معالم الايمان في تفسير القرآن – سورة البقرة – ج 21

سورة البقرة الآيات (111-119)

المقدمة
الحمد لله الذي أنزل الكتاب على رسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين ليكون علة لإستدامة الحياة على الأرض بتلاوته وصيرورتها جزء واجباً من الصلاة، وبعمل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بأحكامه وسننه، ومنه إجتهاد علماء الإسلام في تفسير كلماته وتأويل آياته بما يضيء للقلوب طرق الهداية , ويؤكد إرتقاء المسلمين في المعارف وإكتساب العلوم بتعاهد القرآن في رسمه وكلماته وحفظه , وفي الحديث الصحيح عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) ( )، وإتخاذ كل آية منه وسيلة سماوية مباركة لتعاهد معاني الأخوة بينهم بصبغة الإيمان التي لا تفارقهم وإلى يوم القيامة , وهذا الجزء من(معالم الإيمان في تفسير القرآن) هو الجزء الحادي والعشرون ويتضمن تفسير الآيات(111-119) من سورة البقرة.
وجاءت كل آية منها بصيغة الجملة الخبرية مع التباين في الموضوع منطوقاً وإتحاده مفهوماً بلحاظ عموم الخبر وشمول دلالات الإخبار القرآني لعموم الناس تأديباً وإصلاحاً وبشارة وإنذاراً، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
وإبتدأت هذه الآيات بقول لفريق من أهل الكتاب بخصوص عالم الآخرة، وأختتمت بآية تتضمن خطاباً من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيها مع قلة كلماتها إخبار كريم من وجوه:
الأول : تغشي رسالته للناس جميعاً مما يدل على بلوغها لهم طوعاً وقهراً وإنطباقاً وهو شاهد إضافي على معجزاته العقلية والحسية بفضل وهداية من الله، قال سبحانه[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ….]( ).
الثاني : الشهادة من الله عز وجل أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو رسول من الله للناس، وأن جبرئيل واسطة ملكوتية مباركة للتنزيل والوحي، قال تعالى[وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( ).
الثالث : صبغة الصدق والحق التي تتصف بها رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : بيان صفة ملازمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته وهي على شعبتين:
الأولى : البشارة وفيه بيان لرحمة الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وأن البشارة في المقام تشتمل أمور الدين والدنيا والعوالم الطولية الدنيا، البرزخ، البعث، الحساب، الجزاء بالجنة لأهل الإيمان.
الثانية : الإنذار وهو ضد البشارة , ومعناه الإخبار والتحذير مما فيه الخوف والأذى والضرر، وهل تختص إنذارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعوالم الآخرة، الجواب لا، فهي أعم وتشمل الموبقات في الدنيا والمهلكات في الآخرة، وجاء تقديم البشارة على الإنذار لتقدم التحلية وهو من مصاديق كون النبي ورسالته[رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وفيه نكتة عقائدية وهي أن البشارة التي يأتي بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تكون واقية من الأفعال التي تجلب الخوف والحزن، وتنزل مع البشارة السكينة والأمن فيتلقى الإنذارات بمرتبة وحال إضافية من الأمن لملكة النفوس والإحتراز من الذنوب والمعاصي التي جعلتها عنده رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من البشارات، وهو من عمومات قوله تعالى[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، فالله يعطي بالأوفى والأتم، فتأتي أسباب السلامة من الخوف والحزن من وجوه وأبواب متعددة من فضل الله عز وجل.
الخامس : إن الله عز وجل لا يسأل النبي محمداً عن الكفار والمجرمين، مما يدل بالدلالة الإلتزامية على قيامه بتبليغ الرسالة على أكمل وجه، وإقامته الحجة على الكفار،
وذكر الآيات الأولى من سورة البقرة لأقوال أهل الكتاب يشبه في سنخيته مجئ أول آيات القرآن نزولاً في مكة بالوعد والوعيد والتخويف، مع الفارق، وهو أن إبتداء سور القرآن حسب ترتيبه بأحوال أهل الكتاب وأقوالهم عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام مقدمة وطريق لبيان الأحكام ولي يتفرغ المسلمون لآيات الأحكام والعمل بها وليصغ غير المسلمين من أهل الكتاب لمضامين آيات القرآن ودلالاتها بعد إزاحة أسباب الشك وآثار الجدال والمغالطة. قال تعالى[ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).

قوله تعالى[وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا برْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] الآية111.
الإعراب واللغة
وقالوا: عطف على ود، وضمير الجماعة لأهل الكتاب.
لن: حرف نفي ينصب المضارع ويحصره بالإستقبال يدخل: فعل مضارع منصوب ،الجنة مفعول به منصوب.
الا: أداة حصر، مَن: اسم موصول فاعل، كان: فعل ماض ناقص، وإسمه ضمير مستتر تقديره هو، هوداً: خبرها، أو نصارى: عطف على هوداً.
تلك: إسم إشارة مبتدأ.
أمانيهم: خبر مرفوع بالضمة، والضمير “هم” مضاف اليه.
قل: فعل أمر، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت يعود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
هاتوا: فعل أمر مبني على حذف النون، الواو: فاعل.
برهانكم: مفعول به مضاف، والضمير الكاف مضاف اليه.
إن كنتم صادقين: حرف شرط جازم وفعله والجواب محذوف والتقدير فهاتوا برهانكم.
وهوداً أي يهودا حذفت الياء الزائدة، وقيل اليهود تنسب إلى يهود بن يعقوب فسميت يهوداً وأعربت بالدال هوداً أي في النسب، وقيل جمع هائد، والهود في العرف التوبة يقال هاد يهود هوداً اذا تاب ورجع الى الحق، ومنه قول بعضهم: يا صاحب الذنب هدهد واسجد كأنك هدهد، وعن الصادق عليه السلام: سمي قوم موسى اليهود لقوله تعالى [إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ]( )، والرجوع إليه يعني الإسلام.
أو نصارى: تأتي (أو) في أمرين الأول الخبر والثاني الطلب، والأول على أقسام منها الإبهام والتنويع والإضراب وبمعنى الواو، كما تأتــي للتفصيل، ومنه هــذه الآية ومعناها أن اليهود قالوا: لا يدخل الجنــة الا الذي هــو يهودي، والنصــارى قالوا: لن يدخل الجنة الا الذين هم نصارى، كما يصلح ان تكون من باب اللف والنشر.
والبرهان هو القياس المؤلف من يقينيات، والذي يؤدي إلى التصديق أما إذا أوقع ظناً فهو الخطابة.
ومن أهــم ما يميز الحق ويفصله عن الباطل البرهان لأنه يقين مــادة وصــورة، واختلف اللغويون في نــون البرهــان هــل هــي اصلية من برهن يبرهن برهنة ويكون وزنه فعل بضم الفاء، ام انها زائدة لأنه مشتق من البره وهو القطع فيكون وزنه فعلان.
والنصارى قوم عيسى وفي موضوع وسبب هذه التسمية وجوه:
الأول: نسبوا الى قرية في الشام تسمى ناصرة أخرجه إبن سعد في طبقاته عن إبن عباس( ).
الثاني:لتصديقهم وإتباعهم ونصرتهم لعيسى عليه السلام، وفي حديث الإمام الرضا عليه السلام: (سموا النصارى نصارى لأنهم نصروا المسيح).
الثالث: جاء اسمهم إقتباساً من كلام عيسى ودعوته لنصرته، وعن الصادق انه قال: (سمي النصارى نصارى لقول عيسى من إنصاري إلى الله).
الرابع :قال الحواريون:نحن أنصار الله،قاله الزهري( ).
الخامس :لنصرة بعضهم بعضاَ وتناصرهم بينهم( ).
السادس : لأنهم نزلوا قرية يقال لها ناصرة فنسبوا إليها( ).
السابع : كان أصحاب عيسى يسمون الناصريين، وكان يقال لعيسى(الناصري) نسبة إلى قريته التي كانت تسمى ناصرة( ).
وتلك آية في عالم الأسماء، فلم ينزل كل أصحاب وأتباع عيسى قرية الناصرة، ولكن التسمية صاحبت الملايين من أتباع عيسى في أقطار الأرض، وليس فيه دعوة لهم لزيارتها، إنما جاء الأمر الإلهي بزيارة وحج البيت الحرام , قال تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( )، وورد لفظ (النصارى) في القرآن أربع عشرة مرة ولم يرد بصيغة المفرد إلا مرة واحدة بقوله تعالى[مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا]( ).
والنصارى جمع نصراني ويطلق على كل من يتعبد بهذا الدين، ورد في القرآن ذكر الأنصار وهم الذين نصروا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ]( )، وورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ ]( ) بصيغة الإطلاق لكل مؤمن في كل زمان بينما ورد نعت التشريف هذا للحواريين فقط دون عامة النصارى [قال الحواريون نحن انصار الله…]( ).
فالمسلمون ورثة الحواريين وكل منهم يمتلك الأهلية لأن يكون كالحواريين، أي ان نصر عيسى كان نصراً من قبل نفر من خاصته واتباعه بالإيمان والتصديق بنبوته، والآيات القرآنية تثبت نصر المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تجسد هذا النصر بالمواظبة على ما جاء به من الأحكام والعبادات وتعاهد القرآن حفظاً وقراءة وعلوماً.
والأمــاني جمـع أمنية، والتمني قول القائل لما لم يكن ليته كان كذا وليته لم يكن كذا لما كان، والمنى جمع منية وهو مأخوذ من المنا وهو القدر لأن صاحبه يقدر حصوله مما يتمناه ويشتهيه ويرجو حصوله.
والتمني يرد أحياناً بعنوان الكذب ويُقال فلان يتمنى الأحاديث أي يفتعلها وهو مقلوب من المَيْن وهو الكذب. وفي لسان العرب (وقال رجل لابن دَأبٍ وهو يحدّث: أهذا شيء رويته أم شيء تمنيته؟ معناه إفتعلته وإختلقته ولا أصل له)( ).
في سياق الآيات
تدل الآية على لغة الشمول والعموم التي تتضمنها الآيات القرآنية فبعد ان تضمنت الآية السابقة الأمر الإلهي للمسلمين بالإنشغال عن الحسد وسهامه الموجهة ضدهم بأداء الصلاة وإتيان الزكاة الذي يدل في مفهومه على الدعوة العامة إلى الإسلام إذ أن الأعمال العبادية لا تتقوم إلا بقصد القربة ولا تصح إلا أن تكون مترشحة عن الإيمان جاءت هذه الآية بالإخبار عن قول لطوائف من أهل الكتاب.
وفي الجمع بين الآية السابقة وهذه الآية مسائل:
الأولى: إن دخول الجنة ليس بالأماني إنما باقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإمتثال لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأحكام والسنن.
الثانية: من الآيات أن يأتي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في القرآن النازل من عند الله، وفيه شاهد على صدق نبوته، وهو دعوة للناس لإتباعه ونصرته.
الثالثة: إن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، ولا تزيد الأماني الباطل الا ضلالة.
الرابعة: الترغيب بالعمل الصالح ومن أفضل مصاديقه إقامة الصلاة وأداء الزكاة.
ويفيد الجمع بين هذه الآية والآية قبل السابقة [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ]( )، مسائل:
الأولى: أخبرت الآية قبل السابقة عما يتمناه بعضهم للمسلمين من الضرر وأٍسباب الإرتداد وجاءت هذه الآية لتبين وجهاً من وجوه سعيه لإرتداد جماعة من المسلمين بأن إنفرادهم بالسكن في الجنة لبعث الشك وإلقاء الشبه في نفوس المسلمين.
الثانية: جاءت الآية قبل السابقة بذكر [كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] وجاءت هذه الآية بصيغة الإطلاق، فهل يفيد الجمع بين الآيتين وجوهاً:
الأول: تقييد هذا الإطلاق، وأن الذي يقول بعدم دخول غيرهم الجنة هم الكثير من أهل الكتاب الذين ذكرتهم الآية قبل السابقة.
الثاني: جميع اليهود والنصارى.
الثالث: خصوص النصارى لأنهم يقولون بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام.
الرابع: فريق من أهل الكتاب.
الخامس: فريق من اليهود.
السادس: طائفة من النصارى.
السابع: مشركوا قريش الذين كفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إقرارهم بأن اليهود والنصارى أهل كتاب.
الثامن: التفصيل والتباين في القول، إذ يقول اليهود لايدخل الجنة إلا من كان يهودياً، ويقول النصارى لايدخل الجنة إلا من كان نصرانياً.
والصحيح هو الرابع والثامن.
ومن الشواهد على التفسير الذاتي للقرآن وأن آياته يفسر بعضها بعضاً الجمع بين هذه الآية والآية بعد التالية ( ).
الثالثة: بيان علة إدعاء حصر الجنة بالذات ، وهو الحسد للغير.
الرابعة: الإشارة إلى الخلاف بين فرق أهل الكتاب مع ودهم لإرتداد المسلمين.
الخامسة: تحذيرالمسلمين من أهل الحسد والذين يبثون الشبه وأسباب والريب.
السادسة: جاءت دعوة إنفرادهم بالجنة بعد تجلي الحق وثبوت صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته ورسالته.
أما الصلة بين هذه الآيةوالآية التالية فتتجلى بالرد الإلهي بلغة البرهان والبيان والإخبار بأن بلوغ الجنة والإقامة فيها هو إخلاص النية لله، وأداء الفرائض والعبادات.
قاعدة جديدة في أسباب النزول
قد لا يرد خبر أو رواية عن أسباب نزول آيات معينة، ولا يعني هذا عدم وجود أسـباب لها على نحو السالبة الكلية بوجوه:
الأول : تكون لبعضها أسباب ولكنها لم تصل الينا.
الثاني : شغلت الوقائع والأحداث المسلمين عن الإلتفات لأسباب نزولها.
الثالث : إن أموراً حالت دون توثيق أسباب النزول.
الرابع : موضوع ومنطوق وظاهر الآية يُغني عن ذكر أسبابها.
وفي هذه الآية الكريمة ترى أسباب النزول موثقة بها فهي تحكي قولهم وتحمل الرد عليهم، فيمكن إعتبار الآية دعوة لدراسة أسباب النزول والإلتفات إليها وإلى موضوعيتها وكيف أنها تساهم في كشف حقائق عقائدية، وتكون عوناً للمسلمين في مواجهة الضلالة والإدعاء الباطل في عالم الغيب، فلولا فضل الله تعالى واخباره لما تحصن كثير من المسلمين من أثر تلك الدعوى.
بحث أصولي
قد تتداخل الأسباب حتى تكون كالسبب الواحد من حيث ما يترشح عنها من المسَبب، فيأتي مصداق واحد جامع لعناوينها وموضوعاتها لاسيما وان القرآن جاء جامعاً وافياً، وفي باب الفقه نستدل على تداخل أسباب الغسل وكفاية غسل واحد، وأسباب نزول الآية قد لا تكون من ماهية واحدة بل وان كانت من ماهية واحدة فإنها قابلة للتكرار وتجدد الحدوث، كما يدل عليه ظاهر هذه الآية.
وورودها بصيغة الجمع إشارة إلى التعدد وتكرار القول وجهة صدوره، وهل يفيد هذا التعدد المغايرة في الجزاء وتعدد المسّببات والذم لهم، أم يقتضي تداخل الأسباب وهو المسمى في علم الاصول “بمسألة تداخل الأسباب” عند الاشتراك في الاسم والحقيقة سواء حصلت دفعة واحدة أو تدريجياً.
فجاءت هذه الآية متضمنة أسباب نزولها ومبينة لها بما لا يقبل الإحتمال والإجمال ولتكون عوناً على تحديد معالم مدرسة “أسباب النزول”، فأقول والعلم عند الله ان تأسيس “علم أسباب النزول” وضبط قواعدها، وانما هو في الأصل في القرآن وفي الآيات التي تحكي أسباب نزولها وإخبار السنة النبوية القولية والفعلية، وهذا القول يصلح ايضاً لتأسيس قاعدة كلية وهي ان قواعد علوم القرآن تُستنبط وتُستقرأ وتثبت من آياته وموضوعاته وليس هي من اعمال العقول والرأي.
إعجاز الآية
في الآية توثيق للدعوة الكاذبة وفضحها إبتداء وإستدامة وتحذير المسلمين منها وكشف زيفها وإبراز لغة الحجة والبرهان لدحض تلك الأقوال، وهي مدرسة في بيان الإعلام الكاذب وأثره وكيف أن الباري عز وجل لم يتركه بل ذكره في كلامه الخالد، لترى ما في ذكره من العبرة والموعظة والمقاصد الإلهية السامية من ذكره والمنافع العقائدية والأخلاقية والإجتماعية وغيرها لهذا الذكر.
والآية مناسبة لبيان سبق الإسلام للمدارس العلمية الحديثة وما تتخذه الدول من صيغ إلاحتراز في هذا الميدان لإبطال الإشاعات والدعوة التي لا أصل لها وما توليه من عناية وتسخره من جهود وطاقات وأموال طائلة لاسيما في أيام المعارك والحروب والأزمات، بينما واجهها الإسلام بآية قرآنية فكانت آلة للنصر على نحو الدوام والإستدامة ومدداً سماوياً مباركاً وتخفيفاً ورحمة.
ومن إعجاز الآية أن موضوعها لم ينحصر بالمطالبة بالبرهان ولم تترك لهم محاولة البحث عن دليل فاسد بل وصفت تلك الأقوال بالأماني لتصبح غير مؤهلة اصلاً للدليل.
ولو وقفت عند وصف أقوالهم بالأماني والرغبات المحبوبة لأمكن إعتبارها معلقة ومحتملة التنجز، وفضل الله سبحانه عظيم وخزائنه لا تنفد، فطولبوا بالبرهان لإتمام الحجة ولحملهم على إعلان عجزهم عسى ان يكون مناسبة لهدايتهم.
ومن إعجاز الآية بقاء الإحتجاج ودوام ما فيها من التحدي الى زماننا هذا ويستمر إلى يوم القيامة باعتبار أنه إنحلالي وموجه إليهم في كل زمان مع عجزهم عن رده والإجابة عليه.
ويمكن أن نسمي هذه الاية آية (تلك أمانيهم) ولم يرد لفظ أمانيهم في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
الأية سلاح
تعتبر هذه الآية سلاحاً متعدد الوجوه والنفع فكما أنها طريق لكشف أوهامهم وبطلان إدعائهم فانها آلة إحتراز للمسلمين من الشك فيما هم عليه ومنع لهم من الإنصات الى اقوال أهل الكتاب وهي تخفيف عن المسلمين بفضح زيف إدعاء اهل الكتاب فيما يتعلق بمنازل الآخرة، فلم تكتف بنعت أقوالهم بالأماني بل تضمنت التحدي والحجة.
وتهدي الآية المسلمين إلى سبل الإحتجاج بالدليل والحجة والبرهان لتؤهلهم في هذا الباب لمهام السيادة، وكيفية سياسة البشر وإرشادهم الى الهداية بصيغ الحكمة.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الإجتهاد في أداء العبادات، فجاءت الآية السابقة بوجوب إقامة الصلاة وأداء الزكاة، وجاءت هذه الآية عوناً للمسلمين لأداء الفرائض والعبادات بالعصمة من أسباب الشك والريب التي يثيرها أهل الكتاب، فمتى ما أدرك الإنسان بطلان الشبه التي تثار حوله وما يقوم به فانه لايلتفت إليها، وفي العبادة خصوصية في المقام وهي ان المسلم يزداد يقيناً بالإحتجاج السماوي على الإدعاء الباطل.
بحث بلاغي
تقدم في الجزء الأول الحديث بإيجاز عن علوم البلاغة ومنها اللف والنشر وهو ان يذكر شيئان او أكثر بالتوالي او ضمن لفظ مجمل يصلح للإنحلال إلى أكثر من معنى مما يذكر بعده، ويترك للقارئ او المستمع رد كل واحد إلى ما يناسبه ويستحقه ومن أظهر مصاديق السير والتقسيم ذكر خصائص الأصل والمقيس عليه، ليتسنى إبطال بعض الأفراد فسبب صيام شهر رمضان إما رؤية الهلال أو الحساب والثاني باطل لإحتمال الخطأ فيه، وفيتعين السبب بقوله تعالى[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
ومنهم من حصر السبر والتقسيم بايراد أوصاف الأصل أي المقيس عليه وإبطال بعضها ليتعين الباقي للعلية( )، وقد يكون الإجمال في النشر أي البيان المتأخر، ولكنه في هذه الآية ورد في اللف بقوله تعالى [ وَقَالُوا ]، والمراد أن يهود المدينة قالوا لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقال نصارى نجران: لن يدخل الجنة الا نصارى نجران، إلا أن يكون المعنى إشتراكهما في القول والإتفاق في مواجهة الإسلام لما أحسوا به من خسارة مشتركة وتهديد لكيانهم وأنديتهم.

مفهوم الآية
تمنع الآية من دبيب اليأس الى قلوب المسلمين وتدفع الشك في دخــولهم الجنة وتؤهلهم الى منازل الإحتجاج وابطال الدعوى الزائـفــة فيما يتعلــق بالآخــرة، وتدل الآيــة في مفهــومها علــى تولي المســلمين مســؤولية تنقيح الأخبار عن عالم الآخرة ومنع الإفتراء فيما يخــص عالم البعــث والحساب والخلود في النعيم أو دخول النار.
وقوله تعالى [تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ] لطف الهي وتخفيف وتأديب للمسلمين لمنعهم من التعدي عند إبطال دعوى الجاحدين وفضح ما يقولون، وفيه هداية إلى كيفية الرد وصيغ تفنيد هذا القول، والتمني معنى في القلب وقد لا يكون له مصداق واقعي، وليس هو من الإرادة.
ومن مفاهيم الآية انها عون ورحمة الهية لهم ببعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن اذ ان بيان بطلان قولهم باختصاصهم بالجنة مناسبة كريمة للتدبر ومراجعة القول والإستدراك خصوصاً وان الآية سألتهم البرهان والحجة على هذا القول وهو معدوم مما يعني انهم ليسوا صادقين في قولهم.
وفي هذه الآيات منعة للمسلمين وترغيب لهم بالجنة والتعلق بالبراهين السماوية التي تدل على اهليتهم للجنة من غير الإدعاء بإختصاصهم بها.
وفي الآية إبراز للمعاد وإستحضار لأحواله في الأذهان والمنتديات وهي من موارد الجدال بالحكمة والموعظة الحسنة.
تتضمن الآية في مفهومها مدح المسلمين لأنهم أقروا بدخول المسلمين من الأمم السابقة والأجيال المتعاقبة الجنة ونيلهم الثواب على عباداتهم، وتذم الآية الذين حاربوا الإسلام بالشبهات وإثارة الشكوك.
لقد حاربت قريش الإسلام بأن زحفت بجيوش عظيمة لوأد الإسلام في أيامه الأولى وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن ينزل تمام القرآن وتستقر دولة الهدى والإيمان فنزلت الملائكة لنصرة المؤمنين، ودفع كيد وشر المشركين، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
ونزلت هذه الآية حرباً على أرباب الشك والريب التي يثيرها فريق من الناس لصد الناس عن الإسلام.
وفي الآية مسائل:
الأولى: بيان حقيقة وهي أن مجئ الرسول للناس غيّر الواقع وأثر في سنخية العهود والعقود التي عقدوها.
الثانية: الصلة بين بعثة الرسول والعهود المذكورة في الآية أعلاه[أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا] وجوه:
الأول: بعثة الرسول توثيق تلك العهود.
الثاني: حث الناس على التقيد بأحكام العهود والمواثيق.
الثالث: إستحداث عهود ومواثيق جديدة مع الرسول والمؤمنين بنبوته.
الثالثة: المراد من الرسول في هذه الآية هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وورد لفظ (الرسول) بصيغة التنكير، ولكن التعيين والبيان يتجلى بقرائن وأمارات منها:
الأول: أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مصدق للتوراة والإنجيل.
الثاني: إخبار القرآن عن إنكاروتحريف فريق من الناس لما مذكور في التوراة والإنجيل من البشارات عن نبوته.
الثالث: مجئ آيات أخرى تدل على إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته لأهل الكتاب، قال تعالى [ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
الرابعة: توكيد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها من عند الله عز وجل، وليس من واسطة من البشر بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو بين الله عز وجل، وفيه دعوة لأهل الكتاب والناس جميعاً لإكرامه وتصديقه.
الخامسة: بيان برهان سماوي على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإخبار بأنه مصدق لما عند أهل الكتاب من التوراة والإنجيل.
السادسة: إخبار القرآن عن مجئ الآيات لأهل الكتاب، وأن المراد من الكتاب في الآية هو الكتاب النازل من السماء.
السابعة: تدل هذه الآية على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مبشر ونذير، أما كونه بشيراً فإخبار الآية عن مجيئه لأهل الكتاب لأنه جاء بالبشارة بالجنة والنعيم الدائم لمن إتبعه ونصره ، وأما الإنذار فما جاء في خاتمة الآية عن الإخبار عن تركهم كتاب الله وراء ظهورهم.
الثامنة: ذم الذين أعرضوا عن المضامين القدسية في الكتاب المساوي، وأنكروا الدلالات والعلامات التي تؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية مسائل:
الأولى: إثارة أهل الكتاب أسباب الشك والريب ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بإدعاء أن الجنة خالصة لهم من دون الناس.
الثانية: مجئ الآية الكريمة بالرد عليهم وإبطال قولهم.
الثالثة: إتخاذ الآية طريق البرهان حجة وموضوعاً في الجدال.
الآية لطف
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بما في القرآن من البيان المستغرق للأحكام ومسائل الحلال والحرام،ولغة والبرهان وأقوال وقصص الأمم الأخرى، وإن جاءت هذه الآية بالأقوال والقصص على نحو الإجمال الذي يكفي في تحقيق العبرة والموعظة.
وجاءت هذه الآية ببيان قول أهل الكتاب فيمن يدخل الجنة ليثير هذا القول غيظ المسلمين ويؤدي إلى بث الشك والريب بينهم.
وتدفع الآية آثار هذا القول، وتثبت بطلانه وتدعو أهل الكتاب للكف عنه لأنه مجرد أماني ورغائب ليس لها دليل، وفي الآية لطف من وجوه:
الأول: الآية لطف بالمسلمين لأنها تدعوهم إلى عدم الإلتفات إلى الشبهات والشكوك التي يثيرها أهل الكتاب.
الثاني: في الآية لطف بأهل الكتاب وحث لهم على ترك الدعوة الزائفة.
الثالث: حث الناس على عدم التصديق بالشبهات التي يراد منها منعهم من دخول الإسلام، وفي شعيب وخطابه لقومه ورد في التنزيل[وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ]( )، ويقال صده عن الأمر يصده صداً أي منعه وصرفه عن الفعل بالإغواء فيه.
فالآية جاءت بلغة الخبر عما يقوله أهل الكتاب بخصوص عالم الأخرة والثواب فيها، والمراد منها المعنى الأعم وجعل واقية عند المسلمين، وصيرورة الناس منقطعين إلى عبادة الله، ويتحلون بالصبر والتقوى، مع تحذيرهم من الإفتراء والقول بغير حق.
ومن بركات هذه الآية دخول الناس في الإسلام أفواجاً وإعراضهم قبل الدخول وبعده عن صيغ الشك والريب، وفي الآية بيان لكيفية جذب الناس لدينهم بدعوى إنفرادهم في الجنة.
إفاضات الآية
تبعث الآية على التفقه في الدين، وتدعو الناس جميعاً إلى لغة البرهان بخصوص عالم الدنيا والآخرة وينحصر البرهان بخصوص الأخرة بالتنزيل والنبوة، والقرآن مصدق للتوراة والإنجيل وجاءت الآية التالية لتعيين كيفية الفوز الفوز بالجنة والسعادة الدائمة.
وتدعو الآية الى التبصر في أمور الدين، ونبذ الأماني والأوهام فيما يخص عواقب الأمور وعالم الحساب، وتبعث الآية الشوق في النفوس لقول الصدق ، وتدعو لتعاهده، والذي يتقوم بالحجة والبرهان.
جاء ذكر قول الذين لا يعلمون للتحذير من مشركي قريش وعدم الإصغاء لهم ولزوم الحيطة والحذر منهم وعن عبد الله بن مسعود قال : كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ضربه قومه فأدموه وهويمسح الدم عن وجهه ، يقول : اللهم إغفر لقومي فأنهم لا يعلمون.
ودعاء النبي لقومه لا يتعارض مع قوله تعالى [وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( )، وفيه نكتة وهي رجاء نقلهم كلاً أو بعضاً إلى منازل العلم بالتوبة والإنابة ، ومعه يتغير قولهم ، وينظرون بعين الحكمة والبصيرة وينقطعون إلى ذكر الله ويعلمون [إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى] ( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بقول أهل الكتاب وتنحل كلمة [قَالُوا] إلى قسمين:
الأول: قال فريق من اليهود أيام نزول القرآن لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً.
الثاني: قال فريق من النصارى أوان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً.
وذكر الجنة في الآية حجة بلزوم إستعداد الناس ليوم القيامة ومافيه من الحساب، وإشارة إلى معرفة أهل الكتاب بحقيقة أن يوم القيامة فيه جزاء على الأعمال في الدنيا ثم وصفت الآية القول بأنه آماني ورغائب لا أصل لها من الكتاب والتنزيل.
فيدل نعتها على أنها أماني على أن الأنبياء السابقين لم يذكروا هذا التعيين، ولم يرد في التوراة والإنجيل.
ثم جاءت الآية بفعل الأمر (قل) والخطاب موجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع تلقينه الحجة ، فلم تأمره الآية بقتالهم وذمهم وتوبيخهم بل جاء الرد بخصوص موضوع الآية وحده وبلغة الإحتجاج وسؤال البرهان، وفيه شاهد على صدق بعثته لأنه يطلب البرهان ويعتمد الحجة والدليل وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وأختتمت الآية بقوله تعالى [إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] لإظهار الملازمة بين البرهان والصدق، ويدل في مفهومه على أن الذي لا يأتي بالبرهان على قوله بخصوص الآخرة إنما هو كاذب، وفيه دعوة للملبين جميعاً بعدم الحديث عن عالم الآخرة إلا مع الحجة والبرهان.
التفسير الذاتي
وبعد لغة الخطاب في الآيه السابقة وإرادة المسلمين جاءت هذه الآية بلغة الجملة الخبرية مع التباين في الموضوع، فالآية السابقة جاءت بالأمر بأداء الصلاة والزكاة ورجاء الثواب والجزاء الحسن من عند الله، وليس من جزاء أفضل مما يأتي من الله وكل إنسان محتاج إلى الجزاء الحسن لأن البعث والنشور والوقوف بين يدي الله للحساب أمر حتمي ولابد منه، لذا جاءت هذه الآية بخصوص الجزاء وإقرار اليهود والنصارى بعالم الآخرة مع إدعائهم أن دخول الجنة مختص بهم، قال تعالى[قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ] ( ).
وتنفي هذه الآية بمفهومها قولهم إذ أنها جاءت على صيغة السبر والتقسيم والأصل فيها طائفتان قال كل واحدة منهما بأن الجنة لهم وحدهم فيحصل تضاد وتعارض فيتساقط القولان فيرجع إلى الأصل، وهو أن الآخرة دار جزاء، والجنة مأوى الذين آمنوا وعملوا الصالحات، كما يحصل التعارض بين قول اليهود والنصارى في هذه الآية، وبين الوعد الكريم للمسلمين في الآية السابقة بقوله تعالى[وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ] ( ).
ومن إعجاز القرآن ذكر التباين الموضوعي بين ما ورد في الآية السابقة وهذه الآية لإبطال إدعاء اليهود والنصارى وتثبيت الوعد الإلهي والحيلولة دون إفتتان شطر من المسلمين بما يقوله هؤلاء، خصوصاً وأن الآية قبل السابقة ذكرت رغبة فريق من أهل الكتاب بإرتداد شطر من المسلمين، وإدعاء إنحصار دخول الجنة بفريق من أهل الكتاب من وجوه هذه الرغبة وأسباب صد المسلمين عن الفرائض والعبادات، لأن رجاء الثواب والجزاء الحسن من عند الله من أهم أسباب الشوق والإقبال على أداء هذه العبادات.
فجاءت هذه الآية لفضح المصداق الخارجي لتلك الرغبة والحسد الذي يملأ نفوسهم وتكذيب إدعائهم ليبقى الوعد الإلهي الوارد في الآية السابقة قائماً بذاته لا يطرأ عليه تقييد وتبديل.
وهذه الآيات من الحرب على التحريف الذي قامت به طائفة من الملل السابقة ، قال تعالى[يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ] ( ) ، ولعل إدعاء الإختصاص بالجنة من التحريف , مما يدل على أن الله عز وجل لم يترك التحريف وأهله، بل تفضل بالتنزيل الذي يفضحه ويذم أهله، ويثبت الحقائق بخصوص الآخرة وما فيها من الجزاء الحسن للمسلمين، ومن الآيات مجيء تكذيب التحريف بلغة البرهان والحجة والبيان، إذ أن الآية تسأل البرهان من تنزيل أو قول نبي أو حجة عقلية وقوله تعالى[هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ] من التعجيز والتبكيت وفضح زيف الإدعاء بإختصاصهم بالجنة.
وجاء لفظ[هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ]أربع مرات في القرآن، ثلاثة منها خطاب وأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وردت بلفظ(قل) ( )مما يدل على أمور:
الأول : إرادة الإحتجاج بالدليل وإبطال المغالطة.
الثاني : وحث الناس على التفقه وإكتساب المعارف.
الثالث : فضح المقولات الباطلة ومنعها من الإنتشار بين الناس وكشف زيفها.
الرابع : بعث الناس لدخول الناس الإسلام.
الخامس: تثبيت المسلمين في منازل الإيمان والإستقامة.
السادس :تنمية ملكة الجدال بالحق عند المسلمين، فالخطاب وإن جاء خاصاً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه ينحل بعدد المسلمين والمسلمات والتقدير(قولوا).
السابع : إنه من مصاديق قوله تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )، فمن الأحسن سؤال البرهان والدليل على الدعوى وجاءت الرابعة في لفظ برهانكم توبيخاً من الله للكفار يوم القيامة [فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ]( ).
وكأن مدرسة هذا اللفظ في القرآن (هاتوا برهانكم) تقسم الإحتجاج على الناس إلى قسمين.
الأول : سؤال البرهان في الدنيا , ويقوم به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، بأمر من الله عز وجل، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثاني : إحتجاج الله عز وجل على الكفار يوم القيامة فيسألهم الله عن حجتهم بما كانوا يفعلون وما يقولون.
وجاء مرة واحدة خطاباً من عند الله في الإحتجاج يوم القيامة , قال تعالى[وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ] ( ) ، لبيان مصاحبة البرهان لأحوال الناس في الدنيا والآخرة ، وملاحقته لأهل الجحود والإدعاء الذي لا أصل له.
ترى لماذا تذكر الآية (قل) والأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يطلب منهم الإتيان بالبرهان والحجة التي تؤيد قولهم بخلوص الجنة لهم، الجواب من وجوه:
الأول: إرادة الإحتجاج على أهل الكتاب.
الثاني: دعوة أهل الكتاب والناس جميعاً للإسلام بالواسطة، أي بواسطة إبطال القول الذي يؤدي إلى صدهم عن دخول الإسلام.
الثالث: الدلالة على جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مواجهة المقالات الباطلة.
الرابع: إنه من مصاديق إنتشار الإسلام بالحجة والبرهان وليس السيف والقتال، قال تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ).
الخامس: إتخاذ البرهان سلاحاً ووسيلة لدفع الأذى وجلب المنفعة للذات والغير، إذ أن سؤال البرهان والبينة هو ذاته برهان، وإظهار للغته، وإعتماد له، ومنع من إتباع الهوى والعصبية وحمية الجاهلية الأولى.
السادس: جاء الخطاب في الآية(قل) للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعم في دلالته، إذ أنه موجه للمسلمين جميعاً، وفيه شاهد على إشراقة فجر جديد على الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحصول إرتقاء في المعارف والمعاملة والكسب العلمي بجعل موضوعية للبرهان والحجة في الجدال، والمطالبة بالدليل على القول والإدعاء.
وقد يرد أهل الكتاب بطلب البرهان من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على أقوالهم والجواب من وجوه:
الأول: لم يقل المسلمون أن الجنة خالصة لهم من دون الناس، لوجود أمم من الموحدين من الملل الأخرى من الذين صدّقوا بالأنبياء جميعاً.
الثاني: القرآن برهان وحجة يرجع إليه المسلمون، وقد طالبهم بالإتيان بالتوراة[قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
الثالث: كل آية من القرآن برهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: إن الإحتجاج على أهل الكتاب بطلب بالبرهان دعوة لهم للتدبر في لغة البرهان الموجودة في القرآن.
لذا جاءت الآية بقوله[إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] في دلالة على الحث على الصدق ونبذ الكذب والإفتراء.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: بيان ما يقول أهل الكتاب من إختصاصهم بالجنة، وما فيه من الدلالة على إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: الآية توثيق سماوي لما يقوله أهل الكتاب.
الثالثة: دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للتصدي إلى ما يقولون مما يتضمن الشك والريب بنبوته.
الرابعة: جاءت الآية بالخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) للرد على ما يقولون، ولكنه أعم فيشمل الخطاب المسلمين والمسلمات.
الخامسة: ذكرت الآية إدعاء أهل الكتاب إختصاصهم بالجنة ولكن الآية أعم، إذ أنها تدعو المسلمين للرد على المقولات الباطلة والخالية من الحجة والبرهان والتي تتضمن إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن منافع هذه الدعوة وقاية المسلمين من أسباب الشك، وإحترازهم من الجدال بالباطل، وجعلهم يستحضرون البرهان الذي يزيدهم إيماناً.
ترى ما هو البرهان الذي يراد من أهل الكتاب الإتيان به بقوله تعالى [هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ] وفيه وجوه:
الأول: شاهد من كتاب سماوي.
الثاني: قول للأنبياء السابقين.
الثالث: الحجة والدليل مطلقاً الذي يؤكد صدق قولهم، إذ أن البرهان يفصل الحق عن الباطل، ويميز الصحيح من السقيم، ويفيد نتيجة قطعية، وهو أمر يتنافي مع الأماني والظن غير المعتبر.
لقد جاء قول أهل الكتاب بدعوى تتعلق بعالم الآخرة، فجاء الرد من عند الله بوجوه:
الأول: وصف الدعوى بأنها أماني وتخييل.
الثاني: الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بطلب البرهان منهم على قولهم.
الثالث: توكيد الملازمة بين البرهان وصدق القول.
السادسة: إبتدأت الآية بقوله تعالى [قَالُوا] والمراد من واو الجماعة في المقام اليهود والنصارى مع التفصيل في قولهم، وهو من السبر والتقسيم، وكل فريق يقول الجنة خالصة له وهو من الإبتلاء الذي يواجه المسلمين في باب العقيدة والجدال ولغة الإحتجاج فجاءت هذه الآية عوناً وسلاحاً في رد الشبهات.
السابعة: هذه الآية إبطال للشبهات، ورد على الدعوى الزائفة بإختصاص فريق من أهل الكتاب بالجنة.
الثامنة: بقاء قوله تعالى [هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ] حجة إلى يوم القيامة.
التاسعة: دعوة المسلمين للمواظبة على العبادات، والسعي لدخول الجنة، والشوق إليها.
العاشرة: تحث الآية المسلمين على الرجوع إلى آيات القرآن لمعرفة الطريق إلى الجنة ويتجلى بالإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته وأداء العبادات والفرائض.
التفسير
قوله تعالى [وَقَالُوا لَنْ يَدْخُــلَ الْجَـنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى]
جــاءت هذه الآية لتتناول مسـألة عقائدية تتتعلق بعالم الآخرة وتشمل ايضاً اقوالهم في الدنيا، فمن أهم ما واجه الناس عند البعثــة النبويــة هو الوعيد بالخلود في النار الذي يستحقه كل كافر وهــو في مفهومــه يدل على إعترافهم بيــوم القيامة وبوجود الجنــة والنــار بغض النـظــر عن انهما مخلوقتــان الآن او لم يخلقا بعــد، والمشهــور انهمــا مخلوقتــان وعليه اكــثر المتكـلمين وهو المختار، وقد تقدمت الإشارة إليه.
وخالف المعتزلة والخوارج وطائفة من الزيدية ومن بين صيغ مخالفتهم ما جاء على لســان الجبائي قال: “ان ذلك محال فلابد من فنـاء العالــم قبل نشــره وفنــاء بعض الأجسام فناء لسائرها” .
وقد إنعقد الإجماع على ان الله تعالى لا يفني الجنة والنار ولا عبرة باستدلال عقلي قاصر يتعارض مع عظيم قدرة الله سبحانه والنصوص المستفيضة خصوصاً وأن الكائنات ليست من المركب والمتحد الذي يتقوم كل جزء فيه بالآخر، فالجنة والنار شيئان منفصلان عن الإنسان.
وهذه الآية تمثل وتبيّن تحدياً كبيراً للمسلمين لأن اهل كتاب ممن يوثق بقولهم من قبل الجميع قبل الإسلام يدعون حصر دخول الجنة عليهم، إنما أسلم المسلمون طاعة لله ولرسوله ورجاءً لفضله بالجنة والثواب وهروباً من النار، وهي تعلن عن إبتداء الحرب العقائدية الدعائية، ومن القريب والمؤمل نصره، وفي ذات الغاية المنشودة اي ان النزاع في سنخية الطريق، والذي يتقوم باخلاص العبودية لله عز جل , قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ]( ).
وربما لم تتوصل الدراسات الإسلامية في باب التفسير والتأويل إلى مضامين هذه الآية وما فيها من الدلالات في وقت يولي العالم هذا الزمان عناية بالإعلام والذي اصبح يسمى بالسلطة الرابعة وتبذل الأموال الطائلة على الدعاية وتتصدى الدول لما يسمى بالطابور الخامس والدعايات المغرضة، ونحن مطالبون بالبحــث والدراســة في هذا الباب فيما يخص أيام المسلمين الأولى، والقرآن هو الذي تكفل هذه الوظيفة تخفيفاً عن المسلمين وإعانة لهم فمن إعجاز القرآن في المقام أنه الســلاح الأول عند النــبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
فهذه الآية ومثيلاتها تثبت وتؤكد أن الإسلام لم ينتشر بالسيف بل انتشر بالعلم والحجة والبرهان، والسيف كان أثره محدوداً زماناً ومكاناً وأشخاصاً، ومرتبة متأخرة من وجوه المقدمة والطريقية لبست رداء الحاجة والنفع العام الشامل للمسلمين وغيرهم، وكان آلة ضرورة بوجه من واجه الإسلام وأصبح عائقاً في طريق تثبيت مبادئ التوحيد في الأرض فشهر المسلمون في طريقه السيف أو عرضوه عليه وخيّروه بينه وبين الإسلام، لذا ترى الإنذار يسبق المعركة.
بحث بلاغي
جاء إسم كان بصيغة الضمير المستتر المفرد لسياق الكلام وورود لفظ (من)، أما الخبر فجاء على المعنى، ومنهم من منع هذا التعدد وقال أما أن يأتي إسم كان وخبرها على اللفظ، وأن يحملا على المعنى فلا يقال لا يصلي الجمعة الا من كان طاهراً.
ولكنه جاء في القرآن بجمع التكسير ولابد ان له مفاهيم إعجازية وعقائدية تتعدى المعنى اللغوي.
ومن الآيات في المقام أنك ترى أقوال فريق من الناس موثقة في هذه الآيات ومع هذا لم يشهر السلاح بوجوههم وشملوا بعناية وذمة مع إكرام المسلمين لهم.
ليواجه من يفتري على الإسلام بنفس صيغ المواجهة القرآنية من الإحتجاج ومفاهيم الحكمة، والله عز وجل هو الذي تفضل وذكر الأقوال ووثقها في القرآن، فاذا كان جماعة او افراد منهم قالوا وإدعوا حصر الجنة عليهم فقد أصبح كل مسلم يعلم به على نحو عالم الإمكان او الوجود العملي مما يحتمل معه انهم سيستمرون على مثل هذا القول في هذا الزمان وفي كل زمان، فنستنتج منه قاعدة كلية وهي أننا نحتاج القرآن دائماً وأن الصور القرآنية تتكرر في كل وقت وهي باقية تنبض بالحياة، أي أن الاعجاز ملازم للقرآن وبوجــوه اضافية متجددة مستحدثة من دون ان تؤثر سلباً على الأصول والقواعد الثابتة في إعجازه منذ نزوله والتي ظلت نضرة باهرة.
وبعد ان قال تعـــالى في الآية التاســعة بعد المائــة من هذه السورة [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ] جاءت هذه الآية وبينت إدعاءهم وما فيه من المغالطة و التعدي والإساءة والإصرار على التفريط مما يعني ان الموضوع مستقل وان الله عز وجل يتولى الرد عليهم وفضــحهم، ولكنها في مفهومها نوع تأديب للمسلمين، وقد قلنــا ان في كل آيــة من آيــات القــرآن تأديباً للمسـلمين وصيرورة كل آية مدرســة إخلاقيــة دائمة وإشــراقة لتهذيب النفوس تفتح آفاقاً من البحث في علوم القرآن.
ويمكن تقسيم الواقع تقسيماً إستقرائياً إلى قسمين:
الأول: أماني في مخيلة وأوهام أهل الكتاب، وقد وردت النصوص بذمها، وعن علي عليه السلام: لا تتكل على المنى فانها بضائع التولي)( ).
الثاني: العمل الدؤوب في الجهاد والعبادات والإيمان وتلقي الآيات وهو الذي إنتهجه المسلمون.
ترى لماذا هذا الجمع في الآية الكريمة وموضوعها، هل هو حقيقي، وأنهم أعرضوا عن الخلافات الخاصة بينهم في مواجهة الإسلام وإشتركوا في الدعوى، أم جاء على نحو الطي والنشر وهو ان يذكر متعدد ثم يذكر ما لكل من أفراده شائعاً من غير تعيين لأن السامع يستطيع التصرف والتمييز والفصل بينها.
الجواب هو الثاني في الغالب بمعنى عدم الحصر به لعدم الدليل على الحصر ولأصالة الإطلاق والعموم فربما كان بعضهم على الأول وبعضهم على الثاني.
ولابد من مقولة علمية جديدة في الجملة ان كل آية تكون تفسيراً لآية أخرى وتكون مفسرة من قبل آياته أخرى وعلى نحو التعدد وليس الإتحاد وإن قصرت أوهامنا عن ملاحظة ذلك التعدد، فالآية الواحدة تكون مفسرة بآيات عديدة وهي تصلح تفسيراً لعدة آيات، فالقرآن تبيان لكل شيء، وذات القرآن من الآيات فلابد ان فيه تفسيراً وبياناً لنفسه وآياته.
قوله تعالى [هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ]
أي إحضروا دليلكم وما يثبت ما تدعون اذ ان الأمور لا تقوم الا بالبرهان والبينة ولكن منطوق هذا الخطاب جاء خالياً من التوبيخ الظاهر والنفي التام لدعواهم من غير ان يفقد صفة الإحتجاج، فالملاك تحصين المسلمين مما يلقيه اليهود والنصارى من الشبه.
والظاهر ان العلة هي موضوع الأمنية وما فيه من الإقرار بعالم الآخرة أي أنهم أقروا بهذه الأماني بوجود الجنة والنار وعالم الثواب والعقاب، كما في فرعون مثلاً أخر الله عز وجل عنه العذاب لأنه كان قد كتب على باب داره بسم الله الرحمن الرحيم كما سيأتي ان شاء الله في تفسير قوله تعالى [ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا]( ).
والخطاب هنا بصيغة المخاطب الحاضر وصدر الآية بصيغة الغائب ليكون دعوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في الإحتجاج عليهم، وجواز التفكيك في الإحتجاج على كل قوم بالإستقلال تارة، وبالإتحاد مع غيرهم تارة اخرى.
بحث منطقي
البرهان آلة للفصل بين الحق والباطل، ولتمييز الصحيح من الفاسد، وهو سبيل لإدراك الحقيقة، وحجة ويتألف من مقدمتين واجبتي القبول سواء كانت من البديهيات أم من النظريات لينتج بالضرورة قضية يقينية، والظاهر ان بين القياس والبرهان عموماً وخصوصاً مطلقاً، فكل برهان هو قياس وليس العكس، لذا لا يسمى الاستقراء ولا التمثيل برهاناً لأنهما قد لا يفيدان اليقين.
وللحد الأوسط موضوعية في كل قياس وهو الذي يؤلف بين الاكبر والأصغر ويكون طريقاً موصلاً الى المطلوب وعلة لليقين بالنتيجة، كما في قولك.
محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول؟
وكل رسول نبي، فالحد الأوسط هو (رسول) فيتحصل ان محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبي.
وظاهر الآية الكريمة ان البرهان هو الحجة لتصديق قولهم واثبات ما يدعون، ولكنه مفقود بدليل العجز الواقعي والتأريخي عن الإجابة اليه.

قوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]
توكيد للحجة عليهم واخبار عن زيف دعواهم الإختصاص بالجنة بلحاظ إنتمائهم ومذهبهم، وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على الملازمة بين الدعوى الصادقة والبرهان، فلا غرابة ان تعتبر عندنا وذكرت في الفقه والقضاء قاعدة كلية المستقرأة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “البينة على من إدعى واليمين على من أنكر( ).
ويتصف ما في هذه الآية من الإحتجاج والتحدي بالحياة والتجدد من غير تغيير بماهية الصدق كموضوع بسيط، كما تخبر الآية بمفهومها عن عدم وجود برزخ أو وسط بين الصدق والكذب فمن لم يكن صادقاً فلابد ان يكون كاذباً فيما يدعيه.
والآية من اللطف الإلهي العام ففيها إرشاد، ونهي، إرشاد لقول الحق ونهي عن الإفتراء والتمادي في العناد والجحود.


قوله تعالى[بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] الآية 112.

