك السماوات والأرض قال تعالى[مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] ( ).
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها وجوه:
الأول: مجيء الخاتمتين بمضامين الرحمة والعفو الإلهي.
الثاني: إرادة المعنى الأعم من الرحمة في أفراد الزمان والعوالم الطولية، وإرادة الآخرة أيضاً بمضامين هذه الآية.
الثالث: دعوة المسلمين والناس جميعاً لبذل الوسع لنيل رحمة الله عز وجل.
الرابع: ذكرت خاتمة آية(وأطيعوا الله) رحمة الله على نحو الترجي والتعليق بالطاعة، وجاءت خاتمة هذه الآية بالإطلاق في رحمة الله وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين، والإخبار عن قرب رحمة الله عز وجل منهم.
الخامس: كما تفسر وتبين الآية القرآنية آية أخرى، فيمكن أن تكون الآية تفسيراً وبياناً للجمع بين آيتين كما في قوله تعالى[وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ]( ).
وجاءت الآية أعلاه بذكر عدة صفات للمسلمين، وبالإخبار عن قرب رحمة الله وأنها تتغشاهم في الدنيا لمجيئها بالسين في(سيرحمهم) والتي تدل على المستقبل القريب.
السادس: من رحمة الله للذين يطيعون الله ورسوله فوزهم بالمغفرة والعفو من عند الله عز وجل.
الثامن: جاءت الآيتان بمضامين الرحمة الإلهية.
التاسع: ختم الله هذه الآية بإسمين من أسمائه وأنه سبحانه(غفور رحيم) وأختتمت هذه الآية بالإخبار عن نيل المسلمين لرحمة الله بطاعتهم لله ورسوله.
العاشر : إن الله عز وجل هو الذي يرحم المسلمين.
الحادي عشر : أخبرت هذه الآية على أن الله عز وجل هو(الغفور الرحيم) وجاءت الآية أعلاه ببيان كيفية الفوز برحمة الله وهي طاعة الله ورسوله.
الثاني عشر: البشارة بالأمن للمسلمين، وسلامتهم من الكيد عنه طاعة الله عز وجل ورسوله إذ تتغشاهم رحمة الله، ومن رحمة الله بهم عدم إرتدادهم.
الثالث عشر: تنمية ملكة الصبر عند المسلمين وتحمل الأذى والعناء في جنب الله رجاء رحمته.
الرابع عشر: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار والمشركين، وجعلهم ييأسون لأن المسلمين في رحمة الله.
الخامس عشر : ذكرت آية (قل أطيعوا)النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة، للدلالة على أنه يطاع بما يأتي به من عند الله عز وجل، وأنه باب رحمة الله عز وجل.
صلة هذه الآية بآية(وسارعوا) ( ).
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية محل البحث بصيغة الجملة الخبرية، أما الآية أعلاه فجاءت بصيغة الجملة الإنشائية، والأمر للمسلمين.
الثانية: لما أخبرت هذه الآية عن غفران الله لمن يشاء من عباده، جاءت هذه الآية بالهداية إلى المغفرة.
الثالثة: دعوة المسلمين للإنتفاع الأمثل من قوله تعالى(يغفر لمن يشاء).
الرابعة: بيان عظيم نعمة المغفرة، ولزوم المسارعة لها، وهي خير محض ونفع في النشأتين.
الخامسة: إبتدأت هذه الآية بالجار والمجرور والإخبار عن عائدية السماوات والأرض لله عز وجل، وإبتدأت الآية أعلاه بصيغة الأمر للمسلمين جميعاً للنهل منها , وإتخاذها منهاجاً وضياءً.
السادسة: ذكرت هذه الآية الله عز وجل باسم الجلالة وأنه غفور رحيم، أما الآية أعلاه فذكرته سبحانه بصفة الربوبية وأنه تعالى رب المسلمين والخلائق جميعاً.
السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل مالك السموات والأرض وهو الرب والمعبود الذي يجب أن يطاع.
الثامنة: ترغيب الناس بالتوبة، والمسلمين بالإستغفار والصلاح.
التاسعة: ذكرت هذه الآية أن الله عز وجل هو(الغفور الرحيم) ويفيد الجمع بين الآيتين بيان وجوه من رحمة الله منها:
الأول: الأمر بالمسارعة إلى الفوز بالمغفرة من عند الله، وهذا الأمر من رحمة الله في ذاته ونزوله ومضمونه.