الإعراب واللغة
بلى: حرف جواب مختص بالنفي ويفيد إبطاله وهو هنا إثبات لدخول غيرهم الجنة وإن نفوه أو لم يلتفتوا إلى أصل قواعد الدخول.
من: إسم شرط جازم وهو مبتدأ.
أسلم: فعل ماض وهو فعل الشرط والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، وجهة: مفعول به منصوب و(الهاء) مضاف إليه، لله: جار ومجرور، متعلق باسلم .
وهو:الواو للحال، هو: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ.
محسن: خبره، والجملة في محل نصب على الحال.
فله أجره: الفاء رابطة لجاب الشرط والجار والمجرور (له) خبر مقدم، وأجره: مبتدأ مؤخر، والهاء مضاف اليه، عند ربهم:عند ظرف مكان منصوب، لربهم:مضاف إليه مجرور والهاء مضاف اليه أيضاَ،والجملة الإسمية في محل جزم جواب الشرط.
ولا خوف: الواو عاطفة، لا: نافية، خوف: مبتدأ ساغ الإبتداء به لتقدم النفي عليه .
عليهم: جار ومجرور.
ولا هم يحزنون: الواو عاطفة، لا:زائدة لتأكيد النفي، هم:ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ .
يحزنون : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، الواو: فاعل، والوجه إسم جامد وزنه فَعْل وهو من الإنسان معروف، وهو ما بين الأذنين عرضاً، وبين الجبينين والذقن طولاً.
ومن الآيات في خلق الإنسان أنه يمتاز عن باقي المخلوقات من الجن والحيوانات بالإستقلال والفصل والتمييز لوجهه عن باقي أعضاء بدنه وأنه يكون في أعلى البدن وهو من مصاديق تشريف وإكرام الإنسان ومن عمومات قوله تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
وعن زرارة بن أعين، أنه قال لأبي جعفر الباقرعليه السلام: أخبرني عن حد الوجه الذي ينبغي أن يوضأ، الذي قال الله عز وجل؟ فقال: الوجه الذي قال الله، وأمر الله عز وجل بغسله، الذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه، ولا ينقص منه، إن زاد عليه لم يؤجر، وإن نقص منه أثم: ما دارت عليه الوسطى والإبهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن، وما جرت عليه الإصبعان مستديرا فهو من الوجه، وما سوى ذلك فليس من الوجه، فقال له: الصدغ من الوجه؟ فقال:لا( ).
وما جرت عليه الإصبعان مستديراً فهو من الوجه وما سوى ذلك فليس من الوجه، والصدغ بالضم ما بين لحظ العين الى أصل الإذن او ما إنحدر من الرأس إلى مركب اللحيين.
ووجه كل شيء: مستقبله، وكأن القرآن يدعو إلى بداية جديدة في أفعال العباد وهي الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والإحسان ضد الإساءة ورجل محسن أي كثير الإحسان لذا اكتفى بها ولم يأت بصيغة التعجب ما احسنه.
وفي بيان الإحسان، ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه حين سأله جبرئيل: هو ان تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك”( )، مما يدل على ان الإحسان للناس يتفرع عن العبادة الصحيحة.
بحث في القراءة
وردت [بَلَى] في إثنين وعشرين موضعاً من القرآن في ست عشرة سورة، وبلحاظ الوقف والإبتداء في علم القراءة قسمت إلى ثلاثة أقسام:
الأول: إختيار الوقف عليها، لأنها جواب لما قبلها غير متعلقة بما بعدها، ومنهم من أجاز الإبتداء بها، ومن هذا القسم هذه الآية.
الثاني: ما لا يجوز الوقف عليها لتعلق ما بعدها بها وبما قبلها مثل [بَلَى وَرَبِّنَا]( )، [لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى]( ).
الثالث: ما أختلف في جواز الوقف عليها، والأكثر إختار منع الوقف عليها، لإلحاقها بالقسم الثاني وهو ان ما بعدها متصل بها وبما قبلها وهي خمسة مواضع منها قوله تعالى [بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي]( ).
في سياق الآيات
بعد ان ذكر القرآن قول الإختصاص باللبث في الجنة وتحداهم بالإتيان بالبرهان الذي تحتاجه الدعوى، ذكر هذه القاعدة الكلية لتكون ركناً في دراسة مقارنة للواقع العقائدي وانه لا يوصلهم الى الجنة، فالآية تجعلهم ينشغلون بانفسهم لوماً واصلاحاً.
وجاء قوله تعالى [أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ] لحث المسلمين على عدم إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال الخالي من النفع الخاص أو العام، ودعوتهم لترك اللجاج والإلحاح والتشديد على النفس وإجتناب كثرة سؤال بني إسرائيل لموسى عليه السلام، كما في قصة البقرة وقوله تعالى[قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا]( ).
وجاءت هذه الآية لتبين وظائف العبودية والتي فاز بها المسلمون.
ويفيد الجمع بين الآيتين توجه المسلمين الى ما فيه صلاحهم ونفعهم في الدنيا والآخرة.
وجاء قبل ثلاث آيات الإخبار الإعجازي بان كثيراً من أهل الكتاب يتمنون إرتداد المسلمين عن دينهم من غير تعيين للأسباب والكيفية بقوله تعالى [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا]( )، وجاءت هذه الآية لتحث المسلمين على التقيد بأحكام الصلاح والتقوى، وان المدار على العمل الصالح وليس على الإسم، لتكون هذه الآية حجة عليهم، وتثبيتاً لأقدام المسلمين في منازل الإيمان، وتقوية لقلوبهم، وإذ يعجز أهل الكتاب عن الإتيان ببرهان يدل على صدق دعواهم، فان هذه الآية برهان وحجة جامعة مانعة، جامعة للذين يستحقون دخول الجنة، ومانعة من الإدعاء الكاذب بدخولها من غير نية وعمل صالح.
ولو سأل أحدهم كيف يسلم العبد وجهه لله كي يفوز بالأجر والثواب ودخول الجنة، فان الآية قبل السابقة بيان وتفصيل للوظائف العبادية لقوله تعالى فيها [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ).
وجاءت الآية التالية لبيان الإختلاف والتباين في قول فريق من أهل الكتاب، ويفيد الجمع بين الآيتين دعوتهم جميعاً لطاعة الله والتصديق بالنبوة وأداء الفرائض وإتيان الصالحات قربة الى الله عز وجل.
يدل إبتداء الآية بحرف الجواب [بَلَى] على صلة هذه الآية بالآية السابقة في الموضوع والحكم.
فقد جاءت الآية السابقة بالإخبار عما يقوله فريق بأن الجنة خالصة لهم، وما أمر الله عز وجل به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في الإجابة عليهم وإبطال قولهم بالحجة وسؤال البرهان لإثبات قولهم، والذي يعجزون عنه.
ومن إعجاز القرآن، ولغة الإحتجاج فيه أن الآيات لم تقف عنه ذكر القول ورد النبي عليهم وأن كان كافياً لتحديه، بل جاءت الآيات بذكر الذين يستحقون الجنة بصفاتهم الإيمانية، قال تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
ولو كان الإحتجاج عليهم بما ورد في الآية السابقة وحدها لربما جاء هذا الفريق من أهل الكتاب بأقوال أخرى منها:
الأول: لن يدخل الجنة معنا إلا من نرضى بدخوله.
الثاني: يدخل الجنة فريق من اليهود والنصارى خاصة.
الثالث: ليس في الآية السابقة ما يدل على دخول غير اليهود والنصارى الجنة، لأنها خاصة بنفي إختصاصهم في دخولها.
فجاءت هذه الآية آية في الإعجاز وبيان خصائص وصفات الذين يدخلون الجنة ليتضمن هذا البيان الدعوة إلى الإسلام ويفيد الجمع بين الآيتين حث المسلمين على عدم الإنشغال بما يقوله بعضهم من أسباب الشك والريب، وفيه دعوة للمسلمين للإنقطاع إلى العبادة والإخلاص في طاعة الله عز وجل.
وجاءت الآية قبل السابقة لبيان المراد من تسليم الوجه لله بقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ] ( )، لمنع الجهالة والغرر، وطرو أسباب الضلالة وإعانة الناس للتخلص من العناد والإصرار على الجحود، ببيان سبل النجاة في الآخرة.
وإذ ذكر أهل الكتاب دخول الجنة فان هذه الآية جاءت بالمعنى الأعم وهو قوله تعالى [وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] وبين دخول الجنة وخاتمة هذه الآية بنفي الخوف والحزن منهم عموم وخصوص مطلق، إذ أن أهل الكتاب ذكروا دخول الجنة وحده.
بينما جاءت هذه الآية بالإخبار عن الأمن والسلامة في كل من:
الأول: عالم البرزخ.
الثاني: مواطن الحساب.
الثالث: الصراط والحوض والميزان ونحوها.
الرابع: دخول الجنة.
الخامس: عدم دخول النار، إذ أن دخول الجنة يحتمل وجهين:
الأول: مجيؤه إبتداء بعد الحساب وما فيه من الأهوال.
الثاني: الدخول في النار مع فعل الذنوب والمعاصي، ثم الخروج من النار بعفو من الله ودخول الجنة.
فجاءت هذه الكريمة لنفي الخوف والحزن عن المؤمنين، مما يدل بالأولوية القطعية على سلامتهم ونجاتهم من النار وحرها، وفي التباين بين قول فريق أهل الكتاب وهذه الآية شاهد على التكامل الذي تمتاز به الشريعة الإسلامية من بين الشرائع السماوية، وحاجة الناس جميعاً للقرآن وما فيه من العلوم والأحكام وأخبار الدنيا والآخرة.
وإذ جاءت آية [وَدَّ كَثِيرٌ] ( )، بالإخبار عن إرادة فريق من أهل الكتاب الإرتداد لعدد من المسلمين، فقد جاءت الآية محل البحث للحصانة من الإرتداد، بما فيها من بيان لسبل النجاة في النشأتين.
فالآية وان جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن إرشاد المسلمين إلى سبل بلوغ الجنة والنجاة في الآخرة، والإحتراز من الإرتداد والوقاية من الحسد وأسباب الشك والريب التي يبثها أعداء الإسلام.
ثم جاءت الآية التالية لتبين الخلاف والخصومة بين أهل الكتاب أنفسهم، وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة الإيمان وإجتناب الخلاف والشقاق، وفي قوله تعالى [فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] ( )، دعوة للمسلمين لعدم الإنشغال لما بين أهل الكتاب من الخلاف والخصومة، لأن هذه الآية تأمرهم بالإخلاص في العبادة وعمل الصالحات.
إعجاز الآية
في الآية مسائل :
الأولى : الآية رد على قول فريق من أهل الكتاب ودفع لمحاولاتهم القاء الشبه ووجوه الشك والريبة في نفوس المسلمين.
الثانية : إعطاء قاعدة كلية غير مبنية على أساس الإنتماء الديني والعقيدة والمذهب والمنصب، بل اساسها الإيمان وهو في متناول كل شخص وباب مفتوح دائماً.
الثالثة : الآية سبيل الى الهداية والإيمان.
الرابعة : من عظمة القرآن وصدق نزوله من عند الله عز وجل عدم اخبار الآية بأن المسلمين هم اهل الجنة والأحق بها كرد فعل لقولهم ومقابلة للدعوى بمثلها وبيان الحق صريحاً واضحاً، مع ان المسلمين كانوا محتاجين إلى ذلك وجاءت الآية بذكر موازين العدل الإلهي وصيغ التفضيل والتمايز يوم القيامة.
الخامسة : هذه الآية رحمة عامة، سواء لأهل الكتاب او للمسلمين او لغيرهم في منطوقها ومدلولها , قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
الآية سلاح
بدل ان ينشغل المسلمون بالرد على قولهم بحصر الجنة بهم تكفلت الآية بنفي القول وبينت بالدلالات الثلاث المطابقية والتضمنية والإلتزامية من هو المؤهل لدخول الجنة , والحكم يوم القيامة لله عز وجل[قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ]( ).
فالقرآن سلاح بل هو اقوى حجة بيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
وهذه الآية منهاج عمل للسالكين وما يؤدي الى الجنة من سبل الصلاح والإيمان، فالإنتماء للإسلام ضرورة وواجب، لكنه لا يكفي وحده لبلوغ مقامات الخلود في الجنة بل لابد من الإخلاص في السعي ولا يكون ذلك الا بالإلتزام بأحكام الشريعة الإسلامية.
وجاءت الآية بلغة البيان ضمن صيغة الإحتجاج والجدال ، وتلك آية في التأديب والهداية والإرشاد ، وهي شاهد على أن الإحتجاج مقدمة وطريق للصلاح والتحلي بلباس التقوى .
ومع أن الآية تضمنت شرطاً وجزاء له ، فان كل فرد فيها ثروة وسلاح من وجوه :
الأول : لزوم إخلاص العبادة لله وتفويض الأمور إليه سبحانه وإدراك أن مقاليد الأمور بيده ، قال تعالى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ]( ).
الثاني : تقييد الإنقطاع إلى الله عز وجل بالصلاح والإحسان بقوله تعالى [وَهُوَ مُحْسِنٌ] ومن مصاديق الإحسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث : ترتب الأجر والثواب على الإنقطاع إلى الله وفعل الصالحات .
الرابع : البشارة بالأمن يوم القيامة .
الخامس : الوعد الكريم بالسلام من الحزن والحسرة قال تعالى[لاَ يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ]( ).
وتتضمن الآية وعداً كريماً من الله عز وجل بتعلق بدخول الجنة فلا يدخلها أحد إلا بأمره ومشيئته وفضله ، والجنة من مصاديق وأفراد الملك في قوله تعالى [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
ولم تقل الآية ومن سلم وجهه ، بل جاءت بصيغة المضارع للدلالة على بقاء باب الإقامة في الجنة مفتوحاً للأجيال اللاحقة .
مفهوم الآية
الآية قاعدة كلية في الإرادة التكوينية، ومدرسة تأديبية جامعة للمسلمين وغيرهم، وفيها ترغيب بعالم الآخرة وحث على الإحتراز من أسباب ومقدمات العذاب والبؤس والخوف يوم القيامة وإختيار سبل الفوز بالجنة.
وتظهر الآية الإرتقاء والحكمة في عقيدة الإسلام ورفعة مبادئه وأولوية العمل وأداء العبادات عند المسلمين، فالجنة لا تنال بالنسب وبالإنتساب المجرد بل بالإيمان والصلاح وإتيان الفرائض.
والآية دعوة لأهل الكتاب لدخول الإسلام، فاذا كانوا حريصين على دخول الجنة فان طريقها منحصر بالإسلام، والنطق بالشهادتين من أهم مصاديق الإحسان ولم تغلق الآية طريق الجنة على أحد حتى أولئك الذين يحاربون الإسلام لما فيها من مفاهيم التوبة وإمكان الإنابة كما انها تعده بالأجر والثواب، وهذا الأجر أعم من أن ينحصر بالآخرة والله واسع كريم.
إفاضات الآية
والآية واقية من الخصال المذمومة مثل الرياء والكبر، والبخل والحسد والغيبة وهي زاجر عن فعل المعصية، ودعوة للأخلاق الحميدة مثل التوبة والإنابة وحسن التوكل على الله، وإظهار للصبر والرضا بقضاء الله وإستحضار قصد القربة إلى الله في فعل الصالحات.
وبالإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكاية عن الله عز وجل: العَظَمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عَذَّبته)( ).
وقيل إسلام الوجه هو الإخلاص، والإحسان هو متابعة سنة النبي ولا دليل على هذا التقسيم، وإن كان حسناً في ذاته.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بحرف الجواب [بَلَى] لإثبات ما نفاه فريق من أهل الكتاب إذ قالوا لن يدخل الجنة غيرهم، فورد الحرف (بلى) للدلالة على دخول غيرهم الجنة، وأن المسلمين أهل لدخولها، ولكن الآية لم تذكر المسلمين بالإسم بل جاءت بذكر قانون سماوي ثابت فيمن يدخل الجنة ويفوز بالنعيم الخالد في الآخرة، وتبدأ الآية بذكر صفات الذي يستحق دخول الجنة إذ تذكر صفتين هما:
الأولى: الصدق والإخلاص في طاعة الله.
الثانية: الإحسان وإظهارمعاني الإيمان.
وكل واحدة من هاتين الصفتين أصل تتفرع عنه صفات كثيرة تتصف بالحسن الذاتي والعرضي، كما في قوله تعالى [مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ] لإرادة الإنقطاع إلى العبادة، ولأن التوجه بالوجه يعني تسخير الجوارح في مرضاة الله، وعدم غلبة النفس الشهوية والغضبية على الحواس.
لقد بينت الآية كيفية تنمية ملكة الإيمان وإستقرارها في النفس، لتذكر بعدها الجزاء الحسن للمؤمن الذي يطيع الله ويؤدي وظائفه , وهذا الجزاء على وجهين:
الأول: الثواب الحسن عند الله عز وجل، والإقامة في النعيم الدائم.
الثاني: الأمن والسلامة من الخوف ومن الحزن، وفيه وجهان:
الأول: فريق يخاف ويخشى الحزن ثم يأمن.
الثاني: لاخوف ولا حزن مطلقاً في الآخرة على أهل الجنة.
والصحيح هو الثاني فان الذي يتصف بالصفتين أعلاه لا يكون في خوف أو حزن في أي موطن من مواطن الآخرة، وما فيها من أهوال الحساب والصراط والحوض والميزان والجزاء.
وإبتدأت الآية بصيغة المفرد [مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ ] وأختتمت في باب الجزاء بصيغة الجمع، والبداية من مفرد اللفظ مجموع المعنى، بلحاظ أن معناه أعم، وفيه مسائل:
الأولى: توكيد توجيه التكاليف لكل إنسان على نحو القضية الشخصية، والأوامر العينية، فالصلاة يتجلى فيها تسليم الوجه إلى الله وطأطأة الرأس، ووضع الوجه والجبهة تعييناً على الأرض طاعة لله في واجب عيني على المكلف.
الثانية: بيان اللطف والعفو الإلهي بكثرة أهل الجنة الذين لا يخافون من شئ يوم القيامة.
الثالثة: في صيغة الجمع في قوله تعالى [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ترغيب بالفرائض والعمل الصالح وبعث للسكينة في نفوس المؤمنين.
الرابعة :تدل الآية بالدلالة التضمنية على كثرة المؤمنين الذي يعملون بمضامين هذه الآية.
الخامسة : إقامة الحجة على أهل الكتاب بأن الجنة ليست خاصة بعدد محدود أو أهل ملة معينة فأهلها هم المتقون وهو كثيرون.
فان قلت قد وردت الآيات بذم الأكثر من الناس منها: قوله تعالى[قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ]( )، وقوله[وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( )، والجواب من جهات:
الأولى : أهل الجنة كثيرون حتى على فرض أن نسبتهم بالنسبة لمجموع الناس ليست بكثيرة.
الثانية : يدخل كثير من الناس الجنة بمغفرة الله، والشفاعة، قال تعالى[قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا]( ).
الثالثة : بقاء باب التوبة مفتوحاً للعبد حتى أوان مغادرته الدنيا، فتراه فاسقاً عاصياً ولكن الإنابة تدركه عند الإحتضار أو قبله فيقبل الله سبحانه منه بفضله وإحسانه.
السادسة: في الآية إشارة إلى كثرة المسلمين الذين صدقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأجيال المتعاقبة.
وجاء قيد الإحسان في الآية بعد تسليم الوجه لله والإقرار له سبحانه بالربوبية، للدلالة على أن إجتماع الإيمان مع العمل الصالح طريق الخلود في النعيم.
التفسير الذاتي
بعد أن جاءت الآية السابقة بذكر قول وإدعاء فريق من أهل الكتاب بأن الجنة خاصة بهم، ولا يدخلها غيرهم، وتضمنت الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسؤالهم البرهان والحجة على قولهم إن كانوا صادقين فيه، جاءت هذه الآية بالبرهان على بطلان إدعائهم، إذ إبتدأت بالحرف (بلى) كجواب لإثبات الموضوع الذي نفاه هؤلاء في الآية السابقة بالحرف (لن) بقولهم[لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ]( ).
فأكدت هذه الآية وبأول حرف منها دخول غير اليهود والنصارى الجنة، وهو من إعجاز لغة البرهان في القرآن بأن يأتي حرف واحد لنفي إدعاء تقف خلفه أمم.
ليبقى الحرف (بلى) في المقام ضياء ينير دروب السالكين نحو سبل الهداية والرشاد، ويبعث السكينة في نفوس المسلمين، ويحثهم على إدخار الصالحات للفوز بالجنة والخلود في النعيم، قال تعالى[وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ]( ).
لقد جاءت الآية بالبرهان والقانون الثابت الذي يعين الذين يدخلون الجنة وتقومه بالفعل وليس النسب والإنتماء.
ومن إعجاز الآية أنها لم تقل (بل يدخلها المسلمون)، بل ذكرت أمرين:
الأول: موضوع وعلة الدخول بصفتين:
الأولى: الإيمان بالله وعدم الشرك به.
الثانية: أداء الفرائض وعمل الصالحات.
الثاني: الجزاء الذي يتفضل به الله تعالى، فمن الإعجاز أن الآية لم تذكر الجنة عــلى نحو الإسم والتعيين، بـــل جـــاءت بالــوعد الكريم من عند الله عز وجل على نحو القطع والجزم وترتب الأجر والثواب على الفعل الحسن، ترتب المعلول على علته، وعدم تخلفه عنها.
والثواب في الآية على شعب:
الأولى: الأجر الجزيل على العمل الصالح.
الثانية: إنتفاء الخوف من نفوس المؤمنين مما يأتي والحوادث الطارئة ولا يخشون ضياع أعمالهم، أو حرمانهم من الثواب والأجر.
الثالثة: السلامة من الحزن والكآبة على ما فات في المنقضي من الأيام.
وورد لفظ (اسلم وجهه) مرتين في القرآن، قال تعالى[وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ] ( ) في إشارة إلى المسلمين وأنهم على ملة إبراهيم وإخلاصه في التوحيد.
وجاء قوله تعالى[وَهُوَ مُحْسِنٌ] ملازماً في الآيتين لتسليم الوجه لله، وفيه دلالة على لزوم العمل الصالح الذي يدل على إخلاص العبادة لله عز وجل، وأن النية وحدها غير كافية.
وفي الآية دعوة لهم لدخول الإسلام، وهو من إعجاز القرآن أن يأتي إبطال قول فريق من الناس بالبرهان الذي يجذبهم إلى الإسلام، ويحذرهم من الكفر والصدود عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدعوهم إلى إجتناب السيئات وورد لفظ (أجره) أربع مرات في القرآن، كلها برجاء الأجر والثواب من عند الله عز وجل، منها واحدة في إبراهيم عليه السلام، قال تعالى[وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا] ( ).
وفيه دلالة على أن الأجر المذكور في الآية محل البحث أعم من أن ينحصر بعالم الآخرة، فيشمل الحياة الدنيا أيضاً والله واسع كريم، وفيه ترغيب للناس بدخول الإسلام، ودعوة لهم لنيل فضل الله عز وجل .
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى[فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ] قال: غير ممنون ما يكتب لهم صاحب اليمين فإن عمل خيراً كتب له صاحب اليمين ، وإن ضعف عن ذلك كتب له صاحب اليمين ، وأمسك صاحب الشمال ، فلم يكتب سيئة ، ومن قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً( ).

التفسير
قوله تعالى [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ]
يمكن تقسيم معنى [بَلَى] الى قسمين:
الأول : تأتي رداً لنفي يسبقها.
الثاني : جواب لإستفهام دخل على نفي فتفيد ابطاله.
وجاءت (بلى) في هذه الآية من القسم الأول أي يدخل الجنة غيرهم، وبلحاظ الإيمان والفعل العبادي فالقدر المتيقن من الآية هو إعتبار الإســلام والتصديق بالنبوات والكتب المنزلة من السماء، جاء كلامهم على نحو التعريض واللف والنشر فجاء الرد ببيان صفات أهل الجنة.
والآية مدرسة للتقوى ومنبع للهداية والرشاد فهي المنهاج العملي للسلوك الشخصي والجماعي في مسالك الإيمان ولم تغلق الباب بوجه أهل الكتاب، ولم تجعلهم ييأسون من المنزلة في الآخرة، فهي تؤكد أن الجنة لا تنحصر بمذهب معين، والثواب متعقب ومتفرع عن التسليم والإنقياد والإمتثال لأوامر الله تعالى فلا يكفي القول والدعوى بل لابد من الإخلاص في العمل والإنقياد التام لما جاء به الأنبياء من عند الله تعالى.
فتلك الدعوى الصادرة منهم أصبحت مناسبة لبيان الحق وتحديد معالم الطريق المؤدية للجنة، فمن فضل الله تعالى ان تكون دعوى الآخرين سبباً للإتيان بالبرهان، ومعرفة سبل الرشاد , قال تعالى[وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( )، ويبين القرآن السبيل الى الجنة ويدعو الناس جميعاً لإنتهاجه.
وعن ابن عباس: من أسلم وجهه لله، معناه من أخلص نفسه لله بان سلك طريق مرضاته.
والآية ظاهرة في الدعوة الى الإسلام، وهو لغة الخضوع والإنقياد فجاءت الدعوة بالصفة والحقيقة التي لا يستطيع أحد انكارها، وذكر الوجه هنا كناية عن النفس ولأنه أهم وأشرف أعضاء الإنسان في التوجه والإنفعال، لذا ورد في باب الكفالة صحة العقد على المشهور لو جاء بلفظ الوجه كما لو قال الكفيل كفلت لك وجه فلان لأنه يعبر به عن جملة البدن عرفاً، وان لم تكن قرينة، ولكن الإطلاق المتعارف والشائع يغني عن القرينة.
فالوجه يراد منه جملة البدن بإعتبار أنه من أشرف الأعضاء، كما ان الإنسان لا يستطيع ان يبقى حياً من غير وجه، ومن المجاز الشائع اطلاق لفظ الوجه وإرادة البدن أي إرادة الكل بالإتيان بالجزء، وإختيار الوجه له مدلولات تتعلق بالعمل والأفعال العبادية وصدق النية وأكثر الحواس في الوجه وأهم أفعال الصلاة باعضاء الوجه.
والسجود الذي لا تتقوم الصلاة إلا به كركن فيها يتم بوضع الجبهة على الأرض، والقراءة والذكر بواسطة الفم وكلاهما من أجزاء الوجه، بالاضافة الى موضوعيته في التوجه الى القبلة ومضوعيته في الركوع، فالوجه هنا يراد به جملة الأفعال والأعمال ونوع الإقبال، ولا يخفى أن إفراده بالذكر في المقام يدل في مفهومه على منزلته وشأنه في العبادات والخيارات وموازين الأعمال وفيه دعوة للإنسان لصيانة وجهه من عذاب النار يوم القيامة بالإيمان والعمل الصالح وهو الذي تدل عليه خاتمة الآية وإنتفاء الحزن عما مضى والخوف من الآتي في المحشر لمن اتقى الله وخشي يوم الحساب .
وعن عدي بن حاتم قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صلى الله عليه وآله وسلم: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلاَ تَرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى شَيْئًا إِلاَّ شَيْئًا قَدَّمَهُ ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ شَيْئًا قَدَّمَهُ ، وَيَنْظُرُ أَمَامَهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ( ).
قوله تعالى [وَهُوَ مُحْسِنٌ]
قيد للإطلاق وشرط وبيان لصفة زائدة، فلا يكفي قصد الإنقياد وحسن النية بل لابد من العمل بإخلاص إذ أن الإحسان يتعلق بالعمل وملاك الأفعال.
والمحسن هو فاعل الأمور التي حسنها الشرع وندب إليها ويستحق فاعلها المدح والثناء في العاجل والثواب في الآجل، وهذا القيد حث على الصالحات. ودعوة لتهذيب النفوس ونبذ التعريض بالمسلمين بغير حق.
وجاء لفظ “محسن” أربع مرات في القرآن، ثلاثة منها يتكرر فيها موضوع تسليم الوجه لله عز وجل وبصيغة الثناء والمدح قال تعالى [وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ]( ).
وتبين الآية الملازمة بين الإيمان وفعل الصالحات، وجاء الوصف بالإحسان على نحو الإطلاق من غير تقييده بجهة مخصوصة لإرادة إحسان العبد لنفسه وللناس، وإحسانه لنفسه مركب فيشمل الدنيا والآخرة بإتيان الفرائض والواجبات، والحرص على سلامتها ونجاتها في النشأتين، لتأتي البشارة على الإحسان في الدنيا فتكون ملازمة لفعل الإحسان بإعتباره ملكة تتغشى أفعال المسلم، وصفة مستقرة في قوله وفعله.
وفي الإحسان في الآية وجوه :
الأول : الإحسان إلى الذات بأداء الفرائض والعبادات ، وقد تقدم قبل آيتين [ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ] ( ).
الثاني : إرادة الإحسان كعرض مصاحب للتسليم لوجه لله ، ويتجلى هذا التسليم بأبهى حلله بالتقوى .
الثالث : الإحسان للناس بفعل الخيرات , وجاء في وصف المتقين الذين هم أهل الجنة قوله تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ]( ).
الرابع : من الإحسان الثبات على الإيمان ، وهل من الإحسان الإتباع المذكور في قوله تعالى [الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ]( ).
الجواب نعم من جهات :
الأولى : الاستماع إلى القول الحسن .
الثانية : إتباع أحسن القول الذي تتجلى فيه معاني الهداية والصلاح .
الثالثة : الفعل الحسن الذي هو من مصاديق الإتباع في الآية أعلاه .
الرابعة : القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسمى أفراد الإحسان , وهو فرد جامع ونافع للذات والخير وفي الدنيا والآخرة , قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الخامسة : الإحسان إلى الذرية بجعل الإيمان هو التركة والكنز الذي يرثونه من الأب والأم .
قوله تعالى[فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ]
بشارة ووعد ودعوة للإيمان وبيان لحكم إلهي ثابت وحتمية الجزاء وإشعار بأن الأعمال تحصى، وأن الله عز وجل مطلع عليها، والآية في مفهومها تحذير وإنذار من سوء الفعل والجحود والإنكار ومحاربة الإسلام.
وقوله تعالى [عِنْدَ رَبِّهِ] لا يعني أنه ينحصــر بعالم الآخرة بل هو أعم ويشمل أيضاً الحياة الدنيا، قال تعالى [فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]( )، فالثواب والرحمة تدرك الإنسان في الحياة الدنيا بالتوفيق والمدد الإلهي ووجوه الرزق والعافية وصرف البلاء.
ومن الإعجاز في هذا الشطر من الآية مجئ الفاء رابطة لجواب الشرط والتي تفيد وجوهاً :
الأول : إنتفاء الفترة والمدة المديدة بين فعل الصالحات والفوز بالأجر والثواب , ويحتمل وجوهاً .
الأول : إرادة تعقب الأجر والثواب للإحسان ، ومجئ مصاديق هذا الأجر في الحياة الدنيا .
الثاني : الآخرة هي محل الأجر ، قال تعالى [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ] وصحيح أن الأحقاب تتعاقب ولم يجئ أوان يوم القيامة ، إلا أن الآية تبين حقيقة وهي عدم إعتبار هذه الأحقاب من جهتين :
الأولى : أوان يوم القيامة قريب عند الله ، قال سبحانه [إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا *وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ).
وفي الآية أعلاه نكتة وهي أن الله عز وجل يتكفل العناية بالمؤمنين ويتغشاهم برحمة في الدنيا وفي عالم القبر ، وفي التزيل [قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ] ( ).
الثانية : من الأجر المذكور في الآية صيرورة مدة ووعاء القبر روضة من رياض الجنة للمؤمن .
وفي الصلة بين هذه الآية وقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاة ]( )، مسائل:
الأولى : جاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية ، وجاءت آية السياق بصيغة الجملة الإنشائية .
الثانية : تضمنت آية البحث مقولات فرق من أهل الكتاب بعضهم على بعض ممن كان في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت آية البحث لبيان أسباب الهداية للناس جميعاً بأداء الفرائض والعبادات .
الثالثة : حث المسلمين على فعل الخيرات ، وفيه إنصراف عن الجدال ، وواقية من الإنصات إلى أهل الشك والريب ، وتلك آية في السلامة من الخصومات وأضرارها ، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
الرابعة : جاءت خاتمة آية البحث بالوعد الكريم للمسلمين والبشارة بإدخار وحفظ العمل الصالح إلى يوم الفاقة والحاجة بقوله تعالى [وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ] ( )، أما خاتمة آية البحث فانها ذكرت حكم الله عز وجل بين أهل الكتاب في مواضيع ومضامين الإختلاف بينهم.

قوله تعالى [وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]
ورد هذا الشطر من الآية في سورة البقرة ست مرات وورد ايضاً في ثمان سور أخرى ولكن في كل سورة مرة واحدة وجاءت واحدة منها بلغة الخطاب، ومنها بلا حرف العطف , وأخرى بإضافة اليوم [ يَاعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكمْ الْيَوْمَ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ]( )، وهو أمان يوم القيامة من الفزع الأكبر، وجاء بصيغة الجمع بعد صيغة المفرد لفظاً في قوله تعالى [ فَلَهُ أَجْرُهُ] لإرادة المعنى ولبيان عموم رحمته وانه بفعل وإحسان الفرد الواحد ينتفع كثيرون يوم القيامة ممن يتبعه ويرضى بفعله وينصره، او من يشفع له المحسن يومئذ بما يجعل له الله عز وجل من جاه، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: شفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ، ثم الشهداء( ).
والخوف هو الظن بقدوم ضرر أو فوات نفع في المستقبل فهو غم لتوقع المكروه، اما الحزن فهو كيفية نفسانية لوقوع المؤذي وحصوله وبالخوف والحزن تتحرك الروح إلى الداخل، ولكنها في الخوف تتحرك دفعة وفي الحزن تكون الحركة تدريجياً قليلاً قليلاً .وقد يكون العكس.
لقد جاء الرد والإحتجاج بقاعدة كلية من غير تحديد او تعيين المقصودين، مما يدل على الإعجاز في اللفظ القرآني وانه جاء للإصلاح والهداية والرشاد ببيان الأفعال التي تقود الى الجنة وان كان مصداقها متحداً ومنحصراً بالإسلام.

بحث عرفاني
مما يضفي على الأرض مفاهيم السعادة، ويعطي للانسان درجة في منازل الكمال إتصافه بالإحسان وإتيانه ما يستحق عليه المدح في العاجل والثواب في الآجل، فلقد جبل الله النفوس على حب الإحسان والميل الى أهله، وبه تتجلى معاني الحب وما يترشح عنه من النفع , فهو وإن كان سلوكاً وفعلاً الا انه تعبير عن حالة من العشق لجماله، وسير في مراتب الإرتقاء في أبواب المعرفة الإلهية.
لذا ورد قوله تعالى [ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] فالإحسان وسيلة للفوز بمحبة المعشوق وعكوف على باب رأفته.
وورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “تخلقوا بأخلاق الله”( )، ليبقى الإنسان في جوار حضرة الكمال والجلال متخلصاً من سنخ الظلمات وحب المال والشهوات وما يؤدي إلى الإمتناع الإنطباقي عن تلقي رحمة الله.
والآية دعوة للصفاء والتنزه من الكدورات بالهداية والإيمان الذي هو أرقى معاني العرفان.

قوله تعالى[ وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ] الآية 113.

الإعراب واللغة
وقالت: الواو استئنافية، قالت: فعل ماض، والتاء تاء التأنيث الساكنة، اليهود : فاعل مرفوع، ليس:فعل ماض ناقص، التاء: للتأنيث: النصارى: إسم ليس مرفوع بالضمة المقدرة، على شئ: جار ومجرور في محل خبر ليس، وقالت اليهود ليس النصارى على شئ) تقدم إعراب شبهها أعلاه.
الواو في (وهم) حالية، هم: مبتدأ، وجملة يتلون جملة من فعل وفاعل في محل رفع خبر المبتدأ، وجملة(وهم يتلون) في محل نصب حال من اليهود والنصارى، الكتاب: مفعول به منصوب، كذلك: جار ومجرور في محل نصب نعت لمفعول مطلق محذوف، قال: فعل ماض، الذين: إسم موصول مبني في محل رفع فاعل، لايعلمون،لا: نافية، يعلمون: مضارع مرفوع، الواو: فاعل، مثل: مفعول به وهو مضاف.
قولهم: مضاف إليه مجرور، وهو مضاف، والضمير(هم) مضاف إليه.
فالله: الفاء استئنافية واسم الجلالة مبتدأ مرفوع، يحكم: فعل مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو)، بينهم: بين: ظرف مكان منصوب متعلق بـ(يحكم) والضمير(هم) في محل مضاف إليه.
يوم القيامة: يوم: ظرف زمان منصوب، والقيامة: مضاف إليه مجرور.
فيما كانوا: في : حرف جر، ما : إسم موصول في محل جر، كانوا: فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو : إسم كان .
فيه يختلفون: في: حرف جر، الهاء: في محل جر، يختلفون: فعل مضارع مرفوع، والواو: فاعل.
كذلك: مركب يفيد التشبيه وقد يحــذف المشـار اليه ولكنه هنا بيّن وظاهر، وأصل موضوع الآية متعلق به وهو قول فريق من أهل الكتاب، ويحمل (كذلك) هنا معنى آخر وقد يكون مترشحاً عن المعنى الأول، فحرف التشبيه يفيد المطابقة بين اقوالهم والمؤازرة المقصودة وغير المقصــودة ضد الإسلام وما يؤدي الى اضعاف دعــوته والتضليل على حقيقة ثابتـة وهي استحقاق المسلمين الجنة , لتقوم اللبث فيها بلباس التقوى , قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
في سياق الآيات
تبين الآية جانباً من جوانب الحياة الفكرية العامة ايام نزول القرآن وتفضل الله تعالى بكشف الزيف ومرتكز الجدال، وتظهر وجهاً آخر غير الذي تجلى في الآيات السابقة من الإتحاد في التحدي، اذ انها توثق وتخبر عن حالة ضعف وشقاق عند الذين يواجهون الاسلام بالإعراض والشبهات والمغالطات.
وفي الصلة بين هذه الآية والآية السابقة مسائل :
الأولى : المدار في الهداية على الإخلاص في العبادة لله عز وجل، وليس على الأسماء والإنتماء.
الثانية : دعوة أهل الكتاب إلى الجامع المشترك بين الموحدين وهو السعي إلى الآخرة، ورجاء الفوز فيها بطاعة الله، قال تعالى[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ]( ).
الثالثة : تنمية ملكة الإحتجاج عند المسلمين والمليين بالتدبر في سبل النجاة في الآخرة.
وفي صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ…]( )، مسائل:
الأولى : دعوة أهل الكتاب للإنقطاع إلى ذكر الله وترك الجدال بينهم.
الثانية : حث المسلمين على تعاهد الفرائض والواجبات العبادية، ومنها إقامة الصلاة وأداء الزكاة، وعدم الإنشغال بالخلاف بين أهل الكتاب، مما يدل بالأولوية وفحوى الخطاب على لزوم إجتناب الإلتفات إلى الخصومات بين الكفار والمشركين.
الثالثة : أداء العبادات وفعل الخيرات برزخ دون العناية بالخصومات وأسباب الجدال وإثارة الشبهات.
الرابعة : تلتقي الآيتان بالتذكير بالآخرة وعالم الحساب، وهو من وجوه الإلتقاء بين المسلمين وأهل الكتاب، وهذا التذكير مناسبة لطرد الكدورة وأسباب العداوة.
وفي الصلة بين هذه الآية والآية السابقة مسائل :
الأولى : ليس المدار على الإسم إنما على العمل والإخلاص في العبادة لله عز وجل .
الثانية : إتباع الأنبياء ليس حائلاً دون الإنقطاع إلى الله وفعل الصالحات .
الثالثة : تأكيد حقيقة وهي أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة وإصلاح للناس وبرزخ دون الجدال والإنشغال بالخصومة ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الرابعة : ذكرت آية البحث يوم القيامة وأن الحكم فيه لله عز وجل ، وأخبرت عنه الآية السابقة بالدلالة التضمنية من جهة الإشارة إلى الأجر والثواب والأمن من الخوف والسلامة من الحزن .
الخامسة : من وجوه الإستعداد ليوم القيامة الإنشغال بالذات والتزود بالعمل الصالح وليس رمي ووصف أهل الملل الأخرى بانهم ليسوا على شىء .
وفي الصلة بين هذه الآية والآية التالية مسائل :
الأولى : فيما بينت هذه الآية حال الجدال وأسباب المغالطة بين بعض أهل الملل جاءت الآية التالية للزجر عن التعدي على بيوت الله ، وهو أشد من أفراد الجدال . وفيه إنتقال لفرد أهم وهو لزوم إجتناب الإضرار بالمسلمين في عباداتهم.
الثانية : إنتقال نظم الآيات إلى الزجر عن منع المساجد إعجاز قرآني بأن بيان حال الجدال بين أهل الكتاب وإفتراء الكفار على المسلمين وعلى أهل الكتاب لا يمنع من الإنذار والتحذير.
الثالثة : الذي ينعت غيره بأنه ليس شىء في دينه عليه أن يكرم مساجد الله لأنها محل العبادة ، وطريق للتقرب إلى الله بذكره ، ومواضع الإلتجاء اليه سبحانه , ولم تكتف آيات القرآن بذم الذين يحاربون المساجد وعمارها ، بل جاءت بالخطاب إلى الناس على نحو العموم المجموعي وبصبغة الإنسانية بلزوم الإكرام الشخصي والنوعي للمساجد متحدة ومتفرقة ، قال تعالى[يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] ( ).
الرابعة : إتحاد لغة الوعيد في خاتمة كل من الآيتين مع التباين الرتبي بينهما بلحاظ سنخية الفعل فلما ذكرت آية البحث الجدال بين أهل الملل أختتمت بالإخبار عن حكم الله بينهم [يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِر] ( ).
وجاءت آية السياق بصيغة الجملة الشرطية مع التوبيخ والوعيد الصريح بالعذاب الشديد .
أسباب النزول
عن ابن عباس انه لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتتهم احبار اليهود فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رافع بن حرملة ما انتم على شيء وجحد نبوة عيسى وكفر بالإنجيل، فقال رجل من أهل نجران ليست اليهود على شيء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة فانزل الله الآية.
وقال الربيع : هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورداد السيوطي عن أبي العالية( ).
وردد عن إبن عباس في قوله تعالى [لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ]( )، قاله رافع بن حرملة مما يدل على أن القاتل واحد ومع هذا جاء بصيغة الجمع العلة لوجود من ينصر هذا القول.
[وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ] قاله رجل من نجران( )، [وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ] قالها من اليهود : نعمان آحى، وبحرى بن عمر ، وشاش بن عدي( ).
موضوع الآية
روح الخصومة والتنازع والتناحر والحالة المذهبية العامة وما فيها من حب الذات، وتقسم الآية الناس إلى أقسام:
الأول: اليهود.
الثاني: النصارى.
الثالث: الذين لا يعلمون.
الرابع: المسلمون الذين جاءت الآية خطاباً لهم وإن كانت بصيغة الجملة الخبرية .
وموضوع الآية هو الدين والعقيدة والعمل بأحكام الشريعة لذا تضمنت الآية التباين بين الذين يتلون الكتاب من اليهود والنصارى وكفار قريش . لتدل الآية بالدلالة التضمنية على ترشح العلم عن تلاوة التنزيل مطلقاً ، ومن مصاديق العلم في المقام التصديق بنبوة موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم .
إعجاز الآية
في الآية مسائل :
الأولى : تؤكد الآية الكريمة حقيقة تاريخية عند أهل الملل وهي رغبة فريق منهم بإنتساب ورجوع الغير لهم , وتدعو إلى تركها والتوجه إلى طاعة الله , لتكون هذه الآية مدرسة في إصلاح النفوس وتهذيب الصلات بين المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً وجعل الملاك هو الأخلاص في العبادة.
الثانية : مقتضى سيرة العقلاء أن الخلافات الثانوية والنزاعات بين المتقاربين تزول عند حلول خطر عام يهدد الجميع او مصيبة تنزل بهم، والإسلام جاء ناسخاً ودعوة لنبذ الخلافات وأن لا تبقى متأصلة وفي الأصول وتتضمن إنكار كل منهم لدين الآخر.
الثالثة : التخفيف عن المسلمين فيما يقع بين أهل الكتاب والملل الأخرى من الخلاف، بالإضافة إلى أسباب أنشغالهم وما يتعرضون له من الإبتلاء.
الرابعة : إطلاع المسلمين على الأحوال العقائدية السائدة وعلى النواقص والمثالب الموجودة عند غيرهم مجتمعين ومتفرقين وإمكان إجراء مقارنة بين تلك العقائد وعقيدة الإسلام المتكاملة.
الخامسة : تقوية عزائم المسلمين وإزالة الخوف عن صدورهم اذ ان النظر الى الغير مجتمعين في كثرة وسعة أمر يبعث في النفس الفزع والرعب ويصدها عن الإندفاع في مسالك العقيدة والغايات البعيدة بل ويشككها في أمرها وإعتقادها إذا كان موضوع الخلاف والنزاع واحداً أي كل طرف يدعيه.
السادسة : إعانة المسلمين في تهيئة مقدمات النفاذ إلى اعماقهم بل والنصر، قال تعالى في معركة بدر وغلبة المسلمين على كفار قريش[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
السابعة : مزية المسلمين على غيرهم بأنهم لم ينكروا الديانات السماوية الأخرى.
الثامنة : كان مشركوا العرب يعبدون اللات والعزى فيقولون العزى بنات الله , وفي قوله تعالى[سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ]( )، أي عما يكذبون وهو المروي عن قتادة( ).
التاسعة : التوكيد بان محاربة الدين السماوي أمر مترسخ عند الكفار لأنهم لا يعلمون فلا غرابة أن يحاربوا الإسلام ليساهم هذا التوكيد والإخبار بدفع ورفع الشك عن صدر المسلم وليكون علمه بتلك المحاربة حرزاً وواقية.
العاشرة : إن تلك الخصومة ترجع إلى ما هو متأصل في نفوس كفار قريش.
الحادية عشرة : إخبار الآية عن آخرين على نحو التنكير والإطلاق، لتأهيل المسلمين لمعرفتهم وفضح ما هم عليه من الوهم.
الثانية عشرة : إكرام أهل الكتاب بنعت غيرهم بعدم العلم.
ويمكن أن نسمي هذه الآية (وقالت اليهود) وورد هذا اللفظ في القرآن أربع مرات وورد فيه لفظ (وقالت النصارى) مرتين .
وكما جاء القولان في هذه الآية ، فقد ورد قولان في آية أخرى وبما يبين سّراً لذات الإختلاف في قوله تعالى [وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ]( ).
ومن إعجاز الآية أنها قالت[وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ] ولم تقل وليسوا على شئ، وتلك آية في إكرام القرآن لأهل الكتاب وتذكيرهم بلزوم التسليم بالقرآن كتاباً نازلاً من عند الله عز وجل.
الآية سلاح
تبين الآية إصلاح المسلمين لمنازل السيادة في الدين والدنيا واهليتهم لمنازل الحكم بالكشف عن دعوى الملل الأخرى، وتبين ايضاً بلحاظ آيات اخرى مدى الصحة او البطلان في دعوى كل منها، وفي الآية ايضاً نوع بشارة للمسلمين بالنصر لانشغال الآخرين بالخصومة والنزاع بينهم.
لقد تفضل الله عز وجل على المسلمين بأن جعلهم أئمة للناس بالقرآن وما فيه من الأحكام والبيان وقصص الأمم السابقة، وهذه الآية عون للمسلمين في مواجهة من ينصب لهم العداوة والبغضاء، والذي يثير أسباب الشك والريب بما جاءت به من المدد ، في الوقت الذي تدعو آيات القرآن المسلمين للإقرار بالتوراة والإنجيل.
وهل جاءت الآية ليقول المسلمون لكل فريق من أهل الكتاب ما قاله الفريق الآخر له , الجواب لا ، بدليل إكرامهم والثناء عليهم بصفة خاصة وهي الإنتماء إلى التنزيل وتعاهد تلاوة الكتاب من غير أن يتعارض هذا الأكرام مع التحذير والتعريض الذي يتضمنه موضوع النزاع والتبكيت المتبادل ، ومن إعجاز الآية أن موضوع ذم كل فريق للآخر لا ينحصر بلغة الخطاب بينهما ، بل جاء مطلقاً وعاماً في موضوعه وجهته .
مفهوم الآية
تنهى الآية في مفهومها عن الطعن بالآخرين ورميهم بالكفر او الجحود، وتجعل موضوعية للكتاب المنزل من السماء سواء كان القرآن او التوراة او الإنجيل ولزوم الايمان بها باعتبار انه يخلق ملكات عقائدية يترشح عنها اكرام الملل السماوية والانقياد لاحكامها وما فيها من النسخ والبشارات.
وفي الآية نهي عن القذف خصوصاً وان كلاً من طرفي اهل الكتاب نفى على نحو السالبة الكلية وجود أي شيء حسن او عاقبة حميدة عن الآخر، والآية عون للمسلمين وواقية من افتراء الآخرين وتعديهم على الإسلام وجحوده ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتشبيه في الآية وانهم مثل الكافرين الذين لا يعلمون ذم لهم واخبار إلهي بعدم انتفاعهم من الكتاب الذي نزل على نبيهم والذي يتلونه.
والآية دعوة للمسلمين لتكون قراءة القرآن في الصلاة ومطلق تلاوته سبباً لإنصاف الناس وعدم ذم الآخرين بغير حق، ومن مفاهيم خاتمة الآية توجيه الأمر للمسلمين بالإعراض عنهم وعدم الإلتفات الى اقوالهم ووجوه الإختلاف والنزاع فيما بينهم اذ لا واسطة بين الإيمان والكفر , ويختلف المشركون الذين لا يعلمون بالجحود على نحو السالبة بانتفاء الموضوع , والهداية والرشاد باتباع سنن النبوة والإنقياد للكتب المنزلة ودخول الإسلام والتصديق بما جاء به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
الآية لطف
تجمع الآية بين بيان حال الأمم والمذاهب الأخرى وبين التذكير بيوم القيامة والإخبار عن كونه يوم الفصل بين الناس.
وتلك آية إعجازية في تأديب وإرشاد المسلمين وإصلاحهم لأمور الإمامة بين الناس، والآية في مفهومها دعوة للمسلمين للوحدة الإيمانية ونبذ الفرقة.
والآية عون للمسلمين في باب الجدال والإحتجاج لأنها موضوع لذم الذين يختلفون فيما بينهم، لقد أنكر فريق من أهل الكتاب نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فجاءت هذه الآية لمنع دبيب الشك والريب إلى نفوس المسلمين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم بسبب هذا الإنكار لأن الآية تبين إختلافهم فيما بينهم , وقصور الذين كفروا عن مراتب العلم وتدعو الآية الناس للتدبر في آيات النبوة فهي بذاتها علم وتهدي إلى العلم .
وهل عدم العلم الذي ذكرته الآية من الجهالة التي يعذر فيها الإنسان، الجواب لا، إنما هي من التقصير والتخلف عن وظائف التكليف والتي يدل عليه قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بلحاظ لزوم سعيهم لضروب العبادة وسبل التقوى ومن مقدمات ووجوه العبادة العلم وترشح قصد القربة من العلم والمعرفة، وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أوحي إلى إبراهيم عليه السلام يا أبراهيم أني عليم أحب كل عليم) ( ).
وتبين آية البحث سنخية العلم الذي يجب أن يسعى إليه الإنسان ويكسبه ويتقوم بالهداية والإيمان ومن رشحات ولوازم العلم التدبر والتفكر والخشية من الله عز وجل، لتبين آية البحث في مفهومها بلوغ المسلمين مراتب التقوى والخشية من الله بالتصديق بالنبوة والتنزيل.
إفاضات الآية
جاء القرآن تبياناً لكل شيء، ومن وجوه البيان ما يحصل بين أهل الكتاب والملل الأخرى، وقد يظن عدد من المسلمين أن أهل الكتاب متحدون فيما بينهم، فجاءت الآية للإخبار عن وقوع الخلاف بينهم، وبما يمنع من إتحادهم وإلتقائهم، نعم قد لا يمنع هذا الخلاف من إتحادهم أزاء أحكام الإسلام.
وتبعث الآية على التفقه في أحوال الأمم وما بينها من الخلاف، وحاجة الناس جميعاً إلى الإسلام لنبذ الفرقة والشقاق.
وهل في الآية دعوة للمسلمين لمنع تكفير بعضهم بعضاً، الجواب نعم، فالإسلام عقيدة متكاملة لاتفيد الخلاف والتباين وأن تعدد الإجتهاد.
لقد ذكرت الآية أموراً:
الأول : تلاوة الكتاب.
الثاني : عدم العلم الذي جاء ضداَ للتلاوة وما تدل عليه من المعاني.
الثالث : الإختلاف بين طوائف متعددة.
والعلم واقية من الشقاق والإختلاف لأن الله جعل الحق بسيطاً لا يقبل التباين والتضاد الذاتي.
وروى أبو أمامة قال : ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِى عَلَى أَدْنَاكُمْ( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بصيغة العموم الإستغراقي بدلالة الألف واللام في اليهود والتي تفيد الجنس والشمول،وتدل القرائن على صدور الكلام من فريق منهم ممن كانوا في المدينة، إلا أنه لا يمنع من إرادة معنى أعم وقد تقدم في أسباب النزول أن القائل(ليست النصارى على شئ) رجل وان القائل (ليست اليهود على شئ) رجل واحد من نجران .
فمن إعجاز الآية تعقب قول النصارى لليهود في ذات الموضوع مع التباين في الحصة، فكل فريق منهم يرمي الفريق الآخر بأنه ليس على شئ، ولم تبدأ الآية بذكر قول النصارى، بل بدأت بقول اليهود، وفيه وجوه:
الأول: أن الأمر سواء قدم ذكر قول اليهود أو النصارى.
الثاني: جاء التقديم إتفاقاً ومن غير دلالات مخصوصة.
الثالث: ليس في القرآن وترتيب كلماته وآياته صدفة وإتفاق، فلابد من دلالات للتقديم أو التأخير فيه.
والصحيح هو الثالث، ومن معاني دلالات هذا التقديم وجوه:
الأول: ديانة اليهود أقدم من ديانة النصارى، لأن بعثة موسى عليه السلام متقدمة زماناً على بعثة عيسى عليه السلام.
الثاني: تدل الآية في ظاهرها على أن اليهود هم الذين بدأوا القول.
الثالث: هذا القول فرع إنكار بعضهم لنبوة عيسى عليه السلام.
ترى لماذا ذكرت الآية قول النصارى أيضاً فيه مسائل:
الأولى: بيان حال أهل الكتاب فيما بينهم.
الثانية: إخبار المسلمين عما تقوله الأمم والملل الأخرى.
الثالثة: تتضمن الآية ذم هذا القول وأصحابه بدليل تعقبه بقوله تعالى [ ٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ]إذ تؤكد الآية لزوم ترتب الأثر على تلاوة الكتاب بلحاظ مسائل:
الأولى: إن تلاوة الكتاب شيء، فلا يقال لمن يتلوه أنه ليس على شيء.
الثانية: تدعو الكتب السماوية إلى التوحيد والإقرار بالعبودية لله عز وجل.
الثالثة : تلاوة الكتب السماوية السابقة باب ومقدمة لدخول الإسلام لما فيها من البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
الرابعة : يجب على من يتلو الكتاب أن لا يرمي الذي يتلوه بأنه ليس على شيء لأن الكتب السماوية جاء بها الأنبياء وهي تبشر بنزول القرآن وتدعو إلى إتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد فرّق الإسلام بين أهل الكتاب وغيرهم من أهل الملل الأخرى، بأن قبل من أهل الكتاب الجزية مع بقائهم على ملتهم، أمّا الوثنيون فلا تصح منهم الجزية.
الخامسة : تجمع الآية الكريمة أهل الكتاب بإسم وموضوع واحد وهو تلاوة الكتاب.
وفي الآية مواساة للمسلمين في إنكار أهل الكتاب لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم يرمون بعضهم بعضاً بأنه ليس عندهم شيء صحيح فيما يفعلون.
وهل في الآية إخبار عن وقوع نزاع وصراع بين اليهود والنصارى الجواب لا، لأن هذا القول المتبادل مقدمة لنزاع محتمل مع مجيء أسبابه، لذا فأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة لليهود والنصارى لمنع هذا النزاع والإمتثال وسفك الدماء، وهو من عمومات قوله تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا]( )، والوسط العدول وأهل الصلاح والإنصاف.
ومن مصاديق الرد الإلهي على الملائكة حينما قالوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )وقوله سبحانه[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ، فمن علم الله عز وجل منع سفك الدماء بين اليهود والنصارى ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالله عز وجل أنعم عليهم بدعوتهم إلى الإسلام، وغلق باب الطعن والقذف بينهم.
فإذا تغير الموضوع تغير الحكم، فيكون الجميع في كنف الإسلام، أخوة متحابين ليشملهم قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ].
وفي الآية شاهد على أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] فبالإسلام والمسلمين يدفع الله عز وجل عن الناس الإقتتال فيما بينهم بأن يتركوا أسباب هذا النزاع ويتقيدوا بالوظائف الشرعية للمكلفين.
وتبين الآية أن تلاوة الكتب السماوية السابقة لا تكفي بمنع الفرقة والفتنة وأسباب النزاع والخصومة بين الأمم، مما يدل على حاجة الناس لنزول كتاب سماوي جامع للأحكام، وشريعة ناسخة للشرائع، لقد جاء الإسلام لتهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات، ومنع الفرقة بين الناس، وجعلهم ينقطعون إلى عبادة الله بما يأمر به من ضروب ووجوه العبادة، وفي خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( )، فمن الآيات في خلق الإنسان أنه ليس له أن يختار كيفية العبادة وأوانها، بل هو مقيد بنوع معين زماناً وموضوعاً وكيفية في العبادة وهذا التعيين سماوي نازل على الأنبياء، وجاء القرآن بالأحكام المتكالمة للعبادات بخطاب تكليفي إلى الناس جميعاً رجال ونساء، ليرجع الناس بالإسلام أمة واحدة , قال تعالى[كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا] ( ) .
فجاءت هذه الآية لتبين القبح الذاتي والعرضي للإختلاف، وتتضمن في دلالتها إنحصار زوال هذا الإختلاف بدخول الإسلام وأداء الوظائف والفرائض بعرض واحد، وهو السبيل الوحيد الذي يمنع قول بعض أهل الملل والمذاهب لغيرهم أنهم ليسوا على شيء، فإن قيل من بين مذاهب المسلمين من يذم المذاهب الأخرى، والجواب من وجوه :
الأول : لا وجود لهذا الذم وقد يصدر من أفراد .
الثاني : الأصل في الإسلام عدم تعدد المذاهب .
الثالث : لا يقود الإختلاف في أحكام الفقه إلى الطعن والذم، كما أنه أمر زائد ببركة القرآن وسلامته من التحريف .
الرابع : الحضور الدائم للسنة النبوية بين المسلمين واقية من الإختلاف وإتساعه لذا ترى الأصوات التي تنادي بالوحدة بين المسلمين ونبذ الفرقة هي الأعلى والأكثر في منتديات وتجمعات المسلمين في كل زمان ومكان.
وتلك آية وخصوصية في[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] فلو سمعت أقوال من بعضهم بما يدل على النفرة والإختلاف فان هذه الإقوال لم تصدر إلا عن أفراد وجماعات صغيرة دائماً، أي أنا لا تمتلك القدرة على الإتساع بين المسلمين، وهو من أسرار تكامل الشريعة الإسلامية، ومضامين الوحدة والتآخي بين الناطقين بالشهادتين التي تدعو إليها، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
لقد أراد الله عز وجل تنزيه الأرض من الإختلاف، فبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة الجامعة المانعة، الجامعة للأحكام الشرعية، وما يحتاجه الناس في أمور دينهم ودنياهم، ومانعة من الإختلاف والنزاع بينهم فيما يخص العقائد.
ومن الآيات أن أحكام الإسلام مستديمة وظاهرة لا يطرأ عليها التغيير والتبديل، وهي ممتنعة عن النسخ والتحريف بما جعله الله عز وجل فيها من أسباب البقاء والحصانة.
وبعد ذكر قول فريق من أهل الكتاب ذكرت الآية قول غيرهم من أهل الملل الأخرى ونعتهم بأنهم لايعلمون، ويدل في مفهومه على أن أهل الكتاب عندهم علم ترشح من تلاوة الكتاب السماوي، بتلاوة اليهود للتوراة، والنصارى للانجيل ويحتمل قوله تعالى[الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] سعة وضيقاً وجوهاً:
الأول: إرادة غير أهل الكتاب من الناس جميعاً.
الثاني: المقصود الوثنيون على نحو التعيين.
الثالث: المراد كفار قريش الذين قالوا أن محمداً وأصحابه ليسوا على شيء من الدين، وبه قال السدي ومقاتل.
الرابع: إرادة الكفار من الأمم السابقة الذين تلقوا بعثة الأنبياء بالتكذيب لأنهم هم الذين لا يعلمون.
الخامس: إن الذين لا يعلمون يتبادلون الطعن فيما بينهم بخصوص مللهم، ولا يتعرضون لأهل الكتاب بإعتبارهم أصحاب ملة أخرى، مختلفة في الأصل عن مللهم، وقد يظن فريق منهم أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى هم أهل ملة واحدة.
فجاءت هذه الآية إشعاراً للناس جميعاً بالإختلاف بين اليهود والنصارى في أمور الدين والعقيدة.
السادس: إن الذين لا يعلمون يرمون أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء، ومن مصاديق الجهل وعدم العلم الجحود بالمعجزات التي جاء بها الأنبياء، ومنها معجزة القرآن العقلية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكرت الآية اليهود والنصارى على نحو التعيين وما يقولون، ثم جمعت الذين لا يعلمون بذكر واحد وعلى نحو التشبيه والتمثيل، [مِثْلَ قَوْلِهِمْ] وفيه تعويض بأن الإختلاف بينهم، أغرى الذين لا يعلمون وأخذوا يقولون مثل قولهم.
ومن إعجاز الآية أنها لم تكتف بذكر أقوالهم، بل أخبرت عن الفصل بينهم يوم القيامة ويمكن تسمية الحياة الدنيا(دار توثيق الأقوال) لأن الآية جاءت بذكر هذه الأقوال والإشارة وظيفتهم في التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإتباعه.
وتكرر ضمير جمع الغائب(هم)في الآية مرتين، في قوله تعالى[قَوْلِهِمْ] وقوله تعالى[بَيْنَهُمْ]ويعود الأول لليهود والنصارى، ويعود الثاني للجميع، أي اليهود والنصارى والذين لا يعلمون، وفيه ترغيب بالحكم العام وهو لزوم دخولهم الإسلام وإتيان ما أمر الله عز وجل به، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , قال تعالى[كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
ومن وجوه الإمهال في الآية أن باب التوبة مفتوح لمن ذكرتهم هذه الآية، وتدعو خاتمة الآية المسلمين إلى عدم الإنشغال بالخلاف بين أهل الكتاب وغيرهم من الناس، وتحث على لزوم التهيء والإستعداد ليوم القيامة، والتفكر في مواطن الحساب .
وقد يسأل بعضهم لماذا لا ينتقم الله عز وجل من الذين يصرون عن الكفر، ويحاربون الإسلام، فجاءت الآية بالإخبار عن وقوفهم للحساب بين يدي الله، وأن موضوع الخلاف لم يترك سدى ولا ينحصر التذكير بيوم القيامة بخاتمة الآية، بل هو عام وشامل للناس جميعاً ومنهم الذين يختلفون بينهم، وينشغلون بهذا الإختلاف عن التدبر في الآيات الكونية والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى جانب غلبة النفس الشهوية والغضبية عليهم، وإصرارهم على العناد، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ]( ).

التفسير الذاتي
جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية بعد لغة الإحتجاج الواردة في الآية السابقة عليهم بخصوص إدعائهم الإنفراد بالجنة من بين الناس الوارد في قوله تعالى [لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى] ( )، وجاءت هذه الآية بذكر قول آخر لهم يدل على والتباين بينهم.
وجاءت خاتمة الآية بالإخبار عن حكم الله عز وجل بينهم يوم القيامة، ليميز الله الذي على الحق والهدى، ويخزي الذي على الباطل والضلال والمراد من الضمير(هم) في قوله تعالى[بَيْنَهُمْ] وجوه:
الأول: اليهود.
الثاني: النصارى.
الثالث: المشركون الذين لا يعلمون.
الرابع: إختلاف كل فرقة فيها بينها كما ورد في قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ] ( ).
ومن مصاديق الحكم يوم القيامة الفصل بين الناس بالحق وموازين العدل، ورؤية من يدخل الجنة بإيمانه وعمله الصالح، ومن يدخل النار بكفره وإرتكابه الآثام والذنوب، فالقول وإدعاء بدخول الجنة لا يغير من الحكم والجزاء يوم القيامة وفيه دعوة للناس لهم للإلتفات إلى أعمالهم وإصلاح أنفسهم ونبذ الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإصرار على إنكارها.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: الآية شاهد بأن في القرآن تبياناً لكل شيء، ومنه أحوال الأمم والملل الأخرى.
الثانية: بيان الضعف والوهن الذي عليه أهل الكتاب وغيرهم بسبب الإختلاف الذي بينهم.
الثالثة: توكيد نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن عليه، قال تعالى[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( ).
الرابعة: تفقه المسلمين في الدين، وزيادة المعارف عندهم، وإحاطتهم علماً بما يقول أهل الملل الأخرى.
الخامسة: حث المسلمين على الصبر وعدم الإنتقام من أهل الكتاب وغيرهم الذين يجحدون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أنعم الله عز وجل عليه بالمعجزة والدلالات القاطعات، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
السادسة: دعوة أهل الكتاب والناس جميعاً إلى الإسلام كسبيل للقضاء على الخلاف والإختلاف، ولأن دخوله واجب على الناس، وفيه بيان للملازمة بين الواجب والسلامة من الفرقة والخلاف، فإذا تقيد الناس بما يجب عليهم مما يأمرهم الله عز وجل به فلا يقع خلاف بينهم، ولا يكون الحكم يوم القيامة بينهم بالفصل بين المحق والمبطل كما في قوله تعالى[فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ] بل يكون الحكم لهم لأن رحمة الله تتغشاهم جميعاً، فهم يومئذ ممن جاءت البشارة بسلامتهم وأمنهم كما في خاتمة الآية السابقة[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
السابعة: بيان العدل يوم القيامة، فان قيل لماذا لم يحكم الله بينهم في الدنيا، والجواب إن الله عز وجل قد حكم في الدنيا بدعوتهم إلى الإسلام، ولزوم عدم التخلف عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامنة: بيان المائز بين الناس وأهل الملل بتلاوة الكتاب، ويتجلى هذا الفيصل والفصل بوضوح في الآية فمن إعجازها أن قسمت الناس إلى أقسام:
الأول: الذين يتلون الكتب وهو اليهود والنصارى.
الثاني: الذين لا يعلمون، وهم الذين لا يتلون الكتاب، ولا يقرون بالتنزيل والنبوات.
الثالث : المسلمون الذين تتوجه لهم خطابات القرآن.
ولم تذكر الآية المجوس والصابئة، وفيه وجوه :
الأول: إنهم ليسوا من الذين يتلون الكتاب.
الثاني: عدم طعنهم بغيرهم، ولم يقولوا على أهل الملل الأخرى أنهم ليسوا على شيء.
الثالث: ذكر اليهود والنصارى لأنهم الأقرب للمسلمين، ولكثرتهم بالقياس إلى المجوس والصابئة.
التاسعة: إرشاد المسلمين إلى صيغ الإحتجاج والجدال , والإعراض عن أهل المغالطة والتشكيك.
العاشرة: حصانة المسلمين من أسباب الشك والريب والمغالطات التي يثيرها أهل الكتاب وكفار قريش.
التفسير
قوله تعالى [وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ]
لم تكن الآية اخباراً عن واقع تأريخي او فكري بل كانت مدرسة جهادية تشــمل التأريخ والفكـر والسياسة والإجتماع والحرب النفسية ووجوه التخطيط للدعوة والجهاد، وفي الآية بيان لما عليه أهل الكتاب من إنكار لأهلية بعضهم في باب العمل العبادي الأخروي وصحته.
والآية تبين اقرار كل منهما بانتماء الآخر ووجوده ليس فقط وجوداً ذهنياً غير متأصل او بمنزلة الظل من الجسد بل وجوداً خارجياً متأصــلاً متفقاً عليه فكــل منهما يعـترف بذات الآخر وحقيقته وانه مبدأ للآثــار ومنبع للأحكام وله لوازمه الا انه لا يصلح ان يكون طريقاً للنجاة، ولم تقم الأديان ويبقى الإنسان منتمياً اليها عاملاً باحكامهــا الا لأنها ســبل الفوز في الآخرة والمنهج السليم لنيل مرضاة الله والإدعاء بانهم ليسوا على شيء دعوى ابطال عملهم.
فالشيء هو الثابت الوجود بعيداً عن القول والخلاف هل هو القديم ام الحادث فالإقرار بالشيئية إخبار عن وجود تلك الذات وما يصح ان يعلم ويخبر عنه، وهناك نوع ملازمة بين الشيء والوجود، لذا قيل كل شيء موجود وكل موجود شيء، والقرائن تفيد تعلق الموضوع بما هو حادث فالقول بأنهم ليسوا على شيء أي ان عملهم لم يكن على مرتكزات سليمة وانه يذهب أدراج الرياح.
وهل هذا القول قبل البعثة النبوية الشريفة ام اثناءها، الجواب انه في كلتا الحالتين، فهو موجود في أيام النبوة اذ ليس هناك ما يدل على زواله ولعله من بين الأسباب التي جعلت نبوة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة، وفيه بالدلالة التضمنية اخبار عن انتصار الإسلام، اذ فلابد ان تبقى كلمة التوحيد وان تلك النزاعات تضر جميع أطرافها وليكون الإسلام الرحمة المهداة الى الناس جميعاً يعطي كل ذي حق حقه، لاسيما وان قولهم متعارض أي ان كل قول منهما يعارض الآخر، كل واحد منهما كلام لأهل كتاب جاء القرآن ناسخاً له، فلابد ان يكون هناك دليل وحجة اقوى وارجح تبين وتثبت حقيقة كل منهما.
فكان الإسلام الذي ثبت الهوية السماوية للديانة اليهودية والمسيحية حيث كانا في منازل الضعف الذاتي والخارجي فلم تكن أي من الديانتين منتشرة ومعروفة بصورة يقطع معها بالقدرة على الرسوخ الزماني والثبات التأريخي، قال تعالى [ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ]( ) فهي تثبت انهم اهل كتاب انما علقت صحة عملهم على اقامة التوراة والإنجيل والعمل بما انزل اليهم من عند الله.
فهل هي مطابقة في دلالتها لمضمون الآية محل البحث الجواب بين موضوعها وبين الآية محل البحث عموم وخصوص من وجه، موضوع الإلتقاء هو الإقرار بانهم اهل كتاب، وموضوع الإفتراق ان كل فرقــة من اهل الكتاب تنفــي كون الاخرى على شيء وان عملها يعـتد به، اما هذه الآية فتعلق ذلك على اقامة واتيان ما امروا به في كتابهم الذي بين ايديهم وهناك تــلاوة للكتاب وهي اعم من اقــامته والعمل بما فيه، ومن العمل بالتوراة والإنجيل الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد جاءت الآية بصيغة الجمع والماضوية، وقد لا تفيد بالألف واللام الجنس والإستغراق فقد تقدم في أسباب النزول نسبة القول إلى أفراد، وهذا من اعجاز القرآن بان يكشف عن حقيقة عقائدية واقوال بعض أهل الملل الأخرى وتوثيقها، ولا يعارض هذا القول ما ورد في اسباب النزول لأن الآية القرآنية اعم في موضوعها من اسباب النزول.

قوله تعالى [وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ]
الواو للحال، والضمير يعود للفريقين، والكتاب للجنس والوصف يفيد المدح في مقام الحجة والتعريض، أي ان تلاوتهم الكتاب حجة عليهم لما تقتضيه من الإقرار بالكتب السماوية الأخرى.
وفي الآية احتراز للمسلمين بما تدل بالدلالة الإلتزامية على التفكيك بين تلاوة الكتاب وبين انصاف الآخرين، فقد يتلو الكتاب ولكنه لا ينصف غيره ويحاول النيل منه، فكأنها خطاب للمسلمين مضمونه لا يصيبنكم اليأس والسأم ان افتروا على الإسلام.
وتبين الآية عظمة الإسلام باكرام حملة الكتاب بالإعتراف لهم بديانتهم السماوية والإنصاف نصف الدين، وتبين ان تلاوة الكتاب تملي على الإنسان وظائف اضافية ازاء الملل السماوية الأخرى، وتحذر من الفتنة وتمنع من الإفتراء بين اهل الكتاب، وتنبههم الى لزوم وقف التعدي فيما بينهم، وبذا تتجلى معاني قدسية في آيات القرآن، فمع انهم يحاربون القرآن فانه يأتي بالتنبيه والدعوة لنبذ الخصومة فيما بينهم ويذكرهم بتلاوتهم للكتاب السماوي، وكأنه يخبر كل فريق منهما بان الفريق الآخر له حق ويلتقي معك بصلات من السمو والرفعة وهي تلاوة الكتاب.
وتبشر التوراة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإنجيل يعترف بنبوة موسى وتسليم كل فريق منهما بما عند الثاني من الحق يؤدي بهما الى الإقرار بنبوته لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ولازاحة غشاوة العناد والإصرار، ولترشح هذا الإقرار قهراً وانطباقاً من تلاوة الكتاب، وفي الآية نكتة وهي انحصار الوصف بتلاوة الكتاب.
فالتلاوة اعم من العمل، فقد يتلــو احدهم الكتاب ويعمل بما فيه، وقد يتلوه ولا يعمل بما جاء به، وقد يتلوه ولا يجد بعضاً مما يجب ان يكون فيه، كما في الكتب التي سبقت القرآن مما تعرض للتحريف، فالآية انذار وتنبيه للمسلمين مدح للمسلمين على وحدتهم وتحذير من الفرقة والقذف و الطعن فيما بينهم وان لا يذم بعضهم البعض، او ينعته بالكفر والضلالة وعدم قبول الأعمال وان لا يكون بتقادم الزمان بينهم طعن وذم مذهبي، فتكون كل فرقة مستقلة في عملها راضــية بالذي عندهـا ليس هذا فقط بل ترى بطلان من لا يتبع قواعدها واحكامها خصوصاً وان قصص الماضين عبرة وموعظة لنا.
وتحــث الآية على العمـل بالكــتاب الســماوي وعدم الوقوف عند التلاوة وحدها، فلا نفع بعلم من غير عمل، ولا عمل من غير علم.
وتحتمل تلاوة الكتاب وجهين :
الأول : كل طائفة تتلو كتابها ، فهم على شعبتين :
الأولى : يتلو اليهود التوراة .
الثانية : يتلو النصارى الإنجيل .
فتكون الألف واللام في الكتاب للجنس .
الثاني : يتلو اليهود والنصارى التوراة ، وتكون الألف واللام للعهد .
ولا تعارض بين الوجهين ، وكل منهما مصداق للآية الكريمة
قوله تعالى [كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ]
بيان للمائز والفارق بلحاظ نزول الكتاب فالآية تدل بالدلالة التضمنية على ان العلم يدور مدار الكتاب المنزل فالذي عنده الكتاب يكون من الذين اوتوا العلم بالقياس الى الذين لم يتبعوا نبياً ولم يعملوا بكتاب سماوي وهل يمكن تفسيرها بأحد وجهين :
الأول : الذين لا يعلمون هم ايضاً من أهل الكتاب ولكنهم من عامتهم والمثلية هنا بالإتباع والمحاكاة للخاصة.
الثاني : الذين لا يعلمون هم فريقان أي الذين لم ينزل عليهم الكتاب ولا يقولون بتوحيد الصانع، والفريق الثاني هم العوام من أهل الكتاب يلتقون بعدم العلم وان اختلفت السنخية.
والصحيح هو ما ذكرناه اولاً، أي مدار العلم على الكتاب واتباع النبوة ومناهجها .
وأن المراد بالذين لايعلمون المشركون , إذ أن لفظ يتلون الكتاب شامل لعموم أهل الكتاب ووصف يتغشى الجميع على نحو العموم الإستغراقي.
وأخرج إبن جرير عن السدي في قوله[كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] قال: هم العرب قالوا : ليس محمد صلى الله عليه وآله وسلم على شيء( ).
وعن عطاء قال: انهم أمم كانت قبل اليهود والنصارى، وقالت تلك الأمم لأنبيائهم وأتباعهم لستم على شئ.
ولا تعارض بين القولين , وفيه بيان لإتحاد لغة أهل الكفر في محاربتهم للمؤمنين في زمان وأيام التنزيل، وقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والمسلمون الأوائل الأذى من قريش، وكان النبي يذكر لبعض الوفود والصحابة وهو في المدينة الأذى الذي قابلته به قريش.
ويدل على إرادة المشركين بقوله تعالى[قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ما جاء بعد خمس آيات[وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ]( )، وفي سبب نزولها قال إبن عباس: قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فليكلمنا حتى نسمع كلامه ، فأنزل الله في ذلك[وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] قال : هم كفار العرب [لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ] قالا : هلا يكلمنا( ).
قوله تعالى [فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]
اخبار عن ظهور الحقائق وكشف الأسرار والوقائع على الملأ يوم القيامة والإنتصاف وبيان وجوه الظلم للنفس والآخرين، وحكم الله يوم القيامة اعم من دخول الجنة والنار، ويشمل مواطن الحساب المتعددة , وقد يدخل الإنسان الجنة بفضل الله تعالى ورحمته او بالتوبة او بالشفاعة او بمضاعفة عمل صالح علنا جاء به في الدنيا اوكان خفية، قال تعالى[الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
فالصالحات التي تؤدى ســراً في الدنيا تستبين بازهى وابهج صورة مضاعفة أضعافاً كثيرة، والحكم والحساب موطن سابق ومتقدم على دخــول الجنة او النار وقد يكون في الفصــل بين الأقوال والآراء قبــل الحكــم بين الأشخاص في صحائف الأعمال فتسمية يوم القيامـة يــوم الفصــل اعم من ان يكون بين الأشخاص بل يشمل العقائد والأفكار ليحيى من حيي عن بينة و يهلك من هلك عن بينة.
جاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية ، وبما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة , أما الأول وهو أمور الدنيا فيتعلق بقول طائفتين من أهل الكتاب ، وقول للمشركين , أما بخصوص الآخرة فان الآية تبين حقيقة وهي أن الله عز وجل يحكم بين هذه الطوائف وغيرها في الآخرة , وتحتمل عائدية الضمير هم) في قوله تعالى [فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ] وجوها :
الأول : إرادة طوائف من اليهود والنصارى.
الثاني : المراد هم المشركون الذين يرمون غيرهم بعدم الإستقامة .
الثالث : يحكم الله بين المؤمنين وأهل الكتاب والمشركين يوم القيامة .
الرابع : أهل الجدال والخصومة من الفرق المتعددة .
ولا تعارض بين الوجوه أعلاه ، إذ يحكم الله عز وجل بين الناس جميعاً يوم القيامة ، ومع الحكم يستبين الحق ويحكم الله يوم القيامة حتى بين البهائم فمن باب الأولوية تفضله بالحكم بين الناس الذين رزقهم العقل وأرسل إليهم الأنبياء والمرسلين مبشرين ومنذرين (وعن أبي ذر قال بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إذ انتطحت عنزان فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أ تدرون فيما انتطحا فقالوا لا ندري قال لكن الله يدري وسيقضي بينهما) ( )، وهو من مصاديق وتفسير قوله تعالى [وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ] ( ).
قوله تعالى [فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ]
من أسماء يوم القيامة يوم الفصل، اذ يفصل الله فيه بين الحق والباطل، ونعت الحال التي بينهم بالاختلاف اشارة الى أن السلامة والوفاق في الاسلام، وليس من اختلاف بين المسلمين في اصول الدين واحكامه كما تراهم يؤدون متحدين الفرائض الخمس في الصلاة اليومية.
ويؤدون الحج بمناسك واحدة، ويقومون بالصيام طاعة لله في وقت مخصوص، قال تعالى[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
وآية البحث من مصاديق قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، من وجوه:
الأول : التوثيق السماوي لقول أهل الكتاب، والتضاد والتقابل في جهة الصدور والمقصود.
الثاني : الشهادة لليهود والنصارى بتلاوة الكتاب والتنزيل.
فمع أن الآية بينت إختلافهم وتباينهم فانها ذكرتهم على نحو الإتحاد والتشابه بتلاوة التنزيل بقوله تعالى[وَهُمْ].
الثالث : الدعوة إلى العلم والتحصيل.
الرابع : بيان طريق العلم وهو تلاوة الكتاب وإتباع الأنبياء.
الخامس : ذكر تفاصيل أقوال أهل الملل الأخرى.
السادس : توثيق أقوال أهل الجاهلية والكفر، بقوله تعالى[وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] وهو من عمومات قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، بلحاظ أن حسن الأحسن دلالة هذه القصص على حاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع : إن الإختلاف في الأقوال ليس أمراً سهلاً أو مهملاً، بل يكون مادة للحساب والحكم يوم القيامة، وفيه دعوة للتصديق بالمعجزات ونزول القرآن، وزجر عن الإفتراء على رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.

قوله تعالى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] الآية 114.
الإعراب واللغة
ومن: الواو: إستئنافية، من: إسم إستفهام في محل رفع ويفيد النفي.
وتأتـي (من) إسماً وتكون جحداً، وتكون إستفهاماً كقولك: من المنادي؟ وتكون شرطاً وتكون معرفة وتكون نكرة وتكون للواحد والإثنين والجمع وتختص بالناس، وتأتي للملائكة والجن، وتكون للبهائم إذا خلطت بغيرها.
و فيمن جعلها اسماً انشد الفراء هذا البيت في بني هاشم.
فضلوا الأنام ومن برا عُبدانهم

وبنو بمكة زمزماً وحطيماً( ).

وذكر الزجاجي أن لها أربع مواضع، وقال الرماني: أن معانيها سبعة( ).
أظلم: خبر من، ممن: جار ومجرور متعلقان باظلم.
منع مساجد الله: فعل ماضِ والفاعل ضمير مستتر يعود على من، مساجد الله: مفعول به مضاف، وإسم الجلالة مضاف إليه.
أن يذكر: أن وما في حيزها مفعول ثان لمنع والتقدير (ذكر فيها اسمه) إسمه :نائب فاعل مرفوع بالضمة.
وسعى: عطف على منع، في خرابها: جار ومجرور متعلقان بسعى، وخراب: مضاف والضمير في محل مضاف إليه.
أولئك: إسم إشارة مبتدأ.
ما: نافية، كان: فعل ماض ناقص , لهم: خبر كان مقدم، والمصدر المؤول من أن وما في حيزها في محل إسم كان المؤخر وجملة(ما كان لهم أن يدخلوها) في محل رفع خبر المبتدأ (أولئك)، إلا: أداة حصر.
(خائفين): حال من فاعل يدخلوها، وهو الواو , لهم: جار ومجرور خبر مقدم.
في الدنيا: جار ومجرور، متعلقان بمحذوف حال، خزي: مبتدأ مؤخر، ولهم: الواو: حرف عطف، لهم: خبر مقدم.
في الآخرة: جار ومجرور في محل نصب حال، عذاب: مبتدأ مؤخر عظيم: صفة لعذاب.
والمنع هو الصد والحيلولة خلاف الإعطاء، ومنعته الأمر فهو ممنوع منه( بالإسناد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال سيعوذ بهذا البيت – يعني الكعبة – قوم ليست لهم منعة ولا عدد ولا عدة يبعث إليهم جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم) ( )، أي قوة تمنع من يريدهم بسوء، فيحفظ الله عز وجل البيت والذين يلوذون به وهو من مصاديق آيات البيت الحرام وقوله تعالى[وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا]( ).
والمسجد بيت العبادة وان كان في الأصل أعم من المفهوم الإصطلاحي ويشمل المكان الذي يتخذه العبد موضعاً للسجود ومحلاً لوضع جبهته.
وأخرج أحمد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي امامة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فضلت على الأنبياء بأربع : أرسلت إلى الناس كافة ، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً، فأينما رجل أدركه من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره ، ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي ، وأحل لنا الغنائم) ( ).
وقد يُطلق لفظ المساجد مع القرينة على مساجد الانسان السبعة وهي: الجبهة، والكفان، والركبتان، والإبهامان من الرجلين.
والخزي هو الهوان والذل والسوء، يقال خزي الرجل يخزي خزياً: أي وقع في بلية وشر وشهرة، فذل بسبب ذلك وهان.
في سياق الآيات
بعد ان بينت الآية السابقة ما عليه فريق من أهل الكتاب من تكذيب بعضهم لبعض، جاءت هذه الآية لتبين الظلم للمساجد وعمارها ولتنذر الكافرين الظالمين ولتنبه المسلمين إلى أن الإختلاف بين أهل الملل لا يمنع من صدور الأذى منهم.
وتمنع الآية من الإنشغال بالخلاف بين أهل المذاهب والملل، وتؤكد على موضوع أهم وهو إستدامة المساجد في الأرض وعمارتها، والإنتقام من الذي يتعدى عليها، فكأن الآية تقول لغير المسلمين إجتنبوا التعدي على المسلمين والإسلام.
ولما جاءت الآية قبل السابقة بالوعد الكريم للذين يخلصون العبادة لله بقوله تعالى[بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ]( )، جاءت هذه الآية لبيان أمرين متضادين:
الأول: الذي يعمر مساجد الله ممن أسلم وجهه لله.
الثاني: الذي يتعدى على المساجد ويسعى في خرابها ممن يحارب الله ورسوله.
وفي الجمع بين الآيتين دعوة لأهل الكتاب والناس جميعاً بعدم التعدي على المساجد، وأخبرت هذه الآية بأن دخول الجنة بالعمل الصالح وعمارة المساجد وليس بالأماني كما تقدم في قوله تعالى [تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ] ( )، وأن الذي يتعدى على المساجد يلقى العذاب الأليم، فمن يتمنى دخول الجنة عليه أن يجتنب التعدي على المساجد وعمارها لأنها حرم الله.
وجاء قبل أربع آيات الأمر بإقامة الصلاة وأنها خير محض، وجاءت هذه الآية للإخبار عن فضل الله في وقاية المساجد من التخريب وفيها إنذار للذين يعتدون عليها، وفيه دليل على موضوعية الصلاة والعناية الإلهية بالمصلين وأن كانت الصلاة تؤدى في البيت والمزرعة والسوق والمدرسة وغيرها، ولما أمر الله عز وجل بإقامة الصلاة فانه سبحانه حفظ المساجد من التعدي بالإنذار والوعيد بالعقوبة العاجلة.
وجاءت الآية التالية لبيان سعة الأرض وأنها كلها مسجد بقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ] ( )، وهو من عمومات الخزي الذي يلحق الكفار في الدنيا، إذ أنهم عاجزون عن الصد عن سبيل الله، وأنهم غير باقين، والى الفناء كرهاً سائرون، قال تعالى[كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ]( ).