ولم يرد لفظ(سارعوا ) إلا في هذه الآية، وورد لفظ(سابقوا)في القرآن مرة واحدة وفي ذات موضوع الآية قال تعالى[سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، وسيأتي بيانه وأن المسارعة تأتي على نحو الجماعة والقضية الشخصية، والمسابقة تحصل على نحو المفاعلة من السباق، لبيان أهمية موضوع الإستغفار وطلب المغفرة من الله، وأن المسلم يبادر بنفسه للمغفرة، ويتبارى مع الآخرين فيها من غير تزاحم أو تعارض بين المتعدد من المسلمين والناس جميعاً الذين يسعون للمغفرة والله واسع كريم، وعدم التعارض هذا من مصاديق قوله تعالى(والله غفور رحيم).
الثاني: الترغيب بالتوبة والإستغفار لمجيء الآية بقوله تعالى(من ربكم) والذي يدل على سعة رحمة الله وأنه الرب الرؤوف بعباده.
الثالث: الدعوة لبذل الوسع لدخول الجنة، وتوكيد حقيقة وهي أن الجنة من رحمة الله عز وجل.
الرابع: الإخبار بأن الجنة خاصة بالمؤمنين الذين يخشون الله.
العاشرة: ذكرت هذه الآية المغفرة لمن يشاء الله، والعذاب لمن يشاء، وجاءت هذه الآية بأمور:
الأول: أمر المسلمين بالمبادرة إلى المغفرة بفعل الصالحات.
الحادية عشرة: ذكرت هذه الآية المغفرة والرحمة الإلهية، وذكرت الآية أعلاه المغفرة، ودخول الجنة، ويفيد الجمع بينهما أن من رحمة الله الجنة واللبث الدائم فيها.
الثانية عشرة: من رحمة الله بالمسلمين دعوتهم بصيغة إفعل(سارعوا) وما فيها من لغة الأمر والوجوب لإتيان الفرائض وفعل الصالحات.
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها وجوه:
الأول: أختتمت هذه الآية بثلاثة أسماء من الأسماء الحسنى، وبينت أن الله عز وجل هو الغفور الرحيم، وأختتمت الآية أعلاه بالجزاء الأوفى للمسلمين لأنهم يخشون الله عز وجل.
الثاني: من ثمرات المغفرة دخول الجنة، فقد يسأل بعضهم ماذا بعد المغفرة في قوله تعالى(يغفر لمن يشاء)وجاءت هذه الآية بأن الله عز وجل أعد للتائبين الجنة.
الثالث: من رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً إخبار هذه الآية عن الجنة وأنها للمتقين منهم.
الرابع: يفيد الجمع بين الخاتمتين الترغيب بالإيمان وخشية الله.
الثالثة عشرة: الجنة من ملك السماوات والأرض الذي يعود لله عز جل.
الرابعة عشرة: ذكرت الآيتان السماوات والأرض، وأخبرت هذه الآية عن ملك الله لهما، أما الآية أعلاه فذكرتهما كعرض وسعة للجنة التي هي من رحمة الله، ليكون ملك الله عز وجل مسخراً في الآخرة للمتقين، وهو في الدنيا مسخر للناس جميعاً، قال تعالى[اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] ( ).
الخامسة عشرة: بيان عظمة ملك الله عز وجل دعوة للمسارعة في طلب المغفرة منه تعالى، والطمع في رحمته ورضوانه.
السادسة عشرة: لقد ذكر العذاب في هذه الآية، وعلق على المشيئة الإلهية، أما المغفرة فذكرت فيها، وذكرت في هذه الآية أيضاً وأنها طريق للإقامة في النعيم الدائم.
السابعة عشرة : يمكن تقسيم رحمة الله إلى أقسام بلحاظ العوالم الطولية وهي:
الأول: رحمة الله في الدنيا.
الثاني: رحمة الله في عالم البرزخ.
الثالث: رحمة الله في الآخرة والتي تتجلى بالجنة التي أعدها الله للمتقين.
صلة هذه الآية بآية(الذين ينفقون) ( ).
وفيها مسائل:
الأولى: بعد أن ذكرت هذه الآية رحمة الله ومغفرته لذنوب من يشاء من عباده جاءت هذه الآية بأوصاف المتقين الذين يفوزون برحمة الله في الآخرة.