أسباب النزول
ذكرت في بيانها وجوه:
الأول : عن إبن عباس : أن ملك النصارى غزا بيت المقدس فخربه وألقى فيه الجيف وحاصر أهله وقتلهم وسبى البقية وأحرق التوراة ، ولم يزل بيت المقدس خراباً حتى بناه أهل الإسلام في زمن عمر( ).
الثاني : وعن ابن عباس و مجاهد أنهم الروم غزوا بيت المقدس وسعوا في خرابه حتى كانت أيام عمر فأظهر الله المسلمين عليهم وصاروا لا يدخلونه إلا خائفين( ).
الثالث : قال الحسن وقتادة والسدي: نزلت في بُخْتُ نَصًّر حيث خرب بيت المقدس وبعض النصارى اعانه على ذلك بغضاً لليهود( ).
وقيل ان عهد بُخْتُنَصَّر سابق في أوانه لأيام المسيح وبمدة ليست قصيرة، أي لم يكن دين النصرانية موجوداً بعد كما ان النصــارى يعتقــــدون أيضــاً بتعظيــم بيــت المقدس مثل إعتقــاد اليهود بالإضـــافة إلى أن الآية نزلت بلغة الجمع في المساجد [ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ].
الرابع : أنها نزلت في مشركي العرب الذين منعوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن الدعوة إلى الله في مكة وألجؤوه إلى الهجرة ، فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام.
الخامس : عن الإمام جعفر الصادق  انهم قريش حين منعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخول مكة والمسجد الحرام أي عام الحديبية , وبه قال البلخي والرماني والجبائي( ).
(ونسبه الفخر الرازي إلى أبي مسلم) ( ).
وفيه بيان لمناسبة الحال، وموضوع الآية متعلق بزمان النزول وجهاد المسلمين، وفيه أيضاً عرض لما كان يقوم به الكفار والمشركون من إيذاء للمسلمين ومحاولة التصدي لهم في عباداتهم.
وقد ورد ذكر المسجد في إحدى وعشرين آية بصيغة المفرد وورد بلغة الجمع ست مرات كلها في الظاهــر تتعلق بالمساجــد التي هي من بيوت عبادة المسلمين باستثناء آية منها جامعة وهي [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا]( ).
والآية ظاهرة في المساجد من الأرض، والمسجد أصبح عنواناً إصطلاحياً للبيت الذي يعبد به المسلمون الله عز وجل , ويدل قوله تعالى [ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا]( ) على أن الآية محل البحث تتعلق بمساجد المسلمين.
والصومعة وهي التي ينقطع فيها رهبان النصارى، والبيع جمع بيعة وهي معبدهم.
وفي الحديث: المؤمن مجلسه مسجده، وصومعته بيته) ( ).
وما تفيده واو العطف من الغيرية والتعدد يدل على أن المراد بالمساجد هي بيوت الله التي يتعبد بها المسلمون وأعظمها البيت الحرام والمسجد النبوي الشريف لذا إذا ورد لفظ المسجدين فالمراد منه البيت الحرام والمسجد النبوي الشريف.
ويمكن الإستدلال أيضاً بطريقة السبر والتقسيم وهي أن تحصر الموضوع في قسمين ثم تبطل أحدهما فينتج عنه قهراً بقاء الثاني وصحته، وأيضاً قد يكون الحصر بأكثر من إثنين مع إبقاء واحد منها بعد إبطال البقية.
مثلاً يحتمل الصيام أنه:
الأول: عبادة بدنية.
الثاني: عبادة مالية.
الثالث: عبادة مركبة مالية بدنية.
والثاني والثالث غير مناسبين للمعنى فيتعين الأول.
وفي الفلسفة يمكن أن يؤتى بهذه الطريقة للإستدلال على علة الحدوث، ففي بناء البيت والدار مثلاً أما التأليف أو الإمكان، والثاني باطل، فيتعين الأول , قال تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ]( ).
إعجاز الآية
في الآية وجوه :
الأول : من إعجاز الآية الإخبار بأن الذين يمنعون المسلمين عن بيوت الله سوف لن يدخلوها إلا خائفين، فالآية تبعث الطمأنينة والسكينة في قلوب المسلمين وتشفي صدورهم.
الثاني : حث المسلمين على الصبر ومواصلة الجهاد لما فيهما من منع التأثير السلبي على نفوسهم.
لقد أراد أولئك الكفار أن يبعثوا في قلوب المسلمين اليأس والقنوط، إذ أن المقام ليس مقام الهجوم والعدوان على المسلمين إنما هو عدوان على الشعائر وعلى مواضع العبادة فالقصد منه التضييق وتثبيط الهمم وبث روح الشك والتردد.
الثالث : إن الله عز وجل أنجز وعده ونصر عبده وأمر بمنع المشركين من دخول المسجد الحرام، قال تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]( ) , وتوجه الخطاب إلى المؤمنين دلالة نصرهم وتصرفهم المطلق، وليس على نحو الشركة.
الرابع : إستحضار فعل المشركين ذاك فيمن يعتدي على المساجد ويكون دينه وديدنه منع المؤمنين من الصلاة والقيام بتخريب المساجد إن حصل ذلك في المستقبل أو كما حصلت شواهد منه في بعض البلدان غير الإسلامية.
ومن الإعجاز أنك ترى المطالبة بتلك المساجد والدعوة إلى بنائها مستمرة وبعضها أعيد لها عنوان المسجدية.
الخامس : إن الذي يحارب الإسلام والمسلمين من المشركين الكفار ويحول دون تعظيم الشعائر وإظهار ذكر الله تعالى ظالم ومعتدِ ولابد ان ينال جزاءه وأنه لن يستطيع الإستمرار في عمله هذا بل سيبتليه الله عز وجل بالذل والهوان، قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
السادس : الآية وعد للمسلمين بان يروا بطش الله تعالى فيمن آذاهم ومنعهم من تعظيم شعائره وأداء فريضة الحج، وهي موعظة وعبرة وإنذار لأعداء الإسلام مطلقاً وإلى يوم القيامة.
السابع : الآية إبطال لأثر هذا المنع فهو وإن حصل في الخارج والواقع إلا أن أثره النفسي معدوم بل إن هذه الآية جعلت أثره على المسلمين ينعكس بثبات وصبر وعز وإنتظار للفرج والفتح.
فمن إعجاز هذه الآية أنها أفرغت هذا الفعل من غاياته وجعلته ينقلب إلى مصدر إلهام وعزيمة وصبر عند كل مسلم الأمر الذي كان ضرره على الكفار والمشركين كبيراً، فهم حينما يصابون بالفزع والخيبة ويدركون سذاجة ما هم عليه ويتبدد أي أمل في هذا المنع، قد يتوجهون إلى الإعتبار والتدبر في أسباب تلك الخيبة ودلالتها على الضلالة وبذا تتجلى هذه الحقيقة وهي أن القرآن سلاح دائم.
الثامن : في الآية رحمة للكفار والمشركين أنفسهم، فهم حينما يخبرون بما ينتظرهم وهو أمر لم يتأخر في تحققه في الخارج بل حصل في أيام النبوة وقبل مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى فانها أي هذه الآية تكون مقدمة وبرهاناً لهم على صدق الإسلام وان القرآن كتاب نازل من عند الله تعالى.
انهم يعتدون على حرمات المسلمين ويحولون دون أدائهم للشعائر ومناسك العبادة ومع هذا فان القرآن يدعوهم إلى الإٍسلام، نعم تلك الدعوة ليست مباشرة دائماً فقد تكون أحياناً بالواسطة وبالدلالات والبراهين والإنذار وبيان ما كسبت أيديهم بالإضافة إلى وجود دعوات عامة لمطلق الناس تكون شاملة لهم على نحو الإنطباق ومصاديق الكلي في بيان تعدد وجوه فضل الله تعالى وهي مناسبة كريمة لإقامة الحجة على صدق النبوة.
التاسع : تبين الآية الحاجة إلى ذكر الله تعالى وموضوعيته في حياة الناس قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
فهؤلاء الظالمون جحدوا وكفروا ثم أنهم قاموا بظلم آخر لأنفسهم وللمؤمنين وهو منعهم من مساجد الله.
العاشر : في الآية بيان لمراتب الكفر والظلم وان الذي يكفر من غير ظلم أخف وزراً في مراتب العذاب من الذي يكفر ويظلم، والذي يظلم يكــون ظلمــه وتعديـه على وجوه ومراتب أشـدها السعي في تخريب المساجد والحيلولة دون ذكر الله فيها.
الحادي عشر : كما يؤكد القرآن على أهمية عمارة المساجد سواء ببنائها وإصلاحها أو المواظبة على دخولها وملازمتها , قال تعالى [ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ]( ) فان هذه الآية جاءت بخصوص من يعتدي ويضر المساجد ويؤذي أهلها، وفي ذلك نصوص مستفيضة من السنة بالإضافة الى السنة الفعلية ومواظبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الحضور في المسجد النبوي وإتخاذه مكاناً لإصدار الأحكام وتوجيه السرايا وإستقبال وفود القبائل.
الثاني عشر : الآية بشارة لبناء المساجد وإنتشارها في الأرض وموضوعيتها في الأحكام الوضعية وإعتبارها عند الناس، فمن الإعجاز أن التعدي في الآية على وجهين:
الأول: منع الناس من ذكر الله في المساجد.
الثاني: السعي في خرابها وهو أعم في موضوعه أو أن المراد العزم والنية، أي أن هذا السعي لن يضر بالحقيقة الخارجية للمساجد ووجودها، لأن الله عز وجل يبطل هذا، ومن القرائن على إبطاله نسبة المساجد إلى الله، لإفادة معنى أن الله عز وجل يتعاهد مساجده فلن يضرها سعي الكفار لخرابها.
الثالث عشر : تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على تعاهد المسلمين للمساجد بنـاء وعنايــة وحفظــاً ووقايــة من التخــريب والتعـدي والظلم.
الرابع عشر : ستكون المساجد رحمة للمسلمين وبلاء ونقمة على الظالمين.
الخامس عشر : إن وصف التعدي على المساجد والصلاة فيها بأشد حالات الظلم يدل على منزلتها وما لها من شأن عند الله عز وجل، عن الإمام الصادق عن أبيه عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله، قال الله تبارك وتعالى: ان بيوتي في الارض المساجد تضئ لاهل السماء كما تضئ النجوم لاهل الارض ( ).
السادس عشر : الآية وعيد للظالمين ووعد كريم للمسلمين.
السابع عشر : بما أن الآية القرآنية باقية إلى يوم القيامة فان هذه الآية بشارة بقاء المساجد مناراً وعلماً وهداية وملجأ.
الثامن عشر : تمنع الآية من اليأس والسأم إن تعرض أحد المساجد للضرر او أصاب عماره الأذى، لما في الآية من الوعيد والإنذار لمن يعتدي على الحرمات.
التاسع عشر : في الآية حث على التصدي للتعدي على المساجد وكأنها دعوة عامة للنفير المستقرأ من ذم المتعدي عليها بأشد صيغ الذم والتقبيح والتعريض.
نعم هذا التصدي مقيد بالعمومات من قاعدة الميسور ونفي الحرج ومراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقواعد الوجوب الكفائي وأحكام التقية من الكفار، خصوصاً مع وجود البدائل في أماكن العبادة، وقصر زمان الظلم، فمن معاني نسبة المساجد لله عز وجل أنه سبحانه يحفظها ويتعاهدها من الظالم.
ومن إعجاز الآية أنها لم تحصر الظلم الشديد ، بالمنع من ذكر الله ، بل جاءت بفرد آخر وهو السعي في خراب وتعطيل أماكن العبادة ، وفيه وجوه .
الأول : يتعلق أفعل التشديد (أظلم) بالمنع من ذكر الله في المساجد .
الثاني : كفاية السعي في خراب المساجد في بلوغ أعلى مراتب الظلم .
الثالث : عدم كفاية أحد الوجهين أعلاه ولا به من الجمع بينهما وإتيانهما معاً من الفرد أو الجماعة أو الجهة كي يتحقق أفعل الظلم وشدته.
أي هل تفيد الواو في قوله تعالى [وَسَعَى فِي خَرَابِهَا] الجمع والجمع مشهور النحويين ، أو أنها تفيد الترتيب وعليه الفراء ، وإليه ذهب الشافعي ويقال نقله عن الفراء .
وعند بعض الحنفية للمعية ، قال ابن الخباز وقد زل الفريقان وليس من زلل في المقام لتعدد وجوه ومعاني الواو بحسب موضعها من الجملة والصحيح بخصوص آية البحث هو الوجه الثالث أعلاه وأن الواو تفيد الترديد ، وهي أقرب لواو الإستئناف كما في قوله تعالى [ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ]( )، كما أن الواو في (وسعى في خرابها ) تجمع بين العطف والإستئناف والحال بمعنى أن منع العبادة في المساجد سعي في خرابها وتعطيلها .
ويمكن تسمية هذه الآية بآية (مساجد الله) وورد ذكر (المساجد) بصيغة الجمع ست مرات، وقد جاءت في عمارتها إلا هذه الآية فجاءت بالإخبار عمن يقوم بخرابها ويحاول تعطيلها، ولكنها تدل في مفهومها على عمارة المساجد.
الآية سلاح
الآية إنذار وتخويف لمن يقف محارباً للإسلام وشعائره، ووعيد بعقاب قريب، وهي أيضاً بشارة ووعد للمسلمين بالعناية الإلهية في حفظ أسباب ومواضع العبادة وما تعنيه من قدسية في المناسك.
والآية نوع حفظ سماوي للمساجد، وأن الله عز وجل يتعاهدها بأمور منها هذه الآية التي هي إنذار للذين يتعدون على المساجد وسبب لبعث السكينة في نفوس المسلمين بسلامة المساجد، ومواساة لهم عند التعدي على بعض المساجد بأن الله عز وجل ينتقم من الذين يسعون في خراب المساجد ولا ينحصر هذا الإنتقام بعالم الآخرة بل يشمل الحياة الدنيا بأن يصيبهم الخزي، وهو على وجوه منها:
الأول: ظهور المسلمين، وإتساع دولة الإسلام.
الثاني: كثرة المساجد التي تبنى في عموم الأرض , وجاءت السنة النبوية القولية والفعلية بالترغيب ببناء المسجد، والنصوص في المقام عديدة ومستفيضة منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: من بنى مسجداً يصلي فيه بنى الله له بيتاً في الجنة أفضل منه)( ).
الثالث: العقوبة العاجلة التي يتلقاها الذين يعتدون على المساجد.
الرابع: الإبتلاء الذي ينزل بالظالمين الذين يهدمون المساجد أو يمنعون الناس من إعمارها، والذين يقومون بإيذاء المؤمنين، وصد الناس عن سبيل الله عز وجل.
الخامس: دخول الناس للإسلام، وعدم ترتب الأثر على هذا المنع وإرادة التخريب.
وقد يدخل الذين يمنعون الناس من العبادة والذكر الإسلام، فهل يشملهم الإنذار والوعيد الوارد في هذه الآية، وهل يلحقهم الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.
الجواب لا، لأن الله عز وجل هو التواب الرحيم، وعمومات إذا تغير الموضوع تبدل الحكم، إذ جاءت الآية بخصوص الذين يزاولون المنع ويموتون من غير توبة ولا إنابة إلى الهدى والرشاد.
ومن إعجاز القرآن أن هذه الآية طريق للتوبة والصلاح.
وتبعث الآية الفزع في قلوب الكفار وتدعوهم إلى الإنابة والكف عن السعي في الإضرار بالمساجد وأهلها.
السادس: ومن وجوه الخزي الذي يلحق الكفار الذين يسعون في هدم المساجد، جعل الأرض كلها مسجداً للمسلمين، فضلاً من عند الله فليس من حصر مكاني لمواضع العبادة، كي يقصدها الكفار ويقومون بتخرييها، وعدم الحصر هذا من وجوه:
الأول: كل أرض تصلح أن تكون مسجداً.
الثاني: كفاية الموضع الصغير والكبير لبناء المسجد، فلا يشترط مقدار مخصوص من الأرض للمسجد، بل يصح إطلاق المسجد على الموضع الذي يكفي لأداء الفرد والجماعة الصلاة.
الثالث: صحة الصلاة، إذا جاء أداؤها في المسجد والمعمل والشارع والبر والسفينة وغيرها فكل موضع ثابت أو متحرك يصلح أن يكون مسجداً.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً)( )، فكما يصح التطهر والتيمم من أي بقعة من الأرض، فكذا بالنسبة للمسجد، فكل بقعة في الأرض تصلح للمسجدية، لأن الأرض ملك لله عز وجل وإتخاذها مواضع للعبادة من مصاديق الشكر لله عز وجل على نعمة الخلق والخلافة في الأرض.
مفهوم الآية
ما في الآية من الإنذار والتخويف يدل على موضوعية المساجد في الأحكام التشريعية ومنزلتها في السماء والضرر الفادح بالتعدي عليها وعلى عمارها، ويمكن ان نستقرأ من الآية الحاجة إلى المساجد في تثبيت شعائر الله ووجوه العبادة في الأرض، والشواهد العقلية والوجدانية والتأريخية والنقلية أكثر من أن تحصى.
ومن مفاهيم الآية الدعوة إلى العناية بالمساجد وتعاهدها بالعمارة والتجديد وإقامة الصلاة وتزيينها بالأعمال النافعة وما فيه تعظيم شعائر الله وبحسب الحال، قال تعالى[إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ]( ).
وما في خاتمة الآية من الوعيد يبعث على السكينة ويخفف من الآلام عندمــا يتعرض أحد المساجد للإعتداء خصوصاً في زمن العولمة إذ أن الإســاءة إلى مسجد من مساجد المسلمين في أنحاء المعمورة ومحاولة تعطيل الشعائر فيه يسبب الحزن والأسى في قلب كل مسلم ومسلمة، ولكنه لا يمنع من لزوم بذل الوسع في تعاهد المساجد والذب عنها وصيانتها من التعدي ومنع أسباب الظلم عن المصلين.
وتعلق فعل بمفعول يقع عليه فعل الفاعل يدل على وجود المفعول به كموضوع خارجي سواء حصل الفعل ام لم يحصل فاذا قيل صم شهر رمضان، فان الأمر بصيام رمضان يدل على وجوده وحصوله وعدم صيام شطر من الناس الصيام لا يدل على عدم وجود شهر رمضان، فكذا بالنسبة للمساجد سواء وقع الظلم والمنع على عمارها أو سعى الظالم في خرابها فانها موجودة باقية إلى يوم القيامة.
فمن مفاهيم الآية بقاء المســاجد وعمارتها وعظيــم منزلتها ومع التداخل الحضاري والتقارب بين البلدان ومعايير وضوابط الصلات والمعاملة تجد المساجد تزداد أهمية وأثراً وترتقي في منزلتها العبادية والإجتماعية والسياسية والأخلاقية.
وهو من مصاديق [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لتعاهد المسلمين العبادة وبناء المساجد.
لقد جاء الأمر الإلهي إلى الناس جميعاً بالعناية بالمساجد، قال تعالى [يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ]( )، فلم تأت الآية بخطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وعن طاووس، لم يأمرهم بالحرير والديباج، وإنما كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت عنه، لأنهم قالوا : لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها( )، ولكن المعنى بأخذ الزينة أعم وفيه وجوه:
الأول : إرادة إكرام المساجد.
الثاني : الإقبال على لقاء الله في العبادة ودخول المساجد.
الثالث : ترغيب للناس بالإسلام وعمارة المساجد.
الرابع : بيان قانون كلي وهو أن الله غني عن العالمين.
الخامس : الريش ولباس الزينة دليل عز المؤمنين.
السادس : فتح أبواب الرزق على المسلمين بعمارة المساجد وهي من مصاديق التقوى، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
السابع : عمارة المساجد شاهد على الإيمان وصلاح النفوس، وباب لتنمية ملكة التقوى ومعاني الأخوة بين المسلمين، قال تعالى[أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ]( ).
الثامن : أخذ الزينة عند المساجد دعوة للناس لدخول الإسلام، وطرد للنفرة وأسباب الشك والتردد من دخولها، إنه رد عملي على نحو القضية الشخصية والنوعية على أولئك الذين يمنعون عبادة الله في المساجد، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
التاسع : رؤية صرح المسجد تذكير بالله عز وجل، ودعوة للناس لدخول الإسلام.
إفاضات الآية
جاءت الآية بصيغة الإطلاق الزماني لتشمل وجوهاً:
الأول: إرادة الأزمنة السابقة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا ورد عن إبن عباس في الآية أن المراد الروم غزو بيت المقدس وسعوا في خرابه، وقال الحسن وقتادة: هو بخت نصر حرب بيت المقدس وقد تقدم ذكره( ).
الثاني: إرادة زمان البعثة النبوية، وما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كفار قريش، وقيامهم بهدم المساجد التي بناها أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة إلى المدينة.
الثالث: إرادة المعنى الأعم وشموله لما بعد البعثة النبوية وأيام النبوة، ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، لأن أحكامها باقية إلى يوم القيامة لذا جاءت الآية بذكر وجهين من الأذى والعذاب الذي يصيب الظالمين.
الأول: الخزي في الحياة الدنيا.
الثاني: العذاب الأليم في الآخرة.
ومن إعجاز القرآن ذكر العقاب الدنيوي بأنه خزي، بإعتباره عقاباً إبتدائياً لما ينتظر الكفار من العذاب الأليم في دار الجزاء، ليكون في الآية رضا للمؤمنين وطرد للفزع من نفوسهم، وتخفيف عنهم، في أمور الدين والدنيا، بأن يبتلى الظالم بالخزي، فيضعف عن التعدي على المساجد وعمارها.
وتدعو الآية المسلمين إلى تنزيه المساجد ، وتعاهدها بالعمارة والصلاح، وتحبب الآية إلى نفوس المسلمين بناء المساجد، فمن إعجاز القرآن أن يأتي موضوع الآية بخصوص الذين يقومون بتخريب المساجد، ليكون حثاً للمسلمين على بنائها والإكثار منها والذب عنها.
وهذا الذب أعم من أن ينحصر بالدفاع عنها بل يشمل التحلي بالصبر وإظهار معاني التقوى والجهاد في سبيل الله عز وجل لدرء كيد الكفار، ودفع أذاهم، لقد أراد الكفار من التعدي على المساجد مقدمة للتعدي والهجوم على المسلمين في عباداتهم وفي أنفسهم وأموالهم.
فجاءت هذه الآية لزجر الكفار ومنعهم من التعدي على المساجد والمسلمين كيلا يتمادوا في الظلم والغي، وهو من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )، أي أن الآية تمنع الكفار من الإنتقال من هدم المسجد، ومحاربة الصلاة إلى الحرب على النبوة والمسلمين، وتجعلهم ينشغلون بأنفسهم ليؤد المؤمنون عباداتهم ومناسكهم في أمن وسلامة ويرجع كيد الكفار إلى نحورهم.
الآية لطف
في وسط الأذى الذي يلقاه المسلمون من الكافرين، وأقطاب الشرك والضلالة تأتي البشارة بالنصر والغلبة، وهذه البشارة على وجوه:
الأول: مجيء البشارة في آيات القرآن، برفعة الإسلام وبناء دولته.
الثاني: حصول الظفر والنصر للمؤمنين في القتال والدفاع عن الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم , قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثالث: مفهوم لغة الإنذار الواردة في هذه الآية للقوم الظالمين.
لقد أخبرت الآية عن قبح فعل الكفار الذين يعتدون على المساجد، وأنهم أشد ظلماً من غيرهم.
لقد بينت الآية حقيقة باقية إلى يوم القيامة وهي أن الذين يمنعون ذكر الله في المساجد اشد الناس ظلماً ،
وقد تكرر لفظ من أظلم ست عشرة مرة في القرآن في مواضيع متعددة وإذا كان معنى قوله من أظلم هو لا أحد أظلم فكيف يكون الجمع بين الآيات بلحاظ مواضيعها المختلفة ، فيه وجوه :
الأول : وردت أكثر هذه الآيات في ذم الذين يجعلون لله شريكاً أو سند إليه قولاً لم ينزل به وحي أو جاء بمغالطة لتكذيب ما إنزل الله ، قال تعالى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ] ( ).
الثاني : جعل وجوه الظلم الأخرى المذكورة في آيات (من أظلم ) كتخريب المساجد ولإعراض عن ذكر الله فروعاً للإفتراء على الله .
الثالث : ما ذكر في هذه الآيات هو أشد وجوه الظلم .
والصحيح هو الثالث من غير تعارض بينها ، لما فيه من التعدي على الذات والغير ، لتأتي هذه الآيات رحمة بالناس جميعاً ، فهي دعوة للمؤمنين للصبر ، وإنذار للكافرين وحث لهم على التوبة ولإنابة .
الصلة بين أول وآخر الآية
بدأت الآية بأسم الإستفهام وبما يبعث على الإنتباه والإلتفات إلى موضوعها، إذ أنها تدل على ذكر فعل يتصف بشدة القبح والضرر على صاحبه وغيره وهو القيام بهدم المساجد والتعدي على المسلمين في عباداتهم ومناسكهم.
ولم تقل الآية وويل للذين منعوا مساجد الله، بل جاءت بصيغة الإستفهام الذي يفيد الإنكار، تدل بداية الآية على أن الظلم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة شدة وقلة مع أن كل أفراده مذمومة، للنهي من الظلم مطلقاً ويحتمل ظلم الذين يمنعون المساجد أن يذكر فيها أسم الله عز وجل في متعلقه وجوهاً:
الأولى: ظلمهم لأنفسهم قال تعالى[وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ] ( ).
الثاني: ظلمهم للمؤمنين.
الثالث:ظلمهم للناس جميعاً.
الرابع: الظلم للمساجد ذاتها بدليل وقوع الظلم على المساجد ذاتها[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ] ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية، لذا جاءت الآية بصيغة الإطلاق، ومن وجوهها لغة المبالغة المستقرأة من صيغة (أفعل) في قوله تعالى[وَمَنْ أَظْلَمُ] لبيان الشدة والسعة والتعدد في وجوه ظلم الذين يمنعون مساجد الله عز وجل أن يذكر فيها إسمه، ومن الإعجاز في الآية الكريمة وجوه:
الأول: إنحصار منع هؤلاء لذكر الله بخصوص المساجد دون غيرها من بقاع الأرض.
الثاني: تسمية المساجد بأنها مساجد الله، وفيه إشارة إلى عدم ترتب الأثر على هذا المنع وبشارة بقاء المساجد لله عز وجل وأن المنع مؤقت ولن يستمر كثيراً، وهو من أسرار التأبيد في وقف المسجد، وعدم جواز تغيير صفة المسجدية لأنها خالصة لله عز وجل.
الثالث: وقوع الظلم على المساجد، وفيه دعوة لإكرام المساجد وعمارها، وإجتناب التعدي عليها.
وجاءت الآية بذكر فردين متداخلين ومتفرقين لهذا الظلم هما:
الأول: منع ذكر الله في المساجد.
الثاني: السعي في خراب المساجد، مما يدل على قيام الظالمين بمحاربة المصلين والعباد الذين يعمرون المساجد بالصلاة والذكر.
والتعدي على المساجد ذاتها بهدمها وتخريبها، ومحاولة منع الناس من دخولها، ظلم للذات والغير ولو قام ظالم بأحد الفردين فهل يكون من أهل هذه الآية، فيه وجوه:
الأول: إن منع ذكر الله في المساجد، والسعي في خرابها أمر واحد، وأن الواو في قوله تعالى[وَسَعَى فِي خَرَابِهَا] هي من عطف البيان.
الثاني: إنه من عطف العام على الخاص، لأن السعي في خراب المساجد أعم من منع ذكر الله فيها.
الثالث: إنه من عطف الخاص على العام، لأن السعي في الخراب محاولة ومقدمة لمنع ذكر الله في المساجد، وقد لا يحصل الخراب مع هذا السعي الخبيث.
الرابع: إنهما مما إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا.
الخامس: التباين بين منع ذكر الله في المساجد والسعي في خرابها.
السادس: بين الأمرين عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء قيام الكفار بالتعدي على حرمات الله، والإساءة للمساجد وعمارها، ومادة الإفتراق متعلق المنع بذكر الله في المساجد، وتعلق الخراب بالمساجد ذاتها، فقد يقوم الكفار بمنع المسلمين من صلاة الجماعة وهو من منع ذكر الله ولكنهم لم يقوموا بهدم المساجد.
ومع أن الأمرين من المتعدد بدليل ورود واو العطف بينهما فهما متداخلان، ومن إعجاز الآية مجيؤها بذكرهما معاً لبيان قبح فعل الكفار وإصرارهم على التعدي، وفيه دعوة للمسلمين للصبر والتحلي بالتقوى، ولزوم الحصانة من أسباب الشك والريب.
فقد يقوم الكفار بالتعدي على المساجد لبعث الشك في نفوس المسلمين بأنه لو كانت المساجد لله وأن محمداً على الحق لما وقع التعدي على المساجد، فجاءت هذه الآية بحصانة المسلمين إلى يوم القيامة من أسباب الشك في المقام من وجوه:
الأول: إخبار الآية عن وقوع التعدي على المساجد من قبل الكفار.
الثاني: لغة الإنذار والتخويف إلى الكفار.
الثالث: ظهور أمارات وآثار على الكفار نتيجة تعديهم على المساجد تدل على أن المساجد لله وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على الحق، وتتجلى هذه الأمارات بخزي يلحق بالكفار.
الرابع: إختتام الآية الكريمة بالوعيد للكفار الذين يحاربون الصلاة والفرائض، والسعي في خراب المساجد.
ويحتمل المراد من تخريب المساجد أموراً:
الأول: إرادة المعنى الظاهر للآية وهو هدم المساجد.
الثاني: منع المصلين من عمارة المساجد.
الثالث: نشر أسباب الضلالة والغواية بين للناس بما يجعلهم يعرضون عن الفرائض ويتكاسلون عن التكاليف.
الرابع: بعث الفرقة والخلاف بين المسلمين بما يؤدي إلى خراب المساجد.
الخامس: إتخاذ المساجد للجدال بالباطل، وأسباب النزاع ومقدمات الفتنة.
السادس: تعطيل وظائف المساجد، وصد المؤمنين عن عمارتها.
السابع: منع الناس من دخول الإسلام، كما كانت قريش تصد أفراد القبائل عن دخول الإسلام.
الثامن: إيذاء وتعذيب الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، لبيان ما يلاقيه المسلمون من الإبتلاء والأذى من الكفار، والحاجة إلى التحلي بالصبر والحرص على أداء الواجبات العبادية، والإعراض عن أذى الكفار، قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث أن الخشوع لله واقية من أذى الكفار وحرز من آثار تعديهم على المساجد، وسلاح يواجه به المسلمون هذا التعدي , فيجتهد الكفار في منع ذكر الله في المساجد ولكنهم لا يحصدون إلا الخيبة والخسران، ويبعث خشوع المسلمين في نفوسهم الفزع، ويكون زاجراً لهم من التعدي على المساجد.
وهل خشوع المؤمنين من مصاديق الخزي الذي يلحق بالكفار الجواب نعم، إذ يترشح عنه الغيظ والحقد في نفوس الكفار، قال تعالى[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ]( ).
وتتضمن الآية الإخبار بأن الخوف يملأ قلوب الكفار من المساجد لما لها من الهيبة والشأن، وفيه شاهد على أنهم يقرون بأنها مساجد الله عز وجل، ودور للعبادة والصلاح، وهل هذا الخوف الذي يملأ نفوسهم من آثار نفخ الله عز وجل الروح في آدم عليه السلام، الجواب نعم، ليكون هذا الخوف إنذاراً ذاتياً عند الإنسان يبين له قبح فعله، ويدعوه للكف عنه والتوبة، فقد خلق الله عز وجل الناس لعبادته وهم على ثلاثة أقسام:
الأول: فريق يعبد الله، ويمتثل للأوامر الإلهية.
الثاني: فريق يعصي الله ويمنع الناس من العبادة وهم الكفار.
الثالث: طائفة من الكفار تحارب المؤمنين , وتسعي في خراب المساجد.
فجاءت هذه الآية بذم الفريق الثالث، ودعوة الفريق الثاني أعلاه إلى عدم محاكاتهم، وحث المؤمنين على الصبر وتبشرهم بما يلحق الكفار من العذاب الأليم ليكون من إعجاز نزول الآية القرآنية أنها كالمطر ينتفع منه البر والفاجر في الدنيا .
ولم تقل الآية(ومن أظلم ممن منع المساجد) مع ورود هذا اللفظ في آيتين من القرآن، قال تعالى[وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ]( )، وورد لفظ(المساجد) في القرآن من المطلق والمقيد وأن المراد من المساجد هي مساجد الله بلحاظ التفسير الذاتي للقرآن، قال تعالى[وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ]( ).
إلا أن تقييد ووصف المساجد بأنها لله في الآية محل البحث حجة على الكفار، لذا جاءت خاتمة الآية بإنذارهم، وتأكيد شدة الظلم والتعدي في تخريب المساجد بأن يأتي العقاب عليه في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فالخزي العاجل، وأما في الآخرة فالخلود في النار.
ويحتمل الخزي المذكور في الآية وجوهاً:
الأول: ما يلحق الفرد الواحد منهم من الخزي على نحو القضية الشخصية.
الثاني: الخزي النوعي العام الذي يلحق بالكفار كأمة أو أهل ملة.
الثالث: العنوان الجامع، وإرادة الخزي على نحو القضية الشخصية، والنوعية.
والصحيح هو الأخير لأصالة الإطلاق، ولقبح فعل الكفار، وتعدي ظلمهم وشموله للنفس والغير، إذ أن الكافر منهم بتعديه على المساجد يظلم نفسه وأصحابه من الكفار الذين يشاركونه الفعل والأثم ويظلم المؤمنين والمساجد.
التفسير الذاتي
إبتدأت الآية بإسم الشرط وأفعل التهويل لتهويل وبيان قبح الفعل والجناية بالتعدي على المساجد، وليس من حصر لوجوه الظلم، وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في الشدة والضعف، والضيق والسعة، في المكان والزمان والأفراد كما أن الظلم نوع مفاعلة فيه ثلاثة أطراف:
الأول: الظالم.
الثاني: المظلوم، وفي حين ورد لفظ(ظالم) خمس مرات في القرآن لم يرد لفظ(مظلوم) فيه، لأن الظالم ينزل الأذى والضرر بنفسه أيضاَ , قال تعالى[وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ]( ).
وورد لفظ(تُظلمون) بصيغة المبني للمجهول أربع مرات و(يُظلمون) خمس عشرة مرة، وكلها مع ورود حرف النفي(لا) كما في قوله تعالى[وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( )، وفيه نكتة وهي أن الدنيا في الحقيقة هي العدل والحق لأنها ملك لله عز وجل , قال سبحانه[فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى]( )، وأن آثار الظلم تزول عن المظلوم وأن الله يثيبه على ما يلقى من الأذى.
الثالث: موضوع الظلم.
وقد يتحد المظلوم وموضوع الظلم، أما في هذه الآية فجاء الظلم في الآية متعدداً إذ يقع التعدي على المساجد وعلى المسلمين جميعاً، لذا جعلت الآية المساجد أمراً وجودياً قابلاً للمنع مما يدل في مفهومه على قبولها للإعمار والإدامة والتعاهد، وإذا كان التعدي عليها أقبح وجوه الظلم، فأن عمارتها من أحسن القريات، لتكون هذه الآية دعوة للمسلمين لبناء وإصلاح المساجد وتهيئة أسباب إقامة الصلاة وضروب العبادة فيها.
وفي الآية بشارة دوام بقاء المساجد عامرة بالعبّاد والمصلين، لأن وصف الذين يمنعون العبادة فيها بأشد الظلم والتعدي أمارة على سرعة إنتقام الله عز وجل منهم، وجاءت هذه الآية إنذاراً لهم وجاء في وصف القرآن قوله تعالى [لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ] ( )، والآية محل البحث من مصاديق الإنذار في القرآن وأنه يدل في مفهومه على البشارة( ).
وهل البشارة فيه خاصة للمسلمين، الجواب لا، فانها لجميع الناس ولكن الظالمين حجبوا عن أنفسهم بإختيارهم تلقي البشارة والفرح بها، والإنتفاع منها، ولم تذكر الآية متعلق الظلم، ولكن آيات القرآن جاءت بالدلالة على أنه ظلم وخسران للنفس، قال تعالى[وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
وتبعث الآية السكينة في قلوب المؤمنين عند قيام الظالمين بالتعدي على المساجد لأنه ظلم لأنفسهم، ولأن الله عز وجل يعذبهم بسببه في الدنيا والآخرة ومن وجوه العذاب إنعدام الولي والناصر في الدنيا والآخرة، قال تعالى[وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ] ( )، وإن قيل القدر المتيقن من الآية أعلاه إنعدام الولي والناصر في عالم الآخرة ويوم الجزاء فهو صحيح، ولكن الشواهد لهذه الآية تتجلى في الدنيا بأن يصبح الظالم في يوم وليلة فجأة بحاجة إلى الناصر فلا يجده، وإن وجده فلا يستطيع الذب عنه ولا يقدر على كفايته لذا قال تعالى في هذه الآية[لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ].
ومن الإعجاز في لغة الشرط شمول المتحد والمتعدد في الإنذار إذ أن الظلم في المقام على وجوه:
الأول: الظلم على نحو الاقضية الشخصية، وقيام فرد واحد به.
الثاني: قيام جماعة وفرقة بالتعدي على المساجد، ومنع أهلها من عمارتها.
الثالث: صدور الأمر من شخص وقيام جماعة بتنفيذ أمره أما طواعية وعن رضا بفعله، وأما عن إكراه وعدم رضا.
وجاءت الآيات بذم الشرك بقوله تعالى[إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] ( )، وأخبرت عن قرب المغفرة من الناس إلا المشركين، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ) فهل التعدي على المساجد أشد من الكفر، الجواب لا، ولكنه من مصاديق الشرك، وفرع منه، وفيه دلالة على أن المسلم لا يحارب المساجد ويمنع المصلين منها، أو يقوم بهدمها وخرابها .
فإن قلت قد حصل من بعض المسلمين في التأريخ هدم للمساجد، ومنع المؤمنين من دخولها ومن الناس من يقوم بالتعدي عليهم أثناء أداء الصلاة جماعة وفي المسجد، والجواب إن هذا الفعل ذنب وإثم عظيم، ولكنك ترى الذي يقوم به يسعى في عمارة مساجد أخرى ويتعاهدها، ويرجع الأمر إلى الخلاف والخصومة، وهو مؤقت وسرعان ما يزول ومع هذا فأنه يستحق الذم.
وهذه الآية إنذار لفاعله أيضاً ودعوة له للكف عن التعدي عن المساجد مطلقاً لأنها ليست ملكاً لطائفة أو قبيلة وإنتماء مخصوص من بلد ومذهب لأن الآية أخبرت أن المساجد في عائديتها ملك لله لإفادة الإضافة الملك والإختصاص، وورد قوله تعالى [يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] ( ) للدلالة على العناية بالمساجد مطلقاً وعدم التعدي عليها إلا أن يكون الذي يبني مسجدا بقصد الإضرار بالمسلمين وهو فرد نادر.
وعن إبن عباس في قوله تعالى{والذين اتخذوا مسجداً ضراراً} قال: هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجداً فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم واستمدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجنده من الروم فأخرج محمداً وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة فأنزل الله{لا تقم فيه أبداً})( ).
والآية جاءت إنذاراً ووعيداً للكفار الذي يتعدون على المساجد لأنها محال عبادة الله عز وجل، وزجراً عن بقية محاربة المسلمين، وعن محاولات منع إنتشار الإسلام، لقد خلق الله عز وجل الناس من أجل عبادته قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، والذين يتعدون على المسجد يحاربون الله في مشيئته وإرادته فيأتيهم العذاب الأليم.
وورد لفظ(خزي في الدنيا) سبع مرات في القرآن، وجاء بخصوص الكفار الذين يفسدون في الأرض وما يستحقونه من العقاب العاجل بقوله تعالى[إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا]( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين أن منع المؤمنين من دخول المساجد، والسعي في خرابها، من محاربة الله ورسوله، ومن الفساد في الأرض، وعندما أخبر الله الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة قالوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
فجاء الجواب من عند الله عز وجل(إني أعلم مالا تعلمون) فمن علم الله عز وجل في المقام وجوه:
الأول: وجود المساجد في الأرض للعبادة.
الثاني: إتصاف المساجد بأنها لله عز وجل، وفيه إخبار للملائكة بأن خلافة الإنسان في الأرض ليست مطلقة، بل تتقوم بالعبادة، وهي محل العبادة والسجود وملك وإختصاص لله عز وجل.
الثالث: تجذب المساجد الناس للعبادة، وتذكرهم بالله عز وجل.
الرابع: من علم الله عز وجل وجود أمة تعبد الله، وتتعاهد المساجد.
الخامس: إن الله عز وجل ينتقم من الذين يسعون في خراب المساجد، وهذا الإنتقام عاجل في الدنيا، وآجل في الآخرة.
السادس: من علم الله عز وجل مجيء هذه الآية لإنذار الظالمين، وبعث السكينة في قلوب المسلمين.
السابع: تبين الآية حقيقة وهي عجز الظالمين عن تخريب المساجد لأن الله عز وجل يجعلهم عاجزين عن مواصلة هذا التعدي والتخريب، قال تعالى[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى : الزجر عن التعدي على المساجد بلغة الإنذار والوعيد للكفار.
الثانية : بعث المسلمين إلى الصبر والتقوى، من غير أن يتعارض مع وظائفهم ببناء وعمارة المساجد والذب والدفاع عنها لأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.
الثالثة: بيان قبح التعدي على المساجد فقد يظن فريق من المسلمين وطوائف من الناس أن التعدي على المساجد والعبادات أمر أدنى وأقل ظلماً وأذى من التعدي على أشخاص المؤمنين.
الرابعة : تقييد عمل الكفار لخراب المساجد بمرتبة السعي في خرابها، وفيه إعجاز قرآني لأن السعي في الخراب أعم من وقوع الخراب، فلم تقل الآية (وقام بخرابها) بل ذكرت السعي، وفيه نكتة وهي ترتب العقاب على هذا السعي وإن لم يحصل له أثر في الواقع الخارجي، فياتي الخزي الدنيوي والعذاب الأخروي للكافر الذي يبذل جهده في خراب المساجد ومنع عمارتها بالعبادة والصلاة.
الخامسة : إبتلاء نفوس الكفار بالفزع والخوف في الدنيا والآخرة.
وهل خوفهم من الخزي الذي تذكره الآية، الجواب لا، بل هو أمر وعقوبة وإبتلاء آخر يصيب الكفار، فقوله تعالى[مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ]، غير الخزي الذي يصيبهم في الدنيا، وغير العقاب الذي يلقونه في الآخرة، ليكون الأثر والأذى الذي يلحق الكفار لتعديهم على المساجد كبيراًً وشديداً، بينما يكون على المسلمين باباً للأجر والثواب ، وعن أبي هريرة قال: لما نزلت { من يعمل سوءاً يجز به } شق ذلك على المسلمين ، وبلغت منهم ما شاء الله ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: سددوا وقاربوا ، فإن في كل ما أصاب المسلم كفارة ، حتى الشوكة يُشَاكَهَا ، والنكبة ينكبها، وفي لفظ عند ابن مردويه : بكينا وحزنا وقلنا : يا رسول الله ما أبقت هذه الآية من شيء، قال: أما والذي نفسي بيده إنها لكما نزلت ، ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا ، إنه لا يصيب أحد منكم من مصيبة في الدنيا إلا كفّر الله بها خطيئته ، حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه ( ).
السادسة : بيان العقاب العاجل للكفار وهو الخزي، وليس من حصر لموضوعه وكيفيته، وفيه شاهد على أن الله عز وجل لم يترك الناس وشأنهم في الدنيا، فهو سبحانه الذي خلقهم ويرزقهم، ويهيء أسباب ومقدمات غلبة الإيمان، ورجحان كفه الهدى والصلاح، ويرمي أعداء الإسلام بالضعف والوهن الذي يجعلهم عاجزين عن الإستمرار بمحاربته.
ولقد زحفت قريش بخيلها وغرورها من مكة يوم بدر وأحد والأحزاب يريدون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعطيل مساجد الله، ومنع المؤمنين من الصلاة والذكر فتفصل الله عز وجل وأنزل الملائكة من السماء يدفعون الكفار ويذبون عن المسلمين , قال تعالى[أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
السابعة: الوعيد بالعقاب في الآخرة للكفار ووصف العقاب الذي يلقونه يوم القيامة بأنه عذاب عظيم، ومع أن المراد من العذاب هو الخلود في النار أن الآية ذكرت العذاب ووصفته بالعظيم لبيان كبره وضرره.
وهل فيه إشارة إلى إستحقاقهم الخلود في النار بسبب إختيارهم الكفر لأن الظلم بالتعدي على المساجد فرع له، الجواب لا دليل عليه، لأن الآية تبين ما يشبه نوع ملازمة بين شدة الظلم في الدنيا وعظم والعقاب في الآخرة.
التفسير
قوله تعالى [ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَــعَ مَسَــاجِــدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ]
اظلم أفعل تفضيل يدل على المبالغة والمنزلة الرفيعة للمساجد في صلاح الناس ومكانتها في العبادة، وتدل الآية في مفهومها على ضرورة إيلاء المساجد عناية خاصة في الحرص على عمارتها واعمارها بالنسك والعبادة فلا غرابة ان ترد النصوص المستفيضة بشأن بقاء المساجد والحث على تعاهدها والمحافظة عليها.
وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “من بنى مسجداً في الدنيا اعطاه الله بكل شبر منه مسيرة اربعين الف عام مدينة من ذهب وفضة ودر وياقوت وزمرد وزبرجد ولؤلؤ”( ).
وفي باب الأحكام الفقهية باب خاص يتعلق بالمسائل الخاصة بالمساجد من جهة استحباب الصلاة فيها بالنسبة للرجال خصوصاً جار المسجد، وكراهــة مؤاكلة ومشــاورة ومناكــحة ومجاورة من لا يحضر المسجد، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: “ثلاثة يشكون الى الله عز وجل مسجد خراب لا يصلي فيه اهله، وعالم بين جــهال، ومصحـف معلق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه”( ).
كما ورد تفضيل خاص للمسجد الحرام والمسجد النبوي في خصوص الصلاة فيهما، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه الا المسجد الحرام” وهو المروي عن جابر وجبير بن مطعم والإمام الصادق، وأخرج إبن ماجة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صلاة الرجل في بيته بصلاة ، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة ، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة ، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة ، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة ، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة( )، وأخرج البزار عن عائشة عنه قال: أنا خاتم الأنبياء ، ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء ، أحق المساجد أن يزار ، وتشد إليه الرواحل : المسجد الحرام ، ومسجدي . صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام( )، ونحوه من النصوص مما يدل على ما لهذين المسجدين من مرتبة سامية وشأن في سنن الشريعة.
ان احكاماً خاصة تتعلق بالمسجدين من دون المساجد الأخرى منها مثلاً ما يخص الجنب والحائض فمع انه لا يجوز لهما اللبث في المساجد فان مرورهما واجتيازهما لها جائز الا المسجد الحرام والمسجد النبوي فلا يجوز لهما دخولهما ولو بالإجتياز.
والمسجد الحرام له خصوصية تتعلق بضرورة من ضرورات الدين وهي توجه المسلمين له من جميع انحاء الأرض في كل يوم خمس مرات فريضة بالإضافة الى النوافل، واداء شطر من مناسك الحج فيه فريضة وندباً وعمارته، فمثلاً يستحب أداء صلاة الإستسقاء خارج المدينة والعمران إلا في مكة كي لا يخلو البيت الحرام من الطائفين والمصلين.
فالأذى والإساءة التي توجه للمسجد الحرام انما يراد بها المسلمون جميعاً فلذا قال تعالى [فمَنْ أَظْلَمُ] أي لم تكن إساءتهم للمسجد فقط، ولا يمكن ان تنبسط اساءتهم على جميع المساجد اذ ان شطراً منها خارج سيطرة وهيمنة المشركين في مدن المسلمين، ومنها المسجد الجامع ومسجد القبيلة ومسجد السوق ونحوه.
وتدل لغة الجمع على التعدد والمسجد الحرام له قدسيته ومكانته في الإسلام وفي قلوب وعقيدة المسلمين لذا تحتسب الإساءة اليه عدواناً على جميع المسلمين، وهذا العدوان لا يقع بالضرورة على شخص المسجد فقد يكون موجهاً لعماره وللطائفين والعاكفين والحجاج الذين أرادوا ان يدخلوه برداء الإسلام نازعين عادات الجاهلية وقواعد الوثنية، فلم يستطع المشركون من قريش ونحوهم تحمل هذا الواقع العقائــدي الجديــد ولم يرضــوا برؤيـة الإسلام وهو يستقر في شطر من منازل الأرض بالفكــر والعقيـدة والسلطان الثابت.
وان عظم الظلم في هذا المنع ينبع من حجب منافع عمّار بيوت الله على اهل الأرض جميعاً بما في ذلك الذين منعوهم، فقد ورد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: يقول الله تعالى أني لأهم بأهل الأرض عذابا فإذا نظرت إلى عمار بيوتي و إلى المتهجدين و إلى المتحابين في و إلى المستغفرين بالأسحار صرفته عنهم ( )، أي ان المساجد رحمة للناس جميعاً ومصدر للبركة.
بهذا المنع وسعيهم في تخريب بيوت الله يكونون قد سببوا الضرر والبلاء لأهل الأرض وإستحق الظالمون العذاب، او قل سعوا في زوال المانع والحاجب الذي يحول دون نزول البلاء.
فالآية اعم من ان تنحصر باسباب النزول وهي من المواثيق السماوية في الأرض وموضوعها المساجد، وهي إنذار وتحذير أبدي من التعرض والإساءة الى المساجد، وقد لا يجد المؤمنون حيلة في منع بعض الذين يعتدون على المساجد في بعض أصقاع الأرض لكن يجب ان يعلموا انهم اكثر الناس ظلماً في الأرض لأن اعتداءهم كان على عنوان الشريعة السماوية وطريق مرضاته تعالى، خصوصاً وان الآية تشير الى الأقل من ذلك الى الذين منعوا ذكر الله في تلك المساجد مع بقائها.
والذكر الوارد في الآية يشمل وجوه العبادة من الصلاة والنسك والتسبيح وقراءة القرآن والأذان الاعلامي والصلاتي، بل والإعتكاف وما فيه من الصوم.
ان موضوع هذه الآية يثير الدهشة تستلزم الدراسة والتحقيق، الدراسة لبيانها المنزلة التي للمساجد في الحياة الدنيا والوجود الإنساني على سطح الأرض، العناية والتحقيق بالمضامين العالية والمقاصد المستقبلية لهذه الآية ووجــوه الإعجاز فيها، وقد عرف الظلم في علم الكلام بعدة تعريفات متقاربة ولا تخرج عن المعنى اللغوي له وهي تعدي الحد، ومنها انه إسم لوضع الشيء في غير موضعه وكل ضرر لا نفع فيه ولا يؤدي الى دفع الضرر، وانه فعل ما نهي عنه.
ولابد ان وجوه المنع والسعي في خراب المسجد على مراتب تشكيكية متعددة من حيث التسبيب والمباشرة والنية والعزم او القصد وتجسد الفعل في الخارج ثم ان الفعل ذاته على درجات متفاوتة طولاً وعرضاً فقد يكون هناك من يعتدي على أكثر من مسجد، ولكن الجميع كان بمنزلة الأكثر ظلماً بالنسبة لهذا العمل مما يدل على جسامته وخطورته فالذي يحافظ على بناء المسجد ولكنه يمنع المصلين من الدخول فيه اقل ظلماً من الذي يهدمه، ولكن الإثنين معاً اظلم من غيرهم لأن الآية وردت على نحو الإطلاق.
ويحتمل الظلم في المقام وجوهاً :
الأول : ظلم الذين يمنعون ذكر الله في المساجد أنفسهم ، وتبينه الآية من جهات :
الأولى : لا يستطيعون دخول المساجد وأماكن العبادة إلا وهم في حال فزع وخوف .
الثانية : لحوق الخزي في الدنيا بمن تعدى على المساجد لنفرة النفوس مطلقاً من التعدي على المساجد ، والتي لم بأنها خالية من الضرر والأذى على الناس .
الثالثة : ما ينتظر الظالمين من العذاب الأليم , ومن أسرار ورود لفظ (ومن أظلم ) في آية البحث أن صنوف البلاء شديدة ومتعددة فمن مفاهيم الجملة الشرطية في المقام الوعيد والإنذار والظلم في التعدي على المساجد.
قوله تعالى [وَسَعَى فِي خَرَابِهَا]
جاءت الواو في [وَسَعَى] لمطلق الجمع والأكثر بانها لا تفيد ترتيباً، أي ان موضوع الظلم وشدته يتعلق بكل من منع ذكر الله في المساجد كالذين يصدون عنه المصلين ويمنعونهم من الوصول اليه والذين يقومون بتخريبها وهدمها او يفعلون ما هو مقدمة لذلك ويصــدق عليه أنه عمل وســعى في خــرابها، ولا يكــون منه ما ينحصر بالنية من غير أن تترجل الى الخارج بالسعي كما في قوله تعالى [فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ]( ).
ولا يعني الإسراع في المشي فقط، كما يشمل الذين يوشون بعمار المساجد ومن فيها من الذاكرين، بالاضافة الى من يسبب في خرابها، كما في قولهم: وسعى به الى الوالي اي وشى به.
وفي الآية توبيخ وذم لمن يقوم بهذا التعدي على المساجد، والخراب ضد العمران ويعني الهدم وتسوية البناء، وفي الحديث: (من اقتراب الساعة اخراب العامر وعمارة الخراب).
وقال ابن منظور: (التخريب: الهدم، والمراد به ما يخربه الملوك من العمران)( ).
وفي الآية انذار إنحلالي لما فيه من الوعيد لكل مكلف يتعدى على المساجد، ان ظلم المساجد وعمارها على مراتب تشكيكية متفاوتة، ومع هذا جاءت الآية القرآنية بجعل هذا الفعل من أعلى مراتب الظلم مما يعني التحذير من صرف وجود مثل هذا الظلم وحصول ادنى مراتبه، كما ان الخطاب ومضامين الإنذار والزجر في الآية متوجه الى الملوك والرؤساء والملأ والأقطاب الذين بيدهم الحل والعقد أكثر من غيرهم وإلى الناس جميعاً، وتجعل الآية حصانة خاصة للمساجد وان صيانتها وتركها مفتوحة واجتناب تعطيلها وظيفة كل انسان مسلماً كان او غير مسلم، حاكماً او محكوماً.
والسعي يأتي بمعنى العدو والمشيء والقصد، والذهاب، والكسب، والعمل سواء كان خيراً او شراً، فكل منهما يصدق عليه انه سعي، اذ ان السعي يكون في الصلاح والفساد، وعلى قاعدة القرآن يفسر بعضه بعضاً فان أحكام هذه الآية من مصاديق قوله تعالى [ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا… ]( ).
أي ان هذه القاعدة لها فروع منها ان جزاء وحكم فعل معين ذكرته آية معينة تجده في آية أخرى على نحو الإجمال او التفصيل، وهذا من إعجاز القرآن واكتفائه الذاتي وان كان هذا الإكتفاء لا يتعارض مع بيان السنة وتعضيدها لآياته.
وظاهر إسم الاستفهام في الآية ومنطوقها ومفهومها والقرائن ان الجملة تتعلق بافراد الزمان الطولية الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل، ولا داعي لحصر مضامين الآية بوقائع سابقة فقط، كتخريب بختنصر لبيت المقدس او منع مشركي العرب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الدعاء والتعبد في مكة.
والوصف بشدة الظلم مركب من أمرين، من التعدي على حرمة المساجد، ومن موضوع هذا التعدي واسبابه ونتائجه، فالمساجد ليس فيها الا ذكر الله بمعنى ان الإساءة لها تعدي على الذكر والعبادة، لذا فانه تعالى نسب البيت الحرام للذات المقدسة لتوكيد اهميته ولزوم إكرامه وإكرام زائريه، قال تعالى [ وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ]( ).
فالآية محل البحث مقدمة وعون وتسهيل لتطهير البيت الحرام، والجمع بين الآيتين يفيد الحث لتعاهد البيت وحفظه، وان ذكر البيت الحرام ورد من باب الفرد الأهم والخاص والأسمى في سلم المساجد ومراتب الشرف بينها، والا فأن كل مسجد يلزم تطهيره.
والآية في مفهومها دعوة لعدم تعطيل المساجد ولزوم المواظبة على الصلاة والذكر فيها.
ولو إمتنع المكلف عن ارتياد المساجد واكتفى بأداء الفرائض في بيته من غير علة او عذر فهل يكون من الذين ورد ذمهم في هذه الآية؟ الجواب بالنفي مع تقصيره ونقص ثواب واجر صلاته لأن المنع يعني الفعل القبيح المنافي للعادات والقيم المتعارفة والمتوجه الى المساجد ذاتها او المؤمنين، فالظلم المراد في الآية فعل يقصد به الغير والحاق الضرر وليس الإمتناع السلبي عن المستحبات.
إن ورود الآية بمنع الذكر فيه إعجاز لأن الذكر أعم من الصلاة فيعني أموراً:
الأول : النهي عن تعطيل المساجد.
الثاني : لزوم فتحها أوقات الصلاة.
الثالث : عدم حصر فتحها باوقات الصلاة فقط لأن ساعات الليل والنهار جميعها تصلح وعاء وظرفاً للذكر.
الرابع : من الذكر إقامة حلقات الدرس ودورات حفظ وترتيل القرآن في المساجد.
وتظهر الآية بدلالتها التضمنية الحجة على الظالم وهو ان المساجد ليس فيها الا ذكر الله، وهو أمر لا يضر أحداً ولا يسبب إزعاجاً لشخص أو جماعة او ملة، أي أن الآية تقول للظالم ان لم تساهم في بناء المساجد لما فيها من الذكر النافع للناس جميعاً فيجب عليك ان لا تقوم بالتعدي عليها ومنع الذكر والصلاة فيها.
قوله تعالى [أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ]
الضمير في [يَدْخُلُوهَا] يعود للمساجد على الظاهر، وحال الخوف الذي يلازمهم حين الدخول الى المساجد، وفي الآية وجوه:
الأول : بشارة للمسلمين بالنصر وعمارة المساجد واتيان المناسك والصلاة والذكر من غير صد او منع وبالذات في خصوص المسجد الحرام، فبعد ان مُنعوا منه وصدّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام صلح الحديبية سنة ست للهجرة دخله النبي والمسلمون بعز بعد عامين.
الثاني : ان أولئك الذين يمنعون ويخربون المساجد سيدخلون لها ولكن ليس برداء الهيمنة والتصرف المطلق بل بالخوف من بطش المسلمين وقد حصل ذلك فعلاً وجاء متعقباً لصدهم هذا من غير تأخير معتد به , ففي عام الفتح وفي فتح مكة وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باب الكعبة وقد اجتمع الناس له في المسجد وبعد ان ذكر الله عز وجل واثنى عليه ومجده وانذرهم قال: “يا معشر قريش ما ترون اني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فانتم الطلقاء( ).
فالآية في مفهومها تدل على ان تولية المساجد ستكون بيد المسلمين وانهم سوف لا يُمنعوا يمنعون من العبادة، وعن جابر بن عبد الله قال: دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة ولكل قوم صنم يعبدونه ، فجعل يأتيها صنماً صنماً ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره ، كلما صرع صنماً أتبعه الناس ضرباً بالفؤوس حتى يكسرونه ويطرحونه خارجاً من المسجد ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم }( ).
الثالث : خوفهم هنا قد يكون بسبب دخولهم المسجد لإقامة الحجة والبرهان عليهم، او لرؤية الاخلاص في عبادة المسلمين بتوجههم الى الله في صلاة الجماعة وما فيها من مضامين الخشوع والوحدة والعز وثبات العقيدة، او لدفع الجزية وما يقترن بها من الصغار لهم واذلالهم، بل يمكن ان يكون من مصاديقه دخول وفد نصارى نجران الى المسجد النبوي ورضاهم بالجزية عن خوف من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم واهل بيته كما سيأتي في حديث المباهلة ان شاء الله , قال تعالى[الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ]( ).
وجاءت الآية بذكر إصابة الظالمين بالخوف في حال دخول المساجد وهو من باب المثال والفرد القريب والمراد أعمم والمقصود نزول الخوف بهم في عند الإبتداء بالفعل والإقدام على العمل ، والخوف في المقام فيه وجوه :
الأول : الخشية من الإنتقام والبطش بهم .
الثاني : ظن ورجحان غلبة المؤمنين .
الثالث : إدراك الإنسان لحقيقة وهي أنه زائل والمساجد باقية .
الرابع : الشعور بالذنب والتلبس بالظلم في التعدي على المساجد .
قوله تعالى [لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ]
في الآية بشارة للمسملين ووعيد للكافرين وما ينتظرهم من عقوبة على منع ذكر الله تعالى في المساجد والخزي بلحاظ أنه عنوان الهوان والذل انما يكون نتيجة واثراً مترتباً على ما يتعرضون له من الإبتلاء وما يلزمهم من الحجة فيفضحون ويركبهم الإستحياء والصغار.
ومن وجوه الخزي ما اصاب بعضهم من القتل على ايدي المسلمين، فليس من حصر لهذا الخزي بل له مصاديق عديدة منها هزيمتهم وهم جماعة وفئة في المعارك كهزيمة المشركين يوم بدر ورجوعهم خائبين يوم الخندق، وتحقق الفتح في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة، ومنها دفع اهل الكتاب الجزية.
وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول : الآية إخبار عما يلحق الذين يصدون المؤمنين عن المساجد.
الثاني : الآية إنذار بنزول العقاب الإلهي بالظالمين الذين يمنعون عمارة المساجد، ويتجلى هذا العقاب بصيغة الخزي الذي يتغشاهم في الدنيا، فان قلت قد يغادر الظالم الدنيا وهو بذات الشأن والعز , والجواب إن الخزي الذي يلحق به أعم من أن يكون في أيام حياته أو يتعلق بشخصه وما حوله، ومن مصاديق الخزي الذي يلحقه ظهور المؤمنين والمندوحة لهم في عمارة المساجد , قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الثالث : الآية تخويف ووعيد وتتضمن التحدي بأن تتجلى معاني الخزي على الظالمين في الدنيا، ومصداقها الخارجي يلحق الظالمين نوع مواساة للمسلمين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة.
قوله تعالى [وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ]
الآية وعيد بدخولهم النار جزاء ظلمهم هذا، فان قلت: ان الله عز وجل اذا عاقب في الدنيا فانه أكرم من ان يعاقب في الآخرة كما جاء في الحديث، قلت: الآية ومضامينها نص قرآني، وحصول الخوف اعم من العقاب وما يتضمنه من الشدة، وتعرضهم للخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة خرج بالتخصص او التخصيص من تلك القاعدة، او ان الكافرين غير مشمولين بها لأنها امتنان وتخفيف ونوع رحمة يختص بها المسلمون وهو الأقوى، والا فان الكافر الذي يحارب الاسلام حينما يقتل في المعركة يكون مصيره الى النار بلا خلاف في ذلك والقتل عقوبة وهو اشد وجوه الخزي تلك في الدنيا ومع هذا فان مصيره الخلود في العذاب.
والآية وعيد وتخويف وحجة وانذار للكافرين والذين يتعدون على حرمات الله في المساجد، هذا في المنطوق اما المفهوم فانها تخفيف عن المؤمنين وسكينة لهم واخبار الهي بان للمسجد حصانة وواقية.
بحث بلاغي اعجازي
جاء قوله تعالى[وَمَنْ أَظْلَمُ] في عدة معان فقد وردت في ذم الكذب على الله وما فيه من عظيم الضرر قوله تعالى منها [ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ] ( ) وهو اكثرها تكراراً مع قولنا بان التكرار يتضــمن التعــدد في المعنى، وورد في ذم الكتمان قوله تعالى [ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ ] ( ) ، [ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ] ( ).
والإستفهام هنا وبصيغة افعل يفيد النفي لأفراد اخرى اظهر رتبة في شدة الظلم والتمادي فيه، وحاول المفسرون دفع التناقض الظاهر فيها وللقاعدة الكلية بانتفاء التناقض في القرآن لابد من مناقشة وجوه الشبه والإلتقاء بينها، اما القول باستقلال كل فرد منها والنظر اليه بلحاظ صلته، فلا تصل النوبة اليه , لأن كل آية من الآيات وردت على نحو الإطلاق في مقدار الظلم.
كما ان موضوع كل واحدة منها متحد وغير متعدد فليس فيه مراتب طولية متعددة، فمنع المساجد واحد والكذب على الله عز وجل في الآية واحد، وكتم الشهادة واحد وكل في حقيقته من الكلي المشكك الذي له مراتب متفاوتة ولكن كلاً منها ورد على نحو الإطلاق وصرف الطبيعة من حيث استحقاق الوصف بأنه أشد الظلم، فجاءت الآية للتشديد والبيان بان المراتب المتفاوتة في منع المساجد كلها في اعلى مراتب الشدة من الظلم.
ولا يمكن ان يقال انها تفيد اجتماع هذه الصفات في فرد واحد يستحق ان يكون هو الأظلم لاختصاص كل آية بصلتها ومتعلقها.
وقد ذكرت عدة اقوال في الآيات وان طريق الجمع هو تخصيص كل منها بصلتها، ومنهم من حمل الكلام على الإستعارة وليس الحقيقة لتهويل الأمر وفضاعته وتخييل انه لا شيء فوقه وقد لا تستوفي هذه الأقوال افادة المعاني والغايات السامية وراء هذا الإستفهام التهويلي، ويظل الباب مفتوحاً للدراسات التي يجب ان تتعدى الوجه البلاغي لتشمل علم الكلام والأصول والفقه والأخلاق والتفسير فلعلها مجتمعــة تخـرج بحقائق وأسرار خفية عن هذا التشابه.
انها مما يقال فيها اذا اجتمعت افترقت واذا افترقت اجتمعت، فكل واحد من افراد الظلم هذه يستحق ان يكون اشد مراتب التعدي والظلم لأنه ينطلق من ماهية الكفر، انه انذار ووعيد وبيان بان هذه الأفعال أقبح انواع الظلم، وان اشده لا ينحصر بفرد معين من افراد الظلم، ليس هذا فقط بل قد تكون هذه الوجوه من باب المثال الظاهر والفرد الأهم والأكثر قبحاً وتعدياً وعتواً، وهذا سر من أسرار التعدد في الموضوع والإتحاد في المحمول والمرتبة.
فالتهويل في كل واحدة منها حقيقي وليس مجازياً لعدم وجود القرينة الصارفة، ثم ان هذه القبائح تلتقي في مقدار الضرر والإضرار والتعدي والحرب على الإيمان واركانه، لذا جاء الإنذار والوعيد بمرتبة واحدة، وفيها دعوة للمسلمين باليقظة والحذر واتخاذ الحيطة وعدم الغفلة عن أي فعل من هذه الأفعال لأنها بمرتبة واحدة من جهة الضرر والأذى.
كما ان فيها تقريباً لمقدار التعدي والظلم بان تكون كل واحدة منها مشبهاً مرة ومشبهاً به مرة اخرى، فمن لم يعلم مدى ظلمه او يستهين بفعله فانه يعرفه من خلال شبيهه، فقد يستهين الإنسان بمنعه لذكر الله في المساجد ويحسبها هينة وصغيرة بالقياس مع الإفتراء على الله كذباً او كتمان الشهادة، فاخبرت الآيات مجتمعة عن تعدد افعال التهويل والقبح والظلم هنا، وهو نوع تأديب وتحذير وتخويف وفيه فضل على الكافرين انفسهم بالإمتناع عن هذه الوجوه من الظلم وانذارهم وتحذيرهم من التعدي على المساجد وعمارها وهو من عمومات قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ]( ).
والآية تأديب وتعليم وارشاد للمسلمين، انها مدرسة القرآن التي تتعدى علومها قواعد البلاغة والعلوم الأخرى وتحتاج معها التدبر والتفكر لإستخراج القليل من كنوز آياته لتبقى اشراقة متصلة متجددة تدعو العلماء للإستنباط والتفسير والبيان.
بحث فقهي
تستحب الصلاة في المساجد وعليه اجماع المسلمين وسيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم والنصوص المستفيضة سواء تلك التي تؤكد هذا الاستحباب وتجعله جزءً من الحياة اليومية والعبادية للمسلمين او التي تحث المسلمين على عمارة المساجد، واستحباب تفريق المسلم الصلاة في مساجد متعددة لتشهد له يوم القيامة، وبالإضافة الى ما في بناء المسجد من الأجر العظيم.
والاقوى كفاية البناء بقصد كونه مسجداً مع صلاة شخص واحد فيه بهذا العنوان وبإذن الذي يقوم ببنائه سواء اجرى صيغة الوقف أم لم يجرها، وان كان ايقاعها هو الأحوط .
ويستحب استحباباً مؤكداً اتخاذ المساجد، ومن بنى مسجداً بنى الله عز وجل له بيتاً في الجنة، وليس من حد لطرف القلة والصغر فيه، كما يستحب تعمير المسجد اذا أشرف على الخراب وعليه النصوص والاجماع وتعاهد المساجد باب لحفظ اهل الأرض، وعن الإمام موسى إبن جعفر قال: “ان الله اذا أراد ان يصيب اهل الارض بعذاب، قال: لولا الذين يتحابون بجلالي، ويعمرون مسجدي، ويستغفرون بالاسحار، لأنزلت عذابي”.
ولو لم ينفع الترميم والتعمير فيجوز حينئذ هدمه لتجديد بنائه وقد يجب ، وكذا يستحب توسعة المسجد مع حاجة الناس كما هو الحال في المسجد النبوي في المدينة المنورة , إذ أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتوسعته أكثر من مرة مع كثرة المسلمين وحرصهم على الصلاة جماعة خلف النبي , وسؤالهم توسعة المسجد والزيادة فيه .


قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] الآية 115.

الإعراب واللغة
ولله : الواو عاطفة والجار والمجرور خبر مقدم، المشرق: مبتدأ، والمغرب: معطوف عليه.
فاينما: الفاء إستئنافية، وأين: إسم شرط جازم في محل نصب ظرف مكان متعلق بما بعده.
تولوا: فعل الشرط،الواو: فاعل، فثم: الفاء رابطة لجواب الشرط وثم ظرف مكان متعلق بمحذوف مقدم وهو إسم إشارة للمكان البعيد ولكنه يختلف عن أسماء الإشارة فلا يقبل ( ها) التنبيه في اوله ولا كاف الخطاب في آخره وهو ملازم للنصب للظرفية المكانية ويراد منها في الأصل المكان البعيد، وقد أخطأ من أعربه مفعولاً به في قوله تعالى [ثم رأيت]( ) وقال الزجاج في الآية: ثم موضعه موضع نصب، ولكنه مبني على الفتح لإلتقاء الساكنين.
والمشرق خلاف المغرب، والغرب والمغرب بمعنى واحد وهو عنوان جهة مخصوصة من الجهات الأربع جعل الله عز وجل سقوط قرص الشمس وغيابه دليلاً عليها، وتحذيراً وإشارة يومية ثابتة إلى جهتها، مما يدل على الترابط والتداخل بين أجزاء الكون ووحدة نظامه كجزء من بديع صنع الله سبحانه، في آية للإنسان تتكرر كل يوم تدل على التوحيد وتدعو الى الهداية والرشاد.
فهي رسول يومي متكرر إذ أن الرسول والإنذار لا ينحصر بالقرآن والنبي بل ان آيات الله عز وجل الكونية هي ايضاً رسل تخاطب العقل الإنساني بلغة البرهان اللمي والإني , قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( )، جعل سبحانه شروق الشــمس مقياســاً ودلالة على جهة المشــرق، ويقال شرقت الشمس اذا طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت وشع نورها وضياؤها على الأرض.
وقد يجمع المشــرق والمغرب بتغليب المشرق كما ورد في التنزيل [قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ]( ) وغلب المشرق لأنه عنوان الوجود والإشراق والضياء، والمغرب دال على الزوال والإضمحلال والعدم، والوجود أشرف من العدم.
أما الجمع والتداخل بتسمية الشمس والقمر بالقمرين فلتغليب القمر لأنه مذكر كما في قول الشاعر:
لنا قمراها والنجوم الطوالع( ).
وهل المشرق والمغرب من المتضايفين أي الشيئين الوجوديين اللذين يتوقف تصور كل منهما على تصور الآخر ولا يعقل أحدهما بدون الآخر كما في الأبوة والبنوة، الجواب إنهما أعم من أن يكونا أمرين إضافيين بحسب سير الشمس وطلوعها وغروبها والمراد المشرق والمغرب بلحاظ الجهة من تخوم الأرض إلى عنان السماء وهو غير الفوقية والتحتية.

في سياق الآيات
تتصل هذه الآية في موضوعها بالآية السابقة وهو نوع تحذير وتخويف لأولئك الكفار الذي سعوا في خراب المساجد وتهديمها فان الله عليم بفعلهم محيط بأمرهم، أينما يذهبون لا يستطيعون الفرار من حكمه تعالى وما أعد لهم من العذاب.
وهذه الآية في مفهومها من الخزي للكفار لما فيها من الوعيد وهي مقدمة ومدخل له بلحاظ أنها إخبار للمسلمين بأن هؤلاء يمنعونكم عن مساجد معينة ولكن الله عز وجل له جميع أقطار الأرض ولكم ان تنشئوا فيها المساجد [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ]( ) منعوكم في بدايات الإسلام من المسجد الحرام فاقمتم الصلاة وأنشأتم المساجد في المدينة بل وكان المنع مؤقتاً، ومنعوكم من المسجد الأقصى فكانت مساجدكم في البلدان الإسلامية مع إتصال المطالبة والسعي لإسترداده.
فالآية كما تجمع بين المشرق والمغرب فانها تجمع بين الأمل والقنوط، وبين السعة والتضييق، الأمل والسعة للمسلمين والقنوط والتضييق لمن يؤذيهم في عباداتهم ومساجدهم، والقول بأن هذه الآية نزلت في موضوع الصلاة وتحديد القبلة لا يمنع من هذا الترابط والتناسق والملازمة بين الآيتين وما فيهما من إعجاز وبلحاظ لغة الوعيد والأهمية الخاصة للتعدي على المساجد.
ان أسباب النزول لا تلغي موضوعية سياق الآيات ولا تتعارض معها، وكل منهما مدرسة مستقلة لها مقوماتها وتدرس على إنفراد وبالتداخل مع العلوم الأخرى ووجوه الملازمة بينهما، وموضوع القبلة أيضاً يتعلق بالمساجد، والتعدي كان واقعاً بالخصوص على المسجد الحرام بوضع الأصنام فيه وصد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عنه.
وجاءت هذه الآية بصيغة الخطاب [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا] وإرادة المسلمين فيه، ويتضمن في مفهومه مدحهم والثناء عليهم لأن موضوعه العبادة والإرشاد إلى صيغها، والدعوة للتفقه في الدين وأحكام العبادات، بينماجاءت الآية السابقة والآية التالية بصيغة الغائب ولغة الذم، فذكرت الآية السابقة الذين يعتدون على المساجد، وذكرت الآية التالية الذين [قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا].
ويفيد الجمع بين الآيات الثلاثة بيان سعي وجهاد المسلمين في سبيل الله، وحاجة الناس لهم، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، إذ أن التوجه إلى القبلة عبادة وطاعة لله عز وجل والثبات على سنن التوحيد وعدم الشرك بالله ونفي القول بالبنوة له من خصائص المسلمين، وما يجتهدون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أسباب النزول
إن في أسباب نزول هذه الآية إعجازاً فهل نزلت في الصلاة أم في غير الصلاة، إختلف المفسرون في ذلك، والأصح هو الفرد والجامع وأنها نزلت في الصلاة وفي غير الصلاة أيضاً، وأنها لا تتعلق من حيث أسباب النزول بموضوع محدد في الصلاة من قبيل السؤال أو تحديد القبلة بل هناك أسباب متعددة منها:
الأول : جاءت هذه الآية عوناً وتفسيراً وتسهيلاً لتحديد القبلة بالبيت الحرام ومنعاً لمحاولات الخذلان والتثبيط والترجيف منهم ومن المنافقين والأعداء وقد وثق القرآن ذلك [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا… ]( ).
ويمكن إستقراء قاعدة كلية وهي ان القرآن يعضد بعضه بعضاً كل آية تكون عوناً لآية أخرى، وآياته متفرقة ومجتمعة سلاح بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، والسنة النبوية الشريفة تثبت تلك الآيات وتؤكد صدقها، ففي الآية بيان لما وقع على المسلمين والمساجد من التعدي والظلم، وفي هذه الآية تبدو المواساة واللطف والأمل والحث الصريح وغير الصريح على الصبر.
وتبين هذه الآية أن القبلة ليست موضوعاً مستقلاً إختيارياً أو أنه عنوان إنتزاعي ذاتي بل هي من أمر الله وجزء من خلقه والله يختار الوظائف والعناوين للمخلوقات، وكيفية تسخيرها للإنسان في عباداته او حاجاته الدنيوية.
الثاني : إن اليهود أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس فنزلت الآية رداً عليهم عن إبن عباس.
الثالث : روي عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية كنت فيها فاصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة فقالت طائفة منا قد عرفنا القبلة هي ها هنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطوطاً وقال بعضنا القبلة ها هنا قبل الجنوب وخطوا خطوطاً فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فسكت فانزل الله تعالى هذه الآية( )، وروي مثله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ولكنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزاة…( ) الحديث.
الرابع : ان الله تعالى نسخ إستقبال بيت المقدس بالتخيير إلى أي جهة شاء بهذه الآية أي التخيير بدل التعيين إلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يختار التوجه إلى بيت المقدس مع أنه كان له أن يتوجه حيث شاء ثم أنه تعالى نسخ ذلك بتعيين الكعبة وهو قول قتادة( ) وإبن زيد.
أقول: لم يثبت وجود واسطة بين التوجه لبيت المقدس وبين تغيير القبلة نحو البيت الحرام، والنسخ جاء مباشرة إلى البيت الحرام ثم أنه نسخ واحد، وصدر من اليهود وغيرهم ما هو معروف من السخرية والريبة بالإضافة إلى هذا القول المنسوب إلى قتادة وإبن زيد والذي لم يرفع.
الخامس : المخاطَب بمضمون الآية من هو شاهد للكعبة فان له أن يستقبلها من أي جهة شاء وأراد، ولكن الآية أعم في موضوعها ومقاصدها، وتتضمن مطالب لا تتفق مع هذا القول وإن كان هو نفسه مستفاداً من أدلة أخرى.
السادس : نزلت الآية في المسافر يصلي النوافل حيث تتوجه به راحلته، وعن سعيد بن جبير عن إبن عمر قال: إنما أنزلت هذه الآية في الرجل يصلي إلى حيث توجهت به راحلته في السفر) ( ).
وصحيح ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على راحلته تطوعاً حيث توجهت إيماء، ولكن الملازمة بين هذا الفعل كسنة وبين الآية لا تثبت إلا بالدليل والقرائن، وإلا فان فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا دليل وحجة.
والإجماع على جواز صلاة النافلة إلى أي جهة في غير حال الإختيار والتمكن والإستقرار، فخرج الإستقبال في النافلة بالدليل وبالتخصيص بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالنصوص وقاعدة نفي الحرج، أما في غيرها فيبقى الأصل وهو شرطية القبلة في الصلاة إبتداءً وإستدامة.
وورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام:أنزل الله هذه الآية في التطوع خاصة ” فاينما تولوا فثم وجه الله ان الله واسع عليم وصلى رسول الله صلى عليه وآله وسلم ايماء على راحلته أينما توجهت به حيث خرج إلى خيبر، وحين رجع من مكة وجعل الكعبة خلف ظهره( ).
الآية سلاح
في الآية دعوة للتقيد بأداء الفرائض في أوقاتها، والتوجه إلى الله عز وجل في خشوع وخضوع، وتدعو الآية الناس إلى خلع الإنداد، وأنها تؤكد الملكية المطلقة لله عز وجل، فليس من شيء إلا هو ملكه سبحانه، وهو الذي يستحق العبادة.
والآية حرز من تصور التوجه في الصلاة لغير الله عز وجل، إذ أنها تخبر بأن التوجه إلى جهة مخصوصة إنما هو لإرادة وجه الله عز وجل، وأن المقصود عبادته سبحانه.
ومن وجوه البيان في القرآن الثناء على الله عز وجل في ذكر سعة ملكه، وإنعدام الشريك له سبحانه، وفيه عز للمسلمين ودلالة على خسارة الكفار والظالمين الذين يعتدون على المساجد، ويسعون في خرابها، قال تعالى [لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، وتمنع الآية من دبيب اليأس والقنوط إلى نفوس المسلمين، وتدعو إلى الإجتهاد في طاعة الله.
إعجاز الآية
في الآية مسائل :
الأولى : هل تدعو الآية المسلمين إلى الرأفة والرحمة بأهل الملل الأخرى بلحاظ الإقرار بقبلتهم وإمضاء إستقبال اليهود لبيت المقدس باعتقادهم ان الله عز وجل صعّد السماء من الصخرة ونحو ذلك، واستقبال النصارى المشرق لأن عيسى ولد هناك، من غير أن يتعارض هذا الإقرار مع الأمر التكليفي العام بالتوجه إلى البيت الحرام، وان كان التقرير بقبلتهم يتعلق بما قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونسخ القبلة .
الجواب: ان القدر المتيقن من الآية يتعلق بتوجه المسلمين في صلاتهم بدليل لغة الخطاب [ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا ]، وليس في منطوقها ما يدل على إمضاء توجه أهل الملل السابقة إلى قبلة أخرى، ولكنها تبين السعة في حكم الإستقبال، وعدم النفرة والكدورة من تعدده وتوجه أهل الكتاب إلى قبلتهم.
وترى المسلمين والى الآن لا يتعرضون بالذم والجرح ونحوه لقبلة اليهود والنصارى لأن الملاك هو التوجه إلى الله عز وجل ويصدق في أي جهة ولأن الأصل هو لزوم الإسلام، ولكن إختيار البيت الحرام على نحو النص والقطع والأفضل والحق، باعتباره شرطاً في الصلاة التي هي إحدى أهم الفرائض في الإسلام وهي عمود الدين.
واللام في [لله] لام الإختصاص، فكل شئ ملك لله ومخلوق من قبله تعالى، ولكن تحديد القبلة أخص من أن يتعلق بالملكية والخلق فالآية تدل على سماحة الإسلام.
ومنهم من أنكر توجه المسلمين إلى القبلة الحق، والمسلمون مأمورون بالإمتناع عن التعرض لهم في قبلتهم لأن المراد وجه الله، وهذا وإن كان لا يكفي في فراغ ذمتهم ولو بمقدار حكم القبلة التعبدي ولا يعني صدق الإمتثال منهم، إلا أنه يكفي في عدم التعرض لهم، لأن الله عز وجل في كل مكان، بمعنى ان ثوابه هناك، وكل وجهة تدعو إلى البيت الحرام وتشير إليه، والتوجه إلى البيت الحرام فيه وعظهم وإنذارهم ودعوتهم إلى الإسلام، وهو واجب تعيني تعييني وليس إختيارياً إلا مع الضرورة والحرج.
الثانية : ان الله عز وجل لا يحل في مكان لأن الحلول علامة على الإمكان والمحل من صنعه وخلقه فهو منزه عن التجسيم والحاجة والمكان ولا إعتبار لقول من خالف الإجماع وهم المجسمة، فواجب الوجود سبحانه ليس بجسم وليس بعرض لأن الجسم له طول وعرض وعمق، والعرض في الجسم، والجسم حادث ولكنه تعالى قديم ذاتاً، والقدم والحدوث لا يجتمعان، وفي التنزيل[هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ]( ).
الثالثة : يفيد صدر الآية الإطلاق في موضوعه، والماهية فيه غير مقيدة بموضوع القبلة وتسمى الماهية بشرط لا، في مقابل الماهية بشرط شيء تلك التي تكون مشروطة بأمر خارجي، فصدر الآية أظهر عموم ملك الله تعالى وأن المشرق والمغرب هنا عبارة عن مطلق الأرض والكون، وأعم من موضوع القبلة.
الرابعة : هل الآية دعوة إلى بقاء أهل الكتاب على العبادة بالنظر لها بنحو العموم لقوله تعالى [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا] مع إحتمال أن الخطاب لا ينحصر بالمسلمين، الأقوى أن المراد هو ضروب العبادة بعقائد الإسلام وقصد القربة، وفيها أيضاً نوع تخويف وتحذير بأن الله عز وجل يرى ما تفعلونه بالمسلمين.
كما أنها دعوة للمسلمين بالصبر، وإخبار بسعة فضل الله تعالى، فهي حجة أي لا تعتذروا وتتوقفوا عن العبادة بسبب هذا الأذى لأنه محدود وارض الله سبحانه واسعة.
الخامسة : إن الفرق والخلاف مع أهل الكتاب لا ينحصر بالقبلة بل إنها من فروعه وصغريات مسائله، وأن الإهتمام يجب ان يكون بالعقيدة والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وأخرج إبن جرير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اخرجوا فصلوا على أخ لكم ، فصلى بنا فكبر أربع تكبيرات فقال : هذا النجاشي أصحمة فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم نره قط . فأنزل الله { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في النجاشي ، وفي ناس من أصحابه آمنوا بنبي الله وصدقوا به . وذكر لنا : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استغفر للنجاشي وصلى عليه حين بلغه موته ، قال لأصحابه : صلوا على أخ لكم قد مات بغير بلادكم . فقال أناس من أهل النفاق : يصلي على رجل مات ليس من أهل دينه! فأنزل الله { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله…}.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : لما مات النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : استغفروا لأخيكم فقالوا : يا رسول الله أنستغفر لذلك العلج؟ فأنزل الله { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم..}( ).
ووجه الله لا يعني عضو البدن المعروف لأنه سبحانه منزه عن التجسيم، والجسم يستحيل عليه والقديم لا يراد حصوله والمراد هنا رضاه تعالى وانه لن يعرض عن الذي يتوجه لغير القبلة ما دام المطلوب هو طاعته وطلب رحمته ورضاه، فالوجه علامة الرضا بخلاف الإعراض والإحتمال , فالآية إمتنان وتخفيف وسعة ورحمة وحث على العبادة وطرد للشك ونفي الشريك.
ليس من خالق للسموات والأرض إلا الله عز وجل، وجاءت هذه الآية لتخبر عن عائدية ملك الله السماوات والأرض لله عز وجل، فهو سبحانه لم يخلقها ويتركها ملكاً طلقاً لغيره أو مشاعاً مع أحد، إذ أن السماوات والأرض تلتقي مع غيرها من الخلائق بأنها جميعاً ملك لله عز وجل، ولا يجتمع المتناقضان في محل واحد، فلا يكون الشيء مالكاً ومملوكاً في آن واحد، وقد دلت هذه الآية على أن كل الأشياء ملك لله عز وجل فإن قلت إن الإنسان يملك في الدنيا العقارات والبساتين والأعيان الأخرى، والجواب من وجوه:
الأول: ملكية الإنسان هذه متزلزلة وغير ثابتة، وهي إلى زوال بالإنتقال بالبيع ونحوه من العقود والإيقاعات أو بموت الإنسان وإنتقال الملك إلى الوارث.
الثاني: قد يفسر موضوع ملكية الإنسان للشيء بأن يكون غير صالح للملكية ويفقد شرائط الإنتفاع منه.
الثالث: جاءت الآية بذكر ملك الله عز وجل للمشرق والمغرب وإرادة آفاق السماوات والأرض.
الرابع: ملكية الإنسان من فضل الله عز وجل عليه، ودعوة له للشكر لله تعالى على نعمة الملكية.
وتبين الآية عظمة ملك الله عز وجل , وعجز الإنسان من الإحاطة بها، ولم تقل الآية بأن الله أحاط بكل شيء علماً، لأن الموضوع بيان الملك وترشح العلم عن الملك في المقام , وللإخبار بأن التوجه إلى جهة مخصوصة لا يعني عبادتها أو عبادة من فيها من الخلائق السماوية والأرضية، بل المقصود التوجه إلى الله عز وجل الذي هو[أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( ).
مفهوم الآية
تظهر الآية بديع صنع الله سبحانه وعظيم سلطانه وواسع قدرته وتحــث على التوجــه إليه تعالى بالعبادة والإستعانة وتخبر عن السعة في الأحكام الشرعية.
والآية حرب على الشرك وإخبار عن خسارة أهل الضلالة وأقطاب الوثنية، وتدعو إلى إستحضار ذكر الله تعالى في الذهـن، والتأمل في الآيات الكونية والآفاقية ليكون سبباً لزيادة الإيمان.
تنفي الآية وجود الشريك والند لله عز وجل، وبداية الآية دعوة للناس لعبادة الله عز وجل واللجوء إليه لأنه سبحانه بيده مقاليد الأمور فهو المالك لكل شيء وهو الوهاب، وجاء ذكر المشرق والمغرب كعنوان للملكية المطلقة وإرادة جميع الجهات، وكأن الجهات تقسم إلى قسمين وكل قسم له مركز وأطراف بينهما، فيلتقي أقصى طرف للمغرب مع أقصى طرف للمشرق في نقطتين الأول الشمال والآخر الجنوب وجاء البيان والتعدد في قوله تعالى[رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا] ( ).
وجاءت خاتمة الآية لتؤكد الجهات الأربعة وأنها كلها ملك لله عز وجل، فمن إعجاز الآية أنها لم تكتف بذكر المشرق والمغرب في بيان ملكية الله عز وجل بل تعقبها قوله تعالى[فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ] لإفادة أن كل الجهات وما فيها ملك لله عز وجل وبلحاظ الأفراد الطولية لكل جهة وما فيها من الملك الواسع.
وفي الآية مسائل:
الأولى: إبتدأت الآية باسم الجلالة، وبيان الإطلاق في ملكية الله وعائدية المشرق والمغرب له سبحانه.
الثانية: جاء ذكر المشرق والمغرب لإرادة الجهات الأربعة المشرق، الشمال، المغرب، الجنوب، خصوصاً مع التداخل بينها، والمقصود الإطلاق وملكية الله عز وجل لكل شئ.
الثالثة: جاء ذكر ملكية الله عز وجل كمقدمة لبيان الوظيفة العبادية للمسلمين في لزوم التوجه إلى الله تعالى بالصلاة والذكر والعبادة.
الرابعة: صحيح أن الآية جاءت خطاباً للمسلمين في سمت القبلة وصحة العبادة والدعاء في التوجه إلى الجهات المتعددة، كما كان رسول الله يصلي النافلة في السفر وهو على راحلته، فانها تتضمن دعوة الناس جميعاً للعبادة والذكر، وعدم الشرك بالله عز وجل.
الخامسة: إن الله عز وجل لا تحده جهة ولا مكان، وهو ليس حالاًً في محل، لأن الحلول في المحل عنوان للحاجة إليه، والله عز وجل هو الغني الذي لا يحتاج شيئاً أبداً.
السادسة: تبعث الآية السكينة والطمأنينة في نفوس المسلمين لصحة عباداتهم.
السابعة: في الآية رد على أولئك الذين إستهزءوا بالمسلمين عندما جاء الأمر الإلهي بنسخ جهة القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام وإخبار عن صحة الصلاة السابقة لجهة بيت المقدس، لأن كل الجهات لله عز وجل، وفي التنزيل [مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا]( ).
الثامنة: إختتام الآية الكريمة بإسمين من أسماء الله عز وجل وأنه سبحانه [وَاسِعٌ عَلِيمٌ] الذي ليس من حد لملكه ورحمته وهو الذي يجعل المسلمين في سعة ومندوحة في عباداتهم.
التاسعة: في خاتمة الآية والإخبار عن قنوت وطاعة كل شئ لله عز وجل دعوة للمسلمين والناس جميعاً للقنوت والخضوع ودوام الخشوع لله عز وجل.
الآية لطف
جاءت الآية عوناً للمسلمين في عبادة الله، وحثاً للناس على نبذ الشريك، وإجتناب الإفتتان بالسلاطين والملوك وسلطانهم على الأمصار، لأنها تخبر عن سعة ملك الله عز وجل وأنه يشمل المشرق والمغرب وما بينهما من الآفاق والأمصار والبوادي، ويدخل في قوله تعالى[رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا] ( ) ذات الملوك والسلاطين، فهم من ملك الله عز وجل، لأن قوله تعالى[وَمَا بَيْنَهُمَا]مطلق وعام وشامل لكل ما بين المشرق والمغرب، وفيه مسألتان:
الأولى: ذكرت الآية المحل، ولم تذكر الحال، فلم تقل(وما فيهما) لتبعية الحال للمحل.
الثانية: جاءت الآية بالحرف(ما) وهو لغير العاقل ولم تقل الآية(ومن فيهما) لبيان صحة التوجه إلى أي جهة في عبادة الله، كما أنها تفيد العموم في ملك الله عز وجل والشامل للحال والمحل، والعاقل وغير العاقل، فقد تأتي(ما) بمعنى(من) ومعنى(الذي) قال تعالى[وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى]( ).
إفاضات الآية
تبعث الآية السكينة في قلوب المسلمين لما فيها من الإخبار عن الملكية المطلقة لله عز وجل، فليس من شيء في السماء والأرض إلا وهو ملك لله عز وجل، وإبتدأت الآية بلام الملك لبيان أن كل ما في شرق وغرب الإنسان مما تحس به الحواس وتدركه العقول والوسائط هو من ملك الله عز وجل وأن إتخاذه قبلة في الصلاة إقرار وتسليم بهذه الملكية.
وجاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها مدرسة في التأديب والإرشاد إلى منازل العبودية، ومناسبة للتفقه في الدين، وقد يجهل الناس ما في المشرق والمغرب من الدول والأمصار وعجائب الخلق، فجاءت الآية لتخبر على نحو الإجمال أنها جميعاً ملك لله عز وجل، وهذا الإجمال أمارة على كثرة ما في المغرب وما في المشرق من بدائع المخلوقات التي تدل على عظيم قدرة وسلطان الله عز وجل.
الصلة بين أول وآخر الآية
بدأت الآية بذكر ملك الله عز وجل المطلق، ومن الإعجاز فيها أن جاء ذكر نوع الملك في الآية بما يتعلق بموضوع الآية وهو تعيين القبلة، فكثيرة هي الآيات التي تدل على ملك الله لكل شيء منها قوله تعالى[لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )، وذكرت الآيات أيضاً أن الربوبية المطلقة لله عز وجل وأنه رب المشرق والمغرب، قال تعالى[رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا]( ) في دلالة على الملازمة بين الملك المطلق والربوبية لله عز وجل، وفي المشرق والمغرب في الآية وجوه:
الأول: إرادة شرق وغرب الأرض.
الثاني: المراد شرق وغرب السماوات.
الثالث: ما بين السماء والأرض من الآفاق.
الرابع: إرادة العموم وشمول الوجوه الثلاثة أعلاه.
والصحيح هو الأخير، فإن الله عز وجل رب المشارق والمغارب وليس من شيء أو جهة إلا هو ربها.
وفيه بعث للسكينة في النفوس، إذ يلتقي المستقبل بكسر الباء والمستقبل بفتح الباء في العبودية لله عز وجل وهو سور الموجبة الكلية الجامع في التوجه إلى الله تعالى في الصلاة والذكر، وهو من مصاديق الإفراد بالربوبية لله عز وجل، ويدل على حقيقة وهي عدم كفاية إقرار الشخص بعبوديته لله عز وجل بل لابد من التسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل، لذا إن هذه الآية تأديب للمسلمين، وإرشاد لسبل عبادته والخشية منه تعالى، فأن إدراك عائدية كل شيء لله عز وجل يبعث في النفس الخشية منه سبحانه، وقدمت الآية المشرق على المغرب، ويحتمل وجوهاً:
الأول: جاء التقديم من غير سبب أو علة أو ترجيح، إذ لابد أن يقّدم أحدهما.
الثاني: إستقبال المشرق أكثر من المغرب.
الثالث: أفضيلة المشرق على المغرب.
الرابع: وجود سبب وعلة للتقديم غير ما ذكر في الثاني والثالث أعلاه.
وبإستثناء الوجه الأول فأن الوجوه الأخرى محتملة، فليس من إتفاق وصدفة في القرآن، ولابد للتقديم من أسباب، ومنها رؤية شروق الشمس وأول النهار.
وهل يمكن الاستدلال بالآية على أن وقت الشروق أفضل من وقت الغروب، الجواب إن تقديم الشرق على الغرب في الآية لا يكفي وسعة ما بين الشرق والمغرب شاهد على كثرة وتعدد والنعم، والمندوحة والتخفيف على الناس في العبادة وذكر الله، فلا يكون عليهم حرج ولا تكون هناك فتنة.
وهل التوجه للكعبة من المشرق والمغرب الجواب نعم، وبينهما عموم وخصوص مطلق فكل توجه إلى الكعبة هو من التوجه إلى المشرق والمغرب وليس العكس، ليكون التعيين بدل التخيير، والتخصيص بدل العموم، ويدل هذا التخصيص على التكامل في الشريعة الإسلامية، وأنها ناسخة للشرائع السابقة.
وفيه شاهد على أن من خصائص النسخ الدقة والتعيين بعد الإجمال، وتبين الآية السعة والتخفيف عن الناس في عباداتهم، وأصل هذا التخفيف سعة رحمة الله وإحاطته بكل شيء علماً.
وفي الآية إخبار عن علم الله عز وجل بالمسلم عندما يتوجه إلى عبادة الله، وأنه سبحانه يقبل منه عمله وفعله للصالحات.

التفسير الذاتي
إبتدأت الآية بلغة الإطلاق المكاني في ملك الله عز وجل، فليس من مالك غيره سبحانه، فهو المالك والوارث والباقي.
ولم تقل الآية (ولله ملك المشرق)بل ذكرت عائدية المشرق والمغرب في الملكية والتدبير والسلطان، وقد إتخذ الأنبياء هذا القانون موضوعاً للإحتجاج كما جاء حكاية على لسان موسى[قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] ( )، في رده على فرعون، وفضحه له في إدعائه الربوبية.
فجاء خطاب موسى عليه السلام موجهاً إلى الملأ من آل فرعون لجذبهم إلى الإيمان، والتفكر في خلق السماء والأرض وآيات الآفاق، كما إحتج إبراهيم عليه السلام من قبل على نمرود إذ إنتقل إبراهيم من حجة ومثال الإحياء والإماتة للإقرار بوجود الصانع إلى بيان قدرة الله عز وجل في أمر وجودي متجدد كل يوم، بإشراقة الشمس من المشرق، ويفيد الجمع بين الآيتين أن الله له ملك السماوات والأرض، والتدبير والتصرف المطلق فيهما وفي الخلائق.
وجاءت مقدمة الآية للثناء على الله عز وجل، وبعث الخشوع والخضوع في قلوب المسلمين، وجذب الناس للصلاة والتوجه إليه تعالى بالدعاء وبصيغ المسكنة وسؤال الحاجة.
وتتضمن الآيات التي تذكر المشرق والمغرب إلى جانب أمور العبادة والإستقبال في الصلاة البشارة للمؤمنين بالدولة وإتساع رقعة الإسلام، قال تعالى[وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا] ( ).
وفيه إشارة إلى أن المواظبة على العبادة وصيغ التقوى تفتح آفاق الأرض للمسلمين وتجعلهم يرثون العبادة والذكر فيها وهو من عمومات قوله تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( )، وهو من الخزي الذي يلحق الظالمين في الدنيا الذي ذكرته الآية السابقة، ومن عمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ( ).
فبعد أن كان الظالمون يعتدون على المساجد، ويسعون في خرابها فأن الله عز وجل يتفضل على المسلمين وأهل الأرض جميعاً بظهور دولة الإسلام، وسيادة الأمن والعدل والسلام إلى ربوع الأرض بذكر الله وإقامة الصلاة وأداء الفرائض.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: تتضمن الآية في مفهومها نفي الشريك، وأنه ليس من معبود غير الله عز وجل وأن الله عز وجل له ملك السموات والأرض وهو حاضر في كل مكان فلا تحده جهة ولا محل ولا مكان.
الثانية: جاء ذكر(وجه الله) وواجب الوجود متنزه عن التركيب والأعضاء، ولكنه للدلالة على أن الله عز وجل يعلم بالذين يتوجهون له بالعبادة وأنه يتلقى عبادتهم بالقبول والرضا، كما تمنع الآية من القول بأن الله عز وجل في جهة دون أخرى فهو سبحانه في كل الجهات لأنه واسع عليم.
الثالثة: في الآية ترغيب بالصلاة وإستقبال القبلة، ومنع للحرج عند الإشتباه في تعيين جهة القبلة.
الرابعة: بيان حقيقة وهي إعطاء الأولوية لأداء الصلاة لأنها لا تترك بحال.
الخامسة: جاءت الآية بوصفين:
الأول: صفة ملك الله عز وجل وأن المشرق والمغرب له سبحانه.
الثاني: صفة الله عز وجل وأنه واسع الرحمة غني عن العالمين يفعل ما يشاء، عليم بالمصالح والمفاسد، وما يفعله وما يقوله الناس.
السادسة: في خاتمة الآية بشارة للمسلمين، وإنذار للكافرين.
التفسير
قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ]
الآية الكريمة لطف إلهي وسعة في موارد العبادة مترشحة انطباقاً عن عظيم ملكه تعالى وفضله في التخفيف عن المؤمنين، وقد تقدم في الآية السابعة بعد المائة بيان اطلاق ملكه تعالى وشموله للسماوات والارض لأن الآية جاءت للاخبار عن انفــراده تعالى بالولاية والنصرة والسلطنة، اما هذه الآية فتتعلق باحكام القبلة والجهة التي يتوجهون لها في عباداتهم ودعائهم، فصحة العبادة تتأتى من سعة ملكه سبحانه التي هي باب رحمة للمؤمنين وحث لهم على الدعاء والانقطاع اليه في كل الاحوال والازمان لعدم خروج جهة معينة عن ملكه تعالى.
فالمشرق والمغرب جاءا هنا لبيان معاني الجهات بذكر الفرد الأهم والأمثل منها، وقد تجد بعضهم يعرف جهة المشرق والمغرب ولكنهم لا يحدد جهة الجنوب والشمال على نحو التعيين، مما يدل على الآثار الوضعية للآيات الكونية واهمية شروق وغروب الشمس كحجة عقلية تؤكد وجود الصانع، وتحديد القبلة يدل على موضوعية الجهات وضبطها في النظام الكوني العام، وشرطيتها في العبادة يترشــح منها الحــث على التدبــر بهذا العالــم وما يتصف به من الدقة التي يترشح عنها اختصاص بعض المواضع بشرف وقدسية معينة.
قوله تعالى [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا]
حُذف المفعول به للعلم به أي فأينما تولوا وجوهكم فهناك قبلة، والتولية تكون اقبالاً وتكون انصرافاً كما في قوله تعالى [ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ]( )، فهل تحمل الآية هذا المعنى ايضاً وان فيها تحذيــراً ووعيداً، الأقرب لا، وهو خلاف الظاهر بلحاظ القرائن ولغة الخطاب والآيات الاخرى مثل قوله تعالى [ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ..]( ) الآية، والأين أخص من الحيث الذي هو مرادف للتحيز، وفي حديث نفي الصفات عنه تعالى: “كيف أصفه بحيث وهو الذي حيَّث الحيث حتى صار حيثاً”.
التولية تأتي بمعنى الإقبال والإستقبال، وبمعنى الإدبار والإنصراف والأصل الأول أي الإقبال، اما الثاني فيعرف بالقرينة كما في قوله تعالى [ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ]( ) او يتعدى ب(عن).
والتولية في الآية استقبال القبلة، ففي الآية حذف أي فاينما تولوا وجوهكم، ووظيفة الحذف هنا لا تنحصر بالجانب البلاغي وفيه مسائل:
الأول : ان التولية اعم من تولية الوجوه، والمراد بها الشرطية وموضوعية الإستقبال في الصلاة.
الثاني : التوجه اليه تعالى بالدعاء وذكره سبحانه في كل مكان وزمان.
الثالث : استحضار احكام الحلال والحرام في كل معاملة وفعل بالإعتراف باحاطته تعالى بكل شيء.
الرابع : ان قدرته تعالى مطلقة ومجردة عن الزمان والمكان والجهة، فالآية تنبيه وتحذير واخبار بانه سبحانه لا تخفى عليه خافية.
الخامس : الآية حرب على الرياء ودعوة للتخلص منه، فمتى ما ادرك الإنسان ان كل فعل يقوم به يعلمه الله فانه يستحي منه.
السادس : الآية دعوة للإنجذاب للمعشوق والتيه في سبحات قدسه، وفيه تهذيب للنفوس وتخلص من الأخلاق الذميمة.
السابع : حذف (وجوهكم) جاء لتنزيه مقام الباري عز وجل، لأن الآية ورد فيها ذكره تعالى بعنوان الوجه، والله تعالى منزه عن التجسيم وصفاته سبحانه عين ذاته، لذا فان الوجه يأتي بمعنى الذات، (ويقال: هذا وجه الرأي أي هو الرأي نفسه)( ).
الثامن : ذكر المشرق والمغرب من باب المثال الأهم والمعروف عند الناس جميعاً بلحاظ شروق الشمس وغروب الشمس واتخاذهما بعضهم لهما قبلة، والا فان المقصود الجهات كلها وما فيها، وهو من باب ذكر الجزء وارادة الكل.
قوله تعالى [فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]
الآية مدح وثناء للباري عز وجل وبيان لأخلاق قدرته وسعة ملكه، كما ان صدر الآية وآخرها يفيدان مجتمعين ومتفرقين تنزيه مقام الباري عز وجل ونفي التجسيم عنه، فاللام في [ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ] لام الإختصاص، فهما مملوكان ومخلوقان، وملكيتهما كلاً وجزءً لا تعود الا لله عز وجل.
والمملوك غير المالك لتكون النتيجة وفق القياس الإقتراني:
كل مملوك غير المالك.
المشرق والمغرب والجهات الأخرى ملك لله.
الله عز وجل ليس في جهة منها.
انه تعالى ليس بجهة، والجهة في عرف المتكلمين الغاية التي يقصدها المتحرك والتي يشار اليها بالحس، وبما انه سبحانه مستغن عن الأشياء جميعاً فلا يكون في الجهة، لأن الإفتقار الى الجهة والمكان والمحل دليل على الإمكان.
فالآية جاءت لبيان عظيم قدرته وسعة ملكه تعالى وتنزهه عن لواحق الجسمية، لكنها لا تقف عند هذا الحد بل تبين ان هذه الجهات والأجسام والأكوان البديعة ملك له سبحانه.
والآية منع للشرك واسباب الضلالة والإفتتان بمخلوقاته تعالى، فكما بين سبحانه وظائف الهلال وانه للمواقيت والحساب لمنع عبادة القمر والإفتتان به، كذلك فانه سبحانه بين ملكيته للجهات وان التوجه للجهة في العبادة لا يعني عبادتها والخضوع لها، فالمقصود طاعته سبحانه وتعالى فهذه الآية من آيات اللطف.
بحث بلاغي
نسب الى اكثر المفسرين: (ان المعنى فثم وجه الله يعلم ويرى)، وفي الرد على جعل (وجه) زائدة وفق اصطلاح المجاز قال الزركشي: والأشبه حمله على ان المراد به الذات، كما في قوله تعالى [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ]( ).
اما الشطر الأول فهو صحيح لأن واجب الوجود بسيط غير مركب وانه منزه عن الجهة والمكان، الا ان التمثيل بهذه الآية قياس مع الفارق ولا يخلو من مسامحة.
بحث كلامي
قسمت صفات واجب الوجود في علم الكلام الى الصفات الثبوتية وهي صفات وجودية وعنوان الكمال والاكرام والجلال، ووجودية وهي ثمانية فهو تعالى: قادر، عالم، حي، مريد، قديم، أزلي، صادق، متكلم.
والى صفات سلبية بمعنى التي يجب ان يسلب عنه ما يخالفها، فمنها مثلاً انه تعالى: ليس بمركب أي انه بسيط بالبساطة الحقيقية، وانه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، وقيل بارجاع الصفات الثبوتية الى السلبية فاثبات القدم بمعنى سلب الحدوث واثبات العلم سلب للجهل ومن علمه تعالى حضور افعال العباد عنده وعدم غيابها عنه.
وقيل ان السلبية تعني سلب ما لا يليق به، ويمكن مناقشة هذا التقسيم والتسمية فلابد للقسمة من أساس واحد تبتني عليه من غير خلط، وان تتعلق الاقسام بذات الشيء وان تكون القسمة جامعة مانعة أي ان جميع الاقسام مساوية للمقسم، وتضم القسمة كل ما يصلح ان يدخل في اقسامه، ومانعة عن دخول غير اقسامه فيه، فتلك الصفات السلبية يمكن ارجاعها الى الثبوتية وان السلب انما هو بيان وتفسير للثبوتية.
ولقد اختلف في نسبة الوجود الى الماهية هل هي الإتحاد ام ان الوجود زائد على الماهية هذا في الممكنات، اما واجب الوجود فان وجوده نفس حقيقته لأن القول بزيادة الوجود يعني التركب وهو منتف بالإجماع عنه تعالى لأن المركب يحتاج الى كل جزء من أجزائه والمحتاج ممكن لا واجب.
كما تدل الآية على ان واجب الوجود سبحانه باق ابداً ولا يجوز عليه العدم لأن العدم من لوازم الإمكان، واختلف المتكلمون بأنه سبحانه باق ببقاء يقوم به واليه ذهب ابو الحسن الأشعري، ام انه باق لذاته وهو الأنسب لإنتفاء الحاجة والإفتقار عنه تعالى ولاستغنائه عن الغير.
كما تثبت الآية الكريمة انه سبحانه غير متحيز، لأن التحيز تلازمه قهراً الحوادث ويرتبط بالأكوان الحادثة وتلك من صفات الإمكان، ولفظ الوجه ليس صفة مغايرة للوجود، واليد ليس صفة مختلفة عن القدرة بل هي عناوين تدل على عظيم سلطانه وقدرته وتوكيد إستغنائه سبحانه وقيامه بذاته واستناد غيره اليه.
فالإطلاق في جهة التوجه في الآية يدل على قهره سبحانه للعدم بالوجود، وانه غير محتاج للجهة لأنه تعالى ليس بجسم واستحالة انعدام شيء من الكمالات عنه سبحانه، وكما ان إمتناع التغير والإنفعال ممتنعان عنه، والآية دعوة للتوكل عليه سبحانه واللجوء اليه وقرب رحمته ونفي الجهة عنه، وتحذير من التجسيم وفيها بيان لكنه عظمته.
بحث فقهي
لقد ردت نصوص تفيد ان الآية نزلت في صلاة النافلة وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان اذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعاً يومئ برأسه نحو المدينة، أي انه لا يومئ الى جهة القبلة لتعذره ولأن الصلاة نافلة والسعة والتخفيف فيها، وورد عن سعيد بن جبير عن ابن عمر: إنما نزلت هذه الآية في الرجل يصلي إلى حيث توجهت به راحلته في السفر( ).
وظاهر اسباب النزول انه اعم من النافلة ويشمل الفريضة في حال تعذر عدم امكان تعيين سمت القبلة.
مسائل في القبلة
القبلة هي عين الكعبة شرفها الله تعالى لمن شاهدها او من هو بحكمه ويتمكن من التوجه اليها والى موضعها من تخوم الأرض الى عنان السماء، ويتوجه الى القبلة المسلمون في صلاتهم البعيد منهم والقريب، ولا يدخل فيها شيء من حجر اسماعيل على الأقوى وان وجب ادخاله في الطواف.
الأولى : في هذا الزمان وارتقاء العلوم فيه، ندعو الى تصنيع جهاز يحدد القبلة من كافة اقطار الأرض سواء بالإرتباط بالأقمار الصناعية او بطريقة تقنية حديثة تضمن الدقة في تحديد اتجاه الكعبة، ويكون عوناً للمسلمين في عباداتهم، ويمكن استعماله في كل بلدة ويمكن معه تقدير خط مستقيم بينها وبين الكعبة الشريفة.
الثانية : عند عدم امكان تحصيل العلم بالقبلة، يجب الإجتهاد في تحصيل العلم وان تعذر يتحرى الظن والأمارات، ولا يجوز الإكتفاء بالظن غير المعتبر او الأدنى مع امكان الأقوى، والمدار على الظن الأقوى وليس على سببه، فلو اخبر عدل ولم يحصل الظن بقوله كما لو كان من غير اهل البلد، واخبر فاسق او كافر مع حصول الظن بقوله كما لو كان من اهل الخبرة، يعمل بقول الأخير.
الثالثة : لا فرق في التحري واستقصاء جهة القبلة بين الأعمى والبصير، ولكن الأعمى يرجع الى غيره في تحصيل القبلة واماراتها.
الرابعة : اذا حصر القبلة في جهتين بان علم انها لا تخرج عن احداهما، يجتهد في التحري حتى تترجح احداهما فيصلي اليها، ويجوز ان يصلي الى الجهتين.
الخامسة : اذا تحرى واجتهد لصلاة وحصل له الظن، لا يجب تجديد الإجتهاد لصلاة اخرى ما دام الظن باقياً.
السادسة : اذا ظن بعد التحري والإجتهاد ان القبلة في جهة فصلى الظهر مثلاً اليها ثم تبدل ظنه الى جهة اخرى، وجب عليه اتيان العصر الى الجهة الثانية، وهل يجب اعادة الظهر او لا، الأقوى الإعادة في الوقت دون ما خارج الوقت اذا كان مقتضى الظن الثاني وقوع الصلاة الأولى الى جهة اليمين او الى جهة اليسار اما اذا كان مقتضاه وقوعها ما بين اليمين واليسار فلا تجب الإعادة.
السابعة : إذا إنقلب ظنه في أثناء الصلاة إلى جهة أخرى توجه حسب ظنه الأقوى والأرجح، الا اذا كان الأول الى الإستدبار او اليمين واليسار بمقتضى ظنه الثاني فيعيد.
الثامنة : المتحير الفاقد حتى للظن في تحديد جهة القبلة قيل يصلي الى اربع جهات إحتياطاً واستدل عليه بمراسيل، والأقوى انه يصلي حيث أدى إجتهاده وتدل عليه هذه الآية، وعليه حديث عامر بن ربيعة وفيه ضعف , ولأن شرائط الصلاة كالطهارة وستر العورة والقبلة منوطة بالقدرة والإستطاعة وعن الصادق عليه السلام: “يجزي المتحير ابداً اين ما توجه اذا لم يعلم اين وجه القبلة.
التاسعة : اذا صلى الى جهة من دون الفحص عن القبلة غفلة او مسامحة يجب اعادتها، الا اذا تبين كونها الى القبلة مع حصول قصد القربة منه.

قوله تعالى [ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ]
الله سبحانه في كل مكان ومدبر لما في الأمكنة جميعاً والآية تدل على انه موجود وحاضر عند الجميع، فقد احاط بكل شيء ووسع رزقه جميع خلقه، ورحمته كل شيء، وهو الكثير العطاء وكل الخلائق تتصف بالفقر والحاجة الى الغني، وتدل الآية على التوسعة في القبلة ويؤكد ذلك عمومات التخفيف في الشريعة وقاعدة نفي الحرج واحكام الضرورة وحديث الرفع.
وقال الأزهري في الآية: ان الله اراد التحري عند اشكال القبلة والآية لا تتعلق بالقبلة فقط بل بما هو أعم ومنه وجوه الإعجاز التي تقدمت وحث على الاطلاق المكاني والزماني في الدعاء والذكر، وتبعث السكينة في نفوس المؤمنين، وتدعو الناس لعدم الإنقياد للطواغيت والذين يدعون السلطان والملكية.
وهي رحمة واخبار عن عدم رد الأعمال وان كان فيها ترك الأولى، والاطلاق في قبلة صلاة النافلة يفيد تمام الثواب وانه سبحانه يعلم ما يفعله الكفار بمساجد المسلمين وبالصد عن الذكر والصلاة.
ومن أسمائه تعالى الواسع، وسع فضله كل شيء وشمل رزقه كل الخلائق وعطاؤه أصاب من سأله ومن لم يسأله، وعن الإمام جعفر الصادق قال: “لما صعد موسى الى الطور فناجى ربه عز وجل قال: يا رب أرني خزائنك، فقال: يا موسى انما اذا أردت شيئاً أن أقول له كن فيكون”.
والإحاطة بكل شيء لابد وأن تأتي عن علم بجميع الأشياء إذ كيف تتحقق القدرة والشمول والسعة من غير علم بالمقدور عليه، فلا غرابة ان يأتي هذان الإسمان من أسمائه تعالى متلازمين في هذه الآية، وفي تلك الملازمة آيات من البشارات والوعد والوعيد.

قوله تعالى [ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ] الآية 116.

الإعراب واللغة
وقالوا: الواو حرف عطف ويجوز أن تكون إستئنافية، قالوا: فعل ماض، والواو : فاعل، اتخذ: من افعال التحويل التي تنصب مفعولين وهي كل فعل بمعنى صير، والمشهور منها واشهرها جعل.
وقد عدّ النحاة سبعة منها (اتخذ) كما في قوله تعالى [ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ]( ) ، ومصادر هذه الأفعال تعمل عملها ايضاً فتنصب المبتدأ والخبر مفعولين لها مثل جعلك القرآن اماماً لك جنة.
ومنهم من ذهب الى الوقف على [ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ] والإبتداء بقوله [ سُبْحَانَهُ ] باعتبار انه تنزيه لمقام الربوبية ورد على افترائهم، الله: إسم الجلالة : فاعل، ولداً: مفعول به منصوب بالفتحة، وقيل هو مفعول ثان، والمفعول الأول محذوف تقديره بعض مخلوقاته.
سبحانه: مفعول مطلق لفعل محذوف منصوب، والهاء: مضاف إليه.
بل: حرف عطف واضراب له: جار ومجرور.
ما: إسم موصول مبتدأ مؤخر.
في السموات: جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة ما، والأرض: الواو: حرف عطف، الأرض:معطوف على السموات، مجرور بالكسرة، كل: مبتدأ مرفوع، له: جار ومجرور .
قانتون : خبر مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، وقانتون: جمع قانت، إسم فاعل من قنت، على وزن فاعل.
والقنوت لغة هو الإمساك عن الكلام وقيل الأصل فيه الدوام، وفي الإصطلاح هو الدعاء، ولعله لما فيه من الخشوع والتوجه الى الله تعالى اقراراً بالعبودية ورجاء الرحمة.
وقال ابن الأنباري القنوت على اربعة اقسام الصلاة وطول القيام واقامة الطاعة والسكوت( ).
في سياق الآيات
الآية تتصل مع ما قبلها من الآيات في حكاية سوء القول والفعل من المشركين والكفار وأيضاً تراها تتضمن لغة التوبيخ لهم ودفع وهمهــم وكشــف الحقيقة، ومنهم من عدّ موضوع هذه الآيـة النــوع العاشر من مقابح وافعال المشركين والكفار أي من حيث التوالي في هذه الآيات.
ترى ما هي الصلة بين موضوع القبلة والمندوحة والسعة الواردة فيها وبين هذه الآية الجواب من وجوه:
الأول: لقد ذكرت الآية السابقة بأن المشرق والمغرب لله عز وجل، وجاءت هذه الآية لبيان أن كل ما في السماوات والأرض من الخلائق هو ملك طلق لله عز وجل، لتكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، فالمشرق والمغرب من عمومات ما في السماوات والأرض.
الثاني: جاءت الآية لبيان صحة العبادة مع تعدد سمت القبلة والجهة التي يتوجه إليها العباد، وجاءت هذه الآية بالمعنى الأعم وهو إرادة ملكية الله المطلقة للخلائق وبلغة الإحتجاج والرد على الذين نسبوا الولد إلى الله.
الثالث: دعوة الناسللتفقه في الدين، وأن الجهة التي يتوجهون إليها ويستقبلونها في العبادة هي ملك لله أيضاً، فلا يجوز الشرك بالله.
الرابع: إن إستقبال القبلة والتوجه إلى جهتها لايعني أن الله عز وجل يحل فيها، بل إنها ملك لله عز وجل والمالك غير الملك، والله عز وجل غني عن الكل فلا يحل في شئ أبداً لغناه المطلق، ولابد من التمييز بين العبود وجهة الإستقبال.
الخامس: جهة الإستقبال ذاتها ملك لله عز وجل، وقانتة وعابدة لله عز وجل، قال تعالى[يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ).
وفي الآية دعوة إلى عدم الإفتتان بجهة القبلة، وفيها إشارة إلى سجود الملائكة لآدم وأنهم إتخذوه قبلة إذ يلتقون هم وإياه بالخضوع والخشوع والعبادة لله عز وجل لأنهم مجتمعين ومتفرقين أفراد من مصاديق قوله تعالى [لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ].
وإذ بيّنت هذه الآية عائدية ما في السموات والأرض في ملكيتها لله عز وجل، جاءت الآية التالية لتخبرعن أمر آخر في ذات الموضوع وهو أن الله خالق السماوات والأرض ليس عن مثال سابق مثلها، ويفيد الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل خالق ومالك السماوات والأرض فليس لها مالك غيره في الأزمنة المقدرة وغير المقدرة، ولو لم يخلقها الله عز وجل لما إستطاعت العقول تصورها لأنها من بديع صنعه وعظيم قدرته تعالى.
وتفيد الصلة بين آية [مَسَاجِدَ اللَّهِ] وهذه الآية أن الأرض كلها مسجد للعبادة، وليس من برزخ ومانع يمنع العبد للتوجه إلى الله بالعبادة والمناسك لأن كل جهة هي لله عز وجل، وفيه خيبة وخزي للكفار الذين سعوا في خراب المساجد، وإخبار بأن فعلهم يرجع عليهم بالضرر ويكون سبباً لخسارتهم في الدارين، قال تعالى [وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
أسباب النزول
قيل نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، ووهب بن يهودا فانهم قالوا: [عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ] وذكر أنها نزلت في مشركي العرب قالوا: الملائكة بنات الله( ).
ولكن موضوع الآية أعم إلا أن يراد خصوص الإحتجاج وما كان يلاقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى التوحيد ، وفي التنزيل [وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ]( ).
والظاهر ان دعوى البنوة للباري عز وجل كانت موجودة وشائعة بين شطر من الناس وان لم يكن على نحو الحقيقة والصدق، فجاءت الآية لدفع هذا الوهم بالحجة والبرهان.
إعجاز الآية
توثيق وبيان لقبح وسوء إعتقاد يظهر أن الحاجة النوعية العامة إلى القرآن في مثل هذه الأقوال التي لا تزول ولا يقضى على آثارها إلا بكتاب سماوي يتصف بالتأثير على أهل الأرض جميعاً، ويكون له جنود وحملة مخلصون، ويبقى اماماً وهادياً ودليلاً.
والآية تأديب وإرشاد للمسلمين باطلاعهم على الإفتراء والتجري على الباري، ومن اعجازها تقيد المسلمين وإنقيادهم وطاعتهم للمولى بنفي الشريك عنه سبحانه، فليس من فرقــة من فرق المسلمين الكلامية والفقهية تجرأت وذهبت إلى مثل هذا القول ولو تلميحاً او إشارة وذلك من فضل الله، ومن تجرأ على مقام الربوبية ونسب الولد لله عز وجل إنسلخ من فرق الإسلام ونعت بالكفر وربما حكم بنجاسته.
وحتى الذين نعتوا بالغلو، ونبذهم الإسلام والمسلمين لم يقولوا بالبنوة والولدية للباري عز وجل مما يدل على أثر القرآن وتأثيره وما له من الأسرار الإعجازية الأخرى، ومنها التأثير على الناس وتثبيت حقائقه في الأذهان والوجود الخارجي.
وفي الدعاء: (لا تبتلني بجرأة على معاصيك)، ولم يكن أهل الكتاب وحدهم الذين نسبوا الولد إلى الله عز وجل بل المشركون من العرب كما في تفسير قوله تعالى [ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ]( ) أي نصيباً، وان مشركي العرب قالوا الملائكة بنات الله تعالى.
فالآية سلاح، وردع وتأديب وفضح، ومدرسة أخلاقية وعقائدية ودرس في تنزيه مقام الربوبية وبيان عظيم ملكه وسلطانه، لقد أكدت هذه الآية ضرورة وجود حقيقة عقائدية عند الموحدين والمخلصين وهي الإلتزام بنفي ما لا يليق بالباري عز وجل من الصفات والنعوت والأفعال وكان المسلمون ولا زالوا أهلاً لذلك.
لقد حالت الآية دون إتساع دعوى الولدية وأبقت تلك الدعوات فارغة ساذجة لا ترتكز إلى مستند أو حجة أو برهان، إن محاربة هذه الأقوال الباطلة مقدمة للإيمان ومدخل لنبذ الأفكار المغايرة لأحكامه، فمن الصعب الفصل بين تفشيها بين الناس وبين شيوع الكفر، أي ان وجودها قد يكون مانعاً دون إسلام بعضهم، فالوظيفة الإيمانية تقتضي محاربتها وجهادها ونبذها، لاسيما وان الوهن أهم ما تتصف به، كما أنها تتنافى وحكم العقل والوجدان، مع إفادة الدليل ببطلانها.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الإسلام وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، ومن بركاتها أنك ترى الذي ينسب الولد لله سبحانه يحاول التستر على تلك المقولة ونعتها بمظاهر مجازية تخيلية.
ومن اعجاز الآية أنها لا زالت وستبقى تطارد وهم الشرك وتكشفه حتى في لباس المجاز والتأويل الذي قد يدعون ويجتهدون في جعله ستراً يخفي ضلالتهم، كما انها تقف حاجزاً وواقية دون التمادي في هذا القول ونسبة البنوة الى الله تعالى كماً وكيفاً، وتحول دون ترتب الاثر السلبي عليه، انها قاعدة كلية في تنزيه واجب الوجود.
الآية سلاح
تكشف الآية عن وجود مقولة خاطئة، تتضمن معاني الحاجة والتغير والإنفعال وهي صفات منتفية عن واجب الوجود، فالآية تحذير من مثل هذه المقولة وعون في التصدي لها وإظهار لعيوب الآخرين في باب العقيدة والمبنى، وهي وقف للتمادي في هذه الأقوال الباطلة وتنزيه للنفوس والأذهان والأرض منها.
وتنقح الآية أقوال المليين وتحثهم بلغة الإنذار والوعيد على نبذ الشرك بوجوهه المتعددة، وهي تأديب للمسلمين باجتناب محاكاتهم أو الإنصات لهم لما في قولهم من معاني الألم واللذة ونحوها من توابع المزاج وما يصح من الأجسام، ويستحيل ان يكون واجب الوجود جسماً، سبحانه وتعالى عما يصفون، وسيبقى المسلمون يتعاهدون فلسفة التوحيد ويحولون دون تفشي الشرك وإتساع دائرة الضلالة ما دامت السماوات والأرض.
وفي الآية تكذيب لأقوال الكفار، وتنزيه لمقام الربوبية مما تدعي بعض الطوائف بأن الله له وعد، لتكون الآية من أفراد مدرسة التوحيد وإصلاح مفاهيم ومعتقدات أهل الأرض، والآية من المدد والنصر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن عمومات قوله تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( )، من وجوه:
الأول : الآية مقدمة لدخول الناس الإسلام.
الثاني : تثبيت قانون في الأرض وبقاؤه بين الناس إلى يوم القيامة وهو إنتفاء الولد عن الله عز وجل.
الثالث : تسفيه عقول أهل الشرك والضلالة، وبعث الفرقة والخلاف بينهم.
الرابع : تنمية ملكة الإحتجاج عند المسلمين وإزاحة الموانع عن تصديهم للأقوال الباطلة بعد ثبوت زيفها في القرآن ومنها نسبة الولد لله.
مفهوم الآية
للغة التوبيخ والذم في الآية مقاصد سامية منها المنع من الشرك والضلالة وتنزيه المسلمين من أقوال أهل الكفر والجحود وإعطائهم درساً من الأمم الأخرى وحصول التحريف عندهم.
والآية من مصاديق وأفراد مدرسة التوحيد، وفيها نفي للبنوة والولد عنه تعالى وتقديس لمقام الربوبية، ومن الآيات ان تجد نفي الولد عن الله سبحانه يقترن معه في ذات الآية للتوكيد على عظيم ملكه وسلطانه سبحانه وان كل شيء هو ملكه سبحانه، والملكية تتنافى مع الولدية، كما انها قيدت الملكية بالقنوت والطاعة له تعالى.
فكل الخلائق منقطعة الى عبادة الله تعالى، الأمر الذي ينفي الولدية ويؤكد غناه سبحانه وعدم حاجته، وان الصلة بينه وبين الخلائق مطلقاً صلة الرب والمربوبين، والخالق والمخلوقين، والسيد والعبيد، والمالك والمملوكين، والغني والمحتاجين، والباقي والزائلين، والحاكم والمحكومين، فنفي الولد عنه سبحانه جاء ضمن بيان عظيم سلطانه وعظمته تعالى.
وفي الآية مسائل:
الأولى: ذكر قول فريق من أهل الكتاب بصيغة الذم، ويلاحظ في الآية بديع الهجاء، فمع قبح هذا القول ولزوم تنزه أهل الكتاب والناس جميعاً منه، فان الآية ذكرته على نحو الجملة الخبرية والعموم من غير تعيين للفريق أو الطائفة أو أهل الملة الذين يتولون هذا القول وفيه دعوة لهم للتنزه منه خصوصاً مع نزول القرآن وما فيه من معاني التوحيد.
وجاءت الآية بالبيان الشافي لإبطال هذا القول لإعانتهم على التخلص والتنزه منه، ومن الإعجاز في هذا الباب أن الآية جاءت بصيغة الفعل الماضي (قالوا) ليكون لهم مندوحة للتخلص وهذا القول وليبقى من الزمن الماضي، ويحكي حقبة وحاله إستطاع أهل الكتاب الإبتعاد عنها ببركة القرآن وما فيه من الحجة والبرهان، وورد هذا الفظ [وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا] وقد ورد الفعل(يقولون) بصيغة المضارع في القرآن إثنتين وتسعين مرة وليس فيها ذات القول الوارد في هذه الآية، وهو مصداق لإرادة الزمن الماضي من القول بالنبوة، نعم لغة الماضي لا تمنع من إرادة الزمن الحاضر والمستقبل، ولكنها تتضمن في مفهومها دعوة أهل الكتاب وغيرهم إلى التنزه من نسبة الولد لله عز وجل، وحثاً لهم للإقتداء بالمسلمين في معالم التوحيد ونفي الشريك عن الله عز وجل.
الثانية: جاء لفظ (سبحانه) وما يدل عليه من تنزيه مقام الربوبية، متعقباً لقولهم، وفيه آية في الإحتجاج بان يذكر القول بالباطل ثم يذكر بعده مباشرة الرد الكريم الذي يبعث على الإستقراء، ويحث الناس على تنزيه الله عز وجل عن كل ما لا يليق بعظيم شأنه وقدرته.
الثالثة: بعد كلمة التنزيه (سبحانه) جاء حرف الإضراب (بل) لبيان البرهان على نفي قول البنوة، وخطأ وضلالة الذين ذهبوا اليه .
الرابعة: قد يقوم الذين ينسبون الولد لله عز وجل بذكر بعض الأنبياء أوغيرهم في موضوع النبوة كما ورد في قوله تعالى [قَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ]، فجاءت الآية بالإخبار عن ملكية الخلائق كلها ومنهم البشر أحياء وأمواتاً لله عز وجل، لتوكيد المتعارف بين الملكية والبنوة، وأن الأولى تنفي الثانية.
الخامسة: بعد ذكر عائدية الخلائق لله عز وجل جاء إختتام الآية بالإخبار عن خضوعها وخشوعها لله عز وجل، ويفيد الجمع بين هذه الآية وقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، العموم والخصوص المطلق، فان الجن والإنس عابدون قانتون لله عز وجل، ومن الخلائق ما تكون قانتة طائعة لله عز وجل تدرك حقيقة عجزها عن التصرف إلا بالمشيئة الإلهية.
الآية لطف
لقد جاءت آيات القرآن لنقل الناس من الجاهلية وعبادة الأوثان إلى التوحيد والثبات على الإيمان، وكل آية مدرسة في الهداية ودعوة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها هذه الآية الكريمة التي تحكى ما كان يلاقيه النبي محمد من العناد، وما يثيره بعض رؤساء الملل الأخرى من الشبهات وأسباب الشك والريب.
لقد أرادوا بيان عظيم منزلة عيسى وبعض الأنبياء الآخرين فغالوا فيهم، وجعلوهم بمنزلة الأبناء لله عز وجل، ليجاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون لتنزيه مقام الربوبية وللذب عن الأنبياء، ودفع ومنع الإفتراء عليهم، وفيه بيان لعظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وأنهم لم يلجأوا إلى مقابلة الغلو بمثله، بل ثبتوا على عقيدة التوحيد، وقالوا أنه عبد لله عز وجل، وبه جاء القرآن وقد تعاهد المسلمون آيات وكلمات وحروف القرآن ولم يطرأ عليه تغيير ولم تصله يد التحريف وفي التنزيل[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
وفيه شاهد على حاجة الناس له وللمسلمين،وهومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ودليل على أن القرآن تصديق للكتب للكتب السماوية السابقة وتنزيل سماوي لفضح التحريف، وطرد الغلو عن الملل السماوية، ليكون مقدمة تساعد أهل الكتاب في دخول الإسلام، فلولا هذه الآيات لقال بعض أهل الكتاب لم نسلم حتى تقرون بأن هذا أو ذاك النبي إبن لله عز وجل، فجاءت هذه الآية لتنفي قول البنوة، وتنزه مقام الربوبية.
وتبين أن الناس جميعاً متساوون في العبودية لله،وكلهم ملك له سبحانه، وهو من اللطف من وجوه:
الأول: لطف بالمسلمين لأنه دعوة لهم للثبات على الإيمان،وعدم التعاون في موضوع تنزيه الله عز وجل من مسألة البنوة.
الثاني: اللطف بالأنبياء، ومجئ آيات القرآن بالدفاع عنهم، إذ تدل الآية بالدلالة التضمنية على أنهم لم يقولوا هذا القول لأتباعهم وأممهم بتقريب أن القرآن مصدق للكتب السماوية السابقة، وإنكار موضوع الولد جاء في كل الكتب السماوية وعلى لسان الأنبياء جميعاً.
الثالث: العناية السماوية ببني إسرائيل بتحذيرهم من مقولة الولد الباطلة، ولزوم الكف والإمتناع عنها، وعدم إتخاذها وسيلة لإيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الرابع: اللطف بالناس جميعاً بالزجر عن الإنصات لمقولة الولد الباطلة، وبيان قبحها الذاتي.
الخامس: في الآية دعوة للناس جميعاً للتفكر في بديع صنع الله عز وجل، وأنه سبحانه خلق الكون ولم يتركه وشأنه، بل جعل عنده الأهلية للقنوت والطاعة له طوعاً وقهراً، وفيه إخبار عن وجود نظام دقيق يحكم المخلوقات وهو الذي يتجلى ظاهراً، وتدركه العقول، وتحس به الحواس.
السادس: من وجوه اللطف في الآية تنزيه مقام الربوبية بقوله تعالى [سُبْحَانَهُ] وهو أعم من نفي الولد لإرادة إظهار حسن العبودية لله وبيان عظيم قدرته، والتفكر في مخلوقاته ونفي كل ما لا يليق بالله عز وجل من الصفات.
إفاضات الآية
لقد جعل الله عز وجل كل آية من القرآن فيضاً متصلاً، ينهل منه الناس العلوم، ويقتبسون منه أمهات المسائل في العقائد والكلام والأحكام الشرعية، وجاءت هذه الآية سلاحاً وسيفاً بوجه أهل الضلالة والذين يحاربون الرسالة بالشبهات والجدال بالباطل.
وجاءت الآية بصيغة القول (وقالوا) وفيه دعوة للمسلمين للجهاد في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وإثبات بطلان قولهم بالبنوة بالإحتجاج بالدليل والبرهان، ومن الإعجاز أن هذه الآية إحتجاج سماوي عليهم، وفيه مدد للمؤمنين في جهادهم، وتخفيف عنهم في مواجهة أهل الضلالة والإفتراء.
وجاءت الآية بلغة الجمع الذي تدل عليه واو الجماعة في (قالوا) لبيان أن القول ليس أمراً فردياً يمكن تجاهله والسكوت عنه، بل أنه رأي عليه طائفة، وفيه إشارة إلى لزوم التصدي للمقولات الباطلة التي تصدر من الفرق والطوائف بصيغة الحجة والبرهان والدعوة للجوء إلى التنزيل.
وفي الآية شاهد على أن القرآن تبيان لكل شئ إذ أنه يذكر الإفتراء وموضوعه ويقوم بالرد عليه فمن إعجاز القرآن أنه لم يذكر الشبهة وما يدعون وحده، بل ذكر معه ما يفنده ليتلو المسلمون هذه الآية التي تتضمن فضح ونقض قولهم ببضع كلمات لتكون مدرسة في التوحيد ونبذ الشرك.
وهل في الآية رحمة بالذين ينسبون الولدية لله عز وجل أم أنها إنذار ووعيد محض لهم.
الجواب هو الأول وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ أن الآية دعوة للتوبة والإنابة.
ومن وجوه الرحمة أن ملازمة البيان والبرهان لهذه الدعوة، لينتفع به المسلم وينفع غيره من الناس ويتقوم البيان في المقام بامتناع الولد عن الله عز وجل.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بحرف العطف (الواو) للدلالة على إتصال هذه الآية بالآيات السابقة، التي تبين قبح قول فريق من أهل الكتاب، وذكر مضامين هذا القول، وتفنيد كل فرد منه، لبيان العناية الإلهية بالناس، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( )، لأن هذه الآية عون للناس في مسالك العبادة.
ومن إعجاز الآية أنها ذكرت موضوع الولد بلغة (إتخذ) أي إختار من بين خلقه، وفيه دلالة على إتفاق أهل الملل على أن الله عز وجل [لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ] ( ).
وجاءت الآية لتوكيد أن الله عز وجل لم يتخذ ولداً من خلقه وأنه سبحانه منزه عن هذا مثل هذا الإتخاذ لأن الخلائق كلها ملك له، وجاء تنزيه مقام الربوبية متعقباً لهذا القول من غير فاصلة بينهما وبكلمة التنزيه الخاصة بالله وهي (سبحان) التي إرتضاها لنفس، وأصل الضمير يعود للمتأخرإلا مع القرينة ومع أن لفظ الولد هو المتأخر فان الهاء في (سبحانه) تعود لله عز وجل من وجوه:
الأول: لفظ سبحانه تقديس خاص بالله عز وجل، وقد ذكر لفظ (سبحان) إحدى وأربعين مرة في القرآن تعود لله، كما ذكرت مادة (سبح) في مواضع كثيرة من القرآن كلها في تسبيح وذكر الله عز وجل والإقرار بربوبيته للخلائق كلها.
الثاني: إنحصار التنزيه المطلق بلفظ(سبحان) بالله عز وجل.
الثالث: جاء لفظ (سبحانه) للإحتجاج وبيان عظيم قدرة وسلطان الله.
الرابع: في الآية تذكير بأن الخلائق كلها تسبح لله، وفي التنزيل [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أن حرف الإضراب بل لم يأت بعد قولهم مباشرة بإعتباره نفياً لقولهم وردا عليهم , إنما جاء بعد قوله تعالى [سُبْحَانَهُ] وفيه نكتة عقائدية من وجوه:
الأول: تقتضي وظيفة الناس التسبيح لله والإنقطاع إلى طاعته وتنزيهه مما لا يليق بعظيم شأنه، فمتى ما إتجه الناس إلى وظيفة التسبيح فانهم يمتنعون عن دعوة البنوة لله، ويدركون بطلانها وعدم وجود أصل لها.
الثاني: في الآية دعوة للمسلمين للجوء إلى تسبيح الله وذكر عظمته وسلطانه وسعة قدرته عندما يواجهون بشبهات تدل بذاتها على بطلانها.
الثالث: توكيد قبح إدعاء البنوة لله، ولزوم الفزع منها، والمبادرة إلى اللجوء إلى الله عز وجل.
الرابع: في تعقب التسبيح لله للقول الباطل بالبنوة لله دفع للبلاء والعذاب عن الذين يقولون هذا القول إلى حين لأنه يدل على إستدامة عبادة الله في الأرض، وأن المسلمين يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدعون الناس إلى الله عز وجل ، ونبذ القول بالباطل، ويسارعون إلى التوبة إلى الله، وفعل المسلمين هذا من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ويتجلى في تلاوتهم لهذه الآية.
وذكرت الآية ما في السماوات والأرض من بديع الخلق بإنه يعود في ملكيته لله عز وجل لا يشاركه أحد في هذه الملكية، مما يدل على وجه من وجوه التوحيد، وأن التوحيد لاينحصر بالربوبية بل يشمل الإقرار بأن الأشياء والمخلوقات كلها ملك لله عز وجل وحده.
وتكرر الضمير (الهاء) في الآية ثلاث مرات وكلها تعود لله عز وجل، من وجوه :
الأول : في قوله تعالى [سُبْحَانَهُ] ومقام التنزيه لله عز وجل.
الثاني : الإخبار عن عائدية ملك السماوات والأرض جميعه لله عز وجل.
الثالث : في بيان حال الخضوع والخشوع التي عليها الخلائق قنوتاً وطاعة وحباً لله عز وجل.
وإذ جاء لفظ (ما) في الإخبار عن ملكية الله عز وجل للدلالة على لغة العموم وشمول العاقل وغير العاقل من الخلائق , وجاءت خاتمة الآية بلفظ (كل) وهو سور الموجبة الكلية وبلفظ (واو) الجماعة في (قانتون) لإفادة أن القنوت يتم عن وعي وإدراك، وفيه توكيد لإنتفاء موضوع الولد، لأن الخلائق منقطعة إلى طاعة الله عز وجل.
وفيها دعوة للناس جميعاً للإقتداء بالأنبياء في قنوتهم لله عز وجل، ترى ما هي النسبة بين أول الآية وما فيها من نفي الولد عن الله عز وجل وبين خاتمة الآية وما تتضمنه من الإخبار عن ملكية الله عز وجل لكل ما في السماوات والأرض، الجواب من وجوه:
الأول: تنزه مقام الربوبية عن البنوة والولد.
الثاني: إنذار وتحذير الذين يقولون بإن الله إتخذ ولداً لأنهم من ملك الله، وأمرهم بيده في النشأتين، قال تعالى [وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا]( ).
الثالث: توكيد غنى الله عز وجل عن الخلائق، وبيان فضله عليها.
الرابع: بطلان مقولة الولد، وإنتفاء موضوعها.
الخامس: دعوة الناس للإيمان ونبذ مفاهيم الشرك والضلالة.
التفسير الذاتي
إبتدأت الآية بالفعل(قالوا) وإرادة الزمن الماضي وصيغة الجمع، ويحتمل وجوهاً:
الأول: قول اليهود عزيز إبن الله.
الثاني: ما قاله النصارى مما حكاه عنهم القرآن [وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ]( ).
الثالث: قول مشركي العرب (الملائكة بنات الله) فجعلوا الملائكة بنات، ونسبوا بنوتها لله عز وجل.
الرابع: أقوال أخرى للمشركين والكفار صدرت في الأزمنة السالفة، ففي القرآن قصص الأمم السالفة، بما يفيد العبرة والموعظة، وهذا التوثيق وما فيه من النفع مدرسة للمسلمين وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) من وجوه:
الأول: حفظ ما في القرآن من قصص الأمم السابقة.
الثاني: تلاوة هذه الآيات.
الثالث: ذكر القرآن بصيغة الذم لنسبتهم الوعد إلى الله.
الرابع: هذا التوثيق من عمومات قوله تعالى[إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
الخامس: القرآن كتاب سماوي باق إلى يوم القيامة.
السادس: في هذه الآية دلالة على حاجة الناس للإسلام، ونزول القرآن وما فيه من تنزيه مقام الربوبية من نسبة الولد لله عز وجل.
السابع: جعل النفوس تنفر من مقولة ونسبة الولد لله عز وجل، والناس يبتعدون عمن يقول بها.
وهذه الآية من الشواهد على أمور:
الأول: إن الإسلام ومبادئه لم تنتشر بالسيف، بل بالحجة والبرهان.
الثاني: يتضمن القرآن والشريعة الإسلامية أحكام التوحيد، ونفي الشرك وأسباب الضلالة.
الثالث: حصول التحريف في الشرائع السابقة بإدعاء بنوة الأنبياء لله,مع أنهم حرصوا على نفيها، وأعلنوا عبوديتهم لله عز وجل , قال تعالى[لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ] ( )، وكان يخبر بني إسرائيل بأنه عبد الله فضلّه الله بالكتاب والنبوة( ) لمنع إفتتان فريق منهم به، وبما جاء به من الآيات الباهرات إبتداء من كلامه وهو في المهد.
ومن إعجاز الآية مجيء لفظ(إتخذ) أي أنه إختار من خلقه ولداً، وليس الولد بمعنى التولد والإنجاب، مما يدل على الإقرار الضمني عند الأمم بقوله تعالى[لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ] ( ).
وجاءت هذه الآية لتقضي وإلى الأبد على مقولة الولد لله عز وجل الباطلة، وتبين قبحها الذاتي والعرضي، ولزوم تنزه أهل الكتاب عن هذه المقولة، خصوصاً وأن القرآن ذكر في مواضع كثيرة الأنبياء وما رزقهم الله من الكتاب وجهادهم في سبيل الله عز وجل.
وفي الآية واقية وحرز للمسلمين من القول بالولد لله، وبيان لتعاهدهم سنن التوحيد وتنزيه الله عز وجل مما لا يليق به، وهو غني عن العالمين، وهذا التنزيه لمنفعة الناس أنفسهم من وجوه:
الأول: إنه مقدمة لعبادة الله.
الثاني: إنه من مصاديق عبادة الله.
الثالث: هو أثر من آثار العبادة.
الرابع: إنه من معاني العبودية والخشوع لله عز وجل.
الخامس : هو ضرورة من ضرورات إستدامة الحياة في الأرض.
وكانت دعوى الولد على قسمين:
الأول: ما ذكر فيها إسم كما في قوله تعالى[وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ]( ).
الثاني: ما لم يذكر فيها إسم، كما في مشركي العرب[وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا]( ).
وهل يمكن حمل القسمين على المطلق والمقيد، وأن الآيات التي تذكر الإسم مقيدة للآيات التي لا تذكر إسم النبي وإن كان نبياً.
الجواب على وجهين فتارة يراد المطلق والمقيد , وتارة يراد المشركون الذين يدّعون البنوة لله من غير تعيين، فجاءت الآية بصيغة الإطلاق والتنكير في الولد، لذم كل من يقول بإتخاذ الله ولداً، ومن إعجاز الآية أنها تضمنت رد وإبطال هذه المقولة، وهذا الرد متعدد من جهات:
الأولى: تنزيه الله من كل سوء، ومن موضوع البنوة والأبوة.
الثانية: أن كل ما في السماوات والأرض ملك لله عز وجل، والولد لا يكون ملكاً بلحاظ أنه فرع ونسب وقربى ، وفيه دلالة على أن الله عز وجل هو الغني عن العالمين.
الثالثة: الخلائق خاضعة ومطيعة لله عز وجل وليس منها من يقول أنه ولد لله لا بالنسبة للملائكة ولا الأنبياء، فمن أين هذه المقولة، إنها نوع إفتراء وكذب على الله، وسبب لصد الناس عن دخول الإسلام، فجاءت هذه الآية لفضحها وتكذيبها، وجعل الناس يصغون إلى آيات القرآن وما فيه من كشف الحقائق.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: الإخبار عن قول قبيح يتضمن الدعوى بأن الله عز وجل إتخذ من بين خلقه ولداً.
الثانية: هذه الآية دعوة للناس لدخول الإسلام مع التنزه من دعوى الولد وهو الذي تجلى في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى النجاشي وقيصر الروم التي تضمنت أن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم الزكية (أن الله لم يتخذ صاحبة ولا ولداً)، في إشارة إلى أن عيسى روح الله ورسوله وفيه نفي للبنوة وتنزيه لمقام الربوبية وذكر أن النجاشي أقر بما في الرسالة كما بعث النبي إلى اساقفة نجران،والمقوقس عظيم القبط في مصر.
الثالثة:ذم مشركي العرب الذين أضافوا البنات إلى الله عز وجل لأن لفظ عام في المقام.
الرابعة: تنزيه مقام الربوبية، وحث الناس على التسبيح والمواظبة على ذكر الله.
الخامسة: بيان ملكية كل الخلائق لله عز وجل، وليس من شئ إلا وهو مخلوق لله عز وجل.
السادسة: تشكر الخلائق الله عز وجل على نعمة الخلق بالقنوت والخضوع له سبحانه.
التفسير
قوله تعالى [وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ]
الواو في [وَقَالُوا] تدل على صيغة الجمع فاما ان يكون المقصود منها افراد جماعة او ملة معينة او تدل على التعدد في الملل نفسها، والأخير هو الأظهر للقرائن الكثيرة ولحكم العقل بل وللآيات القرآنية الأخرى.
لقد تكرر في القرآن ذكر قولهم هذا ونسبة الولد الى الباري عز وجل ومع التأكيد على نعته بانه افك، وانذرهم القرآن ووبخهم وابطل قولهم في نحو ست عشرة آية من القرآن وهذا التعدد في الذكر يدل على اهمية الأمر في ملاك الإصلاح وتهذيب العقائد، وتلك الأهمية تتعلق بابواب العقيدة والملل والسنن والسلوك بل وآثاره الكونية قال تعالى [ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا]( ).
والإد: المنكر العظيم، فموضوع هذه الآية اكثر خطورة وتعدياً وتتناول موضوعاً يتصف بالتعدي والخطورة وفيه افتراء، فقد تضمنت الآيات المتقدمة في الجملة اساءتهم للمسلمين وبيوت العبادة والعقيدة، اما هذه الآية فبينت صيغ التطاول وتعدد وجوه التعدي وخطورتها والا فان الكتب السماوية كلها تنفي الولد عن الله سبحانه.
وفي الآية جهاد مركب للمسلمين يحثون ويجاهدون ويقومون بنبذ المعتقدات الفاسدة وما ترشح من وجوه الكفر على الملل السابقة للإسلام فبعد ان ادعوا انتساب بعض انبيائهم بالبنوة للباري عز وجل دفعت بهم العصبية والتعنت الى ادعاء البنوة لهم على نحو الإنتماء للدين [ وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ]( ) مما يدل على التمادي في الإفتراء والأفك اذ ان طول ملابسة المعصية وموارد الشبهة يقود للاخطر والأسوأ والأدهى فصار التصدي لهذه الأقوال وفضحها ضرورة وحاجة فابتدأ القرآن في جهادها دليلاً ومرشداً.
قال تعالى[لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا]( )، أي لو أراد الله إتخاذ ولد لأمتنع هذا لأنه سبحانه منزه عن الجسيمة والأعراض وإستجالة مسألة الفرع والأصل، قال تعالى في الثناء على نفسه[لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ]( )، ولأن الخلائق كلها بعرض واحد بالنسبة إليه، ولو أراد الله يتخذ ولداً فيقف الأمر عند إصطفاء وإختيار بعض خلقه، وظنت طائفة من المشركين أن هذا الإصطفاء والإختصاص يحمل صبغة الولدية جهلاً وحسداَ.
قوله تعالى [سبْحَانَهُ]
يقال سبحت الله تسبيحاً: أي نزهته تنزيهاً، وفي التهذيب: سبحت الله تسبيحاً وسبحاناً بمعنى واحد، فالمصدر تسبيح والاسم سبحان يقوم مقام المصدر.
(عن ابن شميل: رأيت في المنام كأن انساناً فسر لي سبحان الله فقال: اما ترى الفرس يسبح في سرعته، وقال: سبحان الله السرعة اليه والخفة في طاعته)( ).
ولكن علوم القرآن واسرار كلماته ومضامينها القدسية أعم وأدق من ان تؤخذ من اخبار عن منام ولفظ سبحان متعلق بالله عز وجل، وليس بغيره وحالته في السرعة إليه، وفي اللغة وعلم التفسير والتأويل مندوحة وسعة وغنى عن اللجوء الى توثيق رؤى ومنامات قد تبتعد في بيانها عن الاحاطة بجلالة المعنى القدسي المبارك للفظ القرآني، بالاضافة الى انعدام التثبت من صحة المنام ومن ثم الوصول الى تحديد القسم الذي تنتمي اليه من اقسام الرؤيا وهل هي صادقة ام لا، ومن جلالة علوم القرآن واحكام الشريعة انها خالية من المنامات واعتبارها في الحجية، نعم رؤيا الأنبياء وحي.
وعن الازهري: قيل ان العرب تقول: سبحان من كذا اذا تعجبت منه وزعم ان قول الاعشى في معنى البراءة ايضاً:
اقول لما جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر( )