الثانية: جاءت الآيتان بصيغة الجملة الخبرية.
الثالثة: جاءت الآية أعلاه مثل خاتمة التي سبقتها في بيان صفة أهل الجنة.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين الترغيب بالتوبة والإنابة.
الخامسة: الآية أعلاه توكيد لملك الله عز وجل للسموات والأرض فهو يدخل من يشاء من عباده في جنته.
السادسة: لما جاءت هذه الآية بالوعيد والعذاب لمن يشاء الله جاءت الآية أعلاه ببيان سبل الوقاية الدنيوية من العذاب الأخروي .
السابعة: ذكرت هذه الآية اسم الجلالة مرتين , وذكرته الآية أعلاه مرة واحدة.
الثامنة: أخبرت هذه الآية بأن كل ما في السماوات والأرض هو ملك لله عز وجل، وجاءت هذه الآية بالندب والحث على الإنفاق، ويفيد الجمع بينهما أن ما ينفق هو من ملك الله عز وجل جعله الله عند الإنسان كملكية إعتبارية متزلزلة.
التاسعة: من يؤمن بان الله عز وجل له ملك السماوات والأرض، ويغفر لمن يشاء فإنه يتحلى بالخصال الحميدة التي ذكرتها هذه الآية ومنها كظم الغيظ، وإجتناب البطش والإضرار بالآخرين.
العاشرة: تضمنت هذه الآية الوعد بالمغفرة لمن يشاء الله، وذكرت هذه الآية حب الله للمحسنين، مما يدل على شمول المحسنين بالمغفرة.
الحادية عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين إتخاذ كل خصلة ذكرتها الآية أعلاه وسيلة وسبيلاً لجلب المصلحة ، ودفع الضرر والعذاب بالمغفرة.
الثانية عشرة: من ملك الله للسموات والأرض هداية الناس لسبل الخير والصلاح، وتوكيد ما فيه من الخير والنفع.
الثالثة عشرة: يعلم المؤمنون أن الله له ملك السموات وبيده مقاليد الأمور، فيتلقون الأمر والترغيب بالإنفاق في السراء والضراء بالإمتثال والإستجابة فمن إعجاز نظم القرآن أن الندب للإنفاق لم يأت إلا بعد أن ذكرت الآيات ملك الله للسموات والأرض والمسارعة إلى المغفرة باعثاً على الإنفاق والمسابقة فيه.
الرابعة عشرة: تضمنت هذه الآية الوعيد بالعذاب، وجاءت الآية أعلاه ببيان الواقية المتعددة من هذا العذاب.
الخامسة عشرة: جاءت الآية أعلاه بصيغة الجمع لتشمل الإنفاق الشخصي والنوعي، وتكون الجماعة عوناً للفرد منها في الإنفاق والمبادرة إليه.
وهل يشمل قوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ] الوسائط في الإنفاق والدال عليه، الجواب على وجوه:
الأول: القدر المتيقن من الإنفاق هو بذل المال وأداء الوظائف العبادية المالية كالزكاة والخمس.
الثاني: يأتي الثواب للوسائط في الإنفاق بإعتبار التوسط والإعانة على الإنفاق والدلالة على موارده من الإحسان ومصاديق قوله تعالى(والله يحب المحسنين).
الثالث: إن الله عز وجل هو الواسع الكريم، وهو الذي يثيب المسلم على بذل الجهد والعناء في ترغيب الناس بالإنفاق، وتذكيرهم بما فيه من الأجر والثواب.
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها وجوه:
الأول: ورود اسم الجلالة في خاتمتي الآيتين، وجاء في هذه الآية في بيان إسمين من أسمائه الحسنى وترغيب الناس بالسعي للفوز برحمته، وورد في الآية أعلاه لبيان حب الله للمحسنين.
الثاني: حب الله للمحسنين توكيد بأنه هو الرحيم.
الثالث: خاتمة الآية أعلاه من رحمة الله لما فيها من الترغيب في الإحسان والندب إليه.
الرابع: الإحسان سبيل لنيل مغفرة الله عز وجل.
الخامس: بعث السكينة في نفوس المسلمين وحثهم على الإحسان.
السادس: من رحمة الله نشر وتثبيت الأخلاق والسنن الحميدة في الأرض.