وسبحان معرفة لانه علم للبراءة، كما تقول شتان اسم علم للتفرق ولو كان نكرة لانصرف، وقد اجتمع فيه الالف والنون مثل عمران وعثمان مما يمنع من صرفه، ولا يضر باصل القاعدة وروده منوناً نكرة في بيت شعر كما في قول أمية:
سبحانه ثم سبحانا يعود له

وقبلنا سبحّ الجودي والحمد( )

ويقال سبح الرجل” أي قال سبحان الله، وفي التنزيل [ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ]( ) ، واختلف في سبحان هل هو مصدر سبح، ام سبح – بالتشديد، والاقوى هو الثاني، وقيل انه علم جنس.
ومن صفاته تعالى ( السبوح، القدوس ) وهو المنزه عن كل نقص وسوء، والقدوس المبارك، وقيل ليس في كلام العرب بناء على فعول بضم اوله غير هذين الاسمين الجليلين، ولا يستعمل سبحان الا لله عز وجل لأنه المنزه عن جميع النقائص.
وسبحات وجه الله: انواره وعظمته، وقال جبرئيل عليه السلام: (ان لله دون العرش سبعين حجاباً، لو دنونا من احدها لاحرقتنا سبحات وجه ربنا).
وعن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه . يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل . حجابه النور لو رفع الحجاب لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره( ).
وقد ورد لفظ [سُبْحَانَ] في القرآن احدى وخمسين مرة، وتعتبر مدرسة في تقديسه وتعظيمه ودفع الوهم والضلالة عن النفــوس، ودعـوة للجوء الى التوحيد والتقديس المطلق لمقام الربوبية.
ان تنزيه الباري سبحانه بمناسبة ذكر ادعائهم البنوة عليه يدل على ما في هذه الفرية من الظلم والتعدي والشرك، فالنسبة بين الأب والإبن هي التساوي والإتحاد في الجنسية والماهية، وواجب الوجود ليس له ماهية، كما ان النسبة بين الخالق والمخلوق هي التنافي، وكذا ذات النسبة بين واجب الوجود والممكن الحادث.
قوله تعالى [بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]
بعد ان بينت الآية السابقة ان المشرق والمغرب لله عز وجل جاءت هذه الآية لتخبر عن عائدية كل الموجودات له تعالى في ملكيتها، وملكيته سبحانه تختلف عن ملكية البشر والمتعارف لعناوين الملكية، انها خضوع وخشوع واستجابة الأشياء له جميعاً.
فيمكن القول ان بين ملكه تعالى للأشياء وملك الناس لها عموماً وخصوصاً من وجه، فمادة الإلتقاء عنوان الملكية، ومادة الإفتراق انها بالنسبة لملك الباري تعني الخالقية والخضوع، وبالنسبة للناس فهي الحيازة من غير تأثير مستديم، والصورة الغالبة فيه ان المالك يموت قبل انعدام الملك وان كان هذا المالك وارثاً، في آية منه تعالى وعبرة للناس لبيان التباين في الملكية، وان اطلاق عنوان الملكية على ما يحوزون انما هو من باب المجاز وليس الحقيقة الواقعية.
و(في) حرف جر له عدة معان اشهرها الظرفية، والزمانية او المكانية، وترد للمكان على نحو الحقيقة او المجاز، وهي في المقام حقيقة، والآية لا تعني ان الملكية تنحصر بما في السماوات والأرض دون السماوات والأرض ذاتهما بل انها تفيد التوكيد والإطلاق، وقد وردت آيات بيانية لها كما في قوله تعالى [ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ]( ) وقوله تعالى [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
وتدل الآية على عظيم الحجة والبرهان، فقولهم يتعلق بقضية شخصية، اما النقض والإبطال فجاء ببيان عظيم ملكه تعالى واطلاقه، كما انه يؤكد تنزهه تعالى عن الولدية، ويدل بالدلالة الإلتزامية على التوبيخ والذم لمن يدعي عليه سبحانه ما لا يليق به من الصفات.
فالآية بيان لحقيقة ثابتة وهي ان كل شيء منقاد لله سبحانه ويعود في ملكيته للباري عز وجل، وليس من ازلي وقديم الا الله عز وجل، وبينه وبين خلقه التباين، فالخضوع والقنوت صفة المكلفين، كل مشغول بالعبادة، لماذا تنعتونه بصفات الولدية والبنوة ووظيفة الإنسان الدائمة هي العبادة والتسبيح والدعاء، وقد اقام الإمام علي الحجة بقوله: “لولا تمرد عيسى عن عبادة الله لصرت على دينه، فقال النصراني: كيف يجوز ان ينسب ذلك الى عيسى مع جده في طاعة الله، فقال علي عليه السلام: فان كان عيسى إلهاً فالإله كيف يعبد غيره، انما العبد هو الذي يليق به العبادة( ).
والآية نوع تحقير لمن يدعي وينسب البنوة له تعالى ازاء مقام الربوبية في دعوة مخلصة الى نفي الولدية عن الباري وعدم استحقاق احد لها بل هي سالبة بانتفاء الموضوع.
ترى لماذا لم تقدم الآية الإخبار عن ملك الله للسموات والأرض، فلم تقل الآية له ما في السموات والأرض كل له قانتون وقالوا إتخذ الله ولداً) لبيان إقامة الحجة عليهم وخالفوا وظيفتهم العبادية، الجواب من وجوه:
الأول : جاءت الآية للإحتجاج وإقامة البرهان.
الثاني : في الآية دعوة للمسلمين للجهاد في سبيل الله بالموعظة والدليل، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الثالث : موضوعية سياق الآيات في نظم الآية، فبعد أن جاء قبل آيتين الإخبار عن تعدي الظالمين على المساجد وبيوت الله، وجاءت الآية السابقة بالإطلاق بملك الله وعائدية ما في الشرق والغرب له سبحانه، جاءت هذه الآية لنفي ما يخالف قانون العائدية والملك هذا وتكذيب أهل الإفتراء والجهالة.
الرابع : من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، التعدد والتقديم والتأخير في كلمات الموضوع الواحد، وقد ورد تقديم الإخبار عن ملك الله المطلق على نفي الولدية عنه، قال سبحانه[الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا]( ).

بحث بلاغي
كثيرة هي الآيات التي تتضمن الإخبار عن عائدية ملك السموات والأرض لله تعالى ولكنها جاءت بالفاظ متقاربة فقوله تعالى [مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] جاء في احد عشر موضعاً من القرآن.
وورد قوله تعالى [مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] في تسع مواضع منه، وقوله تعالى [مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ] جاء في اربع مواضع.
وقوله تعالى [مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] في ثمانية وعشرين موضعاً ولابد ان هذا التباين اللفظي في بعض كلماته له دلالات وهــو دعــوة للبحــث والتحقيق باستعراضها مجتمعة ومتفرقة.
وقوله تعالى [ما فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] مما جاء في القرآن على احد عشر حرفاً أي موضعاً، ولابد لهذه الكثرة والتعدد من دلالات عقائدية وانها تتضمن معارف الهية تؤكد بديع صنعه وعظيم قدرته سبحانه , وتجعل المسلمين يستحضرون هذه الحقيقة كل حين ويذكرونها على نحو التلاوة في الصلاة اليومية.
قوله تعالى [كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ]
بيان لمفاهيم الملكية الإلهية للمخلوقات جميعاً وان الخشوع والخضوع أمران ملازمان للملكية للباري عز وجل، لقد وصفوا الملائكة وعزيزاً والمسيح بالبنوة فجاءت الآية لتنفي هذه الصفة مطلقاً عن الله.
واضافتها كي لا يقال ان الولد لابيه أيضــاً كما في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحدهم : انت ومالك لأبيك، وبلحاظ كلمة التنزيه [سبْحَانَهُ] فالخلائق كلها محتاجة له واحتياجها بعرض واحد لأن الإمكان يشملها جميعاً على نحو العموم الإستغراقي وليس هذا فقط بل انها في فعلها وعملها تكون متوجهة له دائماً بالخشوع.
وعن ابن عباس قانتون: مطيعون( )، وقال السدي: كل له مطيع يوم القيامة وعن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت و قوموا لله قانتين فأمسكنا عن الكلام( )، ولكن الآية اعم وتتعلق ببدء الخلق واستدامته ووجوده .
وعموم القنوت ينفي المماثلة والمجانسة وينفي الولدية، ويظهر العموم بلحاظ اللغة بتنوين كل لأنه علامة حذف المضاف اليه: أي كل ما في السماوات والأرض من غير استثناء، فيدخل معهم قهراً وانطباقاً من جعل ولداً لله عز وجل لأن التنوين اذا رجع الى الإسم كما كان له قبل الإضافة صار الإسم نكرة فيفيد الإطلاق والقضية المهملة.
بحث بلاغي
أنشأت الآية باباً للتغليب في علم البلاغة، ومن تغليب العاقل على غيره، ولكن دلالات الآية أعم ف(ما) جاءت لتقع على العاقل وغير العاقل، اما اطلاق صفة القنوت على المخلوقات فالإشارة الى ان الله عز وجل جعل عندها ما يكفي للطاعة والخشية منه تعالى.
وفي الآية تعظيم لمقام الربوبية واستصغار وقهر للخلائق لتبقى دائمة الطاعة والإستجابة والإمتثال لأمره تعالى كما في السماوات والأرض [قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ]( )، دلالة التكثر والتعدد والقول عن فهم وادراك، ففي حال التلبس في القنوت يكون لدى الخلائق جميعها من الإدراك ما يكفي لصدق الفهم والإستجابة الإختيارية، وبذا تظهر الملازمة بين بلاغة القرآن وأسرار آيات التوحيد ومفاهيم علم الكلام، فمن اعجاز القرآن ان بلاغته طريق الى علوم اخرى ومدرسة لاشتقاق مسائل عقلية متعددة.
وفي قسم اطلاق اسم العام وارادة الخاص من باب المجاز ذكرت هذه الآية وان المراد منهم اهل طاعته، لا الناس جميعاً , حكاه الواحدي عن ابن عباس وغيره، وقال الفراء في معاني القرآن يريد مطيعون، وهذه خاصة لأهل الطاعة ليست عامة، ويمكن حمل الكلام على حقيقته ايضاً بالمعنى المناسب للقنوت سواء كان لغوياً او اصطلاحياً.
بحث كلامي
وكان القرآن ولا زال اماماً في الجهاد، اقتدى به المسلمون واتبعوا هداه ولا زلنا تحت رايته في مختلف الميادين، وحضوره الدائم عندنا ووجوده سواء كان وجوداً خارجياً عينياً أي ما هو متأصل متفق عليه تترتب عليه آثاره ولوازمه، او وجوداً ذهنياً تتحقق به صورة الشيء المطابقة له في الذهن، فهذا الوجود وان كان وجوداً غير متأصل وبمنزلة الظل للجسم الا ان حضور المفاهيم القرآنية التي تنفي الولد عن الله تعالى في الذهن تكون واقية وسلاحاً يمنع من الإنفعال والتأثر بالأكاذيب التي يأتي بها هؤلاء، فبالقرآن علمنا انها اباطيل وتنعكس على الجوارح والسلوك.
وبتتبع الآيات الخاصة المتعلقة بها نستطيع ان نتبين المخاطر الجسيمة المترتبة على القول بالبنوة والولدية، وترى الحاجة العالمية في عموم الأرض الى الإسلام، ويمكن ان نجري من ثناياها دراسة مقارنة بين الإسلام وغيره بصدد هذا الموضوع، وقد يحسبون ان الأمر هين وان نسبة الولد الى الباري عز وجل ليست معصية بالإضافة الى تهاونهم في الدين.
فحينما قال بعضهم باتحاد لاهوتية الباري مع ناسوتية عيسى عليه السلام، والناسوت طبيعة الإنسان في مقابل اللاهوت، وانهما صارا وجوداً واحداً، ثم تجرأ البعض من الناس وظنوا عدم المانعية من القول بالحلول في ابدانهم، وهناك من اتبعهم واتبعوهم في هذا القول فجنحوا كثيراً عن مسار القرآن، فقد قال بعض الغلاة: انه تعالى اتحد بعلي عليه السلام، وقال جماعة من المتصوفة: انه اتحد ببعض العارفين، وتجرأ احدهم فقال: سبحاني ما اعظم شأني.
إن الله تعالى غني لا يحتاج مطلقاً والحاجة من صفات الإمكان، ووجوب الوجود ينفرد به سبحانه وهو مستغن عن الولد فكل شيء جاء بفيض فضله واحسانه ومنه تصدر الأشياء واليه تعود، بارادته ومشيئته كان كل شيء، ان الأشياء جميعاً بعرض واحد من حيث استجابتها وحدوثها لأمره سبحانه لإنفراده دون غيره بالإرادة والمشيئة المطلقة وإنعدام الحاجة.
ان الذين قالوا [اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا] لم ينكروا الربوبية ولم يثبت انهم ارادوا بهذا القول الشرك الصريح او التركيب او الإثنينية في واجب الوجود، بل ان الجهل وضعف الإيمان قادهم الى هذا الوهم والخطأ وما يترتب عليه، لذا كان قوله تعالى [لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ]( ) نفياً للولد مطلقاً ووجود هذا القول قبل البعثة لأهميته وللإبتلاء به.
وقولهم [ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ] هل المراد منه الولد حقيقة، ام الإتخاذ على نحو التشريف والإكرام والزلفى، فقد ذكر ان جماعة من النصارى قالوا بان عيسى ولد الله حقيقة، وفريق آخر منهم قالوا ان الله اتخذه ولداً اكراماً له ونظروا بمنظار الحياة البشرية، فقد يتخذ عندهم الإنسان ولداً بالتبني والضم اليه ليكون عوناً له.
والظاهر ان المراد من اتخاذ الولد هنا المعنى الأعم لاستحقاق كل من القولين الذم، وربما اراد بعضهم الإكرام لمقام الربوبية لأنهم قاسوا على المعايير المتعارفة عند الناس وانهم كانوا ينظرون بعين العيب والنقص الى من لم يكن عنده ولد منهم، ولعل بعضهم اراد المدح والتعظيم في نسبة الولد اليه سبحانه، ولم يعلموا انه خلاف الحق والواقع ويتنافى مع آيات التنزيه لله عز وجل، فهو غير محتاج، ووجود الولد علامة الشبه والإشتراك في بعض الصفات وهو عنوان الحاجة المستقبلية والوراثة، فالأب يحتاج ابنه في مواطن الكبر والعجز، والإبن يرث مقام ابيه وهذا كله في الممكنات وافراد الحادث، وقد جاءت الأدلة العقلية والنقلية بامتناع الجسمية ولواحقها عليه، وصفاته تعالى صفات كمال وتمام فالنقص والحدوث منتف عنه.
بحث عقائدي
ان الأفكار والقيم تأتي تارة دفعة واحدة او ما يلحق بالدفعة مما لا يضر عرفاً بالإتصال والموالاة، ومنها ما يأتي على نحو تدريجي وتدخل الهي، وهذه الآية تثبت ان هذه الحقيقة جاءت للمسلمين دفعة واحدة على نحو بسيط غير مركب وواجب الوجود بسيط، وتقبلها المسلمون بقبول حسن ولم يقولوا بفكرة الولد، فذكرها القرآن لأن فيه[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ولمنع مثل هذه الإفتراءات، ولوضع القواعد العقائدية الكلية التي تتغشى المسلمين خاصة والناس عامة وتعينهم على صدق العبودية وتمنع من التمادي في الغلو والزيغ , وهو لا يتعارض مع نزول القرآن نجوما وصيغة التدرج في الأحكام , وهذه القواعد مقدمة مباركة لكثير من الأحكام والسنن الشرعية .
بحث أصولي
بغض النظر عن ان دلالة دعوى الولد على الشرك الصريح او لا، فهم يقولون بها مع اقرارهم بالربوبية والعبودية لله عز وجل ولكن تلك الدعوى تجريء قبيح عقلاً، يقال اجترأ في القول أي اسرع بالهجوم عليه من غير تردد، والإسم الجرأة.
أما في الإصطلاح الأصولي فأن التجري عبارة عن اتيان فعل مع تخيل مخالفته لأمر المولى، أي انه لم يعتقد ويقطع بان الفعل مخالف لأوامره تعالى.
وقد ذكر في مباحث مصطلحات الأصول ان النسبة بين التجري والمعصية الحقيقية هي التباين، والأقوى عندي ان النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه، لأن موضوع الإلتقاء هو التجري نفسه حقيقة كان او تخيلاً، فبافطار يوم الشك مثلاً مع اعتقاد وجوب صيامه يتحقق التجري دون المعصية الواقعية .
والمعصية هي افطار يوم من شهر رمضان ملتفتاً الى وجوبه فيتحقق العصيان.
وتدل أفراد التجري ايضاً بمراتبها التشكيكية المتباينة على الجرأة على المولى سواء وافقت الواقع او خالفته، أي انه اعم مطلقاً من المعصية، فقولهم ان لله عز وجل ولداً ذو قبح عقلي ذاتي ومقاصد خبيثة وهو المسمى بالقبح الفاعلي، بالإضافة الى ما فيه من مضامين ومعاني سيئة باعتبار أنه قول وعمل وهو المسمى بالقبح الفعلي، فموضوعه اكثر وأوسع من الإرادة الذاتية للعبد، لأنه قول ينم عن إعتقاد أي انه أمر اختياري مما يستلزم العقاب، وللملازمة بين القبح الفعلي والحرمة الشرعية، ولأن العقاب والعذاب اعم من الشرك فيستحق قائله العقاب وان لم يشرك بالله تعالى.
إنه نوع هتك لمقام الربوبية ويدل على غرور وعتو العبد وابتعاده عن ربقة العبودية لله عز وجل مما يستلزم العقاب، فربما ترك المكلف المصلحة الواقعية وغفل عن الواجب، او وقع في مفسدة واقعية وجاء بالحرام نسياناً وسهواً او قصوراً لا تقصيراً، ومع هذا فانه لا يستحق العقاب لحديث الرفع ونحوه، ولكنهم هنا تركوا الإنقياد اذ ان الكتب السماوية كلها تنفي وجود الولد له سبحانه.
وتركهم للإنقياد مركب لمخالفةته هذه الدعوى والإفتراء لما جاءت به الكتب السماوية وما يحكم به العقل، وللمعصية بعدم الإنقياد لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولوجوب إتباعه، مع ان الله عز وجل خفف عنهم ويســر للناس طــرق الهداية بالآيات الباهرات التي جاء بها ومنها هذه الآية التي تفضح ما يضمرون من مقالة باطلة.

قوله تعالى[بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] الآية 117.

الإعراب واللغة
بديع: خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، وقيل بديع: مبتدأ .
السموات: مضاف إليه مجرور، والأرض: الواو حرف عطف، الأرض: إسم معطوف على السموات مجرور، وإذا: الواو: حرف عطف، إذا: ظرف للمستقبل يتضمن معنى الشرط.
قضى: فعل ماض مبني على الفتح المقدر، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو.
أمراً: مفعول به منصوب.
فانما: الفاء: رابطة لجواب الشرط، وإنما: كافة ومكفوفة، يقول: فعل مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو.
له: جار ومجرور متعلق بـ (يقول)، كن : فعل أمر، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت، فيكون: الفاء حرف عطف لربط السبب والمسَبب، يكون : فعل مضارع تام مرفوع بالضمة ، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو.
والفاء في [فَيَكُونُ] سببية، فوجود الشيء بسبب قوله تعالى [كُنْ فَيَكُونُ] وظاهره صيغة الأمر الا انه جاء على نحو الخبر، وبديع بمعنى المبدع كالسميع بمعنى المسمع وهو فعيل بمعنى فاعل، ولكن فيه مبالغة لأن استحقاقه الوصف يكون على نحو الإستدامة والإطلاق ولا ينحصر بذات الفعل وفيه بالدلالة التضـــمنية اخبار عن المشيئة الإلهية والتوســعة في الخلــق , قال تعالى [ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ]( ).
والإبتداع هو الإنشاء والإختراع من غير مثال أي ان خلق السماوات والأرض آية تتحدى في كل يوم الخلائق , وتدل على وجود الصانع وان لا احد يستطيع الإنكار وما من احد الا وهو ممن ضمته السماوات والأرض، ومن اسمائه تعالى (البديع) لإحداثه واختراعه الأشياء كلها ابتداء من غير شبه سابق وقدرته الدائمة على الإبداع مطلقاً.
فالآية في خلق السماوات والأرض مركبة من ذات الخلق ومن الإبتداع من غير مثال مع اتصافها بالدقة والإتقان.
وسماء كل شيء: أعلاه وسقفه، وسماوات هو الجمع مشتقة من سما يسمو أي ارتفع وعلا وقيل: كل ما اظلك وعلاك يصح ان يطلق عليه سماء، وفي لسان العرب: والسماء التي تظل الأرض انثى عند العرب لأنها جمع سماءة، والسماء تذكر وتؤنث والتذكير هو الغالب وفي التنزيل [السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ] ( )، ولم يقل منفطرة( ).
والقضاء: القطع والحكم والإلزام، وقضى الأمر: اي اتمه واحكمه، وكن فيكون من كان التامة أي احدث فيه حدثاً.
بحث بلاغي اعجازي
من وجوه الإيجاز الاعجازية في القرآن ما أطلق عليه اسم التضمين، وهو حصول معنى من اللفظ من غير ان يكون دالاً عليه، وهو اكثر وضوحاً مما يسمى في علم الاصول بالمفهوم في مقابل المنطوق، وقد يلتقي معه احياناً وهو على نوعين، فقد يفهم من بناء الكلمة كما في قولك مسموع فلابد من وجود سامع، او من معنى العبارة كما في قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ]، أي انه تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض، فالابتداع من غير مثال يعتبر فرعاً ومحمولاً للموضوع الأصل وهو خلقهما وايجادهما.
والتضمين من إعجاز القرآن بلحاظ أنه إيجاز غير مخل بالبيان ويتجلى باحاطة كلمات القرآن المحدودة وهي (77439) باللا محدود من الوقائع والأحداث , وكل آية من القرآن تتضمن التأديب وسبل الهداية والرشاد، ويتضمن قوله تعالى[بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] حقائق لا تحصى من أفراد الخلق والإبداع التي تفضل الله عز وجل بها بمشيئته فكل كوكب ونجم وشجر ومدر وحجر ونبات وذي روح هو مما إبتدعه الله عز وجل بأبهى وأجمل هيئة، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، وقال الله في التحدي في بديع وإعجاز القرآن[قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( ).
ولو إجتمعت الجن والإنس على إحصاء أفراد قوله تعالى[بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] فهل يستطيعون بلحاظ أن الإحصاء أسهل من الإنشاء والإيجاد , الجواب لا ، لأن آيات وأفراد بديع صنع الله أعظم وأوسع من أن تعدها الخلائق كما أنها إنشطارية وإنحلالية على نحو متجدد.

في سياق الآيات
بينما دلت الآية السابقة على نفي الولد عنه تعالى، وأكدت خضوع كل شيء له، جاءت هذه الآية لتبين سعة الربوبية وانها تشمل ايضاً الخلق والإيجاد وان قدرته تعالى دائمة مستديمة.
وفي الصلة بين هذه الآية والآية السابقة[وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا…]( )، مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : بديع السموات والأرض وقالوا إتخذ الله ولداً) أي أنى يكون ولد للذي خلق إبتداء المخلوقات كلها، وقد وردت الآيات في خلق آدم من طين والناس كلهم من نسله وذريته، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( ).
الثاني : بديع السموات والأرض له ما في السموات والأرض.
الثالث : له ما في السموات والأرض وإذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون.
الرابع : كل له قانتون وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون.
الخامس : بديع السموات والأرض كل له قانتون.
السادس: وإذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون وقالوا إتخذ الله ولداً سبحانه.
الثانية : الجمع بين الآيتين من مصاديق تعذر إجتماع المتضادين للتباين بين الملكية وإتخاذ الولد لأن ذات الخلائق كلها ملك لله عز ، وهو سبحانه الذي خلقها وأنشأها من العدم، قال تعالى[هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا]( ).
الثالثة : لم يترك الله عز وجل الخلائق وشأنها بعد خلقه لها بل جعل كل فرد منها خاضعا خاشعا لله عز وجل , وهذا الخضوع والخشوع مما تنفرد به ملكية الله للأشياء، لتكون خصائص ملك الله على وجوه , منها:
الأول : الإطلاق والعموم في ملك الله.
الثاني : التصرف التام في الملك , وعدم وجوه موانع تحول بين الله عز وجل وملكه.
الثالث : إمتثال كل فرد من ملك الله له سبحانه.
الرابع : عبادة وخشوع الخلائق لله , قال سبحانه[يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ).
الخامس : إستدامة ودوام ملك الله.
السادس : الله عز وجل الذي أنشأ ملكه من العدم , وغيره يأخذ ملكه بالحيازة.
السابع : الملك بيد المخلوق إما أن يخرج من يده، أو يموت ذات المالك، ويحتاج كل مالك التوكل على الله، وتفويض الأمر له سبحانه، قال سبحانه[وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ]( ).
الثامن : يغيب الملك عن المالك أو أن المالك يغيب عن ملكه، وينام ويغفل عنه، أما ملك الله فهو حاضر عنده دائماً، قال تعالى[اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ]( ).
التاسع : الله عز وجل مالك المُلاك، فكل إنسان وما يملك ملك لله عز وجل.
العاشر : لا يقدر الإنسان أن يعدم ملكه كالأرض أو يستطيع في بعض الموارد مع المشقة كالهدم والخسارة والضرر، أما ملك الله عز وجل فهو مستجيب له بقوله وحكمه تعالى الواردفي هذه الآية(كن فيكون).
الحادي عشر : ملك الله دعوة للناس للهداية والإيمان، وكل فرد منها آية مركبة أي ذات الفرد الواحد يتضمن آيات من بديع صنع الله.
قانون الإعجاز في سياق الآيات
لقد أودع الله عز وجل نظم الآيات أسراراً إعجازية تبعث على الإيمان وتساهم في التنزه من مفاهيم الشرك، وفي هذا الإعجاز وجوه:
الأول: إنه من إعجاز القرآن.
الثاني: من إعجاز نظم وسياق الآيات.
الثالث: من الإعجاز الخاص أن جمع الآيتين والثلاثة له دلالات خاصة وتتجلى عند جمعها والتحقيق في وجوه الصلة والترابط بينها إفاضات وعلوم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق ما في سياق الآيات من الإسرار والعلوم والكنوز، وفيه فتح لأبواب من العلم غير متناهية، وتدعو العلماء إلى نهل إقتباس الدروس ومعاني الحكمة منها، ومن وجوه الإعجاز في هذه الآيات إخبار الآية قبل السابقة بان المشرق والمغرب لله عز وجل.
وجاءت الآية السابقة بنفي الولد عن الله، وتوكيد ملكيته لكل السماء والأرض وما فيهما ، لتأتي هذه الآية لتخبر بأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض، أي أن ملكيته لها لم تأت بالإنتقال في الملك، فلا يقدر غير الله أن يخلق أو يملك أو يتعاهد مثل السماوات والأرض، وليفيد الجمع بين الآيات الثلاثة أن الله عز وجل خالق ومالك كل شئ في السموات والأرض قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ]( )، ويجب تنزيه مقام الربوبية من مسألة الولد.
كماجاءت هذه الآية ببيان قدرة الله عز وجل على كل شئ من غير تدبير فهو سبحانه منزه عن التفكير ونحوه، وفيه جواب على كيفية خلق الله للسموات والأرض، بإنه لا تستعصي عليه مسألة، وأن ملكيته تعالى للسموات والأرض ليست مجردة، بل ملكية تصرف وتدبير وإدامة وتعاهد والخلائق قابلة للزيادة والسعة.
وبه جاءت خاتمة الآية قبل السابقة [إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( )، ومن الدلالات الباهرات في سياق الآيات أن الآية تتصل في المعنى بما قبلها وما بعدها من الآيات، وبآيات كثيرة في ذات السورة والسور الآخرى من القرآن، ليكون هذا الموضوع سياحة وغوصاً في خزائن القرآن لإخراج اللآلئ والدرر.
وجاءت الآية التالية في ذم أهل الجهالة الذين أرادوا أن يكلمهم الله وينزل عليهم آية خاصة بهم ليؤمنوا ، وقال تعالى [تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ]( )، في إشارة إلى ما جاء في الآية السابقة من ذم للذين قالوا إن الله إتخذ ولداً، ولم تكتف الآيات بذم الكفار.
بل أختتمت الآية التالية بمدح المؤمنين الذين يصدقون بالتنزيل مطلقاً السابق منه واللاحق أي الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل، أما اللاحق فهو القرآن فليس من كتاب غيره منزل معه أو من بعده، وجاء المدح والثناء مع الجزاء العاجل بأن الله يبين لهم الآيات ويأتي لهم بالدلالات الباهرات ليزدادوا إيماناً , قال تعالى [قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ]( ).
وقد يأتي الجمع بين مضامين الآيات المتجاورة في آية واحدة أخرى وفي سورة أخرى من القرآن كما في موضوع هذه الآية والآية السابقة إذ جمعه قوله تعالى في سورة الأنعام [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ]( ).
وفيه زجر ومنع من إدعاء عدم وجود صلة بين الآية محل البحث والآية التي قبلها، وترغيب للعلماء ببحث موضوع سياق الآيات الذي أسسنا له ولأول مرة في الإسلام باباً في تفسير كل آية بفضل الله عز وجل( ).
ولم يرد لفظ (بديع) في القرآن إلا في هاتين الآيتين وفيه إعجاز آخر لسياق الآيات، وما دام الله عز وجل قد خلق الأجسام كلها فانه سبحانه منزه عن صفة الجسمية، وعن إتخاذ الولد لأنه من عالم المادة والأجسام.
وقد جاءت آيات القرآن بإن الله عز وجل خلق آدم من تراب ولم يقل أحد من الناس أنه إبن الله، وخلق عيسى من غير أب مع وجود أمه وهي مريم مما يدل بالأولوية القطعية أنه ليس إبن الله بل عبده ورسوله.
إعجاز الآية
تدل الآية على عظيم صنع الباري وانه لم يخلق ويبدع عن سابق شبه ومثال وهذا ايضاً من القدرة، والأشياء كلها حادثة بأمره تعالى، وان خلقها لا يحتاج الى طول جهد وعناء وتدبر او فعل مركب بل هو أمر بسيط يتعقبه مباشرة من غير فارق زماني او فعلي وجود الأشياء وحضورها وتمامها.
والآية وان كانت تكذيباً ورداً للدعوى الباطلة بنسبة الولد لله تعالى فانها تبين ايضاً عظيم صنعه وبديع خلقه، انها مناسبة للإحتجاج عليهم وهي ايضاً تثبيت للإيمان في صدور المسلمين وتحذير لهم من الاصغاء الى تلك الأقوال وهي دعوة كريمة لهم كي يتوجهوا الى التدبر في آياته تعالى ووجوب عدم الانشغال التام بالرد على دعواهم فقط، وبيان بطلانها، كما تعطي الأولوية في الاهتمام لعقيدة التوحيد، فهي السلاح الذي يدفع تلك الدعاوى ويمنع تأثيرها ويكون واقية وحرزاً لما يستحدث منها.
وناقش بعض المفسرين خطاب [ كُنْ ] للمخلوق قبل دخوله في الوجود، وانه باطل لأن خطاب المعدوم حال عدمه سفه، كما ذكره في مفاتيح الغيب الفخر الرازي المتوفي سنة606 للهجرة، واشار اليها الطبرسي المتوفي سنة 548 للهجرة بقوله: انه بمنزلة التمثيل لأن المعدوم لا يصح ان يخاطب ولا يؤمر( ).
ولكن هذا الأمر والخطاب وحده معجزة وآية وجزء من الإبداع في الخلق والتكوين خارق للنواميس وفق القواعد العقلية، اذ لو لم يكن معدوماً لما صح عليه الإبداع بلحاظ ان الخلق اعادة للإيجاد واستحداث للكيفية فقط دون الماهية والوجود، ثم ان العدم منتف بقضائه تعالى فبعد القضاء والحكم الإلهي لم يعد معدوماً والله يعلم به منذ الأزل سواء على القول أن علمه عين ذاته.
ويتوجه الخطاب في الآية للشيء المبتدع وليس من فاصل بين الأمر منه تعالى وبين وجود الشيء، كما ان الآية جاءت على نحو الاخبار وبيان قاعدة كلية كونية تكوينية، والأمر (كن) يدل على التكوين والإيجاد، فالآية ليس فيها اشارة الى السمع بل الى الإستجابة والإمتثال في باب الإيجاد، لذا صدق عليه ابداع وخلق.
وقد يأتي الأمر متأخراً عن الخلق كما في قوله تعالى [ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ]( ) فجاء الأمر متأخراً عن الخلق والإيجاد المادي كما هو معروف في خلق آدم، (وانه ابقاه الله اربعين يوماً يمر به ابليس يدخل في جوفه ويقول لأمر ما قد خلقت لأن أمرت بالسجود لك لا اسجد)، وان كان الخلق المادي يوجد هو الآخر بكاف ونون.
وفي الآية ورد القضاء بالشيء قبل الأمر به، وهذا القضاء لا يعني انه لم يكن في علم الله، او انه ليس من العدم، بل هو متعلق بأوان الحكم والكيفية كأن يكون نفخ الروح في آدم متأخراً زماناً ورتبة عن خلقه، فان قلت ان السماوات والأرض لم تخلق الا في ستة ايام كما ورد في سبع آيات من القرآن [ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ]( ) وهي غير أمره تعالى (كن فيكون)، فهل الواو استئنافية في قوله تعالى [واذا]، الجواب: لا، من وجوه:
الأول : ان الأمر كن فيكون من حيث القدرة والإرادة شامل لجميع الأشياء على نحو الإستجابة والإنقياد، وله تعالى ان يأتي بالأمر دفعياً كما هو ظاهر الآية أو على نحو التدريج في المركب.
الثاني : الايام الستة لا تعني الخلق التدريجي المتواصل، فالأقرب ان السماوات والأرض ايضاً خلقها الله تعالى بكن فيكون الا ان الأمر بها لم يكن واحداً بل متعدداً وفي آية منه تعالى وحكمة في الخلق.
الثالث : ان التفصيل في اعجــاز الآيات القرآنية بالدلالة الإلتزامية وفي مفهومه على نفي التحريف في كتاب الله عز وجل ونفي الزيادة عنه.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية (بديع السموات) ولم يرد لفظ (بديع) في القرآن إلا مرتين ، قال تعالى[بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ]( ).
الآية سلاح
الآية سلاح تأديبي للمسلمين وعون لهم على الإحتجاج على المشركين ممن يتلبس برداء الكتاب المنزل واتباع الأنبياء السابقين وفيها اثبات للصانع وتحد وتوكيد للبعث والنشور وامكانه بعد الاخبار عنه واستدامة الثواب والعقاب بأمره تعالى، وهي ايضاً تخويف وتحذير، فمن القدرة الإعدام والعقوبة والزجر.
وتدل الآية على وجود الصانع، ولزوم عبادته، واللجوء اليه في قضاء الحوائج، والآية سلاح ضد مفاهيم الضلالة والإلحاد، ومدرسة كلامية تساعد المسلمين في الإحتجاج وإقامة الحجة في لزوم الإقرار بالتوحيد، والتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها إشارة إلى نصر المسلمين على أعدائهم، وظهور دولة الإسلام لما فيها من البيان عن سعة قدرة الله عز وجل.
وتبعث مضامين الآية الرضا والسكينة في نفس المسلم والمسلمة، لإنقيادهنا لله الذي خلق السموات والأرض إبتداء، وإخارعهما من غير تفكر وتدبير، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وفي الآية تأديب للمسلمين بتنزيه مقام الربوبية عن دعوى الولدية، وزجر عن التفكر في الذات المقدمة ودعوة للتفكر في بديع مخلوقاته ودلالتها على التوحيد ووجوب الإنقياد والطاعة لأوامر الله.
مفهوم الآية
الآية تذكير ببديع صنعه سبحانه ودعوة لمعرفة الخالق بلحاظ عظم مخلوقاته وما يدل عليه من انفراده بالقدرة والجبروت، كما انها تؤكد قانون التغيير والتبدل في الآفاق والآيات الكونية بامره تعالى، وتثبت حقيقة كلامية وهي انه سبحانه لم يترك العالم وشأنه بعد خلقه بل انه سبحانه يتعاهده وله المشيئة فيه.
لذا فمن مفاهيم الآية الإخبار عن اتصال فضل ورحمة الله على العباد وان مقاليد الأمور بيده سبحانه، لتكون الآية دعوة للجوء اليه تعالى في قضاء الحوائج وتحقيق الرغائب.
ومن مفاهيم الآية إنحصار خلق ونشأة الكون بالله تعالى، فليس من خالق ومالك للسموات والأرض غير الله عز وجل، وفيه دعوة للناس بالتوجه إليه سبحانه بالعبادة والدعاء وسؤال الرزق، قال تعالى [هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] ( )، ومن عظيم قدرة الله عز وجل أنه ذكر صنعه وخلقه للسموات والأرض في جملة واحدة، وفيه وجوه:
الأول: إن الله بديع السموات، لم يخلقها عن مثال سابق.
الثاني: الله عز وجل بديع الأرض، فليس من أرض قبلها.
الثالث: إبتدع الله عز وجل كل جزء من أجزاء السماوات والأرض وكل جزء منها من صنع الله أنشاه الله من غير إحتذاء مثال سابق، قال تعالى[وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ]( ).
وكل هذه الوجوه صحيحة وليس من تعارض بينها، وفيه شاهد على ان الإختراع والإستحداث في الخلق يستغرق ويشمل كل أجزاء السماوات والأرض مع أنها كثيرة ومن اللامتناهي ويعجز الناس عن إحصائها فضلاً عن معرفتها والإحاطة بها.
ليكون معنى الآية الله بديع ما تعلمون وما لا تعلمون وهو الذي يخلق ويبتدع غيرها بالكاف والنون.
وفي الآية مسائل:
الأولى: الآية حرز للمسلمين من الغلو بالأنبياء والإفتتان بالآيات وإلى جانب الذين الذين قالوا إتخذ الله ولداً وهم من أهل الملل السماوية السابقة .
فمن الناس من عبد الشمس ومنهم من إتخذ القمر إلهاً مع أن الله عز وجل رماه بالزيادة بعد النقيصة، والضمور بعد الظهور، وتكرار الأمر كل شهر لتنبيه الناس عموماً، والغافلين منهم على نحو الخصوص ومنهم من قال بالوهية الملائكة، فجاءت الآية لبيان أن الجميع خلق داخر لله، وهو الذي أنشأهم وإخترعهم فلا يجوز عبادتهم لإلتقائهم مع الإنسان في النشأة والإختراع وأنهم مخلوقون لله عز وجل إلى جانب معاني التفضيل التي إتصف بها الإنسان كما يتجلى في جعل آدم خليفة في الأرض وسجود الملائكة له، وتسخير مافي السماوات والأرض للإنسان قال تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ]( ).
الثانية: بيان إستجابة المخلوقات لله تعالى، وصيرورة العدم وجوداً بأمر الله عز وجل.
الثالثة: إتصاف القدرة الإلهية بالخلق بالأمر وحده من غير تهيئة الأسباب والمقدمات فيأتي الشئ العظيم من اللاشئ بأقل من طرفة عين.
الرابعة: من وجوه الإبتداع والإختراع في قدرة الله وعظيم صنعه سبحانه عدم توقف الخلق والإنشاء، ويدل على إستمراره مجئ الآية بصيغة الجملة الشرطية [َإِذَا قَضَى أَمْرًا] لأن إذا ظرف لما يسقبل من الزمن فلم تقل الآية (إذ قضى) بلحاظ أن إذا ظرف لما معنى من الزمان، وفي مجئ الاية بلفظ (إذا) شاهد على إستمرار الخلق وعالم التكوين،، وفيه دعوة للمسلمين للدعاء وسؤال النصر والرزق الكريم من الله عز وجل.
الخامسة: بيان عظيم قدرة الله عز وجل وتعاهده السماوات والأرض والتوسعة فيهما.
السادسة: تدل الآية على أن الله الأول قبل كل شئ وأنه ليس من خالق قبله، بل هو الذي خلق الأشياء جميعاً، وأن القدرة المطلقة أزلية عنده سبحانه فهو القادر على كل شئ في الأزمنة السابقة واللاحقة، والمقدرة وغير المقدرة.
الآية لطف
أول ما ينجذب اليه فكر الإنسان هو خلق السموات، ويتأمل في خلقها ويكثر من السؤال عنها، ومع بدايات نمو مداركه العقلية يسأل والديه وأقرانه وغيرهم فلا يجد جواباً وافياً إلا ما يشير إلى إبتداعها ونشوئها بأمر الله عز وجل.
فجاءت هذه الآية لطفاً بالكبار والصغار من الناس، وبالمؤمنين والكفار لما فيها من الإخبار والتفسير لخلق السماوات والأرض، وبيان عظيم صنع الله، ووجوب عبادته، فعندما يقف العبد بين يدي الله عز وجل في الصلاة، فانه يدرك الجواب على تأمله وتفكره، وفي الصلاة طمأنينة وسكينة له، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
لقد جاءت الآية مدحاً من الله عز وجل لنفسه، وبياناً لقدرته الواسعة، وحجة على الناس في لزوم عبادته، وإجتناب المقولات الباطلة ونسبة الولد أو البنات له سبحانه.
إن إبتداع السماوات والأرض لطف محض من عند الله، ولا ينحصر موضوع اللطف بذات السماوات والأرض إذ أنه متعدد وعلى وجوه:
الأول: إنتفاء وإبتداع السماوات لطف بها بالذات.
الثاني: إبتداع السماوات لطف بالأرض.
الثالث: خلق السماوات لطف بالملائكة إذ أنها صارت محلاً لسكن الملائكة وقربها من العرش.
الرابع: إبتداع السماوات لطف بالناس والدواب.
الخامس: إنه لطف بالخلائق كلها.
وكذا ذات الوجوه أعلاه بالنسبه لإبتداع الأرض، وما فيها من الأنهار والبحار، وما عليها من الجبال، وهذا اللطف مستديم ولا ينحصر بزمان دون آخر.
إفاضات الآية
لقد تجلت قدرة الله عز وجل بصنع وإختراع السماوات والأرض بأبهى هيئة وكيفية، لتكون آية دائمة تشهد على بديع صنعه، وعظيم قدرته في تعاهدها.
ومن الآيات أن الله عز وجل لم يخلفها لذاتها فقط، بل جعلها وعاء وسكناً لعبادة الذين يسبحون له ويواظبون على شكره سبحانه لذا فزع الملائكة إلى الله عز وجل حينما أخبرهم بأنه جعل آدم خليفة في الأرض [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] فقد إلتجأوا إليه تعالى بذكر تسبيحهم وتعاهدهم لتقديسه تعالى الربوبية وتنزههم على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي من سفك الدماء أو الإفساد، فقال الله سبحانه في الرد عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
إن ذكر القرآن لإبتداع وإختراع الله عز وجل للسموات والأرض من غير مثال مناسبة للدعاء واللجوء إليه سبحانه، وأخرج عن إبن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما ألقي يوسف في الجب أتاه جبريل عليه السلام فقال له : يا غلام ، من ألقاك في هذا الجب؟ قال : إخوتي.
قال : ولم؟ قال : لمودة أبي إياي حسدوني . قال : تريد الخروج من ههنا؟ قال : ذاك إلى إله يعقوب . قال : قل اللهم إني أسألك باسمك المخزون والمكنون ، يا بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والاكرام أن تغفر لي ذنبي وترحمني ، وأن تجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً ، وأن ترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب . فقالها ، فجعل الله له من أمره فرجاً ومخرجاً ورزقه ملك مصر من حيث لا يحتسب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألظوا بهؤلاء الكلمات ، فإنهن دعاء المصطفين الأخيار( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
أختتمت الآية السابقة بالإخبار عن قنوت وتسبيح وطاعة كل ما في السماوات والأرض لله عز وجل، بقوله تعالى [كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ] جاءت هذه الآية بصفة أخرى لله عز وجل، وبيان لعظيم قدرة وسلطانه، وأنه سبحانه يخلق من غير مثال يحتذى، وأنى يكون المثال وهو الذي ينفرد بالقدم، وما من شئ إلا هو خلق له، والخالق سابق للمخلوق قال تعالى [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ] ( ).
وفي كل من أحدث شيئاً أبدعه، ولكن الإبتداع الذي جاءت به الآية أمرخاص بالله عز وجل من جهة عدم الإحتذاء بأحد أو خلق آخر، وعدم محاكاة ما أبدعه الله عز وجل، فكل إنسان يبتدع شيئاً، يأتي غيره ليحاكية إختراعه وما إبتدعه، ووقد يفوق ويزيد عليه، إلا إبتداع الله عز وجل فانه فريد لاتستطيع جميع الكائنات أن تحاكي جزء يسيراً منه ولو إجتمعت بأجيالها المتعددة.
فمع أن الملائكة خلق عظيم، ولهم قدرات عجيبة وخارقة إلا أنهم يعجزون عن أي شئ قل أو كثر من بديع صنع الله، لذا تراحم منفعين للذكر والتسبيح والدعاء وهل خلق آدم من بديع صنع الله، الجواب نعم من وجوه:
الأول: إن آدم من إسكان الأرض، وقد خلقه الله في الجنة.
الثاني: جاء خلق آدم من غير مال من قبله.
الثالث: جعل الله عز وجل آدم في أحسن وأبهى هيئة، قال تعالى [خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
الرابع: علم الله تعالى آدم عليه السلام الٍماء التي عجز الملائكة عن معرفتها، إلى أن أخبرهم الله عز وجل بها.
الخامس: أمر الله عز وجل الملائكة بأن يسجدوالآدمعليهالسلام.
السادس: أن آدم من عمومات مافي السموات والأرض التي إشارات إليها الآية.
السابع: جاءت هذه الآية الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن خلاله، إلى الناس لإعانتهم على أداء وظيفتهم التي خلقوا من أجلها وهي عبادة الله بالكيفية التي يأمر بها سبحانه، قال تعالى[ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
لقد أراد الله عز وجلأن يعلم الناس بأن مافوقهم وما تحتهم هو من بديع صنع الله، وأن مقاليد المور بيده تعالى لذا جاء الشطر الثاني من الآية ليؤكد إستمرار عظيم قدرته ودوام ملكه للسموات والأرض، فبالإضافة إلى أنه سبحانه بديع السماوات والأرض فانه المتصرف بها، وله فيها المشيئة المطلقة، ولايستطيع غيره أن الفصل فيها.
وفي الآية بشارة وإنذار ، بشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة وظهور الإسلام وتثبيت الشريعة في الأرض، وإنذار للكافر والمشركين، فان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قضاء وحكم الله عز وجل في العالمين، وقد وعده الله بالنصر ولاتستعصي على الله مسألة، وهلنزول الملائكة فيبدر وأحد لنصرالمؤمنين من عمومات قوله تعالى [كُنْ فَيَكُونُ]الوارد في خاتمة هذه الآية الجواب نعم.
لذا جاءت البشارة والوعد الكريم بنزولالملائكة من غير زمان وفترة لطي المسافة بين السماء والأرض قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
التفسير الذاتي
جاء لفظ (بديع) مرتين في القرآن، وكلاهما وصف لله عز وجل وفيه نكتة كلامية، وهي أن الإبتداع خاص بالله عز وجل وحده كما وردت مادة (أنشأ) في القرآن إحدى وعشرين مرة، وبصيغة الفرد والجمع كلهاتفيد وتنسب النشأة لله عز وجل سواء في نشأة الجنان والأشجاء والناس والخلائق قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( ).
ويتضمن وصف الله عز وجل في القرآن بأنه [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] المدح والثناء عليه سبحانه لعظيم قدرته، ولما في هذا الوصف الكريم من البيان الذي يجذب الناس إلى العبادة، ويكون برزخاً بينهم وبين المعاصي.
وجاءت صفة وهي (بديع) وليس مبدعاً، لإختصاصه بذات الإبداع فلا ينافسه ولا يشاركه فيها، ولإفادة الإطلاق في إلابداع والإختراع الإلهي، وإستمرار وإستدامة صفة الإبداع عنده , وتدل عليه صيغة المضارع بالكاف والنون .
وجاء قوله تعالى [وَإِذَا قَضَى أَمْرًا] لإفادة حرف العطف (الواو) التعدد والمغايرة، وأن ما يقضيه الله عز وجل غير إبتداع وإنشاء السماوات والأرض بدليل صيغة المضارع في الآية.
وهو لا يمتنع من خلق السموات والأرض بذات الأمر اي بالكاف والنون، فان قيل أن الله عز وجل يقول [وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ]( )، فانه لا تعارض بين الأمرين، لأن كل جزء من أجزاء السماوات والأرض خلقه الله عز وجل بالكاف والنون وفيه دعوة للتدبر في مخلوقات الله عز وجل والإقرار له بالعبودية وأن الخلق والإنشاء عليه سهل يسير، واللغوب هو الإعياء.
وقيل نزلت الآية أعلاه في الذين قالوا: خلق الله السموات والأرض في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة وإستراح يوم السبت وإستلقى على العرش.
ذكرت الآية السابقة وهذه الآية السموات والأرض، فأخبرت الآية السابقة بعائدية السماء والأرض لله عز وجل، وأنهما ملك طلق له سبحانه، ونفت عنه تعالى الولد بلغة التنزيه (سبحانه).
وجاءت هذه الآية بتوكيد أمور منها:
الأول: إن الله هو خالق السماوات والأرض.
الثاني: لم يأت خلق السماوات والأرض عن مثال سابق بل جاء إبتداء من عند الله عز وجل.
الثالث: حسن وبهاء كل من السماوات والأرض.
الرابع: بيان عظيم قدرة الله عز وجل.
الخامس: تنزيه مقام الربوبية الذي جاءت به الآية السابقة بقوله تعالى(سبحانه) .
وكما أخبرت الآية السابقة بأن السماوات والأرض ملك لله جاءت هذه الآية للإخبار بأنها فيض ولطف وإختراع وإنشاء من عنده تعالى، لم يشاركه أحد في خلقها ولا في ملكه، وفي الجمع بينهما دليل على حاجة الخلائق لله عز وجل فإنه سبحانه منشأ ومبدع الخلائق وإليه يعود أمر الممكنات بقاء وعدماً.
وورد قوله تعالى[فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( )، ثلاث مرات في القرآن في بيان قدرة الله عز وجل في خلق عيسى من غير أب( )وبيان أن الحياة والموت بيد الله عز وجل( ) مما يدل على أن الكاف والنون آية في قدرة الله عز وجل في الموجودات والمعدومات، والمقدر وغير المقدر، فليس من ثمة مقدمات وأسباب ومستلزمات في الخلق، وإن الإبتداع الإلهي لا ينحصر بالسماوات والأرض فيشمل خلق الإنسان سواء في عيسى أو في خلق آدم من قبل، قال تعالى[خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ) ولفظ أحسن يفيد التفضيل وهو شاهد على الإبتداع والإختراع.
ومن خصائص خلق الله عز وجل أن يأتي إختراعاً وإبتداعاً، ومن الإعجاز في هذه الآية أنها تتضمن وجوهاً ومنافع عديدة، منها:
الأول:الإحتجاج على الذين قالوا إتخذ الله ولداً.
الثاني: إن سلطان الله عز وجل بخصوص السماوات والأرض لا ينحصر بملكها، بل يشمل إبتداعه وخلقه لها بأجمل وأحسن صورة.
الثالث: في الآية دعوة للتفكر في خلق السماوات والأرض وما فيهما من الأسرار والكنوز والنعم.
الرابع: خلق السموات والأرض من عظيم قدرة الله عز وجل.
الخامس: في الآية إنذار وتخويف للكفار والظالمين، وتمنع الآية من الإنشغال بمقولة الولد، وتدعو إلى التدبر في قدرة الله وبديع صنعه.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: في الآية جواب على سؤال مقدر وأمر يدور في خاطر الإنسان وهو كيف ومن أين جاءت السماوات، فقد ينظر الإنسان إلى حاله وولادته من أبوين، وإلى الثمر كيف ينمو على الشجر، والطيور التي تتكاثر عن طريق البيض، فجاءت الآية ببيان أن السماوات والأرض جاءت بإنشاء وإختراع من الله عز وجل.
الثانية: ثناء الله عز وجل على نفسه ببيان عظيم صنعه.
الثالثة: الآية حرب على الشرك والضلالة، فما من شئ في السماوات والأرض إلا هو خلقه الله عز وجل.
الرابعة: إن الله ينشئ الأشياء إبتداعاً من عنده من غير مثال يحتذى.
الخامسة: دعوة الناس للتفكر في خلق الله، والتدبر في آياته وإنذار الكافرين الذين يجحدون بالآيات.
السادسة: في الآية مدح للمسلمين الذين يقرون بالعبودية لله عز وجل وأنه حالق السماوات والأرض، قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ]( ).
السابعة: عدم إستعصاء مسألة على الله،فهو سبحانه قادر على كل شئ.
الثامنة: بيان كيفية خلق الله للأشياء وأنها بالكاف والنون، وفيه دعوة للناس للتسليم والإقرار بالتوحيد.
التاسعة : تأكيد حقيقة التوحيد وانتفاء الشريك والوزير والمعين، إذ تبين الآية أن الله عز وجل لم يشاركه أحد في إيجاد الخلائق.
التفسير
قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ]
الملازمة في المعنى والمفهوم ظاهرة بين هذه الآية والآية السابقة، وفيها فضل منه تعالى يتعلق بوجوه ومضامين الإحتجاج على الذي يدعي على الله عز وجل زوراً وينسب له ما لا يليق به من الأفعال والصفات.
انها بيان لكيفية وتركيب الخلائق ابتداء واستدامة، واشعار بان قولهم هذا انما هو راجع الى الخلل في فهم فلسفة الكون واصل وجوده والنسبة بين بعضها والبعض الآخر، والتباين بينها وبين الباري عز وجل بلحاظ خلقه وإيجاده لها وقدرته عليها، خالقاً ومخلوقاً، وقادراً ومقدوراً عليه، وآمراً ومستجيباً، وقديماً وحادثاً، تلك نسب ووجوه لا تنفي الولدية فقط بل تدعو الى الإقرار بالربوبية والى الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعتبارها الطريق الوحيد الذي يدل الناس على النهج القويم.
وباضافة صفة المبالغة [بَدِيعُ] الى أمره تعالى تتجلى دلالة على الأمر وسرعة الإيجاد وتكوين الأشياء لا من فكرة سابقة وحصولها مجتمعة من غير استغراق في وقت الإيجاد والخلق مع انعدام الممانعة والمدافعة، والإيجاد لابد ان يكون متعقباً لهما فهو يدل على حدوث الأشياء وان لا تحدث الا بعد تمام هذا اللفظ المتكون من حرفين والصادر منه تعالى بارادته ومشيئته او انه عنوان الخلق والإبداع والجعل والتكوين.
وكيفية الحدوث ليس بالقول فالولد لا يأتي بكن فيكون انما هو عملية فعلية تحتاج الى فعل والله منزه عن هذا الفعل فحينما يكون وجود الشيء بالإرادة والأمر اذن لا يصدق عليه صفة الولدية، وكن كناية عن أمره تعالى وحكمه، فالأشياء لا تستجيب لمادة كن المتكونة من الحرفين الكاف والنون بل تستجيب لأمر ومشيئتة الله.
وفي الوقت الذي تجلى الإبداع بآية في الخلق ترى الذم والتحذير من البدعة في الدين، ففي الحديث: كل مُحَدثة بدعة) ( )، لما فيها من المخالفة لأحكام الشريعة لأن الشريعة بعد تكاملها لا تتقبل البدعة .
ودعا داعي في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اللهم إني أسألك باسمك الذي لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم ، بديع السموات والأرض ، وإذا أردت أمراً فإنما تقول له كن فيكون ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لقد كدت أن تدعو باسمه العظيم( ).
ومنهم من قرأ [ بَدِيع ] مجروراً على انه بدل من الضمير (له) في قوله تعالى [لَهُ مَا في السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ]( ).
ومنهم من قرأها بالنصب على المدح وهي قراءة شاذة.
وقيل(ولاستثقال جَمع الأرض لم تُجْمَع في القرآن، وجُمِعت السماء، حيثُ أُريدَ جمعها؛ قال تعالى: “ومن الأرض مثْلهنّ”، ولاسْتثقال اللُّب لم يقع في القرآن، ووقع فيه جمعُه وهو الألباب لخِفَّتِه)( )، ولا دليل على عدم ذكر الأرضين بصيغة الجمع لإستثقال هذا اللفظ، ولم يثبت هذا الإستثقال، وعلى فرض وجوده فإنه يزول بالتلاوة وصبغة القرآنية، بل لابد من دلالات للجمع والإنفراد في المقام منها سعة السماء، وتجلي شطر من دلالات جمع السموات وإفراد الأرض بالإكتشافات العلمية، وبلوغ الإنسان منذ قرون إلى أقصى الأرض وعمارته لمشارقها ومغاربها، وبحثه عن مواضع غير مأهولة لإستعمارها.
أما السماوات ففي كل يوم تظهر فيها مجرات وكواكب جديدة تبعد ملايين السنين الضوئية إلى جانب السعة فيها، فقطر الشمس مثلاً يبلغ نحو 109 مرات ضعف قطر الأرض وكذا بالنسبة لورود لفظ الألباب دون المفرد اللب، ففيه وجوه:
الأول: تأكيد وجود أمة مؤمنة في كل زمان.
الثاني: لما إحتجــت الملائكــة على جعــل آدم خليفــة في الأرض[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاء الإحتجاج عليهــم من الله عز وجل بالقول والمصداق الخارجي فقال سبحانه[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وهذا المصداق متعدد وعام منه ما كان ساعة الإحتجاج بتعليم آدم الأسماء للملائكة، ومنه ما كان متجدداً في خلافة الإنسان الأرض بأداء الصلاة اليومية والعبادات والفرائض الأخرى، ومنه الكثرة والتعدد في أولي الألباب والعقول الذين يتلقون الدعوة إلى الإسلام بالقبول، والأوامر الإلهية بالإمتثال، ليكون من رد الله عز وجل على الملائكة وجود أمة متكثرة تعبد الله عز وجل وتتنزه عن الإفساد في الأرض وسفك الدماء.
الثالث: في جمع لفظ الألباب إخبار عن وجود أمة مسلمة في كل زمان وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وأن المسلمين أمة عظيمة في كل زمان تخرج للناس بلغة العقل والحكمة ومعجزات النبوة والقرآن، وأن الناس يفقهون هذه اللغة ولو على نحو الموجبة الجزئية.
قوله تعالى [وَإِذَا قَضَى أَمْرًا]
الواو في [وَإِذَا] للإستئناف، لمجئ جملة شرطية بعد الخبرية، مما يعني ان الخلق مستمر ومتصل في بيان عظيم قدرته تعالى ودفعاً للوهم ودعوة للدعاء والتدبر في الآيات الكونية وغيرها، وجواب سماوي متقدم على الإرتقاء الحالي في العــلوم الفلكية بان الخلق بيده تعالى، وان ادلة القرآن تفيد التوســعة بذات الأمـر الذي ابتدع به السـماوات والأرض، فالآيــة شــاملة في اخبارهــا لما تقدم من آيات خلقه، ومنها كيفية خلق الســماوات والأرض بدليل قوله تعالى [فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ]( ) أي خلقهن وصنعهن، اما القادم من الخلق فيدل عليه قوله تعالى [وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( ) .
وهذه الآية ايضاً جاءت على نحو القضية المهملة والمطلقة، وفيها نكتة وهي فتح باب الدعاء بشأن الخلق والإيجاد.
وقضى الشيء قضاء: صنعه وقدره، واصل القضاء: القطع والفصل، (وقال اهل الحجاز: القاضي معناه في اللغة القاطع للأمور المحكم لها)( )، والأمر له معنيان:
الأول: الطلب والإيحاء بالفعل من العالي الى الداني ويجمع على أوامر .
الثاني: بمعنى الشيء ويجمع على امور، والمراد من الأمر في الآية هو المعنى الثاني، الا انه لا يمنع من افادته المعنى الأول ايضاً لتعلق الآية بالإيجاد والخلق.
قوله تعالى [فَإِنَّمَا]
تفيد انما الحصر واثبات ما بعدها ونفي ما سواه، أي ان أمر الله تعالى لا يكون تدريجياً او انه عن هم وتفكر وتهيئة للأسباب والمقدمات لوجود المقتضي وفقد المانع، فقدرته تعالى مطلقة، ويستحيل تخلف شيء عن الإستجابة لأمره تعالى.
وتختلف (انما) عن ادوات النفي والإستثناء في القصر، (فانما) تستعمل فيما يكون معلوماً عند المخاطب مما لا يدفع صحته ولا يستطيع انكاره، سواء للبيان او التوكيد او الحجة او الاثبات او التنبيه او التقرير، والآية جاءت في مقام الإحتجاج ونفي الولدية مما يعني ان الناس وبما جعل الله عز وجل عندهم من نعمة العقل يعلمون بانه سبحانه لا يخلق الا ب(كن فيكون).
قوله تعالى [ كُنْ فَيَكُونُ]
بعد تفضل الله بذكر ابداعه السماوات والأرض جاءت هذه الآية لتبين عظيم قدرته وتمام صنعه والكمال في كيفية الخلق والإيجاد ببيان الطريقة الإعجازية التي ينفرد بها سبحانه في كيفية الإيجاد، سواء كان الأمر كبيراً او صغيراً، وذكر السماوات والأرض يشير الى أولوية خلق ما هو اصغر منهما.
كن: يتكون من حرفين احدهما وهو الكاف متقدم على الآخر، ويفيد معنى الإيجاد، وذهب جماعة من المعتزلة والأشاعرة الى الكلام النفساني وهو الحاصل في النفس وغير المؤلف من الحروف والأصوات الصادرة الى المخاطب والمأمور عليه، وقيل ان الألفاظ تدل على كلام النفس تحقيقاً ولدلالتها عليه تسمى كلاماً ايضاً بتقدير كن: فيكون اللفظ لفظ الأمر والمراد الخبر كقولهم في التعجب اكرم بزيد فاذا لم يكن الفعل في معناه بصيغة الأمر لم يجز ان ينصب الفعل بعد الفاء بانه جواب الا ان تتبع حركته اللفظ بغض النظر عن المعنى المباين فيصح حينئذ النصب في [فَيَكُونُ] على قراءة ابن عامر وهي خلاف قراءات القراء الآخرين.
وهل من موضوعية للفظ[كُنْ]، الجواب: ان الإعتبار والموضوعية لأمره تعالى ومشيئته، وهذا اللفظ يدل على سرعة الإيجاد على نحو ابتداعه للسموات والأرض ولبيان انفراده تعالى بالقدرة على الخلق من غير أسباب ومقدمات وسعي، وفيه اخبار بلغة المضارع عن التكوين أي ان الإبداع والخلق متصل ومستمر ويدل عليه صفة (بديع) وشواهد اخرى من القرآن، فليس من خاتمة بعد في بناء السماء على ظاهر اللفظ الأمر الذي يؤكده الرصد والإكتشافات الفلكية وعلم الهيئة.
وذكرت في المقام ثلاثة وجوه:
الأول: أن المعدوم لايصح أن يخاطب، ولايؤمر، ولكنه بمنزلة التمثيل، وهو قول أبي علي الجبائي وأبي القاسم وجماعة.
الثاني: أنه علامة جعلها الله للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً، عن أبي الهذيل( ).
الثالث: لما كانت الأشياء المعدومة معلومة عند الله تعالى صارت كالموجود، فصح أن يخاطبها ولما شاء إيجاده منها كن( )، ومال الطبرسي إلى القول الأول وقال إنه الأشبه بكلام العرب.
ولكن معنى الآية أعم من هذه الوجوه الثلاثة، ويحمل الكلام العربي على ظاهره إلا مع الدليل والقرينة على الخلاف، ولأصالة الظاهر وهي من القواعد العقلائية، ففي الآية دليل على أن الخلق والإنشاء أعم وأكبر من أن تحيط به عقول البشر وعالم التصور والقياس، فالله عز وجل ينشئ الموجودات بالأمر وتكون بأحسن هيئة وحال، وهذا الحسن من مصاديق الإبتداع الذي ذكرته الآية فقوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] فيه أمور:
الأول: إن الله أنشأ الخلائق من غير مثال يحتذى.
الثاني: ليس لها مادة وماهية سابقة بل جاءت من اللا شئ، فلم تكن حالة في محل.
الثالث: لولا خلق الله للسموات والأرض، لما إستطاعت الخلائق تصورها وإستحضارها في الوجود الذهني.
الرابع: خلق الله عز وجل السماوات والأرض بأحسن وأبهى هيئة، وأدق نظام، وأكمل صنع.
وهذا التعدد في الحسن والعظمة في القدرة من مصاديق وعمومات لفظ (بديع) وما فيه من الأسرار والمعاني، ولا تستقرأ هذه الأسرار من اللفظ وحده، بل من الموضوع وهو خلق وإنشاء السماوات والأرض وما فيه من المضامين القدسية، والإعجاز والآيات التي تدعو الناس إلى عبادة الله، وتسهل لهم الإستدلال على التوحيد، والخضوع والخشوع لله سبحانه .
إذ تتصف الآيات بالإبداع بحسن الإنشاء والفطر وإنعدام شبه والمثيل إبتداءً وإستدامة فمن معجزات الأنبياء الحسية ما قد تأتي بالكسب العلمي والإرتقاء في الصناعات والتقنية، ولكن خلق الله عز وجل ليس له نظير، كما في خلق السموات والأرض، وكيفيته بالكاف والنون.
ويحتمل قوله تعالى [َفيكُونُ] أموراً:
الأول: الصيرورة وبداية الإنشاء.
الثاني: الصيرورة وإستمرار الوجود.
الثالث: تعاهد الخلق الذي يأمر الله عز وجل به.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق القدرة الإلهية فما كانت السماوات والأرض لتبقى لولا حفظ الله عز وجل لها، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ]( )، وفيه دلالة على الإلتقاء والتشابه بين السماوات والأرض في حفظ الله لها، وإشارة إلى أن الأرض ليست مستقرة وثابتة في مكان واحد بل هي كالسماء في الحاجة إلى أن يمسك بها الله عز وجل ويمنعها من التدحرج أو الإنسياخ بأهلها.
فلا ينحصر موضوع قوله تعالى [فَيَكُونُ] بالخلق وحده بل يشمل التعاهد والحفظ والمسك والمنع من الزوال، لذا فمن إعجاز هذا اللفظ أنه جاء بصيغة المضارع لتجدد الخلق وإستدامة حفظ الله للسموات والأرض ويحتمل هذا الحفظ وجوهاً:
الأول: يكون الحفظ بذات الأمر[كُنْ فَيَكُونُ].
الثاني: مجئ اللفظ بأمر آخر من عند الله عز وجل وهذا الأمر على شعب:
الأولى: الأمر إلى الملائكة بحفظ السماوات والأرض، كل حسب وظيفته.
الثانية: أمر الله عز وجل لذات السماوات والأرض بالثبات والسير وفق النظام الذي أراده الله عز وجل لها.
الثالثة: الأمر من الله عز وجل لكل جرم وجزء من أجزاء السماوات والأرض بوظيفته الكونية، لتشترك الأفلاك والأجرام في بقاء الجميع، بإعتبار أن الكل والمركب لا يبقى إلا ببقاء الأجزاء.
الثالث: تجدد الأمر الإلهي في حفظ السماوات والأرض في كل من آنات الليل والنهار من غير أن يكون فيه نصب أو عناء، قال تعالى [وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا] ( ).
الرابع: مجئ الحفظ بذات أمر التكوين وإتصاله وإستمراره بفضل الله.
وظاهر الآيات أن حفظ السماوات والأرض غير خلقها، والظاهر هو الرابع وهو من بديع خلق الله وعظيم صنعه، ولأن الحفظ أمر مستديم ينبسط على الخلائق من ساعة وجودها، وجاء الإخبار عن الخلق بصيغة الماضي [وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ] ( ).
بينما جاءت الآيات التي تدل على الحفظ بصيغة المضارع كما في آية الكرسي أعلاه، والحفظ أعم من التعاهد، فيشمل المنع من إصطدام الأفلاك، قال تعالى [وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ]( ).
بحث فلسفي
القدرة عند الإنسان ملكة تعني الإستطاعة في اتيان الفعل فلا يستطيع الإختراع والإحداث الا بها، فهي دلالة على التمكن من التصرف، اما قدرة الله تعالى فهي خلق او ايجاد او اعدام من غير ان تتعلق بافعال العباد فهي صفة قديمة.
وهناك فرقة تسمى القدرية تنسب افعال الخلق لهم ولا تجعل لله تعالى فيها مشيئة ولا تدبير بما في ذلك معنى العالم.
اما الجبرية فهي التي ارجئتها الى الله تعالى وهم يعتقدون بأن الخير والشر كله بتقدير الله تعالى ومشيئته.
جاءت هذه الآية لبيان وجه كريم من وجوه قدرته تعالى يتجلى للناس والخلائق كل يوم وهو خلق السماوات والأرض، وفيها بيان وتوكيد بان العالم حادث وان المؤثر فيه هو قادر مختار، كما تعني في دلالتها التضمنية نفي الواسطة بين الخالق والمخلوق لأن الحدوث شامل للممكنات جميعاً، فالمراد من العالم هو كل موجود سوى الله تعالى، فالواسطة معدومة قطعاً.
وتبين الآية ان الله تعالى قادر على كل مقدور ولا تستعصي عليه مسألة، فعمومية العلة تستلزم عموم الصفة وتبين حاجة كل ممكن الى الله واستناده في وجوده وبقائه اليه تعالى سواء كان جزئياً او كلياً، موجوداً على نحو الجوهر المتحيز بالذات كالجسم والكوكب او على نحو العرض القائم بالغير كالألوان والروائح والحياة والموت والعلم باعتبار ان العرض ممكن حل في موضوع.
بحث فلسفي آخر
قسم بعض الفلاسفة الغربيين الماديات وغيرها بلحاظ نوع ادراكها الى قسمين:
الأولى : الكيفيات الأولية وهي التي لا تدرك الا بالواسطة ومن المفاهيم غير المادية واجب الوجود والنفس والروح، والمادية مثل الشكل والطول. وكأن العقل يدرك جملة من المفاهيم ومن غير مدخلية للحواس.
الثانية : الكيفيات الثانوية وهي التي تدرك بالحواس مباشرة مثل اللون والطعم والرائحة.
وقد يتداخل الإدراك العقلي والحسي أو يكون أحدهما مقدمة للآخر لا بمعنى ان ما يدركه الحس يتحول الى مفهوم عقلي فبينهما في الواقع نوع مغايرة في الكيفية وان تعلقا معاً بموجود شخصي واحد فكيف وقد جاءت الآية بذكر مصاديق متغايرة الأشخاص لما كان متحداً في كليته ومنها ما افترق وتعدد، أي ان التغاير مركب ومتعدد في الممكنات وجهة ادراكها عند الإنسان لإتمام الحجة واقامة البرهان وتيسير أمر الإيمان في آية قرآنية من الكريم المنان، ومعه قد لا يبقى في المقام اعتبار تام لما شاع في الفلسفة من فقد حساً فقدَ علماً.
فالإنسان اذا فقد أحد الحواس وحُرم من نوع من الإدراك او المعرفة فان الآيات متعددة ومختلفة، بل ان ذلك الحس في مقام الحجة لم يُفقد الا على نحو السالبة الجزئية، اذ يمكن للإنسان ان يدرك ما فقد آلته بالواسطة سواء بواسطة العقل او الحواس الأخرى او غيرها، والشواهد كثيرة وظاهرة للعيان .
فتلك المقولة الشائعة بين الفلاسفة ليس لها كبير شأن في المعارف الإلهية، او انها لا تصلح ان تكون قاعدة كلية فيها لأن الله عز وجل واسع كريم، وله الحجة البالغة ، فبالإضافة الى مجيء الآية الكريمة على نحو الإطلاق في ابتداع كل شخص وجزء من اجزاء السماوات والأرض من غير مثال سابق فضلاً ولطفاً وكرماً منه تعالى، وهو جزء من تسخير ما في السماوات والأرض للناس، لتكون مستقلة ومجتمعة ومتداخلة.
فبالعلم الحضوري يدرك الإنسان عظم هذه الآيات وانها تقود قهراً الى الإيمان فجاءت هذه الآية لتمنع العلم الحضوري من الإنزواء في اللاوعي وتجعل الإنسان بدل ان ينشغل بالمعاش وامور البدن يرتقي في سلم الكمالات الإنسانية، لاسيما وان العلم الحضوري له درجات متفاوتة في الشدة والضعف، والآية حث على العلم الحصولي، ولقد تفضل سبحانه وجعل ما في السماوات والأرض آلة للعلم بمقام الربوبية وحقيقة الأشياء، أي انها مادة العلم الحصولي وحدوثها في القوى المدركة.
بحث منطقي
تسمى القضايا التي تتألف من حدين موضوعاً ومحمولاً مع رابطة منطقية بالقضايا الحملية البسيطة، فالمحمول فيها حكم غير مقيد وصفة للموضوع ثبوتاً او نفياً، وايجاباً او سلباً، وقد تكون جملة فعلية او خبراً، وقد لا تذكر الرابطة المنطقية لدلالة المعنى عليها والإعتماد على فهم السامع او القارئ وتسمى حينئذ القضية الثنائية.
وتقسم القضية الحملية الى ثلاثة اقسام:
1- القضية الشخصية وهي التي يكون موضوعها مفرداً، أي ان الحكم فيها يتعلق بشخص واحد وهو ايضاً غير قابل للانشطار والتجزئة مثل (محمد نبي) و(القرآن إمام) .
2- القضية المهملة وهي التي يكون الحكم فيها أعم من افراد الموضوع وغير مقيد بها وان حملت على الجزء مثل (المؤمن سعيد).
3- القضية الطبيعية وهي التي يكون الحكم فيها كلياً من غير لحاظ لعدد أفراده كما في قولك (الانسان نوع).
وبالنسبة للآية ورد ذكر القضية الشخصية وان الابتداع تعلق بالسماوات والارض، ولكن ذيلها جاء على نحو الاطلاق والقضية المهملة مما يدل على ان موضوع صدرها ذكر من باب المثال الأهم وليس الحصر.
وفيه نكتة إعجازية، فهو حائل دون الظن بانحصار ابتداعه تعالى بالسماوات والارض والقضية الشخصية، بل يشمل الموجود وكل ممكن إذ انه تعالى لا يوصف بالعجز، فلذا جاءت الآية ببيان كيفية قضائه للأشياء والتي تعني القدرة المطلقة المستديمة.
بحث كلامي
قال الأشاعرة بان وجود العالم حصل بخطاب (كن)، ونسب إلى بعض الفرق القول: ان التكوين ازلي قائم بذات البارئ سبحانه وهو تكوين لكل جزء من اجزاء العالم عند وجودها.
فعلى القول الأول ان العالم وجد بالحرفين الصادرين من الذات المقدسة وهما (الكاف والنون)، وعلى القول الثاني ان العالم لم يوجد بهما بل قبلهما مع اقرارهم بموجب هذين الحرفين (كن)، ولكن لا يكون لهذا الخطاب الإستقلال بالفائدة.
ولقد اجمع الفلاسفة والمتكلمون على انه سبحانه عالم لأنه حي وخالق للموجودات ولكنهم اختلفوا على اقوال في الكيفية:
(1) ان العلم بالذات والعلم بالمخلوقات كلاهما عين الذات الإلهية لأنه تعالى بسيط ليس بمركب ولأن صفاته عين ذاته وهو يعلم الموجودات قبل وجودها.
(2) التفصيل بينهما، بان العلم بالذات عين الذات الإلهية، اما العلم بالمخلوقات فهو صور قائمة بالذات وخارجة عنها.
(3) ان العلم بالذات عين الذات وان العلم بالمخلوقات عين وجودها وبه قال الإشراقيون.
واشكل على القول بان العلم بالمخلوقات بواسطة صورها والمنسوب للمشائين باعتبار انه علم حصولي يستلزم وجود الذهن، وواجب الوجود منزه عن الذهن والعلم الحصولي.
اما القول الثالث فقد نفى العلم الحصولي عنه تعالى لكنه لم يثبت علم واجب الوجود بالمعدوم.
4 – علم الله غير ذاته .
وعلم الله عز وجل بالمخلوقات لا ينحصر بالوجود المادي والصورة الخارجية لأن علمه تعالى منزه عن المكان والزمان والجهة فعلمه بالموجودات متقدم عليها بالسرمدية والأزلية، والآية الكريمة لا تتعلق بالعلم بالمخلوقات انما جاءت للإخبار عن كيفية الإيجاد.
والإيجاد أمر غير العلم ومتأخر عنه زماناً، وجاءت الآية بلغة الإخبار عن كيفية الخلق وليس الأمر والإنشاء.
ان المباحث الفلسفية والكلامية في الآيات القرآنية أمر حسن وتدل على الإرتقاء الفكري والعلمي عند المسلمين كما انهم يتصفون بالإضافة اليه بالتدبر بآيات الله، لكن يجب أن لا يكون سبباً للخلاف والوقوف عليه وتوسعة دائرته .
وهذه الآية جاءت لبيان عظيم صنعه وبديع خلقه ونفاذ أمره ومشيئته واستجابة الأشياء جميعاً لقدرته، وعدم امتناع شيء عن إرادته، وانعدام افراد الزمان في خلقه للأشياء وهو أمر ينفرد به سبحانه، ففي كل ايجاد وتغيير وخلق واعدام اعتبار وموضوعية لأفراد الزمان الطولية كثيرة كانت او قليلة، الا أمر الله تعالى لأن الزمان من خلقه تعالى ويتصاغر ويضمحل امام مشيئته وقدرته.


قوله تعالى[وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] الآية 118.

الإعراب واللغة
وقال: الواو عاطفة وإستئنافية، قال: فعل ماضِ، الذين: إسم موصول، فاعل، لا يعلمون: فعل مضارع والواو: فاعل، والجملة صلة الموصول.
لولا: حرف تخصيص بمعنى هلا، يكلمنا: فعل ومفعول به مقدم ، والله عز وجل: فاعل.
أو: حرف عطف، تأتينا: عطف على يكلمنا، آية: فاعل مرفوع بالضمة.
كذلك: الجار والمجرور صفة لمفعول مطلق محذوف.
قال الذين: فعل ماض، وإسم موصول مبني في محل رفع فاعل، من قبلهم: جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة الموصول، الضمير الهاء مضاف إليه.
مثل قولهم: بدل من ذلك، تشابهت قلوبهم: فعل وفاعل، وقلوب مضاف والضمير مضاف إليه .قد: حرف تحقيق.
بينا الآيات: فعل ماضِ، والضمير فاعل، الآيات: مفعول به، منصوب بالكسرة، لقوم: جار ومجرور متعلقان ببينا.
يوقنون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون ، والواو فاعل ، والجملة صفة لقوم.
واليقين هو العلم وإنعدام الشك، يقال يقنت يقيناً وأيقنت وإستيقنت، وفي الاصطلاح هو التصديق الجازم المطابق للواقع غير المستند إلى التقليد.
في سياق الآيات
بعد ان بينت الآيات السابقة جحودهم وادعاء البنوة للباري عز وجل جاءت هذه الآية لتبين المشقة في اقناعهم بلحاظ ما يشترطون واعتمادهم على العناد والاصرار والاستكبار، وتساعد الآية التالية على بيان موضوعها بما تتضمنه من معالم النبوة.
إبتدأت الآية بحرف العطف (الواو) وفيه دلالة على إتصال هذه الآية بما قبلها وتحتمل الصلة هنا وجوهاً:
الأول: الإتصال والتداخل في الموضوع.
الثاني: الإتخاذ في الحكم.
الثالث: الترابط والتشابه في الدلالة.
وبلحاظ أن العطف في المقام أعم من أن ينحصر بالآية السابقة فان الوجوه الثلاثة كلها من مصاديق الصلة بين هذه الآيات، فأما الأول فان موضوع الآية اللوم والذم للذين يقابلون آيات النبوة بالصدود والإعراض، وأما الثاني فان الحكم متحد والله عز وجل على كل شئ قدير،ولاتستعصي عليه مسألة مع خسارة وخزي الكفار كما جاء قبل أربع آيات في الظالمين الذين يسعون في خراب المساجد[لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( )، بالإضافة إلى خاتمة هذه الآية.
ومن مصاديق ما يصيبهم من الخزي في الدنيا دخول الناس في الإسلام أفواجاً، وتجلي آيات النبوة العقلية والحسية، فترى الذين يصرون على طلب الآيات الخاصة بهم قريبين من مقامات النبوة والمؤمنين، في السكن ونحوه، ولكن أفراد القبائل وغيرهم يأتون من الأفاق والإماكن النائية والبعيدة ليدخلوا في الإسلام،ويظهروا التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم من يخرج حال إسلامه للجهاد في سبيل الله وتحت راية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد يستشهد في ميدان المعركة، وتلك آية لم تكن موجودة في النبوات السابقة وشاهد على صدق النبوة، ومن خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، إذ أن كل واحد من هؤلاء آية عظمى، ودعوة لغيره للإلتحاق به وهو من التشابه في الدلالة بين هذه الآيات، وما فيها من الحجة والبيان.
ثم جاءت الآية التالية بصيغة الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوكيد نبوته من عند الله [وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] ( )، وفيه دعوة إضافية لأهل العناد والشك لدخول الإسلام، وترك الريب، وحث للمسلمين بالإعراض عن قولهم.
مع مجئ خاتمة الآية بالوعيد للكفار والمشركين، وهو تحذير وإنذار للكفار والمشركين، جاءت الآية التالية ببيان ما يلاقيه النبي من الصدود من فريق من أهل الكتاب مع توالي الآيات البينات عليه من عند الله عز وجل.
إعجاز الآية
جاءت الآية بنعت أهل العناد بعدم العلم، وبيان التشابه ووحدة السنخية في سنن الضلالة وان تباينت الايام والامكنة والوقائع، ولم تختتم الآية الكريمة حتى بينت تفضل الله تعالى باتمام الحجة وانزال الآيات، فمن اعجازها ان ذيلها تبكيت وجواب على الجحود والعنت الذي ذكره صدرها.
لقد جاء وصف أهل الجهالة والضلالة من ماهية سؤالهم، وكيفية جدالهم الذي يتصف بالعناد والإستكبار، والحرص على الإقامة في منازل الجحود.
وفي الآية توثيق سماوي لأقوال أسلافهم بلحاظ ما يلتقون به من أسباب الشك والريب.
لذا فمن إعجاز الآية التحذير من إرادة الآيات الخاصة، والدعوة للتدبر بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات ولا ينحصر موضوع الآية بالنبوة بل يشمل الحث على الإقرار بالربوبية والتوحيد والإمتناع عن الكفر والشرك.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية (لو لا يكلمنا) ولم يرد لفظ يكلمنا في القرآن إلا في هذه الآية، وكذا لفظ تشابهت.
الآية سلاح
في الآية تحذير للمسلمين من اهل التعنت ودعوة لعدم الإصغاء لاقوالهم، وحث على عدم اللجاج في طلب الآيات لكفاية ما رزق الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها، ليكون ذلك سبيلاً الى التوجه لاداء الفرائض والجهاد في سبيل الله.
لقد أنزل الله عز وجل الملائكة مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يوم بدر وأحد، قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )، ولم ينحصر المدد السماوي بميادين القتال، بل إن مصاحب لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وباق إلى يوم القيامة، ومن أهم وأبهى مصاديقه آيات القرآن التي هي حجة بالغة، يتساءل الذين لا يعلمون الآيات من الله، وكل آية من القرآن هي برهان، ودليل على وجود الصانع ولزوم عبادته، وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيسألون آية والله عز وجل يدعوهم للتدبر في القرآن، ومعرفة أسراره وما فيه من الكنوز ولذخائر الكلامية والعقائدية والشرعية، وما يتضمنه من علوم الغيب قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا]( ).
وتبين الآية حاجة الناس للقرآن، من وجوه:
الأول: تحذير أهل الجهالة من العناد.
الثاني: بيان التشابه في أقوال أهل الجحود.
الثالث: تثبيت المسلمين في منازل الإيمان ونعتهم بالمؤقنين.
الرابع: كثرة الآيات التي تتجلى للناس، ومنها:
الأول:خلق السماوات والأرض.
الثاني:آيات الأفاق.
الثالث: بديع خلق الإنسان وكيف أن الله عز وجل خلقه بأحسن هيئة قال تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( )،.
الرابع: معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية.
الخامس: معجزة القرآن العقلية، الباقية إلى يوم القيامة، باعجاز متجدد.
السادس: إنتصارات الإسلام، ودخول الناس فيه جماعات وأفراداً، وعدم إرتداد من يدخل فيه.
مفهوم الآية
تنهى الآية في مفهومها المسلمين عن السؤال بغير علم وعن طلب ما لا يصح، فالآيات تترى بنزول القرآن وعلى يدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي آيات نوعية عامة موجهة للناس جميعاً الموجود منهم ايام التنزيل والمعدوم الذي لم يولد فلا حاجة لأن يسأل كل انسان اية شخصية، كما ان الأنبياء السابقين كموسى وعيسى عليهما السلام جاءوا بالآيات الحسية المتصلة والمتجددة ولكنها لم تمنع من حصول الجحود والتحريف بل ان فريقاً من الناس مالوا الى الضلالة وواظب المسلمون على الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتقل الى الرفيق الأعلى ثم اجتمعت كلمة الصحابة على القضاء على اسباب الردة والضلالة ومنع التداعي في هياكل الدولة الإسلامية.
ان وصف السائلين الكلام ورؤية الآيات بعدم العلم نوع توبيخ لهم ودعوة لمعرفة وجوه الخلل والخطأ في مثل هذا السؤال واجتناب المؤمنين له والحصانة من تحريض اهل الجهالة والضلالة على طلب الآية والإختبار .
فجاءت هذه الآية لتكون واقية لكل مسلم ومسلمة من كثرة السؤال، ومن منافع هذه الواقية انها باب للتفرغ للعبادة والإنشغال بالآيات النازلة والتدبر بالتكامل في الشريعة الإسلامية وعشق النبوة والإنجذاب الى القرآن لذا ترى خاتمة الآية تتضمن مدح المسلمين وانهم اهل اليقين والتقوى.
وفي الآية مسائل:
الأولى: ذكر القرآن لأقوال أهل الجهالة، وعدم تركهم يجادلون بالباطل.
الثانية: بدأت الآية بصيغة الذم بالنعت بعد العلم، وفيه إكرام للعلم والعلماء، ودعوة للمسلمين والناس لكسب المعارف، وتحصيل العلوم، والتفقه في الدين.
الثالثة: التبصر بالآيات العقلية أو الحسية نوع علم، وطرد للجهالة.
الرابعة: تدعو الآية الناس إلى إجتناب الغفلة التي ينفذ منها أهل الضلالة.
الخامسة:بيان أن الإقامة على الشك والريب من الجهالة.
السادسة: يدعو القرآن للعلم، ويجعله فيصلاً وسبباً للهداية والرشاد كما وردت نصوص عديدة في السنة تحث على طلب العلم، منها عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: منْ خَرَجَ فِى طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ ( ).
السابعة: تدل الآية في مفهومها على ما لاقاه الأنبياء من الأذى في الدعوة إلى الله،وصبرهم في جنب الله بوجه أهل العناد والجهالة، وفيه دعوة للمسلمين للتحلي بالصبر مع العصمة من أفكار الضلالة والريب، لذا جاءت الآية بلغة التعيين بموضوعية العلم بلحاظ انه عصمة من الزلل والإنصات لأهل الشك.
الثامنة: مدح المسلمين ونعتهم بأنهم بلغوا مراتب اليقين والعلم وأدركوا بالإستدلال صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والآيات التي جاء بها.
ترى لماذا لم يستجب الله عزوجل لهؤلاء فيما يطلبون من الآيات، ويخفف عن النبي والمؤمنين وعنهم، والجواب من وجوه:
الأول: إن الله عز وجل هو أعلم بالمصالح والمفاسد.
الثاني: ليس من حد لطلب هؤلاء من جهة كثرة وكيفية المعجزات.
الثالث: الآيات التي يطلبون موجودة وظاهرة للعقول والحواس، ومن اللطف الإلهي أنها قريبة من كل إنسان وجماعة.
الرابع: الدنيا دار إمتحان وبلاء، فجاءت الآيات بما يكفي لهداية الناس، وإقامة الحجة عليهم، وليس لهم أن يقترحوا ويطلبوا الآيات.
الخامس: لقد جعل الله عز وجل باب الدعاء مفتوحاً لأهل الإيمان، أما أهل الشك فانهم يطلبون الآيات من مواقع العناد والصدود [اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ).
السادس: إنما جاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس جميعاً، ولهم أن يتدبروا في الآيات التي جاء بها، ويتحققوا منها، بل إن الله عز وجل يبعث الناس على التدبر في القرآن وما فيه من الكنوز قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
الآية لطف
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم طريقاً إلى النجاة في النشأتين، وليس من حد للمنافع التي تترشح عنها فياليوم والليلة، وفي الميادين والمواضيع المختلفة، وجعل القرآن سلاحاً بيد المؤمنين، وضياء ينير دروب الجهاد لهم، وإماماً يقودهم في مسالك الصالحات، وواقية من الزلل والظلم.
وجاءت هذه الآية لتحذير الناس من ظلم النفس الذي يأتي من سؤال المحال والخاص وعدم الإكتفاء بالبراهين العامة الموجهة للناس جميعاً قال تعالى[ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل بهذه الآية بيان ماهية الآيات التي تكفي في الحجة والبرهان، فان إلحاح الفرد بأن تأتيه آية شخصية أو يكلمه الله، برزخ دون تدبره بالآيات العامة التي تتضمن الأحكام والسنن، وهذا الأمر من أسرار هذه الآية، ومجيئها بتوبيخ أهل لشك والعناد.
لقد سأل بعض مشركي العرب أن يخبرهم الله عز وجل بان محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبي [َوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ] مع أن كل آية من آيات القرآن، تؤكد صدق نبوته، وأن القرآن كلام الله، وفيه خطابات خاصة وعامة وحتى الخاصة الموجهة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو المؤمنين فانها تنفع الناس عامة وتكون موعظة وعبرة، ونزل القرآن بلغة (أياك أعني وإسمعي ياجارة) لبيان تعدد معاني المنطوق، ووجوه المفهوم.
ومن اللطف الإلهي أن الآية الواحدة من القرآن تتضمن دلالات باهرات، وبراهين متعددة تؤكد صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل في آية معجزة لم يشهد لها تأريخ النبوة مثيلاً.
ومن الإعجاز في هذه الآية أنها ذكرت التشابه بين المتقدمين والمتأخرين من أهل الشك والريب بخصوص القول والقلوب، وفيه دعوة لإصلاح القلوب، وتهذيب الأقوال بالتدبر بالآيات وما أنعم الله عز وجل على الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المعجزات والنعم الظاهرة والباطنة.
إفاضات الآية
تبين الآية منافع العلم، وحاجة الناس إليه في الجدال والإستدلال وإقامة البرهان، وتبعث الناس إلى الكسب والنفقه في المعارف الإلهية، وهو نعمة من عندالله، فقد جعل الله عز وجل عند الإنسان العقل ليتزود بالعلوم، ثم رزقه مواضيع العلم التي تقوده إلى وظائفه الشرعية بالعلم الذي يحصل دون واسطة متصورة أو مفهوم، والعلم الذي يتحقق بواسطة صورة حسية أومفهوم عقلي أو حسي .
لقد نفخ الله عز وجل في آدم من روحه ليكون الإقرار بالتوحيد والعبودية لله عز وجل فطرياً يحكم به العقل من غير حاجة لتوسط الحواس إذ أن قياساته معه وبراهينه ظاهرة، ومع هذا جاءت الآيات الحسية اللامتناهية لتؤكد هذه الحقيقة وتجذب الإنسان إلى شاطئ السلامة، وتنقذه من الأمواج العاتية والآفات التيتظهر على اللسان بصيغ الشك والريب.
فجاء القرآن لفضح الريب والبهتان وبيان قبحه الذاتي، كما في هذه الآية التي هي دعوة للصلاح والإصلاح، والإحتراز من الشك والريب، ومدرسة في النصح فلم يرد أحد من الذين ذمتهم الآية بأنه لم تأتهم آية لأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلها آيات،ولكنهم أرادوا إجابتهم في آيات بعينها هم الذين إختاروها كما في قوله تعالى [وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعًا] ( )، ولو آمنوا لرأوا تلك الآيات تترى على المسلمين، وخزائن كسرى وقيصر تفتح لهم، بعد أن كانوا في حال من الفقرر والفاقة قال تعالى[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] ( ).
ومن الآيات أنه مع الإيمان تكون النجاة من الفقر والفاقة والمسكنة، والذل للغير، فقد ظهرت أسباب العز والغلبة لجيوش المسلمين، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي النصر والأمن من الكفار بمدد من الملائكة ينزلون من السماء لنصرته والمؤمنين تارة، وبدفع كيد وبطش الكفار تارة أخرى كما في قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( )، ليكون من وجوه العز والنصر الغلبة على النفس الشهوية والغضبية بالصبر والتقوى، وليكون المؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية تأتي للناس جميعاً، تبعث في نفوسهم الرغبة للإقتداء بهم، ومحاكاتهم في سجاياهم الحميدة، ومشاركتهم في الغنائم الدنيوية والأخروية التي يجلبها الإيمان، والكنوز التي يفتحها الإسلام.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت الآية لبيان الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين وأهل الجهالة، وفيه إشارة إلى أن الجهل يضر أصحابه والناس جميعاً ولكنه لن يكون برزخاً دون جذب الناس للإيمان.
فجاءت هذه الآية لفضح الجهل وما فيه من القبح الذاتي والعرضي، ولزوم الجهاد لمنع سلطانه على النفوس،وبذا فان هذه الآية رحمة بالناس جميعاً، ومنهم أهل العناد والشك، ودعوة لهم لطرد الجهل، ومنعه من الإستحواذ على أقوالهم وأفعالهم.
لقد إبتدأت الآية بالذم ونعت أهل الشك بأنهم لا يعلمون، وفيه دعوة للمسلمين للرأفة بهم ودعوتهم إلى الإسلام بالموعظة الحسنة مع الإحتراز منهم، وجاءت الآية بصيغة الماضي (وقال) لحكاية قول المشركين وأنهم مصرون عليه، ولو دخل بعضهم الإسلام فهل تشمله الآية بلحاظ أنه ممن قال هذا القول وصيغة الماضي تشمله: أم لا.
الجواب هو الثاني لوجوه:
الأول: التوبة ماحية للذنوب.
الثاني: تغير الموضوع وإنتقاله إلى الإسلام مما يدل على تخليه عن هذا القول، وإذ تغير الموضوع تبدل الحكم.
الثالث: دخول الإسلام تنزه من الجهل وعدم العلم الذي جاءت هذه الآية بذمه.
الرابع: ومع أن الآية جاءت بصيغة الماضي إلا أنها تتضمن إصرار الكفار على قولهم هذا بلحاظ مجيئها بلفظ المضارع في موضوع السؤال [يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ] بالإضافة إلى مجئ (لولا) التي تفيد معنى هلا وإرادة التحضيض.
الخامس : الوعد الكريم من الله عز وجل بالعفو لأهل التوبة والإنابة قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
لقد سأل أهل الجهالة أمرين:
الأول: أن يكلمهم الله وهو أعم من تكليم الله لموسى عليه السلام، فهم لا يريدون أن يكلمهم الله كما كلم بعض أنبيائه، بل يريدون إخبار الله عز وجل لهم بأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبي مرسل من عنده تعالى، بتقريب في أذهانهم أنه بشر مثلنا، وأن الله كلمه وأوحى اليه، فنزيد أن يوحي لنا مرة واحدة بأنه نبي قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( )، فدلت الآية على أن الوحي مرتبة خاصة بالأنبياء وان كانت لمرة واحدة، ولكن المشركين يجهلون هذا المائز وأرادوا أن يوحى إليهم وسألوا ما هو خلاف النواميس والقوانين الكونية، كما سألوا مجئ آية تتضمن تحقيق رغابهم في تعيين المعجزة، كما في سؤالهم بأن يجعل الله لهم جبل الصفا ذهباً.
الثاني: أن تأتي آية خاصة بهم تؤيد صدق دعواهم، وتكون تشريفاً وإكراما لهم، كما رزق الله الأنبياء آيات دلت على نبوتهم.
ولم تجد آية أخرى في القرآن تقول أن الذين لا يعلمون من الأمم السابقة قالوا مثل هذا القول، ولكن هذه الآية تؤكده وهو من إعجاز الآية بأن أخبرت عن أمرين وزمانين بلفظ واحد يكون الرابط والصلة فيه لغة التشبيه (كذلك قال).
وأختلف في تعيين المراد من قوله تعالى [الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ] وقيل هم الذين إقترحوا الآيات على موسى، ( وعن أبي مسلم:سائر الكفار الذين كانوا قبل الإسلام)( )، ويبين الإتحاد والتشابه في قول الأجيال المتعاقبة من الكفار ما كان يلاقيه الأنبياء من الأذى من قولهم، وجاءت هذه الآية لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، والتخفيف عنهم، وكشف وإيضاح ما يقوله أهل الجحود والعناد.
ولم تكتف الآية بقول الكفار وأسباب عنادهم وجحودهم بل جاءت خاتمتها بالجواب الشافي والوافي إذ تخبر عن نزول الآيات من عند الله فعلاً، ولكن لم تنزل إلا على أهل الإيمان واليقين وهو سبحانه أعلم بالمصالح مما يدل على أن الكفار حجبوا عن أنفسهم مجئ الآيات لهم، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
وقد بدأت الآية بلغة الذم للذين لا يعلمون وأختتمت بالثناء على الذين يؤمنون، وفيه بعث للنفرة من الجهالة والضلالة، وترغيب بالهداية والإيمان، والعند يظهر حسنه الضد.
وذكرت الآية الذين لايعلمون بصفات عديدة تتضمن سوءإختيارهم، وجاء مدح المؤمنين بأنهم يوقنون، للدلالة على أن اليقين ملكة راسخة في النفس تبعث على أداء الفرائض وعمل الصالحات وتكون واقية من السيئات.
التفسير الذاتي
لقد جاء قبل خمس آيات ذكر ثلاثة أقوال:
منها قول الذين لا يعلمون وهم المشركون( ).
وإبتدأت هذه الآية بقوله تعالى[وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] فهل المراد هم المشركون الجواب نعم ، ويتضمن السؤال أمرين:
الأول:أرادوا أن يكلمهم الله من غير واسطة ملك أو نبي، ويخبرهم معاينة بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبي ورسول من عند الله تعالى.
الثاني: سؤال آية ومعجزة خاصة بهم، وهم الذين يختارونها موضوعاً وزماناً وحكماً وقد تقدم في ذم الذين يستهزءون بالمسلمين، قوله تعالى[أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث أن سؤال المحالات من السفاهة وخفة العقل، ويحتمل سؤالهم وجوهاً:
الأول: سأل قوم منهم أن يكون كلام الله معهم.
الثاني: منهم من أراد نزول آية ومعجزة له خاصة.
الثالث: فريق منهم سألوا بلغة الترديد أما كلام الله أو آية خاصة بهم تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية إعجاز من جهة التباين بين زمان الأنبياء السابقين وزمان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبينت الآية وجه الصلة بين أهل الشك والريب وهي تشابه قلوب الذين ألحوا على الأنبياء السابقين بسؤال المحال، وبين الذين يسألون أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه جاء بالبراهين والدلالات الباهرات وإتصافها بالعناد والحسد والإستكبار عن الإقرار بالحق.
وفي الآية ذم لأهل العناد، وتحذير من التعنت والإصرار المترشح من الشك والريب، فالأصل أن الآيات التي من عند الله تتضمن التحدي والأمر الخارق.
ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن آيات نبوته معجزة في زمان نزول القرآن وأفراد الزمان الطولية وإلى يوم القيامة.
ومن وجوه تفضيله على الأنبياء تجدد آيات ومعجزات القرآن والشواهد على صدق نبوته، وإجتهاد المسلمين في طاعة الله، وتعاهد التنزيل، قال تعالى[عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا] ( )، والقرآن هو الكتاب الذي يدعو الناس للإقرار بالعبودية لله، وإقامة الفرائض وعمل الصالحات، فإذا كانت الطبقة المصاحبة لأيام التنزيل تريد آيات ومعجزات خاصة بها، فإن الطبقات الأخرى تأتي إلى الدنيا والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد إنتقل إلى الرفيق الأعلى.
فجاء القرآن معجزة وآية عظمى لكل الناس على مختلف أزمانهم وأمصارهم وألسنتهم وألوانهم، وفيه زجر عن سؤال المحال، ومنه كلام الله لغير الأنبياء، ودعوة للتدبر في معجزات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية فإن فيها كفاية لتحصيل اليقين بصدقه في نبوته.
لقد جاء القرآن بالأمر بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته وقتال الكافرين تحت لوائه، ومن الناس من يختار العناد ولا يريد أداء الفرائض والتكاليف، ولا الخروج لميادين الجهاد فتوجه لسؤال المحال، فجاءت هذه الآية لفضحه وتوكيد حقيقة وهي أن الله عز وجل تفضل ببيان الآيات والمعجزات،وقد آمن وصدّق بها أرباب العقول الذين إنشرحت صدورهم لقبول الحق، وكانوا مستعدين للتدبر في الآيات وإعلان التصديق بها مع وجود المقتضي وفقد المانع، وفيه توكيد لحقيقة أن الله عز وجل غني عن الذي يسأل الآيات الخاصة والأمر المحال، قال تعالى[وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]( ).

من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: في الآية توثيق لما يقول الكفار من أسباب الجهالة والعناد.
الثانية: صدود الكفار عن الرسالة بسؤال خلاف ما أمرهم الله عز وجل به، وإعراضهم عن وظيفتهم الشرعية بتلقي آيات النبوة العامة بالقبول والتصديق.
الثالثة: تتضمن الآية ذم المشركين ونعتهم بأنهم لا يعلمون بأسرار النبوة وأن المعجزات خاصة بالأنبياء، وعلى الناس ان يتدبروا فيها ويقابلوها بالتصديق.
الرابعة: تحذير الناس عامة من محاكاة المشركين في سؤال الآيات والمعجزات الخاصة بهم، وفيه دعوة للإصغاء لآيات القرآن، وسماع معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتدبر في مضامين دعوته التي هي خير محض.
الخامسة: في الآية دعوة للناس لإصلاح النفوس ، وازاحة الكدورات الظلمانية وإجتناب الإقامة في منازل الشرك والضلالة، وتدل الآية في مفهومها على مدح المسلمين وسلامة قلوبهم بالمواظبة على ذكر الله، وأداء الفرائض، قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ]( ).
السادسة : تفقه المسلمين في الدين، ومعرفتهم بأحوال الناس وهو من المدد الإلهي لهم، ومن عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السابعة : التشابه ووحدة السنخية بين أهل الضلالة والجحود.

التفسير
قوله تعالى [وَقالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ]
في الآية بيان لجحود وابتعاد عن الدين ، وعناد جماعي متعاقب في زمانه ممن لم يصغ الى دعوة الحق، وصحيح ان ظاهر الآية خال من الاخبار عن انكار لآيات النبوة، ونعتهم بانهم لا يعلمون قرينة على جحودهم وجهلهم، والآية وثيقة سماوية تبين تجرأهم واصرارهم على الذنب وامتناعهم عن الإنقياد للأنبياء بالاضافة الى سؤال ما لا ينبغي بعد النكوص والتمرد.
ترى من هم الذين [لاَ يَعْلَمُونَ]:
الأول : هم النصارى عن مجاهد.
الثاني : هم اليهود عن ابن عباس.
الثالث : هم مشركوا العرب عن الحسن وقتادة.
والصحيح هو الثالث يمكن أن يستدل على القول الأخير أعلاه بقوله تعالى [وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ] ( )، بلحاظ أن الذين لا يعلمون هم مشركوا العرب وأهل الجاهلية والوثنية للمغايرة والتباين بين أطراف الآية أعلاه وأن الذين لايعلمون هم غير اليهود والنصارى، ويدل عليه إيضاَ ما ورد في أسباب نزول الآية عن إبن عباس: قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فليكلمنا حتى نسمع كلامه ، فأنزل الله في ذلك { وقال الذين لا يعلمون }( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث أن مشركي قريش لا يقرون بالكتب المنزلة، وأنهم مصرون على الشرك والضلالة لذا بعث الله عز وجل النبي محمداً ليكونوا بين أمرين إما الإسلام وإما السيف.
لم يكن اهل الجحود في مثل هذه الموضوعات على رأي عقائدي واحد، واحياناً كانت توجه الدعوة والتبليغ الى شخص منهم فيتصرف على نحو الرأي الشخصي، ولعل هذا الأمر من بين اسباب نزول الآية وهو ان كل شخص يدعى الى الاسلام يطلب الآية والبرهان فيستحق صفة عدم العلم لان طلبه تعنت.
وهذا لا يعني بالضرورة ان المراد بالذين [ لاَ يَعْلَمُونَ ] في الآية محل البحث هم انفسهم في قوله تعالى[كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ]( )، الا مع القرينة والإمارة الدالة على ذلك، فبلحاظ فعل وعلم يصح ان يكون الإنسان عالماً به، وبلحاظ علم آخر يكون الإنسان غير عالم به، ثم ان العلم على مراتب وكذا الجهل، فمنه البسيط ومنه المركب.
وعلى القول المشهور والمختار بان المشتق حقيقة في خصوص تلبس الذات بالمبدأ في الحال وهو مجاز في غيره، فاذا زالت الملكة والصفة كان اطلاق الإسم عليه مجازاً، فعند الإنحراف والتحريف وضعف اليقين لا يصدق العلم على الشخص وان كان منتمياً الى مذهب معين فيكون في سؤاله الذي ينم عن الشك من الذين [لاَ يَعْلَمُونَ].
و(او) هنا حرف عطف جاء على نحو الترديد بين الأمرين اما تكليمه تعالى لهم واما ان تأتيهم آية، مثل قولك خذ الكتاب او القلم، واذا كان المقصود مشركي العرب فلماذا سؤال الآية، والقرآن هو آية باقرار عظماء العرب والملأ منهم واهل الفصاحة والبلاغة الذين تصاغروا مذعنين وتراجعوا منهزمين امام الآيات وتحديها كآية عقلية، بل انهم كانوا يرون الآيات الحسية ايضاً على يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم كآيات الفتح والنصر والنجاة من المشركين وانشقاق القمر، وكان ظهور المعجزات على يديه صلى الله عليه وآله وسلم متواتراً.
والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي والمطابق للدعوى والسالم من المعارضة، ومن المعجزات نبوع الماء من بين اصابعه واشباع الخلق الكثير من الطعام القليل وحنين الجذع وكلام الحيوانات الصامتة والسجل المبارك لخصوص الإخبار بالمغيبات، لقد ارادوا الإختصاص بالآيات وان توجه لهم بالذات وتدعوهم للإيمان والنبوة ارادوا ان يسمعوا بانفسهم كلام الباري عز وجل [هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ]( )، انهم بهذا يحاولون منع غيرهم من الإيمان بسبب الإلتقاء بالبشرية بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاء الجواب من السماء وبما يترشح عن صفات الكمال والجلال ضمن تنزيه مقام الربوبية [ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً ]( )، فبين النبي وغيره من الناس عموم وخصوص من وجه، مادة الإلتقاء البشرية، ومادة الإفتراق النبوة والرسالة، وهي ليست صفة ذاتية وملكة وقدرة تنال بالرياضة والجهد والسعي انما هي رحمة وأمر وفضل إلهي على بعض عباده على نحو التكريم لهم وللإنسانية ولإتباع ذلك النبي وعن رسول صلى الله عليه وآله وسلم: إتخذني الله عبداً قبل ان يتخذني نبياً( )، ثم ان النبي معصوم تنقاد اليه القلوب لا يصدر منه الذنب وهذا السؤال منهم عداء للنبوة ومحاولة لحجب تاثيرها ويدل على انهم ليسوا اهلاً لها وان الذين اصطفاهم الله عز وجل للنبوة اتصفوا بالتقوى والأهلية.
ان قولهم هذا جاء مطلقاً من غير أن يكون مقيداً بالإيمان، ولو كلمهم الله عز وجل او جاءتهم آية فليس هناك ما يدل على ايمانهم بعد ذلك واقرارهم بالنبوة، وهل نعتهم بعدم العلم بلحاظ هذا السؤال، ام انهم متلبسون بهذه الصفة مطلقاً، الجواب: كلا الأمرين صحيح، فالسؤال لم يصدر الا عن جهل وتقصير وعدم علم، وهو ايضاً أي السؤال في ذاته موضوع جهل ومغاير للعلم واحكام العقل، فالنبوة للناس جميعاً.
والآية موجهة لكل انسان لاسيما آيات القرآن للحاضر والغائب، لمن كان موجوداً ايام النبوة، والمعدوم الذي لم يولد بعد، وليس من مصلحة في تكليمهم ورؤيتهم آيات أخرى ثم ان الأمر يدور مدار الإبتلاء والملاك وليس الإلجاء، ان النبوة باب مبارك لإتصال الناس بنواميس السماء، والآية تدل على ما كان يعانيه الأنبياء والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة من قومه و من غيرهم [وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعًا]( ).
انه تعنت تُقابل به الآيات وهذا القول تجسد ايضاً بالفعل بايذاء النبي ومن آمن به، كما يدل قولهم في مفهومه على الإستهانة بالآيات والإستخفاف والإستهزاء بالحجج عناداً، والله عز وجل لا يسئل عما يفعل وهم يُسئلون، ثم أي عدد ومقدار من الآيات يريدون اذا لم يكتفوا بالآيات التي نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلو كانت من الكثرة بمكان لإنتفت منها صفة المعجزة لأن المعجزة من شرائطها وصفاتها انها خارقة للعادة فاذا اصبحت عادة لا يصدق عليها معجزة، وينتقل لجاجهم وجدالهم الى المقارنة بين المعجزات والتشكيك ببعضها الى جانب قيام الحجة بالمتحد منها فلا تصل النوبة الى المتعدد.
لقد ارادوا آية موجهة لهم على نحو الخصوص ويمكن انحلال القول الى:
الأول : الإقرار بقدرته تعالى على الآيات وتواليها وتعدد المتلقي لها.
الثاني : عدم معرفتهم بنواميس النبوة واحكام التنزيل.
ان النبوة لطف منه تعالى والا فان الله عز وجل قد اودع عند الإنسان العقل وجعله حجة باطنة ورسولاً ذاتياً، مصاحباً يساعده في رؤية الآيات في نفسه وما حوله، أي ان الله عز وجل يأتيهم بالآيات في كل حين خصوصاً وانه تعالى لا يكلف بما لا يطاق لتنزهه عن القبيح وللطفه وعظيم فضله سبحانه.
ان قولهم هذا لا يعني عدم مجيء الآية لهم، فقد يصل الشيء الى الإنسان وهو مستمر في بيان الحاجة اليه، كما ترى في الذي يدعي الفقر مع انه يمتلك مؤونة سنته، ونعتهم في الآية بانهم (لا يعلمون) يدل بالدلالة الإلتزامية على ابطال دعواهم وشهادتهم في الأمر حتى على القول بحذف المفعول به واضماره.
وذكر الرازي اسباباً لعدم اجابتهم الى هذه الزوائد، بانه: لو كان في معلوم الله تعالى انهم يؤمنون عند انزال هذه الآية لفعلها، ولكنه علم انه لو اعطاهم ما سألوه لما ازدادوا الا لجاجاً فلا جرم لم يفعل ذلك، ولذلك قال تعالى وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ .
ولا دليل على هذا التعليل وانه تعالى يعلم بزيادة لجاجهم لو اعطاهم الآيات، والإسماع غير اراءة الآيات لأن رؤية الآيات اكبر واعم، ولكن الذم في الآية متوجه اليهم بانهم لا يعلمون، مما يعني عدم صحة هذا القول منهم لكفاية الآيات لكل الناس، ولأن الآيات الخاصة قد تكون من الإلجاء الذي لا يتناسب مع عمومات التكليف.
ان عمومات قوله تعالى [وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُوم]ٍ( ) يدل على ان الآيات كماً وكيفاً وزماناً ومكاناً لا تتم الا وفق الحكمة الإلهية التي لا تتأثر بالأهواء والإقتراحات الصادرة عن جهل، وظاهر الآية ان خطاب القائلين وسؤالهم موجه الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ صيغة الطلب [أَوْ تَأْتِينَا ]، وللتشبيه بين قولهم وقول الذين من قبلهم، مما يدل على جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما كان يلاقيه من العنت واللجاج، وكأن النبوة منصب دنيوي يحرز برضا الناس والإستجابة لمطالبهم الخاصة ولو في موضوع النبوة والآية، كما ان الآية لا تنفي الإستجابة لهم على نحو الإطلاق والقدر المتيقن منها ذم هذا الإقتراح وتوكيد بطلانه.
وقد ذكر في آية انشقاق القمر: انه اجتمع الناس عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: ما من نبي الا وله آية فما آيتك في هذه الليلة؟ فقال الذي تريدون: فقالوا: ان يكون لك عند ربك قدر، فأمر القمر ان ينقطع قطعتين، فهبط الأمين جبرئيل وقال: يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان الله يقرئك السلام ويقول لك: اني أمرت كل شيء بطاعتك، فرفع رأسه وأمر القمر ان ينقطع قطعتين فصار قطعتين، فسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم شكراً لله تعالى، وقال عُد كما كنت فعاد والناس ينظرون الى ذلك، ثم اعرض اكثرهم وقال سحر القمر، مع ان الإتفاق حتى من السحرة على ان السحر لا يؤثر ولا يخيل في السماويات فانزل الله عز وجل [ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ]( ).
بحث بلاغي
من البديع حسن النسق وهو الاتيان بكلمات متتاليات معطوفات، والترابط بينها ظاهر موضوعاً ومحمولاً مع امكان استقلال وافراد كل جملة باللفظ والمعنى كما في تعدد الوجوه والأقوال في هذه الآية مع اتحاد الموضوع، بالاضافة الى تحقيق الغاية في تمام الآية.
فقد ذكرت الآية الذين لا يعلمون ولايفقهون وظائفهم الشرعية، وذكرت قولهم وسؤالهم المعجزة الخاصة، وهي التي تتألف من قسمين، ثم ذكرت قولاً آخر لأمة مثلهم قد تقدم زمانها تلتقي معهم في سؤال المعجزة الخاصة بهم، مع الإصرار على عدم الإلتفات إلى المعجزات العامة التي يأتي بها الأنبياء ولزوم التدبر فيها.
وفيه حجة عليهم ، وبيان للقبح الذاتي لهذا السؤال، ومن الترابط في الآية أنها جاءت بخاتمة تبطل قولهم وتجعله أمراً زائداً بإن الآيات والدلالات الباهرات تفضل الله عز وجل بها على أهلها.
قوله تعالى [كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ]
ظاهر الآية يتعلق بالذين قبل الإسلام من الذين آذوا الأنبياء بكثرة السؤال والإلحاح والتردد ، كما في قول بعضهم لموسى عليه السلام [أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً]( ) ، ترى لماذا جعل القرآن كلامهم هو المشبه به، فيه مسائل:
الأولى : الدلالة على انهم لم يقولوا ذلك متابعة ومحاكاة للآخرين ويدل على هذا القول بيان الحال والتعليل وهو تشابه القلوب وليس المتابعة والتكرار.
الثانية : بيان اضرار قول الذي تصدوا للإسلام وحاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وان كلام المتقدمين منهم اصبح عديم الإعتبار وليس له من اثر.
الثالثة : الإنذار والتخويف والتوبيخ وليكون مناسبة للإتعاظ.
الرابعة : بيان الإتحاد ووجوه الشبه بين اهل الجحود والضلالة وان تباينت الأزمنة والامكنة التي وجدوا فيها.
ولفظ[الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ] ورد في القرآن وصفاً للمشركين، قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، وللمنافقين [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، وعلى نحو الاجمال [ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ].
قوله تعالى [تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ]
يطلق القلب على ثلاثة معان:
الأول: اللحم الصنوبري ذو التجويف، والمودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهو أمير الجوارح، ومن الآيات في خلق الإنسان التي يعرفها الناس جميعاً موضوعية القلب في دوام حياة الإنسان وانه منبع الروح، ليكون ذلك حجة عليهم ودعوة للإيمان ومعرفة زيف الدنيا، وعدم الإطمئنان الى الحياة فيها ما دامت متعلقة بانتظام حركة هذا الجزء المخصوص من البدن.
الثاني: انه العقل على قول، فمنهم من عرف العقل بانه غريزة في القلب يلزمها العلم بالضروريات عند سلامة آلاتها، وان كان المشهور بخلافه.
الثالث: لطيفة ربانية روحانية، وهي المعبر عنها بالقلب تارة وبالنفس تارة وبالروح اخرى، وهو المدرك العالم العارف واليه يتوجه الخطاب، وان صلته بالقلب العضوي يقارب تعلق الأعراض بالأجسام، او الأوصاف بالموصوفات، او الوظيفة بالآية.
وفي حديث الفروض على الجوارح ورد في الحديث (وأما ما فرض الله على القلب من الإيمان فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم).
والآية تقبيح لفعلهم وسؤالهم رؤية الآيات باستحضار اوجه الشبه بينهم وبين الذين من قبلهم أي الذين سألوا الأنبياء الآيات والحجج الخاصة، وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على الإنذار والموعظة والتذكير بما لاقاه اهل العناد والتعنت من العقاب والخزي والإستئصال.
ان سؤالهم الآيات تشديد على النفس بعد مجيئه صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن والآيات البينات، والدوام عليه يسبب غشاوة على البصيرة ويؤدي الى الجهل والعمى.
قوله تعالى [قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ]
المراد ان القرآن وغيره من الآيات التي جاءت متتالية قد فهمها ووعاها المؤمنون ومن اعجاز الآية انه تعالى قيض مؤمنين عندهم استعداد للإيمان واليقين كي يروا تلك الآيات، فأصحاب النبي الإكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم اعدهم الله عز وجل لتلك المسؤولية اعداداً بدنياً ونفسياً واخلاقياً بتأديب خاص، والواقع والوجدان يشهدان بذلك، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وقوله تعالى[قَدْ بَيَّنَّا] انه قد قضي الأمر ويكفي في رؤية الآيات والانتفاع منها مورد الحاجة، والقدر المتيقن هم المؤمنون مطلقاً، وانها تدل في مفهومها على مخاطبة المشركين بانهم لم يوفقوا لرؤية الآيات لأنهم لا يوقنون ويبقون على التشكيك والعناد، او انه يلزمهم اقتفاء اثر هؤلاء او كلا الأمرين معاً وهو الأقرب، وتعتبر هذه الآية توبيخاً لهم ورداً على سؤالهم وما فيه من اللجاج والخصومة.
فالآية مدح للمسلمين في زمن النزول وما بعده، ومادامت تلازمهم صفة اليقين فهم اهل الأنصاف والإقرار والإعتراف بالحق، هم ارباب العقول والألباب ، كما تترشح عن الإيمان بآيات النبوة علوم وابواب من الحكمة واسباب الرشاد.
ومن اعجازها ان بيان الآيات جاء بلغة الماضي مما يدل على ان الأمر قد مضى وبقي الحساب وان الآيات المتيسرة فيها الكفاية فمن اعجاز الآية انها تخبر عن خلود القرآن وبقائه.
وورد في الحديث:لم يقسم بين الناس أقل من اليقين” وهو امتلاء الجوارح والاركان بالإيمان والتسليم لله تعالى، والرضا بقضائه وتفويض الأمر اليه، وعدم طرو الريبة او الشك على النفس بحيث لا تتردد في قبول الآية بعد ظهورها.
قاعدة جديدة في علم الدراية
قد يحصل التعدد من جهة السند فاذا وردت نصوص عديدة في حكم او موضوع ذي دلالة واحدة وكانت تلك النصوص مستفيضة وكثيرة فانها تكون متواترة سنداً فيمكن ان تكون حجة وان كان كل واحد منها قاصر السند من غير ان تصل النوبة الى انجبارها بالشهرة خصوصاً اذا لم تكن هناك احاديث معارضة لها ونطلق عليه (التواتر السندي).
وفي هذه القاعدة صيانة وتعاهد لأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والأئمة عليهم السلام، وتساهم في حفظ المضامين والمعاني القدسية التي جاءت بها السنة مع الأخذ بنظر الاعتبار لزوم عرض هذه الأحاديث على القرآن وان كان كل واحد منها في الاصل معروضاً على القرآن ولم يصل الى الجوامع الفقهية المعتبرة الا بعد التحقيق والتدقيق وامعان النظر فيه سنداً ودلالة.
وهذه القاعدة تعطي موضوعية للكم واعتباراً لتعدد طرق السند وان كان كل واحد منها ضعيفاً، وكان كل واحد منها يجبر الآخر، وهل يجزي اثنان منها، الأولى ان ترد ثلاثة احاديث او اكثر تنعت بالضعف ولكنها تتناول ذات الموضوع وتثبت له حكماً واحداً.
ويترشح من هذه القاعدة اكرام لرجال سند كل حديث منه، ولكن هل يكفي هذا في توثيق جميع رجالات تلك الاحاديث، الجواب: لا، لأن نعتهم بالضعف خاص بعلم الرجال وباق على حاله في الجملة الا ان يرد دليل آخر، وقد بيناه في البحث الخارج في الفقه.
بالإضافة الى أحاديث العرض أي عرض الحديث على القرآن وعدم الأخذ بما لا يوافق القرآن منها فأنه زخرف، وورد في أحاديث العرض ما هو خاص بالحديث الضعيف السند ويتعلق بأدنى مراتب الضعف فقد جاء عن محمد بن مسلم عن الإمام الصادق عليه السلام: “ما جاءك في رواية من بر وفاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك في رواية من بر أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به”، وكأنه من باب الإحتياط وخشية فوات حقيقة أو حكم بإهمال وإسقاط الحديث بسبب الضعف، ولبيان قانون دائم وهو ان المدار على القرآن وفيه شاهد بخلوه من التحريف والتبديل والتغيير.
وفي الفقه يعتمد المشهور الخبر الضعيف السند اذا كان مجبوراً بعمل المشهور، أي اذا عمل المشهور بالخبر الضعيف سنداً فيعتبر هذا الحديث حينئذ عند الأكثر والمشهور دليلاً.


قوله تعالى[ إِنا أَرْسَــلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِــيرًا وَنَـذِيرًا وَلاَ تُسْئلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ] الآية 119.

الإعراب والقراءة
القراءة المشهورة في (لا تسئل)( )، على لفظ الخبر( ).
و(لا) هنا نافية لا عمل لها وليست ناهية، وقرأ نافع (لا تسأل) بفتح التاء والجزم، ولا: ناهية، “وروي ذلك عن ابي جعفر الباقر وابن عباس”( ) وذكره الفراء وابو القاسم البلخي.
قوله تعالى [إِنا أَرْسَــلْنَاكَ] انا: ان واسمها، ارسلناك: فعل وفاعل ومفعول به، بالحق: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال والتقدير: متلبساً به.
بشيراً: حال، نذيراً: عطف على (بشيراً)، ولا تسئل: الواو استئنافية، لا: نافية، تسئل: فعل مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير تقديره انت.
عن أصحاب الجحيم: جار ومجرور متعلقان بتسئل، الجحيم: مضاف إليه مجرور.
والبشير: الذي يبشر القوم بامر خير او شر ومنه البشارة وهي ما يعطى للمبشر بالأمر ترى ماذا اعطى النبي من القوم بشارة، واستعماله للخير اكثر، اذ ان اصله من انبساط بشرة الإنسان عند السرور منه قولهم: فلان يلقاني ببشر أي بوجه منبسط.
وفي حديث صفات المؤمن: بشـره في وجهه وحزنه في قلبه) ( )، أي بشره في وجهه تحبباً الى الناس وحزنه في قلبه من خشـية الله وخوفاً من الحساب وتحملاً لمشاق الدنيا
والنذير هو المنذر يقال نذر بالشيء وبالعدو – بكسر الذال – نذراً: علمه فحذره، وقال ابن منظـور: والصحيح ان النذر هو الإسـم، والإنذار المصدر وانذره: خوفه وحذَّره وفي التنزيل [ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ]( ).
والجحيم: النّارُ الشديدة التَأَجُّج والالتِهاب( ).
في سياق الآيات
بعد ان بينت الآيات السابقة بلغة الذم المقولات الباطلة وأهلها جاءت هذه الآية لتبين موضوع النبوة والمدار المعتمد الذي يرتكز عليه منهاجها لتكون مقدمة لتوبيخهم على كيفية مقابلتهم لها كما في الآية التالية.
وتبين الآية جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله، ومواجهته لأهل الجحود ومحاربته للضلالة والباطل وبلحاظ الآية التالية فان الآية تدعو النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم الى مواصلة الدعوة الى الله والقيام بوظائف النبوة، وتدعو المسلمين الى عدم الإلتفات الى لغة الجدال والشك.
صلة هذه الآية مع الآيات المجاورة على قسمين:
الأول: صلة هذه الآية بالآيات السابقة فقد ذكرت الآية السابقة قبائح قوم يؤذون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالإصرار على الجحود والعناد، وسؤال المحال، وجاءت هذه الآية لتمنع أي ضرر من عنادهم هذا.
لقد أرادوا بعث الشك والريب في نفوس المؤمنين، وصد الناس عن الإسلام، فجاءت هذه الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتعضيداً سماوياً للمؤمنين وواقية من المقاصد الخبيثة التي يسعى إليها أهل الريب من شرط تكليم الله عز وجل لهم أو رؤيتهم الآيات والمعجزات التي تأتي خاصة لهم .
وإذ جاءت الآية قبل السابقة بالإخبار عن أن الله عز وجل هو مبتدع السماوات والأرض، من غير مثال يحتذى، وهو الذي ينفرد بنفاذ أمره على نحو الإطلاق.
جاءت هذه الآية لتبين أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أمر الله عز وجل، وأنها رحمة بالناس،وفي الآية مواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخبار عما يلقاه أهل الجحود بنبوته الذين أصروا على العناد وإشترطوا كلام الله لهم، ونزول الآيات عليهم، ويفيد الجمع بين الآيتين تحذير كل الذين يعرضون عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويجعلون العوائق والموانع دون إسلامهم بأن مصيرهم الخلود في النار.
وإذ جاء قبل ثلاث آيات ذم الذين [وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ]، جاءت هذه الآية للزجر عن هذا القول، والتخويف من عواقب الآخروية، وتوكيد بطلانه، فسيد البشر وصاحب الكمالات الإنسانية محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو رسول من عند الله وبين الله وعباده واسطة مباركة هي النبوة والتنزيل والقول بالولدية نوع عداوة مع النبوة.
الثاني: صلة هذه الآية بالآيات التالية، جاءت الآية التالية بالإخبار عن عدم رضا اليهود والنصارى عن النبي والمؤمنين إلا بإتاع ملتهم، بينهما تقتضي وظيفة الناس تصديق وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بما جاء به من عند الله.
ويفيد الجمع بين هذه الآيات بيان ما يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى من مشركي قريش ومن أهل الكتاب ممن حوله، فكل فريق يريد إتباعه وإجابته على سؤاله وتحقيق رغائبه، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء بوظيفة مخصوصة وهي الرسالة والنبوة ودعوة الناس للإسلام على نحو الحصر والتعيين.
ثم جاءت الآية بعد التالية لبيان تلاوة أهل الكتاب لما أنزل الله والإخبار بأنهم يفقهون كلام الله، والأصل هو مقابلتهم القرآن بالإيمان والتصديق، وهل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تذكرها هذه الآية من الآيات التي ذكرتها خاتمة الآية السابقة [قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ]( )، الجواب نعم فانها آية تتولد وتتفرع عنها آيات غير متناهية بعدد آيات القرآن وما يترشح عنها من البراهين والدلالات الباهرات التي تدل على صدق نبوته وعدم إنقطاع هذا التفرع إلى يوم القيامة ففي كل يوم تطل عليناآيات تدل على صدق نبوته سواء بالإعجاز الذاتي أو الغيري للقرآن , وتجلي مصاديق تلك الآيات.
وفي هذه الآية بيان للمراد من (الذين يوقنون) الذين ذكرتهم الآية السابقة وانهم الذين صدقوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إعجاز الآية
مع ان الآية تتكون من بضع كلمات فانها بينت اصل النبوة والوظيفة السماوية للرسالة وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وساهمت في تثبيتها، وبيان العمل المركب في جهاده والتخفيف عنه , فيما يتعلق بالذين أبوا الا الجحـود وموضوع التخفيف، ومنه هول العذاب الذي ينتظرهم، اذ انها وعيد للكافرين مما يعني ضمناً انها بشارة للمؤمنين.
وجاءت الآية بتنزيه مقام النبوة وان إصرار الكفار على الشرك حاء بعد إقامة الحجة عليهم، ومن إعجاز الآية نعتهم بانهم أصحاب الجحيم مع ان الجحيم هي نار الآخرة.
ويمكن أن تسمية هذه الآية آية ( أرسلناك بالحق) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الا مرتين( )، كما إختصت هذه الآية من بين آيات القرآن بلفظ (تسئل).
وتتضمن الآية التحدي بالإخبار بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من الله وليس من تفوسض في مواضيع ومضامين هذه الرسالة بل هي مقيدة بصبغة الحق في ماهيتها ومضامينها وأحكامها وكيفية مل لقوله تعالى[أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ].
ومن المجاز نصع الحق والحق ناصع، قال النابغة: ولم يأتك الحقّ الذي هو ناصع)( )، ليدل تعاقب الأيام والسنين على صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحق والصدق وتسليم الناس بصدقها ولزوم الإنقياد لأحكامها وما فيها من السنن.
الآية سلاح
انها باب رحمة بالمؤمنين وتوفر وتدفع عنهم العناء والإنشغال بالذين اصروا على العناد واللجاج، وتدعو الآية لتوجيه المساعي نحو من يرجى اسلامه ويستحق البشارة التي تعني في مضمونها اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحسن الإسلام.
وتضمن أول الآية الإخبار الإلهي بأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله، وفيه تثبيت للإيمان في قلوب المسلمين، وحرب على الكفر والنفاق، ودعوة للناس جميعاً للنهل من خزائن النبوة، وإستقبالها بالطاعة لله ورسوله.
لقد شهد الله عز وجل لنبيه بالرسالة [وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( )، وليس من حد لإنتفاع المسلمين من هذه الشهادة، وفي صلح الحديبية حينما رضي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يرجع والمسلمون ولايدخلون مكة للعمرة إلا في العام التالي، قال بعض الصحابة قبل ختم الصلح (علام نعطي الدنية من ديننا)( )، فقال النبي، أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يُضيَّعني) مما يدل على أن إتصال الوحي من مصاديق الرسالة وأنها لا تنحصر بنزول الآيات، وهذا الإطلاق في الرسالة من أسباب السلامة من السؤال عن أصحاب الجحيم لبذل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوسع في التبليغ وإقامة الحجة على الكافرين.
مفهوم الآية
ان الله عز وجل يعلم بالنظام الأحسن، وما يصلح الناس لأمور دينهم ودنياهم، وجاءت هذه الآية للإخبار بان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير محض، وأمر حتمي الوقوع لما فيه من الرحمة والرأفة بالناس والله عز وجل لا يفعل الا الخير وما فيه النفع والصلاح للناس جميعاً.
وأكدت الآية السابقة ظهور المقولات الباطلة، وأسباب الضلالة، فجاءت رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للقضاء عليها ومنع إنتشارها بين الناس، مما يدل على ان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مستمر لنشر مفاهيم الرحمة بين الناس ودرء الباطل، ومنع الظلم، وحث الناس على الإستعداد لعالم الآخرة.
وفي الآية مسائل:
الأول : ان الله عز وجل هو الذي إختار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للرسالة.
الثاني : من الأنبياء ما كانت نبوته الى أهله او قبيلته أو قريته، وجاءت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عامة.
الثالث: ليس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السكوت، فلابد أن يقوم بتبليغ رسالته، وبما ان الله عز وجل هو الذي أرسله فانه سبحانه يهديه ويمده بأسباب التوفيق لأداء رسالته على أكمل وجه.
الرابع : قيدت الآية برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بانها “بالحق” فلا يأتيها الباطل، ولا يمكن للكفار النيل منها والشواهد التأريخية والواقع العملي المتصل يؤكد إعجاز القرآن بصدق هذا القيد الذي هو حرز سماوية للإسلام والمسلمين.
الخامس: تبعث الآية السكينة في قلوب المسلمين، لأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتضمن البشارة والرحمة لأهل الإيمان.
السادس : في الآية وعيد وتخويف للكفار.
السابع : توكيد فلسفة النبوة وما فيها من الرأفة بالناس عموماً لهدايتهم لسبل الصلاح ومنعهم من التمادي في الذنوب والسيئات.
الثامن : تدل الآية في مفهومها على قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوظائف النبوة كاملة، وان بقاء شطر من الناس على الكفر والضلالة حجة عليهم، وان نبوته صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بهم في الدنبا وشاهد صدق عن تخلفهم عما يجب عليهم من الإيمان خصوصاً وان النبي محمداً جاء بالآيات الباهرات، والمعجزات التي تؤكد صدق نبوته.
التاسع: نعت الكفار بانهم أصحاب الجحيم وعموم عدم السؤال عنهم، أي ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يسئل عن تخلفهم عن الإيمان لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا تنزل آية في القرآن تتضمن سؤاله عنهم وعن إصرارهم على الكفر ولم ترد الآية بلغة المحاسبة والإستفهام الإنكاري، بل جاءت بلغة السؤال “ولا تسئل” وفيه إكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتنزيه لمقامه من أهل العناد والجحود.
ويحتمل مفهوم قوله تعالى[وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ]( )، وجوهاً:
الأول : يُسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن المؤمنين.
الثاني : يشفع النبي محمد صلى عليه وآله وسلم للمؤمنين يوم القيامة.
الثالث : ليس من مفهوم للآية يتعلق بالمؤمنين، وأن القدر المتيقن من مفهومها هو أن المجرمين يبوؤن بذنوبهم.
والصحيح هو الثاني فمن إكرام الله عز وجل لهم أن يأذن الله لنبيه الكريم بالشفاعة لأمته، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: إدخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ( ).
الآية لطف
بدأت الآية بالإخبار الإلهي بان محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبي رسول، وان الله عز وجل اختاره لمقامات الرسالة ونيله مراتب القرب والمشاهدة الحضورية .
ومن اللطف الإلهي إجتماع الضدين في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الإجتماع رحمة بالناس فهو البشير الذي يبشر بالجنة والمغفرة، وهو النذير الذي ينذر الكفار والمنافقين بالعذاب الأليم، وهذا الإجتماع من خصائص الرسالة العامة للناس جميعاً، بإعتبار ان الناس يوم القيامة على قسمين، ليس من قسيم ثالث لهما، فأما في الجنة وأما في النار، وكل من البشارة والإنذار لطف مستقل، كما ان الجمع بينهما لطف إضافي بالناس لأنه حث على الإيمان ودعوة للفوز بالجنة، وزجر عن الكفر، وتحذير من العذاب يوم القيامة.
وكما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد بشر به الأنبياء السابقون وحينما ولدته أمه رأت نوراً أضاء له قصور الشام.
وعن العرباض بن سارية عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني عبدالله، وخاتم النبيين، وأبي منجدل في طينته، وأخبركم عن ذلك أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين، وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نوراً أضاءت لها قصور الشام. ثم تلا {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً} إلى قوله {منيراً})( ).
المنجدل هو الطريح الملقى الأرض قبل نفخ الروح فيه ويقال للقتيل منجدل.
إفاضات الآية
لقد جاءت الآية خطاباً شخصياً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصل الخطاب القرآني هو العموم والشمول الا ان يدل دليل على إرادة الخصوص، وهذا الدليل ظاهر في المقام فالرسالة والنبوة خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام فلا تشمل المسلمين، الا ان هذا لا يعني عدم ارادة المسلمين في الآية الكريمة، بل انها تبعث في نفوسهم العز والفخر وتدعوهم للثبات في مناهج الإيمان، والمواظبة على العبادات، وتزرع في نفوسهم اليقين بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتبين ان الإسلام سعي وعمل، وتتجلى في الآية العناية الإلهية بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعظيم منزلته عند الله، وما فضله الله عز وجل بهعلى الأنبياء السابقين ويترشح منه الفضل على المسلمين وتغشي رحمة الله لهم.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بضميرالمتكلم الجمع الذي جاء لإكرام مقام الربوبية ودعوة الناس للإقرار بالعبودية له سبحانه، وهو الذي يختار ويبعث الرسل بفضل منه سبحانه، وقد أنعم على الناس جميعاً ببعثة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم اربع صفات هي:
الأولى: أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول ونبي، وبين الرسول والنبي عموم وخصوص مطلق، فكل رسول هو نبي وليس العكس.
الثانية: أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بشير يأتي بما فيه الغبطة والأمن والسعادة للمؤمنين بنبوته , قال تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ] ( ).
الثالثة: من الوظائف الجهادية العظيمة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه نذير وهذا الإنذار مع إتحاد متعلقه فانه على وجوه:
الأول: إنذار الناس جميعاً من الضلالة والكفر والفسوق , قال تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ]( ).
الثاني: إنذارالمشركين والكفار من محاربة الإسلام والمسلمين، وأن الله يبطش بهم،والمسلمون مستعدون للدفاع عن بيضة الإسلام.
الثالث: لا تنحصر إنذارات رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالكفار، بل تشمل المؤمنين أيضاً لتحذيرهم من الإرتداد ومن التقصير، وإرتكاب الكبائر والمعاصي مطلقاً ولبيان فضل الله عز وجل في هدايتهم للإيمان، ونزاهتهم من الذنوب والسيئات وفي التنزيل [وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ]( ).
الرابع: القرآن ذاته نذير، فكل آية منه تتضمن الإنذار في منطوقها ومفهومها.
الخامس: الإنذار من بعذاب يوم القيامة، والتخويف من الإقامة في جهنم التي أعدها الله للكافرين.
والبشارة والإنذار وظيفة الأنبياء والمرسلين , قال تعالى [فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، وفي الجمع بين الرسالة والإنذار توكيد بأن الإنذارات التي يوجهها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكفار إنما هي من عند الله وهومن عمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( )، ولتجتمع بشارات وإنذارات القرآن والسنة معاً لإصلاح النفوس، وهداية الناس إلى سبل الرشاد، وأن الذي يخبر عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من علوم الغيب وعالم الآخرة، وما فيه من أهوال الحساب إنما هو حقً وصدق لأنه رشحة من رشحات الرسالة التي تفضل الله عز وجل بها[رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ثم جاءت خاتمة الآية بمواساة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين والإشارة إلى قيامه بأداء الرسالة وما فيها من البشارة والإنذار وان الكفار تخلفوا عن وظائفهم الشرعية لعنادهم وجحودهم، ويفيد الجمع بين أول وآخر الآية أن الله عز وجل هو الذي أرسل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة، وأنه يصلحه لأدائها ويساعده في تبليغ رسالته، بأسباب المدد والنصرة، ومنها نزول الملائكة من السماء لنصرته والمؤمنين، وبعث الفزع والخوف في قلوب الكافرين وعن إبن عباس رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه يوم بدر(يا رب إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبدا”. فقال له جبريل: “خذ قبضة من التراب، فارم بها في وجوههم” فأخذ قبضة من التراب، فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين. وقال السُّدِّيّ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي، يوم بدر: أعطني حصبا من الأرض)( ).
وتبين الآية أن الإسلام لم ينتشر بالسيف بل إنتشر بلغة البشارة والإنذار وإقامة الحجة على الناس، وتوالي الآيات على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد إبتدأت الآية بالشهادة السماوية له بالرسالة وأختتمت بالدفاع عنه والبراءة من القوم الكافرين والتي تدل في مفهومها على الشهادة له بأنه أدى وظائف الرسالة بأحسن حال، ويتجلى بدخول الناس الإسلام أفواجاً مع نعت أصحاب الجحيم بالكفر والتكذيب بآيات الله، ولم يأت الكفر والتكذيب إلا بعد التبليغ والعلم بالآيات.
التفسير الذاتي
تتجلى في هذه الآية حقيقة عقائدية وهي تعدد لغة الخطاب بين الجمع المخاطب، ولغة الغائب والخطاب الخاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه شاهد على منزلته الرفيعة وتفضيله بتخصيص شطر من خطابات القرآن له وهذه الخطابات على أقسام:
الأول: ما جاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة.
الثاني: ما ورد له وللأمة.
الثالث: الخطابات التي تأتي بواسطة المسلمين، كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ]( ).
الرابع: الخطاب الذي يراد منه المسلمون والناس جميعاً.
ومنه هذه الآية الكريمة وقوله تعالى[إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ] وكل قسم من هذه الخطابات مـــدرسة وآية في الموعظة وإستنباط الأحكام والسنن، لقد أراد الله عز وجل بقاء عقيدة التوحيد في الأرض بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا البقاء على وجوه محتملة:
الأول: إتساع رقعته ودولته، والتناسب الطردي المستمر بين هذه السعة وبين تقادم الأيام والسنين.
الثاني: بقاء ذات الحكم والرفعة لعقيدة التوحيد.
الثالث: نقصان رقعة التوحيد مع تقادم الأيام.
الرابع: التباين في أفراد الزمان الطولية، والأمصار فمرة تتسع رقعة الإسلام، وأخرى لا.
والصحيح هو الأول، فان راية الإسلام في علو ورفعة، ودولته في إتساع وهو، من فضل الله عز وجل على الناس، وباب لهدايتهم لسبل الصلاح والرشاد وحجة عليهم.
وقوله تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ] وإن كان خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه موجه للمسلمين والناس جميعاً، إذ يزيد من إيمان المسلمين، ويثبت أقدامهم،وهو باعث لفعل الصالحات، وسبب للإعراض عن أهل الشك والريب، أما بالنسبة لغير المسلمين فان الآية حجة عليهم، ودعوة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: إنه رسول من عند الله.
الثاني: نزول القرآن معجزة له.
الثالث: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للناس.
الرابع: بيان وظائف رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه جاء بالبشارة لأهل الإيمان، والإنذار والتخويف للكفار والظالمين.
وفي قوله تعالى[بَشِيرًا وَنَذِيرًا] إمضاء لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإخبار عن صدقه فيما يقول عن علوم وأخبار يوم القيامة، ودعوة للمسلمين لضبط سنته، وإتخاذ ما فيها من البشارات والإنذارات مدرسة في الموعظة، وضياء في السعي وإكتناز الصالحات، وحرز للوقاية من السيئات وأسباب الهلكات.
وتدل خاتمة الآية [وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ] على موضوعية البشارة والإنذار في إقامة الحجة على الذين يتخلفون عن الإيمان، ويصرون على الكفر والجحود.
وجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد سؤال إبراهيم عليه السلام بأن يجعل الله الإمامة في ذريته، وأن يبعث في الأميين رسولاً , قال تعالى [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ]( ).
ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها جاءت للناس عامة وليس لأمة أو طائفة مخصوصة قال تعالى [وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً] ( )، ووصفت القرآن بانه الحق بأعتبار أنه صدق وخير محض وكتاب نازل من عند الله لا يأتيه الباطل، ولا تصل إليه يد التحريف، ومن الحق أحكام الحلال والحرام والشريعة المتكاملة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما بينه من حدود الله، ومنه الأمر السماوي بطاعة الله ورسوله، وإتيان الفرائض، والوعد والوعيد وأنباء عالم الغيب واليوم الآخر.
ومن رحمة الله عز وجل أنه وصف رسوله الكريم بأنه بشير ونذير كي يتلقى الناس البشارات والإنذارات بالقبول والرضا.
لقد جاءت البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على لسان الأنبياء السابقين كما في التنزيل حكاية عن عيسى [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( )، لتكون البشارة به مقدمة لتصديق الناس بما يأتي به من البشارات وكما يأتي بشارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخير والوعد بالجنة لأهل الإيمان والتقوى، فانها تأتي لإنذار الكفار (قال إبن سيده: والتبشير يكون بالخير والشر) ( ).
ومن الشواهد على أن رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً، مجيؤه بالبشارة بالمعنى الحسن والوعد الكريم للمؤمنين، والبشرى بالعذاب للكفار والمنافقين قال تعالى [بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا]( )، ويحتمل إنتفاع الكفار والمنافقين من البشارة على وجوه:
الأول: البشرى بالجنة والمغفرة لأهل الإيمان.
الثاني: البشارة بالعذاب الأليم لأهل الكفر والنفاق.
الثالث: المعنى الأعم والإنتفاع من البشارات كلها.
والصحيح هو الثالث، فان البشارات بالخير والإنذار بالعذاب تصل إلى الناس جميعاً، ولكن الكفار يصرون على الجحود والعناد، ومع إصرارهم فان الترغيب بالإيمان والبشارة بثوابه تأتي إليهم بالقرآن والسنة وتلاوة المسلمين للقرآن، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
والآيات الكونية التي تلح على الكفار بالإيمان فقد تفضل الله عز وجل وجعل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بشيراً ونذيراً ليقوم المسلمون بالإقتداء به في سنته والتنعم بالبشارات، وإبلاغ الناس الإنذارات.
ثم جاءت خاتمة الآية بما ينتظر الكفار من العقاب، وعدم سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنهم وفيه شاهد بأنه بلغ رسالته، وأقام الحجة على الناس، وليس للكفار الإدعاء يوم القيامة بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أرسل إلى الناس كافة ولكنه لم يبشرهم بالجنة ولم ينذرهم من النار.
فمثل هذه الدعوى لا تقع لأن التبليغ وصل إلى الكفار، بالإضافة إلى أن دعوتهم للإيمان تأتي أيضاً بواسطة الآيات الكونية، ومن ذات الإنسان إذ جعل الله عز وجل عنده العقل رسولاً باطنياً، وجاءت الآيات بتعيين أصحاب الجحيم، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ]( ).
من غايات الآية
تؤكد الآية صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها آية من عند الله للعالمين جميعاً، وتبين رحمة الله عز وجل بالناس عموماً وهي مصاديق صفة “الرحمن” لأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس ووسيلة سماوية للهداية.
وتبعث الآية السكينة في قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمين وتتضمن فضح أهل الباطل، لأن الباطل لا يستطيع معارضة الحق والرسالة السماوية، وتبين الآية الفصل بين أهل الإيمان والكفار، وتدعو الى العناية بالمسلمين وبذل الوسع لتفقهم في الدين، وإرشادهم الى مسائل الحلال والحرام وإعانتهم وتحث الآية على قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإعتصام بالله عز وجل ونبذ الفرقة، لذا جاء دعاء المسلمين لأمته وورد ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم القيامة “أمتي، أمتي”( ).
الآية وثيقة سماوية وحرب على اهل الجحود والذين يحاولون نشر الشك والريب، ونسبة الرسالة الى الله تعالى وعد كريم لظهور الإسلام واعلان كلمة الحق والمدد الغيبي للمسلمين، ولتكون رسالته هدى للمسلمين ووعيداً وتخويفاً للكافرين، فالآية بشارة النصر واخبار عن استدامة العون الإلهي للمسلمين فهي عز لهم، وخيبة للكافرين وانذار لمن يكفر برسالته ووعيد بان النار مثواه، وفي الآية تنبيه الى عدم الإنشغال باهل الضلالة ولزوم التوجه لنشر الإسلام وجذب عامة الناس وتمكين احكام الإسلام من قلوب الناس.
التفسير
قوله تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ]
تمثل الآية حقيقة سماوية راسخة وثابتة جاءت لمواجهة عناد اهل الباطل وترددهم في قبول الحق واثارة الأسباب لخلق الشبهات ومنع الناس من الدخول في الإسلام، فكانت سلاحاً احترازياً وعوناً ذاتياً ومدداً سماوياً، وفيها تثبيت لقلـوب المؤمنين ودعوة للإعراض عن هؤلاء الكفار الذين اتخذوا صيغ التشكيك واقتراح المعجزات منهجاً وسلوكاً لمواجهة الإسلام.
وبما ان مسيرة الإسلام لا تتوقف ولا ينحصر اثرها وتأثيرها بهؤلاء بل هي رسالة للناس جميعاً وقد استنفذت الحجة في انذارهم ووعيدهم واصبح الإصغاء لهم سبباً للإضرار بالمسلمين فقوله تعالى [ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ] أي لا تلتفت الى هؤلاء ويكفيك ان الله عز وجل شاهد على صدق رسالتك.
وظاهـر الآية يدعو الى دراسـة مقارنـة بين النبي محمد صـلى الله عليه وآله وسلم وموسى عليه السلام، فموسى استمع لإقتراحاتهم وكثرة سؤالهم الآيات وسأل الله عز وجل عنها كما في آيات وشواهد من القرآن، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم عصمه الله عز وجل من كثرة الإصـغاء لهم وســؤال الله عز وجل بتلبيـة اقتراحاتهم بما تتضـمنه الآيـة من انشـاء بصيغة الخبر واعتذار ولطف، وهذا من اعجاز هذه الآية.
ولعل فيها دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على اجتناب الإستجابة لتلك الأسئلة وأسباب هذا الإجتناب ليست نفسية بل هو مقدمة لأدائه لرسالته وتوجهه الى الناس جميعاً بعد ان قامت الحجة عليهم بكثرة سؤالهم لموسى وعدم استثمارهم لذلك السؤال أو انتفاعهم منه لأنه يؤدي انطباقاً وبالنتيجة الى الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والسنة النبوية في بداية الدعوة خير شاهد فقد حاربت قريش الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينشغل طويلاً بمخاطبة ودعوة واستعطاف عظماء قريش للإسلام مع الحجة عليهم لحسن حالهم وشأنهم من المنزلة الإجتماعية والسياسية والتأثير في القبائل العربية بل وما لهم من سطوة عانى من آثارها النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسـه والمسلمون الأوائل فلم يتوقف نشر الإسلام عليهم ان حصر الدعوة أو جلّها بهم مضيعة للوقت ومجازفة بجهود اهل الإيمان.
وبما ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتصرف بوحي من الله تعالى فقد هاجـر الى المدينة وقبلها الى الطائف وكان يتصـل بقبائل العرب ووفودهم في الموسم، وفعلاً اصبح الإسلام قوياً من غير قريش رغم شدة محاربتها له، وكتب السـيرة والتأريخ تبين ان بعض ساداتهـم لم يسلموا الا عام الفتح وبعد ان فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة منتصـراً، ولو وظفت الدراسـات الجغرافية والبعد المكاني بين مكة والمدينة والذي يبلغ نحو اربعمائة وستين كيلومتراً ووعورة طريق الهجرة وما فيه من المشاق والمخاطر واعتماد الراحلة وسيلة للنقل لأدركت ما في الهجرة من مضامين الجهاد والصبر ودلالتها على الإيمان، وكذا بالنسبة لموضوع الهجرة الى الطائف.
انها مدرسة القرآن والنبوة متجسدة بالسنة فقد لا تجد الدعوة اذناً صاغية عند من اعتادوا على افكار وعادات معينة واخذتهم العزة والكبرياء من ان يستجيبوا للدين الجديد ودعوة تهدد كياناتهم التي انشئت بقواعد الأفكار المتعارفة السائدة وارتكزت على مفاهيم ساذجة محورها الضلالة، وان مسألة الأفضل والأحسن وضرورة ترك الأسوأ لا تطرأ على بالهم ولم يجعلوها في معجم افكارهم، همهم ان يحافظوا على ما هم عليه وما ورثوه من آبائهم فكان من الطبيعي الأمر الإنطباقي ان يقابل هؤلاء الكفار الدين الجديد بالرفض وعدم الإستجابة دون التصريح بالرفض والجحود ولكنه يبرز خارجاً بلجاج وسؤال تعجيزي وحجة موجهة لهم خاصة تثبت لهم مكانتهم وما يظنونه من المنزلة والخصوصية.
أي انهم لم يستطيعوا ان يتعاملوا مع حقيقة سماوية ثابتة وهي ان الناس ينقسمون في موضوع النبوة الى قسـمين، نبي ومتلقي من النبي، فغير الأنبياء لابد ان يكونـوا اتباعاً للنبي، والنبي هـو الواسـطة بين الله عز وجل وبين الناس جميعاً ولكن الناس في صلتهم مع النبـوة على مرتبة وعرض واحد فلا ينقسمون الى درجات ومراتب الا فيما يتعلق بالإمامة والصحبة والتقوى والإخلاص.
وليس في نواميس السماء ان يختص فرد او جماعة دون غيرهم بآية من آيات النبوة كحجة وبرهان، بل توجه للناس جميعاً وان جاءت خاصة احياناً حيث يشاء الله وهي حينئذ ايضاً موجهة للناس من خلال القضية الشخصية والواسطة، ولكن إيمان العبد يجب ان لا يتوقف على رؤية الآية الشخصية او يكون معلقاً عليها، بل عليه ان يكتفي بالآيات العامة والخطابات التكليفية.
ان قوله تعالى [ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ] اضافة الفعل والأمر الى الله تعالى وما النبي الا رسـول يبلغ اوامره تعالى، وهذه النسبة نسبة الفعل الى الله تعالى نوع تخويف وتهديد للكفار وبيان بان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس له من الأمر الا التبليغ فلا يطلبون منه كل شيء.
قوله تعالى [بِالْحَقِّ]
من اسماء الله تعالى (الحق) وهو الموجود المتحقق وجوده وهيئته، والحق ضد الباطل.
و[بِالْحَقِّ] فيه عدة اقوال:
أولاَ : عن ابن عباس أي بالقرآن.
ثانياَ : الإسلام.
ثالثاَ : أي بعثناك على الحق.
وكلها مصاديق لموضـوع الرسـالة ووجـوه لليقـين الذي تخـبر عنـه الآيـة وما فيهـا من البشـارة وثبـات الدين وانه لا يقبل التفكيك او التفريط ببعض احكامه ولا يجوز التخاصم فيه اذ لا واسطة بين الحق والباطل، وتدل الآية على النص وسيادة شعائر الإسلام، قال تعالى [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ]( )، فلا غرابة ان يخرج المسلمون في كتائب إلى الكفار والمشركين.
ولم تقل الآية بواو العطف (بالحق وبشيراً) بل جاءت البشارة والإنذار صفتين مترشحتين عن بعثة النبي محمد بالحق، لبيان حقيقة وهي أن كل بشارة وكل إنذار نزل به القرآن أو جاء على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله, قال تعالى[إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ]( ). وفي الآية وجوه
الأول : ظهور الآيات وبيان الحقائق وان من خصائص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم إمكان إخفائها وورد في ذم قومقوله تعالى[وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
الثاني : تنزه نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الهوى وإتباعه , قال تعالى[وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ]( ).
الثالث : مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة الناسخة المتكاملة.
الرابع : تتضمن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحكام الحلال والحرام والفصل بين الناس وأهل الملل.
الخامس : من الحق الوعد الكريم بالجنة للمتقين، ومن الوعيد للكفار بالعذاب الأليم.
السادس: قوله تعالى[بِالْحَقِّ] بشارة على ظهور الإسلام ومنعة دولته , ولما أخبرت الآية عن كون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشيراً، جاءت ذات الآية بالبشارة له من الله، وهذه البشارة السابقة على كونه بشيراً فلفظ (بالحق) بشارة من الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسكينة له وللمؤمنين.
ترى لماذا لم تقل الآية بشيراً ونذيراً بالحق , والجواب يكون المعنى حينئذ حصر الحق بالبشارة له من الله، وهذه البشارة السابقة على كونه بشيراً فلفظ(بالحق) بشارة من الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسكينة له وللمؤمنين.
ترى لماذا لم تقل الآية بشيراً ونذيراً بالحق , والجواب يكون المعنى حينئذ حصر الحق بمواضيع البشارة والإنذار , ولكن معناه في الآية وتقدمه على بشيراً ونذيراً يفيد الدلالة على أن الرسالة ذاتها بالحق وأنها وسيلة وموضوع للحق.

قوله تعالى[بَشِيرًا وَنَذِيرًا]
بيان لوظيفة ومضمون الرسالة ويدل بالدلالة التضمنية على ان موضوعها ينقسم الى قسمين الرحمة والبشارة وايضاً الوعيد والإنذار من غير تعارض بين القسمين، ومن الناس من يتلقى الرسالة بالقبول وبعضهم بالتردد والتشكيك ومنهم هؤلاء الذين كتب الله عليهم الخزي في الآخرة، والآية تجسيد اجمالي لعالم الآخرة وان الثواب والعقاب فيه متفرع عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والآية مدح وثناء عليه وبيان عظيم مسؤولياته وتعددها وتشعبها واهليته للقيام بها، والآية دعوة للناس للإنتفـاع مما في بعثته من الهداية والآيات الباهرات، وانذار ووعيد لأهل التشكيك والجحود.
وتبين الآية المسؤوليات العظيمة التي يقوم بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعدد وجوه ومضامين الرسالة، فلا تنحصر نبوته بالمسلمين بل تشمل الناس جميعاً، كل بحسبه، فالمسلم يتلقى البشارة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذه البشارة من عند الله تعالى لأن الله عز وجل هو الذي أرسل النبي محمداً ليبشر المؤمنين قال تعالى [وََبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ] ( )، وهو سبحانه الذي أمر النبي محمداً بإنذار وتخويف الكفار بالقرآن وآياته قال تعالى [فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا]( ).
والبشارة أعم من الوعد بالخير موضوعاً وحكماً، قال تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( )، وكذا الإنذار فانه أعم من الوعيد والتخويف قال تعالى [إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ] ( )، ويدل الجمع بينهما على المنزلة الرفيعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق من تفضيله على الأنبياء الآخرين.
قوله تعالى [وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ]
على القـول بان (الواو) عاطفة و(لا) نافية ولا تصلح للعطف لوجود الواو معها او انها نافية لا عمل لها، فتعني ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يتحمل تبعات تشكيك ولجاج وعناد المشركين، وهو لطف وتخفيـف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعـن المؤمنـين لكي لا ينشغلوا بهم اكثر، خشية الله ومخافة المسؤولية عنهم، فمع ان وظيفة الرسول التبشير بالجنة والانذار من عذاب النار على نحو الاطلاق الذي يشمل أهل الجحود والكفر.
وعلى القول بان الواو استئنافية وليس من فرق كبير بين العطف والإستئناف في الدلالة فيكون المعنى ولست تسئل عن اصحاب الجحيم، سواء كان في الدنيا أم في الآخرة، وظاهر الآية المعنى الأعم وان كان التكليف في الرسالة في الدنيا.
اما على القول بان لا ناهية جازمة دخلت على المضارع وهي تختص
به فجزمته وجعلته متعلقاً بالإستقبال، والنهي هنا للمخاطَب وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتقرأ على المبني للمعلوم (ولا تسأل)، والمراد منه المنع عن السؤال والمسألة المتعلقة باصحاب الجحيم، او ان يراد به النهي لفظـاً.
اما المعنى فهو بيـان سنخية العذاب الذي أعدّه الله للكفار بدلالة ان نعتهم جاء مباشرة ومن غير واسطة بانهم اصحاب الجحيم فاستحقوا تلك الصفة وهـم في الحيـاة الدنيـا، فتكـون الآية لبيان العقـاب الشديد الذي ينتظرهـم، وفيـه نوع مواسـاة وتسلية للنـبي صلى الله عليه وآله وسلم مثـل [إِنَّـكَ لاَ تَهْــدِي مَنْ أَحْبَبْـتَ ]( ) وقولـه تعـالى [ لَيْس علَيْكَ هُدَاهُمْ]( ).
وقال الرازي على القراءة الثانية وجهان الأول روي (انه أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليت شعري ما فعل ابواي؟ فنهي عن السؤال عن الكفرة وهذه الرواية بعيدة لأنه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بكفرهم وكان عالمـاً بان الكافر معـذب فمع هذا العلم كيف يمكن ان يقول ليت شعري ما فعل ابواي)( ).
ويمكن مناقشته كبرى وصغرى اما الكبرى فهناك دلالات تقتضي بان الآية تتعلق بشطر من أهل الجحود ممن ذكرت قبائحهم وهم اصحاب الجحيم ويدل عليه سياق الآيات، أما الصغرى فهناك نصوص تتعلق بنجاة الوالدين لاسيما والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأكرم وامه وانهما على دين التوحيد وهناك اخبار على ان والدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد رأيا وادركا بعض الدلالات التي تدل على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآمنا بها.
والأصح ان آباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس فيهم كافر او مشرك فضلاً من الله تعالى على نبيه الأكرم والمسلمين وترشح تنزيه النبوة على الأصلاب والأرحام وان بعدت للإتحاد في الواسطة والموضوع ولأن التعاقـب والتوالي وان تعدد لا يغير بمفرده الحكم.
وللعمومات التي حمل عليه قوله تعالى [ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ]( ) أي تنقله وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما زلت انتقل من اصلاب الطاهرين الى ارحام المطهرات حتى اخرجني الله تعالى الى عالمكم هذا، مما يعني انتفاء الكفر عن آبائه لأن الكافر لا يستحق الوصف بالطهارة لقوله تعالى [ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ]( ).
ولهذه الآيـة موضوعيـة في منهاج عمل المسلمين وكيفية تبليغ الأحكام ومتى وأين يخبرون عن البشارات والوعد الجميل الذي أعده الله سبحانه لأهل الإيمان ومن هي الطوائف والجماعات بل والاشــخـاص الذيـن ينذرونهـم بالوعيـد ويخوفونهـم العقـاب الشــديـد في حـال الإصـرار على تكذيـب الرسـالـة، لينـتقـل بعد ذلـك المؤمنـون الى وظـائف عقائديـة ورساليـة أكـثر أهميــة، وكأن الآيـة تخـبر عن الإكتـفاء بإلقـاء الحجـة عليهـم وتوجيـه اللـوم وايصـال الإنـذار اليهم وجعلهم عـبرة وموعظـة وتفضـح مقالتهـم واضـرار النـاس منهـا الى يـوم القيامـة.


مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn